عليه، فعلى هذا يسقط خيارها بما يدل على الرضى من قول وفعل، ولا يسقط خيار الأولياء إلا بالقول، وقال: إن قياس المذهب افتقار الفسخ إلى حاكم.
(الخامس) : إذا كانت الكفاءة المعتبرة حال العقد موجودة ثم زالت بعده، فإن النكاح لا يبطل بذلك قولا واحدا، لكن هل للمرأة والأولياء الفسخ، كما لو كانت معدومة قبل العقد ويعزى ذلك لأبي الخطاب، ويحتمله كلام شيخه في التعليق، أو لا يثبت لواحد منهما، أو يثبت ذلك للمرأة دون الولي، وهو الذي أورده المجد مذهبا؟ على ثلاثة أوجه، والله أعلم.
قال: وإذا زوج الرجل ابنته البكر فوضعها في كفاية فالنكاح ثابت وإن كرهت، كبيرة كانت أو صغيرة.
ش: لا نزاع بين أهل العلم فيما نعلمه في أن للأب تزويج ابنته البكر التي لم تستكمل تسع سنين وإن كرهت، بشرط أن يضعها في كفاية، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا، ودل عليه قوله سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي فعدتهن كذلك [أو على التقديم والتأخير، والتقدير: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، وعلى كل حال يدل] على أن الصغيرة تزوج وتطلق، لوقوع(5/78)
العدة عليها، ولا إذن لها معتبرة والحال هذه.
2445 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهي بنت ست سنين، وأدخلت عليه وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعا» ، متفق عليه، وفي رواية لأحمد، ومسلم: «تزوجها وهي ابنة تسع» . ولا إذن لها إذا معتبرة.
2446 - وروى الأثرم أن قدامة بن مظعون تزوج ابنة الزبير حين نفست، فقيل له. فقال: ابنة الزبير إن مت ورثتني، وإن عشت كانت امرأتي.
واختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في من استكملت تسع سنين، فروي عنه كذلك وإن بلغت، وهي اختيار الخرقي وجمهور الأصحاب، القاضي , وولده أبى الحسين وأبي الخطاب في خلافه، والشريف، وابن البنا، وأبي محمد وغيرهم.
2447 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها» رواه مسلم وغيره، وفي رواية في الصحيح «يستأمرها أبوها»(5/79)
فتقسيم النساء قسمين، وإثبات الحق لأحدهما دليل على نفيه عن الآخر، وهي البكر، فيكون وليها أحق منها، وإلا فلا فائدة من التفرقة، لا يقال: الفائدة التفرقة في صفة الإذن، لأنا نقول: ظاهر الحديث أن الذي فرق فيه حق الولي، ألا ترى أنه ذكر صفة الإذن بعد، وعلى هذا فالإذن في حقها على سبيل الاستحباب، وعلى هذا فالعلة في الإجبار البكارة.
(وروي عنه) : لا يجبرها مطلقا، وهي أظهر، وقد قال الشريف: إنها المنصوص عنه.
2448 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال: «أن تسكت» .
2449 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: قلت: يا رسول الله، تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: «نعم» قلت: فإن البكر تستأمر فتستحي؟ فقال: سكاتها إذنها» متفق عليهما.
2450 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن جارية بكرا أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه أحمد، وأبو داود. والعلة على هذا القول البكارة مع(5/80)
صغر مخصوص. (وعنه) : تجبر ابنة تسع سنين، حكاها ابن أبي موسى وغيره لما تقدم، ولا تجبر البالغة، لأنها جائزة التصرف في مالها، أشبهت الثيب الكبيرة، والعلة على هذا القول الصغر والبكارة، وظاهر كلام ابن عقيل أن العلة على هذا القول الصغر، ومن نصر الأول حمل ما ورد من استئذان البكر على الاستحباب، أو على غير الأب، وأجابوا عن حديث ابن عباس بأن أبا داود، وأبا حاتم وغيرهما أعلوه بالإرسال، ثم يحتمل أن أباها زوجها من غير كفو فخيرت لذلك، وفي هذه الأجوبة نظر، أما الأول فظواهر الأحاديث تخالفه، ومثل هذا الظاهر لا يترك إلا بأقوى منه، وأما الثاني فالمرسل عندنا حجة على الصحيح، لا سيما وقد اعتضد بظواهر الأحاديث، وأما الثالث فالذي رتب عليه الحكم من دعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفقه وعلم التأويل هو الكره لا غيره، وأما قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثيب أحق بنفسها، والبكر تستأمر» فالمراد، والله أعلم، في الرد والإجابة في الخطبة، فالولي ليس له مع الثيب أمر في ذلك، ولهذا قال: تستأمر أي يطلب أمرها، بخلاف البكر فإنه لا مدخل لها في العادة في ذلك، وإنما تستأذن في الرضا بالنكاح فقط.(5/81)
تنبيهات: (أحدها) قد تقدم التنبيه على علة الإجبار، وسيأتي أن لنا وجها أن الثيب الصغيرة تجبر مطلقا، وعلى هذا فالعلة في الإجبار الصغر، عكس الأول، لكن لا أعرف قائلا بذلك، وإنما أبو بكر يقول بإجبار ثيب لم تبلغ تسعا، فالعلة عنده صغر مخصوص، وأبو البركات ينتظم من كلامه أن في علة الإجبار ثلاث روايات، الصغر، البكارة، أحدهما، ويتلخص من مجموع ذلك ثلاثة أقوال.
(الثاني) : إذا قلنا لا تجبر المميزة بعد التسع هنا وفيما سيأتي فهل لها إذن صحيح فتزوج به؟ فيه روايتان، أنصهما وأشهرهما عن أحمد نعم، وبها جزم القاضي في تعليقه، وفي جامعه، ومجرده، وابن عقيل في فصوله وتذكرته، وأبو الخطاب في خلافه، والشريف وابن البنا، ونصبها الشيرازي، وهي ظاهر كلام أبي بكر كما سيأتي، لظاهر قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] الآية، مفهومه أنا إذا لم نخف لنا تزويج اليتيمة.(5/82)
2451 - وقد فسرته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بذلك، واليتيمة من لم تبلغ، ولا أب لها، ومن هذه حالها لا تزوج إلا بإذنها.
2452 - وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
2453 - وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت لم تكره» رواه أحمد، وهذا يفيد أنها تزوج بإذنها وأن لها إذنا معتبرا.
2454 - وإنما قيدنا ذلك ببنت تسع، لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. رواه أحمد، وروي مرفوعا(5/83)
عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومعناه: في حكم المرأة، ولأنها تصلح بذلك للنكاح، وتحتاج إليه، أشبهت البالغة، (وعن أحمد) رواية أخرى لا إذن لها صحيح، فلا تزوج حتى تبلغ كإذنها في المال.
وقول الخرقي: فوضعها في كفاية. مفهومه أنها إذا لم يضعها في كفاية أن النكاح غير ثابت، فيحتمل بطلانه، وهو مقتضى كلامه السابق، إذ من مذهبه أن الكفاءة شرط للصحة، ولا تفريع على هذا، أما إذا قلنا: إن الكفاءة شرط للزوم، ففي تزويج الأب والحال هذه روايتان: (إحداهما) : بطلان النكاح رأسا، لأنه نكاح محرم، أشبه نكاح المحرمة والمعتدة ونحوهما.
(والثانية) : لا تبطل، لأن النهي لحق آدمي، وقد أمكن تداركه بثبوت الخيار له، فأشبه تلقي الركبان ونحوه على المذهب، وقيل: إن علم بفقد الكفاية لم يصح للتحريم، وإلا صح في الحال، كالوكيل يشتري معيبا لم يعلم عيبه، وقيل: يصح إن كانت كبيرة، لاستدراك الضرر في الحال بثبوت الخيار لها، وإلا لم يصح، ومتى لم يبطل العقد فلها الخيار إن كانت كبيرة، دفعا للضرر الحاصل لها، قاله أبو محمد، ولا خيار لأبيها، لإسقاط حقه باختياره وإن كانت صغيرة فهل عليه الفسخ، لأنه لحظها أو لا فسخ له، ويمنع الزوج من الدخول بها حتى يصح إذنها، دفعا(5/84)
للضرر الحاصل لها، فتختار؟ فيه وجهان، ولغير الأب من الأولياء الفسخ على الصحيح من الروايتين وقد تقدمتا، وعلى كل حال فلا يحل له أن يزوج من غير كفو، ولا من معيب.
وقول الخرقي: في كفاية. يحتمل أن يريد به الكفو، ويحتمل أن يريد ما هو أعم منه، فيدخل فيه المعيب.
(الثالث) : نفست المرأة. إذا ولدت، بضم النون وفتحها مع كسر الفاء فيهما، أما إن حاضت فبفتح النون لا غير، والله أعلم.
قال: وليس هذا لغير الأب.
ش: أي ليس لغير الأب من الأولياء تزويج البكر بدون إذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» ونحو ذلك مما يقتضي أن اليتيمة لا تزوج إلا بعد الإذن، وهو يدل بطريق التنبيه على أن البالغة لا تزوج إلا بإذنها، إذا تقرر هذا فالطفلة لا إذن لها بالاتفاق، وإذا يمتنع تزويجها لفوات الشرط، أما إن بلغت تسع سنين ففيها الروايتان المتقدمتان، والمذهب منهما صحة إذنها، وتزويجها به كما تقدم، ولا عبرة بقول ابن المنجا أن المذهب أنها لا تزوج، لأنه اعتمد في ذلك على تقديم أبي محمد، وما استدل به من قصة قدامة بن مظعون، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هي يتيمة ولا تزوج إلا بإذنها» دليل عليه، لأن ظاهره أن اليتيمة لها إذن صحيح تزوج به، انتهى.
، أما إن بلغت(5/85)
فلا إشكال في صحة إذنها وتزويجها به، (وعن أحمد) رواية أخرى أن لغير الأب من الأولياء تزويج الصغيرة، ولها الخيار إذا بلغت، لظاهر قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] الآية مفهومه أنه إذا لم نخف لنا تزويج اليتيمة، وهو شامل لمن لها دون التسع، ويفيد النكاح على هذه الرواية الحل والإرث، قاله أبو البركات، فيكون النكاح صحيحا، وخيارها كخيار المعتقة تحت عبد، وظاهر كلام ابن أبي موسى أنه لا يفيدهما، لأنه جعله موقوفا، ثم قال: فإذا بلغت تسع سنين فأجازته جاز، وإن ردته بطل، ولم يقل انفسخ، ويؤيد هذا أن الأصحاب أخذوا من هذه الرواية وقف النكاح على الإجازة، وقد علم أن النكاح الموقوف على الإجازة لا يفيد حلا ولا إرثا كما تقدم، انتهى.
والمراد بالبلوغ البلوغ المعتاد، على ظاهر كلام أحمد، وهو قياس رواية عدم صحة إذن بنت تسع سنين، وقياس المذهب في صحة إذن ابنة تسع أنه بلوغ تسع سنين، وهو الذي قطع به ابن أبي موسى، والشيرازي، والله أعلم.
[إذن الثيب والبكر في النكاح]
قال: ولو استأذن البكر البالغة والدها كان حسنا.(5/86)
ش: خروجا من الخلاف، وتطيبا لقلبها، ولهذا استحب استئذان المرأة في ابنتها.
2455 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «آمروا النساء في بناتهن» وقد يقال من هذا أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا إذن لابنة تسع، وإلا لاستحب استئذانها، وقد يقال: استضعف الخلاف فيها فلم يعرج عليه، والله أعلم.
قال: وإن زوج ابنته الثيب بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيت بعد.(5/87)
ش: الضمير راجع للأب، ولا ريب أنه ليس له تزويج الثيب الكبيرة بدون إذنها، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثيب أحق بنفسها من وليها» ونحوه، مع أن أحمد قال في رواية عبد الله: ليس بين الناس اختلاف في الثيب الكبيرة أنها لا تزوج إلا بإذنها. واختلف هل له تزويج الثيب الصغيرة بدون إذنها؟ على قولين مشهورين، الذي عليه عامة الأصحاب - ابن بطة، وصاحبه أبو حفص بن مسلم , وابن حامد , والقاضي , والشريف , وأبو الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي، وأبو محمد - لا، لعموم ما تقدم، (والثاني) نعم، لعموم الآية، إن قيل بعدم صحة إذن ابنة تسع، وقياسا على إجبار الصغير الذي لم يبلغ، قال ابن عقيل: أصل الوجهين في الثيب الصغيرة ما تقدم في الروايتين في البكر البالغ، إن قلنا: هناك لا تجبر البالغ مع البكارة. قلنا هنا: تجبر الثيب مع الصغر. وإن قلنا هناك: تجبر , فلا تجبر هنا، وهذا الذي اقتضى - والله أعلم - لأبي الخطاب في الانتصار , وأبي البركات حكاية الخلاف على روايتين، وأرادا مخرجتين، وإلا فعامة الأصحاب على حكاية وجهين.
(وهنا شيء آخر) وهو أن أبا البركات إنما حكى الخلاف في ابنة تسع، وجعل من لم تبلغها تجبر بلا خلاف، وهذه طريقة(5/88)
أبي الخطاب في الانتصار، فإنه قال بعد ذكر الخلاف: وهذا إنما نقوله في حق المراهقة، ومن تستلذ بالوطء، لأنا نعلل بالاختيار ومن لا تستلذ لا تجبر، وعامة الأصحاب يطلقون الخلاف، فيشمل من لم تبلغ التسع، ويعين جريان الخلاف في ذلك أن أبا بكر قال في الخلاف: الثيب إذا كان لها دون تسع سنين لا يزوجها أحد إلا الأب يزوجها ولا يستأمرها، قال القاضي: فعلى قوله تجبر على النكاح إلا أن تبلغ سنا يصح إذنها فيها، وهو تسع سنين، والقاضي وأصحابه ينصبون الخلاف معه، وإذا كان هو إنما يقول بإجبار من لم تبلغ تسعا، فهم يقولون: لا تجبر. ثم إن أبا بكر ظاهر كلامه أن الثيب إذا بلغت تسعا زوجت بإذنها، والأصحاب يوافقونه على هذا، وهذا في غاية الجودة، ولا يأباه طريقة أبي البركات، وبه يحصل الجمع بين الآية والأحاديث، إذ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] يشمل الثيب، فيحمل على من لم تبلغ تسعا، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثيب أحق بنفسها من وليها» «ليس للولي مع الثيب أمر» وغير ذلك يحمل على من بلغتها، وإلا لو قيل بإجبار الثيب غير البالغة مطلقا لزم خروج الأب من الأحاديث رأسا، ولو قيل بعدم إجبارها لزم خروجها من الآية رأسا، ولا يخفى أن الحمل على ما تقدم أقل تخصيص وأظهر في المعنى، وينتظم من هذا وما تقدم(5/89)
في البكر أن المرجح أن للأب تزويج من لم تبلغ تسعا مطلقا وكذلك من بلغتها بإذنها كغيره من الأولياء.
وقول الخرقي: وإن رضيت بعد. بناء على المذهب من أن النكاح لا يقف على الإجازة، وقوله: بغير إذنها. مفهومه أنه إذا زوجها بإذنها أنه يصح، وهو يعتمد أن يكون لها إذن، وذلك في البالغة بلا نزاع، وفي ابنة تسع على الصحيح، وحكم غير الأب كالأب في ذلك.
(تنبيه) لم يصرح الخرقي بذكر المجنونة، وحكمها أن الأب يجبرها لو كانت عاقلة بلا نزاع بطريق الأولى، وهل يجبر من لا يجبرها لو كانت عاقلة؟ فيه وجهان: (أحدهما) : - وهو اختيار القاضي والشيخين وغيرهما - يجبرها، لأنها أسوأ حالا من الصغيرة.
(والثاني) : - وهو قول أبي بكر في الخلاف، وظاهر عموم قول الخرقي في هذه المسألة - لا يجبرها، لظاهر «ليس للولي مع الثيب أمر» وغير ذلك، وحكم وصي الأب في النكاح حكم الأب، أما غير الأب من الأولياء فقيل - وهو اختيار أبي الخطاب والشيخين -: لهم تزويجها بشرط أن يظهر منها الميل إلى الرجال، لحاجتها إذا لدفع ضرر الشهوة، وصيانتها عن الفجور، مع ما فيه من مصلحة تحصيل المهر والنفقة وغير(5/90)
ذلك، قال أبو محمد: وكذلك ينبغي أن تزوج إذا قال أهل الطب إن علتها تزول بتزويجها، لأن ذلك من أعظم مصالحها، وقيل - وهو ظاهر كلام الخرقي -: ليس لهم ذلك، لأن هذه ولاية إجبار، فلا تثبت لغير الأب كالعاقلة، وقيل: يملك ذلك الحاكم، لكمال نظره، وولايته العامة، بخلاف غيره من الأولياء، ومحل الخلاف إذا لم يكن وصي في النكاح، أما مع وجوده فحكمه حكم الأب على ما تقدم. والله أعلم.
قال: وإذن الثيب الكلام. وإذن البكر الصمات.
ش: للأحاديث السابقة، فإنها نص في أن إذن البكر الصمات، وظاهرة في أن إذن الثيب الكلام، إذ تخصيص البكر بالصمات ظاهر في أن الثيب إذنها النطق.
2456 - وقد روى الأثرم عن عدي الكندي، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها» وقد دخل(5/91)
في كلام الخرقي من ثابت بزنا، وصرح به الأصحاب، لعموم الحديث، ولأن الحكمة التي اقتضت التفرقة بينها وبين البكر مباضعة الرجال ومخالطتهم، وهذا موجود في المصابة بالزنا، ولهذا قال الأصحاب: إن البكارة لو زالت بإصبع أو وثبة فهو كما لو لم تزل، في بقاء إذن البكر، لعدم المباضعة والمخالطة، وعكس هذا لو عادت بكارتها بعد زوالها بوطء، هي في حكم الثيب، ذكره أبو الخطاب أنه محل وفاق لوجود المباضعة.
وعموم كلام الخرقي يشمل الأب وغيره، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني، وصرح به أبو الخطاب في الانتصار، وشيخه في الجامع الكبير، وفي التعليق في موضع، وأبو محمد وغيرهم، وقال القاضي في التعليق في مسألة إجبار البالغة: من أصلنا أن إذن البكر في حق غير الأب النطق. وقال ذلك أيضا فيمن رأى عبده يتجر فسكت، وكذلك قال في المجرد في نكاح الكفار، والمذهب الأول لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذن البكر صماتها» وهو عام، وقال: «تستأمر اليتيمة، فإن سكتت فهو إذنها» وفي لفظ فقد أذنت واليتيم من لا أب له.
(تنبيه) : قال أبو العباس: يعتبر في الاستئمار تسمية الزوج على وجه تقع المعرفة به، ولا تشترط تسمية المهر على الصحيح، والله أعلم.(5/92)
[الحكم لو زوج ابنته بدون صداق مثلها]
قال: وإذا زوج ابنته بدون صداق مثلها فقد ثبت النكاح.
ش: هذا هو المنصوص والمختار لعامة الأصحاب.
2457 - لما روى أبو العجفاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خطبنا عمر، فقال: ألا لا تغالوا في صدق النساء، فإنه لو كان مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، كان أولاكم بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية. رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا قاله بمحضر من الصحابة، ولم ينقل مخالفته، فينزل منزلة الإجماع، وظاهره أن كل أحد يصح أن يزوج موليته على مثل هذا المهر، وإن كان مهر مثلها أكثر، وإنما خصصنا ذلك بالأب لأنه الذي له الولاية التامة، ولما سيأتي.(5/93)
2458 - وعن سعيد بن المسيب أنه زوج ابنته بدرهمين، وهو من سادات قريش شرفا وعلما ودينا، ومن متموليهم أيضا، ومن المعلوم أنه لم يكن مهر مثلها، ولأن المقصود من النكاح السكن، ووضع المرأة عند من يصونها، ويحسن عشرتها، لا العوض، والظاهر من الأب مع تمام شفقته أنه لا ينقص ابنته عن مهر مثلها إلا لهذه المعاني أو بعضها، لا سيما وهو غير متهم، وبهذا خرج سائر الأولياء، وخرج أيضا بيع الأب لسلعتها، لأن المقصود تحصيل العوض لا غيره، فلذلك لم يجز أن يبيع بدون ثمن المثل، وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول اختصاص هذا الحكم بالأب المجبر، قال: وإذا زوج الأب ابنته التي يملك إجبارها - وهي الصغيرة رواية واحدة، والبكر البالغة في إحدى الروايتين - بدون مهر مثلها يثبت المسمى، وللقاضي في تعليقه احتمال بأن حكم الأب مع الثيب الكبيرة حكم غيره من(5/94)
الأولياء، وحكى ابن حمدان في رعايتيه قولا أن على الزوج بقية مهر المثل، وأطلق.
وكلام الخرقي يشمل وإن كرهت، ونص عليه أحمد والأصحاب، وقد يستشكل بأن من لا يملك إجبارها إذا قالت: أذنت لك أن تزوجني على مائة درهم لا أقل، فكيف يصح أن يزوجها على أقل من ذلك، وقد يقال: إذنها في المهر غير معتبر فيلغى، ويبقى أصل إذنها في النكاح، والله أعلم.
قال: وإن فعل ذلك غير الأب ثبت النكاح، وكان لها مهر مثلها.
ش: إذا زوج غير الأب موليته بدون مهر مثلها، فإن النكاح صحيح، لأن قصاراه أن التسمية فاسدة، والنكاح لا يبطل بفساد التسمية، ويجب مهر المثل، جريا على القاعدة بأن التسمية إذا فسدت وجب مهر المثل.
وظاهر كلام الخرقي - وهو المذهب عند أبي الخطاب وأبي محمد وغيرهما - أن جميع مهر المثل على الزوج، وذلك لأن التسمية لما فسدت لعدم الإذن فيها شرعا وجب على الزوج مهر المثل، إذ هو بدل البضع، كما لو زوجها الولي على محرم، وحكى أبو البركات وغيره رواية، أن تمام مهر المثل على الولي، لأنه مفرط، أشبه الوكيل في البيع إذا باع بدون ثمن المثل أو بدون ما قدر له وصححناه على المنصوص، وأخذ ذلك - والله أعلم -(5/95)
من قول أحمد: أخاف أن يكون ضامنا، وظاهره أن الوكيل يضمن ما نقص من مهر المثل، وفهم أبو محمد من هذا النص أن الولي يضمن الزوج، فقطع في المغني بوجوب مهر المثل على الزوج، وجعل الولي ضامنا له، وليس بالبين.
واعلم أنه قد يطلب الفرق - على المذهب - بين هذا وبين الوكيل، وقد يفرق بأن القاعدة عندنا أن النهي يقتضي الفساد، فالولي لما خالف ما أمر به فسدت التسمية، وإذا فسدت لم يفسد العقد، كما هو مقرر في موضعه، ووجب الرجوع إلى مهر المثل، ويجب جميعه على الزوج إذ القاعدة أن العوض يجب على من حصل له المعوض، والمعوض حصل للزوج، فوجب استقرار العوض عليه، (أما في البيع) فمن راعى هذين الأصلين من غير نظر إلى معنى آخر - كأبي محمد - أبطل البيع، (وأما على المنصوص) فنقول: النهي إذا كان لحق آدمي معين، وأمكن تداركه، لا يبطل العقد، كتلقي الركبان ونحوه، وهنا كذلك، لأنه أمكن زوال المفسدة التي لأجلها ورد النهي بأن يجعل على الوكيل ضمان النقص لتفريطه، ولا يمكن أن يجعل على المشتري، لأنه زيادة على الثمن الذي وقع العقد عليه مع(5/96)
صحة الثمن، ولا أن تلغى التسمية، لأن العقد إذا يفسد، والأصل تصحيح كلام المكلف مهما أمكن، والله أعلم.
قال: ومن زوج غلاما غير بالغ أو معتوها لم يجز إلا أن يزوجه والده أو وصي ناظر له في التزويج.
ش: للأب أن يزوج ابنه الذي لم يبلغ على المذهب المنصوص.
2459 - لما روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه زوج ابنه وهو صغير، فاختصموا إلى زيد فأجازاه جميعا ولأنه يتصرف في ماله بغير تولية، فكان له تزويجه كابنته الصغيرة.
وظاهر كلام الخرقي وكثيرين أنه لا يشترط حاجة الصغير، وقال القاضي في المجرد: الصغير كالمجنون، إن كان محتاجا إلى النكاح زوجه وإلا فلا، فإن أراد الحاجة إلى النكاح - وهو الذي فهمه ابن عقيل لأنه قال: هذا إنما يتصور في المراهق - فظاهر كلام أحمد والأصحاب خلافه، وإن أراد الحاجة مطلقا فغير(5/97)
مخالف لأن الأب وغيره تصرفهم منوط بالمصلحة. انتهى.
وللأب أيضا أن يزوج ابنه المعتوه، أي المجنون، وهذا ظاهر كلام أحمد، واختيار أبي الخطاب والشيخين وغيرهما، لأنه غير مكلف، أشبه الصغير بل أولى، لأنه يتوقع منه النظر عند الحاجة إليه، بخلاف المجنون، وشرط القاضي لذلك أن يظهر منه أمارات الشهوة من تتبع النساء ونحو ذلك، وحمل كلام أحمد، والخرقي على ذلك، إذ تزويجه مع عدم ذلك إضرار به، لالتزامه حقوقا لا مصلحة في التزامها، ومنع أبو بكر في الخلاف من تزويج البالغ مطلقا، لأنه بالغ محجور عليه، أشبه المفلس.
ومحل الخلاف في المجنون المطبق، أما من يخنق أحيانا فلا يزوج إلا بإذنه، ومن زال عقله ببرسام ونحوه إن رجي زوال علته فكالمخنق، وإلا فكالمجنون، انتهى.
ووصي الأب في النكاح قائم مقامه، فيزوج الصغير والمجنون كالأب، لأنه قائم مقامه، ونائب منابه، وهذا يعتمد أصلا، وهو أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، (وهو إحدى الروايات)(5/98)
عن أحمد، والمختار لجمهور الأصحاب، القاضي وولده أبي الحسين، والشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي، وابن البنا، وأبي محمد وغيرهم، لأنها ولاية ثابتة، فجازت الوصية بها كولاية المال، ولأن له أن يستنيب في حياته، فكذلك بعد مماته كالمال، (وعنه) - واختاره أبو بكر - لا يستفاد بذلك، لأنها ولاية تنتقل إلى غيره، فلم تجز الوصية بها كالحضانة، يحققه أنه لا ضرر على الوصي في وضعها عند من لا يكافيها، فهو كالأجنبي.
2460 - واستدل لها بما روى «ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: توفي عبد الله بن مظعون وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي. قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عبد الله بن مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة، يعني إلى أمها، فأرغبها في المال فحطت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله، ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في(5/99)
الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها. قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها» قال: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة» ، رواه أحمد، والدارقطني. ولو استفاد ولاية النكاح بالوصية لملك الإجبار كالأب، ولم يكن لها معه إذن، وحمله القاضي على أنه كان وليا في المال، ويرده تعليله بقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي يتيمة ولم يقل: ولايتك في المال، لا في النكاح، لكن قد يقال: إن هذه واقعة عين فيحتمل أن هذه اليتيمة كانت ابنة تسع، وهو الظاهر من القصة، ويلتزم أن ابنة تسع لا يزوجها أبوها إلا بإذنها، وكذلك وصيه في النكاح، بل قد يقال إن هذا الحديث يستدل به على أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، لأنه زوج بذلك، ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وقد يقال: إنما لم ينكر عليه لأن له ولاية بالعمومة، لكن إذاً يبقى ذكر ابن عمر وابن مظعون الوصية ضائعا.
(وعن أحمد) رواية ثالثة - حكاها القاضي في الجامع الكبير، وهي اختيار ابن حامد - إن كان ثم عصبة لم تستفد، حذارا من إسقاط حقهم، وإلا استفيدت، لعدم ذلك، وشرط(5/100)
الخرقي أن يكون وصيا في النكاح، فلو كان وصيا في المال لم تكن له ولاية التزويج، لأنها إحدى الوصيتين، فلا تملك بها الأخرى، كوصية النكاح، لا يملك بها المال.
ثم ظاهر كلام المصنف والإمام والأصحاب أنه لا خيار للصبي والحال هذه إذا بلغ، قال القاضي: ووجدت في رقعة بخط أبي عبد الله جواب مسألة إذا زوجه نظرا للصغير وهو وصي، ثبت نكاحه وتوارثا، فإذا بلغ فله الخيار، انتهى.
وليس لغير الأب والوصي - من حاكم ووصي - تزويج الصغير والمجنون، لأنه إذا لم يكن لهما تزويج الصغيرة فالصغير أولى، وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب كما اقتضاه كلام الخرقي، وإليه ميل أبي محمد، وأجاز ذلك ابن حامد للحاكم خاصة، بشرط ميل المجنون للنساء، بأن يتتبعهن ونحو ذلك، وألحق أبو محمد بذلك ما إذا(5/101)
قال أهل الخبرة إن علته تزول بتزويجه، وتبع القاضي في المجرد، وأبو البركات ابن حامد بغير شرط، لأنه يلي ماله، أشبه الأب، ومن هنا يخرج لنا قول أن الجد يزوج الصغير إن قلنا يلي ماله.
(تنبيهان) أحدهما كلام الخرقي فيما تقدم يشمل الأب الكافر، وصرح به القاضي، لأن الحظ والشفقة موجودة فيه، فأشبه المسلم، ولنا وجه في الكافر أنه لا يلي مال ولده الكافر، فيخرج هنا كذلك (الثاني) إطلاق الخرقي يقتضي أن للأب تزويج ابنه الصغير بأربع، وصرح به القاضي في الجامع الكبير، لأنه قد يرى المصلحة في ذلك.
قلت: وقال في المجرد: قياس المذهب أنه لا يزوجه بأكثر من واحدة، إذ حاجته تندفع بذلك. والله أعلم.
قال: وإذا زوج أمته بغير إذنها لزمها النكاح وإن كرهت، كبيرة كانت أو صغيرة.
ش: هذا هو المذهب المعروف، المجزوم به عند الأصحاب، لأن النكاح عقد على منفعتها، وهي مملوكة له أشبه إجارتها ونقل أبو عبد الله النيسابوري عن أحمد أنه سئل هل يزوج الرجل جاريته من غلامه بغير مهر؟ فقال: لا يعجبني إلا بمهر وشهود. قيل: فإن أبت هي، وقالت: لا أتزوج. فللسيد أن يكرهها على ذلك؟ قال: لا إلا بإذنها. قال أبو العباس: ظاهر هذا أن(5/102)
السيد لا يجبر الأمة الكبيرة، بناء على أن منفعة البضع ليست بمال، بدليل أن المعسرة لا تلزم بالتزويج، ولا تضمن باليد اتفاقا، وملك السيد لها كملكه لمنفعة بضع زوجته، والقاضي ذكر هذا النص في الجامع الكبير، فيما إذا وجد أحدهما بالآخر عيبا به مثله، وقال: ظاهر هذا أنه لم يجعل للسيد إجبار أمته على نكاح العبد، وإن كان مساويا لها فيقتضي أن المساواة في النقص لا يمنع الفسخ، قال أبو العباس: وفي هذا نظر، إذ الرق من باب عدم الكفاءة، ولو زوجت المرأة بمن يكافئها في النسب ونحوه لم يكن لها فسخ بحال.
قلت: وتمام هذا أن العبد والحال هذه مكافئ للأمة، فلا يكون لها فسخ، وقد يقال: مسلم أنه لا فسخ لها لوجود المكافأة، وإنما لها الفسخ للعيب وهو الرق، إذ ليس للولي أن يزوج موليته بمعيب، كما هو مقرر في موضعه.
وقد شمل كلام الخرقي المدبرة، والمعلق عتقها بصفة، وأم الولد، والمكاتبة، وهو صحيح فيما عدا المكاتبة، لمساواتهن للأمة فيما تقدم، أما المكاتبة فليس له إجبارها على النكاح، لأنها قد ملكت منافعها عليه، ولهذا لا يجوز له وطؤها ولا إجارتها، والله أعلم.(5/103)
قال: وإذا زوج عبده وهو كاره، لم يجز إلا أن يكون صغيرا.
ش: لا يملك السيد إجبار عبده الكبير على النكاح، نص عليه أحمد، وقاله الأصحاب، لأنه مكلف يملك الطلاق، فلا يجبر على النكاح كالحر، لأن النكاح خالص حقه، ونفعه له فأشبه الحر، وكذلك الصغير على وجه، قاله أبو الخطاب في الانتصار، والمذهب - وهو المنصوص - أن له إجباره قياسا على الابن الصغير بل أولى، لثبوت الملك له عليه، والحكم في العبد المجنون كالحكم في الصغير، قاله الشيخان، والله أعلم.
[الحكم لو زوج الوليان المرأة من رجلين]
قال: وإذا زوج الوليان فالنكاح للأول منهما.
2461 -.
ش: لما روى الحسن، عن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما، وأيما رجل باع بيعين من رجلين فهو للأول منهما» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي. . . وروى الأثرم بسنده عن إبراهيم أن عليا قضى بذلك، لكن في سماع الحسن من سمرة خلاف. وقد شمل كلام الخرقي وإن لم يعلم الثاني، ودخل بها، وهو كذلك خلافا لمالك، لعموم الحديث.(5/104)
وقول الخرقي: زوج الوليان يعني بشرطه، وهو أن تأذن لهما في نكاحها، ويتساويان في الدرجة كالابنين والأخوين ونحوهما، وهذا قد علم مما تقدم، والله أعلم.
قال: فإن دخل بها الثاني وهو لا يعلم أنها ذات زوج فرق بينهما، وكان لها عليه مهر مثلها.
ش: إذا زوج الوليان فدخل بها الثاني، والحال أنه لا يعلم أنها مزوجة، فإنه يفرق بينهما، لترد إلى زوجها، وهذا تفريق حسي من غير فسخ، لبطلان النكاح، قاله أبو محمد، وكذلك قال ابن أبي موسى نزل عنها من غير طلاق، واستشكل بأن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: تصير زوجة الثاني بالدخول، وإذا يجب الطلاق كالأنكحة الفاسدة، وأجيب بأن الإباحة حصلت بالوطء لا بالعقد، انتهى. ويجب لها عليه المهر، لأنه وطء شبهة، أشبه المنكوحة بغير ولي.
2462 - ودليل الأصل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما(5/105)
استحل من فرجها» الحديث، وهل يجب مهر المثل أو المسمى؟ قال الخرقي: مهر المثل. وصححه أبو محمد، لأنه يجب بالإصابة لا بالتسمية، وقال أبو بكر في الخلاف: يجب المسمى. قال القاضي: وهو قياس المذهب. إذ من أصلنا أن النكاح الفاسد إذا حصل فيه دخول وجب المسمى، وحمل كلام الخرقي على أنه لا مسمى.
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يدخل بها الثاني لا تفريق لوجوده حسا، ولا مهر، لأن وجوبه بالإصابة لا بالتسمية، ولا إصابة، ومقتضى قول القاضي وجوبه بالخلوة كما في النكاح الفاسد عنده، وقوله: وهو لا يعلم. قد يقال: خرج مخرج الغالب، حملا لحال المسلم على السداد، وإذا لا مفهوم له، فيفرق بينهما أيضا، ويجب لها المهر، نعم إن كانت هي أيضا عالمة فلا مهر لها، لأنها إذا زانية، والله أعلم.
قال: ولم يصبها زوجها حتى تحيض ثلاث حيض بعد آخر وقت وطئها فيه الثاني.
ش: إنما لم يصبها زوجها حتى تحيض ما ذكر فلأنها معتدة من غيره، والمعتدة لا يجوز وطؤها، حذارا من اختلاط المياه.(5/106)
2463 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره» وبيان لزوم العدة عليها أنها موطوءة بشبهة، والموطوءة بشبهة تلزمها العدة، لتحصل براءة رحمها، حفظا للأنساب، وتعتد عدة المطلقة، لاشتراكهما في لحوق النسب، ولو كان الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: تعتد عدة المطلقة. لكان أجود لشموله.
ومفهوم كلام الخرقي أن له أن يستمتع بها لتخصيصه المنع بالإصابة، وهو أحد الوجهين، والله أعلم.
قال: وإن جهل الأول منهما فسخ النكاحان.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار أبي محمد في المغني، لأن كل واحد منهما والحال هذه يحتمل أن نكاحه صحيح، ولا سبيل إلى الجمع، ولا إلى معرفة الزوج يقينا، والانتظار لا إلى غاية مجهول، فتعين فسخ النكاحين، لإزالة الضرر المنفي شرعا، (والرواية الثانية) : - وهي اختيار أبي بكر النجاد، والقاضي في التعليق، والشريف , وأبي(5/107)
الخطاب، والشيرازي - يقرع بينهما، إذ القرعة تزيل الإبهام، وقد دخلت في السفر بإحدى نسائه، والبداءة بالمبيت عند إحداهن، فكذلك ها هنا، ولأن القرعة قد دخلت في استدامة النكاح، كما إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها، أو بعينها ثم أنسيها على المشهور، فكذلك في ابتدائه، وقال ابن أبي موسى: يبطل النكاحان. وظاهره الحكم ببطلانهما من غير احتياج إلى فسخ، ولا إلى قرعة.
وكلام الخرقي يشمل ما إذا علم عين السابق ثم جهل، أو علم السبق ولم يعلم السابق، ولا إشكال في جريان الروايتين في هاتين الصورتين، وقد يشمل أيضا ما إذا جهل كيف وقعا، وقد اختلف الأصحاب في هذه الصورة، فعند أبي الخطاب والشيخين، والقاضي في الجامع فيما أظن أنها على الروايتين أيضا، وليس عند القاضي في التعليق والجامع الكبير إلا البطلان، وكذلك ابن حمدان في رعايتيه، إلا أنه في الكبرى حكى قولا بالبطلان ظاهرا لا باطنا.
وقد خرج من كلام الخرقي ما إذا وقعا معا، وللأصحاب فيه أيضا طريقتان: (إحداهما) : - وهي طريقة الأكثرين، أبي الخطاب في الهداية، وابن البنا، والشيخين، وابن حمدان وغيرهم - الجزم بالبطلان من غير فسخ ولا قرعة، إذ القرعة إنما تدخل لتمييز الصحيح، ولا صحيح. (والثانية) : - وهي(5/108)
طريقة القاضي في الروايتين - جريان الروايتين فيه، معللا بأنه إذا جازت القرعة مع العلم بفساد المتأخر، فأولى أن تجوز إذا لم يحكم بفساد أحدهما، ومستشهدا بأن القرعة تدخل بين العبيد الذين أعتقهم في مرضه، وإن كانوا دفعة، وله في تعليقه احتمالان كالطريقتين.
(تنبيهات) : أحدها على الرواية الأولى الفاسخ هو الحاكم، قاله القاضي في تعليقه، وفي جامعه الصغير، وأبو الخطاب والشيخان، لأنه فسخ مختلف فيه، والمختلفات ترجع إلى الحكام، وقال ابن عقيل، والسامري، وابن حمدان في رعايتيه: للزوجين الفسخ، ولعلهم يريدون بإذنه، وعن أبي بكر يطلقانها.
(الثاني) : على الرواية الثانية إذا أقرع بينهما، فمن خرجت قرعته فهي زوجته بالنكاح الأول، من غير تجديد عقد، على ظاهر كلام [أحمد في رواية ابن منصور يقرع بينهم، فمن وقعت عليها القرعة فهي له، وهو ظاهر كلام] الجمهور - ابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وصرح به القاضي في الروايتين، وابن عقيل، معللا بأن القرعة جعلت في الشرع حكما للتمييز، وقال أبو بكر بن سليمان النجاد: من خرجت القرعة له جدد نكاحه. وكذا قال الشيخان، قال أبو محمد: وينبغي أن لا تجبر المرأة على نكاح من خرجت له القرعة، بل لها أن تتزوج من شاءت منهما ومن غيرهما، وضعف هذا أبو العباس، لاتفاق الروايتين أيضا، وقد أشار إلى هذا ابن عقيل، فقال - بعد(5/109)
ذكر قول النجاد -: وهذا استظهار حسن، غير أن اعتباره تعطيل للقرعة عن جهة الإباحة، قال أبو العباس: وإنما على هذا القول، يجب أن يقال: هي زوجة القارع، تجب عليه نفقتها وسكناها، ونحو ذلك، ولا يطأ حتى يجدد، فالتجديد لحل الوطء، قال أو يقال: لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد، ويكون التجديد عليه وعليها، انتهى.
(الثالث) : على هذه الرواية أيضا لا يؤمر من لم تخرج له القرعة بطلاق، ذكره القاضي في المجرد، وابن عقيل، معتمدين على أنه ظاهر كلام أحمد، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى، وقال النجاد والقاضي في الروايتين، وفي الجامع، وأبو الخطاب في الهداية، والشيخان: يؤمر بالطلاق، لجواز أن تكون زوجته، كما يفسخ الحاكم النكاح الفاسد، المختلف فيه، وحكى المسألة ابن البنا على روايتين، وقد تبين أن من قال لا تجديد منهم، قال بالطلاق، فإذا في الفرعين ثلاثة أقوال، ثالثها يؤمر المقروع بالطلاق، ولا يجدد القارع، ولعله المذهب، والله أعلم.(5/110)
قال: وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب.
2464 - لما روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه، فهو عاهر» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه. والعاهر الزاني، ولأن في ذلك تفويتا لمنفعة السيد الواجبة له، لانشغاله بحقوق الزوجية، وأنه لا يجوز، وقد حكى ابن المنذر هذا إجماعا، (وعن أحمد) رواية بالوقف على الإجازة وتحكى عن الحنفية، والله أعلم.
قال: وإن كان دخل بها فعلى سيده خمسا المهر، كما قال عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إلا أن يجاوز الخمسان قيمته، فلا(5/111)
يلزم سيده أكثر من قيمته أو يسلمه.
ش: إذا تزوج العبد بغير إذن سيده ودخل بها، وجب عليه شيء في الجملة كما اقتضاه كلام الخرقي، ونص عليه أحمد والأصحاب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها» والعبد والحال هذه قد استحل فرجها، فيكون لها المهر، (وقد روى عنه حنبل) : إذا تزوج بغير إذن سيده فلا مهر. قال أبو محمد: فيحتمل أن تحمل على إطلاقها، ويحتمل أن تحمل على ما قبل الدخول، ويحتمل أن تحمل على أن المهر لا يجب في الحال، بل يجب في ذمة العبد، يتبع به إذا عتق، وحملها أبو البركات على ما إذا كانا عالمين بالتحريم، وتبعه ابن حمدان، وزاد: قلت: أو علمت المرأة وحدها، وهذا حكاه أبو محمد عن القاضي.
2465 - (فعلى المذهب) الواجب خمسا المهر، اتباعا لقضاء عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو ما روى أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، أن غلاما لأبي موسى تزوج مولاة - أحسبه قال - تيجان التيمي بغير إذن أبي موسى، فكتب في ذلك إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه: أن فرق بينهما، وخذ لها الخمسين من صداقها، وكان صداقها خمسة أبعرة، قال قتادة: فذكرت ذلك لبلال، فقال: نعم ذاك غلامنا(5/112)
تزوج أم رواح. وهذه قضية في مظنة الشهرة، ولم ينقل إنكارها، فيكون حجة، ولأنها تخالف القياس، فالظاهر أنها(5/113)
بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقال: يجوز أن يكون خمسا المهر قدر مهر المثل، لأنا نقول هذا بعيد من الظاهر، لأن مهر المثل يحتاج إلى نظر وتأمل، ثم إنه لا يترك في الحديث ما الحكم منوط به، (وهذا إحدى الروايات) وأشهرها، واختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وغيرهم.
(والثانية) الواجب مهر المثل، اختارها أبو بكر، قياسا على سائر الأنكحة الفاسدة.
(والثالثة) الواجب المسمى، بناء أيضا - والله أعلم - على أن الواجب في الأنكحة الفاسدة ذلك، ويشهد له حديث المنكوحة بغير ولي، ولعل أصل هاتين الروايتين الروايتان ثم، وقد استشهد القاضي على وجوب مهر المثل هنا بقول أحمد في رواية المروذي: إذا تزوج بغير إذن سيده يعطي شيئا، قيل له: تذهب إلى قول عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ قال: أذهب إلى أن يعطي شيئا، وفي هذا نظر؛ لأن هذا إنما يدل على أنه يعطي شيئا، إما ما اصطلحا عليه، أو ما يراه الحاكم، انتهى.
(والرواية الرابعة) يجب الخمسان إن علمت عبوديته، وإلا فالمهر كاملا، حكاها أبو محمد، انتهى.(5/114)
وقول الخرقي: وإن كان دخل بها. أراد بالدخول - والله أعلم - الوطء، وكذا صرح به غيره، فعلى هذا لا يجب قبل الخلوة، وهو واضح، ولا بعدها وقبل الوطء، لعدم الجنابة، وقد يقال بالوجوب، كما في سائر الأنكحة الفاسدة، (وقوله) : خمسا المهر. - اللام للعهد - أي المهر المسمى، وهذا كما في الحديث «لها المهر بما استحل من فرجها» وهو مقتضى قصة عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأبي محمد احتمال في المغني أن الواجب خمسا مهر المثل، ولا تعويل عليه، ولو عدم المسمى فقال القاضي في تعليقه: ظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنها لا تستحق جميعه، (وقوله) : إلا أن يجاوز الخمسان قيمته فلا يلزم السيد أكثر من ذلك.
وذلك لأن الواجب عليه ما يقابل تلك الرقبة، بدليل ما لو سلم العبد لم يلزمه شيء، وفي هذا إشعار بأن الحق يتعلق برقبته، وهو واضح، لأنها جنايته، فتعلقت برقبته كبقية جناياته، (وقوله) : أو يسلمه. الظاهر أنه معطوف على قوله: فعلى سيده خمسا المهر. أي أو يسلمه. وهذا أصل يأتي إن شاء الله تعالى في الجنايات، والله أعلم.
[الحكم لو تزوج الأمة على أنها حرة فأصابها وولدت منه]
قال: وإذا تزوج الأمة على أنها حرة، فأصابها وولدت منه فالولد حر، وعليه أن يفديهم والمهر المسمى.
ش: لا يبطل النكاح بالغرور في الجملة لأن المعقود عليه في(5/115)
النكاح الشخص، والصفات تابعة له، فإذا وجدت بخلاف الشرط لم يبطل العقد، كمن باع عبدا على أنه صحيح، فبان معيبا، إذا تقرر هذا فإذا تزوج أمة وشرط أنها حرة، وأصابها وولدت منه فولده حر، لاعتقاده حريته، كما لو اشترى أمة فبانت مغصوبة بعد أن أولدها، وعليه فداؤهم على المذهب المعروف المنصوص في رواية الجماعة.
2466 - اتباعا لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عمر، وعلي، وابن عباس، ولأنه نماء مملوكة، فسبيله أن يكون ملكا لمالكها، وقد فوته الزوج باعتقاده الحرية، فوجب عليه الضمان، كما لو فوته بفعله.
(ونقل عنه) ابن منصور: لا فداء عليه، لانعقاد الولد حرا، والحر لا يملك ووهى الخلال هذه الرواية، وقال: أحسبه قولا روي أولا لأبي عبد الله رجع عنه لأنهم اتفقوا عنه على الفداء، انتهى.
(ونقل عنه) حنبل يخير بين الفداء فيكون ولده حرا، وبين الترك فيكون ولده رقيقا.(5/116)
2467 - وهو ظاهر ما نقل عن علي - كرم الله وجهه -، وشرط الضمان أن يوضع حيا لوقت يعيش لمثله، وصفة الفداء، ووقته قد تقدما في الغصب، ويجب عليه أيضا المهر المسمى بما استحل من فرجها، ولا إشكال في ذلك إن كان بعد الإصابة، وهو ممن يجوز له نكاح الإماء، لصحة النكاح، ووجود الإصابة فيه، وإن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء فهو نكاح فاسد من أصله، فإذا هل الواجب فيه مهر المثل أو المسمى؟ فيه روايتان، ولو تبين له الحال قبل الإصابة وهو ممن يجوز له نكاح الإماء واختار الإمضاء تقرر المسمى عليه (ولنا قول آخر) أنه ينسب قدر مهر المثل لأجل ذلك إلى مهر المثل كاملا، فيكون له بقدر نسبته من المسمى، يرجع بذلك على من غره، فيقال: كم مهر مثلها إذا كانت أمة؟ فيقال مثلا: خمسون. وحرة؟ فيقال: ستون. نسبة ما بينهما السدس، فيرجع بسدس المسمى، وإن اختار الفسخ فلا شيء عليه، لأن الفسخ لعذر من جهتها.
وإن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء فقبل الخلوة لا مهر، لفساد العقد، وكذلك بعد الخلوة على رأي أبي محمد، وعلى المشهور يجب، هذا قياس المذهب، والله أعلم.(5/117)
قال: ويرجع بذلك على من غره.
ش: أي بما غرمه من فداء الأولاد ومن المهر، أما فداء الأولاد فلا نزاع فيه.
2468 - لقضاء الصحابة عمر، وعلي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأما المهر فلقضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - به، وهذا (إحدى الروايتين) واختيار القاضي، وأبي محمد، وغيرهما، (والرواية الثانية) لا يرجع بالمهر، اختارها أبو بكر لأنه دخل على ذلك، لا سيما وقد استوفى المنفعة المقابلة له.
2469 - مع أن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وحيث قلنا: يرجع. فإنما ذلك إذا لم يختر إمضاء النكاح حيث يكون له الإمضاء، أما إن اختار البقاء على النكاح حيث جاز له ذلك فلا رجوع إلا بنسبة ما بين المهرين على قويل تقدم.
وقول الخرقي: ويرجع بذلك على من غره. إنما حكم بذلك في صورة الشرط، وهو ما إذا تزوجها على أنها حرة، فقد يقال: مفهومه أنه لا يرجع بذلك إذا ظنها حرة، وصرح بذلك أبو البركات، وتابعه ابن حمدان في رعايتيه، وقبلهما القاضي، بل قيل عن القاضي أنه لا يرجع إلا مع شرط مقارن للعقد، لا مع تقدمه، لأنه مفرط، حيث اعتمد على مجرد ظنه، وظاهر كلام(5/118)
أحمد في رواية حرب يقتضي الرجوع مع الظن، قال فيمن تزوج بامرأة وظن أنها حرة فأصاب منها أولادا فإذا هي أمة، قال: يفرق بينهما، وأولاده أحرار، ولكن يفديهم، وإن كان غره إنسان فعلى الذي غره أن يفدي ولده. وهذا اختيار أبي محمد، وأبي العباس، إذ الصحابة الذين قضوا بالرجوع لم يستفصلوا، ويحقق ذلك أن الأصحاب لم يشترطوا ذلك في الرجوع في العيب.
(تنبيه) الغار من علم أنها أمة ولم يبين، على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن الحكم، فكاك ولده على الذي غره إذا كان علم الذي غره، فإذا إذا لم يعلم فالوكيل أو الدلال بينهما لا شيء عليه، وذكر أبو محمد فيما إذا علم بعض أولياء الحرة الغارة احتمالين، اختصاص الغرم بمن علم، والثاني يعم الجميع، لأن حق الآدمي يستوي فيه العمد والسهو، وضعفه أبو العباس بأن هذا مع المباشرة، أما مع التسبب فلا بد من تحريم السبب، انتهى.
ثم لا يخلو الغار من أن يكون السيد أو المرأة، أو وكيلهما أو أجنبيا، (فإن كان) السيد والغرور بلفظ الحرية عتقت، وزالت المسألة، وبغيرها لا تثبت حرية، ولا يجب له شيء، إذ لا فائدة في أن يجب له ما يرجع به عليه. نعم إن قلنا: إن الزوج(5/119)
لا يرجع بالمهر وجب للسيد، لانتفاء المحذور، ولا يتصور الغرور من السيد على قول القاضي، لأن شرط الرجوع عنده اشتراط الحرية مقارنا كما تقدم، (وإن كان) الغار المرأة ففي الرجوع عليها وجهان: (أحدهما) : - وهو ظاهر كلام الخرقي وجماعة، وقاله القاضي - يرجع عليها لمكان الغرور، ثم هل يتعلق برقبتها أو بذمتها؟ على وجهي استدانة العبد بغير إذن سيده، قال القاضي: وقياس قول الخرقي الثاني، كمخالعتها بدون إذنه، (والوجه الثاني) : - وهو ظاهر كلام أحمد في رواية جماعة - لا يرجع عليها، إذ الولد أو المهر ملك للسيد، وهي لا تملك بدل ذلك، أشبه ما لو أذنت في قطع طرفها، (وإن كان) الغار وكيل المرأة رجع عليه بلا تردد، (وإن كان) الغار أجنبيا رجع عليه، على ظاهر كلام أحمد بل صريحه في روايتي عبد الله، وصالح، وظاهر كلام القاضي عدم الرجوع، قال الغار وكيلها أو هي نفسها، والله أعلم.
قال: ويفرق بينهما إن لم يكن ممن يجوز له أن ينكح الإماء، وإن كان ممن يجوز له فرضي بالمقام فما ولدت بعد الرضى فهو رقيق.
ش: أما التفريق بينهما إن لم يكن الزوج ممن يجوز له نكاح الإماء(5/120)
فلأنا تبينا فساد العقد، أشبه المنكوحة في العدة، أو بلا ولي، وأما ثبوت الخيار - كما اقتضاه كلام الخرقي - لمن يجوز له نكاح الإماء - وهو الحر بوجود الشرطين فيه، والعبد بشرط أن لا تكون تحته حرة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى - فلأنه غر بحريتها، فثبت له الخيار، كما لو غرت بحريته، ولما فيه من ضرر رق الولد، والضرر منفي شرعا، فعلى هذا إن اختار فسخ النكاح انفسخ ولا كلام، وإن اختار المقام على النكاح فما ولدت بعد رضاه فهو رقيق، لانتفاء الغرور إذا، وقد علم من هذا أن الولد يتبع أمه في الرق والحرية، ونص عليه أحمد.
2470 - محتجا بقول عمر: أيما عبد تزوج حرة فقد أعتق نصفه. وقول الخرقي: فما ولدت. ظاهره وإن كانت قد علقت به قبل الرضى، وقد وقع له نحو هذه العبارة في الردة، وأقره أبو محمد ثم على ظاهره، معللا بأن أكثر الأحكام إنما تتعلق بالوضع، أما هنا فجعل الحكم منوطا بالعلوق، وهو التخليق، وكذا صرح به أبو البركات.(5/121)
واعلم أن الخرقي إنما ساق ثبوت الخيار مع الشرط، فقد يقال: ظاهره أنه لا يثبت مع عدمه، وهو أحد الوجهين، لتفريطه حيث لم يحترز بالشرط، وبالغ القاضي في بعض كتبه فشرط كون الشرط مقارنا للعقد، وهو في تعليقه كالخرقي، والصحيح الثبوت بالشرط وبالظن، ثم إن أبا محمد وغيره أطلقوا الظن، وقيده ابن حمدان تبعا لأبي البركات بما إذا ظنها حرة الأصل، وعموم كلام الخرقي يقتضي ثبوت الخيار للعبد كالحر وهو الصحيح، وقيل: لا خيار للعبد لتساويهما، والله أعلم.
قال: وإن كان المغرور عبدا فولده أحرار، ويفديهم إذا عتق ويرجع به أيضا على من غره.
ش: إذا كان المغرور عبدا فولده أيضا أحرار كالحر، إذ المقتضي لحرية الولد اعتقاد الواطئ الحرية، وهو موجود هنا، ويفديهم كالحر على ما تقدم، لكن الحر يجب الفداء عليه في الحال، كبقية الحقوق اللازمة له، أما العبد فلا مال له في الحال، فيتأخر الفداء إلى وقت ملكه ويساره وهو العتق، كذا قال الخرقي وغيره، ثم إن القاضي في الجامع بناه على استدانته، بغير إذن سيده هل يثبت في ذمته أو في رقبته؟ على وجهين، وبناه أبو محمد على خلع الأمة بغير إذن سيدها، وهو أوجه، إذ الخرقي يقول في الاستدانة: تتعلق برقبته فلا يجيء بناؤه عليها، أما في الخلع فيقول: يتعلق بذمتها، فيتحد البناء، ثم إن أبا محمد خرج وجها آخر أنه يتعلق برقبته كجنايته، انتهى.(5/122)
ويرجع بالفداء على من غره كما تقدم في الحر، لكن الحر يرجع في الحال، أما العبد فلا يرجع إلا حين الغرم، حذارا من أن يجب له ما لم يثبت عليه، نعم إن قيل: يتعلق الفداء برقبته رجع به السيد في الحال، والله أعلم.
[عتق الزوجة مقابل المهر]
قال: وإذا قال: قد جعلت عتق أمتي صداقها. بحضرة شاهدين، فقد ثبت العتق والنكاح.
ش: هذا المنصوص عن أحمد، والمشهور عنه، رواه عنه اثنا عشر رجلا من أصحابه، منهم ولداه صالح، وعبد الله، وهو المختار لجمهور الأصحاب، الخرقي، وأبي بكر، والشريف، وأبي جعفر، والقاضي في موضع، وقال في التعليق: إنه المشهور من قول الأصحاب، وقال أبو محمد: إنه ظاهر المذهب.
2471 - وذلك لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وتزوجها، فقال له ثابت: ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها.» متفق عليه، وفي لفظ للبخاري: «أعتق صفية وتزوجها، وجعل عتقها صداقها» . ولم ينقل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استأنف عقدا، ولأنه جعل عتقها صداقها، ومتى ثبت العتق صداقا ثبت النكاح، إذ الصداق لا يتقدم عليه.
2472 - يؤيد هذا أن هذا روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكاه عنه أحمد(5/123)
محتجا به وهو راوي الحديث، وهو يقوي إرادة الظاهر منه.
2473 - ويروى أيضا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن منفعة البضع إحدى المنفعتين، فجاز أن يكون العتق عوضا عنها، دليله منفعة الخدمة، وهو إذا قال: أعتقتك على خدمة سنة. لا يقال: هذا من خصائص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إذ من خصائصه النكاح بلا مهر، لأنا نقول: الغرض أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقد بمهر، وإذًا فحكم أمته حكمه في صفية.
ونقل المروذي عن أحمد: إذا أعتق أمته وجعل عتقها صداقها يوكل رجلا، فأخذ القاضي وأتباعه من هذا رواية أن النكاح لا يصح بهذا اللفظ، واختاره القاضي في خلافه وفي روايتيه، وأبو الخطاب في كتبه الثلاثة، وابن عقيل، وزعم أنها الأشبه بالمذهب، إذ بالعتق تملك نفسها، فيعتبر رضاها، كما لو فصل بينهما، ولأنه لم يوجد إيجاب ولا قبول، وهما ركناه(5/124)
فلا يصح إلا بهما، ولأن العتق ليس بمال، ولا يجبر به مال، فأشبه رقبة الحر، وتورع ابن أبي موسى من حكاية رواية بعدم الصحة، وجعل محل الخلاف في تولي طرفي العقد، كما هو مقتضى نص أحمد، فقال: ومن أعتق أمته وجعل عتقها صداقها ثبت العتق والنكاح جميعا، واختلف قوله هل يكون المولى هو العاقد لنفسه، أم يحتاج إلى توكيل من يعقد له النكاح عليها بأمره؟ على روايتين. فجعل الرواية أنه يستأنف العقد عليها بإذنه بدون رضاها، إذ العتق وقع على هذا الشرط، انتهى.
وأجيب (عن ملكها) نفسها بأن الكلام المتصل لا يثبت له حكم الانفصال قبل تمامه، فلم يستقر ملكها على نفسها إلا بعد النكاح، والسيد كان يملك إجبارها على النكاح في حق الأجنبي، فكذلك في حق نفسه، (وعن فقد) الإيجاب والقبول بأن العتق لما خرج مخرج الصداق صار الإيجاب كالمضمر فيه، فكأنه قال: تزوجتك وجعلت عتقك صداقك. والقائل هو الموجب، فلا يحتاج إلى الجمع بين الإيجاب والقبول، (وعن كون) العتق ليس بمال بأنه يترتب عليه حصول مال، وهو تمليك العبد، منافع نفسه وهو المقصود، وسأله حرب: إذا جعل عتقها مهرها كيف يقول؟ قال: يقول: قد تزوجتك وجعلت عتقك مهرك. فشرط ابن(5/125)
حامد ذلك، ليأتي بركن العقد.
وحيث قيل بالصحة فيشترط أن يحضره شاهدان، نص عليه أحمد، لعموم الأدلة في اشتراط الشهادة، والله أعلم.
قال: وإذا قال: اشهدا أني قد أعتقتها وجعلت عتقها صداقها. كان العتق والنكاح ثابتين. سواء تقدم القول بالعتق أو تأخر، إذا لم يكن بينهما فصل.
ش: إذا قال لشاهدين: اشهدا أني قد أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها. كان العتق والنكاح أيضا ثابتين، سواء تقدم القول بالعتق كما في هذا المثال، أو تأخر كما إذا قال: جعلت عتق أمتي صداقها وأعتقتها بشرط أن لا يكون بين العتق والجعل ما يعد فصلا، كسكوت يمكن الكلام فيه، أو كلام أجنبي، لأنه كلام متصل بعضه ببعض، فلا يحكم عليه إلا بعد تمامه، انتهى.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط قبول الأمة، ونص عليه أحمد والأصحاب.
(تنبيهان) : (أحدهما) : الظاهر أنه لا بد أن يقصد بالعتق جعله صداقا قبل أن يتم لفظ (أعتقتك) . كما في الاستثناء ونية العدد، بل هذا هو العطف المغير، وقد قال صالح لأبيه: الرجل يعتق الأمة فيقول: أجعل عتقك صداقك. أو صداقك عتقك. قال: كل ذلك جائز، إذا كانت له نية فنيته، (الثاني) : أو رد على القاضي إذا قال: جعلت عتق أمتي صداق ابنتك. لا(5/126)
يصح النكاح فكذا في نفسه، فأجاب: لا يصح، لتقدم القبول على الإيجاب، فلو قال الأب ابتداء: زوجتك ابنتي على عتق أمتك. فقال: قبلت. لم يمتنع أن يصح، وقال أبو العباس فيما إذا قال: زوجت أمتي من فلان، وجعلت عتقها صداقها. قياس المذهب صحته، لأنهم قالوا: الوقت الذي جعل العتق صداقا كان يملك إجبارها في حق الأجنبي، والله أعلم.
قال: فإن طلقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بنصف قيمتها.
ش: إذا طلق الأمة المجعول عتقها صداقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بنصف قيمتها، نص عليه أحمد في رواية الجماعة، إذ التسمية صحيحة، وذلك يوجب الرجوع في نصفها كغيرها، ولما لم يكن سبيل إلى الرجوع في الرق بعد زواله، رجع في بدله وهو القيمة، وعلى هذا لو ارتدت، أو فعلت ما يفسخ نكاحها قبل الدخول، رجع عليها بجميع قيمتها، (وعلى الرواية) الأخرى المختارة للقاضي وبعض أصحابه يستأنف النكاح بإذنها، (وعلى قول) ابن أبي موسى لا يعتبر إذنها، وعلى كل حال مهرها العتق، فعلى قول القاضي إن امتنعت لزمها قيمة نفسها، لأنه إنما بذل نفسها في مقابلة بضعها، ولم تسلم له، فيرجع في قيمتها، قال أبو العباس: وقياس المذهب أنه لا يلزمها شيء، إذا لم يلزم النكاح ولم ترض بالشرط، كما لو أعتقها على ألف فلم تقبل بل(5/127)
أولى، إذ: على ألف أبلغ في الشرط من: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك.
(تنبيه) تعتبر القيمة وقت التلف وهو العتق، ثم إن كانت قادرة فلا كلام، وإن كانت معسرة فهل تنظر إلى ميسرة أو تلزم بالاستسعاء؟ فيه روايتان منصوصتان، قال القاضي: أصلهما المفلس إذا كانت له حرفة، هل يجب عليه الاكتساب؟ على روايتين، والله أعلم.
[صيغة الإيجاب والقبول في النكاح]
قال: وإذا قال الخاطب للولي: أزوجت؟ فقال: نعم. وقال للمتزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. فقد انعقد النكاح، إذا كان بحضرة شاهدين.
ش: هذا منصوص أحمد، وبه قطع الجمهور، لأن (نعم) جواب صريح، والسؤال مضمر معاد فيه، أي نعم قبلت هذا النكاح، ونعم زوجتها، وهذا صريح لا احتمال فيه، يحققه أنه لو قيل لرجل: لفلان عليك ألف درهم. فقال: نعم. كان إقرارا صحيحا، لا يرجع فيه إلى تفسيره، وتقطع اليد بمثل ذلك، مع أن الأصل براءة الذمة، ودرء الحد بالشبهة، ولا بد أن يحضر ذلك شاهدان لما تقدم، وقيل: لا يصح النكاح بذلك في الصورتين، قال ابن عقيل: وهو الأشبه بالمذهب، لعدم لفظ الإنكاح والتزويج، والله أعلم.(5/128)
[الجمع بين أربع نسوة]
قال: وليس للحر أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات.
2474 - ش: هذا كالإجماع، ويدل عليه ما روي «عن قيس بن الحارث، قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اختر منهن أربعا، وفارق سائرهن» رواه أبو داود، وابن ماجه، وإذا منع من الزيادة على أربع في الدوام، ففي الابتداء أولى، وبهذا قيل إن الواو في قوله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] بمعنى «أو» لا(5/129)
عاطفة، وقد فهم من قول الخرقي، أن له أن يتسرى بما شاء، ولا نزاع في ذلك، لقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] .
قال: وليس للعبد أن يجمع إلا اثنتين.
2475 - ش: لما روى الدارقطني عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين. 2476 - وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل الناس كم يتزوج العبد؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: يتزوج ثنتين، وطلاقه ثنتان. وهذا في مظنة الشهرة، ولم ينكر فكان إجماعا.(5/130)
2477 - وقد روي عن الحكم بن عتيبة قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا ينكح أكثر من اثنتين. وبهذا يتخصص عموم الآية أو يقال الآية إنما تناولت الحر لأن فيها {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3] والعبد لا يملك، ولو ملك فنفس ملكه لا يبيح التسري، ثم في أول الآية {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} [النساء: 3] فالخطاب لمن يكون وليا على يتيم، والعبد لا يصلح لذلك.
تنبيه: من عتق نصفه فأكثر يجمع بين ثلاث، نص عليه أحمد، لأن ذلك مما يقبل التجزي، فتجزى في حقه كالحد، وقيل: لا يملك إلا اثنتين؛ لأنهما قد ثبتا له وهو عبد، فلا ينتقل عنهما إلا بدليل من نص أو إجماع ولم يوجد، والله أعلم.
قال: وله أن يتسرى بإذن سيده.
ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الجماعة، وقول قدماء أصحابه الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، وبعض متأخريهم، كأبي محمد من غير بناء على روايتي ملكه وعدمها، بل الخرقي وغيره يقولون: لا يملك ويبيحون له التسري، وبناه القاضي وعامة من بعده على الروايتين في ملكه، إن قلنا: يملك. جاز له التسري، وإلا فلا يجوز، وأحمد - رحمه(5/131)
الله - في رواية أبي طالب قد استدل في المسألة وبينها بما هو كاف فيها.
2478 - قال أبو طالب: سمعت أبا عبد الله قيل له: أيتسرى العبد؟ قال: نعم. قال ذلك ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغير واحد من التابعين، عطاء ومجاهد، وذكرهم، وأهل المدينة على هذا، وفي رواية قال: لم يزل أهل الحجاز على هذا. قيل لأبي عبد الله: فمن احتج بهذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] فأي ملك للعبد؟ قال: إذا ملكه ملك. يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من اشترى عبدا وله مال فقد جعل له ملكا، هذا يقوي التسري أنه يطأ بملك، وأهل المدينة يقولون: إذا أعتق وله مال فماله معه، ولا يتعرض لماله، وإذا باع العبد فالمال للسيد، فقد جعلوا له مالا في العتق، وابن عمر وابن عباس أعلم بكتاب الله ممن احتج بهذه الآية، هم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن، وهم أعلم فيما أنزل فقالوا: يتسرى العبد. ولكن في القياس ليس يقوم حد الملك، لأنه ليس خالصا له دون السيد، فيقول بقولهم، قال ابن سيرين: لا تزال على الطريق ما اتبعت الأثر. فقد استدل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقول الصحابة، وبعمل(5/132)
أهل الحجاز، وبين أن يقول الصحابة يعرف معنى القرآن، وبين أن ملكه ليس كملك الحر، وهذا الذي يفصل النزاع، فالخرقي والقدماء يقولون: لا نثبت ملكا مطلقا، لكن ملكا يبيح له التسري فقط، لمصلحة راجحة، ولا بدع في ذلك، إذ الموقوف عليه يملك الانتفاع دون نقل الملك في الأصل، وكذلك سيد أم الولد يملك الانتفاع بها دون البيع ونحوه، والشارع يثبت من الملك ما فيه مصلحة العباد، ويمنع ما فيه فسادهم، والعبد محتاج إلى النكاح، فالمصلحة تقتضي ثبوت ملك البضع له، وإلا فكون العبد يملك مطلقا، فيه إضرار بالسيد، ومنع العبد مطلقا، فيه إضرار به، فالعدل ثبوت قدر الحاجة، وفي الحقيقة الملك المطلق لله سبحانه وحده، ثم إذا ثبت للعبد ملك النكاح وهو أشرف فملك التسري أولى، وغاية ما يقال أن إثبات ملك(5/133)
يحل الوطء دون غيره لا نظير له، فنقول: قد ثبت ذلك عن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولا يعرف لهما مخالف، وإذا لا يحتاج إلى النظير، ثم العبد لا نظير له في نفسه، إذ ليس هو مثل الحر، ولا مثل البهيمة، فكذلك في أحكامه انتهى. وإذا جاز له التسري جاز له التسري بما شاء بإذن السيد كالحر.
(تنبيه) نقل الجماعة عنه: إذا أذن له سيده مرة لم يكن له الرجوع. فظاهر هذا أنه جعل الإذن في التسري مقتضيا لملك البضع كالنكاح، فكما أنه ليس له الرجوع في النكاح إذا أذن له، فكذلك في التسري، وهو يؤيد طريقة الخرقي ومن وافقه، قال أبو محمد: ولم أجد عنه خلاف هذا، والقاضي لما استشعر أن هذا يخالف طريقته حمله على أنه أطلق التسري وأراد به النكاح. والله أعلم.
قال: ومتى طلق الحر أو العبد طلاقا يملك فيه الرجعة أو لا يملك، لم يكن له أن يتزوج أختها حتى تنقضي عدتها.
ش: هذا يعتمد أصلا، وهو أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في عقد النكاح، وهذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] الآية إذا تقرر(5/134)
هذا فكما أنه لا يجوز الجمع بينهما في عقد النكاح، لا يجوز الجمع بينهما في العدة، فإذا تزوج امرأة ثم طلقها، لم يجز له أن يتزوج في عدتها من لا يجوز له الجمع بينهما في عقد النكاح، كأختها وعمتها وخالتها، ونحو ذلك. رجعية كانت أو بائنا، أما الرجعية فبالاتفاق، إذ هي زوجة.
2479 - وأما البائن فلأن ذلك يروى عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2480 - وعن عبيدة السلماني قال: ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الظهر، وأن لا تنكح المرأة في عدة أختها.(5/135)
2481 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين» ولأنها محبوسة عن النكاح لأجله، أشبهت الرجعية، وقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] أي في أحكام الوطء، لأنه أشمل، فهو أكثر فائدة، وحكم العدة من فسخ، حكم العدة من طلاق، والله أعلم.
قال: وكذلك إن طلق واحدة من أربع، لم يجز له أن يتزوج خامسة حتى تنقضي عدتها.
ش: قد تقدم أنه لا يجوز للحر أن يجمع في عقد النكاح بين أكثر من أربع، وكذلك لا يجوز أن يجمع بينهن في العدة، وإن كان الطلاق بائنا، لأنها محبوسة عن النكاح لأجله، أشبهت الرجعية.
2482 - وعن أبي الزناد قال: كان للوليد بن عبد الملك أربع نسوة، فطلق واحدة ألبتة، وتزوج قبل أن تحل، فعاب عليه ذلك كثير من الفقهاء: قال سعيد بن منصور: وإذا عاب عليه سعيد بن المسيب، فأي شيء بقي.(5/136)
قال: وكذلك العبد إذا طلق إحدى زوجتيه.
ش: أي ليس له أن يتزوج بأخرى حتى تنقضي عدة المطلقة، لما تقدم في الحر، وحكم البينونة من فسخ حكم الطلاق، نعم لو كانت البينونة بموت فقال ابن أبي موسى في الإرشاد: إذا ماتت واحدة من منتهى جمعه كان له أن يتزوج أخرى عقب موتها، وكذلك له أن يتزوج الأخت عقب موت أختها،(5/137)
وكذلك لو طلقها طلاقا لا رجعة فيه، أو بانت منه بينونة لا رجعة فيها، وقد شذ عن الجماعة في الطلاق البائن.
(تنبيه) حكم الوطء بشبهة أو زنا حكم الوطء في نكاح صحيح، فإذا وطئ امرأة بشبهة أو زنا لم يجز في العدة أو يتزوج أختها، ولا يطأها إن كانت زوجته، على المذهب المنصوص، لئلا يجمع ماءه في رحم أختين، وكذلك لا يجوز وطء أربع سواها بالزوجية، وابتداء بالعقد على أربع، قاله أبو بكر في الخلاف، والقاضي، وأبو الخطاب في الانتصار، وابن عقيل، حذارا من جمع خمس نسوة في الفراش، أو فيما هو في حكمه وهو الزنا، لثبوت حرمة المصاهرة، وقيل: يجوز، لعدم النكاح، ويجوز في مدة استبراء العتيقة نكاح أربع سواها، قاله القاضي في الجامع والخلال، وابن المنى، ونصبه أبو الخطاب في خلافه الصغير، كما قبل العتق، وقيل: لا يجوز. التزمه القاضي في التعليق في موضع، قياسا على المنع من تزوج أختها. والله أعلم.
قال: وإذا خطب امرأة فزوج بغيرها لم ينعقد النكاح.
ش: إذا خطب امرأة فزوج بغيرها، فقبل يظنها المخطوبة، لم ينعقد النكاح، نص عليه أحمد، لأن القبول انصرف إلى(5/138)
غير من وجد الإيجاب فيه، فلم يتواردا على محل واحد، وإذا لا ينعقد النكاح، لعدم ركن العقد، وهو الإيجاب والقبول، والله أعلم.
[حكم الشروط في عقد النكاح]
قال: وإذا تزوجها وشرط أن لا يخرج بها من دارها أو بلدها فلها شرطها، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج» .
ش: هذا هو المذهب المنصوص، وعليه الأصحاب.
2483 - لهذا الحديث، وهو حديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» رواه الجماعة، ولعمومات الأمر بالوفاء بالعقود والعهود، ولأن الله تعالى ورسوله حرما مال الغير إلا عن تراض منه، ولا ريب أن المرأة لم ترض ببذل فرجها إلا بهذا الشرط، وشأن الفرج أعظم من شأن المال، فإذا حرم المال إلا بالتراضي، فالفرج أولى، ولهذا جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشروط فيه أحق بالوفاء من غيره، ووجب رضا المرأة ووليها، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الولي أن يزوج المرأة إلا برضاها، ونهى المرأة أن تتزوج إلا بإذن وليها.(5/139)
2484 - وروى الأثرم أن رجلا تزوج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصموها إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: لها شرطها. فقال الرجل: إذا يطلقننا: فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط.
2485 - وعن ابن عمر فيما إذا شرط أن لا يخرجها من مصرها نحوه. رواه الترمذي. (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: لا يلزم هذا الشرط، حكاها أبو الحسين عن شيخه أبي جعفر، ولعلها مأخوذة من أن الأصل في العقود والشروط البطلان، إلا أن يدل دليل على الصحة على رواية مرجوحة.(5/140)
2486 - وذلك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل» وهذا ليس في كتاب الله.
2487 - وعن عمرو بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا، أو أحل حراما» مختصر، رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وفيه كلام. وهذا يحرم حلالا، وأجيب عن الأول بأن معنى ليست في كتاب الله أي في حكمه وشرعه، وهذه مشروعة، بدليل ما تقدم، وعن الثاني بأنها لا تحرم الحلال، وإنما يثبت للمرأة خيار الفسخ، إن لم يف لها به.
إذا تقرر هذا فمتى أخرجها من دارها بغير اختيارها فلها الفسخ، وغالى القاضي في الجامع فأثبت الفسخ بالعزم على الإخراج، ومقتضى كلام الأصحاب أن الزوج لا يجبر على الوفاء بهذا الشرط، وكلام الخرقي ظاهر في إجباره، وكذلك كلام أحمد في رواية حرب، قال: إذا شرط أن لا يخرجها من قريتها، ليس له أن يخرجها. انتهى، وفي معنى هذا الشرط إذا شرط أن لا يخرجها من مصرها. والله أعلم.
قال: وإن تزوجها وشرط لها أن لا يتزوج عليها، فلها فراقه إن تزوج عليها.(5/141)
ش: الكلام في هذا الشرط نقلا ودليلا كالكلام في الذي قبله، إلا أن ظاهر كلامه هنا أنه لا يجبر على ترك النكاح، بل إذا تزوج عليها فلها الفسخ، وكذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، إذا تزوجها على أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، فإن تزوج أو تسرى فهي مخيرة، وكأن الفرق أنه لا ضرر عليه في عدم إخراجها من دارها، أما ترك النكاح فقد يتضرر به، لكونه لا يعفه ونحو ذلك، وفي معنى هذا الشرط إذا شرط أن لا يتسرى عليها.
(تنبيه) لا ريب في عدم صحة هذين الشرطين ونحوهما بعد العقد، وصحة ذلك فيه، أما قبله فثلاثة أوجه (أحدها) - وهو ظاهر إطلاق الخرقي، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد وغيرهم، وقال أبو العباس في فتاويه: إنه ظاهر المذهب، ومنصوص أحمد، وقول قدماء أصحابه، ومحققي المتأخرين - أنه كالشرط فيه، (والثاني) لا أثر لما قبل العقد مطلقا، وهو قول القاضي في مواضع، ومقتضى قول أبي البركات وغيرهما، (والثالث) يفرق بين شرط يجعل العقد غير مقصود، كالتواطؤ على أن البيع تلجئة لا حقيقة له فيؤثر، وبين شرط لا يخرجه عن أن يكون مقصودا، كاشتراط الخيار، فهذا لا يؤثر، قاله القاضي في تعليقه في موضع، والله أعلم.(5/142)
[حكم النظر للمخطوبة]
قال: ومن أراد أن يتزوج امرأة فله أن ينظر إليها من غير أن يخلو بها.
ش: المذهب المعروف المشهور جواز النظر للمخطوبة في الجملة.
2488 - لما روى «جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل» قال: فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها» . رواه أحمد وأبو داود.
2489 - وفي «حديث الموهوبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد فيها النظر وصوبه» ، وقال حرب: قلت لأحمد: الرجل إذا أراد أن يتزوج امرأة هل(5/143)
ينظر إليها؟ قال: إذا خاف ريبة؛ وظاهر هذا يفيد الجواز لخوف الريبة.
2490 - وقد يستدل لها بما روى أبو هريرة قال: «كنت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنظرت إليها؟» قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا» رواه مسلم.
2491 - وللنسائي: «خطب رجل امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هل نظرت إليها؟» الحديث انتهى، وإذا جاز له النظر، فعنه - وهو اختيار أبي محمد في العمدة - ينظر إلى ما يظهر غالبا، كالرقبة واليد والقدم، وقيل ظهر القدم، لظاهر ما تقدم من الحديث، إذ من ينظر إلى امرأة وهي غافلة نظر منها إلى ما يظهر عادة، وعلى هذا يحمل إطلاق الخرقي، وكذا أيضا حمل عليها القاضي قول أبي بكر في الخلاف: ينظر إليها حاسرة. وقد يحمل كلامهما على إطلاقه، إذ الحاسرة هي التي تضع(5/144)
خمارها ودرعها، والحديث لا يأبى هذا، بل لعله ظاهره (نعم) يستثنى من ذلك ما بين السرة والركبة، لأنه لا يظن من صحابية كشف ذلك وإن كانت خالية.
2492 - وقد روى سعيد عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر قال: خطب عمر بن الخطاب ابنة علي، فذكر منها صغرا، فقالوا له: إنما ردك. فعاوده فقال: نرسل بها إليك تنظر إليها فرضيها، فكشف عن ساقيها، فقالت: أرسل، لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك (وعنه) رواية ثانية لا ينظر إلا الوجه واليدين، بناء على أن اليدين ليسا من العورة، وهي اختيار زاعمي ذلك، قال القاضي في تعليقه: المذهب المعمول عليه المنع من النظر إلى ما هو عورة، ونحوه قال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وذلك لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] .(5/145)
2493 - قال ابن عباس: الوجه وباطن الكف. رواه عنه الأثرم (وعنه رواية ثالثة) : يختص النظر بالوجه. صححها القاضي في المجرد، وابن عقيل، لأنه مجمع المحاسن.
2494 - وشرط جواز النظر على كل حال عدم الخلوة بها، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما» ويخرج عن الخلوة بحضور امرأة صبية فأكثر، أو رجل من ذوي أرحامها، أو عصباتها ممن يباح له السفر بها.(5/146)
وظاهر كلام الخرقي يشمل الأمة والحرة، وكذلك ظاهر كلام الشيخين وغيرهما، وصرح به القاضي في المجرد، وجعل في الجامع وابن عقيل حكم النظر في خطبة الأمة حكم النظر في شرائها.
وظاهر كلام الخرقي أيضا أن النظر على سبيل الإباحة، وجعله ابن عقيل وابن الجوزي مستحبا، وهو ظاهر الحديث، قال أبو العباس: وينبغي أن يكون النظر بعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة. والله أعلم.
قال: وإذا زوج أمته وشرط عليه أن تكون عندهم بالنهار، ويبعث بها إليه بالليل، فالعقد والشرط جائزان، وعلى الزوج النفقة مدة مقامها عنده.
ش: لا ريب أن سيد الأمة يستحق منفعة الاستخدام والوطء، وقد أخرج منفعة الوطء، ومحلها عرفا وعادة هو الليل فيختص به، وإذا فهذا شرط مؤكد لمقتضى العقد ومقو له، فلا ريب في جوازه وجواز العقد معه، وعلى هذا يكون على الزوج نفقتها ليلا، إذ النفقة تدور مع التسليم، وهي إنما تسلمت كذلك، ولو بذلها السيد للزوج والحال أنهما شرطا ذلك لم يلزمه القبول (على وجه) اعتمادا على شرطه، لأن له فيه غرضا صحيحا، ويلزمه (على آخر) إذ هذا مقتضى الزوجية، وإنما سقط عنه لمعارضة حق السيد، والسيد قد رضي بإسقاط حقه فيسقط، وقد فهم من هذا الذي قلناه أنه مع عدم الشرط يكون الحكم كما قال الخرقي، وأن السيد متى بذلها له لزمه جميع النفقة بلا نزاع.(5/147)
(تنبيه) جملة النفقة بينهما نصفين عند أبي محمد، وكذلك الكسوة قطعا للتنازع، وقيل - وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا - يختص كل واحد بما يجب عليه، فيجب على الزوج نفقة الليل، وتوابعه من الوطاء والغطاء، ودهن المصباح ونحوه، والله أعلم.
[باب ما يحرم نكاحه والجمع بينه وغير ذلك]
قال: باب ما يحرم نكاحه والجمع بينه وغير ذلك ش: قد نص الله سبحانه على عدة محرمات في كتابه العزيز، في قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية ونص نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عدة أيضا، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: والمحرمات نكاحهن بالأنساب الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت.
ش: قد نص الله تعالى على ذلك كذلك، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] (ويدخل في الأمهات) أمه التي ولدته، وجداته من قبل أبيه وأمه وإن علون، لصحة تناول الاسم للجميع.(5/148)
2495 - وقد جاء في الدعاء «اللهم صل على أبينا آدم، وأمنا حواء» (ويدخل في البنات) بنات الابن، وبنات البنت وإن سفلن، لصحة تناول الاسم للجميع، وتدخل البنت من نكاح صحيح، أو ملك يمين أو شبهة، وكذلك البنت من زنا، لشمول الآية الكريمة للجميع.
2496 - وقد «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة هلال بن أمية «انظروه» يعني ولدها، فإن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك بن سحماء» يعني الزاني، فجعله له.
2497 - واستدل أحمد «بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سودة أن تحتجب من ابن أمة زمعة للشبه الذي رأى بعتبة» .
(تنبيه) يكفي في التحريم أن يعلم أنها بنته ظاهرا، وإن كان النسب لغيره، قاله القاضي في التعليق، وظاهر كلام أحمد في استدلاله أن الشبه كاف في ذلك. ويدخل في الأخوات الأخوات من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، لشمول الآية لذلك (ويدخل في العمات) كل أخت لأب وإن بعد، من جهة أبيه، أو من جهة أمه (وفي الخالات) كل أخت لأم وإن(5/149)
بعدت من جهة أبيه، أو من جهة أمه، لشمول الآية الكريمة لذلك، ولأنه إذا ثبت أن كل جد أب، وأن كل جدة أم فكل أخت لهما عمة وخالة، (ويدخل في بنات الأخ، وبنات الأخت) كل بنت أخ وإن سفلت، وقد استفيد من كلام الخرقي تخصيص هؤلاء بالذكر بأنه لا يحرم من عداهن فلا تحرم بنات العمات، ولا بنات الخالات، وقد نص الخرقي على ذلك بعد، ولا بنات الأخوال، ولا بنات الأعمام، ولا ريب في ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] إلى {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} [الأحزاب: 50] والأصل المساواة، لا سيما وقد دخلن في عموم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] واختصار ما تقدم أن جميع أقارب النسب حرام، إلا الأربعة المذكورة في آية الأحزاب، والله أعلم.
[المحرمات بالأسباب]
قال: والمحرمات بالأسباب الأمهات المرضعات، والأخوات من الرضاعة.
ش: يعني في كتاب الله سبحانه، ولهذا عمم بعد، قال الله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ويدخل في الأمهات الأم التي أرضعت الطفل، وأمهاتها، وجداتها، وإن علون كما في النسب، ويدخل في الأخوات والله أعلم.(5/150)
قال: وأمهات النساء، وبنات النساء اللاتي دخل بهن، وحلائل الأبناء، وزوجات الأب.
ش: المحرمات بالسبب على ما ذكر الخرقي ثلاثة أنواع (النوع الأول) المحرمات بالرضاع وقد تقدم (النوع الثاني) المحرمات بالمصاهرة، وهن أربع (أمهات نسائه) وإن بعدن ولم يرثن، أو كن من رضاع، لشمول الاسم لهن (وبنات نسائه) وإن بعدن ولم يرثن أو كن من رضاع، وبنات أبنائهن وإن بعدوا، أو كانوا من رضاع وهؤلاء من الربائب (وحلائل الأبناء) أي زوجات الأبناء، سميت الزوجة بذلك لأنها محل إزار زوجها، وهي محللة له وهو محلل لها وقيل: لأنها تحل معه ويحل معها، ويدخل في ذلك الابن البعيد، وغير الوارث، ومن الرضاع، (وزوجات الأب) وإن بعد، ولم يرث، أو كان من رضاع، والأصل في ذلك كله قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] وقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وشرط تحريم الربيبة الدخول بأمها، كما نص الله سبحانه عليه، فإن قيل: فقد قيد سبحانه الربائب بكونهن في الحجر.(5/151)
2498 - وكذلك المبين لكتابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث قال: «لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي» وقيد سبحانه حلائل الأبناء بكون الأبناء من الصلب. قيل: أما التقييد بالحجر فقد قيل: إنه خرج مخرج الغالب، إذا الغالب في الربيبة كونها في الحجر، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له اتفاقا، وقد حكى ابن عقيل اشتراط الحجر، نظرا لما تقدم وهو ظاهر، وأما تقييد الابن بالصلب فليخرج - والله أعلم - الابن المتبنى.
2499 - أما الابن من الرضاع فإنه يدخل في قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .(5/152)
(تنبيهان) أحدهما يترتب التحريم المتقدم بالعقد الصحيح المفيد للحل بلا ريب، وبالعقد الفاسد على ظاهر كلام القاضي في المجرد فيما أظن، قال: العقد الفاسد يثبت جميع أحكام النكاح إلا الحل، والإحلال، والإحصان، والإرث، وتنصف الصداق بالفرقة قبل المسيس، وظاهر كلامه في التعليق أن العقد الحرام وإن لم يتمحض تحريمه لا يتعلق به تحريم، فإن المخالف احتج عليه في أن الزنا لا يثبت تحريم المصاهرة، بأن العقد الحرام لا يتعلق به تحريم كذلك الوطء، فأجاب: العقد إذا لم يتمحض تحريمه يتعلق به التحريم، كذلك إذا تمحض تحريمه، والوطء إذا لم يتمحض تحريمه يتعلق به التحريم، كذلك إذا تمحض تحريمه، وذكر أيضا في موضع آخر ما يدل على ذلك، هذا في أنكحة المسلمين، أما في أنكحة الكفار فقد ذكر القاضي في تعليقه وغيره فيما إذا أسلم وتحته أم وبنت لم يدخل بواحدة منهما أنه يبطل نكاح الأم، ونص أحمد على ذلك، وهذا تصريح ببطلان نكاح الأم، مع أن هذا النكاح لا يقرون عليه بعد الإسلام، والقاضي استنبط من هذا النص صحة النكاح، قال: وإلا لم ينشر حرمة المصاهرة، وجعل أبو العباس في بعض قواعده تحريم المصاهرة تابعا للسبب، وهو يلتفت إلى الأول.(5/153)
(الثاني) المراد بالدخول هنا في كلام الخرقي يحتمل أنه الوطء فتخرج الخلوة، ويحتمل أنه أعم من ذلك، فتدخل الخلوة، وهو مقتضى كلامه بعد، (وعن أحمد) فيما إذا طلق بعد الخلوة وقبل الوطء روايتان، أنصهما - وهو الذي قطع به القاضي في الجامع الكبير في موضع، وفي الخصال، وابن البنا والشيرازي - ثبوت تحريم الربيبة، لأن الله سبحانه أطلق الدخول، وهو شامل للخلوة، والعرف على ذلك، يقال: دخل على زوجته. إذا بنى بها، وإن لم يكن وطئها (والثانية) وهي اختيار أبي محمد، وابن عقيل، والقاضي في المجرد، وفي الجامع في موضع: لا يثبت تحريمها نظرا إلى أن الدخول كناية عن الوطء.
وظاهر كلام الخرقي أن القبلة أو اللمس لا يثبتان تحريم الربيبة، وقد يقال بالتحريم، بناء على تقرر الصداق بذلك، وظاهر كلامه أيضا، أنه لا يثبت باستدخال الماء، ونص عليه القاضي في تعليقه في اللعان، (وظاهر كلامه) أيضا أن الموت قبل الدخول لا يثبت التحريم، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، والقاضي في الروايتين، لظاهر الآية الكريمة (والثانية) يثبت، اختارها أبو بكر في المقنع، إذ الموت أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق والعدة، فكذلك في تحريم الربيبة، والله أعلم.(5/154)
قال: والجمع بين الأختين.
ش: هذا النوع الثالث مما حرم بالسبب، إذ تزوج إحدى الأختين هو السبب لتحريم أختها، والأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] ويدخل في ذلك الأختان من كل جهة، ومن النسب والرضاع، والله أعلم.
[يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب]
قال: ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
ش: لما ذكر المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل من المحرمات، ذكر المأخوذ من جهة السنة.
2500 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أريد على بنت حمزة، فقال: «إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم» وفي لفظ «من النسب» .
2501 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» متفق عليهما.
2502 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» رواه أحمد والترمذي وصححه، وقد استثنى بعض الأصحاب من هذا العموم(5/155)
صورتين (إحداهما) أم أخته (والثانية) أخت ابنه، فإنهما لا يحرمان، والصواب عند الجمهور عدم استثنائهما، لأن أم أخته. إنما حرمت في غير الرضاع لكونها زوجة أبيه، وذلك تحريم مصاهرة، لا تحريم نسب، وكذلك أخت ابنه إنما حرمت لكونها ربيبته.
(تنبيه) لا فرق بين الرضاع المباح والمحظور، على ظاهر كلام الخرقي وغيره، كأن يكره امرأة على الرضاع أو يغصب لبنها فيسقيه الطفل، وقد ذكر ذلك القاضي في تعليقه بما يدل على أنه إجماع، والله أعلم.
[لبن الفحل محرم]
قال: ولبن الفحل محرم.
ش: لا نزاع بين أهل العلم في أن حرمة الرضاع تنتشر من جهة المرأة، واختلفوا هل تنتشر من جهة الرجل الذي اللبن له، فذهب الجمهور إلى أنه ينتشر منه، كما ينتشر من المرأة، فيصير الطفل ولد الرجل، والرجل أباه، وأولاد الرجل إخوته، سواء كانوا من تلك المرأة أو من غيرها، وإخوة الرجل وأخواته أعمام الطفل وعماته. وآباؤه وأمهاته أجداده وجداته، لأن اللبن من الرجل، كما هو من المرأة.
2503 - وفي الصحيحين «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن أخا أبي القعيس ليس(5/156)
هو أرضعني، وإنما أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يداك» قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب. وهذا نص، والله أعلم.
[الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها]
قال: والجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها.
ش: هذا أيضا مما ثبت بسنة المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2504 - فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» وفي لفظ قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها» متفق عليهما.
2505 - وللبخاري والترمذي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله.(5/157)
2506 - وفي التمهيد عن ابن عباس نحوه، وفيه: وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» وبهذا يتخصص عموم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] مع أن هذا كالإجماع، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على ذلك. وليس فيه بحمد الله اختلاف إلا عن بعض أهل البدع ممن لا يعتد بخلافه كالروافض والخوارج.
2507 - يروى أن رجلين من الخوارج أتيا عمر بن عبد العزيز، وكان مما أنكرا عليه رجم الزانيين، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، وقالا: ليس هذا في كتاب الله. فقال لهما: كم فرض الله عليكما من الصلوات؟ قالا: خمس صلوات في اليوم والليلة. وسألهما عن عدد ركعاتها، فأخبراه بذلك، وسألهما عن مقدار الزكاة ونصبها؛ فأخبراه، فقال: فأين تجدان ذلك في كتاب الله؟ قالا: لا نجده في كتاب الله، قال: فمن أين صرتما إلى ذلك؟ قالا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ والمسلمون بعده، قال:(5/158)
فكذلك هذا. ولا فرق بين العمة القريبة والبعيدة، وكذلك الخالة، والضابط أن كل امرأتين لو قلبت إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى لأجل القرابة، لم يجز الجمع بينهما، حذارا من قطيعة الرحم القريبة، وبهذا حرم الجمع بين المرأة وبنت أخيها، لأن الأخ لا تباح له بنت أخيه، وابن الأخت لا تباح له خالته، وأبيح الجمع بين بنتي عمين، وبنتي خالين، وبنتي عمتين، وبنتي خالتين، لأن ابن العم له أن يتزوج بنت عمه، وابن الخال يتزوج بنت خاله، لكن هل يكره حذارا من قطيعة الرحم، وإن كانت بعيدة أو لا يكره؟ فيه روايتان، والله أعلم.(5/159)
[حرمة زوجة الأب على الابن وزوجة الابن على الأب بالعقد]
قال: وإذا عقد على المرأة وإن لم يدخل بها فقد حرمت على أبيه وابنه، وحرمت عليه أمها.
ش: تحرم زوجة الأب على الابن، وزوجة الابن على الأب بمجرد العقد اتفاقا، وكذلك أمهات النساء، اتباعا لإطلاق الرب سبحانه، إذ بالعقد تسمى حليلة ابنه، ومنكوحة أبيه، وأن زوجته (وروي عن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أمهات النساء كالربائب، لا يحرمن إلا بالدخول ببناتهن؛ وقد يستدل له بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] على أن (دخلتم) راجع إلى الأمهات وإلى الربائب، وهو مردود بأن (نسائكم) الأول مجرور بالإضافة (ونسائكم) الثاني مجرور بحرف الجر، فالجران مختلفان، وما هذا سبيله لا تجري عليه الصفة كما إذا اختلف العمل.
2508 - وبما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل نكح امرأة فدخل بها، فلا يحل له نكاح ابنتها، وإن لم يكن دخل لها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها، دخل بها أو لم يدخل» رواه الترمذي.(5/160)
2509 - زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رجل تزوج امرأة ثم فارقها قبل أن يصيبها، هل تحل له أمها؟ فقال زيد بن ثابت: لا، الأم مبهمة، ليس فيها شرط، وإنما الشرط في الربائب. رواه مالك في الموطأ، وعن ابن عباس نحوه.
2510 - وأرخص ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نكاح الأم إذا لم يمس البنت وهو بالكوفة، ثم قدم المدينة فأخبر أنه ليس كما قال، إنما الشرط في الربائب، فرجع إلى الكوفة، فأمر الرجل أن يفارق امرأته. رواه مالك في الموطأ. والله أعلم.(5/161)
قال: والجد وإن علا فيما قلت بمنزلة الأب، وابن الابن فيه وإن سفل بمنزلة الابن.
ش: قد تقدم ذلك، اتباعا لإطلاق الآية الكريمة، والله أعلم.
قال: وكل من ذكرنا من المحرمات من النسب والرضاع فبناتهن في التحريم كهن، إلا بنات العمات وبنات الخالات، وبنات من نكحهن الآباء والأبناء، فإنهن محللات.
ش: قد تقدم هذا كله فيما تقدم، وإن كان الأولى تأخيره إلى هنا، إلا بنات من نكحهن الآباء والأبناء، لدخولهن في عموم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وأمهاتهن إنما حرمن لكونهن حلائل الآباء والأبناء، وبناتهن لسن بحلائل، وبهذا فارقن ابنة الربيبة، إذ ابنة الربيبة ربيبة، وابنة الحليلة ليست حليلة، والله أعلم.
قال: وكذلك بنات الزوجة التي لم يدخل بها.
ش: هذا مستأنف، لا معطوف على ما تقدم، وإلا يلزم أن أم الربيبة محرمة، أي وكذلك تحل بنات الزوجة التي لم يدخل بها، وقد تقدم ذلك، والله أعلم.
[وطء الحرام محرم]
قال: ووطء الحرام محرم كما يحرم وطء الحلال والشبهة.
ش: وطء الحرام يحرم ما يحرم وطء الحلال والشبهة، نص عليه أحمد في رواية الجماعة.(5/162)
2511 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها» رواه ابن أبي شيبة مرسلا، لكن في رواته الحجاج بن أرطاة.
2512 - وروى بإسناد صحيح عن عمران بن حصين أنه قال: إذا وطئ الرجل أم امرأته حرمت عليه امرأته. وأيضا قوله سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ومن وطئ فقد نكح، إذ النكاح حقيقة في الوطء، بدليل قول الشاعر. .
ومن أيم قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال تلهف
وقال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين، وعن المبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة اسم للجمع بين الشيئين، قال الشاعر:(5/163)
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يجتمعان
والجمع يحصل حقيقة بالوطء دون العقد، ولو قيل: إنه حقيقة فيهما أو في العقد فالقرينة دلت على أن المراد الوطء، وهو قوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] ومثل هذا التغليظ لا يستعمل في العقد، وأورد على هذا قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] فامتن سبحانه بالصهر، ولا يمتن بالزنا.
2513 - وبما روى الدارقطني عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحرام لا يحرم الحلال» .
2514 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، وأجيب بأن الله سبحانه امتن بالنسب، ومع هذا يثبت بالزنا، لأنه يثبت من(5/164)
أمه وآبائها، وعن حديث ابن عمر بأن مداره على إسحاق بن محمد الفروي، وهو منكر الحديث، قاله غير واحد من الأئمة، ورماه ابن معين وغيره بالكذب، وفيه أيضا العمري وقد ضعف، وعن حديث عائشة بأن مداره على عثمان بن عبد الرحمن، وهو منكر الحديث، وقال ابن معين: هو كذاب.
وقد أشعر كلام الخرقي بأن وطء الحلال والشبهة لا نزاع فيهما بين أهل العلم، وهو كذلك، إلا أنه قد حكي للشافعي قويل بأن وطء الشبهة لا يحرم، ولا يعرج عليه، ودخل في وطء(5/165)
الحلال الوطء بملك اليمين، وهو إجماع، ودل كلامه على أن وطء الشبهة ليس بحلال ولا حرام، وقد صرح القاضي في تعليقه بأنه حرام؛ وكلام الخرقي يشمل الوطء في القبل والدبر، وصرح بذلك أبو محمد في كتابيه، وكذلك القاضي، وأبو الخطاب بما يقتضي أنه وفاق، وشذ ابن حمدان في رعايتيه فقدم اختصاص الحكم بالقبل، فقال: في قبل، وقيل: أو دبر (وقد دخل) في كلام الخرقي وطء الميتة، لأنه وطء حرام، وقد قال القاضي في الجامع الكبير: إنه لا يعرف الرواية في ذلك، وحكى فيها احتمالين، (وقد يدخل) فيه وطء من لا يوطأ مثلها، وقد يخرج، لأنه جناية وليس بوطء، وفيها وجهان، أصحهما عدم التحريم.
وقد يقال: ظاهر كلام الخرقي أن الخلوة، ونظر الفرج، والمباشرة دونه، إذا كن لشهوة لا يتعلق بهن تحريم، لتخصيصه الوطء بالذكر، وهو الصحيح من الروايتين في الجميع، وتحقيق ذلك، وبيان طرق الأصحاب فيه يحتاج إلى تطويل، والله أعلم.(5/166)
[حكم من تزوج أختين من النسب أو الرضاع في عقد أو عقدين]
قال: وإن تزوج أختين من النسب أو الرضاع في عقد واحد فسد نكاحهما.
ش: قد تقدم أنه يحرم الجمع بين الأختين مطلقا، فإذا جمع فسد النكاح فيهما، لارتكابه النهي، مع أنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، أشبه ما لو زوجت المرأة من رجلين، أو عقد عليها وليان عقدين لرجلين فوقعا معا، ونقل ابن منصور عن أحمد: إذا تزوج أختين في عقد يختار إحداهما. قال القاضي: وهو محمول على أنه يختار إحداهما بعقد مستأنف، والله أعلم.
قال: وإن تزوجهما في عقدين فالأولى زوجته.
ش: أي إذا تزوجهما في عقدين، فوقعا واحدا بعد واحد، وعلم السابق، فإن الحكم له، إذ الجمع المحرم إنما يحصل بالثاني، فاختص البطلان به، أما إن علم وقوعهما معا فقد تقدم، وإن لم يعلم كيف وقعا، أو علم السبق ولم يعلم السابق، أو علم ثم نسي، فظاهر كلام جماعة من الأصحاب أن حكم ذلك حكم الوليين يزوجان من رجلين، قال ابن أبي موسى: فإن جهل أولهما بطل النكاحان، (وقيل عنه) يقرع بينهما، والأول أصح، والله أعلم.
قال: والقول فيهما القول في المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها.
ش: هذا من باب المقلوب، أي القول في المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، كالقول في الأختين، إن تزوجهما في عقد واحد لم يصح، وإن تزوجهما في عقدين صح الأول، والله أعلم.
قال: وإن تزوج أخته من الرضاعة وأجنبية في عقد واحد ثبت نكاح الأجنبية.(5/167)
ش: هذا إحدى الروايتين، وهو اختيار القاضي في تعليقه، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد، لأن الأجنبية محل قابل للنكاح، صدر عليها عقد من أهله فصح، كما لو انفردت، (والثانية) لا يصح فيهما، اختارها أبو بكر، لأنه عقد اشتمل على مباح ومحظور، فغلب الحظر، كما لو اختلطت المذكاة والميتة، وكذبيحة من أحد أبويه كتابيا، والآخر مجوسيا وأجيب عن المذكاة والميتة بأن عين المباح مجهول، وهاهنا معلوم، وعن من أحد أبويه كتابيا، بأن المباح والمحظور اجتمعا في عين واحدة، وها هنا في عينين، وهكذا الحكم في كل من جمع بين محرمة ومحللة، هل يصح النكاح في المحللة؟ على روايتين، والله أعلم.
قال: وإذا اشترى أختين فأصاب إحداهما، لم يصب الأخرى حتى يحرم عليه الأولى، ببيع أو نكاح، أو هبة، أو ما أشبهه، ويعلم أنها ليست بحامل منه.
ش: يجوز أن يشتري أختين في عقد، لأن الممنوع منه الجمع بينهما في الفراش، ولا يصيران بذلك فراشا بالإجماع، ولا يجوز أن يجمع بينهما في الوطء، على المشهور والمنصوص من الروايتين، وهو المختار للأصحاب، لقوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] وهو شامل للجمع في النكاح والجمع بملك اليمين، وإن قيل: حقيقة الجمع المقارنة، وذلك(5/168)
متعذر في الوطء؟ قيل: الجمع يعبر به عن فعل الشيئين أحدهما عقب الآخر.
2515 - كما أنه قد جاء «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الصلاتين» ولأن الذي علل به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحريم الجمع في النكاح - وهو قطع الرحم - موجود هنا.
2516 - وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. يريدون بالمحللة(5/169)
قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وبالمحرمة {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فغلبنا آية التحريم احتياطا، وأيضا فآية التحليل قد خصصت بالاتفاق، فضعف عمومها، (وحكى القاضي) . وطائفة من أصحابه، والشيخان وغيرهم رواية بالكراهة من غير تحريم، معتمدين في ذلك على قوله في رواية ابن منصور - وسأله عن الجمع بين الأختين المملوكتين: تقول: إنه حرام؟ قال: لا أقول أنه حرام، ولكن ينهى عنه. وامتنع أبو العباس من إثبات هذه الرواية، قال: لأنه لم يقل: ليس بحرام. ولكنه قال: لا أقول إنه حرام. وهذا الأدب في الفتوى كثيرا ما يستعمله السلف، لا يطلقون لفظ التحريم، بل: يقولون منهي عنه؛ ولا لفظ الفرض، بل يقولون: يؤمر به. ونحو ذلك، استهابة لعهدة اللفظية إلا فيما علم دليله بالقاطع.
وبالجملة هذا القول يستدل له بالعمومات نحو: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] ،(5/170)
{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولا تفريع على هذا القول، أما على الأول فإذا ملك أختين كان له أن يطأ إحداهما أيتهما شاء، على ظاهر كلام أحمد، والخرقي، واختيار القاضي، وابن عقيل، والشيخين، وغيرهم، إذ الممنوع منه الجمع في الوطء ولم يوجد، وقطع أبو الخطاب في هدايته بالمنع من وطء إحداهما حتى يحرم الأخرى بما سيأتي إن شاء الله تعالى، إذ لا مزية لإحداهما على الأخرى، فاستباحة وطء إحداهما دون الأخرى ترجيح من غير مرجح، ويرد بأن اختياره ترجيح أحد الجائزين، ومتى وطئ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرم الموطوءة على نفسه بتزويج، أو بيع، أو هبة أو عتق، ويعلم أنها ليست بحامل منه، بأن يستبرئها.
2517 - نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك في الجملة، محتجا بأن هذا قول علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. والمعنى فيه أنه لو لم يفعل ذلك(5/171)
أفضى إلى الجمع بين الأختين في الوطء، أو جمع مائه في رحم أختين، وإنه غير جائز، ولا يكفي استبراؤها بدون زوال الملك على الصحيح، سدا للذريعة، إذ الاستبراء لا يمنع وطأها.
2518 - واتباعا لحكم الصحابة، وقال ابن عقيل: ينبغي أن يكتفى به، إذ به يزول الفراش المحرم للجمع، ولا يكفي زوال ملكه بدون استبراء، حذارا من أن يجمع ماءه في رحم أختين، ولا التحريم بدون زوال ملك، كما إذا ظاهر منها، نص عليه أحمد، معللا بأن هذا قد يكفر، وكما إذا رهنها على الأشهر، لتمكنه من فك الرهن، وفيه وجه لانعقاد سبب الانتقال، وتكفي الكتابة في وجه، اختاره القاضي وغيره، لأنها نوع من البيع، ولا تكفي في آخر، اختاره أبو محمد، لبقاء الملك، ولا يكفي تحريمها بصوم أو اعتكاف، أو ردة أو عدة، ونحو ذلك، لبقاء الفراش، وظاهر إطلاق أحمد وكثير من الأصحاب أنه يكفي زوال الملك، وإن أمكنه الاسترجاع، كما إذا وهبها لولده، أو باعها بشرط الخيار، وظاهر ضابط ابن عقيل المنع، فإنه قال: عقد الباب أن يحرمها تحريما لا يمكنه رفعه بنفسه، وحكى ابن تيمية الكبير المسألة على وجهين، والله أعلم.
قال: فإن عادت إلى ملكه لم يصب واحدة منهما حتى يحرم الأخرى.(5/172)
ش: يعني إذا عادت المحرمة إلى ملكه لم يصب واحدة منهما حتى يحرم الأخرى، وتحت هذا صورتان (إحداهما) إذا عادت بعد وطء الأخرى، فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعة، وعليه عامة الأصحاب، أنه يجتنبها حتى يحرم إحداهما حذارا من الجمع بينهما في الفراش، لأن الأولى قد كانت فراشا، والثانية قد صارت فراشا، واختار أبو البركات أنه يقيم على وطء الثانية، ويجتنب الراجعة، لأن فراشها قد انقطع، والعود لا يصيرها فراشا (الصورة الثانية) عادت قبل أن يطأ الباقية، فظاهر كلام أحمد والخرقي، وكثير من الأصحاب اجتنابهما حتى يحرم إحداهما كالأولى، لأنه استفرش الأولى، واستباح الثانية، فتصير في حكم المستفرشة، واختار أبو البركات أنه يطأ أيتهما شاء، إذ الأولى قد زال فراشها، والثانية لم يستفرشها، كالمشتراتين ابتداء، واختار أبو محمد إباحة الراجعة، لثبوت الفراش لها دون الباقية، حذارا من الاجتماع في الفراش، والله أعلم.
قال: وعمة المرأة وخالتها في ذلك كأختها.
ش: كل من حرم الجمع بينه وبين آخر في الفراش كالأختين في جميع ما تقدم، لاستوائهما معنى، فاستويا حكما، والله أعلم.(5/173)
قال: ولا بأس أن يجمع بين من كانت زوجة رجل وابنته من غيرها.
ش: نص على هذا أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
2519 - وذكره عن عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن صفوان، وعن جملة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكذلك ذكر البخاري عن عبد الله بن جعفر أنه جمع بين ابنة علي وامرأته، ورواه الدارقطني عن ابن عباس، وعن رجل من الصحابة من أهل مصر يقال له جبلة، وهو راجع إلى القاعدة السابقة، وهو أن كل امرأتين لو(5/174)
قلبت إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى لأجل القرابة، لم يجز الجمع، وإلا جاز، إذ لو قلبت امرأة الأب ذكرا لاقتضى لها جواز التزوج ببنت الزوج، إذ لا قرابة بينهما، وإنما المنع للصهرية، والله أعلم.
[حرائر أهل الكتاب وذبائحهم]
قال: وحرائر أهل الكتاب، وذبائحهم حلال للمسلمين.
ش: لقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] وهذا يخصص قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] الآية.
2520 - وقيل عن ابن عباس إنها نسخت بها، وقيل: لفظ المشركين لا يتناول بإطلاقه أهل الكتاب، بدليل قوله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105](5/175)
وهو كثير، مع أن جواز نكاح حرائر أهل الكتاب إجماع أو كالإجماع، قال ابن المنذر: لا يصح عن أحد من الأوائل تحريم ذلك، إلا أن أحمد قال في رواية ابن إبراهيم: اختلفوا في اليهود والنصارى، أما المجوس فلم يختلفوا فيهم.
2521 - وذكر البخاري عن نافع عن ابن عمر، كان إذا سئل عن نكاح النصرانية أو اليهودية، قال: إن الله تعالى حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئا أكبر من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله تعالى.
وقد دخل في كلام الخرقي الحربيات من الكتابيات، وهو أحد الأقوال، اختاره القاضي في المجرد وغيره، لدخولهن في الآية الكريمة، وقيل: لا يجوز مطلقا، حملا لآية المنع على ذلك، وآية الجواز على غير الحربيات، وقيل: يجوز في دار الإسلام لا في دار الحرب، وإن اضطر، وهو منصوص أحمد في غير رواية، واختيار ابن عقيل، وقيل بالجواز في دار الحرب مع الضرورة، وهو اختيار طائفة من الأصحاب، ونص عليه أحمد أيضا،(5/176)
وعلل الإمام المنع في دار الحرب من أجل الولد، لئلا يستعبد، ويصير على دينهم.
2522 - وحكي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في رواية أنه كره ذلك، وفي أخرى أنه قال: لا يتزوج. وعامة نصوص أحمد في الأسير، فعلى تعليل أحمد لا يتزوج ولا مسلمة، ونص عليه في رواية حنبل، بل ولا يطأ زوجته إن كانت معه، ونص عليه في رواية الأثرم وغيره، وعلى مقتضى تعليله له أن يتزوج آيسة أو صغيرة.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يباح له نكاح الإماء الكتابيات، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وأنه لا يباح له نكاح مشركة غير كتابية ولا طعامها، وذلك لقوله سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] خرج من ذلك أهل الكتاب بما تقدم، فبقي من عداهم من عبدة الأوثان، والمرتدين، والمكفرين من أهل الملة، والمجوس ونحوهم، على مقتضى المنع.
2523 - فإن قيل: قد روي عن علي كرم الله وجهه أن المجوس لهم كتاب.(5/177)
2524 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ومن سنة أهل الكتاب حل نسائهم.
قيل قد قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] الآية، فبين سبحانه أنه أنزل القرآن كراهة أن يقولوا ذلك، ولو أنزل على أكثر من طائفتين لكان هذا القول كذبا، وأيضا قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17](5/178)
فذكر الملل الست، وأنه يفصل بينهم يوم القيامة، ولما ذكر الملل اللاتي فيها سعيد لم يذكر المجوس ولا المشركين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 62] ولو كان في المجوس والمشركين سعيد لذكرهما كما ذكر اليهود والنصارى، إذ لو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ على هدى.
2525 - وقد روى وكيع عن سفيان، عن قيس، عن الحسن بن محمد ابن علي، قال: «كتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هجر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قبل، ومن أبى ضربت عليه الجزية، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح لهم امرأة» .
2526 - وهذا وإن كان مرسلا، فقد عضده قول خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعمل جمهور أهل العلم، وأما ما روي عن(5/179)
علي فقد أنكره أحمد في رواية محمد بن موسى، وقال إنه باطل.
2527 - وأنكر أيضا ما روي عن حذيفة أنه تزوج مجوسية، ثم لو صح حمل على أنه كان بأيديهم ثم رفع، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أي في الجزية، وهو يدل على أنه لا كتاب لهم.(5/180)
وكما فهمته الصحابة، والدماء تعصم بالشبهات، وعكسها الفروج والذبائح لا تباح بالشبهات، لا يقال: الحديث وإن فهم منه أنه ليس لهم كتاب، إلا أنه يدل على أنه يسن بهم سنة أهل الكتاب، أي طريقتهم، ومن طريقتهم حل نسائهم وذبائحهم، لأنا نقول: الحديث لا عموم فيه، إذ التقدير: سنوا بهم سنة مثل سنة أهل الكتاب، والنكرة في سياق الإثبات لا عموم لها، ولئن سلم شمول الحديث للنكاح والذبائح لكنه يخص بمفهوم قوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] الآية.
(تنبيه) أهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل، فأهل التوراة اليهود، والسامرة، وأهل الإنجيل النصارى، ومن وافقهم في أصل دينهم من الفرنج، والأرمن وغيرهم، وأما الصائبة فقال أحمد: هم جنس من النصارى. وقال في موضع آخر: بلغني أنهم يسبتون فألحقهم باليهود، قال أبو محمد: والصحيح أن من وافق اليهود أو النصارى منهم في أصل دينهم، وخالفهم في فروعه فهو منهم، ومن خالفهم في أصل دينهم فليس منهم، وأما المتمسك بصحف إبراهيم وشيث، وزبر داود، فليسوا(5/181)
بأهل كتاب على الصحيح، ذكره ابن عقيل وغيره، فلا تحل نساؤهم، ولا ذبائحهم، لقوله سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] الآية، وقيل: إنهم من أهل الكتاب، فتحل نساؤهم وذبائحهم، ويقرون بالجزية، ومن عدا من ذكرنا فليسوا بأهل كتاب، والله أعلم.
قال: وإذا كان أحد أبوي الكافرة كتابيا، والآخر وثنيا، لم ينكحها مسلم.
ش: هذا الذي قطع به عامة الأصحاب، الخرقي، وأبو بكر في الشافي والمقنع، وابن أبي موسى، والقاضي في المجرد، والجامع، والخلاف، وابن عقيل في الفصول، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن البنا، وأبو محمد في الكافي، ولم أر من ذكر عن أحمد بذلك نصا وذلك لأنها متولدة بين من يحل ومن لا يحل، فغلب جانب التحريم احتياطا، كالمتولد بين الحمار والفرس.
وحكى أبو البركات، وأبو محمد في كتابه الصغير رواية بالجواز، لأنها كتابية فتدخل في عموم الآية المبيحة.
وحكى ابن رزين رواية ثالثة أن الأب إذا كان كتابيا أبيحت، وإلا فلا، لأن الولد ينسب إلى أبيه، فيكون حكمه حكمه،(5/182)
وخطأ أبو العباس هذا القول، وقال: إن كلام أحمد إنما يدل على أن العبرة بالدين، وأنه لم يعلق الحكم بالنسب ألبته، قلت: وكذلك ذكر القاضي في تعليقه، ردا على الشافعية، أن تحريم النكاح والذبيحة متعلق بالدين دون النسب، والدين المحرم موجود، فكان الاعتبار به دون النسب.
(تنبيه) ذكر أبو البركات هنا روايتين، وقال في عقد الذمة: إن من أقررناه على تهود أو تنصر متجدد بعد المبعث، أبحنا ذبيحته ومناكحته، ولم يذكر خلافا، وعكس القاضي، فجزم هنا بالمنع، وحكى في المنتقل إلى دين أهل الكتاب بعد النسخ روايتين، وهذا قد يستشكل على كلا النقلين، فإنه إذا منع من ذبيحة من أحد أبويه وثني، فمكن أبواه وثنيان أولى، إلا أن يقال: يجوز أن يكون هذا في من أبواه كتابيان، ثم توثن هو، ثم انتقل إلى الكتابية، أو يقال: إن المنع في من أحد أبويه كتابي، كان لأجل النسب، وقد تقدم ضعف هذا، وحمل أبو العباس كلام الخرقي وغيره من الجازمين بالمنع في هذه المسألة على أنه فيمن لم يثبت له دين بنفسه، لعدم تعرضهم للدين، وهذا كأن يتزوج صغيرة وأحد أبويها غير(5/183)
كتابي، أما أن يدين بدين أهل الكتاب، فهو محل الروايتين، كما ذكره أبو البركات (قلت) : وهذا الجواب يحسن على قول القاضي، أما على قول جده فلا يحسن، والله أعلم.
قال: وإذا تزوج كتابية فانتقلت إلى دين آخر من الكفر غير دين أهل الكتاب أجبرت على الإسلام، فإن لم تسلم حتى انقضت عدتها انفسخ نكاحها.
ش: إذا انتقل الكتابي من دينه إلى غير دين الإسلام، فلا يخلو إما أن ينتقل إلى دين من يتدين بكتاب أو لا، (فإن كان الأول) - كمن انتقل من يهودية إلى نصرانية أو بالعكس - فهل يقر، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار الخلال وصاحبه، لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب، فكأنه لم ينتقل، أو لا يقر، وهو اختيار القاضي في الجامع الصغير، وعامة الأصحاب الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم، لأنه انتقل إلى دين أقر ببطلانه، أشبه المرتد.(5/184)
2528 - ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» خرج منه المسلم بالإجماع إذا رجع، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم، فعلى هذا يؤمر بالإسلام، فإن لم يسلم (فعنه) يقتل كالمسلم إذا ارتد (وعنه) يهدد ولا يقتل احتياطا للدماء (وعنه) أنه إن رجع إلى دينه الأول ترك كالمرتد من ملتنا، وإلا هدد ولم يقتل، (وإن كان الثاني) - كأن انتقل من الكتابية إلى المجوسية والوثنية ونحوهما - فلا يقر على إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وبه جزم أبو محمد وغيره، لأن الوثنية ونحوها لا يقر أهلها عليها، فالمنتقل إليها أولى، والمجوسية قد أقر ببطلانها، مع كونها أنقص من دينه (وعنه) يقر على المجوسية، لأنه انتقل إلى دين يقر أهله عليه، أشبه المنتقل إلى دين أهل الكتاب، ولعموم {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] الآية، (فعلى الأول) - وهو المذهب - لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف في إحدى الروايتين، واختيار الخلال وصاحبه، لأن غير الإسلام دين أقر ببطلانه، أشبه المرتد، وفي الرواية الأخرى لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه، كالمرتد إذا رجع إلى الإسلام، وحيث يقبل فهل يستتاب كالمرتد أو لا كالكافر الأصلي؟ فيه احتمالان (وعلى(5/185)
الثاني) أنه إن رجع إلى ما نقره عليه ترك، وحيث أقررنا المنتقل على ما انتقل إليه فكان المنتقل ذمية تحت مسلم فالنكاح بحاله، إلا أن تنتقل إلى المجوسية فإنه كالردة إذ المسلم لا يثبت له نكاح على مجوسية وكذلك إن لم يقر المنتقل وإذا إن كان قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، وإن كان بعده فهل ينفسخ النكاح أو يقف على انقضاء العدة؟ فيه روايتان، المذهب منهما الثاني، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: وأمته الكتابية حلال له دون المجوسية.
ش: أمته الكتابية حلال له، لعموم قوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] ولأن نكاح الأمة الكتابية غير المملوكة له إنما حرم حذارا من إرقاق ولده، وإبقائه مع كافرة، وهذا معدوم في مملوكته، ولا تباح له أمته المجوسية، ولا الوثنية بطريق الأولى، لعموم ما تقدم في تحريم نكاح المجوسيات ونحوهم، (فإن قيل) : ما تقدم من الآيتين ظاهر في الإباحة.
2529 - ويؤيده ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث يوم حنين بعثا إلى أوطاس، فلقوا عدوهم فقاتلوهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن أناسا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(5/186)
تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » أي فهن لهن حلال إذا انقضت عدتهن. رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
2530 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سبايا أوطاس «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» رواه أبو داود، ثم إن الصحابة كان أكثر سباياهم من كفار العرب، وهم عبدة أوثان، ولم ينقل أنهم حرموا ذلك، وقد أخذ عمر وابنه من سبي هوازن، (قيل) : الآيتان مخصوصتان بما تقدم، وأما حديث أبي سعيد فقضية عين، إذ يحتمل أنهم أسلموا، وكذلك(5/187)
الجواب عن غيره، قال محمد بن الحكم: قلت لأبي عبد الله: فهوازن أليس كانوا عبدة أوثان؟ قال: لا أدري كانوا أسلموا أو لا. ويتعين ذلك، لأنه قد نقل اتفاق أهل العلم على التحريم، ولهذا ادعى أبو عمر ابن عبد البر النسخ بقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] والله أعلم.
[زواج المسلم من الأمة الكتابية]
قال: وليس للمسلم وإن كان عبدا أن يتزوج أمة كتابية، لأن الله تعالى قال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] .
ش: نص على هذا أحمد، مستدلا بهذه الآية، قال أبو بكر: رواه عنه أكثر من عشرين نفسا. انتهى، وعليه الأصحاب متقدمهم ومتأخرهم، لما تقدم، ولأنه اجتمع فيها نقص الرق والكفر، أشبهت المجوسية لما اجتمع فيها الكفر وعدم الكتاب حرم نكاحها، وحذرا من استرقاق ولدها، (وعن أحمد) رواية أخرى يجوز نكاحها في الجملة، لأنها تحل بملك اليمين، فتحل بالنكاح كالمسلمة، وعلى هذا يجوز للعبد مطلقا، وللحر بشرطه كما سيأتي، ولا فرق على إطلاق الخرقي وغيره بين أن تكون الأمة تلد أو لا تلد، ولا بين أن تكون لمسلم أو لكافر، وصرح به القاضي في التعليق، والله أعلم.
[زواج الحر المسلم بالأمة المسلمة]
قال: ولا يجوز للحر المسلم أن يتزوج أمة مسلمة إلا أن يكون لا يجد طولا لحرة مسلمة، ويخاف العنت.(5/188)
ش: أي وليس لحر مسلم أن يتزوج أمة مسلمة إلا بوجود شرطين، عدم الطول، وخوف العنت، وذلك لقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} [النساء: 25] إلى قوله سبحانه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] فشرط سبحانه لنكاح الأمة شرطين، عدم الطول، وخوف العنت، والمعلق على شرط عدم عند عدم الشرط، ولأنه حر أمن العنت، فامتنع من نكاح الأمة، كما إذا كان تحته حرة، وقوله: ليس لحر. يحترز عن العبد، فله أن ينكح الأمة من غير شرط، لتساويهما، وقوله: مسلم. يحترز به عن الكافر، وهذا من فروع أنكحة الكفار، وقوله: أمة مسلمة. يحترز به عن الأمة الكافرة، فإنه لا يجوز نكاحها ولا مع الشرطين كما تقدم.
2531 - والطول قال أحمد تبعا لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السعة.
2532 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يجد صداق حرة. وكذلك(5/189)
قال القاضي في المجرد، وزاد عليه ابن عقيل: ولا نفقتها. وقوله: طولا لحرة مسلمة. ظاهره أن من لم يجد طولا لحرة مسلمة ووجد طولا لحرة كتابية أن له نكاح الأمة وصرح به أبو الخطاب في الانتصار، أخذا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وصرح القاضي في المجرد، وابن عقيل وأبو محمد وغيرهم بعدم اشتراط الإسلام، فمن وجد طولا لحرة مطلقا لا يجوز له نكاح الأمة، لأنه إذا يأمن العنت، فيفوت الشرط، وتوقف أحمد في رواية أخرى. ولم يشترط الخرقي إلا أن لا يجد طولا لحرة مسلمة، فظاهره أنه لا يشترط أن لا يجد ثمن أمة، وهو ظاهر إطلاق القاضي في تعليقه، وطائفة من أصحابه، وأورده ابن حمدان في رعايتيه مذهبا، وصرح القاضي في المجرد، وابن عقيل وأبو الخطاب والشيخان وغيرهم باشتراط ذلك، ثم إن القاضي وابن عقيل قيدا الأمة بالإسلام، وأطلق ذلك أبو الخطاب والشيخان، والعنت فسره القاضيان أبو يعلى وأبو الحسين وابن عقيل والشيرازي وأبو محمد بالزنا، وفسره أبو البركات بحاجة المتعة أو حاجة الخدمة لكبر أو سقم ونحوهما، وجعله ابن حمدان قولا انتهى.(5/190)
وقد دخل في كلام الخرقي المجبوب ونحوه له نكاح الأمة بشرطه، كما إذا خشي مواقعة المحظور بالمباشرة ونحوها، وصرح به القاضي وغيره (ودخل) في كلامه أيضا جواز نكاح الأمة الولود بشرطه وإن وجد آيسة، وصرح به القاضي وأبو الخطاب في خلافيهما، (ودخل) في كلامه أيضا عدم جواز نكاح الأمة إذا عدم الشرط، وإن كانت لا تلد لصغر أو رتق ونحو ذلك، وصرحا به أيضا (واقتضى كلامه) أنه إذا لم يجد ما يتزوج به حرة لم يلزمه الاقتراض مع القدرة عليه، ولا التزوج بصداق في الذمة وإن كان مؤجلا، دفعا للضرر عنه، وصرح به القاضي وأبو محمد، وكذلك لو وهب له الصداق لم يلزمه قبوله، نعم لو رضيت المرأة بدون صداق مثلها، وهو قادر على ذلك، ففي جواز نكاح الأمة إذا احتمالان، ذكرهما القاضي في التعليق.
وظاهر كلام الخرقي الجواز، ولو لم يجد حرة إلا بزيادة على مهر مثلها لا يجحف بماله، فقال أبو محمد: يلزمه النكاح للاستطاعة، ولا يرد التيمم على وجه، لأنه رخصة(5/191)
عامة، ونكاح الأمة إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة، وجوز له أبو عبد الله ابن تيمية نكاح الأمة إن عدت الزيادة سرفا.
(تنبيه) القول قوله في خشية العنت وعدم الطول، حتى لو كان في يده مال فادعى أنه وديعة أو مضاربة قبل قوله، لأنه حكم فيما بينه وبين الله تعالى، والله أعلم.
قال: ومتى عقد عليها وفيه الشرطان عدم الطول وخوف العنت، ثم أيسر لم يفسخ نكاحها.
ش: هذا هو المذهب المنصوص المجزوم به عند عامة الأصحاب، لأن زوال الشرط بعد العقد لا يبطله، بدليل إذا ارتدت المرأة أو لزمتها عدة، ولأن الممنوع منه النكاح، وهذا غير ناكح، وإنما هو مستديم، وخرج القاضي وغيره (رواية أخرى) بالفسخ، مما إذا تزوج حرة على الأمة فإن فيها روايتين منصوصتين، وذلك لأن نكاح الأمة إنما أبيح للضرورة، فيزول بزوالها، كأكل الميتة، وفرق بأن في الميتة هو مبتد، وهنا مستديم، ولم يتعرض الخرقي لما إذا أمنت العنت، وفيه طريقان للأصحاب، منهم من أجرى الخلاف فيه كأبي عبد الله ابن تيمية، ومنهم كأبي محمد وابن حمدان - من لم يجر الخلاف فيه، حتى أن بعض أصحاب الخلاف جعله أصلا وقاس عليه ما تقدم، والله أعلم.(5/192)
قال: وله أن ينكح من الإماء أربعا إذا كان الشرطان فيه قائمين.
ش: يعني أنه إذا تزوج أمة فلم تعفه، ولم يجد طولا، له أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وهذا أنص الروايتين عن أحمد، واختيار ابن عقيل في التذكرة، وأبي محمد، لدخوله في الآية الكريمة، إذ هو عادم للطول، خائف للعنت، (ونقل عنه) حرب: لا يعجبني أن يتزوج إلا واحدة.
2533 - يذهب إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا يتزوج الحر من الإماء إلا واحدة. فأخذ من ذلك ابن أبي موسى والقاضي في المجرد وغير واحد من الأصحاب رواية بالمنع، واختارها القاضي في المجرد، وحكاها عن أبي بكر، وأبى ذلك في الجامع الكبير، مدعيا بأن إطلاقه محمول على ما إذا خشي العنت، وكذا قال أبو محمد، وحمل أيضا قول ابن عباس على ذلك، لكن القاضي في الجامع يفسر خشية العنت هنا بما إذا كان تحته أمة غائبة أو مريضة أو طفلة، فعنده أن وجود زوجة يمكن وطؤها مؤمن من العنت، وهذا في الحقيقة عين القول بالمنع.
(تنبيه) على القول بالجواز له أن ينكح الأربع دفعة واحدة إذا علم أنه لا يعفه إلا ذلك، صرح به القاضي في المجرد،(5/193)
وقد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي يقتضيه، والله أعلم.
[حكم الخطبة على الخطبة]
قال: وإذا خطب الرجل المرأة فلم يسكن إليه فلغيره خطبتها.
ش: لا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة أخيه في الجملة، على المذهب المعروف المشهور.
2534 - لما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر» رواه أحمد ومسلم، ولأن في ذلك إفسادا على الخاطب الأول، وإيقاعا للعداوة بينهما، وجعل أبو حفص ذلك مكروها لا محرما، وكأنه ذهب إلى قول أحمد في رواية صالح: أكرهه. وحمل القاضي ذلك على التحريم لتصريحه به في رواية ابن مشيش، فعلى الأول إنما يمنع إذا أجيب تصريحا، وكذلك إن أجيب تعريضا على إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي، لأنه قد وجد السكوت، واختيار أبي محمد، لما تقدم.(5/194)
2535 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبيع على بيع أخيه إلا بإذنه» رواه مسلم وأبو داود. (والرواية الثانية) لا يمنع مع التعريض.
2536 - «لحديث فاطمة بنت قيس الذي في الصحيح، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: «إذا حللت فآذنيني» قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد» قالت: فكرهته، ثم قال: «انكحي أسامة بن زيد» فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به» . فظاهره أنها ركنت إلى أحدهما، وأيضا فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «انكحي أسامة» ولم يسألها هل ركنت إلى أحدهما أم لا، وقد أجيب بأن في الحديث في رواية أخرى في الصحيح: «أرسل إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا تسبقيني بنفسك» . وفي رواية «ولا تفوتيني بنفسك» ولا يظن بها أنها كانت تجيب، قبل(5/195)
إذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما جاءت مستشيرة، وأيضا فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد خطبها أولا، فخطبته بعدهما مبنية على الخطبة السابقة، بقي أن يقال: فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عرض بخطبتها، فكيف ساغ لغيره الخطبة، ولم ينكر الرسول عليه، ويجاب أنهما لم يعلما، فيحتمل أن الرسول أنكر عليهما ولم ينقل، أو يقال: إنما يمنع الرجل من الخطبة على خطبة أخيه إذا خطب تصريحا. أما إن خطب تعريضا فلا، وهذا أحسن، وبه يستدل على أنه إذا أجابت تعريضا للغير الخطبة، قياسا لأحد الشقين على الآخر انتهى، أما إن رد فيجوز، لأنها تصير كمن لم تخطب، ولأن المنع والحالة هذه نهاية الضرر بالمرأة، إذ لا يشاء أحد أن يمنعها النكاح بخطبته إلا فعل، والضرر منفي شرعا، وكذلك إن ترك الخاطب الخطبة أو أذن، لحديث عقبة وابن عمر، ولو سكتت فكذلك عند القاضي في المجرد وابن عقيل، وعن القاضي في البكر سكوتها رضا، وإن لم يعلم الحال فوجهان (الجواز) لأن المانع الإجابة ولم يعلم (والمنع) لأن المقتضي للمنع قد وجد، والمبيح الإذن أو الترك أو الرد، ولم يعلم واحد منهما.
(تنبيهات) (أحدها) قوله: وإذا خطب الرجل. يشمل خطبة كل رجل، والمنع مختص بالخطبة على خطبة المسلم، نص عليه أحمد، وهو مقتضى حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره، (الثاني) أناط الخرقي الحكم بالمرأة، وهو(5/196)
صحيح إن كانت غير مجبرة، أما إن كانت مجبرة فالعبرة بالولي، لا بها.
2537 - وفي الحديث «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب عائشة إلى أبي بكر» ، رواه البخاري.
2538 - «وقالت أم سلمة: أرسل إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطبني» . رواه مسلم. فدل على أن خطبة المجبرة إلى وليها، وخطبة الرشيدة إلى نفسها، وعلى هذا لو رضي الولي بالخاطب حرم على غيره خطبتها وإن كرهت المرأة، هذا ظاهر كلام جماعة، وصرح به القاضي في المجرد، وابن عقيل، وقال أبو محمد في المغني: إذا كرهت المجبرة المجاب، واختارت غيره، سقط حكم إجابة وليها، إذ اختيارها مقدم على اختياره، وإن كرهته ولم تختر سواه قال: فينبغي أن تسقط الإجابة أيضا (الثالث) إذا تزوج من خطب على خطبة أخيه حيث منع، فالمنصوص - وهو اختيار القاضي وابن عقيل، وأبي محمد - الصحة، لأن المحرم لم يقارن، وقال أبو بكر في البيع على بيع أخيه: إنه باطل، وحكاه نصا عن أحمد، فخرج ابن عقيل وغيره بطلان النكاح نظرا للنهي، والله أعلم.
[خطبة المرأة المعتدة]
قال: ولو عرض للمرأة وهي في العدة بأن يقول: إني في(5/197)
مثلك لراغب. وإن قضي شيء كان؛ وما أشبهه من الكلام مما يدلها على رغبته فيها، فلا بأس بذلك، إذا لم يصرح.
ش: يباح التعريض بخطبة المعتدة في الجملة، ويحرم التصريح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] فنفى سبحانه الحرج عن التعريض، ومفهومه وقوع الحرج على التصريح، وأكد ذلك بقوله سبحانه: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] والسر الجماع، قاله الشافعي وغيره، «ولحديث فاطمة المتقدم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرض بخطبتها وهي في العدة» (ويستثنى) مما تقدم صاحب العدة، فإنه يباح له التصريح والتعريض إن كانت ممن يحل له التزوج بها في العدة، كالرجعية والمبانة بدون الثلاث، والمختلعة، أما إن لم تحل له كالمزني بها، ومن نكحها في عدة من غيره ووطئها، فقال أبو العباس: ينبغي أن يكون كالأجنبي، (ويستثنى) من التعريض(5/198)
الرجعية، فإنه لا يجوز أن يعرض لخطبتها بلا نزاع، لأنها في حكم الزوجة، وكذلك مبانة تباح بعقد في وجه.
والتعريض ما يفهم منه النكاح مع احتمال غيره، كما مثل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكما جاء في الحديث: «لا تسبقينا بنفسك، ولا تفوتينا بنفسك» .
2539 - وكما روى البخاري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 235] الآية يقول: إني أريد التزويج، وودت أنه يسر لي امرأة صالحة.
2540 - وكما «روي في قصة سكينة بنت حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلكة زوجي، فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرابتي من علي، وموضعي من العرب، قلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي؟ . قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن علي، وقد دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة، فقال: «قد علمت أني رسول الله، وخيرته من خلقه، وموضعي من(5/199)
قومي» كانت تلك خطبته» ، رواه الدارقطني والتصريح الكلام الذي لا يحتمل غير النكاح، كقوله إني أريد أن أتزوجك. ونحوه.
(تنبيه) حيث حرم التصريح أو التعريض ففعل ونكح صح، ذكره القاضي، وابن عقيل وأبو محمد وغيرهم، وهو قياس قول أحمد في الخطبة على خطبة أخيه، ويتخرج وجها بالبطلان كالوجه في الخطبة. والله أعلم.
[باب نكاح أهل الشرك وغيره]
[حكم إسلام الوثني وقد تزوج بأربع وثنيات]
باب نكاح أهل الشرك وغيره قال: وإذا أسلم الوثني وقد تزوج بأربع وثنيات ولم يدخل بهن بن منه.
ش: لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ولأنه اختلاف دين يمنع الإقرار على النكاح، فإذا وجد قبل الدخول تعلقت به الفرقة في الحال كالردة.
وقول الخرقي: وإذا أسلم الوثني. وكذلك كل كافر وإن كان من أهل الكتاب، وقوله: وقد تزوج بأربع. لا مفهوم له،(5/200)
بل لو تزوج بواحدة أو أكثر كان كذلك، وقوله: وثنيات. وكذلك من في معناهن كالمجوسيات، أما لو كن كتابيات فإن النكاح لا ينفسخ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
(تنبيه) البينونة هنا فسخ لا طلاق، نص عليه أحمد. والله أعلم.
قال: وكان لكل واحدة منهن نصف ما سمي لها إن كان حلالا، أو نصف صداق مثلها إن كان ما سمي لها حراما.
ش: إذا بن منه والحال ما تقدم كان لكل واحدة منهن نصف الصداق، على المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، الخرقي، وأبي بكر والقاضي وغيرهم، إذ الفرقة حقيقة من جهته، أشبه ما لو طلقها (والثانية) لا شيء لها، نظرا إلى أنه قد فعل الواجب عليه، وهي بتأخرها عن الإسلام كأن الفرقة من جهتها، وحذارا من التنفير عن الإسلام، باجتماع فسخ النكاح عليه، ووجوب المهر، وعلى المذهب لها نصف المسمى إن كان صحيحا، أو نصف مهر مثلها إن كان فاسدا، وإن لم يكن مسمى فالمتعة، والله أعلم.
