«انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة» . متفق عليه، ورواه أبو داود وقال «اغسل عنك أثر الخلوق - أو قال -: أثر الصفرة» محمول [على] أنه كان زعفرانا.
1478 - والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يتزعفر الرجل، وإذا نهى عن ذلك في غير الإحرام ففيه أحذر، ثم حديث عائشة متأخر، لأنه في حجة الوداع، في السنة العاشرة، وهذا الحديث بالجعرانة سنة ثمان، والعمل بالمتأخر أولى، ودعوى اختصاصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتطيب لهذا الحديث، مردود «بقول عائشة المتقدم: كنا نخرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إلى مكة] فنضمد جباهنا» . الحديث. ثم هو في مقام البيان، وقد قال «خذوا عني مناسككم» فكيف لا يبين الخصوصية.
(تنبيه) : اللام في «لحله» لام الوقت، أي لوقت حله، كما في قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78](3/78)
و «وبيص الطيب» بريقه ولمعانه، يقال: وبص الشيء يبص وبيصا، وبص يبص بصيصا، و «ينضح» يفوح، وأصله الرشح، فشبه كثرة ما يفوح من طيبه بالرشح، والرواية - بالحاء المهملة -، وجاء في بعض نسخ مسلم: «ينضخ» - بخاء معجمة -، فقيل: هما سيان في المعنى، وقيل: بل النضخ - بالمعجمة - أكثر من النضخ بالمهملة، وقيل غير ذلك. و «نضمد» يقال: ضمدت الجرح. إذا جعلت عليه الدواء، وضمدته بالزعفران ونحوه إذا لطخته.
و «السك» نوع من الطيب، و «الجعرانة» في الحل بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، وتخفف وتشدد، والتخفيف أكثر، قال المنذري: [وهو الذي قيده] المتقنون والله أعلم.
قال: فإن حضر وقت صلاة مكتوبة صلاها، وإلا صلى ركعتين.
ش: المستحب أن يحرم عقب صلاة، إما فريضة أو نافلة.
1479 - لما روي عن أنس بن مالك: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر» . رواه النسائي.(3/79)
1480 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه» . والله أعلم.
[أنواع النسك]
قال: فإن أراد التمتع - وهو اختيار أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيقول: اللهم إني أريد العمرة.
ش: الأنساك ثلاثة، التمتع، والإفراد، والقران، ولا خلاف بين الأئمة والحمد لله في جواز كل منها.
1481 -[وقد شهد لذلك «قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل] ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل» قالت: وأهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج، وأهل به ناس معه، وأهل معه ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بالعمرة، وكنت فيمن أهل بعمرة» . متفق عليه.
واختلف الأئمة في الأولى - منها -[والأفضل] فذهب إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نفر كثير من الصحابة وغيرهم إلى أن التمتع(3/80)
أفضل، وذهب أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجماعة إلى أن القران أفضل، وذهب مالك ونفر من الصحابة وغيرهم، وهو ظاهر مذهب الشافعي إلى أن الإفراد أفضل.
واختلفوا في إحرام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادعى كل أنه أحرم كمختاره، واختلافهم لاختلاف الأحاديث، فقد تقدم عن – عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه أهل بالحج، وفي رواية عنها: أنه أفرد الحج.
1482 - وكذا في مسلم وغيره عن ابن عمر، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بالحج مفردا» .
1483 - «وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي بالحج والعمرة جميعا. وفي رواية: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «لبيك حجا وعمرة» » .
1484 - وعن جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قرن الحج والعمرة» . رواه الترمذي، والنسائي.(3/81)
1485 - «وعن ابن عمر أنه قرن الحج والعمرة، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه النسائي.
1486 - وجاء في رواية في الصحيح أنه أدخل الحج على العمرة، وأنه طاف لهما طوافا واحدا وقال: كذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1487 - وعن علي نحو ذلك.
1488 - «وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بوادي العقيق يقول «أتاني الليلة آت [من ربي] فقال: صل في هذا(3/82)
الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، وفي رواية: وقل عمرة وحجة» .
1489 - «وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للصبي بن معبد - لما أخبره أنه أهل بهما -: هديت لسنة نبيك» ، رواه النسائي وغيره.
1490 - «وقال سراقة بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» قال: وقرن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع» . رواه أحمد، انتهى.
1491 - وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وأول من نهى [عنها] معاوية» . رواه الترمذي، والنسائي.(3/83)
1492 - «وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لقد تمتعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. رواه مسلم وفي رواية النسائي وغيره: صنعناها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمره، وصنعها هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1493 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: والله لا أنهاكم عن المتعة، فإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يعني العمرة في الحج» . رواه النسائي.
1494 - وسأل رجل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فقال: لقد صنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] رواه الترمذي.(3/84)
1495 - وفي الصحيحين في رواية «عن عمران بن حصين: تمتع نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتمتعنا معه.»
1496 - وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج» ، وروي غير ذلك.
وقيل: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم مطلقا، بدليل حديث عمر المتقدم، والمحققون على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان نسكه قرانا، والظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بعمرة، ثم أدخل عليها الحج، كما تقدم في الصحيح عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه فعل ذلك، وأنه أخبر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله.
1497 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعمرة، وأهل أصحابه بالحج» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
1498 - وفي الصحيحين من «حديث حفصة أنها قالت: يا رسول الله: ما شأن الناس حلوا، ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» » أي والله أعلم من عمرتك التي ابتدأت بها الإحرام.(3/85)
وبهذا يحصل - وبالله التوفيق - الجمع بين الأحاديث، فمن أخبر أنه أفرد الحج فلأنه أحرم به مفردا، حيث أدخله على العمرة، ومن أخبر أنه قرن فلأن نسكه كان قرانا فأخبر بما آل إليه الحال، ومن أخبر أنه تمتع فلأنه لم يفرد الحج [بسفرة] ، والعمرة بسفرة، بل جمع بينهما في نسك واحد، فقول الراوي: تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج. أي [تمتع] بالعمرة موصلا بها إلى الحج، وعلى هذا فالآية الكريمة، وهي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] قد يقال: إنه يشمل القران والتمتع.
وإنما اختار إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - المتعة ليس - والله أعلم - لأن إحرام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تمتعا، ولكن لأمره أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفسخ الحج إلى العمرة، وقد ثبت ذلك عنه ثبوتا لا ريب فيه، وسيأتي طرف منه - إن شاء الله تعالى -، ولم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لينقلهم إلى المفضول ويترك الأفضل، وإنما منعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفسخ سوق الهدي، كما صرح به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1499 - ففي حديث عائشة في رواية لأبي داود أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل، ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة» .(3/86)
1500 - وعنها أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال « «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» رواه أبو داود، والبخاري بنحوه.
1501 - وفي حديث جابر لما أمر أصحابه بجعل نسكهم عمرة قال «إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت [ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت» متفق عليه.
1502 - وفي حديث أنس «لو استقبلت من أمري] ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكن سقت الهدي، وقرنت بين الحج والعمرة» رواه أحمد فأخبر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه إنما منعه من الإحرام بالعمرة سوق الهدي، وأنه لولا سوقه لفسخ إحرامه إلى العمرة، وتأسف على ذلك، ولم يكن ليندم إلا على الأفضل والأولى، ثم إن التمتع مذكور في كتاب الله تعالى، بخلاف غيره، ويجتمع له العمرة والحج في أشهر الحج، مع كمالهما وكمال أفعالهما، مع سهولة، وزيادة نسك، [وهو الدم] يرشح هذا حديث أبي أيوب المتقدم. «ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» وأيضا فإن عمرة التمتع تجزئ بلا خلاف،(3/87)
بخلاف عمرة القران، والعمرة من التنعيم بعد الحج، فإن فيهما خلافا.
ثم من العلماء من أوجب التمتع.
1503 - كما يحكى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو قول الظاهرية، بخلاف النسكين الآخرين، فإنه لا يعلم قائل بوجوبهما.
1504 - وما يحكى عن عمر , وعثمان من نهيهما عن ذلك، فقد خالفهما غيرهما.(3/88)
1505 - قال سعيد بن المسيب: اجتمع عثمان وعلي بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال له علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنهى الناس عنه؟ فقال [له عثمان] : دعنا عنك. قال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك أهل بهما جميعا. متفق عليه وقد تقدم الإشارة من ابن عمر إلى الإنكار على أبيه.
1506 - مع أن في الصحيحين في حديث لأبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة في زمن أبي بكر، وشطرا من خلافة عمر، وأنه قيل له: اتئد في فتياك، إنك لا تدري ما يحدث أمير المؤمنين في شأن النسك [وأنه جاء إلى عمر فقال: ما هذا الذي بلغني أنك أحدثت في شأن النسك] فقال عمر: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وإن نأخذ بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد قال «خذوا عني مناسككم» «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى نحر الهدي» . وفي رواية لمسلم: قد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا(3/89)
معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون إلى الحج تقطر رءوسهم.
فهذا في الحقيقة ليس بمخالفة، فإن عثمان لم يبين [حجة] ، بل أذعن لذلك، وعمر بين عذره في ذلك، وهو الأمر بإتمام الحج والعمرة، ومراده في ذلك والله أعلم أن يأتي بكل من النسكين في سفرة، كما روي عنه أنه يحرم بهما من دويرة أهله، ولا نزاع بين أهل العلم أن هذا الصورة أفضل بلا نزاع، واعتذر أيضا بأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى نحر الهدي، وقد بين الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المانع له من الحل، واعتذر أيضا بأنه [كره] أن يظلوا معرسين إلى آخره.
1507 - وقد ذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: كيف ننطلق إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا؟ فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودخل على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: «كيف لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع» رواه أحمد، وابن ماجه انتهى.(3/90)
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى - واختارها أبو العباس فيما أظن - أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، لأنه الذي اختاره الله لنبيه، وأمره به، كما تقدم في حديث عمر، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لولا أن معي الهدي لأحللت بعمرة» .
وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة، وهي تحتمل أكثر من هذا، وحالنا وحال الكتاب يقتضي الاقتصار على هذا وبالله التوفيق.
إذا تقرر هذا فصفة التمتع [أن يحرم] بالعمرة [في أشهر الحج] ثم يحج من عامه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أي تمتع [بالعمرة] موصلا بها إلى الحج، وقد أشار [إلى هذا](3/91)
الشيخان أبو البركات، وأبو محمد في المغني، عند [ذكر] شروط وجوب الدم على المتمتع، قال: حقيقة التمتع ... وذكر ما قلناه، ولا يغرنك ما وقع في كلام أبي محمد وغيره من أن التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج [من مكة] إلى آخره، فإن هذا التمتع الموجب للدم [ومن] هنا قلنا: إن تمتع حاضري المسجد الحرام صحيح على المذهب، وقال ابن أبي موسى: لا متعة لهم. ويحكى ذلك رواية، وقد تعرض أبو محمد لها فقال: نقل عن أحمد: ليس على أهل مكة متعة، ومعناه ليس عليهم دم متعة، لأن المتعة له لا عليه، انتهى.
(قلت) : وقد يقال: إن هذا من الإمام بناء على أن العمرة لا تجب عليهم، فلا متعة عليهم، أي الحج كافيهم، لعدم وجوب العمرة [عليهم] فلا حاجة لهم إلى المتعة.
وقول الخرقي: يقول: اللهم إني أريد العمرة. أراد به الاستحباب، وإلا فالمشترط قصد ذلك، والله أعلم.
[الاشتراط في الإحرام]
قال: ويشترط فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن حبس حل من الموضع الذي حبس فيه، ولا شيء عليه.
ش: الاشتراط عندنا في الإحرام جائز بل مستحب.
1508 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني [أريد] الحج أشترط؟ قال: «نعم» قالت: كيف أقول؟ قال: «قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي [من الأرض](3/92)
حيث حبستني» رواه الجماعة إلا البخاري، وهذا لفظ أبي داود. وفي رواية للنسائي: «فإن [لك] على ربك ما استثنيت» .
1509 - وهو للشيخين من رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
1510 - ورواه أحمد عن عكرمة، «عن ضباعة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحرمي وقولي: إن محلي حيث حبستني، فإن حبست أو مرضت فقد حللت من ذلك، بشرطك على ربك عز وجل» وصفته كما في الحديث وما في معناه، لأن المعنى هو المقصود.
1511 - وعن ابن مسعود أنه كان يقول: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت لي، وإلا فلا حرج علي. ويفيد هذا الشرط شيئين:(3/93)
(أحدهما) : [أنه متى حبس بمرض، أو ذهاب نفقة، ونحوهما فإنه يحل، على ظاهر كلام الخرقي، وصاحب التلخيص فيه، وأبي البركات، وهو ظاهر الحديث، وقال القاضي في الجامع، وأبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد: إن له التحلل. فإذا لا بد من قصده.
(الثاني) : أنه متى حل بذلك أو بعذر ونحوه فلا شيء عليه من دم، ولا غيره.
(تنبيهان) : (أحدهما) : هل يكفي قصده للاشتراط تبعية للإحرام، أو لا بد من التلفظ، كالاشتراط في الوقت ونحوه؟ فيه احتمالان.
(الثاني) : «محلي» - بكسر الحاء وفتحها -، وهو موضع الحلول، والله أعلم.
قال: وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج. ويشترط.
ش: الإفراد أن يحرم بالحج مفردا [قاله أبو محمد] .
وقال بعض الأصحاب أن لا يأتي في أشهر الحج بغيره. وهو أجود. ويشترط فيه كالعمرة، والله أعلم.
قال: وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج. ويشترط.(3/94)
ش: القران أن يحرم بالعمرة والحج معا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج، قبل فعل ركنها الأعظم وهو الطواف.
1512 - وفي الصحيحين عن ابن عمر، أنه أدخل الحج على العمرة عام حجة الحرورية. وذكر الحديث وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1513 - وكذلك [في الصحيح» عن جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عائشة بذلك. وسيأتي إن شاء الله تعالى. ولو أدخل العمرة على الحج لم يصح، لعدم الأثر في ذلك، ولأنه لم يستفد به فائدة، بخلاف ما تقدم.