قال: ولو أسلم النساء قبله وقبل الدخول بن منه أيضا.
ش: لما تقدم فيما إذا أسلم الزوج وحذرا من إقرار مسلمة تحت مشرك، والله أعلم.
قال: ولا شيء عليه لواحدة منهن.
ش: قطع بهذا جمهور الأصحاب، ونص عليه أحمد، معللا(5/201)
بأن الفرقة جاءت من جهتها، ونقل أبو محمد عن أحمد رواية أخرى، وزعم أنها اختيار أبي بكر أن لها نصف المهر، نظرا إلى أن الفرقة جاءت من قبل الزوج، بتأخره عن الإسلام، والمنقول عن أحمد في رواية الأثرم التوقف، والله أعلم.
قال: فإن كان إسلامه وإسلامهن قبل الدخول معا فهن زوجات.
ش: لأن المحذور وهو اختلاف الدين منتف.
2541 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا جاء مسلما على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم جاءت امرأته مسلمة بعده، فقال: يا رسول الله إنها قد كانت أسلمت معي. فردها عليه» ، رواه أبو داود والترمذي وصححه، والمعية أن يتلفظا بالإسلام دفعة واحدة، على ظاهر كلام الخرقي وغيره، وصرح به أبو محمد، وحكى احتمالا بأن المعية أن يسلم المتأخر منهما في المجلس، نظرا إلى أن حكم المجلس حكم العقد، بدليل(5/202)
القبض ونحوه، واختار أبو العباس أن المعية أن يشرع الثاني قبل أن يفرغ الأول، والله أعلم.
قال: فإن كان دخل بهن ثم أسلم فمن لم يسلم منهن قبل انقضاء عدتها حرمت عليه منذ اختلف الدينان.
ش: هذا هو المشهور من الروايات، قال أبو بكر: رواه عنه نحو من خمسين رجلا، والمختار لعامة الأصحاب الخرقي والقاضي، وأصحابه، والشيخين وغير واحد.
2542 - لما «روى الزهري أن نساء كن في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات، وأزواجهن حين أسلمن كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح، وهرب صفوان من الإسلام، فبعث إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عمه وهب بن عمير، برداء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمانا لصفوان، ودعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسلام، وأن يقدم عليه، فإن رضي أمرا قبله، وإلا سيره شهرين، فلما قدم صفوان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بردائه ناداه على رؤوس الناس، فقال: يا محمد هذا وهب بن عمير جاءني بردائك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا قبلته، وإلا سيرتني شهرين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انزل أبا وهب» فقال: والله لا أنزل حتى تبين لي؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل لك سير أربعة أشهر» فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل هوازن بحنين، فأرسل إلى(5/203)
صفوان يستعير أداة وسلاحا عنده، فقال صفوان: أطوعا أم كرها؟ فقال: «بل طوعا» فأعاره الأداة والسلاح التي عنده، ثم رجع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو كافر، فشهد حنينا والطائف وهو كافر، وامرأته مسلمة، ولم يفرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينه وبين امرأته حتى أسلم صفوان، واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح» ، قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وإسلام امرأته نحو من شهر.
2543 - وعنه أيضا «أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام - وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل - أسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة من الإسلام، حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثب إليه فرحا، وما عليه رداء، حتى بايعه فثبتا على نكاحهما» ، رواهما مالك في الموطأ، وهذان وإن كانا قضية في عين، فيحملان على ما بعد العدة، إذ الظاهر ذلك.(5/204)
2544 - ولأن في حديث الزهري: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها.
2545 - وقال ابن شبرمة: «كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته، فإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما» . وخرج ما قبل الدخول، لعدم العدة، فإن قيل:
2546 - فقد روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، بعد ست سنين ولم يحدث شيئا» ، رواه أبو داود والترمذي، وقال: ليس بإسناده بأس، وابن ماجه وقال: بعد سنتين. كذلك قال أبو داود في رواية أخرى، وصححه الحاكم وغيره.(5/205)
قيل: قد أجيب عنه بأجوبة (منها) بالطعن فيه، فإنه من رواية داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو نسخة ضعف أمرها علي بن المديني وغيره، وقال أحمد في رواية أبي طالب ما أراه يصح، يختلفون فيه.
2547 - ويؤيد ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد» ، رواه الترمذي وغيره. لكن أهل العلم بالحديث على أن حديث ابن عباس أصح، قال أحمد: «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد ابنته بالنكاح الأول» ، فقيل له: يروى أنه ردها بنكاح مستأنف؟ قال: ليس لذلك أصل. وقال البخاري: حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب. وقال الدارقطني: حديث عمرو هذا لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس (الثاني) وهو الذي اعتمده الخطابي وغيره أنها قضية(5/206)
عين، فيحتمل أنها بقيت في عدتها، بأن كانت حاملا، أو ارتفع حيضها برضاع ونحوه (الثالث) دعوى نسخه بأنه كان قبل نزول تحريم المسلمات على الكفار (والرواية الثانية) ينفسخ النكاح في الحال، كما قبل الدخول، اختارها الخلال وصاحبه، لقوله سبحانه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] والدليل منها من أوجه (أحدها) عموم: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] (الثاني) قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] فأمر برد المهر ولو لم تقع الفرقة باختلاف الدين لما أمر برد المهر (الثالث) قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فأباح سبحانه نكاحهن على الإطلاق (الرابع) قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وعلى هذا فما تقدم يكون منسوخا بهذه الآية الكريمة وأجيب (عن الأول) بأن المراد: في حال كفرهن، بدليل: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10](5/207)
(وعن الثاني) بأنه كان يجب دفع المهر إلى الزوج إذا جاء وإن كان قبل انقضاء عدتها، لانتفاء ردها إليه، فإن أسلم قبل انقضائها سقط وجوب المهر، ووجب تسليمها إليه، ثم نسخ وجوب دفع المهر إليه (وعن الثالث) بأنه محمول على ما بعد العدة، وكذا الجواب (عن الرابع) جمعا بين الأدلة (والرواية الثالثة) الوقف بإسلام الكتابية، والانفساخ بغيرها (والرواية الرابعة) الوقف، قال: أحب إلي الوقف عندنا، وقيل عنه ما يدل (على خامسة) وهو الأخذ بظاهر حديث زينب، وأنها ترد ولو بعد العدة.
وظاهر كلام الخرقي أن الفرقة حيث تقع، تقع في الحال، ولا يحتاج إلى حاكم، ولا إلى عرض الزوج على الإسلام، ونص عليه أحمد والأصحاب، وظاهر كلامه أيضا أنه لا فرق في هذا الحكم بين دار الحرب ودار الإسلام، ونص عليه أحمد والأصحاب.
2548 - وقد «روي أن أبا سفيان أسلم بمر الظهران، ثم أسلمت امرأته بمكة، فأقرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نكاحهما» والله أعلم.(5/208)
[حكم من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة]
قال: ولو نكح أكثر من أربع في عقد واحد، أو في عقود متفرقة، ثم أصابهن، ثم أسلم ثم أسلمت كل واحدة منهن في عدتها، أمسك أربعا منهن، وفارق ما سواهن، سواء كان من أمسك منهن أول من عقد عليهن أو آخرهن.
2549 - ش: الأصل في هذا ما «روى الحارث بن قيس الأسدي أو قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اختر منهن أربعا» رواه أبو داود وابن ماجه، وقد ضعف من قبل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى.
2550 - وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخير أربعا منهن» . رواه الترمذي وابن ماجه، وهذا وإن(5/209)
كان مرسلا على الصحيح عند الأئمة، قاله الإمام أحمد والبخاري وغيرهما، إلا أنه قد عضده الذي قبله، فصار حجة بالاتفاق، ولهذا احتج به أحمد في رواية أبي الحارث، وتأويله بأن «اختر أربعا» بمعنى: اختر أربعا تعقد عليهن عقدا جديدا، مردود بأن في الدارقطني «أمسك منهن أربعا» والإمساك إنما هو بالعقد الأول، كما في قوله سبحانه: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ثم إن تجديد العقد ليس إليه، والشارع قد فوض الاختيار إليه، وحمله على أنه تزوجهن في عقود، وأنه يختار الأوائل، بعيد من اللفظ جدا.
2551 - ثم في بعض روايات حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا قال: يا رسول الله ما ترى في من أسلم وله عشر نسوة؟ قال: يتخير منهن أربعا» وهذا يخرج الحديث عن أن يكون واقعة عين.
وقول الخرقي: نكح أكثر من أربع. بيان صورة المسألة، إذ لو نكح أربعا فما دون والحال ما تقدم ثبت نكاحهن، (وقوله) في عقد واحد أو في عقود متفرقة، يحترز به عن(5/210)
مذهب الحنفية، إذ عندهم أنهم إن كانوا في عقد واحد انفسخ نكاحهن، وإن كانوا في عقود صح نكاح الأوائل، (وقوله) ثم أصابهن. لأنه لو لم يصبهن انفسخ نكاحهن في الحال، لكون إسلامه قبل الدخول، نعم لو كان إسلامهن معه تخير، والخرقي إنما صور المسألة فيما إذا وقع إسلامهن بعد إسلامه، (وقوله) ثم أسلم، ثم أسلمت كل واحدة منهن، يحترز به عما إذا أسلم أربع منهن فما دون، فإنه لا يخير (وقوله) : في عدتهن. يحترز به عما إذا تأخر إسلامهن عن العدة، فإن نكاحهن ينفسخ كما تقدم، ولا تخيير، (وقوله) : أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن، هذا هو الحكم، وهو واجب عليه إن اختار البقاء على النكاح، وإن اختار ترك نكاح الجميع فله ذلك، لكن يكون في أربع بطلاق، لأنهن زوجات، وفي الباقيات فسخ، (وقوله) : سواء كان من أمسك منهن أول من عقد عليهن أو آخرهن. هو من تمام الاحتراز عن مذهب الحنفية، والضمير في نكح، وفي الأربع، يرجع إلى الوثني أي ولو نكح الوثني أكثر من أربع وثنيات، فلا يرد عليه إذ أسلم زوج الكتابيات فإنه يتخير منهن، ولا يشترط إسلامهن.(5/211)
(تنبيهات) أحدها عموم كلام الخرقي يشمل ما إذا كان محرما، وقاله أبو محمد، وقال القاضي: لا يختار والحال هذه، ويشبه هذا الارتجاع في الإحرام (الثاني) لو أسلمت المرأة ولها زوجان أو أكثر، تزوجاها في عقد واحد، لم يكن لها أن تختار أحدهما، ذكره القاضي وغيره محل وفاق، لأن البضع حصل بينهما مشتركا، بخلاف ما تقدم، فإن الزوج ملك بضع كل واحدة. (الثالث) صفة الاختيار والفراق وضابطه أن كل لفظ دل على الاختيار فهو اختيار، وكل لفظ دل على الفراق فهو فراق، ومثاله أن يقول لأربع من ثمان مثلا: أمسكت هؤلاء. أو اخترتهن، أو رضيتهن، ونحو ذلك، أو يقول: تركت هؤلاء الأربع، أو فسخت نكاحهن، فيثبت نكاح الأخر، فإن طلق إحداهن كان اختيارا، إذ الطلاق لا يكون إلا في زوجته، وكذلك لو أتى بلفظ الفراق أو السراح، ناويا به الطلاق، وإن أطلق فاحتمالان مبنيان - والله أعلم - على أنهما هل هما صريحان في الطلاق أو لا، وكذلك لو وطئ على المذهب لتضمنه الرضى بالموطوءة، ووقع للقاضي في التعليق في باب الرجعة أنه لا يكون اختيارا، وإن ظاهر أو آلى من إحداهما فوجهان، أشهرهما: لا يكون اختيارا لصحته في غير زوجته، والثاني يكون اختيارا، لأن حكمه لا يترتب إلا في زوجة، والله أعلم.(5/212)
[حكم من أسلم وتحته أختان]
قال: ولو أسلم وتحته أختان منهما واحدة.
2552 - ش: لما «روى ابن فيروز الديلمي عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طلق أيتهما شئت» » رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه والترمذي، وحسنة ولفظه «اختر أيتهما شئت» وصححه البيهقي، وكذلك الحكم فيمن يحرم الجمع بينهما، كالمرأة وعمتها، ونحو ذلك، وشرط الاختيار أن تكونا كتابيتين أو غيرهما، ويسلما معه، أو بعده في العدة إن كانت في عدة، على المذهب، أما إن لم تكن عدة كقبل الدخول، فإن نكاحهما ينفسخ، فإن أسلمت إحداهما دون الأخرى، فقبل الدخول يثبت نكاح المسلمة، ويزول نكاح المشركة إن لم تكن كتابية، فإن كانت كتابية فكذلك على ما أورده ابن حمدان مذهبا: وقيل: يخير، وهو القياس، وبعد الدخول كذلك على(5/213)
رواية، وعلى المشهور يقف الفسخ على انقضاء العدة، فإن أسلمت الأخرى فيها خير، وإلا انفسخ نكاحها، والله أعلم.
قال: ولو كانتا أما وبنتا فأسلم وأسلمتا معا قبل الدخول فسد نكاح الأم، وإن كان دخل بالأم فسد نكاحهما.
ش: إذا أسلم وتحته اثنتان إحداهما أم الأخرى، فأسلمتا معا قبل الدخول بالأم فسد نكاح الأم، لأنها أم معقود على ابنتها، فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وأنكحة الكفار صحيحة أو في حكم الصحيحة، وإن كان قد دخل بالأم فسد نكاحهما، لأنها إذا ربيبة مدخول بأمها، فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] الآية، ولو لم يسلم إلا إحداهما فكذلك، إن كانت المسلمة الأم فسد نكاحهما، وكذلك إن كانت البنت وقد دخل بأمها، وإلا ثبت نكاحها، والله أعلم.
[الحكم لو أسلم العبد وتحته زوجتان]
قال: ولو أسلم عبد وتحته زوجتان، وقد دخل بهما فأسلمتا في العدة، فهما زوجتاه، ولو كن أكثر اختار منهن اثنتين.
ش: إذا أسلم عبد وتحته زوجتان مدخول بهما، فأسلمتا في العدة ثبت نكاحهما، لأن له والحال هذه ابتداء نكاحهما، فكذلك استدامته، وسواء كانتا حرتين أو أمتين أو مختلفتين، نعم هل للحرة والحال هذه خيار الفسخ؟ قال القاضي في المجرد، وابن عقيل: قياس المذهب لا؛ واختاره أبو محمد، لأنها(5/214)
رضيت به كذلك، وجعله القاضي في الجامع كالعيب الحادث، نظرا بأن الرق ليس بنقص، وإن كان عيبا، لكن لا يؤثر في الكفر، وإنما يؤثر ما ليس بنقص في الكفر في الإسلام، وإن كن أكثر من اثنتين فأسلمن في العدة لم يكن له أن يختار أكثر من اثنتين، كابتداء النكاح، وله أن يختار ولو حرة وأمة على الصحيح.
قال: وإذا تزوجها وهما كتابيان، فأسلم قبل الدخول أو بعده فهي زوجته.
ش: لأنه والحال هذه يجوز له ابتداء نكاحها، فكان له استدامته، مع أن هذا قد حكاه أحمد وابن عبد البر وغيرهما إجماعا والله أعلم.
قال: وإن كانت هي المسلمة قبله وقبل الدخول انفسخ النكاح ولا مهر لها.
ش: أما الفسخ فلأن المسلمة لا تقر تحت مشرك، وأما عدم المهر فلأن الفرقة جاءت من قبلها، وقد تقدم حكاية رواية أخرى أن لها نصف المهر، ولو كان إسلامها والحال هذه بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة على المذهب، فإن أسلم فيها وإلا انفسخ النكاح، ولو أسلما معا فالنكاح بحاله، والله أعلم.(5/215)
قال: وما سمي لها وهما كافران فقبضته ثم أسلمت فليس بها غيره، وإن كان حراما، ولو لم تقبضه وهو حرام فلها عليه مهر مثلها، أو نصف مهر مثلها حيث أوجب ذلك.
ش: إذا سمي الكافران تسمية فاسدة فقبضتها المرأة فلا شيء لها سواها، لوقوعها الموقع بالقبض، بدليل قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] أمر سبحانه بترك ما بقي دون ما قبض، وقال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] والحكمة في ذلك والله أعلم أن إبطال ما قبض يشق، لتطاول الزمان، وكثرة تصرفهم في الحرام، ولما في ذلك من التنفير عن الإسلام، ولذلك لا يجب عليهم قضاء الفرائض ونحوها، وإن لم تقبضه المرأة فلها عليه مهر مثلها، أو نصف مهر مثلها حيث أوجب ذلك، على المذهب عند الأصحاب بلا ريب، لأن الممضي للتسمية الفاسدة القبض ولم يوجد، والقاعدة أن التسمية إذا كانت فاسدة وجب مهر المثل إن دخل بها، أو نصفه إن لم يدخل بها، وخرج القاضي في تعليقه رواية أخرى في الخمر والخنزير أن لا شيء لها في معينه، لأنه قد تعذر تسليمه، وخرج عن كونه مالا بالإسلام، ومن أصلنا أن المعين إذا تلف قبل قبضه سقط، وأن لها في غير المعين قيمته، لأن أحمد قال في رواية الميموني في عاشر المسلمين: يقوم الخمر عليهم، ويأخذ العشر من ثمنها. انتهى ونقل(5/216)
عنه ابن منصور في نصراني تزوج نصرانية على قلة خمر، ثم أسلما: فإن دخل بها فهو جائز، وإن لم يدخل بها فلها صداق مثلها، وظاهر هذا أن قبل الدخول يجب صداق المثل بكل حال، وإن قبضت المحرم، قال أبو العباس: وهو قوي؛ إذ تقابض الكفار إنما يمضي على المشهور إذا وجد عن الطرفين، وهنا البضع لم يقبض.
وقد تضمن كلام الخرقي أن التسمية الصحيحة تمضي بكل حال، وهو واضح، والله أعلم.
قال: ولو تزوجها وهما مسلمان، فارتدت قبل الدخول انفسخ النكاح ولا مهر لها.
ش: أما فسخ النكاح فلأن المسلم لا يتزوج مرتدة، فلا يستديم نكاحها، ولا عدة تنتظر، وأما عدم المهر فلأن الفرقة جاءت من قبلها.
قال: ولو كان هو المرتد قبلها فكذلك، إلا أن عليه نصف المهر.
ش: يعني ينفسخ النكاح لما تقدم، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ونحوه، وعليه نصف المهر، لوجود الفرقة من جهته.
قال: ولو كانت ردتها بعد الدخول فلا نفقة لها.
ش: لأنه قد امتنع بردتها من الاستمتاع، فلا يجب لها النفقة كالناشز.(5/217)
قال: وإن لم تسلم في عدتها انفسخ النكاح.
ش: لا إشكال في ذلك كما تقدم، أما إن أسلمت في عدتها فمفهوم كلامه ثبوت النكاح، وهو بناء على مختاره من القول بالوقف، وعلى الرواية الأخرى لا وقف، فينفسخ النكاح حين ارتدادها، وقد تقدم توجيه الروايتين، والله أعلم.
قال: ولو كان هو المرتد بعد الدخول، فلم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدتها انفسخ النكاح منذ اختلف الدينان.
ش: حكم الرجل في ارتداده بعد الدخول حكم المرأة في فسخ النكاح وعدمه، أما في النفقة فتجب، ولهذا سكت عنها الخرقي، ونفاها فيما إذا كانت هي المرتدة، لأن التسليم منها موجود، والامتناع من جهته بارتداده.
(تنبيه) لم يتعرض الخرقي لما إذا ارتدا معا، والحكم أن النكاح ينفسخ إن كان قبل الدخول، إذ كل حكم يتعلق بردة أحدهما تعلق بردة معه، أصله استباحة دمه وماله، ولأن الإنشاء والحال هذه لا يجوز، فكذلك الاستدامة، ويقف على انقضاء العدة إن كان بعد الدخول على المشهور من الروايتين، وهل يجب نصف المهر إن كانت الردة قبل الدخول؟ فيه وجهان، إذ الفرقة منهما، فهو كتلاعنهما ونحوه، وتجب النفقة مع الوقف، لأنها كانت واجبة، ولم تنفرد المرأة بما يسقطها، والله أعلم.(5/218)
[نكاح الشغار]
قال: وإذا زوجه وليته، على أن يزوجه الآخر وليته، فلا نكاح بينهما وإن سموا مع ذلك صداقا.
ش: إذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، فلا يخلو إما أن يسموا مع ذلك صداقا أو لا، فإن لم يسموا مع ذلك صداقا فلا خلاف عن أحمد نعلمه، ولا نزاع بين الأصحاب في بطلان النكاح.
2553 - لما روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق» . رواه الجماعة، لكن الترمذي لم يذكر تفسير الشغار، وأبو داود جعله من كلام نافع، وهو كذلك في رواية متفق عليها.
2554 - وعن ابن عمر أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شغار في الإسلام» رواه مسلم.
2555 - وروي نحوه من حديث عمران بن حصين، وأنس وجابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وغيرهم، والنهي يدل على فساد المنهي(5/219)
عنه، والنفي لنفي الحقيقة الشرعية، ويؤيد ذلك فعل الصحابة.
2556 - قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما فرقا فيه، وكذلك معاوية أمر بذلك.
وخرج أبو الخطاب في هدايته، ومن تبعه رواية ببطلان الشرط، وصحة العقد، من نصه في رواية الأثرم: إذا تزوجها بشرط الخيار أو إن جاءها بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح، أن النكاح جائز، والشرط باطل، إذ فساد التسمية لا يوجب فساد العقد، كما لو تزوجها على خمر أو خنزير، فعلى هذا يجب مهر المثل انتهى.
وإن سموا مع ذلك صداقا فالمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصحة، وعليه عامة الأصحاب، لما تقدم من حديث ابن عمر إذ هذا التفسير إن كان من الرسول فواضح، وإن كان من نافع فهو راوي الحديث، وقد فسره بما لا يخالف ظاهره فيتبع.
2557 - وقد روى البيهقي عن أبي الزبير عن جابر قال: «نهى رسول الله(5/220)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشغار، والشغار أن تنكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه، وبضع هذه صداق هذه» . وقال الخرقي، وأبو بكر في الخلاف: لا يصح أيضا، وحكاه في الجامع رواية.
2558 - لما روى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، «أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد كانا جعلا صداقا، فكتب معاوية بن أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. رواه أحمد وأبو داود، وأجيب بأن أحمد ضعفه من قبل راويه ابن إسحاق، وبأنه يحمل على أنهما كانا جعلا مهرا قليلا حيلة.
وحكى أبو البركات قولا ثالثا وصححه أنه إن قيل فيه: وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى لم يصح، للتصريح بالتشريك المقتضي للبطلان، وإلا صح، لأن غايته شرط فاسد، فيفسد ويصح النكاح، وقد ذكر أن ابن عمر فسر الشغار بأن يقول: وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى. لكن هذا التفسير(5/221)
لا يعرف في الصحاح ولا في السنن.
واعلم أن أبا محمد قال - تبعا للقاضي في الجامع الكبير والمجرد، ولابن عقيل -: إنه متى صرح بالتشريك لا يصح النكاح قولا واحدا، فهذه الصورة عندهم مخرجة من محل الخلاف.
(تنبيه) سمي هذا النكاح نكاح الشغار قيل: لقبحه تشبيها برفع الكلب رجله ليبول في القبح يقال: شغر الكلب. إذا فعل ذلك، وهذا قول ابن الأعرابي، وعن الأصمعي: الشغار الرفع، كأن كل واحد رفع رجله للآخر عما يريد، وقيل: لا ترفع رجل بنتي ما لم أرفع رجل ابنتك، وقيل: الشغار البعد، كأنه بعد عن طريق الحق، وقال أبو العباس: الأظهر أنه من الخلو، يقال: شغر المكان. إذا خلا، ومكان شاغر أي خال، وشغر الكلب، إذا رفع رجله، لأنه أخلى ذلك المكان من رجله، وهذا هو العلة عنده في بطلان الشغار(5/222)
أيضا، قال: لا يعقل له علة مستقيمة إلا إشغاره عن المهر، قال: وهو الذي يدل عليه قول أحمد، وقدماء أصحابه كالخلال، وصاحبه، وقد فسره أحمد بأنه فرج بفرج، فالفروج كما أنها لا توهب ولا تورث بنص القرآن، فلأن لا يعاوض بضع ببضع أولى، وأورد على هذا بأنه إذا ينبغي أن يصح ويجب مهر المثل، كما لو سميا فاسدا، وأجيب إذا رضيا بنكاح لا مهر فيه، فما قصداه لم يبحه الشارع، وما أباحه الشارع لم يقصداه، أما إذا سميا فاسدا فقد قصدا المهر، وأورد أيضا تزويج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير مهر، وتزويج الرجل ابنته، والتفويض لا يسمى شغارا، وأجيب بأن الشغار فعال، فيكون من الطرفين، أي إخلاء بإخلاء، بضع ببضع، وهذا منتف في هذه المواضع، وعلل القاضي البطلان وجماعة من أتباعه بالتشريك في البضع، إذ المرأة تملك الصداق، والزوج يملك بضع المرأة، فكان بضع كل واحدة منهما مشتركا بين الزوج والمرأة، ورد بأن هذا ليس هو المقصود قطعا، وإنما كل من المرأتين رضيت بأن الزوج يستبيح بضعها بلا مهر لها، بل يكون لوليها، وهو بضع الأخرى، وعلل القاضي أيضا(5/223)
البطلان وأبو محمد بأنه جعل كل واحد من العقدين سلفا في الآخر فلم يصح، كبعتك ثوبي بمائة على أن تبيعني ثوبك بمائة، وأبو الخطاب جعله من تعليق كل من النكاحين بالآخر، وتعليق النكاح بالشرط لا يصح، وعلله القاضي أيضا وأبو الخطاب بأنه عقد حصل على وجه جعل المستباح فيه مهرا، فلم يصح، دليله إذا زوج عبده بحرة، وجعل رقبته صداقها لأن ما استباحته من الزوج جعل مهرا، فكذلك هنا ما استباح الزوج من الزوجة جعل مهرا، وقيل غير ذلك وجميعها مستدرك والله أعلم.
[نكاح المتعة]
قال: ولا يجوز نكاح المتعة.
ش: نكاح المتعة، أن يتزوج امرأة إلى مدة، فإذا انقضت زال النكاح، سواء كانت المدة معلومة كشهر ونحوه، أو مجهولة كنزول المطر ونحوه، وسواء وقع بلفظ النكاح وبولي وشاهدين أم لا، والمذهب المنصوص المختار للأصحاب بلا ريب بطلانه.
2559 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر» ، وفي رواية: «نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية» متفق عليهما.(5/224)
2560 - «وعن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها» .
2561 - «وعن سبرة الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه غزا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متعة النساء، وذكر الحديث إلى أن قال: فلم أخرج حتى حرمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وفي رواية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» رواه أحمد ومسلم، وفي رواية لأحمد وأبي داود عن سبرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع نهى عن نكاح المتعة» . والنهي يدل على فساد المنهي عنه، لا سيما وقد عضده أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتخلية، والاستدامة أسهل من الابتداء، ولأن الأحكام المختصة بالنكاح من الطلاق والظهار واللعان والتوارث وغير ذلك لا تتعلق به، فدل على أنه ليس بنكاح، إذ هي لازمة(5/225)
للنكاح الصحيح، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وسأل ابن منصور الإمام أحمد عن متعة النساء: تقول إنها حرام؟ فقال: يجتنبها أحب إلي. فأثبت ذلك أبو بكر في الخلاف رواية، وأبى ذلك القاضي في خلافه، وكذلك أبو الخطاب، حاملا لها على أنه سئل: هل للعامي أن يقلد من يفتي بمتعة النساء؟ فقال: لا، يجتنبها أحب إلي. أي الأولى أن لا يقلد، وكذلك ابن عقيل، مدعيا أن أحمد رجع عنها، وأبو العباس يقول: توقف عن لفظ الحرام، ولم ينفه، وبالجملة قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] .
فعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن إلى أجل مسمى) .
2562 - «وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نغزو مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله:(5/226)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الآية» ، متفق عليه.
2563 - «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث، رواه مسلم، وأجيب عن الآية بمنع ثبوت قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم نسخ الجميع، بدليل ما تقدم.
2564 - وقد روى ابن عدي، عن مؤمل بن إسماعيل قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «هدم المتعة الطلاق(5/227)
والعدة والميراث» قال عبد الحق: وعكرمة إنما يضعف حديثه عن يحيى بن أبي كثير.
(تنبيهان) أحدهما قد تقدم في بعض الأحاديث أن النهي كان يوم خيبر، وفي بعضها عام الفتح، وأجيب عن ذلك بأجوبة (أحدها) أن في حديث علي تقديما وتأخيرا، تقديره: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، ونهى عن متعة النساء» ، ولم يذكر زمن النهي.
2565 - وقد جاء في بعض طرق الحديث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» ذكره قاسم بن أصبغ وقال: قال سفيان بن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، لا عن نكاح المتعة. (الثاني) أن النهي قد وقع عنها يوم خيبر وعام الفتح جميعا، فسمعه بعض عام الفتح، وبعض زمن خيبر، ورد بأنه أذن عام الفتح، نعم هذا يجاب به عن النهي عام الفتح، وعام حجة الوداع (الثالث) حمل ذلك على ظاهره، وأنها كانت مباحة، ثم(5/228)
نسخت يوم خيبر، ثم أبيحت ثم حرمت عام الفتح، قال الشافعي: لا أعلم شيئا أحله الله ثم حرمه، ثم أحله ثم حرمه، إلا المتعة.
(الثاني) هل يجب الحد فيها؟ يتلخص للأصحاب فيها وجهان، والله أعلم.
قال: ولو تزوجها على أن يطلقها في وقت بعينه لم ينعقد النكاح.
ش: لأنه شبيه بالمتعة، والشبيه بالشيء يعطى حكمه، بيان الشبه أنه ألزم نفسه فراقها في وقت بعينه، والمتعة النكاح يزول فيها في وقت بعينه، قال أحمد في رواية أبي داود إذا تزوجها على أن يحملها إلى خراسان، ومن رأيه إذا حملها [إلى خراسان] خلى سبيلها، قال: لا، هذا يشبه المتعة، حتى يتزوجها ما حييت، وفي هذا النص إشعار بتعليل آخر، وهو أن وضع النكاح الدوام، وهذا الشرط ينافيه، وأن النية كافية في المنع، وقال أيضا في رواية عبد الله: إذا تزوجها ومن نيته أنه(5/229)
يطلقها، أكرهه، هذه متعة، وعلى هذا جمهور الأصحاب، القاضي في خلافه، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، لما علل به أحمد من أن هذا في معنى المتعة، وجزم أبو محمد في مغنيه بالصحة، وقال: إنه لا بأس به، كما لو نوى إن وافقته وإلا طلقها، قال أبو العباس: ولم أر أحدا من الأصحاب صرح أنه لا بأس به، وما قاس عليه لا ريب أنه موجب العقد، بخلاف ما تقدم، فإنه ينافيه، لقصده التأقيت والله أعلم.
[نكاح التحليل]
قال: وكذلك إذا شرط عليه أن يحلها لزوج كان قبله.
ش: يعني فإذا أحلها طلقها، وهذا هو نكاح التحليل، والمذهب المنصوص والمختار بلا نزاع بطلانه.
2566 - لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلل والمحلل له» . رواه أحمد والنسائي، والترمذي وصححه.(5/230)
2567 - وللخمسة إلا النسائي عن علي مثله.
2568 - ولأحمد عن أبي هريرة مثله.
2569 - ولابن ماجه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له» فلعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على(5/231)
ذلك، ولا يلعن على فعل جائز، فدل ذلك على تحريمه، وفساده وتسميته محللا لقصده الحل في موضع لا يحصل فيه الحل.
2569 - م - كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما آمن بالقرآن من استحل محارمه» .
وقال تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] .
2570 - وعن قبيصة بن جابر: سمعت عمر يخطب الناس وهو يقول: والله إني لا أوتى بمحلل ولا بمحلل له إلا رجمتهما. رواه الأثرم.
2571 - وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: من يخدع الله يخدعه.(5/232)
2572 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة، قال: وإن كنا لنعده على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفاحا.
وخرج القاضي وأبو الخطاب رواية ببطلان الشرط، وصحة العقد، من مسألة اشتراط الخيار، وكذلك ابن عقيل، لكنه خرجها من الشروط الفاسدة.
فعلى الأول - وهو المذهب بلا ريب - لو نوى ذلك الزوج بقلبه، فهو كما لو شرطه بلسانه، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب، لدخوله في عموم: «لعن الله المحلل والمحلل له» الحديث.
2573 - ويؤيده ما روى ابن شاهين في غرائب السنن، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن نكاح المحلل، فقال: «لا نكاح إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة» » ونقل حرب عن أحمد: إذا تزوج امرأة وفي(5/233)
نفسه طلاقها؟ فكرهه، فأخذ من ذلك الشريف وأبو الخطاب ومن تبعهما رواية بالصحة مع الكراهة، وهو مقتضى قول شيخهما، ومنع ذلك أبو العباس، إذ رواية حرب في من نوى الطلاق، وذلك إنما يكون في من له رغبة في النكاح والمحلل لا رغبة له في النكاح أصلا، ومن هنا قال القاضي وأصحابه - كالشريف، وأبي الخطاب، الشيرازي وغيرهم -: إنه إذا نوى التطليق في وقت بعينه، هو كنية التحليل. ونص أحمد يشهد لهم كما تقدم.
وإطلاق كلام الخرقي يشمل ما إذا شرط التحليل حال العقد أو قبله، ولم يرجع عنه، وهذا ينبني على أن الشرط السابق كالمقارن، إلا أن هنا النية كافية في المنع، فغايته أنها أكدت بالشرط السابق، نعم لو شرط قبل العقد، ثم نوى في العقد نكاح الرغبة، فأبو محمد يصحح هذا.
2574 - ويحمل عليه حديث ذي الرقعتين، فإنه يروى عنه أنه أحل امرأة لزوجها، وبلغ ذلك عمر فلم ينكره، وأبو العباس يقول: إن(5/234)
الشرط المتقدم كالمقارن، فالشرط والحال هذه لا يلزم معه العقد.
وأما حديث ذي الرقعتين فقال أحمد: ليس له إسناد. وأبو عبيد أجاب بجوابين (أحدهما) أنه مرسل، فأين هو من الذين سمعوه يخطب على المنبر: لا أوتى بمحلل ولا بمحلل له إلا رجمتهما، (والثاني) كقول أبي محمد، والله أعلم.
[نكاح المحرم]
قال: وإذا عقد المحرم نكاحا لنفسه أو لغيره، أو عقد أحد نكاحا لمحرم، أو على محرمة فالنكاح فاسد.
ش: لا يصح أن يعقد المحرم نكاحا لنفسه. بلا نزاع نعلمه عندنا.
2575 - لما روى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح» وفي رواية ولا يخطب رواه الجماعة إلا البخاري (فإن قيل) :(5/235)
2576 - فقد روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم» ، رواه البخاري، وأبو داود والترمذي، والنسائي، وإذا فيحمل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الكراهة، جمعا بين الدليلين.
2577 - قيل: هذا معارض بما روى يزيد بن الأصم، «عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قالت: تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن حلالان بسرف؛» رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
2578 - «وعن أبي رافع قال: تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما» . رواه أحمد والترمذي وحسنه، وإذا تعارضت الروايتان طلب الترجيح،(5/236)
ولا ريب أن من روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهو حلال، يترجح بأمور (أحدها) بكثرة رواته، قال أبو عمر النمري: الرواية «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو حلال» ، متواترة عن ميمونة، وعن أبي رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن سليمان بن يسار مولاها، وعن يزيد بن الأصم وهو ابن أختها انتهى، ولا ريب أن الحمل على الفرد، أولى من الحمل على الجماعة.
2579 - وقد قال أبو داود قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال أحمد في رواية أبي الحارث: هذا الحديث خطأ، يعني حديث ابن عباس (الثاني) أن ميمونة هي صاحبة القصة، وأبا رافع هو الرسول بينهما، ولا يخفى أنهما أعرف وأخبر بالواقعة من غيرهما، وقد أشار أحمد إلى(5/237)
ذلك في رواية المروذي، لا سيما وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صغير، لا يحضر مثله الوقائع، فلعله روى عن غيره.
2580 - مع أنه قد قيل: إن من مذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن من قلد الهدي صار محرما، فلعله رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلد الهدي، فاعتقد أنه محرم (الثالث) أن رواية ميمونة توافق رواية عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2581 - فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فرق في ذلك، رواه مالك الموطأ.
2582 - وعن ابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نهى عن ذلك وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك. رواه أحمد، وهو قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (الرابع) أنه متى تعارض دليلا الحظر والإباحة(5/238)
كان دليل الحظر مقدما، ثم لو قدر التعارض في فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيسلم نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رواية عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثم لو سلم ترجيح رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فهي فعله، وذاك قوله، والقول مقدم على الفعل، لا سيما وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اختص في النكاح بخصائص لم يشاركه فيها غيره، فلعل هذا منها، ثم لو سلم عدم الاختصاص فلعل فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وارد على مباح الأصل، ولا يلزم نسخ قوله، ودعوى أن المراد بالنهي الكراهة مخالف لظاهر النهي، ولعمل الصحابة، ويلزم منه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل المكروه، ولا يقال فعله لتبيين الجواز، لأنا نقول تبيينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله، ولا يقال: المراد بلا ينكح لا يطأ، ولا ينكح لا يمكن من الوطء، لأنا نقول: غالبا استعمال الشرع للعقد، فيحمل عليه، مع أن قوله في الحديث «ولا يخطب» قرينة على ذلك.
2583 - ثم في الدارقطني عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا(5/239)
يتزوج المحرم ولا يزوج» وهذا نص ويؤيده أن الصحابة فهمت ذلك.
2584 - ففي الموطأ عن أبي غطفان المري أن أباه طريفا تزوج امرأة وهو محرم، فرد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نكاحه.
2585 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من تزوج وهو محرم نزعناها منه، ولم نجز نكاحه.
2586 - وعن مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم، ففرق زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بينهما، رواهما أبو بكر النيسابوري. والله أعلم.
وهل له أن ينكح لغيره، كما إذا كان وليا أو وكيلا في النكاح؟ فيه روايتان، أشهرهما لا، لعموم الحديث (والثانية) نعم، اختارها أبو بكر، كما لو حلق المرحم رأس حلال ونحوه، وقيل: إن أصل هذه الرواية من قول أحمد: إن زوج المحرم لم أفسخ النكاح. وقيل: هذا لا يثبت به رواية، لاحتمال أنه منع الفسخ للاختلاف فيه، ولهذا قال: هو والإمام مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. انتهى.(5/240)
فعلى المذهب إذا أحرم الإمام الأعظم منع من تزويج أقاربه، وهل يمنع من التزويج بالولاية العامة؟ فيه احتمالان، (المنع) نظرا للعموم، فعلى هذا يزوج خلفاؤه، قاله القاضي، دفعا للحرج، ولأنهم لا ينعزلون بموته على الأشهر (والجواز) واختاره ابن عقيل، لأن ولاية الحكم يجوز فيها ما لا يجوز بولاية النسب، بدليل الكافرة يزوجها الإمام، لا وليها المناسب المسلم، واعلم أن القاضي قال: إنه لا يعرف الرواية عن أصحابنا في هذا الفرع، إذ إحرامه بالنسبة إلى النكاح كموته، انتهى، وإذا عقد أحد سواء كان حلالا أو محرما نكاحا لمحرم، أو على محرمة، فالنكاح فاسد، لأنه يصدق على المحرم أنه نكح وتزوج، فيدخل في الحديث.
وقد خرج من كلام الخرقي ما إذا وكل المحرم حلالا، فلم يعقد له النكاح حتى حل أنه يصح، ودخل في كلامه ما إذا وكله وهو حلال، فلم يعقد له حتى أحرم أن النكاح لا يصح، وهو صحيح، صرح به أبو محمد، فالاعتبار بحال العقد وهو المشهور، والله أعلم.
[العيوب التي توجب الخيار في النكاح]
قال: وأي الزوجين وجد بصاحبه جنونا أو جذاما، أو برصا أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء، أو فتقاء، أو الرجل(5/241)
مجبوبا، فلمن وجد ذلك منهما بصاحبه الخيار في فسخ النكاح.
ش: أما ثبوت الخيار بالجنون والجذام والبرص لكل من الزوجين.
2587 - فلما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غره، رواه مالك في الموطأ والدارقطني، وفي لفظ للدارقطني قضى عمر في البرصاء، والجذماء، والمجنونة، إذا دخل بها فرق بينهما، ولها الصداق بمسيسه إياها وهوله عليها.
2588 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: أربع لا يجري في بيع ولا نكاح، المجنونة، والمجذومة، والبرصاء، والقلفاء، رواه الدارقطني.
2589 - وفي المسند عن كعب بن زيد أو زيد بن كعب «أن رسول الله(5/242)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها ووضع ثوبه، وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا، فانحاز عن الفراش، ثم قال: «خذي عليك ثيابك» ولم يأخذ مما آتاها شيئا» ، ورواه سعيد في سننه عن زيد بن كعب بن عجرة، ولم يشك، ورده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها فسخ للنكاح، لا يقال: يحتمل أنه طلقها أو كنى بالرد عن الطلاق، لأنا نقول: لم ينقل في الحديث طلاق، والرد صريح في الفسخ، فالحمل عليه أولى، وإذا ثبت هذا في أحد الزوجين ثبت في الآخر، والمعنى في ذلك أن الجنون تنفر النفس منه، وتخاف جنايته، والجذام والبرص يخشى تعديهما إلى الولد وإلى النفس، ويثيران نفرة تمنع القربان، وأما ثبوت الخيار للرجل إذا كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء، فلأن ذلك يمنع معظم المعقود عليه في النكاح، وهو(5/243)
الاستمتاع فأثبت الخيار كالعنة، إذ المرأة أحد الزوجين، فيثبت الخيار بالعيب فيها كالرجل، وأما ثبوت الخيار للمرأة إذا كان الرجل مجبوبا، فلأن ذلك يمنع المقصود من النكاح وهو الاستمتاع، أشبه العنة بل أولى للإياس من زواله، بخلاف العنة، ودليل الأصل قول الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.
وقد دخل في كلام الخرقي ما إذا وجد أحدهما بصاحبه عيبا به مثله، كأن كان مجذوما وهي جذماء ونحوه، وهو أحد الوجهين، نظرا إلى أن الإنسان يعاف عيب غيره، ولا يعاف عيب نفسه (والثاني) لا يثبت خيار والحال هذه، لتساويهما، ويدخل في كلامه أيضا ما إذا حدث العيب بعد العقد، وكذا حكاه عنه القاضي، معتمدا على قوله بعد: فإن جب قبل الدخول فلها الخيار في وقتها، وهذا اختيار القاضي في تعليقه الجديد، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، لأنه معنى يثبت به الخيار مقارنا، فيثبت به طارئا، كالإعسار بالنفقة وكالرق، واختار أبو بكر في الخلاف، وابن حامد، والقاضي في التعليق القديم، والمجرد، وابن البنا أن الخيار لا يثبت والحال هذه، لأنه عيب حدث بالمعقود عليه بعد لزوم العقد، فلم يثبت الخيار، كالحادث بالمبيع المعين(5/244)
بعد البيع، وفرق بأن النكاح يستوفى شيئا فشيئا، فهو في معنى الإجازة، بخلاف المبيع.
وظاهر كلام الخرقي أن الخيار لا يثبت بغير هذه، فلا يثبت بالبخر في الفم، ولا في الفرج، ولا بالقروح السيالة في الفرج، ولا بالباسور ولا بالناصور، ولا بالاستحاضة، ولا باستطلاق البول أو النجو، ولا بالخصاء، وهو قطع الخصيتين، ولا بالوجاء وهو رضهما، ولا بالسل وهو سلهما، ولا بكون أحدهما خنثى غير مشكل، وهو أحد الوجهين في الجميع، ولا يثبت الخيار بما عدا ذلك كالعمى، والعرج، وقطع اليد، أو الرجل، وكون المرأة نضوة الخلق يخاف عليها الجناية بالجماع، وكون الذكر كبيرا والفرج صغيرا ونحو ذلك، على المذهب بلا ريب، واختار ابن عقيل ثبوت الخيار بنضو الخلق كالرتق، واختار ابن حمدان في كبر الذكر وصغر الفرج ثبوت الخيار، وعن أبي البقاء العكبري ثبوت الخيار بكل عيب يرد به في البيع وهو غريب.
(تنبيهان) أحدهما (الجنون) معروف وهو زوال العقل، ولا فرق فيه بين المطبق أي الدائم، والخانق أي الذي يخنق(5/245)
في وقت دون وقت، فإن زال العقل بمرض فهو إغماء، لا يثبت به خيار، فإن دام بعد المرض فهو جنون، (والجذام والبرص) داآن معروفان، نسأل الله العافية منهما ومن كل داء، فإن ظهر أمرهما فواضح، وإن أشكل كأن يتفرق شعر الحاجب، أو يكون به بياض يحتمل أنه برص أو بهق، فمع الاتفاق من الزوجين لا كلام، ومع الاختلاف القول قول المنكر، نظرا للأصل، فإن أقام المدعي بما ادعاه شاهدين حكم بذلك، وخرج قبول واحد كالموضحة، فإن أقام كل منهما بينة بدعواه تعارضتا ولا فسخ، (والجب) القطع، والحكم هنا مرتب على قطع الذكر، أو على قطع بعضه بحيث لا يمكن الجماع بالباقي (والرتق) بفتح الراء والتاء مصدر رتقت بكسر التاء، ترتق رتقا، بفتح التاء فيهما - التحام الفرج، قاله الجوهري (والقرن) مصدر قرنت المرأة بكسر الراء تقرن قرنا بفتحها فيهما، إذا كان في فرجها قرن بسكون الراء، وهو عظم أو غدة تمنع من ولوج الذكر، (والعفل) نتنة تخرج في فرج المرأة وحيا الناقة شبيه بالأدرة التي للرجال في الخصية، والقاضي في الخلاف جعل هذه الثلاثة لحما(5/246)
ينبت في الفرج، وفي المجرد جعل الرتق السد، والقرن والعفل اللحم، وتبعه على ذلك أبو الخطاب وابن عقيل، وأبو حفص فسر العفل برغوة في الفرج كزبد البعير، وإذا في ثبوت الخيار به وجهان (والفتق) انخراق ما بين السبيلين، وقيل انخراق ما بين مخرج البول والمني، وإذا في ثبوت الخيار به وجهان.
(الثاني) يفتقر الفسخ في هذه إلى حكم حاكم، لأنه أمر مختلف فيه، فاحتاج إلى حاكم، كالفسخ للإعسار بالنفقة، وفارق خيار المعتقة، للاتفاق عليه، ولا يرد خيار المعتقة بعد ثلاث، والمعتقة تحت حر، وخيارات البيع، فإنها وإن اختلف فيها فإن أصلها متفق عليه، والمراد بحكم الحاكم أن يحكم بالفسخ، أو يأذن فيه أو يفسخ، ولا يختار إلا بطلب من له الفسخ، وحيث يقع الفسخ كان فسخا وليس بطلاق، نص عليه، والله أعلم.
قال: وإذا فسخ قبل المسيس فلا مهر.
ش: سواء كان الفاسخ الزوج أو المرأة، لأنها إن كانت هي الفاسخة فالفرقة من جهتها، أشبه ما لو أرضعت زوجة له أخرى، وإن كان هو الفاسخ فهو بسببها، إذ هو لعيبها، فإن قيل: فهلا جعل فسخها لعيبه كأنه منه، لأنه بسببه؟ قيل: أجاب عنه أبو محمد بأن العوض من الزوج في مقابلة(5/247)
بضعها، فإذا اختارت الفسخ مع سلامة المعقود عليه رجع العوض إلى العاقد، وليس من جهتها عوض في مقابلة بضع الزوج، وإنما يثبت لها الخيار دفعا للضرر اللاحق بها، لا لتعذر ما استحقت في مقابلته عوضا، والله أعلم.
قال: فإن كان بعده وادعى أنه ما علم وحلف، كان له أن يفسخ، وعليه المهر يرجع به على من غره.
ش: شرط ثبوت الخيار فيما تقدم من العيوب أن لا يعلم بها وقت العقد، ولا بعده ويرضى، أما إن علم بها وقت العقد، أو بعده فرضي، أو وجد منه ما يدل على الرضى فلا خيار له، لأنه قد دخل على بصيرة، أو أسقط حقه، أشبه مشتري المعيب إذا علم بالعيب وقت البيع، أو بعده فرضي، فعلى هذا إن تصادقا على عدم العلم بالعيب، وأنكرته المرأة فالقول قوله، إذ الأصل عدم العلم، وعليه اليمين، لأن ما ادعي عليه محتمل، ولا فرق في ذلك كله بين قبل الدخول وبعده، وإن كان كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوهم خلاف ذلك، إذا تقرر هذا وفسخ بعد الدخول كان عليه المهر بما استحل من فرجها.
وظاهر كلام الخرقي أنه المسمى لتعريفه المهر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الشيخين وغيرهما، لظاهر ما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعليه اعتمد أحمد، قال: إذا(5/248)
تزوجها جذماء برصاء مجنونة أو بكرا فخرجت ثيبا، يقول عمر: يلزمهم المهر الذي أعطاهم (والرواية الأخرى) الواجب مهر المثل، إذ الزوج إنما بذل المسمى مع تمام النكاح، فإذا فسخ لم يرض ببذل إنما رضيت بالمسمى لرجل سليم، وإذا فات الرضى رجع إلى مهر المثل، وبنى القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول هاتين الروايتين على الروايتين في النكاح الفاسد، هل الواجب فيه المسمى أو مهر المثل؟ لأن الفسخ لمعنى قارن العقد، فإنه لم ينعقد، وقيد أبو البركات رواية مهر المثل بما إذا كان الفاسخ الزوج، لشرط أو عيب قديم، لأنه إنما رضي بالمسمى في مقابلة عين صحيحة، أو بشرط وقد فات ذلك، فيفوت الرضى بالمسمى، وإذا يرجع إلى مهر المثل، أما إن حدث العيب بها بعد العقد فالمسيس قابل عينا صحيحة فيجب، وكذلك إن كانت هي الفاسخة لعيب فيه، أو لفوات شرط، لأن ما بذل فيه المسمى قد وجد فيستقر، لكن قد يقال: ينبغي أن يجب لها مهر المثل إن كان أزيد، إذ رضاها منوط بالشرط وبسليم، وقد يجاب بأن مهر المثل لا يختلف بخلقة الرجل وصفاته، وفيه شيء، ومن رأينا كلامه من الأصحاب على إطلاق هذه الرواية، ولهذا جعل ابن حمدان(5/249)
تقييد المجد قولا.
وفي المذهب (قول ثالث) في أصل المسألة في الزوج إذا اطلع على عيب، أو فاته شرط، ينسب قدر نقص مهر المثل لأجل العيب أو الشرط، إلى مهر المثل كاملا، فيحط عنه من المسمى بنسبة النقص إلى المهرين، سواء فسخ أو أمضى، وهو قياس البيع، مثاله أن يقال: كم مهر هذه بهذا العيب أو مع هذا الشرط؟ فيقال: ثمانون مثلا. وبلا عيب ولا شرط مائة، فنسبة ما بينهما الخمس، فيرجع من المسمى بالخمس، وهذا قول ابن عقيل وأبي بكر، قالاه فيما إذا شرطها بكرا فبانت ثيبا، ووافق أبو بكر الأصحاب في أن الواجب المسمى في الفسخ لعيبها، وإذا (هذا قول رابع) انتهى.
ويرجع الزوج بما غرمه على من غره على المشهور المختار من الروايتين، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
2590 - (والرواية الثانية) لا يرجع بشيء، اختارها أبو بكر في الخلاف، وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذلك لأنه ضمن ما استوفى بدله، فلم يرجع به على غيره، كالمبيع المعيب، إذا أكله ثم علم عيبه، وقد روي عن أحمد أنه رجع عن هذه الرواية، قال في رواية ابن الحكم: كنت أذهب إلى قول علي رضي الله(5/250)
عنه، ثم هبته فملت إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال عمر: إذا تزوجها فرأى جذاما أو برصا فلها المهر بمسيسه، ووليها ضامن للصداق.
وقول الخرقي يشمل الولي والوكيل والمرأة، وصرح به غيره فعلى هذا أيهم انفرد بالغرور ضمن، فلو أنكر الولي علمه بذلك ولا بينة فثلاثة أوجه، (أحدها) القول قوله مع يمينه، اختاره أبو محمد، إذ الأصل عدم علمه بذلك (والثاني) القول قول الزوج إلا في عيوب الفرج، إذ الظاهر أن الولي لا يخفى عليه ذلك أما عيوب الفرج فلا اطلاع له عليها «والثالث» إن كان مما يخفى عليه أمرها كأباعد العصبات فكالأول، وإلا فكالثاني، قاله القاضي وابن عقيل، أما الوكيل فينبغي أن يكون القول قوله بلا خلاف.
وشرط تضمين المرأة أن تكون عاقلة، قاله ابن عقيل، ليوجد قصد الغرور منها وشرط مع ذلك أبو عبد الله ابن تيمية بلوغها، ليوجد تغرير محرم، فعلى هذا حكمها إذا ادعت عدم العلم بعيب نفسها واحتمل ذلك، حكم الولي على ما تقدم، ولو وجد الغرور من المرأة والولي فالضمان على الولي، على مقتضى قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد وغيرهم، لأنه المباشر، وقال أبو محمد فيما إذا كان الغرور من المرأة والوكيل الضمان(5/251)
عليهما نصفان، فيكون في كل من الولي والوكيل قولان، والله أعلم.
قال: ولا سكنى لها ولا نفقة، لأن السكنى والنفقة لمن يجب لزوجها عليها الرجعة.
ش: لا نفقة للمفسوخ نكاحها، لأنها بائن، أشبهت البائن بطلاق ثلاث، وهو قسم من أقسام البائن فلا نفقة لها ولا سكنى لها على المشهور، هذا إن كانت حائلا، فإن كانت حاملا فلها النفقة عند أبي محمد، لأنها بائن من نكاح صحيح في حال حملها، أشبهت المختلعة، وفي السكنى روايتان، وقال القاضي وابن عقيل إن قلنا: إن النفقة للحمل، وجبت لها، وإن قلنا لها من أجله لم تجب، كالمعتدة من نكاح فاسد، ولعل هذا أوفق لقول الخرقي، لأنه هنا لم يستثن الحامل، وثم استثناها، وأصل ذلك والدليل عليه يأتي إن شاء الله في النفقات، والله أعلم.
[تخيير العبد والأمة المزوجين حال الرق]
قال: وإذا أعتقت الأمة وزوجها عبد فلها الخيار في فسخ النكاح.
ش: هذا إجماع، حكاه ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما.
2591 - وقد «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كان في بريرة ثلاث سنن، خيرت على زوجها حين عتقت» . مختصر، متفق عليه.(5/252)
2592 - وعن القاسم بن محمد، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن بريرة خيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان زوجها عبدا» . رواه مسلم وأبو داود، والنسائي.
2593 - وعن عروة «عن عائشة في قصة بريرة قالت: كان زوجها عبدا، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاختارت نفسها، ولو كان حرا لم يخيرها» . رواه مسلم، وأبو داود والترمذي، والنسائي.
2594 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن زوج بريرة كان عبدا أسود، يسمى مغيثا، فخيرها يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمرها أن تعتد» . رواه أبو داود، والترمذي والنسائي والبخاري مختصرا.
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا عتقت وزوجها حر فلا خيار لها، وهو المذهب المنصوص والمختار بلا ريب، لما تقدم، إذ الأصل لزوم النكاح إلا حيث قام الدليل على جوازه، ونقل عن(5/253)
أحمد فيمن زوج أم ولده ثم مات فقد عتقت وتخير، فأخذ من ذلك أبو الخطاب رواية بثبوت الخيار لمن زوجها حر، لإطلاق أحمد.
2595 - وذلك لما روى الأسود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت، وأنها خيرت فقالت: ما أحب أن أكون معه، وإن كان لي كذا وكذا» . رواه الجماعة إلا مسلما، وتحمل رواية العبدية على أنه كان عبدا، جمعا بينهما، ورجح الأول بأمور (أحدها) بأن قوله: كان حرا. هو من قول الأسود، وقع مدرجا في الحديث، كذا جاء مفسرا.
2596 - فروى ابن المنذر عن إبراهيم أنه قال: فقال الأسود: وكان زوجها حرا. وقال البخاري: قول الأسود منقطع.
2597 - (الثاني) أنه قد روي عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن(5/254)
زوجها كان عبدا، فإذا تتعارض روايتا الأسود، وتسلم رواية غيره (الثالث) لو سلم اتصال رواية الحرية وترجيحها، فقد عارضها رواية الجم الغفير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه كان عبدا.
2598 - فروى القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، ومجاهد، وعمرة بنت عبد الرحمن، كلهم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه كان عبدا، والقاسم هو ابن أخي عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعروة هو ابن أختها، وكانا يدخلان عليها بلا حجاب، وعمرة كانت في حجرها، ولا ريب أن رواية الجم الغفير الخصيص، أولى من الفرد البعيد.
2599 - قال إبراهيم بن أبي طالب خالف الأسود الناس في زوج بريرة، فقال: إنه حر، وقال الناس: إنه عبد.
2600 - ويؤيد هذا أن مذهب عائشة أنه لا يثبت الخيار تحت الحر، ثم لو قدر تساوي روايته لرواية غيره فتتعارض روايتا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وتسلم رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ودعوى أنه كان عبدا مجاز، والأصل الحقيقة.(5/255)
2601 - مع أنه قد روى الإمام أحمد في المسند عن القاسم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن بريرة كانت تحت عبد، فلما أعتقتها قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اختاري، فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد، وإن شئت أن تفارقيه» » قال بعض الحفاظ: وإسناده جيد. وهذا تصريح بعبوديته في الحال.
ومفهوم كلام الخرقي أيضا أنهما إذا عتقا معا أنه لا خيار لها أيضا، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر والشيخين وغيرهما، وقال القاضي في بعض كتبه: إنها قياس المذهب، لنص أحمد على أن عتقه قبل اختيارها يسقط خيارها، فأولى أن لا يثبت لها إذا عتقا معا وذلك لأن السبب المقتضي للفسخ قارنه ما يقتضي إلغاءه، وهو حرية الزوج، فمنع إعماله (والرواية الثانية) - وهي أنصهما، وصححها القاضي في الروايتين - يثبت لها الخيار، لأنها كملت بالحرية تحت من لم تسبق له حرية، فملكت الفسخ، كما لو عتقت قبل الزوج.
2602 - وقد روى أبو داود والنسائي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها زوج، قال: فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة» ، والظاهر أن ذلك حذارا من ثبوت(5/256)
الخيار لها بعتقهما معا، وأجيب بأن الأمر بذلك خشية أن تبدأ بعتق المرأة.
(تنبيه) ولا يفتقر الفسخ هنا إلى حكم حاكم، لأنه مجمع عليه، والله أعلم.
قال: فإن أعتق قبل أن تختار أو وطئها بطل خيارها، علمت أن لها الخيار أو لم تعلم.
ش: أما بطلان خيارها بعتقه قبل أن تختار فلأن الخيار لدفع الضرر بالرق، وقد زال فيسقط كالمبيع إذا زال عيبه وكما لو تزوجته وبه جنون ونحوه، فزال قبل أن تختار، وقيل: إنه وقع للقاضي وابن عقيل ما يقتضي أنه لا يسقط، كما لو عتقا معا، والأول المذهب المصرح به عند القاضي وغيره، وعليه لو أعتق بعضه فالخيار بحاله، كما هو مقتضى كلام الخرقي.
2603 - وأما بطلان خيارها بوطئها في الجملة فلما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أعتقت وهي عند مغيث، عبد لآل أحمد، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لها: «إن قربك فلا خيار لك» » رواه أبو داود، ولا فرق في بطلان خيارها بالوطء بين أن(5/257)
تعلم أن لها الخيار أو لم تعلم، وهو أنص الروايتين، واختيار الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي في الجامع والمجرد، لعموم الحديث، ولأن الجهل بالأحكام لا يعذر به، إذ يلزمه السؤال والتعلم. (والرواية الثانية) : لا يبطل خيارها والحال هذه، حكاها أبو محمد في المغني عن القاضي وأصحابه، وفي الكافي عن القاضي وأبي الخطاب، إذ بطلان الخيار يعتمد الرضى، ومع عدم العلم بثبوت الخيار لا رضى، فعلى هذا تقبل دعواها الجهل، قاله أبو محمد، إذ لا يعرف ذلك إلا الخواص، وقيده ابن عقيل بأن يكون مثلها يجهله، أما المتفقهة فلا تقبل دعواها، وحكم مباشرته لها حكم وطئها، وكذلك تقبيلها له، إذ مناط المسألة ما يدل على الرضى.
(تنبيه) تقبل دعواها الجهل بالعتق فيما إذا وطئها، نظرا للأصل وهو عدم العلم، وإذا لا رضى، فالخيار بحاله، هذا هو المذهب المشهور المختار لعامة الأصحاب، وعن القاضي في الجامع الكبير: يبطل خيارها، لعموم الحديث، فعلى الأول شرط القبول أن يكون مما يخفى عليها، كأن يكون العتق في غير(5/258)
بلدها ونحو ذلك، أما إن كان في بلدها ولا يخفى عليها لاشتهاره، أو لكونه في داره ونحو ذلك، لم يقبل قولها، لأن قرينة الحال تكذبها، انتهى ولم يعتبر الأصحاب العلم بأن الوطء مبطل، فلو علمت العتق وعلمت ثبوت الخيار به، ومكنت جاهلة بحكم الوطء، بطل خيارها والله أعلم.
قال: وإن كانت لنفسين فأعتق أحدهما فلا خيار لها إذا كان المعتق معسرا.
ش: إذا كانت الأمة لنفسين، فأعتق أحدهما نصيبه وهو معسر، فلا خيار لها، على المختار من الروايتين، اختارها ابن أبي موسى والقاضي وأبو محمد وغيرهم، لأنه لا نص فيها، ولا يصح قياسها على المنصوص، لأن كاملة الحرية أكمل من ناقصتها، وعلله أحمد بأن النكاح صحيح، فلا يفسخ بالمختلف، (والرواية الثانية) لها الخيار، اختارها أبو بكر في الخلاف، لأنها قد صارت أكمل منه، فيثبت لها الخيار، كما لو عتق جميعها، وقوله: إذا كان معسرا. يحترز عما إذا كان موسرا، فإن العتق يسري، ويثبت لها الخيار بلا ريب، وقد علم من هذا أن هذا الخلاف على قولنا(5/259)
بعدم الاستسعاء، أما إن قلنا به، وأن العتق يتنجز فيثبت لها الخيار، والله أعلم.
قال: وإن اختارت المقام معه قبل الدخول أو بعده فالمهر للسيد.
ش: أما قبل الدخول فلأنه قد وجب للسيد بالعقد، ولم يوجد له مسقط، وكذلك بعد الدخول بل أولى، لاستقراره بذلك، والله أعلم.
قال: وإن اختارت الفسخ قبل الدخول فلا مهر.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد وغيره، نظرا إلى أن الفرقة جاءت من جهتها، أشبه ما لو ارتدت (والثانية) : يجب لسيدها نصف المهر، اختارها أبو بكر، نظرا إلى أن المهر وجب للسيد، فلا يسقط بفعل غيره، وأجاب أبو محمد بأنه وإن وجب له لكن بواسطتها، ويرد بالأمة الزانية على المذهب، وقيل عنه: يجب كله. وبعد، انتهى، فلو كانت مفوضة فلا متعة على الأول، وعلى الثاني تجب للسيد، والله أعلم.
قال: وإن اختارته بعد الدخول فالمهر للسيد.
ش: إذا اختارت الفسخ بعد الدخول فالمهر للسيد، لما تقدم من استقرار المهر بالدخول، والله أعلم.(5/260)
[باب أجل العنين والخصي غير المجبوب]
ش: العنين العاجز عند الوطء، وربما اشتهاه ولا يمكنه، مشتق من عن الشيء، إذا عرض، وقيل: الذي له ذكر لا ينتشر، والخصي من قطعت خصيتاه، وفي معناه الموجوء، وهو المرضوض والمسلول وهو الذي سلت بيضتاه، أما المجبوب فهو الذي قطع ذكره، وقد تقدم حكمه.
قال: وإذا ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها أجل سنة منذ ترافعه إلى الحاكم فإن لم يصبها فيها خيرت في المقام معه أو فراقه، فإن اختارت فراقه كان ذلك فسخا بلا طلاق.
ش: إذا ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إلى جماعها، فإن اعترف الزوج بذلك أجل سنة على المذهب المنصوص، والمختار لعامة الأصحاب.
2604 - لما روي عن سعيد بن المسيب عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أجل العنين سنة.
2605 - وعن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يؤجل سنة، فإن أتاها وإلا فرق بينهما. رواهما الدارقطني.(5/261)
2606 - وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: العنين يؤجل سنة، ولأن عجزه عن الوصول إليها يحتمل أن يكون لمرض، فيضرب له سنة، لتمر عليه الفصول الأربعة، فإن كان من يبس زال في زمن الرطوبة، وإن كان من رطوبة زال في زمن الحرارة، وإن كان من انحراف مزاج زال في زمن الاعتدال، فإذا مضت الفصول ولم يزل علم أنه خلقة وجبلة، واختار أبو بكر وأبو البركات أنه لا يؤجل، ويفسخ في الحال، كالجب، ولأن المقتضي للفسخ قد وجد، وزواله محتمل، والأصل والظاهر عدمه، وإن لم يعترف الزوج بذلك، ولم يدع وطأ فهل القول قوله، قاله أبو الخطاب في(5/262)
الهداية، والقاضي في التعليق وفي غيره، لأنه منكر، لا سيما وقد عضده أن الأصل السلامة، أو القول قولها، فيؤجل بمجرد دعواها، وهو ظاهر قول الخرقي، ووقع للقاضي في التعليق في موضع آخر لأن الأصل عدم الوطء أو القول قوله إن كانت ثيبا، وإن كانت بكرا أجل بقولها، وهو الذي جزم به في المغني، لاعتضاد عدم الوطء بالبكارة، على ثلاثة أقوال، وعلى الأول يحلف على الصحيح من الوجهين، فإن نكل قضي عليه وأجل، وقيل: لا يحلف كمدعي الطلاق انتهى. وحيث أجل فإن ابتداء التأجيل من حين رفعته إلى الحاكم، لأنها مدة مختلف فيها، فاحتيج في ضربها إلى الحاكم، بخلاف مدة الإيلاء، ثم إن أصابها في المدة المضروبة فقد تبينا أن لا عنة، وإن لم يصبها فيها خيرت بين المقام معه وبين فراقه، لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذلك، وكما لو امتنع الوطء من جهتها برتق ونحوه، لا يقال: الوطء حق للرجل دون المرأة، لأنا نقول: بل هو حق لهما، بدليل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ؛ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ومن الإمساك بالمعروف الجماع.(5/263)
2607 - ولا يرد حديث امرأة رفاعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث أخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعنة زوجها، ولم يجعل لها الفسخ، لأن ابن عبد البر قال: صح أن ذلك كان بعد طلاقه، فلا معنى لثبوت الفسخ لها على أنا لا نسلم عنته، بل كان ضعيف الجماع، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى تذوقي عسيلته» ، وذوق العسيلة موقوف على إمكان الجماع، انتهى، ومن اختارت الفراق رجع إلى الحاكم، للاختلاف فيه، فإما أن يفسخ باختيارها، وإما أن يرده إليها، فتفسخ، ويقع الفراق فسخا لا طلاقا.
وقول الخرقي: والخصي، ظاهره أن حكمه حكم العنين، وكذا ترجم القاضي في الجامع، فيجري فيه ما تقدم، قال أبو محمد: وقد قيل: إن وطأه أكثر من وطء غيره، وقوله: غير(5/264)
المجبوب. مقتضاه أن المجبوب لا يثبت فيه هذا الحكم، وقد تقدم له أن المجبوب يثبت لامرأته الفسخ في الحال، لكن قال أبو محمد في المغني: إذا بقي من ذكر المجبوب ما يمكن الوطء به، الأولى ضرب المدة، وبعده أبو العباس، بأنه لا يتجدد له قدرة لم تكن، بخلاف العنين، والله أعلم.
قال: فإن قال: قد علمت أني عنين قبل أن أنكحها. فإن أقرت أو ثبت ما قال ببينة، فلا يؤجل، وهي امرأته.
ش: إذا ادعت المرأة عنة الرجل، فادعى أنها علمت ذلك قبل أن ينكحها، فإن أنكرت فالقول قولها مع يمينها، إذ الأصل عدم علمها، ويؤجل، وإن أقرت بذلك، أو أنكرت فأقام بينة بما ادعاه، فلا يؤجل، وهي امرأته، لا سبيل لها إلى فسخ العقد بحال، لأنها دخلت على بصيرة، أشبه ما لو علمته مجبوبا ونحو ذلك، والله أعلم.
قال: وإن علمت أنه عنين بعد الدخول، فسكتت عن المطالبة، ثم طالبت بعد، فلها ذلك، ويؤجل سنة من يوم ترافعه.
ش: لأن نفس السكوت لا يدل على الرضى، وقد أخذ من هذا القاضي، وأبو محمد أن الخيار في العيوب على التراخي، وهو اختيار القاضي في الجامع، وأبي الخطاب في الهداية، والشيخين وغيرهم، لأنه لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي،(5/265)
كخيار القصاص، وحد القذف، وعكسه خيار الشفعة والمجبرة، فإن ضرره غير متحقق، وقال القاضي في المجرد، وابن عقيل، وابن البنا في الخصال: إنه على الفور، لأنه لدفع ضرر، أشبه خيار الشفعة، قال ابن عقيل: ومعناه أن المطالبة بحق الفسخ تكون على الفور، فمتى أخر ما لم تجر العادة به بطل، لأن الفسخ على الفور، وعلى الأول لا يسقط الخيار إلا بما يدل على الرضى من قول، أو استمتاع أو تمكين منه، ونحو ذلك، ولا يعتبر التصريح بالرضا، لأن الدال على الشيء قائم مقامه، ومنزل منزلته، واستثنى من ذلك أبو البركات خيار العنة، لا يسقط إلا بالقول، لا يسقط بالتمكين من الاستمتاع ونحوه، إذ عنته إنما تعلم بعجزه عن الوطء، وذلك لا بد فيه من التمكين من الوطء، وقال أبو العباس: إنه لم يجد هذه التفرقة لغيره، وجعل أنه متى أمكنته في حال لها الفسخ سقط خيارها، وحيث لم يثبت لها الفسخ، وإن ثبت العيب لا عبرة بتمكينها، ولا فرق في ذلك بين العنة وغيرها، والله أعلم.
قال: فإن قالت في وقت من الأوقات: قد رضيت به عنينا. لم تكن لها المطالبة بعد.
ش: إذا قالت المرأة في وقت من الأوقات - قبل العقد أو بعده، وقبل التأجيل أو بعده، وقبل مضي الأجل أو بعد مضيه -: قد رضيت به عنينا، سقط خيارها، ولم يكن لها المطالبة بعد،(5/266)
وذلك لأنها صرحت برضاها به معيبا، أشبه ما لو رضيت به مجبوبا ونحوه، ومن هنا والله أعلم أخذ أبو البركات أن خيار العنة لا يسقط إلا بالقول، والله أعلم.
قال: وإن اعترفت أنه قد وصل إليها مرة، بطل أن يكون عنينا.
ش: كذا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وغيره، ولا نزاع في ذلك، إذا كان الوصول في الفرج في هذا النكاح، لتحقق قدرته على الوطء، أما لو كان الوصول في الدبر، أو في نكاح سابق، فوجهان (أحدهما) يزول، ويحتمله إطلاق الخرقي، وهو مقتضى قول أبي بكر، لقوله: إن العنين يختبر بتزويج امرأة من بيت المال، وذلك لأن العنة خلقة وجبلة، فلا تختلف باختلاف الأوقات والمحال (والثاني) وهو اختيار القاضي، وأبي الخطاب وأبي محمد وغيرهم، لا يزول، إذ الفسخ ثبت لها دفعا للضرر الحاصل لها بعدم وطئها في هذا النكاح في محل الوطء، فلا يزول بغير ذلك، لبقاء الضرر، ولعل هذين الوجهين مبنيان على تصور طريان العنة، وقد وقع للقاضي وابن عقيل أنها لا تطرأ، وكلامهما هنا يدل على طريانها، وقال ابن حمدان: إنه الأصح.
وعموم كلام الخرقي يقتضي أن عنته تزول بالوصول إليها، وإن كان محرما، كما إذا وطئها، وهي حائض أو نفساء ونحو ذلك، وهو الصحيح من الوجهين، لتحقق قدرته على الوطء، والوجه(5/267)
الآخر: لا تزول، كما لا تحصل به الإباحة للزوج الأول، ولو كان التحريم لأمر خارجي عن المحل، كما لو وطئها وهو في المسجد، أو وهو مانع لصداقها زالت به العنة قولا واحدا ذكره القاضي، وعكسه لو وطئها في حال الردة، لا تزول به العنة، ذكره القاضي في الجامع محل وفاق مع الشافعية.
(تنبيه) والوطء الذي يخرج به من العنة في حق سليم الذكر غيبوبة الحشفة في الفرج، كسائر أحكام الوطء، وقيل يشترط إيلاج جميعه، إذ الحشفة قد تدخل بمعالجة، فلا يعلم دخولها باعتماد من الذكر، وفي حق مقطوع الذكر بقدر الحشفة، كما لو كان سليما، وقيل لا بد هنا من تغييب الباقي، قاله القاضي في الجامع، إذ لا حد هنا يعتبر، والله أعلم.
قال: وإن جب قبل الحلول كان لها الخيار في وقتها.
ش: يعني إذا أجلناه فجب ذكره قبل الحول، فلها الخيار في الحال، لأنه قد تحقق عجزه عن الوطء والحال هذه، فلا حاجة إلى انتظار الحول، وقد تقدم أن القاضي وغيره أخذوا من هذا ثبوت الخيار(5/268)
بالعيب الحادث، قال أبو محمد: ويحتمل أن ثبوت الفسخ هنا بالجب الحادث لتضمنه مقصود العنة في العجز عن الوطء، بخلاف غيره من العيوب، والله أعلم.
قال: وإن زعم أنه قد وصل إليها، وقالت: أنا عذراء أريت النساء الثقات، فإن شهدت بما قالت أجل سنة.
ش: يعني إذا أنكر العنة، وادعى أنه وصل إليها، وقالت: أنا عذراء. فإنها ترى النساء، فإن شهدن بما قالت فالقول قولها، فيؤجل، لأنه قد ظهر كذب دعواه، وهل تجب عليها اليمين إن قال: أزلت بكارتها ثم عادت؟ فيه احتمالان، (أحدهما) - وبه قطع القاضي، وأبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات وغيرهم - تجب، لأن ما ادعاه محتمل، (والثاني) - ويحتمله كلام الخرقي، وابن أبي موسى -: لا تجب، لأن ما يبعد جدا لا التفات إليه كاحتمال كذب البينة، وإن شهدت بزوال عذرتها فالقول قول الزوج، لتبين كذبها، فلا يؤجل، ولا يمين، حذارا من مخالفة الأصل، وهو وجوب اليمين مع البينة إلا إن قالت: زالت بغير ما ادعاه.
وقول الخرقي: أريت النساء. المراد به الجنس، إذ يكتفى بامرأة في رواية مشهورة، وفي أخرى بامرأتين، والله أعلم.(5/269)
قال: وإن كانت ثيبا وادعى أنه يصل إليها، أخلي معها، وقيل له: أخرج ماءك على شيء. فإن ادعت أنه ليس بمني، جعل على النار، فإن ذاب فهو مني، وبطل قولها، وقد روي عن أبي عبد الله قول آخر أن القول قوله مع يمينه.
ش: (الأول) رواه مهنا، وأبو داود، وأبو الحرث وغيرهم، واختاره القاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافاتهم، والشيرازي، إذ بذلك يظهر صدقه أو صدقها، إذ الغالب أن العنين لا ينزل، فمع الإنزال يغلب على الظن كذبها، فيكون(5/270)
القول قوله، ومع عدم الإنزال يظهر صدقها، فيكون القول قولها، ومع الإنزال إذا أنكرت أنه مني يختبر بجعله على النار، فإن ذاب فهو مني، إذ ذلك من علاماته، وإن يبس وتجمع فهو بياض بيض (والثاني) نقله ابن منصور، واختاره أبو محمد، والقاضي في روايتيه، لأنها تدعي عليه ما يقتضي فسخ العقد، والأصل عدمه، وبقاء النكاح، وتجب عليه اليمين على الصحيح.
2608 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعي عليه» ، قال القاضي: ويتخرج أن لا يمين، بناء على إنكار الطلاق (وعنه رواية ثالثة) نقلها ابن منصور أيضا: القول قولها، إذ الأصل عدم الوطء، وتجب عليها اليمين على الصحيح أيضا، لما تقدم، وقيل: لا، بناء على أن لا استحلاف في غير المال.
واعلم أن هذه الرواية الأخيرة خصها أبو البركات بما إذا ادعى الوطء بعد ما ثبتت عنته وأجل، لأنه انضم إلى عدم الوطء وجود ما يقتضي الفسخ، وجعل على هذه الرواية إذا ادعى الوطء ابتداء، وأنكر العنة القول قوله مع يمينه، وأطلقها جمهور الأصحاب، ولفظها يشهد لهم، قال: إذا ادعت المرأة أن زوجها لا يصل إليها استحلفت انتهى، وقال أبو بكر في التنبيه: يزوج امرأة من بيت المال، قال القاضي: لها دين، وقال أبو(5/271)
محمد: لها حظ من الجمال: فإن ذكرت أنه قربها كذبت الأولى، وخيرت الثانية في الإقامة والفراق، ويكون الصداق من بيت المال، وإن كذبته فرق بينه وبين الأولى، وكان الصداق عليه في ماله.
2608 - م - واعتمد في ذلك على ما روي أن امرأة جاءت إلى سمرة فشكت أنه لا يصل إليها زوجها، فكتب إلى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه أن زوجه امرأة ذات جمال، يذكر عنها الصلاح، وسق إليها المهر من بيت المال، فإن أصابها فقد كذبت، وإن لم يصبها فقد صدقت، ففعل سمرة ذلك، فجاءت المرأة فقالت: ليس عنده شيء. ففرق بينهما، والله أعلم.
[نكاح الخنثى المشكل]
قال: وإذا قال الخنثى المشكل: أنا رجل. لم يمنع من نكاح النساء، ولم يكن له أن ينكح بغير ذلك بعد، وكذلك لو سبق فقال: أنا امرأة لم ينكح إلا رجلا.
ش: يرجع إلى الخنثى المشكل في التزويج، فإذا قال: أنا رجل. كان له نكاح النساء، وإن قال: أنا امرأة، كان له نكاح الرجال، على قول الخرقي، واختاره القاضي في الروايتين، لأن الله سبحانه أجرى العادة في الحيوانات بميل الذكر إلى الأنثى، وميلها إليه، وهذا الميل في النفس لا يطلع عليه غيره، فرجع فيه إليه، لتعذر معرفته من غيره، كما يرجع إلى المرأة في حيضها(5/272)
وعدتها، ومنصوص أحمد في رواية الميموني أنه لا يزوج ولا يتزوج حتى يتبين أمره، واختاره أبو بكر، وابن عقيل، لأنه مشكوك في حله للرجال والنساء، فلم يحل نكاحه حتى يتبين أمره، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية، ولا تفريع على هذا أما على قول الخرقي فلو رجع عن قوله الأول، بأن قال: أنا رجل، ثم قال: أنا امرأة، أو بالعكس، فلا يخلو إما أن يكون متزوجا أو غير متزوج، فإن كان غير متزوج منع من نكاح الرجال والنساء، على ظاهر كلام أبي محمد في الكافي، واختاره أبو البركات، لأنه بإقراره مثلا أنه رجل أقر بتحريم الرجال عليه، ثم بقوله ثانيا: إنه امرأة أقر بتحريم النساء عليه.
وظاهر كلام الخرقي والأصحاب أن له نكاح ما أبيح له أولا، ولا يعول على قوله بعد، وإن كان متزوجا انفسخ نكاحه من المرأة، لأن النكاح حق للرجل، وقد أقر بما يبطله، أشبه ما لو قال: هي أختي من الرضاع ولا ينفسخ نكاحه من الرجل، لأن النكاح والحال هذه حق عليه، فلا يقبل قوله في إسقاط حق الغير، قال ذلك الشيخان، وقال القاضي: إذا تزوج امرأة ثم عاد، أو بالعكس لم يقبل، ويجري الحكم في النكاح على القول(5/273)
الأول، وعلله بأنه يتهم في رفع فراش الرجل إذا عاد فقال: أنا رجل، ويتهم في قصد فسخ النكاح، ليسقط عنه مهر المرأة إذا عاد فقال: أنا امرأة. وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب، وابن عقيل انتهى، وفي نكاحه لما يستقبل ما تقدم من قول الأصحاب، وقول أبي البركات والله أعلم.
[ما يحصل به الإحصان الذي يجب به الرجم]
قال: وإذا أصاب الرجل، أو أصيبت المرأة بعد الحرية والبلوغ بنكاح صحيح، وليس واحد منهما بزائل العقل، رجما إذا زنيا.
ش: ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا ما يحصل به الإحصان الذي يجب به الرجم بالزنا، وهو الإصابة، كأن يطأ الرجل المرأة في القبل، أو توطأ المرأة كذلك.
2609 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب الجلد والرجم» والثيابة إنما تحصل بالوطء في القبل، ويشترط في هذه الإصابة شروط (أحدها) أن تغيب الحشفة أو قدرها، إذ الأحكام إنما تترتب على ذلك، ولا تكفي الخلوة بلا خلاف، قاله أبو محمد (الثاني) أن يكون بعد الحرية والعقل، لأن الإحصان كمال، فيشترط أن يكون في حال الكمال، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على الثيب الرجم، فلو حصل الإحصان بذلك لجاز رجم العبد(5/274)
والمجنون، ولا يجوز (الثالث) أن يكون بعد البلوغ على الصحيح المعروف لما تقدم، وعن ابن أبي موسى: يتحصن البالغ بوطء المراهقة، وتتحصن البالغة بوطء المراهق، لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه (الرابع) أن يكون بنكاح، فلا إحصان لواطئ بشبهة، أو ملك يمين ونحو ذلك إجماعا، إذ النعمة إنما تكمل بالوطء بذلك، ويشترط في النكاح أن يكون صحيحا، إذ الفاسد ليس بنكاح شرعي.
(تنبيه) يشترط أن تكون الموطوءة مثل الواطئ في الكمال، فيطأ الحر المكلف حرة مكلفة فلو وطئ الحر المكلف بنكاح صحيح رقيقة أو مجنونة فلا إحصان لهما، والله أعلم.
قال: والكافر والمسلم الحران فيما وصفت سواء.
ش: يعني أنه لا يشترط للإحصان الإسلام، بل يحصل الإحصان للذميين، كما يحصل للمسلمين، بالشروط السابقة.
2610 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم اليهوديين اللذين زنيا، اقتداء بقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] فدل على أنهما قد أحصنا، فتحصن الذمية زوجها المسلم، كما تحصن الذمي، على(5/275)
المذهب المشهور لما تقدم، (وعنه) لا تحصنه، لأنها أنقص منه، فأشبهت الرقيقة.
(تنبيه) كثير من الأصحاب يفرض المسألة في الذمي، وبعضهم زاد معه المستأمن، وهو واضح، لأن له ذمة، وكلام الخرقي يشمل كل كافر، وتبعه على ذلك أبو البركات، ولعله أمشى على قولهم أن حكم نكاح الكفار حكم نكاح المسلمين، وقال ابن حمدان: والمجوسي لا يتحصن بوطء ذات رحمه المحرم. والله أعلم.(5/276)
كتاب الصداق ش: الصداق العوض الواجب في عقد النكاح أو ما قام مقامه، فالواجب يشمل المسمى ومهر المثل، إن لم يكن مسمى، وما قام مقام النكاح، ليدخل وطء الشبهة، وله ثمانية أسماء (الصداق) ، (والنحلة) ، قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] (والأجر) (والفريضة) ، قال الله سبحانه: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] .
2611 - (والمهر) قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها» .
2612 - (والعلائق) يروى «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أدوا العلائق؟» قالوا: يا رسول الله وما العلائق؟ قال: «ما يرضى به الأهلون»(5/277)
(والعقر) بضم العين، وسكون القاف.
2613 - قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لها عقر نسائها. (والحباء) ممدودا بكسر الحاء، قال الشاعر:
أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم
والأصل في مشروعيته الإجماع، وقد دل عليه ما تقدم من(5/278)
الآيتين، وقَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] الآية.
2614 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع من زعفران، فقال: «مهيم؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، قال: «ما أصدقتها؟» قال: وزن نواة من ذهب» . رواه الجماعة.
(تنبيه) : (ردع) فتح الراء، وسكون الدال المهملتين، أي لطخ وأثر لم يعمه كله، وروي: درع (ومهيم) بفتح الميم كلمة يمانية، أي ما هذا وما شأنك؟ (ووزن نواة) اسم لما زنته خمسة دراهم، ذهبا كان أو فضة، كالأوقية للأربعين على الأشهر، وقيل: كانت قدر نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم ونصف، وقيل ثلاثة دراهم وربع، وقيل: ربع دينار. والله أعلم.(5/279)
[مقدار الصداق وما يشترط فيه]
قال: وإذا كانت المرأة بالغة رشيدة أو صغيرة عقد عليها أبوها بأي صداق اتفقوا عليه فهو جائز، إذا كان شيئا له نصف يحصل.
ش: وضع هذه المسألة أن الصداق يجوز بما اتفقوا عليه من قليل أو كثير، ولا يتقدر أقله بعشرة دراهم ولا غيرها، ولا أكثره، (أما الأول) فلما تقدم من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] والدرهم والدرهمان مال، فيدخل في الآية الكريمة.
2615 - وعن عامر بن ربيعة أن «امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرضيت من نفسك بنعلين؟» قالت: نعم. فأجازه رسول الله» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه أحمد وابن ماجه، والترمذي وصححه.(5/280)
2616 - وعن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل» رواه أبو داود وغيره.
2617 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أراد أن يتزوج الموهوبة: «التمس ولو خاتما من حديد» ، ومعلوم أن الخاتم الحديد لا يساوي عشرة دراهم، وحمله على خاتم من حديد صيني يساويها، حمل للفظ على معناه النادر دون المعتاد، لا سيما والتنكير في مثل هذا المقام للتقليل، لكن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشترط أن يكون له نصف يحصل، فلا يجوز على فلس ونحوه، حذارا من أن(5/281)
يبتغي بغير مال، كما إذا طلقها قبل الدخول، وتبعه على ذلك ابن عقيل في الفصول، وأبو محمد، وفسره بنصف يتمول عادة، وليس في كلام أحمد هذا الشرط، وكذا كثير من أصحابه، حتى بالغ ابن عقيل في ضمن كلام له، فجوز الصداق بالحبة والتمرة التي ينتبذ مثلها ولا يعرف.
وأما (الثاني) فلظاهر قول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] الآية.
2618 - قال أبو صالح: القنطار مائة رطل، وهو عرف الناس اليوم.
2619 - وقال أبو سعيد الخدري: ملء مسك ثور ذهبا.
2620 - وعن مجاهد: سبعون ألف مثقال.(5/282)
2621 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أصدق أم كلثوم ابنة علي أربعين ألفا، رواه أبو حفص، مع أن هذا إجماع حكاه ابن عبد البر وغيره، لكن الأولى تقليل المهر وتخفيفه.
2622 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة» رواه أحمد.
2623 - وعن أبي العجفاء، قال: لا تغالوا بصدق النساء، فإنه لو(5/283)
كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، كان أولاكم بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. رواه الخمسة، وصححه الترمذي. وكماله عشرة دراهم، على ظاهر كلام القاضي أبي يعلى الصغير، خروجا من الخلاف، واتفق الكل على أن المستحب أن لا يزيد على صداق أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته، تأسيا به، وطلبا لبركته والاقتداء به، وهو من أربع مائة درهم إلى خمس مائة، لما تقدم عن عمر.
2624 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كم كان صداق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما(5/284)
النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم، هذا صداق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأزواجه. رواه مسلم، وكلام أحمد في رواية حنبل يقتضي أنه بلغه أن صداق بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعمائة درهم.
وقد تضمن كلام الخرقي أن من شرط صحة التسمية الرضى ممن هو معتبر منه، ولا نزاع في ذلك، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] .
2625 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «العلائق ما تراضى عليه الأهلون» ثم إن كان العاقد الأب وهي صغيرة فالرضى منوط به، وإن كانت بالغة رشيدة اعتبر رضاها، نعم للأب أن يزوجها بدون صداق مثلها، كما تقدم في أول كتاب النكاح، والله أعلم.(5/285)
(تنبيه) وجوب المهر في ابتداء النكاح هل هو حق لله تعالى أو للآدمي؟ فيه وجهان: (أحدهما) : أنه حق للآدمي، قاله القاضي في التعليق، في ضمن مسألة أقل الصداق، وفي تزويج الدنيء بغير مهر، وفي فساد المهر، وهو قول كثير من أصحابه في الخلاف، وبنوا عليه تزويج عبده من أمته ولا مهر، وذلك لأنه يسقط بالعفو بعد وجوبه، ولو كان حقا لله تعالى لما سقط. (والثاني) : أنه حق لله تعالى، قاله القاضي أبو يعلى الصغير، وابن عقيل في موضع، وهو قياس المنصوص في وجوب المهر فيما إذا زوج عبده من أمته، وذلك لأنه يجب مهر المثل للمفوضة، وإن رضيت بسقوطه، وهذا هو مأخذ المفوضة عند القاضي أبي يعلى الصغير، والقاضي يجيب عن ذلك بأنه إسقاط للحق قبل وجوبه فلذلك لم يسقط، والله أعلم.
قال: وإذا أصدقها عبدا بعينه، فوجدت به عيبا فردته به كان لها عليه قيمته.
ش: إذا أصدقها عبدا بعينه - كأن قال: تزوجتك على هذا العبد، فوجدت به عيبا، فإن لها رده وإن كان العيب يسيرا، بلا نزاع بين أصحابنا فيما نعلم، كالمبيع المعيب، فإذا ردته فلها قيمته صحيحا، لأنها قد رضيت ببذل نفسها بذلك، لا بما دونه، ولو كان الصداق مثليا والحال هذه، فردته فلها مثله،(5/286)
فإن اختارت الإمساك وأخذ الأرش كان لها ذلك على المشهور، كالمبيع المعيب، ونقل عنه مهنا ما يدل على أنه لا أرش مع الإمساك، وأظن هذا أصل الرواية المذكورة في البيع، ولعله ظاهر كلام الخرقي هنا، وذلك لأن الأرش زيادة في الصداق لم يلتزمها الزوج، ولا رضي بها، والأرش هنا والله أعلم قيمة الجزء الفائت، ولو كان الصداق على عبد في الذمة، فسلمه لها فوجدت به عيبا، فالواجب إبداله لا أرش ولا قيمة، لأنا قد تبينا أنه قد سلم غير الواجب عليه، فالواجب باق في ذمته، فيجب دفعه، ووقع لأبي محمد في عوض الكتابة إذا بان معيبا أنه يخير بين الرد، والإمساك مع الأرش، وعوض الكتابة إنما يكون في الذمة، وهو سهو، والله أعلم.
قال: وكذلك إن خرج حرا أو استحق، سواء سلمه إليها أو لم يسلمه.
ش: كذلك إذا تزوجها على عبد بعينه فخرج حرا، أو استحق بأن بان غصبا ونحو ذلك، فإن لها قيمته، لأنه قد تعذر تسليمه، فوجب الرجوع إلى بدله، إذ البدل يقوم مقام المبدل عند تعذره، وتعتبر القيمة يوم التزويج، قاله القاضي في التعليق.(5/287)
وقد تضمن كلام الخرقي صحة النكاح، ولا نزاع في ذلك، وتضمن كلام الخرقي أيضا وكلام الأصحاب والإمام أنها إذا ردت الصداق بالعيب في المسألة السابقة، أو خرج حرا أو مغصوبا أنها لا ترجع في مقابله وهو نفسها، فيفسخ النكاح، ولا يجب لها بدل ذلك، وهو مهر المثل، وعلل بأنها رضيت بما سمي لها، فلا ترجع إلا إلى بدله، وقد يقال: إن قاعدة المعاوضات خلاف هذا، لأنها متى فسخت في الثمن وتعذر الرجوع في العين المبيعة، فإنها ترجع ببدلها، لا ببدل الثمن، وذلك كما إذا بيع عبد بثوب بشرط الخيار ثلاثا فأعتق المشتري العبد أو تلف، وفسخ البائع البيع في الثوب، على إحدى الروايتين، فإنه يرجع ببدل العبد، لا بقيمة الثوب، وقياس هذا هنا أنه يرجع بمهر المثل، وقد يجاب عن هذا بأن ثم إنما وجب بدل العبد، لا بدل الثوب، لأن العقد انفسخ، ومع الانفساخ يرجع كل واحد منهما إلى ما خرج عنه، وقد تعذر الرجوع في العبد، فيرجع ببدله لمكان العذر، وليس هنا كذلك، إذ العقد لا ينفسخ بذلك، لأنه لا يفسد بفساد الصداق، ولا بعدمه، فبكونه معيبا أولى، وغايته أنه قد عدم الصداق في العقد، وذلك لا يفسده، وأبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بعض قواعده ينازع في هذا الأصل، ويختار أن للمرأة الفسخ، كما للبائع والمؤجر الفسخ مع العيب، والرجوع في العين المبيعة والمؤجرة، والجامع أنه عقد(5/288)
معاوضة، بل هنا أولى، إذ المال والمنفعة يجوز بذلهما بغير عوض، أما النكاح فلا يجوز إلا بصداق، ولأن للمرأة الفسخ إذا ظهر الزوج معسرا قبل الدخول، كما لو ظهر معسرا بالثمن، فلها الفسخ إذا بان عيبه، أو ظهر معيبا بل أولى، ألا ترى أن العيب يثبت الفسخ في المبيع بالإجماع، وفي الإفلاس بالثمن بعد القبض نزاع، والبدل يقوم مقام المبدل في الاتلافات لتعذر الأصل، أما في العقود فالمقصود العين، فإذا لم تحصل فات الرضى المشروط، والقول بأن الصداق تابع لا مقصود لا يجدي، فإن الله سبحانه عظم شأن الصداق في كتابه، وأمر بإيتائه، وعلق الحل عليه، ونهى عن أخذ شيء منه إلا عند تعدي الحدود، فشأنه أعظم من شأن الثمن والأجرة، والوفاء به أوجب.
2626 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» والله أعلم.
قال: وإذا تزوجها على أن يشتري لها عبدا بعينه، فلم يبع، أو طلب به أكثر من قيمته، أو لم يقدر عليه فلها قيمته.(5/289)
ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الأثرم، وقاله القاضي، وأبو محمد وغيرهما، (وهو دال بتضمنه) على أن التسمية صحيحة إذا، غايته وقصاراه أنه أصدقها ملك الغير، وذلك لا يمنع الصحة، كما لو تزوجها على عبد فخرج حرا، ولأن هذا غرر يسير فيحتمل، إذ المعاوضة في الصداق ليست بمحضة، إذ المقصود الأعظم إنما هو الوصل والاستمتاع، ومقتضى كلام أبي بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هذه التسمية لا تصح، قال في مقنعه: النكاح كالبيع، لا يصح إلا على معلوم كالبيع، وذلك، لأنه عقد معاوضة، فأشبه البيع، (ودل بمنطوقه) على أنه متى لم يبع العبد سيده أو طلب فيه أكثر من قيمته، أو لم يقدر عليه لإباقه أو غير ذلك أن لها قيمته، لما تقدم في التي قبلها، وفيه البحث السابق في وجوب مهر المثل، وفي فسخ النكاح، وقد يقال في الزيادة اليسيرة غير المجحفة: يلزم الشراء كما في نظائره.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو قدر على الشراء فبذل القيمة لم يلزمها القبول، وهو اختيار أبي محمد، وقيل: يلزمها، ولعله بناء على ما إذا أصدقها عبدا موصوفا وجاءها بقيمته، والله أعلم.
قال: وإذا تزوجها على خمر أو ما أشبهه من المحرم وهما مسلمان ثبت النكاح، وكان لها مهر المثل أو نصفه إن كان طلقها قبل الدخول.(5/290)
ش: إذا تزوجها على خمر أو ما أشبهه من المحرم، كالخنزير والميتة، والحال أنهما مسلمان، فالنكاح صحيح ثابت، على المشهور من الروايتين، والمختار لجمهور الأصحاب، الخرقي وابن حامد والقاضي، والشريف وأبي الخطاب، وابن عقيل وأبي محمد وغيرهم، حتى بالغ القاضي وأبو محمد فحملا الثانية على الاستحباب، وذلك لإطلاق «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» ظاهره الصحة وإن كان المهر فاسدا، ولأن فساده لا يزيد على عدمه، ولو عدم صح النكاح، فكذلك إذا فسد، ولأن النكاح قد يخلو عن مهر، بدليل تزويج عبده من أمته، على اختيار القاضي، وكثير من أصحابه، وتزويج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا انفرد عنه صح وإن فسد الصداق كالعقدين، (والرواية الثانية) : لا يصح، اختاره الخلال وصاحبه، والجوزجاني، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فجعل سبحانه الحل بالمال، وما ذكر ليس بمال، ولأن النكاح لا بد فيه من مهر، وما رضيا به لا يصح مهرا، وما جعله الشارع وهو مهر المثل لم يرضيا به، حيث سميا مهرا، وإذا يبطل، وتزويجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خصائصه، وتزويج عبده من أمته ممنوع، على(5/291)
المنصوص، ولا تفريع على هذه الرواية، أما على الأولى فيجب لها مهر المثل، لتعذر المسمى، والرجوع في البضع، وإذا ينزل منزلة التالف، فتجب قيمته، وهو مهر المثل، كالمبيع المقبوض بعقد فاسد، وخرج ابن أبي موسى قولا أنه يجب مثل المثلي، وقيمة غيره، بناء على ما إذا جهلا ذلك، ونظرا إلى أن الرضى شيء رضي ببدله، وهذا اختيار أبي العباس، وظاهر إطلاق أحمد في رواية الأثرم إذا تزوج على شيء بعينه، فطلب ذلك الشيء فلم يقدر عليه، إما مملوك فأعتقوه أو رفعوا في ثمنه، وبلغوا به، فلها قيمته، فقيل له: ولا يكون لها صداق مثلها؟ فقال: كيف وقد تزوجت على شيء بعينه، إنما ذلك إذا تزوجها على حكمها فاختلفا؟ انتهى، ولو طلقها والحال هذه قبل الدخول وجب نصف مهر المثل لا المتعة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، والخلاف فيه.
وقول الخرقي: وهما مسلمان. يحترز به عما إذا كانا كافرين، وقد تقدم له ذلك في نكاح أهل الشرك، وقوله: على خمر أو ما أشبهه من المحرم. يحتمل: وما أشبه الخمر من محرم تحريمه لحق الله تعالى، كالخنزير والحر، فيخرج ما إذا كان تحريمه لحق الآدمي، كالمال المغصوب ونحوه، فإنه يصح بلا نزاع، وهذا اختيار(5/292)
الشيخين، وبالغ أبو محمد فحكى الاتفاق عليه، ويحتمل: وما أشبه الخمر في التحريم، فيدخل ما تقدم، وبهذا صرح أبو بكر في التنبيه، وابن أبي موسى، وابن عقيل، وأبو الخطاب وغيرهم، وهو مقتضى نص أحمد الذي أخذ منه البطلان في الأصل، ومما يتبع أن الصداق لو فسد بجهالة أو عدم لا يفسد النكاح، وهو المعروف، حتى قال جماعة: رواية واحد، وشذ الشاشي في الحلية فحكى عن أحمد أن النكاح يفسد بجهالة العوض، وهو مقتضى إطلاق أبي عبد الله ابن تيمية، حيث قال: فإن فسد الصداق لم يؤثر في النكاح، على المشهور من الروايتين.
(تنبيه) محل الخلاف فيما إذا علما بذلك، أما إن جهلاه فإن النكاح يصح، قاله ابن أبي موسى والقاضي، والشيخان وغيرهم، والله أعلم.
قال: وإن تزوجها على ألف لها، وألف لأبيها، كان ذلك جائزا، فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين، ولم يكن على الأب شيء مما أخذ.
ش: إذا تزوجها على ألف لها، وألف لأبيها، جاز ذلك، ولزم الشرط والعقد، نص على هذا أحمد، معللا بأن له أن يأخذ من(5/293)
مال ابنه ما شاء، وهو المذهب عند الأصحاب، القاضي، وابن عقيل، وأبي الخطاب، والشيخين وغير واحد، وذلك لقصة شعيب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فشرط الصداق رعي غنمه، وذلك شرط لنفسه، وإذا جاز اشتراط كل الصداق فبعضه أولى، وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد نسخه.
2627 - وأيضا عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» .
2628 - «المسلمون عند شروطهم» .
2629 - ثم يستدل على صحة هذا الشرط بخصوصه بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» وإنما يكون الابن لأبيه بمعنى أن منفعته(5/294)
له، ومن له المنفعة له أن يستوفيها بنفسه وبغيره، والقول بأن المال لا يتبعه حتى يقبضه، يجاب عنه بأن ثبوت الولاية هنا على الأبضاع بمنزلة القبض، وحكى أبو عبد الله ابن تيمية رواية أخرى: يبطل الشرط، وتصح التسمية، وقيل: يبطل ويجب مهر المثل.
وعلى المذهب إذا قبضا الألفين ووجد الطلاق قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين، إذ الطلاق قبل الدخول يوجب ذلك ولا شيء على الأب للزوج، لأنه إنما أخذ من مال ابنته، ولا للبنت إذ ما انتفع به من مال ولده لا يضمنه.
ومقتضى كلام الخرقي أن غير الأب ليس له ذلك، وهو صحيح، فلا يصح اشتراطه، ويكون الجميع لها على المذهب، وقيل: تبطل التسمية، ويجب لها مهر المثل، وعموم كلام غيره يقتضي أنه يصح اشتراط الأب في جميع أحوال البنت، وظاهر إطلاقه أنه لا يشترط لجواز اشتراط الأب فيما تقدم أن لا يكون الأخذ مجحفا بمال ابنته، وهو ظاهر إطلاق أحمد، والقاضي في(5/295)
تعليقه، وأبي الخطاب وطائفة، وشرط ذلك القاضي في المجرد، وابن عقيل وأبو محمد في المغني، وأشار أبو العباس إلى ضعف ذلك، بأنه لا يتصور الإجحاف، لعدم ملكها له، وعلى ما في المجرد ومتابعيه إذا لم يوجد الشرط حكم الأب إذا حكم الأجنبي.
(تنبيهان) أحدهما: حكم اشتراط الأب للكل حكم اشتراطه للبعض، قاله القاضي وغيره، فلو وجد الطلاق والحال هذه قبل الدخول وبعد القبض، رجع عليها بنصف المسمى إذ أخذ الأب إنما هو من مالها، قاله القاضي، ولأبي محمد احتمال أنه يرجع على الأب بنصف ما أخذ، وهكذا الخلاف لو ارتدت في مسألة الخرقي، هل يرجع على الأب بألف أو عليها بالمجموع؟ على القولين.
الثاني: يملك الأب ما اشترطه بنفس العقد، كما تملك هي، حتى لو مات قبل القبض ورث عنه، لكن يقدر فيه الانتقال إلى الزوجة أولا، ثم الانتقال إليه كأعتق عبدك عن كفارتي، ذكر ذلك ابن عقيل في العمد، وعند القاضي وأبي محمد إنما يملك ذلك بالقبض مع النية وضعف بأنه يلزم منه بطلان خصيصة هذه المسألة، ويتفرع من هذا على قول أبي محمد لو وجد الطلاق قبل القبض، فللأب أن يأخذ من الألف التي استقرت ما شاء،(5/296)
والقاضي يجعل الألف بينهما نصفين، كجملة الصداق، والله أعلم.
قال: وإذا أصدقها عبدا صغيرا فكبر، ثم طلقها قبل الدخول، فإن شاءت دفعت إليه نصف قيمته يوم وقع عليه العقد، أو تدفع إليه نصفه زائدا، إلا أن يكون يصلح صغيرا لما لا يصلح له كبيرا، فيكون له عليها نصف قيمته يوم وقع عليه العقد، إلا أن يشاء أخذ ما بذلته له من نصفه.
ش: اعلم أنه قبل الخوض في كلام الخرقي نشير إلى قواعد: (أحدها) : أن المذهب المنصوص المعروف المجزوم به عند الأكثرين أن المرأة تملك الصداق جميعه بالعقد.
2630 - لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة الموهوبة: «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك» وأيضا قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وظاهره الأمر بإيتاء الجميع ولأنه عقد يملك به المعوض بالعقد، فملك به العوض كاملا كالبيع.
وحكى القاضي وطائفة من متابعيه رواية أنها لا تملك إلا نصفه، وأخذها القاضي في تعليقه وغيره من رواية ابن منصور وقيل له: سئل سفيان عن رجل تزوج امرأة على خادم، ثم زوجها غلامه فولدت أولادا فطلق امرأته قبل الدخول، فلها نصف قيمتها وقيمة ولدها، قال أحمد: جيد. قال القاضي: وظاهر هذا أنه(5/297)
لم يحكم لها بملك جميعه، لأنه جعل لها نصف النماء، ولا تفريع على هذه الرواية، مع أن أبا البركات لم يعرج عليها، بل ظاهر كلامه إجراؤها على ظاهرها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(القاعدة الثانية) : إذا زادت العين المصدقة فلا يخلو إما أن تكون الزيادة متصلة، كالسمن وتعلم صناعة، أو منفصلة كالولد والكسب، فإن كانت متصلة فالمرأة مخيرة بين دفع النصف زائدا، فيكون ذلك إسقاطا لحقها من الزيادة، ويلزم الزوج القبول، لحصول حقه مع زيادة لا تضر ولا تتميز، وبين دفع نصف القيمة إذ الزيادة لها، لأنها نماء ملكها، فلا يلزمها بذلها، وإذا تعذر دفع الأصل فيصار إلى القيمة، وخرج أبو البركات رواية بوجوب دفع النصف بزيادته، من الرواية الآتية في الزيادة المنفصلة، وهو واضح، وقد يقال: إنه قياس البيع ونحوه، وقد أولع الفقهاء بقولهم: إن الزيادة المتصلة تتبع في الفسوخ والعقود، وقد فرق أبو محمد بين هذا والبيع بأن سبب الفسخ ثم العيب، وهو سابق على الزيادة، وسبب تنصف المهر الطلاق، وهو حادث بعد الزيادة، وبأن الزوج ثبت حقه في نصف المفروض دون العين، ولهذا لو وجدها ناقصة كان له الرجوع إلى نصف مثلها أو قيمتها، بخلاف المبيع المعيب، والمفروض لم يكن زائدا،(5/298)
فلم يتعلق حقه به، والمبيع تعلق حقه بعينه، فتبعته زيادته، ويعترض على الأول بأنه لا أثر لتقدم السبب، إذ الفسخ للعقد من حينه على المذهب، فهو كالطلاق رفع للنكاح من حينه، وعلى الثاني بأن نصف المفروض هو نصف عين ما أصدقها، فحقه في الحقيقة تعلق بنصف العين، وكونه إذا وجدها ناقصة له الرجوع إلى نصف مثلها أو قيمتها ممنوع، بل الرجوع في ذلك وأخذ الأرش على ما سيأتي، وقد يفرق بأن في البيع لما اختار المشتري الفسخ، من غير أن يمكنه أخذ الزيادة، فقد رضي بإسقاطها، بخلاف هنا، فإن الفسخ جاء للمرأة بغير اختيارها، فلا يجب عليها بذل ملكها بغير رضاها، وقد يعترض على هذا بما إذا كان الفسخ من جهتها.
واعلم أن محل التخيير إذا كانت المرأة جائزة التبرع في مالها، فإن لم تكن كالصغيرة والسفيهة والمفلسة تعين للزوج نصف القيمة، يشارك في الفلس الغرماء، لامتناع التبرع من جهتها.
وإن كانت الزيادة منفصلة - كالولد الحادث بعد النكاح، والثمرة ونحو ذلك - فالزيادة للمرأة، وللزوج نصف الأصل، لأنها نماء ملكها، ولأن الله سبحانه وتعالى إنما جعل للزوج نصف المفروض، والنماء ليس مفروضا، وحكى أبو البركات رواية أن الزوج يرجع بنصف الزيادة، وكأنه أخذها من رواية ابن منصور المتقدمة، وقد تعلل بأن الطلاق رفع للعقد من أصله تقديرا،(5/299)
وليس بشيء، ولعل الرواية التي في البيع أخذت من هنا، وفي هذه الرواية بحث ليس هذا موضعه، وبالجملة أبو محمد يستثني من النماء المنفصل ولد الأمة، فلا يجوز للزوج الرجوع في نصف الأمة، حذارا من التفريق في بعض الزمان، وظاهر كلام جماعة من الأصحاب وصرح به القاضي في التعليق عدم الاستثناء.
(القاعدة الثالثة) : إذا نقص الصداق بعد القبض، ثم طلقت قبل الدخول فإن الزوج يخير بين أخذه ناقصا، وبين أخذ نصف قيمته، لأنه إن اختار أخذه فقد رضي بإسقاط حقه، وله ذلك، وإن اختار نصف القيمة فله ذلك، لأن في قبوله ناقصا ضرر عليه، وإنه منفي شرعا، وإذا اختار أخذ النصف ناقصا فهل له أرش النقص - وهو مختار القاضي في تعليقه، كالمبيع المعيب، أو لا أرش له كواجد متاعه عند المفلس، وهو اختيار الأكثرين؟ فيه قولان.
إذا تقرر هذا فقول الخرقي: إذا أصدقها عبدا صغيرا فكبر، ثم طلقها قبل الدخول، فإن شاءت دفعت إليه نصف قيمته يوم وقع عليه العقد، أو تدفع إليه نصفه زائدا. مبني على أنها ملكت الصداق بالعقد، وإذا الزيادة حدثت على ملكها،(5/300)
فتخير بين دفع النصف زائدا وبين دفع نصف قيمته، لكن متى تعتبر القيمة؟ اعتبرها الخرقي - وتبعه أبو محمد في الكافي والمغني، وابن حمدان وأطلقوا - بيوم العقد، وحرر ذلك أبو البركات فجعل ذلك في المتميز إذا قلنا على المذهب يضمنه بالعقد، وعلى هذا يحمل قولهم، إذ الزيادة في غير المتميز صورة نادرة، ولذلك علل أبو محمد بأن ضمان النقص عليها، فعلم أن كلامه في المتميز، وجعل غير المتميز أو المتميز إذا قيل ضمانه على الزوج الواجب قيمة نصفه يوم الفرقة على أدنى صفاته من يوم العقد إلى يوم القبض، لأن ما نقص بعد العقد والحال هذه فهو على الزوج، وما زاد فهو لها، ثم إن أبا البركات أوجب القيمة يوم الفرقة بصفته وقت العقد، لأنه وقت الاستحقاق، وكلام الخرقي يقتضي وجوب القيمة يوم العقد بصفته إذ ذاك، ولأبي البركات تحرير آخر، وهو أن الواجب قيمة النصف، لأن الله سبحانه جعل له نصف المفروض، وإذا تعذر رجع في بدله، وهو نصف قيمته، والخرقي وجماعة جعلوا الواجب نصف القيمة. انتهى.
وقوله: إلا أن يكون يصلح صغيرا لما لا يصلح له كبيرا، فيكون له نصف قيمته يوم وقع عليه العقد، إلا أن يشاء أخذ ما بذلته له من نصفه، مبني على القاعدة الثالثة، وهي ما إذا تعيب(5/301)
الصداق، فإذا كان العبد يصلح صغيرا لشيء لا يصلح له كبيرا، كما إذا كان يقبل تعليم صناعة ونحوها وبالكبر امتنع ذلك منه، فإنه قد تعيب فيخير الزوج بين أخذ نصف قيمته، وبين أخذ ما بذلته له من نصفه، واعتبر الخرقي أيضا القيمة بيوم العقد، واعتبرها القاضي بيوم القبض، وفصل أبو البركات التفصيل السابق، فكأنه حمل كلام القاضي على غير المتميز، وكلام الخرقي يقتضي أن المرأة لها الامتناع من بذل النصف والحال هذه، ولم أره لغيره ولا قاعدة المذهب تقتضيه، إذ الواجد متاعه معيبا عند المفلس له الرجوع فيه، ولا يتوقف ذلك على رضى الغرماء مع أنه إنما جاز له الانتقال إلى القيمة دفعا للضرر عنه، فإذا رضي بالضرر فحقه في العين بحاله، والله أعلم.
[حكم الاختلاف في مقدار الصداق]
قال: ولو اختلفا في الصداق بعد العقد في قدره، ولا بينة على مبلغه، كان القول قولها ما لم يجاوز مهر مثلها.
ش: هذا إحدى الروايات، واختيار عامة الأصحاب، الخرقي، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي، وغيرهم، لأن القول قول من الظاهر في جنبته، والظاهر والحال هذه في جنبة المرأة، لأن الظاهر وقوع النكاح على مهر المثل، وعلى هذه لو ادعت هي أكثر من مهر المثل، وادعى الزوج مهر المثل أو أزيد منه وأنقص منها، فالقول قوله، ولم يذكر أحمد اليمين،(5/302)
فخرج أصحابه في وجوبها وجهين، بناء على أنه دعوى فيما يتعلق بالنكاح، مع كونه مالا، فمن نظر إلى المال أوجب اليمين، ومن نظر إلى أن النكاح غير مال لم يوجبها، وهذا قول القاضي أظنه في المجرد، والأول اختيار أبي الخطاب في الهداية وأبي محمد، وبه قطع أبو الخطاب والشريف في خلافيهما، ولو كان دعوى الزوج أقل من مهر المثل، ودعواها أكثر من مهر المثل، رد إليه وهل تجب اليمين إن أوجبناها فيما تقدم؟ ظاهر كلام الأكثرين لا، وكذلك قال أبو محمد، ولم يذكر أصحابنا يمينا.
قلت: وقد صرح بذلك أبو الخطاب في خلافه الصغير، وهو مقتضى ما حكاه عن شيخه في الهداية، وذلك لأن اليمين على حسب الدعوى، وكل منهما لا يستحق ما ادعاه، فلا يحلف عليه، وقال في المغني والأولى أن يتحالفا، وكذلك قال في الكافي: ينبغي أن يحلف الزوج على نفي الزائد عن مهر المثل، وتحلف هي على إثبات ما نقص منه، وهذا مقتضى قول أبي الخطاب في الهداية. (والرواية الثانية) : القول قول الزوج مع يمينه، لأنه منكر، فيدخل في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واليمين على من أنكر» . (والرواية الثالثة) - حكاها(5/303)
الشيرازي - يتحالفان، لأنه اختلاف في عوض، بمستحق عقد ولا بينة، فيسوغ التحالف كالمتبايعين.
وقول الخرقي: بعد العقد. للتنصيص على مخالفة مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله: إن التخالف إن كان قبل الدخول تحالفا وتفاسخا، وبعده القول قول الزوج، وقوله: في قدره، احترازا مما إذا اختلفا في عينه، كما إذا قال: أصدقتك هذا العبد. قالت: بل هذه الأمة. والحكم فيه أنه على الخلاف السابق، إلا أن الواجب القيمة، لا شيء من المعينين، على أحد الوجهين، وهو مقتضى احتراز الخرقي، وأورده أبو البركات مذهبا، لأنه إن أخذ بقول الزوج فيلزم من إيجاب معينه أن يدخل في ملكها ما لم تدعه، وإن أخذ بقولها فإنما قبل قولها في المهر لموافقة الظاهر، وذلك أجنبي عن التعيين. (والثاني) : إن كان معين المرأة أعلى قيمة وهو كمهر المثل أو أقل، وأخذنا بقولها أعطيته، لأنه لما قبل قولها في القدر تبعه التعيين، والله أعلم.(5/304)
قال: وإن أنكر أن يكون لها عليه صداق فالقول أيضا قولها قبل الدخول وبعده ما ادعت مهر مثلها إلا أن يأتي ببينة ببراءته منه.
ش: لأنها منكرة، والأصل معها، والقول قول المنكر، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» ، والقول قول مدعي الأصل، وقول الخرقي: قبل الدخول وبعده، احترازا من قول مالك والفقهاء السبعة: إن كان بعد الدخول فالقول قول الزوج، وقوله: ما ادعت مهر مثلها. بناء على ما تقدم له، والله أعلم.
[الحكم لو تزوجها بغير صداق]
قال: وإذا تزوجها بغير صداق لم يكن لها عليه إذا طلقها قبل الدخول إلا المتعة.
ش: قد تقدم للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا تزوجها على محرم كالخمر ونحوه، ثم طلقها قبل الدخول أن لها عليه نصف المهر، وقال: فيما إذا فقد الصداق أن لها عليه المتعة فقط، وهذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار أبي محمد، والشيرازي،(5/305)
لقول الله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] نفى سبحانه الجناح من جهة الفرض عن التي لم تمس إلا أن يفرض لها فريضة، وأوجب لها المتعة، ثم أوجب بعد للمفروض لها نصف المفروض، وإطلاق الآيتين يشمل من فرض لها مطلقا، إلا أنه لما لم يمكن إعطاء نصف المفروض في التسمية الفاسدة، وجب نصف بدله، وهو نصف مهر المثل. (والرواية الثانية) لا يجب إلا المتعة في الصورتين، وهو اختيار الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي البركات، إذ التسمية الفاسدة وجودها كالعدم، فهي كمن لم يفرض لها، فلا يجب لها إلا المتعة لما تقدم. (والرواية الثالثة) : وهي أضعفها يجب نصف مهر المثل فيهما، وظاهر الآي يخالف ذلك.
(تنبيهان) . أحدهما اختلف العلماء في تقدير الآية الكريمة السابقة، فمنهم من قدر (تفرضوا) معطوفا على المجزوم، أي: ما لم تمسوهن أو ما لم تفرضوا لهن. واستشكل بأنه يصير معناه: لا جناح عليكم فيما يتعلق بمهور النساء في مدة انتفاء أحد هذين الأمرين، مع أنه إذا انتفى الفرض دون المسيس، لزم مهر المثل، وإذا انتفى المسيس دون الفرض لزم نصف المسمى، ومنهم من قدره منصوبا بأن مضمرة، وأو بمعنى (إلا) أي ما لم تمسوهن إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو: إلى أن تفرضوا لهن(5/306)
فريضة، وهذا قول الزمخشري وهو جيد، ومنهم من جعل (أو) بمعنى الواو، أي ما لم تمسوهن وتفرضوا، وهذا أيضا في المعنى صحيح. (الثاني) تخصيص الخرقي هذه بوجوب المتعة ظاهره أنه لا متعة لغيرها، وهو المشهور عن أحمد والمختار للأصحاب من الروايات، لأن الله سبحانه قسم النساء قسمين، فجعل للتي لم يفرض لها ولم يسم المتعة، وجعل للمفروض لها نصف المفروض، وظاهره أنه لا زيادة لها على ذلك لعموم {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] أو تحمل هذه الآية على الاستحباب، وكذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أمتعكن) ونقل عنه حنبل، لكل مطلقة متاع، للآيتين الكريمتين، وإليها ميل أبي بكر، وقال: العمل عليها عندي. لولا تواتر الروايات عنه بخلافها، والله أعلم.
قال: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، فأعلاه خادم، وأدناه كسوة يجوز لها أن تصلي فيها، إلا أن يشاء أن يزيدها، أو تشاء هي أن تنقصه.
ش: متى تراضيا في المتعة على شيء اتبع ما تراضيا عليه إذا كانا من أهل التراضي، إذ الحق لهما لا يعدوهما، وإن تنازعا رجع الأمر إلى الحاكم، فيعتبر حال الزوج، فيجعل على الموسع قدر(5/307)
سعته، وعلى المقتر قدر قتره، للآية الكريمة، ثم المشهور والمختار من الروايات للخرقي، والقاضي، وجماعة من أصحابه أنها مقدرة الأعلى والأدنى، فأعلاها خادم، وأدناها كسوة يجزئها أن تصلي فيها.
2631 - لأن ابن عباس ترجمان القرآن قال: أعلى المتعة خادم ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة. رواه أبو حفص بإسناده.
2632 - وعن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه طلق امرأته تماضر الكلبية فحممها بجارية سوداء يعني متعها. وإنما اشترطنا في الكسوة أن تجزئ في الصلاة حملا على الكسوة الواجبة بمطلق الشرع، وهي الكسوة في الكفارة (والرواية الثانية) يرجع إلى اجتهاد الحاكم في ذلك، لأن التقدير من الشرع، ولم يرد. (والرواية الثالثة) وهي أضعفها هي متاع بقدر نصف مهر(5/308)
المثل، لأنها بدل عنه، ولا تليق هذه الرواية بمذهب أحمد، لأنه تنتفي فائدة اعتبار الموسع والمقتر ولا تبقى فائدة في إيجاب نصف مهر المثل أو المتعة إلا غايته أن ثم الواجب من النقدين، وهنا الواجب متاع، وهذه الرواية أخذها القاضي في روايتيه من رواية الميموني، وسأله كم المتاع؟ فقال: على قدر الجدة، وعلى من قال تمتع بمثل نصف صداق المثل، لأنه لو كان فرض لها صداقا كان لها نصف الصداق. قال القاضي: وظاهر هذا أنها غير مقدرة، وأنها معتبرة بيساره وإعساره، وقد حكى قول غيره أن قدرها نصف مهر المثل ولم ينكره، وظاهر هذا أنه مذهب له انتهى، وهذا في غاية التهافت، لأنه إنما حكى مذهب غيره بعد أن حكى مذهبه، وإنما نقول على قول أنه إذا حكى عن غيره قولا يكون مذهبا له، إذا لم يبين في تلك الحكاية مذهبه، ثم يلزم من هذا أن يكون قال قولين مختلفين في وقت واحد، والله سبحانه أعلم.
قال: وإن طالبته قبل الدخول أن يفرض لها أجبر على ذلك.
ش: إذا طالبته المرأة التي لم يفرض لها قبل الدخول أن يفرض لها أجبر على ذلك، لأن حقها ثبت بالعقد، إذ النكاح لا يخلو(5/309)
من مهر، وظاهر كلام الخرقي أن هذه المطالبة عند الحاكم، لأنه الذي إليه الإجبار، وإذا يفرض مهر المثل، لأنه بدل البضع فيقدر به كالسلعة إذا تلفت، فلو كانت المطالبة بغير حضرة الحاكم جاز ما اتفقا عليه، إذ الحق لهما لا يعدوهما، والله أعلم.
قال: فإن فرض لها مهر مثلها لم يكن لها غيره، وكذلك إن فرض لها أقل منه فرضيت به.
ش: قوله: فرض. يحتمل أنه مبني للمفعول، والضمير راجع إلى الحاكم، ويرشحه أنه ساق ذلك بعد الإجبار؛ والإجبار مختص بالحاكم، ويحتمل أنه مبني للفاعل، والضمير راجع إلى الزوج، ويرجحه أن الضمير في قوله: وكذلك إن فرض لها أقل منه فرضيت به له، لأن الحاكم لا يفرض إلا مهر المثل، فعلى الثاني: متى فرض لها الزوج مهر المثل لم يكن لها غيره، لأنه الذي وجب لها بالعقد، وكذلك إن فرض لها أزيد منه بطريق الأولى، لكن قال أبو محمد: ولا يستقر لها ما لم ترض به، وفائدة عدم استقراره أنه لو مات قبل الدخول كانت باقية على عدم الفرض، فتجب لها المتعة، وإن فرض لها أقل من مهر المثل فرضيت وهي ممن يعتبر رضاها فلا شيء لها غيره، لأن الحق لها، وإن لم ترض رفع الأمر إلى الحاكم، وعلى الاحتمال الأول - وكذلك قد يجري على الثاني - إذا طلقت قبل الدخول لم يكن لها على ظاهر كلام الخرقي إلا نصف ما فرض لها، وهو إحدى الروايتين، اعتبارا بحالها الراهنة، وهي إذا مفروض لها، فتدخل تحت قوله(5/310)
سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (والرواية الثانية) : يسقط ما فرض لها، وتجب لها المتعة، نظرا إلى حالها في حال الابتداء، والله أعلم.
قال: ولو مات أحدهما قبل الإصابة وقبل الفرض ورثه صاحبه، وكان لها مهر نسائها.
ش: قيد الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الحكم بقبل الإصابة وقبل الفرض، لأن ذلك محل التردد والخلاف، ولا نزاع في الإرث، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] الآية، وهذه زوجة بلا ريب، وأما تكميل المهر فهو المذهب بلا ريب.
2633 - لما «روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق مثلها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع بنت واشق - امرأة منا مثل ما قضيت. ففرح بها ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . رواه الخمسة، وصححه جماعة منهم الترمذي، وهذا لفظه. (وعن(5/311)
أحمد رواية أخرى) : لا يجب لها إلا نصف مهر المثل، قياسا لفرقة الموت على الطلاق، وهو باطل بالنص، وبأن الموت يتم به النكاح، ولذلك وجبت العدة به قبل الدخول، وكمل به المسمى، بخلاف الطلاق فيهما، انتهى، وإذا أوجبنا المهر فإن الواجب مهر نسائها كما في الحديث، أي أقاربها، ثم هل يعتبر جميع أقاربها من قبل الأب والأم، كأختها وعمتها، وبنت أخيها، وكأمها وخالتها، وهو اختيار أبي بكر وأبي الخطاب، والشريف في خلافيهما، والشيرازي، لعموم الحديث، أو لا يعتبر إلا نساء العصبات كأختها ونحوها وهو اختيار أبي محمد قال: لأن في بعض الروايات: مهر نساء قومها، ولأن الشرف معتبر في المهر، وشرف المرأة بنسبها، وذلك بالأب لا بالأم؟ على(5/312)
روايتين، قال أبو محمد: وينبغي أن يعتبر الأقرب فالأقرب من نساء العصبات، فتقدم أخواتها، ثم عماتها، وعلى ذلك وتعتبر المساواة في العقل والدين، والجمال، وكل ما يختلف به المهر، حتى لو كان عادتهم التأجيل فرض مؤجلا في أحد الوجهين، وفي الآخر: لا يفرض إلا حالا، لئلا يخالف نظائره، وهو أبدال المتلفات، والله أعلم.
[ما يترتب على خلوة الزوجين بعد العقد]
قال: وإذا خلا بها بعد العقد فقال: لم أطأها، وصدقته لم يلتفت إلى قولهما، وكان حكمهما حكم الدخول في جميع أمورهما إلا في الرجوع إلى زوج طلقها ثلاثا، أو في الزنا فإنهما يجلدان ولا يرجمان.
ش: الخلوة بالمرأة بعد العقد في الجملة حكمها حكم الدخول في استقرار المهر وإن لم يطأ، على المذهب المعروف بلا ريب.
2634 - لما روى الإمام أحمد بسنده عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا، وأرخى سترا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة.
2635 - ورواه أيضا عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو مشهور عنهما،(5/313)
وكذلك عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عليها العدة، ولها الصداق، وهذه قضايا اشتهرت ولم ينقل إنكارها فكانت حجة، (وقيل عن أحمد) رواية أخرى أن المهر لا يتقرر إلا بالوطء.
2636 - ويحكى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لقوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] والمطلقة قبل الدخول وقبل الوطء لم تمس، ومثله قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49](5/314)
الآية، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] علل سبحانه منع الأخذ بالإفضاء، والإفضاء الجماع، والمعلل بوصف عدم عند عدمه، وأجيب بالطعن فيما روي عن ابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال أحمد في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرويه ليث وليس بالقوي، وقد رواه حنظلة خلاف ما رواه ليث، وحنظلة أقوى من ليث، وقال ابن المنذر في حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - منقطع، وأما آيتا المس فيحتمل أن المراد بالمس حقيقته وكنى به عن سببه وهو الخلوة، ويحتمل أن المراد به حقيقته أو الجماع، وغايته أنه يدل على أنه قبل المسيس لا يتكمل المهر، ولا تجب العدة، وهو شامل للخلوة ولغيرها،(5/315)
خرج منه الخلوة بقضاء الصحابة، وأما آية الإفضاء فلا نسلم أن المراد بالإفضاء الجماع، بل المراد الخلوة، نظرا إلى حقيقته، إذ هو مأخوذ من الفضاء وهو المكان الخالي، وكذلك يحكى عن الفراء أن المراد بالإفضاء الخلوة، ولو سلم أن ذلك كناية عن الوطء فإن المراد - والله أعلم - التشنيع والمبالغة في الانتهاء عن الأخذ في مثل هذه الحال أي كيف تأخذونه وقد حصل مباضعتكم لأزواجكم، ومثل ذلك يتعجب منه، وينكره أهل المروءات.
إذا تقرر هذا فقول الخرقي: وإذا خلا بها. معنى الخلوة أن يخلو بها بحيث لا يحضرهما مميز مسلم، ولو أنه أعمى أو نائم، قاله ابن حمدان في رعايتيه، وقوله: بعد العقد. يشمل العقد الصحيح والفاسد، وهو منصوص أحمد، ومختار عامة أصحابه، لعموم قضاء الصحابة، ولأن الابتذال يحصل بالخلوة في العقد الفاسد، كما في الصحيح، وخالفهم أبو محمد فاختار عدم الوجوب في النكاح الفاسد، نظرا إلى أن العقد ليس بموجب، وإنما الموجب الوطء ولا وطء.
وقوله: فقال: لم أطأها. وصدقته لم يلتفت إلى قولهما،(5/316)
دفعا لوهم من يتوهم أن الحق لها فيسقط برضاها، وذلك لأن الخلوة يتعلق بها أيضا حق لله تعالى كالعدة ونحوها، ثم قضاء الصحابة مطلق، ونقل عنه ابن بختان إذا صدقته المرأة أنه لم يطأها لم يكمل الصداق، وعليها العدة، إذ الصداق محض حقها.
وقوله: وكان حكمهما حكم الدخول، في جميع أمورهما إلا في الرجوع إلى زوج طلقها ثلاثا، أو في الزنا فإنهما يجلدان ولا يرجمان. يعني في استقرار المهر كما تقدم، ووجوب العدة لقضاء الصحابة، وفي تحريم أختها، وأربع سواها إذا طلقها حتى تنقضي عدتها، قياسا على ما تقدم، لوجود مظنة الوطء، وفي ثبوت الرجعة له عليها في العدة، وإن ادعى أنه ما وطئها، على المنصوص والمختار للعامة، لعموم: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ولم يثبت أبو بكر الرجعة بالخلوة، وفي نشر حرمة المصاهرة، وهو إحدى الروايتين، والمشهور خلافها، حملا لدخوله في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] على الوطء.
واستثنى الخرقي الرجوع إلى المطلق ثلاثا.(5/317)
2637 - لحديث امرأة رفاعة القرظي: «لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» ، واستثنى أيضا الإحصان، فلا يثبت بها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الثيب بالثيب» والثيوبة لا تحصل إلا بالوطء، ثم الحد يدرأ بالشبهة وكأن مراد الخرقي بقوله: حكمهما حكم الدخول، يعني فيما يتعلق بالنكاح، فلا يرد عليه الغسل، فإنه لا يجب بها، ولا الخروج من الفيئة لأنه من باب الأيمان، والذي حلف عليه الوطء ولم يوجد، ولا تفسد بها العبادات، ولا تجب بها الكفارات حيث وجبت، نعم قد يرد عليه ما إذا خلا بها بعد ضرب المدة في العنة، فإنه لا يخرج من العنة، وبالوطء يخرج.
(تنبيه) : الخلوة المعتبرة هي خلوة من يطأ مثله، بمن يوطأ مثلها، مع علم الزوج بها كما نص عليه أحمد في المكفوف يتزوج امرأة فأدخلت عليه، فأرخى الستر، وأغلق الباب، فإن كان لا يعلم بدخولها عليه فلها نصف الصداق، وقد أهمل أبو البركات هذا الشرط، ولو خلا بشرطه فمنعته الوطء لم يتقرر الصداق، والله أعلم.
قال: وسواء خلا بها وهما محرمان أو صائمان، أو حائض، أو سالمان من هذه الأشياء.
ش: يعني أنه لا يشترط للخلوة خلوها من مانع، ومثل الخرقي(5/318)
بالمانع الشرعي، وقد اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة (فعنه) فيها روايتان، إحداهما كما قال الخرقي، وهو مختار أصحابه في الجملة، لعموم قضاء الصحابة.
2638 - وعن عمر في العنين يؤجل سنة، فإن هو غشيها وإلا أخذت الصداق كاملا، وفرق بينهما، وعليها العدة (وعنه) لا يكمل بها الصداق، لأن المانع إن كان من جهتها فلم يتمكن من تسليمها، فأشبه ما لو منعته من نفسها، وإن كان من جهته فمظنة الوطء منتفية، واعلم أن الأصحاب قد اختلفت طرقهم في هذه المسألة، بعد اتفاقهم فيما علمت أن المذهب الأول، (فمن زاعم) أن الروايتين في المانع سواء كان من جهته أو من جهتها، شرعيا كان كما تقدم، أو حسيا كالجب والرتق، وهذه طريقة أبي الخطاب في خلافه الصغير، وأبي البركات، (ومن زاعم) أن محلهما فيما إذا كان المانع من جهتها، أما إن كان من جهته فإن الصداق يتقرر بلا خلاف، وهذه طريقة القاضي في الجامع، والشريف في خلافه، (ومن زاعم) أن محلهما فيما إذا منع الوطء ودواعيه، كالإحرام والصيام، أما إن منع الوطء، فقط كالحيض والرتق فيتقرر الصداق، وهذه طريقة القاضي في المجرد فيما أظن وأبي علي ابن البنا، (ومن زاعم) أن محلهما في(5/319)
المانع الشرعي، أما المانع الحسي فيتقرر معه الصداق، وهذه طريقة القاضي في الروايتين، وهي قريبة من التي قبلها، ويقرب من ذلك طريقة أبي محمد في المغني، أن المسألة على ثلاث روايات، الثالثة إذا كان المانع متأكدا كالإحرام والصيام لم يكمل الصداق، وإلا كمل.
(تنبيه) : لم يجر أبو البركات الخلاف في العدة، بل خصه بالصداق، وأجراه أبو محمد فيها والله أعلم.
[العفو عن الصداق أو الإبراء منه]
قال: والزوج هو الذي بيده عقدة النكاح، فإذا طلق قبل الدخول فأيهما عفى لصاحبه عما وجب له من المهر - وهو جائز الأمر في ماله - برئ منه صاحبه.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الذي بيده عقدة النكاح (فعنه) ما يدل على أنه الزوج، وعليه أصحابه، الخرقي، وأبو حفص، والقاضي، وأصحابه، لأن الذي بيده عقدة النكاح بعد الزواج هو الزوج، لأنه الذي يملك الطلاق، ثم العفو إذا أطلق إنما ينصرف إلى عفو الإنسان عما يملكه، والولي لا يملك من المهر شيئا.(5/320)
2639 - وروى الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ولي العقدة الزوج» .
ونقل عنه ابن منصور: إذا طلق امرأته وهي بكر، قبل أن يدخل بها، فعفى أبوها عن زوجها عن نصف الصداق، فما أرى عفوه إلا جائزا، فأخذ من ذلك القاضي وغيره أنه بيده عقدة النكاح أي أنه الولي لأنه الذي عقد عقدة النكاح، بعد الطلاق، والآية مسوقة في ذلك، وإرادة الزوج بذلك مجاز باعتبار ما كان، والأصل الحقيقة، والدليل على أن العقد هو العقدة قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وأيضا العفو حقيقة عن شيء وجب، وذلك واضح في الزوجة والولي، لأنهما اللذان يجب لهما المهر، إذ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي فعليكم نصف ما فرض، أو(5/321)
فالواجب نصف {مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أي النساء بلا نزاع {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهو الولي عما وجب له من القبض، وتسمية الزوج عافيا للمشاكلة مجاز، وعلى تقدير أنه ساق إليها المهر الأصل عدمه، ولأن الله سبحانه خاطب الأزواج مواجهة بقوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] ثم أتى بضمير الغيبة بقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فالظاهر أن الضمير لغيره، ولأن الله سبحانه بدأ بعفو الزوجة، وختم بعفو الزوج، فلو حمل (أو يعفو) على الزوج كان تكرارا، وهذا أظهر دليلا.
فعلى الأولى أيهما عفى لصاحبه عما وجب له من المهر - وهو جائز التبرع في ماله برئ منه، وعلى الثانية من شرط الولي (أن يكون) أبا، لكمال شفقته، وعدم تهمته، ولهذا قلنا: له أن يزوجها بدون مهرها، (وأن تكون) بكرا على ظاهر كلام أحمد، وصرح به غيره لملك إجبارها وقبض مهرها في رواية، وغفل أبو محمد في المقنع عن هذا الشرط تبعا لأبي الخطاب، (وأن تكون) مطلقة قبل الدخول، فلا يصح عفوه قبل الطلاق ولا بعد الدخول، لأن الآية وردت في ذلك.
(قلت) : وفي معنى المطلقة قبل الدخول كل مفارقة تنصف مهرها، وحكى ابن حمدان قولا أن للأب العفو بعد الدخول، ما لم تلد، أو تبقى في بيتها سنة، بناء، والله أعلم على بقاء الحجر عليها، واشترط أبو الخطاب وابن البنا، وأبو محمد في كتبه مع(5/322)
ذلك أن تكون صغيرة أو مجنونة، لأنها إذا الذي يملك عقدة نكاحها مطلقا، وظاهر كلام أحمد والقاضي عدم الاشتراط، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، ولا يشترط كون الصداق دينا، على ظاهر كلام أحمد والجمهور، وقيل بلى، حكاه ابن حمدان، نعم يشترط أن لا يكون مقبوضا، وهذا مفهوم من كلامهم، لأنه يكون هبة لا عفوا.
(تنبيه) : على هذه الرواية لو زوج ابنه الطفل أو المجنون وأقبض مهره، ثم رجع إليه بردة أو رضاع قبل الدخول، لم يجز عفوه عنه رواية واحدة، وكأن الفرق أن الأب أكسب البنت المهر، بالتزويج، فكان له العفو، بخلاف الصغير، فإنه لم يكسبه شيئا، بل المهر رجع إليه بالفرقة، والله أعلم.
قال: وليس عليه دفع نفقة زوجته إذا كان مثلها لا يوطأ، أو منع منها بغير عذر، فإن كان المنع من قبله لزمته النفقة.
ش: ليس على الزوج نفقة الزوجة إذا كان مثلها لا يوطأ، إذ النفقة في مقابلة الاستمتاع، ولهذا سقطت بالنشوز، وهذه يتعذر الاستمتاع بها شرعا، وكذلك ليس عليه نفقتها إذا كان مثلها يوطأ ومنعت نفسها، أو منعها أولياؤها بغير عذر، لأنها إذا ناشز، أو في معناها لمنعها من تسليم الواجب عليها، وتجب عليه النفقة إن كان المنع من قبله، لأن الواجب عليها قد فعلته.
وقول الخرقي: إذا كان مثلها لا يوطأ، يحترز به عما إذا كان(5/323)
مثلها يوطأ فإن النفقة تجب، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في النفقات، وقوله: أو منع منها بغير عذر، يحترز عما إذا منع منها لعذر، كما إذا امتنعت حتى تقبض صداقها الحال حين العقد، أو حين الامتناع على وجه، فإن النفقة تجب لها، لأن المنع في الحقيقة من جهته، وقد صرح بذلك حيث قال: فإن كان المنع من قبله لزمته النفقة، ويحتمل أن يريد بالمنع من قبله المنع بالاستمتاع، بأن يكون صغيرا أو مجنونا ونحو ذلك، والأول أظهر، والله أعلم.