وظاهر كلام الخرقي أنه يستحب أن ينطق بما أحرم به من عمرة، أو حج، أو هما، وهو المشهور. وعن أبي الخطاب: لا يستحب ذكر ما أحرم به، والله أعلم.
[التلبية في الحج]
قال: فإذا استوى على راحلته لبى.
ش: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلبي إلا إذا استوت به راحلته.
1514 - وذلك لما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، ما أهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من عند الشجرة، حين قام به بعيره» .
وفي رواية:(3/95)
رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حين تستوي به قائمة. متفق عليه.
والمشهور في المذهب أن الأولى أن يلبي حين يحرم.
1515 - لما روى سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أوجب. فقال: إني لأعلم الناس بذلك إنها إنما كانت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجا، فلما صلى بمسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظت عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استوت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء. رواه أبو داود، وقال المنذري: وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وهو ضعيف.(3/96)
(تنبيه) : «البيداء» البرية، والمراد في الحديث موضع مخصوص بين مكة والمدينة. و «الإهلال» رفع الصوت بالتلبية، وكل شيء ارتفع صوته فقد استهل، وبه سمي الهلال، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، «أوجب» إذا باشر مقدمات الحج من [الإحرام] والتلبية. و «أرسالا» أي متتابعين، قوما بعد قوم، و «استقلت به راحلته» أي نهضت به حاملة له، والله أعلم.
قال: فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
ش: لما ذكر أنه يلبي [ذكر] صفة التلبية، وهذه تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1516 - ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لبيك اللهم لبيك، [لبيك] لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» » قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك(3/97)
لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل.
(تنبيه) : لبيك» لفظ يجاب به الداعي، وهو في تلبية الحج إجابة لدعاء الله تعالى الناس إلى الحج في قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الآية ومعنى هذه التثنية فيه، أي مرة بعد مرة، وهو من: ألب بالمكان. إذا أقام به، كأنه قال: إقامة على إجابتك بعد إقامة. وقيل: من قولهم: أنا ملب بين يديك. أي خاضع، وقيل غير ذلك، «وسعديك» المساعدة الطاعة أي مساعدة بعد مساعدة، قال الجرمي: ولم يسمع سعديك مفردا. و «الرغباء والرغبى» - بالفتح مع المد، والضم مع القصر -، والمعنى هنا الطلب والمسألة.
«وإن الحمد» - بالفتح، وبالكسر ورجحه بعضهم -، قال ثعلب: من قال بالكسر فقد عم، ومن قال بالفتح فقد خص، والله أعلم.
قال: ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا، أو هبط واديا، وإذا التقت الرفاق، وإذا غطى رأسه ناسيا، وفي دبر الصلوات المكتوبة.
ش: أما فيما عدا تغطية الرأس:(3/98)
1517 - فلما يروى عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي في حجته إذا لقي ركبا، أو علا أكمة، أو هبط واديا، وفي أدبار الصلوات المكتوبة، وفي آخر الليل» .
1518 - وعن إبراهيم: كانوا يستحبون. وذكر نحوه، إلا أنه أبدل آخر الليل: فإذا استوت به راحلته. وأما في تغطية الرأس، وما في معناه من فعل محظور ناسيا، فليبادر لما هو عليه، والإقلاع عما صدر عنه، والله أعلم.
قال: والمرأة أيضا يستحب لها أن تغتسل عند الإحرام، وإن كانت حائضا أو نفساء، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام» .
ش: قياسا على الرجل، والحائض والنفساء كغيرهما، بل قال أبو محمد: إنه في حقهما آكد، لورود السنة فيهما.
1519 - ففي حديث جابر الصحيح: أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء(3/99)
بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف أصنع؟ فقال: «اغتسلي، واستثفري بثوب، وأحرمي» .
1520 - وفي حديثه الصحيح أيضا « [في قصة عائشة» أنها لما حاضت، وكانت قد أحرمت بعمرة قال لها: هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج» ففعلت.
1521 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «النفساء والحائض إذا أتتا على الميقات، يغتسلان، ويحرمان، ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت» رواه أبو داود، والترمذي. ولأن المقصود من غسل الإحرام، التنظيف، وهما أجدر بذلك، وهذا يؤيد أن غسل الجنابة يصح من الحائض، وأن التيمم لا مدخل له في غسل الإحرام.
(تنبيه) : «استثفري» استثفرت المرأة الحائض إذا شدت على فرجها خرقة، وعطفت طرفيها إلى شيء مشدود في وسطها، من مقدمها ومؤخرها، مأخوذ من «ثفر الدابة» وهو ما يكون تحت ذنبها، والله أعلم.(3/100)
قال: ومن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه.
ش: لما تقدم من حديث يعلى بن أمية، والخالع غير لابس، والله أعلم.
[أشهر الحج]
قال: وأشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. والله أعلم.
1522 - ش: قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. رواه البخاري.
1523 - وللدارقطني مثله عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير.
1524 - وعن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: «أي يوم هذا؟» قالوا: يوم النحر. قال: «هذا يوم الحج الأكبر» رواه البخاري،(3/101)
وأبو داود، ونزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا. وإنما رآه في ساعة منها. انتهى.
وفائدة ذلك عندنا وعند الحنفية اليمين، وعند الشافعي عدم صحة(3/102)
الإحرام في غيرها، وعند مالك وجوب الدم بتأخير طواف الزيارة عنها، قال القاضي: جميع ذلك، والله أعلم.
[باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له]
قال: ويتوقى المحرم في إحرامه ما نهاه الله عز وجل عنه من الرفث - وهو الجماع - والفسوق - وهو السباب - والجدال، وهو المراء.
ش: قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قرئت [المنفيات] الثلاث بالنصب والرفع، وعلى كليهما هو خبر بمعنى النهي، أي لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا، وهذه وإن منع الإنسان منها في غير الحج، لكن فيه أجدر، ولهذا وردت بلفظ الخبر، إشارة بأنها(3/103)
جديرة بأن تنفى ولا توجد ألبتة، وقرئ الأولان بالرفع، والثالث بالنصب، حملا للأوليين - والله أعلم - على النهي، أي لا يكون رفث ولا فسوق، والثالث على الخبر [المحض] بانتفاء الجدال.
1525 - وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب، فتقف في المشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا يقدمون الحج سنة، ويؤخرونه سنة، وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد، ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله - سبحانه - أنه قد ارتفع الجدال في الحج.
1526 - ويؤيد هذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ولم يذكر الجدال، وميل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - للأول.(3/104)
1527 - وفسر الرفث بالجماع، والفسوق بالسباب، والجدال بالمراء، تبعا في ذلك لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ذكره عنه البخاري تعليقا.
1528 - وحكي ذلك [أيضا] عن ابن عمر، وجماعة من التابعين وقيل: الرفث الفحش من الكلام، وأصله الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه كلفظ النيك.(3/105)
1529 - ويحكى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أنشد وهو محرم:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء. انتهى.
وكني به عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو منه. وقيل في الفسوق: إنه الخروج عن حدود الله تعالى، وهو أعم وأوفق للغة، والمراد بالمراء المراء مع الخدم، والرفقاء، والمكارين ونحو ذلك.
(تنبيه) «هميسا» : [المشي] اللين و «لميسا» اسم جارية لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والله أعلم.(3/106)
قال: ويستحب له] قلة الكلام إلا فيما ينفع، وقد روي عن شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء.
ش: قلة الكلام في الجملة مستحب لكل أحد، وهو في حق المحرم آكد، لتلبسه بهذه العبادة العظيمة، وتشبهه بالقادم على ربه عز وجل في يوم القيامة.
1530 - وفي الصحيح: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» .
1531 - «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» .
1532 - وقد استشهد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على قلة الكلام في هذا(3/107)
بخصوصه بفعل شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - – أما ما فيه نفع من الكلام - كتعليم جاهل، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، ونحو ذلك - فأمر مطلوب بلا ريب، بل قد يجب، ويتأكد في حق المحرم، فإنه كما يتأكد في [حقه] ترك المنهيات، كذلك يتأكد في حقه فعل الواجبات والمندوبات والله أعلم.
قال: ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل.
ش: المحرم لا يقتل القمل في أنص الروايتين، واختيار الخرقي، لأنه مما يترفه به، فمنع منه كقطع الشعر.
1533 - وهو ظاهر حال كعب بن عجرة.
1534 - وفي الموطأ عن نافع أن ابن عمر قال: يكره أن ينزع المحرم حلمة أو قرادا عن بعيره.
(والثانية) : له ذلك منيطا للحكم(3/108)
بالأذى، قال: كل شيء من جسده لا بأس به، إذا آذى انتهى، وقياسا على البراغيث، فإنه لا نزاع في جواز قتلهن، وقال أبو محمد: وقتل القمل، وإلقاؤه على الأرض، وقتله بالزئبق ونحو ذلك سواء، نظرا لعلة المنع وهو الترفه. انتهى.
قال القاضي في الروايتين: وموضع الروايتين إذا ألقاها من بين شعر رأسه، أو بدنه، أو لحمه، أما إن ألقاها من ظاهر بدنه، أو ثيابه، أو بدون محل، أو محرم غيره، فهو جائز، ولا شيء عليه رواية واحدة. انتهى.
والتفلي وسيلة إلى قتل القمل، فإن جاز جاز وإلا منع، وحيث تفلى وقتل القمل حيث منع منه (فعنه) : لا شيء عليه لأن كعبا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل قملا كثيرا بحلق رأسه، ولم يؤمر إلا بفدية حلق الشعر فقط.
1535 - وعن ابن عمر: هو أهون مقتول.
1536 - وعن ابن عباس في محرم ألقى قملة ثم طلبها: تلك ضالة لا تبتغى (وعنه) : يتصدق بشيء ما، جبرا لما حصل منه، والله أعلم.(3/109)
قال: ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا.
ش: يحك رأسه وجسده في الجملة، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
1537 - وقد روى مالك في الموطأ عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت: سمعت عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأل عن المحرم يحك جسده؟ قالت: نعم، فليحكه وليشدد. قالت عائشة: لو ربطت يداي فلم أجد إلا رجلي لحككت.
ويكون برفق حذارا من إزالة ما منع منه من شعر أو قمل، فإن حك فوجد في يديه شعرا استحب له الفداء احتياطا، ولا يجب حتى يتيقن أنه قلعه، والله أعلم.
قال: ولا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا العمامة، ولا البرنس.
ش: هذا إجماع - والحمد لله - من أهل العلم.
1538 - وقد شهد له ما في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يلبس المحرم؟ فقال: «لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس، ولا زعفران، ولا الخفين، إلا(3/110)
أن لا يجد نعلين، فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين» . وفي رواية: ما يترك المحرم من الثياب؟ فتخصيصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القميص تخصيص تمثيل، فيلحق به ما في معناه من الجبة، والدراعة ونحوهما، وكذلك العمامة يلحق بها ما في معناها، من كل ساتر معتاد، أو كل ساتر ملاصق، على اختلاف العلماء، وكذلك السراويل يلحق به التبان وما في معناه، وضابط ذلك كل شيء عمل للبدن على قدره، أو قدر عضو منه، كهذه المذكورات، وسواء كان مخيطا أو غير مخيط كلبد ونحوه، والله أعلم.
قال: فإن لم يجد الإزار لبس السراويل، فإن لم يجد النعلين لبس الخفين.
1539 - ش: لما روى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يجد إزارا فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين(3/111)
فليلبس الخفين» رواه الجماعة، ولفظ الترمذي: «المحرم إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين» .
1540 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل» رواه أحمد، ومسلم والله أعلم.
قال: ولا يقطعهما ولا فداء عليه.
ش: إذا لبس المحرم الخفين لعدم النعلين جاز له لبسهما من غير قطع، على المنصوص [المشهور] المختار من الروايتين، عملا بإطلاق حديثي ابن عباس، وجابر، فإنه لم يأمر فيهما بقطع، ولو وجب لبينه، لا يقال: قد بين ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر، فيحمل المطلق على المبين، جمعا بين الأدلة، لأنا نقول: يشترط في حمل المطلق على المقيد أن لا يفضي الإطلاق إلى تأخير بيان واجب، والحمل هنا مفض إلى ذلك، لأن حديث ابن عمر كان في المدينة، كذا في رواية لأحمد والدارقطني.(3/112)
1541 - ففي رواية أحمد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على هذا المنبر، وفي رواية الدارقطني: أن رجلا نادى في المسجد: ماذا يترك المحرم من الثياب؟ وحديث ابن عباس كان في خطبته بعرفات، كذا في الصحيح، وهو وقت الحاجة للبيان، وقد حضره في ذلك الوقت من لم يحضره في غيره، واجتمع من الخلائق عدد لا يحصيهم إلا الله تعالى، ثم تفرقوا عنه بعد قليل، والذين حضروا قوله بالمدينة كانوا نفرا يسيرا، بحيث يقطع المنصف بأنه لا يتصور منهم البيان لكل من حضر إذ ذاك، فيلزم من ذلك أن يكون إطلاق خبر ابن عباس ناسخا للتقييد في حديث ابن عمر، دفعا لمحذور تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويؤيد هذا أن جملة الصحابة عملوا على ذلك.
1542 - فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخفان نعلان، لمن لا نعل له.
1543 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين، ونحوه عن ابن عباس.
1544 - ورئي على المسور بن مخرمة في رجليه خفان وهو محرم، فقيل له: ما هذا؟ قال: أمرتنا به عائشة. روى ذلك كله النجاد بإسناده، ويرشح هذا ما في القطع من إفساد المال(3/113)
المنهي عنه شرعا.
1545 - على أنه قد روى ابن أبي موسى، عن صفية بنت أبي عبيد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما.» [وكان ابن عمر يفتي بقطعهما] قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع وهذا تصريح بالنسخ.
1546 - إلا أن الذي في سنن أبي داود عن سالم بن عبد الله، «أن عبد الله بن عمر كان يصنع ذلك - يعني يقطع الخفين - للمرأة المحرمة. ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة - رضي(3/114)
الله عنها - حدثتها، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان رخص للنساء في الخفين. فترك ذلك.»