[الحكم لو تزوجها على صداقين سرا وعلانية]
قال: وإذا تزوجها على صداقين سرا وعلانية، أخذ بالعلانية، وإن كان السر قد انعقد النكاح به.
ش: إذا تزوج المرأة في السر بمهر، ثم عقد عليها في العلانية بأزيد منه، لزم مهر العلانية، على ما قاله الخرقي، ونص عليه أحمد، لأن الزوج وجد منه بذل الزائد بعد عقد السر، فلزمه، كما لو زادها في صداقها، وقال القاضي: الواجب المهر الذي انعقد به النكاح، سرا كان أو علانية، لأنه هو الذي ثبت به النكاح، والعلانية ليس بعقد حقيقة، إنما هو عقد صورة، والزيادة فيه غير مقصودة، وحمل القاضي كلام أحمد والخرقي على أن المرأة لم(5/324)
تقر بنكاح السر، وإذا القول قولها، لأن الأصل عدم نكاح السر.
(تنبيه) : قد حملنا كلام الخرقي على ما إذا كان العلانية أزيد وهو متأخر، بناء على الغالب وكلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - جرى على ذلك، قال في رواية ابن منصور: إذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهرا ينبغي لهم أن يفوا، ويؤخذ بالعلانية، ولو كان العلانية أزيد وهو متقدم، فهنا يرتفع الخلاف، ويؤخذ بالعلانية قولا واحدا ولو كان أقل وهو متأخر أخذ بالسر، على مقتضى ما تقدم بلا ريب لأنه قد وجب بالعقد، ولا مقتضى للإسقاط، ولو كان أقل مع تقدمه، فمقتضى ما تقدم أن يجري فيه القولان السابقان، والله أعلم.
[حكم نماء المهر والتصرف فيه]
قال: وإذا أصدقها غنما بعينها فتوالدت، ثم طلقها قبل الدخول، كانت أولادها لها، ويرجع عليها بنصف الأمهات، إلا أن تكون الولادة نقصتها، فيكون مخيرا بين أن يأخذ نصف قيمتها وقت ما أصدقها، أو يأخذ نصفها ناقصة.
ش: قد تقدم الكلام على هذا عند قوله: إذا أصدقها عبدا صغيرا فكبر. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين ثم الزيادة المتصلة، وهنا الزيادة المنفصلة، وقد تقدم الكلام على النوعين بما يغني عن إعادته، وقوله: بعينها. يحترز عن المبهمة، فإن التسمية إذا فاسدة، والله أعلم.(5/325)
قال: وإذا أصدقها أرضا فبنتها دارا، أو ثوبا فصبغته، ثم طلقها قبل الدخول، رجع عليها بنصف قيمته وقت ما أصدقها، إلا أن يشاء أن يعطيها نصف قيمة البناء أو الصبغ، فيكون له النصف، أو تشاء هي أن تعطيه نصفه زائدا فلا يكون له غيره.
ش: إذا طلق المرأة قبل الدخول، وقد وصلت العين المصدقة بملكها كما مثل الخرقي، فإنها لا تجبر على زوال ذلك، لأنها وضعته بحق، ويكون للزوج نصف القيمة، لتعذر الرجوع في نصف العين إلا بضرر يلحقها، والضرر منفي شرعا، فإن اختار الزوج أن يدفع إليها نصف قيمة البناء أو الصبغ، ويكون له نصف المجموع فله ذلك، عند أبي محمد تبعا للخرقي، لزوال الضرر عن المرأة، وصار هذا كالشفيع إذا أخذ بالشفعة بعد غرس المشتري أو بنائه، وبذل قيمة ذلك، فإن المشتري يلزمه القبول، وقال القاضي: ليس له إلا القيمة، وحمل كلام الخرقي على التراضي، حذارا من إجبار المرأة على المعاوضة على ملكها بغير رضاها انتهى، فلو بذلت المرأة النصف بزيادته لزم الزوج قبوله، لأنه حقه وزيادة.
قلت: وقد يتخرج عدم اللزوم بما إذا وهب الغاصب تزويق الدار ونحوها للمغصوب منه، وهو أظهر في البناء، والله سبحانه أعلم.(5/326)
[باب الوليمة]
قال: باب الوليمة ش: حكى ابن عبد البر عن ثعلب وغيره من أهل اللغة أن الوليمة اسم لطعام العرس خاصة، لا يقع على غيره، قال أبو محمد: وقال بعض الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: الوليمة تقع على كل طعام لسرور حادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر، قال: وقول أهل اللغة أقوى، لأنهم أهل اللسان، وأعرف بموضوعات اللغة انتهى، وقال السامري: سميت دعوة العرس وليمة لاجتماع الزوجين، ووليمة الشيء كماله وجمعه، والله أعلم.
قال: ويستحب لمن تزوج أن يولم ولو بشاة.
2640 - ش: في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: «ما هذا؟» قال: يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال: «فبارك الله لك، أولم ولو بشاة» ؛ والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حمل هذا الأمر على الاستحباب، موافقة لجمهور العلماء، لأنه طعام لسرور حادث، أشبه سائر الأطعمة، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولو بشاة التنكير هنا - والله أعلم - للتقليل، أي ولو بشيء قليل كشاة، فيستفاد من هذا أنه يجوز الوليمة بدون شاة.(5/327)
2641 - وقد جاء عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ما أولم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة» . متفق عليه.
2642 - وجاء في البخاري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولم على بعض نسائه بمدين من شعير» . ويستفاد من الحديث أن الأولى الزيادة على الشاة، لأنه جعل ذلك قليلا، والخرقي تبع لفظ الحديث، والحكم جار عليه، والله أعلم.
قال: وعلى من دعي إليها أن يجيب.
ش: يعني إلى وليمة العرس، وهذا هو المذهب المعروف في الجملة، وقول عامة العلماء، حتى أن ابن عبد البر وغيره قال: لا خلاف في ذلك.
2643 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها» متفق عليه، في عدة أحاديث سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى، وقيل: إنها فرض كفاية، لأنها(5/328)
إكرام وموالاة أشبه برد السلام، وقيل: إنها سنة كفعلها، والعمل على الأول، لكن يشترط للوجوب شروط (أحدهما) (أن يعين) الداعي المدعو بالدعوى، فلو لم يعينه كقوله: يا أيها الناس أجيبوا إلى الوليمة، ونحو ذلك لم تجب الإجابة بل تستحب، لأن الإجابة معللة بما فيها من كسر قلب الداعي، وإذا عمم فلا كسر. (الثاني) أن يدعوه في اليوم الأول، لأن مطلق الأمر يحصل به.
2644 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمع سمع الله به» رواه الترمذي وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث زياد بن عبد الله، وهو كثير الغرائب المناكير، قال بعض الحفاظ: وزياد روى له البخاري مقرونا بغيره، ومسلم ويستحب(5/329)
في اليوم الثاني، قاله أبو محمد وابن حمدان، ولا يستحب في الثالث قاله أبو محمد، وقال ابن حمدان: يكره، وقال أحمد: الأول يجب، والثاني: إن أحب، والثالث فلا. (الشرط الثالث) أن يكون مسلما، فلا تجب الإجابة بدعوة الذمي، لأن الإجابة للمسلم للإكرام والموالاة، وتأكيد المودة، وذلك منتف في أهل الذمة، وتجوز إجابتهم، قاله أبو محمد.
2645 - وفي الحديث «أن يهوديا دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خبز شعير، وإهالة سنخة، فأجابه» (وعن أحمد) في جواز تهنئتهم وتعزيتهم(5/330)
وعيادتهم روايتان، فيخرج في إجابتهم كذلك، وقد خرجها أبو العباس في تسميتهم. (الشرط الرابع) : أن يكون المسلم ممن لا يجوز هجره، فإن كان ممن يجوز هجره - كالمبتدع ونحوه - لم تجب إجابته، لما تقدم في الذمي. (الشرط الخامس) : أن لا يكون في الدعوة منكر، فإن كان فيها منكر - كالزمر والخمر - ولم يقدر على إزالته لم يحضر، وإن قدر على إزالته وجب عليه الحضور والإنكار، للتمكن من الإتيان بالفرض، مع التمكن من الإتيان بفرض آخر (وقيل: يشترط) مع ذلك أن لا يخص بها الأغنياء، وأن لا يخاف المدعو الداعي ولا يرجوه، وأن لا يكون في المحل، من يكرهه المدعو، أو لا يليق به مجالسته، أو يكره هو المدعو.
2646 - وقد جاء عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» رواه مسلم وأكثر الأصحاب لا يشترطون هذا، والله أعلم.(5/331)
قال: فإن لم يحب أن يطعم دعا وانصرف.
ش: الواجب الإجابة، أما الأكل فغير واجب.
2647 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك» رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ثم لا يخلو إما أن يكون صائما أو مفطرا، فإن كان مفطرا استحب له الأكل، لأنه أبلغ في إكرام الداعي وجبر قلبه.
2648 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم» رواه مسلم، وفي لفظ له أيضا: «إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم» ، وإن كان صائما فإن(5/332)
كان صومه واجبا لم يفطر، حذارا من ترك واجب لما ليس بواجب، وإن كان متنفلا فقيل: يستحب الأكل مطلقا، لما فيه من إدخال السرور على قلب الداعي، مع جواز الخروج من الصوم.
2649 - وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في دعوة ومعه جماعة فاعتزل رجل من القوم ناحية: فقال: إني صائم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعاكم أخوكم، وتكلف لكم، كل ثم صم يوما مكانه إن شئت» » ، وقيل: إن لم ينكسر قلب الداعي بعدم الأكل فإتمام الصوم أولى، لظاهر ما تقدم، ويستحب أن يعلمهم ويدعو لهم لما تقدم، إذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليصل» أي يدعو.
2650 - وقد جاء عن ابن عمر أنه حضر وهو صائم، وقال: إني صائم. والله أعلم.
قال: ودعوة الختان لا يعرفها المتقدمون.
ش: يعني السلف الصالح، كالصحابة والتابعين.
2651 - وقد روي عن عثمان بن أبي العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه دعي إلى ختان فأبى أن يجيب، فقيل له، فقال: إنا كنا لا نأتي الختان(5/333)
على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا ندعى إليه. رواه أحمد لكنه ضعف، وظاهر كلام الخرقي أنها غير مستحبة، وقد نص أحمد والقاضي، وعامة أصحابه على أنها مباحة لا تكره، ولا تستحب لهذا الأثر وخالفهم أبو محمد في كتبه الثلاثة، فقطع باستحبابها، لما فيها من إطعام الطعام، وهو مندوب إليه في الجملة، وهذان القولان في سائر الطعام، وحكى ابن حمدان قولا بكراهة دعوة الختان خاصة، ويحتمله كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم.
قال: ولا على من دعي إليها أن يجيب، وإنما وردت السنة في إجابة من دعي إلى وليمة تزويج.
ش: ظاهر هذا أن الإجابة إلى دعوة الختان مباحة، وهو منصوص أحمد، وقول القاضي وجماعة من أصحابه كعملها، ولحديث عثمان، وقال أبو محمد بالاستحباب، وهو الظاهر،(5/334)
بل لو قيل بالوجوب لكان متجها.
2652 - لعموم «إذا دعي أحدكم للوليمة فليأتها» «إذا دعي أحدكم فليجب، إذا دعي إلى طعام» .
2653 - وفي مسلم في حديث ابن عمر: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عرسا كان أو نحوه» ، وهذان القولان أيضا في سائر الولائم، والله أعلم.
[النثار في العرس]
قال: والنثار مكروه، لأنه شبيه بالنهبة، وقد يأخذه من غيره أحب إلى صاحب النثار منه.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، لما علل به الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنه يأخذه من غيره أحب إلى صاحب الطعام منه، ولا يكون طيب القلب بأخذه، وذلك يورث شبهة، وبأنه شبيه بالنهبة والشبيه بالشيء يعطى حكمه.(5/335)
2654 - ودليل الأصل ما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المثلة والنهبى» . رواه أحمد والبخاري.
2655 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من انتهب فليس منا» رواه أحمد والترمذي وصححه. (والثانية) لا يكره، اختارها أبو بكر.
2656 - لأنه قد «جاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر ملاك رجل من الأنصار الحديث، وفيه: وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكر، فنثر عليهم، فأمسك القوم ولم ينتهبوا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا تنتهبون؟» قالوا: يا رسول الله نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا، قال: «إنما نهيتكم عن نهبة العساكر، ولم أنهكم عن نهبة الولائم» رواه العقيلي، وضعفه عبد الحق الإشبيلي.(5/336)
2657 - واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البدنات لما نحرهن: «من شاء اقتطع» وحكم الالتقاط حكم النثار، والله أعلم.
قال: فإن قسم على الحاضرين فلا بأس بأخذه، لما روي عن أبي عبد الله أن بعض أولاده حذق، فقسم على الصبيان الجوز.(5/337)
ش: لانتفاء المفسدة السابقة، مع أن فيه إطعام الطعام، وجبر قلب الصبي وتنشيطه، وتنشيط أمثاله، وذلك مصلحة محضة، ولذلك حسنه أبو محمد.
(تنبيه) : الأطعمة التي يدعى إليها عشرة (أحدها) : الوليمة طعام العرس؛ (والثاني) : الحذاق وهو الطعام عند حذاق الصبي؛ (والثالث) : العذيرة والإعذار للختان، وهذه الثلاثة ذكرها الخرقي؛ (والرابع) : الخرسة والخرس، لطعام الولادة؛ (والخامس) : الوكيرة، لدعوة البناء؛ (والسادس) : النقيعة لقدوم الغائب؛ (والسابع) : العقيقة، الذبح لأجل الولد؛ (الثامن) : المأدبة، كل دعوة لسبب كانت أو غيره؛ (التاسع) : الوضيمة، طعام المأتم؛ (العاشر) : التحفة، طعام القادم، والله سبحانه أعلم.(5/338)
[باب عشرة النساء والخلع]
ش: الأصل في العشرة قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] الآية، وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] .
2658 - قال ابن زيد: تتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيكم.
2659 - وقال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي. وتلا هذه الآية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] .
2660 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا» متفق عليه.
2661 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم» رواه(5/339)
أحمد والترمذي وصححه.
2662 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» رواه الترمذي وصححه.
2663 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة» رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب.
2664 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعى الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح» متفق عليه.(5/340)
2665 - وعنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. ولهذه الأحاديث وشبهها وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] قال العلماء: إن حق الزوج عليها آكد من حقها عليه.
والأصل في الخلع قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] الآية.
[القسم بين الزوجات]
قال: وعلى الرجل أن يساوي بين زوجاته في القسم.
ش: هذا مما لا خلاف فيه والحمد لله، وقد تقدم قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن المعروف التسوية بينهن.
2666 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه(5/341)
ساقطا أو مائلا» رواه الخمسة.
2667 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» رواه الخمسة إلا أحمد. إذا تقرر هذا فمن عنده نسوة لا بد له أن يبدأ بواحدة منهن، وهن متساويات في الحق، واختيار واحدة منهن تفضيل لها، وهو ممنوع منه، فيتعين أن يبدأ بواحدة بالقرعة، كما لو أراد السفر بواحدة منهن، كما شهدت به السنة، ويقسم ليلة ليلة، ولا يقسم أربعا أربعا إلا برضاهن، وفي اعتبار رضاهن في الليلتين والثلاث وجهان.
وقول الخرقي وعلى الرجل؛ يشمل المريض والمجبوب، والخصي والعنين، وهو كذلك، إذ القسم للأنس، وهو حاصل(5/342)
ممن ذكر، ولا يدخل في كلامه المجنون، لعدم تعلق الخطاب التكليفي به، وقال أبو محمد: إن لم يخف منه طاف به الولي، وإن خيف منه فلا قسم عليه، لانتفاء الأنس، وعلى الأول قال فإن لم يعدل الولي في القسم بينهن ثم أفاق الزوج، قضى للمظلومة؛ لأنه حق ثبت في ذمته.
وقوله: أن يساوي بين زوجاته في القسم. يتناول من له زوجات وقسم بينهن، ولا نزاع في ذلك كما تقدم، أما من له زوجة واحدة، أو له زوجات ولم يقسم بينهن، فهل عليه قسم الابتداء، بأن يبيت عند الزوجة أو الزوجات ليلة من أربع؟ فيه قولان مبنيان على وجوب الوطء، وفيه روايتان، ومحلهما إذا لم يترك الوطء ضرارا، أما إن تركه ضرارا فيجب القسم، والله أعلم.
قال: وعماد القسم الليل.
ش: لأن الليل للسكن والإيواء، قال سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73](5/343)
فالليل محل السكن، والنهار للمعاش ونحو ذلك، وهذا فيمن معاشه بالنهار كما هو الغالب، أما من معاشه بالليل، كالحارس ونحوه، فإن نهاره كليل غيره، وليله كنهار غيره، والنهار تبع لليل في القسم.
2668 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي، وفي يومي» . وموته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في النهار، ويتبع اليوم الليلة الماضية، بدليل أن أول الشهر الليل، وإن أحب أن يجعل النهار تبعا لليله الذي يتعقبه جاز، لعدم التفاوت، والله أعلم.
قال: ويقسم لزوجته الأمة ليلة وللحرة ليلتين.
2669 - ش: لما روى الدارقطني - واحتج به الإمام أحمد - عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: إذا تزوج الحرة على الأمة، قسم للأمة ليلة، وللحرة ليلتين.
(تنبيه) : يقسم للمعتق بعضها بحساب ذلك، والله أعلم.(5/344)
قال: وإن كانت كتابية.
ش: أي وإن كانت الحرة كتابية يقسم لها كما يقسم للمسلمة؛ لأن القسم من حقوق الزوجية، أشبه النفقة والسكنى، وقد شمل كلام الخرقي الرتقاء والمريضة، والحائض والمحرمة، والمظاهر منها والصغيرة، وهو كذلك إذ القصد الأنس والسكن، وهو حاصل لهن، نعم شرط أبو محمد في الصغيرة إمكان وطئها، والمجد تمييزها، وشمل أيضا المجنونة، والشيخان يقيدان ذلك بما إذا لم يخف منها، أما إن خيف منها فلا قسم لها.
(تنبيه) : الحق في القسم للأمة دون السيد، فلها أن تهب ليلتها لزوجها أو لبعض ضرائرها، وليس ذلك للسيد، وزعم القاضي أن قياس قول أحمد استئذان سيد الأمة كما في العزل، والله أعلم.
قال: وإذا سافرت زوجته بغير إذنه فلا نفقة لها ولا قسم.
ش: هذا مما لا خلاف فيه ولله الحمد؛ لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد تعذر ذلك بفعلها، أشبه ما لو لم تسلمه نفسها ابتداء، والله أعلم.
قال: وإن كان هو أشخصها فهي على حقها من ذلك.
ش: إذا كان هو سفرها فهي على حقها من النفقة والقسم، لأن(5/345)
المنع جاء من جهته، لا من جهتها، فلم يسقط حقها، كما لو أتلف المشتري المبيع لم يسقط حق البائع من الثمن.
(تنبيه) : الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ما إذا سفرها هو، أو سافرت بغير إذنه، وبقي إذا سافرت بإذنه لمصلحتها، وفي بعض نسخ الخرقي: وإذا سافرت زوجته بإذنه، وعليها شرح أبو محمد، وبالجملة في المسألة ثلاثة أوجه: (أحدها) ، وهو اختيار القاضي وأبي محمد: لا قسم لها ولا نفقة، لما تقدم في المسألة قبل، (والثاني) : هما لها، لأنه لما أذن لها كأنه رضي بإسقاط حقه، وبقاء حقها، (والثالث) : لها النفقة دون القسم، كما لو سافر عنها، والله أعلم.
قال: وإذا أراد سفرا فلا يخرج معه منهن واحدة إلا بقرعة.
ش: إذا أراد سفرا وأخذ بعض نسائه دون بعض، فإنه لا يجوز له أخذ إحداهن إلا بقرعة، لتساويهن في الحق، وحذارا من الميل.
2670 - وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه» . ويستثنى من ذلك إذا رضي الزوجات بسفر واحدة معه، فإنه يجوز بلا قرعة، إذ الحق لهن، نعم إذا لم يرض الزوج بها، وأراد غيرها صير إلى القرعة، والله أعلم.(5/346)
قال: فإذا قدم ابتدأ القسم بينهن.
ش: أي إذا قدم من السفر ابتدأ القسم بين النسوة، ولم يقض للمقيمات؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لم تذكر قضاء في حديثها؛ ولأن ما يحصل للمسافر بها من السكن، يقابله ما يحصل لها من المشقة والتعب، والحديث مسكوت فيه عن القضاء، وقيل: يقضي في سفر النقلة دون سفر الغيبة، وقيل: يقضي في السفر القريب دون البعيد، ومحل الخلاف في زمان السير، أما ما تخلل السفر أو تعقبه من الإقامة، فإن أبا البركات قال: يقضيه. وأطلق، وشرط أبو محمد للقضاء أن يقيم مدة يمتنع فيها من القصر، وكلام الخرقي يشمل فيما إذا سافر بقرعة، أما إن سافر بغير قرعة فإنه يقضي للبواقي، قاله غير واحد، وقال أبو محمد: ينبغي أن يقضي مدة الإقامة لا زمان السير، والله أعلم.
قال: وإذا أعرس على بكر أقام عندها سبعا ثم دار، ولا يحتسب عليها بما أقام عندها، وإن كانت ثيبا أقام عندها ثلاثا، ولا يحتسب أيضا عليها بما أقام عندها.(5/347)
2671 - ش: الأصل في ذلك ما في الصحيحين عن أبي قلابة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا ثم قسم» قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2672 - وفي الدارقطني عن أنس قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاثة ثم يعود إلى نسائه» .
2673 - «وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام، وقال: «ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي» رواه أحمد ومسلم وأبو داود، والدارقطني ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين دخل بها: «ليس بك هوان على أهلك، إن شئت أقمت عندك(5/348)
ثلاثا خالصة، وإن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي» ، قالت: تقيم معي ثلاثا خالصة» .
وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكلام غيره يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة، وصرح به أبو محمد في المغني، وفي الرعاية احتمال أن الأمة على النصف من الحرة، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجماعة إنما صوروا المسألة فيما إذا تزوج امرأة على أخرى، والحديث إنما ورد في ذلك، وقد يقال: إن ذلك تنبيه على ما إذا لم يكن تحته زوجة، لأنه إذا لا يسقط حق أحد، ثم إن الحكم معلل بإزالة الاحتشام ونحوه وهو شامل.
(تنبيه) : لو أرادت الثيب أن يقيم عندها سبعا فعل وقضاهن للبواقي للحديث، والله أعلم.
[النشوز بين الزوجين]
قال: وإذا ظهر منها ما يخاف معه نشوزها وعظها، فإن أظهرت نشوزا هجرها، فإن أردعها وإلا فله أن يضربها ضربا لا يكون مبرحا.(5/349)
ش: النشوز كراهة كل واحد من الزوجين صاحبه، وسوء عشرته، مأخوذ من النشز وهو الارتفاع، فكأن كلا منهما ارتفع عما عليه، وإذا ظهر من المرأة ما يخاف معه نشوزها مثل أن تتثاقل إذا دعاها أو تجيب متبرمة متكرهة، وعظها بأن يذكر لها ما يلين قلبها من ثواب وعقاب، فيذكر لها ما وجب له عليها من الطاعة، وما عليها في مخالفته، لقول الله سبحانه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] فإن أصرت على ذلك وأظهرت النشوز، بأن امتنعت من إجابته إلى الفراش، أو خرجت من بيتها بغير إذنه ونحو ذلك، هجرها في المضجع ما شاء، لقوله سبحانه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وله هجرها في الكلام، لكن فيما دون ثلاثة أيام.
2674 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» فإن أصرت على الامتناع فله أن يضربها، لقوله سبحانه: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ويضربها ضربا غير مبرح، أي غير شديد.
2675 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا(5/350)
تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح» رواه مسلم، وتقدير الآية الكريمة على هذا التقرير عند أبي محمد: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع، فإن أصررن فاضربوهن، كآية المحاربة، وفيه تعسف، ومقتضى كلام أبي البركات وأبي الخطاب أن الوعظ والهجران والضرب على ظهور أمارات النشوز، لكن على جهة الترتيب قال المجد: إذا بانت أماراته زجرها بالقول، ثم يهجرها في المضجع والكلام دون ثلاث، ثم يضرب غير مبرح، وهذا ظاهر الآية الكريمة، غايته أن الواو وقعت للترتيب، إما لأن ذلك من مقتضاه أو لدليل من خارج، وهو أن المقصود زوال المفسدة، فيدفع بالأسهل فالأسهل، فله أن يضربها ضربا غير مبرح؛ فأجاز ضربها بمجرد العصيان، وهو مقتضى الحديث السابق، وقد قاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته بعرفة. ولو ترتب الضرب على الهجران لبينه، لأنه وقت حاجة، لتفرق الناس ورجوعهم إلى أوطانهم، والله أعلم.(5/351)
قال: والزوجان إذا وقعت بينهما العداوة، وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، مأمونين برضى الزوجين وتوكيلهما، بأن يجمعا إن رأيا أو يفرقا، فما فعلا من ذلك لزمهما.
ش: قد تقدم إذا ظهر من المرأة النشوز أو أماراته، فإن خرجا من ذلك إلى العداوة، وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكمين، إن رأيا المصلحة في الصلح أو التفريق بينهما فعلا، ولزم الزوجين فعلهما، لقول الله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما (فعنه) ما يدل على أنهما وكيلان للزوجين، لا يرسلان إلا برضاهما وتوكيلهما، فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا، هذا هو المشهور عند الأصحاب، حتى أن القاضي في الجامع الصغير، والشريف أبا جعفر، وابن البنا لم يذكروا خلافا، ونصبه أبو الخطاب؛ ولأن البضع حق للزوج، والمال حق للمرأة، وهما رشيدان، فلم يجز لغيرهما التصرف عليهما إلا بوكالة منهما، كما في غير ذلك (وعنه) ما يدل على أنهما حكمان، يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق، بعوض أو غيره، من غير رضى الزوجين، وهو ظاهر الآية الكريمة، لتسميتهما حكمين، ومخاطبتهما بقوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35] وعدم اشتراط رضى الزوجين.(5/352)
2676 - وقد روى أبو بكر بسنده عن عبيدة السلماني، أن رجلا وامرأة أتيا عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها؛ فبعثوا حكمين، ثم قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للحكمين: هل تدريان ما عليكما من الحق، عليكما من الحق إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي. فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كذبت حتى ترضى بما رضيت به.
2677 - ويروى أن عقيلا تزوج فاطمة بنت عتبة، فتخاصما، فجمعت ثيابها ومضت إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فبعث حكما من أهله عبد الله بن عباس، وحكما من أهلها معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما. وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف: فلما بلغا الباب كانا قد أغلقا الباب واصطلحا، وعلى كلتي الروايتين يشترط في الحكمين(5/353)
أن يكونا) من أهل العدالة، أما على الثانية فظاهر، وأما على الأولى فلأن الوكيل إذا كان منصوبا من جهة الحاكم فلا بد وأن يكون عدلا (وأن يكونا) عالمين بالجمع والتفريق؛ لأنهما منصوبان لذلك، وهل تشترط حريتهما؟ فيه وجهان مبنيان عند أبي محمد على الروايتين، وعن القاضي اشتراط الحرية، وصححه ابن حمدان، وذلك يمنع البناء، ويشترط (أن يكونا) ذكرين، قاله أبو محمد؛ لأن ذلك يفتقر إلى رأي ونظر، والمرأة بمعزل عنهما، وقد يقال بالجواز على الرواية الثانية، والأولى أن يكونا من أهلهما، لإرشاد الرب سبحانه لذلك، لكونهما أشفق عليهما، وأدعى لطلب الحظ لهما، ولا يجب، لأن القرابة لا تشترط في الوكالة، ولا في الحكم، وينبني على الروايتين أنه إذا غاب الزوجان أو أحدهما بعد بعث الحكمين فعلى الأولى لا ينقطع نظرهما، إذ الوكالة لا تبطل بالغيبة، وعلى الثانية فيه احتمالان، حكاهما في الهداية (أحدهما) - وقطع به أبو محمد، وأورده أبو البركات مذهبا -: ينقطع، إذ كل من الزوجين محكوم له وعليه، والقضاء للغائب لا يجوز؛ (والثاني) : لا ينقطع، إذ المغلب في الحكم الحكم على كل منهما، وإن جن الزوجان انقطع نظرهما على الأولى، بناء على أن الوكالة تبطل بالجنون على المذهب، وعلى الثانية لا ينقطع قاله أبو محمد تبعا لأبي الخطاب(5/354)
في الهداية، وأورده أبو البركات مذهبا، وجزم أبو محمد في الكافي والمغني بامتناع الحكم، معللا بأن من شرط الحكم بقاء الشقاق، ولا يتحقق ذلك مع الجنون، ويظهر أن التعليل هنا كالتعليل في الفرع الذي قبله، والله أعلم.
[مشروعية الخلع]
قال: والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل، وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه فلا بأس أن تفتدي نفسها منه.
ش: إذا كرهت المرأة زوجها لخلقه أو خلقه، أو دينه أو كبره ونحو ذلك، وخشيت أن لا تقوم له بما يجب له عليها، فلا بأس أن تفتدي نفسها منه بعوض، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] .
2678 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته؟» فقالت: نعم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة» رواه البخاري والنسائي، وفي لفظ: ولكن أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا» . ويسمى هذا خلعا، أخذا من خلع الثوب،(5/355)
كأنها تنخلع من لباس زوجها.
قال: ولا يستحب له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
2679 - ش: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن جميلة بنت سلول أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم. فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد؛» رواه ابن ماجه.
2680 - وعن أبي الزبير «أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان أصدقها حديقة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟» قالت: نعم وزيادة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما الزيادة فلا ولكن حديقته» قالت: نعم. فأخذها له وخلا سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال:(5/356)
قد قبلت قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الدارقطني بإسناد صحيح، وقال: سمعه أبو الزبير من غير واحد.
وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل الاستحباب، وأنه لو أخذ أكثر مما أعطاها جاز وصح الخلع، وهذا هو المنصوص والمختار لعامة الأصحاب، لعموم: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وحملا للمنع في الحديث على الكراهة، ومنع أبو بكر من ذلك، وأوجب رد الزيادة، أخذا بظاهر الحديث، وقصرا للعام على بعض أفراده وملخصه أنه لا بد من مخالفة ظاهر، وإنما النظر في أي الظاهرين أولى بالحمل عليه، والله أعلم.
قال: ولو خالعته لغير ما ذكرناه كره لها ذلك ووقع الخلع.
ش: أي لغير البغض وكراهة منع حقه، وهو أن يكون الحال بينهما مستقيمة، والمذهب المنصوص المشهور المعروف –(5/357)
حتى أن أبا محمد حكاه عن الأصحاب - وقوع الخلع مع الكراهة، لعموم قول الله سبحانه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4] (وعن أحمد) ما يدل على عدم الجواز، قال: الخلع مثل حديث سهلة تكره الرجل، فتعطيه المهر فهذا الخلع، وظاهر هذا أن غير هذا ليس بخلع، وفيه أيضا دليل لقول أبي بكر في المسألة قبل، وإلى هذا ميل أبي محمد قال: الحجة مع من حرمه، وذلك لقول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] منع سبحانه من الأخذ مطلقا، واستثنى منه صورة، فيبقى فيما عداها على مقتضى المنع، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] مفهومه أن الجناح لاحق بها إن افتدت من غير خوف ثم أكد سبحانه وتعالى بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] .(5/358)
2681 - وفي السنن: «أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس عليها فحرام عليها رائحة الجنة» وقوله سبحانه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] الضمير راجع إلى الصداق، وهذا الشيء منه لا بد وأن يكون بعضه، وإذا لا دليل في الآية، أو محمول على غير حال العقد، ولا يلزم من الإباحة بغير عقد الإباحة بعقد، بدليل الربا، ثم إن الله سبحانه قال: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ولا هناءة مع الكراهة، فكيف يستدل به.
ومما قد يدخل تحت كلام الخرقي إذا عضلها لتفتدي نفسها، فإنه خلع لغير ما ذكره، لكن لا نزاع عندنا في عدم صحة هذا للآية الكريمة: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] ولقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] نعم يستثنى من ذلك صور: (إحداها) : إذا زنت له أن يعضلها لتفتدي، لقوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ؛ (الثانية) : إذا ضربها على نشوزها ونحو ذلك لم يحرم خلعها(5/359)
لذلك، لأنها إذا لم تجبه لما يجب له عليها فقد خافت ألا تقيم حدود الله؛ (الثالثة) : إذا ضربها ظلما لا لقصد الافتداء لم تحرم مخالعتها، قاله أبو محمد، وهو مقتضى كلام غيره، لأنه لم يعضلها ليذهب ببعض ما آتاها، نعم عليه إثم الظلم بلا ريب، وحيث قلنا بعدم صحة الخلع فإن النكاح بحاله، والعوض مردود، إلا إن جعلناه طلاقا فإنه يكون رجعيا، والله أعلم.
[الخلع طلاق أم فسخ]
قال: والخلع فسخ في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى أنه تطليقة بائنة.
ش: الرواية الأولى هي المشهورة في المذهب، واختيار عامة الأصحاب، متقدمهم ومتأخرهم اعتمادا على ظاهر القرآن العظيم، فإن الله سبحانه قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وظاهره أن الخلع ليس بطلاق، وإلا يكون الطلاق أربعا، ولأنها فرقة خلت عن صريح الطلاق، فكانت فسخا كبقية الفسوخ، (ووجه الثانية) أن الخلع من كنايات الطلاق، وقد أتى به قاصدا للفراق، وكان طلاقا كبقية الكنايات، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في(5/360)
حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «خذ الحديقة، وطلقها تطليقة» ويجاب عن هذا بأنه لا نزاع في أن له أن يأخذ العوض ويطلقها، وأنه إذا أتى بلفظ الطلاق أنه يكون طلاقا، وإنما النزاع فيما وراء ذلك، والله أعلم، وعلى هذه الرواية لا كلام، أما على الأولى فهل الخلع فسخ مطلقا أو بشرط أن لا ينوي به الطلاق؟ فيه روايتان أشهرهما الثانية، وعلى كل حال متى وقع بلفظ الطلاق فهو طلاق بلا ريب، وفائدة الخلاف أنا إذا جعلناه فسخا لم ينقص عدد الطلاق، وإلا نقصه.
(تنبيه) : ألفاظ الخلع الصريحة: خالعتك، وفاديتك، وفسخت نكاحك، وما عداها كأبنتك ونحوه كناية، والله أعلم.
قال: ولا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به.
2682 - ش: لأن ذلك قول ابن عمر وابن الزبير، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولا(5/361)
يعرف لهما مخالف، ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد، فلم يلحقها طلاقه، كالمطلقة قبل الدخول، والمنقضية عدتها، وقوله: ولو واجهها به. يحترز من قول النعمان ومن وافقه أنه يلحقها الصريح المعنى، دون الكناية، والطلاق المزيل ككل امرأة له طالق، والله أعلم.
قال: ولو قالت له: اخلعني على ما في يدي من الدراهم، ففعل فلم يكن في يدها شيء، لزمها له ثلاثة دراهم.
ش: قد تضمن كلام الخرقي صحة الخلع بالمجهول، وهو المذهب المعمول به، لإطلاق قول الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولأن الخلع ليس بمعاوضة حقيقة، وإنما هو إسقاط لحقه من البضع، وإذا تدخله المسامحة، وقال أبو بكر: لا يصح الخلع، لأنه معاوضة، أشبه البيع، ولا تفريع على هذا، أما على الأول فمقتضى كلام الخرقي أنه إن كان في يدها دراهم فهي له وإن قلت، ولا شيء له سواها، لأن الذي خالعته عليه وهو شيء من الدراهم قد وجد، وإن لم يكن في يدها شيء فله ثلاثة دراهم، لأنه أقل الجمع حقيقة، بدليل ما لو وصى له بدراهم، ولأبي محمد احتمال أنه إذا كان في يدها دون(5/362)
الثلاثة دراهم لزمها ثلاثة، كما لو لم يكن في يدها شيء، والذي يظهر لي أن (من) هنا لبيان الجنس، وأنه إنما له ما في يدها، أو أقل ما يتناوله الاسم إن لم يكن في يدها شيء.
واعلم أن أبا البركات له في الخلع على المجهول تحرير حسن لم أره لغيره، وملخص ما قاله في هذه الصورة أن الذي قاله الخرقي على مختاره من صحة الخلع بغير عوض، أما إن قيل باشتراط العوض فهنا يجري قول أبي بكر بالبطلان، والمشهور خلافه، وعلى المشهور هل يجب كما تقدم أو يبطل المسمى ويجب مهر المثل أو إن وجد شيء فهو له، وإلا وجب مهر المثل؟ على ثلاثة أوجه، والله أعلم.
[الخلع على غير عوض]
قال: ولو خالعها على غير عوض كان خلعا ولا شيء له.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، لأنه قطع للنكاح، فصح من غير عوض كالطلاق، ولأن الأصل في مشروعية الخلع أن يوجد من المرأة رغبة عن زوجها، وتحتاج إلى فراقه فتسأله ذلك، فإذا أجابها فقد حصل المقصود منه، (والثانية) : لا يصح إلا بعوض، اختارها القاضي وجمهور أصحابه، أبو الخطاب، والشريف، والشيرازي وغيرهم، لأن الخلع الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعوض، والأصل عدم جواز ما عداه، ولأن الخلع (إن كان) فسخا فالزوج لا يملك فسخ النكاح إلا لعيبها، بخلاف ما إذا دخله العوض فإنه يصير معاوضة، فلا يجتمع له العوض(5/363)
والمعوض، (وإن كان) طلاقا فليس بصريح فيه اتفاقا، وإنما هو كناية، والكناية لا بد فيها من النية أو ما يقوم مقامها، وهو والحال هذه بدل العوض، ولم يوجد واحد منهما، فعلى هذه الرواية إن خلا عن عوض لم يقع به شيء إلا حيث نجعله طلاقا، فيكون طلاقا رجعيا، والله أعلم.
قال: ولو خالعها على ثوب ونحوه فخرج معيبا، فهو مخير بين أن يأخذ أرش العيب أو قيمة الثوب ويرده.
ش: الخلع على ثوب ونحوه له حالتان: (إحداهما) : أن يكون معينا وهو ينقسم قسمين منجزا ومعلقا، (فالمنجز) - وهو مراد الخرقي - أن يقول: خلعتك على هذا الثوب، فهذا إن لم يعلم به عيب حين العقد ثم اطلع على عيب، فإنه يخير بين أخذ أرش العيب عوضا عن الجزء الفائت، وبين رد الثوب وأخذ قيمته سليما، لأن مقتضى المعاوضة أنه إذا رد الثوب رجع في مقابله وهو البضع، لكن ذلك متعذر، لأن البينونة إذا وقعت لا ترتفع، فيرجع ببدل ما رضي به، وهو الثوب، وفيه البحث السابق في الصداق، أنه كان ينبغي أن يرجع في بدل البضع وهو مهر المثل.(5/364)
وفي المذهب: رواية أخرى أنه لا أرش له مع إمساكه كالرواية المذكورة في البيع والصداق، (والمعلق) أن يقول: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق. وهذا المنصوص عن أحمد، وهو اختيار الشيخين، لأنه إذا اطلع فيه على عيب فلا شيء له، تغليبا للشرط، وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنه كالذي قبله، تغليبا للمعاوضة؛ (والحال الثانية) : أن يكون غير معين، وهو قسمان أيضا (أحدهما) : أن يكون موصوفا بصفات السلم في الذمة، فهذا إذا سلمته إليه فوجد به عيبا (فله إمساكه) لأن غايته أنه قد رضي بدون حقه، (ورده) وأخذ بدله، لأن الذي وجب له في الذمة سليم، فيرجع إليه؛ (الثاني) : أن يكون مجهولا، كأن يخالعها على ثوب، فإن لم نشترط العوض فله أقل ما يتناوله الاسم، وإن اشترطناه فهل يصح الخلع والحال هذه؟ فيه وجهان، المذهب منهما الصحة، وعليه فهل يجب أقل ما يتناوله الاسم، أو قدر مهر مثلها؟ فيه وجهان، والله أعلم.
قال: وإذا خالعها على عبد فخرج حرا أو استحق كان عليها قيمته.
ش: لتعذر أخذه، والرجوع في البضع، وإذا فيرجع في بدل ما رضي به، وهو قيمته، وفيه الإشكال السابق، وقول الخرقي: خرج حرا أو استحق، يحترز عما إذا خالعها على ما يعلمان أنه حر أو مغصوب، فإنه لا شيء له بلا ريب، لكن هل يصح الخلع أو يكون كالخلع بغير عوض؟ فيه طريقتان للأصحاب،(5/365)
(والأولى) طريقة القاضي في الجامع الصغير، وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، (والثانية) طريقة الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي والشيخين، والله أعلم.
قال: ولو قالت له: طلقني ثلاثا بألف، فطلقها واحدة لم يكن له شيء، ولزمتها التطليقة.
ش: أما وقوع الطلاق بها فلا خلاف فيه، لأنه أتى بلفظه الصريح، وأما الألف فلا يستحق منها شيئا على المنصوص، والمجزوم به عند عامة الأصحاب، لأنها إنما بذلتها في مقابلة الثلاث، ولم تحصل، وصار كما لو قال: بعني عبديك بألف. فقال: بعتك أحدهما بخمسمائة. وفارق إذا قال: من رد عبيدي فله كذا. فرد بعضهم، فإنه يستحق بالقسط، لأن غرضه يتعلق بكل واحد من العبيد، وهنا غرضها يتعلق ببينونة كبرى وما حصلت، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنه يستحق ثلث الألف، كما لو قال: من رد عبيدي الثلاثة فله ألف درهم. فرد أحدهم كان له ثلث الألف، فلو لم يكن بقي من طلاقها إلا واحدة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف. فطلقها الواحدة، فالذي عليه الأصحاب هنا فيما علمت أنه(5/366)
يستحق الألف، لأن الواحدة إذا تحصل ما تحصل الثلاث من البينونة الكبرى، فالغرض الذي طلبته المرأة حاصل لها، ولأبي محمد في المقنع احتمال أنها إذا لم تعلم ليس له إلا ثلث الألف، لأنها مع العلم معنى كلامها: كمل لي الثلاث. بخلاف ما إذا لم تعلم، فإن الألف مبذولة في الطلقات الثلاث، فتقسطت عليها، والله أعلم.
قال: وإذا خالعته الأمة بغير إذن سيدها على شيء معلوم كان الخلع واقعا، ويتبعها إذا عتقت بمثله إن كان له مثل وإلا قيمته.
ش: إذا خالعته الأمة فلا يخلو إما أن يكون بإذن سيدها أو بغير إذنه، فإن كان بإذنه صح بلا ريب، كما لو أذن لها في تجارة أو نحوها، ومحل العوض كمحله في استدانتها، يتعلق بذمة سيدها على المذهب، وإن كان بغير إذنه فهل يصح؟ فيه وجهان: (أحدهما) - وهو مقتضى المحكي عن القاضي في المجرد، وأورده أبو البركات مذهبا - لا يصح، لأن الخلع عقد معاوضة، فلم يصح منها كالبيع ونحوه، (والثاني) - وهو الذي قطع به الخرقي، والقاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في الهداية، والشريف وأبو محمد في كتبه الثلاثة - يصح، لأنه إذا صح الخلع مع الأجنبي فمع الزوجة أولى، والخلع يفارق البيع، بدليل صحته على المجهول، وبغير عوض على رواية، وغير ذلك، ويتخرج لنا(5/367)
(وجه ثالث) : أنها إن خالعته في ذمتها صح، وعلى شيء في يدها لا يصح كبيعها، ويجوز في رواية تقدمت، وعلى القول بالصحة قال الخرقي وعامة من تبعه: تتبع بالعوض بعد العتق، لتعذر الأخذ منها في الحال، فيرجع عليها حين يسارها، وقال أبو محمد: إن وقع على شيء في الذمة فكذلك، وإن وقع على عين فقياس المذهب أنه لا شيء له، قال: لأنه إذا علم أنها أمة فقد علم أنها لا تملك العين، فيكون راضيا بغير عوض، ويلزم من هذا التعليل بطلان الخلع على المشهور، لوقوعه بغير عوض، والله أعلم.
قال: وما خالع العبد به زوجته من شيء جاز.
ش: لأنه إذا صح طلاقه من غير عوض، فبعوض أولى وأحرى.
قال: وهو لسيده.
ش: يعني عوض الخلع الذي خالع به العبد لسيده، لأنه من كسبه، وكسبه لسيده، ولم يتعرض الخرقي لمن يقبضه، وقد يقال: إن ظاهر كلامه أن السيد هو الذي يقبضه، وهو اختيار أبي محمد، وصاحب النهاية، كبقية أملاك السيد، وظاهر كلام أحمد واختاره القاضي، أن للعبد قبضه، لأنه لما ملك العقد تبعه عوضه والله أعلم.(5/368)
قال: وإذا خالعت المرأة في مرض موتها بأكثر من ميراثه منها فالخلع واقع، وللورثة أن يرجعوا عليه بالزيادة.
ش: مخالعة المريضة صحيحة بلا ريب، كبيعها ونحو ذلك، ثم إن كان المسمى قدر ميراثها منه فأقل فلا كلام، وإن كان أزيد وقف الزائد على إجازة الورثة، لأنها إذا متهمة، لاحتمال قصدها أن يعطى الوارث زيادة على إرثه، فأشبه ما لو أقرت له، والله أعلم.
قال: ولو طلقها في مرض موته، وأوصى لها بأكثر مما كانت ترث، فللورثة أن لا يعطوها أكثر من ميراثها.
ش: هذا أيضا من مشكاة الذي قبله، لأنه إذا أوصى لها بأكثر من ميراثها فهو متهم، لأنه يريد أن تبقى أجنبية ليتوصل إلى إعطائها أكثر من ميراثها، بخلاف ما إذا كان بالثلث فما دون، فإن التهمة منتفية، انتهى، وفي بعض النسخ: ولو خالعها. وعليها شرح أبو محمد، وهي أمس وفيها دلالة على صحة خلع المريض وهو واضح، لأنه يصح طلاقه، فمخالعته أولى، والله أعلم.
قال: ولو خالعته بمحرم وهما كافران، فقبضه ثم أسلما أو أحدهما، لم يرجع عليها بشيء.
ش: تخالع الكفار صحيح، لأنه يصح طلاقهم، فصح تخالعهم كالمسلمين، ثم إن كان العوض صحيحا فواضح، وإن كان محرما - كالخمر والخنزير - فإن قبضه الزوج فقد مضى(5/369)
حكمه، ولا شيء له وإن أسلم، كما لو تبايعا ذلك وتقابضا، ودليل الأصل قوله سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] وإن لم يقبضه فقال القاضي في الجامع الكبير: لا شيء له، لرضاه بما ليس بمال، أشبه المسلمين إذا تخالعا على ذلك، وقال في المجرد: يجب مهر المثل، لأن العوض فاسد، فرجع إلى قيمة المتلف، وهو مهر المثل، واختار أبو محمد أنه يجب قيمة ذلك عند أهله، لأنه إنما رضي بعوض، وقد تعذر العوض، فيرجع في بدله، وهذا قياس المذهب، كما لو خالعها على عبد فخرج حرا أو نحو ذلك، وفارق المسلم إذا خالع على ذلك، لأنه رضي بغير عوض، والله سبحانه أعلم.(5/370)
[كتاب الطلاق]
ش: الطلاق لغة التخلية، يقال: طلقت الناقة. إذا سرحت حيث شاءت، وجلس فلان في الحبس طلقا، إذا كان بغير قيد، والإطلاق الإرسال، وهو في الشرع راجع لذلك، لأنه حل قيد النكاح، ومن حل نكاحها فقد خليت، ويقال: طلقت المرأة وطلقت، بفتح اللام وضمها، تطلق بضم اللام فيهما، طلاقا وطلقة، والله أعلم.
[طلاق السنة والبدعة]
قال: وطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع، واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها.
ش: طلاق السنة ما أذن فيه صاحب الشرع، وعكسه طلاق البدعة، ولا خلاف أن المطلق على هذه الصفة مطلق للسنة، قاله ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما، والأصل فيه قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله سبحانه: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] .(5/371)
2683 - قال ابن مسعود في تفسيرها: طاهرا من غير جماع، ونحوه عن ابن عباس.
2684 - وفي الصحيحين «أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء» ، وفي رواية في الصحيحين أيضا: «ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى» .
وقول الخرقي: طاهرا. يخرج الحائض، وقوله: من غير جماع، يخرج الطاهر المصابة في الطهر، ولا نزاع أن طلاق هاتين للبدعة، وقد دل عليه ما تقدم، وقوله: واحدة ويدعها حتى تنقضي عدتها؛ يحترز عما لو طلقها أكثر من واحدة في طهر، أو طلق في كل طهر طلقة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.(5/372)
قال: ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يصبها فيه كان أيضا للسنة، وكان تاركا للاختيار.
ش: هذا (إحدى الروايتين) عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
2685 - لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة؛ وفي رواية: طلقها ثلاثا. الحديث.
2686 - وكذلك «امرأة رفاعة قالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي؛» وظاهره وقوع الثلاث بكلمة واحدة.
2687 - وفي حديث المتلاعنين في الصحيح «قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي رواية لأبي داود: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنفذه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - ولم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر ذلك، ولو لم يكن للسنة لأنكره، (والرواية الثانية) وهي أنصهما أن جمع الثلاث بدعة، وهذا اختيار أبي بكر، وأبي حفص، والقاضي والشريف، وأبي الخطاب والشيرازي،(5/373)
والقاضي أبي الحسين وأبي محمد، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1 - 2] ثم قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] ومن طلق ثلاثا لم يبق له أمر يحدث، ولم يجعل له مخرجا ولا يسرا.
2688 - قال مجاهد: كنت عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس؛ وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) رواه أبو داود.(5/374)
2689 - وعن محمود بن لبيد قال: «أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فغضب ثم قال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم» حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟» رواه النسائي.
2690 - وأما حديث فاطمة بنت قيس ففيه في مسلم وأبي داود والنسائي أنها قالت: إن أبا حفص طلقها آخر ثلاث تطليقات، وفي رواية أخرى لهم: أنه بعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها. وهذا يبين أن رواية: طلقها ثلاثا. أو طلقها ألبتة، يعني أنه استوفى عدد طلاقها، وكذلك يحمل حديث ركانة، مع أنه لم(5/375)
يكن بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ينكر عليه، وأما حديث المتلاعنين فالمنع من الثلاث إنما كان حذارا من سد الباب عليه، والملاعنة تحرم على التأبيد، فلا حاجة للمنع من الثلاث، (وعلى هذه) فهل المحرم جمع الثلاث في طهر واحد، فلو فرقها في ثلاثة أطهار لم يكن محرما، أو لا فرق بين أن يجمعها في طهر واحد أو في ثلاثة أطهار؟ على روايتين (إحداهما) : أن المحرم الجمع، لظاهر حديث ابن عمر الصحيح: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس» ؛ (والثانية) : لا فرق بين الجمع والتفريق، في أن الجميع بدعة.
2691 - لما روى الدارقطني عن الحسن قال: «حدثنا عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرأين، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر، فتطلق لكل قرء» قال: فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراجعتها، ثم قال: «إذا طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك» فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: «لا، كانت تبين منك وتكون معصية» .(5/376)
2692 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا، يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا، فمتى شاء راجعها. رواه النجاد، وحديث ابن عمر محمول على حصول رجعة بعد الطلاق، وإذًا الطلاق بعد الرجعة للسنة بلا ريب، ويتلخص أن في المسألة ثلاث روايات. (الثالثة) : الجمع في الطهر الواحد بدعة، والتفريق سنة.
واعلم أن بين الشيخين نزاعا في فرع آخر، وهو لو طلقها طلقتين، فعند أبي محمد أنه للسنة وإن كان الجمع بدعة، لكن الأولى عنده أن يطلق واحدة، وعند أبي البركات أنه كما لو جمع الثلاث، والله أعلم.(5/377)
(تنبيه) : أكثر الأصحاب على أن العلة في منع الطلاق في الحيض تطويل العدة، وخالفهم أبو الخطاب فقال: تطليقه في زمن رغبته عنها، قال أبو العباس: وقد يقال: إن الأصل في الطلاق النهي عنه، فلا يباح إلا وقت الحاجة، وهو الطلاق الذي تتعقبه العدة، لأنه لا بد من عدة، والعلة في منع الطلاق في الطهر المصاب فيه احتمال الحمل، فيحصل الندم، ولهذا إذا استبان حملها أبيح الطلاق، والعلة في جمع الثلاث سد الباب عليه، وعدم المخرج له، كما أشار إليه الكتاب العزيز، واختلف الأصحاب في الطلاق في الحيض، هل هو محرم لحق الله تعالى، فلا يباح وإن سألته، أو لحقها فيباح بسؤالها؟ على وجهين، (والأول) : ظاهر إطلاق القرآن والسنة، وأما جمع الثلاث فمحرم عند من حرمه لحق الله تعالى، فلا يباح بسؤالها بلا نزاع نعلمه، والله أعلم.
قال: وإذا قال لها أنت طالق للسنة؛ وكانت حاملا أو طاهرا طهرا لم يجامعها فيه؛ فقد وقع الطلاق، وإن كانت حائضا لزمها الطلاق إذا طهرت، وإن كانت طاهرة مجامعة فيه فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة لزمها الطلاق.
ش: اللام في (للسنة) للوقت، فإذا قال لها: أنت طالق للسنة، أي لوقت السنة، فإذا كانت طاهرا غير مجامعة في ذلك(5/378)
الطهر، فقد وقع الطلاق، لوجود ظرفه، وهو وقت السنة، وكذلك إن كانت حاملا.
2693 - لأن في مسلم والسنن من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» ؛ وفي لفظ: «إذا طهرت أو وهي حامل» » ، وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة، ولأن المطلق والحال هذه داخل على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد معه الندم. انتهى، وإن كانت حائضا فهذا ليس بوقت للسنة، فلم يوجد ظرف الطلاق، فإذا طهرت وجد وقت السنة، فتطلق، وكذلك إن كانت طاهرة مجامعة في الطهر، لم يوجد ظرف الطلاق، ثم هذا الطهر يتعقبه الحيض، وهو أيضا وقت للبدعة لا للسنة، فإذا طهرت منه وجد وقت السنة فتطلق لوجود ظرفه.
وظاهر كلام الخرقي أن بمجرد الطهر يوجد وقت السنة، وإن لم تغتسل، وهذا هو المذهب، وقيل: لا يوجد حتى تغتسل، ولعل مبنى القولين على أن العلة في المنع من طلاق الحائض إن قيل تطويل العدة، وهو المشهور أبيح الطلاق بمجرد الطهر، وإن قيل الرغبة عنها لم يبح حتى تغتسل، لمنعها منه قبل الاغتسال، والله أعلم.(5/379)
قال: ولو قال لها: أنت طالق للبدعة، وهي في طهر لم يصبها فيه، لم يقع الطلاق حتى يصيبها أو تحيض.
ش: هذه الصورة عكس التي قبلها، فإذا قال لزوجته: أنت طالق للبدعة. معناه لوقت البدعة، فإذا كانت في طهر لم يصبها فيه فهذا ليس بوقت للبدعة فلا تطلق، فإذا أصابها أو حاضت فقد وجد وقت البدعة فتطلق، هذا قول الأصحاب، واختار أبو البركات أنه إذا قال لها: أنت طالق للبدعة، وهي في زمن السنة أنها تطلق طلقتين في الحال إن قلنا: الجمع بدعة، لأنه لما لم يكن في وقت بدعة فالظاهر أنه لم يرد البدعة إلا من حيث العدد، ومعناه: أنت طالق طلاقا للبدعة. أي موصوفا بأنه للبدعة، وإذا تطلق طلقتين، لأنه طلاق موصوف بالبدعة، والله أعلم.
قال: ولو قال لها وهي حائض ولم يدخل بها: أنت طالق للسنة، طلقت من وقتها، لأنه لا سنة فيه، ولا بدعة.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وأشار إلى علته بأنه لا سنة في هذا الطلاق، أي طلاق غير المدخول بها ولا بدعة، وقد حكى ذلك ابن عبد البر إجماعا في غير العدد، وذلك لما تقدم من أن العلة في المنع من الطلاق في الحيض طول العدة، وفي(5/380)
الطهر المجامع فيه خوف الندم بظهور الحمل، وغير المدخول بها لا عدة عليها، ولا ارتياب في حقها، ولو عكس فقال لغير المدخول بها: أنت طالق للبدعة، وهي طاهر طلقت في الحال لذلك، وكذلك حكم الآيسة والصغيرة، لا سنة لطلاقهما ولا بدعة، وكذلك الحامل المستبان حملها، على أشهر الروايتين، لما تقدم، والرواية الثانية تثبت سنة الوقت للحامل، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، وهو ظاهر كلام الخرقي السابق، ولهذا لم يقل إذا قال لها: أنت طالق للبدعة، أنها تطلق إذا كانت حاملا، وعلى هذا إذا قال للحامل أنت طالق للبدعة؛ لم تطلق في الحال، حتى يوجد نفاس أو حيض.
(تنبيه) : وقول الخرقي: لا سنة فيه ولا بدعة، أي من حيث الوقت، وكذا من حيث العدد على مختاره، وعلى الرواية الأخرى تثبت لهم السنة من حيث العدد، والله أعلم.
[طلاق السكران]
قال: وطلاق الزائل العقل بلا سكر لا يقع.
ش: طلاق الزائل العقل لجنون أو إغماء أو طفولية لا يقع.
2694 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» رواه أبو داود.(5/381)
2695 - وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه. ذكره البخاري في صحيحه، مع أن هذا قد حكي إجماعا والحمد لله، وقد يدخل في كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - النائم، وهو أيضا بالإجماع، وقد شهد له النص.
ومما يدخل في كلام الخرقي من تعاطى ما يزيل عقله لغير حاجة، كالبنج ونحوه، وقد اختلف المذهب في هذا، فألحقه ابن حامد وأبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد بالسكران، وفرق أحمد بينهما، فألحقه بالمجنون، ووجه القاضي الفرق بأن الغالب من الناس أنهم يشربون لغير المعصية، بخلاف المسكر، والحكم يتعلق بالغالب، ولأن كثيرا ممن يشرب المسكر يظهر زوال العقل مع إثباته، فحكم بإيقاع الطلاق سدا للذريعة، بخلاف متعاطي البنج ونحوه، ومما قد يلحق بالبنج الحشيش الخبيثة، وأبو(5/382)
العباس يرى أن حكمها حكم الشراب المسكر، حتى في إيجاب الحد، ويفرق بينها وبين البنج، بأنها تشتهى وتطلب، فهي كالخمر، بخلاف البنج، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس وطلبها، والله أعلم.
قال: وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - في طلاق السكران روايات، إحداهن: لا يلزمه الطلاق، ورواية: يلزمه، ورواية يتوقف عن الجواب، ويقول: قد اختلف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه.
ش: الرواية الأولى اختيار أبي بكر، وابن عقيل فيما أظن، ونص عليها أحمد صريحا في رواية جماعة، بل هي آخر قوليه على ما حكى عنه الميموني، قال: أكثر ما فيه عندي أنه لا يلزمه الطلاق، فقيل له: أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه، قال: بلى ولكن أكثر ما عندي أنه لا يلزمه.
2696 - وذلك لقول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق.(5/383)
2697 - وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. ذكرهما البخاري في صحيحه، وقال أحمد: حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرفع شيء فيه، وهو أصح، يعني من حديث علي، وقال ابن المنذر: هذا ثابت عن عثمان ولا نعرف أحدا من الصحابة خالفه.
2698 - وقد جاء في حديث بريدة في «قصة ماعز أنه قال: يا رسول الله طهرني. قال: «مم أطهرك؟» قال: من الزنا. فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أزنيت؟» قال: نعم. فأمر به فرجم» . رواه مسلم والترمذي وصححه، وهذا ظاهر في أن وجود ريح الخمر منه(5/384)
يمنع من ترتب الحكم عليه، ويجعله في حكم المجنون، ولأنه زائل العقل، أشبه المجنون والنائم، ولأن شرط التكليف العقل وهو مفقود، ولا أثر لزوال الشرط بمعصيته، بدليل أن من كسر ساقه جاز أن يصلي قاعدا، ولا قضاء عليه، وكذلك لو ضربت المرأة بطنها فنفست، سقطت عنها الصلاة، (والرواية الثانية) اختارها الخلال والقاضي، وعامة أصحابه، الشريف وأبو الخطاب، والشيرازي وغيرهم.
2699 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه» ، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، ذكره البخاري في صحيحه.
2700 - وروى ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأتيته في المسجد، ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن، وطلحة(5/385)
والزبير، فقلت: إن خالدا يقول: إن الناس انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة؛ فقال عمر: هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجعله الصحابة في حكم الصاحي، بدليل أنهم أوجبوا عليه حد المفتري، ولأن كثيرا ممن يتعاطى ذلك يظهر زوال العقل مع ثباته، فعومل معاملة الصاحي، سدا للذريعة.
ولا يخفى أن أدلة الرواية الأولى أظهر، إذ الحديث الأول وكذلك قصة ابن وبرة لم يذكر من رواهما، ولا يعرف صحتهما.
2701 - ثم يضعف قصة ابن وبرة أن مذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن السكران إنما يجلد أربعين، وما ذكره البخاري عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: كل الطلاق جائز. فغايته عموم (والرواية الثالثة) نص عليها فيما أظن في رواية حرب، وقد ذكر وجه توقفه، وهو اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي التحقيق(5/386)
لا حاجة إلى ذكر هذه الرواية، لأن أحمد حيث توقف فللأصحاب قولان، وقد نص على القولين، فاستغني عن ذكر رواية التوقف، واعلم أن الروايتين المتقدمتين يجريان في عتقه ونكاحه، وبيعه وردته، وسائر أقواله، وقتله وسرقته، وكل فعل يعتبر له العقل (وعنه) أنه كالمجنون في أقواله، وكالصاحي في أفعاله، لأن تأثير الفعل أقوى من تأثير القول؛ ولهذا قلنا على رواية: إن الإكراه لا يؤثر في الأفعال (وعنه) رابعة أنه في الحدود كالصاحي، وفي غيرها كالمجنون، قال في رواية الميموني: تلزمه الحدود، ولا تلزمه الحقوق، وهذه اختيار أبي بكر، فيما حكاه عنه القاضي، ويلزم أن يقول اختياره في الطلاق عدم الوقوع، وذلك سدا للذريعة، وحذارا من أن تنتهك محارم الله بالاحتمال، ويشهد لها أيضا قصة ابن وبرة إن صحت، (وعنه) رواية خامسة أنه فيما يستقل به مثل عتقه وقتله وغيرهما كالصاحي، وفيما لا يستقل به - مثل بيعه ونكاحه ومعاوضته - كالمجنون، حذارا من أن يلزم غيره بقوله شيء، حكاها ابن حامد، قال القاضي: وقد أومأ إليها في رواية البرزاطي، وقد سأله عن طلاق السكران فقال: لا أقول في طلاقه شيئا، قيل له: فبيعه وشراؤه؟ قال: أما بيعه وشراؤه فغير جائز.(5/387)
قلت: ونقل عنه إسحاق بن هانيء ما يحتمل عكس هذه الرواية، فقال: لا أقول في طلاق السكران وعتقه شيئا، ولكن شراؤه وبيعه جائز.
(تنبيه) : السكر الذي يقع الخلاف فيه أن يخلط في كلامه، ولا يعرف فعله من فعل غيره، ونحو ذلك، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فجعل سبحانه علامة زوال السكر علمه بما يقول، ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من الأرض ونحو ذلك، لأن ذلك لا يخفى على المجنون، والله أعلم.
[طلاق الصبي]
قال: وإذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه.
ش: هذه إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار عامة أصحابه، الخرقي وأبي بكر، وابن حامد، والقاضي وأصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل.
2702 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها. قال: فصعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فقال: «يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته، ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» رواه ابن ماجه والدارقطني.(5/388)
2703 - ولما يروى من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه» المغلوب على عقله؛ (والثانية) : لا يقع طلاقه حتى يبلغ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» الحديث، وتقييد الخرقي الصبي بالعاقل ليخرج من لم يعقل، ولا نزاع في ذلك، ولينيط الحكم بالعقل، وكذا أكثر الروايات، وهو اختيار القاضي وغيره، (وعنه) تقييد ذلك بابن عشر، وهو اختيار أبي بكر، لجعله حدا للضرب على الصلاة ونحوها، ومعنى عقل الطلاق أن يعرف أن النكاح يزول به، ويلزم من هذا أن يكون مميزا، والله أعلم.
[طلاق المكره]
قال: ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء.
2704 - ش: لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه.(5/389)
2705 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا طلاق ولا عتاق في غلاق» رواه أبو داود وهذا لفظه، وأحمد وابن ماجه، ولفظهما «في إغلاق» قال المنذري: وهو(5/390)
المحفوظ. قال أبو عبيد والقتيبي: معناه في إكراه. وقال أبو بكر: سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا: يريد الإكراه، لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه، وقد تقدم قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز.
2706 - وعن قدامة بن إبراهيم، أن رجلا على عهد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تدلى يشتار عسلا فأقبلت امرأته فجلست على الحبل، فقالت: ليطلقها ثلاثا، وإلا قطعت الحبل، فذكرها الله والإسلام فأبت، فطلقها ثلاثا، ثم خرج إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر ذلك له، فقال: ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق. رواه سعيد بن منصور، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ويستثنى(5/391)
من هذا إذا كان الإكراه بحق، كإكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص، إذا لم يف، وإكراه الرجلين اللذين زوجهما وليان، ولم يعلم السابق منهما، لأنه قول حمل عليه بحق فصح، كإسلام المرتد.
وقول الخرقي: ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء. ظاهره وإن نوى به الطلاق، وهو أحد القولين، نظرا إلى أن اللفظ مرفوع عنه بالإكراه، فإذا تبقى نيته مجردة، (والقول الثاني) أنه بمنزلة الكناية، إن نوى به الطلاق وقع وإلا لم يقع، حكاهما أبو الخطاب في الانتصار، وكذلك حكى شيخه عن أحمد ما يدل على روايتين، وجعل الأشبه الوقوع، وكذلك أورده أبو محمد مذهبا، ولا نزاع عند العامة أنه إذا لم ينو الطلاق، ولم يتأول بلا عذر، أنه لا يقع، ولابن حمدان احتمال بالوقوع والحال هذه، والله أعلم.
قال: ولا يكون مكرها حتى ينال بشيء من العذاب، مثل الضرب، أو الخنق أو عصر الساق، وما أشبهه، ولا يكون التواعد إكراها.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي وجمهور أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم، ونص عليه أحمد في رواية الجماعة، وقال: كما فعل بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2707 - وكأنه يشير إلى «قصة عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فروي أن المشركين أخذوه فأرادوه على الشرك، فأعطاهم، فانتهى إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو(5/392)
يبكي، فجعل يمسح الدموع عن عينيه، ويقول: «أخذك المشركون فغطوك في الماء، وأمروك أن تشرك بالله ففعلت، فإن أمروك مرة أخرى فافعل ذلك بهم» » رواه أبو حفص، ووجه الدليل منه أن الرخصة وردت في مثل ذلك، فاقتصرت عليه، ولأن التواعد غير محقق، وغايته ظن، ولا يترك بالظن أمر متيقن (والرواية الثانية) يكون التواعد إكراها، اختارها ابن عقيل في التذكرة، وأبو محمد، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الذي اشتار العسل، ولأن الإكراه إنما يتحقق بالوعيد، فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه وإنما يباح الفعل المكره عليه دفعا لما يتوعد به من العقوبة فيما بعد، (فعلى الرواية الأولى) شرط الضرب أن يكون شديدا، أو يسيرا في حق ذي مروءة، على وجه يكون إخراقا، ومما يشبه الضرب، وعصر الساق القيد والحبس الطويلان، وأخذ المال الكثير، زاد في الكافي: والإخراج من الديار لا السب ونحوه رواية واحدة، قاله في المغني، وجعل في الكافي الإخراق ممن يغض ذلك منه إكراها، وفي تعذيب الولد قولان، وضبط أبو البركات ذلك(5/393)
بأن يكون مثله يتضرر بذلك تضررا بينا، ولا بد أن يستدام مع الفعل التوعد بذلك، (وعلى الرواية الثانية) شرط التواعد أن يكون بما تقدم من قادر يغلب على ظنه فعله إن خالفه، وعجزه عن دفعه وهربه واختفائه، وهل يستثنى على هذه الرواية التهديد بالقتل فيكون إكراها، لأنه لا يمكن تداركه بعد وقوعه؟ استثناه القاضي في الروايتين، وقال: يجب أن يقال: يكون إكراها، رواية واحدة، وتبعه المجد، وزاد قطع الطرف، ولا شك أن المعنى فيهما واحد، وتبعه المجد، وزاد قطع الطرف، ولا شك أن المعنى فيهما واحد، وظاهر كلام أبي محمد في كتبه عدم استثنائه، وقد أورد على القاضي في التعليق فشمله، وأجاب بالفرق بما تقدم، ثم قال: على أن هذه الرواية لا فرق بين القتل وغيره، على ظاهر كلام أحمد في رواية صالح والمروذي، والله أعلم.(5/394)
[باب صريح الطلاق وغيره]
أي باب حكم صريح الطلاق وغيره من الاستثناء في الطلاق، والتعليق بشرط، وغير ذلك مما يذكر إن شاء الله تعالى، والصريح الخالص من كل شيء، فصريح الطلاق اللفظ الموضوع له، الذي لا يفهم منه عند الإطلاق غيره، أو يفهم لكن على بعد.
قال: وإذا قال لها: قد طلقتك، أو قد فارقتك، أو قد سرحتك؛ لزمه الطلاق.
ش: ظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هذه الألفاظ صريحة في الطلاق، ولا نزاع في أن المذهب أن لفظ الطلاق وما تصرف منه مما يفهم منه الطلاق صريح في الطلاق، لأنه موضوع له على الخصوص، وقد ثبت له عرف في الشرع والاستعمال، ففي الكتاب العزيز: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، فإن طلقها وفي السنة والاستعمال أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض.
2708 - وقالوا: طلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفصة، وهذا واضح لا خفاء به، وقد دخل في الطلاق وما تصرف منه طلقتك، وأنت(5/395)
طالق، وأنت مطلقة وأنت الطلاق، وخرج منه أطلقك وطلقي؛ لأنه لا يفهم منهما الطلاق، إذ الأول وعد، والثاني طلب، وليس بخبر ولا إنشاء، وحكى أبو بكر عن أحمد رواية في: أنت مطلقة أنه ليس بصريح، لاحتمال أن يريد طلاقا ماضيا، ويلزمه ذلك في طلقتك؛ ولأبي محمد في الكافي احتمال في: أنت الطلاق؛ أنه لا يكون صريحا، ومن الصريح إذا قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم. إذ السؤال معاد في الجواب، ويحتمل أن لا يكون صريحا من القويل في: أقبلت هذا النكاح. وأطلقك؛ ليس بصريح على المذهب، لانتفاء عرف الاستعمال فيه، وللقاضي فيه احتمال.
وأما لفظ السراح والفراق ففيهما وجهان، (أحدهما) - وهو الذي ذكره الخرقي، وتبعه عليه القاضي في التعليقة وفي غيرها، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن البنا والشيرازي وغيرهم - أنهما صريحان، حكمهما حكم لفظ الطلاق، لورودهما في الكتاب العزيز بمعنى الفرقة، فأشبها لفظ الطلاق، قال سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130](5/396)
وقال سبحانه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] (والثاني) - وهو اختيار ابن حامد، وأبي الخطاب في الهداية، والشيخين - ليسا بصريح، لاستعمالهما في غير الطلاق كثيرا، فأشبها سائر كناياته، قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] وأما قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فليس المراد به الطلاق قطعا، إذ الآية في الرجعية، وهي إذا قاربت انقضاء عدتها فإما أن يمسكها برجعة، وإما أن يترك حتى تنقضي عدتها فيسرح، فالمراد بالتسريح في الآية الكريمة قريب من معناها اللغوي، وهو الإرسال، وهو أن تخلى، وكذلك المفارقة في الآية الثانية، المراد بها ترك مراجعتها، كأنه إذا يظهر حكم الفرقة، لأنها قبل انقضاء العدة في حكم الزوجة، وأما قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} [النساء: 130] فليس فيه بيان لما تحصل به الفرقة، وأما أسرحكن يحتمل أرسلكن بالطلاق، ثم المدار على عرف الاستعمال الشرعي، وهو مفقود، وعلى هذا الوجه هما كنايتان ظاهرتان، حكمهما حكم الخلية والبرية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.(5/397)
(تنبيه) حكم الصريح أنه لا يحتاج إلى نية كما سيأتي إن شاء الله، وأنه إن صرفه بأن قال: من وثاق. أو نحو ذلك فإن كان باللفظ سمع منه، وإن كان بالنية فإنه يدين، وفي الحكم إن قامت قرينة تكذبه كالغضب أو بسؤالها الطلاق لم يسمع، وإلا فروايتان، أنصهما القبول، والله أعلم.
قال: ولو قال لها في الغضب: أنت حرة. أو لطمها فقال: هذا طلاقك. لزمها الطلاق.
ش: أما إذا قال لها: أنت حرة. فقد اتفق الأصحاب فيما علمت في عدها من كنايات الطلاق، لأن الحرة هي التي لا رق عليها، ولا شك أن النكاح رق.
2709 - ولهذا في الحديث: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» أي أسراء، والزوج ليس له على الزوجة إلا رق الزوجية، فإذا أخبر بزوال الرق فهو الرق المعهود، وهو رق الزوجية، ثم من الأصحاب من يعدها في الكنايات الظاهرة، وهم الأكثرون ومنهم من يعدها في المختلف فيه.(5/398)
وظاهر كلام الخرقي أنه جعلها من الخفية، لأنه قال: لزمها الطلاق. وظاهره طلقة واحدة، ولم يجعلها كالخلية ونحوها.
وقيد الخرقي وقوع الطلاق بحال الغضب، وهو مدل بشيئين (أحدهما) أن الكنايات إذا اقترن بها دلالة حال، من غضب أو ذكر الطلاق ونحو ذلك، قام ذلك مقام النية، وطلقت على المشهور، والمختار لكثير من الأصحاب من الروايتين، إذ دلالة الحال كالنية، بدليل أنها تغير حكم الأقوال والأفعال، فإن من قال لرجل: يا عفيف ابن العفيف؛ في حال تعظيمه كان مدحا، ولو قاله في حال الشتم والسب كان ذما وقذفا (والرواية الثانية) لا بد في الكنايات من النية، لأن نفس اللفظ للطلاق وغيره، ومميزه النية، فلا بد من اعتبارها، دفعا للإيهام، ومال أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه في الألفاظ التي يكثر استعمالها - نحو: اخرجي، واذهبي، ونحو ذلك - لا يقع بها طلاق، إلا أن ينويه (فعلى المذهب) لو ادعى أنه لم يرد بها الطلاق دين، وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين.(5/399)
واعلم أن أبا البركات حكى الروايتين في القبول في الحكم وعدمه، إذا ادعى عدم إرادة الطلاق، وغيره يجعل الروايتين في الغضب، هل يقوم مقام النية أم لا؟ فربما ظن ظان أن بينهما تنافيا وليس كذلك، فإن غايته أن الأصحاب ذكروا رواية لم يذكرها المجد، وذكر يعني المجد رواية تؤخذ من كلامهم في غير هذا المحل، وهو ما إذا ادعى أنه أراد بلفظه ما يخالف ظاهره، ونحو ذلك.
(الشيء الثاني) أنه إذا أتى بالكناية في غير حال الغضب لا يقع بها طلاق، وهو كذلك، لأن اللفظ بمجرده لا دلالة له على الطلاق، بل هو كالمشترك، فلا بد من شيء يبين المراد منه، ويستثنى من ذلك النية، إذ هي تبين المراد، وكأن الخرقي إنما تركه اكتفاء بذكر الغضب، لأنه إذا اكتفي بالغضب لدلالته على النية، فالنية أولى وأحرى، وأما إذا لطمها وقال: هذا طلاقك. فقوة كلام الخرقي يقتضي وقوع الطلاق بمجرد ذلك من غير نية، وهو قول ابن حامد، لأن معناه أوقعت عليك طلاقا هذا من أجله، واختار أبو محمد أنه كناية في الطلاق، يعتبر له ما يعتبر لها من النية، أو دلالة حال، لأن هذا اللفظ غير موضوع للطلاق، ولا مستعمل فيه شرعا ولا عرفا، فأشبه سائر الكنايات، وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في الخلاف، ويحتمل كلام الخرقي هذا أيضا، ويكون اللطم قائما مقام النية، لأنه يدل على الغضب، وعلى قياس ما تقدم لو أطعمها أو سقاها ونحو ذلك، فعلى الأول يقع الطلاق بمجرده، وعلى الثاني(5/400)
لا بد من النية، وعلى القول بالوقوع من غير نية فلو فسره بمحتمل غيره قبل، وعلى هذا فهذا قسم برأسه ليس بصريح وإلا خرج الخلاف إذا صرفه، ولا كناية، لأن الكناية تتوقف على النية، فهو ظاهر في الطلاق، يصرف عند الإطلاق إليه، ويجوز صرفه إلى غيره، والله أعلم.
قال: وقال أبو عبد الله: وإذا قال لها: أنت خلية أو أنت برية أو أنت بائن، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك. فهو عندي ثلاث، ولكني أكره أن أفتي به، سواء دخل بها أو لم يدخل بها.
ش: وقوع الثلاث بهذه في الجملة هو المشهور عن أحمد، واختيار كثير من الأصحاب، لأنه المشهور عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2710 - فعن أحمد أنه قال في الخلية والبرية والبتة قول علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قول صحيح ثلاثا.
2711 - وقال أيضا في البتة: عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجعلها واحدة، وعلي وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثلاثا.(5/401)
2712 - وروى النجاد بإسناده أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل البتة واحدة، ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات.
2713 - وروي أيضا عن نافع أن رجلا جاء إلى عاصم وابن الزبير فقال: إن ظئري هذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها، فهل تجدان له رخصة؟ فقال: لا، ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة فسلهم، ثم ارجع إلينا فأخبرنا، فسألهم فقال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: هي ثلاث. وذكر عن عائشة متابعتهما؛ ولأن(5/402)
معنى: أنت خلية. أنت متروكة خالية من النكاح، وكذلك: برية. معناه البراءة من النكاح، وكذلك بائن أي منفصلة من النكاح، وكذلك: حبلك على غاربك. أي مرسلة غير مشدودة، ولا ممسكة بعقد النكاح، والغارب مقدم السنام، والحقي بأهلك. كذلك، إذ الرجعية لا تترك بيت زوجها، وإذا كان هذا مقتضى هذه الألفاظ الثلاث ترتب الحكم على مقتضاها، ولو نوى دونها لأن نيته تخالف مقتضاها، فتلغو نيته، (وعن أحمد) رواية أخرى أنه يقع بها ما نواه، اختاره أبو الخطاب في الهداية.
2714 - لما روي أنه «ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله ما أردت إلا واحدة؟» فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة. فردها إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطلقها الثانية في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والثالثة في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي لفظ قال «هو على ما أردت» رواه أبو داود وصححه، وابن ماجه والترمذي وقال: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب.(5/403)
2715 - ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابنة الجون: «الحقي بأهلك» » وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(5/404)
لا يطلق ثلاثا، لأنه مكروه، وعلى هذه الرواية إن لم ينو شيئا وقعت بها واحدة، (وعنه) ما يدل على أنه يقع بها واحدة بائنة، إعمالا لمقتضى اللفظ والأصل، إذ مقتضاه البينونة، والأصل عدم ما زاد على الواحدة، وهذا الخلاف جار في جميع الكنايات الظاهرة.
ثم اعلم أن عامة الأصحاب يحكون الخلاف على نحو ما قدمت، وخالفهم أبو البركات، فجعل محل الخلاف مع الإطلاق، هل تطلق ثلاثا أو واحدة؟ على روايتين أما إذا نوى شيئا فيدين في ما نواه من غير خلاف، وفي قبوله في الحكم روايتان، وظاهر كلام العامة وقوع الثلاث من غير تديين، وكلام أحمد محتمل، فإنه قال في غير رواية في هذه الصور ونحوها: أخشى أن يكون ثلاثا. انتهى، ولا نزاع عندهم أن الخفية يقع بها ما نواه، وقد اختلف الأصحاب في ما عدا الظاهرة والخفية، والمختلف فيها، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، إلا أنه لا نزاع عندهم فيما أعلمه أن الخلية والبرية والبائن من الكنايات الظاهرة، وكذلك البتة والبتلة، ولا نزاع أن نحو: اخرجي واذهبي، وروحي؛ من الكنايات الخفية، واختلف في: الحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك، ونحو ذلك هل هو ظاهر أو خفي؟(5/405)
وقول الخرقي: سواء دخل بها أو لم يدخل. احترز عن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قبل الدخول يجعلها واحدة، وبعد ثلاثا، وإنما كره أحمد الفتيا بالثلاث في الكنايات الظاهرة لأنه لا نص فيها، بحيث ترفع الشبهة، وأيضا فإن فيه الحكم بتحريم فرج مع الاحتمال، والله أعلم.
قال: وإذا أتى بصريح الطلاق لزمه نواه أو لم ينوه.
ش: لأن اللفظ صريح فيه، فلم يحتج به إلى نية كالبيع ونحوه، وسواء قصد المزح أو الجد.
2716 - قال أبو هريرة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق والرجعة» رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وقال: حسن غريب. مع أن هذا اللفظ قد حكي اتفاقا، لكن على كل حال لا بد من قصد اللفظ، ليخرج النائم والساهي ونحوهما.(5/406)
ومفهوم كلام الخرقي أن الكنايات لا بد فيها من النية، ولا نزاع في ذلك في الخفية، أما الظاهرة فقد نص أحمد على اشتراط النية، وعليه جمهور الأصحاب، القاضي وأصحابه، والشيخين وغيرهم، ولم يشترط أبو بكر للظاهرة نية، وقد وقع لأحمد إطلاقات ظاهرها ذلك، لكنها محمولة على نصوصه الصريحة، وزعم القاضي أن ظاهر كلام الخرقي أيضا عدم الاشتراط، أخذا من إطلاقه الأول، والله أعلم.
قال: ولو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا وأراد به الكذب لم يلزمه شيء.
ش: لأن قصارى هذا أن يكون كناية، ولم يوجد شرطها وهو النية، فلا يلزمه شيء، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يرد الكذب تطلق، وذلك مع شرطه وهو النية، هذا هو المشهور من الرواية، والمختار للأصحاب، لأنه لفظ يحتمل الطلاق، لأنها إذا زال نكاحها فليست له بامرأة، ونقل عنه أبو طالب إذا قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا. ليس بشيء، فأخذ أبو البركات من إطلاق هذا رواية أنه يلزمه طلاق وإن نوى، لأنه خبر كذب، وليس بإيقاع، وحمل القاضي الرواية على أنه لم(5/407)
ينو الطلاق، وعلى المشهور لو أقسم بالله على ذلك فقد توقف أحمد في رواية مهنا، فخرج وجهان، مبناهما على أن الإنشاءات هل تؤكد فيقع الطلاق، أو لا تؤكد إلا الخبر، فيتعين خبرية هذا، فلا يقع الطلاق، والله أعلم.
قال: ولو قال: قد طلقتها. وأراد به الكذب لزمه الطلاق.
ش: أي لو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: قد طلقتها. وأراد الكذب طلقت، لأنه أتى بصريح الطلاق، فلزمه كما لو قال ابتداء: طلقت زوجتي، ونحو ذلك، هذا هو المشهور، وقال ابن أبي موسى: إنما تطلق في الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى فيدين، كما لو قال: كنت طلقتها. والله أعلم.
[الحكم لو وهب زوجته لأهلها]
قال: وإذا وهب زوجته لأهلها فإن قبلوها فواحدة، يملك الرجعة إذا كانت مدخولا بها، وإن لم يقبلوها فلا شيء.
ش: هبة الزوجة لأهلها كناية في الطلاق في الجملة، لأن هبتها تدل على رغبته عنها، وذلك محتمل للطلاق، فوقع به بشرطه كبقية الكنايات، ثم الهبة إنما تلزم وتتم بالقبول، ولذلك إن قبلوها ترتب الحكم، وإن ردوها فلا شيء.
إذا تقرر هذا فالمشهور في المذهب أنهم إن قبلوها فواحدة، جعلا له كبقية الكنايات الخفية، إذ الرغبة عنها تحصل(5/408)
بالواحدة، وما زاد مشكوك فيه، فلا يثبت بالشك، وإن ردوها فلا شيء، لأن الهبة لم تتم (وعن أحمد) رواية أخرى إن قبلوها فثلاث، وإن ردوها فواحدة.
2717 - لأنه قول زيد بن ثابت أو يقال: إذا قبلوها فهو كالحقي بأهلك، وهو كناية ظاهرة، في رواية، فكذلك هنا، وإن ردوها فواحدة، بناء على أن الهبة تلزم في المعين بدون القبض، وأنها كناية خفية وحيث أوقعنا طلقة فإن كانت مدخولا بها فهي رجعية، وإن لم تكن مدخولا بها فهي بائن، قال أبو محمد: وهذا كله مع الإطلاق أو نية الواحدة، أما لو نوى اثنتين أو ثلاثا فهو على ما نوى، كبقية الكنايات الخفية انتهى، وشرط وقوع الطلاق أن ينوي الزوج الطلاق، قاله القاضي وأبو الخطاب وغيرهما، كبقية الكنايات، قال القاضي: وينبغي أن تعتبر النية من الذي يقبل أيضا، وتبعه على ذلك ابن حمدان، كما لو قال لزوجته اختاري؛ وفيه شيء، لأن: اختاري. حقيقة في توكيلها في الطلاق، بخلاف هذا فإن حقيقة الهبة تحصل بالقبول، ولهذا كثير من الأصحاب لا يشترطون ذلك.(5/409)
(تنبيه) : وحكم: وهبتك لنفسك، حكم وهبتك لأهلك، على ما تقدم، قاله أبو الخطاب، والشيخان وغيرهم، وزاد أبو محمد - وتبعه ابن حمدان - إذا وهبها لأجنبي، وقد ينازع في ذلك، فإن الأجنبي لا حكم له عليها، بخلاف نفسها وأهلها، والله أعلم.
[التوكيل في الطلاق]
قال: وإذا قال لها: أمرك بيدك. فهو بيدها وإن تطاول، ما لم يفسخ أو يطأها.
ش: للزوج أن يطلق امرأته بنفسه، وله أن يوكل في ذلك، كما يوكل في عتق عبده ونحوه، وله أن يوكل المرأة كالأجنبي، فإذا قال لها: أمرك بيدك. فتارة يقصد بذلك تنجيز طلاقها، فتطلق في الحال، وماذا تطلق؟ ينبني على ما تقدم في الكنايات الظاهرة، وتارة يقصد بذلك تفويض الطلاق إليها، فهذا نوع توكيل لها في الطلاق، فتملك ذلك على التراخي.
2718 - اعتمادا على أن هذا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكما لو جعله في يد أجنبي، هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعليه الأصحاب، وخرج أبو الخطاب فيه قولا أنه على المجلس كالاختيار كما سيأتي وقال أبو البركات: إن أحمد نص على المسألتين، مفرقا بينهما، وإذا لا يحسن(5/410)
التخريج، والذي رأيته في التعليق التفريق بين: أمرك بيدك. تملك به ثلاثا، واختاري. لا تملك به إلا واحدة، نعم نص مفرقا على أن: أمرك بيدك. للتراخي، واختاري. يختص المجلس، وعلى المذهب هو في يدها ما لم يفسخ الزوج ذلك أو يطأها، لقيام ما يدل على بطلان التوكيل نصا أو ظاهرا، وإذا لم تعلم المرأة بالفسخ فينبغي أن يبقى التوكيل في يدها في رواية، بناء على أن الوكيل لا ينعزل قبل علمه بالعزل.
قال: فإن قالت: قد اخترت نفسي. فهي واحدة يملك بها الرجعة.
ش: يعني إذا قال لها: أمرك بيدك. فقالت: اخترت نفسي. فهي واحدة رجعية، لأن اختيارها لنفسها يحصل بواحدة، والأصل عدم ما زاد على ذلك، وهذا إذا لم تنو أكثر من واحدة، فإن نوت أكثر من واحدة وقع ما نوت، لأنها تملك الثلاث بالصريح، على ما سيأتي، فتملكها بالكناية كالزوج، والله أعلم.
قال: وإن طلقت نفسها ثلاثا، وقال: لم أجعل إليها إلا واحدة؛ لم يلتفت إلى قوله، والقضاء ما قضت.
ش: كذا نص عليه أحمد، وقال: لا تنفعه نيته.
2719 - وكذلك رواه البخاري في تأريخه عن عثمان، ويروى أيضا عن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(5/411)
2720 - «وعن حماد بن زيد، أنه قال: قلت لأيوب: هل علمت أحدا قال في (أمرك بيديك) أنها ثلاث إلا الحسن؟ قال: لا؛ ثم قال: اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة، عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث» قال أيوب: فلقيت كثيرا مولى ابن سمرة، فسألته فلم يعرفه، فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال: نسي» . رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وقال: هذا حديث منكر. وعن البخاري أنه قال: إنما هو عن أبي هريرة موقوف، ولأنه اسم جنس مضاف، فيشمل الطلاق الثلاث، وهذا غير قانع، لأنه إنما يحسن مع الإطلاق، أما مع النية فالنية صالحة للتخصيص، فإذا العمدة ما تقدم، وقول أحمد: لا تنفعه نيته. يؤيد ما يقوله الجماعة، من أن الكناية الظاهرة يقع بها ثلاث وإن نوى واحدة، وقد صرح أبو محمد هنا بأنه لا يدين انتهى، (وعن(5/412)
أحمد) : رواية أخرى أنه يرجع إلى نيته، كالرواية في الكنايات الظاهرة، وقد سبقت، ولا ريب أن المذهب عند الأصحاب الأول، والله أعلم.
قال: وكذلك الحكم إذا جعله في يد غيرها.
ش: يعني يكون في يده ما لم يفسخ أو يطأ، وله أن يطلق واحدة، وله أن يطلق ثلاثا، ولو نوى الزوج أقل من ذلك، على المذهب لما تقدم، والله أعلم.
قال: ولو خيرها فاختارت فراقه من وقتها وإلا فلا خيار لها.
ش: المذهب المنصوص والمعمول به أن خيار المخيرة على الفور، اتباعا لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2721 - فعن سعيد بن المسيب أنه قال: قضى عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما لم يفترقا، رواه النجاد.
2722 - وعن ابن عمر قال: ما دامت في مجلسها.
2723 - وعن ابن مسعود وجابر نحوه، ولم نعرف لهم مخالفا في(5/413)
الصحابة، ولأنه خيار تمليك، فكان على الفور كخيار القبول، وخرج أبو الخطاب فيه قولا أنه على التراخي، من: أمرك بيدك. وقد تقدم أن أبا البركات حكى عن أحمد أنه نص على التفرقة، فيبطل التخريج (فعلى الأول) هل يختص بالمجلس، ويكون كمجلس القبول في البيع، يبطل بالإعراض عنه، وهو اختيار القاضي والأكثرين، أو يكون على الفور، جوابا لكلامها، وهو ظاهر كلام الخرقي؟ على روايتين، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو خيرها مدة، أو قال: اختاري متى شئت. ونحو ذلك، فإنها تملك ذلك حسب ما جعله لها.
2724 - وقد «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لما خيرها - «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» والله أعلم.
قال: وليس لها أن تختار أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك.
ش: إذا خيرها وأطلق فليس لها أن تختار أكثر من واحدة.(5/414)
2725 - قال أحمد: هذا قول ابن عمر وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن: اختاري. تفويض مطلق، فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وما زاد عليه فهو مشكوك فيه، فلا يثبت مع الشك، وهذا بخلاف: أمرك بيدك. فإنه للعموم كما تقدم، وإن قيد ذلك بواحدة أو أكثر اتبع، ويكون في الواحدة تنصيص على مقتضى الإطلاق، وفي الثلاث والاثنتين من باب إطلاق المطلق، وإرادة العام مجازا، والله أعلم.
[الحكم لو طلقها بلسانه واستثنى بقلبه]
قال: وإذا طلقها بلسانه، واستثنى شيئا بقلبه، وقع الطلاق ولم ينفعه الاستثناء.
ش: إذا طلق زوجته بلسانه، كأن قال مثلا: أنت طالق ثلاثا. واستثنى شيئا بقلبه، كأن نوى إلا واحدة، وقع الطلاق، ولم ينفعه الاستثناء، لأن العدد نص، والنية لا تقاومه، فلا يرتفع بالضعيف ما يثبت بالنص القاطع، واستعمال الثلاث بمعنى اثنتين استعمال للفظ في غير ما يصلح له.(5/415)
وظاهر كلام الخرقي أنه لا ينفعه الاستثناء لا ظاهرا ولا باطنا، وهو اختيار الشيخين، إذ اللفظ غير صالح لما أراد، ومفهوم كلام أبي الخطاب أنه ينفعه باطنا، لأنه قال: لم يقبل في الحكم، (وقول الخرقي) : وإذا طلقها بلسانه. قد يحترز عما إذا طلق نسوة واستثنى واحدة منهن بقلبه، ولهذا صورتان، (إحداهما) : أن يقول: نسائي الأربع طوالق. ثم يستثنى بقلبه إلا واحدة، فهذه كمسألة الكتاب (الثانية) : أن يقول: نسائي طوالق ويستثني بقلبه إلا واحدة، فهذا ينفعه الاستثناء، لأن (نسائي) عام قابل للتخصيص، والنية صالحة لذلك، (وقوله) : واستثنى شيئا بقلبه. يحترز عما إذا استثنى بلسانه، فإنه ينفعه ذلك، لورود ذلك في الكتاب والسنة، وكلام العرب، وعن أبي بكر: لا يصح الاستثناء في عدد الطلاق بحال، وليس بشيء، وعلى الأول يصح استثناء الأقل بلا نزاع، ولا يصح استثناء الكل بلا نزاع، وفي النصف والأكثر ثلاثة أقوال (ثالثها) : يصح في النصف دون الأكثر، وهو مقتضى قول الخرقي في الأقارير، والله أعلم.(5/416)
[الطلاق المضاف لوقت]
قال: وإذا قال لها: أنت طالق في شهر كذا. لم تطلق حتى تغيب شمس اليوم الذي يلي الشهر المشترط.
ش: ملخصة أنه إذا جعل زمنا طرفا لوقوع الطلاق، فإن الطلاق يقع في أول ذلك الظرف، لصلاحيته له، كما لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق. فإنها تطلق إذا دخلت أول جزء منها، فإذا قال لزوجته: أنت طالق في شهر شعبان مثلا؛ فإنها تطلق إذا غربت شمس آخر يوم من رجب، لأن الشهر المشترط للطلاق يلي ذلك فبغروب شمس آخر يوم من رجب، دخل أول جزء من شعبان، وهو أول الظرف فتطلق، والله أعلم.
[تعليق الطلاق على الطلاق]
قال: وإذا قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق. فإذا طلقها لزمها اثنتان.
ش: إذا قال لزوجته المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق؛ فقد علق طلاقها على طلاقها، فإذا طلقها طلقت طلقتين، طلقة بالمباشرة، وطلقة بوجود الشرط، وقوله: فإذا طلقها. يشمل ما إذا باشرها بالطلاق، كما لو قال لها بعد التعليق: أنت طالق. وما إذا علق طلاقها بعد التعليق على شرط، فوجد الشرط، كما إذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق. ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار، فإنها تطلق طلقتين، طلقة بدخول الدار، وطلقة بالتعليق الأول، وهذا بخلاف ما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق. ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق. ثم دخلت الدار، فإنها لا تطلق(5/417)
إلا طلقة واحدة بالتعليق الأول، وقاعدة ذلك أن التعليق مع وجود الشرط بمنزلة التنجيز، ففي الصورة الأولى التعليق، ووجود الشرط وجدا بعد التعليق السابق، فكان بمنزلة التنجيز، وفي الثانية لم يوجد بعد التعليق إلا الشرط، وهو أحد جزئي التنجيز، وليس بتنجيز، والله أعلم.
قال: ولو كانت غير مدخول بها لزمته واحدة.
ش: علم من هذا أن الصورة السابقة فيما إذا كانت مدخولا بها، وهذه فيما إذا كانت غير مدخول بها، فلا تطلق إلا واحدة بالطلاق الثاني، إذ به تبين، والبائن لا يلحقها طلاق، فلا يمكن إعمال الشرط الأول، والله أعلم.
قال: وإذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق. ولم ينو وقتا، ولم يطلقها حتى مات أو ماتت، وقع الطلاق بها في آخر وقت الإمكان.
ش: «إن» المكسورة المخففة موضوعة للشرط، لا تدل على زمان إلا من حيث إن الفعل المعلق بها من ضرورته الزمان، فهي مطلقة في الزمان كله، لا تدل على فور ولا تراخ، ولا فرق بين الإثبات والنفي، فإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق. ولم ينو وقتا ولم يطلقها، فإنه لا يحنث بالتأخير، إذ الفعل ليس على الفور، فكل وقت يمكن أن يفعل ما حلف عليه، والوقت لم يفت، فإذا مات أحدهما علمنا حنثه حينئذ، لانتفاء إيقاع الطلاق بها بعد موت أحدهما، أما بعد موته فواضح، إذ الطلاق من جهته وقد تعذر، وأما بعد موتها فلانتفاء قابليتها(5/418)
لوقوع الطلاق عليها، فإذا يتبين أن الطلاق وقع حيث لم يبق زمن يسع لأنت طالق، هذا هو المذهب بلا ريب (وعن أحمد) رواية أخرى أنه متى عزم على الترك بالكلية حنث حال عزمه، وهذا كله إن لم ينو وقتا، أما إن نوى وقتا، كأن قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، ونوى اليوم، فإن اليمين تتعلق بذلك الوقت، بحيث إذا فات طلقت، إذ النية لها مدخل في تقييد المطلق، كما لها مدخل في تخصيص العام، وكذا لو قامت قرينة بفورية، كما لو قال لزوجته مثلا: ادخلي الدار اليوم. فقالت: لا أدخل. فقال: إن لم تدخلي فأنت طالق. فإن يمينه تتقيد باليوم، لأن حاله تقتضي التقييد بذلك، والله أعلم.
قال: وإن قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق. لزمها ثلاث إن كانت مدخولا بها.
ش: كلما تقتضي التكرار، قال الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] {مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] فيقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة، وهو عدم الطلاق، فإذا مضى بعد يمينه زمن يمكن أن يطلقها فيه ولم يطلقها، فقد وجد الشرط، فيقع بها طلقة، وتتبعها الثانية والثالثة، إن كانت مدخولا بها، ولما كان زمن وقوع الطلاق متصلا بتكلمه، غير منفصل عنه، قال: لزمها ثلاث، وإن كانت غير مدخول بها(5/419)
طلقت واحدة لا غير، لأنها تبين بها، فلا يلحقها ما بعدها، والله أعلم.
قال: وإذا قال لها: أنت طالق إذا قدم فلان، فقدم به ميتا أو مكرها لم تطلق.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لأنه لم يقدم، وإنما قدم به، إذ الميت لم يوجد منه فعل أصلا، والمكره وإن وجد منه فعل، لكنه منسوب إلى من أكرهه، (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه: يحنث، لأن الفعل يصح نسبته إليه، ولذلك يقال: دخل الطعام البلد، وقال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر: 71] وأجيب بأنه وإن نسب الفعل إليه، لكنه في الميت ونحوه على سبيل المجاز، والأصل الحقيقة، وفي المكره فالشارع ألغى ذلك، حيث قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» فالفعل من المكره مرفوع عنه، فلا ينسب إليه، وهذا كله مع عدم النية، أما مع النية فيحمل الكلام عليها بلا إشكال.
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى قدم مختارا حنث الحالف، وهو كذلك، سواء علم باليمين أو جهلها، قال الخلال: قولا(5/420)
واحدا، وقال ابن حامد: إن كان القادم لا يمتنع باليمين، كالسلطان والرجل الأجنبي فكذلك، لأنه إذا تعليق للطلاق على صفة، وإن كان ممن يمتنع من القدوم باليمين، كقرابة لها أو لأحدهما، أو غلام لأحدهما، فجهل اليمين، أو نسيها، خرج على ما إذا حلف على فعل نفسه، وفعل ناسيا أو جاهلا، لأنه إذا بمنزلة اليمين، واليمين يعذر فيها بالجهل والنسيان، قال أبو محمد: وينبغي على هذا القول أن تعتبر نية الحالف، فإن قصد باليمين منع القادم من القدوم كان يمينا، وإن قصد جعله صفة في الطلاق لم يكن يمينا، فلا يفرق بين علم القادم وجهله، وتعتبر قرائن أحواله أيضا، فإذا كان التعليق على قدوم غائب بعيد، يعلم أنه لا يعلم اليمين، أو على فعل صغير أو مجنون، أو ممن لا يمتنع بها، لا يكون يمينا، وإن كان التعليق على من يعلم بيمينه، ويمتنع من أجلها فهو يمين، ومتى أشكلت الحال قال: فينبغي أن يقع نظرا للفظ والله أعلم.
قال: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق؛ لزمتها تطليقتان، إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى، فيلزمها تطليقة.
ش: أما لزوم التطليقتين لها إذا لم يرد بالثانية إفهاما، فنطرا لمقتضى اللفظ، إذ مقتضاه وقوع الطلاق، وقصد الإفهام صارف له ولم يوجد، فهو كالعام والمطلق، يعمل بهما ما لم يوجد مخصص مقيد، وأما لزوم واحدة لها فقط إذا نوى بالثانية(5/421)
إفهام الزوجة أن الطلاق قد وقع عليها، فلا ريب فيه، لأنه لم يقصد بالثانية إنشاء الطلاق وإنما أراد الإخبار والبيان عما تقدم، ومثل ذلك لو قصد التأكيد، نعم يشترط أن لا يفصل بينهما بما لم تجر العادة به، إذ التوكيد تابع، فشرطه الاتصال كسائر التوابع، والله أعلم.
قال: وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى، ولم يلزمها ما بعدها، لأنه ابتداء كلام.
ش: يعني أن الحكم السابق فيما إذا كانت مدخولا بها، أما إن كانت غير مدخول بها فقال لها: أنت طالق، أنت طالق. فإنها تبين بالأولى، لانتفاء العدة عليها، فيصادفها قوله الثاني: أنت طالق. بائنا والبائن لا يقع بها طلاق، ولا فرق أن ينوي بقوله الثاني الطلاق، أو يطلق لما تقدم، وقول الخرقي: لأنه ابتداء كلام. يعني «أنت طالق» الثاني كلام مستقل، لا تعلق له بالأول، واحترز بالأول عن قوله لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا، ومن: أنت طالق وطالق وطالق، كما سيأتي، والله أعلم.
قال: وإذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق. لزمتها الثلاث، لأنه نسق، وهو مثل قوله: أنت طالق ثلاثا.
ش: الواو لمطلق الجمع، أي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، من غير إشعار بترتيب ولا معية، على المشهور(5/422)
المعروف من قولي العلماء والأدباء، وأهل الأصول، حتى أن الفارسي حكى اتفاق أهل العربية عليه، ونص عليه سيبويه في بضعة عشر موضعا من كتابه، وعن ثعلب وابن درستويه، وقليل من الأدباء أنها للترتيب، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد واختاره جماعة من الشافعية، وقيل: إنه اختيار أبي بكر من أصحابنا، وحكاه ابن حمدان رواية عن الإمام أحمد وعزي أيضا إلى نص الشافعي، وتوجيه الخلاف، واستقصاؤه له محل آخر، (فعلى الأول) إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق. طلقت ثلاثا، لما تقدم من أن الواو للجمع، والكلام كله في حكم جملة واحدة، فهو كقوله: أنت طالق ثلاثا، ولهذا قال الخرقي: لأنه نسق. أي غير متفرق، لا يقال: أنت طالق ثلاثا. جملة واحدة بلا ريب، بخلاف: أنت طالق وطالق وطالق لأنها ثلاث جمل، وكل جملة منهن غير مقيدة بشيء، بخلاف: أنت طالق ثلاثا. فإنه مقيد بالثلاث والكلام إنما يتم بآخره، لأنا نقول: الصحيح عند الجمهور - سيبويه وغيره - أن هذا من باب عطف المفردات، لا من باب عطف الجمل، فالعامل في الثاني هو العامل في الأول، بواسطة حرف العطف، ودعوى أن كل جملة غير مقيدة بشيء، ممنوع مع(5/423)
العطف، فالكلام إنما يتم معه أيضا بآخره، كما في: أنت طالق ثلاثا. انتهى.
وعلى الثاني لا تطلق غير المدخول بها إلا طلقة، كما لو قال لها: أنت طالق. ثم طالق. إذ الطلاق الثاني إذا كان مرتبا بعد الأول اقتضى سبق الأول له، وإذا تبين فلا يلحقها طلاق بعد ذلك، وقول الخرقي: وهو مثل قوله: أنت طالق ثلاثا. إشعار بأن هذه الصورة لا خلاف فيها، وهو كذلك، إذ: ثلاثا. تمييز، وتبيين للطلاق الذي لفظ به، والله أعلم.
(تنبيه) : إذا ادعى التأكيد فإن ادعى تأكيد الثانية بالثالثة سمع منه، لاتفاق اللفظ، وهذا من العطف المغير الذي قاله أبو البركات، وإن ادعى تأكيد الأولى بالثانية، لم يسمع منه، نعم يدين فيما بينه وبين الله تعالى، والله سبحانه أعلم.
قال: وإذا طلق ثلاثا وهو ينوي واحدة فهي ثلاث.
ش: لأنه استعمل اللفظ في غير ما يصلح له لغة وعرفا، فلغا استعماله، وأعمل بمقتضى اللفظ، لا يقال: لأنه تجوز في ذلك. لأن الثلاث نص قاطع في العدد، فلا يقبل التجوز، وإرادة الوحدة، إذ صحة ذلك موقوفة على أن مثل ذلك تجوزت العرب فيه، ولم تنقل الوحدة، وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه إذا طلق ثلاثا يقع عليه الثلاث، وهذا مذهبنا ومذهب العامة.(5/424)
2726 - لأنه قد جاء في بعض روايات «ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما طلق امرأته وهي حائض، وأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمراجعة، أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا، كان يحل لي أن أرجعها؟ قال: «لا كانت تبين منك وتكون معصية» رواه الدارقطني.
2727 - وعن يونس بن يزيد قال: سألت ابن شهاب عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه قبل أن يدخل بها، فقال أبوه: هي طالق ثلاثا. كيف السنة في ذلك؟ فقال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، مولى ابن عامر بن لؤي، أن محمد بن إياس بن البكير الليثي - وكان أبوه شهد بدرا - أخبره، أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بانت منه، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وإنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال مثل قول أبي هريرة، وسأل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال مثل قولهما. رواه البرقاني في كتابه المخرج على الصحيح.
2728 - وعن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا؛ قال: فسكت حتى ظننت أنه(5/425)
رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك فبانت منك امرأتك. وإن الله قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] رواه أبو داود. وهذا كالإجماع من الصحابة على صحة وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة.
2729 - وقد عورض هذا بما روى طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم» ، رواه أحمد ومسلم، وقد قال بظاهر هذا(5/426)
طائفة قليلة من العلماء، وهو اختيار أبي العباس، وحمله بعض التابعين على ما قبل الدخول.
2730 - وقد جاء ذلك مصرحا به في رواية أبي داود، وتأوله بعضهم على صورة تكرير اللفظ، بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فيلزمه واحدة مع التوكيد، وثلاث مع عدمه، ففي زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصدقهم صدقوا في إرادة التوكيد، ولما رأى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحوال الناس قد تغيرت ألزمهم الثلاث، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى ضعف رواية طاووس هذه، فقال: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قاله طاووس، وكذلك أشار البيهقي، قال: هذا الحديث مما اختلف فيه البخاري ومسلم، وتركه البخاري، قال: وأظنه إنما(5/427)
تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ابن المنذر: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه علم شيئا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يفتي بخلافه، وقال الشافعي: يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد علم أن كان شيئا فنسخ، وبالجملة تنقيح هذه المسألة، والكلام على هذه التأويلات، يحتاج إلى بسط أزيد من هذا، ولا يليق بمختصرنا، والله أعلم.
[حكم من طلق واحدة وهو ينوي ثلاثا]
قال: وإذا طلق واحدة وهو ينوي ثلاثا فهي واحدة.
ش: إذا طلق واحدة فله حالتان (إحداهما) : أن يقول: أنت طالق. فهذا إن أطلق وقعت واحدة بلا ريب، وإن نوى ثلاثا فيه روايتان (إحداهما) : - وهي اختيار القاضي، وقال إن عليها الأصحاب، واختيار أصحابه أيضا الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي - لا تطلق إلا واحدة، لأن لفظه لا يتضمن عددا، وإنما هو إخبار في الحقيقة(5/428)
عن صفة هي عليها، فهو كقوله: قائمة وقاعدة. فإذا نوى به الثلاث فقد نوى ما لا يتضمنه اللفظ، ولا يقتضيه، فيلغى (والرواية الثانية) : تطلق ثلاثا، ولعلها أظهر، لأن قوله: أنت طالق. تقديره الطلاق أو طلاقا، ولو صرح بذلك ونوى الثلاث طلقت ثلاثا، فكذلك إذا لم يصرح به، إذ المقدر كالملفوظ به، ثم لو لم يقدر بشيء فالصفة التي وصفها به، وهي: أنت طالق. تتضمن المصدر وزيادة، ولا ريب أن المصدر يصح تفسيره بالقليل والكثير، فكذلك: أنت طالق. ولهذا لو صرح بالتفسير فقال: أنت طالق ثلاثا. طلقت ثلاثا بلا ريب، فعلى هذه الرواية إذا صرح بالواحدة فقال: أنت طالق واحدة - وهذه هي الحالة الثانية - ونوى ثلاثا، ففيه وجهان (أحدهما) : - وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني، ومتقضى كلام الخرقي -: لا تطلق إلا واحدة، لأن الواحدة صريح في الوحدة، فإذا نوى بها ثلاثا فقد نوى ما لا يحتمله اللفظ، ثم إن نيته خالفت صريح لفظه، ولا شك أن النية أضعف من اللفظ، فالقوي يقدم على الضعيف، ثم لو قدر تعارض اللفظ والنية لبقي: أنت طالق مجردا. وإنه لا يقع به إلا واحدة (والوجه الثاني) : تطلق ثلاثا، وتكون نيته دالة على محذوف، تقديره: أنت طالق واحدة معها اثنتان، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/429)
[باب الطلاق بالحساب]
قال: وإذا قال لها: نصفك طالق، أو يدك أو عضو من أعضائك طالق، أو قال لها: أنت طالق نصف تطليقة، أو ربع تطليقة؛ وقعت بها واحدة.
ش: أما كونها تطلق طلقة إذا طلق منها جزءا مشاعا كنصفها وثلثها ونحو ذلك، أو معينا كيدها وعينها ونحو ذلك، فلأنها جملة لا تتبعض في الحل والحرمة، وجد فيها ما يقتضي التحريم فغلب، كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل الصيد، ولأنه أشار بالطلاق إلى ما هو من أصل الخلقة، لا يزال عنها في حال السلامة، فكانت الإشارة إليه كالإشارة إلى الجملة، دليله لو أشار إلى الوجه أو الرأس، وخرج السن، لأنه ليس من أصل الخلقة، وإنما يحدث بعد كمالها، والشعر والظفر لزوالهما في حال السلامة، يحقق ذلك أن الأصل في كلام المكلف الإعمال لا الإلغاء، وإطلاق البعض على الكل مجاز مستعمل سائغ، قال سبحانه وتعالى: ذلك بما كسبت أيديكم وقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] بما كسبتم وتبت جملته.(5/430)
2731 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» عبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخف عن الإبل، والحافر عن الخيل، وهو كثير، وإذا فهذا كذلك تصحيحا لكلام المكلف.
(تنبيه) : إذا أضاف الطلاق إلى عضو من أعضائها فهل يقع عليها جملة، تسمية للكل باسم البعض، وهو ظاهر كلام أحمد، قاله القاضي، أو على العضو نظرا لحقيقة اللفظ، ثم يسري تغليبا للتحريم؟ فيه وجهان، وينبني عليهما إذا قال: إن دخلت الدار فيدك طالق؛ فدخلت وقد قطعت يدها، أو قال: يدك طالق. ولا يد لها، فعلى الأول تطلق، وعلى الثاني لا، انتهى، وأما كونها تطلق طلقة إذا قال لها: أنت طالق نصف طلقة، أو ربع طلقة، أو ثمن طلقة، ونحو ذلك، وهو قول جمهور أهل العلم، فلما تقدم من إطلاق البعض على الكل، تصحيحا لكلام المكلف، والله أعلم.
قال: ولو قال لها: شعرك أو ظفرك طالق، لم يلزمها الطلاق، لأن الشعر والظفر يزولان، ويخرج غيرهما، وليس هما كالأعضاء الثابتة.
ش: نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك مع السن، وعلل بأن ذلك يبان، يعني مع السلامة فأشبه الريق والحمل، والدمع والعرق،(5/431)
ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بأنها تطلق بذلك، لأنه جزء من الجملة، أشبه يدها.
(تنبيه) : توقف أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية مهنا والفضل في الروح، هل يكون مظاهرا بها أم لا؟ والذي أورده أبو الخطاب وأبو البركات مذهبا الطلاق، وقال أبو بكر: لا تطلق. ونقله عن أحمد، وجزم أبو البركات تبعا لأبي الخطاب في الدم بالطلاق، وابن البنا في الخصال بعدمه، والله أعلم.
[الشك في الطلاق]
قال: وإذا لم يدر أطلق أم لا فلا يزول يقين النكاح بشك الطلاق.
ش: يعني لم تطلق، وقد علله الخرقي بأن النكاح متيقن، والطلاق مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك، وهذه قاعدة مستمرة، تقدم ذكرها في الطهارة، والله أعلم.
قال: وإذا طلق فلم يدر أواحدة أم ثلاثا، اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة، فإن راجعها في العدة لزمته نفقتها، ولم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق، لأنه متيقن للتحريم، شاك في التحليل.
ش: المسألة الأولى إذا شك في أصل الطلاق، وهذه إذا علم أنه طلق وشك في قدر ما طلق، فالمنصوص أيضا وعليه الأصحاب أنه يبني على اليقين لما تقدم، وقال الخرقي: يعتزلها. وهذا(5/432)
أصل مبني على قاعدته، من أن الرجعة محرمة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، قال: وعليه نفقتها. لأن الأصل بقاؤها. استنادا لبقاء النكاح، قال: فإن راجعها في العدة لزمته نفقتها. لما تقدم، إذ الأصل عدم الثلاث، قال: ولم يطأ حتى يتيقن كم الطلاق، لأنه متيقن للتحريم شاك في التحليل؛ وهذا الأصل والتعليل كلاهما منازع فيه، فالتعليل بناء عنده على أن الرجعة محرمة، وهو إحدى الروايتين، والمشهور - وعليه الأصحاب - خلافه، لما سيأتي إن شاء الله، وإذا انتفى هذا التعليل انتفى الأصل، ثم لو سلم هذا التعليل، وأن الرجعة محرمة لم يبح ما قاله، لأن الذي ينفيه تحريم تزيله الرجعة، فيزول بزوالها، ولهذا عامة الأصحاب لم يلتفت لهذا، وقالوا بالإباحة، ولضعف هذا القول أنه لم يلتفت له القاضي في تعليقه، وحمل كلام الخرقي على الاستحباب، والله أعلم.
[الحكم لو طلق إحدى زوجاته ولم ينو واحدة بعينها]
قال: وإذا قال لزوجاته: إحداكن طالق، ولم ينو واحدة بعينها، أقرع بينهن، فأخرجت القرعة المطلقة منهن.
ش: إذا قال لزوجاته: إحداكن طالق. ونوى واحدة معينة، قبل منه تعيينها وطلقت، لأنه عينها بنيته، أشبه ما لو عينها بلفظه، وإن لم ينو ففيه روايتان (أشهرهما) عن أحمد - وعليها عامة الأصحاب، حتى أن القاضي في تعليقه وأبا محمد وجماعة لا يذكرون خلافا - أنه يقرع بينهما، فمن خرجت عليها القرعة فهي المطلقة، لأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية،(5/433)
فتدخله القرعة، دليله العتق، ودليل الأصل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرع بين العبيد الستة» ، ولأن الحق لواحد غير معين، فوجب تعيينه بالقرعة، كالحرية في العبيد، إذا أعتقهم وضاق ثلثه عن جميعهم، وكالبداءة بإحدى نسائه في القسم أو السفر بها، قال أحمد: القرعة سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجاء بها القرآن (والرواية الثانية) : يرجع إلى تعيينه، فمن عينها فهي المطلقة، لأنه يملك الإيقاع ابتداء والتعيين، وقد أوقع ولم يعين، فيملك ذلك استيفاء لما ملكه، والله أعلم.
قال: وكذلك إن طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة المطلقة منهن.
ش: منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الميموني وأبي الحرث أنه لا فرق بين هذه الصورة والتي قبلها، وعلى هذا عامة الأصحاب، الخرقي، والقاضي، وأصحابه وغيرهم، وسئل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -(5/434)
عن ذلك في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة؛ فأخذ من ذلك - والله أعلم - أبو البركات رواية بالمنع، وهو اختيار أبي محمد، فلا مدخل للقرعة عنده هنا، ويحرمان عليه جميعا، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، وفرق بين هذه والتي قبلها بأن الحق ثم لم يثبت لواحدة بعينها، فدخلت القرعة لتبيين التعيين، وهنا الطلاق واقع في معينة لا محالة، والقرعة لا ترفعه عنها، فلا توقعه على غيرها انتهى.
والظاهر ما يقول الجماعة، وإن كان أصل دخول القرعة في هذا ليس بالواضح، لأن هذا الفرق إنما يتم لأبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو قيل بأن الطلاق يقع في غير المعينة من حين القرعة، وليس كذلك، بل الطلاق - على ما صرح به القاضي، وذكر عن الإمام أحمد ما يدل عليه في رواية أبي طالب - يقع من حين الإيقاع، وإذا وقع الطلاق من حين الإيقاع، فلا بد له من محل يتعلق به، ولا يتعلق إلا بمعين، فلا فرق بين الصورتين، وقد دخلت القرعة في الصورة الأولى فتدخل في الثانية، وأبو محمد يوافق الجماعة على هذا الأصل، فإنه يجعل العدة من حين الإيقاع، لا من حين القرعة انتهى.
فعلى قول أبي محمد يحرم الجميع عليه، وتجب عليه نفقتهن، لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح، وكذلك في قول الجميع قبل(5/435)
القرعة، ولم أرهم فرقوا بين الطلاق الرجعي والبائن، مع أن الرجعي لا يحرم على المذهب، فقد يقال: لأنه إذا وطئ فقد يطأ من أصابها الطلاق، فتحصل رجعتها على المذهب، وإذا لا مطلقة منهن، فإذا أقرع بعد ذلك وخرجت القرعة بعد ذلك على واحدة، فيحكم بطلاقها وهي زوجة، فلهذا المحذور حرم الوطء مطلقا، نعم لو أراد وطء الجميع فلا ينبغي أن يمنع من ذلك، لأن بذلك تحصل رجعة من طلقها جزما، فأشبه ما لو قال: من وقع عليها طلاقي فقد راجعتها، وعلى قول الأصحاب إذا أقرعنا مع النسيان فخرجت القرعة على واحدة، فقد حكم بطلاقها ظاهرا، فإذا قال بعد ذلك: ذكرت المنسية وأنها غير التي خرجت عليها القرعة، حكم بطلاق التي ذكرها بإقراره بلا ريب، وهل ترجع إليه التي خرجت عليها القرعة؟ لا يخلو إما أن تكون القرعة بحكم حاكم أم لا، فإن كانت بحكم حاكم لم ترجع إليه، حذارا من إبطال حكم الحاكم بقوله، وكذلك إن لم تكن القرعة بحكم حاكم وتزوجت، نص أحمد على هاتين الصورتين، لتعلق حق الغير بها، وفيما عدا هاتين الصورتين قولان وبعضهم يحكيهما روايتين (إحداهما) : ترجع إليه، وهو اختيار الشيخين وغيرهما، إذ القرعة ليست بطلاق صريح ولا كناية فوجودها كعدمها (والثانية) : - وهي قول أبي بكر وابن حامد - لا ترجع إليه، ويحكم عليه بطلاقهما، الثانية بإقراره، والأولى بالقرعة، احتياطا للفروج، ودفعا للتهمة، والله أعلم.(5/436)
قال: فإن مات قبل ذلك أقرع الورثة بينهن، وكان الميراث للبواقي منهن.
ش: يعني إذا مات الزوج قبل القرعة، أقرع الورثة بين النسوة، فمن خرجت عليها القرعة فلا ميراث لها، والميراث للبواقي، نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك في رواية الجماعة.
2732 - وهو مروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذلك لأنهن قد تساوين، فلا سبيل إلى التعيين، فوجب المصير إلى القرعة، كمن أعتق عبيدا في مرضه، لا مال له سواهم، وأبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا يوافق الجماعة في القرعة، وإن لم يقل بدخولها في المنسية، واعلم أن هذا فيما إذا كان الطلاق بائنا، أما إن كان رجعيا فإن الجميع يرثنه، وهذا واضح، والله أعلم.
[هدم الطلاق]
قال: وإذا طلق زوجته أقل من ثلاث فقضت العدة، وتزوجت غيره، وأصابها، ثم طلقها أو مات عنها، وقضت العدة، ثم تزوجها الأول فهي عنده على ما بقي من الثلاث.
ش: هذه المسألة الملقبة بالهدم، وهو أن نكاح الثاني هل يهدم طلاق الأول، وملخص الكلام في المسألة أن الرجل إذا طلق امرأته ثم رجعت إليه فإن كان قد طلقها ثلاثا ثم رجعت إليه بشرطه، فإنها ترجع إليه بطلاق ثلاث بالإجماع، وإن كان قد طلقها دون الثلاث، ثم رجعت إليه قبل نكاح زوج آخر، رجعت على ما بقي من طلاقها بلا خلاف أيضا، وإن رجعت(5/437)
بعد نكاح زوج آخر، والحال هذه، فهذه صورة الخرقي، وفيها روايتان، أشهرهما عن أحمد، وهي اختيار الأصحاب أنها تعود على ما بقي من طلاقها، ولا هدم، نظرا إلى إطلاق قوله سبحانه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] إلى قوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وظاهر إطلاق الآية الكريمة أن من طلقها زوجها طلقتين، ثم طلقها الثالثة، أنها قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، وهو يشمل ما إذا رجعت إليه قبل تزويج زوج آخر أو بعده، وأيضا فهذا قول جمهور الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2733 - قال أحمد هذا قول عمر، وعلي، وأبي، ومعاذ، وعمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(5/438)
2734 - ورواه ابن المنذر أيضا عن زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، ومن جهة القياس أن الزوج الثاني لا يحتاج إليه في إباحتها للأول، فوجب أن لا يؤثر في عدد الطلاق، أشبه وطء السيد أو الزوج الثالث أو الرابع (والرواية الثانية) تعود إليه بطلاق ثلاث، فنكاح الثاني هدم الطلاق الأول.
2735 - وهذا قول ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال أحمد: روي عن ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: نكاح جديد وطلاق جديد، لأن نكاح الثاني إما أن يكون تأثيره في رفع التحريم والعدد، أو في رفع التحريم فقط، لا جائز أن يؤثر في رفع التحريم فقط، لأنه يلزم أن يرفع الثالثة، إذ التحريم تعلق بها، فلزم أن يكون تأثيره في رفعهما جميعا، فإذا طلقها واحدة أو اثنتين فالعدد موجود فيرفعه، وأجيب بأنه يهدم التحريم المتعلق بالثلاث، ولا تحريم فيما دون الثلاث، وعن قول ابن عمر،(5/439)
وابن عباس، بأن أقوال الصحابة على قاعدتنا إذا اختلفت كانت كدليلين متعارضين، وإذا يصار إلى الترجيح، ولا شك أن قول الأولين أرجح، والقاضي حمل قول ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، على ما إذا كان بعد طلاق ثلاث، وجعل المسألة اتفاقية من الصحابة، والله أعلم.
قال: وإن كان المطلق عبدا فطلق اثنتين لم تحل له زوجته حتى تنكح زوجا غيره، سواء كانت الزوجة حرة أو مملوكة، لأن الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء.
ش: لما ذكر أن الزوج إذا طلق امرأته أقل من ثلاث أنها تعود إليه على ما بقي من طلاقها، فإطلاق هذا شامل للحر والعبد، فأراد أن يخرج العبد ويقول: إن نهاية ما يملكه طلقتان، وإن كان تحته حرة، وأن ملك الثلاث مختص بالحر، وإن كان تحته أمة، فالطلاق معتبر بالرجال، هذا أنص الروايتين وأشهرهما عن الإمام، وعليه الأصحاب، لظاهر قول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229](5/440)
الآية إلى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فجعل للزوج أن يطلق ثلاثا، والمراد به الحر، بدليل: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] الآية، والأخذ إنما يصح من الحر، لا يقال: الآية إنما وردت في الحرة، بدليل: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] قيل: الأمة يصح الافتداء منها بإذن سيدها، وفي هذا الاستدلال نظر، (أما أولا) فلأن الله سبحانه قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] والافتداء المطلق إنما هو للحرة الرشيدة، دون الأمة، وإذا كان للحرة فلا نزاع أن الحر الذي تحته حرة يملك ثلاثا، (وأما ثانيا) فلو سلم أن الأمة داخلة في هذا فلا نسلم أن المراد من قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} [البقرة: 229] ، لأن العبد يصح خلعه، بل وقبضه لعوضه على المنصوص، ولو قيل: إنه لا يصح قبضه، فأخذ السيد كان بسببه فنسب إليه، ثم لو سلم هذا فمثل هذا لا يقتضي تخصيص أول الآية الكريمة، غايته أنه أفرد بعض من دخل في الآية بحكم.
2736 - واستدلوا أيضا على ما تقدم بما روى الدارقطني بإسناده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق العبد اثنتان وقرء الأمة حيضتان» .(5/441)
2737 - وقد عورض هذا بأن الحديث رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان» .
2738 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان» رواه ابن ماجه والدارقطني، وهذا دليل للرواية الثانية، وأن الطلاق معتبر بالنساء، فيملك زوج الحرة ثلاثا، وزوج الأمة اثنتين، والأحاديث في الباب ضعيفة،(5/442)
والذي يظهر من الآية الكريمة أن كل زوج يملك الثلاث مطلقا، والله سبحانه أعلم.
قال: وإذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين؛ طلقت ثلاثا.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية مهنا، وعليه الجمهور، نظرا إلى أن نصف الطلقتين طلقة، وقد أوقعه ثلاثا، فيقع ثلاث، كما لو قال: أنت طالق ثلاث طلقات، وقال أبو عبد الله بن حامد: تطلق طلقتين، نظرا إلى أن الإضافة بمعنى (من) أي من طلقتين، وذلك طلقة ونصف، ثم تكمل فتصير طلقتين، والله سبحانه أعلم.
[باب الرجعة]
ش: الرجعة بفتح الراء وكسرها، مصدر رجع يرجع رجعة ورجعة، والأصل فيها قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] والمراد به الرجعة عند العلماء، وأهل التفسير، وقال سبحانه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] قيل: أمسكوهن برجعة.
2739 - وقد ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ابن عمر أن يراجع امرأته لما طلقها وهي حائض» .(5/443)
2740 - «ولما طلق حفصة نزل عليه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالأمر بمراجعتها» ، مع أن هذا إجماع والحمد لله.
قال: والزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة، وتحرمها الثلاث من الحر، والاثنتان من العبد.
ش: أما كون الزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة، فإجماع من أهل العلم، لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وإذا لم تكن عليها عدة فهي بائن بمجرد(5/444)
الطلاق، وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء عدتها، وأما كون الثلاث أي بكلمة واحدة من الحر تحرمها فلما تقدم، وإنما خص غير المدخول بها بالتحريم بالثلاث، لشهرة الخلاف فيها، بخلاف ما بعد الدخول، فإن الثلاث تحرمها في صورة بالإجماع بلا ريب، وهو ما إذا فرقها، للآية الكريمة، وكذا إذا جمعها على قول العامة كما تقدم، وبالجملة متى حكم بوقوع الثلاث على الزوجة حرمت بذلك بلا ريب، ويرتفع التحريم بأن تنكح زوجا آخر بشروطه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام الخرقي ما يشير إلى ذلك، وفرق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الحر والعبد، بناء على ما تقدم له قبل، من أن الحر يملك ثلاثا، والعبد اثنتين، والله أعلم.
قال: وإذا طلق الحر زوجته بعد الدخول بها أقل من ثلاث، فله عليها الرجعة ما دامت في العدة.
ش: أجمع أهل العلم على هذا بشرط أن لا يكون الطلاق بائنا، بأن يكون بعوض أو يقول لها: أنت طالق طلقة بائنا؛ ونصححه على رواية أو يخالعها بغير عوض، ونقول بصحته، وأنه طلاق، وأجمعوا أيضا على أنه لا رجعة له إذا انقضت العدة، وسند الإجماعين قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228](5/445)
أي في مدة القروء فالآية الكريمة دالة بمنطوقها على منطوق كلام الشيخ، وبمفهومها على مفهومه.
وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه لا يعتبر رضى المرأة في الرجعة، ولا ريب في ذلك، للآية الكريمة، ولقوله سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] فخاطب الأزواج بذلك، فإن قيل: قوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] يقتضي بظاهره أن لغيرهن حقا، قيل: الأحقية والحقية كلاهما بالنسبة إلى الزوج، فإذا أراد إصلاحا - كما نطقت به الآية الكريمة - فهو أحق، وإن لم يرد إصلاحا فله حق، فتصح منه الرجعة مع النهي عن ذلك.
قال: وللعبد بعد الواحدة ما للحر قبل الثلاث.
ش: قد تقدم أن العبد لا يملك إلا اثنتين، فهو ليس له الرجعة إلا بعد الواحدة، أما بعد الاثنتين فقد استوفى عدد طلاقه، وبانت منه زوجته.
قال: ولو كانت حاملا باثنين فوضعت واحدا كان له مراجعتها قبل أن تضع الثاني.
ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فجعل سبحانه الأجل وضع الحمل، والحمل يتناول(5/446)
الولدين وأكثر، وإذا كان الأجل وهو العدة باقيا فله الرجعة، لبقاء العدة، وبطريق الأولى لو وضعت بعض الولد، كان له الارتجاع قبل وضع بقيته.
[ما تحصل به الرجعة]
قال: والمراجعة أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا أني قد راجعت امرأتي. بلا ولي يحضره، ولا صداق يزيده، وقد روي عن أحمد رواية أخرى تدل على أن الرجعة تجوز بلا شهادة.
ش: الرواية الأولى عزيت إلى اختيار الخرقي، وأبي إسحاق ابن شاقلا في تعاليقه، ونص عليها أحمد في رواية مهنا، لقول الله سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] أمر وظاهر الأمر الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود، فوجبت الشهادة فيه كالنكاح (والثانية) نص عليها في رواية ابن منصور، واختارها أبو بكر، والقاضي وأصحابه، الشريف وأبو الخطاب، وابن عقيل والشيرازي وغيرهم، لإطلاق: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وإذا يحمل الأمر في الآية الكريمة على الاستحباب، جمعا بينهما، وأيضا فالله سبحانه قال: {وَأَشْهِدُوا} [البقرة: 282] وليس فيه(5/447)
ما يقتضي المقارنة للرجعة، فلو أشهد بعد الرجعة وفى مقتضى الآية، والإشهاد بعد الرجعة مستحب بالإجماع، فكذلك عند الرجعة، حذارا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد، ولأنها لا يشترط لها الولي، فلم تشترط لها الشهادة كالبيع، وما قيل في قياس الأولى أنها استباحة بضع فغير مسلم، إذ الرجعية مباحة على الصحيحة كما سيأتي.
إذا تقرر هذا فجعل أبو البركات هاتين الروايتين على قولنا بأن الرجعة لا تحصل إلا بالقول، وهو واضح، أما إن قلنا: إنها تحصل بالوطء فكلامه يقتضي أنه لا يشترط الإشهاد رواية واحدة، وعامة الأصحاب يطلقون الخلاف، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، قال: لما أورد عليه أن الوطء لا يكون رجعة: لأن الله سبحانه أمر بالشهادة، والشهادة لا تتأتى على الوطء، فأجاب: ليس في الآية ما يقتضي المقارنة، فيطأ ثم يشهد، فأورد عليه أن هذا إشهاد على الإقرار بالرجعة، وليس بإشهاد على الرجعة، فأجاب: الله سبحانه أمر بالإشهاد، وأطلق، (ومقتضى) كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الرجعة محصورة في القول، لقوله: والمراجعة أن يقول. فلا تحصل بالوطء ولا بغيره، (وهذا إحدى الروايات) عن أحمد، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والظاهر من الإشهاد إنما هو(5/448)
على القول، وقد تقدم جواب القاضي عن هذا، وأيضا فالرجعة تراد لإصلاح الثلم الداخل في النكاح، ونفس النكاح لا يقع بالفعل، كذلك إزالة ما دخله من الثلم (والرواية الثانية) أن الرجعة تحصل بالوطء وإن لم ينو، اختارها ابن حامد، والقاضي وأصحابه، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] والرد حقيقة في الفعل، بدليل: رددت الوديعة. وأيضا: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وحقيقة الإمساك في الفعل أيضا، ولأنها مدة معلومة، خير بين القول الذي يبطلها، وبين تركها حتى تمضي المدة، فقام الوطء فيها مقام القول، كالبيع بشرط الخيار، والمعنى فيهما أن كلا منهما وطؤه دليل على رغبته في الموطوءة، واختيار رجوعها إليه (والرواية الثالثة) وهي اختيار أبي العباس: إن نوى الرجعة بالوطء حصلت، للعلم برغبته فيها، وإلا لم تحصل.
وعلى القول بحصول الرجعة بالوطء لا تحصل بالقبلة ولا باللمس، نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم، وعليه(5/449)
الأصحاب، وإن كانا لشهوة، وخرج القاضي وغيره رواية بحصول الرجعة بذلك، بناء على ثبوت تحريم المصاهرة بهما، وخرجها أبو البركات من نصه في رواية ابن منصور على أن الخلوة تحصل بها الرجعة، قال: فاللمس ونظر الفرج أولى، وقد حكى أبو الخطاب عن الأصحاب أنهم قالوا: إن الرجعة تحصل بالخلوة، واختار هو أنها لا تحصل، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني وغيره، إلا أن مقتضى كلامه في المقنع أن أحمد نص على أن الخلوة لا تحصل بها الرجعة، وليس كذلك فإن نص أحمد في رواية ابن القاسم إنما هو في اللمس والقبلة، إذ الرجعة لا تحصل بهما، ونصه في الخلوة أن الرجعة لا تحصل بها، وقد يقال: إن في كلام الأصحاب تهافتا، حيث قالوا: إن الرجعة لا تحصل بالقبلة ونحوها وقالوا: إنها تحصل بالخلوة، ويجاب بأن الخلوة عندهم بمنزلة الوطء، بدليل تقرر الصداق، ووجوب العدة بها، ونحو ذلك، فكذلك في حصول الرجعة.
واعلم أن الأصحاب مختلفون في حصول الرجعة بالوطء، هل هو مبني على القول بحل الرجعية أم مطلقا، على طريقتين للأصحاب (إحداهما) - وهي طريقة الأكثرين، منهم القاضي في روايتيه وفي جامعه وجماعة - عدم البناء (والثانية) - وهي مقتضى كلام أبي البركات، ويحتملها كلام القاضي في التعليق - البناء، فإن قلنا: الرجعية مباحة حصلت الرجعة بالوطء، وإن(5/450)
قلنا: محرمة. لم تحصل، وهذه طريقة أبي الخطاب في الهداية، قال: لعل الاختلاف مبني على حل الوطء وعدمه، وقد تضمن هذا أن في حل الرجعية خلافا، وهو كذلك كما تقدمت الإشارة إليه، والمذهب المشهور المنصوص حلها، وعليه عامة الأصحاب، لإطلاق: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] والرجعية من نسائه، بدليل لو قال: نساؤه طوالق، فإنها تطلق، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] فسماه الله تعالى بعلا، والبعل تباح زوجته، فكذلك هنا، والرد إلى ما كانت عليه، لزوال الثلم الحاصل بالطلاق، ولأنها في حكم الزوجة في الإرث واللعان، وغير ذلك، فكذلك في الحل، وأومأ أحمد في رواية أبي داود إلى التحريم، فقال: أكره أن يرى شعرها، فأخذ من ذلك القاضي ومن تبعه رواية بالتحريم، وهي ظاهر كلام الخرقي حيث قال فيما تقدم: لأنه متيقن للتحريم، شاك في التحليل، لأنه طلاق، فأثبت التحريم كالذي بعوض، أو معتدة فحرم وطؤها كالمعتدة التي قال لها: أنت بائن. انتهى، وقد تقدم أنه مما يبنى على ذلك حصول الرجعة وعدمها، ومما ينبني عليه المهر إذا وطئها، إن قلنا مباحة(5/451)
فلا مهر، وكذلك إن قلنا محرمة وطاوعته، أما إن أكرهها وقلنا محرمة فثلاثة أوجه (الوجوب) مطلقا، وهو ظاهر ما جزم به أبو الخطاب في الهداية (وعدمه) وبه قطع القاضي في التعليق، وفي الجامع الصغير، والشريف في خلافه، وإليه ميل أبي محمد (والثالث) التفرقة إن راجعها لم يجب، وإلا وجب، وبه قطع أبو محمد في المقنع، أما الحد فلا يجب بوطئها بلا ريب، وإن قلنا بالتحريم، وينبغي أن يلحق النسب به بلا نزاع، لاندراء الحد، قال أحمد: كل من درأت عنه الحد ألحقت به الولد، ووقع في كلام أبي البركات في الطلاق ما قيل: إنه يقتضي قولين، بناء على الحل وعدمه، وليس بالبين. انتهى.
وصرح الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنه لا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق، وهو إجماع والحمد لله، وظاهر القرآن يشهد له، وهل يبطل الرجعة التواصي بالكتمان، نص في رواية أبي طالب على البطلان، وخرج عدمه من نصه على عدم البطلان بذلك في النكاح.
[الخلاف بين الزوجين في الرجعة]
قال: وإذا قال: ارتجعتك. فقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك. فالقول قولها مع يمينها، إذا ادعت من ذلك ممكنا.
ش: قول المرأة مقبول في عدتها في الجملة، لقول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قيل: المراد الحمل والحيض، ولولا أن قولها مقبول في ذلك لما حرم عليها(5/452)
كتمانه، ثم إذا اختلفت هي والزوج هل راجعها في العدة أم لا؟ فلا يخلو إما أن يكون في وقت حكم بأنه من عدتها، أو في وقت حكم بانقضاء عدتها فيه، أو في وقت محتمل لهما، فالأول قول الزوج بلا ريب، لأنه يملك الإنشاء فملك الإقرار، فإذا قال في العدة: راجعتها أمس أو منذ كذا. قبل قوله، وفي الثاني: القول قولها بلا ريب أيضا كذلك، فإذا قال بعد انقضاء عدتها: كنت راجعتها. وأنكرته، فالقول قولها، لأنه لا يملك الإنشاء، فلا يملك الإقرار.
وفي الثالث لا يخلو إما أن تسبقه بالدعوى أو يسبقها بالدعوى، أو يتداعيا معا، فإن سبقته بالدعوى كأن قالت في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها: قد انقضت عدتي. فيقول هو: كنت راجعتك. فالقول قولها بلا خلاف نعلمه، لأن خبرها والحال هذه بانقضاء عدتها مقبول، فبقولها: انقضت عدتي. حكم بانقضاء عدتها، فدعواه بعد ذلك غير مقبولة، لانتفاء إنشائه، وإذا ينتفي إخباره أيضا.
وإن سبقها بأن قال والحال ما تقدم: راجعتك. فتقول هي: انقضت عدتي قبل رجعتك. ففيه قولان (أحدهما) - وهو الذي قاله الخرقي، وتبعه عليه الشيرازي -: القول قولها، لظاهر قول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وإطلاقها يقتضي أن قولها مقبول مطلقا (والثاني) - وبه قطع أبو الخطاب في الهداية، واختاره القاضي وغيره - القول قول الزوج، لما تقدم فيما إذا سبقته هي، وعلى هذا القول(5/453)
إذا تداعيا معا فهل القول قولها، لترجح جانبها، أو قول من تقع له القرعة لتساويهما؟ (وجهان) .
وقول الخرقي: ما إذا ادعت من ذلك ممكنا. يلتفت إلى قاعدة، وهو ما الممكن في انقضاء العدة؟ (فإن كانت) العدة بالأقراء فأقل ما يمكن انقضاء العدة تسعة وعشرون يوما ولحظة، إن قيل: القرء الحيض، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما، وإن قيل: خمسة عشر فثلاثة وثلاثون يوما ولحظة، وإن قيل: القرء الطهر، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما، فثمانية وعشرون يوما ولحظتان، وإن قيل: الطهر خمسة عشر، فاثنان وثلاثون يوما ولحظتان، إلا أن المنصوص عن أحمد أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء في شهر لا يقبل قولها إلا ببينة، وظاهر قول الخرقي القبول مطلقا، لأنه أناط ذلك بالإمكان، (وإن كانت) العدة بوضع الحمل، وادعت وضع ولد تام فالممكن ستة أشهر فأزيد منذ إمكان الوطء بعد العقد، وإن ادعت سقطا فالممكن ثمانون يوما، (وإن كانت) بالأشهر فهو أمر محدود معروف، والنزاع فيه إنما ينبني على أول وقت الطلاق، والقول قول الزوج في ذلك، فإذا قال: طلقتك في ذي الحجة فلي رجعتك. وقالت: بل طلقتني في شوال، فلا رجعة لك. فالقول قوله، إذ الأصل بقاء النكاح، وعكس هذا لو ادعى أنه طلقها في شوال، لتسقط النفقة، وقالت هي: بل في ذي الحجة، فالقول قولها، نظرا إلى الأصل أيضا، إذ الأصل بقاء وجوب النفقة، فكذلك إذا لم يكن لها نفقة، لأنها تقر على(5/454)
نفسها بما هو أغلظ، وحيث قيل: القول قولها، فأنكرها الزوج، فهل تجب عليها اليمين، وهو اختيار الخرقي، وأبي محمد لعموم «اليمين على المدعى عليه» أو لا تجب وقال القاضي: إنه قياس المذهب، إذ الرجعة لا يصح بذلها، فأشبهت الحدود، وعن أحمد ما يدل على روايتين، وعلى الأول إن نكلت لم يقض بالنكول، قاله القاضي، ولأبي محمد احتمال أن يستحلف الزوج، وله الرجعة بناء على القول برد اليمين على المدعى عليه. انتهى.
قال: ولو طلقها واحدة، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية، بنت على ما مضى من العدة.
ش: لأنهما طلاقان لم يتخللهما إصابة ولا خلوة، فلم يجب بهما أكثر من واحدة، كما لو والى بينهما، وكذلك الحكم لو طلقها ثم فسخ نكاحها لعيب في أحدهما، ونحو ذلك انتهى.
قال: ولو طلقها ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم، فاعتدت ثم نكحت غيره، وأصابها ردت إليه، ولا يطأها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى: هي زوجة الثاني.(5/455)
ش: الرواية الأولى هي المذهب بلا ريب، لأنها زوجته، نكحها نكاحا صحيحا، فردت إليه، كما لو غصبها غاصب.
2741 - ويروى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
2742 - (والثانية) تروى عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وقول الخرقي: ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم. لأنه إذا لم يشهد فإن قلنا: الإشهاد شرط لصحة الرجعة؛ فقد فات الشرط، فتبطل الرجعة، وتكون زوجة الثاني بلا ريب، وإن قيل: إنه ليس بشرط، فالنكاح صحيح في الباطن، لكن لا يقبل قوله في ذلك، لا على الزوج، ولا على المرأة، لأنه لا يملك الإنشاء فلا يملك الإقرار، ثم ينظر في الزوج والمرأة فإن صدقاه كان كما لو قامت به البينة، وإن صدقه الزوج وحده فقد اعترف بفساد نكاحه، فتبين منه، وعليه للمرأة مهرها، إن كان بعد الدخول، ونصفه إن كان قبله، لأنه لا يصدق على المرأة في إسقاطه حقها، ولا تسلم المرأة للمدعي لما تقدم، ويكون القول قولها، وهل هو مع يمينها؟ على وجهين، وإن صدقته المرأة وحدها لم يقبل قولها على الزوج الثاني، في فسخ نكاحه، لكن(5/456)
متى زال نكاحه ردت إلى الأول، لأن المنع من الرد كان لحق الثاني وقد زال، ولا يلزم المرأة مهر الأول، على ما أورده الشيخان مذهبا، لاستقراره لها، أشبه ما لو قتلت نفسها، وألزمها القاضي له بالمهر لإقرارها، بحيلولتها بينه وبين بضعها، وهذا قياس المنصوص في الرضاع، وهو اختيار القاضي أيضا ثم، واختيار الشيخين ثم أيضا عدمه، جريا على قاعدتهم، فإن مات الأول والحال هذه، وهي في نكاح الثاني، فقال أبو محمد: ينبغي أن ترثه، لإقراره بزوجيتها، وتصديقها له، وإن ماتت لم يرثها، لتعلق حق الثاني بالإرث، وإن مات الثاني لم ترثه لإنكارها صحة نكاحه.
قلت: ولا يمكن من تزويج أختها، ولا تزويج أربع سواها انتهى؛ وقول الخرقي: من حيث لا تعلم. لأنها إذا علمت لم يصح نكاح الثاني بلا خلاف، وقوله: فاعتدت، لأنها إذا لم تعتد فلا ريب في بطلان نكاح الثاني، وقوله: ثم نكحت غيره وأصابها. لأنه إذا لم يدخل بها فلا خلاف أنها زوجة الأول، لأن بالدخول حصل للثاني مزية، فلذلك قدم في رواية مرجوحة، وقوله: ولم يصبها حتى تنقضي عدتها. يعني إذا ردت إلى الأول بعد إصابة الثاني لها، لم يصبها حتى تنقضي عدتها من الثاني، لتعلم براءة رحمها.
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا طلقها وانقضت عدتها منه، ثم أتته فذكرت أنها نكحت من أصابها، ثم طلقها أو مات عنها،(5/457)
وانقضت عدتها منه، وكان ذلك ممكنا، فله أن ينكحها إذا كان يعرف منها الصدق والصلاح، وإن لم تكن عنده في هذه الحال لم ينكحها حتى يصح عنده قولها.
ش: ملخص الأمر أن الأحكام تناط بغلبة الظن كثيرا، والمرأة مؤتمنة على نفسها، وعلى ما أخبرت به عنها، ولا سبيل إلى ذلك على الحقيقة إلا من جهتها، فوجب الرجوع إلى قولها، كما لو أخبرت بانقضاء عدتها، ومقتضى قوله أنه إذا لم يعرف منها الصدق والصلاح لا يقبل قولها، وهو كذلك، لأنه لم يوجد ما يغلب على ظنه صدقها، والأصل التحريم، فيبقى عليه، ومقتضى كلامه أنه يرجع إلى قول المرأة، إذا كانت بالصفة المتقدمة، وإن أنكر الزوج الذي ادعت إصابته لها، ولو قال الزوج الأول: أنا أعلم أن الثاني ما أصابها. لم تحل له، إذ لا غلبة ظن مع العلم بالتحريم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/458)
[كتاب الإيلاء]
ش: الإيلاء بالمد الحلف، مصدر آلى يؤلي إيلاء وتألى وأتلى، والألية بوزن فعلية اليمين، وكذلك الألوة بسكون اللام وتثليث الهمزة، والإيلاء شرعا حلف الزوج القادر على الوطء بالله تعالى أو بصفة من صفاته، على ترك وطء زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر، وفي بعض هذه القيود خلاف، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] الآية.
2743 - وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلى من نسائه أو من بعض نسائه شهرا» .
[ألفاظ الإيلاء]
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمولي هو الذي يحلف بالله عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر.(5/459)
ش: ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للمولي ثلاث صفات (إحداها) أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته سبحانه، ولا نزاع أن من حلف بذلك يكون موليا، لإرادته من الآية الكريمة، إما بخصوصه وإما مع غيره، واختلف فيمن حلف بغير ذلك، كمن حلف بطلاق ونحوه هل يكون موليا أم لا؟ فعنه - وهو المشهور والمنصوص، والمختار لعامة الأصحاب - لا يكون موليا، لأن الإيلاء إذا أطلق ينصرف إلى القسم بالله تعالى.
2744 - وقد قرأ ابن عباس وأبي: {يَقْسِمُونَ} [الزخرف: 32] .
2745 - وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس بأنه الحلف بالله تعالى ذكره الإمام أحمد عنه.
2746 - وعن الشعبي عن مسروق عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «آلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسائه وحرم، فجعل الحرام حلالا، وجعل في اليمين الكفارة» . رواه ابن ماجه والترمذي، وذكر أنه روي عن الشعبي مرسلا وأنه أصح، فدل على أن حلفه كان بالله،(5/460)
وفعله خرج بيانا للإيلاء المشروع، ثم في الآية قرينة تدل على أن المراد اليمين به سبحانه، وهو قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فالمغفرة لما حصل من انتهاك حرمة القسم، ولا انتهاك للطلاق ونحوه (وعنه) يكون موليا، لإطلاق: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة: 226] أي يحلفون، والحالف بالطلاق ونحوه حالف، بدليل: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق. ثم قال: إن وطئتك فأنت طالق (وعنه) واختاره أبو بكر في الشافي: يحصل بكل يمين مكفرة، قال أبو بكر: أصل الإيلاء عند أبي عبد الله اليمين بالله تعالى، وكل يمين من حرام وغيره إذا وجبت في اليمين كفارة. انتهى، وهذا القول متوسط، وعليه فيخص الإيلاء باليمين بالله تعالى، والظهار، والنذر، وتحريم المباح.
2747 - وفي الحديث: «النذر حلف، وكفارته كفارة يمين» وعلى الثانية لا بد أن يحلف بما يلزمه به حق، كالطلاق والعتاق، وتحريم(5/461)
المباح، والنذر، وإن كان مباحا أو محرما، على مقتضى إطلاق كلام أبي الخطاب وأبي البركات وغيرهما، وقال أبو محمد: إنه قياس المذهب، بناء على انعقاد النذر بهما، ولو قال: إن وطئتك فأنت زانية. لم يكن موليا، لأنه لا يلزمه بالوطء شيء، لأنه إذا وطئ لا يصير قاذفا لانتفاء تعلق القذف بالشرط.
(تنبيه) قال أبو الخطاب في خلافه الصغير: هذه المسألة إنما تصح على أصلنا على الرواية التي تقول: إذا ترك وطأها مضارا من غير يمين لا يكون موليا.
قلت: كأنه بحلفه علم منه الإضرار، فحكم عليه بالإيلاء على المذهب، وإذا تنتفي هذه المسألة كما قال أبو الخطاب، ومقتضى كلام القاضي في التعليق أنه لا يكون موليا ثم حتى يمتنع من فعل ما حلف عليه، على وجه يعلم به قصد الإضرار، كأن يحلف بالطلاق لأفعلن كذا، ثم يتركه ولا عذر له، أو يظاهر منها ولا يكفر، ونحو ذلك، كذا مثل القاضي انتهى (الصفة الثانية) أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر أو مطلقا، وهذا هو المذهب المنصوص، والمختار للأصحاب، لأن قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فظاهر الآية الكريمة يقتضي أن الفيئة بعد(5/462)
مدة التربص، والفيئة هي الرجوع عما حلف عليه، وذلك إنما يكون مع بقاء اليمين، ولازم ذلك أن تكون اليمين على أكثر من أربعة أشهر (وعن أحمد) رواية أخرى يصح على أربعة أشهر، ولا يصح فيما دون ذلك، وهو مبني على أصل، وهو أن الفيئة تكون في مدة التربص، والتربص إنما هو أربعة أشهر.
2748 - واستدل على ذلك بأن ابن مسعود قرأ: (فإن فاءوا فيهن) أي في الأربعة أشهر، ولأصحابنا ظاهر الآية الكريمة، فإن الفاء للتعقيب، فظاهر الآية الكريمة أن الفيئة والطلاق يكونان بعد مدة التربص.
2749 - يرشح هذا ما قاله أحمد في رواية أبي طالب قال: قال عمر وعثمان وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: يوقف المولي بعد الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.(5/463)
2750 - وعن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أنه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يولي، قالوا: ليس بشيء حتى تمضي أربعة أشهر، فيوقف فإن فاء وإلا طلق. رواه الدارقطني، وما يروى عن ابن مسعود فلا يعلم صحته (الصفة الثالثة) أن يحلف على ترك وطء زوجته، ووطء الزوجة إنما ينصرف غالبا لوطئها في الفرج، فتختص يمينه بذلك، بأن يقول: والله لا وطئتك في قبلك. أو لا وطئتك ويطلق، فلو حلف أن لا يطأها في الدبر، أو دون الفرج، لم يكن موليا، لأنه إنما يصير موليا من امتناعه مما وجب عليه، وهذا ليس بواجب عليه، ولو حلف أن لا يطأ أمته أو أجنبية مطلقا، أو إن تزوجها، لم يكن موليا على المذهب بلا ريب، لأن الإيلاء(5/464)
الذي ذكره الله تعالى إنما ذكره في النساء، قال سبحانه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] .
وخرج الشريف أبو جعفر وغيره صحته من الأجنبية مطلقا، من قول أحمد في الظهار: يصح قبل النكاح، لأنه يمين، فمقتضى تعليله صحة الإيلاء، لأنه يمين، وخرج أبو البركات صحته بشرط إضافته إلى النكاح كالطلاق في رواية.
(ويدخل) في كلام الشيخ الرجعية، لأنها زوجة فيصح الإيلاء منها، وهذا هو المشهور من الروايتين، والمذهب بلا ريب عند الأصحاب، بناء على دخولها في نسائه، (وعنه) لا يصح الإيلاء منها، وعلله بأن الطلاق منعه من الجماع، فبناه على تحريمها، والخرقي يقول بالتحريم فترد عليه، ويدخل في كلامه أيضا كل زوجة وإن كانت ذمية أو أمة أو صغيرة أو مجنونة، للآية الكريمة وتطالب الصغيرة والمجنونة عند تكليفهما، وكذلك يدخل من لم يمكن وطؤها لرتق ونحوه، وقد أومأ إليه أحمد في رواية مهنا، وجزم به القاضي في تعليقه وجامعه، وجماعة من أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، للآية الكريمة، وهي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وزوج الرتقاء ونحوها قد آلى منها، فدخل تحت العموم، والعجز عن الوطء لا يمنع صحة الإيلاء، كما لو آلى منها وبينهما مسافة لا يصل إليها فيها (وفي المذهب) قول آخر(5/465)
أنه لا يصح الإيلاء من الرتقاء ونحوها، وأورده أبو الخطاب وأبو محمد مذهبا، وصححه صاحب البلغة، لأن المنع هنا ليس باليمين، والمولي هو الممتنع بيمينه من وطء زوجته، وعلى الأول يفيء فيئة المعذور، صرح به القاضي وغيره.
ويدخل في كلام الخرقي كل زوج حلف على وطء زوجته وإن كان عبدا، للآية الكريمة، وكذلك إن كان ذميا للآية الكريمة أيضا، وفائدته في أنه يوقف بعد إسلامه، ويؤخذ بالكفارة، كذا قال القاضي في تعليقه، وقال أبو محمد: يلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا؛ وظاهر هذا أنه يوقف في كفره، وكذلك إن كان خصيا أو مريضا يرجى برؤه، للآية أيضا، وكذلك إن لم يتصور منه الوطء لجب أو شلل، على عموم كلام الخرقي، وصرح به من تقدم في المرأة إذا كانت رتقاء، والخلاف هنا كالخلاف ثم سواء.
نعم يستثنى من عموم كلام الشيخ إذا كان الزوج غير مكلف كالصبي والمجنون، فإنه لا يصح إيلاؤه، لانتفاء الشرط في حقهما، وهو اليمين بالله تعالى، نعم ينبغي على القول بصحة الإيلاء بالطلاق ونحوه أنه يصح الإيلاء من الصبي، حيث صح طلاقه، لوجود شرط الإيلاء في حقه إذًا، وأطلق أبو الخطاب في الهداية في السكران والمميز وجهين، وقال: بناء على طلاقهما. والله أعلم.(5/466)
[مدة الإيلاء]
قال: وإذا مضى أربعة أشهر ورافعته أمر بالفيئة.
ش: مدة الإيلاء أربعة أشهر، للآية الكريمة، ولا فرق بين الحر والعبد، على المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، تمسكا بالعموم (والرواية الثانية) - واختارها أبو بكر - أنها في العبد على النصف من الحر، وذلك شهران، لأنه على النصف في الطلاق والنكاح، فكذلك في هذا، ولا تفريع على هذه، أما على المذهب فإذا آلى الرجل من زوجته ضرب له مدة أربعة أشهر، لا تطالب فيهن بوطء، فإذا مضت المدة ورافعته الزوجة إلى الحاكم، أمره الحاكم بالفيئة، لظاهر قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وظاهره أن الفيئة بعد مدة التربص، لأنه عقبها للمدة، وهو مقتضى ما تقدم عن الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -.
ومقتضى كلام الخرقي أن ابتداء الأربعة أشهر من حين اليمين، وأنه لا يحتاج في المدة إلى ضرب من الحاكم، وهو كذلك، وأنه لا بد في أمره بالفيئة من أن ترفعه بعد ذلك إلى الحاكم، ولا بد من ذلك، لأن الحق لها، فوقف على طلبها، ويؤخذ من هذا أن الصغيرة والمجنونة لا تطالب إلا بعد زوال الصغر والجنون، ليصح طلبهما، وأنها لا تطلق بمضي المدة، ولا نزاع في ذلك عندنا، لظاهر الآية الكريمة وقد تقدم أيضا عن جماعة من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ما يقتضي ذلك، ثم في الآية أيضا إنما أخر لذلك، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227](5/467)
فمقتضاه أن ثم عزما وطلاقا مسموعا، ومن طلقت بهذه المدة فلا عزم ولا شيء يسمع.
2751 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، فلا يقع عليه الطلاق حتى يطلق، يعني المولي. أخرجه البخاري، قال: ويذكر ذلك عن عثمان وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، واثني عشر رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ومقتضى إطلاق الخرقي أنه لا فرق بين أن يوجد في المدة مانع للوطء من قبلها أو من قبله، أو لا يوجد، ولا نزاع في ذلك إذا كان المانع من قبله، لوجود التمكين، وفيما إذا كان المانع من قبلها قولان (أحدهما) - وهو الذي قطع به القاضي في تعليقه، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا - أنه يحتسب عليه بمدته، كما إذا كان المانع من جهته، وهو ظاهر إطلاق الآية الكريمة (والثاني) - وهو الذي جزم به أبو محمد في كتبه الثلاثة، وقدمه أبو الخطاب في الهداية - لا يحتسب عليه،(5/468)
لأن المنع من قبلها لا من قبله، ولعل هذا يلتفت إلى أصل تقدم، وهو أنه يصح الإيلاء ممن يتعذر وطؤها، والعامة على الصحة، فقياس قولهم هنا الاحتساب، وأبو محمد يقول ثم لا يصح، وهنا جرى على ذلك، وعلى هذا القول إن طرأ العذر استأنفت المدة عند زواله، لأن ظاهر الآية يقتضي توالي الأربعة أشهر، وخرج أن يسقط أوقات المنع، وتبني ويستثنى على هذا القول الحيض، فإنه يحتسب من مدته بلا ريب، لئلا يودي إلى إسقاط حكم الإيلاء، لأن الغالب أنه لا يخلو منه شهر، وفي الاحتساب بمدة النفاس وجهان، واعلم أن من شرط مضي الأربعة أشهر والطلب عقبهن أن لا تنحل اليمين فيهن بحنث ولا تكفير ولا غيره، كما إذا أبانها في أثناء المدة، ولم يعدها إلى نكاحه حتى انقضت، لأن المقتضي للطلب الإيلاء وقد زال.
[معنى الفيئة في الإيلاء]
قال: والفيئة الجماع.
ش: الفيئة هي الرجوع عن الشيء الذي قد لابسه الإنسان، والزوج قد لابس الامتناع من الوطء، فيرجع عنه ويجامع، وهذا في حق القادر على الوطء كما سيأتي.
قال: أو يكون له عذر من مرض أو إحرام، أو شيء لا يمكن معه الجماع، فيقول: متى قدرت جامعتها. فيكون ذلك من قوله فيئة.
ش: يعني أن القادر على الوطء فيئته الجماع بلا ريب، أما العاجز عن الوطء لمرض ونحوه ففيئته باللسان، لأنه لما عجز عن(5/469)
الوطء، قام اللسان مقامه، لأنه الذي يقدر عليه، فيدخل تحت «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ثم اختلف الأصحاب في صفة ذلك، فقال الخرقي: يعدها فيقول: متى قدرت جامعتك. وعلى هذا لو كان مجبوبا قال: لو قدرت جامعتك. وتبعه على ذلك القاضي في المجرد، وحسنه أبو محمد، وزاد القاضي في تعليقه أن يقول مع ذلك: قد ندمت على ما فعلت، وقال هو: إن صفة الفيئة أن يقول: فئت إليك. وهو مقتضى قول عامة أصحابه، ووقع في كلام القاضي أن المسألة على روايتين، وانبنى على ذلك إذا قدر على الوطء هل يلزمه؟ فالخرقي وأبو محمد يقولان يلزمه، وفاء بالوعد، وإليه ميل القاضي في الروايتين، وهو لازم قوله في المجرد، قال القاضي: وقد أومأ إليه أحمد في رواية حنبل، إذا فاء بلسانه، وأشهد على ذلك كان فايئا، قال: ومعنى قوله: أشهد على ذلك. أي أشهد على ما به من العذر أنه لو كان قادرا أو قدر على ذلك فأنا(5/470)
أفعل؛ واختار القاضي في التعليق وجمهور أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وقبلهما أبو بكر أنه لا يلزمه، لحصول الواجب عليه وهو الفيئة، إذ لا وعد، قال القاضي في التعليق وفي الجامع، متابعة لأبي بكر - إنه ظاهر كلام أحمد في رواية مهنا، وسئل إذا آلى من امرأته وهو غائب عنها، بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر، أو تكون صغيرة أو رتقاء أو حائضا، يجزيه أن يفيء بلسانه وقلبه، إذا كان لا يقدر عليها، وقد سقط عنه الإيلاء، واعترض ذلك القاضي في الروايتين، فقال: معنى قوله: سقط عنه الإيلاء، يعني في الحال، لا أنه سقط مطلقا، وقد ذكر الخرقي ممن يفيء بلسانه المحرم، ولم يفرق بين أن تطول مدة إحرامه أو تقصر، قال أبو محمد: وكذلك على قياسه الاعتكاف المنذور، وقال أبو البركات يمهل المحرم حتى يحل، وأطلق ثم قال بعد ذلك: إن الزوج إذا كان به عذر من مرض أو إحرام، أو صوم فرض ونحوه، وطالت مدته، فاء فيئة المعذور، مع أنه قدم أن المظاهر لا يمهل لصيام الشهرين، بل يؤمر بالطلاق، وكذلك قال أبو محمد: إنه لا يمهل لصوم الشهرين، وخرج من المحرم فيه قولا أنه يمهل، وقولا أنه يفيء فيئة المعذور، انتهى.
قلت: وهذا من أبي البركات ظاهره التناقض. قال: فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق.
ش: إذا لم يفعل الفيئة الواجبة - وهي الجماع - مع القدرة، أو(5/471)
القول مع عدمها، أمر بالطلاق، لظاهر قول الله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فظاهرها أنه إذا لم يفء يطلق، وكذا فهمت الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وقد تقدم، وأيضا فإن الله سبحانه قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وإذا لم يفء فلم يمسك بمعروف، فتسريح بإحسان. والله أعلم.
قال: فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي في تعليقه، والشريف وأبي الخطاب والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لأنه حق تدخله النيابة، مستحقه متعين، فإذا امتنع من هو عليه من الإيفاء، كان للسلطان الاستيفاء كالدين، وخرج إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، ولم يختر، لم يملك الحاكم الاختيار، لأن الحق غير متعين (والرواية الثانية) ليس للحاكم أن يطلق عليه، بل يحبسه ويضيق عليه حتى يطلق، لأن الله تعالى أضاف الطلاق إليه بقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227] .
2752 - ولعموم «الطلاق لمن أخذ بالساق» وحملا على حال الاختيار، وظاهر كلام الخرقي أن المولي إذا طلق واحدة اكتفي(5/472)
بها، ولا ريب في ذلك، وظاهر كلامه أنها تكون رجعية، كالطلاق من غيره، وسيصرح بذلك، وذلك لأنه طلاق صادف مدخولا بها، من غير عوض ولا استيفاء عدد، فوجب أن يكون رجعيا، كما لو لم يكن موليا، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، والقاضي وأصحابه، كالشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن عقيل، وأبي محمد (والرواية الثانية) يكون بائنا، لأن الطلاق إنما ثبت دفعا للضرر عنها، بامتناعه من وطئها، ومع كونه رجعيا لا يزول الضرر، لإمكان مراجعتها، وأجيب بأن الضرر يزول بضرب المدة بعد الرجعة إن بقيت مدة الإيلاء.
قال: فإن طلق عليه ثلاثا فهي ثلاث.
ش: الحاكم مخير بين أن يفسخ النكاح وبين أن يطلق، فإن فسخ فهل يقع بذلك طلاق؟ على روايتين، حكاهما الشيرازي وجمهور الأصحاب، والمشهور المعروف أنه لا يقع، وعليه فهل تحرم عليه على التأبيد كفرقة اللعان، وهو اختيار أبي بكر أو تحل له وهو المذهب؟ على قولين، حكاهما أبو بكر. وامتنع ابن حامد وجمهور الأصحاب من ذلك، وجعلوا محلهما في فرقة اللعان، وهكذا الطريقتان في كل فرقة من الحاكم، وإن طلق(5/473)
فله أن يطلق واحدة واثنتين وثلاثا، نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، لأنه قام مقامه، فملك ما يملكه، كما لو وكله في ذلك، وإذا طلق دون الثلاث فهل ذلك رجعي أو بائن؟ مبني على طلاق المولي (وعنه) رواية ثالثة - وهي المنصوصة - أن طلاق الحاكم بائن، لأنه موضوع لرفع النزاع، وطلاق المولي رجعي لما تقدم.
قال: وإن طلق واحدة، وراجع وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، كان الحكم كما حكمنا في الأول.
ش: هذا تصريح من الخرقي بأن طلاق المولي يكون رجعيا، فإذا طلق وراجع نظرت في المدة، فإن بقي منها قدر مدة الإيلاء - وهو أكثر من أربعة أشهر على المذهب - كان الحكم كما لو حلف ابتداء، في أنه تضرب له المدة، ثم يؤمر بعدها بالفيئة، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه، وجميع ما تقدم يجري هنا، وذلك لأنها زوجة ممنوع من وطئها بيمينه، أشبه ما لو لم يطلقها، وفقهه أن الحكمة في ضرب المدة في النكاح الأول زوال الضرر عنها، وهذا موجود في النكاح الثاني.
ومقتضى كلام الخرقي أنه إذا وقف فطلق أنه لا يبدأ بالمدة من حين طلق، بل من حين راجع، وهو مقتضى قول القاضي وغيره من الأصحاب، قال أبو محمد: ومقتضى قول ابن حامد أنه إذا طلق استؤنفت مدة أخرى من حين طلق، فإن تمت قبل انقضاء العدة وقف ثانيا، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق، وهذا أخذه من قول ابن حامد: إنه إذا صح الإيلاء من الرجعية على(5/474)
المذهب تكون المدة من حين اليمين، وهو قول أبي بكر أيضا، قال القاضي: وهو قياس المذهب، بناء على أن الرجعية مباحة، وهذا من القاضي يقتضي أن على قول الخرقي لا يحتسب بالمدة إلا من حين الرجعة، إذ الرجعية عنده محرمة، وصرح بذلك أبو محمد فقال: يجيء على قول الخرقي أنه لا يحتسب بالمدة إلا من حين الرجعة، وملخصه أن هنا شيئين أحدهما إذا آلى من الرجعية وصححناه، فالمدة على المعروف من حين اليمين، وأبو محمد يأخذ من قول الخرقي بتحريم الرجعية، أن المدة لا تكون إلا من حين الرجعة، وهذا يجيء على قول أبي محمد، من أنه إذا كان مانع من جهتها لم يحتسب عليه بمدته، أما على قول غيره بالاحتساب فلا يتمشى، وإذا قول القاضي: إن هذا قياس المذهب، بناء على أن الرجعية مباحة. ليس بجيد، بل هو قياس المذهب، وإن قلنا بتحريمها، ولهذا قال هو وغيره: إن المدة من حين اليمين (الشيء الثاني) إذا وقف فطلق طلاقا رجعيا، فكل من وقفت على كلامه من الأصحاب يقول: لا تبتدئ المدة من حين الطلاق، وأبو محمد خرج من قول ابن حامد أن المدة تبتدئ من حين الطلاق، وهو غير مسلم له، والله أعلم.
قال: ولو أوقفناه بعد الأربعة أشهر فقال: قد أصبتها. فإن كانت ثيبا كان القول قوله مع يمينه.(5/475)
ش: نظرا للأصل، إذ الأصل بقاء النكاح، والمرأة تدعي ما يلزم منه رفعه، ولا ريب أن القول قول مدعي الأصل، لأن الظاهر معه، ثم هل ذلك مع يمينه؟ اختلفت نسخ الخرقي، وأبو بكر يختار أن لا يمين، والمسألة فيها روايتان، ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا كانت بكرا كان القول قولها، وهذا مشروط بما إذا شهدت البينة ببقاء عذرتها، وإلا فالقول قول الزوج لما تقدم، والله أعلم.
قال: ولو آلى منها فلم يصبها حتى طلقها، وانقضت عدتها منه، ثم نكحها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، وقف لها كما وصفت.
ش: لما تقدم فيما إذا طلقها ثم راجعها إذا والحال هذه هو ممتنع من وطء زوجته بيمينه، أكثر من أربعة أشهر، فأشبه ما لو لم يطلق، وقوله: أكثر من أربعة أشهر. بناء على المذهب، وعلى هذا لو بقي أقل من ذلك لم تضرب له مدة، وقوله: كما وصفت. من أنه يؤمر بعد مضي المدة بالفيئة، فإن لم يفء أمر بالطلاق، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه لما تقدم.
قال: ولو آلى منها واختلفا في مضي الأربعة أشهر، كان القول قوله، في أنها لم تمض مع يمينه.(5/476)
ش: لأن الاختلاف في ذلك يرجع إلى الاختلاف في وقت اليمين، ولو اختلفا في وقت اليمين كان القول قوله بلا ريب، إذ الأصل عدم الإيلاء في ما تقدم، ويكون ذلك مع يمينه، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» واختار أبو بكر والقاضي أنه لا يمين، لأنه اختلاف في حكم من أحكام النكاح، أشبه الاختلاف في أصل النكاح، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/477)
[كتاب الظهار]
ش: الظهار مشتق من الظهر، وخص الظهر دون غيره لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا جومعت، فأنت علي كظهر أمي. أي ركوبك للنكاح حرام علي، كركوب أمي للنكاح، قال ابن أبي الفتح: وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وكأنه يريد في الأصل، وإلا فالظهار في الاصطلاح أعم من هذا، والأصل فيه قول الله سبحانه: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وما بعدها، ومن السنة ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهو محرم، قال الله سبحانه: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] وأكد ذلك بقوله تعالى بعد: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وهذا اتفاق والحمد لله، والله أعلم.
[قول الرجل لزوجته أنت علي كظهر أمي]
قال: وإذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أو كظهر امرأة أجنبية. أو أنت علي حرام، أو حرم عضوا من أعضائها فلا يطأها حتى يأتي بالكفارة.
ش: قد اشتمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على مسائل (إحداها) إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أنه يكون مظاهرا،(5/478)
وهذا إجماع والحمد لله، ولذلك قدمه الخرقي، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه زوجته بغير أمه ممن تحرم عليه على التأبيد، كأخته وإن كانت من الرضاع ونحو ذلك، إناطة بالتحريم المؤبد، (المسألة الثانية) إذا قال: أنت علي كظهر أجنبية. وفيه روايتان (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، وجماعة من الأصحاب على ما حكى القاضي، واختاره القاضي أيضا في موضع - يكون مظاهرا، لأنه أتى بالمنكر من القول، أشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه على التأبيد، أو شبهها بمحرمة، أشبه ما لو شبهها بالأم (والرواية الثانية) - وهي اختيار ابن حامد، والقاضي في التعليق، والشريف، والشيرازي، وأبي بكر، على ما حكاه عنه أبو محمد - لا يكون مظاهرا، لأنه شبهها بمن تحل له في حال، أشبه ما لو شبهها بزوجة له أخرى محرمة، أو حائض أو نفساء، ونحو ذلك، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه امرأته بأخت زوجته ونحوها، لأن تحريمها تحريم مؤقت، وعلى هذه الرواية هل يلغى، أو تجب فيه كفارة يمين؟ على روايتين. (المسألة الثالثة) إذا قال: أنت علي حرام؛ فعن أحمد - وهي اختيار الخرقي - أنه ظهار وإن نوى غيره، فيكون صريحا، لأن معناه معنى الظهار، لأن: أنت علي كظهر أمي. معناه أنت علي حرام كتحريم ظهر أمي. ولأنه أتى بالمنكر من القول والزور في زوجته، أشبه ما لو قال: أنت علي كظهر أمي.(5/479)
2753 - وقد ذكر ذلك إبراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (والرواية الثانية) أنه ظاهر في الظهار، فعند الإطلاق ينصرف إليه لما تقدم، وإن نوى يمينا أو طلاقا انصرف إليه، لاحتماله لذلك (والثالثة) أنه ظاهر في اليمين، فعند الإطلاق ينصرف إليها، وإن نوى الطلاق أو الظهار انصرف إلى ذلك لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الآية إلى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهذا قد حرم ما أحل الله له، فدخل في الآية.(5/480)
2754 - وكذا فهم الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: إذا حرم الرجل فهي يمين يكفرها؛ وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] متفق عليه، وفي لفظ أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي على حراما. فقال: كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] أغلظ الكفارة عتق رقبة؛ رواه النسائي (المسألة الرابعة) إذا حرم عضوا من أعضائها، كأن قال: يدك علي حرام. أو يدك علي كيد أمي. أو كظهرها، ونحو ذلك، فالمذهب المنصوص المشهور أنه يكون مظاهرا، لأن التحريم إذا ثبت في العضو سرى في الجميع، لامتناع تحريم البعض وحل البعض، وصار ذلك كما لو طلق يدها ونحو ذلك. (وفي المذهب رواية أخرى) لا يكون مظاهرا حتى يشبه جملة امرأته، اتباعا للنص، وكما لو حلف لا يمس عضوا منها، والعضو الذي يكون به مظاهرا هو الذي يكون به مطلقا، وما لا فلا. (المسألة الخامسة) أنه في جميع هذه الصور لا يطأ حتى يكفر، وكذلك في كل موضع حكم بظهاره فيه، وهو إجماع إذا كان التكفير بالعتق أو الصيام، وقد شهد به النص وهو قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 3 - 4](5/481)
واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا كان التكفير بالإطعام، (فعنه) - وهو اختيار أبي بكر، وأبي إسحاق ابن شاقلا - يجوز الوطء قبل التكفير، تمسكا بظاهر الكتاب، فإن الله تعالى ذكر عدم التماس في العتق والصيام، ولم يذكره في الإطعام، فاقتصرنا على مورد النص، (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في خلافه وفي روايتيه، والشريف وأبي محمد وغيرهم - لا يجوز، لأن الله سبحانه لما ذكر عدم المسيس في العتق والصيام، مع أن الصيام تطول مدته، كان ذلك تنبيها على انتفاء المسيس في الإطعام.
2755 - وعن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر؟ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» رواه الخمسة إلا أحمد، وصححه الترمذي، ومن جملة ما أمره الله به الإطعام(5/482)
(المسألة السادسة) الظهار يختص بالزوجة على ظاهر كلام الخرقي، ونص عليه أحمد، وجزم به جماعة من الأصحاب، حتى قال القاضي في روايتيه: رواية واحدة. فعلى هذا لا ظهار من أمته، ولا أم ولده، لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فخص سبحانه الظهار بالنساء، ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه وبقي محله.
2756 - قال أحمد: قال أبو قلابة وقتادة: إن الظهار كان طلاقا في الجاهلية. والطلاق قطعا لا يؤثر في الأمة كذلك الظهار، واختلف عن أحمد فيما يلزمه، (فعنه) وهو المشهور والمختار: تلزمه كفارة يمين، لأنه تحريم لمباح من ماله، فكان عليه كفارة يمين، كتحريم سائر ماله، (ونقل عنه) أبو طالب: ليس في الأمة ظهار، ولكن حرام، فعليه الكفارة، قيل له: كفارة الظهار؟ قال: نعم. قال أبو بكر: كل من روى عنه ليس عليه فيها كفارة الظهار، إنما هو كفارة يمين، إلا ما رواه أبو طالب، قال: ولا يتوجه على مذهبه. انتهى، وخرج أبو(5/483)
الخطاب والشيخان قولا أنه لا شيء فيه، قال أبو الخطاب: من قوله فيما إذا ظاهرت المرأة من زوجها: إنه لا شيء عليها؛ إذ هذا ليس بظهار، فتجب فيه كفارته، وليس بيمين فتجب فيه كفارتها (المسألة السابعة) حيث حرم الوطء قبل التكفير هل يحرم الاستمتاع قبله؟ على روايتين (إحداهما) - وهي ظاهر كلام الخرقي - يجوز، لأن التماسس في الآية الكريمة كناية عن الوطء، وإذا كانت الكناية مرادة فالحقيقة غير مراده (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر، والقاضي في خلافه، وأصحابه كالشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وغيرهم - لا يجوز.
2757 - لأن في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السابق: «لا تقربها حتى تفعل ما أمر الله به» رواه النسائي عن عكرمة مرسلا، وقال فيه: «فاعتزلها حتى تقضي ما عليك» وقد ادعى القاضي أن المراد بالمسيس في الآية الكريمة حقيقته، وأن الوطء إنما ثبت بالسنة، وفيه بعد.
[موت المظاهر أو الزوجة قبل التكفير]
قال: فإن مات أو ماتت أو طلقها لم تلزمه الكفارة، فإن تزوجها لم يطأها حتى يكفر، لأن الحنث بالعود وهو الوطء،(5/484)
لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث.
ش: اعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد بنى ما بدأ به على أصل، وهو العود ما هو؟ وقال: إنه الوطء. وهذا إحدى الروايتين، نص عليه أحمد، فقال في قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] قال: الغشيان، إذا أراد أن يغشى. وقال أيضا: مالك يقول: إذا أجمع لزمته الكفارة؛ فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع كان عليه الكفارة.
2758 - إلا أن يذهب إلى قول طاووس: إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق؛ ولم يعجب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول طاووس، وهو اختيار الشيخين، لأن قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي لقولهم، فـ (ما) والفعل في تأويل المصدر، أي لقولهم، والمصدر في تأويل المفعول، أي مفعولهم ومقولهم الذي امتنعوا منه وهو الوطء، وقرينة هذا العود، إذ هو فعل ضد قوله، ومنه الراجع في هبته، هو الراجع في الموهوب، والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي، والمظاهر مانع لنفسه من الوطء، فالعود فعله، ولأن الظهار يمين مكفرة، فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها، وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان، وتجب الكفارة بذلك كسائر الأيمان (والثانية) وبها قطع القاضي وأصحابه: أنه العزم على الوطء،(5/485)
قال القاضي: ونص عليه أحمد في رواية الجماعة، منهم الأثرم، فقال: العود أن يريد أن يغشى، فيكفر قبل أن يمسها، وكذلك نقل أحمد بن أبي عبدة: تلزمه الكفارة إذا أجمع على الغشيان، فذكر له قول الشافعي أنه الإمساك، فلم يعجبه، وذلك لأن التكفير بنص الكتاب والسنة يجب قبل الوطء، وهو مسبب عن الوطء على القول الأول، لأن به يجب، والمسبب لا يتقدم على السبب، فإذا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي يريدون العود (فتحرير) أي فالواجب تحرير، وهذا كما في قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98] وهو كثير، (ومن قال) بالأول أجاب بأن التكفير شرط الحل، كما أن الطهارة شرط لصحة الصلاة من مريدها، وملخصه أن لنا إخراجا ووجوبا، فإخراج الكفارة يجب عند إرادة الوطء، فهو مسبب عن الإرادة، ووجوب الكفارة - بمعنى استقرارها في ذمته - يجب بالوطء.
إذا تقرر هذا انبنى عليه ما تقدم، وهو ما إذا ماتت أو مات، أو طلقها قبل الوطء، فعلى القول الأول لا تجب الكفارة، لأن وجوبها بالوطء ولم يوجد، وعلى القول الثاني إن وجد ذلك بعد العزم وجبت لوجود العود، وإلا لم تجب، كذا فرعه أبو البركات على قول القاضي وأصحابه، وزعم أبو محمد(5/486)
عن القاضي وأصحابه أنهم على قولهم لا يوجبون الكفارة على من عزم ثم مات أو طلق إلا أبا الخطاب، فإنه قال بالوجوب، فعلى القول بأن الكفارة على المطلق قبل الوطء وإن عزم، إذا عاد فتزوجها فحكم الظهار باق، فلا يطأ حتى يكفر، لإطلاق الآية الكريمة، فإن هذا قد ظاهر من زوجته ثم أراد العود إليها، فدخل تحت: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ولأن الظهار يمين مكفرة، فلم يبطل حكمها بالطلاق كالإيلاء، وبنى ذلك القاضي على أصلنا من أن النكاح الثاني ينبني على الأول، وأن الصفة لا تزول بالبينونة.
وقد دل كلام الخرقي على أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار، ولا بالإمساك بعده، ولا بإعادة القول ثانيا، وقوله: لأن الحنث بالعود وهو الوطء. تعليل لأن الكفارة لا تلزم بالموت، ولا بالطلاق قبل الوطء، وقوله: لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث؛ تعليل لقوله: فلم يطأها حتى يكفر. هذا الذي يظهر لي والله أعلم.
[الظهار من الأجنبية]
قال: ولو قال لامرأة أجنبية: أنت علي كظهر أمي؛ لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بكفارة الظهار.
ش: هذا منصوص أحمد، وعليه أصحابه، وقال: ليس هو بمنزلة الطلاق.(5/487)
2759 - وذلك لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال - في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي. فتزوجها، قال -: عليه كفارة الظهار. ولأنها يمين مكفرة، فصح انعقادها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يصح، لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] والأجنبية ليست من نسائه، ولأنه نوع تحريم، فلم يتقدم النكاح كالطلاق. وأجيب عن الآية بأنها خرجت مخرج الطلاق، وعن القياس بالفرق من وجهين (أحدهما) أن الطلاق حل قيد النكاح، ولا حل قبل العقد، والظهار تحريم للوطء، وذلك قد يتقدم على العقد كالحيض (والثاني) أن الطلاق يزيل المقصود من النكاح فلم يصح، وهذا لا يزيله وإنما يعلق الإباحة على شرط. انتهى، وكذلك الحكم إذا عمم فقال: كل النساء على كظهر أمي. والله أعلم.
قال: وإذا قال: أنت علي حرام، وأراد في تلك الحال لم يكن عليه شيء، وإن تزوجها، لأنه صادق، وإن أراد في كل(5/488)
حال لم يطأها إن تزوج حتى يأتي بالكفارة.
ش: أما إذا أراد بقوله: أنت علي حرام. الإخبار عن حرمتها في الحال، فلا شيء عليه، لما علل به من أنه صادق، إذ قد وصفها بصفتها، ولم يقل المنكر من القول والزور، وأما إذا أراد تحريمها في كل حال فهو مظاهر، لأن من جملة الأحوال إذا تزوجها، ولفظة الحرام إذا أريد بها الظهار ظهار في الزوجة بلا ريب، فكذلك في الأجنبية، ولو أطلق فلا شيء عليه، لاحتماله للإنشاء وللإخبار، فلا يتعين أحدهما بغير تعيين. والله أعلم.
[ظاهر من زوجته وهي أمة فلم يكفر حتى ملكها]
قال: ولو ظاهر من زوجته وهي أمة، فلم يكفر حتى ملكها، انفسخ النكاح، ولم يطأها حتى يكفر.
ش: أما انفساخ النكاح فلا ريب فيه، لعدم اجتماع ملك اليمين وملك النكاح، وإذا يغلب الأقوى وهو الملك، ويبطل النكاح، وأما الوطء فقال الخرقي: لا يطأها حتى يكفر؛ واختاره ابن حامد والقاضي وغيرهم، لشمول الآية الكريمة له، وهي: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وهذا قد ظاهر من امرأته، فدخل في الآية وقال أبو بكر في الخلاف: يبطل حكم الظهار، وتحل له، وعليه كفارة يمين، كما لو تظاهر منها وهي أمته، لأنها خرجت عن الزوجات، وصارت ملك يمينه، فأعطيت حكم(5/489)
ذلك، وخرج أبو البركات قولا أنها تحل له بملك اليمين بلا كفارة، مع عود الظهار لو عتقت أو بيعت ثم تزوجها، ولعله مخرج مما إذا ظاهر من أمته لا شيء عليه، وأن الصفة تعود، وبيانه أنه إذا ظاهر منها وهي زوجته، ثم ملكها، فقد زالت الزوجية، وملك اليمين لا يؤثر الظهار فيه شيئا، فيصير كما لو علق طلاق زوجته على شيء، ثم أبانها وفعل المحلوف عليه، فإنه لا شيء عليه، كذلك هنا، تحل له بملك اليمين، ولا شيء عليه، ثم بعد ذلك إذا أعتقها أو باعها ثم تزوجها عاد الظهار، كما تعود الصفة.
[ظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة]
قال: ولو تظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة، لم يكن عليه أكثر من كفارة واحدة.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب، حتى أن أبا محمد نفى الخلاف في المذهب.
2760 - اتباعا لقول عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنهما قالا كذلك، رواه عنهما الأثرم، ولا نعرف لهما مخالفا، وكما لو حلف بالله تعالى(5/490)
على ذلك، وحكى أبو البركات رواية أخرى أن عليه لكل واحدة كفارة. لأنه قد وجد الظهار والعود فيها، فأشبه ما لو أفردها.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو تظاهر منهن بكلمات كان عليه لكل واحدة كفارة، وهو إحدى الروايات، واختيار ابن حامد، والقاضي وأبي محمد وغيرهم، لأنها أيمان لا يحنث في أحدها بالحنث في الأخرى، فلا تكفرها كفارة واحدة، كما لو كفر ثم ظاهر، (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي بكر - عليه كفارة واحدة.
2761 - قال أبو بكر: اتباعا لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأن كفارة الظهار حق لله تعالى، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد (والرواية الثالثة) إن كان في مجالس فكفارات، وإن كان في مجلس واحد فكفارة واحدة، نقلها الفضل بن زياد، والله أعلم.
[كفارة الظهار]
قال: والكفارة عتق رقبة.
ش: لا نزاع في هذا، وقد شهد له الكتاب العزيز قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] أي فالواجب تحرير رقبة، أو فعليه تحرير رقبة، والله أعلم.(5/491)
قال: مؤمنة.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار جمهور أصحابه، الخرقي، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وأبي محمد وغيرهم، حملا للمطلق في آية الظهار، على المقيد في كفارة القتل، لاتحاد الحكم.
2762 - ولما روى «معاوية بن الحكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت لي جارية فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: علي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أين الله؟» قالت: في السماء. فقال: «من أنا» فقالت: أنت رسول الله. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مسلم والنسائي، فعلل عتقها عما عليه بأنها مؤمنة (والرواية الثانية) لا يشترط إيمانها، بل تجزئ وإن كانت كافرة، نص عليها في اليهودي والنصراني، واختارها أبو بكر، أخذا بإطلاق الكتاب، وهاتان الروايتان يجريان في كل رقبة واجبة، من نذر أو كفارة، ما عدا كفارة القتل، فإن الإيمان شرط فيها بلا نزاع للنص، والله أعلم.(5/492)
قال: سالمة من العيوب المضرة بالعمل.
ش: لأنه لحظ فيه تمليك منافعه، وخروجه من حيز العدم، إلى حيز الوجود، ومع الضرر بالعمل لم يحصل ذلك، فعلى هذا لا يجزئ الأعمى، ولا المقعد، ولا مقطوع اليد أو الرجل، أو أشلهما، أو إبهام اليد، أو سبابتها أو الوسطى، أو الخنصر والبنصر من يد واحدة، وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها، بخلاف قطع غيرها من الأنامل، ولو كان الجميع، ولا يجزئ المجنون، ولا المريض غير مرجو البرء، كالسل، بخلاف المرجو البرء، ولا النحيف العاجز عن العمل، ويجزئ الأعرج، والمجدع الأنف والأذن، والمجبوب والخصي، والأعور على أصح الروايتين، وهل يجزئ الأخرس مطلقا، وهو الذي حكاه القاضي في التعليق، وأبو الخطاب عن أحمد، أو لا يجزئ مطلقا، وهو الذي حكاه أبو محمد منصوصا له، أو إن كان به صمم لم يجزئ وإلا أجزأ، وهو اختيار القاضي، وجماعة من أصحابه، وعليه حمل نص أحمد بالإجزاء، أو إن فهمت إشارته أجزأ وإلا فلا، وهو مختار أبي محمد، أو إن انتفى عنه الصمم، وفهمت إشارته أجزأ وإن وجد أحدهما منع، وهو اختيار أبي البركات، على خمسة أقوال، وهذا كله على المعروف من(5/493)
المذهب، وقد حكى ابن الصيرفي في نوادره رواية بإجزاء الزمن والمقعد، فيخرج في عامة هذه الصور قول بالإجزاء، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر، والله أعلم.
قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
ش: إذا لم يجد رقبة يشتريها، أو وجدها ولم يجد ما يشتريها به، أو وجد ما يشتريها به لكن بزيادة كثيرة، أو مجحفة بماله، أو وجدها ولكن احتاجها لخدمة ونحو ذلك، فالكفارة صيام شهرين متتابعين، لقوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] والله أعلم.
قال: فإن أفطر فيهما من عذر بنى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ.
ش: الإجماع على وجوب التتابع في الشهرين، لشهادة الكتاب، وقد تقدم ذلك، وكذلك السنة.
2763 - «فعن خويلة بنت مالك بن ثعلبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك» فما برح حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى الفرض، فقال: «يعتق رقبة» فقالت: لا يجد. قال: «فيصوم شهرين متتابعين» قالت: يا رسول الله إنه شيخ(5/494)
كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين مسكينا؟» قالت: ما عنده من شيء يتصدق به؟ قال: «فإني سأعينه بعرق من تمر» قلت: يا رسول الله فإني سأعينه بعرق تمر آخر. قال: «قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك» والعرق ستون صاعا» ؛ رواه أبو داود.
إذا تقرر هذا فمعنى التتابع أن يوالي بين صيام أيامهما، ولا يفطر فيهما، ولا يصوم عن غير الكفارة، ولا يشترط نية التتابع، وإنما يشترط فعله، ومتى أفطر فيهما من غير عذر ابتدأ، لإخلاله بالشرط وهو التتابع، وكذلك إن صام عن نذر أو قضاء، أو كفارة أخرى لذلك، فلو كان النذر أياما من كل شهر كأيام البيض، أو يوم الخميس قدم الكفارة عليه، وقضى ذلك بعدها، إذ لو وفى بنذره لانقطع التتابع، لا يقال: هذا(5/495)
الزمن المنذور متعين للصوم، فلا يقطع التتابع كصوم رمضان، لأنا نقول: الزمان لا يتعين، بدليل صحة صوم آخر فيه، بخلاف زمن رمضان، وإن أفطر لعذر فلا يخلو إما أن يكون موجبا أو مبيحا، فإن كان موجبا كالفطر للحيض والمرض المخوف، أو فطر الحامل والمرضع لخوفهما على أنفسهما، أو لكونه يوم عيد، ونحو ذلك لم ينقطع التتابع، لأنه مضطر إلى ذلك، ولا صنع له فيه، أشبه إذا كان الفطر للحيض، ودليل الأصل الإجماع، وإن كان العذر مبيحا - كالسفر، والمرض غير المخوف - فثلاثة أوجه (أحدها) - وهو ظاهر كلام الخرقي، وإليه ميل أبي محمد - لا يقطع، لأنه عذر أباح له الفطر، أشبه ما لو أوجبه (والثاني) يقطع، لأن له مندوحة عنه، أشبه ما لو أفطر بغير عذر (والثالث) - وهو اختيار القاضي، وجماعة من أصحابه - يقطع السفر لأن إنشاءه باختياره ولا يقطع المرض، لأن حصوله بغير اختياره، وهو ظاهر كلام أحمد، بل زعم القاضي أنه منصوصه.
وقد دخل في كلام الخرقي إذا أفطرت الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، ودخل أيضا من أفطر لجنون أو إغماء، ولا نزاع في ذلك، وكذلك من أفطر لإكراه أو نسيان، كمن وطئ كذلك، أو خطأ كمن أكل يظنه ليلا فبان نهارا، وهو(5/496)
أحد الوجهين أيضا، وقطع به أبو البركات، نعم قد يستثنى منه كلامه من أكل ناسيا لوجوب التتابع أو جاهلا به، أو ظنا منه أنه قد أتم الشهرين، فإن تتابعه قد ينقطع، قاله أبو محمد.
قال: فإن أصابها في ليالي الصوم أفسد ما مضى من صومه، وابتدأ الشهرين.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أصحابه، الخرقي، والقاضي، وأصحابه كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا، وابن عقيل وغيرهم، والشيخين، لقول الله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] أوجب سبحانه صوم الشهرين بشرطين (أحدهما) تقديم الشهرين على المسيس (والثاني) إخلاؤهما عن المسيس، فإذا وطئ في خلالهما فقد فات أحد الشرطين وهو تقديمهما عليه، وبقي الشرط الآخر يمكنه أن يأتي به فيستأنف الصوم، فيخلو الشهران عن المسيس فوجب ذلك، كمن أمر بشيئين فعجز عن أحدهما وقدر على الآخر، يسقط ما عجز عنه، ويلزمه ما قدر عليه (والرواية الثانية) لا ينقطع التتابع بذلك، لأنه وطء لم يصادف محل الصوم، أشبه ما لو وطئ غير التي ظاهر منها، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم بالذي قلبه، وهذا متحقق وإن وطئ ليلا، وكذلك الروايتان إذا وطئها نهارا ناسيا، قاله غير واحد، وخرجهما أبو محمد فيما إذا وطئها وقد أبيح له الفطر لمرض ونحوه.(5/497)
واعلم أن ظاهر كلام أبي محمد في المقنع أن شرط عدم انقطاع التتابع فيما إذا وطئ ليلا أن يطأ ناسيا، وهو غفلة منه، فلا يعتبر بذلك.
(تنبيه) أخذت الرواية الأولى من قول أحمد في رواية ابن منصور: إذا تظاهر فأخذ في الصوم فجامع يستقبل؛ وأخذت الثانية من قوله في رواية الأثرم - وسئل عن المظاهر إذا صام بعض صيامه، ثم جامع قبل أن يتمه، كيف يصنع؟ قال: يتم صومه. والروايتان مطلقتان كما ترى، ولكن الأصحاب حملوهما على ما تقدم والله أعلم.
قال: فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا.
ش: إذا لم يستطع صوم الشهرين على الصفة الواجبة فكفارته إطعام ستين مسكينا بالإجماع، وقد شهد لذلك ما تقدم من الكتاب والسنة، وسواء عدم الاستطاعة (لكبر) كما تقدم في قصة أوس بن الصامت، (أو شبق) .
2764 - لما «روى سلمة بن صخر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنت امرءا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان(5/498)
ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر على أن أنزع؛ فبينما هي تخدمني من الليل إذ انكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتهم خبري، وقلت لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بأمري؛ فقالوا: والله لا نفعل، نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت واصنع ما بدا لك؛ فخرجت حتى أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته خبري، فقال لي: «أنت بذاك؟» فقلت: أنا بذاك. فقال: «أنت بذاك؟» فقلت: نعم، ها أنا ذا فأمض في حكم الله، فأنا صابر له. قال: «أعتق رقبة» فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: «فصم شهرين متتابعين» قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم؟ قال: «فتصدق» قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشا ما لنا عشاء. قال: «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك» فرجعت إلى قومي فقلت لهم: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة والبركة، وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي؛ قال: فدفعوها إلي» . رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، انتهى،(5/499)
(أو مرض) وإن رجي زواله، لدخوله تحت الآية الكريمة، لا لسفر، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا بد من تعدد المساكين، وتأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الكفارات.
(تنبيه) : فرقا. أي خوفا، والله أعلم.
قال: مسلما.
ش: من شرط المسكين المدفوع إليه في الكفارة أن يكون مسلما، على المنصوص والمختار للأصحاب، فلا يجوز الدفع لذمي، لأنه كافر، فلم يجز الدفع إليه كالحربي والمستأمن، إذ هو مال يجب دفعه إلى الفقير بالشرع، فلا يدفع إلى أهل الذمة كالزكاة، وحكى الخلال في جامعه رواية بالجواز، قال القاضي: ولعله بنى ذلك على جواز عتق الذمي في الكفارة، وذلك لأنه مسكين، فدخل تحت: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] .
(تنبيه) بحث الأصحاب وكلامهم يقتضي أن الخلاف في الذمي، وأنه لا نزاع أن الحربي لا يدفع إليه، وكذلك نص أحمد في جواز عتق الكافر إنما هو في اليهودي والنصراني.(5/500)
قال: حرا.
ش: أي ومن شرط المسكين أن يكون حرا، فلا يجوز دفعها لعبد ولا أم ولد ونحوها، لعدم حاجتهم، لوجوب نفقتهما على سيدهما، وظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب، ويأتي ذلك في الكفارات إن شاء الله تعالى، ويدخل في كلام الخرقي في المسكين الفقير، لأنه مسكين وزيادة، وكذلك الغارم لإصلاح نفسه، لأنه محتاج. والله أعلم.
قال: لكل مسكين مد من حنطة، أو نصف صاع من تمر أو شعير.
2765 - ش: أما كونه مدا من حنطة فلما روى الإمام أحمد قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد المدني، قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: «أطعم هذا، فإن مدي شعير مكان مد بر» » .
2766 - وعلى هذا يحمل ما روي عن أبي سلمة، «عن سلمة بن صخر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا، فقال: «أطعمه ستين مسكينا وذلك لكل مسكين مد» رواه الدارقطني، وللترمذي معناه.(5/501)
2767 - ثم هذا قول زيد وابن عباس، وابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأما كونه نصف صاع تمر أو شعير فلما تقدم من أن مدي شعير مكان مد بر.
2768 - وفي أبي داود قال: وذكر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال - يعني العرق - زنبيلا يأخذ خمسة عشر صاعا؛ وإذا العرقان ثلاثون صاعا، فيكون لكل مسكين نصف صاع تمر، انتهى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقتصر على البر والشعير والتمر، وقال غيره يجزئ هنا ما يجزئ في الفطرة فإن كان قوت بلده غير ذلك كالأرز والذرة، فهل يجزئه، وهو اختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، أو لا يجزئه، وهو اختيار القاضي؟ فيه قولان، وكذلك القولان في إجزاء الخبز، إلا أن القاضي وأصحابه هنا وافقوا على الإجزاء.
(تنبيه) المكتل الزنبيل، وقيل القفة، وهما بمعنى واحد، وقيل القفة العظيمة، والعرق قد فسره أبو سلمة بن عبد الرحمن، بأنه يسع خمسة عشر صاعا، وفي حديث خويلة قالت: والعرق ستون صاعا. وفي رواية: العرق مكتل يسع ثلاثين صاعا؛ قال(5/502)
أبو داود: وهذا أصح. يعني من كونه ستين صاعا، قال بعضهم: والاختلاف في قدره يدل على أنه يختلف، فيكون بعضه أكبر من بعض، وهو بفتح العين والراء، وسكن بعضهم الراء، والزنبيل بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة مخفف، فإن كسرت الزاي شددت فقلت زبيل، أو قلت زنبيل، سمي زنبيلا لأنه ينقل فيه الزبل للسماد.
قال: ومن ابتدأ صوم الظهار من أول شعبان أفطر يوم الفطر وبنى، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق، وبنى على ما مضى من صيامه.
ش: قد تقدم أنه إذا ترك صوم الكفارة لعذر أنه لا يضره ويبني، فإذا صام من أول شعبان ففي رمضان يترك الصوم للكفارة، لأن هذا الزمن متعين لرمضان، ثم يفطر يوم العيد، فبعد ذلك يكمل، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة فإنه يفطر يوم الأضحى وأيام التشريق، ثم يبني، وإذا قلنا يجوز صوم أيام التشريق عن الفرض مطلقا فإنه لا يفطر أيام التشريق.
[كفارة العبد في الظهار]
قال: وإن كان المظاهر عبدا لم يكفر إلا بالصوم.(5/503)
ش: هذا يدل على صحة ظهار العبد، ولا ريب في ذلك، لشمول الآية الكريمة له، وإذا صح ظهاره فكفارته الصيام، لأنه لا يجد الرقبة، لأنه معسر، وأسوأ حالا منه، فيدخل تحت: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] وظاهر كلام الخرقي أن كفارته الصيام وإن أذن له سيده وهو - والله أعلم - بناء على قاعدته، من أنه لا يملك وإن ملك، ومن لا ملك له لا مال له يكفر به، ومن الأصحاب من يقول: يجوز أن يكفر بالمال بإذن السيد، وإن لم نقل إنه يملك، وهو ظاهر كلام أبي بكر، وطائفة من متقدمي الأصحاب، وإليها ميل أبي محمد، ولهم مدركان (أحدهما) : أنه يملك القدر المكفر به ملكا خاصا (والثاني) : أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر، أما إن قلنا يملك، أو أذن له سيده في التكفير بالمال، فلا نزاع أن له أن يكفر به، ثم هل له ذلك على سبيل الوجوب أو الجواز؟ فيه تردد للأصحاب، وأيما كان فله على هذا التكفير بالإطعام، وهل له التفكير بالعتق؟ فيه روايتان (إحداهما) : نعم، اختارها، أبو بكر، ومال إليها أبو محمد كالإطعام (والثانية) : لا، لأنه يقتضي الولاء، والولاء يقتضي ولاية الإرث، وليس العبد من أهل ذلك، ومن أصحابنا من بناهما على الروايتين في المعتق في الكفارة، إن قلنا: عليه الولاء لم يكن له العتق، وإن قلنا:(5/504)
لا ولاء عليه، صح تكفيره بالعتق، وإذا جوزنا له التكفير بالعتق، فأذن له سيده في إعتاق نفسه عن كفارته جاز ذلك، على مقتضى قول أبي بكر، فإنه حكى فيما إذا أذن له في العتق وأطلق، هل له أن يعتق نفسه، لأن رقبته تدخل في الإطلاق، أو ليس له ذلك، لأن خطابه بالإعتاق قرينة على إرادة غيره.
(تنبيه) : إذا أذن له سيده في الإعتاق وأطلق، وجوزنا له عتق نفسه، فلا بد أن تكون رقبته أقل رقبة تجزئ في الكفارة، لأنه إذا أعتق غيره لا بد أن يكون كذلك، لأنه وكيل، فيجب عليه التصرف بالأحظ.
قال: وإذا صام فلا يجزيه إلا شهران متتابعان.
ش: قد تقدم أن كفارة العبد الصيام، وإذا فحكمه في ذلك حكم الحر في أنه يصوم شهرين متتابعين، لدخوله في الآية الكريمة، من غير قيام ما يقتضي التخصيص.
[حكم الوطء قبل الكفارة في الظهار]
قال: ومن وطئ قبل أن يأتي بالكفارة كان عاصيا.
ش: لمخالفة أمر ربه سبحانه، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وهذا قد مس، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» وقد تقدم.
قال: وعليه الكفارة المذكورة.
ش: إذا خالف ووطئ استقرت عليه الكفارة المتقدمة، لأنه(5/505)
ظاهر وعاد، فيدخل تحت {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية.
2769 - وروى النسائي عن عكرمة، أن «رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي، فوقعت عليها قبل أن أكفر؛ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: «فاعتزلها حتى تقضي ما عليك» ولهذا أيضا قال الأصحاب: ليس له الوطء ثانيا حتى يأتي بالكفارة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه أكثر من كفارة واحدة، وهو كذلك لما تقدم.
2770 - وفي الترمذي وابن ماجه عن سلمة بن صخر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، قال: «كفارة واحدة» وهو إن صح نص.
[حكم ظهار المرأة من زوجها]
قال: وإذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي. أو أنت علي حرام. لم تكن مظاهرة، ولزمها كفارة الظهار، لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور.(5/506)
ش: أما كون المرأة لا تكون مظاهرة بذلك فهذا هو المعروف والمشهور، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب، حتى أن القاضي قال في الروايتين: رواية واحدة؛ لتخصيص الله سبحانه الظهار بالرجال قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] الآية، ولأنه قول يوجب تحريما في الزوجة، يملك الزوج رفعه، فاختص به الرجال كالطلاق، وحكى ابن شهاب، وأبو يعلى ابن أبي حازم رواية أخرى أنها تكون مظاهرة، وقالا: اختارها أبو بكر، وزاد ابن أبي حازم: والقاضي، والشريف؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا في ذلك بكفارة الظهار، وسببها الظهار، فدل على أنها تكون مظاهرة، وقياسا لأحد الزوجين على الآخر، وعلى هذا تجب كفارة الظهار بلا ريب، أما على المذهب (فعنه) - وهو المشهور، واختيار الخرقي والقاضي، وجماعة من أصحابه كالشريف، وأبي الخطاب والشيرازي، وابنه أبي الحسين - يلزمها كفارة ظهار.
2771 - قال أحمد مثل حديث عائشة بنت طلحة، وهو ما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم، أن عائشة بنت طلحة قالت: إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي. فسألت أهل المدينة، فرأوا عليها الكفارة.(5/507)
2772 - وروى علي بن مسلم، عن الشيباني، قال: كنت جالسا في المسجد أنا وعبد الله بن معقل المزني، فجاء رجل حتى جلس إلينا، فسألته من أنت؟ فقال: مولى لعائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها، خطبها مصعب بن الزبير، فقالت: هو علي كظهر أبي إن تزوجته. ثم رغبت فيه بعد، فاستفتت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يومئذ كثير، فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه، فأعتقتني وتزوجته؛ رواهما سعيد مختصرين. (وعنه) - وهو اختيار أبي محمد -: عليها كفارة يمين، لأنه ليس بظهار، فلا يوجب كفارته كسائر المنكر من القول، وتجب كفارة يمين، لأنه تحريم مباح، أشبه تحريم سائر الحلال (وعنه) لا شيء عليها، لأنه ليس بظهار فتجب فيه كفارته، ولا يمين فتجب كفارتها، وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فإنما تجب بالحنث، وهو الوطء إن قلنا تجب كفارة يمين، وكذلك إن قلنا كفارة ظهار فلا تكون مظاهرة، صرح بذلك القاضي وغيره، بشرط أن لا تكون مكرهة، وإن قلنا تكون مظاهرة، فقيل: بالعزم على التمكين، حكاه ابن أبي حازم فيما أظن، قال ابن عقيل: رأيت بخط أبي بكر: العود التمكين.
(تنبيه) عليها التمكين قبل التكفير، قاله الشيخان، لأن ذلك حق عليها، فلا يسقط بيمينها، قال أبو محمد: وحكي(5/508)
عن أبي بكر أنها لا تمكنه قبل التكفير كالرجل، قال: وليس بجيد. لأن ظهار الرجل صحيح، وظهارها غير صحيح، قلت: قول أبي بكر جار على قوله من أنها تكون مظاهرة، وقال أبو البركات: إنها ليس لها ابتداء القبلة والاستمتاع، مع قوله: إنها تمكنه، وإنها غير مظاهرة، وذلك لأنه الذي في يدها، وهي قد منعت نفسها منه.
[تكرر الكفارة بتكرار الظهار]
قال: وإذا ظاهر من نسائه مرارا فلم يكفر فكفارة واحدة.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، القاضي، والشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وغيرهم، لأنه لفظ تتعلق به كفارة، فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى، ولأن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود، فإذا وجدت قبل التكفير تداخلت كالحدود (وعنه) تجب كفارات ما لم ينو التأكيد أو الإفهام، لأن الظهار مع العود قد وجدا، فتجب الكفارة كما بأول مرة، وأبو محمد في الكافي يحكي هذه الرواية إن نوى الاستئناف تكررت، وإلا لم تتكرر، وهو ظاهر كلام القاضي في روايتيه وليس بجيد، فإن مأخذ هذه الرواية في الرجل يحلف على شيء واحد أيمانا كثيرة، فإن أراد تأكيد اليمين فكفارة واحدة، وحكى أبو محمد في المقنع الرواية إن كرره في مجالس فكفارات، ولا أظنه إلا وهما، والله أعلم.(5/509)
[كتاب اللعان]
ش: اللعان مصدر: لاعن لعانا. إذا فعل ما ذكر، أو لعن كل واحد من الاثنين الآخر، قال أبو محمد: مشتق من اللعن، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا، وقال القاضي: لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا، فتحصل اللعنة عليه. انتهى، قال الأزهري: وأصل اللعن الطرد والإبعاد، يقال: لعنه الله أي باعده. والأصل في اللعان قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] إلى قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] .
2773 - وعن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي، فقال له: يا عاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عاصم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسائل، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر، فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله(5/510)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها؛ فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو وسط الناس، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب فأت بها» قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها؛ فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ؛ قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين. رواهما الشيخان، وأبو داود وهذا لفظه.
قال: وإذا قذف الرجل زوجته البالغة الحرة المسلمة، فقال لها: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين. ولم يأت بالبينة، لزمه الحد إن لم يلتعن، مسلما كان أو كافرا، حرا كان أو عبدا.
ش: الكلام على هذه المسألة أولا من جهة الإجمال، وثانيا من جهة التفصيل.
فأما من جهة الإجمال فإذا قذف الرجل زوجته التي هذه صفتها بما ذكر، ولم يأت بالبينة لزمه الحد، فإن التعن سقط عنه الحد، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية، أوجب سبحانه الحد على رامي المحصنات إن لم يأت(5/511)
بالبينة، وهو شامل للأزواج وغيرهم، ثم خص الأزواج بعد ذلك باللعان، تنبيها على أن اللعان قائم مقام البينة في إسقاط الحد.
2774 - ويشهد لهذا ما في السنن عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة وإلا حد في ظهرك» فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «البينة وإلا حد في ظهرك» مختصر، رواه البخاري وأبو داود، والترمذي وابن ماجه.
وأما من جهة التفصيل فقول الخرقي: إذا قذف الرجل زوجته، إلى آخره يقتضي أن اللعان إنما يشرع بين الزوجين، وهو اتفاق في الجملة، أما قذف غير الزوجين فالواجب فيه إما الحد إن كانت المرأة محصنة، أو التعزيز إن لم تكن محصنة، لما تقدم من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] إلى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] دل على أن كل رام يلزمه الحد، وأن الزوج له مع عدم البينة شيء آخر وهو اللعان، وكذلك لا لعان بقذف الأمة، وإن كان بينهما ولد، لأن اللعان، إنما ورد في الزوجات،(5/512)
ويدخل في الزوجة الرجعية، لأنها زوجة، وكذلك من قذفها ثم أبانها، لأن القذف ورد على زوجته، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق يا زانية ثلاثا؛ لأن قذفها حصل قبل بينونتها، ويستثنى من الأجنبية إذا قذفها في نكاح فاسد، أو أبانها ثم قذفها بزنا في النكاح، أو في العدة أو قال لها: أنت طالق ثلاثا يا زانية، فإن في هذه الصورة إن كان بينهما ولد لاعن لنفيه، للحاجة إلى ذلك، وإن لم تكن زوجة، لإضافة ذلك إلى الزوجية، وإلا حد ولم يلاعن، ويستثنى من الزوجة إذا قذف زوجته بزنا قبل النكاح، فإنه يحد ولا يلاعن على المذهب مطلقا، لإضافة القذف إلى حالة البينونة (وعنه) يلاعن مطلقا، نظرا إلى أنها زوجته، فيدخل في الآية الكريمة (وعنه) إن كان ثم ولد لاعن لحاجته إلى نفيه، وإلا لم يلاعن، انتهى، وقوله: البالغة الحرة المسلمة. إلى آخره، بيان لصفة الزوجين الذين يصح لعانهما، وقد اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك، فروي عنه أن من شرطهما أن يكونا مكلفين، وإن كانا ذميين، أو رقيقين أو فاسقين، أو كان أحدهما كذلك، لعموم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وهذا شامل لكل زوج وزوجة، خرج منه غير المكلفين، لأن هذا لا يخلو من حد أو تعزير، وذلك لا يتعلق إلا بمكلف، وبنى القاضي وغيره ذلك على أن اللعان يمين، واليمين لا يشترط لها إسلام ولا حرية، ولا عدالة، ودليل ذلك افتقار اللعان إلى اسم الله تعالى.
2775 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة هلال: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» وهذه الرواية هي اختيار القاضي في تعليقه، وجماعة(5/513)
من أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، واختيار أبي محمد أيضا وغيره (وعنه) يشترط التكليف الإسلام والحرية والعدالة، فلا لعان إلا من مسلمين حرين عدلين، وعلله أحمد بأنه شهادة، وذلك لوجود لفظ الشهادة فيه، ولأن الله سبحانه قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] فجعلهم شهداء (وعنه) رواية ثالثة: لا يصح اللعان إلا من المحصنة وزوجها المكلف، ولا لعان في قذف يوجب التعزير، لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ثم قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية، وظاهره المحصنات (وعنه) لا لعان بقذف غير المحصنة، إلا لولد يريد نفيه، وهذا اختيار القاضي في المجرد، نظرا للحاجة لنفي الولد، وظاهر كلام الخرقي الثالثة، لأنه اعتبر في الزوجة البلوغ والحرية والإسلام، ولم يعتبر ذلك في الزوج، والقاضي والشريف وأبو الخطاب قالوا: إن اختياره الثانية.
واعلم أن في كلام الخرقي تساهلا، لأنه قال: لزمه الحد إن لم يلتعن، مسلما كان أو كافرا. والحد إنما يجب بقذف المسلمة، والكافر لا يكون زوجا لمسلمة، وقد يحمل على ما إذا أسلمت فقذفها في عدتها، فإن هنا يلزمه الحد وإن كان كافرا، وله أن يلتعن لإسقاطه إن كان بينهما ولد كما تقدم. انتهى، وقوله:(5/514)
فقال لها: زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين، بيان للألفاظ التي يصير بها قاذفا، ويترتب عليها اللعان، ولا يشترط أن يضيف ذلك إلى الرؤية، لعموم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولا أن يقذفها بزنا في القبل، بل لا فرق بين القبل والدبر، ولو قذفها بغير الزنا، أو بزنا لكن في غير الفرج فلا حد ولا لعان، ولو لم يقذفها بالزنا أصلا، بأن قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني. ونحو ذلك، فيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله: ولم يأت بالبينة لزمه الحد إن لم يلتعن، تقدم الكلام عليه أولا، وظاهر كلامه أنه إذا قدر على البينة له أن يلتعن وهو كذلك، لأنهما بينتان، فكان له الخيرة في أيهما شاء والله أعلم.
قال: ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته.
ش: يعني لا يعرض له في طلب حد ولا لعان حتى تطالبه زوجته، لأن ذلك حق لها، فلا يقام إلا بطلبها، كبقية حقوقها، ولا يملك وليها المطالبة، وإن كانت صغيرة أو مجنونة، أو أمة، لأنه حق ملحوظ فيه التشفي، فليس لغير من هو له طلبه كالقصاص، فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها، ولا ولد لم يكن له ذلك بلا نزاع عندنا، وكذلك مع وجود الولد على أكثر نصوص الإمام أحمد، لأنه أحد موجبي القذف، فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد، واختار القاضي أن له اللعان وحده، لأجل نفي الولد، لحاجته إلى ذلك، وجعله أبو البركات قياس رواية أنه يلاعن إذا نفى الولد، ولم يرمها بالزنا، بأن قال: لم تزن والولد ليس ولدي. ونحو ذلك، كما سيأتي، وهكذا الخلاف في كل موضع تعذر فيه اللعان من جهتها، كما(5/515)
إذا أعفته عن المطالبة أو صدقته أو أقام بينة بزناها، أو قذفها وهي محصنة فجنت، أو وهي مجنونة بزنا قبل الجنون، أو وهي خرساء أو ناطقة ثم خرست ولم تفهم إشارتها.
[تحريم الملاعنة على الملاعن على التأبيد]
قال: فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا.
ش: إذا تلاعنا وفرق الحاكم بينهما، حرمت الملاعنة على الملاعن على التأبيد، فلا يجتمعان أبدا على المذهب بلا ريب.
2776 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمتلاعنين: «حسابكما على الله تعالى، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» . قال: يا رسول الله مالي؟ قال: «لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها» متفق عليه.
2777 - وعن سهل بن سعد في «قصة المتلاعنين: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقال: «لا يجتمعان أبدا» .
2778 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا» .(5/516)
2779 - وعن علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان» . رواهن الدارقطني.
وشذ حنبل عن أصحابه فنقل عن أحمد أنه إذا أكذب نفسه حلت له، نظرا إلى أن اللعان الذي وجد كأن لم يكن بالتكذيب، وقد اختلف نقل الأصحاب في هذه الرواية، فقال القاضي في الروايتين: نقل حنبل: إن أكذب نفسه زال تحريم الفراش، وعادت مباحة كما كانت بالعقد الأول؛ وقال في الجامع والتعليق: إن أكذب نفسه جلد الحد، وردت إليه، وظاهر هذا أنه من غير تجديد عقد، وهو ظاهر كلام أبي محمد، قال في الكافي والمغني: نقل حنبل: إن أكذب نفسه عاد فراشه كما كان؛ زاد في المغني: وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق الحاكم، فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله؛ وفيما قاله نظر، فإنه إذا لم يفرق الحاكم فإن قيل: الفرقة حصلت باللعان، فهو كتفريق الحاكم، وإن قيل: لا تحصل إلا بتفريق الحاكم، فلا تحريم حتى يقال حلت له، والذي يقال في توجيه ظاهر هذا النقل أن الفرقة إنما استندت للعان، وإذا(5/517)
أكذب نفسه كأن اللعان لم يوجد، وإذا يزول ما ترتب عليه، وهو الفرقة وما نشأ عنها وهو التحريم.
وأعرض أبو البركات عن هذا كله فقال: إن الفرقة تقع فسخا متأبد التحريم (وعنه) إن أكذب نفسه حلت له بنكاح جديد، أو ملك يمين إن كانت أمة، وقد سبقه إلى ذلك الشيرازي، فحكى الرواية أنها تباح بعقد جديد. انتهى.
فعلى المذهب متى وقع اللعان بعد البينونة أو في نكاح فاسد، فهل يفيد الحرمة المؤبدة، لأنه لعان صحيح، أو لا يفيدها، لأن الفرقة لم تحصل به؟ على وجهين.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الفرقة بينهما لا تحصل إلا بتفريق الحاكم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافاتهم، وابن البنا وأبي محمد، وأبي بكر فيما حكاه القاضي في التعليق.
2780 - لما روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» . رواه الجماعة.
2781 - «وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: رجل قذف امرأته. قال: فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أخوي بني عجلان، وقال: «الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب» يرددها ثلاث مرات، فأبيا ففرق بينهما» . متفق عليه، ولو(5/518)
حصلت الفرقة بمجرد اللعان لما احتيج إلى فرقة.
2782 - وقد تقدم في حديث سهل بن سعد «أن عويمرا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - قال الزهري: فكانت تلك سنة المتلاعنين، وفي رواية في الصحيح: «ذاكم التفريق بين كل متلاعنين» وفي لفظ لأحمد ومسلم: فكان فراقه إياها سنة المتلاعنين؛ وظاهره يقتضي أن طلاقه وقع، ولو وقعت الفرقة لما وقع، وقوله: فكانت تلك سنة المتلاعنين يعني التفريق بينهما، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - استدل بحديث سهل على أن الفرقة تقع بمجرد اللعان، فقال في رواية ابن القاسم وقد سئل: متى تنقضي الفرقة بينهما؟ فقال: أما في حديث سهل فقال: كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق. وأما حديث ابن عمر فإنه يقول: فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما؛ وابن عمر أعرف بالحديث، لأن سهلا كان له خمس عشرة سنة، وابن عمر كان رجلا؛ ووجه الدليل من هذا أن قوله: فكانت تلك سنة المتلاعنين. أي الحكم بالفرقة باللعان، ثم يرشح هذا القول أن اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع، وهذه الرواية عزاها أبو محمد إلى اختيار أبي بكر، وظواهر الأحاديث تدل على الأولى وهي المذهب، وعليها لا يحتاج الحاكم إلى استئذانها، ولو لم يفرق كان النكاح بحاله، قاله أبو محمد، وعلى كلتيهما لا يحصل التفريق قبل تمام اللعان بينهما، لأن النصوص إنما وردت بالتفريق بعد لعانهما.(5/519)
(تنبيه) فرقة اللعان فسخ لا طلاق، نص عليه، والله أعلم.
[تكذيب الملاعن نفسه]
قال: وإن أكذب نفسه فلها عليه الحد.
ش: إذا أكذب نفسه لزمه ما عليه من وجوب الحد، ولحوق النسب، ولم يثبت ما عليه من عود حلها له، على المذهب كما تقدم، لأن بإكذاب نفسه تبين أن لعانه كذب، وإذا يجب الحد.
2783 - وقد روى الدارقطني بإسناده عن قبيصة قال: قضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل أنكر ولد امرأته وهو في بطنها، ثم اعترف وهو في بطنها، حتى إذا ولد أنكره، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجلد ثمانين جلدة، لفريته عليها، ثم ألحق به ولدها، وإنما لم يثبت الحل حذارا من أن يثبت له بمجرد قوله حل، ولما كان من مذهب الخرقي أن اللعان لا يشرع إلا في قذف المحصنة اقتصر على الحد، أما على قول غيره من أنه يشرع وإن لم تكن محصنة، فيقول: أو التعزير إن لم تكن محصنة. والله أعلم.
[ما يترتب على اللعان]
قال: وإن قذفها وانتفى من ولدها، وتم اللعان بينهما(5/520)
بتفريق الحاكم، انتفى عنه إذا ذكره في اللعان.
ش: إذا ولدت المرأة ولدا لحق زوجها.
2784 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش» ولا ينتفي عنه إلا باللعان على الصفة التي ذكرها الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما سيأتي بيانه.
2785 - وذلك لما تقدم في حديث ابن عمر الصحيح: «أن رجلا لاعن امرأته، وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» .
2786 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين هلال وامرأته قال: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد» رواه أحمد وأبو داود،(5/521)
واختلف بماذا ينتفي (فعنه) بتمام لعانهما (وعنه) بنفي الحاكم مع ذلك، وهذا الخلاف كالخلاف في الفرقة، بماذا تحصل (وعنه) ثالثة تقف الفرقة على حكم الحاكم، فإذا فرق انتفى الولد، لأن قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالأم. ظاهره أن نفي الولد مرتب على التفريق، وخرج أبو البركات قولا آخر، أن الولد ينتفي بلعان الزوج وحده، وكأنه خرجه من القول: إن تعذر اللعان من جهة المرأة، يلاعن الزوج وحده لنفي الولد.
وقول الخرقي: وإن قذفها وانتفى من ولدها. لأن عنده كما سيأتي أن من شرط اللعان القذف، وقوله: وتم اللعان بينهما.
يحترز عن مذهب الغير أن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج، كالتخريج المتقدم، وقوله: وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم، الظاهر أن الباء فيه للمعية، أي مع تفريق الحاكم، لا للسببية، إذ تفريق الحاكم ليس سببا لتمام اللعان، بل تمامه بألفاظه المشترطة كما سيأتي، وقوله: انتفى عنه إذا ذكره في اللعان، يعني أنه يشترط لنفي الولد أن يذكره في اللعان، فلو لم يذكره لم ينتف، وهذا مختار القاضي وأبي محمد وغيرهما، لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلا لاعن(5/522)
امرأته وانتفى من ولدها، ولأن غاية اللعان أن يثبت زناها، وذلك لا يوجب نفي الولد، كما لو أقرت به. وعلى هذا يشترط أن يذكره في الألفاظ الخمسة، وحكى أبو محمد تبعا للقاضي في روايتيه عن أبي بكر في الخلاف أنه لا يشترط ذكره، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم في لعان هلال وامرأته، وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يدعى ولدها لأب، وليس في القصة أنه ذكر الولد في اللعان، ولم يعرج أبو البركات على هذا الخلاف، بل جزم أنه لا بد أن يتناوله اللعان، إما صريحا بأن يقول في لعانه: وما هذا الولد ولدي. وإما ضمنا، بأن يقول من قذفها بزنا في طهر لم يصبها فيه وأنه اعتزلها حتى ولدت: أشهد بالله أني لصادق فيما ادعيت به، ونحو ذلك، واعلم أنه يشترط لنفي الولد باللعان أن يتقدمه إقرار به، أو ما يدل عليه، والله أعلم.
قال: فإن أكذب نفسه بعد ذلك لحقه الولد.
ش: قد تقدم أنه إذا أكذب نفسه ثبت ما عليه من الحد، ولحوق الولد، لأن نفقته تجب عليه، وكلام الخرقي يشمل وإن كان الولد ميتا وله مال، وهو كذلك، والله أعلم.
قال: وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن.
ش: منصوص أحمد في رواية الجماعة أنه لا يصح نفي(5/523)
الحمل، وقال: ربما لم يكن شيئا، لعله يكون ريحا، وعلى هذا عامة الأصحاب، معتمدين بأنه يكون ريحا، وقد يكون غيره، فيصير نفيه مشروطا بوجوده، ولأن الأحكام التي ينفرد بها الحمل تقف على ولادته، بدليل الميراث والوصية، وغير ذلك، وهذا حكم ينفرد به الحمل، فدخل في القاعدة، وفارق وجوب النفقة على الحامل، وكونها لا توطأ حتى تضع وغير ذلك، لأن هذه أحكام تتعلق بحيوان حامل، لا ينفرد بالحمل، فعلى هذا لا بد أن ينفيه عند وضعها له ويلاعن، ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أنه يصح نفيه، وهو اختيار أبي محمد، لأن في حديث سهل: «وقضى أن لا يدعى ولدها لأب» ، ولعان هلال وامرأته كان قبل الوضع، كما جاء في غير حديث.
2787 - وجاء مصرحا في حديث سهل وكانت حاملا.
2788 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن على الحمل» ، رواه أحمد. وينبني على هذا الخلاف في استلحاقه، فعلى الأول لا يصح، وقد نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم، وعلى الثاني يصح. والله تعالى أعلم.(5/524)
قال: ولو جاءت امرأته بولد، فقال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولد مني فهو ولده في الحكم، ولا حد عليه لها.
ش: أما كون الولد والحال ما تقدم ولده، فلأنه ولد على فراشه، وقد قال: «الولد للفراش» وأما كونه لا حد عليه فلأن شرط وجوب الحد القذف ولم يوجد، وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له اللعان لنفي الولد، وهذا اختيار القاضي في الروايتين، وأبي محمد، لأن اللعان الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعد القذف، ولا قذف هنا، فينتفي اللعان، إذ الأصل الانتفاء مطلقا، إلا فيما ورد به الشرع، (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي بكر، وابن حامد، والقاضي في تعليقه وفي روايتيه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وأبي البركات: له ذلك، لأن مشروعية اللعان لشيئين، نفي الحد والولد، ولا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر، ولو سلم أن أصل مشروعيته لنفي الحد، فليشرع لأجل الولد من باب الأولى، إذ ضرر الولد يتأكد، ويلزم منه مفاسد عظيمة، لا يوجد بعضها في الحد، فكيف بمجموعها.
(تنبيهان) : أحدهما ذكر أبو البركات من صور الروايتين إذ(5/525)
قال صورة الخرقي، ولم يقل: ولم تزن. ولم يجعله قاذفا، أو قال: وطئت بشبهة، أو مقهورة بنوم أو إغماء أو جنون أو إكراه، وحكى اختيار الخرقي في الجميع، وأبو محمد في المغني قطع فيما إذا قال: وطئت بشبهة أنه لا لعان. وحكى الخلاف فيما إذا قال أكرهت على الزنا. وهذا ظاهر كلام القاضي، لأنه استدل لاختيار الخرقي بأن من رمى أحد الواطئين لم يكن له أن يلاعن، كما لو قذف الزوجة دون الواطئ، فقال: وطئك فلان بشبهة، وكنت عالمة أنه أجنبي. وأجاب عن ذلك في التعليق بأنه إنما لم يكن له اللعان لجواز نفي الولد عنه، بعرضه على القافة، وأبو محمد يقول في هذه الصورة التي جعلها القاضي محل وفاق: له اللعان، وينصب الخلاف مع القاضي، وضابط الباب أنه متى قذف بالزنا، بأن تضمن قذفه رميها ورمي واطئها، شرع اللعان بلا ريب، وعكسه إن لم يقذفها، ولا قذف واطئها، فهنا لا لعان عند أبي محمد في المغني، والقاضي، ولا خلاف، وعند أبي محمد في المقنع وأبي البركات فيه الروايتان، والصحيح عند أبي البركات مشروعية اللعان، وهذا الذي اقتضى لأبي البركات أن يقول: وهو أصح عندي. أي في جميع الصور، وإن قذف واطئها دونها، بأن قال: أكرهت على الزنا. ونحو ذلك، فهنا يجري الخلاف بلا ريب، والمصحح عند القاضي ومن تقدم مشروعية اللعان، خلافا للخرقي، وأبي محمد، وإن قذفها دون الواطئ، كما إذا قال: وطئك فلان بشبهة. وكنت عالمة، فعند القاضي هنا لا خلاف أنه لا يلاعن،(5/526)
ومختار أبي محمد أنه يلاعن، وكلام أبي البركات محتمل لجريان الخلاف، وأن الصحيح عنده مشروعية اللعان، ومناط المسألة عند القاضي أن لا يكون له طريق إلى نفي الولد إلا اللعان، والمناط عند أبي محمد والخرقي أن يقذف زوجته بالزنا، والمناط عند أبي البركات أنه يحتاج إلى نفي الولد، وإن أمكن نفيه بالعرض على القافة، ونحو ذلك، لأن القافة قد تتعذر، وقد يشتبه الأمر عليها، ونحو ذلك.
(التنبيه الثاني) حيث شرع اللعان في هذه الصور فإن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج وحده، ذكره أبو البركات، والله أعلم.
[اللعان الذي يبرأ به من الحد]
قال: واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم: أشهد بالله لقد زنت. ويشير إليها، وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها، حتى يكمل ذلك أربع مرات، ثم يوقف عند الخامسة ويقال له: اتق الله، فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فإن أبى إلا أن يتم فليقل: ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فيما رماها به من الزنا، وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب. أربع مرات، ثم توقف عند الخامسة، وتخوف كما يخوف الرجل، فإن أبت إلا أن تتم فلتقل: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فيما رماني به من الزنا، ثم يقول الحاكم: قد فرقت بينكما.
ش: هذا بيان لصفة اللعان، والأصل فيه في الجملة الآية الكريمة، وقد تقدمت.(5/527)
2789 - «وعن سعيد بن جبير أنه قال لعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يا أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان، قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فتلاهن عليه، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعا بالمرأة فوعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ - وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7] ثم ثنى بالمرأة فشهدت: {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ - وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8 - 9] ثم فرق بينهما» ، متفق عليه.
وظاهر كلام الخرقي أن جميع ما ذكره تتوقف صحة اللعان عليه، فيكون شرطا فيه، ونحن نتكلم عليه مفصلا، فأما كون ذلك بمحضر الحاكم فلا بد منه.
2790 - لأن في «قصة هلال أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أرسلوا إليها، فتلا عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الدنيا(5/528)
أهون من عذاب الآخرة، فقال هلال: والله لقد صدقت عليهما، فقالت: كذب. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاعنوا بينهما» » وظاهره أنه كان بحضوره، وكذلك بقية الأحاديث، تدل على ذلك، نعم لو كانت المرأة خفرة، بعث الحاكم من يلاعن بينهما، إذ هو نائب عنه، ونائبه قائم مقامه، وأما كون الزوج يقول: أشهد بالله أربع مرات. فللآية الكريمة والحديث، وأما كونه يقول: لقد زنت. فلأن الذي يشهد به هو زناها، وأما كونه يشير إليها فلتتميز عن غيرها، وهذا إذا كانت حاضرة، فإن كانت غائبة أسماها ونسبها، حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها، وهذا كله شرط، وقيل لأحمد: كيف يلاعن؟ قال: على ما في كتاب الله، يقول أربع مرات: أشهد بالله إني فيما رميتها به من الزنا لمن الصادقين. وهو ظاهر النصوص، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى استغنى عن ذلك بقوله: لقد زنت. لأن معناهما واحد، قال أبو محمد: واتباع لفظ النص أولى وأحسن.
2791 - وأما كون الزوج يوقف بعد الرابعة، ويقال له ما ذكر، فلأن في «حديث هلال لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاعنوا بينهما» فقيل لهلال: اشهد. فشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر، وإن هذه الموجبة التي(5/529)
توجب العذاب. فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] ثم قيل لها: اشهدي. فشهدت: {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] » الحديث رواه أبو داود وأحمد، وهو ظاهر النصوص، وهذا الإيقاف والموعظة مستحبان عند الأصحاب، لأنهما ليسا في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الصحيح، وإنما فيه الموعظة أولا، وأما كونه إن لم يرجع وأبى إلا أن يتم فليقل: ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا، للآية الكريمة والحديث، وهذا أيضا شرط، إلا أنه لو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد أو بالغضب ففي الإجزاء ثلاثة أوجه (ثالثها) الاجتزاء بالغضب لا بالإبعاد، وفي إبدال لفظه أشهد بأقسم أو أحلف وجهان، أصحهما: لا يجزئ: وقال الوزير ابن هبيرة من أصحابنا: من اشترط من الفقهاء أنه يزاد بعد قوله: {مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] : فيما رميتها به من الزنا. اشترط في نفيها عن نفسها: فيما رماني به من الزنا. ولا أراه يحتاج إلى ذلك، لأن(5/530)
الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا الاشتراط، وأما كون المرأة تقول بعد ذلك: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، أو لقد كذب. على ما قال الخرقي إلى آخره، فلما تقدم، وهو كله أيضا شرط إلا الموعظة والإيقاف كما في الرجل، وإذا أبدلت الغضب باللعنة لم يجز، لأن الغضب أبلغ، وإن أبدلت الغضب بالسخط فوجهان، وقد تضمن كلام الخرقي أن لعان الزوج مقدم، وهو كذلك، فلو ابتدأت المرأة لم يعتد بذلك، وكذلك الترتيب في الألفاظ شرط، واعلم أن من شرط اللعان أيضا الإلقاء من الحاكم أو نائبه، فلو ابتدأ الرجل من غير إلقاء لم يعتد به، كما لو حلف من غير أن يأذن له الحاكم، أو شهد من غير سؤال، والله أعلم.
قال: فإن كان بينهما في اللعان ولد ذكر الولد، فإذا قال: أشهد بالله لقد زنت، يقول: ما هذا الولد ولدي. وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب، وهذا الولد ولده.
ش: قد تقدم أنه يشترط لنفي الولد ذكره في اللعان، وأنه لا ينتفي إلا بذلك، على مختار الخرقي، ثم إن الخرقي اكتفى بأن يقول: وما هذا الولد ولدي. وتبعه على ذلك أبو محمد، وقال القاضي: يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا، وليس هو مني. يعني خلقا وخلقا، والله أعلم.
قال: فإن التعن هو ولم تلتعن هي فلا حد عليها، والزوجية بحالها.
ش: أما انتفاء الحد عنها فلا نعلم فيه خلافا في مذهبنا، لأن(5/531)
الحد يدرأ بالشبهة، ونكولها شبهة، لأنه يحتمل أن يكون لشدة حيائها، أو لعقدة على لسانها، أو غير ذلك، وهذا شبهة فدرأت الحد.
2792 - ويرشح هذا قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الحد على من زنا وقد أحصن، إذا كانت بينة، أو كان الحمل أو الاعتراف، وظاهره أنه لا حد بغير ذلك، وقول الله سبحانه: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] يحتمل أن يراد بالعذاب الحد، ويحتمل أن يراد الحبس، ويحتمل أن يراد غيره، فلا يثبت الحد بالاحتمال، وأما كون الزوجية بحالها فلأن الفرقة إنما تحصل بالتعانهما، ولم يوجد ذلك.
وظاهر كلام الخرقي أنه يخلى سبيلها، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، لأن هذا لعان لم يوجب حدا، فلم يوجب حبسا، كما لو لم تكمل البينة، (والثانية) : وهي اختيار القاضي، وأبي علي بن البنا، والشيرازي وغيرهم - أنها تحبس حتى تقر أو تلاعن، نظرا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] فإذا لم تشهد لم يندرئ العذاب عنها، وإنما قلنا: العذاب الحبس لآية النساء وهي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية إلى {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] وإنما لم يقل إنه الحد حذارا(5/532)
من ارتكاب الأثقل بالاحتمال، ومقتضى كلام الخرقي أن الولد لاحق له، وهو كذلك، والله أعلم.
قال: وكذلك إن أقرت دون الأربع مرات.
ش: يعني لا حد عليها، لأنه لم يثبت بلعانه كما تقدم، ولا بإقرارها المذكور، إذ شرط ثبوت الحد عليها بالإقرار أن تقر أربعا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والزوجية بحالها كما تقدم، وحكم هذه حكم من نكلت على ما تقدم، في حبسها أو تخليتها، وفي أن الولد لاحق بالزوج على المنصوص، وقد تقدم فيه قول آخر أن للزوج أن يلتعن وحده لنفيه، وحكى ابن حمدان قولا أنها إذا أقرت بعد النكول ثلاثا أنها تحد، وكأن مدركه أن شهادة الرجل بمنزلة شاهد، فقد وجد بلعانه ربع النصاب، وبإقرارها ثلاثة أرباعه، ويلزم على هذا لو أقرت ثلاث مرات، وشهد شاهد أنها تحد، ولا أعرف النقل في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/533)
[كتاب العدد]
ش: العدة ما تعده المرأة من أيام أقرائها، أو أيام حملها، أو غير ذلك، على ما يعرف إن شاء الله، والأصل فيها قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي فعدتهن كذلك، أو فكذلك، أو واللائي يئسن من المحيض، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، وملخصه هل في الآية تقديم وتأخير أو تقدير، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة؟ خلاف، وقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] الآية، وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم» » في أحاديث غير ذلك، مع أن مشروعية ذلك إجماع والحمد لله، والله أعلم.
[وجوب العدة على المخلو بها]
قال: وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض.(5/534)
ش: قد انعقد الإجماع على وجوب العدة على المبتوتة، لعموم {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] مع قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية، وقد اختلف في وجوب العدة على المخلو بها بشرطه، ومذهبنا وجوبها، لقضاء الصحابة بذلك، وقد تقدم الكلام على ذلك مبينا، في وجوب الصداق بالخلوة، ويشترط لوجوب العدة بالخلوة مطاوعتها، وكون الزوج ممن يولد لمثله، وهل يعتبر خلوهما من الموانع كالجب والعنة، والإحرام والصيام، ونحو ذلك؟ لم يعتبره أبو البركات، مع حكايته الخلاف في الصداق، وخرج أبو محمد الخلاف الذي ثم هنا.
وظاهر كلام الخرقي أن العدة لا تجب إذا لم يوجد مس أو خلوة، ولو قبل أو لمس، أو تحملت المرأة ماء الرجل، وهو أحد الوجهين في الصور الثلاث، والذي جزم به القاضي في المجرد وجوبها بتحمل المرأة الماء انتهى.
وعدة ذات القروء الحرة ثلاثة أقراء بالإجماع، لشهادة النص بذلك، واختلف في القروء هل هي الحيض أو الأطهار؟ على روايتين مشهورتين، هما قولان للعلماء، ولأهل اللغة (إحداهما) أنها الأطهار، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل الحجاز.(5/535)
2793 - ونقله أحمد عن زيد وابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وزعم ابن عبد البر أن أحمد رجع أخيرا إلى هذا القول، وعمدته في ذلك قول أحمد في رواية الأثرم: رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف، والأحاديث عمن قال الطهر وأنه أحق بها، حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديث صحاح قوية، والعمدة في ذلك قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في عدتهن، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة، والمشروع الطلاق في الطهر لا في الحيض بالإجماع، وشهادة السنة له كما تقدم، وقال الأعشى يصف غزوة:
مورثة مالا وفي الأصل رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا(5/536)
والذي ضاع هو الأطهار، (والثانية) القرء الحيض، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل العراق، ويحكى عن الأصمعي والكسائي، والفراء، والأخفش، قالوا كلهم: أقرأت المرأة. إذا حاضت. قال الأصمعي: فهي مقرؤ. وقال الكسائي والفراء: فهي مقرئ.
2794 - ونقل ذلك الإمام أحمد عن عمر، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو المشهور عن أحمد، واختيار أصحابه، وآخر قوليه صريحا، كما نص عليه في رواية ابن القاسم، فقال: كنت أقول بقول زيد وعائشة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فهبته،(5/537)
وكذلك في رواية الأثرم: كنت أقول الأطهار، ثم وقفت لقول الأكابر. وأصرح من ذلك قوله في رواية النيسابوري: قد كنت أقول به، إلا أني أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض، وهذا تصريح بالرجوع، وعلى إحدى الطريقتين يرتفع الخلاف من مذهبه، وما اعتمده أبو عمر فليس فيه إلا أن مختاره كان إذ ذاك الأطهار، والعمدة في ذلك ما اعتمده أحمد من أن ذلك قول الأكابر، وقد حكاه عن عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
2795 - وروي عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وابن عباس، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأيضا فقد وقع القرء في لسان المبين لكتاب ربه، والمراد به الحيض.
2796 - فعن القاسم «عن زينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنها مستحاضة: فقال: «تجلس أيام أقرائها، ثم(5/538)
تغتسل» ، مختصر، رواه النسائي.
2797 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن أم حبيبة بنت جحش - التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف - شكت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدم، قال: «فلتنظر قرأها الذي كانت تحيض، فلتترك الصلاة، ثم لتنظر ما بعد ذلك، فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي» رواه أحمد، والنسائي.
2798 - وعن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: أمرت بريرة أن(5/539)
تعتد بثلاث حيض. رواه ابن ماجه.
2799 - وعنها أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» رواه الترمذي وأبو داود. فعلم من هذا أن عرف الشرع في القرء أنها الحيض، وأيضا موافقة لظاهر الآية، وهو: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإن ظاهرها ثلاثة قروء كوامل، وإنما يكون ذلك إذا قلنا إنها الحيض، أما إن قلنا إنها الأطهار فإنما هو قرآن وبعض الثالث، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فنقلهن عند عدم المحيض إلى الاعتداد بالأشهر، فظاهره أن الأشهر بدل عن الحيض، وأيضا فالعدة استبراء، فكانت بالحيض كاستبراء الأمة.
2800 - ودليل الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تستبرأ بحيضة» وأما قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فالمراد مستقبلات لعدتهن، كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، أي مستقبلا لثلاث.
2801 - يؤيد هذا أن في «حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما طلق امرأته وهي حائض، وأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمراجعتها، فقال ابن عمر: قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل(5/540)
عدتهن» رواه أبو داود والنسائي.
2802 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة، قال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، ثم قرأ: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) وفي لفظ: وإن الله قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) رواه أبو داود، وأما بيت الأعشى فقيل: أراد من أوقات نسائك، ولم يرد لا حيضا ولا طهرا، والقرء والقارئ جاء في معنى الوقت، يقال: هذا قارئ الرياح. لوقت هبوبها، ومن هنا قال بعض أهل اللغة: إن القرء يصلح للحيض والطهر، بناء على أن القرء الوقت، وقال آخر: يصلح لهما، بناء على أن القرء الجمع، ومنه قولهم: قريت الماء في الحوض، وقرأت القرآن. أي لفظت به مجموعا، ولا ريب أن الدم يجتمع في البدن في الطهر، ويجتمع في الرحم في الحيض، وبالجملة من أهل اللغة من يجعل القرء للطهر، ومنهم من يجعله للحيض، ومنهم من يجعله مشتركا بينهما، والله أعلم.
قال: غير الحيضة التي طلقها فيها.
ش: هذا بناء على مختاره من أن الأقراء الحيض، فعلى هذا لا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها من العدة، بل إنما تحتسب بما بعدها، بلا خلاف نعلمه، لظاهر الكتاب، ولأن المنع من(5/541)
الطلاق في الحيض - والله أعلم - حذارا من تطويل العدة عليها، وإنما يكون ذلك إذا لم تحتسب بالحيضة التي طلقها فيها، ولهذا قلنا والجمهور تحتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءا إن قلنا القروء الأطهار، وإلا يكون الطلاق في الطهر أضر بها، وأطول عليها من الطلاق في الحيض، والله أعلم.
[انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء]
قال: فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، أبيحت للأزواج.
ش: ظاهر هذا أن العدة لا يحكم بانقضائها بانقضاء الحيضة الثالثة، بل لا بد مع ذلك من الاغتسال، وهذا إحدى الروايتين، وأنصهما عن أحمد، واختيار أصحابه، الخرقي، والقاضي، والشريف، والشيرازي وغيرهم، اعتمادا على أن هذا قول أكابر الصحابة.
2803 - قال أحمد: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يقول: إذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة فقد بانت منه. وهو أصح في النظر، قيل له: فلم لا تقول به؟ .
2804 - قال: ذلك يقول به عمر وعلي وابن مسعود، فأنا أتهيب أن أخالفهم، يعني اعتبار الغسل، ويرشح هذا القول أن ظاهر القرآن كما أشار إليه أحمد، يقتضي انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء، فترك هؤلاء الأكابر للظاهر، الظاهر إنما هو عن توقيف ممن له البيان.(5/542)
2805 - وقد روي هذا أيضا عن أبي بكر، وعثمان، وأبي موسى، وعبادة، وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (والرواية الثانية) تنقضي العدة بانقطاع دمها من الثالثة وإن لم تغتسل، اختاره أبو الخطاب، نظرا لظاهر القرآن، ولا تفريع على هذه الرواية، أما على الأولى فظاهر كلام الخرقي وجماعة أن العدة لا تنقضي ما لم تغتسل، وإن فرطت في الاغتسال مدة طويلة، وقد قيل لأبي عبد الله: فإن أخرت الغسل تعمدا، فينبغي إن كان الغسل من أقرائها أن لا تبين وإن أخرته؟ قال: هكذا يقول شريك. فظاهر هذا أنه أخذ به، وقال أبو بكر: روي عن أبي عبد الله: إذا وجبت عليها الصلاة ولم يخرج الوقت. قال القاضي: يعني بذلك أنها لا تباح ما لم تجب عليها الصلاة، فإذا وجبت أبيحت انتهى، وقال أبو بكر أيضا: روي عن أبي عبد الله أنها في عدتها إذا انقطع الدم لدون أكثر الحيض، وإن انقطع لأكثره انقضت العدة بانقطاعه انتهى، ومحل الخلاف في المسألة في إباحتها للأزواج، وحلها لزوجها الأول بالرجعة، أما(5/543)
ما عدا ذلك من انقطاع نفقتها، وعدم وقوع الطلاق بها، وانتفاء الميراث، وغير ذلك، فيحصل بانقطاع الدم رواية واحدة، قال القاضي وغيره: قصرا على مورد حكم الصحابة. والله أعلم.
قال: وإن كانت أمة فإذا اغتسلت من الحيضة الثانية.
ش: مذهبنا ومذهب الجمهور أن عدة الأمة بالقرء قرءان.
2806 - لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وعدتها حيضتان» وفي لفظ: «وقرء الأمة حيضتان» رواه الدارقطني، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان» رواه ابن ماجه والدارقطني، إلا أن كلا الحديثين قد ضعف.
2807 - لكن يرشحهما أنه قول عمر وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والجمهور، وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفا، كما في كثير من أحكام الأمة مع الحرة، إلا أن الحيض لا يتبعض.
2808 - ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو أستطيع أن أجعل العدة حيضة(5/544)
ونصفا لفعلت. إذا تقرر هذا فالخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنده أن القروء الحيض، فتكون عدة الأمة حيضتين، وعنده أن الحرة لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الثالثة، فكذلك الأمة لا تحل حتى تغتسل من الثانية والله أعلم.
[عدة الآيسات واللائي لم يحضن]
قال: وإن كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي فكذلك، أو فعدتهن كذلك، أو واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، وملخصه أن الآية الكريمة هل فيها تقديم وتأخير، أو تقدير، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة؟ ثلاثة أقوال.
(تنبيه) ويحتسب بالساعة التي فارقها، على المشهور من الوجهين، حذارا من الزيادة على ظاهر الكتاب، وقال ابن حامد: إنما يحتسب بأول الليل أو النهار، فإذا طلقها نهارا احتسب من أول الليل الذي يليه، وليلا يحتسب بأول النهار الذي يليه، دفعا لمشقة اعتبار الساعات، والله أعلم.(5/545)
[عدة الأمة]
قال: والأمة شهران.
ش: يعني أن ما تقدم إذا كانت الزوجة حرة، أما إن كانت أمة فعدتها شهران، وهذا هو المشهور من الروايات، والمختار لعامة الأصحاب، الخرقي والقاضي وأصحابه، وأبي بكر فيما نقله القاضي في الروايتين، إذ الأشهر بدل من القروء، وعدة ذات القروء قرءان، فبدلهما شهران.
2809 - واعتمد أحمد على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عدة أم الولد حيضتان، ولو لم تحض كان عدتها شهران (والرواية الثانية) عدتها شهر ونصف، اختارها أبو بكر فيما نقله أبو محمد.
2810 - ويروى عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة، وعدة الحرة ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف، وإنما اعتدت الأمة ذات القروء بالحيضتين، لتعذر تبعيض الحيضة، (الرواية الثالثة) ثلاثة أشهر، مخرجة على ما قال القاضي من نصه في أن استبراءها بثلاثة أشهر، لظاهر إطلاق الكتاب، ولأن اعتبار الشهور للعلم ببراءة رحمها، ولا تحصل بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة، إذ الحمل يكون(5/546)
نطفة أربعين يوما، وعلقة أربعين يوما، ثم يصير مضغة أربعين يوما، ثم يتحرك ويعلو بطن المرأة، ويظهر الحمل، وهذا ظاهر لا خفاء به، إلا أنه ضعف، لأنه مخالف لإجماع الصحابة، لأنهم إنما اختلفوا على القولين السابقين، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من عادتها أن لا تحيض، وبين من عادتها أن تحيض، كمن بلغت خمسة عشر سنة ونحو ذلك، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي بكر وأبي محمد، واعتمادا على عموم الكتاب، (والرواية الثانية) إذا أتى عليها زمان الحيض ولم تحض تعتد بسنة، اختارها القاضي في خلافه وفي غيره، وعامة أصحابه، الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، لأنها والحال هذه مرتابة، لجواز أن يكون بها حمل منع حيضها فوجب أن تعتد بسنة، كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده.
(تنبيه) حد الإياس هل هو خمسون سنة أو ستون، أو يفرق بين نساء العرب ونساء العجم، على خلاف سبق في الحيض، وأبو محمد يختار أنها إذا بلغت خمسين، وانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب، فقد صارت آيسة، وإن رأت الدم بعد الخمسين، على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض، والله أعلم.
قال: وإذا طلقها طلاقا يملك فيه الرجعة، وهي أمة، فلم تنقض عدتها حتى أعتقت، بنت على عدة حرة، وإن طلقها(5/547)
طلاقا لا يملك فيه الرجعة فعتقت، اعتدت عدة أمة.
ش: لأنها إذا أعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة، فوجب أن تعتد عدة الحرائر، كما لو أعتقت قبل الطلاق، وإن عتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية، فلم تجب عليها عدة الحرائر، كما لو أعتقت بعد مضي القرئين، والله أعلم.
قال: وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت، فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت سنة.
ش: هذا هو المذهب المعمول به بلا ريب، لأنها إذا حصلت مرتابة، فوجب أن تقعد سنة، تسعة أشهر للحمل اعتمادا على الغالب، وثلاثة لعدة الإياس، لتزول الريبة، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنها تقعد للحمل أربع سنين، نظرا إلى أن ذلك هو اليقين، ثم تعتد للإياس.
(تنبيه) ولو عاد الحيض قبل الحكم بانقضاء عدتها انتقلت إليه بلا ريب، لأنه الأصل، والبدل لم يتم، وإن عاد بعد العدة وبعد نكاحها لم تنتقل إليه بلا ريب، للحكم بصحة نكاحها، وإن عاد بعد الحكم بانقضاء عدتها، وقبل نكاحها ففي الانتقال إليه وجهان، أصحهما لا تنتقل إليه، للحكم بانقضاء عدتها، والله أعلم.
قال: وإن كانت أمة اعتدت بأحد عشر شهرا، تسعة(5/548)
أشهر منها للحمل، وشهران للعدة.
ش: هذا مبني على ما تقدم له من أن عدة الأمة الآيسة شهران، وهو المذهب، أما على رواية أن عدتها شهر ونصف، فتجلس عشرة أشهر ونصف، وعلى رواية ثلاثة أشهر، تساوي الحرة، والله أعلم.
قال فإن عرفت ما رفع الحيض كانت في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به، إلا أن تصير من الآيسات، فتعتد بثلاثة أشهر من وقت تصير في عدة الآيسات.
ش: إذا عرفت ما رفع الحيض - من مرض أو رضاع ونحوه - لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به، أو تصير آيسة فتعتد عدة الآيسات، نص عليه أحمد في رواية صالح، وأبي طالب، وابن منصور، والأثرم، إذا حبسها مرض أو علة أو رضاع فلا بد أن تأتي بالحيض وعليه أصحابه.
2811 - لما روى الشافعي في مسنده عن حبان بن منقذ، أنه طلق امرأته طلقة واحدة، وكان لها منه بنية ترضعها، فتباعد حيضها، ومرض حبان، فقيل له: إنك إن مت ورثتك. فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلي وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها إن ماتت ورثها، وإن مات ورثته، لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض. فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت منها، فعاد إليها الحيض، فحاضت(5/549)
حيضتين، ومات حبان قبل انقضاء الثالثة، فورثها عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم.
قال: وإن حاضت حيضة أو حيضتين، ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض.
ش: لأنها إذا تصير مرتابة، فوجب أن تعتد بسنة، كما لو ارتفع حيضها من حين طلقها، والعدة لا تبنى على عدة أخرى، ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست، انتقلت إلى ثلاثة أشهر، ولو اعتدت الصغيرة شهرا أو شهرين، ثم حاضت، انتقلت إلى القروء.
2812 - واعتمد أحمد في المسألة على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه قال - في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين، وارتفع حيضها لا تدري ما رفعه -: تجلس تسعة أشهر، فإن لم يستبن بها حمل، تعتد بثلاثة أشهر. قال ابن المنذر: قضى به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين المهاجرين والأنصار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،(5/550)
لا ينكره منكر، والله أعلم.
قال: وإن طلقها وهي من اللائي لم يحضن، فلم تنقض عدتها بالشهور حتى حاضت، استقبلت العدة بثلاث حيض إن كانت حرة أو بحيضتين إن كانت أمة.
ش: لأن الشهور بدل عن الحيض، فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل، كالتيمم مع الماء، وإنما لم تبن على ما مضى، لما تقدم من أن العدة لا تبنى على أخرى، وإذا تعتد بثلاث حيض إن كانت حرة، وبحيضتين إن كانت أمة، بناء على أن القروء الحيض، وإن قيل: إنها الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرء؟ فيه وجهان، والله أعلم.
قال: ولو مات عنها وهو حر أو عبد، قبل الدخول أو بعده، انقضت عدتها بتمام أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة، وبتمام شهرين وخمسة أيام إن كانت أمة.
ش: أما كون الحرة تعتد بأربعة أشهر وعشر إذا مات زوجها فلقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] .
2813 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا»(5/551)
متفق عليه، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، إعمالا لعموم الآية والخبر، ثم المعنى يعضده، وهو أن النكاح عقد عمر، فإذا مات انتهى، والشيء إذا انتهى تقررت أحكامه، كتقرر أحكام الإجارة بانقضائها، وأما كون الأمة تعتد بشهرين وخمسة أيام، فقيل لاتفاق الصحابة على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة، فكذلك عدة الوفاة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة، مسلمة أو ذمية، ولا بين أن يوجد حيض في مدة الأربعة أشهر أو لم يوجد، وهو كذلك.
(تنبيه) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها، فتجب عشرة أيام مع الليالي، والله أعلم.
قال: ولو طلقها أو مات عنها وهي حامل منه، لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل، أمة كانت أو حرة.
ش: لقول الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وهذا إجماع والحمد لله في الطلاق، وفي كل فرقة في الحياة، وكالإجماع فيما بعد الموت.
2814 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال - في الحامل المتوفى عنها زوجها -: إنها تعتد بأطول الأجلين.(5/552)
2815 - وهو إحدى الروايتين عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ويحكى عن سحنون من المالكية، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وهذا عام في كل متوفى عنها، وللجماعة الآية السابقة، فإن العموم فيها أصرح، ثم يرشحه عمل العامة على وفقه.
2816 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى، بعد الأربعة أشهر وعشرا. رواه النسائي وأبو داود، وهذا لفظه، يريد بسورة النساء سورة الطلاق، وهذا(5/553)
يدل على أنها متأخرة عن الآية التي في سورة البقرة، فيقضي عليها بالنسخ أو بالتخصيص.
2817 - والذي يقطع النزاع ويبين المراد بلا ريب، ما روي «عن سبيعة الأسلمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤي، وهو ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك - رجل من بني عبد الدار - فقال لها: ما لي أراك متجملة، لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي» . قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر. متفق عليه.
2818 - وقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لما بلغه هذا الحديث رجع إلى قول الجماعة، وهذا الذي يظن به.(5/554)
وقول الخرقي: بوضع الحمل، أي كله، فلو كان ولدين أو أكثر فلا بد لانقضاء العدة من وضع الجميع، ولو كان واحدا فلا بد من انفصال جميعه.
(تنبيه) لم تنشب. أي لم تمكث، وتعلت من نفاسها. أي انقطع دمها وطهرت، قال المنذري: وأصله عندهم السواد، كأنه من العلو أي تتعلى عن حالتها من المرض، والله أعلم.
[الحمل الذي تنقضي به العدة]
قال: والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، أمة كانت أو حرة.
ش: كأن تضع ولدا. أو يدا أو رجلا أو نحو ذلك، وقد حكي الإجماع على ذلك، إذ بذلك يعلم أنها حامل، فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وسواء كان ما تبين ظاهرا أو خفيا شهدت به القوابل. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا وضعت ما لا يتبين فيه شيء من خلق الإنسان أنها لا تنقضي عدتها به، وهو المشهور عن أحمد، ومختار أبي بكر، والقاضي والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم، وابن عقيل والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لأنه قد حصل الشك في كونه ولدا، فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة به، حذارا من دفع اليقين بأمر مشكوك فيه، (ونقل حنبل عن أحمد) أنها تصير بذلك أم ولد، فخرج القاضي(5/555)
وجماعة من ذلك انقضاء العدة به، لأن الظاهر أنه بدء خلق آدمي، أشبه ما لو تصور، وأبى ذلك أبو محمد، وقال: ليس هذا برواية في العدة، إذ أحمد لم يتعرض لها، انتهى. ويؤيد هذا أنه روي عن أحمد في رواية أخرى ما يدل على أنها تصير بذلك أم ولد، ولا تنقضي به العدة، والفرق الاحتياط في الصورتين، ففي الاستيلاد تغليبا للحرية، وفي العدة تغليبا للكمال، ومحل الخلاف فيما إذا ألقت مضغة، أما إن ألقت نطفة، أو دما، أو علقة، فإن العدة لا تنقضي به بحال عند الشيخين وغيرهما، والقاضي في تعليقه جعل الخلاف في العلقة والمضغة، ومحل الخلاف أيضا إذا شهدت القوابل أن المضغة مبدأ خلق آدمي، قاله أبو محمد، فلو لم تشهد بذلك لم يحكم بانقضاء العدة بلا خلاف، ولم يشترط ذلك أبو البركات، والله أعلم.
قال: ولو طلقها أو مات عنها، فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين، لحقه الولد وانقضت عدتها به.
ش: هذا يعتمد أصلا، وهو أكثر مدة الحمل، والمذهب المشهور أن أقصاها أربع سنين، لأن هذا لا نص فيه، فيرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد ذلك.
2819 - فروى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث جميلة بنت سعد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا تزيد المرأة(5/556)
على السنتين في الحمل. قال مالك: سبحان الله! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد.
2820 - وقال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين.
2821 - وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون، كل دفعة أربع سنين.
2822 - وحكى أبو الخطاب أن محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بقي في بطن أمه أربع سنين، وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي.
2823 - ويؤيد ذلك أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب لامرأة المفقود أربع سنين. والظاهر أنه إنما فعل ذلك لأنه أقصى مدة الحمل.(5/557)
2824 - وعن أحمد أن أقصاه سنتان، لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل. ولأن الاتفاق حصل على ذلك، بخلاف غيره، إذا تقرر هذا، فإذا أتت المرأة بولد لأربع سنين فما دون، من يوم طلاقها أو موت زوجها، ولم تكن تزوجت ولا وطئت، ولا انقضت عدتها بالقروء، ولا بالأشهر على قول، ولا بوضع الحمل، فإن الولد لاحق للزوج، والعدة منقضية به. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا أتت بولد أكثر من ذلك لم يلحق بالزوج، ولا ريب في ذلك، ومفهومه أيضا أن العدة لا تنقضي به منه، وهذا هو المذهب، بلا ريب، لأن الحمل منفي عنه يقينا، فلم يعتد بوضعه منه، كما لو ظهر بعد موته، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العدة تنقضي به، لأنها ذات حمل، فتدخل في: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4](5/558)
وهكذا الخلاف في كل ولد لا يلحق الزوج، كامرأة الطفل المتوفى عنها، والمطلقة عقب العقد، ونحو ذلك (وعن أحمد) تنقضي به من غير الطفل، لأنه يلحقه بالتحاقه، بخلاف الطفل، وأظن هذا اختيار القاضي، وقد يقال: إن ظاهر إطلاق الخرقي أن من تقدم إذا أتت بولد لأربع سنين فما دون أنه يلحق الزوج، وإن كانت قد أقرت بانقضاء عدتها، لكن منصوص أحمد، وقول الأصحاب على خلاف هذا، فإنهم اتفقوا فيما علمت على أنها إذا أقرت بانقضاء عدتها بالأقراء، أن الولد لا يلحق به، وظاهر كلام أحمد وأبي بكر أن الحكم كذلك، وإن أقرت بانقضائها بالأشهر، وصرح بذلك أبو البركات، وابن حمدان، وظاهر كلام القاضي وعامة أصحابه إناطة ذلك بالأقراء، بخلاف الأشهر، وتبعهم أبو محمد على ذلك مصرحا به، والله أعلم.
قال: ولو طلقها أو مات عنها، فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها، فرق بينهما، وبنت على عدتها من الأول، ثم استقبلت العدة من الثاني.
ش: أما كونه يفرق بينهما والحال هذه، فلأنه نكاح باطل اتفاقا، فوجب التفريق فيه، كما لو تزوجت وهي زوجة، وأما كونها تبني على عدتها من الأول فلسبق عدته، وكونها عن وطء في نكاح صحيح، وليس في كلام الخرقي بيان لمدة مقامها عند الثاني، هل تنقطع به العدة أم لا؟ وفي المسألة وجهان،(5/559)
والذي جزم به القاضي والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم، أن العدة لا تنقطع به، والذي جزم به أبو محمد في كتبه الانقطاع، وأما كونها تستقبل عدتها من الثاني، فلأنهما حقان مقصودان لآدميين، فلم يتداخلا، كالدينين واليمينين، والعمدة أن عمر وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حكما بذلك كما سيأتي، ولا نعرف لهما مخالفا.
قال: وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لعموم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] وغير ذلك، ولأنه لو زنا بها لم تحرم عليه أبدا، فهذا أولى، (والرواية الثانية) تحرم أبدا.
2825 - لما روى مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي، فطلقها ونكحت في عدتها، فضربها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وضرب زوجها ضربات بمخفقة، وفرق بينهما، ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، فلا ينكحها أبدا، والمعنى في ذلك - والله أعلم - أن الله تعالى(5/560)
أوجب العدة لبراءة الرحم، حفظا للأنساب، وشرع النكاح بعدها صيانة للفروج، فلما انتهك الحرمة، وأخل بالحكمة، واستعجل السبب الذي رتب عليه الشرع الإباحة في غير محله، اقتضت الحكمة أن يعامل بنقيض قصده المؤبد، كالقاتل لمورثه.
2826 - وقد اعترض على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه روي عنه أنه قال: إذا انقضت العدة فهو خاطب من الخطاب.
2827 - وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رجع إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(5/561)
ومفهوم كلام الخرقي أنها لا تحل قبل انقضاء العدتين، وعلى هذا الأصحاب كافة، ما عدا أبا محمد، فإنه يميل إلى أن له أن ينكحها في عدتها منه، بعد فراغ عدة الأول، قال بعد أن حكى هذا عن الشافعي: وهذا حسن موافق للنظر، لأن العدة إنما شرعت حفظا للنسب، وصيانة للماء، والنسب لاحق به ها هنا، فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها، والأصحاب اعتمدوا على قضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد تقدم.
2828 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في المرأة تتزوج في عدتها، أنه يفرق بينهما، ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر. ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولعموم: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] الآية والضمير في قول الخرقي: وله أن ينكحها. أي الثاني، أما الأول فإن كان طلاقه ثلاثا لم تحل له بهذا النكاح، لبطلانه وعدم مشروعيته، وإن كان دون الثلاث فله نكاحها بعد العدتين، وإن كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه، قاله أبو محمد، والله أعلم.
قال: فإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما، أري القافة وألحق بمن ألحقوه به منهما، وانقضت عدتها به منه، واعتدت للآخر.(5/562)
ش: إذا حملت هذه المنكوحة في العدة فعدتها بوضع الحمل، كغيرها بلا ريب، ثم ينظر في الولد فإن أمكن كونه من الأول دون الثاني، كأن تأتي بالولد لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دون من فراق الأول، فهو ملحق به، وتنقضي عدتها منه به، ثم تعتد للثاني، وإن أمكن كونه من الثاني وحده، كأن تأتي به لستة أشهر فأزيد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول، فهو ملحق بالثاني، فتنقضي عدتها منه به، ثم تتم عدة الأول، وإنما قدمت عدة الثاني - والحال هذه - على عدة الأول، حذارا من أن يكون الحمل من إنسان، والعدة من غيره، وإن أمكن كونه منهما، كأن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دون من بينونتها من الأول، وهذه صورة الخرقي، فإنه يرى القافة، فإن ألحقته بأحدهما لحق به، وانقضت عدتها به منه، ثم اعتدت للآخر، وإن ألحقته بهما لحق بهما، وانقضت عدتها به منهما، ولو لم يمكن كونه من واحد منهما، بأن ولدته لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول، فإنه لا يلحق بواحد منهما، ولا تنقضي عدتها منه، على المذهب كما تقدم، ولو أمكن كونه منهما، ولم توجد قافة أو أشكل أمره عليها، فإنها بعد وضعه تعتد بعدة أخرى، لأن الولد إن كان من الأول فعليها أن تعتد للثاني، وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول، ولا يتيقن ذلك إلا بعدة كاملة، وهل يضيع نسب الولد والحال هذه، أو يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهما؟ فيه خلاف مشهور، والله أعلم.(5/563)
[عدة أم الولد]
قال: وأم الولد إذا مات سيدها فلا تنكح حتى تحيض حيضة.
ش: لأنها قد زال الملك عنها، فلزمها الاستبراء بحيضة عند إرادة النكاح، كالأمة القن إذا زال الملك عنها وأريد وطؤها، ودليل الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» ومقتضى كلام الخرقي أنه يكتفى في استبرائها بحيضة، وهو المشهور من الروايتين أو الروايات، والمختار للأصحاب، لأنه استبراء لزوال الملك عن الرقبة، فكان حيضة في حق من تحيض، كسائر استبراء المعتقات والمملوكات، (والرواية الثانية) تعتد بعد موته بأربعة أشهر وعشر.
2829 - لما روي عن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر. يعني أم الولد، رواه أبو داود وابن ماجه وقد ضعف، قال ابن المنذر: ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص، وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو هذا،(5/564)
ويقول: أين سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشرا إنما هي عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية. وقال القاسم بن محمد: سبحان الله! الله يقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] ما هن بأزواج. وقد أول بعضهم الحديث على أنه إنما جاء في أم الولد بعينها، كأن أعتقها صاحبها ثم تزوجها، وحكى أبو محمد عن أبي الخطاب أنه حكى رواية ثالثة أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام، قال: ولم أجد هذه الرواية في الجامع، ولا أظنها صحيحة عن أحمد، قلت: ولم أرها أنا في الهداية، ووجهها أنها حين الموت أمة، فكانت عدتها عدة الأمة، وهذا كله ضعيف، إذ لا عدة هنا، إنما هو استبراء، والله أعلم.
قال: وإن كانت مؤيسة فبثلاثة أشهر.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، ومختار الخرقي وأبي بكر، والقاضي وأبي محمد وغيرهم، لأن المقصود من الاستبراء(5/565)
العلم ببراءة الرحم، فلا يحصل إلا بذلك، قال أحمد بن القاسم: قلت لأبي عبد الله: كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرا؟ فقال: إنما قلنا ثلاثة أشهر لأجل الحمل، فإنه لا يتبين في أقل من ذلك.
2830 - وقد سأل عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك، وجمع أهل العلم والقوابل، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، فأعجبه ذلك.
2831 - ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن النطفة أربعين يوما، ثم علقة أربعين يوما، ثم مضغة بعد ذلك» قال أبو عبد الله: فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة، وهي لحم، فيتبين حينئذ، (والرواية الثانية) أنها تستبرأ بشهر، لأن الله جعل ثلاثة أشهر مكان ثلاث حيض، فكل شهر مكان حيضة، وهذه استبراؤها بحيضة، فمكانها شهر، (وعنه) ثالثة تستبرأ بشهرين، (وعنه) رابعة بشهر ونصف، كما لو كانت مطلقة، وهذا الحكم لا يختص بأم الولد، بل يجري في كل مستبرأة آيسة، والله أعلم.
قال: وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت تسعة أشهر للحمل، وشهرا مكان الحيضة.(5/566)
ش: إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فإنها تقعد تسعة أشهر للحمل، بلا ريب، ثم تقعد شهرا للاستبراء عوض الحيضة، قاله الخرقي، وتبعه أبو محمد، مع قولهما إن الآيسة استبراؤها بثلاثة أشهر، وذلك لأن الاستبراء في الآيسة إنما كان بثلاثة أشهر لتعلم براءة رحمها من الحمل وهنا بمضي غالب مدة الحمل علمت البراءة، فجعل الشهر مكان الحيضة، على وفق القياس، وحكى أبو البركات وغيره فيها رواية أخرى أنها تستبرأ بثلاثة أشهر كالآيسة.
(تنبيه) وإن علمت ما رفع الحيض لم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرأ به، أو تصير آيسة فتستبرأ باستبراء الآيسات، والله أعلم.
قال: وإن كانت حاملا فحتى تضع.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع» الحديث، والله أعلم.
قال: وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لم تنكح حتى تحيض حيضة كاملة.
ش: لا يختلف المذهب أن الاستبراء هنا بحيضة، وذلك لأنها موطوءة وطئا له حرمة، فلم يجز أن تتزوج قبل الاستبراء، كالموطوءة بشبهة، والمعنى فيه الخوف من اختلاط المياه، وامتزاج الأنساب المطلوب عدمه شرعا. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا لم يكن سيدها يطأها لا يلزمها(5/567)
استبراء، وهو كذلك، للأمن من اختلاط المياه وامتزاج الأنساب، ولو لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد، وقول الخرقي: حيضة كاملة. يحترز عن قول من يقول إنها إذا طعنت في الحيضة فقد تم استبراؤها، والحديث نص في رد ذلك، والله أعلم.
قال: وكذلك إن أراد أن يزوجها وهي في ملكه استبرأها بحيضة ثم زوجها.
ش: لما تقدم من الخوف من اختلاط المياه، وامتزاج النسب.
(تنبيه) فإن لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد، والله أعلم.
قال: وإذا ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بحيضة - بعد تمام ملكه لها - إن كانت ممن تحيض، أو بوضع الحمل إن كانت حاملا، أو بمضي ثلاثة أشهر إن كانت من اللائي يئسن من المحيض، أو من اللائي لم يحضن.
ش: إذا ملك أمة لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها.
2832 - لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سبي أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» رواه أحمد وأبو داود.(5/568)
2833 - وعن رويفع بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره» رواه أحمد والترمذي، وأبو داود وزاد: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها» » والاستبراء بحيضة إن كانت ممن تحيض، أو بوضع الحمل إن كانت حاملا للحديث، أو بثلاثة أشهر على المشهور من الروايات، ومختار الخرقي، وقد تقدم ذلك، ولا تحل له أيضا قبلتها بلا خلاف أعلمه في المذهب في الجملة، حذارا من أن تكون حاملا من المنتقلة عنه، فيكون مستمتعا بأم ولده غيره، ولأنه استبراء حرم الوطء، فحرم القبلة كالعدة. وقول الخرقي: إذا ملك. يشمل كل ملك، فيدخل فيه المملوكة بسبي، فلا يصيبها قبل استبرائها بلا ريب، وكذا لا يستمتع بها، وهو إحدى الروايتين، وزعم أبو محمد أنه الظاهر عن الإمام، لأنه استبراء حرم الوطء، فحرم دواعيه كالعدة، (والثانية) له الاستمتاع بها دون الفرج، لأن المنع في غيرها للحذر من أن تكون أم ولد للغير، فيكون مستمتعا بأم ولد غيره، وبها جزم ابن البنا والشيرازي، وملخصه أن من نظر إلى هذا المعنى أباح، ومن قاس على العدة منع.
2834 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: وقع في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة، فما ملكت نفسي أن(5/569)
قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون، (ويدخل فيه) أيضا إذا ملك أمة من مكاتبه، وهو المذهب، وبه جزم أبو محمد، وفيه وجه أنه لا استبراء، اكتفاء باستبراء المكاتب، (ويدخل) أيضا إذا اشترى أمة مزوجة فطلقت، فإن الاستبراء يجب بعد العدة، وقيل: لا يجب بل تدخل فيها إذا أوجب الطلاق عدة، أما إن لم يوجب عدة - كالمطلقة قبل الدخول - فإن الاستبراء يجب قولا واحدا، (ومما يدخل فيه) أيضا إذا باع أمة ثم عادت إليه بإقالة أو فسخ، حيث قيل بانتقال الملك، وهذا إحدى الروايتين، واختيار الشريف وأبي الخطاب، والشيرازي وغيرهم (والرواية الثانية) لا يجب الاستبراء، ومحل الخلاف إذا كان العود قبل القبض، أما إن كان بعد القبض والافتراق فإن الاستبراء يجب بلا خلاف، هذا إذا كان المشتري رجلا، وكذلك إن كان امرأة عند أبي محمد، وعند أبي البركات إن كانت امرأة جرى فيه الخلاف مطلقا. ومفهوم كلامه أنه لا يجب الاستبراء بغير الملك، وقد قال أحمد في الإقالة توجب الاستبراء، قال: لأني أعتبر الملك.(5/570)
فأناط الحكم بالملك، فعلى هذا لو عجزت مكاتبته، أو فك أمته من الرهن ونحو ذلك، فلا استبراء عليه لذلك، نعم يستثنى من ذلك إذا أسلمت أمته المجوسية أو المرتدة، فإنه يجب عليه استبراؤها على وجه، والمذهب أنه لا يجب لذلك، وبه قطع أبو محمد، (وقوله) : أمة. يشمل كل أمة وإن كانت بكرا أو لا تحمل، أو انتقلت من صغير أو امرأة، وهو كذلك، لعموم الحديث، ويستثنى من ذلك إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فإنه لا يجب استبراؤها على إحدى الروايتين، لأن الاستبراء يراد لمعرفة براءة الرحم، ورحم هذه معروف براءته، ولا ترد الآيسة لأن الإياس قد يخفى، ثم قد وقع حمل الآيسة، كما وقع لامرأة سيدنا إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه الرواية اختيار ابن أبي موسى وأبي محمد، ولا عبرة بقول ابن المنجا أن ظاهر كلامه في المغني ترجيح الوجوب، فإنه صرح بتصحيح عدم الوجود، بل لم يستدل على الوجوب بشيء. (والثانية) وهي ظاهر كلام الخرقي، وابن البنا والشيرازي وغيرهم: يجب، لعموم الحديث. وقوله: ولم يقبلها. وفي معنى القبلة الاستمتاع فيما دون الفرج ونحو ذلك، (وقوله) : بعد تمام ملكه لها. يحترز عما إذا ملك بعضها، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين ملك جميعها، وأما إذا اشتريت بشرط الخيار، وقلنا الملك(5/571)
ينتقل، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين انتهاء الخيار، لعدم تمام الملك قبله، وهو أحد الوجهين، والوجه الثاني - وبه جزم أبو محمد - يحتسب به من حين انتقال الملك، إناطة به، وإن لم يتم، وقد دخل في كلام الخرقي إذا وجد الاستبراء في يد البائع قبل القبض، وقد تم الملك، فإنه يجزئ، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وجماعة من أصحابه، (والثانية) لا يجزئ إلا بعد القبض، وعلى هذه فهل يكفي قبض الوكيل؟ فيه وجهان، أصحهما الإجزاء، لأن يده كيد الموكل، والله أعلم.
[إحداد الزوجة المتوفى عنها زوجها]
قال: وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة، والبيتوتة في غير منزلها، والكحل بالإثمد، والنقاب، فإن احتاجت سدلت على وجهها، كما تفعل المحرمة حتى تنقضي عدتها.
ش: قد تقدم أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة، وشهران وخمسة أيام إن كانت أمة، (فتجتنب) في مدة ذلك الطيب.
2835 - لما روي عن أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا، إلا أدنى طهرها فإذا طهرت من محيضها بنبذة من قسط وأظفار» متفق عليه.