(والرواية الثانية) : يقطعهما إلى أسفل الكعبين، فإن لبسهما من غير قطع افتدى، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، حملا للمطلق على المقيد تساهلا.
قال الخطابي: العجب من أحمد في هذا - يعني في قوله بعدم القطع قال: فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقل سنة لم تبلغه. قلت: والعجب كل العجب من الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في توهمه عن الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مخالفة السنة أو خفاءها، وقد قال المروذي: احتججت على أبي عبد الله بقول ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: هو زيادة في الخبر. فقال: هذا حديث، وذاك حديث. فقد اطلع - رَحِمَهُ اللَّهُ - على السنة، وإنما نظر نظرا لا ينظره إلا الفقهاء المتبصرون، وهو يدل على غايته في الفقه والنظر.(3/115)
وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا فدية على من لبس السراويل لعدم الإزار، ولا على من لبس الخفين لعدم النعلين، وهو واضح، لظاهر حديثي ابن عباس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والله أعلم.
قال: ويلبس الهميان، ويدخل السيور بعضها في بعض، ولا يعقدها.
ش: يلبس الهميان، قال أبو عمر بن عبد البر: على ذلك جماعة الفقهاء، متقدموهم ومتأخروهم، ويدخل السيور بعضها في بعض، لئلا تسقط، ولا يعقدها لعدم الحاجة إلى ذلك، نعم، إن احتاج إلى ذلك، كأن لا يثبت بدون العقد جاز ذلك، نص عليه أحمد.
1547 - لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أوثق عليك نفقتك.
1548 - وعلى هذا يحمل قول إبراهيم النخعي: كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم، ولا يرخصون في عقد غيره، والله أعلم.
قال: وله أن يحتجم.(3/116)
1549 - ش: في الصحيحين عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. «قال: احتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم.»
1550 - وعن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم، على ظهر القدم من وجع كان به» . رواه أبو داود، والله أعلم.
قال: ولا يقطع شعرا.
ش: لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فإن احتاج إلى القطع فله ذلك.
1551 - لما رواه عبد الله بن مالك بن بحينة قال: «احتجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلحي جمل، من طريق مكة في وسط رأسه» . متفق عليه، ومن ضرورة ذلك حلق الشعر، وتلزمه والحال هذه الفدية لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] الآية، والله أعلم.
قال: ويتقلد بالسيف عند الضرورة.
1552 - ش: لما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «لما صالح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا(3/117)
بجلبان السلاح. فسألته: ما جلبان السلاح؟ قال: القراب بما فيه.» رواه الشيخان، وأبو داود وهذا لفظه، وهذا محل حاجة، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يأمن أهل مكة أن ينقضوا العهد. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يفعل ذلك لغير ضرورة، ولذلك قال أحمد: لا إلا من ضرورة.
1553 - وذلك لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا يحمل المحرم السلاح في الحرم. قال أبو محمد: والقياس إباحة ذلك، لأنه ليس في معنى اللباس المنصوص على منعه.
(تنبيه) : «الجلبان» بضم الجيم واللام، وفتح الباء الموحدة المشددة، وبنون بعد الألف، وروي بضم الجيم وسكون اللام، مثل الجلبان من الحبوب، وصوبه جماعة، وقد فسرها هنا بالقراب وما فيه.
1554 - وفي حديث آخر: السيف والقوس ونحوه، والله أعلم.(3/118)
قال: وإن طرح على كتفيه القباء والدواج فلا يدخل يديه في الكمين.
ش: لا إشكال في أنه ليس له أن يدخل يديه في كمي القباء والفرجية ونحوهما، ومن فعل ذلك افتدى، أما إن وضع ذلك على كتفيه، ولم يدخل يديه في كميه، فظاهر كلام الخرقي أن له ذلك ولا شيء عليه، وهو الذي صححه صاحب التلخيص، لأنه لم يشتمل على جميع بدنه، أشبه ما لو ارتدى بالقميص.
وظاهر كلام الإمام أحمد المنع من ذلك، قال في رواية حرب: لا يلبس الدواج ولا شيئا يدخل منكبيه فيه.
وقال في رواية ابن إبراهيم: إذا لبس القبا لا يدخل عاتقيه فيه. وهذا اختيار القاضي في خلافه وأبي الخطاب، وأبي البركات وغيرهم، لأنه يلبس معتادا هكذا، فمنع منه كالقميص.
1555 - وقد روى النجاد بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من اضطر إلى لبس قباء وهو محرم، ولم يكن له غيره، فلينكس القباء وليلبسه.(3/119)
1556 - وروى ابن المنذر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس الأقبية» وعلى هذا عليه الفدية كما لو لبس القميص، والله أعلم.
قال: ولا يظلل على رأسه في المحمل.
ش: هذا هو المشهور عن أحمد، والمختار لأكثر الأصحاب، حتى أن القاضي في التعليق وفي غيره، وابن الزاغوني، وصاحب التلخيص، وجماعة لا خلاف عندهم في ذلك، لأن المحرم أشعث أغبر، وهذا تظليل مستدام فيزيلهما.
1557 - واعتمد أحمد على قول ابن عمر - وقد رأى رجلا محرما على رحل، قد رفع ثوبه بعود يستره من حر الشمس - فقال: أضح لمن أحرمت له، رواه الأثرم، وفي لفظ أنه قال له: إن الله لا يحب الخيلاء. وفي لفظ أنه ناداه: اتق الله. رواهما النجاد.(3/120)
وحكى ابن أبي موسى والشيخان رواية بالجواز، وهي اختيار أبي محمد، قال: ظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إنما كره ذلك كراهية تنزيه، وذكر رواية الأثرم عن أحمد: أكره ذلك، قيل له: فإن فعل يهريق دما؟ قال: لا، وأهل المدينة يغلظون فيه.
1558 - وذلك لما «روت أم الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: حججنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة الوداع، فرأيت أسامة، وبلالا، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة» . رواه مسلم وغيره.
1559 - وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ظلل عليه وهو محرم.(3/121)
1560 - وعن ابن عباس: لا بأس بالظل للمحرم. وكما لو استظل بخيمة، أو بيت ونحوهما، وقد ذكر لأحمد حديث أم الحصين فقال: هذا في الساعة، يرفع له الثوب بالعود، يرفعه بيده من حر الشمس، يعني أن هذا يسير غير مستدام، [بخلاف ظل المحمل ونحوه، فإنه مستدام] وهذا هو الجواب عن الاستظلال بالخيمة ونحوها، وعلى هذا يحمل قول ابن عباس، وحمل القاضي قوله وفعل عثمان على أن ثم عذرا من حر أو برد، وهو يمشي له في فعل عثمان، لأنها واقعة عين، بخلاف قول ابن عباس. والله أعلم.
قال: فإن فعل فعليه دم.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، والقاضي في التعليق، لأنه ستر ممنوع منه [مستدام] أشبه ما لو ستره بعمامة ونحوها.
(والثانية) : - وإليها ميل أبي محمد - لا فدية عليه، إذ الأصل عدم الوجوب والمنع من الستر احتياطا، لاختلاف العلماء، والروايتان عند ابن أبي موسى، وأبي محمد في الكافي، وأبي البركات على الروايتين في الأصل، فإن قلنا بالجواز ثم فلا فدية، وإلا وجبت، وهما عند القاضي(3/122)
وموافقيه على القول بالمنع، إذ لا جواز عندهم، إلا أن القاضي يستثني اليسير فيبيحه، ولا يوجب فيه فدية، ونص أحمد على ذلك في رواية الجماعة، وبه أجاب عن [حديث] أم الحصين كما تقدم، وقال في رواية حرب - وقد سئل: هل يتخذ على رأسه فوق المحمل؟ فقال: لا إلا الشيء الخفيف.
وحكى صاحب التلخيص في الفدية ثلاث روايات، الثالثة تجب الفدية في الكثير دون اليسير، وأطلق القول بالمنع، كما أطلقه الخرقي وجماعة، وهو مردود بالحديث، وبنص أحمد، والله أعلم.
قال: ولا يقتل الصيد ولا يصيده.
ش: هذا إجماع والحمد لله [وقد شهد له] قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] . والله أعلم.
قال: ولا يشير إليه، ولا يدل عليه حلالا ولا محرما.(3/123)
1561 - ش: لما «روى أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منزل في طريق مكة، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم عام الحديبية [فأبصروا حمارا وحشيا، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح. قالوا: والله لا نعينك عليه بشيء. [فغضبت] فنزلت فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فرحنا وخبأت العضد معي، فأدركنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألناه عن ذلك، فقال «هل معكم شيء» ؟ فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها وهو محرم وفي رواية: فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «منكم أحد أمره أن يحمل عليه، أو أشار إليه» ؟ قالوا: لا. قال «فكلوا ما بقي من لحمها» متفق عليه.
[قلت] : وظاهره أن جواز الأكل مرتب على عدم الإشارة ونحوها، وكذا فهم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حيث قالوا: والله لا نعينك.
(تنبيه) : «خصف نعله يخصفها» إذا أطبق طاقا على طاق، وأصل الخصف الضم والجمع، و «عقرت الصيد» إذا أصبته بسهم أو غيره فقتلته، والله أعلم.(3/124)
قال: ولا يأكله إذا صاده الحلال لأجله.
ش: لا يأكل المحرم الصيد الذي صاده الحلال من أجله.
1562 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «صيد البر لكم حلال وأنتم حرم، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وقال الشافعي: وهو أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس. انتهى.
وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبت عنه في الصحيح أنه أكل مما صاده أبو قتادة، فيحمل على أنه علم أو ظن أنه لم يصده لأجله.
1563 - مع أنه قد ورد في حديث أبي قتادة: وإني إنما صدته لك. فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه فأكلوا، ولم يأكل حين أخبرته أني اصطدته له. رواه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، قال(3/125)
بعض الحفاظ: بإسناد جيد. وقال الدارقطني: قال أبو بكر - يعني النيسابوري -: قوله: اصطدته لك. وقوله: ولم يأكل منه. لا أعلم أحدا ذكره في الحديث غير معمر، وهذا إن ثبت فهو كحديث جابر، لا يحتاج إلى تأويل. انتهى.
ويحمل ما في الصحيح أنه أكل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل ظانا أنه لم يصده له، فلما أخبره بالحال امتنع.
1564 - ويحمل «حديث الصعب بن جثامة. وهو أنه أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» متفق عليه. [على أنه علم أنه صيد من أجله] .
وقد فهم من [كلام الخرقي أن المحرم يأكل مما صاده الحلال لا من أجله] ، وهو واضح لما تقدم، وفهم من كلامه بطريق التنبيه أنه لا يأكل ما صاده محرم مطلقا، ولا ما صاده هو بطريق الأولى، وكذلك ما أعان عليه، أو أشار إليه.(3/126)
وفهم من كلامه [أيضا] أن للمحل أكل ما صاده الحلال لأجل المحرم، وهو كذلك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رد على الصعب بن جثامة الحمار الوحشي علل بكونه حرما، ولم ينهه عن أكله، وهل للمحرم غير الذي صيد لأجله أكله؟ فيه احتمالان، والله أعلم.
قال: ولا يتطيب المحرم.
1565 - ش: هذا إجماع، وقد شهد له قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: في المحرم «لا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا» ، فمنع من تطييبه، وعلل بكونه يبعث يوم القيامة ملبيا، فدل على أن المنع لأجل الإحرام، والطيب ما تطيب رائحته، ويتخذ للشم، كالمسك، والكافور، والعنبر، والغالية، والزعفران، وماء الورد، ودهن البنفسج، ونحو ذلك، وفي النباتات الطيبة الريح - كالريحان، والورد، والبنفسج ونحوها - ثلاثة أقوال، ثالثها - وهو اختيار أبي محمد - يباح [شم] الريحان ونحوه مما لا يتخذ منه طيب، دون الورد، والبنفسج، ونحوه مما يتخذ منه طيب، والله أعلم.
قال: ولا يلبس ثوبا مسه ورس، ولا زعفران ولا طيب] .
ش: لما تقدم من حديث ابن عمر «ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران» وغيرهما من الطيب مقيس عليهما.(3/127)
(تنبيه) : «الورس» نبت أصفر يكون باليمن، تصبغ به الثياب، يخرج على الرمث، بين الشتاء والصيف، والرمث - براء مهملة مكسورة، وميم وثاء مثلثة - مرعى من مراعي الإبل، والله أعلم.
قال: ولا بأس بما صبغ بالعصفر.
1566 - ش: لما «روى ابن عمر أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر، أو خز، أو حلي أو سراويل، أو قميص، أو خف» . رواه أبو داود.
1567 - وعن عائشة بنت سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرمن في المعصفرات. رواه الإمام أحمد في المناسك وفارق الورس والزعفران، فإنه ليس بطيب، بخلافهما، والله أعلم.(3/128)
قال: ولا يقطع شعرا من رأسه ولا جسده.
ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ولا فرق بين قطع الشعر بالموسى أو بغير ذلك، أو زواله بنتف ونحوه، ولا بين شعر الرأس والبدن، لما في ذلك من الرفاهية التي حال المحرم ينافيها، والله أعلم.
قال: ولا يقطع ظفرا إلا أن ينكسر.
ش: لا يقطع ظفرا إجماعا، لأنه يترفه به، فمنع منه كإزالة الشعر، فإن انكسر فله قطع ما انكسر بالإجماع أيضا، لأنه يؤذيه ويؤلمه، أشبه الصيد الصائل عليه، والله أعلم.
قال: ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء.
ش: لا ينظر في المرآة لإصلاح شيء زينة كتسوية شعر ونحوه، قال أحمد؛ لا بأس [أن ينظر] في المرآة، ولا يزيل شعثا، ولا ينفض عنه غبارا، وذلك لزوال الشعثة والغبرة اللتين هما من صفات المحرم.(3/129)
1568 - وفي الترمذي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من الحاج؟ قال: «الشعث التفل» قال: وأي الحج أفضل؟ قال: «العج والثج» قال: وما السبيل؟ قال: «الزاد والراحلة» وله أن ينظر في المرآة لا لزينة.
1569 - وقد روى مالك في الموطأ أن ابن عمر نظر في المرآة لشكوى بعينه وهو محرم.
1570 - وعن ابن عباس أيضا أنه أباح ذلك، رواه البخاري وعلى كل حال فالمنع من ذلك منع أدب، لا فدية فيه قاله أبو محمد.(3/130)
(تنبيه) : «الشعث» البعيد العهد بتسريح شعره وغسله.
«التفل» التارك للطيب واستعماله، و «العج» رفع الصوت بالتلبية] . و «الثج» سيلان دماء الهدي، والله أعلم.
قال: ولا يأكل من الزعفران ما يجد ريحه.
ش: إذ المقصود من الطيب ريحه، وهو موجود، فلا فرق بين ما مسته النار وغيره، لوجود المقتضي للمنع وهو الرائحة، وذكر الزعفران على سبيل التمثيل، فيساويه كل مأكول فيه طيب وجد ريحه، والله أعلم.
قال: ولا يدهن بما فيه طيب.
ش: كدهن البنفسج والورد ونحوهما، لوجود الطيب الممنوع منه شرعا، والله أعلم.
قال: ولا ما لا طيب فيه.
ش: لا يدهن بما لا طيب فيه، كالزيت، والشيرج، ونحوهما، على أنص الروايتين، واختيار الخرقي، لأنه يزيل الشعثة والغبرة، وعلى هذا اعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في رواية أبي داود: الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه. فذكرت له حديث ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادهن بزيت غير مقتت؛» فسمعته يقول: الأشعث الأغبر. (والرواية(3/131)
الثانية) : يجوز ذلك، سأله الأثرم: يدهن بالزيت والشيرج؟ قال: نعم، يدهن به إذا احتاج إليه. وذلك لما استدل به أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحمد.
1571 - وهو ما روى عن سعيد بن جبير عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدهن بدهن غير مقتت» ، يعني غير مطيب، وفي رواية: «كان يدهن بالزيت - وهو محرم - غير المقتت» . رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث فرقد السبخي، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد، وقد روى عنه الناس.
1572 - وعن ابن عباس قال: يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوى بما يأكل بالزيت والسم، رواه البخاري. وهنا(3/132)
شيئان «أحدهما» منع أحمد إنما هو في الرأس، فلذلك خص أبو محمد في مقنعه ومغنيه الروايتين بذلك، أما البدن فيجوز عنده دهنه بلا نزاع، وجعل ذلك في الكافي احتمالا، وقدم إجراء الروايتين فيهما، وهذه طريقة الأكثرين، القاضي في تعليقه، وأبي الخطاب وصاحب التلخيص، وأبي البركات وغيرهم، فلعلهم نظروا إلى تعليل أحمد بالشعث، وذلك موجود في البدن، وإن كان في الرأس أكثر.
(الثاني) : حيث قيل بالمنع فإن الفدية تجب كغيره، على ظاهر كلام عامة الأصحاب، ولذلك قال القاضي في تعليقه: إنه ظاهر كلام الإمام أحمد، لأنه منع منه، وهو اختيار الخرقي انتهى. ولم يوجب أبو محمد الفدية على الروايتين، وقد ذكر ذلك أيضا القاضي في تعليقه لكنه جعل المنع بمعنى الكراهة، فقال: ويحتمل أن يكون منع على طريق الكراهة من غير فدية.
(تنبيه) : «المقتت» المطيب بالقت، وهو الذي تطبخ فيه الرياحين حتى يطيب والله أعلم.(3/133)
قال: ولا يتعمد لشم الطيب.
ش: كما إذا جلس عند العطار للشم، أو دخل البيت حال تجميره لذلك، إذ المقصود من الطيب الرائحة، فإذا تعمد شم الطيب فقد وجد الممنوع منه شرعا وهو الطيب، ولو لم يتعمد الشم فشم - كما إذا جلس عند العطار لحاجة ونحو ذلك - فلا شيء عليه، لأن ذلك يشق الاحتراز منه، والله أعلم.
قال: ولا يغطي شيئا من رأسه.
ش: لما تقدم من حديث ابن عمر «ولا العمامة ولا البرنس» «وحديث ابن عباس في المحرم الذي وقصته ناقته «لا تخمروا رأسه» والمنهي عنه يحرم فعل بعضه، بدليل الحلق. وكلام الخرقي يشمل التغطية بمعتاد - كالعمامة والبرنس ونحوهما -[وغيره] كما لو عصبه أو طينه بطين، أو جعل عليه دواء ونحوه. وهو كذلك. نعم يستثنى من ذلك ما لو حمل على رأسه طبقا ونحوه ولو قصد به الستر، لأنه لا يقصد له غالبا، ولم يستثنه ابن عقيل مع الستر، ويستثنى أيضا الستر بيديه، وتلبيد الشعر بغسل أو نحوه، وستر بعضه بطيب الإحرام.
1573 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبد رأسه، وكان وبيص الطيب في مفرقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله أعلم.(3/134)
قال: والأذنان من الرأس.
ش: فلا يجوز تغطيتهما كبقية أبعاض الرأس.
1574 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الأذنان من الرأس» رواه ابن ماجه من طرق.(3/135)
1575 - وعن الصنابحي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه» وذكر الحديث إلى أن قال: «فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه» رواه مالك في الموطأ، والنسائي وابن ماجه فقوله: «حتى تخرج من أذنيه» دليل على دخولهما في مسماه.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يحرم عليه تغطية وجهه. وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار القاضي في تعليقه، و [في] جامعه، وأبي محمد وغيرهما، لأن الأشهر والأكثر(3/136)
في الرواية في المحرم «ولا تخمروا رأسه» ومفهومه جواز [تخمير] ما عدا ذلك.
1576 - وقد خمر عثمان وجهه، ذكره مالك في الموطأ.
1577 - ورواه عنه أيضا وعن زيد، وابن الزبير، وابن عباس، [وجابر] وسعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ النجاد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (والرواية الثانية) لا يجوز.(3/137)
1578 - لأن في رواية في الصحيح «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» .
1579 - وعن نافع، أن ابن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس، فلا يخمره المحرم. رواه مالك في الموطأ أي من حكم الرأس، والله أعلم.
قال: والمرأة إحرامها في وجهها.
ش: المرأة إحرامها في وجهها، فلا تغطيه ببرقع، ولا نقاب ولا غيرهما.
لأن في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي في الصحيح «ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين» وفي حديثه الذي في السنن أنه «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب» .
1580 - وروى النجاد بإسناده عن نافع عنه قال: «إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه» .
(تنبيهان) : «أحدهما» : يجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطية الوجه، ولا يمكن تغطية(3/138)
محل الرأس إلا بتغطية جزء من الوجه، ولا كشف [جميع] الوجه إلا بكشف جزء من الرأس، فإذا المحافظة على ستر الرأس أولى، قاله أبو محمد، لأنه عورة يجب ستره مطلقا.
«الثاني» : «القفاز» بالضم والتشديد، قال الجوهري: [هو] شيء يعمل لليدين، يحشى بقطن، ويكون له أزرار تزر على الساعدين من البرد. وقال صاحب المطالع: هو غشاء الأصابع مع الكف، معروف يكون من جلد وغيره. ونحو هذا قال صاحب التلخيص؛ قال: معمول لليد كالمعمول لأيدي البازبازية ونحو ذلك قال ابن الزاغوني، وقال ابن دريد وابن الأنباري: ضرب من الحلي. ثم قال ابن دريد: لليدين. وقال الآخر: وللرجلين. والله أعلم.(3/139)
قال: فإن احتاجت سدلت على وجهها.
ش: إذا احتاجت المرأة لستر وجهها حذارا من رؤية الرجال سدلت على وجهها ثوبا ونحوه.
1581 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها [من رأسها] على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» . رواه أبو داود وابن ماجه.
1582 - وعلى هذا يحمل ما روى مالك في الموطأ عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر.
ثم شرط القاضي في الساتر كونه متجافيا عن وجهها، بحيث لا يصيب البشرة، فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها، كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي، وخالفه في ذلك أبو محمد، فقال: لم أر هذا الشرط عن أحمد، ولا(3/140)
هو في الخبر، بل الظاهر من الخبر خلافه والله أعلم.
قال: لا تكتحل بكحل أسود.
ش: لأن في حديث جابر الطويل - وسيأتي إن شاء الله تعالى - قال: «وقدم علي من اليمن، فوجد فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ممن حل، ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، وقال: من أمرك بهذا؟ قالت: أبي. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صدقت صدقت» فدل هذا على أنها قبل الإحلال ممنوعة من ذلك. وتقييده بالأسود لأنه الذي تحصل به الزينة، فيخرج ما ليس للزينة، كالذي يتداوى به، فلا تمنع منه.
1583 - لما روى نبيه بن وهب «أن عمر بن عبيد الله بن معمر اشتكى عينيه وهو محرم، فأراد أن يكحلها، فنهاه أبان بن عثمان، وأمره أن يضمدها بالصبر، وحدثه عن عثمان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه كان يفعله» ] رواه مسلم وغيره، ولفظ النسائي: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «للمحرم إذا اشتكى عينه أن يضمدها بالصبر» » فيلحق بذلك ما في معناه مما ليس فيه زينة.(3/141)
وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، بل قد يقال: ظاهر كلامه وجوب الفدية، وقد أقره على ذلك أبو الحسن بن الزاغوني، فقال: [هو] كالطيب واللباس، وجعله أبو البركات مكروها، وكذلك أبو محمد، ولم يوجب فيه فدية، وسوى في ذلك بين الرجل والمرأة، والله أعلم.
قال: وتجتنب كل ما يجتنب الرجل إلا في اللباس، وتظليل المحمل.
ش: لأن حكم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[على المحرم] بأمر، يدخل فيه النساء، وإنما استثني اللباس، وتظليل المحمل، لحاجتها إلى السترة إذ هي عورة، [وقد] قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم [على] أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجل إلا بعض اللباس، وأجمعوا على أن للمحرمة لبس القميص، والدرع، والسراويلات، والخمر، والخفاف، وقد تقدم حديث ابن عمر «ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب» إلى آخره، والله أعلم.
قال: ولا تلبس القفازين.(3/142)
ش: يستثنى من جواز اللباس لها القفازان فإنها تمنع منهما كما يمنع الرجل، لما تقدم في حديث ابن عمر «ولا تلبس القفازين» وتقدم ثم أيضا معناهما، والله أعلم.
قال: ولا الخلخال وما أشبهه.
ش: أي من الحلي كالسوار ونحوه، لأن ذلك يتخذ للزينة ويدعو إلى نكاحها، أشبه الطيب، وقد قال أحمد: المعتدة والمحرمة يتركان الطيب [والزينة] ، ولهما ما عدا ذلك.
وظاهر كلام الخرقي وأحمد في هذا النص أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، ونص [أحمد] في رواية حنبل على الجواز، فقال: تلبس المحرمة الحلي والمعصفر. وعلى هذا جمهور الأصحاب. لما تقدم من حديث ابن عمر «ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر، أو خز، أو حلي» وحمل أبو محمد كلام الخرقي على الكراهة، كقوله في الكحل، وجزم بأنه لا فدية فيه، والله أعلم.
قال: ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها.
ش: لما كان مفهوم كلام الشيخ أنه يباح لها ما يباح للرجل، استثنى من ذلك رفع صوتها بالتلبية، فإنها لا ترفع إلا(3/143)
بمقدار ما تسمع رفيقتها، حذارا من الفتنة بصوتها، ولهذا لم يشرع في حقها أذان ولا إقامة.
1584 - وعن سليمان بن يسار أنه قال: «السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال» .
وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها، وإنما عليها أن تسمع نفسها، وظاهر إطلاق الخرقي تحريم الزيادة على ذلك، وهو ظاهر إطلاق الشيخين وغيرهما، والله أعلم.
قال: ولا يتزوج المحرم ولا يزوج، فإن فعل فالنكاح باطل.
ش: هذه المسألة قد ذكرها الخرقي هنا وفي النكاح، وقد تكلمنا عليها في النكاح ولله الحمد، فلا حاجة إلى(3/144)
إعادتها، ونزيد هنا بأنه إذا خالف وفعل فلا فدية عليه بلا خلاف نعلمه، لأنه عقد فسد لأجل الإحرام، أشبه شراء الصيد، والله أعلم.
قال: فإن وطىء المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل فقد فسد حجهما.
ش: مجرد النكاح لا يفسد الإحرام بلا ريب، بل إذا وطىء فيه، أو وطىء مطلقا في الفرج فقد فسد حجه اتفاقا، قاله ابن المنذر، فقال: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع. انتهى وقد قضى بهذا الصحابة.
1585 - فقال مالك في الموطأ: بلغني أن عمر، وعليا، وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم [بالحج] فقالوا: ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما، ثم عليهما حج من قابل والهدي.
1586 - قال: وقال علي: وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا، حتى يقضيا حجهما.(3/145)
1587 - وعن ابن عمر وابن عباس نحو ذلك، رواه الأثرم في سننه (ولا فرق بين) أن ينزل أو لا ينزل، لإطلاق الصحابة، (ولا بين) أن يكون الوطء قبل الوقوف أو بعده، لإطلاقهم أيضا، (ولا بين) [أن يكون] الوطء قبل الوقوف أو بعده، لإطلاقهم أيضا، (ولا بين) [أن يكون] الوطء في القبل أو الدبر، من آدمي أو بهيمة، لأنه وطء محرم، يجب الاغتسال، أشبه وطء الآدمية في القبل، يتخرج أن لا يفسد الحج بوطء البهيمة، كما لا تجب الكفارة على الصائم في نهار رمضان في قول. (ولا فرق: بين العامد والساهي، على المنصوص المشهور المختار للأصحاب، حتى أن الشيخين [وجماعة] لم يذكروا خلافا. وخرج القاضي في الروايتين رواية بعدم الفساد مع النسيان، قال: من قوله في رواية أبي طالب في الصائم: إذا وطىء ناسيا لم يفسد صومه.