2836 - وعن «زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على أم حبيبة حين توفي(5/572)
أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» متفق عليه وفي معنى الطيب الادهان بالأدهان المطيبة، كدهن الورد ونحوه، لا غير المطيبة كالزيت ونحوه، (وتجتنب) أيضا الزينة، لما تقدم من حديث أم عطية، «ولا تلبس ثوبا مصبوغا» الحديث.
2837 - وعن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنها، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» » رواه أبو داود والنسائي.
2838 - وعن «أم حكيم بنت أسيد، عن أمها، أن زوجها توفي عنها وكانت تشتكي عينها فتكتحل بالجلا، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلا، فقالت: لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه، يشتد عليك، فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أم سلمة: دخل علي رسول الله(5/573)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت علي صبرا، فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب. قال: «إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحنا، فإنه خضاب» قالت: قلت بأي شيء، أمتشط يا رسول الله؟ قال: «بالسدر تغلفين به رأسك» رواه أبو داود والنسائي. (والزينة تشمل) زينة البدن، كالاختضاب وتحمير الوجه، وجعل الصبر عليه وتحفيفه، ونحو ذلك، لما تقدم في الأحاديث، وما لم يذكر فيها فبالقياس على ما ذكر، ولا تمنع مما يراد للتنظيف كالامتشاط بالسدر، لحديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وكتقليم الظفر، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ونحو ذلك، (وتشمل) زينة الثياب، فيحرم عليها المصبوغ من الثياب للتحسين، كالمعصفر والمزعفر، والأزرق الصافي والأخضر الصافي، ونحو ذلك، لما تقدم من حديث أم سلمة وأم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا تمنع من مصبوغ لم يقصد(5/574)
بصبغه حسنه، كالكحلي والأخضر المشبع ونحو ذلك، نظرا للمعنى، وتخصيصها به، ولا من غير مصبوغ وإن كان حسنا، لعدم دخوله في الحديث، ولأن حسنه من أصل خلقته، أشبه إذا كانت المرأة حسناء، فإنه لا يلزمها أن تشوه نفسها، وفي منعها مما صبغ غزله ثم نسج وجهان، بناء على تفسير ثوب العصب المستثنى في الحديث ما هو، وسيأتي إن شاء الله تعالى، (وتشمل) الزينة أيضا الزينة بالحلي، كالخلخال والسوار، حتى الخاتم، لعموم حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولا الحلي انتهى. (وتجتنب) أيضا الكحل بالإثمد، وهو نوع من الزينة، وقد تقدم المنع في الأحاديث منه، ولا فرق بين السوداء وغيرها، نظرا للعموم، نعم إن اضطرت إلى التداوي بذلك جاز ليلا، وتمسحه نهارا، لما تقدم عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولا تمنع من الكحل بالتوتيا أو العنزروت ونحوهما، لعدم الزينة، والمنع ملحوظ فيه الزينة، (وتجتنب) أيضا النقاب، وكأنه لا نص في ذلك عن أحمد، لأن كثيرا من الأصحاب عزا ذلك إلى الخرقي، وذلك لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة، والمحرمة تمنع من ذلك، وعلى هذا تمنع مما في معنى ذلك كالبرقع، ولو احتاجت إلى ما يستر وجهها سدلت عليه، كما تفعل المحرمة، وتجتنب) أيضا المبيت في غير منزلها.(5/575)
2839 - لما «روي عن الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم، لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أرجع إلى أهلي، فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم» قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني، أو أمرني فدعيت له فقال: «ما قلت» ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت: فلما أن كان عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» ، رواه الخمسة وصححه الترمذي. وتجب العدة في المنزل الذي مات الزوج وهي ساكنة فيه، سواء كان مملوكا لزوجها أو لم يكن، كحال فريعة، إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها منه،(5/576)
بأن يحولها مالكه، أو تخشى على نفسها هدما أو غرقا أو عدوا ونحو ذلك، فلها أن تنتقل، لكن هل تنتقل إلى أقرب الأماكن إلى المسكن، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات، أو حيث شاءت، وهو مختار أبي محمد، وحكاه عن القاضي، فيه وجهان، وقد ذكر أبو محمد من صور الأعذار المبيحة للانتقال إذا لم تجد أجرة المنزل إلا من مالها، فإن لها الانتقال، وذكر هو وغيره أنه لا يجب للمتوفى عنها سكنى إن كانت حائلا بلا نزاع، وفيما إذا كانت حاملا روايتان، وحاصل قوله - وقد صرح به - أن الواجب عليها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه، فإنه قال: إذا بذل لها المنزل فإنه يلزمها أن تعتد فيه، ولا يحل لها البيتوتة في غيره، نص عليه في رواية حنبل، وفرق بينها وبين المبتوتة، انتهى، وفي ما قالاه نظر، فإنه يفضي إلى إسقاط العدة في المنزل رأسا، فإن الورثة إذا لم يبذلوا السكن والمرأة إذا لم تبذل الأجرة سقط الاعتداد في المنزل، وظاهر الحديث يخالفه، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «امكثي في بيتك» مع قولها: إنه لم يتركها في مسكن يملكه ولا نفقة، ولو كان لأمرها بالمكث في بيتها شرط، وهو بذل الورثة الأجرة، لبينه، ثم إن عامة الأصحاب يقولون: لا تخرج عن منزلها إلا لضرورة ووزن الأجرة ليس بضرورة عليها، ولفظ أحمد في رواية حنبل: لا تبيت المطلقة والمتوفى عنها إلا في(5/577)
منزلهما يذهبان بالنهار، فإذا كان الليل أتيا المنزل الذي أدركهما فيه الوفاة، والطلاق أسهل، وهذا النص أيضا على وفق الحديث، والذي يظهر لي أنها يجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت على ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب الخروج نهارا، وهو كذلك، نص عليه أحمد كما تقدم والأصحاب، دفعا للحرج والمشقة، إذ الحاجة قد تدعو إلى ذلك.
2840 - وقد «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: طلقت خالتي ثلاثا، فخرجت تجذ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي، فقال: «اخرجي فجذي نخلك، لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا» رواه النسائي وأبو داود، لكن اشترط كثير من الأصحاب لخروجها في النهار الحاجة، وأحمد وجماعة لم يشترطوا ذلك، فلا حاجة في التحقيق إلى اشتراطه، لأن المرأة وإن لم يكن متوفى عنها تمنع من خروجها من بيتها لغير حاجة مطلقا، وقوله: وتجتنب الزوجة. يخرج منه غير الزوجة كأم الولد ونحوها، فإنه لا إحداد عليها، ويدخل فيه كل زوجة، وإن كانت ذمية أو غير مكلفة، وهو كذلك، والمخاطب بتحصيل الإحداد على غير المكلف هو الولي.
(تنبيه) الإحداد المنع، فالمرأة تمنع نفسها مما كانت(5/578)
تتهيأ به لزوجها، من تطيب وتزين، فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحد المرأة» وقوله بعد: «ولا تلبس ثوبا مصبوغا» إلى آخره، عطف تفسيري للإحداد، يقال: أحدث المرأة إحدادا فهي محد، وحدت تحد وتحد، بالضم والكسر، فهي حاد، وسمي الحديد حديدا لامتناعه به، أو لامتناعه على من يحاوله، و «العصب» برود يمنية يعصب غزلها، أي يجمع ويشد، ثم يصبغ بعد ذلك وتنسج، فيأتي موشيا لبقا، ما عصب منه أبيض، لم يأخذه الصبغ، هذا تفسير المنذري، والقاضي من أصحابنا وغيرهما، ولهذا أباح القاضي ما صبغ غزله مطلقا، وقال أبو محمد - تبعا للسهيلي - إنه نبت يصبغ به لا ينبت إلا باليمن، ومن ثم اختار أبو محمد تحريم ما صبغ غزله ثم نسج للتحسين، نظرا للمعنى، (والنبذة) القطعة من الشي (والقسط) العود الذي يتبخر به، وقيل هو طيب غيره، ويقال بالقاف والكاف (والأظفار) جنس من الطيب، لا واحد له من لفظه، وقيل واحدة ظفر، وروي: «قسط وأظفار» على العطف، وروي: أو أظفار، على الإباحة والتسوية، ورخص في ذلك لأجل قطع الرائحة الكريهة، لا على معنى التطيب (والممشقة) من الثياب المصبوغة بالمشق، بكسر الميم وفتحها، وهو المغرة بفتح الميم (وكحل الجلا) هو الإثمد،(5/579)
وحكى فيه كسر الجيم وفتحها، والمد والقصر (والصبر) معروف الدواء المر (ويشب الوجه) أي يوقد اللون ويحسنه، من قولهم شببت النار، إذ أوقدتها، «وتغلفين» أي تلطخين، و «خدرة» بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة، بطن من الأنصار، «والقدوم» بفتح القاف وضم الدال المهملة موضع على ستة أميال من المدينة، ويشدد ويخفف.
[إحداد المرأة المطلقة ثلاثا]
قال: والمطلقة ثلاثا تتوقى الطيب والزينة والكحل بالإثمد.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه، لأنها معتدة، بائن من نكاح، فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها، ولأن العدة تحرم النكاح، فحرمت دواعيه، كالإحرام والصيام، (والثانية) وهي اختيار أبي بكر في الخلاف وابن شهاب: لا يحرم عليها شيء من ذلك، لعموم الحديث، فإنه دل على أن كل امرأة لا تحد إلا امرأة توفي عنها زوجها.
وقول الخرقي: المطلقة ثلاثا: تخرج منه الرجعية، لأنها زوجة، ويلحق بالمطلقة ثلاثا كل بائن، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب النقاب، وصرح بذلك أبو محمد في الكتاب(5/580)
الكبير، وظاهر كلامه في كتابه الصغير، وكذلك أبو البركات منعها من ذلك، وظاهر كلام الخرقي أيضا أنه لا يجب عليها البيتوتة في منزل الطلاق، وهو أشهر الروايتين، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب، القاضي وأبي محمد وغيرهما.
2841 - «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم» . وحكي عنه أنها كالمتوفى عنها، وعلى الأول هل لها البيتوتة عن المنزل الذي تكون فيه، والسفر عن البلد؟ فيه روايتان، أنصهما: نعم، وهذا كله إذا لم يمنعها المطلق من ذلك، فأما إن أراد إسكانها في موضع يصلح لها، ولا محذور فيه، تحصينا لفراشه، لزمها ذلك.
قال: وإذا خرجت للحج فتوفي زوجها وهي بالقرب، رجعت لتقضي العدة، وإن كانت قد تباعدت مضت في سفرها.
ش: إذا سافرت المرأة إلى الحج، ثم توفي عنها زوجها، فلا يخلو إما أن تكون قريبة أو بعيدة، فإن كانت قريبة لزمها العود، لتأتي بالعدة في المنزل الذي وجبت فيه، لأن القريبة في حكم المقيمة.
2842 - وقد روى سعيد بن منصور: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن المسيب، قال: توفي أزواج نساء وهن حاجات أو(5/581)
معتمرات، فردهن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ذي الحليفة، حتى يعتددن. وكلام الخرقي يشمل ما إذا أمكنها مع الرجوع الإتيان بالحج، وما إذا لم يمكن، ولا نزاع في ذلك مع الإمكان، اللهم إلا إذا لحقها في الرجوع ضرر، فإنها تمضي، كما لو تباعدت، وإن لم يمكن فهل (تقدم العدة) وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب ويعقوب بن بختان، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفريعة: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» وهذه في حكم المقيمة في البيت، (أو الحج) إن كانت قد أحرمت به قبل العدة، وهو اختيار القاضي، لمزيته بالسبق، ولعموم: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ؟ على روايتين، فعلى الأول تتحلل لفوات الحج بعمرة كالمحصرة، وإن كانت بعيدة مضت في سفرها، لأنها تحتاج إلى سفر في رجوعها، فأشبهت من بلغت مقصدها.
وظاهر كلام الخرقي أن مضيها على سبيل الوجوب، وجعله أبو محمد على سبيل الجواز إن وصلت إلى منزلها قبل انقضاء(5/582)
عدتها، وفصل أبو البركات فقال: إن أمكنها الرجوع لقضاء العدة، ثم الإتيان بالحج خيرت، وإن لم يمكنها قدمت الحج، فخصص إطلاق الخرقي.
(تنبيه) حد القريب ما لا تقصر فيه الصلاة، والبعيد عكسه، قاله القاضي.
قال: فإن رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها أتت به في منزلها.
ش: يعني إذا مضت في الحج ثم رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها، فإنها تأتي به في منزلها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
قال: ولو توفي عنها زوجها أو طلقها وهو ناء عنها، فعدتها من يوم مات أو طلق، إذا صح ذلك عندها، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، نظرا إلى أن العدة سببها ذلك، والمسبب يتعقب السبب، ولأن غاية ما فات القصد، وهو غير معتبر في العدة، بدليل الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتها من غير قصد، ولأنها لو وضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لانقضت عدتها، فكذلك سائر أنواع العدة، (والرواية الثانية) إن ثبت ذلك ببينة فكذلك لتحقق السبب، وإلا فعدتها من يوم بلغها الخبر، لعدم تعلق الحكم بها قبل ذلك، وقوله: إذا صح ذلك عندها. لأنه إذا لم يصح فلا شيء من يقين أو غلبة ظن ينبني الحكم عليه، وقوله: وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة. لأن العدة مرور زمن، وقد وجد، والله سبحانه وتعالى أعلم.(5/583)
[كتاب الرضاع]
ش: الرضاع مص الثدي، بفتح الراء وكسرها، مصدر رضع الصبي الثدي، بكسر الضاد وفتحها، يرضع ويرضع بالفتح مع الكسر، والكسر مع الفتح، والرضاع محرم بالإجماع، وسنده قوله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» وقد تقدم ذلك.
[شروط الرضاع المحرم]
قال: والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون خمس رضعات فصاعدا.
ش: اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في القدر الذي يتعلق به التحريم من الرضاع، فروي عنه أنه لا حد لذلك، بل قليل الرضاع وكثيره سواء، اعتمادا على إطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .
2843 - وعن «عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب،(5/584)
فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعرض عني، قال فتنحيت فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما» متفق عليه، وبهذا استدل أحمد (وروي عنه) أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات.
2844 - اعتمادا على ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم المصة والمصتان» رواه مسلم وغيره.
2845 - وعن أم الفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتحرم المصة؟ فقال: «لا تحرم الرضعة والرضعتان، والمصة والمصتان» وفي لفظ: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» رواهما مسلم.
2846 - وعن عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم من الرضاعة المصة والمصتان» رواه أحمد والنسائي(5/585)
والترمذي، ومفهوم ذلك أن الثلاث تحرم، ثم إطلاق ما تقدم يقتضي التحريم مطلقا، خرج منه الرضعة والرضعتان بالنص، فما عداهما يبقى على مقتضى الإطلاق (وروي عنه) - وهو مختار أصحابه متقدميهم ومتأخريهم - أن التحريم لا يثبت إلا بخمس رضعات.
2847 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرمن) ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن فيما يقرأ من القرآن. رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
2848 - وفي لفظ: قالت: أنزل في القرآن (عشر رضعات معلومات) فنسخ من ذلك خمس، وصارت إلى خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر على ذلك، رواه الترمذي.
2849 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر امرأة أبي حذيفة فأرضعت سالما خمس رضعات، فكان يدخل عليها(5/586)
بتلك الرضاعة» ، رواه أحمد، ولو تعلق التحريم بدون الخمس لم يكن لذكر الخمس معنى، ولكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالما ثلاثا، وهذا يقضي على إطلاق ما تقدم، وكذا على مفهومه، إذ غايته عموم، فعلى الأولى لا كلام، وعلى الثانية والثالثة متى امتص من الثدي ثم تركه فذلك رضعة بكل حال، وعن ابن حامد إذا ترك بغير اختياره ثم عاد عن قرب فهما رضعة.
قال: والسعوط كالرضاع.
ش: أصل السعوط صب الدواء في الأنف، والمراد هنا صب اللبن، ومختار الخرقي والقاضي وأصحابه، وأبي محمد وغيرهم ثبوت التحريم به، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لحصول المعنى الحاصل بالرضاع منه، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم.
2850 - ويدل على التكليف على هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله(5/587)
عنه: لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم وفي رواية: وأنشز العظم. رواه أبو داود (والرواية الثانية) لا يثبت التحريم به، اختارها أبو بكر، نظرا إلى أن هذا ليس برضاع، والتحريم إنما حصل بالرضاع.
قال: وكذلك الوجور.
ش: أصل الوجور وضع الدواء في الفم، وقال الجوهري: في وسط الفم، والمراد هنا صب اللبن في الفم من غير الثدي، والكلام فيه كالكلام في السعوط نقلا ودليلا، والنص عن أحمد ورد فيه، وقوله: كالرضاع. في أنه يعطى حكمه، ومن ذلك أنه لا يحرم إلا خمس رضعات، فكذلك هنا لا يحرم إلا خمس مصات.
قال: واللبن المشوب كالمحض.(5/588)
ش: المشوب هو المخلوط بغيره، عكس المحض وهو الخالص، ومختار الخرقي، والقاضي والشريف، والشيرازي والشيخين ثبوت التحريم به لحصول إنبات اللحم، وإنشاز العظم منه، وقال ابن حامد - واختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير - الحكم لأغلبهما، إذ غير الغالب في حكم العدم، وهذان القولان بناء على القول بالتحريم بالوجور، كذلك صرح به القاضي في تعليقه، وأبو البركات، ومن ثم قال أبو بكر: قياس قول أحمد أنه لا يحرم، لأنه وجور، ثم أبو محمد يقول: الخلاف فيما إذا كانت صفات اللبن باقية، أما إن ذهبت كأن كان يصب في ما لم يتغير به فلا تحريم، لانتفاء الرضاع ومعناه، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم به، وعن القاضي وهو ظاهر كلامه في التعليق جريان الخلاف فيه، إناطة بحصول اللبن في البطن.
[ثبوت التحريم بلبن الميتة]
قال: ويحرم لبن الميتة، كما يحرم لبن الحي.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية إبراهيم الحربي، واختيار أبي بكر، والقاضي وأصحابه، لحصول الرضاع على وجه يحصل به الإنبات والإنشاز.
2851 - وقد قال أحمد: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن اللبن لا يموت، واختار الخلال أن التحريم لا يحصل به، وسئل أحمد في رواية مهنا عن صبي رضع من ثدي امرأة ميتة، هل(5/589)
يكون رضاعا؟ فتوقف وقال: إلا أن عمر قال: إن اللبن لا يموت. وهذا يدل على أن المرجح عنده مع توقفه ثبوت التحريم به، وكأن الخلال - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى أن هذه ليست بمحل الولادة، فأشبهت الرجل.
قال: وإذا حبلت ممن يلحق نسب ولدها به فثاب لها لبن، فأرضعت به طفلا خمس رضعات متفرقات في حولين، حرمت عليه وبناتها من أبي هذا الحمل ومن غيره، وبنات أبي هذا الحمل منها ومن غيرها، فإن أرضعت صبية فقد صارت ابنة لها ولزوجها، لأن اللبن من الحمل الذي هو منه.
ش: أما تحريم المرضعة المذكورة على الطفل فبنص الكتاب، قال سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وأما تحريم بناتها على الطفل من أبي الحمل ومن غيره، فلأنهن أخواته، وقد قال سبحانه: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وأما تحريم بنات أبي هذا الحمل من المرضعة ومن غيرها عليه، فبناء على أن الحرمة تنتشر من قبل الرجل، كما تنتشر من قبل المرأة، وقد تقدمت هذه المسألة في قوله: ولبن الفحل محرم. وأما صيرورة الصبية المرضعة منها بنتا لها فإجماع.
2852 - وقد دل عليه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وأما صيرورة المرضعة بنتا لزوج المرضعة، فلما علل به الخرقي، من أن اللبن من الحمل الذي هو منه، وهو يلتفت إلى ما تقدم من أن لبن الفحل محرم، وقول الخرقي:(5/590)
وإذا حبلت. يحترز مما إذا ثاب اللبن من غير حمل، فإنه لا ينشر الحرمة، وهو المنصوص والمختار للقاضي وعامة أصحابه من الروايتين، لأنه لبن لم تجر العادة به لتغذية الطفل، أشبه لبن الرجل، وحكي عن أحمد رواية أخرى أنه ينشر الحرمة، وصححها أبو محمد في الكتاب الكبير، ولم يثبتها في الصغير، بل قال: الظاهر أنها قول ابن حامد. وهي مشعرة بظاهر إطلاق {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وقول الخرقي: ممن يلحق نسب ولدها به. يحترز به عمن لم يلحقه النسب، كالزاني والملاعن، فإن الحرمة لا تنتشر إليهما، وهو قول ابن حامد، إذ التحريم فرع لحرمة الأبوة، وحرمة الأبوة لم تثبت، فكذلك ما هو فرع لها، واختار أبو بكر أن الحرمة تنتشر إليهم، إذ هو رضاع نشر الحرمة إلى المرضعة، فنشرها إلى الواطئ لضرورة الاتفاق، وفي المذهب (قول ثالث) تنتشر الحرمة إلى الزاني، لأنه ولده ظاهرا، دون الملاعن، لانتفائه عنه ظاهرا وحكما، وقوله: فثاب لها لبن. أي اجتمع. وقوله: فأرضعت به طفلا خمس رضعات، بناء على(5/591)
مختاره من أن التحريم إنما يتعلق بالخمس، وقوله: متفرقات. بناء على أنه لا بد من عدد الرضعات، وأنه لا يكتفى بالمص من غير مفارقة الثدي، وهو المشهور، وعن ابن أبي موسى: حد الرضعة أن يمتص ثم يمسك عن الامتصاص لنفس أو غيره، سواء خرج الثدي من فيه، أو لم يخرج، وكلام الخرقي يقتضي أنه متى وجد التفرق كفى، وإن كان بغير اختياره، وقد تقدم ذلك، وقوله: في حولين. يحترز به عما بعد الحولين، فإنه لا يؤثر، ولا ريب في ذلك عندنا.
2853 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي رجل، فقال: «يا عائشة من هذا؟ فقلت: أخي من الرضاعة، فقال: «يا عائشة انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة» » متفق عليه.
2854 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحرم الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام» رواه الترمذي وصححه.
2855 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا(5/592)
رضاع إلا ما فارق الحولين» رواه الدارقطني.
2856 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا رضاعة إلا ما كان في الحولين. رواه أبو داود.
2857 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا رضاعة لكبير.
2858 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا رضاعة إلا لمن أرضع في(5/593)
الصغر. رواهما مالك في الموطأ.
2859 - وبهذا يتخصص ما روي «عن زينب بنت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قالت: قالت أم سلمة لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي. فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أما لك في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة حسنة، وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله إن سالما يدخل على وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرضعيه حتى يدخل عليك» » رواه أحمد ومسلم، وفي رواية عن زينب، عن أمها أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: أبى سائر أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدخلن أحدا عليهن بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ما نرى هذا إلا رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا. رواه أحمد، ومسلم، والنسائي.
(تنبيه) : الأيفع.
قال: ولو طلق الرجل زوجته ثلاثا وهي ترضع من لبن(5/594)
ولده، فتزوجت بصبي مرضع فأرضعته حرمت عليه، ثم تزوجت بآخر ودخل بها، وطلقها أو مات عنها، لم يجز أن يتزوجها الأول، لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به.
ش: أما تحريم المرضعة على الصبي المرضع فلأنها صارت أمه، فدخلت في قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وأما امتناع تزويج الأول لها فلما علل به الخرقي، من أنها صارت من حلائل أبنائه، لأن المرضع ابن له لما تقدم، والمرضعة زوجته، فهي من زوجات أبنائه، وقيود الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - واضحه.
قال: ولو تزوج كبيرة وصغيرة، فلم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الصغيرة في الحولين، حرمت عليه الكبيرة، وثبت نكاح الصغيرة.
ش: أما تحريم الكبيرة فلأنها بإرضاعه صارت من أمهات نسائه، وأمهات النساء يحرمن بمجرد العقد، وأما ثبوت نكاح الصغيرة، فلأنها قد صارت ربيبة، ولم يدخل بأمها فلا تحرم، لقوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وهذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي وابن عقيل وغيرهما، (والرواية الثانية) ينفسخ نكاح الصغيرة أيضا، لأنهما قد صارتا أما وبنتا واجتمعا في نكاحه، ولا ريب أن الجمع بينهما محرم، فينفسخ نكاحهما، كما لو عقد عليهما بعد الرضاع جملة، وأجيب عن هذا بأن إزالة الجمع(5/595)
ممكن بانفساخ نكاح الكبيرة، وهو أولى به لتحريمها بمجرد العقد، بخلاف البنت فإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم، والدوام يغتفر فيه ما لا يغتفر في الابتداء.
قال: وإن كان دخل بالكبيرة حرمتا عليه جميعا.
ش: الكبيرة لأنها صارت من أمهات نسائه، والصغيرة فلأنها صارت ربيبة مدخولا بأمها. قال: ويرجع بنصف مهر الصغيرة على الكبيرة.
ش: لأن الكبيرة قررته عليه، وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته، فوجب عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع، وقد تضمن كلام الخرقي أن عليه نصف مهر الصغيرة، وهو كذلك، لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها، فتنصف مهرها، وفي كلامه أو لا إشعار بأن الكبيرة الغير مدخول بها لا مهر لها، وهو واضح، إذ الفسخ لسبب من جهتها، أشبه ما لو ارتدت.
قال: وإذا تزوج بكبيرة لم يدخل بها، وبصغيرتين فأرضعت الكبيرة الصغيرتين، حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح الصغيرتين، ولا مهر للكبيرة، ويرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين، وله أن ينكح من شاء منهما.
ش: أما تحريم الكبيرة فلأنها صارت من أمهات نسائه، فشملها قوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وأما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما قد صارتا أختين، وقد اجتمعتا في نكاحه، فينفسخ نكاحهما، إذ ليست إحداهما بأولى بالبطلان من(5/596)
الأخرى، فأشبه ما لو عقد عليهما ابتداء، وهذا بناء على ما تقدم من مختاره، من أنه إذا أرضعت كبيرة وصغيرة أنه لا ينفسخ نكاح الصغيرة، وإذا إذا ارتضعت الثانية قد صارتا أختين، فينفسخ نكاحهما، أما على الرواية الثانية فإن الصغيرة إذا انفسخ نكاحها مع الكبرى، فالصغيرة الثانية إذا ارتضعت لم يوجد ما يجمع معها، فيبقى نكاحها، وأما كونه لا مهر للكبيرة فلأن الفسخ جاء من جهتها، وأما كونه يرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين فلما تقدم من أنها قررت ذلك عليه، وألزمته له.
قال وإن كن الأصاغر ثلاثا، فأرضعتهن متفرقات، حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح المرضعتين أولا، وثبت نكاح آخرهن رضاعا.
ش: إذا كن الأصاغر ثلاثا، فأرضعتهن الكبيرة متفرقات، حرمت الكبيرة لما تقدم، وانفسخ نكاح المرضعتين أولا، لما تقدم من أنهما قد صارتا أختين، وقد جمع بينهما في النكاح، فيبطل نكاحهما، ويثبت نكاح الأخرى، لأنها لم توجد ما يجمع معه، وهذا أيضا مبني على ما تقدم، أما علي الرواية الأخرى فإنه ينفسخ نكاح الجميع، نكاح الأولى مع الأم، ونكاح الثانية والثالثة لأنهما قد صارتا أختين.(5/597)
قال: وإن كانت أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعد ذلك معا، حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح الأصاغر.
ش: أما تحريم الكبيرة فواضح، وقد تقدم، وأما انفساخ نكاح الأصاغر فلأنه قد صار جامعا بين ثلاث أخوات، لأن الأولى لم ينفسخ نكاحها، فلما أرضعت الاثنتين بعد ذلك حصل الجمع بين الجميع، واعلم أن انفساخ نكاح الأصاغر على الروايتين، أما على المذهب فقد تقدم، وأما على الرواية الأخرى فلأن الأولى ينفسخ نكاحها مع الكبرى، والأخريين ينفسخ نكاحهما، لأنه قد صار جامعا بينهما، غايته أن وقت الفسخ يختلف. فعلى الأولى: ينفسخ نكاح الجميع في حالة واحدة، وعلى الثانية: ينفسخ نكاح الأولى مع الكبيرة، ويتأخر فسخ نكاح الأخريين إلى حين الإرضاع.
قال: ولو كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد.
ش: أما تحريم الكبيرة فلما تقدم، وأما تحريم الأصاغر فلأنهن ربائب مدخول بأمهاتهن، فيحرمن.
قال: وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إن كانت مرضية، وقد قال أبو عبد الله في موضع آخر: إن كانت مرضية استحلفت، فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها، وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(5/598)
ش: شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع، على المذهب المشهور.
2860 - لما روي «عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. قال: فذكرت ذلك للنبي فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: «كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما» فنهاه عنها» ، أخرجه البخاري وغيره «، وللنسائي قال: فأعرض عنه، فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة. قال: «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك» .
2861 - وقال الزهري: فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بشهادة امرأة في الرضاع.
2862 - وقال الشعبي: كانت القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع (وعن أحمد) رواية ثانية: لا يقبل إلا بشهادة امرأتين لأن الرجال أكمل من النساء ولا يقبل إلا بشهادة رجلين فكذلك لا يقبل إلا بشهادة امرأتين (وعنه) ثالثة تقبل شهادة المرأة الواحدة، وتستحلف مع شهادتها.
2863 - اعتمادا على قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلا وأهله، فقال: إن كانت مرضية(5/599)
استحلفت، وفارق امرأته، وقال: إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها. يعني يصيبها فيهما برص، عقوبة على كذبها، نسأل الله العافية من ذلك، والظاهر أنه لا يقول مثل هذا إلا عن توقيف، وعلى كل حال فلا يقبل إلا شهادة مرضية، إذ غيرها يدخل في قَوْله تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية.
[الإقرار بالرضاع قبل الدخول أو بعده]
قال: وإذا تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول: هي أختي من الرضاع، انفسخ النكاح.
ش: لأن إقراره يتضمن ذلك، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، وإنما ذكر الخرقي قبل الدخول لما يذكره من المهر، وكلام الخرقي يشمل ما إذا كانت معروفة النسب، وصرح بذلك القاضي في ضمن كلامه في التعليق.
قال: فإن صدقته فلا مهر لها، وإن كذبته فلها نصف المهر.
ش: إذا قال قبل الدخول: هي أختي من الرضاعة. فإن صدقته فلا مهر لها لإقرارها بفساد نكاحها من أصله. ولا مهر في النكاح الفاسد قبل الدخول، وإن أكذبته فلها نصف المهر، لأن حقها ثبت بالعقد ظاهرا، ودعوى الزوج بعد ذلك إسقاطه دعوى مجردة فلا تسمع.(5/600)
قال: ولو كانت المرأة هي التي قالت: هو أخي من الرضاعة. فأكذبها، ولم تأت بالبينة على ما وصفت، فهي زوجته في الحكم.
ش: أما كون المرأة زوجته في الحكم إذا قالت: هو أخي من الرضاعة. فأكذبها ولا بينة لها، فلأن بقاء النكاح من حقوق الزوج، ودعوى المرأة زواله دعوى مجردة فلا تسمع، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا صدقها انفسخ النكاح، وهو كذلك للاتفاق على ما يقتضي الفسخ، ومقتضى كلامه أنها متى أقامت البينة على ما ادعته كان القول قولها، وهو واضح؛ إذ البينة تبين الحق وتوضحه.(5/601)
[كتاب النفقات] [نفقة الزوجة]
قال: وعلى الزوج نفقة زوجته ما لا غنى لها عنه وكسوتها.
ش: نفقة الزوجة واجبة في الجملة بالإجماع، وسنده قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50] ، وقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] الآية.
2864 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديثه الطويل، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس فقال: «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» رواه مسلم وغيره.
2865 - وفي حديث هند الصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، إذا تقرر هذا فقول الخرقي: إن(6/3)
الواجب على الزوج من النفقة ما لا غنى لها عنه وكسوتها، أي شيئا لا يستغنى عنه، ومعناه ما لا بد لها منه، فظاهر هذا أن الواجب عليه هو أقل الكفاية، فكأنه اعتبر حال الزوج، وقد صرح بذلك أبو بكر في التنبيه فقال: إنها على قدر يسار الزوج وإعساره، على اجتهاد الحاكم، وأومأ إليه أحمد في رواية أحمد بن سعيد، فقال: أما نفقة خادم واحد فلا بد منه، وهو على قدر اليسار؛ وقال في رواية أبي طالب: إذا وجد ما يطعمها رغيفين ثلاثة، يعني لم تملك الفسخ، وذلك لظاهر قول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] إلى قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] .
2866 - «وعن معاوية القشيري قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فقلت: ما تقول في نسائنا؟ قال: «أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تلبسون، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن» رواه أبو داود. وأومأ(6/4)
في رواية أبي صالح أن الاعتبار بحالها، فقال: إذا غاب عن زوجته يضرب لها في ماله بقدر نفقة مثلها؛ وذلك لحديث هند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، وهو قضية عين، وقد جمع القاضي في تعليقه بين كلامي أحمد، وجعل الاعتبار بحال الزوجين، فيفرض للموسرة تحت الموسر نفقة الموسرين، وللفقيرة تحت الفقير نفقة الفقراء، وللمتوسطة تحت المتوسط أو إذا كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا نفقة المتوسطين، وتبعه فيما علمت من بعده على ذلك، جمعا بين الدليلين. قال: فإن منعها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدار حاجتها بالمعروف، كما «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند، حين قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» .
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم - وهو ما إذا منعها الواجب عليه أو بعضه - ودليله، وهو حديث هند الذي في الصحيح عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أن هندا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني(6/5)
ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، وهو صريح في أن لها أن تأخذ بغير إذنه، والحكم للواحد حكم لغيره، إما بطريق عرف الشرع كما نقوله، أو بالقياس كما يقوله الأكثرون، وكأن المعنى في ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك، إذ النفقة تجب كل يوم، فالمرافعة إلى الحاكم تشق أو تتعذر، فجوز الشرع أخذ الكفاية بالمعروف، دفعا للحرج والمشقة.
قال: فإن منعها أو بعضه ولم تجد ما تأخذ منه، واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما.
ش: ظاهر هذا الكلام أنه منعها مع قدرته على الإنفاق، ولم تجد له مالا تأخذ منه، ومختار أبي الخطاب في هدايته، وأبي محمد أن لها الفسخ والحال هذه، كما اقتضاه كلام المصنف، لأن الإنفاق عليها من ماله متعذر، فكان لها الفسخ كحال الإعسار، بل أولى، إذ لا عذر هنا، بخلاف ثم.
2867 - وقال ابن المنذر: ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى. واختار القاضي أنها(6/6)
لا تملك الفسخ والحال هذه، لأن الفسخ ثم لعيب الإعسار ولم يوجد، ولأن الموسر الممتنع في مظنة إمكان الأخذ من ماله، بخلاف المعسر، ويؤخذ من عموم كلام الخرقي أو من تنبيهه أنها إذا لم يجد ما ينفق عليها أصلا أن لها الفسخ، وهو المنصوص والمشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لما تقدم عن عمر، ولقول الله سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكا بمعروف، فيتعين التسريح.
2868 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: «امرأتك ممن تعول، تقول: أطعمني وإلا فارقني. جاريتك تقول: أطعمني واستعملني. ولدك يقول: إلى من تتركني» رواه أحمد والدارقطني. قال أبو البركات: بإسناد صحيح.(6/7)
2869 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: «يفرق بينهما» رواه الدارقطني.(6/8)
2870 - وروى سعيد عن سفيان، عن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على زوجته أيفرق بينهما؟ قال: نعم. قلت: سنة؟ قال: سنة. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ونقل عنه) ابن منصور ما يدل على أنها لا تملك الفسخ بالإعسار، ما لم يوجد منه غرور، فقال: إذا تزوج امرأة وهو مفلس، ولم تعلم المرأة لا يفرق بينهما، إلا أن يكون قال لها: عندي من العروض والأموال؛ وغرها من نفسها، إلا أن القاضي حمل هذا على الإفلاس بالصداق، وبالجملة قد قيل في وجه ذلك: إنه حق لها عليه، فلم يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين، وعلى هذه الرواية ترفع يده عنها لتكتسب ما تقتات به.
[نفقة الوالدين والأولاد]
قال: ويجبر الرجل على نفقة والديه، وولده الذكور والإناث، إذا كانوا فقراء، وكان له ما ينفق عليهم.
ش: أما كون الرجل يجبر على نفقة والديه، وولده الذكور والإناث، فليأت بالواجب، وبيان الوجوب أما في حق الوالدين فلقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36](6/9)
ومن الإحسان لهما الإنفاق عليهما عند حاجتهما إلى ذلك.
2871 - وعن كليب بن منفعة «عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: «أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة» رواه أبو داود، وأما في حق الأولاد فلقول الله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] «وحديث هند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» مع أن هذا إجماع في المسألتين في الجملة، حكاه ابن المنذر فقال: أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال، واجبة في مال الولد، وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال، الذين لا مال لهم.
ويدخل في كلام الخرقي في الوالدين الأجداد والجدات وإن(6/10)
علوا، وفي الولد ولد الولد وإن سفل، وهو كذلك، بدليل قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] دخل فيه ولد البنين، وقال سبحانه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] يدخل فيه الأجداد، وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] واشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجوب النفقة على من تقدم شرطين (أحدهما) أن يكون المنفق عليهم فقراء أي لا مال لهم، ولا كسب يقوم بكفايتهم، إذ النفقة تجب على سبيل المواساة، والغني مستغن عن المواساة، (الثاني) أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم، إما من مال أو صناعة ونحو ذلك، فاضلا عن نفقة نفسه وزوجته.
2872 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، وإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
2873 - وعن «طارق المحاربي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمت المدينة وإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم على المنبر يخطب، وهو يقول: «يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك،(6/11)
ثم أدناك أدناك» رواه النسائي.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك، إلا أنه يذكر بعد أن السيد تلزمه نفقة رقيقه، ولا يلزم ابنه نفقته، وإن كان حرا، وهو كذلك بلا ريب، فإذًا الشروط ثلاثة (ثالثها) أن لا يكون أحدهما رقيقا، ولا بد (من شرط رابع) وهو أن يتحد دينهما، فإن اختلف فلا نفقة لأحدهما على صاحبه، لأن النفقة مواساة على سبيل البر والصلة، ولا صلة مع اختلاف الدين، ولأنهما غير متوارثين، فلم تجب لأحدهما نفقة على الآخر، كما لو كان أحدهما رقيقا، ولا نزاع في اشتراط هذا الشرط في غير عمودي النسب، وفي عمودي النسب روايتان، نص عليهما في الأب الكافر، هل تجب عليه نفقة ولده المسلم، وخرجهما القاضي في العكس، وأبو محمد ينصر عدم الوجوب مطلقا، عكس ظاهر كلام الخرقي، فإن ظاهره الوجوب في عمودي النسب، لأنه لم يشترط ذلك، وعدم الوجود في غيرهم، كما هو متفق عليه، لقوله بعد:(6/12)
أجبر وارثه. فاشترط الإرث، فدل ذلك على اشتراط الاتفاق في الدين، واختلف في (شرط خامس) وهو أن المنفق عليه هل من شرطه أن يكون زمنا ونحو ذلك، أو لا يشترط ذلك؟ لا نزاع فيما علمت أن الوالدين لا يشترط فيهما ذلك، وهو مقتضى كلام الخرقي، واختلف فيمن عداهما، وعن أحمد ما يدل على روايتين، ومختار القاضي وأبي محمد عدم الاشتراط مطلقا، كما هو ظاهر كلام الخرقي، إناطة بالحاجة، وتمسكا بقول «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك» وهو واقعة عين.
[نفقة الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان فقيرا]
قال: وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب، أجبر وارثه الذكور والإناث على نفقته على قدر ميراثهم منه.
ش: كذلك الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان فقيرا، فإن وارثه وإن كان أنثى يجبر على نفقته، لقول الله سبحانه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أي مثل ما وجب على المولود له، ولما تقدم من حديث جابر وطارق، وكليب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهذا هو المشهور من الروايتين، (وعن أحمد) رواية أخرى لا تجب النفقة إلا على العصبات، فعلى هذا لا تجب على العمة والخالة ونحوهما، إذ النفقة معونة، فاختصت بالعصبات كالعقل.
2874 - وقال ابن المنذر: روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حبس عصبة(6/13)
ينفقون على صبي الرجال دون النساء؛ وعلى كلا الروايتين هل يشترط أن يرثهم بالفرض أو التعصيب في الحال، أو لا يشترط ذلك، بل الشرط الإرث في الجملة؟ فيه روايتان، المختار منهما عند القاضي وأبي الخطاب، وأبي محمد وغيرهم الأولى.
ويستثنى مما تقدم ذوو الأرحام من غير عمودي النسب، فإن النفقة لا تجب لهم، على المنصوص والمجزوم به عند كثيرين، حتى قال القاضي: رواية واحدة؛ إذ قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون المال عند عدم الوارث، فهم كسائر المسلمين، وخرج أبو الخطاب وجوبها على توريثهم، وهو قوي.
واشترط الخرقي لوجوب النفقة على الوارث أن لا يكون للمنفق عليه أب، فلو كان له أب اختص بنفقته، لقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال:(6/14)
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] «وقال – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فجعل النفقة على أبيهم دونها، وحيث أوجبنا النفقة على الوارث فإنها على قدر ميراثه من المنفق عليه، لأنه لو ورث الجميع لوجب عليه الجميع، فإذا ورث البعض وجب عليه بقدره، إذ السبب هو الإرث.
وفرع الخرقي على ذلك فقال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان للصبي أم وجد، فإن على الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثين، وإن كانت جدة وأخا فعلى الجدة السدس، والباقي على الأخ، وعلى هذا المعنى حساب النفقات.
ش: لا ريب أن الأم والجد يرثان المال أثلاثا، فتكون النفقة عليهما أثلاثا، ولا ريب أن الجدة ترث السدس، فيكون عليها من النفقة بقدر ذلك، والأخ يرث الباقي، فيكون عليه باقي النفقة، وعلى هذا أبدا، فلو كان له أم أم وأم أب، فالنفقة عليهما نصفين، لتساويهما في الإرث، وظاهر كلام الخرقي أنها تجب بالقسط، وإن كان بعضهم موسرا والآخر معسرا، وهذا إحدى الروايتين (والرواية الأخرى) : تجب على الموسر والحال هذه كل النفقة، ففي الجدة والأخ إذا كان الأخ موسرا، والجدة معسرة، هل على الأخ خمسة أسداس النفقة حصة إرثه، أو كلها، لأن من معه كالمعدوم؟ على الروايتين.
[نفقة الرقيق]
[نفقة المعتق إذا كان فقيرا]
قال: وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا، لأنه وارثه.
ش: هذا مبني على ما تقدم من أن الوارث تجب عليه نفقة موروثه، وحديث كليب - وقد تقدم - صريح في ذلك،(6/15)
ويشترط في وجوب الإنفاق الشروط المذكورة، إذ هذا فرع مما تقدم.
قال: وإذا تزوجت الأمة لزم زوجها أو سيده إن كان مملوكا نفقتها.
ش: يلزم زوج الأمة نفقتها إن كان حرا، لأنها زوجته، فيدخل في عموم ما تقدم، وكذلك إن كان عبدا، نظرا للعموم أيضا، ولأنه عوض واجب في النكاح، فوجب على العبد كالمهر، ثم هل تكون في ذمة السيد، لإذنه في النكاح المفضي إلى إيجابها، أو في رقبة العبد، إذ الوطء في النكاح بمنزلة الجناية، وجناية العبد في رقبته، فكذلك ما يتعلق بالوطء، أو في كسب العبد؟ على ثلاث روايات، المشهور منهن الأولى.
قال: وإن كانت تأوي بالليل عند الزوج، وبالنهار عند المولى، أنفق كل واحد منهما مدة مقامها عنده.
ش: لأن النفقة تابعة للتمكين، والتمكين وجد للزوج في الليل، فيختص بنفقة الليل، وتجب نفقة النهار على المولى بأصل الملك، ثم هل تجب النفقة عليهما نصفين، قطعا للتنازع، وهو الذي جزم به أبو محمد، أو تجب نفقة الليل وتوابعه من الغطاء والوطاء، ودهن المصباح، ونحوه على الزوج، وما يتعلق بالنهار على السيد، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا؟ (فيه وجهان) وقد علم من هذه المسألة أن(6/16)
المسألة السابقة فيما إذا سلمت الأمة ليلا ونهارا.
قال: فإن كان لها ولد لم يلزم الزوج نفقة ولده منها، حرا كان الزوج أو عبدا، إذ نفقتهم على سيدهم.
ش: قد تقدمت الإشارة إلى هذا، وذلك لأن ولد الأمة من نمائها، فيكون لسيدها بلا ريب، ونفقة المملوك على سيده، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن أحمد رواية أخرى أن ولد العربي يكون حرا، وعلى أبيه فداؤه، فعلى هذا تكون نفقته عليه.
[نفقة أولاد العبد والأمة]
قال: وليس على العبد نفقة ولده، حرة كانت الزوجة أو أمة.
ش: لأن العبد لا مال له، فتجب عليه النفقة، ولو قيل يملك فملكه ناقص، لا يحتمل المواساة.
[نفقة ولد المكاتبة]
قال: وعلى المكاتبة نفقة ولدها، دون أبيه المكاتب.
ش: ولد المكاتبة يتبعها دون أبيه، وإن كان مكاتبا، بناء على القاعدة، من أن الولد يتبع أمه في الحرية والرق، وإذا تبعها وقف معها، فإن عتقت بالأداء عتق، وإن رقت رق، وإذًا نفقته عليها، لأن له حكم نفسها، ولا ريب أن نفقة نفسها عليها، فكذلك ولدها.
قال: وعلى المكاتب نفقة ولده من أمته.
ش: لأن ولده من أمته يتبعه، فيصير حكمه حكمه، فتجب عليه نفقته لما تقدم، وتقييده بأمته؛ لأن ولده من غير أمته إما(6/17)
أن يكون من حرة فيكون حرا، والمكاتب لا تجب عليه نفقة قريبه الحر، لأنه وإن ملك لكنه محجور عليه في ذلك، وإما أن يكون من مكاتبة فيتبعها، ويعطى حكمها، كما تقدم، وإما أن يكون من أمة لسيده أو لأجنبي، فالأجنبي يتبعها في رقها وتجب نفقته على سيده، ولسيده كذلك، اللهم إلا أن يشترط أن ولده يتبعه، فإن نفقته تجب عليه، إناطة بالتبعية، هذا هو التحقيق تبعا لأبي البركات، ووقع لأبي محمد أن للمكاتب أن ينفق على ولده من أمة لسيده، معللا بأنه مملوك لسيده، فينفق عليه من المال الذي تعلق به حق سيده، وله احتمالان فيما إذا كان الولد من مكاتبة لسيده.
[باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج]
لما تقدم له أن النفقة تجب للزوجة، ذكر الحال التي تجب فيها النفقة، فقال - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
وإذا تزوج بامرأة مثلها يوطأ، فلم تمنعه نفسها، ولا منعه أولياؤها لزمته النفقة.
ش: فظاهر هذا أن النفقة تجب بالعقد ما لم تمنعه نفسها، ولا منعه أولياؤها، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لأن العقد سبب الوجوب، فترتب الحكم عليه (والرواية الثانية) لا تجب النفقة إلا بالتسليم، أو ببذله حيث لزمه القبول، وهو المشهور، لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، وذلك بالتمكين منه، ومع عدم التسليم أو بذله لم يوجد، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ودخلت عليه بعد مدة،(6/18)
ولم ينقل أنه أنفق إلا بعد دخوله، ولا أنه كان يرسل نفقة ما مضى، وفي الاستدلال بهذا نظر، فإن من شرط وجوب النفقة على كل حال كون مثلها يوطأ، كما ذكره الخرقي، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين تزوجها – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت بنت ست سنين على الصحيح، ومثلها لا يوطأ غالبا، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق من يوطأ مثلها، ولم يقيده بسن، وكذا جماعة كثيرة من أصحاب القاضي، منهم أبو الخطاب في الهداية، وابن عقيل، والشيرازي، وتبعهم على ذلك أبو محمد مصرحا به، وأناط ذلك القاضي بابنة تسع سنين، وتبعه على ذلك أبو البركات، وهو مقتضى نص أحمد، قال في رواية صالح وعبد الله - وسئل: متى يؤخذ الرجل بنفقة الصغيرة؟ فقال: إذا كان مثلها يوطأ، تسع سنين، ولم يكن الحبس من قبلهم، ففسر من مثلها يوطأ بتسع سنين، وقد يحمل إطلاق من أطلق من الأصحاب على ذلك، فإذًا أبو محمد منفرد عنهم.
وقول الخرقي: مثلها يوطأ، يريد به - والله أعلم - في السن، فلو كان بها رتق أو قرن، أو مرض ونحو ذلك، ومثلها في السن يوطأ، فلا يخلو إما أن يكون هذا المانع يمنع الاستمتاع بالكلية، أو لا، فإن لم يمنعه بالكلية وجبت النفقة، للتمكن من الاستمتاع الواجب في الجملة، وإن منع الاستمتاع بالكلية كمرض كذلك أو إحرام ونحو ذلك، فإن لم يرج زواله وجبت النفقة، إذ لا حال لها ينتظر، وإن رجي زواله كالإحرام ونحوه انتظر زوال ذلك، ولم تجب النفقة لأنها والحال هذه كالصغيرة.
قال: وإذا كانت بهذه الحال التي وصفت، وزوجها صغير،(6/19)
أجبر وليه على نفقتها من مال الصبي.
ش: والحال التي وصفها أن يكون مثلها يوطأ، ولم تمنع نفسها، ولا منعها أولياؤها، وإذا كان زوجها والحال هذه صغيرا وجبت عليه نفقتها، لأن المنع جاء من قبل الزوج، لا من قبلها، أشبه ما لو كان غائبا، وعلى المشهور لا بد أن تسلم نفسها، أو تبذل له ذلك، إذا تقرر هذا فالمخاطب بالنفقة هو الولي، كما يخاطب بأداء بقية الواجبات عنه، والأداء من مال الصبي كما في بقية الواجبات.
قال: فإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما.
ش: قد تقدم الكلام على هذا، وأنه يؤخذ من كلام الخرقي تنبيها، ويؤخذ من كلامه هنا تصريحا، ونزيد هنا بأن المفرق في الفسخ للإعسار بالنفقة هو الحاكم، لأنه أمر مختلف فيه، والأمور المختلف فيها تقف على الحاكم.
قال: وإن طالب الزوج بالدخول، وقالت: لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي، كان ذلك لها، ولزمته النفقة إلى أن يدفع إليها صداقها.
ش: إذا طالب الزوج بالدخول، وامتنعت المرأة حتى تقبض صداقها، فلها ذلك، لأن عليها في التسليم قبل قبض صداقها ضررا، والضرر منفي شرعا، وبيان الضرر أنها إذا سلمت نفسها قد يستوفي معظم المنفعة المعقود عليها وهو الوطء، فإذا لم يسلم إليها عوض ذلك - وهو الصداق - لا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها، فيلحقها الضرر، وفارق المبيع(6/20)
إذا تسلمه المشتري، ثم أعسر بالثمن، فإنه يمكنه الرجوع فيه، وإذا كان لها الامتناع لأجل قبض الصداق، مع بذلها للتسليم، فلها النفقة، لأن امتناعها في الحقيقة إنما جاء من جهة الزوج، وكلام الخرقي يشمل الصداق الحال والمؤجل، وهذا الحكم إنما هو في الحال، أما المؤجل فليس لها الامتناع، إذ لا حق لها تطالب به، إذ حقها قد رضيت بتأخيره، نعم لو حل المؤجل قبل التسليم، فهل لها الامتناع نظرا إلى الحال الراهنة، أو ليس لها الامتناع إلى ما دخلت عليه ابتداء؟ فيه وجهان.
[نفقة المطلقة المبتوتة]
قال: وإذا طلق زوجته طلاقا لا يملك رجعتها، فلا سكنى لها ولا نفقة، إلا أن تكون حاملا.
ش: إذا بانت المرأة من زوجها بطلاق أو فسخ أو غير ذلك، فلا يخلو إما أن تكون حاملا أو حائلا، فإن كانت حاملا فلها النفقة والسكنى إجماعا، وسنده قوله سبحانه؛ {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأن الحمل ولده، ولا يمكنه الإنفاق عليه إلا بالإنفاق عليها، فوجب نظرا إلى أن ما يتوقف عليه الواجب واجب، وإن كانت حائلا فلا نفقة لها على المشهور المعروف.
2875 - لما «روت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن زوجها طلقها ألبتة وهو غائب عنها، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك، فقال: «ليس لك عليه نفقة» وفي لفظ: «ولا سكنى»(6/21)
فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك» ، متفق عليه.
2876 - وعن الشعبي عن فاطمة أيضا «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المطلقة ثلاثا قال: «ليس لها سكنى ولا نفقة» رواه أحمد ومسلم، وفي رواية عنها قالت: «طلقني زوجي ثلاثا، فلم يجعل لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكنى ولا نفقة» ، رواه الجماعة إلا البخاري، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] مفهومه أنهن إذا لم يكن أولات حمل لا نفقة لهن.
وقد اعترض على خبر فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأن من شرط قبول خبر الواحد أن لا ينكره السلف، وهذا الخبر قد أنكر.
2877 - فعن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود بن يزيد كفا من حصباء فحصبه به، وقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال(6/22)
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا، لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت» ، رواه مسلم وغيره.
2878 - وعن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لقد عابت ذلك عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أشد العيب، يعني حديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه البخاري تعليقا.
2879 - وعن سليمان بن يسار في خروج فاطمة قال: إنما كان ذلك من سوء الخلق، رواه أبو داود مرسلا.
2880 - وعن ميمون بن مهران قال: قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب، فقلت: فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، إنما كانت لسنة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم (وقد أجيب) بأن هذا ليس بشرط عندنا، إنما الشرط صحة الخبر، ولا ريب في(6/23)
صحة خبرها، وقد قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، -وسئل عن الأمور المختلفة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد رد أحد الأمرين بعض الخلفاء، مثل حديث فاطمة بنت قيس: هل لنا العمل بما يرد الخليفة فقال -: كان ذلك منه على احتياط، وقد كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقبل من غير واحد قوله وحده، ولا يكون ذلك دفعا للآخر، ثم إنكار عمر قد طعن في صحته الإمام أحمد، قال أبو داود: وسمعت أحمد وذكر له حديث عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا، يصح هذا عن عمر؟ قال: لا. وقال الفضل بن زياد: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن المطلقة ثلاثا هل لها سكنى أو نفقة، وكيف حديث فاطمة؟ فأتاني الجواب: أما الذي نذهب إليه فعلى حديث فاطمة، وأما ما يروى عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة. فإنا نرى أن ذلك وهم ممن روى عن عمر، لأن الكتاب يطلق لعدتها، قال: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وقال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فإن قيل: حديث عمر قد رواه مسلم وأبو داود، والترمذي وغيرهم، قيل: لقد أنكره شيخهم، ومن هو أعلم بالآثار منهم، ثم يدل على ضعفه اختلاف ألفاظه، ففي السنن ما تقدم، وقال أحمد وقد ذكر له هذا فقال: أما هذا فلا، ولكن قال: لا نقبل في ديننا قول امرأة. وقال الدارقطني: قوله: وسنة نبينا، غير محفوظ، لم(6/24)
يذكرها جماعة من الثقات، ثم لو صح ذلك لم يكن فيه حجة، إذ لا حجة لأحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استند في إنكاره إلى كتاب الله وسنة الرسول، ولا يعرف في سنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يخالف خبر فاطمة، وكذلك ليس في الكتاب ما يخالفه كما تقدم عن أحمد، فإن الآية الكريمة إنما تدل على الطلاق الرجعي، والإنفاق على الحامل نفقة والد على ولده، لا نفقة زوج على زوجته، وقد قال محمد بن العباس النسائي: سألت أبا عبد الله: ما تقول في حديث عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها؟ فقال: لا نعرف في كتاب الله ذكرا، ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وقال إسماعيل بن إسحاق: نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى، والذي في الكتاب أن لها النفقة إن كانت حاملا، لقوله سبحانه: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] أما غير ذات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن، لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق.(6/25)
2881 - ورضي الله عن فاطمة، فعن «عبيد الله - وهو ابن عبد الله بن عتبة - قال: أرسل مروان إلى فاطمة فسألها، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر علي بن أبي طالب على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا: والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملا، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا» فاستأذنته في الانتقال، فأذن لها، فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ فقال: «عند ابن أم مكتوم» وكان أعمى، تضع ثيابها عنده ولا يبصرها، فلم تزل هناك حتى مضت عدتها، فأنكحها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسامة، فرجع قبيصة إلى مروان فأخبره بذلك، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حين بلغها ذلك: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . . . {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث» . رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه مرسل، فقد بينت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن الكتاب إنما دل على(6/26)
ما قالت، وأما قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إن نقلتها إنما كان لكونها كانت في مكان وحش، فليس في حديثها ما يدل على ذلك، ولو كان فيه لما جاز لها تركه، بل قد تقدم عنها في مسلم «أنها قالت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المطلقة ثلاثا، قال: «ليس لها سكنى ولا نفقة» وهذا يشملها وغيرها، وقد تقدم أيضا في السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نفقة لك إلا أن تكون حاملا» فعلل استحقاقها النفقة بالحمل، ولو كان استحقاقها النفقة بالطلاق لكان ذكر الحمل عديم التأثير، وما ذكر عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار فالجواب عنه كذلك، ثم قد خالف عمر وعائشة ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
2882 - قال أحمد: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا نفقة لها ولا سكنى. إذا طلقت ثلاثا.(6/27)
2883 - ويروى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإذا وقع التنازع بين الصحابة وجب الرجوع إلى الله وإلى الرسول. انتهى. وفي السكنى لها روايتان (إحداهما) لا سكنى لها، وهي اختيار الخرقي، والقاضي وغيرهما، اعتمادا على حديث فاطمة المتقدم، (والثانية) لها السكنى، اعتمادا على قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] الآية، وقد يجاب عنه بأنه في الرجعية كما تقدم، هذا كله إذا كان الطلاق بائنا كما تقدم، أما إن كان رجعيا فلها السكنى والنفقة بلا نزاع، للآية الكريمة.
2884 - وفي «خبر فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى» رواه أحمد. ولأنها في حكم الزوجات في الإرث والطلاق، وغير ذلك، فكذلك في النفقة، والله أعلم.(6/28)
[نفقة المختلعة]
قال: وإذا خالعت المرأة زوجها، وأبرأته من حملها، لم يكن لها نفقة، ولا لولده حتى تفطمه.
ش: إذا خالعت الحامل زوجها، ولم تبرئه من حملها، فلها النفقة والسكنى كما تقدم، وإن أبرأته من حملها - بأن جعلت ذلك عوضا في الخلع - فإنه يصح، بناء على ما تقدم من صحة الخلع بالمجهول، ثم إن عينت مدة الحمل والكفالة إلى حين الفطام صح، وكذلك إن أطلقت الكفالة، وينصرف عند التنازع إلى حولين، وإن أطلقت مدة الحمل فقط انصرف إلى زمن الحمل قبل وضعه، قاله أبو محمد.
وظاهر كلام الخرقي أنه ينصرف إلى زمن الرضاع أيضا، وقال القاضي: إنما صح المخالعة على نفقة الولد، وهي للولد دونها، لأنها في حكم المالكة لها، لأنها المستحقة لها، وبعد الولادة تأخذ أجر رضاعها، قال: فأما النفقة الزائدة على هذا - من كسوة الطفل ودهنه، ونحو ذلك - فلا يصح أن يعاوض به، لأنه ليس لها، ولا هو في حكم ما هو لها، فكأنه يخصص كلام الخرقي، والله أعلم.
[نفقة المرأة الناشز]
قال: والناشز لا نفقة لها، فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها.
ش: الناشر لا نفقة لها، لأن النفقة وجبت في مقابلة تمكينها، ومع النشوز لا تمكين، وإن كان لها منه ولد أعطاها(6/29)
نفقته، لأنها واجبة له فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبير، وهذا يلتفت إلى قاعدة، وهو أن النفقة هل تجب للحامل لحملها، أو لها من أجله؟ فيه روايتان، أشهرهما أنها للحمل، وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي في تعليقه، وغيرهم (والثانية) أنها لها من أجله، واختارها ابن عقيل في التذكرة، وللخلاف فوائد (إحداها) هذه المسألة وهي الناشز الحامل، على الرواية الأولى لها نفقة الحمل لما تقدم، وعلى الثانية لا شيء لها لنشوزها (الثانية) إذا كانت المطلقة أمة، فعلى الأولى النفقة على السيد، لأن الحمل ملكه، وعلى الثانية على الزوج، لأن نفقتها عليه (الثالثة) إذا كان الزوج عبدا، فعلى الأولى لا شيء عليه، لأنه لا يلزمه نفقة ولده، وعلى الثانية عليه النفقة لما تقدم (الرابعة) إذا كانت حاملا من نكاح فاسد، أو وطء شبهة، أو ملك يمين، فعلى الأولى تجب لها النفقة، نظرا للولد، وعلى الثانية لا تجب إذ لا نكاح، (الخامسة) إذا كان الزوج غائبا أو معسرا، فعلى الأولى لا شيء لها، إذ نفقة القريب تسقط بمضي الزمان، وبالإعسار، وعلى الثانية تثبت في ذمة الغائب وتلزم المعسر، والله أعلم.(6/30)
[باب من أحق بكفالة الطفل]
ش: كفالة الطفل واجبة، لأن الصبي يهلك بتركها، فوجبت كالإنفاق عليه، ويتعلق بها حق لقرابته لما سيأتي، والله أعلم.
قال: والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت.
ش: إذا افترق الزوجان وبينهما ولد، فالأم أحق به في الجملة، إن كان طفلا، بلا خلاف نعلمه.
2885 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه.
2886 - ويروى أن أبا بكر الصديق حكم على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعاصم لأمه أم عاصم، وقال: ريحها وشمها ولطفها خير له منك. رواه سعيد في سننه، ولأنها أقرب الناس(6/31)
إليه مع أبيه، وتتميز عن الأب بأنها تلي بنفسها، والأب لا يلي بنفسه، وحكم المعتوه حكم الطفل، لاستوائهما معنى، فاستويا حكما، ويشترط فيمن تثبت له الحضانة الحرية والبلوغ، والعقل، والعدالة الظاهرة، والله أعلم.
[تخيير الغلام والأمة بين أبويه بعد البلوغ]
قال: وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما.
ش: أي إذا بلغ الغلام سبع سنين وهو عاقل، لما تقدم له من أن حضانة المعتوه لأمه، والمذهب المشهور أن الغلام والحال هذه يخير بين أبويه.
2887 - لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير غلاما بين أبيه وأمه» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، وفي رواية «أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا قاعد عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استهما عليه» فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت» فأخذ بيد أمه فانطلقت به؛ مختصر» رواه أبو داود.(6/32)
2888 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد.
2889 - وعن عمارة الجرمي قال: خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين عمي وأمي، وكنت ابن سبع سنين أو ثمان، وروي نحو ذلك عن أبي هريرة، ولا نعرف لهم مخالفا، ولأن الحضانة تثبت(6/33)
لحظ الولد، فيقدم فيها من هو أشفق به، ولا ريب أن ميل الولد إلى أحد الأبوين دليل على أنه أشفق به، فرجح بذلك، وإنما قيدناه بالسبع لأنه إذًا بلغ حدا يعرب عن نفسه، ويميز بين الإكرام وضده، ولأنه أول حال أمر الشرع بمخاطبته فيها (وعن أحمد) رواية أخرى أن الأم أحق به، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب، ولا ريب أن حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخص منه فيقدم، (وعنه) رواية ثالثة الأب أحق به؛ لأنه إذًا يحتاج إلى التأديب والتعليم، والأب أخص بذلك، ولا ريب أنها أضعفهن، لمخالفتها الحديثين معا، وقد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم الطفل وحكم الغلام، ولم يتعرض لحكم البالغ، والحكم أنه يكون حيث شاء إن كان رشيدا.
(تنبيه) : «يحاقني» أي ينازعني في حقي منه، والله أعلم.
قال: وإذا بلغت الجارية سبع سنين فالأب أحق بها.
ش: هذا هو المذهب المعروف، نظرا إلى أن المقصود بالحضانة حظ الولد، والحظ للجارية بعد السبع كونها عند أبيها، لقيامه بحفظها، ولأنه وليها، وأعلم بكفئها، ومنه تخطب وتزوج.
وفي المذهب رواية أخرى ذكرها القاضي في تعليقه أن الأم أحق بها حتى تبلغ، ولفظها من رواية مهنا: الأم أحق بالجارية(6/34)
حتى تستغني، قيل له: وما غنى الجارية؟ قال: حتى تتزوج. ويستدل لذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» وبقصة ابنة حمزة.
2890 - ويرشحه أن في الحديث «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» والله أعلم.
[الأحق بكفالة الطلفل بعد الأم]
قال: وإذا لم تكن أم أو تزوجت الأم، فأم الأب أحق من الخالة.
ش: إذا لم تكن أم أو تزوجت الأم، أو قام بها مانع من فسق ونحوه، فإن أم الأب مقدمة على الخالة، على المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، لأنها جدة وارثة، فقدمت كأم الأم، ولأن لها ولادة ووراثة، فأشبهت أم الأم، وعن أحمد رواية أخرى أن الأخت من الأم والخالة يقدمان على أم الأب استدلالا بحديث ابنة حمزة.
2891 - فعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن ابنة حمزة اختصم فيها(6/35)
علي وجعفر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقال علي: أنا أحق بها، هي ابنة عمي، وقال جعفر: هي بنت عمي، وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» متفق عليه.
2892 - ورواه أحمد أيضا من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفيه: «والجارية عند خالتها، فإن الخالة والدة» وكذلك رواه أبو داود من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: «إنما الخالة الأم» فجعل الخالة بمنزلة الأم، ولا ريب أن الأم مقدمة على أم الأب، فكذلك من بمنزلتها، وهذا ظاهر في الاستدلال، فعلى هذه الرواية قال أبو الخطاب ومن تبعه: يكون هؤلاء أحق من الأخت من الأم، ومن جميع العصبات، وقال أبو البركات: يحتمل على هذه الرواية تقديم نساء الحضانة على كل رجل، ويحتمل أن يقدمن إلا على من أدلين به، ويحتمل تقديم نساء الأم على الأب وأمهاته، وسائر من في جهته، وأن كل امرأة في درجة رجل تقدم هي ومن أدلى بها عليه. انتهى.(6/36)
وعلى الأولى ظاهر كلام الخرقي أن أم الأب مقدمة على أم الأم، لقوله: فإن لم تكن أم، أو تزوجت الأم فأم الأب أحق من الخالة، وصرح بذلك بعد في قوله: والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم، وخالة الأب أحق من خالة الأم؛ وهذا إحدى الروايتين، وهو أن قرابة الأب كأمه وأخته، ومن يدلي به هل تقدم على قرابة الأم كأمها وأختها ومن يدلي بها؟ على روايتين منصوصتين، (إحداهما) قرابة الأب مقدمة، كما يقوله الخرقي، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه، وفي جامعه الصغير، والشيرازي وابن البنا، لتقديمهم الأخت للأب على الأخت للأم، وذلك لأن التمييز له مزية في التقديم، وقرابة الأب ساوت قرابة الأم في القرب، وتميزت عنها بإدلائها بعصبة (والرواية الثانية) قرابة الأم مقدمة، وهو اختيار القاضي في روايتيه، وابن عقيل في تذكرته، لتمييز قرابة الأم بإدلائها بمن تقدم على الأب وهو الأم.
وقد تضمن كلام الخرقي أن المرأة إذا تزوجت سقطت حضانتها، وهو المذهب في الجملة بلا ريب، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنت أحق به ما لم تنكحي» (وعنه) في الجارية خاصة لا تسقط حضانتها بالتزويج، نظرا لحديث ابنة حمزة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بها لها مع كونها كانت مزوجة، وأجيب عن هذا بأنها كانت زوجة لقريب، وإنما تسقط الحضانة إذا كانت مزوجة بأجنبي، وهذه مسألة تستثنى من كلام الخرقي،(6/37)
وهو أن التزويج مسقط للحضانة إلا بقريب من الطفل، وقيل: شرط القريب أن يكون جدا للطفل، ومقتضى كلام أبي محمد في المغني أن من شرطه أن يكون من أهل الحضانة، وإذًا لا يحسن منه الجواب عن الحديث، لأن جعفرا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان ابن عمها، وليس هو من أهل الحضانة، وحيث قيل: إن التزويج مسقط للحضانة فذلك بمجرده من غير دخول، على مقتضى كلام الخرقي وعامة الأصحاب، إعمالا لظاهر الحديث، ولأبي محمد احتمال أن حقها لا يسقط إلا بالدخول، نظرا إلى المعنى المقتضي لإسقاط حقها بالتزويج، وهو الاشتغال بالزوج والتخصيص به، وذلك منتف قبل الدخول، والله أعلم.
قال: والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم، وأحق به من الخالة، وخالة الأب أحق من خالة الأم.
ش: قد تقدم هذا، وأن مذهب الخرقي أن قرابة الأب تقدم على قرابة الأم، فلا حاجة إلى إعادته، وتقدم أن عن أحمد رواية أخرى مشهورة بالعكس، ورواية أخرى أن الخالة أحق من أم الأب، وأن على هذه الرواية تقدم الخالة على الأخت من الأب، لتقديمها على من أدلت به.
قال: وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت، ثم طلقت عادت على حقها من كفالته.
ش: لا نزاع عندنا في ذلك، إذا كان الطلاق بائنا، لأن حقها(6/38)
إنما زال لمعنى، وهو الاشتغال بالزوج، فإذا طلقت زال ذلك المعنى، فتعود إلى ما كانت عليه، واختلف فيما إذا كان الطلاق رجعيا، فظاهر كلام الخرقي - وهو الذي نصبه القاضي في تعليقه، وقطع به جمهور أصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة - أن حقها يعود، نظرا إلى زوال اشتغالها به، لعزلها عن فراشه، وعدم القسم لها عليه، وقال القاضي: قياس المذهب أن حقها لا يعود حتى تنقضي عدتها، بناء على أن الرجعية مباحة، فاشتغالها بالزوج لم يزل، وعلى هذا فقول الخرقي جار على قاعدته من تحريم الرجعية، وأبو محمد خرج الوجه الثاني من كون النكاح قبل الدخول مزيلا للحضانة مع عدم الشغل، والله أعلم.
قال: وإذا تزوجت المرأة فلزوجها أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليها، أو يخشى عليه التلف.
ش: للزوج منع المرأة من رضاع ولدها من غيره، ومن رضاع ولد غيرها بطريق الأولى، إذ عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان، ما لم يضر بها، سوى أوقات الصلوات، والرضاع يفوت الاستمتاع في بعض الأوقات، فكان له المنع، كالخروج من منزله، فإن اضطر الولد إليها، بأن لا يوجد مرضعة سواها، أو لا يقبل الولد ثدي غيرها، وخشي عليه التلف، فليس للزوج المنع نظرا لحفظ النفس(6/39)
المقدم على حق الزوج، وملخصه أنه يجب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وقول الخرقي: من رضاع ولدها. ظاهر سياق كلامه أنه من غيره، وإلا كان يقول: وللزوج منع المرأة من رضاع ولدها. وفي بعض النسخ: ولدها من غيره.
قال: وعلى الأب أن يسترضع لولده إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها، فتكون أحق به من غيرها، سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة.
ش: قد دل كلام الخرقي على مسألتين (إحداهما) أن إرضاع الولد على الأب وحده، وليس له إجبار أمه على رضاعه مطلقا، ولظاهر قوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] الآية إلى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقوله سبحانه: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ومتى اختلفا فقد تعاسرا (المسألة الثانية) أن الأم إذا شاءت أن ترضعه بأجرة مثلها كان لها ذلك، وقدمت على غيرها إذا كانت مفارقة من الزوج بلا نزاع، وكذلك إذا كانت في حباله على المشهور، وقيل: بل إذا كانت في حباله كان له منعها بأجرة وبغيرها، ومبنى الخلاف على فهم الآية الكريمة، وذلك لأن إرضاعه كنفقته، والجامع أن بنيته لا تقوم(6/40)
إلا بهما، ونفقته لو كان كبيرا عليه، فكذلك إرضاعه إذا كان صغيرا، ولظاهر الآية الكريمة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] فإن الله سبحانه جعل حكمه الشرعي أن الوالدات يرضعن أولادهن، لكن هل المراد كل والدة، اعتمادا على عموم اللفظ، فتدخل فيه المطلقة وغيرها، أو المراد به الوالدات المطلقات، لذكرهن في سياق المطلقات، والسياق والسباق يخصصان؟ فيه قولان، فعلى الثاني إذا كان المراد المطلقات فالمزوجات لم تتناولهن الآية، وإذًا للزوج منعهن من الإرضاع، نظرا لحقه من الاستمتاع، كما له ذلك في ولد غيره، وقول الخرقي: بأجرة مثلها. مفهومه أنها إذا طلبت أكثر من أجرة المثل لم تكن أحق به، وهو كذلك، لطلبها ما ليس لها، فتدخل في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] نعم لو طلبت أكثر من أجرة المثل، ولم يوجد من ترضعه إلا بمثل تلك الأجرة، فقال أبو محمد: الأم أحق، لتساويهما في الأجرة، وميزة الأم، وقوله: فتكون أحق به. مقتضاه وإن وجد متبرعة برضاعه، وهو كذلك، اعتمادا على إطلاق الآية الكريمة، والله سبحانه أعلم.(6/41)
[باب نفقة المماليك]
قال: وعلى ملاك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسوهم بالمعروف.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد دلت عليه السنة النبوية.
2893 - فعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته» رواه مسلم.
2894 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» رواه أحمد ومسلم، والواجب له قدر كفايته من غالب قوت البلد وأدمه لمثله بالمعروف، وكذلك الكسوة من غالب كسوة البلد لأمثال العبد بالمعروف.(6/42)
2895 - لأن في بعض روايات حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «بالمعروف» رواه الشافعي في مسنده، وسواء كان قوت سيده وكسوته مثل ذلك أو أزيد، والمستحب أن يطعمه من طعامه، ويلبسه من لباسه.
2896 - لما روى أبو ذر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» متفق عليه.
(تنبيه) القهرمان
قال: وأن يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك.
ش: على السيد أن يزوج مملوكه إذا احتاج إلى ذلك، لقول الله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32](6/43)
وظاهر الأمر الوجوب.
2897 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من كانت له أمة فلم يزوجها ولم يصبها، أو عبد فلم يزوجه، فما صنعا من شيء كان على السيد. ولأن النكاح مما تدعو الحاجة إليه غالبا، أو يتضرر بفواته، فأجبر عليه السيد كالنفقة وقوله: إذا احتاج إلى ذلك. يخرج به من لا حاجة له إلى ذلك، كالصغير والأمة إذا كان السيد يطؤها، وكذلك إذا سراه السيد لاندفاع حاجته.
(تنبيه) : ولا يجب التزويج إلا بطلب المملوك، لأن الحق له، فلا تعلم حاجته إلا بطلبه، والله أعلم.
قال: فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب المملوك ذلك.
ش: إذا امتنع السيد مما وجب عليه من طعام، أو كسوة أو تزويج، وطلب المملوك البيع، فإن السيد يجبر على ذلك، لأن بقاء الملك عليه مع الإخلال بما تقدم إضرار بالعبد، وإزالة الضرر واجبة شرعا، والبيع طريق لزواله، فوجب دفعا للضرر المنفي شرعا، وإنما توقف الحق على طلب العبد، لأن الحق له، فلا يستوفى بدنه طلبه، ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا قام بالواجب عليه لا يجبر على البيع، وإن طلب المملوك ذلك، وقد نص أحمد عليه، إذ لا ضرر يزال، والله أعلم.(6/44)
قال: وليس عليه نفقة مكاتبه إلا أن يعجز.
ش: المكاتب مع سيده في أكسابه ومنافعه ونفقته ونحو ذلك كالأجنبي، فإذا عجز عاد كما كان قبل الكتابة.
قال: وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ريه.
ش: إذا لم يكن في الأمة فضل عن ري ولدها فليس لسيدها أن يرضعها لغيره، حذارا من إضراره، لنقصه عن كفايته، وصرف اللبن المخلوق له لغيره، وإن كان فيها فضل عن ريه جاز له أن يرضعه غيرها، لانتفاء المحذور، مع وجود المقتضي وهو الملك.
قال: وإذا رهن المملوك أنفق عليه سيده.
2898 - ش: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه» ونفقته من الغرم، فكانت على الراهن.
قال: وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه.
ش: هذا هو المشهور، حتى إن أبا الخطاب في الهداية وأبا محمد في المقنع، وغيرهما قطعوا بذلك، وخرج أبو محمد قولا آخر أنه لا يرجع، بناء على رواية النفقة على الرهن والوديعة، والجمال إذا هرب الجمال، ونحو ذلك، وكذلك أبو البركات برد الآبق، مع جملة هذه المسائل، وذكر الخلاف، إلا أنه قيد ذلك بما إذا نوى الرجوع، وتعذر استئذان المالك، وبعض الأصحاب لا يشترط تعذر الاستئذان، وقد يفرق بين الآبق وغيره أن الآبق يخشى ضرره،(6/45)
لاحتمال لحوقه بدار الحرب، وارتداده، وهذا المعنى غير موجود في غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[كتاب الجراح]
ش: الجراح جمع جراحة، بمعنى الجرح بفتح الجيم، مصدر جرحه يجرحه جرحا، والاسم الجرح بضم الجيم، وذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجراح وإن كان القتل يوجد بغيره لغلبة وقوع القتل به بخلاف غيره.
[أنواع القتل]
قال: والقتل على ثلاثة أوجه: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
ش: القتل بحسب صفته يقع على ثلاثة أوجه، لأن الضارب إن قصد القتل بآلة تصلح له غالبا فهذا هو العمد، وإن قصد القتل بآلة لا تصلح للقتل غالبا فهو شبه العمد، وإن لم يقصد القتل فهو الخطأ، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب ومن تبعه زاد قسما رابعا، وهو ما أجري مجرى الخطأ كالقتل بالسبب، وكالنائم ينقلب على إنسان ونحو ذلك، ولا نزاع أنه باعتبار الحكم الشرعي لا يزيد على ثلاثة أوجه، (عمد) وهو ما فيه القصاص أو الدية.(6/46)
2899 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بمعروف يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] فيما كتب على من كان قبلكم، رواه البخاري وغيره.
2900 - وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدي» .(6/47)
(وشبه عمد) وهو ما فيه دية مغلظة، من غير قود.
2901 - فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فيكون دم في عميا، في غير ضغينة، ولا حمل سلاح» رواه أحمد وأبو داود.(6/48)
(وخطأ) وهو ما فيه دية مخففة.
2902 - فعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر» رواه الخمسة.(6/49)
(تنبيه) (ينزو الشيطان) أي يثب (في عميا) أي جهالة و (في غير ضغينة) أي ذنب أي يثير الشيطان فتنة بين قوم، فيقتل إنسان، ولا يعرف من قتله في غير ذنب، والله أعلم.
[القتل العمد وموجبه]
قال: فالعمد أن يضربه بحديدة، أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط، أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله، أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة، أو فعل به فعلا الغالب أنه يتلف.
ش: لما ذكر الخرقي أن القتل يقع على ثلاثة أوجه، أراد أن(6/50)
يعرف كل واحد منها، فعرف العمد بما ملخصه أن يقصد ضربه بمحدد، أو شيء الغالب أنه يتلف.
فقوله: ما إذا ضربه بحديدة، أي ما إذا قصد ضربه بحديدة فجرحه، وفي معنى ذلك كل محدد من حجر أو غيره، وقوله: أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط. . . الفسطاط هنا خيمة صغيرة، وعمودها التي تقوم عليه.
2903 - وإنما شرط الخرقي في قتل العمد الزيادة على ذلك لما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط، فقتلتها وهي حبلى، قال: فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، قال: فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسجع كسجع الأعراب» قال: وجعل عليهم الدية» . رواه مسلم، ولو كان القتل بذلك عمدا لأوجب فيه القود، ولم يجعل الدية على العاقلة، لأنهم لا يحملون عمدا اتفاقا.
وقوله: أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله، أي في عرف الناس، ولم يقل في ظنه، لاتهامه في ذلك، (وقوله) : أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة، أي إعادة تقتل غالبا، وفي معنى ذلك إذا ضربه بخشبة صغيرة في مقتل، أو في حال ضعف قوة من مرض، أو صغر أو كبر، أو حر أو برد، ونحو ذلك،(6/51)
(وقوله) : أو فعل به فعلا الغالب أنه يتلف. كأن ألقاه في ماء كثير يغرقه عادة، أو في نار لا يمكنه التخلص منها، أو في زبية أسد، أو من شاهق، أو أنهشه كلبا أو سبعا أو حية، أو ألسعه عقربا من القواتل، أو سحره بما يقتل غالبا، أو أطعمه طعاما بسم يقتل مثله غالبا، ونحو ذلك.
(تنبيه) قال ابن الأثير: الفسطاط الخيمة الكبيرة، ولعله يريد باعتبار عرف زمانه، وإن أراد أنه في اللغة كذلك، فهو محمول على ما تقدم، لما مر من الإجماع على أن العاقلة لا تحمل العمد انتهى، وهو فارسي معرب، وفيه ست لغات، فسطاط، وفستاط، وفساط مع ضم الفاء وكسرها فيهن، (واستهل المولود) إذا بكى حين يولد، والاستهلال رفع الصوت، (ويطل) روي بالمثناة من تحت، وروي بالموحدة، فعلى الأول هو من طل دمه إذا هدر، ولم يطلب بثأره، وعلى الثاني هو فعل ماض من البطلان، (والسجع)(6/52)
تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، نحو: وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. والاستفهام لما يتضمنه السجع من الباطل، وكذلك جعله له كسجع الأعراب. وفي رواية: الكهان. أما السجع الخالي من الباطل فليس بمذموم، لوروده في الكتاب العزيز، وفي كلام سيدنا محمد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نحو: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 28] {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] قال بعضهم: لا يقال في القرآن أسجاع، وإنما يقال فواصل، مستدلا بما تقدم، وقد يقال: إذا كان الإنكار للباطل فيه، فلا تمتنع التسمية، لعدم ورود الإنكار عليها.
قال: ففيه القود.
ش: أي العمد، سواء كان القتل بمحدد أو بغيره، (أما المحدد) فالقود به اتفاق في الجملة، إذا كان الجرح بسكين(6/53)
ونحوها، جرحا كبيرا، أما إن كان صغيرا، كشرطة الحجام ونحوها، أو غرزة بإبرة أو شوكة، فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد فكذلك، إذ مثل ذلك في هذا المحل يقتل غالبا، وكذلك إن كان في غير مقتل لكن بقي متألما حتى مات، لصلاحية السبب، مع أن الأصل عدم غيره، وإذا كان في غير مقتل ومات في الحال فوجهان (أحدهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي - أن فيه القود، لأن المحدد له سراية ونفوذ، وقد عضد ذلك موته في الحال، ولهذا قيل فيه إنه لا يعتبر غلبة الظن في حصول القتل به بخلاف غيره، (والثاني) - وهو قول ابن حامد - لا قود بذلك، لأن الظاهر أن الموت ليس منه.
وأما إذا كان بغيره فكذلك عندنا وعند الجمهور، ولإطلاق {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدي» ونحو ذلك.
2904 - ولخصوص ما روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرض رأسه بالحجارة، وقال همام: بحجرين» .(6/54)
متفق عليه. وللبخاري: قتلها على أوضاح لها. ولا يقال: قتله
لنقض العهد، لأنه إذا كان يقتله بالسيف، ولما قتله بالرض بالحجارة دل على إرادة المماثلة، المدلول عليها بقوله سبحانه؛ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
2905 - وما روي من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا وإن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل» فمحمول على حجر(6/55)
شبيه بالسوط والعصا وهو الصغير، جمعا بين الأدلة.
(تنبيه) : «إما أن يقتل، وإما أن يفدي» أي يأخذ الدية، (والرض) دق الشيء بين حجرين، وما جرى مجراهما (والأوضاح) واحدها وضح، الحلي من النقرة.
قال: إذا اجتمع عليه الأولياء، وكان المقتول حرا مسلما.
ش: أي شرط وجوب القود في العمد اجتماع جميع الأولياء على الاستيفاء، فلو عفا بعضهم سقط القصاص، لعدم تبعيضه، وكذلك إذا كان بعضهم صغيرا أو مجنونا أو غائبا، فإن استيفاءه يتوقف على قدوم الغائب أو توكيله، وحصول التكليف، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى وشرطه أيضا أن يكون المقتول حرا مسلما، وهذا من حيث الجملة، وتمامه يأتي إن شاء الله تعالى.
[القتل شبه العمد وموجبه]
قال: وشبه العمد أن يضربه بخشبة صغيرة، أو حجر صغير، أو لكزة أو فعل به فعلا الأغلب من ذلك الفعل أن لا يقتل.(6/56)
ش: شبه العمد أن يقصد القتل بآلة لا تصلح للقتل غالبا ولم يجرحه، كما مثل الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكما إذا نخزه بشيء لا يقتل غالبا، أو ألقاه في ماء لا يغرقه مثله غالبا، ويسمى ذلك شبه العمد، لأنه جمع عمدا لقصده الجناية، وخطأ لعدم صلاحية الآلة لذلك، وسمي أيضا عمد الخطأ، وخطأ العمد لذلك.
(تنبيه) اللكز الضرب بجمع الكف في أي موضع كان من جسده، وعن أبي عبيدة: الضرب بالجمع على الصدر.
قال: فلا قود في هذا.
ش: لحديث عمرو بن شعيب المتقدم «عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه» وحديث: «ألا وإن في قتل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل» .
قال: والدية على عاقلته.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، لحديث المغيرة بن شعبة في التي قتلت ضرتها بعمود الفسطاط (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي بكر: تجب الدية على الجاني.
2906 - لعموم «لا يجني جان إلا على نفسه» ، ولا يخفى ضعف(6/57)
هذا، إذ الخاص يقضي على العام، فعلى الأول تجب مؤجلة على العاقلة بلا ريب، وعلى الثاني هل تجب على القاتل مؤجلة أو حالة؟ على قولين لأبي بكر.
[القتل الخطأ وموجبه]
قال: والخطأ على ضربين، أحدهما أن يرمي الصيد، أو يفعل ما يجوز له فعله، فيئول إلى إتلاف حر، مسلما كان أو كافرا.
ش: لما فرغ من تعريف العمد وشبهه، أشار إلى تعريف الخطأ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، وهو على ضربين، خطأ في الفعل وهو الذي ذكره الخرقي، ولا ريب أن الخطأ واضح فيه، وقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره، لا أعلمهم يختلفون فيه. وقوله: مسلما كان أو كافرا. تنبيه على أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر، كما دل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] الآية، ولا بد من تقييد الكافر بأن يكون له عهد، كما في الآية الكريمة، وقوله: أو يفعل ما يجوز له فعله. مفهومه أنه إذا فعل ما ليس له فعله، كأن يقصد رمي آدمي معصوم، أو بهيمة(6/58)
محترمة، فيصيب غيره، أن الحكم ليس كذلك، فيكون عمدا، وهو منصوص أحمد في رواية الحسن بن محمد بن الحارث، على ما ذكره القاضي في روايتيه، وخرجه أبو محمد على قول أبي بكر فيمن رمى نصرانيا، فلم يقع به السهم حتى أسلم أنه عمد، يجب به القصاص، والذي أورده في المغني مذهبا أن هذا أيضا خطأ، إناطة بعدم قصد من قتل، وهو مقتضى قول المجد، قال: أن يرمي صيدا أو هدفا أو شخصا، فيصيب إنسانا لم يقصده.
قال: فتكون الدية على العاقلة، وعليه عتق رقبة مؤمنة.
ش: الخطأ لا قود فيه اتفاقا، كما أشعر به قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] الآية، ولأن شبه العمد إذا لم يجب القود فيه كما تقدم، ففي الخطأ أولى، وتجب الدية فيه على العاقلة اتفاقا حكاه ابن المنذر، وقياسا على شبه العمد، وقد ثبت بالنص، وعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، لعموم «لا يجني جان إلا على نفسه» مع {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .
(تنبيه) : تقدير الآية الكريمة والله أعلم: فالواجب تحرير رقبة(6/59)
مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله، ومن يتعلق به الواجب ليس في الآية ما يدل عليه، ولا يصح أن يقدر (فعليه تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) لأن الدية ليست عليه، نعم إن قيل: الدية عليه، وأن العاقلة تحملها عنه، صح ذلك، لكن المعروف خلافه.
قال: والوجه الآخر أن يقتل في بلاد الروم من عنده أنه كافر، ويكون قد أسلم وكتم إسلامه، إلى أن يقدر على التخلص إلى بلاد الإسلام، فيكون على قاتله عتق رقبة مؤمنة بلا دية؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] .
ش: هذا الضرب الثاني من ضربي الخطأ، وهو الخطأ في القصد، ولا نزاع في كون هذا ونحوه خطأ، ولا نزاع أيضا في وجوب الرقبة على القاتل، للآية الكريمة، ووقع النزاع في الدية، والمشهور عن إمامنا، ومختار عامة أصحابنا - الخرقي، والقاضي، والشيرازي، وابن البنا، وأبي محمد وغيرهم - عدم وجوبها مطلقا، لما أشار إليه الخرقي، وهو أن الله سبحانه ذكر (أولا) قتل المؤمن خطأ، وأن فيه الكفارة والدية، ثم ذكر (ثانيا) إذا كان من قوم عدو لنا وهو مؤمن، وأن فيه الكفارة، ولم يذكر الدية، ثم ذكر (ثالثا) إذا كان من قوم بيننا وبينهم ميثاق، أن فيه الكفارة والدية، فظاهر الآية الكريمة أن القسم الثاني لا دية فيه (وعن أحمد) رواية أخرى تجب الدية على العاقلة، ودليلها يظهر من الكلام على الآية(6/60)
الكريمة، وذلك أن (من) في قوله {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] يحتمل أن تكون لبيان الجنس، فيكون ظاهر الآية الكريمة عدم وجوب الدية فيمن تقدم ذكره، كما ذكره الخرقي، ويلحق به من أسلم ودخل دار الحرب، للاشتراك في أنه قصد قتل حربي، وإنما لم تجب الدية والحال هذه والله أعلم لأن الشارع له حرص عظيم على قتل أهل الحرب من غير تثبت، إذا بلغتهم الدعوة، فلو أوجبنا الدية في هذه الحال، ربما توقف فيمن يقتله منهم، ويحتمل - وهو الذي قدمه البغوي أن تكون (من) ظرفية، كقوله سبحانه؛ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40] فإذًا معنى الآية: فإن كان في قوم عدو لكم وهو مؤمن، وهذا يشمل ما قاله الخرقي، وما إذا تترس الكفار بمسلم، وخيف على المسلمين إن لم يرموا فرماهم فأصاب المسلم، وهذا رواية ثالثة لإمامنا، وللمفسرين قول آخر، وهو الذي قطع به الزجاج، والزمخشري، أن المعنى في الآية الكريمة أن يسلم الرجل في قومه الكفار، وهو بين أظهرهم فيقتل، ولا دية لأهله لأنهم كفار محاربون، فلا يستحقون الدية، فانتفاء الدية كان لعدم(6/61)
مستحقها، لا لعدم قبول المحل لها، ولهذا أوجب الله سبحانه وتعالى بعد في من بيننا وبينهم ميثاق الدية، لوجود مستحقها، (ومن) أيضا على هذا القول لبيان الجنس وروايتنا الثانية تتوجه على هذا القول.
2907 - ويؤيد ذلك ما روى محمود بن لبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة يوم أحد، وهم لا يعرفونه فقتلوه، فأراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين» . رواه أحمد، وفي لفظ رواه الشافعي قال: «فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بديته» .
2908 - وأيضا عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل خطأ فديته مائة من الإبل» مختصر، رواه الخمسة إلا الترمذي.(6/62)
[المماثلة بين القاتل والمقتول من شروط القصاص]
قال: ولا يقتل مسلم بكافر.
2909 - ش: لما روى أبو جحيفة قال: قلت لعلي: يا أمير المؤمنين هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما علمته، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مؤمن بكافر. رواه أحمد والبخاري، والنسائي والترمذي.
2910 - وعن قيس بن عباد قال: «انطلقت أنا والأشتر إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلنا له: هل عهد إليك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا إلا ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه، فإذا فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين» رواه أحمد وأبو داود والنسائي، قال بعض الحفاظ: رجاله رجال الصحيحين.(6/63)
2911 - ولأبي داود وأحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، وهذا نحوه يخص {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] .
2912 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العمد قود، من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتله، وإن أحبوا الدية» على أن {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] إنما ورد - والله أعلم - في المسلمين، بدليل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178](6/64)
فخاطب المسلمين، ثم قال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] والكافر ليس بأخ للمسلم {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45] شرع من قبلنا ولا نسلم أنه شرع لنا، ولو سلم فقد ورد شرعنا بخلافه، ثم قد قيل: إن فيها ما يدل على إرادة المسلمين، وهو قوله سبحانه: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] ولا كفارة للكافر ولا صدقة.
2913 - وما روى ابن البيلماني «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» رواه الدارقطني. مردود (أولا) بضعفه، فإن أحمد قال في رواية الميموني: ليس له إسناد. وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه: الحق فيمن ذهب إلى حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مؤمن بكافر» وإن احتج بحديث البيلماني محتج فهو عندي مخطئ، وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى آخر رده، وهذا مبالغة في ضعف الحديث، وأن مثله لا يسوغ معه الاجتهاد، وقال الدارقطني: ابن البيلماني ضعيف، لا تقوم به حجة (وثانيا) بأنه حكاية(6/65)
فعل لا عموم له، فيحمل إن صح على أنه قتله وهو كافر ثم أسلم.
واعترض على دليلنا بأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» لا بد فيه من تقدير، وإلا يلزم أن ذا العهد لا يقتل في عهده مطلقا، إذ يقتل بالذمي والمعاهد، والتقدير: ولا ذو عهد في عهده بحربي والقيد في المعطوف قيد في المعطوف عليه، وأجيب (أولا) بالمنع، وأن العطف إنما يقتضي التشريك في أصل الحكم، لا في توابعه، والعطف في أنه لا يقتل، من غير نظر إلى تعيين من يقتل به، كما تقول: مررت بزيد قائما وعمرو، أي ومررت بعمرو، ولا يلزم أن يكون قائما (وثانيا) أنه ليس المراد والله أعلم أنه لا يقتل إذا قتل، بل (في) (إما ظرفية) كما هو الأصل فيها، أي ولا ذو عهد ما دام باقيا في عهده، نبه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العهد لا يقتضي العصمة مطلقا، كما في الذمة، بل في زمن العهد خاصة، (أو سببية) .
2914 - كما في الصحيح «أن امرأة دخلت النار في هرة» . أي ولا ذو عهد بسبب عهده، نبه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك على أن العهد سبب لعصمة الدم، وناسب ذكر ذلك هنا، لئلا يتوهم من عدم قتل المسلم بالكافر التساهل في قتل الكافر، فبين – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وإن لم(6/66)
يقتل المسلم بالكافر، لكن لا يقتل المعاهد، ما دام له عهد. انتهى.
وقول الخرقي: ولا يقتل مسلم بكافر. يستثنى منه صورتان (إحداهما) إذا قتله أو جرحه وهو كافر ثم أسلم، فإنه يقتل به على المنصوص، نظرا لابتداء الحال، وفيه احتمال، اعتمادا على إطلاق الحديث (والصورة الثانية) إذا قتله في المحاربة، على إحدى الروايتين، ومفهوم كلامه أن المسلم يقتل بالمسلم، والكافر بالكافر، وهو كذلك في الجملة، إذ لا بد من عصمة المقتول.
(تنبيه) : «فلق الحبة» هو شقها للإنبات، «وبرأ النسمة» البرء الخلق، والنسمة كل ذي روح، «والتكافؤ» التماثل والتساوي، أي أنهم متساوون في القصاص والدية، لا فضل لشريف على وضيع، ولا كبير على صغير، ونحو ذلك، «وهم يد على من سواهم» أي أنهم مجتمعون يدا واحدة على غيرهم، من أرباب الملك فلا يسع أحدا منهم أن يتقاعد عن نصرة أخيه المسلم، «ويسعى بذمتهم أدناهم» أي أدنى(6/67)
المسلمين إذا أعطى أمانا، فعلى الباقين موافقته، وأن لا ينقضوا عهده «وأحدث حدثا» الحدث الأمر الحادث، والمراد هنا الجناية والجرم، «وآوى محدثا» آواه ضمه إليه وحماه، والمحدث الذي يجني الجناية.
قال: ولا حر بعبد.
ش: لمفهوم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] .
2915 - ولما روى الدارقطني بإسناده عن إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونفاه سنة، ومحا اسمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة» . وإسماعيل بن عياش حجة في الشاميين على الصحيح.(6/68)
2916 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «السنة أن لا يقتل حر بعبد» . رواه أحمد، وهو منصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2917 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل حر بعبد» رواه الدارقطني.
2918 - وروى أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانا لا يقتلان الحر بالعبد، ولأن القصاص لا يجري بينهما في الأطراف، فكذلك في النفس، كالأب مع ابنه، وبهذا يتخصص (النفس بالنفس) «العمد قود» «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ونحوه.
2919 - وما في السنن من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه» وفي رواية:(6/69)
«ومن خصى عبده خصيناه» محمول على من قتل من كان عبده، أراد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم أن يبين أن إنعامه بالعتق لا يمنع القصاص، جمعا بين الأدلة ولأن في الحديث: «ومن جدع عبده جدعناه» وقد نقل الإجماع أن ذلك لا يجب.
وعموم كلام الخرقي يقتضي أن الحر لا يقتل بالعبد، وإن كان الحر ذميا، وهو كذلك كما سيأتي، ويستثنى من عموم كلامه إذا قتله أو جرحه وهو رقيق، ثم أعتق، وإذا قتله في المحاربة على رواية، ومفهوم كلامه أن الحر يقتل بالحر، وهو كذلك بلا ريب، وأن العبد يقتل بالعبد، وهو المذهب بلا ريب، لعموم قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ونقل (عنه) جماعة القصاص بينهم إذا استوت قيمتهم، مراعاة لجانب المالية، مع إعمال القصاص في الجملة، قال في المغني: وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر يعني انتفاء القصاص، وكذلك ذكر أبو البركات(6/70)
الرواية، ويستثنى من عموم المفهوم المكاتب لا يقتل بعبده.
قال: وإذا قتل الكافر العبد عمدا فعليه قيمته، ويقتل لنقض العهد.
ش: أي أن الكافر لا يقتل بالعبد المسلم، لما تقدم من أن الحر لا يقتل بالعبد، وهو يشمل المسلم والكافر، وإذا انتفى القصاص وجبت الدية، ودية العبد قيمته كما سيأتي، ويقتل الكافر لنقضه العهد، إذ مما ينتقض به عهد الكافر قتل المسلم، هذا هو المذهب المنصوص.
2920 - لما روي أن ذميا كان يسوق حمارا بامرأة مسلمة، فنخسه فرماها، ثم أراد إكراهها على الزنا، فرفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: ما على هذا صالحناهم، فقتله وصلبه.
2921 - وروي في شروط عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى عبد الرحمن بن غنم أن ألحق بالشروط: من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده. وقيل (عنه رواية أخرى) لا ينتقض العهد بذلك،(6/71)
مخرجة مما إذا قذف مسلما، قال أبو البركات: والأصح التفرقة، وعلى هذه الرواية يؤدب بما يراه ولي الأمر.
[جناية الصبي والمجنون والسكران]
قال: والطفل والزائل العقل لا يقتلان بأحد.
ش: لعدم جريان قلم التكليف عليهما، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» .
2922 - وقد روى الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أن مروان كتب إلى معاوية بن أبي سفيان أنه أتي إليه بمجنون قد قتل رجلا، فكتب إليه معاوية بن أبي سفيان أن اعقله ولا تقد منه، فإنه ليس على مجنون قود، وقد شمل كلام الخرقي السكران، ومن شرب البنج ونحوه، وقد تقدم الكلام على ذلك في الطلاق.
2923 - وفي الموطأ أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلغه أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية أنه أتي بسكران قد قتل فكتب إليه أن اقتله.
[القصاص بين الوالد وولده]
قال: ولا يقتل والد بولده.
2924 - ش: لما روى حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:(6/72)
«سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يقاد الوالد بالولد» رواه أحمد وابن ماجه، والترمذي وهذا لفظه، وقال: وقد روي عن عمرو بن شعيب مرسلا، وروى البيهقي نحوه من رواية ابن عجلان عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وصحح إسناده، وقال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه.
2925 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بالولد» .
2926 - وعن سراقة بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه رواهما الترمذي، وفي الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أنت ومالك(6/73)
لأبيك» وهذه الإضافة إن لم تثبت حقيقة الملكية فهي شبهة تدرأ القصاص، ولأن الأب سبب إيجاده، فلا يناسب أن يكون الابن سببا في إعدامه.
قال: وإن سفل.
ش: لا يقتل والد بولده وإن سفل الولد، لأنه ولد، ومن علا والد، فيدخل فيما تقدم، قال سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] دخل فيه ولد الولد، وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] .
قال: والأم والأب في ذلك سواء.
ش: لأنها أحق بالبر من الأب.
2927 - بدليل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رجل: يا رسول الله، أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» متفق عليه، ولمسلم في رواية: من أبر. وإذا كانت أحق بالبر اندرأ عنها القصاص(6/74)
بطريق الأولى، وحكى أبو بكر وأبو محمد عن أحمد قولا بوجوب القصاص على الأم لا الأب، وأخذه أبو بكر من رواية حرب في امرأة قتلت ولدها، قال أحمد: أما الرجل إذا قتل ولده فقد بلغنا أنه لا يقتل، ولم يبلغنا في المرأة شيء، ومنع ذلك القاضي، وقال: هذا نقل للتوقف، لا لوجوب القصاص، فالأم لا تقتل رواية واحدة، وأخذه أبو محمد من قول أحمد في رواية مهنا في أم ولد قتلت سيدها عمدا: تقتل. قال: من يقتلها؟ قال: ولدها. وهذا إنما يدل على أن القصاص لا يسقط بانتقاله إلى الولد، لا أن القصاص يجب بقتل الولد، ولذلك حكى أبو البركات الرواية، ولم يلتفت إلى حكايتها في وجوب القود بقتل الولد.
قال: ويقتل الولد بقتل كل واحد منهما.
ش: هذا المشهور، والمختار للأصحاب، من الروايتين، لظواهر الآي، والأخبار السالمة عن معارض، ولحديث سراقة المتقدم، ولأنه إذا قتل بالأجنبي فبهما أولى، لعظم حرمتهما، ونقل حنبل: لا يقتل ولد بوالده، ونحوه نقل مهنا، لأنه لا تقبل شهادته له بحق النسب، فلم يقتل به كالأب مع ابنه.
(تنبيه) : اختلف في الجد من قبل الأم يقتل ابن ابنته، وابن البنت يقتل جده لأمه، هل حكم ذلك حكم الجد من قبل(6/75)
الأب، وحكم الابن من الصلب، أو لا، فيجري القصاص بينهما بلا ريب؟ على وجهين، وكلام الخرقي محتمل.
[قتل الجماعة بالواحد]
قال: وتقتل الجماعة بالواحد.
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار من الروايتين.
2928 - لما في الموطأ عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غيلة، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. وفي البخاري نحوه.
2929 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قتل ثلاثة برجل، ولأن فيه سدا للذريعة، وحسما للمادة، وتحقيقا لحكمة الردع والزجر التي فيها حياتنا، ونقل حنبل: لا تقتل الجماعة بواحد، فذكر له حديث عمر فقال: ذلك في أول الإسلام، وفي لفظ عنه: هذا تغليظ من عمر. وحسن هذا ابن عقيل في فصوله. وذلك لظاهر قول الله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] .
2930 - ويروى عن معاذ أنه خالف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال: لا(6/76)
تؤخذ نفسان بنفس. واختلف عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فعلى هذا الواجب دية واحدة بين القاتلين، وعلى الأولى هل تجب عليهم دية لأنها بدل ما أتلفوه، وفارق القصاص، لأنه إنما وجب سدا للذريعة، أو ديات، وهو الذي ذكره أبو بكر، وصححه الشيرازي، إذ كل واحد كالمنفرد بالقتل، بدليل ما لو عفا عن بعضهم، لم يتجاوزه العفو.
(تنبيه) : شرط قتل الجماعة بالواحد أن يكون فعل كل واحد منهم صالحا للقتل به، «والغيلة» بكسر الغين القتل خديعة ومكرا، من غير أن يعلم أنه يراد بذلك.
قال: وإذا قطعوا يدًا قطعت نظيرتها من كل واحد منهم.
ش: لما ذكر أن الجماعة تقتل بالواحد، ذكر أيضا أن الأطراف يؤخذ منها الطرف الواحد بأكثر منه، وهذا هو المذهب، وذلك لما تقدم من سد للذريعة، ولأنه أحد نوعي القصاص، فأخذ فيه الجماعة بالواحد كالأنفس.
2931 - وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن شاهدين شهدا عنده بالسرقة، فقطع يده، ثم جاءا بآخر فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا في الأول، فرد شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية الأول، وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما. رواه(6/77)
الأثرم بسنده عن الشعبي، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذكره الإمام أحمد في رواية الميموني (وعن أحمد) رواية أخرى لا تقطع الأطراف بطرف واحد، كما لا تقتل الجماعة بالواحد بل أولى، إذ النفس أشرف من الطرف، فلا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها.
وقول الخرقي: قطعت نظيرتها، أي إذا كانت يمينا قطعنا من كل واحد منهم اليمين، وكذلك إذا كانت يسارا قطعنا من كل واحد اليسار، ولا تؤخذ يسار بيمين، ولا يمين بيسار، لعدم المماثلة المعتبرة شرعا، وشرط وجوب القصاص على الجماعة في الطرف أن يشتركوا في ذهابه، على وجه لا يتميز فعل أحدهم من فعل صاحبه، كأن يشهدوا عليه بما يوجب قطع طرفه، ثم يرجعوا ويقولوا تعمدنا ذلك، أو يكرهوا إنسانا على قطع طرف فيقطعون مع المكره، أو يلقوا صخرة على إنسان فتقطع طرفه، أو يضعوا حديدة على مفصل، ويتحاملوا جميعا حتى تبين العضو، ونحو ذلك، فإن قطع كل واحد من جانب لم يجب القصاص، لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد، ولم يشارك في قطع جميعها.
[اشتراك الأب وغيره في القتل العمد]
قال: وإذا قتل الأب وغيره عمدا قتل من سوى الأب.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمقطوع به عند عامة الأصحاب، لأن القتل تمحض عمدا عدوانا، وإنما سقط عن(6/78)
الأب لمعنى قام به، فلا يتعدى إلى غيره، ولأن هذا القتل أعظم إثما وأكبر جرما.
2932 - «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن أعظم الذنب قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك، ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» فإذا وجب القصاص في غير هذا القتل ففيه بطريق الأولى والأحرى، وسقوطه عن الأب لما تقدم، لا لقصور في السبب المقتضي، (والرواية الثانية) لا يجب القصاص على غير الأب، كما لم يجب على الأب، إذ الزهوق وجد منهما، فلم يتمحض القتل موجبا للقصاص، وهذا ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه، قال: إذا اجتمع في القود من يقاد ومن لا يقاد فلا قود.
[اشترك الصبي والمجنون والبالغ في القتل]
قال: وإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ، لم يقتل واحد منهم.
ش: هذا أيضا هو المشهور من الروايتين، والمختار لجمهور الأصحاب، إذ عمد الصبي والمجنون في حكم الخطأ، لعدم اعتبار قصدهما شرعا، وإذًا القتل لم يتمحض عمدا عدوانا، فلم يوجب القصاص، كما لو كانا خاطئين وكقتل شبه العمد، (ونقل ابن منصور عن أحمد) القصاص على البالغ دونهما، وهو اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي، وظاهر ما في التنبيه على ما تقدم انتفاء القود، لأن فعله لو(6/79)
انفرد لأوجب فكذلك إذا وجد مع غيره إذ السقوط عن الغير لمعنى اختص به.
قال: وكان على العاقل ثلث الدية في ماله، وعلى عاقلة كل واحد من الصبي والمجنون ثلث الدية، وعتق رقبتين في أموالهما، لأن عمدهما خطأ.
ش: أما وجوب الدية عليهم أثلاثا فلأن ذهاب النفس حصل من فعلهم، والنفس فيها دية، وهم ثلاثة، فكانت الدية عليهم أثلاثا، ولأن الدية بدل المحل المتلف، بدليل اختلافها باختلافه، والمحل واحد، فديته واحدة، وكذلك الحكم في المسألة السابقة، إذا عدل الولي إلى طلب المال، يجب على شريك الأب بقسطه، كذا ذكره الشيخان، وقد يقال: يجب على شريك الأب جميع الدية، بناء على المذهب، من أنه يقتل، وعلى رواية أن الجماعة إذا قتلوا واحدا وجبت عليهم ديات، انتهى. وأما كون ما يلزم العاقل يكون في ماله، فلأن فعله عمد، والعاقلة لا تحمل عمدا، وأما كون ما يلزم الصبي والمجنون يكون على عاقلتهما، فلأن فعلهما في حكم الخطأ، والخطأ والحال هذه تحمله العاقلة، فكذلك ما في حكمه.
وقد شمل كلام الخرقي الصبي العاقل وغيره، وهو كذلك على المشهور (وعن أحمد) رواية أخرى في الصبي العاقل أن(6/80)
عمده في ماله، نظرا إلى أن له قصدا صحيحا في الجملة، بدليل صحة صلاته، ونحو ذلك، وسقوط القصاص عنه كان لعدم جريان القلم الخطابي عليه، انتظار تكامل عقله.
وأما كون على الصبي والمجنون عتق رقبتين في أموالهما، فلأن الله سبحانه جعل في قتل الخطأ الدية والكفارة، وهذا القتل جار مجرى الخطأ، فأعطي حكمه، وكان مقتضى قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» أن ذلك على الخاطئ أو من بمعناه، لكن قام الدليل أن الدية في ذلك على العاقلة فيبقى فيما عداه على مقتضى ما تقدم، وهذا أيضا هو المشهور عن أحمد، بناء على أن على كل واحد من المشتركين كفارة (وعن أحمد) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة، فعلى هذه يكون على الصبي والمجنون ثلثي رقبة، ونبه الخرقي بوجوب الكفارة على الصبي والمجنون بوجوبها على البالغ، وقوله: لأن عمدهما خطأ، تعليل لإسقاط القصاص في أصل المسألة، وفي أن ما لزمهما يكون على عاقلتهما، وفي لزوم الكفارة لهما.
[القصاص بين الذكر والأنثى]
قال: ويقتل الذكر بالأنثى.
ش: لا نزاع في ذلك، لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] .(6/81)
2933 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ذكر منها: «النفس بالنفس» ولحديث اليهودي الذي قتل الجارية، فقتله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها وقد تقدم.
2934 - وفي كتاب عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، «ويقتل الذكر بالأنثى» رواه مالك والنسائي؛ وإذا قتل الذكر بالأنثى فلا شيء(6/82)
لورثته على المذهب بلا ريب، اعتمادا على ظاهر الآية والحديث، ونقل إبراهيم بن هانئ عن أحمد: يقتل ويعطى ورثته نصف الدية.
2935 - وروى ذلك سعيد في سننه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والظاهر أنه مستند أحمد.
قال: والأنثى بالذكر.
ش: لا خلاف في هذا أيضا لا في القصاص ولا في الدية، إذ هو أعلى منها، أشبه العبد يقتل بالحر.
قال: ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح.
ش: يعني من جرى بينهما في النفس قصاص، جرى بينهما في الجروح، قياسا للجروح على النفس، فيقتص للحر المسلم والعبد، والذمي من مثلهم، ويقتص للذكر من الأنثى، وبالعكس، ويقتص من الناقص للكامل، كالكافر بالمسلم، والعبد بالحر، ولا يقتص من مسلم لكافر، ولا من حر لعبد، ونحو ذلك كما في الأنفس سواء، ولهذه المسألة تتمة تأتي إن شاء الله تعالى.(6/83)
قال: وإذا قتله رجلان أحدهما مخطئ، والآخر متعمد، فلا قود على واحد منهما.
ش: قد تقدم هذا فيما إذا قتل بالغ وصبي ومجنون، وحكينا الخلاف، وأن المذهب ما قاله الخرقي، وكذلك الخلاف هنا والمسألة واحدة، وكان حق الخرقي أن يقدم هذه المسألة.
قال: وعلى العامد نصف الدية في ماله، وعلى عاقلة المخطئ نصفها، وعليه في ماله عتق رقبة مؤمنة.
ش: قد تقدم مثل هذا سواء في مسألة البالغ والصبي والمجنون، ونزيد هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن العامد لا كفارة عليه فيه، وسيصرح بهذه المسألة فيما بعد، والله أعلم.
[دية العبد]
قال: ودية العبد قيمته وإن بلغت ديات.
ش: هذا هو المشهور والمختار للأصحاب، من الروايتين، نظرا للمالية، مع قطع النظر عما سواها، وبيان ذلك أنه مال متقوم، فضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت، كغيره من الأموال (والرواية الثانية) أنه لا يبلغ به دية الحر، نظرا للمالية والآدمية معا، وبيان ذلك أنه ضمان آدمي، فلم يزد على دية الحر كالحر، وذلك أن الله تعالى لما أوجب في الحر دية مقدرة، وهو أشرف من العبد، كان ذلك تنبيها على أن العبد لا يزاد عليها، بل ينبغي أن ينقص عنها لنقصه عنه قطعا، ولهذا الخلاف التفات إلى أن العبد هل يملك أو لا يملك إذ منشأ الخلاف أن له شبها بالبهائم وبالأحرار، والله أعلم.(6/84)
(تنبيه) : لم يقدر أحمد النقص على هذه الرواية، فينبغي أن يكتفي بما يعد في العرف نقصا، والله أعلم.
[باب القود]
ش: القود القصاص، والقتل يقع على ثلاثة أضرب، (واجب) وهو قتل المحارب، والزاني المحصن، والمرتد، وتارك الصلاة بشرطه، وكذلك في الدفع عن حرمته، وعن نفسه في رواية، (ومباح) وهو القتل قصاصا أو دفعا عن النفس في رواية (ومحظور) وهو القتل عمدا بغير حق، وهو من الكبائر العظام، والجرائم التي تقرب من الشرك بالله المستعان، حتى إن العلماء اختلفوا في قبول توبة من فعل ذلك، على قولين هما روايتان عن الإمام، وإن كان المشهور عنه وعن غيره قبول ذلك تفضلا من الله وإحسانا، وبسط ذلك لا يليق بهذا المكان.
قال: ولو شق بطنه فأخرج حشوته فقطعها، فأبانها منه، ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأول.(6/85)
ش: الحشوة بكسر الحاء وضمها الأمعاء، فإذا قطع حشوته وأبانها منه، أو فعل به فعلا لا تبقى الحياة معه، ولا حياة مستقرة فيه، فقد صيره في حكم الميت، فيعطى حكمه، وإذًا القاتل هو الأول، ولا شيء على الثاني من قصاص أو دية نعم عليه التعزير، لارتكابه المحرم.
قال: ولو شق بطنه ثم ضرب عنقه آخر، فالثاني هو القاتل، لأن الأول لا يعيش مثله، والثاني قد يعيش مثله.
ش: ضابط ذلك أن يفعل به فعلا يجوز بقاء الحياة معه، ثم يقتله آخر، فالثاني هو القاتل، لأنه المفوت للنفس جزما، قال أبو محمد: وكذلك الحكم إذا لم يجز بقاؤه مع الجناية، إلا أن فيه حياة مستقرة كخرق المعى وأم الدماغ.
2936 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما جرح سقوه لبنا فخرج، فعلم أنه ميت، فقيل له: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم، وجعل الخلافة في أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وعملوا به.
قال: وإذا قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه، قتل ولم تقطع يداه ولا رجلاه في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى قال: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل.
ش: الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد، واختيار الأكثرين الخرقي وأبي بكر، والقاضي في خلافه وفي روايتيه،(6/86)
والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل والشيرازي.
2937 - لما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النهبى والمثلة» ، رواه البخاري، والمثلة تشويه خلقة القتيل، كجدع أطرافه، وقطع مذاكيره، ونحو ذلك، وإذا فعل به مثل ما فعل فقد مثل به فيدخل في النهي.
2938 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجه، إلا أن أحمد قال: ليس إسناده بجيد، ولأن القصاص أحد بدلي النفس، فدخل في حكم النفس كالدية (والرواية(6/87)
الثانية) نقلها الأثرم وهي أوضح دليلا، لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ولحديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرض رأسه بالحجارة» ، متفق عليه، فرتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرض على اعترافه.
2939 - وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه» وهذه الأدلة أخص من حديث المثلة، قال أبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل؛ (فعلى هذه الرواية) متى اقتصر على ضرب عنقه فهو أفضل، وإن قطع ما قطعه الجاني أو بعضه، ثم عفا مجانا فله ذلك، فإن عفا إلى الدية لم يجز إذ جميع ما فعل بوليه لم يوجب إلا دية، فإن فعل فله ما بقي من الدية، فإن لم يبق شيء فلا شيء له، (وعلى الأولى) إن فعل به مثل ما فعل فقد أساء ولا شيء عليه، فإن(6/88)
قطع طرفا ثم عفا إلى الدية كان له تمامها، وإن قطع ما يوجب دية ثم عفا لها لم يكن له شيء، وإن قطع ما يجب به أكثر من دية ثم عفا، فهل يلزمه ما زاد على الدية، أو لا؟ فيه احتمالان، وكذلك لو تساوى العضوان في الدية، واختلفا في المحل، كأن قطع يده فقطع الولي رجله ثم قتله، فهل يلزمه ضمان الرجل لعدم استحقاقها له بوجه، أو لا يلزمه لتساويهما في الضمان؟ فيه احتمالان أيضا.
ويستثنى على هذه الرواية إذا قتله بمحرم كتجريعه الخمر، واللواط، والسحر، وفي النار خلاف.
وقول الخرقي: قبل أن تندمل جراحه، احترازا مما إذا اندملت كما سيأتي، وقوله: قتل، أي بالسيف، لأنه الآلة التي يشرع القصاص بها.
قال: فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة.
ش: لا خلاف في هذا نعلمه في المذهب، لأنه قاتل قبل استقرار الجرح، فدخل أرش الجراحة في أرش النفس، كما لو حصل ذلك بالسراية.
قال: ولو كانت الجراح برأت قبل قتله، فعلى المعفو عنه ثلاث ديات، إلا أن يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين.
ش: إذا قطع يديه ورجليه وبرأ ذلك ثم قتله، فقد استقر حكم القطع، فللولي أن يقتص من الجميع بلا نزاع، وله أن يعفو عنه ويأخذ ثلاث ديات، دية لنفسه، ودية للرجلين، ودية(6/89)
لليدين، وله أن يقتص منه في النفس، ويأخذ منه دية الأطراف، وله أن يقتص منه في الأطراف ويأخذ دية النفس، وله أن يقتص في بعض الأطراف، ويأخذ دية بعضها، إذ حكم القطع استقر، فلا يتغير حكمه بالقتل بعد ذلك، والله أعلم.
قال: ولو رمى حر مسلم عبدا كافرا، فلم يقع به السهم حتى أسلم وعتق، فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية.
ش: لا نزاع في وجوب دية حر مسلم إذا مات من الرمية، لأن الإتلاف حصل لنفس حر مسلم، واختلف في وجوب القود، فنفاه الخرقي، وتبعه القاضي، وابن حامد، فيما حكاه تلميذه، إذ الرمي جزء من الجناية، ولا ريب في انتفاء المكافأة حال الرمي، وإذا عدمت المكافأة في بعض الجناية، عدمت في كلها، إذ الكل ينتفي بانتفاء بعضه.
وأثبته أبو بكر، وابن حامد فيما حكاه ابن عقيل في التذكرة، وهو ظاهر كلام أحمد، لقوله في رجل أرسل سهما على زيد، فأصاب عمرا: هو عمد، عليه القود؛ فاعتبر الحظر في ابتداء(6/90)
الرمي، وذلك لأنه قتل مكافئا له ظلما عمدا، فوجب القصاص، كما لو كان حال الرمي كذلك، يحققه لو رمى مسلما فلم يصبه السهم حتى ارتد ومات، فإنه لا قصاص عليه، وملخص ما تقدم أن سبب السبب - وهو الرمي - هل حكمه حكم السبب الذي هو الإصابة أم لا؟ يخرج على قولين، ولهذا شبه بما إذا تعددت الأسباب كما يذكر في مسألة التجاذب، هل يناط الحكم بالجميع أو بآخرها؟ على قولين، فترتب الحكم على الجميع شبه قول أبي بكر، وتعلق الحكم بالآخر، وهو المشهور، شبه قول الخرقي.
قال: وإذا قتل رجل اثنين، واحدا بعد واحد، فاتفق أولياء الجميع على القود، أقيد لهما، وكذلك إن أراد أولياء الأول القود، والثاني الدية أقيد للأول، وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله، وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية، والثاني القود.
ش: إذا قتل واحد جماعة فرضي أولياؤهم بأخذه بجميعهم، أخذ بهم، لرضاهم بدون حقهم، أشبه ما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء، وإن طلب أحدهم القصاص، والآخر الدية، فلهم ذلك، سواء كان من رضي بالقود حقه متقدما أو متأخرا.(6/91)
2940 - لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» وإن تشاحوا فيمن يقتص منه منهم على الكمال، فإن كانت حقوقهم تعلقت به في حال واحدة، قدم أحدهم بالقرعة، وإن اختلف وقت التعلق فهل يقدم أحدهم بالقرعة، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا لتساوي حقوقهم بالنسبة إلى البدل والمال، أو أسبقهم، لتميزه بالسبق، وبه جزم أبو محمد؟ فيه وجهان.
[شروط القصاص في الجراح]
قال: وإذا جرحه جرحا يمكن الاقتصاص منه بلا حيف اقتص منه.
ش: الأصل في جريان القصاص في الجروح في الجملة الإجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] .
2941 - وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص، فقال أنس بن النضر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتكسر ثنية الربيع، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أنس كتاب الله القصاص» فرضي القوم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» رواه البخاري، وفي رواية مسلم أن أخت الربيع جرحت إنسانا، وأن السائل أم الربيع، ولعلهما واقعتان.
إذا تقرر هذا فيشترط لجريان القصاص في الجروح ثلاثة(6/92)
شروط (أحدها) إمكان القصاص من غير حيف، ككل جرح ينتهي إلى عظم، كما في الموضحة، لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ثم قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194] أي إذا اقتصصتم، وقال سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فأباح لنا سبحانه أن نفعل مثل ما فعل بنا، فإذا لم يمكن الاستيفاء إلا بحيف لم نفعل مثل ما فعل بنا، بل زدنا عليه، فلم نتق الله، كما في الجناية المبتدأة (الشرط الثاني) أن يكون الجارح ممن يؤخذ بالمجروح لو قتله، وذلك بأن يجرحه عمدا محضا، فلا قصاص في الخطأ إجماعا، وكذلك في شبه العمد على المذهب كالأنفس، كما لو ضربه بحصاة لا يوضح مثلها، فأوضحت، وخالف أبو بكر وتبعه الشيرازي، فأوجب القصاص في الجروح في شبه العمد، كأن يضربه بشيء لا يقطع الطرف فيتلفه، لعموم (والجروح قصاص) وهو منتقض بالخطأ، وله أن يجيب بأنه خرج بالإجماع، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم (الشرط الثالث) التكافؤ بين الجارح والمجروح، كما تقدم في قول الخرقي: ومن كان بينهما في النفس قصاص، فهو بينهما في الجراح. ومقتضى كلام الشيخ أبي محمد أن قول الخرقي: ومن كان بينهما قصاص في النفس، فهو بينهما في الجراح. وقوله بعد: إذا كان الجاني(6/93)
ممن يقاد من المجني عليه لو قتله؛ معناهما واحد، وقد يحمل أحدهما على التكافؤ، والآخر على اشتراط العمدية، دفعا للتكرار، وحذارا من فوات شرط.
واعلم أن ظاهر كلام ابن حمدان في الرعاية الصغرى - تبعا لأبي محمد في المقنع - أن المشترط لوجوب القصاص أمن الحيف، وهو أخص من إمكان الاستيفاء بلا حيف، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما اشترط إمكان الاستيفاء، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني، وأبو البركات، وجعل أبو البركات أمن الحيف شرطا لجواز الاستيفاء وهو التحقيق، وعليه لو أقدم واستوفى ولم يتعد وقع الموقع فلا شيء عليه، وكذا صرح أبو البركات، وعلى مقتضى قول ابن حمدان، وما في المقنع، يكون جناية مبتدأة، يترتب عليها مقتضاها.
قال: وكذلك إن قطع منه طرفا من مفصل، قطع منه مثل ذلك المفصل، إذا كان الجاني ممن يقاد من المجني عليه لو قتله.
ش: لا نزاع في جريان القصاص في الأطراف، وقد دل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] إلى آخر الآية، ويشترط لذلك ما تقدم، وإمكان الاستيفاء هنا من غير حيف، (بأن يكون) القطع من مفصل، كالكوع والكعب ونحو ذلك، ويلتحق بذلك ما له حد ينتهي إليه، كمارن الأنف وهو ما لان(6/94)
منه، فإن كان من غير مفصل، كنصف الذراع، ونصف الساق ونحو ذلك، فلا قصاص من ذلك الموضع بلا ريب، حذارا من الحيف الممنوع منه شرعا.
وهل يقتص من المفصل الذي دونه، كالكوع والكعب، لرضاه بدون حقه، أشبه ما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء، أو تتعين الدية، وهو المنصوص، واختيار أبي بكر، وحكاه في الهداية عن الأصحاب، حذارا من أن لا يفعل به مثل ما فعل به.
2942 - ولما «روي أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف، فقطعها من غير مفصل، فاستعدى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر له بالدية، فقال: إني أريد القصاص؛ فقال: «خذ الدية بارك الله لك فيها» ولم يقض له بقصاص» ، رواه ابن ماجه؟ فيه قولان، فعلى القول الأول هل يكون للمجني عليه أرش الباقي؟ فيه وجهان، أشهرهما لا، انتهى. (وبأن يكون) الطرفان متماثلين، وذلك في شيئين (في الاسم الخاص) فلا تؤخذ يسار بيمين، ولا يمين بيسار، ولا عليا من الشفة والأجفان بسفلى، ونحو ذلك. (وفي الصحة والكمال) فلا تؤخذ صحيحة بشلاء، ولا كاملة الأصابع بناقصتها، ونحو ذلك، لانتفاء المماثلة المعتبرة(6/95)
شرعا، وإذًا حصل الحيف، ولا يشترط التماثل في الرقة والغلظ، والصغر والكبر، ونحو ذلك، إذ اعتبار ذلك يفضي إلى إسقاط المماثلة رأسا.
[لا قصاص في المأمومة ولا الجائفة]
قال: وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص.
ش: لما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من شرط وجوب القصاص في الجروح إمكان الاستيفاء من غير حيف، ذكر جرحا في الرأس وهو المأمومة، وجرحا في الجوف وهو الجائفة، لا يمكن الاستيفاء فيهما إلا بحيف، أو لا يؤمن في الاستيفاء فيهما الحيف.
2943 - وقد روي عن العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» رواه ابن ماجه.
2944 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قصاص في المأمومة.
2945 - وعن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه اقتص من المأمومة، فأنكر الناس عليه، وقالوا: ما سمعنا أحدا اقتص منها قبل ابن الزبير، انتهى. والمأمومة هي التي تصل إلى جلدة الدماغ،(6/96)
وتسمى تلك الجلدة أم الدماغ، لأنها تجمعه، فالشجة الواصلة إليها تسمى مأمومة، وآمة لوصولها إلى أم الدماغ، والجائفة هي التي تصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو نحر، أو غير ذلك، والله أعلم.
قال: وتقطع الأذن بالأذن.
ش: هذا إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} [المائدة: 45] وكلام الخرقي يشمل كل أذن بكل أذن، ويستثنى من ذلك أذن السميع، هل تؤخذ بأذن الأصم؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها، لنقص أذن الأصم عنها، فأشبه اليد الصحيحة، لا تؤخذ بالشلاء (والثاني) وهو اختيار القاضي، ومقتضى كلام الخرقي وبه قطع أبو محمد في الكافي والمغني - تؤخذ بها منعا للنقص، إذ السمع في الرأس لا في الأذن انتهى، والأذن الصحيحة هل تؤخذ بالشلاء؟ فيه أيضا وجهان (أحدهما) لا تؤخذ لنقص الشلاء (والثاني) - وهو اختيار القاضي أيضا - تؤخذ بها، إذ المقصود من الأذن جمع الصوت والجمال، وهذا حاصل فيها، فلا نقص، والأذن التامة بالمخرومة، وفيها أيضا وجهان، تعليلهما ما تقدم، وأبو محمد والقاضي يختاران عدم الأخذ بخلاف ثم، لأن الخرم نقص جزء ويعد عيبا، أما المثقوبة هل تؤخذ بها الصحيحة؟ فرق أبو محمد بين أن يكون الثقب في محله كموضع القرط، أو في غير محله، ففي محله تؤخذ بها لعدم العيب، وفي غير محله هو كالخرم، لا تؤخذ بها عنده.(6/97)
قال: والأنف بالأنف.
ش: هذا أيضا إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى؛ {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} [المائدة: 45] وكلام الخرقي يشمل كل أنف بكل أنف، ويستثنى من ذلك الأنف الشام، هل يؤخذ بالأخشم، وهو الذي لا شم فيه؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يؤخذ نظرا لنقص الأخشم عنه (والثاني) - وهو مقتضى كلام الخرقي، واختيار القاضي، وبه جزم أبو محمد في الكافي والمغني، يؤخذ به، لأن عدم الشم لعلة في الدماغ، لا لنقص في الأنف، والأنف الصحيح هل يؤخذ بالأشل؟ فيه أيضا وجهان، تعليلهما ما تقدم في الأذن الصحيحة بالشلاء، والمختار للقاضي أيضا الأخذ، والأنف التام هل يؤخذ بالمخروم؟ فيه أيضا وجهان، تعليلهما والمختار فيهما ما تقدم في الأذن، وينبغي أن يجري الوجهان أيضا في الثقب مطلقا، والله سبحانه أعلم.
قال: والذكر بالذكر.
ش: لا نعلم في ذلك خلافا، وقد دل على ذلك قوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقد شمل كلام الخرقي كل ذكر بكل ذكر، ويستثنى من ذلك ذكر الخصي والعنين، هل يؤخذ بهما الذكر الصحيح؟ على ثلاث روايات (إحداهن) - وهو مقتضى كلام الخرقي - يؤخذ بهما، لعموم {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ودعوى النقص ممنوعة، إذ عدم الإنزال في الخصي(6/98)
لذهاب الخصية، والعنة لعلة في الظهر (والثانية) وهي اختيار أبي بكر، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم - لا يؤخذ بهما العنين، إذ العنين لا يطأ ولا ينزل، والخصي لا يولد له ولا ينزل، فأشبها ذكر الأشل (والثالثة) يؤخذ بذكر العنين، لأن ذلك مرض، والصحيح يؤخذ بالمريض، دون ذكر الخصي لأنه مأيوس من إنزاله المني، فهو كالأشل، وهذا اختيار ابن حامد، وهذا الخلاف - قال القاضي في الجامع -: مبني على اختلاف الرواية في دية ذلك، والله أعلم.
قال: والأنثيان بالأنثيين.
ش: لعموم (والجروح قصاص) والله أعلم.
قال: وتقلع العين بالعين.
ش: هذا إجماع، وقد شهد له قوله سبحانه: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] وشمل كلام الخرقي كل عين بكل عين، ويستثنى من ذلك العين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة، وعين الأعور إذا قلع عين صحيح، فإن عينه لا تقلع بها، حذارا من ذهاب جميع بصره بنصف بصر.
2946 - واعتمادا على أن ذلك يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفيه احتمال أن عينه تقلع، ويعطى نصف الدية(6/99)
ولعلها من رواية قتل الذكر بالأنثى، وإعطاء ورثته نصف الدية، والله أعلم.
قال: والسن بالسن.
ش: هذا أيضا إجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] وحديث الربيع وقد تقدم، والله أعلم.
قال: فإن كسر بعضها، برد من سن الجاني مثله.
ش: لظاهر «حديث الربيع، أنها كسرت ثنية جارية فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص» ، ويكون القصاص بالمبرد ليأمن من أخذ زيادة، بخلاف الكسر، فإنه لا تؤمن معه الزيادة، ويبرد من السن مثل ما ذهب من سن المجني عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وتعتبر المثلية بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف، والربع بالربع، ونحو ذلك، لا بالمساحة، حذارا من أخذ جميع السن بالبعض، إذا كانت سن الجاني صغيرة، وسن المجني عليه كبيرة، والله أعلم.
قال: ولا تقطع يمين بيسار، ولا يسار بيمين.
ش: لفوات المماثلة المعتبرة، لا يقال ينبغي أن تؤخذ اليسار باليمين، لنقص اليسار عن اليمين، لأنا نقول منافعهما تختلف، فأشبها الرجل مع اليد، والله أعلم.(6/100)
قال: وإذا كان القاطع سالم الطرف، والمقطوع شلاء فلا قود.
ش: لانتفاء المماثلة المعتبرة شرعا، إذ لا نفع فيها إلا الجمال، فلا تؤخذ بها ما كملت منفعته، كالعين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة، ومراد الخرقي بالطرف يجوز أن يكون اليدان والرجلان، ويجوز أن يريد ما هو أعم من هذا، فيدخل فيه الأنف الأشل، والأذن الشلاء، ويكون ظاهر كلام الخرقي أحد الوجهين المتقدمين، والله أعلم.
قال: وإذا كان القاطع أشل، والمقطوعة سالمة، فشاء المظلوم أخذها فله ذلك، ولا شيء له غيرها، وإن شاء عفا وأخذ دية يده.
ش: يخير صاحب اليد الصحيحة التي قطعت، بين أن يعفو عن الجاني، ويأخذ دية يده بلا ريب، وبين أن يأخذ الشلاء بيده الصحيحة لرضاه بدون حقه، أشبه ما لو رضي المسلم بالقصاص من الذمي، والحر من العبد، ويشترط لذلك ما تقدم من إمكان الاستيفاء من غير حيف، بأن يقول أهل الخبرة: إنا نأمن من قطعها التلف، أما إن قالوا إنه إذا قطعها لم يأمن أن لا تستد العروق، ويدخل الهواء إلى البدن فيفسده فلا قصاص، حذارا من الحيف الممنوع منه شرعا، وإذا أخذت(6/101)
الشلاء بالصحيحة بشرطه فلا شيء للمقتص على المذهب، لئلا يجمع في العضو الواحد بين القصاص والدية، واختار أبو الخطاب في هدايته أن له الأرش، وقد بقي من تقاسيم مسألة اليدين إذا كانتا صحيحتين وهو واضح، وإذا كانتا أشلتين، والقصاص جار فيهما بشرط أمن الحيف، والله أعلم.
قال: وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل، أو غائب لم يقتل حتى يقدم الغائب أو يبلغ الطفل.
ش: هذا هو المذهب المنصوص بلا ريب، حتى إن أبا محمد في الكافي لم يذكر غيرها.
2947 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» أضاف القتل إلى اختيار جميع الأهل، والصغير والمجنون من جملتهم، فإذا لم يوجد منهم الاختيار لم يجز القتل، وحكى ابن حمدان في رعايته الصغرى رواية بأن من حضر له الاستيفاء وعممها، وخصها الشيخان ومن رأينا كلامه بالصبي والمجنون، وجعلوا الغائب أصلا قاسوا عليه المذهب، قال القاضي وأتباعه: قود ثابت لجماعة معينين، لم يتحتم استيفاؤه، فلم يجز لبعضهم أن(6/102)
ينفرد باستيفائه، أصله إذا كان بعضهم غائبا؛ واحترزوا (بمعينين) عما إذا لم يكن له وارث، فإن للإمام الاستيفاء، مع أن القود للمسلمين، وفيهم الصغير والمجنون، (ولم يتحتم استيفاؤه) عن قطاع الطريق إذا قتلوا من في ورثته صغير أو مجنون، فإنهم يقتلون من غير انتظار.
واعلم أن أصل هذه الرواية أخذها القاضي من قول أحمد في رواية ابن منصور - في يتيم قطعت يده - فوليه بالخيار، إن شاء الدية، وإن شاء القود، أرأيت إن مات قبل أن يندمل، ووجه الأخذ أن أحمد جوز للولي القصاص، ويلزم منه سقوط تشفي الصغير، فكذلك هنا، إذ غايته سقوط التشفي، والعجب أن القاضي لم يذكر هذه الرواية في محلها، بل خرج ثم على معنى هنا، وبالجملة وجه هذه الرواية أن الصغير والمجنون في حكم المعدومين، ولأن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قتل ابن ملجم قصاصا، وفي الورثة صغار، فلم ينكر عليه، وأجيب بوجهين (أحدهما) أنه إنما قتله لكفره، لأنه قتل عليا كرم الله(6/103)
وجهه مستحلا لدمه، كما هو مذهب الخوارج، ومن استحل ذلك كفر، وقد قال خبيثهم عمران بن حطان قبحه الله في ذلك يمدح قاتله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
ولهذا كان أشهر الروايتين عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تكفيرهم (والوجه الثاني) وهو جواب أبي بكر أن عبد الرحمن بن ملجم شهر السلاح، وسعى في الأرض بالفساد، وحارب الله ورسوله، وإذًا يتحتم قتله فيكون كقاطع الطريق إذا قتل، والحسن هو الإمام، فقتله لذلك، ولذلك لم ينتظر الغائبين، وقد حكي الاتفاق على وجوب انتظارهم، ونقل عبد الله: إذا كان في الأولياء صبي أو مصاب لم يقتل حتى يشب الصغير، وإن كان(6/104)
مصابا يصيرون إلى الدية، قال القاضي: وظاهر هذا أنه أسقط القصاص رأسا في حق المجنون، وأثبته في حق الصغير، كما قال، وهو محمول على أن جنونه مطبق، لا يرجى زواله.
قال: ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص، لم يكن إلى القصاص سبيل، وإن كان العافي زوجا أو زوجة.
ش: (قد تضمن) كلام الخرقي صحة العفو عن القصاص، وهو إجماع ولله الحمد، بل هو أفضل، لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وقال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] .
2948 - «وقال أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع إليه شيء فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو» . رواه الخمسة إلا الترمذي.
2949 - وعن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –(6/105)
قال: «ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفا عليهن، لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله تعالى بها عزا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» رواه أحمد.
(وتضمن أيضا أن القصاص حق لجميع الورثة يرثه من يرث المال.
2950 - وذلك لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثوا منها إلا ما فضل من ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها» ، رواه الخمسة إلا الترمذي، ويتفرع على هذا أنه من عفا من الورثة عن القصاص سقط، إذ القتل عبارة عن زهوق الروح بآلة صالحة، وذلك لا يتبعض، فإذا أسقط بعض مستحقيه حقه منه سقط، لتعذر استيفائه.
2951 - وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كان امرأة» رواه(6/106)
النسائي، وأبو داود ولفظه: «الأولى فالأولى» .