(قلت) : وقد يخرج من رواية عدم وجوب الكفارة ثم، وهو أولى، إذ إيجاب الكفارة [ثم] هو نظير إفساد الحج، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(3/146)
وأيضا هذه الرواية هي أشهر ثم من القول الذي خرج منه القاضي، وهذا التخريج لازم لأبي محمد، لأنه المخرج في البهيمة أنه لا يفسد الحج بوطئها، لكنه لم ينص على محل التخريج، انتهى.
وحكم الجاهل بالتحريم والمكره حكم الناسي قاله أبو محمد، والله أعلم.
قال: وعليه بدنة إن كان استكرهها، وإن كانت طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة.
ش: لا يخلو الواطىء المحرم من أن يكون استكره الموطوءة أو طاوعته، فإن طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة، على المشهور من المذهب، والمختار للأصحاب، لأنها أحد المجامعين، أشبهت الرجل.
1588 - وقد ثبت الأصل بما في الموطأ عن ابن عباس أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنة.
1589 - وعنه أيضا أنه قال: أهد ناقة ولتهد ناقة.(3/147)
1590 - قال أحمد في رواية أبي طالب: على كل واحد هدي أكرهها أو لم يكرهها، هكذا قال ابن عباس. (وعن أحمد) أنه قال: أرجو أن يجزئها هدي واحد. وخرج ذلك القاضي في روايتيه من قوله في الصوم: لا كفارة وإن طاوعت. وعلى هذه [الرواية] لا يجب مع الإكراه إلا بدنة واحدة بطريق الأولى، وذلك على المذهب على المشهور من الروايتين، إذ المكره لا ينسب له فعل، فوجوده كالعدم. (وعنه) : عليها بدنة كالرجل، وقد تقدم نصه على ذلك، واعتماده على قول ابن عباس، وقد تقدم نصه على ذلك، واعتماده على قول ابن عباس، وعلى هذه يتحملها الزوج عنها على المشهور، لأن ذلك حصل [بسبب] فعله وعدوانه، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب أنها تستقر عليها، وحكم النائمة حكم المكرهة، والله أعلم.
قال: فإن وطئها دون الفرج فلم ينزل فعليه دم، فإن أنزل فعليه بدنة وقد فسد حجه.
ش: إذا وطىء دون الفرج فلا يخلو إما أن ينزل أو لا. فإن لم ينزل لم يفسد نسكه بلا نزاع، ووجب عليه دم، لأنه فعل محرم، لم يفسد النسك، أشبه الحلق، ثم هل هو شاة أو(3/148)
بدنة؟ على روايتين أشهرهما الأول، وإن أنزل وجبت بدنة بلا ريب، لأنه وطء اقترن به الإنزال، أشبه الوطء في الفرج. وهل يفسد النسك؟ فيه روايتان أشهرهما عنه - وهي اختيار الخرقي وأبي بكر والقاضي في روايتيه - يفسد، لما تقدم، ولأن الصحابة أطلقوا الإصابة.
(والثانية) - واختارها أبو محمد - لا يفسد، لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد، فلم يفسد النسك، كما لو لم ينزل، والإصابة في كلام الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كناية عن الوطء في الفرج، والله أعلم.
قال: وإن قبل فلم ينزل فعليه دم، فإن أنزل فعليه بدنة، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: إن أنزل فسد حجه.
ش: إذا قبل أو مس فلم ينزل فعليه دم لما تقدم.
1591 - وقد روى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث أن عمر بن عبيد الله قبل عائشة بنت طلحة محرما، فسأل فأجمع له على أن يهريق دما والظاهر أنه لم ينزل وإلا لذكر. (وإن أنزل)(3/149)
فعليه بدنة لأنه نوع مباشرة أشبه المباشرة فيما دون الفرج، وفل يفسد نسكه؟ فيه روايتان، توجيههما يفهم مما تقدم.
واعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جزم [ثم] بالفساد، وحكى الروايتين هنا، وتبعه على ذلك صاحب التلخيص، [وعاكسه] ابن أبي موسى فيما أظن، فحكى [الروايتين] في الوطء دون الفرج. وجزم في القبلة بعدم الفساد، وجعل القاضي والشيخان الروايتين في الجميع، وهو أوجه من جهة النقل، إذ أحمد قد نص على الفساد بالقبلة، وإذا أردت جمع الطرق كان في المسألتين ثلاثة أقوال، ونظير ذلك لو باشر في الصيام، على ما حكاه أبو البركات تجب الكفارة، لا تجب، تجب بالوطء [دون الفرج دون القبلة وهي المشهورة، واختيار الخرقي هنا أيضا، ولا شك أن الوطء] دون الفرج أبلغ من القبلة ونحوها، واللذة به أزيد، فاقتضى زيادة في الواجب، والله أعلم.
قال: وإن نظر فصرف بصره فأمذى فعليه دم.(3/150)
ش: ظاهر هذا أنه إذا أمذى بمجرد النظر كان عليه دم، وعلى ذلك شرح ابن الزاغوني، لأنه إنزال يؤثر في فساد الصوم، فأوجب الكفارة، دليله إنزال المني، وظاهر كلام أبي الخطاب، وصاحب التلخيص، والشيخين - بل صريحه - أنه لا يجب والحالة هذه شيء، لأن ذلك يوجد كثيرا، لا سيما من الشبان، فالوجوب به فيه حرج. والله أعلم.
قال: فإن كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة.
ش: هذا إحدى الروايتين، لأن نوع استمتاع ممنوع منه، أشبه القبلة ونحوها (والثانية) - وهي المنصوصة - عليه شاه، لأنه إنزال لا عن مباشرة، أشبه الإنزال بالفكر انتهى. ولو كرر النظر فمذى فاتفق الأصحاب هنا فيما علمت أنه يجب عليه شاة، ويفهم ذلك مما تقدم من كلام الخرقي بطريق التنبيه.
وفهم من كلام الخرقي أيضا أنه متى لم ينزل بالنظر فلا شيء عليه، وهو كذلك، وقد بقي عليه من أنواع الاستمتاع الفكر، إذا أنزل به، ولا نزاع أنه لا شيء عليه إذا غلبه، وكذلك إن استدعاه، على أشهر الوجهين، وقد يقال: إنه مقتضى كلام الخرقي.
(تنبيه) : فساد النسك هنا بمنزلة وجوب الكفارة في الصوم، لأن ذلك الأمر الأغلظ فيهما، ووجوب الكفارة هنا بمنزلة فساد الصوم ثم، لأنه الأخف فيهما، فالوطء [في الفرج] موجب للفساد والكفارة في البابين، والوطء دون الفرج(3/151)
مع الإنزال موجب لفساد الصوم [بلا ريب] والكفارة على الأشهر، وهنا موجب للكفارة بلا ريب [وكذلك] لفساد النسك على الأشهر.
والقبلة ونحوها مع الإنزال موجب للفساد ثم بلا ريب أيضا، [غير] موجب للكفارة على الأشهر. وهنا موجب للكفارة لا الفساد على الأشهر.
وتكرار النظر بشرطه يفسد ثم، ويوجب الكفارة هنا، ولا يقتضي كفارة ثم، ولا فسادا هنا، والإنزال بالفكر المستدعى لا يوجب كفارة ثم، ولا فسادا هنا، وهل يفسد ثم، ويوجب الكفارة هنا؟ فيه وجهان، والله أعلم.
قال: وللمحرم أن يتجر.
1592 - ش: لما روى أبو داود عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [قال] : كانوا لا يتجرون بمنى، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات.
1593 - وفي الصحيح عنه قال: كان ذو المجاز، وعكاظ متجر الناس(3/152)
في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج، والله أعلم.
قال: ويصنع الصنائع كلها.
ش: لأن ذلك في معنى التجارة، والله أعلم.
قال: ويرتجع زوجته، وعن أبي عبد الله أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى في الارتجاع أن لا يفعل ذلك.
ش: الرواية الأولى اختيار أبي محمد، والقاضي في روايتيه، إذ الرجعية زوجة، والرجعة إمساك، قال سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ولهذا لا يفتقر إلى الولي، ولا إلى الشهود.
(والثانية) : هي الأشهر عن أحمد، واختيار القاضي في التعليق في مواضع، لأنه عقد يتوصل به إلى استباحة بضع مقصود، فمنع منه الإحرام، دليله عقد النكاح. ولا يرد شراء الأمة [إذ] المقصود منه الملك، لا(3/153)
استباحة البضع، ولا المظاهر إذا كفر في حال الإحرام، فإنه يتوصل إلى إباحة، لكن ذلك ليس بعقد.
وقد أورد على هذا أن الرجعية مباحة فلا استباحة، فأجاب القاضي: الاستباحة تتعلق بها، وإن قلنا هي مباحة، فإنه لو تركها حتى مضت العدة حرم وطؤها، فرجعتها تبيح الوطء بعد مضي [مدة] العقد، والله أعلم.
قال: وله أن يقتل الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور.
1594 - ش: في الصحيحين [وغيرهما] من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور " وفي رواية: " خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام» .
1595 - – وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – بقتل خمس من الفواسق في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» . متفق عليه.
وقد شمل كلام الخرقي وكلام غيره من الأصحاب صغار هذه، وعموم الحديث [أيضا] يقتضيه، وإذا قيل: إن فسقهن لأذاهن فلا ينبغي أن يدخل في ذلك إلا من وجد فيه حقيقة الأذى، أو تأهله لذلك.(3/154)
(تنبيه) : المراد بالغراب [الغراب] الأبقع بلا ريب، وهو الذي في بطنه وظهره بياض، وغراب البين عندنا كذلك، نظرا لعموم الأحاديث الصحيحة ولأنه يعدو على الناس، ويحرم أكله، فهو كالأبقع، ويخرج من ذلك غراب الزرع لجواز أكله، وعدم أذاه. وقيل: المراد في الحديث الأبقع فقط، حملا للمطلق على المقيد، إذ في مسلم «والغراب الأبقع» و «الحدأة» بكسر الحاء والهمزة، «والعقور» العضوض، فعول بمعنى فاعل، أي العاقر، واختلف فيه، فقيل: هو كل سبع يعقر، نظرا لجانب اللفظ.
1596 - ويؤيده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعى على عتبة بن أبي لهب فقال: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» فافترسه الأسد.(3/155)
وقيل: هو الكلب المألوف، نظرا لجانب العرف، إذ الظاهر في اللام أنها لمعهود ذهني، و «الحرم» ضبطه جماعة بفتح الحاء والراء وهو الحرم المشهور، وضبطه القاضي في المشارق بضم الحاء والراء، جمع حرام، كقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] قال: والمراد به المواضع المحرمة. قال النووي: والأول أظهر.
وتمسية هؤلاء فواسق قيل: لخروجهن عن السلامة منهن(3/156)
إلى الأذى، وقيل: لخروجهن عن الحرمة إلى الأمر بقتلهن. وقيل: سمي الغراب فاسقا لتخلفه عن نوح، [وخروجه] عن طاعته، وأصل الفسوق الخروج، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت عن قشرها، والله أعلم.
قال: وكل ما عدا عليه، أو آذاه، ولا فداء عليه.
ش: أي يجوز قتله، ويحتمل أن يريد بذلك كل ما عدا على المحرم في نفسه أو ماله، وإن لم يكن من طبعه الأذى، ولا نزاع في ذلك، لأنه إذا هو الجاني على نفسه، ويحتمل أن يريد ما في طبعه الأذى وإن لم يوجد [منه] كسباع البهائم، وجوارح الطير، كالنمر، والفهد، والبازي، والعقاب، ونحو ذلك. والزنبور، والبق، والبراغيث، وشبهها من الحشرات المؤذية، إذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس من الفواسق يقتلن» من باب ترتيب الحكم على الوصف، فحيث وجد الفسق ترتب الحكم، ثم إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكد ذلك بأن عدد أنواعا، تنبيها على ما في معناها [كالعقرب] .(3/157)
1597 - وفي رواية أحمد ذكر الحية تنبيها على ما يشاركها في الأذى باللسع كالبرغوث والزنبور.
والفأرة تنبيه على ما آذى بالنقب والتقريض كابن عرس ونحوه.
والغراب والحدأة تنبيه على ما يؤذي بالاختطاف كالصقر.
والكلب العقور تنبيه على كل عاد كالنمر ونحوه، والاحتمالان صحيحان [على المذهب] لكن ظاهر كلامه [هو] الأول.
وقد يقال عليه: إن ظاهر كلامه منع قتل ما عدا الخمسة المذكورة ما لم تعد عليه، ويرجحه أن في مسلم «يقتل خمس فواسق» » بالإضافة من غير تنوين، وهي إضافة بمعنى [من] أي من الفواسق. وتخصيص هذه الخمسة بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداها، ويرجح ذلك رواية ابن عمر السابقة، والله أعلم.
[صيد الحرم ونباته]
قال: وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم.(3/158)
ش: هذا إجماع من أهل العلم، ولله الحمد.
1598 - وقد دل عليه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما فتح الله عز وجل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة، قام في الناس، فحمد الله ثم أثنى عليه، ثم قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد من بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدي وإما أن يقتل» فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلا الإذخر» فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اكتبوا لأبي شاه» متفق عليه واللفظ لمسلم، وفي لفظ: لا يختلى خلاه» .
1599 - وفي الصحيحين أيضا عن ابن عباس نحوه.
وقد شمل كلام الخرقي الصيد من آبار الحرم وعيونه، ونحو ذلك، وهو إحدى الروايتين، لعموم «لا ينفر صيدها» . والثانية - وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى - يباح ذلك، لأن الإحرام لا يحرمه، أشبه الحيوان الأهلي.
(تنبيه) : «الخلا» مقصور الحشيش الرطب. واختلاؤه قطعه و «الإذخر» بذال معجمة حشيشة طيبة الريح، تسقف بها البيوت فوق الخشب، والله أعلم.(3/159)
قال: وكذلك شجره ونباته، إلا الإذخر، وما زرعه الإنسان.
ش: أي يحرمان على الحلال والمحرم؛ أي قطعهما إلا الإذخر، وما زرعه الإنسان، فإن يباح أخذهما، وهذه الجملة مجمع عليها، قاله ابن المنذر، وقد تقدم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يختلى شوكها» و «لا يختلى خلاه» وفي حديث ابن عباس «لا يعضد شوكها» أي لا يقطع، والإذخر قد تقدم استثناؤه، وما زرعه الآدمي – كالبقول – فالحاجة داعية إلى أخذه، ويتضرر زراعه بتركه [فهو] كالإذخر وأولى.
[وقول الخرقي: و] ما زرعه الإنسان. يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر، ويحتمل أن يعم جميع ما يزرع، فيدخل الشجر، وهما وجهان للأصحاب (أحدهما) – وهو اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وأبي البركات – له أخذ ما غرسه من الشجر، قياسا على الزرع، (والثاني) - وهو اختيار القاضي - ما نبت أصله في الحرم لا يباح أخذه، لعموم الحديث، وما نقل من الحل إلى الحرم يباح أخذه، نظرا إلى أصله.
وقد دخل في عموم كلام الخرقي الشوك، والعوسج،(3/160)
واليابس من الشجر والحشيش، وقد استثنى الشوك والعوسج ونحوهما جمهور الأصحاب، نظرا لأذاه، فهو كسباع البهائم، ومنع أبو محمد من استثنائه أخذا بصريح الحديث، واتفق الكل فيما علمت على استثناء اليابس، لأنه بمنزلة الميت، والله أعلم.
[الإحصار في الحج]
قال: وإن أحصر بعدو نحر ما معه من الهدي وحل.
ش: الحصر والمنع، يقال: حصره العدو فهو محصور، وأحصر بالمرض فهو محصر، هذا هو الأشهر قاله غير واحد، وقيل: يجوز فيهما حصر وأحصر، وهو ظاهر القرآن، ولا نزاع بين العلماء أن من منعه عدو عن الوصول إلى البيت أن له التحلل في الجملة، لقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] الآية: قال أبو محمد: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية.
1600 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحلق رأسه» .
1601 - وعن مسور ومروان - في حديث عمرة الحديبية والصلح - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: «قوموا(3/161)
فانحروا ثم احلقوا» رواهما البخاري وغيره.
ويشترط لجواز الحل أن لا يجد طريقا آمنا، فإن وجد طريقا آمنا لزمه سلوكه، وإن بعد وخاف الفوات، وإذا جاز له التحلل فلا يتحلل إلا بنحر الهدي إن قدر عليه، أو ببدله إن عجز عنه، وهو الصيام، للآية الكريمة، إذ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أي فالواجب ما استيسر من الهدي، أو فعليكم ما استيسر من الهدي، [أو فأهدوا ما استيسر من الهدي] ثم قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا فعل، نحر وأمر أصحابه أن ينحروا، وفعله خرج بيانا للأمر المشروع.
وقول الخرقي: وإن حصر أي عن البيت، بدليل قوله بعد في المريض [ولو حصر] في الحج عن عرفة وحدها لم يكن له التحلل، ولزمه المضي إلى البيت، فيتحلل بعمرة، ولا شيء(3/162)
عليه [على] المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين و «الثانية» له التحلل كما لو صد عن البيت، ويحتملها إطلاق الخرقي.
وقوله: وإن حصر [بعدو] يشمل في الحج وفي العمرة، وقبل الوقوف وبعده، وفي الحج الصحيح والفاسد، وهو كذلك، ويشمل إذا أحاط العدو به من جميع الجوانب، وكذلك أطلق غيره، قال صاحب التلخيص: ويحتمل عندي أنه ليس له التحلل والحال هذه، لأنه لا يتخلص منه فهو كالمرض، ويشمل الحصر العام والخاص، كما لو حصر هو وحده، بأن أخذته اللصوص، أو حبس وحده، نعم يشترط لذلك أن يكون مظلوما، فلو حبس بحق يلزمه ويمكنه أداؤه لم يكن له التحلل، ويشمل العدو الكافر والمسلم، ولا يتحقق الحصر به إلا إن احتاج في دفعه إلى قتال أو بذل مال كثير، فإن كان يسيرا والعدو مسلما فهل يجب الدفع ولا يتحلل، أو لا يجب فيتحلل؟ فيه وجهان.
وقوله: نحر ما معه من الهدي. ظاهره في الموضع الذي حصر فيه، وهو منصوص أحمد، ومختار الأصحاب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر نحر وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا»(3/163)
وكان ذلك بالحديبية، وهي من الحل، قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في الموطأ] : إذا أحصر بعدو يحلق في أي موضع كان [ولا قضاء عليه] لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا، وحلوا من كل شيء قبل الطواف بالبيت. مختصر ويشهد لهذا قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] فأخبر سبحانه أن الهدي حبس عن بلوغ محله.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: ليس له نحره إلا في الحرم، فيبعث به، ويواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه، لظاهر قوله سبحانه: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] أي مكانه الذي يجب نحره فيه.
1602 - وعن عمرو بن سعيد النخعي، أنه أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ، فخرج أصحابه إلى الطريق، عسى أن يلقوا من يسألونه، فإذا هم بابن مسعود، فقال لهم: ليبعث بهدي أو بثمنه، واجعلوا بينكم وبينه أمارا يوما ما، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته. وقال في المغنى: هذا والله(3/164)
أعلم فيمن حصره خاص أما من حصره عام فلا ينبغي أن يقال، لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل، لتعذر وصول الهدي إلى محله، وعلى هذا حكى الرواية في الكافي.
1603 - ويشهد لذلك قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عدو أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع، وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله. رواه البخاري انتهى، ولا يرد(3/165)
على [هذا] فعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، لأن الظاهر أن البعث تعذر عليهم.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية ثالثة: لا يجزئه الذبح إلا يوم النحر، إذ هذا وقت ذبحه، كذا أطلق الرواية في التلخيص، وقيدها في الكافي بما إذا ساق هديا. انتهى.
ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به، لأن الهدي يكون لغيره، فلزمته النية طلبا للتمييز.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب الحلاق. وهو إحدى الروايتين. «والثانية» يجب، وهو اختيار القاضي في التعليق وغيره، وبناهما أبو محمد في الكافي على أنه نسك أو إطلاق من محظور. فإن قلنا: نسك. وجب وتوقف الحل عليه، ولا يحصل إلا بثلاثة أشياء النحر مع النية والحلق، وإن قلنا: إطلاق من محظور لم يتوقف الحل عليه، فيحصل بالنحر مع النية.(3/166)
وقول الخرقي: وحل. ظاهره أن الحل مترتب على النحر، وقد تقدم، وسيأتي ما هو أصرح من ذلك، ولا ريب أن ذلك هو المذهب لما تقدم.
1604 - وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أحصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحلق رأسه ونحر هديه، وجامع نساءه، حتى اعتمر عاما قابلا» . [رواه البخاري] . وعنه في المحرم بالحج: لا يحل إلا يوم النحر ليتحقق الفوات، لاحتمال زوال الحصر، والله أعلم.
قال: وإن لم يكن معه هدي، ولا يقدر عليه، صام عشرة أيام ثم حل.
ش: إذا لم يكن معه هدي لزمه أن يشتري هديا [إن أمكنه] للآية الكريمة، ويجزئه شاة أو سبع بدنة.
1605 - لما روي عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: ما استيسر من الهدي [هو شاة] . رواه مالك في الموطأ عن علي مسندا، وعن ابن عباس مرسلا.(3/167)
1606 - وفي الموطأ أيضا عن ابن عمر: لو لم أجد إلا أن أذبح شاة فكان أحب إلي من أن أصوم. مختصر. فإن عجز عن الشراء سقط عنه، ولزمه صيام عشرة أيام، لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدل، فينتقل إليه كدم التمتع، ولا يحل إلا بعد الصيام، كما لا يحل إلا بعد نحر الهدي، إجراء للبدل مجرى المبدل، والله أعلم.
قال: وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة، بعث بهدي إن كان معه ليذبح بمكة، وكان على إحرامه حتى يقدر على البيت.
ش: إذا منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة [أو نحو ذلك] لم يكن له التحلل في المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب.
1607 - لما روى أيوب السختياني، عن رجل من أهل البصرة [كان قديما] أنه قال: خرجت إلى مكة، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، والناس، فلم يرخص لي أحد أن(3/168)
أحل، وأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر، حتى حللت بعمرة.
1608 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: من حبس بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، فإن اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها، أو الدواء صنع ذلك وافتدى. رواهما مالك في موطئه.
1609 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا حصر إلا حصر العدو. رواه الشافعي [في مسنده] وأيضا ما تقدم من حديث ضباعة بنت الزبير، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بالاشتراط خوفا من حبسها بالمرض، ولو كان المرض مبيحا للتحلل لم تكن حاجة إلى الاشتراط، ويفارق حصر العدو [لأنه ثم إذا تحلل تخلص من العدو] وهنا لا يتخلص بالتحلل مما وقع فيه.(3/169)
و [الرواية] الثانية - ولعلها أظهر -: له التحلل، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] إذ أحصر إن كان يستعمل للمنع بالعدو والمرض فهو شامل لهما، وإن كان للمرض - وهو الأشهر حتى قال الأزهري: إنه كلام العرب، وعليه أهل اللغة وقال الزجاج: إنه الرواية عن العرب. - فالآية إنما وردت في حصر المريض، واستفيد حصر العدو بطريق التنبيه، وبورود الآية بسببه.
1610 - «وروى الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل» قال عكرمة: فسمعته يقول ذلك، فسألت ابن عباس وأبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عما قال فصدقاه» . رواه الخمسة وحسنه الترمذي، وزاد أبو داود في رواية أو مرض» لا يقال:(3/170)
هذا متروك الظاهر، لأنه لا يحل بمجرد ذلك. لأنا نقول: هذا مجاز سائغ، إذ من أبيح له التحلل فقد حل، لا يقال: فابن عباس قد خالف ذلك، وهو يضعف ما روي عنه من التصديق، لأنا نقول: غايته أن يكون مخالفا لروايته، ومخالفة الراوي لظاهر الحديث [لا] يقدح فيه، على المشهور من قولي العلماء، وأصح الروايتين عن أحمد، وحمله على الحل بالفوات، أو على الاشتراط بعيد جدا، وما روي عن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فقد تقدم عن ابن مسعود ما يخالفه، وحديث ضباعة في الاشتراط فيه فائدة غير الحل، وهو عدم وجوب شيء، وكونه لا يتخلص من الأذى الذي به ممنوع، فإنه يتخلص من مشقة الإحرام، ثم رجوعه إلى بلده أخف عليه من بقائه على الإحرام حتى يقدر على البيت، ثم يرجع إلى بلده.
فعلى هذه الرواية حكمه حكم من حصر بعدو، وينحر الهدي، أو يصوم إن لم يجد الهدي ثم يحل، وعلى المشهور(3/171)
إن كان ساق هديا بعث به ليذبح بمكة، ثم إن فاته الحج تحلل بعمرة كغير المريض.
(تنبيهان) : «أحدهما» حيث تحلل المحصر بعدو أو مرض ونحوه فلا قضاء عليه على إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي وابنه [أبي الحسين] وغيرهما، لما تقدم عن ابن عباس: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ. الحديث، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه أنه أمر من حل معه بالحديبية أن يقضوا، والظاهر أنه لو وقع لنقل.
«والرواية الثانية» يجب القضاء، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تحلل قضى من قابل.
1611 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: أليس حسبكم سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت، وبالصفا والمروة ثم حل من كل شيء، حتى يحج عاما قابلا، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا» . رواه البخاري وغيره. (وأجيب) بأنه لا نزاع في القضاء، إنما النزاع في وجوبه، وقول ابن عمر يحمل على من تحلل من حج واجب، فإنه لا نزاع في قضاء ذلك نظرا للوجوب السابق.(3/172)
(التنبيه الثاني) : «عرج» [بفتح الراء] يعرج إذا أصابه شيء في رجليه فجمع ومشى مشية العرجان، وليس بخلقة، فإذا كان خلقة قيل: [عرج] بالكسر قاله المنذري، وقال الزمخشري: «عرج» بالفتح إذا تعارج، وعرج بالكسر إذا كان خلقة، والله أعلم.
قال: وإن قال: أنا أرفض إحرامي وأحل. فلبس المخيط، وذبح الصيد، وعمل ما يعمله الحلال، كان عليه في كل فعل فعله دم [وكان على إحرامه] .
ش: [يعني] إذا قال الممنوع من البيت بمرض ونحوه: أنا أترك إحرامي وأحل. فإن إحرامه لا يرتفض بهذا، لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد، فلا يخرج منها بالرفض، بخلاف سائر العبادات، وإذا يلزمه فداء كل جناية جناها على إحرامه، لبقائه في حقه، ولا يلزمه بالرفض شيء، لأنها نية لم تؤثر، والله أعلم.
قال: وإن كان وطىء فعليه للوطء بدنة، مع ما يجب عليه من الدماء.
ش: كما لو وطىء من غير رفض، لبقاء الإحرام، وقد فهم من فحوى كلام الخرقي أن المحرم لو رفض إحرامه من غير حصر لم يرتفض، والله أعلم.(3/173)
قال: ويمضي في حج فاسد.
ش: يعني من وطىء فقد فسد حجه كما تقدم، ويجب عليه أن يمضي فيه فيفعل ما يفعله من حجه صحيح من الوقوف والمبيت بمزدلفة، والرمي، وغير ذلك، ويجتنب ما يجتنبه من حجه صحيح من الوطء ثانيا، وقتل الصيد وغيرهما، حتى لو جنى جناية على هذا النسك الفاسد، لزمه فداؤها، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وهو شامل للصحيح والفاسد، وقد يقال الفاسد ليس بحج، إذ الحقائق الشرعية إنما تحمل على صحيحها، دون فاسدها، والمعتمد. في ذلك قول الصحابة؛ عمر، وعلي، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقد تقدم ذلك عنهم، والله أعلم.
قال: ويحج من قابل والله أعلم بالصواب.
ش: لما [تقدم عن] الصحابة أيضا.