وقوله: وإن كان العافي زوجة، تنصيص على مخالفة مذهب الغير، وذلك لما تقدم.
2952 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل قد قتل قتيلا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول - وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر عتق القتيل. رواه أبو داود (وقوله) : عن القصاص: يحترز به والله(6/107)
أعلم عما إذا عفا عن الدية، فإنه يكون مختارا للقود، ولم أعلم من صرح بذلك، وأظن ذلك وقع للقاضي في روايتيه، وقال: أومأ إليه أحمد في رواية الميموني (وقوله) : لم يكن إلى القصاص سبيل، أي طريق، ويفهم منه أن له إلى الدية سبيل، وهو كذلك، أما في حق من لم يعف فواضح، لتعذر القصاص عليه، وذلك يوجب تعين الدية له، وأما في حق من عفا فهو ينبني على أصل، وهو أن الواجب في قتل العمد أحد شيئين، القصاص أو الدية على المذهب، فعلى هذا إذا عفا عن القصاص ثبتت له الدية، ويأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك.
(تنبيه) : «المقتتلين» هنا أن يطلب أولياء القتيل القود، فيمتنع القتلة، فينشأ بينهم الحرب والقتال من أجل ذلك، فجعلهم مقتتلين بفتح التائين من أجل ذلك، يقال: اقتتل فهو مقتتل، غير أن هذا إنما يستعمل أكثره فيمن قتله الحرب قاله الخطابي. «وينحجزوا» أي ينكفوا عن القود، بعفو أحدهم ولو كان امرأة، «والأول فالأول» أي الأقرب فالأقرب.
قال: وإذا اشترك الجماعة في القتل فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم ذلك، وإن أحبوا أن يقتلوا البعض، ويعفوا عن البعض، ويأخذوا الدية من الباقين، كان لهم ذلك.
ش: إذا اشترك الجماعة في القتل فللأولياء أن يقتلوا الجميع، بناء على المذهب، من أن الجماعة تقتل بالواحد وقد تقدم، ولهم أن يقتلوا البعض، لأنهم إذا كان لهم قتل الجميع فقتل(6/108)
البعض بطريق الأولى، ويعفوا عن البعض، لأن من له قتل شخص، له العفو عنه كما تقدم، ولا يسقط القصاص عن البعض بالعفو عن البعض، لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر، كما لو قتل كل واحد رجلا، ويأخذوا الدية من البعض، لأن من ملك قتل شخص، ملك العفو عنه إلى الدية كما سيأتي، وماذا يأخذ منه، هل يأخذ منه دية كاملة، أو بقسطه من الدية، فلو كان القاتلون أربعة فعليه ربع الدية؟ فيه روايتان تقدمتا.
وقول الخرقي: ويأخذوا الدية، ظاهره وإن لم يرض الجاني، وهو يستدعي بيان أصل، وهو أن موجب العمد ما هو؟ عن أحمد ثلاث روايات (إحداهن) ، وهو المذهب عند الأصحاب وتقدمت الإشارة إليه موجبه أحد شيئين، القصاص أو الدية، لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أوجب سبحانه الاتباع بالمعروف بمجرد العفو، وهو يشمل ما إذا عفا مطلقا، وذلك فائدة أن الواجب أحد شيئين.
2953 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن الدية فيهم، فقال الله سبحانه لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية، مختصر، رواه(6/109)
البخاري وغيره، قال الزمخشري في قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] أهل التوراة كتب عليهم القصاص، وحرم العفو وأخذ الدية، وأهل الإنجيل العفو، وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمة بين الثلاث، القصاص والدية والعفو، ونحوه قال البغوي، إلا أنه قال: وأهل الإنجيل الدية.
2954 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى» متفق عليه.
2955 - وعن أبي شريح الخزاعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أصيب بدم أو خبل - والخبل الجراح، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، بين أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه» ثم تلا؛ {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] » رواه أحمد وأبو داود. وهذا نص (والرواية الثانية) موجب العمد القود عينا،(6/110)
وله العفو إلى الدية من غير رضا الجاني، فتكون الدية بدلا عن القصاص، اختارها ابن حامد، لظاهر قول الله تعالى؛ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] .
2956 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل عمدا فهو قود، ومن حال دونه فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» رواه أبو داود والنسائي. (والثالثة) موجب القود عينا، وليس له العفو على الدية بدون رضا الجاني، لأن هذا متلف يجب به البدل، فكان بدله معينا، كسائر أبدال المتلفات.
إذا تقرر هذا فكلام الخرقي جار على الرواية الأولى، إذ عليها إذا اختار الدية كانت له بلا ريب، وكذلك إذا عفا مطلقا، أما على الثانية فلا شيء عليه إذا عفا مطلقا، وإنما تجب له الدية إذا عفا عن القود إليها، كذا قال الشيخان وغيرهما، وشذ الشيرازي فقال: لا شيء له أيضا على هذه الرواية، وفي موضع(6/111)
آخر من المبهج أيضا ظاهر كلامه موافقة الجماعة، وعلى الثالثة لا يستحق العفو إلا برضا الجاني.
(تنبيه) : «يفدي» المراد هنا بالفدية الدية، بدليل أن في رواية أخرى: «إما أن يودى، وإما أن يقاد» . «والصرف» التوبة «والعدل» الفدية.
قال: وإذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به، فبذل القاتل أكثر من الدية على أن لا يقاد، فللأولياء قبول ذلك.
ش: إذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به، أي يأخذوا به القود، فبذل القاتل أكثر من الدية، على أنه لا يقاد بالمقتول، فللأولياء قبول ذلك، لأن الحق لهم، لا يعدوهم.
2957 - وفي الترمذي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم» وذلك لتشديد القتل، ولأبي البركات احتمال بالمنع من ذلك، وربما فهم من كلام الخرقي أن الأولياء لو رضوا بدون الدية كان لهم ذلك، وهو كذلك بلا ريب.
قال: وإذا قتله رجل وأمسكه آخر، قتل القاتل، وحبس(6/112)
الماسك حتى يموت.
ش: هذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم، والشيرازي، لظاهر قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] الآية، والقاتل اعتدى بالقتل فيقتل، والممسك اعتدى بالحبس إلى الموت فيحبس إلى أن يموت.
2958 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمسك الرجل، وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك» رواه الدارقطني.
2959 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجلين قتل أحدهما، وأمسك الآخر، فقتل الذي قتل، وقال للذي أمسك؛ أمسكته للموت، فأنا أحبسك في السجن حتى تموت. رواه الأثرم والشافعي في مسنده. ولا يعرف له مخالف في الصحابة (والرواية الثانية) يقتلان جميعا، لظاهر قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:(6/113)
لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، ولأن القتل وجد منهما، أحدهما بالسبب، والآخر بالمباشرة، أشبه ما لو باشراه، وأجيب عن قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المراد بقوله: لو تمالأ عليه لو تشاركوا، ثم هو معارض بقول علي، وشرط قتل الممسك قصد القتل بإمساكه، أما إن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه، ذكره أبو محمد، وكذلك ذكر القاضي أنه إذا أمسكه للعب أو الضرب فقتله القاتل أنه لا قود على الممسك، ذكره محل وفاق.
(تنبيه) : «أمسك ومسك» لغتان، والخرقي جمع بينهما فقال: وأمسكه آخر. وقال: وحبس الماسك حتى يموت. والماسك اسم فاعل من مسك، واسم فاعل: أمسك، ممسك.
قال: ومن أمر عبده أن يقتل، وكان العبد أعجميا، لا يعلم أن القتل محرم قتل السيد.
ش: الأعجمي هو الذي لا يفصح، وله حالتان، تارة يعلم أن القتل محرم وسيأتي وتارة لا يعلم، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما ذكر الأعجمي لأنه الذي لا يعلم غالبا، فالعجمة قرينة تصديقه، وهذا ما لم تقم قرينة تكذبه، كالناشئ في بلاد الإسلام، وبالجملة إذا أمر السيد من هذه صفته بالقتل فقتل، فإن السيد يقتل، لأن العبد والحال هذه كالآلة له، فإذًا السيد قد تسبب في قتله بما يقتله غالبا، فأشبه ما لو أنهشه حية أو كلبا ونحو ذلك، ولا يقتل العبد، لأن العبد والحال هذه معتقد الإباحة،(6/114)
وذلك شبهة تمنع القصاص، ولأن حكمة القصاص الردع والزجر، ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة، واختلف عن أحمد فيما يفعل به (فعنه) يؤدب ويترك، حذارا من إقدامه على ذلك مرة أخرى (وعنه) يحبس حتى يموت.
2960 - اعتمادا على أن هذا قول أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يستودع السجن.
قال: وإن كان العبد يعلم حظر القتل قتل العبد، وأدب السيد.
ش: إذا كان العبد يعلم حظر القتل، فإنه يقتل إذا كان مكلفا، لأنه مباشر مكلف، عالم بتحريم القتل، فكان موجب القتل عليه للعمومات، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولأن المباشرة تقطع حكم السبب، أشبه الحافر مع الدافع، ويؤدب السيد، لتسببه بما أفضى إلى القتل، وهذه التفرقة التي قالها الخرقي تبعه عليها أبو الخطاب والشيخان وغيرهم، وحكى الشيرازي في العبد من حيث الجملة روايتين (إحداهما) يحبس إلى الممات ويقتل السيد، (والثانية) يقتل(6/115)
العبد، ويؤدب السيد، ثم حكى قول الخرقي، والله أعلم.
[باب ديات النفس]
ش: الديات واحدتها دية مخففة، وأصلها (ودي) والهاء بدل من الواو، كالعدة من الوعد، والزنة من الوزن، تقول: وديت القتيل أديه دية ووديا. إذا أعطيت ديته، وأتديت إذا أخذت الدية، فالدية في الأصل مصدر، سمي به المال المؤدى إلى المجني عليه أو إلى أوليائه، كالخلق بمعنى المخلوق، والأصل في الدية الإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في النفس مائة من الإبل» في عدة أحاديث نذكر ما تيسر منها إن شاء الله تعالى.
[دية الحر المسلم]
قال: ودية الحر المسلم مائة من الإبل.
ش: لا نزاع أن دية الحر المسلم مائة من الإبل، وأن الإبل أصل في الدية، واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هل هي الأصل لا غير، أو معها غيرها، وهل ذلك الغير أربعة أو خمسة؟ (فعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي ونصبه أبو محمد في المغني للخلاف - أنها الأصل لا غير.(6/116)
2961 - لأن في حديث عمرو بن حزم: «في النفس مائة من الإبل» رواه النسائي ومالك في الموطأ.
2962 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من قتل خطأ فديته من الإبل مائة، ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة ابن لبون ذكر» ، رواه أبو داود والنسائي.
2963 - وعن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة فقال: «ألا وإن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل، منها أربعون ثنية إلى بازل عامها، كلهن خلفة» رواه النسائي.
2963 - م - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم الفتح على درجة البيت، فقام في خطبته فكبر ثلاثا، ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى، من دم أو مال تحت قدمي، إلا ما كان من سقاية الحاج، وسدانة البيت» ثم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» رواه أبو داود(6/117)
والنسائي، وقال: ورواه القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وظاهر هذه الأحاديث أن الدية هي الإبل خاصة، ويؤيد ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين دية العمد والخطأ، فغلظ العمد، وخفف الخطأ، ولم يرد ذلك عنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في الإبل.
(وعنه) أنها خمسة أشياء كل منها أصل بنفسه، الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، أما في الإبل فلما تقدم، وأما في البقر والغنم فلأن في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة» .
2964 - وأما في الذهب والفضة فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رجلا من بني عدي قتل، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديته اثني عشر ألفا» ، رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وهذا لفظه، وروي عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا، قال بعضهم: وهو أصح وأشهر.(6/118)
2965 - ولمالك في الموطأ: بلغه أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوَّم الدية على أهل القرى، فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام، وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق.
(وعنه) أنها ستة أشياء، ويضاف إلى الخمسة السابقة مائتا حلة، وهذه اختيار القاضي وكثير من أصحابه، الشريف وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم.
2966 - لما روي عن عطاء بن أبي رباح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئا لم يحفظه محمد بن إسحاق» ، وفي رواية عنه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ما تقدم، وقال: وعلى أهل الطعام شيئا لا أحفظه» . رواه أبو داود (والرواية الأولى) أظهر دليلا، لأن(6/119)
أحاديث هذه الرواية لا تقاوم تلك الأحاديث، وعلى تقدير مقاومتها فتحمل على أنه جعل ذلك بدلا عن الإبل، وهذا ظاهر في حديث عمرو بن شعيب، إذ أوله: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُقَوِّمُ دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق، ويقومها على أثمان الإبل، إذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هاجت رخصت نقص من قيمتها، وبلغت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم، قال: وقضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة، وهذا ظاهر في أنه إنما كان يعتبر الإبل لا غير، بل هو نص في الذهب والورق، أنه كان يعتبرهما بالإبل، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - واقعة عين لا عموم لها، إذ قوله: جعل ديته اثني عشر ألفا يحتمل على أنها أصل، ويحتمل على أنها بدل، والاحتمالان متقابلان، وإذًا يترجح احتمال البدلية، لموافقته لما تقدم، والكلام على حديث عطاء كالكلام على حديث أستاذه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ظاهر في أن ذلك على سبيل التقويم، فهو مؤيد لما قلناه، وأبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يختار في العمدة قولا رابعا، هو بعض الرواية الثانية، وهو أن الدية مائة من الإبل أو ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف(6/120)
درهم، وهو ظاهر في الورق، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إن صح، فإن فيه في رواية للترمذي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الدية اثني عشر ألفا» ، وليس بظاهر في الذهب، لأن المعتمد فيه على حديث عمرو بن شعيب، وفعل عمر، وهما ظاهران أو صريحان في أن ذلك على سبيل التقويم.
إذا تقرر هذا فعلى الرواية الثانية والثالثة إذا أحضر من عليه الدية شيئا من الخمسة أو الستة سالما من العيب لزم قبوله، أما على الرواية الأولى فإن من وجبت عليه الدية متى قدر على الإبل لا يجزئه غيرها، وإن عجز عنها انتقل إلى ما شاء من الأربعة أو الخمسة المتقدمة، على اختلاف الروايتين، وكذلك إذا لم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل، وقال أبو محمد: هذا ينبغي فيما إذا كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لا يجدها، لكونها في غير بلده ونحو ذلك، فإذًا ينتقل إلى غيرها، أما إن غلت الإبل كلها فلا ينتقل إلى غيرها.
وظاهر كلام الخرقي أن الواجب الإبل من غير نظر إلى قيمة، وهذا إحدى الروايتين، واختيار الشيخين، لظاهر حديث عمرو بن حزم، وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده وغيرهما، فإنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الإبل، ولم يقيدها بقيمة، فتقييدها بها يحتاج إلى دليل، وكذلك الأحاديث التي فيها ذكر البقر والغنم والحلل، ليس فيها اعتبار قيمة، وأيضا فإنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق(6/121)
بين دية العمد والخطأ، فغلظ دية العمد وشبهه، وخفف دية الخطأ، واعتبار القيمة يقتضي التسوية بينهما، وهو خلاف ما تضمنته سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأيضا فحديث عمرو بن شعيب نص في أنه كان يعتبر الذهب والورق بالإبل، ويقومها على أثمانها، لا أنه كان يعتبر الإبل بغيرها من ورق أو غيره. (والرواية الثانية) يعتبر أن لا تنقص المائة بعير عن دية الأثمان، كذلك حكى الرواية أبو البركات، واختارها أبو بكر، نظرا إلى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قومها كذلك، فجعل على أهل الذهب ألف مثقال، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، فظاهره أن قيمتها كذلك، وأجيب بأنه اتفق أن قيمتها في ذلك الوقت كان كذلك، وصرنا إليه بعد ذلك، حذارا من التنازع، وحكى أبو محمد الرواية في الكافي أنه يعتبر أن تكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهما، وحكى ذلك في المقنع عن أبي الخطاب، ولا ريب أنه قطع بذلك في الهداية، وقال في المغني: إن الأصحاب ذكروا أن ذلك مذهب أحمد، والتحقيق هو الأول، وعليه يحمل كلام أبي الخطاب وغيره، وسيأتي في كلام أبي محمد ما يدل عليه، والقول في البقر والغنم والحلل كالقول في الإبل على ما تقدم، كذا ذكره أبو البركات، وأبو محمد في المغني، قال: كذا قول أصحابنا في البقر والشاء والحلل، يجب أن يكون مبلغ الواجب من كل صنف منها اثني عشر ألفا، فقيمة كل بقرة أو حلة ستون درهما، وقيمة كل شاة ستة دراهم، وقال في المقنع: يؤخذ(6/122)
في الحلل المتعارف، فإن تنازعا فيها جعلت قيمة كل حلة ستين درهما، وهو ذهول، بل عند التنازع يقضى بالمتعارف على المختار.
وظاهر كلام الخرقي أيضا أن الدية لا تغلظ، لا بحرم ولا إحرام ولا غير ذلك، وكثير من الأصحاب أنه لا يعتبر أن تكون الإبل من جنس إبله، ولا إبل بلده، واعتبر ذلك القاضي أظنه في المجرد، والقول في البقر والغنم كالقول في الإبل.
قال: فإن كان القتل عمدا فهي في مال القاتل حالة أرباعا، خمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة.
ش: إذا كان القتل عمدا فالإجماع على أن الدية في مال القاتل.
2967 - وقد شهد له ما روى عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه.
2968 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه» رواه النسائي.(6/123)
2969 - وعن «أبي رمثة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأيت برأسه ردع حناء، وقال لأبي: «هذا ابنك» ؟ قال: نعم، قال: «أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» وقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] » رواه أحمد وأبو داود. وإذا وجبت في مال القاتل وجبت حالة عندنا لأنها بدل متلف، فوجبت حالة كسائر أبدال المتلفات، ولأن ما وجب بالعمد المحض كان حالا كأرش الأطراف، واختلف في مقدارها (فعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أشهر الروايتين عنه - أنها تجب أرباعا، كما ذكره الخرقي، واختاره أبو بكر، والقاضي وعامة أصحابه، الشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا، وابن عقيل.
2970 - لما روى الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: «كانت الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرباعا، خمسا وعشرين جذعة،(6/124)
وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض» ، (وعنه) «أنها تجب أثلاثا، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها» .
2971 - وذلك لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد القتل» رواه الترمذي. ولما تقدم من حديث عقبة بن أوس، وعبد الله بن عمرو، وهذه الرواية اختيار أبي محمد في العمدة، وهو الصواب، إذ حديث الزهري لا يعرف من رواه، ولو عرف لم يقاوم هذه الأحاديث، وقد قال أحمد في رواية حنبل: الذي أذهب إليه في دية العمد أثلاثا، وهؤلاء يقولون أرباعا خلاف الحديث، وعلى هذه الرواية هل يعتبر في الخلفات - وهن الحوامل - كونهن ثنايا، وهن اللاتي استكملن خمس سنين، وبه قطع القاضي في الجامع، لحديث عقبة بن أوس، أو لا يعتبر، لإطلاق حديث عمرو بن شعيب، وهو الذي ذكره القاضي؟ فيه وجهان، ويرجح الأول بأن فيه زيادة، فيحمل المطلق عليها، ويجاب بأن القيد ذكر نظرا للغالب، إذ الغالب أنه لا يحمل إلا ثنية.(6/125)
قال: فإن كان القتل شبه العمد فكما وصفت في أسنانها، إلا أنها على العاقلة في ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها.
ش: القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد سواء، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل» وهي واجبة على العاقلة على المذهب، وقد تقدم ذلك في أول كتاب الجراح، وعليه فإنها تجب عليهم في ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها.
2972 - نظرا إلى أن هذا يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا يعرف لهما مخالف، مع أن هذا قول العامة ولا عبرة بمخالفة الخوارج.
(تنبيه) : لم يتعرض الخرقي لسن غير الإبل، والحكم أنه يجب في البقر النصف مسنات، والنصف أتبعة، وفي الغنم النصف ثنايا، والنصف أجذعة، في العمد والخطأ على ظاهر كلام الشيخين وغيرهما، وجعل ذلك القاضي في جامعه في العمد وشبهه، وقال في الخطأ: يحتمل أن يخفف فيجب من البقر تبيع وتبيعة ومسنة، أثلاثا، ومن الغنم جذعة وجذع من(6/126)
الضأن، وثنية من المعز، أثلاثا أيضا، وحكي عنه أنه جزم بذلك في خلافه.
قال: وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل، تؤخذ في ثلاث سنين أخماسا، عشرون بنات مخاض، وعشرون بني مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة.
ش: لا نزاع أن دية قتل الخطأ على العاقلة، وقد تقدم، ولا نزاع أيضا في أنها مائة من الإبل، وأنها تؤخذ منهم في ثلاث سنين، واختلف في كيفية وجوبها، ومذهبنا أنها تجب أخماسا كما ذكره الخرقي.
2973 - لما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر» رواه الخمسة، وقال أبو داود: وهو قول عبد الله. وكلام الخرقي يشمل إذا كان المقتول امرأة أو ذميا أو جنينا، وهو قول القاضي في الخلاف والجامع.
(تنبيه) : ابتداء الحول في النفس من حين الزهوق، وفيما دونها من حين الاندمال على المشهور، وبه قطع القاضي في(6/127)
الجامع، وقال القاضي: ابتداؤه في القتل الموحي والجرح الذي لم يسر عن محله من حين الجناية.
[ما تحمله العاقلة من الدية]
قال: والعاقلة لا تحمل العمد، ولا العبد، ولا الصلح، ولا الاعتراف، ولا ما دون الثلث.
ش: لا تحمل العاقلة العمد، وإن لم توجب جنايته قصاصا، ولا العبد إذا قتله قاتل، ولا الصلح، وهو أن يدعى عليه القتل فينكره ثم يصالح المدعي على مال، وفسره القاضي بأن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية، ورد بأن هذا عمد، فيدخل في الأول، ولا الاعتراف، وهو أن يقر القاتل بقتل الخطأ أو شبه العمد، ولا ما دون ثلث الدية التامة، كدية المجوسي ونحوه.
2974 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: العمد والعبد، والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة، رواه الدارقطني. وحكى أحمد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مثله.(6/128)
2975 - وقال الزهري: مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاءوا، رواه مالك في الموطأ.
2976 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الدية أن لا يحمل منها شيء حتى يبلغ عقل المأمومة. ولأن الخطأ إنما جعل على العاقلة لكون الجاني معذورا، تخفيفا عنه، ومواساة له، والعامد لا يناسب أن يخفف عنه ولا يواسى، والعبد الواجب فيه قيمة، تختلف باختلاف صفاته، فلم تحمله العاقلة كسائر القيم، والاعتراف ثبت بإقراره، ولا يثبت على إنسان شيء بإقرار غيره، والصلح في معنى الاعتراف، وما دون الثلث يسير فلا يجحف به، فلا يناسب التخفيف به، وبهذا ونحوه تتخصص العمومات المطلقة في حمل العاقلة.(6/129)
(تنبيه) : يستثنى مما دون الثلث الجنين إذا مات هو وأمه بجناية واحدة، فإن العاقلة تحمل ديته، وإن نقصت عن الثلث مع دية أمه، سواء سبقها بالزهوق أو سبقته، كذا صرح به أبو البركات، وقال أبو محمد في المغني: إذا مات قبل موت أمه لا تحمله العاقلة، نص عليه، وإن مات مع أمه حملته العاقلة نص عليه، ومقتضى كلامه أنه لو تأخر عنها بالزهوق لم تحمله العاقلة، وكذلك مقتضى كلامه في المقنع، قال: وإن ماتا منفردين لم تحملهما العاقلة.
2977 - وإنما استثني ذلك في الجملة لما روى المغيرة بن شعبة قال: «ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى، فقتلتها، قال: وإحداهما لحيانية، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسجع كسجع الأعراب» قال: وجعل عليهم الدية» ، وهذا كان بجناية واحدة، ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل هل سبقها بالزهوق أو سبقته، ولو اختلف الحكم لبينه، فإذًا الصواب ما قاله أبو البركات.
[جناية الرقيق]
قال: وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه.
ش: جناية العبد تتعلق برقبته، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» وسيده مخير بين أن يفديه لزوال(6/130)
أثر الجناية إذا، وبين أن يسلمه في الجناية، لتأديته المحل الذي تعلق به الحق برمته، هذا إحدى الروايات (والرواية الثانية) يخير بين فدائه، أو بيعه في الجناية (والرواية الثالثة) يخير بين الثلاثة، وإذا اختار البيع فهل يلزمه أن يتولاه إذا طلب منه ولي الجناية ذلك، أو يكفي تسليمه للبيع فيبيعه الحاكم؟ فيه روايتان.
وقول الخرقي: وإذا جنى العبد، أي جناية أوجبت مالا، بقرينة ذكر الفداء إذ الفداء إنما يدخل فيما فيه المال، وذلك بأن يكون خطأ أو شبه عمد، أو عمدا لا قصاص فيه، أو فيه القصاص واختير فيه المال، وكذلك الحكم لو أتلف مالا، وقد يدخل في لفظه، لأن الجناية تشمل الجناية على المال والبدن، والله أعلم.
قال: فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على السيد أن يفديه بأكثر من قيمته.
ش: جناية العبد لا تخلو إما أن تكون وفق قيمته أو أكثر من قيمته، فإن كانت وفق قيمته فلا نزاع أن السيد لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه لا حق للمجني عليه في أكثر من ذلك، وكذلك إن كانت أقل من قيمته على المذهب المعروف لذلك، (وعن أحمد) رواية أخرى يلزم فداؤه بجميع قيمته، وإن جاوزت دية المقتول، إذا كانت الجناية موجبة للقود، لأنه إذا استحق إتلافه، فكان له بدله، وتشبه هذه الرواية أنه يملكه بغير رضا(6/131)
السيد، فيما إذا كانت الجناية كذلك، وإن كانت أكثر من قيمته فكذلك، لا يلزم السيد أن يفديه بأكثر من قيمته إن لم يختر فداءه بلا ريب، لأن الجناية تعلقت برقبة العبد لا غير، والسيد إنما يؤدي بدل الرقبة، وبدل الرقبة هو القيمة، فلا يلزمه أكثر منها، وإن اختار الفداء ففيه روايتان مشهورتان، أشهرهما وأنصهما - وهي اختيار القاضي، والخرقي، وأبي الحسين وغيرهم - لا يلزمه إلا القيمة، لما تقدم، (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر - يلزمه والحال هذه أرش الجناية بالغة ما بلغت، لاحتمال أنه إذا بيع رغب فيه راغب فتزيد قيمته، والله أعلم.
[المقصود بالعاقلة]
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والعاقلة العمومة وأولادهم وإن سفلوا في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى الأب والابن والإخوة، وكل العصبة من العاقلة.
ش: (وجه الرواية الأولى) حديث المغيرة بن شعبة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل دية المقتول على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها» . رواه مسلم وغيره وقد تقدم، وهذا يشمل كل عصبة، خرج منه الآباء والأبناء.
2978 - بدليل «ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن امرأتين من هذيل قتلت(6/132)
إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، لأنهما ما كانا من هذيل، فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا، ميراثها لزوجها وولدها» » رواه أبو داود، وهذا يقتضي أن الأولاد ليسوا من العاقلة، فكذلك الآباء، قياسا لأحد العمودين على الآخر، وخرج منه الإخوة أيضا.
2979 - بدليل ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه» رواه النسائي، فظاهره أنه لا يؤخذ بجريرة أخيه مطلقا، وإذا خرج الأخ والابن والأب من التحمل بقي من عداهم، وهم العمومة وأولادهم وإن سفلوا.
(ووجه الثانية) - وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي في الجامع والقاضي أبو الحسين، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم - عموم حديث المغيرة، وحديث جابر لا يقاومه، ثم لا يدل على خروج الابن مطلقا، وحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يؤخذ بجريرته، أي إذا كان عمدا، جمعا بين الأدلة (وعن(6/133)
أحمد) رواية ثالثة: العاقلة جميع العصبة إلا الآباء والأبناء، وزعم القاضي في روايتيه أنها اختيار الخرقي، لتقديمه إياها، ولانتفاء الخلاف عنده في الإخوة، ووجه هذه الرواية يعرف مما سبق (وعنه) رواية رابعة أن العاقلة كل العصبة إلا أبناء الجاني، إذا كان امرأة، نص عليها أحمد فقال: لا يعقل الابن عن أمه، لأنه من قوم آخرين، وهي اختيار أبي البركات وعليها يقوم الدليل، إذ حديث المغيرة يقتضي أن العاقلة هم كل العصبة، وحديث جابر صريح في أن ابن المرأة لا يعقل عنها، وإذا خرج ابن المرأة بقينا فيما عداه على العموم، ثم قد علل في الحديث خروج الولد والزوج بأنهما ما كانا من هذيل، يعني والمرأة هذلية، فليسا من قبيلتها، والمعنى في ذلك أن قبيلة الشخص هي التي تواليه وتنصره، بخلاف غيرها، وكذلك قال أحمد، لأنه من قوم آخرين، ومقتضى الحديث وتعليل أحمد أن ابن المرأة إذا كان من قبيلتها كابن ابن عمها يعقل عنها، وصرح به ابن حمدان، وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أن العاقلة كل العصبة إلا الأبناء، ولعله يقيس أبناء الرجل على أبناء المرأة، وليس بشيء (واعلم) أن أبا الخطاب في خلافه حكى عن شيخه أنه أخذ رواية أن العاقلة العصبة إلا عمودي النسب من هذا النص، قال: وفيه نظر، ولا شك في ضعف هذا المأخذ.
قال: وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة، ولا صبي ولا زائل العقل حمل شيء من الدية.
ش: لا خلاف أن الصبي غير المميز والزائل العقل لا يحملان(6/134)
من العقل شيئا، لأنهما ليسا من أهل النصرة، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، وحكم المميز حكم غيره على المذهب، وحكاية ابن المنذر تشمله، وقيل: بل حكم البالغ، (ولا ريب) أن المذهب أن الفقير لا يحمل من العقل شيئا، حذارا من أن نخفف عن من جنى، ونثقل على من لم يجن.
2980 - وقد «روى عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله إنا أناس فقراء. فلم يجعل عليه شيئا» ، رواه أبو داود والنسائي.
(وعن أحمد) رواية أخرى أن الفقير يحمل من العقل، بناء على أنه من أهل النصرة، كذا أطلق الرواية أبو محمد، وقيدها أبو البركات بالمعتمل، وهو حسن، (ولا ريب) أيضا أن المذهب أن المرأة لا تحمل من العقل شيئا، لعدم التناصر منها (وعنه) تحمل بالولاء لأنها إذا عصبة، ويخرج عليها الأم الملاعنة إذا قلنا: إنها عصبة، وإن عمودي النسب من العاقلة أنها تعقل، وتشبه هذه الرواية رواية أنها تلي على معتقها في النكاح، وحكم الخنثى حكم المرأة، وظاهر كلامه أن البعيد والغائب، والشيخ والمريض، والزمن والهرم(6/135)
يحملون كغيرهم، وهو كذلك، نعم في الزمن والهرم وجه أنهما لا يحملان.
[حكم من وجبت عليه دية ولم تكن له عاقلة]
قال: ومن لم تكن له عاقلة أخذت من بيت المال.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر.
2981 - ففي الصحيح قال: «فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة، وفي لفظ: فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده، فبعث إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة ناقة حمراء» .
2982 - وروي أن رجلا قتل في زحام، في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم يعرف قاتله، فقال علي لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يا أمير المؤمنين لا يبطل دم امرئ مسلم، فأدى ديته من بيت المال، (والرواية الثانية) لا شيء على بيت المال، اختارها أبو بكر في التنبيه، لأن فيه حقا للنساء والصبيان والمجانين والفقراء، ولا عقل عليهم، فلا يصرف حقهم والمجانين والفقراء، ولا عقل عليهم، فلا يصرف حقهم فيما لا يجب عليهم، قال أبو محمد: ولأن بيت المال ليس بعصبة، وما يصرف إليه من مال من لا وارث له إنما يأخذه على أنه فيء، لا أنه إرث. (قلت) : وقد يكون هذا منشأ الخلاف، وهو أن بيت المال(6/136)
هل هو عصبة أم لا؟ لكن المشهور أنه ليس بعصبة، والمشهور أن يدي، ولا يستقيم البناء (واعلم) أن محل الروايتين عند أبي محمد تبعا للقاضي في المسلم، أما الذمي فإن بيت المال لا يحمل عنه عندهما بلا خلاف، بل تكون الدية عليه على المذهب، وقيل: لا شيء عليه كالمسلم على المذهب، وعند أبي البركات أنهما جاريتان فيهما وهو ظاهر كلام الخرقي، وهو مما يضعف البناء، وحيث حمل بيت المال فهل ذلك في ثلاث سنين كالعاقلة أو في دفعة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدى دية الأنصاري في دفعة، والعاقلة التأجيل عليهم تخفيفا بهم، ولا حاجة بنا إلى التخفيف في بيت المال؟ فيه وجهان، أصحهما الثاني، والله أعلم.
قال: فإن لم يقدر على ذلك فليس على القاتل شيء.
ش: إذا لم يقدر على أخذ شيء من بيت المال سقطت الدية، فلا شيء على القاتل، على المعروف عند الأصحاب، بناء عندهم على أن الدية وجبت على العاقلة ابتداء، فلا تجب على غير من وجبت عليه، كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد، كذلك هاهنا، وخالفهم أبو محمد فاختار وجوبها على القاتل لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] مع قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يجني جان إلا على نفسه» وسقوطها لقيام العاقلة مقامه، فإذا لم توجد عاقلة، أو وجدوا(6/137)
وانتفى حملهم لدليل، بقيت واجبة عليه، ولأن الأمر دائر بين أن يبطل دم المقتول، وبين إيجاب ديته على المتلف، لا يجوز الأول لمخالفة إطلاق الكتاب والسنة، فيتعين الثاني، وفي كلامه - رَحِمَهُ اللَّهُ - إشعار بأن الدية تجب على القاتل، وتتحملها العاقلة.
(تنبيه) : سميت العاقلة عاقلة لأن الإبل تجمع فتعقل بفناء أولياء المقتول، أي تشد عقلها لتسلم إليهم، ولذلك سميت الدية عقلا، وقيل سموا بذلك لإعطائهم العقل الذي هو الدية، وقيل لأنهم يمنعون عن القاتل.
[دية الحر الكتابي]
قال: ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب.
2983 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية المعاهد نصف دية الحر» رواه أبو داود، والنسائي ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين» وهم اليهود والنصارى، ورواه الترمذي ولفظه: «دية عقل الكافر نصف عقل المؤمن» قال الخطابي: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا، ولا بأس به، وبه قال أحمد. (قلت) : وهذا يبين الآية الكريمة.
(والرواية الثانية) ثلث دية المسلم، إلا أن أحمد رجع عنها، قال في رواية أبي الحارث: كنت أذهب إلى حديث عمر أن دية اليهودي(6/138)
والنصراني أربعة آلاف، ثم نزلت عن حديثه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن ثم قال أبو بكر: المسألة رواية واحدة، أنها على النصف. وقد بين أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مأخذه في الروايتين، وحديث عمرو بن شعيب قد تقدم.
2984 - أما حديث عمر فهو ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، قال: وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم، قال: فكانت كذلك حتى استخلف عمر قام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة؛ قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية، رواه أبو داود.
(تنبيه) : ولا فرق في ذلك بين الذمي منهم والمستأمن، لاشتراكهم في الكتاب مع حقن الدم.
قال: ونساؤهم على النصف من دياتهم.
ش: لما كانت دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم، كانت نساء أهل الكتاب على النصف من دياتهم،(6/139)
مع أن هذا قد حكاه ابن المنذر إجماعا.
قال: وإن قتلوا عمدا أضعفت الدية على قاتله المسلم، لإزالة القود، هكذا حكم عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وذكر دليله.
2985 - والمحكي عن عثمان رواه عنه أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، أن رجلا قتل رجلا من أهل الذمة، فرفع إلى عثمان، فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار. ولهذا نظائر في الشريعة (منها) سارق الثمر والكثر يغرم بمثله مرتين، لإزالة القطع، (ومنها) الأعور إذا قلع عين صحيح، تجب عليه دية كاملة، كما حكم به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لدرء القصاص عنه، ويقرب من ذلك غرامة اللقطة بمثلها مرتين إذا كتمها، وكذلك أخذ شطر مال الكاتم ماله في الزكاة على رواية.
2986 - لحديث بهز بن حكيم، وغير ذلك، وهذا ونحوه يخصص(6/140)
عموم ما تقدم، وقول الخرقي: على قاتله المسلم. يحترز عن قاتله إذا كان ذميا، فإن الدية لا تضعف عليه، لوجوب القصاص عليه، والله أعلم.
[دية المجوسي]
قال: ودية المجوسي ثمانمائة درهم.
2987 - ش: لما روى الشافعي في مسنده، والدارقطني عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، والمجوسي ثمانمائة.
2988 - ويروى ذلك أيضا عن عثمان وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» لا عموم فيه، ثم المراد به والله أعلم في أخذ الجزية، جمعا بين الأدلة، وسواء كان المجوسي ذميا(6/141)
أو مستأمنا، وإن قتله مسلم عمدا أضعفت الدية عليه، لإزالة القود، نص عليه أحمد، قياسا على الكتابي فتجب ألف وستمائة درهم.
قال: ونساؤهم على النصف من ذلك.
ش: كنساء المسلمين وأهل الكتاب، وقد حكي إجماعا والله أعلم.
[دية الحرة المسلمة]
قال: ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم.
2989 - ش: لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عقل المرأة مثل عقل الرجل، حتى يبلغ الثلث من ديته» رواه النسائي.
2990 - «وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. قلت: فكم في إصبعين؟ فقال: عشرون من الإبل. قلت: فكم في ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت: فكم في أربع أصابع؟ فقال: عشرون. قلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها؟ قال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. قال: هي السنة يا ابن أخي» . رواه مالك في الموطأ، وذكر أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم: دية المرأة على(6/142)
النصف من دية الرجل. ولم أجد ذلك في حديث عمرو بن حزم في جامع الأصول، ولا في المنتقى.
قال: وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث، فإذا جاوزت الثلث فعلى النصف.
ش: لا نزاع عندنا أن جراح المرأة تساوي جراح الرجل فيما دون ثلث الدية، ففي إصبعها عشر من الإبل، وفي الإصبعين عشرون من الإبل، وفي الثلاث أصابع ثلاثون، ولا نزاع عندنا أيضا أنها فيما زاد على الثلث على النصف، ففي أربع أصابع منها عشرون، وفي يدها خمس وعشرون، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب وسعيد، واختلف هل تساوي الرجل في قدر الثلث، كالجائفة والمأمومة، ونحو ذلك؟ على روايتين (إحداهما) تساويه - وهو اختيار الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم، لأنه في حد القلة، بدليل جواز الوصية به (والثانية) يختلفان، فيجب في جائفتها سدس دية الرجل - وهو اختيار أبي محمد - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(6/143)
سماه كثيرا قال: «الثلث والثلث كثير» ، وحديث عمرو بن شعيب محتمل للقولين، بناء على أن الغاية هل تدخل في المغيا، وذلك وإن كان في (إلى) الأكثر عدم الدخول، ففي (حتى) الكثير الدخول، والله أعلم.
[دية العبد والأمة]
قال: ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك.
ش: قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها، فلا حاجة إلى إعادتها، ونزيد هنا بأنه لا فرق في ذلك بين العبد القن والمدبر والمكاتب، وأم الولد، لدخول الكل في إطلاق العبد، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» .
[دية الجنين]
قال: ودية الجنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة غرة عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، موروثة عنه كأنه سقط حيا.
ش: الواجب في دية الجنين والحال هذه غرة.
2991 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم؛ مختصر» متفق عليه.(6/144)
2992 - «وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن إملاص المرأة، وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها، فقال: أيكم سمع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيئا؟ قال: فقلت: أنا، قال: ما هو؟ قلت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «فيه غرة عبد أو أمة» قال: لا تبرح حتى تجيء بالمخرج. قال: فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به، فشهد معي أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «فيه غرة عبد أو أمة» » متفق عليه. والغرة عبد أو أمة، لما تقدم من الحديثين السابقين، وما روي «عبد أو أمة أو فرس أو بغل» وهم عند أهل العلم بالنقل، والصحيح ما تقدم، ويشترط أن تكون قيمة العبد أو الأمة عشر دية الأم.
2993 - لأن ذلك يروى عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فقيد إطلاق ما تقدم، مع أنه أقل مقدر، وقدره الشارع في الجنايات، وهو أرش الموضحة، ودية السن، فاعتبر(6/145)
بذلك، ولا ترد الأنملة، لأنه لا نص فيها، إنما هو اجتهاد. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قيمتها خمس من الإبل. بناء عنده على أن الأصل في الدية الإبل، فجعل التقويم بها، وغيره من الأصحاب مقتضى كلامه أن التقويم بواحد من الخمسة أو الستة على ما تقدم، وأن ذلك راجع إلى اختيار الجاني، كما له الاختيار في دفع أي الأصول شاء إذا كان موجب جنايته دية كاملة. وحكم هذه الغرة أنها موروثة عن الجنين، كأنه سقط حيا، لأنها دية له وبدل عنه، فورثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة، وشرط الخرقي للضمان السابق أن يسقط من الضربة ميتا، أي بسبب الضربة، بأن يسقط عقيبها، أو يبقى بها متألما إلى أن يسقط، أما إن ضربها فماتت بحملها ولم تلقه، أو ضرب من في بطنها شيء يتحرك فذهب فلا شيء عليه، لعدم العلم بوجوده، والأصل براءة الذمة. وكلام الخرقي يشمل ما إذا ألقته في حياتها، أو بعد موتها، وهو كذلك، والحكم فيما إذا ظهر بعضه ولم يظهر جميعه حكم ما إذا ظهر جميعه، قاله أبو محمد. وقول الخرقي: وكان من حرة مسلمة؛ يريد به أن الأم متى كانت كذلك كان الولد حرا مسلما، فيجب ما تقدم، وقد تكون الأم رقيقة كافرة، والجنين حر مسلم، بأن يغر بأمة، أو يتزوج المسلم كتابية، فتجب الغرة السابقة، أما إن كان الجنين رقيقا فسيأتي حكمه، وإن كان كافرا(6/146)
كالمولود بين كتابيين ونحوهما، فإن الواجب فيه عشر دية أمه إن ساوت الأب في الدين، أو كانت أعلى منه كنصرانية تحت مجوسي، وإن نقصت عنه - كمجوسية تحت كتابي - وجب عشر ديتها لو كانت على دين الأب.
(تنبيه) : الولد الذي تجب به الغرة ما تصير بن الأمة أم ولد، وما لا فلا، وأصل «الغرة» بياض في جبهة الفرس، ومن ثم قال أبو عمرو بن العلاء: الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، ولم يعتبر ذلك الفقهاء، نظرا لإطلاق الحديث، مع قرينة غلبة السواد على أرقاء أهل الحجاز، والغرة أيضا أول الشيء وخياره، ومن ثم قال أصحابنا: لا يقبل في الغرة معيب، لأن ذلك ليس بخيار، وبنى على ذلك جمهورهم أن من لم يبلغ سبع سنين لا يجزئ لأنه يحتاج إلى من يكفله ويقوم به، فليس من الخيار، وقال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي الإجزاء، والله أعلم.
قال: وإن كان الجنين مملوكا ففيه عشر قيمة أمه.
ش: هذا هو المذهب المعروف، قياسا على الجنين الحر، فإن فيه عشر دية أمه، كذلك المملوك فيه عشر قيمة(6/147)
أمه، إذ قيمة الأمة بمنزلة دية الحرة، وحكى أبو الخطاب في خلافه رواية أخرى أن الواجب نصف عشر قيمة أمه، ولا عمل عليه، ثم الواجب هنا قيمة لا عبد أو أمة لأن الرقيق الواجب فيه قيمة، بخلاف الحر فإن الواجب فيه إما الإبل، أو أحد خمسة أشياء أو ستة.
قال: وسواء كان الجنين ذكرا أو أنثى.
ش: أما الجنين الحر فلإطلاق الحديث، وأما المملوك فبالقياس على الحر، والله أعلم.
قال: فإن ضرب بطنها فألقت جنينا حيا، ثم مات من الضربة ففيه دية حر إن كان حرا، أو قيمته إن كان مملوكا، إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله، وهو أن يكون لستة أشهر فصاعدا.
ش: أما وجوب دية الحر أو قيمة المملوك على الضارب والحال ما تقدم فلأنه مات من جنايته، بعد ولادته لوقت يعيش لمثله، أشبه ما لو قتله بعد وضعه، وقد قال ابن المنذر: إن هذا مما أجمع عليه كل من يحفظ عنه من أهل العلم، وتعلم الحياة باستهلاله بلا ريب.(6/148)
2994 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استهل المولود ورث وورث» وهل تعلم بارتضاعه، أو تنفسه، أو عطاسه، أو نحو ذلك مما يدل على الحياة؟ فيه روايتان (إحداهما) لا، لمفهوم الحديث السابق (والثانية) - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد - نعم، لأن الارتضاع ونحوه أدل على الحياة من الاستهلال، فاستفيد من الحديث بطريق التنبيه، أما مجرد الحركة والاختلاج فلا يدلان على الحياة، لأن ذلك قد يكون لخروجه من مضيق فلم تتيقن حياته. وشرط الخرقي لوجوب الضمان السابق أن يموت من الضربة أي بسببها، وذلك بسقوطه في الحال وموته، أو بقائه متألما إلى أن يموت، أو بقاء أمه متألمة إلى أن تلقيه حيا فيموت، أما لو ألقته ثم بقي زمنا سالما لا ألم به ثم مات فلا ضمان، ولو وضعته حيا، فجاء آخر فقتله وفيه حياة مستقرة فهو(6/149)
القاتل، وإن لم تكن فيه حياة مستقرة، بل حركة كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول، ويؤدب الثاني (وشرط) أيضا أن تضعه لوقت يعيش لمثله، وإلا فحكمه حكم الميت فيه الغرة، لعدم تصور بقائه، وبين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوقت الذي يعيش لمثله ستة أشهر فصاعدا، لأن ذلك أقل مدة الحمل والله أعلم.
قال: وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة، سواء كان الجنين حيا أو ميتا.
ش: هذا قول جمهور أهل العلم، لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] أي المقتول، وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو كان أحد أبويه مؤمنا فهو محكوم بإيمانه تبعا، فيدخل في الآية، وإن كان من كتابيين فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق فتشمله الآية، ولأنه نفس مضمونة بدية، فوجبت فيه الرقبة كالكبير.
قال: وإذا شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها فعليها غرة لا ترث منها شيئا، وتعتق رقبة.
ش: أما وجوب الغرة فلأن الجنين مات بجنايتها، أشبه ما لو كان الجاني غيرها، وأما كونها لا ترث منها شيئا فلأنها قاتلة، وقد تقرر أن القاتل لا يرث المقتول، فعلى هذا تكون الغرة لبقية الورثة، وأما كونها تعتق رقبة فلما تقدم قبل والله أعلم.
[الحكم لو رمى ثلاثة بالمنجنيق فرجع الحجر فقتل رجلا]
قال: وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق، فرجع الحجر فقتل رجلا(6/150)
فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية.
ش: لأنه قتل حصل بفعلهم وجنايتهم، وهم ثلاثة، فوجب تثليث الدية على عواقلهم، لأنه كما سيأتي إما خطأ، وإما شبه عمد، هذا هو المذهب المعروف وقيل: بل تجب الدية في بيت المال، لأن ذلك من مصالح المسلمين، فإن تعذر فعلى العاقلة، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قصدوا معينا أو لم يقصدوا، وهو كذلك لأن قصد الواحد بالمنجنيق يندر أن يصيبه، فلا يكون عمدا، نعم مع قصد معين أو جماعة يكون ذلك شبه عمد وقد تقدم حكمه ومع عدم القصد يكون خطأ، واختار ابن حمدان أنه عمد إن كان الغالب الإصابة، وقول الخرقي: قتل رجلا. يحتمل أن يكون من غيرهم، ويحتمل أن يكون منهم، وعلى هذا يكون مقتضى قول الخرقي أن جناية الإنسان على نفسه تكون خطأ، تحملها العاقلة لورثته، وهو إحدى الروايتين، والرواية الثانية لا شيء فيها، وقال ابن عقيل في التذكرة: تكون عليه يدفعها إلى ورثته، والله أعلم.
قال: وعلى كل واحد منهم عتق رقبة مؤمنة في ماله.
ش: هذا مبني على المذهب من أن المشتركين في القتل على كل واحد منهم كفارة، لا أن الواجب على الجميع كفارة واحدة، وقد تقدم ذلك، وتقدم أيضا أن الكفارة تجب في مال القاتل.(6/151)
قال: فإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في أموالهم.
ش: هذا هو المذهب المختار للأصحاب بلا ريب لما تقدم لأن الواجب على كل واحد والحال هذه دون الثلث، والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث لما تقدم، وإذا انتفى حمل العاقلة وجبت الدية في أموالهم، لأن ذلك أثر فعلهم. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» وتجب حالة، لأنها بدل متلف، فوجبت حالة كسائر أبدال المتلفات، وقد يستشكل بأن الجاني إذا حمل دية شبه العمد كانت من ماله مؤجلة على المذهب، كذلك هاهنا قد يقال، وحكى أبو بكر رواية أخرى أن العاقلة تحمل ذلك، نظرا إلى أن هذه جناية واحدة أوجبت ما زاد على الثلث، فحملته العاقلة كما لو كانوا ثلاثة، واستشهد القاضي في روايتيه على هذه الرواية بما نقل يعقوب بن بختان عن أحمد، في قوم رموا بالمنجنيق فرجع فقتل رجلا من المسلمين فالدية على عواقلهم والكفارة في أموالهم. قال: وهذا يحتمل أن يكونوا ثلاثة فما دون، ويحتمل أن يكونوا أكثر من ذلك؛ قلت: من حمل مطلق كلامه على مقيده لا ينبغي له أن يثبت هذه الرواية، بخلاف من لم يحمل، وظاهر كلام الأصحاب أنه لا خلاف في الخمسة أن الدية لا تكون على العاقلة،(6/152)
وصرح بذلك ابن حمدان، وهو مما يضعف تعليل الرواية الثانية.
(تنبيه) : الضمان في الرمي بالمنجنيق يتعلق بمن مد الحبال، ورمى الحجر، دون من وضعه في الكفة وأمسك الخشب، إذ الأول مباشر، والثاني متسبب، والمباشرة تقطع حكم السبب، والمنجنيق أعجمي معرب، بفتح الميم وكسرها، وحكي فيه منجنوق ومنجليق. . . والله أعلم.
[باب ديات الجراح]
ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان ديات الأنفس شرع يتكلم على ديات الجراحة.
قال: ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية، وما فيه منه شيئان ففي كل واحد منهما نصف الدية.
2995 - ش: الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن حزم في العقول: «إن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية كاملة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثله، وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي كل سن خمس، وفي الموضحة خمس» رواه مالك في موطئه، وهذا لفظه، والنسائي وفي روايته: «وفي الأنف إذا أوعب جدعه بالدية، وفي اللسان الدية،(6/153)
وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار، ذكره في رواية، وفي العين الواحدة نصف الدية، وفي اليد الواحدة نصف الدية» ، قال ابن عبد البر: كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء، وما فيه متفق عليه إلا قليلا، انتهى. ففي هذا الحديث مما في الإنسان منه شيء واحد الأنف، والذكر، واللسان والصلب، وغير ذلك مقيس عليها، وفيه مما في الإنسان منه شيئان الشفتان والبيضتان، والعينان، والرجلان، واليدان، وغير ذلك مقيس عليها وملحق بها والله أعلم.
قال: وفي العينين الدية.
ش: لما تقدم في حديث عمرو بن حزم، مع أنه إجماع، ولا فرق بين أن يكونا صحيحتين أو مريضتين، أو حولاوين، وفي العين الواحدة نصف الدية، على مقتضى كلام الخرقي، لما تقدم في حديث عمرو بن حزم، وعموم كلامه يقتضي شمول عين الأعور، وهو مقتضى حديث عمرو بن حزم، والمذهب(6/154)
أن في عين الأعور دية كاملة.
2996 - نظرا إلى قضاء الصحابة عمر وعثمان وعلي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف عن غيرهم خلافهم، ولأن قلع عينه يتضمن ذهاب بصره كله، إذ الأعور يبصر بعينه كما يبصر الصحيح، فوجبت الدية كما لو أذهب البصر من العينين.
قال: وفي الأشفار الأربعة الدية.
ش: في الأشفار الدية، لأن ذلك هو جميع الجنس، فوجب فيه جميع الدية كاليدين والرجلين، والأشفار فسرها أبو محمد بالأجفان، وهو مقتضى كلام غيره، وابن أبي الفتح يجعل الشفر منبت الهدب، والجفن غطاء العين، والله أعلم.
قال: وفي كل واحد منها ربع الدية.
ش: لأنه عدد تجب الدية في جميعه، فوجب في بعضه بالقسط، كاليدين والأصابع والله أعلم.(6/155)
قال: وفي الأذنين الدية. . .
ش: لأنهما مما في البدن منه شيئان.
2997 - ويروى ذلك عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وادعى أبو محمد أنه في كتاب عمرو بن حزم، ولم أره، وقد شمل كلام الخرقي الأذن الصماء، والأذن المستحشفة، والأذن المخرومة، وهو صحيح إن قلنا: يؤخذ به السالم من ذلك في العمد، وإلا الواجب في ذلك حكومة، والله أعلم.
قال: وفي السمع إذا ذهب من الأذنين الدية.
2998 - ش: يروى هذا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
2999 - ويروى أيضا عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي السمع الدية» وقال ابن المنذر: أجمع عليه عوام أهل العلم. ولأنه حاسة تختص بنفع، فكان فيه الدية كالبصر، ولو ذهب السمع من أحد الأذنين وجب نصف الدية والله أعلم.(6/156)
قال: وفي الأنثيين الدية.
ش: لحديث عمرو «في البيضتين الدية» ، ويجب في إحداهما نصفها.
قال: وفي الصعر الدية.
ش: لذهاب المنفعة والجمال، أشبه سائر المنافع.
3000 - ولأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولا يعرف له مخالف. قال: والصعر أن يضربه فيصير الوجه في جانب.
ش: قال الجوهري: الصعر الميل في الخد خاصة، وقال أبو محمد: أصله داء يأخذ البعير في عنقه فيلتوي له عنقه، وفي التنزيل: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبرا كإمالة وجه البعير الذي به الصعر، والله أعلم.
قال: وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية.
ش: لأنه عضو فيه منفعة كثيرة، ليس في البدن مثله أشبه سائر الأعضاء، ومنفعة المثانة حبس البول، فإذا غيرت فقد زالت المنفعة.
قال: وفي قرع الرأس إذ لم ينبت الشعر الدية، وفي الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية، وفي اللحية إذا لم ينبت الشعر الدية.
ش: هذا هو المذهب المشهور من الروايتين، لأنه إذهاب للجمال على الكمال، فوجبت الدية كاملة كأنف الأخشم،(6/157)
وأذن الأصم، (والرواية الثانية) في الجميع حكومة، لأنه إذهاب جمال من غير منفعة، فأشبه اليد الشلاء، وألحق الأصحاب بهذه الثلاثة أهداب العينين، فجعلوا فيها دية على المذهب، وفي الواحد منها ربع الدية، كما أن في الحاجب نصفها، وقوله: إذا لم ينبت. شرط لوجوب الدية، فلو نبتت فلا دية.
قال: وفي المشام الدية. . .
ش: قال أبو محمد: أراد الشم، انتهى. ويجوز أن يكون أراد المنخرين. وفي كل واحد من ذلك نصف الدية، أما الأول فلأنها حاسة تختص بمنفعة، أشبهت سائر المنافع، مع أن القاضي يدعي أن في حديث عمرو «وفي المشام الدية» ولم أر ذلك، وأما الثاني فلأنه مما في الإنسان منه شيئان، وهو إحدى الروايتين، والمشهور منهما، وعليها ففي الحاجز حكومة، (والرواية الثانية) فيهما ثلثا الدية، وفي الحاجز ثلثها، اختارها أبو بكر، والله أعلم.(6/158)
قال: وفي الشفتين الدية.
ش: لحديث عمرو «وفي الشفتين الدية» وفي كل واحدة نصف الدية على المذهب المشهور من الروايتين، قياسا على ما في الإنسان منه شيئان.
3001 - واتباعا لأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (والرواية الثانية) في الشفة السفلى ثلثا الدية، وفي العليا ثلثها.
3002 - اتباعا لزيد بن ثابت، ولأن نفع السفلى أكثر، فناسب أن تزيد ديتها على دية العليا.
قال: وفي اللسان المتكلم به الدية.
ش: لحديث عمرو بن حزم، وقد حكى إجماعا، وقوله: المتكلم به، يحترز به عن لسان الأخرس، فإن الدية لا تكمل فيه، بل الواجب فيه إما ثلث الدية، أو حكومة على اختلاف الروايتين، ويستثنى من عموم المفهوم لسان الطفل، فإن الكلام منتف فيه، والدية واجبة فيه، نعم إن بلغ إلى حد يتحرك فيه بالبكاء ولم يحركه فحكمه حكم لسان الأخرس، والله أعلم.
قال: وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد ثغر.
ش: في كل سن خمس من الإبل على المذهب، لما تقدم(6/159)
من حديث عمرو بن حزم.
3003 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل إصبع عشر من الإبل، وفي كل سن خمس من الإبل، والأصابع سواء، والأسنان سواء» . . . رواه الخمسة إلا الترمذي، وقال في المغني: وحكي عن أحمد أن في جميع الأسنان والأضراس دية. . قال: ويتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد، للإجماع على أن في كل سن خمسا من الإبل، والأسنان فيها ستون بعيرا، لأنها اثنا عشر سنا، أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، ففيها خمس، والأضراس فيها أربعون، لأنها عشرون ضرسا. . . انتهى.
3004 - وقول سعيد هو أن في كل ضرس بعيرين، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال تبعه عليه في المقنع أن الواجب في الجميع دية واحدة وأطلق، وحقق أبو البركات هذا القول فقال: وقيل: إن قلع الكل أو فوق العشرين دفعة لم يجب سوى الدية، وذلك لأن هذه تشتمل على منفعة الجنس، فكان الواجب فيه دية كاملة، كبقية المنافع، ويحمل الحديث على ما إذا قلعها(6/160)
متفرقة، أو قلع دون العشرين. وشرط وجوب ما تقدم أن تكون قد قلعت ممن قد أثغر، وهو الذي قد سقطت رواضعه، فأما سن الصبي الذي لم يثغر فهل يجب فيها ما يجب في سن من أثغر، لعموم الحديث، وهو اختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، أو لا يجب إلا حكومة وهو اختيار القاضي، ويحتمله كلام الخرقي، لعدم مساواتها لسن الكبير، وذلك يقتضي أن ينقص عنها؟ على روايتين، (وشرط الوجوب) في سن الصغير وغيره عدم عود مثلها، فلو نبت مثل السن في محلها فلا شيء له، حتى لو كان قد أخذ الدية أخذت منه، كالشعر إذا نبت، نعم لو عادت قصيرة أو متغيرة فله الأرش، (ويشترط) أيضا لوجوب أخذ الدية الإياس من عودها، فإن رجي عودها لم تجب ديتها، والمرجع في ذلك إلى قول أهل الخبرة، قاله أبو البركات (وعن أحمد) أنه قيد ذلك في سن الصغير بسنة، فإذا مضت وجبت الدية، وقال القاضي: إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية وهو حسن، وإنما وقع لأحمد والقاضي التقييد في الصغير دون غيره لأن الغالب أن سن الكبير لا يرجى عودها، فلا انتظار.
تنبيهان (أحدهما) لو مات من قلعت سنه في مدة الانتظار فهل تجب دية السن لوجود سبب الدية. . . والأصل عدم العود، أو لا تجب، لاحتمال العود، والأصل براءة الذمة؟ فيه قولان،(6/161)
وأبو محمد يخصهما بسن الصغير، لأن الانتظار عنده إنما هو فيه.
(والثاني) تجب دية السن فيما ظهر منها من اللثة، لأن ذلك هو المسمى بها سنا، وما في اللثة يسمى سنخا، ولو قلعها ابتداء بسنخها لم يجب فيها أكثر من الدية.
قال: والأضراس والأنياب كالأسنان.
ش: أي يجب فيهم ما يجب في الأسنان، وذلك لما تقدم.
3005 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأسنان سواء الثنية والضرس سواء» رواه ابن ماجه وهو نص، وقد تقدم لنا قويل أن في كل ضرس بعيرين ولا عمل عليه.
قال: وفي الثديين الدية سواء كان من رجل أو امرأة.
ش: لأنهما مما في الإنسان منه شيئان، وقد تقدم أن كل ما في الإنسان منه شيئان فيه الدية، ولأن في ثدي المرأة جمالا ونفعا، أشبها اليدين وفي ثندوتي الرجل جمالا كاملا، أشبها أذني الأصم، وعلى هذا في أحدهما نصفها.
قال: وفي الأليتين الدية. . .
ش: لما تقدم، قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل(6/162)
العلم يقولون في الأليتين الدية، ولأن فيهما جمالا ومنفعة، لأنه يجلس عليهما كالوسادتين، فأشبها اليدين، وفي إحداهما نصفها لما تقدم.
قال: وفي الذكر الدية.
ش: لحديث عمرو بن حزم وقد تقدم، مع أنه إجماع والحمد لله، ولا فرق بين ذكر الكبير والصغير، وإن لم يقدر أن يجامع به، لعموم الحديث، مع صلاحيته لذلك، وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ذكر العنِّين والخصي، والذكر الأشل، ولا نزاع فيما نعلمه أن الذكر الأشل لا تكمل فيه الدية، وإنما الواجب فيه هل هو حكومة أو ثلث ديته؟ على روايتين يأتي توجيههما في اليد الشلاء أما ذكر الخصي والعنين ففيهما ثلاث روايات، (إحداها) وهي المشهورة حكمها حكم الذكر الأشل، لأن منفعة الذكر الإنزال والإحبال، وذلك مفقود فيهما.
(والثانية) فيهما كمال الدية، لعموم الحديث، ولأنه عضو سليم في نفسه، فكملت ديته كذكر الشيخ.
(والثالثة) يجب الكمال في ذكر العنين، لأنه غير مأيوس من الإنزال به والإحبال، بخلاف ذكر الخصي.
(تنبيه) ينبني على الخلاف السابق في ذكر الخصي إذا قطع الذكر والخصيتين معا، أو الخصيتين ثم قطع الذكر، وجبت(6/163)
ديتان بلا ريب، ولو قطع الخصيتين أولا، ثم قطع الذكر، وجبت دية الخصيتين، وفي الذكر روايتان، إحداهما دية، والأخرى حكومة أو ثلث ديته، على اختلاف الروايتين في الواجب فيه إذا لم يجب فيه كمال الدية.
قال: وفي اليدين الدية.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له حديث عمرو بن حزم، وفي إحداهما نصفها، وقد شمل كلامه اليد الشلاء والزائدة، وسيأتي الكلام على اليد الشلاء إن شاء الله تعالى، وحكم اليد الزائدة حكمها، وتجب الدية في قطعها من الكوع إذ اليد إذا أطلقت في الغالب أريد بها ذلك، بدليل التيمم، وقطع السارق، وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل، فإن قطهما من فوق ذلك فهل في الزائد حكومة، وهو اختيار القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، وأبو الخطاب، كما لو قطعه بعد قطعها من الكوع، أولا تجب، وهو منصوص أحمد في رواية أبي طالب، وقول القاضي في الجامع؟ على قولين، لأن اليد في الأصل اسم لليد إلى المنكب، مع أن الأصل براءة الذمة. وفي إحداهما نصفها إلا على رواية ضعيفة، وهو إذا لم تكن له إلا يد واحدة ففيها دية كاملة، كعين الأعور، وعلى(6/164)
هذه لو قطع يد من له يدان لم تقطع يده، بل يكون عليه دية كاملة.
قال: وفي الرجلين الدية.
ش: هذا أيضا إجماع والحمد لله، وحديث عمرو بن حزم يدل عليه، وكلامه يشمل رجل الأعرج، وهو المذهب، لأن العرج لمعنى في غير القدم، وعن أبي بكر: فيها ثلث الدية كاليد الشلاء، ويستثنى من عموم كلامه الرجل الشلاء فإن حكمها حكم اليد الشلاء، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وتجب دية الرجل في قطعها من الكعب، فإن قطعها من فوق ذلك فقولان، كما تقدم في قطع اليد، وحكم قطع إحداهما حكم قطع إحدى اليدين.
قال: وفي كل إصبع من اليد والرجل عشر من الإبل.
ش: لما تقدم من حديث عمرو بن حزم، وعمرو بن شعيب.
3006 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هذه وهذه سواء» . . . يعني الخنصر والإبهام رواه الجماعة إلا مسلما، وللترمذي وصححه: «أصابع اليدين والرجلين سواء، عشر من الإبل لكل أصبع» ويستثنى من كلامه الإصبع الزائدة، فإن فيها ثلث ديتها، أو حكومة، على اختلاف(6/165)
الروايتين، والله أعلم.
قال: وفي كل أنملة منها ثلث عقلها، إلا الإبهام فإنها مفصلان، ففي كل مفصل خمس من الإبل.
ش: في كل أنملة من الأصابع ثلث عقل الإصبع لأن كل إصبع فيه ثلاث أنامل، فديته مقسومة عليها، إلا الإبهام فإنها مفصلان، فتقسم دية الإصبع عليهما، فيجب في كل مفصل نصف ديته، وهو خمس من الإبل.
قال: وفي البطن إذا ضرب فلم يستمسك الغائط الدية، وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية.
ش: لأن كل واحد من هذين العضوين فيه منفعة ليس في البدن مثله، فوجب في تفويت منفعته دية كاملة، كسائر الأعضاء، وحكى ابن أبي موسى رواية في المثانة أن فيها ثلث الدية، والله أعلم.
قال: وفي ذهاب العقل الدية.
3007 - ش: لأن ذلك يروى عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن به يتميز من البهائم، ويعرف به حقائق المعلومات، ويدخل به في التكليف، وهو شرط في ثبوت الولايات، وصحة التصرفات، وأداء العبادات، فكان بإيجاب الدية أحق من(6/166)
بقية الحواس، وقد ادعى أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم «وفي العقل الدية» ، ولم أر ذلك، والله أعلم.
قال: وفي اليد الشلاء ثلث ديتها، وكذلك العين القائمة، والسن السوداء.
ش: هذا إحدى الروايتين عن إمامنا، واختيار عامة أصحابنا.
3008 - لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها، وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها» ؛ رواه النسائي، ولأبي داود منه: «قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية» .
3009 - وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في العين القائمة إذا خسفت، واليد الشلاء إذا قطعت، والسن السوداء، إذا كسرت ثلث دية كل واحدة منهن. (والرواية الثانية) في جميع ذلك حكومة، ولعله قال ذلك قبل أن يبلغه الخبر، أو قبل أن يثبت عنده، وإذا لا مقدر في ذلك، ولا يمكن إيجاب الدية فيه كاملة، لذهاب نفعه، فيجب فيه حكومة.(6/167)
تنبيهان: (أحدهما) العين القائمة هي الباقية في موضعها صحيحة، وإنما ذهب نظرها وإبصارها، واليد الشلاء التي بطلت لآفة تعتريها، ومن ثم قال القاضي: الروايتان في السن السوداء التي ذهب نفعها، أما إن لم يذهب نفعها بالكلية، ففيها ديتها كاملة، وخالفه أبو محمد عملا بإطلاق أحمد، وبظاهر الحديث.
(الثاني) : الروايتان السابقتان جاريتان في الرجل الشلاء، والإصبع الشلاء، والذكر الأشل، والثدي الأشل، ولسان الأخرس، ولسان الصبي الذي أتى عليه أن يحركه بالبكاء ولم يحركه، والثدي دون حلمته، والذكر دون حشفته، والكف دون أصابعه، وقصبة الأنف، واليد والإصبع، والرجل والسن الزوائد [وذكر الخصي والعنين على رواية، إلا أن المختار لأبي محمد في اليد والأصبع والرجل والسن الزوائد] أن فيها حكومة، وكذلك مختاره في الذكر، دون حشفته، والكف دون أصابعه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقتصر على ما تقدم، إما لورود النص فيها دون غيرها، وإما لأن مختاره وجوب الحكومة فيما عداها. واعلم أن أبا محمد جعل من صور الخلاف هنا شحمة الأذن، وكلامه في المغني في هذا الموضع يقتضي أن مختاره أن فيها حكومة، ولما تكلم في قطع الأذن، وأن في بعضها بالحساب من ديتها، قال: إنه روي عن أحمد أن في شحمة(6/168)
الأذن ثلث ديتها، وأن المذهب الأول، وعلى هذا الثاني جرى أبو البركات، ولم يحك رواية الحكومة.
قال: وفي إسكتي المرأة الدية.
ش: الإسكتان بكسر الهمزة وفتحها شفرا الرحم، وقيل جانباه مما يلي شفريه، وفيهما الدية، لأن فيها جمالا ومنفعة، وليس في البدن غيرهما من جنسهما، فوجبت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان، والله أعلم.
قال: وفي موضحة الحر خمس من الإبل.
ش: لما تقدم في حديث عمرو بن حزم.
3010 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الموضحة خمس من الإبل» رواه الخمسة. وقوله: في موضحة الحر. يحترز به عن موضحة العبد، فإن فيها نصف عشر قيمته أو ما نقص من قيمته، على اختلاف الروايتين والله أعلم.
قال: سواء كان رجلا أو امرأة.
ش: أي سواء كان المجني عليه رجلا أو امرأة، لعموم الحديث، ولما تقدم من أن جراحها تساوي جراح الرجل إلى الثلث، ونص الخرقي على ذلك لينبه على مذهب الشافعي(6/169)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن موضحتها على النصف من موضحة الرجل.
[جراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى الثلث]
قال: وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت صارت على النصف.
ش: قد تقدم الكلام على هذا بما فيه كفاية، ونزيد هنا أن مقتضى كلامه أنها تساويه في الثلث، وهذا اللفظ في هذا الموضع غير موجود في بعض النسخ.
قال: والموضحة في الوجه والرأس سواء.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي وعامة أصحابه، لعموم ما تقدم.
3011 - وعن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الموضحة في الرأس والوجه سواء.
(والرواية الثانية) : في موضحة الوجه عشر من الإبل، قال القاضي: نقلها حنبل انتهى. . . واختارها الشيرازي، وذلك لأن شينها أكثر، لظهورها، بخلاف موضحة الرأس فإنه يسترها(6/170)
الرأس والشعر، وأول أبو محمد هذه الرواية بعد أن زعم أن لفظها موضحة الوجه أحرى أن يزاد في ديتها. بأن معناها أنها أولى بإيجاب الدية، لا أنها يجب فيها أكثر، وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا مقدر في غير موضحة الرأس والوجه من المواضح، وهو كذلك، إذ اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس، وغيرهما ليس في معناهما، لأن شينهما أكثر، وخطرهما أعظم والله أعلم.
قال: وهي التي تبرز العظم وتوضحه.
ش: هذا بيان للموضحة أنها التي تبرز العظم أي تظهره، سميت بذلك لأنها أبدت وضح العظم أي بياضه، ولا فرق بين قليل ذلك وكثيره، حتى لو أبدت من العظم قدر إبرة فهي موضحة، ولو كانت كل الرأس فهي موضحة، ومن ثم قال الأصحاب: لو شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة، لم يلزمه أكثر من أرش الموضحة.
قال: وفي الهاشمة عشر من الإبل.
3012 - ش: لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولأنها شجة فوق الموضحة، تختص باسم، فكان فيها مقدر كالمأمومة، والله أعلم.
قال: وهي التي توضح العظم وتهشمه.(6/171)
ش: هذا بيان للهاشمة، وسميت بذلك لهشمها العظم، وكان ابن الأعرابي يجعل بعد الموضحة المفرشة، وهي التي يصير منها في العظم صديع مثل الشعرة، ويلمس باللسان لخفائه، انتهى. وتختص أيضا بالرأس والوجه كما في الموضحة، ولو هشمت العظم من غير إيضاح لم يجب أرش الهاشمة، على مقتضى كلام الخرقي، وهو كذلك بلا ريب، وهل تجب خمس من الإبل، لأنه الذي يخص الهشم، أو حكومة لأن زيدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يحكم إلا في إيضاح وهشم؟ فيه وجهان.
قال: وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل.
ش: قد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، وشهد له حديث عمرو بن حزم، والله أعلم.
قال: وهي التي توضح وتهشم وتسطو حتى تنقل عظامها.
ش: المنقلة زائدة على الهاشمة، لأنها التي توضح العظم وتهشم وتزيد في الهشم، حتى تزيل العظام عن مواضعها، وبذلك سميت المنقلة، لنقلها العظام.
قال: وفي المأمومة ثلث الدية.
ش: لحديث عمرو بن حزم.
3013 - وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في المأمومة بثلث العقل، ثلاث وثلاثون من الإبل، أو قيمتها من الذهب، أو الورق أو البقر، أو الشاء،(6/172)
والجائفة مثل ذلك» ، مختصر رواه أبو داود والنسائي.
قال: وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ.
ش: وتسمى أم الدماغ سميت بذلك لأنها تحوط الدماغ وتجمعه.
قال: وفي الآمة ما في المأمومة.
ش: الآمة والمأمومة حكمهما واحد، وهما شيء واحد، قال ابن المنذر: أهل العراق يقولون لها الآمة، وأهل الحجاز المأمومة أي لهذه الجراحة، وسميت بذلك لوصولها إلى جلدة الدماغ التي هي أم الدماغ.
(تنبيه) : فإن خرق جلدة الدماغ فهي الدامغة يعني بالغين المعجمة، وفيها ما في المأمومة، وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق الجلدة. قال القاضي: ولم يذكرها أصحابنا لمساواتها المأمومة في أرشها. قال أبو محمد: ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكون صاحبها لا يسلم غالبا والله أعلم.
قال: وفي الجائفة ثلث الدية.
ش: لما تقدم من حديث عمرو بن حزم وعمرو بن شعيب.(6/173)
قال: وهي التي تصل إلى الجوف.
ش: وبذلك سميت، وقد خرج من كلام الخرقي إذا طعنه في خده فوصل إلى فمه، أنها لا تكون جائفة، وهو المذهب، لأن الفم في حكم الظاهر لا في حكم الباطن، ولأبي الخطاب احتمال أنه جائفة، لوصوله إلى جوفه، والله أعلم.
قال: فإن جرحه في جوفه فخرج من الجانب الآخر، فهي جائفتان.
3014 - ش: اقتداء بأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعن سعيد بن المسيب أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه، فقضى أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بثلثي الدية رواه سعيد بن منصور في سننه، وروى ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[حكم من وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها]
قال: ومن وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية.
ش: معنى الفتق أن يجعل مدخل الذكر، وهو مخرج المني والحيض والولد، ومخرج البول واحدا، وقيل: بل هو خرق(6/174)
ما بين القبل والدبر، وبعده أبو محمد، لغلظ الحاجز بينهما، فيبعد ذهابه بالوطء، وفي ذلك ثلث الدية.
3015 - لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنها جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر، فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة، ويجب ذلك في ماله إن تعمد، بأن يعلم أنها لا تطيقه، وإن وطأها يفضيها، أما إن لم يعلم ذلك، وكان مما يحتمل أن لا يفضي إليه فهو شبه عمد، تحمله العاقلة على الصحيح، وقيد الخرقي بالصغيرة، وفي معناها النحيفة التي لا تحتمل الوطء، ولتخرج الكبيرة المحتملة له، فإنه إذا وطئها فأفضاها لا شيء عليه، لأنه وطء مستحق له، فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة، أو فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه، فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما أفضى إلى ذلك. وقال: زوجته لتخرج الأجنبية، فإنه إن زنا بها مطاوعة فلا شيء لها، وإن كانت مكرهة واستمسك البول وجب ثلث الدية، وإن لم يستمسك فالدية كاملة، وإن وطئها بشبهة فكذلك مع المهر.
قال: وفي الضلع بعير.
3016 - ش: يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الضلع بجمل، وشرط أبو البركات لذلك أن يجبر مستقيما، ومفهوم(6/175)
كلامه أنه لو لم يجبر مستقيما كان فيه حكومة، ولم أر هذا الشرط لغيره، وقد حكى القاضي في روايتيه أن أحمد قال: في الضلع بعير، وهذا لا قيد فيه.
قال: وفي الترقوة بعيران.
ش: الترقوة بفتح التاء، قال الجوهري: ولا تقل ترقوة بالضم، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وفيها بعيران على ظاهر كلام الخرقي، فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة.
3017 - وهذا قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والمنصوص أن في الواحدة بعيرا، فيكون فيهما بعيران.
3018 - وهذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو المذهب عند القاضي وأصحابه، حتى إن القاضي قال: مراد الخرقي(6/176)
بقوله: الترقوة: الترقوتان، وإنما اكتفى بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام المقتضية للاستغراق، والله أعلم.
قال: وفي الزند أربعة أبعرة لأنه عظمان.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقاله ابن عقيل في التذكرة، لما علل به الخرقي من أنه عظمان، ففي كل عظم بعيران. والمنصوص في رواية صالح وأبي الحارث أن في الزند الواحد بعيران، وفيهما جميعا أربعة من الإبل، وعليه القاضي وأصحابه وحمل القاضي كلام الخرقي أيضا على الزندين.
3019 - وذلك لما روى سعيد: حدثنا هشيم، أخبرنا يحيى بن كثير، ثنا سعيد، عن عمرو بن شعيب، أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في أحد الزندين إذا كسر، فكتب إليه عمر أن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من الإبل. وظاهر كلام الخرقي أنه لا مقدر في غير هذه العظام، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور.
3020 - وقيل له: إذا كسرت الذراع أو الساق، فقال: يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كل واحد فريضتان، ولا تكتبه،(6/177)
وظاهر هذا أنه لم يأخذ به، ونص في رواية أبي طالب أن في كسر الساق وفي كسر الفخذ بعيران، كذا في روايتي القاضي، وظاهر كلام أبي البركات أن في رواية أبي طالب مع ذلك العضد والذراع، وأن أحمد نص في رواية صالح أن في كل واحد من الأربعة بعيرا، قال: ورواه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (والرواية الثانية) اختيار القاضي وابن عقيل وأبي الخطاب، وزاد على ذلك عظم القدم، فجعل فيه بعيرين.
(تنبيهان) : (أحدهما) حيث أوجبنا بعيرا أو بعيرين ونحو ذلك، فإن في ذلك من البقر ونحوها بحساب ذلك، ذكره ابن عقيل.
(الثاني) الزند بفتح الزاي، قال الجوهري: موصل طرف الذراع في الكف وهما زندان بالكوع والكرسوع، وهو طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الناتئ عند الرسغ، والله أعلم.
[دية الشجاج التي لا توقيت فيها]
قال: قال أبو عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والشجاج التي لا توقيت فيها أولها (الحارصة) وهي التي تحرص الجلد يعني تشقه قليلا، وقال بعضهم: هي الحرصة ثم (الباضعة) وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، ثم (البازلة) وهي التي يسيل منها الدم ثم (المتلاحمة) وهي التي أخذت في اللحم، ثم (السمحاق) وهي التي بينها وبين العظم قشرة(6/178)
رقيقة، ثم (الموضحة) .
ش: الشجاج جمع شجة، وهي المرة إذا جرحه في رأس أو وجه، وقد تستعمل في غيرهما، والشجاج عشر، خمس فيها مقدر، وهي الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، وخمس لا مقدر فيها على المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، وهي هذه المذكورة، لعدم التقدير فيها من جهة الشرع، وما لا مقدر فيه الواجب فيه حكومة.
3021 - ويروى عن مكحول قال: «قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الموضحة بخمس من الإبل، ولم يقض فيما دونها» .
3022 - ونقل أبو طالب عنه حكم زيد في البازلة ببعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي المتلاحمة بثلاثة، وفي السمحاق بأربعة، وأذهب إليه، وهذا حكم أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما حكموا في الصيد، وهذا اختيار أبي بكر، وحكى الشيرازي عن ابن أبي موسى أنه اختار ذلك في السمحاق، انتهى. وعن القاضي أنه قال: متى أمكن اعتبار(6/179)
هذه الجراحات من الموضحة، مثل أن يكون في رأس المجني عليه موضحة إلى جانبها، قدرت هذه الجراحة منها، فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة، وإن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش. وعلى هذا، إلا أن تزيد الحكومة على ذلك، فيجب ما تخرجه الحكومة، مثاله الجراحة قدر نصف الموضحة، وشينها ينقص قدر ثلثيها، الواجب ثلثا أرش الموضحة، وإن نقص الشين عن النصف، فالواجب النصف، وملخصه أنه يوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة. قال أبو محمد: وهذا لا نعلمه مذهبا لأحمد، ولا يقتضيه مذهبه. . . انتهى. وأما تفسير هذه الشجاج وترتيبها (فأولها) الحارصة، قال الأزهري: هي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلا ومنه: حرص القصار الثوب. أي خرقه، بالدق، (ثم يليها) - على ما قال الخرقي، وتبعه ابن البنا - الباضعة، وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، يعني ولا يسيل منها دم، بدليل ما ذكر بعد، وكذلك قال الجوهري، وابن فارس: الباضعة الشجة التي تقطع الجلد، وتشق اللحم، إلا أنه لا يسيل الدم، فإن سال فهي الدامية، وقال أبو محمد: الصواب الحارصة، ثم(6/180)
البازلة، ثم الباضعة، وقال: لعل ما في النسخ غلط من الكتاب، قال: لأن الباضعة التي تشق اللحم بعد الجلد، ويسيل منها دم كثير في الغالب، بخلاف البازلة، فإنها الدامعة، لقلة سيلان دمها.
3023 - قال: ولأن زيدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل في البازلة بعيرا، وفي الباضعة بعيرين، فدل على أن الباضعة أشد، انتهى. وهذا قول الأصمعي والأزهري، وبالجملة اتفقوا فيما علمناه على تقديم الحارصة، وتأخير السمحاق، واختلفوا في البازلة مع الباضعة، أيهما يقدم على الأخرى - والبازلة فاعلة من: بزلت الشجة الجلد، أي شقته فجرى الدم، يقال: بزلت الخمر. ثقبت إناءها فاستخرجتها، فالدم محبوس في محله، كالمائع في وعائه، والشجة بزلته، والسمحاق قشرة رقيقة فوق عظم الرأس، فإذا وصلت الشجة إليها سميت سمحاقا باسمها، والله أعلم.
[دية ما لم يكن فيه من الجراح توقيت]
قال: وما لم يكن فيه من الجراح توقيت، ولم يكن نظيرا لما وقتت ديته ففيه حكومة.
ش: الذي فيه من الجراح توقيت كالموضحة، والمنقلة، وكذلك الأنف واللسان، ونحو ذلك، والذي هو نظير الموقت كالهاشمة، والأليتين، ونحو ذلك، أي تقدير من جهة(6/181)
الشرع، وما عدا هذين، وهو ما لا موقت فيه، ولا يمكن قياسه على الموقت، كجراح البدن سوى الجائفة، وكسر العظام سوى ما تقدم، كخرزة الصلب والعصعص، ونحو ذلك ففيه حكومة، حذارا من أن تخلو الجراحة من أرش.
[تعريف الحكومة]
قال: والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت، فما نقص من القيمة فله مثله من الدية، كأنه قيمته وهو عبد صحيح عشرة، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة، فيكون فيه عشر ديته.
ش: قال ابن المنذر: إن هذا قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة، فأجزاؤه مضمونة، كما أن المبيع إذا كان مضمونا على البائع، كانت أجزاؤه مضمونة عليه، ولو كان مضمونا على المشتري كانت أجزاؤه مضمونة عليه، فالأجزاء تابعة للأصل، وإذا كانت الأجزاء مضمونة، ولم يرد فيها تقدير من جهة الشرع، فالواجب سلوك هذه الطريقة، لنصل إلى الواجب، فيجعل الحر عبدا ليمكن تقويمه، إذ الحر ليس بمال، وغير المال لا يقوم، فيقال: كم قيمة هذا لو كان عبدا لا جناية به؟ فيقال مثلا: مائة، ويقال: وكم قيمته وبه الجناية؟ فيقال(6/182)
مثلا: ثمانون. فما بينهما من القيمتين هو الخمس، فيكون له خمس الدية، لأن ديته بمنزلة قيمته.
قال: وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص. . .
ش: يعني إنما ذكرته مثالا، وقد تزيد الحكومة على مثاله كما مثلنا، وقد تنقص، كما لو قيل: قيمته وهو صحيح عشرة، وقيمته وبه الجناية تسعة ونصف، فما بينهما نصف عشر قيمته، فيكون فيه نصف عشر ديته.
قال: إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه، فتكون أسهل مما وقت ديته فيه، فلا يجاوز به أرش الموقت.
ش: يعني أن الواجب ما أخرجته الحكومة مطلقا، ويستثنى من ذلك إذا كانت الجراحة في شيء فيه مقدر، فإنه لا يجاوز به المقدر، حذارا من أن يجب في بعض الشيء أكثر مما يجب فيه كله، ولأن الضرر في الموضحة مثلا أكثر من الضرر في البازلة، وشينها أعظم، فلا يناسب أن يزيد أرش البازلة على أرش الموضحة، وفي بلوغ المقدر وجهان (أحدهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي، وإليه ميل أبي محمد - يبلغ، نظرا إلى أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة، سقط الزائد على أرش الموضحة مثلا لمخالفة تنبيه النص، ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل.
(والثاني) - وهو اختيار الشريف، وابن عقيل، وقال القاضي في جامعه: إنه المذهب - لا يبلغه، بل ينقص عنه شيئا، حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد، حذارا من أن يجب في البعض ما يجب في الكل، ونقضه أبو محمد بأن دية الأصابع فيها ما(6/183)
في اليد، قال: وإن صح ما ذكر فينبغي أن ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحدودة، ومثال المسألة لو شجه بازلة أو سمحاقا، لم تبلغ بأرش ذلك (زيادة) على أرش الموضحة، وفي بلوغه أرش الموضحة وجهان، وكذلك لو جرحه في بطنه جرحا لا يصل إلى الجائفة، لا يزيد أرشه على أرش الجائفة، وفي مساواتها وجهان، وكذلك لو جرحه في أنملته جرحا لم يزد على أرش الأنملة، وفي مساواتها على الوجهين. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقتصر على ذكر الرأس والوجه، ومفهوم كلامه اختصاص الامتناع بهما، فعلى هذا يجوز أن يزيد أرش جرح الأنملة على ما فيها، وغيره من الأصحاب عدى الحكم إلى كل ما فيه مقدر كما تقدم.
(تنبيه) : التقويم بعد البرء قياسا على أرش الجرح المقدر، فإنه لا يستقر إلا بعد برئه، فإن لم تنقصه الجناية شيئا حال البرء، فعنه - وهو اختيار أبي محمد - لا شيء فيها، إذ الحكومة لأجل جبر النقص، ولا نقص، أشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر (وعنه) وهو المنصوص، واختيار القاضي وغيره: بلى، لأن هذا جزء من مضمون، فلم يخل عن ضمان، كما لو أتلف منه مقدرا ولم ينقصه شيئا، فعلى هذا هل يقوم حال الجناية، أو قبيل الاندمال التام، فإن لم ينقص فحال الجناية؟ فيه وجهان، فإن لم ينقص حال الجناية أو(6/184)
زادته حسنا كإزالة لحية المرأة، أو سن زائدة، فلا شيء على الأصح عند الشيخين، وقال أبو الخطاب في الهداية: يقوم كأنه عبد كبير له لحية فذهبت، وأشانته، فما نقص لزمه من دية المرأة بقسطه، قال: وفيه نظر. وفي السن الزائدة قال أبو محمد على هذا القول: يقوم كأن لا سن له زائدة ولا خلقة أصلية، ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة، قال: ولو كانت المرأة إذا قدرناها ابنة عشرين فنقصها ذهاب لحيتها يسيرا، وإذا قدرناها ابنة أربعين تنقصها كثيرا، قدرناها ابنة عشرين كما يقوم الجرح الذي لم ينقص بعد الاندمال أو قبله.
[دية العبد والأمة والخنثى فيما ليس فيه توقيت]
قال: وإن كانت الجناية على العبد مما ليس فيه من الحر شيء موقت، ففيه ما نقصته بعد التئام الجرح، وإن كان فيما جني عليه شيء موقت في الحر، فهو موقت في العبد.
ش: لا نزاع أن ما لا مقدر فيه من الحر يضمن العبد إذا جني عليه فيه بما نقص، لأن ضمانه ضمان الأموال، فيجب ما نقص كالبهائم، ولأنه مما يضمن بالقيمة، وإن كثرت فيضمن بما نقص، كسائر الأموال، واختلف فيما فيه مقدر من الحر، إذا جني على العبد فيه، (فعنه) - وهو اختيار الخلال - يضمن ما نقص أيضا، لما تقدم.
3024 - واعتمادا من أحمد على أنه قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -(6/185)
و (عنه) - وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي وأصحابه - أن ما كان مقدرا في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته، نظرا إلى أنه آدمي، يضمن بالقصاص والكفارة، فكان في أطرافه مقدرا كالحر، ولأن له شبها بالآدميين وبالبهائم، كما هو مقرر في موضعه، فجعلناهم فيما لا مقدر فيه كالبهائم، وفيما فيه مقدر كالأحرار، إعمالا لكل من الشبهين.
3025 - وقد روي هذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال: ففي يده نصف قيمته، وفي موضحته نصف عشر قيمته، سواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر.
ش: لا تفريع على الرواية الأولى، بل الواجب النقص مطلقا، أما على مختار الخرقي - وهو المذهب - ففي يد العبد نصف قيمته، كما في يد الحر نصف ديته وفي موضحته نصف عشر قيمته كما في موضحة الحر نصف عشر ديته، وفي لسانه أو ذكره، أو يديه جميع قيمته، مع بقاء الملك عليه، كما أن في الحر في كل واحد من هذه الدية، وعلى هذا، وسواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر، إناطة بالتقدير، وعلى هذا لو جني عليه جناية لا مقدر فيها في الحر، إلا أنها في شيء فيه مقدر، كما لو جني عليه في رأسه أو وجهه دون الموضحة، هل يضمن بما نقص مطلقا، وإليه(6/186)
ميل أبي محمد اعتبارا بالأصل، أو إن نقص أكثر من أرشها وجب نصف عشر قيمته، كالحر إذا زاد أرش شجته التي دون الموضحة على نصف عشر ديته؟ فيه قولان، والله أعلم.
قال: وهكذا الأمة.
ش: الأمة كالعبد فيما تقدم، لأنها مال كهو.
(تنبيه) : فإن بلغت جراحتها ثلث قيمتها، فقال أبو محمد: يحتمل أن يرد جنايتها إلى النصف، فيكون في ثلاثة أصابعها ثلاثة أعشار قيمتها، وفي الأربع خمس قيمتها، كالحرة تساوي الرجل في جراحها إلى الثلث، فإذا زادت ردت إلى النصف، قال: ويحتمل أن لا ترد إلى النصف؛ لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل، إذ الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية. قلت: وهذا هو الصواب، إذ قياسها على الحرة إنما يقتضي أن تكون فيما نقص عن الثلث تساوي الذكر من الأرقاء في قيمته، ولا يتأتى هذا.
قال: فإن كان المقتول خنثى مشكلا ففيه نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى.
ش: كما يرث نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى، ولأنه يحتمل الذكورية والأنوثية، احتمالا واحدا، وقد يئس من انكشاف حاله، فوجب التوسط بينهما، حذارا من ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح.
(تنبيه) : جراحه ما لم يبلغ الثلث منها الواجب فيه دية(6/187)
ذكر، وما زاد على الثلث الواجب فيه ثلاثة أرباعها نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى، وفي الثلث قولان، والله أعلم.
قال: وإن كان المجني عليه نصفه حرا، ونصفه عبدا فلا قود.
ش: يعني إذا كان الجاني حرا، لعدم الكفاءة المعتبرة شرعا كما تقدم، ولو كان الجاني رقيقا وجب القود بلا ريب، لأن المجني عليه أكمل منه. وكذلك لو كان نصفه حرا لتساويهما، ومن ثم لو كانت الحرية في القاتل أكثر فلا قود، لعدم التساوي.
قال: وعلى الجاني إذا كان عمدا نصف دية حر، ونصف قيمته.
ش: لأنه والحال ما تقدم نصفه حر، والواجب في الحر الدية، ففي نصفه نصفها، ونصفه رقيق، والواجب قيمة الرقيق، ففي نصفه نصفها، ويكون ذلك في مال الجاني، لأنه عمد، والعاقلة لا تحمل عمدا.
قال: وهكذا في جراحه.
ش: يعني يجب فيه نصف ما يجب في الحر، ونصف ما يجب في العبد، ففي لسانه نصف دية حر، ونصف قيمة عبد، وفي يده أو رجله ربع دية حر، وربع قيمة عبد. وفي موضحته ربع عشر دية حر، وربع عشر قيمة عبد، وعلى هذا - هذا على مختار الخرقي الذي هو المذهب، في أن العبد يضمن بالمقدر، أما على الرواية الأخرى ففي لسانه نصف دية(6/188)
حر، ونصف ما نقص، وفي يده أو رجله ربع دية حر، ونصف ما نقص، وفي موضحته ربع عشر دية حر، ونصف ما نقص، والله أعلم.
قال: فإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته.
ش: أي وإن كان القتل خطأ ففي مال الجاني نصف قيمته في ماله، لأنها وجبت بدل رقيق، والعاقلة لا تحمل رقيقا.
قال: وعلى عاقلته نصف الدية.
ش: لأنها بدل حر، والعاقلة تحمل الحر في الخطأ.
(تنبيه) : والحكم في الجراح أن ما كان عمدا كان في مال الجاني، وكذلك إن كان خطأ ولم يبلغ الثلث، وإن بلغه فعلى العاقلة.(6/189)
[كتاب القسامة]
ش: القسامة الأيمان يقسم بها أولياء الدم على استحقاق دم صاحبهم، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، وهو مصدر يقال: أقسم يقسم قسامة إذا حلف.
3026 - والأصل فيها ما «روى سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة وحويصة ابنا مسعود، إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: «كبر كبر» وهو أحدث القوم، فسكت فتكلما، فقال: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم» ؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده» ، وفي رواية فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» . قالوا: يا رسول الله قوم كفار» . رواه الجماعة.
3027 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، «عن(6/190)
أناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما كانت في الجاهلية، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر.» رواه مسلم وغيره.
(تنبيه) : «يتشحط في دمه» أي يضطرب، «وكبر كبر» أي ليتكلم الأكبر، «وبرمته» يقال: أخذت الشيء برمته، إذا أخذته جميعه، والرمة الحبل، كأنه أعطاه بحبله الذي يكون فيه يقاد به.
قال: وإذا وجد قتيل فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولا لوث، ولم تكن لهم بينة، لم يحكم لهم بيمين ولا غيرها.
ش: غير اليمين القصاص، أو الدية، ولا نزاع عندنا أنه لا يحكم لهم والحال هذه بذلك.
3028 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم وغيره، وظاهره أنه ليس على المدعى عليه غير اليمين، ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يثبت شغلها إلا بدليل ولم يوجد، واختلف عن أحمد(6/191)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - هل يحكم لهم باليمين على المدعى عليه. (فعنه) - وهو اختيار الخرقي - لا يحكم لهم بذلك، لأنها دعوى لا يقضى فيها بالنكول، فلم يستحلف فيها كالحدود، وإنما لم يقض فيها بالنكول حذارا من قتل نفس بأمر محتمل. (وعنه) - وهو اختيار أبي محمد وهو الحق - يحكم لهم بذلك، لعموم الحديث المتقدم، لا سيما والدماء مذكورة في أوله، وذلك قرينة دخولها في اللفظ العام، ولأنه حق لآدمي، فاستحلف فيه كبقية الحقوق، وعدم القضاء بالنكول ليس هو العلة في عدم الحلف في الحدود، وإنما العلة تمحض حقيقته لله تعالى، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى فعلى هذه هل يحلف المدعى عليه يمينا واحدة، اعتمادا على ظاهر الحديث وكبقية الحقوق، وهو اختيار أبي محمد، وابن البنا، وأبي الخطاب، أو خمسين يمينا، لأنها دعوى في قتيل، فكان المشروع فيها خمسين يمينا، كما لو كان بينهما لوث؟ على روايتين، وحيث حلف المدعى عليه فلا كلام، وحيث امتنع لم يقض عليه بالقود، بلا نزاع عندنا، حذارا مما تقدم، وهل يقضى عليه بالدية؟ فيه روايتان، وإذا لم يقض فهل يخلى سبيله، أو يحبس؟ على وجهين. واعلم أن محل الخلاف في أصل المسألة في قتل العمد، أما قتل الخطأ فيستحلف فيه رواية واحدة، لأن موجبه مال. وقول الخرقي: وإذا وجد قتيل، وادعى أولياؤه على قوم. شرط هؤلاء القوم أن يكونوا معينين، فلو كانت الدعوى على(6/192)
أهل مدينة ونحو ذلك لم تسمع، قياسا على سائر الدعاوي، وقوله: لا عداوة بينهم ولا لوث. يحترز عما لو كان بينهم ذلك كما سيأتي. . . وقوله: ولم تكن لهم بينة. يحترز عما لو كانت بينة، فإنها تبين الحق وتظهره، فيعمل بمقتضاها، والله أعلم.
قال: وإن كان بينهم عداوة ولوث، وادعى أولياؤه على واحد منهم، وأنكر المدعى عليه، ولم يكن للأولياء بينة، حلف الأولياء خمسين يمينا على قاتله، واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا.
ش: الأصل في هذه الجملة من جهة الإجمال ما تقدم من حديث سهل بن أبي حثمة، فإن القتيل كان من الأنصار، ولا ريب أن الأنصار ويهود خيبر كانوا متعادين، ولما ادعى أولياء الأنصاري القتل على اليهود، وأنكروا ذلك، ولم تكن لأولياء الأنصاري بينة، قال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم» ، وفي لفظ قال: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الأولياء يقسمون على القاتل ويستحقونه. أما من جهة التفصيل فقول الخرقي: وإن كان بينهم عداوة ولوث تنبيه على أن القسامة المذكورة من شرطها ذلك، وهو كذلك بلا ريب، لأن الحديث ورد على مثل ذلك، وهو(6/193)
المثبت للقسامة، فلا يتعداه، ولأنه مع العداوة ونحوها يغلب على الظن صدق المدعين، فتكون اليمين في جهتهم، إذ اليمين في جنبة أقوى المتداعيين، ولا نزاع عن إمامنا وأصحابنا أن الحكم يثبت بالعداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار وأهل خيبر، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر، وكما بين أهل البغي وأهل العدل، وبين الشرطة واللصوص، ونحو ذلك، نظرا إلى واقعة الحديث، وما في معناها، من حيث أن لا فارق، فهو كقياس الشيرج على السمن، والأمة على العبد. واختلف عن إمامنا هل يقتصر على ذلك، وبه قطع جماعة من الأصحاب، وقال أبو الخطاب: إنه اختيار عامتهم، اقتصارا على مورد النص وما في معناه، أو يتعدى ذلك إلى كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى، كتفرق جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، وشهادة من لا يثبت القتل بشهادته، كالعدل الواحد، أو النساء أو الصبيان، أو الفساق ونحو ذلك، إناطة بغلبة الظن، لأن ذلك معنى مناسب، ولأن كثيرا من الأحكام يناط بها؟ على روايتين ثم قول الخرقي: عداوة ولوث، ظاهره أنه لا بد من الجمع بينهما، فيحتمل أن يريد أنه لا يكتفى بمجرد العداوة، بل لا بد من قدر(6/194)
زائد، وهو (إما) ظهور العداوة كما تقدم، وعبر عن ذلك باللوث، (وإما) أن لا يكون في الموضع الذي وقع به القتل غير العدو، كما هو رأي القاضي في موضع، لكن منصوص أحمد أن ذلك لا يشترط، وكذلك وقع للقاضي في موضع، قال في قوم ازدحموا في مضيق، فافترقوا عن قتيل: إن كان في القوم من بينه وبينه عداوة، وأمكن أن يكون هو قتله، لكونه يقر به فهو لوث، (وإما) أن يكون بالقتيل مع العداوة أثر القتل. وقد اختلف عن أحمد هل فقد الأثر قادح في اللوث لضعف غلبة الظن إذا، إذ القتل لا يخلو غالبا من أثر، ولأن الواقعة التي وقعت في الأنصاري كان به أثر القتل، لأنه كان يتشحط في دمه قتيلا - وهذا اختيار أبي بكر - أو ليس بقادح، لأن القتل لا يستلزم الأثر، لأنه قد يغمه أو يعصر خصيتيه، ونحو ذلك - وهو اختيار القاضي وجماعة من أصحابه، الشريف وابن البنا، وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم؟ على روايتين (وإما) أن الواو بمعنى أو، ويكون مختاره الرواية الثانية، انتهى. وقوله: وادعى أولياؤه، ظاهره أنه لا بد من اتفاق جميع الأولياء في الدعوى على المتهم بقتله. فلو ادعى أحدهم أنه قتل، وقال آخر: بل مات حتف أنفه، أو ادعى أحدهم أن زيدا قتله، وآخر أن عمرا قتله، لم(6/195)
تشرع القسامة، إذ مع ذلك تضعف غلبة الظن أو تزول، ومن ثم قال أبو البركات: إن ذلك قادح في اللوث، انتهى. وقوله: على واحد منهم، يحترز عما لو ادعوا القتل على جماعة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وقوله: وأنكر المدعى عليه، ولم تكن للأولياء بينة. لأن مع الإقرار أو البينة يثبت الحق وتزول القسامة. وقوله: حلف الأولياء، فيه أمران (أحدهما) أن البادئ باليمين هم أولياء المقتول، وهذا مذهبنا، لحديث سهل بن أبي حثمة، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» غايته عموم فيتخصص بذلك.
3029 - وقول عبد الرحمن بن بجيد أن سهلا والله أوهم الحديث، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى يهود: «أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه» فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده بمائة ناقة» .
3030 - وكذلك حديث «أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من الأنصار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لليهود وبدأ بهم: «يحلف منكم خمسون رجلا» فأبوا، فقال(6/196)
للأنصار: «استحقوا» ، قالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله، فجعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية على اليهود، لأنه وجد بين أظهرهم» . رواهما أبو داود، لا يقاومان حديث سهل، لاتفاق الأئمة على إخراجه وصحته، ودعوى الوهم الأصل عدمه، لا سيما وسهل ممن حضر الواقعة وعرفها. قال في الصحيح: «فبعث إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة ناقة حمراء، حتى أدخلت عليهم الدار، فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء» . فإن قيل: ففي بعض الروايات عن سهل، عن رجال من كبراء قومه، وهذا يدل على أنه لم يشهد الواقعة، قيل: يجمع بين الروايات بأن يكون ابتداء القصة كان عن إخبار، ثم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة ولليهود كان عن مشاهدة، ثم لو ثبت أن الجميع كان عن غير مشاهدة، فسهل صحابي، ومراسيل الصحابة حجة، وقد قال: عن رجال من كبراء قومه، لا ريب أنهم من الصحابة، ثم حديث عبد الرحمن بن بجيد، والرجل الذي من الأنصار متعارضان،(6/197)
إذ في حديث عبد الرحمن أن اليهود كتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وداه، وفي حديث الأنصاري أن اليهود أبوا أن يحلفوا، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الدية عليهم.
3031 - وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» رواه الدارقطني، وهذا نص يقطع النزاع إن ثبت. (الأمر الثاني) من هم الأولياء؟ فيه عن أحمد روايتان. .
(إحداهما) - وهي اختيار ابن حامد، وزعم أبو محمد أنه ظاهر قول الخرقي، من قوله: إذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، وليس بالبين - أنهم الرجال الوراث، من ذوي الفروض أو العصبات، دون غيرهم، لأنهم المستحقون للقتل، المطالبون به، فاختصت اليمين بهم، كبقية الدعاوي ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب المتقدم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» ، فظاهره أن في القسامة اليمين على المدعي، والمدعي هو المستحق للدم.(6/198)
(والثانية) : واختارها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا وشيخهم فيما أظن، أنهم العصبة وراثا كانوا أو غير وراث، لحديث سهل: «يقسم خمسون منكم» ، والظاهر أنه لم يكن له من الورثة خمسون رجلا، وفي الحديث قال: «فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن؛ «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» قالوا: لا.» وهذا تصريح بأن الخطاب والجواب وقع لعصبة غير وراث، وهما حويصة ومحيصة، إذ هما ابنا عم القتيل. ولا نسلم أن الدعوى في القسامة إنما تكون من المستحقين للدم، بل تكون للعصبة مطلقا، بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منع عبد الرحمن من الكلام، وأذن لحويصة ومحيصة، ففي الحديث: فذهب عبد الرحمن ليتكلم، لمكانه من أخيه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كبر كبر» ، فتكلم حويصة ومحيصة، وكأن المعنى فيها والله أعلم طلب الثأر، وذلك لا يختص الورثة، وهذا ظاهر لا خفاء به، ومن الغريب جزم أبي البركات بالرواية الأولى، مع مخالفتها لظاهر الحديث، وعلى هذه الرواية يبدأ من العصبة بالمستحقين للدم، فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبات، الأقرب فالأقرب، فإن لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم، وقسمت بينهم، انتهى. وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنهم العصبة الوراث.(6/199)
وقول الخرقي: خمسين يمينا؛ للحديث وفيه لفظان، يقسم خمسون منكم، أتحلفون خمسين يمينا؛ وقوله: على قاتله، قد يقال: إنه يشمل القاتل عمدا أو خطأ، وقول الخرقي بعد: واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا؛ أي وإن كانت غير عمد فالدية، لما تقرر أن الواجب في غير العمد الدية، وهذا منصوص أحمد، وقول الأصحاب: لأنها دعوى قتل، فشرعت فيها القسامة كالعمد، وأخذ أبو محمد في المغني من هذه المسألة، ومما يأتي بعد، أن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع في الخطأ، وقطع بذلك عنه في المقنع، فقال: وذكر الخرقي أن من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمدا، ومال هو أيضا إلى ذلك، لأن من شرط القسامة اللوث، واللوث على الصحيح عندهم هو العداوة، وتبعد التهمة مع الخطأ، وهذا نظر حسن إلا أن كلام الخرقي ليس بالبين في ذلك، ولذلك لم أر أحدا من الأصحاب عرج عليه، وقول أبي البركات، وقيل: لا قسامة في الخطأ؛ يشير إلى قول أبي محمد، ولو اتضح له أن ذلك ظاهر كلام الخرقي أو نصه لصرح بذلك عنه، وبالجملة القول بالقسامة في الخطأ واضح إن قيل: اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي، أما إذا قيل: اللوث هو العداوة فقط ففي القسامة في الخطأ نظر انتهى. وقوله: واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا. هذا مذهبنا(6/200)
أن القسامة قد توجب القصاص، لما تقدم في الحديث: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» .
3032 - وفي لفظ لأحمد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم نسلمه» .
3033 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء على شط لية، فقال القاتل والمقتول منهم» ، رواه أبو داود.
3034 - وقول أبي قلابة في صحيح البخاري: «ما قتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في إحدى ثلاث خصال، رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنا بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله» ، وإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال: أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم مردود بحديث سهل، وهو صحابي، وأعرف منه بالقصة لحضورها، ثم هو مثبت، والمثبت مقدم على النافي.
(تنبيه) : «الجريرة» الذنب والجرم الذي يجنيه الإنسان، «وبحرة الرغاء» البلدة.
قال: فإن لم يحلف الأولياء حلف المدعى عليه خمسين(6/201)
يمينا وبرئ.
ش: هذا هو المذهب المعروف، لحديث سهل «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يتبرؤون منكم، وفي لفظ: «فتحلف لكم يهود» ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه، فبرئ بها كسائر الأيمان، وحكي (عن أحمد) رواية أخرى أنهم يحلفون ويغرمون الدية، لحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار المتقدم، وهو إن صح لا يدل، لأن اليهود لم يحلفوا، فعلى المذهب لو نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب عليه القود، وهل تجب عليه الدية - وهو اختيار أبي بكر والشريف، وأبي الخطاب وأبي محمد - كبقية الدعاوي، أو لا تجب بل تكون في بيت المال؟ على روايتين، وعلى الثانية. . . هل يخلى سبيله، أو يحبس حتى يقر أو يحلف؟ على روايتين.
قال: فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال.
ش: لما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى عبد الله بن سهل لما لم يرض الأولياء بيمين اليهود، فإن تعذر الفداء من بيت المال لم يجب على المدعى عليه شيء، إذ الواجب عليه اليمين، ومستحقها امتنع من استيفائها. قال: وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال: دمي عند فلان. فليس ذلك بموجب للقسامة ما لم يكن لوث.
ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس(6/202)
بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» ولأنه خصم، فلم تكن مجرد دعواه لوثا كالخصم، والله أعلم.
قال: والنساء والصبيان لا يقسمون.
ش: لا نزاع أن الصبيان لا يقسمون، سواء كانوا من أهل القتيل أو مدعى عليهم، لأن الأيمان حجة للحالف، والصبي لا يثبت بقوله حجة، حتى إنه لو أقر على نفسه لم يقبل، فعلى هذا إذا كان مستحق الدم بالغا وصبيا فهل تشرع القسامة في حق البالغ، وهو المشهور، أو لا تشرع حتى يبلغ الصبي، وهو اختيار أبي محمد؟ فيه وجهان، وعلى المذهب يحلف البالغ ويستحق نصف الدية، وهل يحلف خمسين يمينا، قاله أبو بكر في الخلاف، أو خمسا وعشرين، وهو اختيار ابن حامد؟ فيه وجهان، وعلى الوجهين إذا بلغ الصبي حلف خمسا وعشرين، واستحق بقية الدية، وفيه وجه آخر أنه يحلف خمسين يمينا، كالبالغ ابتداء في وجه قوي، والحكم في المجنون والغائب، والناكل عن اليمين، كالحكم في الصبي. وأما النساء فلا يقسمون أيضا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خاطب الرجال فقال: «يقسم خمسون منكم» الحديث، وزعم أبو محمد أن في الحديث «يقسم خمسون رجلا منكم» ولم أره، ولأن الأيمان في القسامة من المدعين نزلت(6/203)
منزلة الشهادة، ولا مدخل للنساء في شهادة القتل، فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء أقسم الرجال، وسقط حكم النساء، فإن كان الجميع نساء فهو كما لو نكل الورثة وقد تقدم.
(تنبيه) : هل للخنثى المشكل مدخل في القسامة؟ فيه وجهان (أحدهما) نعم، وهو ظاهر كلام الخرقي، لأن سبب القسامة وهو الاستحقاق قد وجد، والمانع مشكوك فيه.
(والثاني) لا، إذ القتل لا يثبت بشهادته فهو كالمرأة.
قال: وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، وحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا.
ش: لما تقدم للخرقي أن النساء لا مدخل لهن في القسامة، أشار إلى أنها تشرع في حق الرجال الوارثين، وأنها تقسم بينهم على قدر إرثهم - ومن هنا قال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي أنها تختص بالوراث، وقد تقدم، فعلى هذا إذا خلف المقتول ابنين، حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا، ولا كسر، وإن خلف ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا، إذ تكميل الخمسين واجب، ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم عن بعض، حذارا من الترجيح بلا مرجح، فوجب تكميل اليمين المكسورة على الجميع، نظرا إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
قال: وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا. حرا أو عبدا، إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل، لأن(6/204)
القسامة توجب القود، إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية.
ش: أما المسلم الحر فلا نزاع فيه، لورود الحديث فيه، وأما الكافر والعبد ففي معناه، إذ المقتضى للقسامة اللوث، وهو موجود في قتلهما، وعلى هذا يحلف سيد العبد، ويستحق القصاص أو قيمته، ثم إن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع إلا فيما يوجب القصاص، كذا فهم أبو محمد، واختار ذلك، فعلى هذا لا تشرع في غير العمد المحض، ولا في قتل غير المكافئ ونحو ذلك، والمشهور مشروعية القسامة في جميع ذلك، حتى إني لم أر الأصحاب عرجوا على كلام الخرقي، والذي يظهر مشروعيتها في غير الخطأ، لوجود اللوث المقتضي لها، بخلاف الخطأ، فإن اللوث وهو العداوة على المشهور لا يتأتى، والله أعلم.
قال: وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد.
ش: لا نزاع عندنا أن القسامة [عندنا] لا تشرع على أكثر من واحد، إذا كانت الدعوى موجبة للقصاص، اعتمادا على الحديث، وهو قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» وحذارا من أخذ أنفس بنفس واحدة، ببينة ضعيفة، وبيان ضعفها أن الحق هنا ثبت بقول المدعي مع يمينه، مع التهمة في حقه، وقيام العداوة المانعة من صحة شهادته على عدوه في حق لغيره، فما بالك في حق لنفسه، وفارق البينة، فإنها قوية بالعدد، وعدالة الشهود، وانتفاء التهمة في حقهم، لأنهم لا يثبتون لأنفسهم حقا، ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه، واختلف عن إمامنا هل تشرع القسامة على أكثر من(6/205)
واحد، إذا كانت الدعوى موجبة للدية؟ (فعنه) - وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر والقاضي، وجماعة من أصحابه، الشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل - لا تشرع، اقتصارا على مورد النص (وعنه) تشرع، لأنها بمنزلة البينة في إثبات القود، فكذلك في القسامة على أكثر من واحد، وإنما تركنا ذلك فيما إذا كانت موجبة للقصاص، للمحذور السابق، وقد انتفى هنا، فعلى هذا هل يحلف كل واحد من المدعى عليهم خمسين يمينا، أو قسطه منها؟ على وجهين.
[كفارة القتل الخطأ]
قال: ومن قتل نفسا محرمة، أو شارك فيها، أو ضرب بطن امرأة، حرة كانت أو أمة، فألقت جنينا ميتا، وكان القتل خطأ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، توبة من الله عز وجل. . . وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على أن على قاتل العمد أيضا تحرير رقبة.
ش: الأصل في كفارة القتل في الجملة الإجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية.(6/206)
إذا تقرر هذا فقول الخرقي: من قتل، يشمل الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمكلف وغير المكلف، والمسلم والكافر، والآية الكريمة صالحة لدخول جميع ذلك فيها إلا غير المكلف، فإنه لا يتناوله الخطاب التكليفي، فإذا وجوب الكفارة في ماله بضرب من القياس، وهو أن الكفارة حق مالي يتعلق بالقتل، فتعلقت بغير المكلف كالدية، وفيه شيء، إذ الدية لا تتعلق به، إنما تتعلق بالعاقلة على المذهب. وقوله: نفسا، يشمل الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمسلم والكافر، والمكلف وغير المكلف، حتى لو قتل نفسه، أو عبده، أو إنسانا بإذنه، والكتاب العزيز شامل لجميع ذلك، إذ يدخل في {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] الذكر والأنثى بعرف الشرع، والحر والعبد، والمكلف وغير المكلف، إذ الصبي ونحوه مؤمن حكما، وعبده والأجنبي بإذنه، وكذلك قد تدخل نفسه، ونازع في ذلك أبو محمد، واختار أن الكفارة لا تجب في قتله نفسه، وقال: الآية أريد بها إذا قتله غيره، بدليل قوله سبحانه: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقاتل نفسه لا تجب فيه دية.
3035 - بدليل عامر بن الأكوع، فإنه قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه بكفارة ولا دية، وفيه نظر، إذ هذه واقعة عين،(6/207)
فيجوز أن يكون الحكم كان مقررا معروفا عندهم، ثم غايته أنه لم ينقل إلينا ذلك، وعدم النقل لا يدل على العدم. ويشمل كلام الخرقي أيضا القتل بمباشرة أو سبب، والآية صالحة لذلك، إذ المتسبب يصلح نسبة القتل إليه، وقوله: محرمة، يخرج منه القتل المباح، كقتل الحربي، والباغي، والزاني المحصن، والمستحق قتله قصاصا، ونحو ذلك، أما الحربي ونحوه فلا يدخل في الآية الكريمة، لخروجه من قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] وعدم دخوله في قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] الآية، وأما من عداه فبالنظر إلى المعنى، إذ الكفارة وجبت ماحية أو زاجرة، وقتل من ذكر أمر مطلوب، فلا شيء يمحى ولا يزجر عنه. ويشمل كل نفس محرمة، وقد استثنى أبو محمد من ذلك نساء أهل الحرب وصبيانهم، ومن لم تبلغه الدعوة، إذ لا إيمان لهم ولا أمان، فلم يدخلوا في مقتضى الكتاب العزيز، وقد يقال: إن كلام الخرقي يخرج منه قتل الخطأ، فإنه على الصحيح لا يوصف بتحريم ولا إباحة، ويجاب بأنه لم يصف القتل بأنه محرم، بل وصف النفس بكونها محرمة، ولا ريب أن المقتول خطأ نفسه محرمة الإزالة، وأبو البركات كأنه استشعر ذلك فعدل عن «محرمة» إلى: بغير حق.
وقوله: أو شارك فيها، هذا هو المذهب المشهور أن(6/208)
الكفارة تتعدد بتعدد القاتلين، لأنها من موجب قتل الآدمي، فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص، (وعن أحمد) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة، وهي أظهر من جهة الدليل، للآية الكريمة، إذ هي تتناول الواحد والجماعة، والله سبحانه جعل الواجب كفارة واحدة، وكون القصاص يجب على كل واحد من المشتركين ممنوع، ولو سلم فذلك سدا للذريعة، وحسما للمادة، وقتل الخطأ ونحوه لا يقصد، فلا سد، ثم هو منقوض بالدية، فإنها لا تكمل في حق كل واحد من الشركاء على المذهب.
(تنبيه) : قال أبو محمد في المغني فيما إذا رمى ثلاثة بالمنجنيق، فرجع الحجر فقتل رجلا أن على كل واحد منهم عتق رقبة، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، لأن كل واحد منهم مشارك في قتل آدمي معصوم، والكفارة لا تتبعض، وغفل عن رواية أن على الجميع كفارة واحدة، مع أنه حكاه هنا عن أبي ثور، قال: وحكي عن الأوزاعي، وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي.
(وقوله) : أو ضرب بطن امرأة حرة كانت أو أمة، فألقت جنينا ميتا. قد تقدم ذلك في دية الجنين، فلينظر ثم، (وقوله) وكان القتل خطأ. يخرج العمد وشبهه، ولا نزاع أن في قتل العمد روايتان (إحداهما) - وهي(6/209)
اختيار أبي بكر وابن حامد، والقاضي وولده أبي الحسين، والشريف وأبي الخطاب، والشيرازي وابن البنا - لا كفارة فيه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] الآية. . . إلى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فإنه سبحانه قسم القتل إلى قسمين قسم أوجب فيه الدية والكفارة، وقسم جعل الجزاء فيه جهنم، وظاهر ذلك أنه لا كفارة فيه، يرشح ذلك أن الكفارة وجبت محوا لما حصل من ذهاب نفس مستحقة للبقاء، والعمد أعظم من أن يمحى ما حصل فيه من الإثم بذلك.
3036 - ولأن ذلك قول ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (والثانية) فيه الكفارة.
3037 - لما «روى واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب لنا أوجب يعني النار بالقتل، فقال: «أعتقوا عنه، يعتق(6/210)
الله بكل عضو منه عضوا من النار» رواه أحمد وأبو داود، ولأنه أعظم جرما، فالحاجة إلى تكفيره أبلغ، وهذه الرواية زعم القاضي والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما أنها اختيار الخرقي، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل تقديمه يشعر بخلافه، وقد حكى أبو محمد عن القاضي أنه قال: يلزم الشهود والكفارة، سواء قالوا: أخطأنا أو تعمدنا. قال أبو محمد: وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال، ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد، قال أبو محمد: لأنه وإن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ، في أنه لا يجب به القصاص. (قلت) : وهذا ذهول عن المسألة، بل متى قالت الشهود: تعمدنا القتل، وجب القصاص.
(تنبيه) : قال أبو محمد: ولا فرق بين العمد الموجب للقصاص وغيره، كقتل الوالد ولده، والسيد عبده، والمسلم الكافر ونحو ذلك، نظرا للعمدية، انتهى.
أما شبه العمد فوقع لأبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المقنع إجراء الروايتين فيه، وهو ذهول، فقد قال في المغني: لا(6/211)
أعلم لأصحابنا فيه قولا، ومقتضى الدليل وجوب الكفارة فيه، لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص، وحمل العاقلة ديته وغير ذلك، فكذلك في الكفارة. قلت: وقد نص على وجوب الكفارة في شبه العمد الشيرازي وابن البنا، والسامري وأبو البركات، وبالله التوفيق.
ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما فرغ من ذكر من تجب عليه الكفارة بين صفة الكفارة فقال: إنها عتق رقبة مؤمنة. وذلك بنص الكتاب العزيز، فمن لم يجدها في ملكه فاضلا عن حاجته، ولم يجد ثمنها فاضلا عن كفايته، فعليه صيام شهرين متتابعين، بنص الكتاب العزيز أيضا، فإن لم يستطع فهل يلزمه إطعام ستين مسكينا، ككفارة الظهار، والوطء في نهار رمضان، أو لا يلزمه، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي الخطاب، والشريف في خلافيهما؟ فيه روايتان، ثم إن كلام الخرقي هنا يشمل العبد، وهو مستثنى من ذلك، فإن كفارته الصيام، لعجزه عما سواه، نعم إن أذن له السيد في التكفير بالمال فهل يملك ذلك مطلقا، أو إن قلنا: يملك؟ على طريقتين قد تقدمتا، وحيث ملك ذلك فله التكفير بالإطعام، وفي العتق روايتان.
[ما يثبت به القصاص]
قال: وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه إلا عدلان.(6/212)
ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار من الروايتين.
3038 - لما روى «رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك له، فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟» قالوا: يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين، وإنما هم يهود، وقد يجترون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فأستحلفهم» فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده» ، رواه أبو داود.
3039 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقم الشاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» وذكر الحديث رواه النسائي وهو يدل بمنطوقه على الاكتفاء بشاهدين، وبمفهومه على أنه لا يكتفى بغير ذلك، فلا يقبل رجل وامرأتان، ولا رجل ويمين المدعي، وقد قال أبو محمد: إنه لا يعلم في ذلك خلافا، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: لا يقبل في ذلك إلا أربعة، كشهادة الزنا، والجامع حصول القتل منهما، وهي مردودة بما تقدم.
قال: وما أوجب من الجنايات المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان، أو رجل عدل مع يمين الطالب.(6/213)
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي، والشيرازي، وابن البنا، وأبي محمد، لأنها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص، فوجب أن يقبل فيه ذلك، كالشهادة على البيع، وفارق قتل العمد، فإنه موجب العقوبة، فلذلك احتيط له.
(والثانية) : لا يقبل فيه إلا رجلان، اختارها أبو بكر، وابن أبي موسى، لأنها شهادة على قتل، فلم تسمع من النساء، كالقتل العمد، فعلى الأول لو كان القصاص في بعضها، كالهاشمة والمأمومة، فهل يغلب جانب القصاص، فلا يقبل إلا رجلان، أو جانب المال، فيقبل رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي؟ على روايتين.(6/214)
[باب قتال أهل البغي]
ش: الأصل في جواز قتالهم في الجملة قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] الآية. . . إلى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] .
3040 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكون أمتي فرقتين، فيخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولاهما بالحق» رواه مسلم وغيره.
3041 - وقد قاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهل الجمل وأهل صفين.
قال: وإذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا.
ش: الأصل في هذا ما تقدم.(6/215)
3042 - وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته ميتة جاهلية» متفق عليه.
3043 - وعن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» .
3044 - وعن عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» . رواهما أحمد ومسلم.
3045 - «وعن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا(6/216)
كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان» متفق عليه، إذ تقرر هذا فالإمام الذي هذا حكمه هو من اتفق المسلمون على إمامته كأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعوا على إمامته وبيعته، أو عهد الإمام الذي قبله إليه كما عهد أبو بكر الصديق إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأجمع الصحابة على قبول ذلك، وفي معنى ذلك لو خرج رجل على الإمام فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا لطاعته وبايعوه، كعبد الملك بن مروان، فإنه حرج على ابن الزبير فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بويع طوعا وكرها، فإنه يصير إماما، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره.
[أنواع البغي]
(تنبيه) : الخارجون على الإمام أربعة أصناف (أحدها) قوم امتنعوا من طاعته، وخرجوا عن قبضته بلا تأويل، أو بتأويل غير سائغ، فهؤلاء قطاع الطريق، يأتي حكمهم إن شاء الله تعالى.
(الثاني) قوم خرجوا عن قبضة الإمام أيضا، ولهم(6/217)
تأويل سائغ، إلا أنهم غير ممتنعين لقلتهم، فحكى أبو الخطاب فيهم روايتين (إحداهما) وصححها، وكذلك صححها الشريف، وحكاها أبو محمد عن الأكثرين - حكمهم حكم قطاع الطريق أيضا (والثانية) - وحكاها أبو محمد عن أبي بكر - حكمهم حكم البغاة (الثالث) الخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم، فهؤلاء فيهم عن أحمد روايتان، حكاهما القاضي في تعليقه (إحداهما) أنهم كفار، فعلى هذا حكمهم حكم المرتدين، تباح دماؤهم وأموالهم، وإن تحيزوا في مكان، وكانت لهم منعة وشوكة، صاروا أهل حرب، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كالمرتدين، فإن تابوا وإلا قتلوا.
3046 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول) «سيخرج قوم في آخر الزمان، حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» متفق عليه.(6/218)
3047 - «وعن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] إلى آخر الآية. . . فقيل له: أنت سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه. .» . رواه الترمذي وحسنه.
(والثانية) لا يحكم بكفرهم.
3048 - لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق» رواه البخاري وغيره.
قال أبو عمر بن عبد البر قوله: يتمارى في الفوق، يدل على أنه لم يكفرهم، لأنهم علقوا من الإسلام بشيء، بحيث يشك في خروجهم منه.(6/219)
3049 - ولعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» فعلى هذه قال أبو محمد في المغني ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم. وحكى ذلك في الكافي عن فقهاء الأصحاب، واختار هو أنه يجوز قتلهم ابتداء، والإجازة على جريحهم، لما تقدم من مروقهم من الدين، وأنهم كلاب النار، وأن في قتلهم أجرا لمن قتلهم.
3050 - وفي الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال فيهم: «لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» » وهذا توسط حسن، وهو اختيار أبي العباس، بل قال: إن الذي عليه أئمة الحديث كالأوزاعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الفرق بين البغاة وبين الخوارج، وأن قتال علي الخوارج كان ثابتا بالنصوص الصريحة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالاتفاق، وأما القتال يوم صفين ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة، بل امتنع منه أكابرهم، كسعد بن أبي وقاص، الذي لم يكن بعد علي مثله، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة رضي الله(6/220)
عنهم، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب الإصلاح بين الطائفتين لا القتال.
3051 - ففي البخاري «أنه خطب الناس والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معه فقال: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين» ، فأصلح الله تعالى به بين أهل العراق وأهل الشام، فنزل عن الأمر لمعاوية.
3052 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم،(6/221)
والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي» وذلك نحو ما وقع لأهل الجمل، وهذا ظاهر في أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله، وأن الإصلاح بين الطائفتين ما أمكن أولى من القتال، وهذا بخلاف الخوارج، فإن الذي يحبه الله ورسوله كما دلت عليه الأحاديث هو قتالهم.
(الصنف الرابع) : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه، لتأويل سائغ، وإن كان صوابا، وقيل: لا بد وأن يكون خطأ، ولهم منعة وشوكة، فهؤلاء البغاة المبوب لهم بلا ريب، وكلام الخرقي يقتضي أن كل من طلب موضع الإمام فإنه يحارب، وقرينة «حوربوا» تقتضي أن لهم منعة وشوكة، والله أعلم.
(تنبيه) : «جثمان إنس» ، «يريد أن يشق عصاكم» ، «المنشط» الأمر الذي تنشط له وتخف إليه، وتؤثر فعله، «والمكره» الأمر الذي تكرهه وتتثاقل عنه، «والأثرة» الاستئثار بالشيء والانفراد، والمراد في الحديث إن منعنا حقنا من الغنيمة والفيء، وأعطي غيرنا، نصبر على ذلك،(6/222)
«والكفر البواح» الجهار، «والبرهان» الحجة والدليل، و «الرمية» و «الفوق والقدح» .
[طرق دفع البغي]
قال: ودفعوا عن ذلك بأسهل ما يعلم أنهم يندفعون به.
ش: البغاة إذا خرجوا على الإمام فإنه يراسلهم، ويسألهم ما ينقمون منه؟ فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ادعوا شبهة كشفها، لما تقدم من قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، فأمر سبحانه بالإصلاح أولا.
3053 - ويروى أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل، ثم أمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بالقتال، ثم قال: إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة، ثم سمعهم يقولون:(6/223)
الله أكبر يا ثارات عثمان، فقال: اللهم أكب قتلة عثمان لوجوههم. فإن رجعوا وإلا خوفهم بالقتال، ومتى أمكن دفعهم بغير القتل لم يجز قتلهم، إذ المقصود كف شرهم، وإن لم يمكن قاتلهم، وعلى رعيته معونته، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره، وصرح أبو محمد، والقاضي في جامعه، بأنه يجب قتالهم، وهو ظاهر حديث عرفجة، وظاهر الآية الكريمة: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] وظاهر قصة الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستكون فتنة» ونحو ذلك يقتضي أن القتال لا يجب، وكيف يجب وقد امتنع منه مَنْ تقدم من الصحابة، وأشار الحسن على أبيه بترك القتال، وعلى هذا فللإمام أن يترك الأمر الذي في يده للذي خرج عليه إن لم يخف مفسدة، كما فعل الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويجوز له القتال، كما فعل الإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويجب إذا على رعيته معونته بلا ريب، وعلى ذلك تحمل الآية الكريمة والحديث، فإنه متى ترك الإمام الأمر الذي في يده حصل(6/224)
الإصلاح، فإذًا لا حاجة إلى القتال، وإن لم يترك فهو محق وغيره متعد عليه، فيجب قتاله، وكف شره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] وقوله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وحديث عرفجة وغير ذلك، والله أعلم.
قال: فإن آل ما دعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع.
ش: يعني أنهم إذا دفعوا بالأسهل فالأسهل، فآل ما دفعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع، من إثم ولا ضمان، لأنه فعل مأذون فيه شرعا، أشبه قتال الكفار ونحوهم، وكذلك بطريق الأولى ما أتلفه العادل على الباغي حال الحرب من المال، والله أعلم.
[حكم القتيل من أهل العدل]
قال: وإن قتل الدافع فهو شهيد.
ش: لأنه قتل في قتال مأمور به، أشبه قتيل الكفار، والله أعلم.
[الآثار المترتبة على قتال البغاة]
قال: وإذا اندفعوا لم يتبع لهم مدبر، ولم يجيزوا على جريح.
3054 - ش: لما روي عن مروان بن الحكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن مدبر، ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن. رواه سعيد، ويروى نحوه عن عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن(6/225)
المقصود كف شرهم وقد حصل، فأشبهوا الصائل، وعموم كلام الخرقي، يقتضي أنه لا فرق بين أن تكون لهم فئة ممتنعة يلجؤون إليها، أو لم تكن، وهو كذلك.
قال: ولم يقتل لهم أسير.
ش: لأن شره قد اندفع بأسره.
3055 - «وعن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا ابن أم عبد ما حكم من بغى على أمتي؟» قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: «لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم» » ، ذكره القاضي في شرحه.(6/226)
(تنبيه) : «ولا يجاز على جريحهم» أي لا يقتل، «ولا يذفف» .
قال: ولم يغنم لهم مال.
ش: لحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3056 - وعن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون موليا، ولا يسلبون قتيلا، ولأنهم معصومون، أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم، فيبقى ما عداه على أصل التحريم.
قال: ولم تسب لهم ذرية.
ش: لما تقدم في التي قبلها، ولأنهم كالصائل لا يستباح منهم إلا ما حصل به ضرورة دفعهم.
3057 - ويروى أن مما نقمت الخوارج على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنهم قالوا: إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن حلت له دماؤهم، فقد حلت له أموالهم، وإن حرمت عليه أموالهم، فقد حرمت عليه دماؤهم. فقال لهم ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتسبون أمكم يعني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؟ أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فإن قلتم: ليست أمكم فقد كفرتم، وإن قلتم: إنها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم.(6/227)
قال: ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه.
ش: يعني من البغاة، وذلك لأنهم مسلمون، وغايته أنهم مخطئون، فيجري عليهم حكم المسلمين.
3058 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» قال أبو محمد: ولم يفرق أصحابنا بين الخوارج(6/228)
وغيرهم، وظاهر كلام أحمد أنه لا يصلى على الخوارج، قال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم، وقال: الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم، قد ترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة بأقل من هذا.
3059 - وذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يقاتل في خيبر من ناحية من نواحيها، فقاتل رجل من تلك الناحية وقتل، فلم يصل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم.
ش: لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه.(6/229)
3060 - وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا أتاه ساعي نجدة الحروري دفع إليه زكاته، وكذلك سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن في الرجوع عليهم تنفيرا لهم عن الرجوع إلى الطاعة، ومن ثم قلنا: لا يضمنون ما أتلفوه في حال الحرب على المذهب، وفي الرجوع على أرباب الأموال ضرر عظيم، ومشقة عظيمة، وإنهما منتفيان شرعا، وحكم الجزية حكم الخراج، ويقبل قول أرباب الصدقات في أنهم قد أخذوا الصدقة منهم بغير يمين، ولا يقبل مجرد قول أهل الذمة، لأنهم غير مأمونين، وقيل: يقبل بعد مضي الحول، إذ الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم، فكان الظاهر معهم، وهل يقبل مجرد قول من عليه الخراج إن كان مسلما في دفع الخراج إليهم، لأنه حق على مسلم، فهو كالزكاة، أو لا يقبل، لأنه عوض فهو كالجزية؟ على وجهين.
قال: ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره.
ش: هذا مبني على أصل، وهو أن البغاة إذا لم يكونوا مبتدعين لا يفسقون، لأن لهم تأويلا سائغا، أشبه اختلاف الفقهاء، فعلى هذا إذا نصبوا قاضيا فحكمه حكم قاضي أهل العدل، إن حكم بما يخالف نص كتاب أو سنة أو إجماع،(6/230)
كأن يحكم على أهل العدل بضمان ما أتلفوه في الحرب، أو على أهل البغي بنفي ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب، نقض حكمه، وإن حكم بمختلف فيه لم ينقض، كأن حكم بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوه في الحرب، ونحو ذلك، وإن كتب إلى قاضي أهل العدل قبل كتابه لما تقدم، والأولى عند أبي محمد عدم القبول، كسرا لقلوبهم، وإن كان البغاة مبتدعين لم يجز قضاء من ولوه، لانتفاء شرط القضاء وهو العدالة، ولأبي محمد احتمال بصحة القضاء، ونفوذ الأحكام، حذارا من الضرر بفساد العقود المدة الطويلة، والله أعلم.(6/231)
[كتاب المرتد]
ش: المرتد في اللغة الراجع، وفي الشرع الراجع عن دين الإسلام، إلى دين الكفر، والأصل فيه قوله سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] الآية.
3061 - وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدل دينه فاقتلوه» والله أعلم.
[استتابة المرتد]
قال: ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغا عاقلا، دعي إليه ثلاثة أيام، وضيق عليه، فإن رجع وإلا قتل.
3062 - ش: الأصل في قتل المرتد في الجملة ما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا(6/232)
يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه الجماعة.
3063 - وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف «أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أشرف يوم الدار، فقال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق فقتل به» ، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا قتلت النفس التي حرم الله، فبم تقتلوني» . . . رواه النسائي والترمذي، ولا فرق عندنا بين الرجل والمرأة لهذا.(6/233)
3064 - «وعن عكرمة قال: أتي علي بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم لقوله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه الجماعة إلا مسلما، وللترمذي فيه: فبلغ ذلك عليا فقال: صدق ابن عباس، وأدوات الشرط يدخل فيها المؤنث على الصحيح.
3065 - وروى أبو أحمد بن عدي من «حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ارتدت امرأة عن الإسلام، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعرض عليها الإسلام فأبت أن تقبل» ، فقتلت. لكن قال: هذا يرويه عبد الله بن عطارد بن أذينة الطائي، ولا يتابع عليه، وهو منكر الحديث.(6/234)
3066 - وما في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء» ، فعام في الردة وفي غيرها، وما تقدم خاص في الردة، فيخص كما خص بالثيب الزانية، وبالقاتلة، هذا إذا لم نقل من أول الأمر إنه خاص بالسبب الذي ورد عليه، وهو نساء أهل الحرب، وهو الظاهر.
3067 - وما في الدارقطني عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقتل المرأة إذا ارتدت» فمن رواية عبد الله بن عيسى الجزري، عن عفان، وقد قال العلماء بالحديث: إنه كذاب يضع الحديث على عفان وغيره. إذا تقرر هذا فيشترط لصحة الردة التكليف، بأن يكون عاقلا بالغا، إذ غير المكلف لا يتعلق به حكم خطابي.
3068 - وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون(6/235)
حتى يفيق» » فعلى هذا لا تصح ردة من زال عقله بنوم أو إغماء، أو مرض أو شرب مباح، وفي السكران ونحوه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، ولا ردة غير مميز، وفي المميز خلاف أيضا، ويشترط لقتل المرتد حيث صحت ردته أن لا يرجع إلى الإسلام، أما إن رجع إلى الإسلام فإنه لا يقتل، لزوال المقتضي للقتل وهو الردة، وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
3069 - وصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها» وهذا قد أسلم وقد تاب، فاقتضى أن ينقطع ما قبل ذلك، ولا نزاع في هذا في غير الزنديق، ومن تكررت ردته، ومن سب الله تعالى، ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والساحر، أما في هؤلاء الخمسة ففيهم روايتان (إحداهما) تقبل توبتهم كغيرهم، وهي ظاهر كلام الخرقي هنا في الجميع، واختيار الخلال في الساحر، ومن تكررت ردته والزنديق، وآخر قولي أحمد في الزنديق، قال في رواية أبي طالب: أهل المدينة يقولون: يضرب عنقه ولا يستتاب، وكنت أقوله ثم هبته، ليس فيه حديث، واختيار القاضي في روايتيه فيمن تكررت ردته، وظاهر كلامه في تعليقه في ساب الله(6/236)
تعالى، وذلك لما تقدم.
3070 - وفي الموطأ «أن رجلا سار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله» ؟ قال: بلى ولا شهادة له. قال: «أليس يصلي» ؟ قال: بلى ولا صلاة له. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم» » .
3071 - وفي الحديث: «يقول الله تعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، يجعل لي صاحبة وولدا» ، وبالاتفاق متى أسلم(6/237)
ذلك وتاب قبل منه.
(والثانية) لا تقبل، وهي اختيار أبي بكر، والشريف وأبي الخطاب، وابن البنا، والشيرازي في الزنديق، وقال القاضي في التعليق: إنه الذي ينصره الأصحاب، واختيار أبي الخطاب في خلافه في الساحر، وقطع به القاضي في تعليقه، والشيرازي في ساب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخرقي لقوله في من قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قتل مسلما كان أو كافرا.