(تنبيه) : إن كان ما فسد واجبا قبل الإحرام كحجة الإسلام، والمنذورة، والقضاء أجزأت الحجة من قابل عن ذلك، وإن كان تطوعا فبالإحرام وجب تمامه، فإذا أفسده وجب قضاؤه، والله أعلم.(3/174)
[باب ذكر الحج ودخول مكة]
نبدأ وبالله التوفيق قبل الشروع في ذلك بحديث جابر في صفة حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه حديث عظيم، يعرف منه غالب المناسك.
1612 - «قال جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين. فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبا بابن أخي، سل عما شئت. فسألته - وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة، فقام في ساجة ملتحفا بها، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال بيده، فعقد تسعا، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/175)
ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أصنع؟ فقال «اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي» فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت مد بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا منه، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته، قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه(3/176)
وبين البيت، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] «أبدأ بما بدأ الله» فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، ووحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، [سعى] حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» [فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه الهدي] فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله(3/177)
ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه [واحدة] في الأخرى، وقال «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد» وقدم علي بن أبي طالب من اليمن ببدن [رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، قال: وكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرشا على فاطمة، للذي صنعت. مستفتيا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟» قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: «فإن معي الهدي، قال: فلا تحل» قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به على من اليمن، والذي أتى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة، قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي، فلما كان يوم الروية توجهوا إلى منى، وأهلوا بالحج، فركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر(3/178)
الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: «إن دماءكم، وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي [موضوع، ودماء الجاهلية تحت قدمي] وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم(3/179)
تسألون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى «أيها الناس السكينة السكينة» كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء [بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح] بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس، وكان رجلا حسن الشعر، أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يده] على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق(3/180)
الآخر ينظر، فحول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده [من الشق] الآخر [على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق] ينظر حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على بئر زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوا فشرب منه» . رواه أبو داود، وابن ماجه، [ومسلم] وهذا لفظه، وله في رواية أخرى «نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف» » .(3/181)
(تنبيه) : محمد بن علي بن حسين هو الباقر، والذي فعله معه جابر من وضع كفه بين ثدييه ونحره تأنيسا به، ورقا عليه، أو تبركا بالذرية الطاهرة، «ومرحبا» كلمة تقال عند المسرة للقادم، ومعناها: صادفت رحبا، أي سعة. «والساجة» الطيلسان، ويقال لها أيضا «الساج» وقيل: هي الخضر خاصة وفي رواية أبي داود «نساجة» بكسر النون، ضرب من الملاحف المنسوجة، وقوله: بشر كثير. قيل حضر معه حجة الوداع أربعون ألفا. «والمشجب» بكسر الميم وبالشين المعجمة، وباء موحدة بعد الجيم [عيدان تضم رءوسها] ، ويفرج بين قوائهما، توضع الثياب عليها، وقد تعلق عليها الأسقية، لتبريد الماء، «واستثفري» بالثاء المثلثة، وقد تقدم معناه، وفي أبي داود «واستفذري» بذال معجمة، قيل: مأخوذ من «الذفر» وهو كل ريح ذكية من طيب أي تستعمل طيبا يزيل هذا الشيء عنها، «والقصوى» بفتح القاف ممدود وقيل ومقصور - ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[والقصواء هي(3/182)
الناقة التي قطع طرف أذنها. فقيل: كانت ناقته [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] كذلك وقيل - وهو المشهور: إنما كان [هذا] لقبا لها، لأنها كانت لا تكاد تسبق، كان عندها أقضى الجري.
وقوله في الصفا: فرقي عليه. أي صعد، بكسر القاف على الأشهر.
وقوله: محرشا على فاطمة. التحريش الإغراء بين القوم والبهائم، وتهييج بعضهم على بعض، وهو ههنا ذكر ما يوجب عتابه لها.
ويوم التروية هو [اليوم] الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، وقيل: لأن قريشا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحجاج تسقيهم وتطعمهم، فيروون منه. وقيل: لأن الإمام يروي للناس فيه من أمر المناسك. وقيل: لأن إبراهيم تروى فيه في ذبح(3/183)
ولده. «والمورك» بكسر الراء المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل، يضع الراكب رجله عليها، يستريح من وضع رجليه في الركاب، شبه المخدة الصغيرة و «الوسامة» الحسن الوضيء الثابت «والإفاضة» الدفع في السير، قيل: أصلها الصب، فاستعيرت لذلك «والبضعة» بفتح الباء القطعة من اللحم. «وحبل المشاة» بفتح الحاء المهملة، أي صفهم ومجتمعهم في مشيهم، وقيل: طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. وقوله: «كلما أتى حبلا» الحبل المستطيل [من الرمل] وقيل: الحاج دون الحبال.
وقوله: ينكتها. بالتاء ثالث الحروف، هذه الرواية، وروي: ينكبها. بالباء الموحدة، قال المنذري: وهو الصواب أي يميلها إليهم، يشهد الله عليهم.
وقوله: «بكلمة الله» قيل: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقيل: إباحة الله الزواج، وإذنه فيه.
وقوله: «تكرهونه» قيل: أن لا يستخلين مع الرجال، وليس المراد الزنا، لأنه حرام مع من يكرهه أو [من] لا يكرهه، «مبرح» أي غير مؤثر ولا شاق. «والظعن» بضم العين المهملة وسكونها، جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج، فإذا لم تكن فيه فليست بظعينة.
وتحريكه في بطن محسر: قال الشافعي: يجوز أنه فعله لسعة الموضع، أو لأنه مأوى الشياطين.(3/184)
1613 - و «حصى الخذف» قال الشافعي: أصغر من الأنملة طولا وعرضا، وقال عطاء: مثل طرف الإصبع.
1614 - و «الناس» في قوله {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قيل: آدم، وقيل: إبراهيم، وقيل: سائر العرب. والله أعلم.
قال: وإذا دخل المسجد الحرام فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة.
ش: اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1615 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج خرج من الثنية السفلى» . متفق عليه. وعلى هذا استمر فعل الأمة سلفا بعد سلف، والله أعلم.(3/185)
قال: فإذا رأى البيت رفع يديه.
1616 - ش: لما روي عن ابن جريج «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا، وتكريما، وتعظيما [ومهابة، وزد من شرفه وكرمه - ممن حجه واعتمره - تشريفا، وتعظيما، وتكريما] وبرا» رواه الشافعي في مسنده، والله أعلم.
قال: وكبر.
ش: إشعارا بعظمة الرب سبحانه وتعالى.
1617 - وفي حديث ابن عباس قال: «طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير،(3/186)
كلما أتى على] الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر» . رواه البخاري والرائي للبيت آت على الركن، والله أعلم.
[طواف التحية وتقبيل الحجر الأسود]
قال: ثم أتى الحجر الأسود - إن كان - فاستلمه إن استطاع وقبله.
ش: لما تقدم في حديث جابر: «حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن» .
1618 - «وعن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر، ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبلك ما قبلتك» . رواه الجماعة.
وقوله: ثم أتى الحجر الأسود إن كان. أي إن كان الحجر في مكانه، [أما إن لم يكن الحجر في مكانه] والعياذ بالله - كما وقع ذلك في زمن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لما أخذته القرامطة - فإنه يقف مقابلا لمكانه، ويستلم الركن، عملا بما استطاع، والله أعلم.(3/187)
قال: فإن لم يستطع قام حياله، ورفع يديه، وكبر الله تعالى وهلله.
ش: إذا لم يستطع الاستلام والتقبيل المندوبين وأمكنه الاستلام بشيء في يده فعل.
1619 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعير يستلم الركن بمحجنه، وإن لم يمكنه قام حياله، ورفع يديه مشيرا بهما إليه، وكبر الله عز وجل وهلله.
1620 - لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له «يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» رواه أحمد.
1620 - م - وله أيضا عن ابن عباس: «طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير، كلما أتى [على] الركن أشار إليه بشيء في يده [وكبر» ] .
1621 - وقال بعض الأصحاب: يقول إذا استلمه «بسم الله، والله أكبر، إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا(3/188)
لسنة نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» لأن ذلك يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(تنبيه) : والاستلام مسح الحجر باليد، أو بالقبلة، افتعال من السلام وهو التحية، ولذلك أهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا، أي أن الناس يحيونه، قاله الأزهري، وقال القتيبي والجوهري: افتعال من السلام وهي الحجارة، واحدها «سلمة» بكسر اللام، يقول: استلمت الحجر. إذا لمسته، كما يقول: اكتحلت من الكحل، وقيل: افتعال من المسالمة، كأنه فعل ما يفعله المسالم [انتهى. وقيل: الاستلام] أن يحيى نفسه عند الحجر بالسلام لأن الحجر لا يحييه، كما يقال: اختدم. إذا لم يكن له خادم، وقال ابن الأعرابي: هو مهموز الأصل، ترك همزه، مأخوذ من المسالمة وهي الموافقة، وقيل: من الملاءمة وهي السلاح، كأنه خص نفسه بمس الحجر. انتهى.(3/189)
و «المحجن» عصا محنية الرأس. والله أعلم.
قال: واضطبع بردائه.
1622 - ش: لما روى يعلى بن أمية «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف مضطبعا، وعليه رداؤه» . رواه ابن ماجه، والترمذي، وأبو داود، وأحمد ولفظه: «لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له أخضر» . والاضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر [سمي بذلك لإبداء الضبعين، وهما ما تحت الإبط، وهل يسير إلى آخر الطواف أو إلى آخر الرمل؟ فيه روايتان، والله أعلم] . قال: ورمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعا.
ش: كذلك قال جابر: رمل ثلاثا، ومشى أربعا.
1623 - وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا، ومشى أربعا» ، لا يقال: فالرسول [إنما] فعل هذا لإظهار الجلد للكفار.(3/190)
1624 - كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم وقد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين، ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم، ولا أجلد من هؤلاء. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم» . وقد زال ذلك. لأنا نقول: قد فعل ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع، كما ثبت في حديث جابر وغيره، بعد زوال ذلك المعنى.
1625 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجته وفي عمره كلها، وأبو بكر، وعمر، والخلفاء» . رواه أحمد.
1626 - وعن أسلم: سمعت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: فيم الرملان، والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله تعالى الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ لكن مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود.(3/191)
(تنبيه) : «الرمل» قال الجوهري: الرمل الهرولة، وقال الأزهري: الإسراع، وفسر الأصحاب الرمل بإسراع المشي، مع تقارب الخطا من غير وثب، «والوهن» الضعف، «والجلد» القوة والصبر. «والأشواط» جمع شوط، والمراد به المرة الواحدة من الطواف بالبيت، و «أطأ» مهد وثبت، والهمزة بدل من الواو، مثل (أقت) من وقت. والله أعلم.
قال: كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود.
ش: أي ما تقدم من أن الرمل في الثلاثة الأشواط، والمشي في الأربعة يكون من الحجر إلى الحجر. لما تقدم من حديثي جابر وابن عمر.
1627 - وفي الصحيح عن جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه» .
1628 - وكذلك في حديث ابن عمر في الصحيح: رمل من الحجر إلى الحجر. وهذان يقدمان على حديث ابن عباس: أنه لم(3/192)
يرمل بين الركنين، لتأخرهما عنه، واحتمال أن ذلك مختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم. يؤيد هذا عمل جلة الصحابة على ما قلناه.
وقد فهم من مجموع ما تقدم أن الداخل للبيت أول ما يبدأ بالطواف، ما لم تقم الصلاة ونحو ذلك، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعل أصحابه، إذ هو تحية المسجد، كما أن الصلاة تحية بقية المساجد، وقال صاحب التلخيص تبعا لابن عقيل: أول ما يبدأ بتحية المسجد، اعتمادا على عموم «إذا دخل أحدكم المسجد» الحديث. وجعلا الطواف تحية الكعبة، والاعتماد على الأول. والله أعلم.
قال: ولا يرمل في جميع طوافه إلا هذا.(3/193)
ش: لا يرمل في طواف الزيارة، ولا طواف الوداع [ولا غيرهما] إلا في الطواف أول ما يقدم مكة، وهو طواف القدوم، أو طواف العمرة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إنما رملوا في ذلك، هذا اختيار الشيخين وغيرهما، وزعم القاضي وصاحب التلخيص أنه لو ترك الرمل في القدوم، أتى به في الزيارة، وأنه لو رمل في القدوم ولم يسع عقبه، فإذا طاف للزيارة رمل، حذارا من أن يكون التابع - وهي السعي - أكمل من المتبوع لوجود الرمل فيه، والله أعلم.
قال: وليس على أهل مكة رمل.
ش: قال أحمد: ليس على أهل مكة رمل عند البيت، ولا بين الصفا والمروة، وذلك لأن الرمل [في الأصل] كان لإظهار الجلد، وذلك معدوم في أهل مكة، وحكم من أحرم من مكة حكم أهلها.
(تنبيه) : يسن الاضطباع لمن يسن له الرمل، والله أعلم.
قال: ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه.
ش: لأنه هيئة فلا تجب إعادته، كهيئات الصلاة، ولا فرق في ذلك بين العامد والناسي، بناء على أنه سنة.(3/194)
وظاهر كلام الخرقي أن من تركه عامدا عليه الإعادة، وقد يحمل على استحباب الإعادة، ليأتي بما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وأصحابه] وليخرج من الخلاف، فإن بعض العلماء أوجب في تركه دما، والله أعلم.
[شروط صحة الطواف وسننه]
قال: ويكون طاهرا في ثياب طاهرة.
ش: يشترط للطائف أن يكون طاهرا من الحدث والخبث، في ثياب صفتها أنها طاهرة في المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين.
1629 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه النسائي والترمذي وهذا لفظه، وحكم المشبه حكم المشبه به، فيثبت له ما يثبت له.(3/195)
1630 - وقد عمل على هذا الصحابة فقال ابن عمر: أقلوا من الكلام، فإنما أنتم في صلاة. رواه النسائي.
1631 - وفي الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -[لما حاضت] «فعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» » .