(أما في الزنديق) فلأنه كان مظهرا للإسلام، مسرا للكفر، فإذا وقف على ذلك منه، فأظهر التوبة، لم يزد على ما كان منه قبلها، وهو إظهار الإسلام، ولأنه ربما أفسد عقائد المسلمين في الباطن، وفي ذلك خطر وضرر عظيم، ولقصة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي بزنادقة فأحرقهم، والظاهر أنه لم يستتبهم، ويجاب بأن قصة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واقعة عين، مع أنه قد يكون من مذهبه أن الاستتابة لا تجب، وما تقدم ليس بقانع في إهدار دم ناطق بالشهادتين.
(وأما فيمن تكررت ردته) فلأن تكررها قرينة تكذبه في توبته، ولقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] الآية.(6/238)
3072 - وروى الأثرم بإسناده أن رجلا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة، فإذا هم يقرؤون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر ذلك له، فبعث إليهم فأتي بهم، فاستتابهم فتابوا، فخلوا سبيلهم إلا رجلا منهم يقال له ابن النواحة، قال: قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت، وأراك قد عدت فقتله، ويجاب بأن الدماء تحقن بالشبهة، لا أنها تراق بها.
3073 - وعن الآية بأن قتادة قال: نزلت في اليهود، آمنوا بموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم كفروا بعبادتهم العجل، ثم آمنوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(6/239)
3074 - وعن مجاهد {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] أي ماتوا عليه، فإذا هذا ليس مما نحن فيه.
3075 - وعن قصة ابن مسعود بأن أبا داود رواه عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالكوفة فقال ما بيني وبين أحد من العرب حنة وإني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجيء بهم فاستتابهم غير، وهذا يبين أنه إنما قتله تحقيقا لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أنك رسول لقتلتك» ، فكأنه استوجب عنده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القتل، وإنما منعه الرسالة، وقد زالت.(6/240)
3076 - (وأما في الساحر) فلما روى جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حد الساحر ضربة بالسيف» ، رواه الدارقطني والترمذي، وقال: الصحيح عن جندب موقوف.
3077 - وعن بجالة بن عبدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس فأتانا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة، فقتلنا ثلاث سواحر، وجعلنا نفرق بين الرجل وحريمه في كتاب الله. رواه أحمد وأبو داود.(6/241)
3078 - وفي الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضي الله عنها قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت وظاهر هذه الآثار القتل بكل حال.
3079 - ويروى أن ساحرة طافت في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم متوافرون، تسألهم هل لها من توبة، فما أفتاها أحد إلا ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال لها: إن كان أحد من أبويك حيا فبريه، وأكثري من عمل البر ما استطعت، ويجاب بأن(6/242)
قصة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لا يعرف من رواها، مع أن الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قد جعل لها توبة، وغير ذلك وقائع أعيان.
(وأما في من سب الجناب) الرفيع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
3080 - فلما روى الشعبي عن «علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يهودية كانت تشتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دمها» ، رواه أبو داود.
3081 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة، جعلت تقع في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشتمه، فأخذ المعول فوضعها في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجمع الناس(6/243)
فقال: «أنشدكم الله رجلا فعل ما فعل، لي عليه حق» قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المعول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا اشهدوا أن دمها هدر» رواه أبو داود والنسائي، واحتج به أحمد في رواية عبد الله.
(وأما فيمن سب الله سبحانه) فبالقياس على ساب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطريق الأولى، قال أبو محمد: والخلاف في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا، من ترك قتلهم، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله في الباطن، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطنا وظاهرا فلا اختلاف فيه، فإن الله تعالى قال في حق المنافقين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] انتهى. واعلم أن الروايتين في ساب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كان كافرا، ويكون ذلك نقضا لعهده، فيقتل وإن أسلم، والروايتين(6/244)
في الساحر حيث يحكم بقتله بذلك، وإنما يحكم بقتله بالسحر حيث كفر به وكان مسلما، أما إن كان السحر مما لا يكفر به، أو يكفر به والساحر من أهل الكتاب، فإنه لا يقتل.
3082 - «لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت له عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يا رسول الله أفلا أحرقته؟ قال: «لا» .
» 3083 - وفي البخاري «أن ابن شهاب سئل أعلى من سحر من أهل العهد قتل؟ قال: بلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صنع له ذلك فلم يقتل من صنعه، وكان من أهل الكتاب» ، (وعنه) ما يدل على قتله كما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(6/245)
إذا تقرر ذلك فكل موضع قلنا: لا تقبل التوبة فلا استتابة، لعدم فائدتها، وكل موضع قلنا بقبول التوبة فإنه لا يقتل حتى يستتاب، احتياطا للدماء.
3084 - وعن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه قال: قدم على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في زمن خلافته رجل من أهل اليمن من قبل أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان عاملا له، فسأله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الناس، ثم قال: «هل فيكم من مغربة خبر» قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال: فهلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه، لعله يتوب ويراجع أمر الله تعالى، اللهم إني لم أحضر ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني. . . رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده. . . وهل ذلك على سبيل الاستحباب، لظاهر «من بدل دينه فاقتلوه» .
3085 - وفي حديث «لأبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «اذهب إلى اليمن» ثم أتبعه معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(6/246)
فلما قدم عليه ألقى له وسادة، وقال: انزل؛ وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله» . . . متفق عليه، ولأحمد: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه، وظاهر ذلك من غير استتابة، وإنكار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحمل على الاستحباب، لأنهم كانوا ينكرون في المستحب، أو على الوجوب، وهو المذهب عند الأصحاب، لظاهر قصة عمر، وحديث جابر الذي رواه ابن عدي، وبذلك يتقيد ما تقدم، على أن في حديث أبي موسى الأشعري في رواية أبي داود: وكان قد استتيب قبل ذلك بعشرين ليلة أو قريبا منها، فجاء معاذ: فدعاه فأبى، فضرب عنقه، إلا أن أبا داود قال: قد روي هذا الحديث من طرق، وليس فيه ذكر الاستتابة، انتهى.(6/247)
ويستتاب ثلاثا اتباعا، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هلا حبستموه ثلاثا، ويضيق عليه، لقوله أيضا: وأطعمتموه كل يوم رغيفا، والله أعلم.
[أحكام الزنديق]
(تنبيه) : «الزنديق» هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، وهو الذي كان يسمى منافقا في الصدر الأول، و «رجز مسيلمة» و «حنة» هنا بمعنى الأحنة، وهي العداوة، قال الجوهري: ولا تقل حنة، وقال الهروي: هي لغة رديئة، وقد جاءت «ومغربة خبر» بكسر الراء وفتحها، وأصله من الغرب وهو البعد، المعنى: هل من خبر جديد، جاء من بلد بعيد، «والموثق» المأسور المشدود في الوثاق من حبل أو قيد، و «الوسادة» المخدة.
قال: وكان ماله فيئا بعد قضاء دينه.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في كتاب الفرائض وهو أن المرتد متى مات أو قتل على ردته فماله فيء، على المشهور من الروايات، لا لورثته ولا لأهل الدين الذي اختاره، وزاد هنا أن ذلك بعد قضاء دينه، لأنه حق واجب عليه، وأولى ما يؤخذ من ماله. واعلم أن كلام الخرقي يعتمد أصلا، وهو أن أملاك المرتد لا تزول بنفس الردة، وهذا هو المشهور من الروايتين. والمختار لعامة الأصحاب، وعليه هل لا تزول إلا بالموت، أو يتبين بالموت زوالها من حين الردة، فيكون مراعى؟ فيه روايتان(6/248)
أيضا، واختلف الأصحاب هنا في التصحيح، وعليها تقضى ديونه مطلقا.
(والرواية الثانية) في الأصل تزول أملاكه بنفس الردة، وهي اختيار أبي بكر، وعليها فلا تقضى ديونه، كذا قال القاضي في الجامع الصغير، وأطلق، وظاهر كلام أبي البركات أن الذي يمنع على هذه الرواية قضاء الدين المتجدد، وأما اللازم له قبل الردة فيقضى على الروايات الثلاثة. . . والله أعلم.
[استتابة تارك الصلاة]
قال: وكذلك من ترك الصلاة دعي إليها ثلاثة أيام، فإن صلى وإلا قتل، جاحدا تركها أو غير جاحد.
ش: قد تقدمت هذه المسألة بأتم من هذا اللفظ، في باب حكم من ترك الصلاة، وقد يقال إنه إنما أعادها هنا لينبه على أن الزكاة والصوم والحج ليسوا كذلك، وفيه نظر، لأنه من ترك واحدا من الثلاثة جاحدا كفر بلا ريب. نعم إذا تركها غير جاحد، فالمختار لعامة الأصحاب عدم الكفر، ثم عن أحمد في الزكاة ثلاث روايات، ثالثهن إن قاتل عليها كفر، وإلا لم يكفر، وعنه في الصوم روايتان، وللأصحاب في الحج ثلاث طرق، فأبو محمد يقول لا يكفر بحال، ومقابله أبو بكر(6/249)
يقول يكفر بكل حال، قال في الخلاف: من تخلف عن الإقرار بالتوحيد، مع القدرة عليه، وعن الصلاة بعد الإقرار والقدرة على عملها، وإيتاء الزكاة بعد الإقرار بوجوبها عليه، وصوم رمضان بعد الإقرار والقدرة عليه، وكذلك الحج، فعند أحمد أنه مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال أيضا: لا فرق بين الصوم والصلاة والزكاة والحج، لأن هذا كله فرض كالتوحيد، وتوسط أبو البركات فقال: إن أخره إلى وقت يغلب على ظنه موته قبله، أو عزم على تركه بالكلية كفر وإلا فلا.
[ذبيحة المرتد]
قال: وذبيحة المرتد حرام، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب.
ش: أما إذا لم تكن ردته إلى دين أهل الكتاب فاتفاق والحمد لله، وأما إذا كانت إلى دين أهل الكتاب فهو قول العامة، لأنه لا يقر على دينه، أشبه الوثني، ولأنه لا يثبت له أحكام أهل الكتاب في الجزية، ولا في النكاح، ولا في الاسترقاق، فكذلك في الذبيحة.
[الحكم بإسلام الصبي]
قال: والصبي إذا كان له عشر سنين، وعقل الإسلام فأسلم فهو مسلم.
ش: هذا هو المذهب المعروف، والمختار لعامة الأصحاب، حتى إن جماعة منهم أبو محمد في المغني وفي الكافي جزموا بذلك.
3086 - لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» .(6/250)
3087 - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . . . الحديث.
3088 - وفي الصحيحين «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انطلق مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رهط من أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قِبَلَ ابن صياد، حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظهره بيده، ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن صياد: «أتشهد، أني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتشهد أني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فرفضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «آمنت بالله وبرسوله» » وذكر الحديث، فعرض عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسلام وهو دون البلوغ، وعرضه (عليه) يقتضي صحته منه.
3089 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا» ، رواه أحمد والإعراب(6/251)
منه يحصل قبل البلوغ، وقد جعله إذا إما شاكرا وإما كفورا ولأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم صغيرا.
3090 - قال عروة: أسلم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ابن ثمان سنين. . . أخرجه البخاري في تاريخه، فاعتبر ذلك الصحابة ومن بعدهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وعد من السابقين.
3091 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أول من أسلم من الناس بعد خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، رواه أحمد.
3092 - وعن عمرو بن مرة عن أبي حمزة، عن رجل من الأنصار، قال: سمعت زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: أول من أسلم علي؛ قال عمرو بن مرة: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله(6/252)
عنه. . . رواه أحمد والترمذي وصححه، وجمع العلماء بين الأقوال فقالوا: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وحكى أبو محمد في المقنع، وأبو البركات رواية بعدم صحة إسلام الصبي، لأنه ليس بمكلف، أشبه الطفل، أو قول يثبت به حكم، فلم يصح منه كالهبة، ولحديث: «رفع القلم عن ثلاث» وأجيب بأن الطفل لا يعقل بخلاف هذا، وعدم صحة الهبة ونحوها حذارا من لحوق الضرر به، وهذا محض مصلحة، ولهذا قلنا على الصحيح: تصح وصيته، والحديث ظاهره أنه لا يكتب عليه شيء، والإسلام يكتب له لا عليه، (فعلى المذهب) شرطه أن يعقل الإسلام قطعا، بأن يعلم أن الله ربه لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، إذ من لا يعقل كلامه لا يدل على شيء، وهل يحد مع ذلك بسن. حكى ابن المنذر عن أحمد أنه لا يحد، وإليه ميل أبي(6/253)
محمد؛ إذ المقصود عقل الإسلام، والسن لا مدخل له في ذلك، ولأن قوله في الحديث: «حتى يعرب عنه لسانه» يقتضي أن الحكم منوط بذلك فقط.
3093 - وقد روى البخاري في تأريخه عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وهذا يقتضي أنه أسلم وله نحو ست سنين، لأنه أسلم في أول المبعث، وعاشر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد مبعثه ثلاثا وعشرين سنة، وعاش علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو الثلاثين، (وعن أحمد) يشترط أن يكون ابن سبع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مروهم بالصلاة لسبع» ، فدل على أن ذلك حد لأمرهم، وظاهره صحة عباداتهم، والإسلام هو أول العبادات ورأسها، (وعنه) وهو الذي اعتمده الخرقي: يشترط أن يكون ابن عشر، لتوجه الضرب إذا، ولم يتعرض الخرقي لردته، لكنها تفهم من المسألة الآتية، وفيها أيضا روايتان، لكن الخلاف هنا أشهر، ولهذا كثير من الأصحاب(6/254)
جزم ثم بالصحة، وحكى الخلاف هنا، ومن ثم جمع أبو البركات كلام الأصحاب، وحكى فيها ثلاث روايات (الثالثة) يصح الإسلام دون الردة، وإليها ميل أبي محمد، نظرا إلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث» ، والمذهب عند الأصحاب الصحة، لحديث جابر المتقدم، ولأن من صح إسلامه صحت ردته كالبالغ.
(تنبيهان) : أحدهما إذا صححنا إسلام الصبي، أو لم نصحح ردته فلا ريب أنه يحال بينه وبين أهل الكفر، وكذلك إن لم نصحح إسلامه، أو صححنا ردته، حذارا من فتنته، ورجاء ثبوته على الإسلام، أو عوده إليه حين بلوغه.
(الثاني) : «الأطم» البناء المرتفع، «وحتى يعرب عنه لسانه» أي يبين عنه.
قال: فإن عاد وقال: لم أدر ما قلت. لم يلتفت إلى مقالته، وأجبر على الإسلام.
ش: إذا حكم بإسلام الصبي فرجع، وقال: لم أدر ما قلت. لم يلتفت إلى قوله على المشهور، وأجبر على الإسلام، لأنه عاقل صح إسلامه، فلا يلتفت إلى قوله، كالبالغ إذا أسلم ثم قال: لم أنو الإسلام على المذهب، ولأنه قد ثبت عقله للإسلام ومعرفته، فلا يبطل ذلك بمجرد دعواه كالبالغ،(6/255)
(وعنه) يقبل منه، فلا يجبر على الإسلام. قال أبو بكر: هذا قول محتمل، لأن الصبي في مظنة النقص، فجاز أن يكون صادقا، والدماء يحتاط لها.
قال: ولا يقتل حتى يبلغ.
ش: يعني إذا أقام على رجوعه، فإنه يصير مرتدا، لكن لا يقتل حتى يبلغ، لأن القتل عقوبة متأكدة، فلا تجب على الصبي كالحد، وحذارا من قتله بأمر محتمل.
قال: ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام، فإن ثبت على كفره قتل.
ش: قد تقرر أنه لا يقتل حتى يبلغ، فإذا حكم الردة لم يتعلق به إلا بعد البلوغ، فتكون الاستتابة بعده.
[حكم الأولاد إذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب]
قال: وإذا ارتد الزوجان فلحقا بدار الحرب، لم يجر عليهما ولا على أحد من أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق.
ش: لا يجوز استرقاق المرتد، رجلا كان أو امرأة، وإنما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى الزوجين والله أعلم، لأجل ذكر الأولاد، وذلك لعموم ما تقدم: «من بدل دينه فاقتلوه» ، «قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه» ونحو ذلك، وإذا جاز استرقاقه وبقاؤه لم يقتل، وأدوات الشرط كما تقدم تشمل(6/256)
المذكر والمؤنث، وأما أولاد المرتدين فمن ولد قبل الردة لم يسترق، لأنه مسلم تبعا لأبيه، فلا يتبعه في الردة، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وقد تبعوهم في الإسلام، فلا يتبعونهم في الكفر، وإذا لا يسترقون صغارا، لأنهم مسلمون، ولا كبارا لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم فواضح، وإن ارتدوا فحكمهم حكم آبائهم كما تقدم، ومن علقت به أمه بعد الردة وولدته بعدها جاز استرقاقه على ظاهر كلام الخرقي، ومنصوص أحمد في رواية الفضل بن زياد، واختيار أبي بكر في الخلاف، والقاضي وأبي الخطاب، والشريف وابن البنا والشيرازي وغيرهم، لأنه مولود بين أبوين كافرين، لم يسبق عليه حكم الإسلام، أشبه ما لو كان أبواه كافرين أصليين، واختار ابن حامد أنه لا يجوز استرقاقه، وحكاه رواية، لأنه لا يقر بالجزية، فلا يسترق كأبيه، ولعل ابن حامد إنما أخذ(6/257)
الرواية من عدم إقراره بالجزية، وإن علقت به في الإسلام ووضعته في الردة فعند أبي البركات وأبي محمد في الكافي حكمه حكم ما لو وضعته في الإسلام، وهو التحقيق، لانعقاده مسلما، وكلام الخرقي يوهم العكس، وقد أقره أبو محمد في المغني على ظاهره، معللا بأن أكثر الأحكام إنما تتعلق بالوضع، فكذلك هذا، وقد وقع نحو هذه العبارة للخرقي في النكاح، وقد تقدم ذلك.
قال: ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت من الإسلام بعد البلوغ، استتيب ثلاثا، فإن لم يتب قتل.
ش: أما من امتنع منهما أو من أولادهما الذين حكم عليهما من الإسلام، فلا إشكال في قتلهم إذا لم يتوبوا، كبقية المرتدين، وقوله: الذين وصفت، يعني الذين ولدوا قبل الردة، وقوله: بعد البلوغ، لما تقدم من أن حكم الردة إنما يتعلق بالصبي بعد البلوغ، ومفهوم كلام الخرقي أن أولادهم الذين ولدوا بعد الردة لو امتنعوا من الإسلام لم يقتلوا، وتحت هذا صورتان (إحداهما) اختاروا كفرا لا يقر أهله عليه بالجزية، فهنا لا ريب في قتلهم.
(الثانية) اختاروا كفرا يقر أهله عليه بالجزية، فهنا روايتان، حكاهما أبو البركات، وأبو محمد في المقنع (إحداهما) وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في روايتيه، يقرون بالجزية، لأنهم ولدوا بين كافرين، ولم يسبق لهم حكم الإسلام، فجاز إقرارهم بالجزية(6/258)
كأولاد الحربيين.
(والثانية) ، وهي اختيار أبي بكر، وبها قطع أبو محمد في الكافي، وأبو الخطاب في الهداية، لا يقرون بالجزية، لأنهم أولاد من لا يقر على كفره، فلا يقرون بالجزية كالولد الذي قبل الردة. ولهذا الخلاف التفات إلى أن من تهود أو تنصر بعد المبعث هل يقر بالجزية أم لا. . .؟ وسلك أبو محمد في المغني طريقة لم نرها لغيره، فقال: إذا وقع أبو الولد في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب، فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب، وإن بذل الجزية وهو في دار الحرب، أو وهو في دار الإسلام، لم يقر بها، لانتقاله إلى الكفر بعد نزول القرآن.
قال: ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له.
3094 - ش: لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم» ، رواه البخاري وأحمد وقال فيه: «ما من رجل مسلم» ، وهو يشمل ما إذا كانوا من كافرة.(6/259)
3095 - قال البخاري وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مع أمه من المستضعفين، ولم يكن مع أبيه على دين قومه، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ومن علوه التبعية له، (وظاهر كلام الخرقي) أن هذا الحكم ثابت للصغير ما لم يبلغ، وهو المنصوص والمشهور، لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، وقيل في المميز: لا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه كالبالغ، لأنه يصير مستقلا بنفسه، ولعله يلتفت إلى أن المميز يصح إسلامه، فصار كالبالغ، لكن المذهب صحة إسلام المميز، والمذهب التبعية إلى البلوغ، ومراد الخرقي بالأبوين الأبوان الأدنيان الحقيقيان، ولا يتبع الصغير جده ولا جدته في الإسلام.
قال: وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له من الميراث، وكان مسلما بموت من مات منهما.
ش: أما كون الصغير يحكم بإسلامه بموت أحد أبويه الكافرين على المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين.
3096 - فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ، ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآية. وفي رواية: «قالوا: يا رسول الله(6/260)
أفرأيت من يموت منهم وهو صغير؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» متفق عليهما. فجعل تهوده وتنصره وتمجسه بسبب أبويه، فإذا ماتا فقد فات السبب، وكذلك إذا مات أحدهما إذ لا ريب أن الشيء يفوت بفوات جزئه، ومتى فات السبب بقي على أصل الفطرة التي خلقه الله عليها، وهي الإقرار بالربوبية والوحدانية. (والرواية الثانية) : لا يحكم بإسلامه، لأنه ثبت كفره، ولم يوجد منه إسلام، ولا ممن هو تابع له، فوجب إبقاؤه على ما كان عليه، ولأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر أحدا من أهل الذمة على الإسلام لموت أبيه، مع أنه لا يخلو زمنهم من موت بعض أهل الذمة عن يتيم، والحكم في موت الأبوين كالحكم في موت أحدهما. وهل حكم المميز حكم البالغ أو حكم الطفل؟ فيه القولان السابقان.(6/261)
وكلام الخرقي يشمل الموت في دار الحرب ودار الإسلام، وهو قويل بعده أبو البركات، وعموم الحديث يقتضيه، والذي أورده أبو البركات مذهبا - وبه قطع أبو محمد في المغني - اختصاص الحكم بدار الإسلام، إذ قضية الدار الحكم بإسلام أهلها، خرج منه الطفل الذي له أبوان، فإذا عدما أو أحدهما؛ بقي على الأصل.
وأما كونه يقسم له من ميراث من مات من أبويه الذي جعل مسلما بموته، فلأن المانع من الإرث وهو الإسلام لم يتحقق وجوده حين الإرث، إذ بالموت انتقل الإرث وحصل الإسلام. فالمانع إنما تحقق وجوده لما انتقل الإرث، أما وقت الانتقال فلم يتحقق، لا سيما ومن قاعدتنا على المشهور أن من أسلم قبل قسم الميراث قسم له.
وقد استشكل على هذا نص أحمد في الكافر: إذا مات عن حمل منه أنه لا يرثه، والقاضي أظنه في المجرد حمل هذا على أنها وضعته بعد قسم الميراث، وجعل أنها متى وضعته قبل ذلك ورث كما في هذه المسألة. وأبو البركات جرى على المنصوص في الموضعين، وأشار للفرق بأن الحمل حكم بإسلامه قبل وضعه، والإرث لا يحكم له إلا بانفصاله، وقد يقال: الظاهر من كلام الأصحاب أنا نتبين بوضعه حيا إرثه، فالإرث حصل له أيضا من حين موت أبيه، فهو كهذه المسألة، والظاهر أن هذه شبهة القاضي، فيجاب بأنه على كل حال المانع قد تحقق قبل الحكم بإرثه، فلم يحصل شرط(6/262)
إرثه إلا والمانع قد تحقق، فانتفى الإرث لوجود المانع.
(تنبيه) : «الفطرة» والله أعلم.
[حكم من شهد عليه بالردة فأنكر]
قال: ومن شهد عليه بالردة فقال: ما كفرت، فإن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء.
ش: من شهد عليه بالردة فأنكر، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله لم يكشف عن شيء مما شهد عليه، ولم يكلف الإقرار بما نسب إليه.
3097 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» .
3098 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله»(6/263)
متفق عليهما، ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي، فكذا هذا.
وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يلتفت مع ذلك إلى ما شهد عليه به، ولو كان إنكار فرض، أو إحلال محرم، وحمل أبو محمد كلامه على من كفر بجحد الوحدانية أو الرسالة أو هما، أما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما جحده.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يكفي والحال ما تقدم جحده للردة، وهذا والله أعلم كأنه مقصود الخرقي من ذكر هذه المسألة، لينص على مخالفة بعض الحنفية، وذلك لأنه بالبينة قد بان كفره، فلم يحكم بإسلامه بدون الشهادتين، كالكافر الأصلي.
3099 - وقد روى الأثرم بإسناده، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل عربي قد تنصر، فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله، وأتي برهط يصلون وهم زنادقة، قد قامت عليهم بذلك الشهود العدول، فجحدوا وقالوا: ليس لنا دين إلا دين الإسلام، فقتلهم ولم يستتبهم، ثم قال: تدرون لم استتبت النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه، فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة، فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا، وقد قامت عليهم البينة.(6/264)
ومقتضى كلام الخرقي: أن حصول الشهادتين كاف في إسلام المرتد، وهو كذلك، وكذلك كل كافر، ولا يشترط أن يقول مع ذلك: وأنا بريء من الدين الذي كنت عليه، لما تقدم.
3100 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للغلام اليهودي: «يا غلام، قل: لا إله إلا الله، وأني رسول الله» .
3101 - «وقوله لعمه أبي طالب: «أدعوك إلى كلمة أشهد لك بها عند الله، لا إله إلا الله، وأني رسول الله» . نعم من كفر بجحد(6/265)
فرض، أو تحريم أو تحليل، أو نبي أو كتاب، أو رسالة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى غير العرب ونحو ذلك، فلا بد مع الشهادتين أن يقر بالمجحود به، لأن الشهادتين كانت موجودة منه قبل ذلك.
ومفهوم كلام الخرقي: أنه لا يكتفى بأشهد أن محمدا رسول الله عن كلمة التوحيد، وهو (إحدى الروايات) ، وهو مقتضى ما تقدم من الأحاديث. . . (والثانية) : يكتفى بذلك.
3102 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن يهوديا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أشهد أنك رسول الله، ثم مات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على صاحبكم» ، ذكره أحمد في رواية مهنا محتجا به، ولأن الإقرار برسالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتضمن الإقرار بوحدانية الرب سبحانه، لتصديقه الرسول فيما جاء به.
(والثالثة) : إن كان ممن يقر بالتوحيد كأكثر اليهود اكتفي بذلك، لأن بانضمام تصديقه بالرسالة إلى ما عنده من(6/266)
التوحيد يكمل إسلامه، وإن لم يقر بالتوحيد كالنصارى ونحوهم، لم يكتف بذلك، لأن الجاحد جحد شيئين، فلا يزول جحده لهما إلا بالإقرار بهما، وهذه الرواية اختيار أبي محمد.
ومفهوم كلام الخرقي أيضا: أنه إذا قال: أنا مؤمن أو أنا مسلم، لم يكتف بذلك، ونص القاضي وابن البنا على الاكتفاء بذلك عن الشهادتين، لتضمنهما إياها.
3103 - وقد «روى المقداد أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: «لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها» . رواه مسلم.
قال أبو محمد: ويحتمل أن هذا فيمن كفره بغير جحد فرض، أو كتاب أو نحو ذلك، أما من كفره بذلك فلا نكتفي منه بقوله: أنا مسلم أو مؤمن، لأنه قد يعتقد أن الإسلام ما هو عليه، إذ أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون.
[حكم من أقر بالردة ثم رجع أو أنكر]
(تنبيه) : لو أقر بالردة ثم رجع، أو أنكر، قبل منه بدون تجديد إسلام، على ما قطع به ابن حمدان في رعايتيه، وأبو محمد، لما أورد عليه ذلك في أصل المسألة قال: يحتمل أن(6/267)
يقول فيه كمسألتنا، وإن سلمنا فالفرق أن هنا ثبت بقوله، فقبل رجوعه عنه، وثم ثبت بالبينة فلا يقبل رجوعه كالزنا، والله أعلم.
[حكم ردة السكران]
قال: ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يفيق ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته، فإن مات في سكره مات كافرا.
ش: هل تصح ردة السكران؟ فيه روايتان تقدمتا في طلاقه، إلا أن أبا محمد كلامه ثم يوهم عدم صحة طلاقه، وكلامه هنا بالعكس، وربما أشعر كلام الخرقي بذلك. وبالجملة متى لم تصح ردته فلا كلام. وإن صحت فلا يقتل حتى يفيق من سكره، ليكمل عقله، ويفهم ما يقال له، وتزول شبهته؛ ولأن القتل جعل للزجر، ولا يحصل الزجر في حال سكره، ويتم له ثلاثة أيام من وقت صحوه، كما قلنا في الصبي من حين بلوغه.
هذا الذي أورده أبو البركات مذهبا، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل الثلاث من وقت ردته، وتبعه على ذلك أبو محمد، لأن مدة سكره لا تدوم غالبا أكثر من ثلاثة أيام، بخلاف الصبي، فعلى هذا لو استمر سكره أكثر من ثلاثة أيام، فقال أبو محمد: لا يقتل حتى يصحو ويستتاب عقيب صحوه، فإن تاب، وإلا قتل في الحال.
(تنبيه) : والحكم في إسلامه في سكره كالحكم في ردته، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/268)
[كتاب الحدود]
الحدود جمع حد، والحد في الأصل: المنع، ومنه قيل للبواب حدادا، لمنعه الداخل والخارج إلا بإذن، وسمي الحديد حديدا؛ للامتناع به، أو لامتناعه على من يحاوله.
والحد عقوبة تمنع من الوقوع في مثله، وحدود الله محارمه. قال سبحانه تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وما قدره كجعل الطلاق ثلاثا، ونحو ذلك، قال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ولعل تسمية المحارم حدودا، وكذلك المقدرات؛ إشارة إلى المنع من قربان ذلك، أو تجاوزه، والله أعلم.
[حد الزنا]
قال: وإذا زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة؛ جلدا ورجما حتى يموتا، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: يرجمان ولا يجلدان.
ش: الزنا مما علم تحريمه من دين الله بالضرورة، وقد شهد له قوله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] ،(6/269)
وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان: 69] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] .
3104 - وعده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السبع الموبقات، وجعله من أعظم الذنب.
إذا تقرر ذلك (فالرواية الأولى) اختيار أبي بكر عبد العزيز، ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وصححها الشيرازي، لقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] الآية، وهذا عام في البكر والثيب، ثم قد ورد رجم المحصن في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلا ريب، وفعله خلفاؤه من بعده، بل وفي الكتاب العزيز.
3105 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو على منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إن الله بعث(6/270)
محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى، إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، وايم الله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها. . . متفق عليه.
وإذا ورد رجم الثيب في الكتاب وفي السنة، وورد الجلد في الكتاب، وهو يعمه ويعم غيره، وجب الجمع بينهما، وقد أشار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم إلى ذلك.
3106 - ففي البخاري عن الشعبي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(6/271)
3107 - مع أن في صحيح مسلم، وسنن أبي داود والترمذي، عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ، وما يعترض على هذا من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجلد ليس بنص صريح، إذ غايته أنه لم ينقل أنه جلد، وعدم النقل لا يدل على العدم.
(والرواية الثانية) : هي أشهر الروايتين عن الأثرم، واختارها ابن حامد، ونصرها الجوزجاني والأثرم في منتهاهما.
3108 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا والغامدية، وامرأة من جهينة، ورجلا وامرأة من اليهود، ولم ينقل - مع كثرة الروايات التي(6/272)
يبلغ مجموعها التواتر المعنوي - بلا ريب - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلدهم.
3109 - وقال: « «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» متفق عليه، ولم يأمر بجلدها، وهذا يبين أن هذا هو آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أشار إلى هذا أحمد، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه أول حد نزل، وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يجلده، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجم ولم يجلد، وكذلك نقل إسماعيل بن سعيد نحو هذا، والذي في الآية الكريمة يحمل على البكر.
3110 - وقد ورد في أبي داود في رواية - قال أبو السعادات: ذكرها رزين - عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أول ما كان الزنا في الإسلام أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] ثم نزل بعد ذلك: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ثم نزلت آية الرجم في النور، فكان الأول للبكر، ثم رفعت آية الرجم من التلاوة، وبقي الحكم بها، وهذا إن ثبت فيه جمع بين الأدلة.(6/273)
3111 - وقد عمل على ذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرجما، ولم ينقل أنهما جلدا.
وتقييد الخرقي بالحر والحرة ليخرج العبد والأمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى حدهما، وتقييد الحر بالمحصن والحرة بالمحصنة ليخرج غير المحصن كما سيأتي، ولا نزاع في أن الإحصان شرط في الرجم، وقد شهد لذلك حديث عبادة وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
3112 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني» ، وفي رواية: «أو زنا بعد إحصان» الحديث. . . وقد تقدم ذلك.
3113 - وفي قصة ماعز أنه قال له: «أحصنت» ؟ قال: نعم، فأمر به فرجم. والإحصان قد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب النكاح، فلا حاجة إلى إعادته.(6/274)
(تنبيه) : الزنا الفاحشة يمد ويقصر، فالقصر لأهل الحجاز، والمد لأهل نجد، أنشد ابن سيده:
أما الزناء فإني لست قاربه ... والمال بيني وبين الخمر نصفان
والزاني من أتى الفاحشة، وسيأتي كلام الخرقي إن شاء الله تعالى فيه، والله أعلم.
قال: ويغسلان ويكفنان، ويصلى عليهما، ويدفنان.
ش: أما التغسيل والتكفين والدفن فاتفاق، حكاه أبو محمد.
3114 - وقال أحمد: سئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن شراحة - وكان رجمها - فقال: اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم. وصلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على شراحة، وأما الصلاة، فهي أيضا قول الأكثرين.(6/275)
3115 - لما روى عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن «امرأة من جهينة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي، فدعا نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها» ففعل، فأمر بها نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، قال عمر: أتصلي عليها وقد زنت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل» رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
3116 - وفي مسلم أيضا وسنن أبي داود، من حديث بريدة في «قصة ماعز والغامدية قال: ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت.»
3117 - وما في الصحيح من حديث ابن عباس، ومن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على ماعز» ،(6/276)
فقضية عين، يحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحضره، أو اشتغل عنه لعارض، أو غير ذلك، ولأن عموم «صلوا على من قال لا إله إلا الله» يدخل فيه من مات بحد.
قال: وإذا زنى الحر بالبكر جلد مائة جلدة، وغرب عاما.
ش: أراد بالبكر من لم يحصن، وإنما عبر بالبكر اتباعا للفظ الحديث، وقد حصل اتفاق العلماء ولله الحمد على الجلد، بشهادة الكتاب والسنة بذلك، وجمهورهم أيضا على القول بالتغريب، لحديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم.
3118 - وعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قالا: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو جالس، فقال: يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله. فقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قل» ، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني(6/277)
الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجمت» ، أخرجه الجماعة. والدلالة منه من وجهين: (أحدهما) - وهو العمدة - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» .
(والثاني) : قوله: سألت أهل العلم، وأهل العلم هم جلة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهذا يدل على أن هذا كان معروفا مشهورا عندهم، وقد تأكد قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بفعله.
3119 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب وغرب» ، وأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب وغرب، وأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب وغرب، رواه النسائي. لكن قال النسائي: الصواب في هذا الحديث أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وليس فيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعوى أن هذا زيادة على(6/278)
النص، وهو {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الآية، والزيادة على النص نسخ، والكتاب لا ينسخ بالسنة - ممنوع؛ أما (أولا) : فلأن النص ليس فيه تعرض لنفي التغريب إلا من جهة المفهوم، والحنفي لا يقول به، وبالاتفاق متى عارض المفهوم نص قدم عليه.
وأما (ثانيا) : فإنا لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ، كما هو مقرر في موضعه.
وأما (ثالثا) : فإنا لا نسلم أيضا أن النسخ لا يحصل بالسنة، بل يحصل بالسنة، وإن كانت آحادا، على رواية اختارها فحل الفقهاء أبو الوفاء ابن عقيل، والله أعلم.
قال: وكذلك المرأة.
ش: يعني أنها تجلد، ولا نزاع في ذلك، لنص الكتاب، وتغرب، وهو أيضا قول الأكثرين ممن قال بالتغريب، ثم وعليه(6/279)
المعول في المذهب، لعموم حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن ما كان حدا في حق الرجل كان حدا في حق المرأة كسائر الحدود، واختار أبو محمد في مغنيه أنها لا تغرب، كقول مالك، وله في كتبه الثلاثة احتمال بسقوطه إذا لم تجد محرما.
3120 - ومدركهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم» ؛ ولأن تغريبها بدون محرم تضييع لها، ومعه يفضي إلى نفي من لا ذنب له، وإن كلفت بأجرته فذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به.
(تنبيه) : شرط التغريب أن يكون إلى مسافة القصر في الجملة، إذ ما دونها في حكم المقيم، قال أبو محمد: ويحتمل كلام أحمد في رواية الأثرم أنه لا يشترط ذلك، لقوله: ينفى من عمله إلى عمل غيره. ولا تفريع على هذا، أما على المذهب فالرجل ينفى إلى مسافة القصر بلا ريب، وكذلك المرأة إذا كان معها محرمها، ومع تعذره هل تنفى إلى مسافة القصر لما تقدم، أو إلى ما دونها، لحديث: «لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم» ؟ على روايتين، هذه طريقة القاضي في(6/280)
الروايتين، وأبي محمد في المغني، وجعل أبو الخطاب في الهداية الروايتين فيها مطلقا، سواء نفيت مع محرمها أو بدونه، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي والمقنع، وعكس أبو البركات طريقة المغني، فجعل الروايتين فيها فيما إذا نفيت مع محرمها، أما بدونه فإلى ما دونها قولا واحدا، كما اقتضاه كلامه.
قال: وإذا زنى العبد أو الأمة جلد كل واحد منهما خمسين جلدة، ولم يغربا.
3121 - ش: أما جلدهما فلما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» » ، متفق عليه.
3122 - وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: «خطب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: يا أيها الناس أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت، فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أحسنت اتركها حتى(6/281)
تماثل» » رواه مسلم وأبو داود والترمذي، لكن قال فيه: «وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» جعله من لفظ الرسول، والعبد في معنى الأمة، وبهذين يضعف دليل خطاب {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] .
3123 - على أنه نقل عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المراد بالإحصان الإسلام. وأما كونه خمسين جلدة، فلقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25](6/282)
والعذاب الذي في كتاب الله هو جلد مائة جلدة، ولهذا عرفه.
3124 - وعن عبد الله بن عياش قال: أمرني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أجلد ولائد للإمارة، أنا وفتية من قريش خمسين خمسين في الزنا. أخرجه مالك في الموطأ.
3125 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أرسلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمة له سوداء زنت، لأجلدها الحد، قال: فوجدتها في دمها، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك، فقال لي: «إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين» ، رواه عبد الله بن أحمد في المسند.
وأما كون ذلك بلا تغريب؛ فلأن ما تقدم جميعه ليس فيه تغريب، ولو وجب لذكر، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والعذاب كما تقدم والله أعلم المراد به الذي في الكتاب، ولا تغريب فيه، ثم إن التغريب في حق العبد في الحقيقة عقوبة لسيده دونه، لما يفوته من خدمته، وما يحتاجه(6/283)
من حفظه ونفقته، والعبد غريب أينما كان، والعقوبة لا تشرع على غير الزاني، والله أعلم.
[الموضع الذي يجب فيه الحد في الزنا]
قال: والزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر.
ش: مقصود الخرقي بهذا والله أعلم، أن الموضع الذي يجب فيه الحد في القبل يجب فيه في الدبر، فلا فرق بين القبل والدبر، وذلك لأنه فرج مشتهى طبعا، محرم شرعا، فأشبه القبل، ولأن الله تعالى قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية، ثم بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك بقوله: «قد جعل الله لهن سبيلا» الحديث، والفاحشة تشمل الوطء في القبل والدبر، وقد سمى الله الوطء في الدبر فاحشة فقال لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] أي: الوطء في دبر الرجل، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى تعريف الزاني الذي يترتب عليه الحد السابق بما ذكره.
وفي قوله (الفاحشة) إشعار بأن شرط الإتيان في القبل أو الدبر أن يكون حراما محضا، فيخرج بالأول الوطء الحلال، ووطء الشبهة، كمن وطئ امرأته في دبرها أو أمته الوثنية، أو أمة لبيت المال وهو حر مسلم، أو من ظنها زوجته، أو بنكاح(6/284)
باطل اعتقد صحته، أو لم يعلم بالتحريم لقرب عهده بالإسلام ونحو ذلك، وقد تضعف الشبهة فيجري الخلاف، كمن وطئ أمته وهي مزوجة، أو مؤبدة التحريم، أو أمة والده، مع علمه بالتحريم، أو وطئ في نكاح أو ملك مختلف في صحته مع علمه بالتحريم، ونحو ذلك، وبيان ذلك وشرحه على ما ينبغي له محل آخر، إلا أنه لا بد أن يطأ بفرج أصلي، في فرج أصلي، وأن يغيب الحشفة أو قدرها، فلو جامع الخنثى بذكره، أو جامع في قبله فلا حد، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لا حد بالإتيان دون الفرج، ولا بإتيان المرأة المرأة، وهو كذلك والله أعلم.
[حكم اللواط]
قال: ومن تلوط قتل بكرا كان أو ثيبا، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى، حكمه حكم الزاني.
ش: (الرواية الأولى) اختيار الشريف.
3126 - لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه الخمسة إلا النسائي، قال الترمذي: وكذا روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(6/285)
وهو شامل للبكر والثيب، لكن الحديث من رواية عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقد اختلف في عمرو بن أبي عمرو، فعن ابن معين ومالك: تضعيفه، وعن أحمد وأبي حاتم وغيرهما: ليس به بأس.
3127 - ورواه أبو أحمد ابن عدي من رواية عباد بن منصور، عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولفظه: «في الذي يعمل عمل قوم لوط، وفي الذي يؤتي في نفسه، وفي الذي يقع على ذات محرم، وفي الذي يأتي(6/286)
البهيمة يقتل» ، وقد اختلف أيضا في الاحتجاج بعباد بن منصور.
3128 - وقد روى أبو أحمد أيضا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموه الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعا» لكنه ضعفه، وبالجملة هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، إذ ليس فيها متهم بكذب وسوء الحفظ يزول بتتابعها، مع أن الجارحين لم يبينوا سبب الجرح، وقد قال يحيى بن سعيد: عباد بن منصور ثقة، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه، وهذا يدل على أن تضعيفهم له كان بسبب خطئه في رأيه، ويقوي الحديث عمل راويه عليه.(6/287)
3129 - فعن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في البكر يؤخذ على اللوطية يرجم. رواه أبو داود، ثم عمل الصحابة على ذلك.
3130 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن عليا أحرقهما، وأبا بكر هدم عليهما حائطا، ذكر ذلك أبو السعادات في جامع الأصول، ولذلك احتج أحمد بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقيل: إن الصحابة أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته.
(ووجه الرواية الثانية) أنه فاحشة، فكان كالفاحشة بين الرجل والمرأة.
3131 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» ، وإذا كان زنا دخل في عموم الآية، والأخبار السابقة والأحاديث السابقة لم تثبت.(6/288)
وقول الخرقي: بكرا كان أو ثيبا، أي محصنا كان أو غير محصن، وإنما أراد لفظ حديث عبادة، والله أعلم.
[إتيان البهيمة]
قال: ومن أتى بهيمة أدب وأحسن أدبه.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية ابن منصور، واختيار الخرقي، وأبي بكر، لأنه أتى محرما لا حد فيه ولا كفارة، وذلك مقتضى للتأيب.
وقوله: وأحسن أدبه، أي يبالغ فيه لشدة تحريمه، إذ قد اختلف في قتل فاعل ذلك، وورد فيه ما يدل على ذلك، وذلك يقتضي المبالغة في تحريمه، وإنما لم يحد لأن الحديث الذي ورد فيه قد تكلم فيه، وقياسه على الوطء في فرج المرأة متعذر، إذ ليس بمقصود، يحتاج في الزجر عنه إلى حد، بل يكتفى بالباعث الطبعي، إذ النفوس الشريفة بل وغيرها تنفر من ذلك.
(ونقل عنه) حنبل: يحد حد الزاني، كذا حكى القاضي في روايتيه، والشيخان وغيرهما يحكون الرواية: أن حده حد اللوطي، يعني هل يرجم مطلقا، أو يحد(6/289)
حد الزاني، وهذه اختيار القاضي والشيرازي، وأبي الخطاب والشريف في خلافيهما.
3132 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وراويه عمرو بن أبي عمرو راوي حديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط» الحديث، فهذا لازم للقائل ثم بالقتل.
3133 - إلا أنه هنا قد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ليس على الذي يأتي البهيمة حد، رواه أبو داود والترمذي، وذلك يوهن روايتيه مع ما فيهما، والله أعلم.(6/290)
قال: وقتلت البهيمة.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وبه قطع أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في الكافي، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، لما تقدم من الحديث، وهو وإن تكلم فيه فذلك لا يبلغ اطراحه بالكلية، بل هو صالح لأن يؤثر شبهة في درء الحد الذي يندرئ بالشبهة، ولا يؤثر في غيره لعدم درئه بالشبهة.
(والرواية الثانية) : لا تقتل، لأن المعتمد في ذلك على الحديث، والحديث لم يثبت، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، فيدخل في عمومه،(6/291)
وظاهر كلام أبي البركات، أن قتلها لا يشرع على هذه الرواية، وعن أبي بكر أنه توسط فقال: الاختيار قتلها، وإن تركها فلا بأس، (ومحل هاتين الروايتين) إذا قلنا بتعزير الفاعل، أما إذا قلنا بحده حد اللوطي؛ فإنها تقتل بلا نزاع، كذا ذكره أبو البركات وهو واضح، لأنا إذا اعتمدنا على الحديث، وهو أخص من النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، وكلام الخرقي يشمل المملوكة والمأكولة وغيرهما، وهو كذلك ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأكلها إن كانت مأكولة، وأحمد كره ذلك، فخرج لأصحابه فيه وجهان:
(أحدهما) - ويحتمله كلام الخرقي -: الجواز، لعموم: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] وغير ذلك.
(والثاني) - وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، وقطع به الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وشيخهما في الجامع، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي -: المنع، لأنه حيوان مأمور بقتله، وكل ما أمر بقتله لا يجوز أكله، كما هو مقرر في موضعه، ولعل الخلاف في ذلك مبني على علة قتلها، فقيل: لئلا يعير فاعلها لذكره برؤيتها.
3134 - فروى ابن بطة بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة» قالوا: يا رسول الله(6/292)
ما بال البهيمة؟ قال: «لئلا يقال هذه وهذه» ، وقيل: لئلا تلد خلقا مشوها، وبه علل ابن عقيل، وعلى هذين يباح الأكل، وقيل القتل لئلا تؤكل.
3135 - «قيل لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما ذكر الحديث: ما شأن البهيمة؟ قال: ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئا، ولكن أراه كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها، وقد فعل بها ذلك» . . رواه أبو داود والترمذي، واعلم أن محل الخلاف حيث شرعنا قتلها، أما إن لم نشرعه فلا ريب في جواز أكلها، والله أعلم.
[ما يثبت به حد الزنا]
قال: والذي يجب عليه الحد ممن ذكرت من أقر بالزنا أربع مرات، وهو بالغ صحيح عاقل، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، أو يشهد عليه أربعة رجال من أحرار المسلمين عدول، يصفون الزنا.
ش: ملخص ذلك أن الحد لا يجب إلا بأحد شيئين؛ إقرار أو بينة، فإن ثبت بإقرار اشترط أن يقر أربع مرات، فلو أقر دونها لم يجب الحد.(6/293)
3136 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أتى رجل من أسلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله، إن الآخر قد زنى، يعني نفسه، فأعرض عنه، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال له ذلك، فأعرض، فتنحى الرابعة، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه، فقال: «أهو به جنون» ؟ قال: لا، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهبوا به فارجموه» متفق عليه.
3137 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف بالزنا، فأعرض عنه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبك جنون» ؟ قال: لا، قال: «أحصنت» ؟ قال: نعم، فأمر به فرجم» . . رواه أبو داود والترمذي والنسائي. وظاهر هذا: أن الحكم مرتب على الأربعة، وقد جاء أصرح من هذا.
3138 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء ماعز إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: «شهدت على نفسك أربع مرات، فاذهبوا به فارجموه» .(6/294)
3139 - وعن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال: «كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بما صنعت، لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج، فأتاه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأقم علي كتاب الله؛ حتى قالها أربع مرات، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك قد قلتها أربع مرات فبمن» ؟ قال: بفلانة. قال: «هل ضاجعتها» ؟ قال: نعم، قال: «هل باشرتها» ؟ قال: نعم، قال: «هل جامعتها» ؟ قال: نعم، قال: فأمر به أن يرجم» ، وذكر الحديث. . . رواهما أبو داود، وهذا ظاهر وصريح في أن الأربع علة في ترتب الحكم عليها.
3140 - وفي المسند «أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال له بحضرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك؛ وقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنيس: «واغد يا أنيس إلى(6/295)
امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ونحو ذلك واقعة عين، إذ يحتمل أنه أحاله على ما عرفه من شرط الاعتراف، وكذلك قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرجم حق على من أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، يرجع إلى الاعتراف المعهود كالبينة، وشرط اعتبار الإقرار أن يكون من مكلف، وهو العاقل البالغ، فلو أقر المجنون أو الصبي فلا عبرة بإقرارهما، إذ لا حكم لكلامهما، وقد رفع القلم عنهما.
3141 - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ» رواه أبو داود.
3142 - وفي الحديث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لماعز: «أبك جنون» ؟ قال: لا، وفي رواية في الصحيح أنه سأل قومه: «أتعلمون بعقله بأسا، تنكرون منه شيئا» ؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل، من صالحينا فيما نرى» ، انتهى.(6/296)
ومما في معنى المجنون من زال عقله بنوم، أو إغماء، أو شرب دواء، أو سكر، هذا ظاهر كلام الخرقي، وأقره عليه أبو محمد، وجزم بذلك.
ومقتضى كلام أبي البركات: جريان الخلاف فيه، وفي بعض نسخ الخرقي: وهو صحيح بالغ عاقل، وعلى ذلك شرح القاضي وأبو محمد، وفسر القاضي ذلك بحقيقته، وهو الصحة من المرض، فلا يجب على مريض في حال مرضه، وإن وجب عليه أقيم عليه بما يؤمن به تلفه، وهذا فيه نظر، فإن الحد إما أن يجب ويؤخر استيفاؤه إلى حين صحته، أو يجب ويستوفى منه على حسب حاله، فعلى كل حال ليس الصحة شرطا للوجوب، قاله أبو محمد.
ويحتمل أن يريد بالصحيح الذي يتصور منه الوطء، فلو أقر بالزنا من لا يتصور منه الوطء؛ كالمجبوب، فلا حد عليه، وهو كالذي قبله، لأن هذا فهم من قوله: عاقل.
(قلت) : ويحتمل أن يريد بالصحيح الناطق فلا يقبل إقرار الأخرس، لأنه إن لم تفهم إشارته فواضح، وإن فهمت فهي محتملة، وذلك شبهة تدرأ الحد، وهذا احتمال لأبي محمد، والذي قطع به القاضي الصحة، ويحتمل أن يريد بالصحة الاختيار، وأراد الصحة المعنوية فلا يصح إقرار المكره، ولا نزاع في ذلك. واعلم أنه يشترط في الإقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة.
3143 - وفي قصة ماعز «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أنكتها» ؟ قال: نعم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى غاب ذلك منك في(6/297)
ذلك منها» ؟ قال: نعم، قال: «كما يغيب الميل في المكحلة والرشاء في البئر» ؟ قال: نعم، قال: «هل تدري ما الزنا» ؟ قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من أهله حلالا» . . رواه أبو داود.
3144 - وفي الصحيح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قال: لما أتى ماعز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» ؟ قال: لا يا رسول الله، قال: «أنكتها» ؟ قال: لا يكني، قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه» ، انتهى.
ولا يعتبر أن يكون في مجالس، لأن أكثر الأحاديث ليس فيها تعريض لذلك، ويعتبر في استقرار الإقرار دوامه، أن لا ينزع عنه حتى يتم عليه الحد، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، انتهى.
وإن ثبت الزنا بالبينة اعتبر أن يكون أربعة، وهذا إجماع في الجملة والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] الآية، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ،(6/298)
وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] .
3145 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن سعد بن عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت لو أني وجدت مع امرأتي رجلا، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم» رواه مسلم ومالك في الموطأ. اهـ.
ويعتبر في الأربعة شروط: (أحدها) : أن يكونوا رجالا، فلا يقبل فهم امرأة، ولا خنثى مشكل بحال، لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكرين، فظاهره الاكتفاء بأربعة، فلو أقمنا المرأتين مقام الرجل خرجنا عن ظاهر الآية لاشتراط خمسة.
(الثاني) : أن يكونوا من المسلمين، فلا تقبل شهادة أهل الذمة، كما لا تقبل روايتهم، ولا أخبارهم الدينية.
وسواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي، ولا عبرة برواية حنبل في قبول(6/299)
شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض.
(الثالث) : أن يكونوا أحرارا، فلا تقبل شهادة العبد، للاختلاف في شهادته في سائر الحقوق، وذلك يؤثر شبهة في عدم قبوله في الحد، لاندرائه بالشبهة.
(وعن أحمد) لا يشترط ذلك، ولعله أظهر، لدخوله في عامة النصوص. (الرابع) : أن يكونوا عدولا، فلا تقبل شهادة فاسق، كما لا يقبل خبره، وكبقية الشهادات بطريق الأولى. وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية، ولا مستور الحال، وإن قبلناه في الأموال، احتياطا لهذا الباب وتضييقا له.
(الخامس) : أن يصفوا الزنا، فيقولوا: رأيناه غيب ذكره في حشفته أو قدرها في فرجها؛ لما تقدم عن ماعز، وإذا اعتبر ذلك في الإقرار ففي البينة أولى.
3146 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: «ائتوني بأعلم رجل منكم» فأتوه بابني صوريا فنشدهما: «كيف تجدان أمر هذين في التوراة» ؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال: «فما يمنعكم أن ترجموهما» ؟ قالوا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(6/300)
بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمهما» . . رواه أبو داود.
وهل يعتبر مع ذلك أن يذكروا (المكان) لاحتمال الاختلاف، فتكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر، (والمزني بها) لاحتمال الاختلاف في إباحتها، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لماعز: «فبمن» ؟ وهو اختيار القاضي، أو لا يعتبر ذلك، كما لا يعتبر في الإقرار، ولهذا لم يذكر المكان في قصة اليهود، ولا المزني بها في أكثر الأحاديث، وهذا اختيار ابن حامد؟ على وجهين، وأجراهما أبو البركات في الزمان والمكان، وهو واضح، وكلام أبي محمد يقتضي أنه لا يشترط ذكر الزمان بلا خلاف.
(السادس) : أن يشهدوا كلهم في مجلس واحد، ذكره الخرقي في غير هذا الموضع، فقال: إن جاء الأربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم، قبلت شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة، وعليهم الحد.
3147 - وذلك لما روي أن أبا بكرة ونافعا، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المغيرة بن شعبة بالزنا، ولم يشهد(6/301)
زياد، فحد الثلاثة، ولو لم يشترط المجلس لم يحدهم، لجواز أن يكملوا أربعة في مجلس آخر، وفيه نظر، لأن قرينة حالهم تقتضي أنه لا رابع لهم إلا زياد، ولا يشترط مجيئهم جملة، بل شهادتهم في مجلس واحد، وفي قصة المغيرة أن أبا بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرأيت لو جاء آخر فشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إي، والذي لا إله إلا هو، والذي نفسي بيده، والله أعلم.
[الرجوع عن الإقرار بالزنا]
قال: ولو رجم بإقراره، فرجع قبل أن يقتل كف عنه، وكذلك إن رجع بعد أن جلد، وقبل كمال الحد خلي عنه.
3148 - ش: لأن في الصحيح وفي السنن من رواية أبي هريرة ونعيم بن هزال وغيرهم: «أن ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وجد مس الحجارة(6/302)
فر، وفي رواية: خرج يشتد، فضرب حتى مات، وذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هلا تركتموه» وفي هذا تحضيض على تركه، وفي رواية: «لعله أن يتوب فيتوب الله عليه» ، وفي هذا دليل على تركه وقبول رجوعه.
3149 - وفي حديث بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة. . رواه أبو داود. ولأن ذلك شبهة، والحد يدرأ بها، ولأن الإقرار أحد بينتي الحد، فسقط بالرجوع، كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد.
إذا تقرر هذا فصفة الرجوع عن الإقرار أن يقول: كذبت في إقراري، أو لم أفعل ما أقررت به، ونحو ذلك، فإذا يجب الكف عنه، ومتى قتل ضمن والحال هذه، لزوال إقراره صريحا، فكأنه لم يقر وضمانه بالدية فقط، للاختلاف في صحة رجوعه، وذلك شبهة دارئة للقصاص، ولو هرب، أو قال:(6/303)
ردوني إلى الإمام ونحو ذلك ترك أيضا، لكن متى قتل والحال هذه فلا ضمان على قاتله؛ لأن ذلك ليس بصريح في رجوعه، ولذلك والله أعلم لم يضمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزا من قتله.
وقول الخرقي: ولو رجم بإقراره، فيه أشعاره بأنه لو رجم بالبينة ثم رجع أو هرب لم يسمع منه، وهو كذلك بالإجماع فيما أظن، والله أعلم.
[تكرار الزنا هل يوجب تكرار الحد]
قال: ومن زنا مرارا ولم يحد فحد واحد.
ش: حكى ذلك ابن المنذر عمن يحفظ عنه من أهل العلم، في مسألتي المنطوق والمفهوم، ولأن قوله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] يشمل من زنى مرة، ومن زنى مرارا، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمة: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها» ، يقتضي أن من زنا بعد أن حد يحد ثانيا.
[تحاكم أهل الذمة إلينا في الزنا]
قال: وإذا تحاكم إلينا أهل الذمة حكمنا عليهم بما حكم الله عز وجل علينا به.
ش: أما الحكم عليهم بما حكم الله علينا به؛ فلا ريب فيه،(6/304)
قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] .
وهل الحكم بينهم (على طريق الوجوب) ، ويحتمله كلام الخرقي، للآية الأولى، (أو على طريقة التخيير) وهو المشهور، للآية الثانية، إذ صدرها: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وكالمستأمنين، (أو إن اتحدت ملتهم خير) ؛ لأن الآية وردت في اليهود، وملتهم واحدة، وإن اختلفت وجب، كما لو تحاكموا مع مسلم، (أو يخير للآية) إلا أن يتظالموا في حقوق الآدميين، فيجب دفعا للظلم الواجب دفعه على كل أحد، لا سيما على الحكام المنتصبين لذلك، وهو مختار أبي البركات؟ على أربع روايات، وهل يحكم آن ويعدى آن خبرناه بطلب أحدهما، أو لا بد من اتفاقهما كالمستأمنين؟ على روايتين، والله أعلم.
[حد القذف]
قال: وإذا قذف بالغ عاقل حرا مسلما أو حرة مسلمة(6/305)
بالزنا، جلد الحد ثمانين جلدة إن طالب المقذوف، ولم تكن للقاذف بينة.
ش: القذف محرم بالإجماع، للأذى الحاصل به المأمور بانتفائه شرعا، وقد نص الله تعالى ورسوله على القذف بالزنا، لتأكد تحريمه، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] .
3150 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه.
ويجب الحد بالقذف بالزنا بالإجماع، للآية الكريمة، ووجوبه بشروط أربعة: اثنان منها في القاذف، واثنان في المقذوف؛ فأما اللذان في القاذف: (فأحدهما) : أن يكون مكلفا، وهو العاقل البالغ، إذ غيرهما لا يتعلق به حكم خطابي، لرفع القلم عنه، فلا حد على مجنون، ولا مبرسم، ولا نائم، ولا سكران، على ظاهر كلامه، وعموم كلام غيره(6/306)
يقتضي أنه على الروايتين، ولا على صبي.
(الثاني) : أن لا يكون له بينة بما قاله على المقذوف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية، شرط سبحانه للجلد عدم البينة، وفي معنى البينة الإقرار من المقذوف، فإن كان القاذف زوجا اشترط شرط ثالث، وهو عدم لعانه، فإن لاعن فلا حد عليه، لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية.
وأما الاثنان اللذان في المقذوف: (فأحدهما) : أن يكون محصنا، والمحصن هنا فسره الأصحاب بالحر المسلم العاقل، العفيف عن الزنا، الذي يجامع مثله، وفي اشتراط سلامته من وطء الشبهة وجهان، وكذلك في اشتراط بلوغه روايتان، وهذا قد يؤخذ من كلام الخرقي مفرقا، فالحرية والإسلام نص عليهما هنا، والعفة عن الزنا تؤخذ من الشرط الثاني في القاذف.
وكونه يجامع مثله يذكره بعد، واقتصاره على ذلك يفهم منه أنه لا يشترط البلوغ، والعقل يؤخذ من نفيه الحد عن قاذف الطفل، والسلامة من وطء الشبهة لا يشترطها، وبيان ذلك، أما الحرية والإسلام، فلأن العبد والكافر حرمتهما ناقصة، فلا ينتهض لإيجاب الحد، والآية الكريمة وردت في الحرة المسلمة، وغيرهما ليس في معناهما، وأما العقل فلأن غير العاقل لا يعير بالزنا، لعدم تكليفه، والحد إنما(6/307)
وجب دفعا للعار عن المقذوف، وأما العفة عن الزنا؛ فلأن غير العفيف لا يشينه القذف، والحد إنما وجب من أجل ذلك، وقد أسقط الله تعالى الحد عن القاذف إذا كانت له بينة بما قال، وأما كونه مثله يجامع؛ فلأن غير ذلك لا يعير بالقذف، لتحقق كذب القاذف، والقذف إنما وجب لذلك، وأقل من يجامع مثله أن يكون له عشر سنين إن كان ذكرا، أو تسع سنين إن كان أنثى، كذا ذكر أبو محمد تبعا لظاهر كلام الخرقي.
وأما اشتراط البلوغ على رواية قيل: إنها مخرجة، وليست بمنصوصة. فلأن غير البالغ غير مكلف أشبه المجنون.
وأما عدم اشتراطه على أخرى - وهو مقتضى كلام الخرقي، وقطع بها القاضي والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة - فلأن ابن عشر سنين ونحوه يلحقه الشين بإضافة الزنا إليه. ويعير بذلك، ولهذا جعل عيبا في الرقيق، وأشبه البالغ.
وأما اشتراط السلامة من وطء الشبهة وعدمه، فلعل مبنى ذلك على أن وطء الشبهة هل يوصف بالتحريم أم لا، وقد تقدم عن القاضي أنه وصفه بالتحريم، وأن ظاهر كلام الخرقي وجماعة عدم وصفه بذلك، وكذلك ظاهر كلام جماعة هنا أنه لا يشترط السلامة من ذلك.
(تنبيه) : ظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط العدالة، بل لو كان المقذوف فاسقا لشرب خمر ونحوه أو لبدعة، ولم(6/308)
يعرف بالزنا، فإن الحد يجب بقذفه، وقال الشيرازي: لا يجب الحد بقذف مبتدع ولا مبتدعة.
(الشرط الثاني) : في المقذوف مطالبته بالقذف، لأنه حق له، فلا يستوفى بدون طلبه كبقية حقوقه.
وهذا سواء قلنا: إنه للقاذف محض حق له، كما هو المنصوص، والمختار للأصحاب، أو قلنا: هو حق الله تعالى، وليست بالبينة، لأنه أذى للآدمي فيه حق، قطعا للأذى الحاصل له، مع أن مقتضى كلام أبي البركات نفي الخلاف رأسا، والقطع بأنه حق للآدمي، وهو الصواب، وبيان ذلك له محل آخر، وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد، فلو طالب ثم عفى عن الحد سقط، على المذهب وعلى الرواية المحكية بأنه حق لله تعالى لا يسقط بالعفو.
(تنبيهان) : أحدهما: إذا وجب الحد بقذف من لم يبلغ لم يقم حتى يبلغ ويطالب، لعدم اعتبار كلامه قبل البلوغ، وليس لوليه المطالبة، حذارا من فوات التشفي، ولو قذف غائبا اعتبر قدومه وطلبه، إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته، فيقام على المذهب، وقيل: لا، لاحتمال عفوه، ولو قذف عاقلا فجن أو أغمي عليه قبل الطلب، لم يقم حتى يفيق ويطالب، فإن(6/309)
كان قد طالب ثم جن أو أغمي عليه جازت إقامته.
(الثاني) : يستثنى مما تقدم الوالد لا يحد بقذف ولده، والله أعلم.
قال: وإن كان القاذف عبدا أو أمة جلد أربعين، بدون السوط الذي يجلد به الحر.
ش: الإجماع على وجوب الحد على العبد بقذف المحصن، لشمول الآية الكريمة له، ثم مقدار الحد إن كان القاذف حرا ثمانون للآية الكريمة، وإن كان القاذف عبدا فأربعون، جعلا له على النصف من الحر، لأن ذلك مما يتبعض.
3151 - وقد قال أبو الزناد: جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في فرية ثمانين، قال أبو الزناد: فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك، فقال: أدركت عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء هلم جرا، فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين. . رواه مالك في الموطأ.
3152 - وقال سعيد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبدا في فرية ثمانين، فأنكر ذلك من حضره من الناس والفقهاء، وهذا كنقل الإجماع(6/310)
من الصحابة، والإنكار على من خالفهم، وهو يخص عموم الآية، وإن كان القاذف نصفه حرا فبحساب ذلك، على ظاهر كلام أحمد، لأن ذلك مما يتبعض، وقيل: هو كالعبد، لأن الإجماع إنما انعقد على الثمانين في الحر، فيبقى فيما عداه على أصل براءة الذمة، ولو قيل بالعكس لاتجه، لشمول الآية الكريمة للجميع، خرج منه العبد لأقوال الصحابة، فما عداه على العموم.
واشترط الخرقي أن يكون جلد العبد بسوط دون الذي يجلد به الحر، تخفيفا للصفة كما خفف في القدر، ولأبي محمد احتمال بتساويهما، وهو ظاهر كلام جماعة من الأصحاب، لأنه على النصف، ولا يتحقق التنصيف إلا مع المساواة.
قال: وإذا قال له: يا لوطي، سئل عما أراد، فإذا قال: أردت أنك من قوم لوط، فلا شيء عليه، وإن قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط، فهو كمن قذف بالزنا.
ش: إذا قال له: يا لوطي، فعند الخرقي - وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن هذا ليس بصريح في القذف،(6/311)
لاحتماله له ولغيره، إذ يحتمل أنه منهم أي ينسب إليهم. وإذا احتمل واحتمل، والحد يدرأ بالشبهة، مع أن الأصل براءة الذمة، لم يحكم بأنه صريح، وعند ذلك يسأل عما أراد، فإن فسره بما لا يوجب الحد، كما إذا قال: أردت أنك من قوم لوط، أي تنسب إليهم، فلا حد عليه، لأنه فسر كلامه بما يحتمله مما لا يوجب حدا، وإن فسره بما يوجب الحد، كما إذا قال: أردت أنك تأتي الذكران؛ وجب الحد عندنا بلا ريب، لوجوب حد الزنا على فاعل ذلك كما تقدم، وهذا هو الضابط، وهو أن كل ما وجب حد الزنا بفعله، وجب الحد بالقذف به، وما لا، فلا، ومن ثم خرج الخلاف إذا قذفه بإتيان بهيمة، انتهى.
وكذلك إن فسره بما يشمل الوطء(6/312)
وغيره، كقوله: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط؛ لأن من أشهر أعمالهم إتيان الذكران.
(وعن أحمد) لا يقبل تفسيره في حال الغضب، لأن القرينة تكذبه، والمنصوص عن أحمد في رواية الجماعة - وعليه عامة الأصحاب - أن ذلك صريح في القذف، فلا يقبل قوله بما يحيله، لأن هذا اللفظ إذا أطلق لا يكاد يفهم منه إلا إتيان الذكران، وإرادة الانتساب إلى قوم لوط بعيدة جدا؛ إذ الظاهر أو القطع بأنهم لم يبق منهم أحد، والاحتمال البعيد وجوده كعدمه، ومن ثم بعد الشيخان قول الخرقي، فعلى هذا إذا قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الذكران، فهل يقبل منه، نظرا إلى أنه من باب إطلاق العام، وإرادة الخاص، وهو سائغ كثيرا، أو لا يقبل، لمخالفته الظاهر؟ فيه وجهان.
أما على قول الخرقي فيقبل منه بطريق الأولى، لأنه إذا قبل منه صرف اللفظ عن مقتضاه عرفا، فلأن يقبل منه إطلاق العام وإرادة الخاص أولى، هذا هو التحقيق، تبعا لأبي البركات. وأبو محمد في مغنيه يبني الوجهين على روايتي الصراحة وعدمها، فإن قلنا صريح لم يقبل، وإلا قبل، والله أعلم.
قال: وكذلك من قال يا معفوج.
ش: هذا التشبيه (يحتمل) أن يرجع إلى أصل المسألة السابقة، فعلى هذا إن فسره بما لا يوجب الحد، كما إذا قال: أردت أنك معفوج دون الفرج ونحوه، قبل منه عند الخرقي، ولم يقبل منه عند غيره، وعلى هذا جرى الشيخان.(6/313)
(ويحتمل) أن يرجع إلى قوله: فهو كمن قذف بالزنا، فيجب الحد، ولا يقبل التفسير. ولعله أظهر، إذ المعفوج مفعول من عفج بمعنى نكح، فهو بمعنى منكوح أي موطوء.
(تنبيه) : قد أخذ من كلام الخرقي في هذه المسألة، وفي التي قبلها أن الحد لا يجب إلا بلفظ صريح، كقوله: يا زاني، أو يأتي باللفظ الحقيقي في الجماع، أما الألفاظ المحتملة كقوله لامرأة: يا قحبة، أو لرجل: يا مخنث، أو يقول لعربي: يا نبطي، يا فارسي، أو يعرض بالزنا، كأن يقول لمن يخاصمه: ما أنت بزان، ما يعرفك الناس بالزنا، يا حلال ابن الحلال، ونحو ذلك، فلا يجب به الحد، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، وأبي محمد.
(والثانية) : يجب الحد بجميع ذلك في الجملة، وهي اختيار القاضي، وكثير من أصحابه في التعريض، وتحقيق الروايتين وتوجيههما له محل آخر، والله أعلم.
قال: ولو قذف رجل فلم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف، لم يزل الحد عن القاذف.(6/314)
ش: نظرا إلى أن شرط وجوب الحد وهو الإحصان قد وجد، فلا عبرة بما يطرأ بعده، وصار هذا كما لو سرق عينا ثم ملكها، ونحو ذلك، وفي قوله: فلم يقم عليه الحد حتى زنى إشعار بأنه لو ثبت أنه كان زنى قبل القذف أن الحد يزول عن القاذف، وهو كذلك، لتبين زوال شرط الوجوب، والله أعلم.
قال: ومن قذف عبدا أو مشركا، أو مسلما له دون العشر سنين أو مسلمة لها دون تسع سنين؛ أدب ولم يحد.
ش: قد تقدم أن من شرط وجوب الحد إسلام المقذوف، وحريته، وكونه يجامع مثله، أو بالغ على ما تقدم، مع العقل، والعفة عن الزنا، والسلامة من وطء الشبهة على وجهيه، فمتى عدم واحد من هذه انتفى الوجوب، وإذا يؤدب زجرا عن عرض المعصوم، وكفا له عن أذاه.
(وعن أحمد) : لا يؤدب لقذف كافر، والأول المذهب بلا ريب، ولا عبرة بإيراد ابن حمدان في الكبرى المذهب الثاني، جعل الأول قويلا، (وعن أحمد) في أم الولد إذا كان لها ولد يحد قاذفها، وبه قطع الشيرازي، وقيل: يحد العبد بقذف العبد، ولا عمل على ذلك.(6/315)
(تنبيه) : لا يحد والد لقذف ولده، نص عليه في رواية ابن منصور وأبي طالب، وهل يؤدب؟ لفظه في رواية ابن منصور: لا يحد، فيحتمل أنه يؤدب، ولفظه في رواية أبي طالب: ليس عليه شيء، لا يؤخذ لابن من أبيه حد، فيحتمل أنه لا يؤدب، وهو أظهر، وهل حكم الأم حكم الأب؟ فيه وجهان، أصحهما - وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي، وابن البنا - أن حكمها حكمه، وحكم الجد والجدة، وإن علوا حكم الأب، قاله ابن البنا والله أعلم.
قال: ومن قذف من كان مشركا، وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك؛ لم يلتفت إلى قوله، وحد إذا طالب المقذوف.
ش: نظرا إلى الحالة الراهنة، وهو إذا مسلم، فيدخل في الآية الكريمة، ولو كان قال: زنيت وأنت مشرك، فهل يحد أو لا يحد؟ على روايتين، أصحهما وأنصهما الثاني، وعليها إذا قال: أردت قذفي في الحال، فأنكره، فهل يحد، وهو اختيار القاضي، أو لا يحد، وهو اختيار أبي الخطاب؟ فيه وجهان، وأبو محمد يحكي الروايتين فيما إذا قال: زنيت في شركك، ولعل مدرك ذلك أنه وصل قوله بما يبطله، ومدرك الأول أن الواو هل هي للحال أو عاطفة؟ وقوله: إذا طالب المقذوف، زيادة إيضاح، وإلا لا بد من شروط الوجوب في كل موضع، والله أعلم.
قال: وكذلك من كان عبدا.
ش: أي إذا قذفه بعد أن أعتق وقال: أردت أنه زنى وهو عبد.(6/316)
لم يلتفت إلى قوله، كالمسألة السابقة، لأنهما متساويان معنى، فتساويا حكما، والله أعلم.
[الحد في قذف الملاعنة]
قال: ويحد من قذف الملاعنة.
ش: لأن لعانها لم يثبت زناها، فإحصانها باق.
3153 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الملاعنة أن لا ترمى، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد» ، رواه أبو داود، والله أعلم.
قال: وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إن كانت الأم في حال الحياة.
ش: لأن الحق لها، فلا يطالب به غيرها، ولا فرق بين أن يتعذر الطلب منها لجنونها ونحو ذلك، أو لا يتعذر، لما فيه من فوات التشفي المقصود قطعا.
وقول الخرقي: إذا كانت الأم في حال الحياة، مفهومه أن للولد المطالبة إذا ماتت الأم، وهذا بشرط أن تطالب الأم على المذهب المنصوص، وعلى تخريج لا يشترط الطلب، واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال، وإلا جامع المسألة بأن الحي ليس لوارثه المطالبة بموجب قذفه في(6/317)
حياته، وله ذلك بعد مماته بشرطه، ثم من يرثه هل هم جميع الورثة، وهو ظاهر كلام أبي محمد، وبه قطع القاضي في خلافه فيما أظن، ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور، أو يختص به من سوى الزوجين، وهو قول القاضي في موضع آخر، أو تختص به العصبة؟ على ثلاثة أقوال، والله أعلم.
قال: وإذا قذفت أمه وهي ميتة، مسلمة كانت أو كافرة، حرة أو أمة، حد القاذف إذا طالب الابن وكان حرا مسلما.
ش: دفعا للحقوق العار بالابن، فإنه والحال هذه يلحقه العار، بخلاف ما إذا كانت الأم في الحياة، فإن معظم العار لاحق بها، وقول الخرقي: وهي ميتة، مسلمة كانت أو كافرة، حرة أو أمة، إذا طالب الابن، وكان حرا مسلما؛ تنبيه على أن شرط الوجوب من الإحصان والمطالبة إنما يشترطان في الولد نظرا إلى أن القذف في الحقيقة كأنه له، لا في الأم.
(تنبيه) : جعل أبو البركات ذكر الخرقي الأم هنا على سبيل المثال، فقال: إن حد قذف الميت يثبت لجميع الورثة حتى الزوجين؛ نص عليه، وقال في موضع: يختص به من سواهما، وقيل تختص به العصبة، وأبو محمد عدى ذلك(6/318)
إلى الأمهات بطريق القياس، معللا بالقدح في النسب كالمسألة قبل، وحكى فيمن يرث قذف الميت الأقوال الثلاثة في القذف الموروث، والقاضي في الجامع الصغير قطع بأن الوارث هنا جميع الورثة، وأبو محمد والشيرازي وابن البنا اقتصروا على الأم، معللين بالقدح في النسب، واقتصر على ذلك.
ولا خلاف عنده أنه لو كان المقذوف جده أو أخاه ونحوهما من الأقارب عدا الأمهات أن الحد لا يجب، لانتفاء القدح في النسب والأقوال التي ذكرها أبو البركات جارية عنده في القذف الموروث، والمنصوص والله أعلم إنما هو فيه، فإن القاضي في تعليقه جزم فيه بأنه لجميع الورثة، معتمدا على قول أحمد في رواية ابن منصور في رجل قذف يهودية أو نصرانية، ولها ولد مسلم، أو زوج مسلم، يقام عليه الحد. قال: فقد جعل للزوج حقا فيه. اهـ.
وأبو محمد يوافق في هذه الصورة أنه لجميع الورثة على ظاهر كلامه، والله أعلم.
[قذف أم النبي]
قال: ومن قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل، مسلما كان أو كافرا.
ش: لأن ذلك قدح في نسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعريض لسبه وتنقيصه، وذلك موجب للقتل لما تقدم، وقوله: قتل؛ ظاهره، ولا يستتاب، وهو إحدى الروايتين، وهو المذهب، وقد تقدم ذلك، وكذلك الروايتان فيما إذا أسلم الكافر هل يسقط عنه(6/319)
القتل أم لا، والخلاف في سقوط القتل، أما توبته فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة بلا ريب، والله أعلم.
[قذف الجماعة بكلمة واحدة]
قال: ومن قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوه، أو واحد منهم.
ش: هذا هو المشهور من الروايات، نظرا إلى أن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه، وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف في قوله، ولأن الذين شهدوا على المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تضمن قولهم قذف امرأة، ولم يحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا حدا واحدا.
(وعن أحمد) : لكل واحد حد، نظرا إلى أن كل واحد مقذوف، والبراءة من المقذوف بحد كامل.
(والرواية الثالثة) : إن طلبوا جملة فحد واحد وإلا فحدود، لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع الحد للجميع، بخلاف ما إذا تفرقوا، فإن طلب أحدهم لا يكون طلبا من الآخر، ولا مسقطا لحقه، وعلى المذهب: الحق واجب لهم على سبيل البدل، فأيهم طلب به استوفى، ولم يكن لغيره الطلب، وإن أسقط أحدهم فلغيره طلبه واستيفائه، لأن المعرة عنه لم تزل.
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قذف الجماعة بكلمات أن لكل واحد حدا، وهو المذهب المشهور من الروايتين، لأن ظهور كذبه في أحد اللفظين لا يدل على كذبه في اللفظ(6/320)
الآخر، وبهذا فارق ما إذا كان بكلمة واحدة، ولأنها حقوق لآدميين، فلم تتداخل كالديون.
(والرواية الثانية) : إن طلبوا جملة فحد واحد، لوقوع الحد إذا لهم كالأيمان، وإلا فحدود، والله أعلم.
[إقامة الحد في الحرم]
قال: ومن أتى حدا خارج الحرم، ثم لجأ إلى الحرم لم يبايع ولم يشار حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد.
ش: من حل دمه بقصاص أو ردة، أو غير ذلك، أو وجب عليه حد لسرقة، أو شرب خمرة ونحوه، ثم لجأ إلى الحرم، فإنه لا يقام عليه ذلك فيه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يطعم ولا يسقى، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه؛ هذا هو المشهور من الروايتين عن الإمام أحمد، والمختار لأصحابه، لقول الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] أي: الحرم، وهو خبر بمعنى الأمر، أي آمنوا من دخل الحرم، أو خبر عما استقر في حكم الشرع.
3154 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» متفق عليه.
وفي لفظ: «وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت إلى حرمتها، فلا يسفك فيها(6/321)
دم» . والحجة فيه من وجهين: (أحدهما) : أنه حرم سفك الدم بها وأطلق، وتخصيص مكة بذلك يدل على أن الدم الحلال مراد، وهو المراد، إذ سفك الدم الحرام لا يختص بمكة، مع أن اللفظ الآخر نكرة في سياق النفي، فيعم كل دم.
(الثاني) قوله: وإنما حلت لي ساعة من نهار، والذي أحل له سفك دم حلال، منع منه الحرم وأحل له، ثم عادت الحرمة، وبهذا تتقيد إطلاقات قطع السارق، وجلد الزاني، ونحو ذلك، وما وقع في الحديث من قوله: «إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» ، هو من قول عمرو بن سعيد الأشدق، يدفع به الحديث المتقدم، وقوله هو المدفوع.
(والرواية الثانية) : يجوز استيفاء كل شيء ما عدا القتل، لأن الحديث إنما صرح فيه بسفك الدم، وغير النفس لا يقاس عليها، لعظم النفس، والمذهب الأول، وعليه لا يبايع ولا يشارى، ولا يطعم ولا يؤوى، ويقال له: اتق الله(6/322)
واخرج، ليؤخذ منك الحق الذي عليك، ليكون ذلك وسيلة إلى استيفاء ما عليه، إذ لا يجوز تركه بالكلية.
3155 - وتبعا لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال ذلك، رواه عنه الأثرم، إذا تقرر هذا فالخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما نص على الحد؛ لأنه إذا منع في الحد، فالقتل، وقطع الطريق بطريق الأولى، أو يقال: كلها حدود، لأن الله تعالى حدها وشرعها.
(تنبيه) : إذا استوفي منه في الحرم وقع الموقع مع الإساءة.
قال: وإن قتل أو أتى حدا في الحرم، أقيم عليه الحد في الحرم.
ش: لأنه لما انتهك حرمة الحرم انتهكت حرمته، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] إلى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] .
3156 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء، رواه الأثرم.(6/323)
(تنبيه) : التعريف في الحرم لمعهود ذهني، وهو حرم مكة، أما حرم مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يمنع من إقامة حد ولا قصاص فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/324)
[كتاب القطع في السرقة]
ش: وهو مشروع بشهادة النص والإجماع، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] .
3157 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» والله أعلم.
[مقدار النصاب في السرقة]
قال: وإذا سرق ربع دينار من العين، أو ثلاثة دراهم من الورق، أو قيمة ثلاثة دراهم طعاما كان أو غيره، وأخرجه من الحرز قطع.
ش: لا نزاع عندنا أن القطع لا يكون إلا في نصاب، فلا قطع في القليل.
3158 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» .
وفي رواية قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» متفق عليهما. . وفي رواية قال: « «اقطعوا في ربع(6/325)
الدينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» ، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهما. رواه أحمد، وهذا يقيد إطلاق الآية الكريمة.
3159 - ويصرف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» عن ظاهره، أن المراد بذلك ما يساوي ثلاثة دراهم.
3160 - ففي الحديث قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، وأن من الحبال ما يساوي دراهم. وهذا نقل للإجماع، أو قول قريب منه، أو أن المراد البيضة والحبل على ظاهرهما، وأن ذلك وسيلة إلى القطع، لأنه إذا سرق التافه تدرج إلى ما هو أعلى منه، إلى أن يسرق نصابا فيقطع.
واختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قدر النصاب، ولا نزاع عندنا أن الفضة أصل في القطع وفي التقويم، وأن أقل نصابها ثلاثة دراهم.
3161 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع يد السارق في مجن قيمته ثلاثة دراهم. وفي رواية:(6/326)
ثمنه ثلاثة دراهم» . رواه الجماعة. والأصل عدم القطع فيما دون ذلك، إذ قد علم أن إطلاق الآية الكريمة ليس بمراد.
3162 - وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: إن سارقا سرق في زمن عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تقوم، فقومت بثلاثة دراهم، من صرف اثني عشر درهما بدينار، فقطع عثمان يده. . رواه مالك في الموطأ، وهذا ظاهر في أن التقويم حصل بهما.
واختلف عن أحمد في المذهب: هل هو أصل في القطع بنفسه؟
(فعنه) : نعم، وهو المذهب، لحديث عائشة المتقدم.
(وعنه) : لا، ولعل ذلك يحتج له برواية أحمد في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المتقدم: وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، فعلى هذه يقوم بالدراهم، فما يساوي منه ثلاثة دراهم قطع به، وإن لم يبلغ ربع الدينار، [وما لم يساو ثلاثة دراهم لم يقطع به، وإن بلغ ربع دينار] ، (وعلى المذهب) أقله ربع دينار، فلو كان دونه وساوى ثلاثة دراهم لم يقطع، لعموم حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «لا قطع إلا في ربع دينار» ، ثم على هذا هل هو(6/327)
أصل في التقويم، وهو اختيار ابن عقيل في تذكرته، وأبي محمد في كافيه، لأنه أحد النقدين، فكان التقويم به كالأجزاء، وأن ما كان أصلا في القطع، كان أصلا في التقويم كالأجزاء، أو ليس بأصل في التقويم، وإنما الأصل الدراهم، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أكثر الأصحاب، القاضي والشيرازي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا؛ لأن التقويم في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حصل بها، وكذلك عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوم بها؟ على روايتين؛ فعلى الأولى متى بلغت قيمة المسروق أدنى النصابين قطع.
وعلى الثانية الاعتبار بالدراهم فقط؛ وسواء كان المسروق طعاما أو غيره، بعد أن يكون مالا، لما تقدم عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولما سيأتي إن شاء الله تعالى في حديث الثمر. وإنما يجب القطع إذا أخرج ذلك من حرز مثله.
3163 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثمر المعلق، فقال: «من أصاب منه بفيه من ذي حاجة، غير متخذ خبنة؛ فلا شيء عليه» . رواه الترمذي والنسائي، وأبو داود، وزاد: «ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن؛ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة» ، وللنسائي في رواية قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في كم تقطع اليد؟ قال: «لا تقطع في تمر معلق، فإذا ضمه(6/328)
الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريسة الجبل، فإذا ضمها المراح قطعت» » .
3164 - وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع في تمر معلق، ولا في حريسة جبل، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» رواه مالك في الموطأ، فنفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القطع في التمر المعلق، وفي حريسة الجبل، لعدم الحرز فيهما، وأوجب القطع فيما ضمه الجرين أو المراح، لوجود الحرز فيهما، والأحراز تختلف باختلاف الأموال، وبيان ذلك له محل آخر.
هذا بيان كلام الخرقي مجملا، أما بيانه مفصلا فقوله: وإذا سرق، يخرج منه المنتهب والمختلس، والغاصب والخائن، فلا قطع على واحد منهم.(6/329)
3165 - لما روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» رواه الخمسة وصححه الترمذي؛ ولأن الله ورسوله إنما أوجب القطع على السارق، وهؤلاء ليسوا بسارقين، ويخرج منه أيضا جاحد العارية، وهو إحدى الروايتين، واختيار ابن شاقلا، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد، لما تقدم من أن الشارع إنما أوجب القطع على السارق، وجاحد العارية ليس بسارق، ولدخوله في الخائن، وقد أسقط عنه الشارع القطع.
(والرواية الثانية) وهي أشهرهما، وبها قطع القاضي في جامعه، وأبو الخطاب والشريف في خلافيهما، وابن البنا وغيرهم: يقطع.
3166 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه، فكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أسامة ألا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل» ، ثم قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطيبا فقال:(6/330)
«إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» رواه مسلم وغيره.
وفي رواية قالت: «استعارت امرأة - تعني حليا - على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي، فباعته، فأخذت، فأتي بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بقطع يدها، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد، وقال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال» . . . رواه أبو داود والنسائي.
3167 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها فقطعت يدها» . . رواه أبو داود والنسائي وقال فيه: «كانت تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده، وفي رواية: كانت تستعير الحلي للناس وتمسكه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لتتب هذه إلى الله ورسوله، وترد ما تأخذ على القوم» ثم قال: «قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها» ، وهذه الألفاظ منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو صريح في أن القطع كان لجحد العارية، وتسميتها(6/331)
سارقة في الصحيح؛ دليل على أن جاحد العارية يسمى سارقا، والاعتبار بالتسمية الشرعية. اهـ.
ويخرج من كلامه أيضا الطرار، وهو الذي يبط الجيب أو غيره، ويأخذ منه، وهذا أيضا إحدى الروايتين.
(والثانية) : يقطع، وإليها ميل أبي محمد، وبني القاضي في روايتيه الخلاف على أن الجيب والكم هل هما حرز مطلقا، أو بشرط أن يقبض على كمه، ويزر جيبه، ونحو ذلك.
وقوله: ربع دينار من العين، أو ثلاثة دراهم من الورق؛ ظاهره أن يكون ذلك خالصا من الغش، أما إن كان فيه غش، فلا قطع حتى يبلغ ما فيه نصابا، وهل يكفي وزن التبر منهما، أو تعتبر قيمته بالمضروب؟ فيه وجهان، المذهب منهما الأول.
وقوله: أو قيمة ثلاثة دراهم، قد تقدم أن من مذهب الخرقي أن الذهب أصل في القطع، وليس بأصل في التقويم، ثم إن أبا محمد قال: إذا قومنا بذلك قومنا بالمضروب، لأن الإطلاق إنما ينصرف إليها دون المكسرة.
وقوله: طعاما كان أو غيره. قد تقدم أنه يشترط أن يكون مالا، ليخرج الحر، ولا نزاع في ذلك في غير النائم والمجنون، أما فيهما فروايتان، ويدخل في ذلك العبد، بشرط أن يكون صغيرا أو نائما، أو مجنونا، أو أعجميا لا يميز بين سيده وبين غيره.(6/332)
وقد استثني من ذلك ما لا يتمول عادة كالماء ونحوه، والمحرم كالصليب ونحوه، والتابع لغيره كإناء الخمر ونحوه، على خلاف في الجميع، واستقصاء ذلك له محل آخر.
وقوله: وأخرجه من الحرز، مفهومه أنه لو أتلفه في الحرز، أو أكله أنه لا قطع عليه، وهو كذلك، نعم لو ابتلع جوهرا ونحوه وخرج به ففي القطع ثلاثة أوجه، ثالثها: إن خرج قطع وإلا فلا.
وقوله: وأخرجه، سواء أخرجه بنفسه، أو كان الإخراج ينسب إليه، كأن تركه في ماء فخرج به، أو على دابة فخرجت به، أو دفعه لمجنون فأخرجه، ونحو ذلك، ومقتضى كلامه أن الإخراج يترتب الحكم عليه، ولو ملكه بعد ذلك بهبة أو غيرها وهو كذلك.
(تنبيه) : «الخبنة» ما تحمله في حضنك، وقيل: هو ما تأخذه في خبنة ثوبك، وهو ذيله وأسفله.
«والجرين» : موضع التمر الذي يجفف فيه، مثل البيدر للحنطة.
«والمجن» : الترس.
«وحريسة الجبل» : فعيلة بمعنى مفعولة، أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع، لأنه ليس بموضع حرز.
«والمراح» بضم الميم: الموضع الذي تأوي إليه الماشية ليلا.
«والخائن» : اسم فاعل من خان، وهو يشمل الخيانة في الوديعة وفي غيرها.
«والمنتهب» : اسم فاعل من انتهب الشيء استلبه ولم يختلسه.
«والمختلس» : اسم فاعل من اختلس الشيء اختطفه. قاله ابن فارس.
«والسرقة» : فسرها أبو محمد بأنها(6/333)
أخذ المال في وجه الخفية والاستتار، قال: ومنه استراق السمع، وقال: إن الاختلاس نوع من الخطف والنهب، وإنما المختلس يختفي في ابتداء اختلاسه، بخلاف السارق، والله أعلم.
[ما لا قطع فيه في السرقة]
قال: إلا أن يكون المسروق ثمرا أو كثرا فلا قطع فيه.
ش: الكثر جمار النخل، وهذا الاستثناء من قوله: طعاما كان أو غيره. أو من قوله: وأخرجه من الحرز، لأنه إذا كان في بستان محوط، وأخرجه منه، يتوهم أنه محرز، فلذلك استثناه، والأصل في عدم القطع بذلك حديث عمرو بن شعيب، المتقدم.
3168 - وعن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا قطع في ثمر ولا كثر» رواه الترمذي والنسائي، وأبو داود. وقد علم مما تقدم أنه لا فرق بين أن(6/334)
يكون ذلك في بستان محوط أو غيره، واستثنى من ذلك أبو محمد ما إذا كانت النخلة أو الشجرة في دار محرزة، فسرق منها نصابا، فإن عليه القطع.
(تنبيه) : ويغرم ذلك بمثليه للخبر، ثم إن بعض الأصحاب اقتصر على ذلك.
وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم عدوا ذلك إلى الماشية تسرق من المرعى، إذا لم تكن محرزة، واقتصروا على ذلك، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب في حريسة الجبل، وكذلك الحديث الذي في الموطأ، وأن أبا بكر عدى ذلك إلى كل ما سرق من غير حرز، أنه يغرم بمثليه.
وحكى أبو البركات ذلك نصا، قياسا على ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب.(6/335)
3169 - وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أراك تجيعهم، ثم قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لأغرمنك غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم؛ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أعطه ثمان مائة درهم. . . رواه مالك في الموطأ، واحتج به أحمد، فأوجب غرامة مثليها، لما أسقط القطع، ومقتضى هذا الحديث، وكذلك مقتضى حديث عمرو بن شعيب أن المسروق متى فات القطع فيه، إما لعدم حرزه، أو عدم بلوغه نصابا، أو لشبهة ونحو ذلك؛ أنه يغرم بمثليه، وهذا مقتضى احتجاج أحمد، وإذا يتلخص في المسألة أربعة أقوال، هل يختص غرامة المثلين بالثمر والكثر، أو بهما وبالماشية، أو بكل ما سرق من غير حرز، أو يتعدى ذلك لكل ما سقط فيه القطع، وهو أظهر، ثم هل يجب مع غرامة المثلين تعزير؟ أوجبه ابن عقيل في تذكرته، وأكثر الأصحاب لم يذكروا ذلك.(6/336)
[محل القطع وكيفيته في السرقة]
قال: وابتداء قطع يد السارق أن تقطع يده اليمنى.
3170 - ش: لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
3171 - وفي الموطأ عن القاسم بن محمد أن رجلا من اليمن أقطع اليد والرجل قدم المدينة، فنزل على أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فشكى إليه أن عامل اليمن ظلمه وقطع يده، وكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنه بيت حليا لأسماء بنت عميس، فافتقدوه، فجعل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل دويرة الرجل الصالح، ثم وجدوا الحلي عند صائغ، فزعم أن الأقطع جاء به، فاعترف الأقطع أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقطعت شماله، فقال أبو بكر: والله إن دعاءه على نفسه أشد عندي من سرقته، وهذا يدل على أن عادتهم كان البداءة باليمين.
3172 - وفي قراءة ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) وهذا إن ثبت فهو(6/337)
حجة عندنا على المشهور، ولأنها آلة السرقة غالبا، فناسب عقوبته بإزالتها، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك اتفاقا، والله أعلم.
قال: من مفصل الكف.
ش: حكى ذلك أبو محمد أيضا اتفاقا، ولأنه اليقين، وما زاد عليه مشكوك فيه.
3173 - وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطعه من المفصل» ، أي السارق.
قال: وتحسم.
ش: الحسم غمس اليد في زيت مغلى بعد القطع، لتشتد أفواه العروق، لئلا ينزف الدم فيموت.
3174 - والأصل فيه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق قد سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله إن(6/338)
هذا قد سرق. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما إخاله سرق» فقال السارق: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه، ثم ائتوني به» فقطع فأتي به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «تب إلى الله» فقال: تبت إلى الله، فقال: «تاب الله عليك» رواه الدارقطني، ورواه عبد الرزاق من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا، وهل الزيت من بيت المال، أو من مال السارق؟ فيه وجهان، المجزوم به منهما عند أبي محمد أنه من بيت المال، وابن حمدان بنى على أنه احتياط له، أو من تتمة الحد.
[حكم السارق إذا عاد للسرقة بعد القطع]
قال: فإذا عاد قطعت رجله اليسرى.
ش: أما قطع رجله فلما يأتي في المسألة الآتية، مع الأمن من المحذور الذي في قطع الثالثة.
3175 - مع أن ذلك قول العامة، منهم أبو بكر وعمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وناهيك بهم.(6/339)
3176 - وما روى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع على السارق بعد قطع يمينه» فمنقطع، مع أنه والله أعلم مخالف للإجماع، وأما كونها اليسرى فلأنه أرفق به، لتمكنه من المشي على خشبة ونحو ذلك، بخلاف ما لو قطعت اليمنى، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في المحاربين، فقال: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] والله أعلم.(6/340)
قال: من مفصل الكعب.
ش: كما في اليد.
قال: وحسمت.
ش: لما تقدم في اليد، والله أعلم.
قال: فإن عاد حبس ولا تقطع غير يد ورجل.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي وأبي بكر، وأبي الخطاب في خلافه، وابن عقيل والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لعموم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] إلى قوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] وهذا محارب لله ورسوله، فشملته الآية، وقد أشار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى ذلك.
3177 - فروى سعيد: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: أتي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برجل أقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن تقطع رجله. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلى آخر الآية، وقد قطعت يد هذا ورجله، فلا ينبغي أن تقطع رجله، فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها، إنما تعزره، أو تودعه السجن، فاستودعه السجن، ولأن ذلك بمنزلة إهلاكه، فإنه لا يمكنه أن يتوضأ، ولا يغتسل، ولا يتحرز من نجاسته،(6/341)
ولا يزيلها عنه، ولا يدفع عن نفسه، ولا يأكل ولا يبطش، وبذلك علل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3178 - فروى سعيد: حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، قال: حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذا وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام، بأي شيء يتوضأ للصلاة؟ بأي شيء يغتسل من جنابته؟ بأي شيء يقوم على حاجته؟ فرده إلى السجن أياما ثم أخرجه، فاستشار الصحابة فقالوا مثل قولهم الأول، وقال لهم مثل ما قال أول مرة، فجلده جلدا شديدا ثم أرسله.
(والرواية الثانية) : تقطع يده اليسرى في الثالثة، والرجل اليمنى في الرابعة.
3179 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جيء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسارق فقال: «اقتلوه» قالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: «اقطعوه» فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع ثم جيء به في الثالثة فقال: «اقتلوه» قالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع ثم أتي به الرابعة فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع فأتي به الخامسة فقال: «اقتلوه» قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه(6/342)
بالحجارة.» رواه أبو داود وهذا لفظه والنسائي. وروى النسائي نحو ذلك أيضا من رواية الحارث بن حاطب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك، كما تقدم عنه.
3180 - وكذلك روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكاه عنه أحمد، واحتج به، وهما اللذان أمرنا بالاقتداء بهما، وقد أجاب أبو محمد عن الحديث بأنه في شخص استحق القتل، بدليل الأمر بقتله في أول مرة، وقد يقال على هذا بأنه إذا كان مستحق القتل، فكيف جاز تأخيره، مع أنه إذا اجتمع مع القتل غيره سقط، واستوفي القتل، فكيف قطع، والذي يظهر في الجواب عن الأمر بالقتل أن هذا مما علم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقيقة الأمر فيه، وأن أمر هذا يؤول إلى القتل ولا بد، وأنه لا يجيء منه خير، فهو كالصبي الذي قتله الخضر، الذي طبع كافرا.
3181 - وفي النسائي ما يشعر بهذا، فروى عن الحارث بن حاطب «أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق،(6/343)
قال: «اقطعوا يده» قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضا الخامسة، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم بهذا، حين قال اقتلوه، ثم دفعه إلى فتية من قريش، منهم عبد الله بن الزبير، وكان يحب الإمارة. فقال: أمروني عليكم، فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه» . اهـ.
والذي يظهر الرواية الثانية إن ثبتت الأحاديث، فإن النسائي ضعف حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا، فعلى المذهب فيمنع من تعطيل منفعة الجنس، وهما اليدان والرجلان، وهل يمنع من تعطيل عضوين من شق؟ على وجهين.
(وعلى الثانية) لا أثر لذلك، فعلى هذا من سرق وهو أقطع اليد اليسرى، والرجل اليمنى، قطعت يده اليمنى على الثانية دون الأولى، لإفضائه إلى تعطيل منفعة الجنس، وإن كان أقطع اليد اليسرى فقط، قطعت يمينه على(6/344)
الثانية دون الأولى. لكن في قطع رجله اليسرى وجهان، بناء على تعطيل منفعة الشق، واستقصاء التفريع له محل آخر.
(تنبيه) : أطلق الخرقي الحبس، وتبعه الشيخ، وقال القاضي في الجامع، والشيرازي وابن البنا: يحبس حتى يحدث توبة، وقال ابن حمدان: يحبس ويعزر حتى يتوب، والله أعلم.
قال: والحر والحرة والعبد والأمة في ذلك سواء.
ش: الاتفاق في الحر والحرة بشهادة النص بذلك. قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية، ولفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه قطع سارق رداء صفوان، وقطع المخزومية، أما العبد والأمة فهو قول العامة، لعموم النص، ولما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرقيق الذين سرقوا الناقة.
3182 - وروى القاسم عن أبيه أن عبدا أقر بالسرقة عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقطعه. رواه أحمد.
3183 - وعن نافع أن عبدا لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سرق وهو آبق، فبعث به إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده، فقال سعيد: لا تقطع يد الآبق، فقال له ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: في أي كتاب الله وجدت هذا؟ فأمر به(6/345)
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقطعت يده.
3184 - وكذلك قضى به عمر بن عبد العزيز أيضا، رواه مالك في الموطأ.
3185 - وقطعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يد عبد. . رواه مالك أيضا في الموطأ. وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر، فكانت حجة.
ويدخل في الحر المسلم والكافر، فيقطع الذمي بسرقة مال المسلم، وكذلك يقطع المسلم بالسرقة من مال الذمي. أما الحربي الذي لا أمان له فلا يقطع المسلم بالسرقة من ماله، ولا هو بسرقة مال المسلم، فإن كان له أمان قطع المسلم بسرقة ماله. وهل يقطع هو بسرقة مال المسلم؟ فيه وجهان: أصحهما:(6/346)
يقطع.
والثاني وهو اختيار ابن حامد: لا يقطع، ويدخل في العبد العبد الآبق، وذلك لعموم ما تقدم، ويؤيده قصة ابن عمر.
3186 - أما ما رواه الدارقطني عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع، ولا على الذمي» فقال: الصواب أنه موقوف، والله أعلم.
قال: ويقطع السارق وإن وهبت له السرقة بعد إخراجها.
3187 - ش: لما روي عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد؛ فقد وجب» رواه النسائي وأبو داود.
3188 - «وعن صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي، ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتي به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به ليقطع، فأتيته فقلت: تقطعه من أجل ثلاثين درهما، أنا أبيعه وأنسيه ثمنها. قال: «فهلا كان قبل أن تأتيني به» ، زاد في(6/347)
أخرى: إني قد وهبتها له» . . رواه النسائي.
وهذا يدل على أن ملك العين المسروقة بعد الرفع إلى الحاكم لا يؤثر، بخلاف ما قبله. وكذلك قيد أبو محمد المسألة، بل وزاد: والمطالبة بها؛ وإن كان كلام الخرقي مطلقا.
وقوله: بعد إخراجها يحترز عما لو وهبت له السرقة قبل إخراجها، فإنه لا قطع قطعا، والله أعلم.
قال: ولو أخرجها وقيمتها ثلاثة دراهم، فلم يقطع حتى نقصت قيمتها قطع.
ش: اعتبارا بحال الإخراج، لأنه به كمل السبب، ولعموم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والله أعلم.(6/348)
قال: وإذا قطع فإن كانت السرقة قائمة ردت إلى مالكها.
ش: هذا اتفاق ولله الحمد، لأنها عين ماله، ولا مقتضي لنقله عنه، والله أعلم.
[تلف الشيء المسروق]
قال: وإن كانت متلفة فعليه قيمتها، موسرا كان أو معسرا.
ش: أما إن كانت تالفة وقد قطع، فعليه مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت متقومة، كما لو أتلفها من غير سرقة، ولأن القطع والغرم حقان لمستحقين، فجاز اجتماعهما، كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر المسألة فيما إذا قطع، لأن النعمان يقول: إذا كانت تالفة إذا فلا غرم عليه، وقال: موسرا كان أو معسرا، لأن مالكا يوافق النعمان في المعسر، ونحن في الموسر، والله أعلم.
[قطع النباش]
قال: وإذا أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع.
3189 - ش: يروى هذا عن عائشة وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،(6/349)
ولأنه أخذ للمال على وجه الخفية، فدخل في مسمى السارق، وإذا يدخل في الآية الكريمة، والأحراز تختلف باختلاف الأموال، ألا ترى أن حرز الباب تركيبه في موضعه.
3189 - م - وقد روى أبو داود «عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: لبيك، فقال: كيف أنت إذا أصاب الناس موت، يكون البيت فيه بالوصيف، يعني «القبر» ، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «عليك بالصبر» » ، قال حماد: فبهذا قال من قال بقطع يد النباش، لأنه دخل على الميت بيته، والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا، فلو سرق لفافة رابعة من على الرجل، أو التابوت الذي هو فيه، ونحو ذلك لم يقطع، لعدم مشروعيته.
وقوله: أخرج من القبر، فلو أخرجه من اللحد فلا قطع، والله أعلم.
[القطع في سرقة المحرم كالخمر الخنزير والميتة وآلات اللهو]
قال: ولا يقطع في محرم.(6/350)
ش: كالخمر والخنزير والميتة ونحو ذلك، لأن له سلطانا على ذلك، لإباحة الشرع إزالته، ولأنه غير مال، أشبه الحشرات، وبذلك علل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الميموني، فيمن سرق لذمي خمرا أو خنزيرا: لا يقطع، ليس لهما قيمة عندنا. اهـ.
وقد يتخرج لنا قول أن الذمي يقطع بسرقة خمر الذمي، بناء على أنها مال لهم، ولهذا قلنا بتضمينها على الذمي للذمي على تخريج، وقد يقال بعدم التخريج، لقيام الشبهة، وهو وقوع الخلاف في ذلك، وقد يدخل في كلام الخرقي إذا سرق صليبا، أو صنم ذهب ونحو ذلك، وهو قول القاضي، وخالفه تلميذه أبو الخطاب، فأوجب القطع. والله أعلم.
قال: ولا في آلة لهو.
ش: كالطنبور، والمزمار، والشبابة ونحو ذلك، وإن بلغت قيمته مفصلا نصابا، لأنه آلة للمعصية بالإجماع؛ فأشبه الخمر، ولأن الشارع سلطه عليه، حيث جعل له إفساده وزواله.(6/351)
3190 - ودليل الأصل «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكسر دنان الخمر، وشق زقاقه» ، مع أنه يمكن زوال المحرم وتبديده، وقد حرق موسى العجل، وقذفه في البحر، ولم يكتف بحرقه ودفع الحلي إلى أربابه، والله أعلم.
[القطع في سرقة الأب والأم من ولدهما]
قال: ولا يقطع الوالد فيما أخذه من مال ولده، لأنه أخذ ما له أخذه.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم، وذكر دليله، وهو أنه أخذ ما له أخذه، ومن أخذ ما له أخذه لا يقطع، لأنه أخذ مباحا له.
3191 - ودليل ذلك ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» رواه الخمسة.(6/352)
3192 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي مالا وولدا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: «مالك لأبيك» » رواه ابن ماجه، وروى أحمد نحوه من حديث عمرو بن شعيب، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تعليله قصور، لأنه لو أخذ ما ليس له أخذه، كما إذا كان الأخذ يضر بالولد لم يقطع، ثم إن جواز الأخذ مختص بالأب الأدنى، وعدم القطع يتناول الأب وإن علا، فإذا توجيه ذلك أن له فيه شبهة، وهو وجوب نفقته أو نحو ذلك، والله أعلم.
قال: ولا تقطع الوالدة فيما أخذت من مال ولدها.
ش: لما تقدم في الأب الأعلى، ولأنها أحد الأبوين فأشبهت الآخر، وكذلك أمها وإن علت، واقتصار الخرقي على الوالد والوالدة يخرج به غيرهما، ولا نزاع أن هذا المذهب في غير الابن، لظاهر الكتاب، فإن قيل: فالنفقة تجب لغير هؤلاء، فيصير له في المال شبهة، وإذا لا قطع، قيل: النفقة وإن وجبت لبعضهم لكن وجوبها لمن تقدم أقوى، ثم إن القرابة التي بينهما لا تمنع قبول الشهادة، فلا تمنع القطع، بخلاف الوالدين.
وجرى الشيرازي على مطلق الشبهة، فلم ير القطع على ذي الرحم المحرم، أما الابن فالمذهب المجزوم به عند القاضي والشيخين والشيرازي، وابن عقيل والشريف، وأبي الخطاب(6/353)
وابن البنا أنه لا يقطع بسرقة مال أبيه وإن سفل، لأن بينهما قرابة تمنع من قبول شهادة أحدهما لصاحبه، فلم يقطع بماله كالأب، ولأن النفقة تجب على الأب حفظا للابن، فلا يناسب إتلافه حفظا لماله، وكلام الخرقي يوهم القطع، وهو رواية حكاها ابن حمدان، وهو مقتضى ظواهر النصوص، والله أعلم.
[حكم سرقة العبد من مال سيده]
قال: ولا العبد فيما سرق من مال سيده.
3193 - ش: لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء رجل إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بغلام له، فقال: اقطع يده، فإنه سرق مرآة لامرأتي. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قطع عليه، هو خادمكم أخذ متاعكم. . رواه مالك في الموطأ.
وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، ولا يعرف لهما(6/354)
مخالف، ولأن له فيه شبهة، وهو وجوب النفقة، والمدبر، وأم الولد، والمكاتب كالقن.
[ما يثبت به حد السرقة]
قال: ولا يقطع السارق إلا بشهادة عدلين أو إقرار مرتين.
ش: أما كونه لا يقطع إلا بشهادة عدلين فلعموم قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، أما قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فنزلت في سياق الأموال، فاقتصر على ذلك، وغير المال من النكاح والحدود ونحوهما ليس في معناه، لأن ذلك يحتاط له ما لا يحتاط للمال، ومن الاحتياط له عدم قبول المرأة، لضعف عقلها، وسرعة نسيانها، وأما قطعه بشهادتهما فللآية الكريمة أيضا، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع يد السارق تجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان، ووصفا ما يوجب القطع، ويشترط في الشاهدين أن يكونا رجلين لما تقدم، مسلمين وإن كان السارق ذميا، حرين على المذهب، عدلين وإن قبلنا مستور الحال في الأموال، احتياطا للأموال، ويشترط مع ذلك أن يصفا السرقة والحرز، وجنس النصاب وقدره، والمسروق منه، ليزول الاختلاف في ذلك.
وأما كونه يقطع بإقرار مرتين، ولا يقطع بما دونهما.
3194 - فلما روى أبو أمية المخزومي، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص فاعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول(6/355)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما إخالك سرقت» ؟ قال: بلى، مرتين أو ثلاثا، قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقطعوه» » مختصر. . رواه أحمد وأبو داود، ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره.
3195 - وعن القاسم بن عبد الرحمن، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين. حكاه أحمد في رواية مهنا، واحتج به؛ ولأنه حد يتضمن إتلافا، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا، قال أبو محمد: ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة من النصاب، والحرز، وإخراجه منه.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين الحر والعبد، وهو المذهب بلا ريب، كبقية الحدود.
وروى مهنا عن أحمد: إذا أقر العبد أربع مرات أنه سرق قطع، وظاهر هذا اعتبار أربع مرات، ليكون على النصف من الحر.
قال: ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع.
ش: لأنه حد لله ثبت بالاعتراف، فقبل رجوعه عنه كحد(6/356)
الزنا، وهذا بخلاف ما لو ثبتت سرقته بالبينة، فإن رجوعه لا يقبل كالزنا سواء، هذا إن شهدت البينة على الفعل، أما إن شهدت على إقراره بالسرقة ثم جحد، فقامت البينة بذلك، فهل يقطع نظرا للبينة، أو لا يقطع نظرا للإقرار؟ على روايتين حكاهما الشيرازي.
(واعلم) أن هذا الذي ذكره الخرقي من أن القطع لا يثبت إلا بإقرار مرتين، وأنه إذا رجع عن الإقرار قبل منه؛ مختص بالقطع، أما المال فيكفي في ثبوته مرة، وإذا رجع عنه لم يقبل رجوعه، والله أعلم.
[اشتراك الجماعة في السرقة]
قال: وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص، والمعنى في ذلك أن الشارع له نظر إلى حفظ الأموال كالأنفس، فكما أن في الأنفس تقتل الجماعة بالواحد سدا للذريعة، فكذلك في الأموال، واختار أبو محمد في مغنيه عدم القطع إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، لأن كل واحد لم يسرق نصابا، فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد.
3196 - ويرجح ذلك ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا» رواه ابن ماجه.(6/357)
3197 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» رواه الترمذي، وقال: وروي موقوفا وهو أصح. اهـ.
3198 - وروي نحو ذلك عن غير واحد من الصحابة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون المسروق ثقيلا، يشترك الجماعة في حمله، وبين أن يخرج كل واحد منه جزءا، ونص عليه أحمد والأصحاب، لاشتراكهم في الهتك والإخراج، ولهذا أيضا قلنا: لا فرق إذا هتكا الحرز بين(6/358)
أن يدخلا معا، أو يدخل أحدهما فيخرج بعض النصاب، ثم يدخل الآخر فيخرج باقيه، والله أعلم.
قال: ولا يقطع وإن اعترف بالسرقة أو قامت بينة، حتى يأتي مالك المسروق فيدعيه.
ش: هذا المذهب المختار للخرقي، والقاضي وأصحابه، لأن المال مما يباح بالبذل، فيحتمل أن مالكه أباحه له، أو وقفه على طائفة السارق منهم، أو أذن له في دخول حرزه ونحو ذلك، فاعتبرت المطالبة لتزول الشبهة، ويرشح هذا ما تقدم في المسألة قبل، وقال أبو بكر في الخلاف: لا تشترط المطالبة، وهو قوي، عملا بإطلاق الآية الكريمة، وعامة الأحاديث، فإنه ليس في شيء منها اشتراط المطالبة ولا ذكرها، ولو اشترطت لبين ذلك وذكرها، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والإخلال بما الحكم متوقف عليه، وإنه لا يجوز.
(تنبيه) : وهل يفتقر إلى المطالبة في القطع بالكفن كسائر المسروقات، ويكون المطالب ورثة الميت، أو لا يفتقر، لأن(6/359)
الطلب شرع لاحتمال كون المسروق مملوكا للسارق. وقد يئس من ذلك هنا؟ فيه احتمالان، أظهرهما الثاني. والله أعلم.(6/360)
[كتاب قطاع الطرق]
ش: والأصل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] إلى قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] . وقد اختلف أهل العلم في سبب نزول هذه الآية.
3199 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن ناسا أغاروا على إبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمنا، فبعث في آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم» ، قال: فنزلت فيهم آية المحاربة وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين سأله الحجاج.
3200 - وعن أبي الزناد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله في ذلك، فأنزل الله(6/361)
تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] » الآية، رواهما أبو داود والنسائي.
3201 - وفي حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية لأبي داود، «في قصة العرنيين قال: فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طلبهم، فأتي بهم، قال: فأنزل الله في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية» . وأصل الحديث متفق عليه. . فهؤلاء أخبروا أن الآية نزلت في العرنيين، وكانوا مرتدين.
3202 - وكذلك حكي عن سعيد بن جبير.
3203 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدروا(6/362)
عليهم لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. رواه أبو داود والنسائي، وهو قريب من قول الأولين، وقال أبو محمد: إن الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين.
3204 - وكأن مدرك أبي محمد في حكاية ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما روى الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسنده عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال؛ قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال؛ قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا؛ قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا؛ نفوا من الأرض.
وقد يجمع بين القولين، بأن الآية نزلت في المرتدين، كما أخبر ابن عمر وأنس وغيرهما - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأى أن نزول الآية على سبب لا يقتضي الاختصاص به، بل يتبع لفظها، ولفظها دل على أن كل محارب لله ورسوله هذا حكمه، وقطاع الطريق من المسلمين محاربون لله ولرسوله، لمخالفتهم أمره وارتكابهم نهيه.(6/363)
(تنبيه) : «اللقاح» : جمع لقحة، وهي ذوات اللبن من الإبل، وقيل: ذوات المخاض.
«وسملت عينه» : إذا فقئت بحديدة محماة، والله أعلم.
[المقصود بالمحاربين]
قال: والمحاربون: هم الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة.
ش: لا نزاع أن هؤلاء محاربون، تثبت لهم أحكام المحاربة التي تذكر بعد، واختلف فيمن يفعل ذلك في المصر، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يكون محاربا، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، لأن الغوث يلحقه غالبا، فتزول شوكة المعتدي، ويكون في حكم المختلس، والمختلس ليس بمحارب. وقال أبو بكر: يكون محاربا، وتبعه على ذلك القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم، قال أبو محمد: إنه قول كثير من أصحابنا، وقال أبو العباس: إنه قول الأكثرين، تمسكا بعموم الآية الكريمة.
ونظرا إلى أن ذلك في المصر أعظم خوفا، وأكثر ضررا، فكان بذلك أولى. وتوسط القاضي أظنه في المجرد أو في الشرح الصغير فقال: إن كانوا في المصر مثل أن كبسوا دارا، وكان أهل الدار بحيث لو صرخوا أدركهم الغوث فليسوا بمحاربين، وللحوق الغوث عادة، وإن حصروا قرية أو بلدا ففتحوه، وغلبوا على أهله، أو محلة مفردة، بحيث(6/364)
لا يلحقهم الغوث فهم محاربون، لعدم لحوق الغوث لهم، وهو يرجع إلى الأول، غايته أنه نقح كلام الخرقي، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - توقف عن الجواب في المسألة.
وقول الخرقي: يعرضون للقوم السلاح، مفهومه أنهم لو عرضوا بغير سلاح لم يكونوا محاربين، وهو كذلك.
ويدخل في السلاح كل ما أتى على النفس أو الطرف، وإن لم يكن محددا، كالحجر والعصا، وقوله: فيغصبونهم المال مجاهرة؛ مفهومه أنهم لو أخذوا المال خفية، أو على وجه الخطف فليسوا بمحاربين، وهو كذلك. وأنه لو خرج الواحد والاثنان على آخر الركب فأخذوا منه شيئا فليسوا بمحاربين، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم محاربون، والله أعلم.
[عقوبة المحاربين]
قال: فمن قتل منهم وأخذ المال؛ قتل، وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال؛ قتل ولم يصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل؛ قطعت يده اليمنى، ورجله اليسرى في مقام واحد، ثم حسمتا وخلي.
ش: مذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قاطع الطريق إذا قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن قتل ولم يأخذ المال؛ قتل فقط، وإن أخذ المال ولم يقتل؛ قطعت يده اليمنى، ورجله(6/365)
اليسرى، وإن لم يأخذ المال ولم يقتل؛ نفي، لما تقدم عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
3205 - وذكر الزجاج أنه روي في التفسير أن أبا بردة الأسلمي كان عاهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يعرض لمن يريد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن لا يمنع من ذلك، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يمنع من يريد أبا بردة، فمر قوم يريدون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبي بردة، فعرض أصحابه لهم فقتلوهم وأخذوا المال، فأنزل الله على نبيه، وأتاه جبريل وأعلمه أن الله عز وجل يأمره أن من أدركه منهم قد قتل وأخذ المال؛ قتله وصلبه، ومن قتل ولم يأخذ المال؛ قتله، ومن أخذ المال ولم يقتل؛ قطع يده لأخذ المال، ورجله لإخافته السبيل. اهـ.
وفي ثبوت هذا نظر، فإنه قد ثبت عن ابن عمر وغيره - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن الآية نزلت في غير هذا، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي أن قضية أبي بردة رواها أبو داود، فقد قال هو في المغني قيل رواها أبو داود.(6/366)
قلت: والقطع أنها ليست في سنن أبي داود، وإلا لذكرها ابن الأثير في جامع الأصول وغيره.
والمعتمد في ذلك على قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو إن خالف ظاهر الآية الكريمة لكن يرجحه أن قوله موافق للقاعدة الشرعية، من أن العقوبات على قدر الإجرام. ولهذا اختلف حد الزاني والسارق والقاذف وغيرهم، بخلاف ظاهر الآية الكريمة. . فإن ظاهرها أن من حارب حصل فيه هذا التخيير من القتل أو القطع، وإن لم يقتل ولا أخذ المال. وأيضا عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير الحق» . وهذا قد يعترض عليه بأنه عموم، والآية تخصه. وكون العقوبة تختلف باختلاف الجرم مسلم، ولكن الشارع رأى أن هذه المفسدة العظيمة جزاؤها هذا الجزاء، سدا للذريعة، وحسما للمادة، ثم إن صاحب الشرع لم يذكر القتل أو القطع فقط في مقابلة مجرد المحاربة، وإنما خير بين عقوبات، والأمر في ذلك موكول إلى الأئمة والحكام الذين عليهم إقامة الحدود، وتخييرهم تخيير مصلحة، لا تخيير استشفاء، فهم لا يفعلون إلا ما يرون أنه أصلح، فإذا رأوا توزيع العقوبات(6/367)
على قدر الإجرام وجب ذلك عليهم، وإن رأوا أن هذا المحارب وإن لم يقتل لا يندفع شره إلا بالقتل، ككبير محاربين يجمعهم قوله، ويفرقهم عدمه، ونحو ذلك وجب قتله، وما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فيسأل أولا عن صحة سنده، فإن صح فهو معارض بنص القرآن. اهـ.
(وعن أحمد) رواية أخرى: أن من قتل وأخذ المال؛ يقتل لقتله، ويقطع لأخذه المال، لأن كلا منهما لو انفرد لأوجب ذلك، فإذا اجتمعا وجبا معا كالزنا والسرقة.
(وعنه) أيضا فيمن قتل ولم يأخذ المال: أنه يصلب مع القتل، والمذهب الأول.
وقول الخرقي: قتل وإن عفى صاحب المال: يعني أنه يقتل حتما، ولا يدخله العفو، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وذلك لأنه أجري مجرى الحدود، فلم يدخله العفو كبقيتها، ولهذا قلنا على إحدى الروايتين: لا يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول، بل يؤخذ الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، والأب بالابن، واعتبرناه على أخرى، نظرا إلى أن الحد فيه انحتامه، بدليل أنه لو تاب قبل القدرة سقط الانحتام، وبقي القصاص. ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر» .(6/368)
فعلى هذه إذا فاتت المكافأة قطعت يده ورجله إن كان قد أخذ المال، وإلا نفي، وأغرم دية الذمي أو قيمة العبد، وهذا اختيار أبي الخطاب، والشريف والشيرازي وغيرهم، وهو أمشى على قاعدة المذهب.
وقوله: وصلب حتى يشتهر، هذا أحد الوجهين، واختيار أبي محمد، وأبي الخطاب، وشيخه في الجامع.
وقال: إنه ظاهر كلام أحمد، لأن المقصود من الردع للغير والزجر إنما يحصل بذلك.
(والثاني) وقاله أبو بكر: يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب، اعتمادا منه على أن أحمد لم يوقت الصلب. ونظرا إلى إطلاق الآية الكريمة، وظاهر كلام الخرقي أن صلبه بعد قتله، وهو كذلك، إذ هو تتمة للحد، وكمال له، ولهذا قلنا: إذا مات قبل أن يقتله، أو قتل لغير المحاربة لم يصلب على أشهر الوجهين، إذ الحد قد فات بموته، كبقية المحدودين، وإنما قطعت يمنى يدي من أخذ المال لما تقدم في السارق، وإنما قطعت يسرى رجليه لتتحقق المخالفة المأمور بها، وإنما حسمتا لما تقدم في السارق.
(تنبيه) : إذا كان القتل شبه عمد فقال أبو محمد: ظاهر كلام الخرقي أنه يقتل بذلك.
(قلت) : وفي هذا نظر، فإنه متى اعتبر إطلاق الخرقي دخل فيه قتل الخطأ، وقد جعله أصحاب الخلاف محل وفاق، قاسوا عليه إذا فاتت المكافأة، والله أعلم.(6/369)
قال: ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله.
ش: لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع إلا في ربع دينار» . وقد يتخرج لنا عدم اشتراط ذلك، من رواية عدم اعتبار المكافأة، ومن ثم قلت: إن الأمشى على المذهب اعتبارها.
(تنبيه) : ويشترط الحرز، وانتفاء الشبهة في المال المسروق، والله أعلم.
قال: ونفيهم أن يشردوا، فلا يتركون يأوون في بلد.
ش: يعني من لم يقتل من المحاربين، ولم يأخذ المال، فإنه ينفى كما تقدم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ثم إن النفي الكلي هو التشريد.
وهذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي وغيره، لظاهر الآية.
(وعن أحمد) : نفيهم: تعزيرهم بما يردعهم من تشريد وغيره.
(وعنه) : نفيهم: حبسهم.
وعلى الأول إذا شردوا لم يتركوا يأوون في بلد، لظاهر {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] فظاهره نفيهم عن جميعها، ولا يتأتى إلا بما قلناه.
(تنبيه) : قال أبو محمد: ولم يذكر أصحابنا قدر مدرة نفيهم، فيحتمل أن يتقدر ذلك بما تظهر فيه توبتهم، ويحتمل أن(6/370)
يقدر بعام، كنفي الزاني، والله أعلم.
[توبة المحارب قبل القدرة عليه]
قال: فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم حدود الله عز وجل، وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها.
ش: إذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم سقطت عنهم حدود الله تعالى، كالصلب والقطع، والنفي وانحتام القتل، أما بعد القدرة فلا يسقط عنهم شيء للآية الكريمة: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] الآية. أوجب سبحانه الحدود، واستثنى من تاب قبل القدرة، فمن عداه يبقى على العموم، والمعنى في ذلك أن من تاب قبل القدرة؛ الظاهر أن توبته توبة إخلاص، بخلاف من تاب بعدها، فالظاهر أنه إنما فعل ذلك تقية، أما حقوق الآدميين فلا تسقط إلا بأدائها، أو إسقاط أربابها كالضمان، ووقع في المبهج في أول باب قطاع الطريق أن توبتهم قبل القدرة لا تسقط عنهم الحدود في رواية كما بعدها، وجزم في آخر الباب بالقبول كما يقوله الجماعة، وهو الصواب، والله سبحانه أعلم.(6/371)
[كتاب الأشربة وغيرها] [حد الشرب]
قال: ومن شرب مسكرا قل أو كثر جلد ثمانين جلدة، إذا شربها مختارا لشربها، وهو يعلم أن كثيرها يسكر.
ش: تحريم الخمر إجماع أو كالإجماع، وقد شهد لذلك من الكتاب قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] .
3206 - قال بعض المفسرين: نزل في الخمر أربع آيات، نزلت بمكة: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم، ثم «إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن ناسا منهم فشربوا وسكروا، فأم بعضهم فقرأ: (قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون)(6/372)
فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه موضحة، فشكى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انتهينا يا رب» .
3207 - وفي السنن قريب من ذلك، فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] الآية، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في المائدة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: انتهينا انتهينا. رواه أبو داود والترمذي والنسائي.(6/373)
قال بعض العلماء: والتحريم في الآية من نحو عشرة أوجه، تسميتها رجسا وهو المستقذر، وجعلها من عمل الشيطان، والأمر باجتنابها، وجعل الفلاح مرتبا على اجتنابها، فمن لم يجتنبها لا يفلح، وجعلها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، ثم طلب الانتهاء عنها بقوله سبحانه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: جدير وحقيق أن ينتهي عن شيء جمع هذه الأوصاف.
وورد في تحريمها من السنة ما يبلغ مجموعه التواتر.
3208 - فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل شراب أسكر فهو حرام» .
3209 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» رواهما الجماعة.(6/374)
وفي رواية لمسلم: «ومن شرب الخمر في الدنيا، ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة» .
3210 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» . قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: «صديد أهل النار» .
3211 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» رواهما أبو داود.
والأخبار في ذلك كثيرة جدا، وسيمر بك إن شاء الله تعالى طرف منها وبالغ الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في تحريمها والمباعدة منها.(6/375)
3212 - فعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اجتنبوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، فلقيته امرأة أغوته، فأرسلت إليه جاريتها فقالت: إنها تدعوك لشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام. قال: فأسقيني من هذا الخمر كأسا، فسقته كأسا، فقال: زيدوني. فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر. . إلا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه. . رواه النسائي.(6/376)
3213 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو بني مكانها منارة لم أؤذن عليها، ولو نبت مكانها كلأ لم أرعه.
3214 - وما روي عن بعض الصحابة كقدامة بن مظعون، وعمرو بن معدي كرب، وأبي جندل بن سهيل، أنهم قالوا: إنها حلال تمسكا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، فتأويل منهم أخطئوا فيه، فبين لهم علماء الصحابة معنى الآية، وحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لشربها، فقيل إنهم رجعوا عن قولهم.
3215 - وقد قال البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذه الآية قال: مات رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن تحرم الخمر، فلما حرمت قال رجال: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] .(6/377)
3216 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالوا: يا رسول الله أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريم الخمر؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، رواهما الترمذي.
3217 - وفي الصحيحين من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة تحريم الخمر قال: فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] .
إذا تقرر هذا، فالاتفاق أيضا على حد شاربها في الجملة، واختلف في مقداره، وعن إمامنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذلك روايتان: (إحداهما) : أن مقداره ثمانون. اختارها الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم.
3218 - لما روى ثور بن زيد الديلي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار في حد الخمر، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرى أنه يجلد ثمانين جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى؛ فجلد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حد الخمر ثمانين. . رواه مالك في الموطأ والدارقطني.(6/378)
3219 - وفي الصحيح أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الناس، فقال عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخف الحدود ثمانون. فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وهذا كالإجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على الجلد ثمانين.
الرواية الثانية، وهي اختيار أبي بكر: قدره أربعون.
3220 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريد نحو أربعين. قال: وفعله أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما كان(6/379)
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الناس، فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . متفق عليه.
3221 - وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن حضين بن المنذر، قال: شهدت عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي بالوليد قد صلى الصبح، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان؛ أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأها. فقال عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولّ حارها من تولى قارها؛ فكأنه وجد عليه. فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده؛ فجلده، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعد حتى بلغ أربعين. فقال: أمسك ثم قال: «جلد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» ، وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. ورواه أبو داود أيضا مختصرا قال: فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخمر» وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين، وكملها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانين، وكل سنة. وفعل كل أحد بل وقوله المخالف لفعل رسول الله -(6/380)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملغى، واعلم أن عامة الأصحاب يحكون الروايتين كما تقدم، وأبو العباس يحكي الرواية الثانية أن الواجب أربعون، وأن الزيادة على الأربعين يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر. أو كان الشارب لا يرتدع بدونها، قال: وهذا أوجه القولين. قلت: ولا ريب أن هذا القول هو الذي يقوم عليه الدليل؛ إذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب نحوا من أربعين، ولم يوقت فيه مقدارا معينا.
3222 - قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت فأجد في نفسي شيئا، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسنه، متفق عليه.
وفي رواية أبي داود: فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسن فيه شيئا، إنما هو شيء قلناه نحن.
3223 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقت في الخمر حدا» ، رواه أبو داود.(6/381)
وإذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقت فيه قدرا معينا، وضرب نحوا من أربعين، وجب اتباع فعله، وكذلك فعل أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صدر خلافته. ولما رأى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عتو الناس وازديادهم؛ ضرب ثمانين.
3224 - قال السائب بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإمرة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصدر من خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا، وفشوا؛ جلد ثمانين. . رواه البخاري، ووافقه الصحابة على ذلك، بل وأشاروا عليه كما تقدم.
3225 - ولما كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الحدين كليهما ثمانين وأربعين كما في أبي داود، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(6/382)
جلد أربعين، وقال: إن الكل سنة. وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه زاد فيه النفي وحلق الرأس لما كثر الشرب، مبالغة في الزجر. وهذا كله يدل على جواز الزيادة على الأربعين. اهـ.
وقول الخرقي: (ومن) ، يدخل فيه الرجل والمرأة، والحر والعبد، وسيأتي الكلام على العبد، والمسلم والكافر، ولا يخلو الكافر إما أن يكون ملتزما أو غير ملتزم، فغير الملتزم كالحربي لا حد عليه، والملتزم كالذمي والمستأمن فيه روايتان، أصحهما عند أبي محمد وأبي الخطاب في الهداية: لا حد عليه؛ لأنا صالحناهم على أن لا نتعرض لهم فيما لا ضرر علينا فيه.
(والثانية) : عليه الحد، لأنه مكلف، فجرى عليه الحد كالمسلم. وقد تنبني الروايتان على تكليفهم بالفروع، لكن المذهب ثم قطعا تكليفهم بها.
واختار أبو البركات هنا أنه إن سكر؛ حد، وإلا فلا، إناطة باعتقاده التحريم وعدمه.
وقوله (شرب) خرج على الغالب، وكذلك الحكم لو ثرد الخمر أو اصطبغ به، أو لت به سويقا، أو خلطه بطعام فأكله أو(6/383)
استعط به، أو احتقن به، نص أحمد على أكثر ذلك، وأومأ إلى بقيتها، وكذلك إن طبخ به لحما فأكل من مرقته، قاله أبو محمد. أما إن عجن به دقيقا وخبزه فإنه لا يحد بأكله، لأن النار أكلت أجزاء الخمر، ولم يبق إلا أثره. وكذلك مختار أبي محمد في الاحتقان، كما لو داوى به جرحه، وكلامه يوهم أن ذلك رواية، ووقع في كلام أحمد أنه لو تمضمض به وجب الحد.
فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه في الرجل يستعط بالخمر، أو يحتقن به، أو يتمضمض أرى عليه الحد، فهم يقولون: لو أن رجلا لت سويقا بخمر، أو صب على خمر ماء كثيرا، ثم شربه؛ لم يحد، ذكر هذا النص القاضي في التعليق، وهو محمول على أن المضمضة وصلت إلى حلقه.
قال ابن حمدان في الكبرى: وكذا قيل في المضمضة به، يعني يحد. قال: وهو بعيد. اهـ.
وقوله: مسكرا قل أو كثر، يخرج به غير المسكر، وهو واضح، ويعم كل مسكر وإن قل ولم يسكر به. وهذا مذهبنا لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كل شراب أسكر فهو حرام» وحديث ابن عمر(6/384)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» ، وحديث ابن عباس: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام» وإذا كان كل مسكر خمرا فقد دخل في آية التحريم، مع أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على تحريمه.
3226 - ودخل في وجوب الحد، بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من شرب الخمر فاجلدوه» ، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية معاوية وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(6/385)
3227 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا قدم من جيشان، وجيشان من اليمن، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له المزر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أومسكر هو» ؟ قال: نعم، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام، وإن الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» . قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار» رواه مسلم والنسائي.
3228 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر آية الخمر، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت المزر؟ قال: «وما المزر» ؟ قال: حبة تصنع باليمن، قال: «تسكر» ؟ قال: نعم، قال: «كل مسكر حرام» . وفي رواية قال: «المسكر قليله وكثيره حرام» .
3229 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنهاكم عن قليل ما أسكر وكثيره» ، رواه النسائي.(6/386)
3230 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» متفق عليه.
3231 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر كثيره؛ فقليله حرام» .
3232 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أيضا قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام» . رواهما أبو داود والترمذي.
والأحاديث في الباب كثيرة، وقد صنف الإمام أحمد في ذلك كتابا كبيرا وافيا بالمقصود، وقد اختلف الناس في الحشيش: هل يحد بها، أو لا يحد؟
ومختار أبي العباس: وجوب الحد بها.(6/387)
وقول الخرقي: وهو مختار لشربها، يعلم أن كثيرها يسكر. يعني أنه يشترط لوجوب الحد شرطان: (أحدهما) : أن يكون مختارا، فإن كان مكرها فلا حد عليه، هذا هو المذهب المعروف، والمختار من الروايتين.
3233 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» الحديث.
قال أبو محمد: وسواء أكره بالوعيد، أو بالضرب أو ألجئ إلى شربها بأن فتح فوه وصب فيه.
(والرواية الثانية) : يحد، حملا للحديث على الإكراه على الأقوال، والأفعال تؤثر ما تؤثر الأقوال، ولا نزاع أنه يجوز أن يدفع بها لقمة غص بها، إذا لم يجد مائعا سواها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
(الثاني) أن يعلم أن كثيرها يسكر، لأنه إذا لم يعلم ذلك لم يقصد ارتكاب المعصية، فهو كمن زفت إليه غير زوجته، وفي معنى ذلك من لم يعلم بالتحريم لما تقدم.
3234 - وعن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا حد إلا على من علمه. نعم مدعي ذلك إن نشأ بين المسلمين لم تقبل(6/388)
دعواه، وإلا قبل، ولا تقبل دعوى الجهل بالحد، قاله ابن حمدان.
[موت شارب الخمر أثناء الحد]
قال: فإن مات في جلده فالحق قتله.
ش: لأنه مأذون في جلده من جهة الحق سبحانه، فإذا مات في ذلك من غير اعتداء فقتله منسوب إلى البارئ سبحانه، ولأنه حد وجب لله، فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود.
وما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في شارب الخمر من قوله: لو مات وديته، محمول على التورع؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينص عليه بلفظه، وليس فيه أنه يديه من بيت المال، وقد قال هو: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلد أربعين» ، وحصل الإجماع على ذلك، فهو كبقية الحدود، ولا فرق بين أن يموت في الأربعين أو بعد الأربعين، وإن قلنا: الزيادة عليها تعزير، إذ التعزير واجب فهو كالحد.
[كيفية إقامة الحدود]
قال: ويضرب الرجل في سائر الحدود قائما.
ش: هذا هو أشهر الروايتين.(6/389)
3235 - لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لكل موضع من الجسد حظ. يعني في الحد إلا الوجه والفرج، وقال للجلاد: اضرب وأوجع، واتق الرأس والوجه، وقيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب.
(والرواية الثانية) : يضرب جالسا، لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام، واستعمل الخرقي «سائر» بمعنى جميع على قاعدته، ومراده الحدود التي فيها ضرب.
قال: بسوط.
ش: يعني أن الضرب يكون بسوط، لا بعصا ولا بغيرها، إذ الجلد إذا أطلق إنما يفهم منه الضرب بالسوط.
3236 - وقد روى زيد بن أسلم «أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: «فوق هذا» فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: «بين هذين» فأتي بسوط قد لان وركب به فأمر به فجلد» ، وهذا بيان للجلد المأمور به في الآية الكريمة.(6/390)
وقد دخل في كلام الخرقي حد الخمر، ولا ريب عندنا أنه يجوز الجلد فيه بالسوط لما تقدم.
3237 - وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جلد قدامة بن مظعون بسوط، ولا يتعين ذلك، بل للإمام أن يضربه بالجريد والنعال إذا رأى ذلك، لما تقدم. قاله أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات وابن حمدان. وعموم كلام الخرقي يقتضي تعين ذلك، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني، فأورده مذهبا، وهو ظاهر كلامه في الكافي، وكلام القاضي في الجامع الصغير، والشريف والشيرازي وابن عقيل وغيرهم، قالوا: يضرب بسوط. وأجاب أبو محمد عما تقدم بأنه كان في بدء الإسلام، ويرده حديث السائب بن يزيد وقد تقدم.
قال: لا جديد ولا خلق.
ش: لما تقدم عن زيد بن أسلم، ولأنه إن كان خلقا قل ألمه، وإن كان جديدا جرح، والمقصود ردعه لا قتله.
3238 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين. ومن ثم قال أحمد: لا يبدي إبطه في(6/391)
شيء من الحدود، أي لا يبالغ في رفع يده فيبالغ في الألم، وربما قتله، وقال الأصحاب: يضرب وعليه القميص والقميصان لا الفراء ونحوها.
قال: ولا يمد ولا يربط.
ش: لأن ذلك لم ينقل عن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
3239 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ليس في ديننا مد، ولا قيد، ولا تجريد.
3240 - وفي مسلم في قصة ماعز قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له.
قال: ويتقي وجهه.
3241 - ش: لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» رواه أبو داود، واقتصر الخرقي على الوجه لهذا الحديث، وزاد غيره (الرأس) لما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (والمقاتل) حذارا من قتله، ويفرق الضرب على جميع أعضائه.(6/392)
وهذا على رواية أنه يضرب قائما، وعلى الأخرى يضرب الظهر وما قاربه.
قال: وتضرب المرأة جالسة.
ش: لأن المرأة عورة، وجلوسها أستر لها.
3242 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: تضرب المرأة جالسة والرجل قائما.
قال: وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تنكشف.
ش: ذكر الخرقي الحكم ودليله، وهو خشية تكشفها وهي عورة.
قال: ويجلد العبد والأمة أربعين بدون سوط الحر.
ش: يجلد العبد والأمة نصف جلد الحر، وذلك أربعون على اختيار الخرقي، وعشرون على اختيار أبي بكر.
3243 - لأن ابن شهاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عن حد العبد في الخمر فقال: بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر وكان عمر وعثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يجلدون عبيدهم في الخمر نصف حد الحر. . . رواه مالك في الموطأ،(6/393)
ويكون سوطه دون سوط الحر، تخفيفا للصفة كما في العدد، ولأبي محمد احتمال - وهو ظاهر إطلاق جماعة - أنه كسوط الحر، لأن التنصيف إنما يتحقق إذا كان كذلك.
[حكم العصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام]
قال: والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلي قبل ذلك فيحرم.
ش: لا ريب أن العصير إذا غلى وقذف بالزبذ أنه حرام وإن لم تأت عليه ثلاثة أيام.
3244 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فأخذه فإذا هو ينش ويغلي فقال لي: «اضرب به الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر» رواه أبو داود والنسائي، نعم، إذا علم من شيء أنه لا يسكر فلا بأس به وإن غلى كالفقاع، إذ العلة في التحريم الإسكار، ولا إسكار فيه. ولا ريب أنه إذا لم يغل ولم يأت عليه ثلاثة أيام، أنه مباح.
3245 - لما روت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنا ننبذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سقاء غدوة فيشربه عشية، وعشية فيشربه غدوة، مختصر» . . . رواه أبو داود والترمذي(6/394)
والنسائي، واختلف فيما إذا أتت عليه ثلاثة أيام ولم يغل، فمنصوص أحمد وعليه عامة أصحابه تحريمه.
3246 - لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقى الخادم، أو أمر به فصب. وفي رواية: كنا ننقع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبيب فيشربه اليوم والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر فيسقى أو يهراق» . رواه مسلم وأحمد وأبو داود، وظاهر هذا أن هذا كان دأبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعادته، لا أنه فعل ذلك في شيء، الغالب أنه يتخمر بعد ذلك.
3247 - وقد «روى الشالنجي بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل» .
»(6/395)
3248 - وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في العصير: اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث. . . حكاه أحمد. والمعنى في ذلك أن الشدة تحصل في الثلاث كثيرا، وهي خفية تحتاج إلى ضابط، فجعلت الثلاث ضابطا لها، ولم يلتفت أبو الخطاب إلا إلى الغليان، وحمل كلام أحمد على عصير الغالب أن يتخمر في الثلاث، ولأبي محمد احتمال بكراهة ذلك من غير تحريم، لأن أحمد قال في موضع: أكرهه.
[حكم النبيذ]
قال: وكذلك النبيذ.
ش: يعني أنه مباح ما لم يغل، أو يأت عليه ثلاثة أيام لما تقدم من حديث ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء.
[حكم انقلاب الخمر خلا]
قال: والخمرة إذا أفسدت فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها.
ش: هذا هو المذهب المشهور المجزوم به.
3249 - لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال: «لا» . .» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.(6/396)
3250 - وعنه أيضا «أن أبا طلحة سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: «أهرقوها» قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: «لا» » رواه أحمد وأبو داود، فنهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التخليل، والنهي يقتضي الفساد، وأمر بإراقتها مع كونها لأيتام، ولو زال تحريمها بالتخليل لأرشده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك، حذارا من ضياع المال، لا سيما وهي لأيتام.
3251 - وقد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صعد المنبر فقال: لا تحل خمر أفسدت، حتى يكون الله تعالى هو الذي تولى إفسادها، ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يعتمد إفسادها، فعند ذلك يقع النهي. رواه أبو عبيد في الأموال بنحو من هذا المعنى، وهذا قاله بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكر فكان إجماعا،(6/397)
وقيل: يزول تحريمها مطلقا، لأن علة التحريم الشدة المطربة، وقد زالت فيزول التحريم، وقيل - وهو احتمال لأبي محمد - إن قصد تخليلها بنقلها من الشمس إلى الفيحاء أو بالعكس حلت لما تقدم، وإن خللت بما يلقى فيها لم تحل، لنجاسة الملقى فيها، فإذا انقلبت بقي الملقى فيها على نجاسته.
قال: وإن قلب الله تعالى عينها فصارت خلا فهي حلال.
ش: لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولزوال علة التحريم من غير فعل محرم.
[الشرب في آنية الذهب والفضة]
قال: والشرب في آنية الذهب والفضة حرام.
3252 - ش: لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليه. ولمسلم: «الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب» » .
3253 - «وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة بالمدائن فاستسقى فسقاه مجوسي في إناء من فضة، فرماه به وقال: إني قد أمرته أن لا يسقيني فيه، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في(6/398)
آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» متفق عليه. فنهى، والنهي يقتضي التحريم، وأخبر أن الذي يفعل هذا تجرجر النار في بطنه، أو أنه هو يجرجرها في بطنه، وعلى كليهما لا يكون ذلك إلا بفعل محرم.
(تنبيه) : «الديباج» كذا، والله أعلم.
قال: وإن كان قدح عليه ضبة فضة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس.
ش: إباحة الضبة في الجملة إجماع حكاه أبو البركات.
3254 - ويشهد له ما «روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن قدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.» . . رواه البخاري، ولفظه: انصدع. وهذا يخصص حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(6/399)
المتقدم في الآنية: «أو إناء فيه شيء من ذلك» إن صح، إلا أن البيهقي أشار للاعتراض على حديث البخاري فقال: إنه يوهم أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة قال: فصح بهذا السند أيضا إلى أنس وفيه: فجعلت مكان الشعب سلسلة.
3255 - «وروى أيضا عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان قد انصدع فسلسله بفضة» ، قلت: وإنما يجيء الوهم إذا ضبط الرواة (جعلت) مبنيا للفاعل، أما إن لم يضبطوا ذلك فيحتمل البناء للمفعول، وإذا لا يتعين أن يكون الفاعل هو أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بل يجوز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الفاعل، وهذا أولى، لموافقته رواية البخاري، ثم على البناء للفاعل ليس فيه أن ذلك كان بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجوز أن يكون في حياته بأمره، ثم تارة أضاف الفعل إلى نفسه لأنه الفاعل حقيقة، وتارة أضافه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمره بذلك، كما يقال: بنى الأمير المدينة، ونحو ذلك.(6/400)
وعاصم فيه كلام، ثم قوله: فسلسله ليس فيه أن ذلك بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجوز أن يكون في حياته، وأضاف الفعل إليه كما تقدم، وبالجملة الإجماع فيه كفاية، على أنا نقول بحجية قول الصحابي، وتخصيصه للعموم. إذا تقرر هذا، فظاهر كلام الخرقي اختصاص الجواز بضبة الفضة، وهو المذهب المنصوص اتباعا لقضية النص. (وعن أبي بكر) جواز اليسيرة من الذهب لحاجة. وظاهر كلامه أيضا أنه يشترط أن لا يباشر الضبة بالاستعمال، ولا يشرب من موضعها، وهو ظاهر كلام أحمد، واختيار ابن عقيل، وابن عبدوس، إذ الأصل التحريم تبعا للنص، ثم أبيح ما تدعو الحاجة إليه، فما عداه يبقى على الأصل، وقيل: يكره ذلك من غير تحريم.(6/401)
وبه قطع أبو الخطاب في الهداية، وابن البنا، وصاحب التلخيص، وأبو محمد في الكافي والمغني، ولابن تميم احتمال بالإباحة، ويحتمله كلام القاضي في تعليقه، وأبي البركات في محرره، وطائفة لسكوتهم عن ذلك. ومحل الخلاف إذا لم يحتج إلى المباشرة، أما إن احتاج إلى ذلك كلحس الطعام والشراب إذا كانت في موضعه فيباح. واختلف في شرطين آخرين (أحدهما) هل يشترط في الضبة أن تكون يسيرة، وهو المذهب، لأنها إذا تابعة في حكم العدم، أو لا يشترط، بل تجوز الكبيرة للحاجة إناطة بها - وهو اختيار ابن عقيل؟ على قولين.
(الثاني) هل يشترط أن تكون مع قلتها للحاجة، وهو المنصوص، قاله أبو البركات، وقطع به أبو الخطاب في هدايته، وابن البنا، وصاحب التلخيص فيه، قصرا للحكم على مورد الأثر، أو لا يشترط، وجزم به جماعة، نظرا لاغتفار اليسير مطلقا كما تقدم؟ على قولين، ثم على الثاني هل تكره والحال هذه، وبه جزم القاضي في تعليقه، ويحتمله كلام أحمد في رواية أحمد بن نصر، وجعفر بن محمد، قال: لا بأس بالضبة، وأكره الحلقة، أو تباح، وبه قطع ابن عقيل، والشيرازي؟ على قولين أيضا. وكلام الخرقي محتمل في الشرطين، لكن لا نعرف قائلا بجواز الكبيرة لغير حاجة بل ملخص الشرطين أن الكبيرة لغير(6/402)
حاجة لا تباح، واليسيرة لحاجة تباح، وفي الكبيرة لحاجة واليسيرة لغير حاجة قولان.
(تنبيه) : المراد بالحاجة هنا أن يحتاج إلى تلك الصورة، سواء كانت من حديد أو فضة، أو نحاس أو غير ذلك، لا أن يحتاج إلى كونها من فضة، بل هذه ضرورة يباح معها الذهب ولو مفردا، كما لو احتاج إلى اتخاذ أنف من ذهب ونحو ذلك، والله أعلم.
[التعزير]
[تعريف التعزير ومقداره]
قال: ولا يبلغ بالتعزير الحد.
ش: أصل التعزير في اللغة المنع، فقوله تعالى؛ {وَعَزَّرُوهُ} [الأعراف: 157] أي منعوا أعداءه من الظفر به. وقول القائل: عزرت فلانا، إذا ضربته في معصية، أي منعته بضربي إياه من معاودة مثل ذنبه. وقال السعدي: عزرته، أي أدبته، وعزرته وقرته، فهو من الأضداد، وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، كالوطء دون الفرج، وسرقة ما لا قطع فيه، والجناية على الناس في أموالهم أو في أبدانهم بما لا قصاص فيه. . . ونحو ذلك.(6/403)
3256 - سئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قول الرجل للرجل: يا فاسق يا خبيث، قال: هن فواحش فيهن تعزير، وليس فيهن حد. ولا يشرع فيما فيه حد إلا على ما قاله أبو العباس في شارب الخمر، وفيما إذا أتى حدا في الحرم، فإن بعض الأصحاب قال: إن حده يغلظ، وهو نظير تغليظ الدية بالقتل في ذلك. وكذلك نص أحمد، وقاله جماعة من الأصحاب فيمن شرب الخمر في رمضان: يغلظ حده، وهل يشرع فيما فيه كفارة، كالظهار، وقتل شبه العمد ونحوهما؟ فيه وجهان. إذا تقرر هذا فلا تقدير لأقل التعزير، بل هو على قدر ما يراه الإمام، إلا في وطء جارية زوجته التي أحلتها له، فإنه لا ينقص عن مائة، بل ولا يزاد عليها للنص، ويختلف باختلاف الأشخاص والأجرام، ولا يتعين الضرب فيه، بل يجوز بالحبس والإحراق إلا في وطء جارية زوجته.(6/404)
قال في الكافي: والجارية المشتركة، ولا يجوز بقطع الطرف والجرح، وأخذ المال. قاله أبو محمد. وجوز أبو العباس التعزير بقطع الخير، والعزل عن الولايات.
3257 - مستندا لعزل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعض نوابه لما بلغه عنه أنه تمثل بأبيات في العقار.
3258 - وعنه أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه عزر فيه بالنفي وحلق الرأس، واختلف في أعلاه، فروى جماعة عن أحمد أنه لا يزاد فيه على عشر جلدات.
3259 - اعتمادا على حديث أبي بردة هانئ بن نيار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله عز وجل» ، وفي لفظ: «لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله تعالى» رواه البخاري، وهذا عام في كل عقوبة، خرج منه بالاستثناء حدود الله تعالى. والمتيقن من ذلك الحدود المقدرة الطرفين، فما عداها يبقى على العموم. وحكى أبو الخطاب (رواية أخرى) أنه لا يزاد على تسع جلدات، ولا يظهر لي وجهها، ونقل جماعة عن أحمد في(6/405)
الرجل يطأ جارية بينه وبين شريكه: يجلد مائة إلا سوطا.
3260 - قال: كذا قال سعيد بن المسيب، قال الراوي: وذهب إلى حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونص أيضا فيما إذا وطئ جارية زوجته وقد أحلتها له أنه يجلد مائة.
3261 - لحديث النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رفع إليه رجل غشي جارية زوجته، فقال: لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن كانت لم تحلها لك رجمتك. رواه الخمسة، فاستثنى القاضي في الروايتين هاتين الصورتين. وقال: المذهب عندي أنه لا يزاد على عشر جلدات إلا في هاتين الصورتين، لقضية النص. وقال: هو في خلافه، وعامة أصحابه وغيرهم: إنه يؤخذ من هذا أن كل ما كان سببه الوطء كوطء الجارية المشتركة والمزوجة، والمحرمة برضاع، ووطء الأجنبية دون الفرج،(6/406)
وإذا كان مع امرأة في لحاف، ووطء الأب جارية ابنه، ووطء البهيمة حيث قيل بالتعزير فيهما: يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات، ما لم يبلغ به الحد في ذلك الجنس، فيجوز أن يضرب الحر مائة، ولا ينفي، وبعضهم يقول مائة إلا سوطا، أو مائة بلا نفي. وبعض الأصحاب اعتمد نص أحمد كما تقدم، ففي المشتركة مائة إلا سوطا، وفي أمة الزوجة مائة، ونص أيضا فيما إذا وطئ دون الفرج أنه يضرب مائة.
3262 - وقد نقل عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف يضربان مائة، وفرع أبو البركات على هذا في أن العبد يضرب خمسين إلا سوطا، قال ابن حمدان: وقيل خمسون، ومن قال بهذا وهم الأكثرون قالوا: إن في ما عدا الوطء يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات، ولا يبلغ به أدنى الحدود.
3263 - أخذا بما روى صالح قال: حدثني أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عطاء بن أبي مروان أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب النجاشي ثمانين، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: هذا لتجريك على الله، وإفطارك في رمضان. قال(6/407)
أبي: أذهب إليه، وظاهر كلام الخرقي أن جميع التعزيرات يجوز أن يزاد فيها على العشر، ولا يبلغ به أدنى الحدود، كذا فهم عنه القاضي وغيره. ثم أكثر الأصحاب يقولون: لا يبلغ بالحر أدنى حده وهو الأربعون أو الثمانون، ولا بالعبد أدنى حده، وهو عشرون أو أربعون. وقيل: لا يبلغ بكليهما حد العبد. وقال أبو محمد: إن كلام أحمد في وطء الأمة المشتركة ونحوها، وكلام الخرقي يحتمل أن لا يبلغ بالتعزير في الذنب حد جنسه، ويجوز أن يزيد على حد جنس آخر، وإلى هذا ميل أبي العباس، وهو أقعد من جهة الدليل.
3264 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا نقش على خاتمه، وأخذ من بيت المال، فضربه مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة، وهذا كله دون حد جنسه وهو القطع، وحديث النعمان لم يبلغ به الحد(6/408)
في جنسه، لأن حد واطئ جارية امرأته الرجم لإحصانه. وكذلك قصة عمر والخلفاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الأمة المشتركة، وفيمن وجد مع امرأة في لحاف، ويحمل حديث أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أن أحدا لا يؤدب فوق عشرة أسواط، والتأديبات تكون في غير محرم، وقوله: «إلا في حد من حدود الله تعالى» فالمراد به في المحرمات التي حرمها الله سبحانه، كما في قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وذلك يشمل الحدود المقدرة وغيرها، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
[الصيال]
[حكم دفع الصائل]
قال: وإذا حمل عليه جمل صائل، فلم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه، فضربه فقتله فلا ضمان عليه.
ش: إذا صالت عليه بهيمة فلم يقدر على التخلص منها إلا بضربها، فله ذلك إجماعا، ولا ضمان عليه، لأنه حيوان جاز إتلافه، فلم يضمنه كالآدمي المكلف، ولأنه قتله لدفع شره، فأشبه العبد، وفارق المضطر إلى طعام الغير، حيث يضمنه فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته.
قال: ولو دخل رجل منزله بسلاح، فأمره بالخروج فلم يفعل، فله ضربه بأسهل ما يخرجه به، فإن علم أنه يخرج بضرب عصا لم يجز أن يضربه بحديدة.
ش: إذا دخل رجل منزل غيره بغير إذنه فلصاحب المنزل(6/409)
أمره بالخروج، لتعديه بالدخول، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] الآية.
3265 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي، قال: «فأنشده بالله» قال: فإن أبوا علي؟ قال: «فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار» رواه النسائي. فإن خرج بالأمر لم يكن له ضربه لظاهر الحديث، ولزوال تعديه وإن لم يخرج بالأمر فله ضربه، دفعا للضرر الحاصل له بتسليط الغير عليه. وللحديث، ويضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به، لأن الزائد لا حاجة به إليه، إذ المقصود الدفع، ولهذا قلنا في البغاة لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، وقد أشار في الحديث إلى هذا حيث أمر بالإنشاد أولا، ويتفرع على هذا أنه إذا علم أنه يندفع بعصا لم يجز أن يضربه بحديدة، وكذلك لو غلب على ظنه أنه يندفع بقطع بعض أعضائه لم يكن له قتله، فلو قتله والحال هذه ضمنه، وكذلك لو ضربه فقطع يده فولى، لم يكن له ضربه ثانيا، فإن فعل فقطع رجله ضمنها فقط، وعلى هذا.(6/410)
3266 - وقد يستشكل هذا بالحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . والأمر باللسان أسهل على المنكر عليه من التغيير باليد بكسر أو إتلاف ونحو ذلك.
3267 - وقد روي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأى لصا فأصلت عليه السيف، قال: فلو تركناه لقتله. وحمل أبو محمد فعل ابن عمر على قصد الترهيب، وقد يحمل على أنه خشي إن لم يبادره بذلك بادره اللص بالقتل. وفي هذه الصورة يجوز بدأته بالقتل.
(تنبيه) الخرقي ذكر الحكم فيما إذا كان مع الداخل سلاح، وأبو محمد قال في المغني: وإن لم يكن معه سلاح، ولعل كلام الخرقي أصوب إذ المسألة مفروضة عند كثير من الأصحاب فيمن دخل متلصصا أو صائلا، والغالب من حال هذين أن معهما سلاحا، أما إن دخل إنسان على غير هاتين الحالتين، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا يجرى(6/411)
عليه هذا الحكم. نعم يؤمر بالخروج قطعا، فإن لم يخرج فينبغي أن يخرج بالشرط ونحو ذلك.
قال: فإن آل الضرب إلى نفسه فلا شيء عليه.
ش: يعني إذا آل الضرب إلى نفس الداخل فلا شيء على الضارب، لأنه تلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي.
3268 - وقد روي أن رجلا أضاف إنسانا من هذيل، فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر، فقتلته فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لا يودى أبدا.
3269 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السابق في رواية مسلم قال: «يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» .
»(6/412)
قال: وإن قتل صاحب الدار كان شهيدا.
ش: لأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل يقتله الباغي، ولحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3270 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. . .
3271 - وقد روي من حديث بريدة رواه النسائي، ومن حديث(6/413)
سعيد بن زيد رواه الترمذي، وأبو داود والنسائي، ولفظه: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» .
[ضمان جناية الدواب وما أفسدته من الزروع]
قال: وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها، وما أفسدت من ذلك نهارا لم يضمنوه.
ش: كذا قال جماعة من الأصحاب، منهم القاضي في الجامع الصغير، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، وغيرهم.
3272 - لما «روى حرام بن محيصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. قال ابن عبد البر: هذا وإن كان مرسلا فهو مشهور، حدث به الأئمة الثقات، وتلقاه فقهاء(6/414)
الحجاز بالقبول. ولأن عادة أهل المواشي إرسالها نهارا، وحفظها ليلا، وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا لا ليلا، فإذا أتلفت ليلا فالتفريط من أهلها لتركهم حفظها، وإن أتلفت نهارا فالتفريط من أرباب الحوائط، لعدم حفظها، ومن التفريط منه الغرم عليه. وحكى أبو البركات رواية، وأوردها مذهبا، وقطع بها أبو الحسين في فروعه، أن الضمان إنما يجب على أرباب البهائم في الليل إذا لم يحفظوها عن الخروج فيه، لتفريطهم إذا، بخلاف ما إذا حفظوها فأفسدت، كما إذا انفلتت من الربط، أو سقط الحائط أو فتح اللص الباب ونحو ذلك، فخرجت فأفسدت فلا ضمان، لانتفاء التفريط ولعموم «العجماء(6/415)
جبار» نعم في صورة ما إذا فتح الباب لص ونحوه الضمان على الفاتح، قاله في الكافي، واستثنى أبو البركات من عدم الضمان في النهار ما إذا أرسلت عمدا بقرب ما تفسده عادة، لقصد التعدي والحال هذه، ونحو هذا قول القاضي في موضع قال: المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعٍ، أما القرى العامرة التي لا يرعى فيها إلا بين قراحين كساقية وطريق، وطرق زرع، فليس لصاحبها إرسالها بغير حافظ عن الزرع، فإن فعل فعليه الضمان لتفريطه. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على الزرع، فقد يوهم كلامه أن غير الزرع لا ضمان فيه على أربابها مطلقا، وصرح بذلك أبو محمد.
3273 - مستندا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العجماء جبار» ، ولم يفرق القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وأبو البركات وغيرهم بين الزرع، وغيره، ويرشحه حديث ناقة البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن الحوائط البساتين.
(تنبيه) : «العجماء» الدابة، «والجبار» الهدر الذي لا شيء فيه.(6/416)
قال: وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال، وكذلك إن قادها أو ساقها.
ش: لإمكان حفظها والحال هذه عن الجناية، فإذا لم يحفظها الراكب أو السائق أو القائد فقد فرط، والمفرط عليه الضمان.
3274 - وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرجل جبار» رواه أبو داود، فمفهومه أن غير الرجل ليس بجبار، فيحمل على ما إذا كان معها راكب أو سائق أو قائد، وتحمل روايته في الصحيحين: «العجماء جرحها جبار» ، على ما إذا لم يكن معها أحد، وحكم ما أتلفته بفمها حكم ما أتلفته بيدها، وكلام الخرقي يشمل الليل والنهار وهو كذلك، وعلم من ذلك أن المسألة السابقة فيما إذا لم تكن في يد أحد.(6/417)
قال: وما جنت برجلها فلا ضمان عليه.
ش: يعني راكبها، وهذا إحدى الروايتين، وبه قطع الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، لعموم الحديث السابق.
3275 - وفي «رواية ذكرها رزين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدابة تنفح برجلها أنه جبار» . (والثانية) عليه الضمان في الحال التي يضمن فيها اليد أو الفم، قياسا للرجل عليهما، وفصل أبو البركات فجعل وطأها يضمنه من معها من راكب أو سائق أو قائد، لإمكان حفظها إذا بخلاف نفحها ابتداء، فإنه لا يضمنه، لعدم إمكان حفظها، ونحو ذلك، قاله ابن البنا قال: إن نفحت برجلها وهو يسير عليها فلا ضمان، وإن كان سائقا لها ضمن ما جنت برجلها. واتفق الشيخان على أنه يضمن نفحها لكبحها باللجام ونحوه، قال أبو البركات: ولو أنه لمصلحته، لأنه السبب في جنايتها، ومن ثم قيل: إذا كان السبب من غيره كأن نخسها ونحو ذلك، فالضمان على ذلك الغير.(6/418)
(تنبيه) : لو أوقفها في طريق فإنه يضمن جنايتها بيدها أو رجلها، وإن لم يكن معها، قاله ابن عقيل وابن البنا، إن كان الطريق ضيقا، وإن كان واسعا فروايتان، حكاهما ابن البنا.
3276 - ومنشأهما حديث النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن» رواه الدارقطني، فهل يؤخذ بعمومه مطلقا، أو يحمل على ما إذا وقفها في طريق ضيق، أو حيث يضر بالمارة، لتعديه إذا بخلاف الطريق الواسع.
[الحكم لو تصادم فارسان أو رجلان فمات الرجلان أو الدابتان]
قال: وإذا تصادم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر.
ش: لأن كلا منهما ماتت دابة الآخر بصدمته، فكان عليه ضمانها كما لو أتلفها من غير صدم، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها.
قال: وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فتلفت الدابتان، فعلى السائر قيمة دابة الواقف.(6/419)
ش: هذا الذي أورده أبو البركات مذهبا، ونص عليه أحمد، قاله أبو محمد، لأن السائر والحال هذه هو الصادم المتلف، فوجب عليه الضمان، واختار أبو محمد أنه إن كان الواقف في طريق ضيق فلا ضمان على السائر، لتعدي الواقف إذا بخلاف السائر، ويشهد لهذا حديث النعمان وقد تقدم. ومقتضى كلام الخرقي أن الواقف لا يضمن السائر مطلقا، وهو منصوص أحمد، لأنه هو المتلف لنفسه أو ماله بصدمته، وقيل يضمنه مطلقا، لأنه لولاه ما تلف. وقيل: يضمنه مع ضيق الطريق، لتعديه بالوقوف إذا دون سعته، لعدم تعديه، وهو مختار أبي محمد، ومقتضى حديث النعمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
قال: وإذا تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، وفي مال كل واحد منهما عتق رقبة.
ش: لأن كل واحد منهما مات من صدمة الآخر، ووجوب الدية على عاقلتيهما، لأن ذلك إما خطأ أو شبه عمد، لأنهما وإن تعمدا ذلك فالصدمة لا تقتل غالبا، ولا فرق بين البصيرين والأعميين، والبصير والأعمى والله أعلم.
قال: وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة، فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة، أو أرش ما نقصت إذا(6/420)
أخرجت، إلا أن تكون المنحدرة غلبتها الريح فلم يقدر على ضبطها.
ش: أما كون السفينة المنحدرة إذا وقعت على المصعدة على قيم المنحدرة قيمة السفينة المصعدة إن غرقت، أو أرش ما نقصت إن خرجت من الغرق، لأن المنحدرة تنزل عليها من علو فتكون بمنزلة السائر، والمصعدة بمنزلة الواقف، وأما كونه يستثنى من ذلك إذا غلب المنحدرة ريح فلم يقدر على ضبطها، لأنه والحال هذه لا ينسب للقيم تفريط ألبتة، بخلاف ما تقدم. ومقتضى كلام الخرقي أنه لو غرقت المنحدرة أنه لا شيء على قيم المصعدة، وهو كذلك كالسائر مع الواقف، نعم، يستثنى من ذلك إذا كان قيم المصعدة مفرطا بأن كان يمكنه العدول بسفينته، والمنحدر غير قادر ولا مفرط، فإن الضمان على المصعد، إناطة بالتفريط. . . ولهذه المسألة التفات إلى مسألة السائر مع الواقف، والله أعلم.(6/421)
[كتاب الجهاد]
ش: لا ريب في مشروعية الجهاد والحث عليه.
3277 - وقد روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» متفق عليه.
3278 - وعن أبي عبس الحارثي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» رواه البخاري والترمذي والنسائي.(6/422)
3279 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» رواه أحمد والترمذي.
3280 - وعن ابن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجنة تحت ظلال السيوف» رواه أحمد والبخاري. . .
3281 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: «لا تستطيعونه» قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه» قال في الثالثة: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» رواه مسلم.(6/423)
3282 - وللبخاري من رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» مختصر. والأحاديث في فضله كثيرة جدا، وكيف لا وبه قيام الدين.
[حكم الجهاد]
قال: والجهاد فرض على الكفاية.
ش: هذا قول عامة أهل العلم، لقول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] إلى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] الآية. وهذا يدل على أن القاعد بلا ضرر غير آثم مع جهاد غيره.(6/424)
3283 - وفي الصحيحين عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله تعالى) قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادعوا فلانا» فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: اكتب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) وخلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله أنا ضرير، فنزلت مكانها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الآية.
» 3284 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] ، و {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] قال: نسختها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] . . . رواه أبو داود. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه. وعلى هذا تحمل(6/425)
الأوامر المطلقة؛ كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] ، وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] ونحو ذلك.
3285 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا» رواه أبو داود.
3286 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» رواه أبو داود والنسائي.
3287 - وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» رواه مسلم وغيره.(6/426)
وابن المبارك يقول في هذا الحديث: نرى أن ذلك كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(تنبيه) : يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع:
(أحدها) إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] ، وقَوْله تَعَالَى؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} [الأنفال: 15] إلى قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] .
(الثاني) إذا استنفره الإمام، لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] إلى قوله: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] .
3288 - وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» .
(الثالث)(6/427)
إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم، والنفير إليهم، لأنهم في معنى حاضري الصف فتعين عليهم كما يتعين عليه لعموم: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] الآية. . . ولم يذكر أبو محمد في الكافي والمقنع تعينه إلا في موضعين، إذا حضر الصف، وإذا حضر العدو بلدة، وكلام ابن المنجا يقتضي أن «حصر» بالصاد المهملة، لأنه قال: ولأن البلد إذا حصر قرب شبه من فيه بمن حضر الصف، وإنما هو بالمعجمة، فإن عبارته في الكافي والمغني كما تقدم.
قال: إذا قام به قوم سقط عن الباقين.
ش: هذا تفسير لفرض الكفاية، وهو يشترك وفرض العين أن الجميع مخاطبون به على الصحيح، وأن الكل إذا تركوه أثموا وقوتلوا عليه، كما في فرض العين سواء، ويخالفه في أنه إذا قام البعض به سقط عن الباقين، بخلاف فرض العين كالصلاة ونحوها، فإنه لا يسقط عن البعض بفعل البعض، قال أحمد في رواية حنبل: الغزو واجب على الناس كلهم، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم، والفرض في ذلك موقوف على غلبة الظن، فإذا غلب على الظن أن الغير يقوم بذلك سقط(6/428)
عن الباقين، كما إذا كان ثم جند لهم ديوان لذلك، وفيهم كفاية، أو قوم أعدوا أنفسهم لذلك وفيهم منعة للقاء العدو، ونحو ذلك. وإن غلب على الظن أن لا قائم به وجب على كل أحد القيام به.
(تنبيه) : إذا قام بفرض الكفاية طائفة، ثم قام به أخرى، فهل يقع فعل الثانية فرضا؟ فيه وجهان، وكلام ابن عقيل يقتضي أن فرضيته محل وفاق، وكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محتمل.
[فضل الجهاد]
قال: قال أبو عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد.
ش: روى ذلك عن أحمد جماعة، قال الأثرم: قال أحمد: لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل. وقال في رواية الفضل بن زياد: ما من أعمال البر أفضل منه، وذلك لما تقدم في فضله، وقد تقدم حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وقيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: «لا تستطيعونه» .
3289 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «مر رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشعب فيه عيينة من ماء عذبة،(6/429)
فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا تفعل، فإن مقام أحدكم يوما في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» .
3290 - وعن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للشهيد عند الله ست خصال، يغفر الله له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه» رواهما الترمذي، وقال في الثاني: حسن صحيح غريب.(6/430)
3291 - وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أي الناس أفضل؟ قال: «رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه» قال: ثم من؟ قال: «ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه ويدع الناس من شره» .
» 3292 - وفيهما أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الحج المبرور» .» 3293 - وفيهما أيضا «عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: حدثني بهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو استزدته لزادني» .
3294 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا(6/431)
أخبركم بخير الناس؛ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله» . . . رواه الترمذي وحسنه.
3295 - وعن النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 19] إلى آخرها. رواه مسلم. ولأن فيه إعلاء كلمة الله سبحانه، وبذل المهجة، ونفعه يعم جميع المسلمين.
[غزو البحر أفضل أم غزو البر]
قال: وغزو البحر أفضل من غزو البر.
3296 - ش: روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن رسول(6/432)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «أناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة» مختصر رواه مسلم.
3297 - وعن أم حرام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغريق له أجر شهيدين» رواه أبو داود.
3298 - وفي حديث رواه ابن ماجه: «شهيد البحر مثل شهيد البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض(6/433)
الأرواح، إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم، يغفر لشهداء البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين» .
وقد دل كلام الخرقي على مشروعية الغزو في البحر، وقد دل عليه ما تقدم، والله أعلم.
[الغزو مع الإمام البر والفاجر]
قال: ويغزى مع كل بر وفاجر.
3299 - ش: روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا» » مختصر.
3300 - وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله، إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار» رواهما أبو داود.(6/434)
(تنبيه) : قال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة على المسلمين. فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه، إنما ذلك على نفسه.
3301 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» .
قال: ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو.
ش: نص أحمد على ذلك، مستدلا بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] الآية، وهذا إذا لم يكن ثم عذر، فإن كان ثم عذر بكون الأبعد أخوف، أو الأقرب مصالحا، ونحو ذلك، فلا بأس بتقديم الأبعد.(6/435)
[مدة الرباط في سبيل الله]
قال: وتمام الرباط أربعون يوما.
3302 - ش: يروى هذا عن أبي هريرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
3303 - وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمام الرباط أربعون يوما» ، أما أقل الرباط فقال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط.
3304 - وعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» رواه أحمد والنسائي والترمذي.(6/436)
3305 - ولأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها» .
3306 - وفي مسلم عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» .(6/437)
[إذن الوالدين في الجهاد]
قال: وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما.
3307 - ش: الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأذنه في الجهاد؟ قال: «أحي والداك» ؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» » رواه الجماعة.
3308 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «هل لك أحد باليمن» ؟ قال: أبواي. قال: «أذنا لك؟» قال: لا. قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» » رواه أبو داود.
3309 - وعن معاوية بن جاهمة «أن جاهمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أردت الغزو، وقد جئت(6/438)
أستشيرك، فقال: «هل لك من أم» ؟ قال: نعم. قال: «فالزمها، فإن الجنة عند رجليها» » رواه النسائي. وهذا نص في المنع منه بدون إذنهما وجوازه بإذنهما. وقول الخرقي: مسلمين. وكذلك إذا كان أحدهما مسلما، إذ يجب بر الواحد منهما كما يجب برهما. وحديث جاهمة في أحدهما، وعموم كلام الخرقي يشمل وإن كانا رقيقين، ويؤيد ذلك عدم الاستفصال من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: لا يعتبر إذنهما إذا كانا رقيقين، وبه قطع أبو البركات، لعدم ولايتهما، أشبها المجنونين، ويخرج به ما إذا كانا كافرين، وهو كذلك، لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره كانوا يجاهدون بدون إذن آبائهم، وقوله: تطوعا. المراد به إذا لم يتعين عليه الجهاد، وسماه تطوعا لأن فرض الكفاية له شبه بالتطوع، لسقوطه عن البعض بفعل البعض. ويخرج منه ما إذا تعين عليه، وقد صرح به حيث قال: وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما.
قال: وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لأبويه.
ش: أي إذا خوطب به على التعيين، لأنه والحال هذه تركه(6/439)
معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله، وقد قال سبحانه وتعالى في حقهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] .
3310 - نزلت في سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت أمي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمدا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] الآية.
قال: وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها.
ش: كالحج، والصلاة في الجماعة، وطلب العلم الواجب، ونحو ذلك، لمساواتها للحج معنى، فتساويا(6/440)
حكما وقد نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الحج والصلاة في الجماعة، معللا بالفرضية.
3311 - وما أحسن ما قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسئل عن البر والعقوق، قال: البر أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك به، ما لم يأمراك بمعصية الله، والعقوق أن تهجرهما وتحرمهما.
[قتال أهل الكتاب والمجوس قبل الدعوة للإسلام]
قال: ويقاتل أهل الكتاب والمجوس، ولا يدعون، لأن الدعوة قد بلغتهم.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وعلته، وهو أن الدعوة قد بلغتهم، فلا حاجة إليها ثانيا.
3312 - وفي الصحيحين «عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث، حدثني به عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكان في ذلك الجيش» .(6/441)
[دعوة عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا]
قال: وتدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا.
3313 - ش: لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ما قاتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوما قط إلا دعاهم» . رواه أحمد.
3314 - ولمسلم وغيره «من حديث بريدة قال: «إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو ثلاث خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» وذكر الحديث إلى آخره.
3315 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى كسرى وقيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم(6/442)
إلى الله تعالى» . رواه مسلم وليس هذا بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا من الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خرج على الغالب، إذ لو كان في عبدة الأوثان من بلغته الدعوة لجاز قتالهم من غير دعوة، ولو كان في أهل الكتاب ونحوهم من لم تبلغه الدعوة لدعوا قبل القتال، فالحكم منوط بالبلوغ وعدمه. قال أحمد: الدعوة قد بلغت وانتشرت، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة، لم يجز قتالهم قبل الدعوة، وعن أحمد ما يدل على أن اليوم لا يجب أن يدعى أحد، وأن الدعاء كان في ابتداء الإسلام.
قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب، حتى أظهر الله الدين وعلا الإسلام. ولا أعرف اليوم أحدا يدعى، قد بلغت الدعوة كل أحد، والروم قد بلغتهم الدعوة، وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام، وإن دعا فلا بأس. وعلى هذا حديث(6/443)
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وإذًا تكون الدعوة مستحبة مطلقا.
3316 - وقد «روى سهل بن سعد أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر قال: «أين علي» ؟ فقيل: إنه يشتكي عينيه فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرئ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: «على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» متفق عليه، وأهل خيبر كانت الدعوة قد بلغتهم.
قال: ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
ش: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، ومن اتخذ التوراة والإنجيل كتابا، كالسامرة والأفرنج ونحوهم، والمجوس عباد الشمس والقمر، فهؤلاء يقاتلون على أحد شيئين الإسلام أو الجزية. . . وهذا والله أعلم اتفاق، وقد شهد له (أما(6/444)
في أهل الكتاب) ومن دان بدينهم، فقوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
3317 - وعن ابن شهاب قال: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران وكانوا نصارى. رواه أبو عبيد في الأموال.
3318 - (وأما في المجوس) فلما «روى بجالة بن عبدة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، فأتى كتاب عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس، ولم يكن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها من مجوس هجر» . رواه البخاري وغيره.
3319 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه «، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في(6/445)
أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده.
3320 - «وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لعامل كسرى: أمرنا نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية» ، رواه أحمد والبخاري. ومقتضى كلام الخرقي أن المجوس ليسوا أهل كتاب، لعطفهم على أهل الكتاب، والعطف يقتضي المغايرة، وهو كذلك، ويدل عليه قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» فدل على أنهم غيرهم. وقال الله سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] فدل على أن الكتاب إنما أنزل على طائفتين فقط، وهم اليهود والنصارى، ومما يرشح ذلك توقف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أخذ الجزية منهم، ولو كان لهم كتاب لما توقف، لدخولهم في الذين أوتوا الكتاب، المأمور بأخذ الجزية منهم.(6/446)
3321 - وما يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لهم كتابا، فقال أبو عبيد: لا أحسبه محفوظا، ثم عموم كلام الخرقي يشمل أهل الكتاب والمجوس من العرب وغيرهم، وهو كذلك لما تقدم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من أهل نجران وهم من العرب.
3322 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أكيدر دومة، فأخذوه فأتوا به، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية» . رواه أبو(6/447)
داود، وهو عربي من غسان.
3323 - ولا يغرنك ما روى أبو داود في المراسيل عن الحسن، قال: أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقاتل العرب على الإسلام، ولا يقبل منهم غيره، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب على الإسلام، فإن أبوا فالجزية؛ إذ مراسيل الحسن عند أهل العلم بالحديث من أضعفها، وقول الخرقي: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. تبع فيه لفظ الآية. قال أبو الخطاب: يمتهنون عند أخذها، ويطال قيامهم، وتجر أيديهم.
قال: ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا.
ش: هذا هو المذهب المعروف، لعموم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ونحو ذلك. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث،(6/448)
خرج من ذلك أهل الكتاب والمجوس بالآية الكريمة وبالحديث، فيبقى فيما عداه على العموم، ثم في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» دليل على أن أهل الكتاب هم المختصون ببذل الجزية وإلا فليس للتخصيص فائدة. ومما يرشح ذلك أيضا توقف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيهم حتى أخبره عبد الرحمن بما أخبره، ولو جاز أخذ الجزية من كل كافر لم يكن لتوقفه معنى. (وعن أحمد) رواية أخرى: يقبل من جميع الكفار، إلا عبدة الأوثان من العرب، لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق، فأقروا بالجزية كالمجوس. وقد دخل في كلام الخرقي أهل الصحف، كصحف إبراهيم وشيث ونحو ذلك، وهو المذهب بلا ريب، لعدم دخولهم في الكتاب إذا أطلق، ولهذا قال سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] الآية، ولأنها مواعظ، لا أحكام فيها، وقيل: يقر أهلها بالجزية، لأنه يصدق أنه نزل لهم كتاب.(6/449)
قال: وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا.
ش: هذا أحد الصور الثلاث التي يتعين الجهاد فيها، وهو ما إذا نزل العدو بالبلد، وقد تقدم ذلك، والدليل عليه، ونزيد هنا بأنه لا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إليه لحفظ البلد، ومن يمنعه الأمير من الخروج، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال، ونحو ذلك.
قال: المقل منهم والمكثر.
ش: يعني أن العدو إذا نزل بالبلد وجب على كل أحد الخروج إليه، سواء كان غنيا يقدر على الزاد، أو فقيرا لا يقدر على ذلك، إذ العدو نازل على البلد، فلا حاجة إلى ذلك، فإن كان قريبا من البلد دون مسافة القصر اشترط الزاد، ولم تشترط الراحلة.
قال: ولا يخرجون إلى العدو إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه، فلا يمكنهم أن يستأذنوه.
ش: لا يجوز الخروج إلى العدو إلا بإذن الأمير، إذ أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلته ومكامنه، فاتبع رأيه في ذلك، إلا أن يتعذر استئذانه، كطلوع عدو غالب عليهم بغتة، ويخافون شره إن استأذنوه فإن إذنه إذًا يسقط، ارتكابا لأدنى المفسدتين لدفع أعلاهما.
3324 - «وقد أغار الكفار على لقاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصادفهم سلمة(6/450)
بن الأكوع خارجا من المدينة، فتبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «خير رجالنا سلمة بن الأكوع» وأعطاه سهم فارس وراجل» .
(تنبيه) لا يكون الإذن العام كالنفير مثلا إذنا لمن منعه الإمام قبل ذلك. وقال: لا تصحبني، نص عليه أحمد.
[دخول النساء مع المسلمين إلى أرض العدو]
قال: ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا امرأة طاعنة في السن، لسقي الماء ومعالجة الجرحى، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ش: لا تدخل النساء مع المسلمين أرض العدو، حذارا من ظفر العدو بهن، واستحلال ما حرم الله منهن مع أنهن لسن من أهل القتال، إذ الغالب عليهن الجبن والخور.
3325 - وقد روى البخاري «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: استأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجهاد، فقال: «جهادكن الحج» ويجوز دخول المرأة الكبيرة لسقي الماء، ومعالجة الجرحى.(6/451)
3326 - «لما روي عن أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى» .
3327 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار، يسقين الماء، ويداوين الجرحى» . رواه أحمد ومسلم. وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وهو ظاهر كلام أبي البركات، قال: يلزم الإمام أن يمنع المخذل والمرجف والنساء. وجعله في المغني مكروها، وجوز للأمير خاصة أن يدخل بالمرأة الواحدة إذا احتاج إليها، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرع بين نسائه فتخرج معه من تقع عليها القرعة.(6/452)
[ما يجب على الجند تجاه الأمير في الجهاد]
قال: وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب، ولا يبارز علجا، ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا إلا بإذنه.
ش: لأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو، ومكامنهم وقوتهم، فإذا خرج إنسان أو بارز بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كمينا للعدو فيأخذوه، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك، أو يكون ضعيفا لا يقوى على المبارزة فيظفر العدو به، فتنكسر قلوب المسلمين. بخلاف ما إذا أذن، فإنه لا يأذن إلا إذا انتفت المفسدة، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك حيث قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] الآية. وقد فهم من كلام الخرقي جواز المبارزة بإذن الأمير، وهو قول العامة، وقد شاع وذاع مبارزة الصحابة في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن بعده.
3328 - قال قيس بن عباد: سمعت أبا ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقسم قسما أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر، حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة. . . متفق عليه.(6/453)
3329 - وكذلك قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نزلت هذه الآية في مبارزتنا يوم بدر {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] رواه البخاري.
3330 - ويروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة، سوى من شاركت فيه. وقد صرح الخرقي بأن المبارزة بدون إذن حرام، وظاهر كلام أبي محمد في المغني الكراهة، قال: ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن.
قال: ومن أعطي شيئا يستعين به في غزاته فما فضل فهو له، فإن لم يعط لغزاة بعينها رد ما فضل في الغزو.
ش: من أعطي شيئا ليستعين به في الغزاة فله حالتان (إحداهما) أن يعطى لغزوة بعينها، فهذا إذا غزا وفضلت فضلة فهي له، لأن المقصود أن يغزو هذا المعين هذه الغزوة، والدفع على سبيل المعاونة، أشبه ما لو وصى أن يحج عنه فلان بألف.(6/454)
3331 - وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا أعطى شيئا للغزو يقول لصاحبه: إذا بلغت وادي القرى فشأنك به. (الثانية) أن يعطى للغزو مطلقا، أو للنفقة في سبيل الله، فهذا إذا غزا وفضلت منه فضلة أنفقه في غزاة أخرى، لأن الدفع لجهة قربة، فلزم صرف جميعه فيها، كما إذا أوصى أن يحج عنه بألف، وهذه المسألة غير مسألة الدفع في الزكاة.
قال: وإذا حمل الرجل على دابة فإذا رجع من الغزو فهي له، إلا أن يقول: هي حبيس فلا يجوز بيعها إلا أن تصير في حال لا تصلح للغزو، فتباع وتجعل في حبيس آخر.
ش: إذا حمل الرجل على دابة للغزو، فإذا رجع من الغزو فالدابة له، كالنفقة المدفوعة إليه.
3332 - «وقال عمر: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في(6/455)
صدقته كالعائد في قيئه» متفق عليه. وهذا يدل على ملكه له، ولولا ذلك لما باعه، ولم يفرق الخرقي هنا بين أن يدفعه ليغزو عليه غزوة معينة، أو للغزو وأطلق، وقياس ما تقدم التفرقة، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو صرح له بالعارية أو بالحبسية، ونحو ذلك فإنه يعمل على ذلك، ففي العارية يرد إلى مالكه، وفي الحبسية يجعل في الحبس، ولا يجوز بيعه، لما تقدم في الوقف من أنه لا يجوز بيع العين الموقوفة إلا أن يئول الفرس إلى حال لا يصلح للغزو، فإنه يباع ويجعل في حبيس آخر، وقد تقدم ذلك في الوقف.
قال: وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله، أو كان في مكان لا يصلى فيه، جاز أن يباع ويصير في مكان ينتفع به.
ش: يعني وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله، أو كان في مكان لا ينتفع به، كأن ينتقل أهل القرية عنه، أو يخاف في الذهاب إليه من اللصوص ونحو ذلك، فإنه يجوز بيعه على المذهب المشهور، قال أحمد في رواية صالح: يحول المسجد خوفا من اللصوص، وإذا كان موضعه قذرا، قال القاضي: يعني إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه. ونص على بيع عرصته في رواية عبد الله، وذلك لما تقدم في جواز بيع الوقف،(6/456)
وبيع الفرس الحبيس، وقد بالغ أحمد في رواية أبي داود، فقال في مسجد أراد أهله رفعه من الأرض، ويجعل تحته سقاية وحوانيت، فامتنع بعضهم من ذلك، فقال: ينظر إلى قول أكثرهم، وقد أخذ القاضي بظاهر اللفظ، وأن أهل المسجد لهم رفعه، وجعل سقاية تحته، لحاجتهم إلى ذلك، وأبى ذلك ابن حامد، وحمل كلام أحمد على مسجد أراد أهله إنشاءه ابتداء، واختلفوا كيف يعمل، وفي هذا التأويل بعد من اللفظ. (وعن أحمد) رواية أخرى في أصل المسألة أن المساجد لا تباع، ولكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر، لإمكان بقاء العين مع صرفه في جهة المسجدية، ولذلك قلنا على المذهب أنه إذا لم يمكن إنشاء مسجد بالثمن صرف في شقص مسجد. (تنبيه) يكون البائع لذلك الإمام أو نائبه، نص عليه، وكذلك المشتري بالثمن، وكذلك كل وقف لا ناظر له.
قال: وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها.
ش: سيأتي الكلام على الأضحية إن شاء الله تعالى في بابها.(6/457)
[ما يفعله الإمام بالأسرى]
قال: وإذا سبى الإمام فهو مخير إن رأى قتلهم، وإن رأى من عليهم وأطلقهم بلا عوض، وإن رأى فادى بهم، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم، وإن رأى استرقهم، أي ذلك رأى أن فيه نكاية للعدو وحظا للمسلمين فعل.
ش: يخير الإمام في الأسرى بين أربعة أشياء في الجملة، القتل، والمن، والفداء، والاسترقاق، أما القتل فلعموم: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجال بني قريظة، وهم بين الستمائة والسبعمائة، وقتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وفيه تقول أخته:(6/458)
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
3333 - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو سمعت شعرها لما قتلته» . (وأما المن والفداء) فلقوله سبحانه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] .
3334 - «وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من جبال التنعيم، عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلما فأعتقهم، فأنزل الله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] إلى آخر الآية» رواه مسلم وغيره.(6/459)
3335 - وعن جبير بن مطعم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» رواه البخاري وغيره.
3336 - وثبت في الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من على ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة» .
3337 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.»(6/460)
3338 - وعن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، قالت: فلما رآها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رق لها رقة شديدة. وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها» ؟ قالوا: نعم» . رواهما أبو داود.
3339 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل» ، رواه أحمد والترمذي وصححه.
3340 - (وأما الاسترقاق) فلما روي «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولها فيهم، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «هم أشد أمتي على الدجال» ، قال: وجاءت صدقاتهم(6/461)
فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه صدقات قومنا» قال: وكان سبية منهم عند عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل» » متفق عليه.
3341 - وعنها أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «لما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت حلوة ملاحة، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فجئتك أستعينك على كتابتي؛ قال: «فهل لك في خير من ذلك» ؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقضي كتابتك، وأتزوجك» ؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: «قد فعلت» قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج جويرية ابنة الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها» . رواه أحمد واحتج به، وهذا التخيير تخيير مصلحة واجتهاد، لا تخيير تشهي فمتى رأى الإمام المصلحة في خصلة تعينت عليه، لأنه ناظر للمسلمين،(6/462)
فوجب عليه فعل الأصلح كولي اليتيم، ومتى تردد فقال أبو محمد: القتل أولى. (وقوله) : فادى بهم، أي بمسلم، ولا نزاع في جواز ذلك، لما تقدم من حديث عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (وقوله) : وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم. هذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي، وأبي البركات، وأبي محمد في المغني، وغيرهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى أهل بدر بالمال بلا ريب. وحكى أبو محمد في المقنع رواية أنه لا تجوز المفاداة بمال، وحكاها أبو الخطاب في هدايته وجها، لأن الله سبحانه عاتب نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك ونزل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى} [الأنفال: 67] الآية.
3342 - «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لما أسروا الأسارى - يعني يوم بدر - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ما ترون في هؤلاء الأسارى» ؟ قال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ترى يا ابن الخطاب» ؟ قال: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكنني فنضرب أعناقهم، فتمكن(6/463)
عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء؛ لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» شجرة قريبة منه، وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ، فأحل الله لهم الغنيمة» . رواه أحمد ومسلم. (وأجيب) بأن العقاب كان على أخذ المال ابتداء، ثم إن الله سبحانه أقر ما فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحل لهم الغنيمة كما في الحديث.
3343 - قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لما كان يوم بدر وأخذ - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفداء - فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى(6/464)
قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] من الفداء عذاب عظيم ثم أحل لهم الغنائم» . . . رواه أبو داود. إذا تقرر هذا، فاعلم أن هذا التخيير الذي ذكره الخرقي هو في الأحرار المقاتلة، أما الأرقاء فإن الإمام يخير بين قتلهم إن رأى ذلك لمضرة بقائهم ونحو ذلك، أو تركهم غنيمة كالبهائم، وأما النساء والصبيان فيصيرون أرقاء بنفس السبي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهم، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترقهم إذا سباهم، وأما من يحرم قتله غير النساء والصبيان - كالشيخ الفاني، والراهب، والزمن، والأعمى - فقال أبو محمد في الكافي والمغني: لا يجوز سبيهم لتحريم قتلهم، وعدم النفع في اقتنائهم. (وحكى عنه) ابن المنجا أنه قال في المغني: يجوز استرقاق الشيخ والزمن، ولعل هذا في المغني القديم، وحكى أيضا عن الأصحاب أنهم قالوا: كل من لا يقتل - كالأعمى ونحوه - يرق بنفس(6/465)
السبي، وأما أبو البركات فجعل من فيه نفع من هؤلاء حكمه حكم النساء والصبيان، وظاهر كلامه أن من لا نفع فيه لا يسبى، وهذا هو أعدل الأقوال.
(تنبيه) : إذا أسلم الأسير تعين رقه، نص عليه أحمد، وعليه الأصحاب، لأنه أسير يحرم قتله، أشبه المرأة، وقال أبو محمد في الكافي: يسقط القتل، ويخير فيه بين الثلاثة الأخر، لأن القتل امتنع لمانع، وهو «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ونحوه، فيبقى ما عداه على الأصل.
3344 - وفي مسلم وغيره «عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الوثاق، فقال: يا محمد، فأتاه قال: «ما شأنك» فقال: بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ يعني العضباء، فقال: «أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف» ثم انصرف عنه فناداه فقال: يا محمد يا محمد، قال: «ما شأنك» ؟ قال: إني مسلم. قال: «لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح» ثم انصرف عنه فناداه: يا محمد يا محمد، فأتاه فقال؛ «ما شأنك» ؟ فقال: إني جائع وظمآن فأسقني. قال: «هذه حاجتك» ففدي بعد(6/466)
بالرجلين» . (وأجاب) القاضي بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أنه علم من حاله أنه كان منافقا، وفيه نظر، وأجاب أبو محمد في المغني بأن هذا لا ينافي رقه، فإن رقيق المسلمين يجوز أن يفادى بهم، ويعترض على هذا بأنه إذا صار رقيقا فكيف ترك موثوقا، ثم إنه إنما تجوز المفاداة برقيق المسلمين بإذنهم على قوله، وليس في الحديث إذن، ويجاب بأن ترك ذكر الإذن في الحديث لا يدل على عدمها، ثم لو ثبت أنه لم يستأذنهم فذلك لعلمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم راضون بما يفعله.
قال: وسبيل من استرق منهم وما أخذ منهم على إطلاقهم سبيل تلك الغنيمة.
ش: طريق من استرق منهم، والمال الذي أخذ منهم على إطلاقهم طريق الغنيمة، في أنه يخمس، ثم تقسم أربعة أخماسه بين الغانمين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، لأنه مال غنمه المسلمون، أشبه الخيل والسلاح.
قال: وإنما يكون له استرقاقهم، إذا كانوا من أهل الكتاب، أو مجوسا، فأما من سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من(6/467)
بالغي رجالهم إلا الإسلام أو السيف أو الفداء.
ش: يعني أن الذين يجري عليهم الاسترقاق هم الذين يقرون بالجزية، وهم أهل الكتاب والمجوس. أما من عداهم من مشركي العرب والعجم، فالمنصوص عن أحمد - في رواية محمد بن الحكم وإليه ميل أبي محمد، وهو الصواب - جواز استرقاقهم، واحتج بحديث جويرية وقد تقدم.
3345 - وقال: لا أذهب إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس على عربي ملك. قد سبى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العرب في غير حديث. وأبو بكر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين سبى بني ناجية.
3346 - ونقل عنه ابن منصور، وقد سئل عن قول عمر رضي(6/468)
الله عنه في العربي يتزوج الأمة فولدت: لا يسترقون يفديهم.
قال: لا أقول في العربي شيئا، قد اختلفوا فيه، فتوقف عن الجواب، فيخرج له قول بعدم الجواز، وابن حامد قال: في المسألة روايتان، وتبعه من بعده على ذلك، وكأن مستند المنع قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنه لا يقر بالجزية فأشبه المرتد. وهذه الرواية هي اختيار الخرقي، والشريف، وابن عقيل في التذكرة والشيرازي.
(تنبيه) : أبو محمد وأبو الخطاب ومن تبعهما يحكون الخلاف كما تقدم في غير أهل الكتاب والمجوس، وأبو البركات جعل مناط الخلاف فيمن لا يقر بالجزية، فعلى قوله نصارى بني تغلب يجري فيهم الخلاف، لعدم أخذ الجزية منهم، ويقرب من هذا قول القاضي في الروايتين، فإنه حكى الخلاف في مشركي العرب من أهل الكتاب، ثم حكى كلام الخرقي، وكلام أحمد في رواية محمد بن الحكم، فيمن لا كتاب له، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن لم يكن عنه نص بالمنع(6/469)
إلا رواية ابن منصور، فليس له توقف إلا في العرب، وهو لم يعلل بعدم الإقرار بالجزية، حتى يؤخذ بعموم علته في كل من لا يقر بالجزية من العجم ونحوهم.
[حكم النفل من الغنيمة]
قال: وينفل الإمام ومن استخلفه الإمام - كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدأته الربع بعد الخمس، وفي رجعته الثلث بعد الخمس.
ش: النفل في اللغة الزيادة، ومنه نفل الصلاة، زيادة على فرضها، وقَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] فيعقوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو ولد ولد إبراهيم وهو زائد على ما طلبه إبراهيم من الولد. إذا تقرر هذا فينبغي للإمام أو نائب الإمام إذا غزا غزاة أن يبعث أمامه سرية تغير على العدو، ويجعل لها الربع بعد الخمس، أو تغير خلفه إذا رجع، ويشترط لها الثلث بعد الخمس، فما أتت به أخرج خمسه، وأعطى السرية ما جعل لها، ثم قسم الباقي على الجيش والسرية معا، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3347 - فعن حبيب بن مسلمة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته» ، رواه أحمد وأبو داود.(6/470)
3348 - وعن عبادة بن الصامت مثله، ولم يقل: بعد الخمس. . . رواه أحمد والترمذي.
3349 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك كله واجب» .
3350 - وعنه أيضا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية قبل نجد، فخرجت فيها فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا، ونفلنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعيرا بعيرا.» . . متفق عليهما، وهذا على سبيل الندبية، فللإمام أن لا ينفل شيئا، وأن ينفل ما دون ذلك، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال: كان ينفل بعض من يبعث من السرايا، وقال: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفلهم بعيرا بعيرا، (وهل له) أن ينفل ذلك بلا شرط، وهو ظاهر كلام الخرقي، وظاهر الأحاديث، أو ليس له ذلك إلا بشرط، وهو الذي ذكره في المغني، لأن مع عدم الشرط تتعلق جميع حقوق الغازين بالمال، فلا يخص بعضهم ببعضه؟ على روايتين. (وهل له) أن يزيد على الثلث، لا يجوز له(6/471)
بلا شرط رواية واحدة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه أنه زاد على ذلك، وهل له ذلك بالشرط، لأن زيادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقصه يدل على أن ذلك غير مقدر، أو ليس له ذلك، وهو ظاهر كلام الخرقي، وبه قطع أبو محمد لما تقدم؟ على روايتين.
قال: ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه.
ش: يعني أنه إذا جاء بعض السرية بشيء فنفله، ولم يأت بعضهم بشيء فلم ينفله، فإن من نفل يرد على من لم ينفل من السرية، لما علله الخرقي، من أن بقوة من لم ينفل صار المال لمن نفل.
[استحقاق القاتل للسلب]
قال: ومن قتل منا واحدا منهم مقبلا على القتال فله سلبه.
ش: القاتل يستحق السلب في الجملة بلا ريب.
3351 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» متفق عليه، رواه أبو قتادة وغيره، إذا علم هذا فيشترط لاستحقاقه شروط (أحدها) أن يغرر بنفسه في قتله في حال الحرب، بأن يقتله حال المبارزة، أو والحرب قائمة، ونحو ذلك، قال أحمد: السلب للقاتل إنما هو في المبارزة،(6/472)
لا يكون في الهزيمة.
3352 - لما «روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نفلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر سيف أبي جهل وكان قتله» . رواه أبو داود.
3353 - وإنما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق، فأجهز عليه، كذا روي معنى ذلك في أبي داود وغيره، ولو لم يكن التغرير شرطا لدفع إليه السلب أجمع، فعلى هذا لو رمى بسهم إلى صف الكفار، فقتل فلا سلب له، لعدم التغرير، وكذلك لو حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه، فلا سلب لهم، ويكون غنيمة لذلك، وكذلك إذا قتله اثنان على المنصوص في رواية حرب، (وعن القاضي) : هو لهما؛ لعموم «من قتل قتيلا» واستثنى أبو محمد ما إذا قتله اثنان، وكانت ضربة أحدهما أبلغ في قتله من الأخرى، أن السلب يكون له.(6/473)
3354 - مستدلا «بأن أبا جهل ضربه معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وأتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبراه، فقال: «أيكما قتله» ؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: «هل مسحتما سيفيكما» ؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله» وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح» ، متفق عليه. وهذا يحتمل أن يكون كما قاله أبو محمد، ويحتمل أنه نفل السلب لمعاذ بن عمرو وإن لم يستحقه، ويكون في هذا دليل على أن للإمام أن ينفل بعض الغانمين. ومن صور التغرير أن يكون المقتول مقبلا على القتال، فإن كان مدبرا فلا سلب له، لعدم التغرير في قتله، ولأن المسلمين قد كفوا شره بانهزامه، فأشبه ما لو كان مأسورا، واستثنى أبو محمد من ذلك ما إذا انهزم والحرب قائمة، فأدركه إنسان فقتله فإن سلبه له.
3355 - معتمدا على «أن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل طليعة الكفار وهو منهزم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل الرجل» ؟ قالوا: سلمة بن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع» » ، والحديث في الصحيحين، ومن صوره أيضا أن يكون الكافر ممتنعا، فإن كان مثخنا بالجراح، وقتله إنسان فلا شيء له، لعدم التغرير، وقد تقدم حديث ابن مسعود في ذلك، (واعلم) أن جماعة من الأصحاب يجعلون كل واحد من هذه(6/474)
شرطا، والذي يظهر أنها كلها ترجع إلى التغرير، والإشارة إلى هذا الشرط في قول الخرقي: مقبلا على القتال. (الشرط الثاني) أن يقتل الكافر، كما في الحديث «من قتل قتيلا» أو يثخنه بجراح يصيره في حكم المقتول، لأنه إذا صار في حكم الميت، ولو قطع أربعته، وقتله آخر فسلبه للقاطع، [لا أعلم فيه خلافا] ، لأنه الذي كفى المسلمين شره، وصيره في حكم الميت. وكذلك لو قطع يديه أو رجليه على وجه لذلك، وعلى آخر هو للقاتل، لعموم الحديث، وعلى ثالث هو غنيمة، كما لو اشترك اثنان في قتله، وكذلك الأقوال الثلاثة فيما إذا قطع يده ورجله، ثم قتله آخر، والمنصوص أنه غنيمة، وهو المقدم في التي قبلها أيضا، ولو قطع يدا أو رجلا ثم قتله آخر، فالسلب للقاتل على ما قطع به أبو البركات، وحكاه في المغني احتمالا، لأنه الذي كفى المسلمين شره، وقطع في الكافي بأنه غنيمة، كما لو اشترك اثنان في قتله، وهذا الذي أورده في المغني مذهبا، ولو أسره فقتله الإمام فلا شيء له من السلب، على المذهب المنصوص لعدم القتل. (الشرط الثالث) أن يكون القاتل ممن له حق في الغنيمة، فإن لم يكن له فيها حق أصلا، كالمخذل والمرجف، والمعين(6/475)
على المسلمين فلا شيء له لأنه ليس من أهل الجهاد، وإن كان له فيها حق لكن إرضاخ لا إسهام، كالصبي والمرأة ونحوهما، فهل يستحق السلب إذا قتل، لعموم الحديث، وبه قطع أبو محمد، أو لا يستحقه، لأن السهم آكد منه للإجماع عليه وهو لا يستحقه، فالسلب أولى؟ (الشرط الرابع) أن يكون المقتول من المقاتلة، فإن كان شيخا فانيا، أو صبيا، أو امرأة، ونحو ذلك ممن قد نهي عن قتله، لم يستحق قاتله سلبه، بلا خلاف نعلمه، فإن قاتل هؤلاء فهل يستحق قاتلهم سلبهم، وبه قطع أبو محمد، لجواز قتلهم إذا، أو لا يستحق سدا للذريعة؟ فيه وجهان.
(تنبيه) : قال أبو محمد: إذا بارز العبد بغير إذن مولاه لم يستحق السلب، لأنه عاص، وكذلك كل عاص كمن دخل بغير إذن، (وعن أحمد) فيمن دخل بغير إذن يؤخذ منه الخمس، وباقيه له كالغنيمة، قال: ويخرج في العبد مثله، قلت: قد يقال تعلق الحق بالغنيمة آكد للإجماع عليها، بخلاف السلب، فإن منهم من يجعله كالنفل، لا يستحق إلا بالشرط، ثم قال: إنه لا يشترط في استحقاق(6/476)
السلب أن تكون المبارزة بإذن الإمام، لعموم الخبر، ولأن كل من قضي له بالسلب في عصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل أنه أذن له في المبارزة، (قلت) : وهذا يتمشى على قوله، من أن الإذن في المبارزة مندوب إليه لا واجب، أما على ما يقوله الخرقي وغيره فلا.
قال: غير مخموس.
ش: يعني أن القاتل يستحق السلب إذا وجدت شروطه من غير تخميس، لعموم ما تقدم.
3356 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل رجلا فله سلبه» فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا، وأخذ أسلابهم» . رواه أحمد وأبو داود، «وفي لفظ: «من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه» قال: فجاء أبو طلحة بسلب أحد وعشرين رجلا» . رواه أحمد، وفيه دليل على أن من شرط استحقاق السلب التغرير في القتل، وأن المشتركين في القتل لا يستحقان السلب كما تقدم.(6/477)
3357 - «وعن عوف بن مالك وخالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخمس السلب» ، رواه أحمد وأبو داود. ومقتضى كلام الخرقي أن السلب يكون من أصل الغنيمة، لا من خمس الخمس، وهو كذلك لإطلاق الحديث.
قال: قال ذلك الإمام أو لم يقل.
ش: يعني أن السلب يستحقه القاتل، اشترط ذلك الإمام أو لم يشترطه، هذا هو المنصوص المشهور، والمذهب عند عامة الأصحاب، واختار أبو بكر أنه لا يستحقه إلا من شرطه له الإمام، وحكى ذلك غير واحد من الأصحاب رواية عن أحمد، وأخذها القاضي في الروايتين من قول أحمد في رواية حرب: ليس له ذلك إلا أن يكون قتاله بإذن الإمام، وهذا المأخذ لا يدل على المدعى، وبالجملة مدرك الخلاف في ذلك أن قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من قتل قتيلا فله سلبه» هل ذلك بيان لشرع عام، أو مختص بتلك(6/478)
الواقعة، فلا يستحق إلا بالشرط، وكذلك حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسلب للقاتلين، كسلمة بن الأكوع وغيره، هل ذلك لاستحقاقهم إياه مطلقا، أو من باب النفل؟ ويرجح الأول أن الأصل عدم التخصيص، وبيان الشرع العام، ثم إن أبا قتادة كان قد قتل القتيل قبل أن يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله سلبه» » وأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلبه، ولو كان إنما يستحق بالشرط لما أعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلب.
3358 - «قال أبو قتادة: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه، وضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك، قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما لك يا أبا قتادة» ؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي، فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن(6/479)
الله وعن رسوله فيعطيك سلبه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدق فأعطه إياه» » متفق عليه. لا يقال: فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليه السلب من غير بينة ولا يمين، لأنا نقول: قد شهد له واحد، وقد يكتفي في مثل ذلك بالواحد، لتعذر إقامة اثنين، أو يكون قبول الواحد إذا خاصا بأبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3359 - وما في مسلم والمسند «عن عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قتل رجل من حمير رجلا من العدو، فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عوف بن مالك، فأخبره فقال لخالد: «ما منعك أن تعطيه سلبه» ؟ قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه» فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسمعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستغضب فقال: «لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استرعى إبلا وغنما، فرعاها ثم تحين سقيها، فأوردها حوضا، فشرعت فيه، فشربت صفوه وتركت كدره، فصفوه لكم، وكدره لهم» » فقيل: منع رسول الله(6/480)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلب عقوبة، ويرد أنه عاقب من لم يذنب، والله أعلم.
قال: والدابة وما عليها من آلتها من السلب، إذا قتل وهو عليها، وكذلك جميع ما عليه من الثياب والسلاح والحلي وإن كثر، فإن كان معه مال لم يكن من السلب، وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر في الدابة أنها ليست من السلب.
ش: في الدابة ثلاث روايات (إحداها) أنها من السلب مطلقا، أعني سواء كان يقاتل عليها أو ممسكا بعنانها.
3360 - أما إذا كان يقاتل عليها فلما «روى عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجت مع زيد بن حارثة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من أهل اليمن، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس أشقر، عليه سرج مذهب، وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخذ منه السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسلب(6/481)
للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته. وذكر الحديث إلى آخره. . .» رواه أحمد وأبو داود، وأما إذا كان ماسكا بعنانها فلأنها معدة للقتال عليها، متمكن من ذلك، فأشبهت سيفه أو رمحه الذي في يده. (والثانية) : ليست من السلب مطلقا، اختارها أبو بكر، لأن السلب اسم لما كان على البدن، وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معديكرب: فأخذ سواريه ومنطقته، يعني ولم يذكر فرسه. (والثالثة) : إن قاتل عليها فهي من السلب، لما تقدم في حديث عوف، وإن كان ممسكا بعنانها فليست من السلب، لما تقدم في دليل الثانية، خرج منه إذا كان يقاتل عليها، لفهم الصحابة، فيبقى ما عداه على مقتضى اللغة، وهذه الرواية أعدل الأقوال، وهي اختيار الخرقي، والخلال، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي: إن اختيار الخلال الرواية الثانية كتلميذه، فإنه وهم، ولا نزاع أن التي في بيته أو مع غلامه أو مجنوبة ونحو ذلك لا تكون من السلب، وحيث حكم بالدابة أنها من السلب فكذلك ما عليها من آلتها، من سرج ولجام ونحو ذلك، لا ما كان محمولا عليها من دراهم(6/482)
ونحو ذلك، إذا علم حكم الدابة، فالذي هو سلب عندنا بلا ريب ما كان على المقتول، من ثياب كعمامة، ودرع ومغفر ونحو ذلك، وسلاح كرمح وسيف، وسكين ونحو ذلك، وحلي كتاج وأسورة ونحوهما، لأن ذلك يدخل في اسم السلب. فشمله قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله سلبه» .
3361 - وفي حديث عمرو بن معديكرب أنه حمل على أسوار فطعنه فدق صلبه فصرعه، فنزل إليه فقطع يده، وأخذ سوارين كانا عليه، ويلمقا من ديباج وسيفا ومنطقة، فسلم ذلك له، فأما المال الذي معه في كمرانه أو خريطته فليس من السلب، وكذلك خيمته ورحله، ونحو ذلك مما ليس في يده، لأن ذلك لا يدخل في مسمى السلب، فلا يتناوله الحديث.(6/483)
[إعطاء الأمان للكفار]
قال: ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه.
ش: يصح إعطاء الأمان للكفار في الجملة بالإجماع، فيحرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم، قال الله تعالى؛ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وقد شاعت الأحاديث بذلك.
3362 - «قالت أم هانئ أخت علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه فقال: «من هذه» ؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: «مرحبا بأم هانئ» ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» قالت أم هانئ: وذلك ضحى» . . . متفق عليه.
3363 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» . . . رواه البخاري والنسائي،(6/484)
وقال) «من قتل قتيلا من أهل الذمة» .
3364 - وعن صفوان بن سليم، عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن آبائهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ظلم معاهدا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» رواه أبو داود. إذا تقرر هذا فيشترط لمعطي الأمان أن يكون (مسلما) ، ولهذا قال الخرقي: منا. فلا يصح أمان الكافر، وإن كان ذميا.
3365 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم» رواه أحمد، وهو بعض حديث في الصحيح، فقيد ذلك بالمسلمين(6/485)
(عاقلا) فلا يصح من مجنون، ولا طفل، ولا مغمى عليه، لأن كلامهم غير معتبر، وكذلك السكران، قاله أبو محمد، ويخرج فيه قول (مختارا) فلا يصح من مكره بلا ريب، وهل يشترط البلوغ؟ فيه روايتان (إحداهما) - وهي أنصهما وأشهرهما - لا يشترط، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، والشيرازي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وأبو بكر، وقال: رواية واحدة، حاملا لرواية الاشتراط على غير المميز، وهو مقتضى كلام شيخه، وذلك لعموم الحديث، إذ هو من المسلمين. (والثانية) - ويحتملها كلام الخرقي - يشترط، لأنه غير مكلف، ولا يلزمه بقوله حكم، فلا يلزم غيره كالمجنون، فعلى الأولى من شرطه أن يكون عاقلا، قاله جماعة وبعضهم يقول: مميزا، وقيده الخلال بابن سبع، بشرط أن يعقل التخيير بين أبويه، (ولا فرق) بين الرجل والمرأة بالإجماع، لحديث أم هانئ.
3366 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المرأة لتأخذ على القوم» يعني تجير على المسلمين، رواه الترمذي، (ولا بين) الحر والعبد، لعموم الحديث.(6/486)
3367 - وقد جاء أن عبدا أعطى أمانا، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: إن العبد المسلم رجل من المسلمين، ذمته ذمتهم، رواه سعيد ولا بين المطلق والأسير، والأجير والتاجر وغيرهم، لعموم الحديث.
قال: ومن طلب الأمان ليفتح الحصن ففعل، فقال كل واحد: أنا المعطى، لم يقتل واحد منهم.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية أبي طالب وأبي داود، وإسحاق بن إبراهيم، في قوم في حصن استأمن عشرة، ونزلت عشرة عشرة، فيقولوا: لنا الأمان، فيؤمنون كلهم ولا يقتل واحد منهم، مع أن هذا والله أعلم اتفاق، لأنه اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه، فحرم الكل، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، وهل يجوز استرقاقهم؟ فيه قولان (أحدهما) - وهو ظاهر كلامه السابق - لا، لما تقدم. (والثاني) : يقرع بينهم، فيخرج واحد بالقرعة، ويسترق الباقون، لأن الحق لواحد منهم،(6/487)
فعين بالقرعة، كما لو أعتق عبدا من عبيده وأشكل، وهذا القول عزاه الشيخان وغيرهما إلى أبي بكر، والذي في الروايتين أن أبا بكر قال: من أصحابنا من قال: يقرع بينهم، وأن أبا بكر قال: ظاهر كلام أحمد أنه لا يسترق واحد منهم، وذكر كلام أحمد السابق.
قال: ومن دخل إلى أرضهم من الغزاة فارسا، فنفق فرسه قبل إحراز الغنيمة، فله سهم راجل، ومن دخل راجلا فأحرزت الغنيمة وهو فارس، فله سهم فارس.
ش: نفق فرسه أي مات، وكذلك يقال في كل دابة، ولا يقال لغيرها إلا مجازا، والاعتبار في الاستحقاق بحال الإحراز، فإن أحرزت الغنيمة وهو راجل فله سهم راجل، وإن أحرزت وهو فارس فله سهم فارس، ولا عبرة بما قبل ذلك، قال أحمد: أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى، إن كان فارسا ففارس، وإن كان راجلا فراجل.
3368 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة. اهـ - وذلك لأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك، فكان الاعتبار به بخلاف غيره.(6/488)
[سهم الفارس والراجل في الجهاد]
قال: فيعطى ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه.
ش: أي يعطى الفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه.
3369 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم للفرس سهمين، وللراجل سهما» . متفق عليه، وفي رواية لأبي داود وأحمد: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين لفرسه» .
3370 - وعن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام خيبر للزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعة أسهم، سهم للزبير، وسهم لذي القربى بصفية بنت عبد المطلب أم الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وسهمان للفرس. .» . رواه النسائي.
3371 - «وعن أبي عمرة عن أبيه قال: أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهما، وأعطى(6/489)
الفرس سهمين» ، رواه أحمد وأبو داود.
3372 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين» .
3373 - وعن خالد الحذاء قال: لا يختلف فيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم» رواهما الدارقطني.
3374 - ولا يعارض الأحاديث هذه حديث مجمع بن حارثة الأنصاري قال: «قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ثمانية عشر سهما، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما» . . . رواه أبو داود، لترجحها عليه بكثرة رواتها، وأعلميتهم، وأصحيتها، ولذلك قال أبو داود: حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أصح، قال: وأتى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فرس، وإنما كانوا مائتي فرس، ثم إن حديث مجمع يحتمل أنه أعطى الفارس(6/490)
سهمين لفرسه، والراجل سهما، أي صاحبه، توفيقا بين الكل.
قال: إلا أن تكون فرسه هجينا، فيكون له سهمان، له سهم، ولهجينه سهم.
ش: الهجين الذي أبوه عربي وأمه غير عربية، وعكسه يسمى المقرف، فإن كان أبواه غير عربيين فهو البرذون، وهذه الثلاثة حكمها واحد، ولهذا قال أبو محمد: أراد الخرقي بالهجين ما عدا العربي، واختلف في هذه (هل يسهم لها) وهو المذهب، كما يسهم لمن أبواه عربيان بالإجماع. ويسمى العتيق، لدخولها في قَوْله تَعَالَى: والخيل وفي مسمى الفرس، وقد قال الصحابة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفرس سهمين، (أو لا يسهم لها) لأنها لا تعمل عمل العراب، فأشبهت البغال، (أو إن أدركت) العراب أسهم لها مثل العربي، لأنها من الخيل، وقد عملت عمل العراب فأعطيت حكمها، وإن لم تدركها لم يسهم لها، لأنها كالبغال إذا؟ على ثلاث روايات، وحيث قلنا:(6/491)
يسهم لها. فهل يسهم لها كما يسهم للعربي سهمان، وهو اختيار الخلال، لما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفرس سهمين، وهذه من الأفراس، أو لا يسهم لها إلا سهم، وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل، وأبي محمد.
3375 - لما «روى مكحول أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفرس العربي سهمين، وأعطى الهجين سهما» ، رواه سعيد، وأبو داود في المراسيل، وروي موصولا عن مكحول، عن زياد بن حارثة، عن حبيب بن سلمة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عبد الحق: والمرسل أصح. ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أفضل، فيكون سهمه أرجح، وقول الصحابي: أسهم للفرس سهمين. حكاية واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل أنه لم يكن في تلك الخيل غير عربي، وهو الظاهر، لقلتها عند العرب؟ على روايتين.
قال: ولا يسهم لأكثر من فرسين.
ش: يعني أن الرجل إذا كان معه أفراس، أسهم لفرسين منها فقط، لأن به إلى الثاني حاجة، لاحتمال موت الواحد، وضعفه بإدامة ركوبه.
3376 - وقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى(6/492)
أبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يسهم للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبهما سهم، فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهو جنائب.
3377 - وعن الأوزاعي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، وإن كان معه عشرة أفراس» . . . رواهما سعيد في سننه.
قال: ومن غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان.
ش: (هل يسهم) للبعير مطلقا، وهو منصوص أحمد في رواية مهنا، واختيار القاضي، وجمهور أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل. وحكاه في الهداية عن الأصحاب، لقول الله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ولأنه حيوان يسابق عليه بعوض، فجاز أن يسهم له كالخيل (أو لا يسهم له) وهو اختيار أبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد في المغني، وأورده في المقنع، وكذا أبو البركات مذهبا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه(6/493)
أنه أسهم لغير الخيل، مع أنه لم تخل غزوة من غزواته من الإبل، ولو أسهم لها لنقل، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر عليه، فلم يسهم له كالبغل والحمار، (أو إن قدر) على غيره لم يسهم له، وإلا أسهم له لمكان العذر، وهو منصوص أحمد في رواية الميموني، واختيار الخرقي، وابن البنا، على ثلاثة أقوال، وحيث أسهم له فهل يسهم له سهم واحد، وهو قول العامة، لأنه لا يساوي الخيل قطعا، فاقتضى أن ينقص عنها، أو حكمه حكم الهجين، وهو مقتضى قول أبي محمد في المغني، وقول القاضي في الأحكام السلطانية؟ على قولين، وشرط أبو محمد في استحقاق السهم له أن يشهد الوقعة عليه، ويمكن القتال عليه، قال: فأما الإبل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا يستحق راكبها شيئا، لأنه أدنى حالا من الراجل.
(تنبيه) : ما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة لا يسهم لها على المذهب المعروف، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه لم ينقل عنهم أنهم أسهموا لشيء من ذلك، وجعل القاضي في الأحكام السلطانية حكم الفيل حكم البعير، وهو حسن.
قال: ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في قسمه.(6/494)
ش: لأنه والحال هذه ملك الحاضرون الوقعة الغنيمة واستحقوها، فالميت بعد ذلك مات عن حق، فيكون لورثته، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مات عن حق فلورثته» . ومفهوم كلام الخرقي أنه لو مات قبل ذلك لا حق له، وهو كذلك، لعدم الملك. وهذا هو مناط المسألة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
قال: ويعطى الراجل سهما.
ش: هذا اتفاق والله أعلم، وقد استفاضت الأحاديث بذلك.
[الرضخ للعبد والمرأة في الجهاد]
قال: ويرضخ للمرأة والعبد.
ش: الرضخ قال الجوهري: العطاء ليس بالكثير، والمراد هنا إعطاء شيء دون السهم من غير تقدير.
3378 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلا يضرب لهن» .
3379 - وعنه أيضا أنه كتب إلى نجدة الحروري: سألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس؟ وإنه لم يكن لهما سهم معلوم، إلا أن يأخذا من غنائم القوم، رواهما(6/495)
أحمد ومسلم.
3380 - وعنه أيضا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي المرأة والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش» . . . رواه أحمد.
3381 - وما روي عن الأوزاعي قال: «أسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصبيان بخيبر» ، رواه الترمذي.
3382 - وكذلك قول بعض الصحابيات - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -: أسهم لنا في خيبر، كما أسهم للرجال. رواه أحمد وأبو داود(6/496)
محمولان إن صحا على الإرضاخ، وقولها: كما أسهم للرجال، أي أعطانا كما أعطى الرجال، فالتشبيه في الإعطاء، لا في القدر، وحكم الصبي المميز حكم العبد، يرضخ له كما يرضخ له، لتساويهما معنى، وهو كونهما ليسا من أهل القتال، فتساويا حكما.
3383 - وعن سعيد بن المسيب قال: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة؛ والمدبر، والمكاتب، والمعلق عتقه بصفة كالقن، لأنهم عبيد، أما المعتق بعضه فقال أبو بكر: يرضخ له بقدر ما فيه من الرق، ويسهم له بقدر الحرية، لأن ذلك مما يتبعض، فأشبه الميراث. وظاهر كلام أحمد - على ما قال أبو محمد - أنه يرضخ له فقط، لعدم وجوب القتال عليه، ومن ثم قلنا في الخنثى المشكل أنه يرضخ له، ولأبي محمد احتمال أنه يعطى نصف سهم، ونصف رضخ كالميراث، قال: فإن انكشف حاله فتبين أنه رجل أعطي تمام السهم، لأنا تبينا أنه أخذ دون حقه.
[إعطاء الكافر من الغنيمة إذا قاتل مع المسلمين]
قال: ويسهم للكافر إذا غزا معنا.
ش: هذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي، والخلال وصاحبه والقاضي، وجماعة من أصحابه الشريف، والشيرازي وابن عقيل وغيرهم.
3384 - لما روى الزهري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لقوم من اليهود(6/497)
قاتلوا معه.» رواه الترمذي وأبو داود في المراسيل، ولفظه: استعان بناس من اليهود فأسهم لهم، ولأن الكفر نقص في الدين، فلم يمنع السهم كالفسق، (والثانية) لا يسهم له، بل يرضخ له، لأنه من غير أهل الجهاد، فأشبه المرأة والعبد، وقد يمنع من هذا لمخاطبته بالفروع على الصحيح. وقول الخرقي: غزا معنا. لم يشترط أن يكون بإذن الإمام، وشرط ذلك الشيخان، وأبو الخطاب، لأنه غير مأمون، فأشبه المخذل، وكون المشهور أنه يسهم له، مع أن المشهور فيما أظن أنه لا يستعان به، قد يتناقض.
قال: وإذا غزا العبد على فرس لسيده، قسم للفرس وكان للسيد، ويرضخ للعبد.(6/498)
ش: أما الرضخ للعبد فلما تقدم، وأما القسم للفرس فلأنه فرس حضر الوقعة، وقوتل عليه، فاستحق السهم، كما لو كان السيد راكبه، وفارق فرس الصبي ونحوه حيث لا يستحق السهم، لأن الفرس له، فإذا لم يستحق السهم لنفسه فلفرسه أولى، والعبد الفرس لغيره، وكأن الخرقي أشار إلى هذا التعليل بقوله: وكان للسيد، وإلا فالرضخ الذي يدفع للعبد هو للسيد.
قال: وإذا أحرزت الغنيمة لم يكن فيها لمن جاءهم مددا أو هربا من أسر حظ.
ش: هذا يعتمد أصلا، وهو أن الغنيمة تملك بالإحراز على ظاهر كلام الخرقي، لأن به يحصل تمام الاستيلاء، فعلى هذا إذا جاء مدد بعد ذلك، أو انفلت أسير فلا شيء له، لأنه حصل بعد ملك الغنيمة. وإن وجد قبل ذلك شاركهم (وعن القاضي) أن الغنيمة تملك بانقضاء الحرب، وإن لم تحرز، وهو الذي اعتمده أبو البركات في محرره، لأنها إذا حصل الاستيلاء عليها، فملكت كسائر المباحات، فعلى هذا إذا جاء المدد أو الأسير بعد انقضاء الحرب فلا شيء له وإن لم تحرز الغنيمة.
3385 - وقد روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة(6/499)
قبل نجد، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف، قال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة فقلت: لا تقسم لهم يا رسول الله. فقال أبان: وأنت بهذا يا وبر متحدر من رأس ضأن. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجلس يا أبان» ولم يقسم لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - رواه أبو داود، والبخاري تعليقا، وهذا ظاهره أنه بعد الإحراز.
3386 - وما «جاء عن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمنا فوافقنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين افتتح خيبر، فأسهم لنا؛ أو قال: أعطانا منها شيئا؛ وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم» . محمول على أنهم(6/500)
قدموا وقت الفتح، قبل الإحراز، أو أن هذا كان خاصا بهم.
[إعطاء الطليعة والجاسوس والرسول من الغنيمة]
قال: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الوقعة أسهم له.
ش: وذلك كالطليعة والجاسوس والرسول.
3387 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام - يعني يوم بدر - فقال: «إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، وأنا أبايع له» فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهم، ولم يضرب لأحد غاب غيره» ، رواه أبو داود.
3388 - وعنه أيضا قال: أما «تغيب عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت مريضة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لك أجر رجل وسهمه» رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه، ولأنه في مصلحتهم، فأشبه السرية مع الجيش.
[التفريق بين الوالد وولده والوالدة وولدها في السبي]
قال: وإذا سبوا لم يفرق بين الوالد وولده، ولا بين الوالدة وولدها.
ش: يعني لا يفرق بينهم في القسم.(6/501)
3389 - أما بين الوالدة وولدها فلما روي عن أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» رواه أحمد والترمذي.
3390 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فرق بين والدة وولدها، فنهاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، ورد البيع» . رواه أبو داود، مع أن هذا إجماع فيها مع ولدها الطفل، وأما بين الوالد وولده فلأنه أحد الأبوين فأشبه الأم، ولما سيأتي في الأخوين، وإذا منع التفريق بين الأخوين فبين الأب وولده أولى، والله أعلم.
قال: والجد في ذلك كالأب، والجدة كالأم.
ش: لأنه إذا منع التفريق بين الأخوين فبين الجد وابن ابنه والجدة وابن ابنها أولى، ويقال من الأعز من الولد وولد الولد، ولأنهما يقومان مقام الأبوين في الحضانة، والميراث، والنفقة، فكذلك في تحريم التفريق، ولا فرق بين الجد والجدة من قبل الأب والأم، ولا بين الجد الأعلى والأدنى، لأن للجميع ولاية.(6/502)
قال: ولا يفرق بين أخوين ولا أختين.
3391 - ش: لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما وفرقت بينهما، فذكرت ذلك له فقال: «أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعا» رواه أحمد. وفي «رواية: وهبني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما فعل غلامك» ؟ فأخبرته، فقال: «رده» » رواه الترمذي وابن ماجه. وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز التفريق بين سائر الأقارب عدا من تقدم، وهو الذي نصبه أبو محمد في المغني للخلاف، إذ الأصل حل البيع، خرج منه من تقدم، فمن عداه يبقى على مقتضى الأصل، وقال عامة الأصحاب - وتبعهم أبو محمد في كتابه الصغير -: لا يفرق بين كل ذي رحم محرم، قياسا على الإخوة، ولا نزاع في جواز التفريق بين سائر الأقارب عدا ذي الرحم المحرم، كما يجوز التفريق بين الأم وابنتها من الرضاع، لعدم النص في ذلك، وامتناع القياس على(6/503)
المنصوص لقوته، وحيث منع التفريق (فهل ذلك مطلقا) وإن حصل البلوغ. وهو ظاهر إطلاق الخرقي، وإطلاق الأحاديث السابقة (أو يجوز) ذلك بعد البلوغ.
3391 - م - لما روى «سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمره علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغزونا فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعرسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فشنينا الغارة، فقتلنا على الماء من قتلنا، قال: فنظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل، وأنا أعدو في أثرهم، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل، قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، وفيهم امرأة من فزارة، عليها قشع من أدم، ومعها ابنة لها من أحسن العرب، قال: فنفلني أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبا، قال: فلقيني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السوق، فقال: «يا سلمة هب لي المرأة» فقلت: يا رسول الله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبا، فسكت وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة، لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله، قال: فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين، ففداهم بتلك المرأة» ، رواه أحمد ومسلم وأبو داود.(6/504)
(تنبيه) : والتفريق الممنوع منه التفريق في الملك، سواء كان ذلك بالبيع أو بالهبة، أو بغير ذلك إلا في العتق، وافتداء الأسرى، وكذلك إذا اشترى أمة فحملت عنده وولدت، ثم اطلع على عيب فأراد رد الأم وإمساك الولد، قاله جماعة من الأصحاب، وخالفهم الشيخان وهو الصواب، فقالا: يتعين هنا الأرش لتعذر التفرقة.
قال: ومن اشترى منهم وهم مجتمعون، فتبين أن لا نسب بينهم رد إلى المقسم الفضل الذي فيه بالتفريق.
ش: إذا اشترى إنسان من لا يجوز التفريق بينهم، أو حصلوا في سهمه، ثم تبين أن لا نسب بينهم، رد الفضل الذي فيهم على المغنم، أو على الذي اشترى منه، لأن قيمتهم تزيد بذلك وتنقص، لكونهما نسيبين، وصار هذا كما لو اشترى شيئا فبان معيبا، فإنه يرجع بالأرش، كذلك هنا، يرجع عليه بالزيادة (واعلم) أن الخرقي لم يذكر إلا أنه يرد الفضل، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني والكافي، والقياس أنه يخير بين الرد أو رد الفضل، والله أعلم.
قال: ومن سبي من أطفالهم منفردا، أو مع أحد أبويه فهو مسلم، ومن سبي مع أبويه كان على دينهما.
ش: من سبي من أطفال الكفار منفردا عن أبويه حكم بإسلامه إجماعا، لانقطاع تبعيته عنهما الذي صار بها كافرا،(6/505)
وإن سبي معهما فهو باق على دينهما في قول العامة، لبقاء التبعية.
3392 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث وقد تقدم، فهنا الأبوان باقيان، فهو باق على كفره، وفي التي قبلها قد عدما، فيصير على أصل الفطرة، وإن سبي مع أحدهما (فهل يحكم) بإسلامه، لانقطاع تبعيته عن مجموع الأبوين، إذ تبعيته لهما معلقة بوجودهما، وتغليبا للسابي والدار، وهو الذي قطع به أبو محمد، (أو لا يحكم) بإسلامه، لأنه قد ثبتت له التبعية، فلا تنقطع إلا بانعدامهما؟ على روايتين. (تنبيه) المميز كالطفل على المنصوص، وقيل بل كالبالغ، فلا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه.
[حكم ما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم فأدركه صاحبه قبل القسمة]
قال: وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم، فأدركه صاحبه قبل القسمة فهو أحق به.
3393 - ش: لما روى نافع أن عبدا لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أبق فلحق بالروم، فظهر عليه خالد فرده إلى عبد الله وأن فرسا لعبد الله غار فظهروا عليه، فرده إلى عبد الله؛ رواه البخاري وأبو داود. قال البخاري: وقال في رواية في الفرس: على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأبي داود في العبد(6/506)
في رواية قال: فرده عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقسم.
3394 - ولحديث العضباء ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3395 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له» رواه الدارقطني، ولكنه ضعيف.
3396 - وعن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: فيما أحرز المشركون من المسلمين، ثم(6/507)
ظهر المسلمون عليهم بعد؟ قال: ومن وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم، رواه سعيد.
قال: فإن أدركه مقسوما فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى إذا قسم فلا حق له فيه بحال.
ش: (الرواية الأولى) نص عليها في رواية إسحاق بن إبراهيم، جمعا بين الحقين، إذ حق مالكه تعلق به قبل القسمة، فلما قسم أو بيع، إن قيل: إنه يأخذه بغير شيء. أفضى إلى ضياع حق الآخذ له، وإن قلنا: لا يأخذه أصلا أفضى إلى ضياع حقه، فقلنا: يرجع فيه، ويغرم القيمة أو الثمن جميعا، إعمالا للحقين ما أمكن.
3397 - ويروى «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلا وجد بعيرا له في المغنم، وقد كان المشركون أصابوه قبل ذلك، فسأل عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن وجدته قبل أن يقسم فهو لك، وإن وجدته قد قسم أخذته بالثمن إن شئت» ذكره ابن حزم أو ابن عدي، لكنه من رواية الحسن بن عمارة وهو متروك، وروي أيضا من حديث مسلمة بن علي، وإسماعيل بن عياش وهما ضعيفان.(6/508)
(والرواية الثانية) رواها عنه جماعة، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3398 - وعنه أيضا أنه كتب إلى السائب: أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه أو متاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل إليه.
3399 - وعن سلمان بن ربيعة: إذا قسم فلا حق له فيه. رواهما سعيد. ولأن الأصل أن صاحبه لا يرجع فيه بحال، لأنه مال انتقل إلى المسلمين من أموال الكفار، فكان غنيمة كبقية أموالهم، خرج منه ما قبل القسمة لقضية النص، ولعدم تعلق حق معين به، فما عداه يبقى على مقتضى الأصل.(6/509)
وقول الخرقي: أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم، يحتمل أنه يريد إذا اشتراه مشتر من المغنم بثمن، فصاحبه أحق به بذلك الثمن، ويحتمل أن يريد إذا حسب عليه بثمن، أي بقيمة فصاحبه أحق به بذلك، والأول أظهر في كلامه، وبالجملة الخلاف في كلتي الصورتين، وأبو البركات يحكي رواية ثالثة: أن في المقسوم لا حق له، وفي المشترى يأخذه بالثمن، وقال: إنه المشهور عن الإمام. واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي يستدعي أصلا، وهو أن الكفار يملكون أموال المسلمين في الجملة، وإلا إذا لم يملكوها فلا فرق بين قبل القسم وبعده، وهذا هو المشهور، وعليه تجري عامة نصوص الإمام، واختار أبو الخطاب في تعليقه أنهم لا يملكونها، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد، وتوجيه القولين، والتفريع عليهما له محل آخر، ومن المتأخرين من قال: إن الخلاف في الملك مبني على الخلاف في تكليف الكفار بالفروع، وليس بجيد، فإنه لا ريب أن المشهور ثم تكليفهم بها، والمشهور الحكم بملكهم هنا، ثم إنه لا نزاع أن الحربي لا يجري عليه حكم الإسلام في زناه وسرقته وقتله ونحو ذلك، إنما فائدة ذلك العقاب في الآخرة، وإذا قلنا يملكونها فهل ذلك بمجرد القهر والغلبة، أو لا بد مع ذلك من الحوز إلى ديارهم، وهو اختيار القاضي في روايتيه؟ فيه روايتان.(6/510)
قال: ومن قطع من مواتهم حجرا أو عودا، أو صاد حوتا أو ظبيا، رده على سائر الجيش إذا استغنى عن أكله والمنفعة به.
ش: ملخصه أن من أصاب من مباح دار الحرب شيئا له قيمة فهو غنيمة.
3400 - لما «روي عن أبي الجويرية قال: أصبت جرة حمراء فيها دنانير، في إمارة معاوية، في أرض الروم، قال: وعلينا رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني سليم، يقال له معن بن يزيد، فأتيته بها فقسمها بين المسلمين، وأعطاني مثل ما أعطى رجلا منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نفل إلا بعد الخمس» لأعطيتك.
قال: ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت» . رواه أحمد وأبو داود، ولأنه أخذ بقوة المسلمين، فكان غنيمة كالمأخوذ منهم، وإن كان المأخوذ لا قيمة له، كالأقلام والأحجار فهو لآخذه، وإن صار له قيمة بعد ذلك بنقله ومعالجته، نص عليه أحمد، وقاله الشيخان اعتبارا بحاله الراهنة، وهذا يدخل في كلام الخرقي، وشرط الرد في المغنم أن يستغني عن أكله(6/511)
والمنفعة به، لأنه لو وجد طعاما مملوكا لهم كان له أكله إذا احتاج إليه، فالمباح أولى.
قال: ومن تعلف فضلا عما يحتاج إليه رده على المسلمين.
ش: إذا تعلف الإنسان من دار الحرب علفا، فله أن يعلف دابته بغير إذن.
3401 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه، رواه البخاري.
3402 - «وعنه أيضا أن جيشا غنموا في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاما وعسلا، فلم يؤخذ منه الخمس» . رواه أبو داود.
3403 - «وعن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم من هذا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبتسما» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وحكم علف دوابنا حكم طعامنا، بجامع(6/512)
أن الحاجة قد تدعو إليهما، إذ الحمل فيه مشقة، وكذلك الشراء من دار الحرب، فاقتضت الحكمة إباحة ذلك توسعة على الناس، ورفعا للحرج والمشقة، ومن ثم إذا كان معه فهد أو كلب لم يكن له إطعامه، لأن هذا يراد للتفريج، فلا حاجة إليه في الغزو، فإن تعلف فضلا عما يحتاج إليه رد الفاضل، لأن المقتضي للجواز في الأصل
الحاجة
، فإذا انتفت انتفى الجواز، وإذا يرد الفاضل على المسلمين، إما في المغنم وإما لبعض الجيش، فيصير ذلك كالواجد له ابتداء، وحكم الطعام حكم العلف إذا أخذ طعاما له أن يأكل منه، والأحاديث إنما وردت فيه، فإن أخذ أكثر مما يحتاج إليه رد الفاضل.
3404 - وقد روى ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق. رواه أبو داود. (تنبيهان) : «أحدهما» الاحتياج هنا أن يكون به حاجة إلى مثله في الجملة، وإن كان مما يمكنه أن يستغني، فلو أصاب طعاما أو علفا وعنده مثل ذلك، كان له أكله، وعلف دوابه، وإمساك ما عنده، هذا مقتضى كلام أبي محمد، وهو حسن، ونظير الحاجة هنا نظير الحاجة إلى الضبة كما تقدم. (الثاني) قد تقدم للخرقي وغيره من الأصحاب(6/513)
أنه لا يجوز التعلف إلا بإذن الأمير. وقالوا هنا: من أخذ علفا له أن يعلف دوابه منه بغير إذن، وهذا يشمل ما إذا تعلف بإذن وبغير إذن، وأبلغ من هذا أن في كلام أبي محمد ما يقتضي أن له ذلك وإن نهاه الإمام، قال: إذا دخل الغزاة دار الحرب فلهم أن يأكلوا ما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم.
3405 - وقال الزهري: لا يؤخذ إلا بإذن الإمام، وقال سليمان بن موسى: لا يتركه إلا أن ينهى عنه الإمام، وهذا يقتضي أنه ينتفع بذلك وإن نهى عنه الإمام، لا يقال تحمل هذه المسألة على ما إذا وجد علفا، وثم على ما إذا تعلف، أي خرج لطلب العلف، لأن الخرقي قال هنا: تعلف كما قال ثم.
قال: فإن باعه رد ثمنه في المقسم.
ش: أي إذا باع شيئا من العلف رد ثمنه في المغنم، كذا قال الشيخان وغيرهما.
3406 - لما روى سعيد في سننه أن صاحب جيش الشام كتب إلى(6/514)
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا أصبنا أرضا كثيرة الطعام والعلف، وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك، فكتب إليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دع الناس يعلفون ويأكلون، فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله، وسهام المسلمين. ولأن له فيه حقا فصح بيعه، كما إذا تحجر مواتا، وفرق القاضي، وتبعه أبو محمد في الكافي، فقال: إن باعه لغير غاز فالبيع باطل، لأنه باع مال الغنيمة بغير إذن، وإذا يرد المبيع إن كان باقيا، أو قيمته أو ثمنه إن كان أكثر - إن كان تالفا، وإن باعه لغاز فلا يخلو إما أن يبيعه بطعام أو علف مما له الانتفاع به، أو بغير لك. (فالأول) ليس بيعا في الحقيقة، إنما دفع إليه مباحا، وأخذ مثله، فلكل منهما الانتفاع بما صار إليه، ويصير أحق به لثبوت يده عليه، ويتفرع على هذا أنه لو باع صاعا بصاعين، أو افترقا قبل القبض جاز إذ لا بيع، وإن أقرضه إياه فقبضه فهو أحق به، ولا يلزمه إيفاؤه، فإن وفاه أو رده إليه عادت يده كما كانت، (والثاني) لا يصح البيع أيضا، ويصير المشتري أحق به، استنادا لليد، ولا ثمن عليه، حتى لو أخذ منه رد إليه.(6/515)
[مشاركة الجيش وسراياه في الغنيمة]
قال: ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم.
ش: يعني أن الجيش إذا دخل دار الحرب، فخرجت منه سرية أو أكثر، فإذا غنم الجيش شاركته السرية، وإن غنمت السرية شاركها الجيش، بعد أن يدفع إليها نفلها كما تقدم.
3407 - لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، ويرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم» » رواه أبو داود، وقال أحمد في رواية أبي طالب قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السرية ترد على العسكر، والعسكر يرد على السرية» .
قال: ومن فضل معه من الطعام، فأدخله البلد، طرحه في مقسم تلك الغنيمة، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى: مباح له أكله إذا كان يسيرا.(6/516)
ش: الرواية الأولى نص عليها في رواية ابن إبراهيم، واختارها الخلال وصاحبه والقاضي وأبو الخطاب في خلافيهما، للاستغناء عنه، وإذا يزول المقتضي للإمساك. (والثانية) نص عليها في رواية أبي طالب في الطبخة والطبختين من اللحم، والعليقة والعليقتين من الشعير، يدخله طرسوس، لا بأس به، لأن اليسير مما تجري المسامحة فيه.
3408 - وقد قال الأوزاعي: أدركت الناس يقدمون بالقديد، فيهديه بعضهم إلى بعض، لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة.
3409 - وعن القاسم مولى عبد الرحمن، عن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملوءة. رواه أبو داود، وهذه واقعة عين، لأنه يحمل إلى رحالهم وهم مسافرون، ولا نزاع في وجوب رد الكثير، إذ المسامحة لم(6/517)
تجربه، بخلاف الكثير، ولأن المبيح الحاجة، وفي الكثير قد بينا أن لا حاجة به إليه.
قال: وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو، لزم الأسير أن يؤدي إليه ما اشتراه به.
ش: لأن الأسير يجب عليه فداء نفسه، ليخرج من حكم الكفار، فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه، كما لو قضى الحاكم عنه حقا امتنع من أدائه.
3410 - وقد روى سعيد في سننه بسنده عن الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب، فأصابوا سبايا من سبايا العرب، فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم، قد اشتراه التجار من أهل ماه، فكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل إليه، وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رءوس أموالهم، فإن الحر لا يباع ولا يشترى؛ ولم يفرق الخرقي بين أن يكون ذلك بإذن الأمير(6/518)
أو بغير إذنه، وصرح به غيره، ولم يجروا فيه رواية الضمان. وقول الخرقي: إذا اشترى المسلم، خرج مخرج الغالب، وإلا لو اشترى الأسير ذمي كان الحكم كذلك.
قال: وإذا سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية، ثم قدر عليهم ردوا إلى ما كانوا عليه ولم يسترقوا.
ش: أهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا، ثم قدر عليهم وجب ردهم إلى ذمتهم، فلا يجوز استرقاقهم، لبقاء ذمتهم، وانتفاء ما يوجب نقضها، وهذا - والله أعلم - اتفاق.
قال: وما أخذه العدو منهم من رقيق أو مال رد إليهم إذا علم به قبل أن يقسم.
ش: يعني أن حكم أموالهم حكم أموال المسلمين، على ما تقدم شرحه.
3411 - قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا، فيدفع إليه قبل القسمة(6/519)
وفيما بعدها على الخلاف.
قال: ويفادى بهم بعد أن يفادى بالمسلمين.
ش: ظاهر كلام الخرقي أنه يجب فداؤهم وإن لم يكونوا في معونتنا، وتبعه على ذلك أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المغني، لأنا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم، فلزمنا القتال دونهم، فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم، لزمنا ذلك كالمسلمين، والمنصوص عن أحمد، واختيار القاضي أنه إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام، لأن أسرهم إذا كان لمعنى من جهته، وحيث وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم، إذ حرمة المسلمين أعظم، وهو بصدد أن يفتن عن دينه الحق، بخلاف الذمي، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجب فداء المسلم، وهو كذلك.
3412 - «وقد فادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -.
3413 - وفي الحديث: «أطعموا الجائع، وعودوا المرضى، وفكوا العاني» أي الأسير.
[حكم الأكل من الغنيمة]
قال: وإذا حاز الأمير المغانم، ووكل بها من يحفظها، لم يجز أن يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون.
ش: هذا تقييد للمسألة السابقة، وهو أن من أخذ من دار الحرب طعاما أو علفا، فله أكله وعلف دابته منه بغير(6/520)
إذن، بشرط أن لا يحوز الإمام المغانم، أما إذا حازها ووكل بها من يحفظها، فإنه لا يجوز لأحد أخذ شيء منه إلا لضرورة على المنصوص، واختيار أبي محمد، لأنها قبل ذلك بمنزلة المباحات، فإذا فعل فيها ذلك قوي ملك المسلمين فيها، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب ودار الإسلام، وجوز القاضي في المجرد الأكل منها في دار الحرب مطلقا لأن دار الحرب مظنة الحاجة، بخلاف دار الإسلام.
قال: ومن اشترى من المغنم في بلاد الروم، فتغلب عليه العدو، لم يكن عليه شيء، وإن كان قد أخذ منه الثمن رد إليه.
ش: إذا باع الإمام بعض الغنيمة لمصلحة قبل قسمها، أو قسمها فباع بعضهم بعضا وتقابضا، ثم غلب العدو على المشتري فأخذه، فهل هو (من ضمان البائع) وهو اختيار الخرقي، لعدم كمال القبض، إذ الغنيمة في دار الحرب على خطر من العدو، لتشوف أنفسهم إليها، فأشبهت التمر المبيع على رؤوس النخل إذا تلف قبل الجذاذ.
أو (من ضمان المشتري) وهو المشهور عن أحمد، واختيار الخلال وصاحبه، والقاضي، لأنه مال مقبوض، أبيح لمشتريه التصرف فيه، فكان ضمانه عليه، كما لو أحرز إلى دار الإسلام، ولأن نماءه للمشتري، فكان ضمانه عليه، لقوله(6/521)
- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان؟» . على روايتين، وقيد أبو محمد الخلاف بما إذا لم يحصل تفريط من المشتري، أما إن حصل منه تفريط، كأن خرج بما اشتراه من العسكر ونحو ذلك، فإن ضمانه عليه بلا خلاف. ثم إن الخرقي إنما ذكر ذلك فيما اشتري من المغنم، وكذلك الشيخان وأبو الخطاب، ونصوص أحمد أيضا إنما وردت في ذلك، فعلى هذا ما اشتري من غير الغنيمة يكون ضمانه على المشتري بلا نزاع، والقاضي ترجم المسألة في روايتيه فيما إذا تبايع نفسان في دار الحرب وتقابضا، ثم غلب المشركون على المبيع فأخذوه.
وعلل رواية أن الضمان على البائع بأنه إذا كانت حال خوف فالقبض غير حاصل، بدليل ما لو ابتاع شيئا في دار الإسلام، وسلمه في موضع فيه قطاع الطريق، لم يكن ذلك قبضا صحيحا، ويتلف من ضمان البائع، كذلك هنا، وهذه الترجمة والتعليل يشمل الغنيمة وغيرها.
وهنا شيء آخر وهو أن القاضي والشيخين إنما حكوا الخلاف بعد القبض، ومقتضى هذا أن قبل القبض(6/522)
يكون ذلك من ضمان البائع. رواية واحدة. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض للقبض، فقد يقال: إن كلامه محمول على ما قبل القبض، والذي أخذ منه القاضي في روايتيه مذهب الخرقي، وهو رواية أبي طالب، ظاهرها كذلك، فإنه قال: إذا اشتروا الغنيمة في أرض العدو، ثم غلبوا عليها، لا يؤخذ منهم الثمن، لأنه لم يسلم لهم ما اشتروه، وعلى هذا يرتفع الخلاف، ويكون قبل القبض من مال البائع، وبعده من مال المشتري.
وأبو الخطاب ترجم المسألة بما إذا وقع بعد لزوم البيع، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجوز قسم الغنيمة وتبايعها في دار الحرب، وهو كذلك.
[تحريق العدو بالنار وقطع الشجر وقتل الدواب في الجهاد]
قال: وإذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار.
ش: أي لا يرموا بالنار ونحو ذلك، (وهو إحدى الروايتين) ، وبها قطع أبو محمد في المغني.
3414 - لما روى «أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعث فقال: «إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش - فأحرقوهما بالنار» . ثم قال حين أردنا الخروج: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما» » . رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي وصححه.
3415 - وفي الصحيح أيضا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يعذب بالنار إلا رب(6/523)
النار» . ويستثنى من ذلك إذا لم يقدر عليهم إلا بذلك، ارتكابا لأدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، ولهذا جاز رمي المسلم المتترس به إذا خيف على المسلمين، وكذلك إذا كانوا يفعلون ذلك بنا نفعل بهم، لينتهوا عن ذلك، ولعموم: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، ونحو ذلك.
3416 - وعلى هذا يحمل ما روي عن أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قرية يقال لها أبنى فقال: «أيتها صباحا ثم حرق» . رواه أحمد وأبو داود،(6/524)
ويحمل ذلك على أنه كان قبل النهي عن التحريق.
(والرواية الثانية) : يجوز رميهم بالنار، لحديث أسامة.
3417 - ولما روى سعيد بإسناده عن صفوان بن عمرو وحريز بن عثمان، أن جنادة بن أبي أمية الأزدي، وعبد الله بن قيس الفزاري، وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم، كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار، ويحرقونهم هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء. قال عبد الله بن قيس: ولم يزل أمراء المسلمين على ذلك. ويحمل ما تقدم على ما إذا صاروا في قبضتنا، فإنه لا نزاع أنهم لا يحرقون، ويستثنى من ذلك على هذه الرواية ما إذا كان تحريقهم يضر بالمسلمين، فإنه لا يفعل بلا ريب.
قال: ولم يغرقوا النخل.
3418 - ش: لما روي عن يحيى بن سعيد، أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث جيوشا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع، فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتلوا امرأة، ولا(6/525)
صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تغرقن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلا، ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا تجبن. رواه مالك في الموطأ.
3419 - وروي عن مكحول قال: «أوصى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم قال: «إذا غزوت - فذكر أشياء قال: - ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تؤذين مؤمنا» » .
3420 - وعن القاسم مولى عبد الرحمن، قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر نحوه: - «ولا تحرقن نخيلا ولا تغرقها، ولا تقطع شجرة ثمر، ولا تقتلن بهيمة ليست لك بها حاجة، واتق أذى المؤمن» . رواهما أبو داود في المراسيل.
3421 - ولعموم نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النحل، وقتل شيء(6/526)
من الحيوان صبرا، وحكم تغريقه حكم قتله.
قال: ولا تعقر شاة ولا دابة إلا لأكل لا بد لهم منه.
ش: أما عقر ذلك وإتلافه لغير الأكل فلا يخلو إما أن يكون في الحرب، أو في غيرها، فإن كان في الحرب فإنه يجوز بلا خلاف، قاله أبو محمد، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم، وهو المراد كيف ما أمكن. ولهذا جاز قتل نسائهم وصبيانهم في البيات، بخلاف ما إذا قدر عليهم منفردين، وقد تقدم حديث المددي الذي عقر فرس الرومي، وإن كان في غير حال الحرب لم يجز، لما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل الحيوان صبرا، واختار أبو محمد جواز ذلك إن كان مما يستعين به الكفار في القتال، كالخيل، بشرط أن يعجز المسلمون عن سياقته وأخذه، لأنه(6/527)
يحرم إيصال ذلك إلى الكفار بالبيع ونحوه، فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم، ومال أبو العباس إلى الجواز على سبيل المقابلة، كما سيأتي في الزرع، وأما العقر للأكل فإن لم يكن بد من ذلك فيباح بلا خلاف. إذ ذلك يبيح مال المعصوم، فالكافر أولى، وإن لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك فإن كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام، وسائر الطيور، فهذا كالطعام في قول الجميع، قاله أبو محمد، وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل، لم يبح ذبحه للأكل في قولهم جميعا، قاله أبو محمد أيضا. وإن كان قد تقدم أنه هو يبيح عقر هذا لغير الأكل بشرطه فللأكل أولى، وإن كان غير ذلك كالبقر والغنم ونحوهما لم يبح في قول الخرقي وغيره.
3422 - لما «روي عن رجل من الأنصار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي، إذ جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: «إن النهبة ليست بأحل من الميتة، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة» . رواه أبو داود.
وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد إباحة ذلك، وهو اختيار أبي محمد، لظاهر ما تقدم(6/528)
عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقياسا لذلك على الطعام، وأبو البركات قال: لا يعقر إلا لأكل يحتاج إليه، فيحتمل أن يكون كقول الخرقي، ويحتمل أن يكون أعم، واستثنى أبو محمد من قول الخرقي أن يأذن الإمام في ذلك.
3423 - لما روى عطية بن قيس قال: كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنما نادى منادي الإمام: ألا من أراد أن يتناول شيئا من هذه الغنم فليتناول، إنا لا نستطيع سياقها. رواه سعيد.
قال: ولا يقطع شجرهم، ولا يحرق زرعهم إلا أن يكونوا يفعلون ذلك في بلدنا، فنفعل بهم ذلك لينتهوا.
ش: حرق الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام، (أحدها) : يجوز بلا خلاف على ما قال أبو محمد، وهو ما إذا كانوا يفعلون ذلك بنا فنفعل ذلك بهم لينتهوا، ولما تقدم، أو لا يقدر عليهم إلا بذلك، كالذي يقرب من حصونهم، ويمنع من قتالهم، أو يستترون به من المسلمين ونحو ذلك، قال أبو محمد: أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق، أو تمكن من قتال أو سد بثق أو إصلاح طريق، أو ستارة منجنيق، ونحو ذلك.(6/529)
(القسم الثاني) : ما يضر بالمسلمين قطعه، لكونهم ينتفعون ببقائه للعلف أو الاستظلال، أو أكل الثمرة، أو لكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا، فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا، فلا يجوز دفعا للضرر المنفي شرعا.
(القسم الثالث) : ما عدا هذين، وهو ما لا ضرر فيه ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم، فهذا فيه روايتان. (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي وأبي الخطاب -: لا يجوز، لما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحديث القاسم. (والثانية) - وهي أظهر -: يجوز، لما تقدم في حديث أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
3424 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] الآية» ، متفق عليه، ويحمل دليل الرواية الأولى على ما فيه نفع لنا، وقرينة ذلك قوله: شجر مثمر.(6/530)
[حكم الزواج في أرض العدو]
قال: ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، ولا يتزوج منهم.
ش: هذا تقييد لكلامه السابق، وهو أن حرائر أهل الكتاب حلال، وقد تقدم أن ظاهر كلامه الجواز، بناء على عدم القيد، وإذا ظاهر كلامه المنع في دار الحرب وإن اضطر، والجواز في دار الإسلام كما هو القول الثالث ثم.
والقاضي لما كان مختاره جواز نكاح الحربيات من أهل الكتاب، حمل كلام الخرقي على الكراهة التنزيهية، وأبو محمد حمل كلام الخرقي على من دخل إليهم بأمان، دون من كان في جيش المسلمين، فيباح له التزويج.
3425 - لما «روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسماء بنت عميس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهم تحت الرايات» . . رواه سعيد. وقال: إن ظاهر كلام أحمد في الأسير المنع.
وإذا هذا قول خامس: يمنع الأسير، ومن دخل بأمان، دون الداخل في الجيش.
وقال الخرقي: إنه إذا تزوج مسلمة يعزل عنها، لأن أحمد كما تقدم إنما منع من أجل الولد، خشية أن يستعبد، ويصير على دينهم.(6/531)
قال: ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم.
ش: هذا من نمط الذي قبله، لأنه إذا وطئ في الفرج لا يأمن أن تلد ويغلبوه على ولدها، فيسترقوه ويفتنوه عن الفطرة التي فطره الله عليها.
قال: ومن دخل في أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم.
ش: لأن إعطاءه الأمان مشروط بذلك عرفا، وإن لم يكن مذكورا لفظا، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضا للعهد، وإذا كان ذلك مشروطا لزم الوفاء به، إعمالا للشرط، وحذارا من الغدر، فعلى هذا إن خانهم أو سرق منهم، أو اقترض منهم، ونحو ذلك وجب عليه رد ذلك إلى أربابه.
وقوله: لم يخنهم في مالهم، يفهم منه بطريق التنبيه أنه لا يخونهم في أنفسهم.
[حكم المعاملة بالربا في أرض العدو]
قال: ولم يعاملهم بالربا.
ش: لأن ذلك نوع خيانة، ولأن عقد الأمان اقتضى أنه يجري معهم على حكم الإسلام، ومن حكم الإسلام تحريم الربا. ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يكن ثم أمان كان له أن يعاملهم بالربا، وهذا إحدى الروايتين. وبه قطع أبو البركات، نظرا إلى أن له أن يتحيل على أخذ أموالهم بكل وجه من الوجوه، إذ ليس ذلك بأسوأ حالا من السرقة ونحوها.
(والرواية الثانية) ، وبها قطع أبو محمد: لا يجوز، إعمالا لعموم آية تحريم الربا.(6/532)
قال: ومن كان لهم مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا وقتل رجالهم.
ش: لأن المقتضي لعدم حربهم العهد وقد زال.
قال: ولم تسب لهم ذرية، ولم يسترقوا إلا من ولد بعد نقضه.
ش: لأن العهد يشمل الرجال والذرية، والنقض إنما وجد من الرجال، فتختص إباحة الدم بهم، وتبقى عصمة ذريتهم.
3426 - قال الإمام أحمد: قالت امرأة علقمة بن علاثة لما ارتد: إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد، أما من حملت به أمه وولدته بعد النقض فإنه يجوز سبيه واسترقاقه بلا ريب، لعدم ثبوت الأمان له بحال، وكذلك من حملته قبل النقض ثم ولدته بعده، على ظاهر كلام الخرقي، وكلام أبي محمد، اعتبارا بالولادة، لأن بها ترتب الأحكام، وظاهر كلام أبي البركات أنه لا يجوز سبيه ولا استرقاقه، اعتبارا بحال انعقاده، وقد تقدم للخرقي مثل ذلك في موضعين فنبهنا عليهما، وحكم النساء حكم الذرية، ولا فرق في هذا(6/533)
بين أن يكون العهد الذي لهم بذمة أو بأمان، أما لو كان بهدنة فإن عهد ذريتهم ونسائهم ينتقض لنقضه فيهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبى ذراري بني قريظة حين نقضوا عهده.
قال: وإذا استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم، وأعطوا ما استؤجروا به.
ش: ظاهر هذا أنه يصح الاستئجار على الجهاد مطلقا، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وغيره، قال في قوم استأجرهم الأمير في دار الإسلام، على أن يغزو بهم، هل يسهم لهم مع سهام المسلمين؟ فقال: لهم الأجرة التي استؤجروا بها، وليس لهم في الغنيمة شيء، ولا يسهم لهم.
3427 - وذلك لما روي عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الذي يغزون من أمتي ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم، مثل أم موسى، ترضع ولدها وتأخذ أجرها» . رواه سعيد في سننه، ولأنه أمر لا(6/534)
يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، بدليل صحته من الكافر، فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد، (وعن أحمد) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه لا يصح الاستئجار عليه مطلقا، وهو اختيار القاضي في تعليقه، وحمل كلام أحمد والخرقي على الاستئجار لخدمة الجيش، كالاحتطاب ونحوه لا للقتال، وذلك لأنه قربة وطاعة، فلا يصح الاستئجار عليه، كالأذان وصلاة الجنازة، وتوسط القاضي في غير التعليق، وأبو محمد في المقنع، فصححه بمن لا يلزمه الجهاد، كالعبد والمرأة، بخلاف من يلزمه كالرجل الحر، لأنه يتعين عليه بحضوره، فلم يصح استئجاره عليه كالحج، ومقتضى اختيار أبي محمد وأبي البركات صحة الاستئجار وإن لزمه، إلا أن يتعين عليه فلا يصح.
وعليه حمل أبو محمد إطلاق الخرقي، وهو متعين، وحيث قلنا: لا يصح الاستئجار فإن وجود الإجارة كعدمها، فللأجير السهم كما لو لم يكن إجارة، وحيث قلنا بالصحة فهل يقسم للأجير؟ فيه روايتان، (إحداهما) وهي اختيار الخرقي، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع: لا يسهم له.
3428 - لما «روى يعلى ابن منية قال: أذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغزو وأنا شيخ كبير، ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني، وأجري له سهمه، فوجدت رجلا، فلما دنا الرحيل أتاني فقال: ما أدري ما السهمان، وما يبلغ سهمي؟ فسم لي(6/535)
شيئا، كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أمره، فقال: «ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سماها» . رواه أبو داود.
(والثانية) : وهي اختيار الخلال وصاحبه: يسهم له، لما تقدم من حديث جبير بن نفير، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة.
3429 - وفي مسلم وغيره في حديث طويل «أن سلمة بن الأكوع كان أجيرا لطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة، لما أغار على سرح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم الفارس والراجل» .
وقد حمل هذا على أجير يقصد مع الخدمة والجهاد، وحديث يعلى على من لم يقصد الجهاد أصلا، فعلى الرواية الأولى يعطى ما استؤجر به للجهاد، لأنه عوض على عمل وقد عمله(6/536)
فاستحق ما جعل له في مقابلته، وكذلك ينبغي على الثانية، غايته أنه حصل له مع العوض زيادة وهو السهم.
(تنبيه) : محل الخلاف فيمن استؤجر للجهاد، أما الغزاة الذين يدفع إليهم من الفيء فلهم السهم، لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا، لا أنه عوض عن الجهاد، وكذلك من يعطى من الصدقات، وكذلك لو دفع دافع إلى الغزاة ما يتقوون به كان له أجره ولم يكن عوضا.
3430 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جهز غازيا كان له مثل أجره» .
[حكم الغلول من الغنيمة]
قال: " ومن غل من الغنيمة حرق كل رحله، إلا المصحف وما فيه روح ".
ش: الغال: هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة، ولا يطلع عليه الإمام، وهو محرم بلا ريب.
3431 - «فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم خيبر أقبل(6/537)
نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد. حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة» . ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» » . رواه أحمد ومسلم.
3432 - وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان على ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل يقال له: كركرة، فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو في النار» ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها» ، رواه أحمد والبخاري.
3433 - وحكمه أنه يحرق رحله لما روي عن صالح بن محمد بن زائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد(6/538)
غل، فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه» . قال: فوجدت في متاعه مصحفا، فسألت سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه. رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
3434 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حرقوا متاع الغال» رواه أبو داود، وزاد في رواية تعليقا: ومنعوه سهمه، ويختص التحريق بالمتاع الذي غل وهو معه، فلو استحدث متاعا، أو رجع إلى بلده وله فيه متاع، أحرق ما معه حال الغلول فقط، وإن انتقل المتاع عنه بهبة أو بيع(6/539)
ونحوهما فهل ينقض ذلك ويحرق لتعلق التحريق به قبل ذلك، أو لا، لأنه صار إلى غيره، أشبه ما لو مات فصار إلى الورثة؟ فيه احتمالان، (ويستثنى) من المتاع الذي يحرق (المصحف) لحرمته. ولما تقدم من قول سالم فيه: (وما فيه روح) ، لحرمته أيضا، ولنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعذب بالنار إلا ربها، ولم يستثن الخرقي غير هذين. (واستثنى غيره السلاح) لحاجته إليه في القتال، وآلة دابته تبعا لها، وثيابه التي عليه، حذارا من تركه عريانا، ونفقته لأنها لا تحرق عادة.
قال أبو محمد: وينبغي أن يستثنى أيضا كتب العلم والحديث، إذ نفع ذلك يعود إلى الدين، والمقصود إضراره في دنياه لا دينه.
وجميع ما استثني وكذلك ما أبقت النار من حديد ونحوه فإنه يبقى للغال. . ولأبي محمد احتمال في المصحف أن يباع ويتصدق بثمنه، اتباعا لقول سالم.
وقول الخرقي: ومن غل، يشمل الذكر والأنثى، والمسلم والذمي، وهو كذلك، وكذلك يشمل العبد والصغير، وهما مستثنيان، فالعبد، لأن متاعه لسيده، ولا يجني جان إلا على نفسه، والصبي، لأن الإحراق عقوبة، والصبي ليس من أهلها.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يحرم سهمه، وهو إحدى الروايتين، إذ أكثر الروايات ليس فيها ذلك، (والثانية) : يحرم، للرواية التي رواها أبو داود، وظاهر كلامه أيضا أن الحكم مختص بالغال، فيخرج السارق، وهو أحد الوجهين، اقتصارا على مورد النص.
(والثاني) حكم(6/540)
السارق حكم الغال، بجامع الخيانة فيهما.
[إقامة الحد على المسلم في أرض العدو]
قال: ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو.
3435 - ش: لما «روى بسر بن أرطاة أنه وجد رجلا سرق في الغزو، فجلده ولم يقطع يده. وقال: نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القطع في الغزو.» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي؛ ولأن إقامة الحد والحال هذه مما يطمع العدو في المسلمين، وربما كان المقام عليه الحد ضعيف الإيمان فيلحق بالعدو، وبذلك علل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(6/541)
3436 - فعن علقمة قال: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم، فيطمع فيكم؟
3437 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية، ولا رجلا من المسلمين حرا وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، رواه سعيد.
3438 - وعن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثل ذلك. وقد أشعر كلام الخرقي أنه إذا رجع من أرض العدو أقيم عليه الحد، وهو كذلك، لعموم أمر الله ورسوله بإقامة الحدود، ولقصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[قتل الأطفال النساء والرهبان والمشايخ في الحرب]
قال: وإذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم، أو ينبت، أو يبلغ خمس عشرة سنة.(6/542)
ش: إذا ظفر الأمير بالكفار لم يقتل صبيا.
3439 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النساء والصبيان، وفي رواية: فأنكر» . رواه الجماعة إلا النسائي، ولأن الصبي رقيق بنفس السبي، ففي قتله إتلاف مال بلا ضرورة، وإنه ممتنع والحال هذه بلا ريب.
والصبي هو من لم يبلغ، ويعرف البلوغ بواحد من ثلاثة أشياء (أحدها) : الاحتلام إجماعا، بشهادة النص بذلك، قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] .
3440 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل» .(6/543)
3441 - «وقال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خذ من كل حالم دينارا» .
3442 - وقال: «رفع القلم عن ثلاثة - ذكر منها - الصبي حتى يحتلم» . رواه أبو داود. (والثاني) إنبات الشعر الخشن حول القبل.
3443 - لما روي عن عطية القرظي قال: «عرضنا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي» . رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفي لفظ: فمن كان محتلما أو نبتت عانته قتل، ومن لا، ترك. رواه أحمد والنسائي.
(الثالث) بلوغ خمس عشرة سنة.
3444 - لما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» . رواه الجماعة، قال نافع: فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال: هذا فصل ما بين الرجال وبين(6/544)
الغلمان. فمن لم يوجد فيه علامة من هذه فهو صبي، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى، وتزيد الأنثى بالحيض والحمل.
قال: ومن حارب من هؤلاء أو النساء أو الرهبان أو المشايخ في المعركة قتلوا.
ش: هذا والله أعلم اتفاق.
3445 - وقد روي «عن رباح بن ربيع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فمر رباح وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على امرأة مقتولة، مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويعجبون من خلقها، حتى لحقهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» . فقال لأحدهم: «الحق خالدا، فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا» » . رواه أحمد وأبو داود. وهذا يدل على أن المانع من القتل عدم القتال،(6/545)
فمتى وجد القتال زال المانع، ولعموم: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] . وفي معنى القتال إذا كان لهم رأي فيه، لأن الرأي أبلغ من القتال. قال أبو الطيب:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان
3446 - ولهذا قتل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دريد بن الصمة، لأنه يدبر أمر الحرب. وقد فهم من كلام الخرقي أن النساء والرهبان والمشايخ إذا(6/546)
لم يقاتلوا لا يقتلون، وهو كذلك، أما في النساء فلما تقدم.
3447 - (وأما في الرهبان) فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا بسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» » . رواه أحمد.
3448 - (وأما في المشايخ) فلما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «انطلقوا بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، أصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين» . رواه أبو داود، ولما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا، ولا كبيرا هرما.(6/547)
3449 - وعن راشد بن سعد قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل الشيخ الذي لا حراك به» . رواه ابن حزم من طريق ابن أبي شيبة، وهو مرسل.
3450 - وروى أيضا من طريق حماد بن سلمة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقتلوا صغيرا ولا امرأة ولا شيخا كبيرا» .
3451 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه وصى سلمة بن قيس فقال: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا. رواه سعيد.
3452 - ويحمل حديث سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم» . رواه أبو داود والترمذي، وقيل: إنه صححه. (على الشيوخ) الذين فيهم قوة(6/548)
على القتال، إذ عدم القتال مختص بالشيوخ الفانين، لما تقدم من النصوص، والخاص مقدم على العام (أو على شيوخ) لهم رأي في القتال، جمعا بين الأدلة، على أنه قد ذكر عبد الحق سنده، وأنه من رواية حجاج بن أرطأة وسعيد بن بشير، وقال: إنه لا يحتج بهما؛ ثم لو تعذر الجمع من كل وجه فحديثنا أولى، لعمل الشيخين عليه، وذلك دليل على أنه آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحكم الزمن والأعمى حكم الراهب ونحوه. وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث رباح إلى ذلك، حيث علل بكون المرأة لم تقاتل، وكذلك المريض الميؤوس من برئه، أما لو كان ممن لو كان صحيحا لقاتل فإنه يقتل، لأنه بمنزلة الإجهاز على الجريح، قال ذلك أبو محمد، وكذلك قال في العبيد لا يقتلون لحديث رباح، وقال في الفلاحين إذا لم يقاتلوا: ينبغي أن لا يقتلوا، قياسا لهم على الشيوخ والرهبان، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد، والخنثى المشكل لا يقتل(6/549)
لاحتمال كونه امرأة، ذكره في الكافي.
قال: وإذا خلي الأسير منا وحلف لهم أن يبعث إليهم بشيء بعينه أو يعود إليهم فلم يقدر عليه لم يرجع إليهم.
ش: إذا أسر الكفار مسلما، وأطلقوه بشرط أن يبعث إليهم شيئا معلوما، أو يعود إليهم إن لم يقدر على ذلك، فإنه يلزمه الوفاء لهم، كما اقتضاه كلام الخرقي، لعموم: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91] ، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . ولما تقدم من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغدر.
3453 - وقال: «إنه لا يصلح في ديننا الغدر» .
3454 - وجعل ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من علامات المنافق، ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى، وفي تركه مفسدة، لأنهم لا(6/550)
يؤمنون بعده، والشارع بعث بجلب المصالح، ودرء المفاسد، ولأنه عاهدهم على مال، فلزمه الوفاء لهم، كثمن المبيع، أو كالمشروط في عقد الهدنة، فإن لم يقدر عليه، (فإن كان امرأة) لم ترجع إليهم، بل ولا يحل لها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] الآية.
3455 - وفي قصة الصلح بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقريش التي رواها البخاري وغيره من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال فيها: ثم جاء نساء مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] ، حتى بلغ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] .
3456 - وعن مروان والمسور بن مخرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك، وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما، وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ(6/551)
وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم، لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] ، إلى: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] .» رواه البخاري. فمنع الله سبحانه من رجوع النساء إلى الكفار، وامتنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ردهن.
وقد اختلف في دخول النسوة في قضية الصلح، فقيل: لم يدخلن، لقوله في القصة: على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته. وقيل: دخلن فيه، لقوله في رواية أخرى: ولا يأتيك منا أحد. لكن نسخ ذلك أو بين فساده بالآية اهـ. (وإن كان رجلا) فهل يرجع إليهم؟ فيه روايتان:
(إحداهما) - وهي التي ذكرها الخرقي - لا يرجع أيضا كالمرأة، ولأن تمكنهم منه والبقاء في أيديهم معصية، فلم يجز كما لو شرط قتل مسلم، أو شرب خمر.
(والثانية) : يلزمه الرجوع إليهم وفاء بالعهد، لما تقدم في بعث المال، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما عاهد قريشا على رد من جاءه مسلما، وفى لهم بذلك، ولم ينهه الله سبحانه عن ذلك، وقول الخرقي: حلف. ذكره على سبيل المثال، وإلا المقصود الشرط.(6/552)
قال: ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين، ومباح له أن يهرب من ثلاثة.
ش: الأصل في ذلك قول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ، أوجب سبحانه أولا على الواحد الثبات للعشرة، ثم رحم ضعفنا وخفف عنا فأوجب ثبات الواحد للاثنين، إذ هذا خبر في معنى الأمر، أو خبر عما استقر في حكم الشرع، وهذا أحسن، أو متعين هنا، إذ لو كان خبرا بمعنى الأمر لكان التقدير: إذا كان عشرون صابرون فليغلبوا؛ فيكون التكليف إنما هو للصابر فقط، والصبر واجب على المكلف، لا شرط في التكليف، وأيضا فيكون أمرا بالغلبة وذلك ليس إليهم إنما الذي إليهم الصبر والقتال والغلبة من الله تعالى، فإذا المعنى المقرر في حكم الشرع أن المائة الصابرة تغلب مائتين فلتصبر، وحيث غلبت المائة من المائتين فلعدم صبرها.
3457 - وقد بين ذلك وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ، كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، ولا عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الآية، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين. رواه البخاري.
وله أيضا في رواية، ولأبي داود قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ،(6/553)
شق ذلك على المسلمين، فنزلت: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الآية، قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
3458 - ويروى عنه أيضا أنه قال: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر. وعلى هذا يحمل ما ورد من النهي المطلق عن تحريم الفرار يوم الزحف، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} [الأنفال: 15] الآية.
3459 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع الموبقات» . قالوا: وما هن يا رسول الله، قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» » . متفق عليه.
(ويستثنى) من تحريم الفرار من المثلين فما دون (الفرار للتحرف) لمصلحة قتال بأن ينحاز(6/554)
إلى موضع يكون القتال فيه أمكن، كما إذا كان في مقابلة الشمس، أو الريح فاستدبرهما، أو كان في وهدة أو في معطشة، فانحاز إلى علو أو إلى ماء، أو استند إلى جبل، أو نفر بين أيدي الكفار لتنتقض صفوفهم، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، أو (الفرار للتحيز) إلى فئة من المسلمين، ليتقووا بها على عدوهم، وإن بعدت الفئة، حتى قال القاضي: لو كانت الفئة بخراسان، والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها، وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا} [الأنفال: 16] إِلَى فِئَةٍ الآية.
3460 - ويروى أن عمر كان يوما في خطبته إذ قال: يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم الذئب من استرعاه الغنم. فأنكرها الناس، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دعوه فلما نزل سألوه عما قال، فلم يعترف به، وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق ليغزوهم، فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم، فسمعوا صوت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فتحيزوا إلى الجبل، فنجوا من عدوهم، وانتصروا عليهم.(6/555)
3461 - ويروى عنه أيضا أنه قال: أنا فئة كل مسلم. وكان بالمدينة، وجيوشه بمصر والعراق والشام وخراسان. رواه سعيد.
3462 - «وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف؟ وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: «من الفرارون؟» فقلنا: نحن الفرارون. قال: «لا بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين» . قال فأتيناه حتى قبلنا يده» . رواه أحمد وأبو داود. وقوله: حاصوا(6/556)
حيصة، أي: حادوا حيدة. ومنه قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: 48] .
وقول الخرقي: ومباح له أن يهرب من ثلاثة. ذكره على سبيل المثال، والمراد أنه يباح للمسلمين الفرار مما زاد على مثليهم. هذا هو المعروف، واختار أبو العباس تفصيلا ملخصه: أن القتال لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب، (فالأول) كأن يكون العدو كثيرا لا يطيقهم المسلمون، ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين، قال: فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب عليهم أن يبذلوا مهجهم في الدفع حتى يسلموا، ونظير ذلك أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم، (والثاني) لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة أو قبلها، فقبلها هي مسألة الكتاب، وبعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقا إلا لتحرف أو تحيز، كما دل عليه قوله سبحانه: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] . وقصة بدر مرادة منها، والمشركون إذ ذاك(6/557)