1632 - وفي حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يطوف بالبيت عريان» والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
(والرواية الثانية) : أن ذلك واجب، يجبر بالدم، وليس بشرط، لإطلاق: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ومن طاف(3/196)
وهو كذلك فقد طاف به، ولأن الطواف فعل من أفعال الحج، فلم تكن الطهارة شرطا فيه، كالسعي، والوقوف.
وأجيب بأن هذين لا تجب لهما الطهارة، والطواف تجب له الطهارة، وعن الآية بأن الطواف والحالة هذه منهي عنه، فلا يدخل تحت الأمر.
(تنبيه) : نص أحمد الذي أخذ منه الرواية الثانية فيما إذا تركه ناسيا قال: يهريق دما [وقال: الناسي أهون] . فأخذ من ذلك القاضي ومن بعده رواية الوجوب، فيجبر [بالدم] مطلقا. وأجرى أبو حفص العكبري النص على ظاهره، فقال: لا يختلف قوله إذا تعمد أنه لا يجزئه، واختلف قوله في الناسي على قولين، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ليس في كلامه تصريح بالاشتراط ولا عدمه، إنما يدل على الوجوب، والله أعلم.
قال: ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني.
ش: أما كونه لا يستلم الركن العراقي ولا الشامي - وهما اللذان يليان الحجر -.
1633 - «فلقول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلم من البيت إلا الركنين اليمانين» . متفق عليه.(3/197)
1634 - وعن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس، ومعاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال له ابن عباس: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود، والركن اليماني. فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا. رواه الترمذي وغيره.
1635 - وفي أبي داود «أن ابن عمر قال: إني لأظن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك» .
وأما كونه لا يقبلهما؛ فلعدم ورود ذلك.
وأما كونه يستلم الأسود واليماني؛ فلما تقدم من حديث ابن(3/198)
عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
1636 - وعن عبيد بن عمير «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يزاحم على الركنين، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنك تزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزاحمه. فقال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن مسحهما كفارة للخطايا» وسمعته يقول: «من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه، كان كعتق رقبة» وسمعته يقول: «لا يرفع قدما، ولا يحط قدما إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة» رواه النسائي والترمذي.(3/199)
وأما كونه يقبلهما، أما الأسود فلما تقدم، ولا نزاع فيه، وأما اليماني فظاهر كلام الخرقي أنه يقبله.
1637 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل الركن اليماني، ويضع خده عليه» . رواه الدارقطني.
1638 - وعنه أيضا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استلم الركن اليماني قبله» رواه البخاري في تاريخه.
وقال أحمد في رواية الأثرم: يضع يده. فقيل له: ويقبل؟ فقال: يقبل الحجر الأسود. وعلى هذا الأصحاب، القاضي، والشيخان، وجماعة، لأن المعروف المشهور في الصحاح والمسانيد إنما هو تقبيل الأسود. وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال ابن المنذر: لا يصح.(3/200)
(وفي المذهب) قول ثالث أنه يقبل يده إذا مسه تنزيلا له منزلة بين منزلتين، والله أعلم.
قال: ويكون الحجر داخلا في الطواف، لأن الحجر من البيت.
ش: أي يكون طوافه خارجا عن الحجر، فلو طاف في الحجر، أو على جداره لم يجزئه، لما علل به الخرقي من أن الحجر من البيت، والله سبحانه قد أمر بالطواف بالبيت [جميعه بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ومن ترك بعضه لم يطوف به، إنما طاف ببعضه.
1639 - والدليل على أن الحجر من البيت ما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي، فأدخلني في الحجر فقال لي: «صلي فيه إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة منه، وإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة، فأخرجوه من البيت» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي.(3/201)
1640 - وعنها أيضا «قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحجر، أمن البيت هو؟ قال: «نعم» قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ فقال: «إن قومك قصرت بهم النفقة» قالت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الحجر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض» متفق عليه.
(تنبيه) : المشي على شاذروان البيت كالمشي على الجدار، لأنه من البيت، نعم لو مس الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح، لأن معظمه خارج من البيت، وقدر الشاذروان ستة أذرع، قاله في التلخيص، وقال ابن أبي الفتح نحو سبعة أذرع، والله أعلم.(3/202)
قال: ويصلي ركعتين خلف المقام.
ش: أي إذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، لما تقدم من حديث جابر، وقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستنده في ذلك، وهو قوله سبحانه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] والمستحب أن يقرأ فيهما بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما تقدم من حديث جابر، ولو قرأ فيهما بغير ذلك، أو لم يصلهما خلف المقام فلا بأس.
1641 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه ركعهما بذي طوى، وهما أيضا سنة.
1642 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة» الحديث.(3/203)
1643 - وقول الأعرابي للنبي: «هل علي غيرها؟ لما أخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله فرض عليه خمس صلوات - قال: «لا إلا أن تطوع» . (وهل) تجزئ عنهما المكتوبة، اختاره أبو محمد، كركعتي الإحرام، أو لا تجزئ فيفعلهما بعدها، اختاره أبو بكر، كركعتي الفجر لا تجزئ عنهما الفجر؟ فيه قولان والمنصوص عن أحمد الإجزاء، مع أن الأفضل عنده فعلهما، والله أعلم.
[السعي بين الصفا والمروة]
قال: ويخرج إلى الصفا من بابه.
ش: إذا فرغ من الركعتين فالمستحب له أن يمضي إلى الحجر الأسود فيستلمه، وقد أهمل ذلك الخرقي، ثم يخرج إلى الصفا من باب الصفا، لما تقدم في حديث جابر، والله أعلم.
قال: فيقف عليه فيكبر الله تعالى، ويهلله، ويحمده، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويسأل الله تعالى ما أحب.
ش: أما الرقي على الصفا، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والدعاء بما أحب من أمر الدنيا والآخرة ما لم يتضمن مأثما، فلما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه رقي على الصفا، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة،(3/204)
فوحد الله، وكبره وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله [وحده] ، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات» .
1644 - وفي الموطأ عن نافع أنه سمع ابن عمر يدعو على الصفا يقول: اللهم إنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وإنك لا تخلف الميعاد، وأنا أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني، حتى تتوفاني وأنا مسلم.
1645 - وورد عنه أنه كان يطيل الدعاء هناك.
1646 - وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما روى فضالة بن عبيد قال: «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، فلم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «عجل هذا» ثم دعاه فقال له أو لغيره «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي(3/205)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم ليدع بما شاء» رواه الترمذي وصححه.
(تنبيه) : جميع ما تقدم مستحب، والواجب قطع ما بين الصفا والمروة [بأن يلصق عقبيه] بأصل الصفا، وأصابع رجليه بأصل المروة، ولا يسن للمرأة الرقي، والله أعلم.
قال: ثم ينحدر من الصفا، فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي، فيرمل من العلم إلى العلم، ثم يمشي حتى يأتي المروة، فيقف عليها، فيقول كما قال على الصفا، وما دعا به أجزأه، ثم ينزل ماشيا إلى العلم، ثم يرمل حتى يأتي العلم، يفعل ذلك سبع مرات، يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية.
ش: أما كونه ينحدر من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي، وهو الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد، فلأن في «حديث جابر: ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي» . وأما كونه يرمل من العلم المذكور إلى العلم الأخضر - وهما الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد، وحذاء دار العباس فلأن في «حديث(3/206)
جابر: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة» ، وفي رواية أبي داود: «حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى» .
والخرقي - والله أعلم - تبع هذا الحديث فقال: يرمل. وظاهره أنه بالرمل السابق في الطواف، والأصحاب قالوا: إنه هنا يسعى سعيا شديدا.
1647 - لما روى أحمد في المسند «عن حبيبة بنت أبي تجراة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» » .(3/207)
وأما كونه يمشي بعد ذلك حتى يأتي المروة، فيقف عليها فيقول كما قال على الصفا، فلأن في حديث جابر كذلك، وأما كونه ما دعا به أجزأه فلأنه لم يرد فيه شيء مؤقت وفي قوله هنا وقوله: ثم دعا بما أحب. إشعار بأنه لا يجب عليه الاقتصار على ما وردت به الآثار، بخلاف الصلاة يمنع الكلام فيها بخلاف هذا. وأما كونه ينزل ماشيا إلى العلم، ثم يرمل(3/208)
حتى يأتي العلم، يفعل ذلك سبع مرات. فلأن ذلك مما ورثه الخلف، عن السلف، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكالمرة الأولى. وأما كونه يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية، فلأن في حديث جابر: حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة. وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بدأ بالصفا، وإنما يكون آخر طوافه عند المروة إذا احتسبت بالذهاب سعية وبالرجوع سعية، وهذا كله على سبيل الاستحباب والواجب قطع ما بينهما على ما تقدم وإكمال السبع، والله أعلم.
قال: ويفتتح بالصفا ويختم بالمروة.
ش: هذا على سبيل الوجوب، فلو بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بالصفا، اتباعا لما بدأ الله به.
1648 - وقد قال «خذوا عني مناسككم» .
1649 - مع أن في النسائي في حديث جابر «ابدءوا بما بدأ الله به» » وهذا أمر، والله أعلم.(3/209)
قال: وإن نسي الرمل في بعض سعيه فلا شيء عليه.
ش: القول في ترك الرمل في السعي كالقول في تركه للطواف، وقد تقدم، والله أعلم.
قال: وإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعا قصر من شعره ثم قد حل.
ش: لما تقدم في حديث جابر: «فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي» .
1650 - وفي حديث ابن عمر الصحيح قال: فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قال للناس «من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل» » .
ويستثنى من ذلك من كان معه هدي فإنه لا يتحلل، بل يقيم على إحرامه، ثم يدخل الحج على العمرة، على المختار من الروايات [لما تقدم] .
1651 - وفي الصحيحين «عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» » .
وعن أحمد: يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة، قال: كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك:(3/210)
1652 - لما «روى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قصرت شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص» . متفق عليه، ولأبي داود والنسائي: «رأيته يقصر على المروة بمشقص» .
وبهذا يتخصص عموم ما تقدم، [ويجاب] عنه بأن المشهور والأكثر في الرواية ما تقدم.
1653 - وقد «قال معاوية لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند المروة؟ فقال: لا» . انتهى.
1654 - وقال قيس: الناس ينكرون هذا على معاوية.
ونقل عنه يوسف بن موسى فيمن قدم متمتعا وساق الهدي: إن قدم في شوال نحر الهدي وحل، وعليه هدي آخر، وإن قدم في العشر أقام على إحرامه. وقيل له: معاوية(3/211)
[يقول] : قصرت شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص؟ فقال: إنما حل بمقدار التقصير، ورجع حراما مكانه، وكأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحظ قبل العشر أن في البقاء مشقة، وأن الذي وقع من عدم الحل إنما هو في العشر، واستثنى مقدار تقصير الشعر فقط للنص، وبه يتخصص عموم كلامه الأول في رواية حنبل: إذا قدم في أشهر الحج وقد ساق الهدي، فلا يحل حتى ينحره. [والعشر أوكد، فإذا قدم في العشر لم يحل، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم في العشر ولم يحل. ومن وجه آخر وهو أنه قال: إذا قدم لم يحل حتى ينحر] وقال في رواية يوسف بن موسى: ينحر ويحل. وليس بين الروايتين تناف، بل متى قدم قبل العشر ونحر حل على مقتضى الروايتين، ويؤيد هذا أنه قال: إذا قدم في العشر لم يحل، فأطلق ولم يقل: حتى ينحر.
وهذا كله في المتمتع، أما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل وإن كان معه هدي.
وقول الخرقي: قصر من شعره. يدل على أن الأفضل للمتمتع التقصير، وعلى هذا جرى أبو(3/212)
محمد، وقال أحمد: يعجبني إذا دخل متمتعا أن يقصر، ليكون الحلق للحج.
1655 - وذلك لما تقدم من فعل الصحابة، ومن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بذلك، ولما علل به أحمد، إذ الحج هو النسك الأكبر، فاستحب أن يكون الحلق الذي هو الأفضل فيه، وقال صاحب التلخيص فيه: الحلق أفضل من التقصير في الحج والعمرة. وتبعه على ذلك أبو البركات، فقال: إن كان في عمرة حلق أو قصر وحل.
وقول الخرقي: قصر ثم حل. يقتضي أن التقصير نسك، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: وطواف النساء وسعيهن مشي كله.
ش: أي لا رمل فيه ولا اضطباع أيضا، وهذا بالإجماع [قاله ابن المنذر] ولأن الأصل في مشروعيتها إظهار الجلد، وهو غير مطلوب من المرأة، والله أعلم.
قال: ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وقد أجزأه.
ش: المذهب المشهور المنصوص، والمختار للأصحاب(3/213)
من الروايتين عدم اشتراط الطهارتين للسعي بين الصفا والمروة.
1656 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف فطمثت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما لك لعلك نفست؟» فقلت: نعم. فقال: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» .
1657 - وأصرح من هذا ما في المسند عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحائض تقضي المناسك إلا الطواف» رواه أحمد، والطواف ينصرف إلى المعهود وهو الطواف بالبيت، (وعن أحمد) رواية أخرى حكم السعي في الطهارة [حكم الطواف] قال في رواية ابن إبراهيم: الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ولأنه طواف فيدخل أو يقاس على ما تقدم، ودليل الوصف قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] .
1658 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» رواه أبو داود وغيره، ولا نزاع أن(3/214)
المستحب أن يسعى على طهارة، خروجا من الخلاف.
وحكم طهارة الخبث حكم طهارة الحدث، لأنها أخف منها.
أما الستارة فالأكثرون لا يذكرون في عدم اشتراطها خلافا، وأجرى أبو محمد في الكافي والمقنع الخلاف فيها. والله أعلم.
قال: وإن أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى صلى فإذا صلى بنى.
1659 - ش: أما إذا أقيمت الصلاة فلعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» وفي لفظ «إلا التي أقيمت» والصلاة قد أقيمت والحال هذه، فلا يصلي إلا هي، وكذلك لا يسعى بطريق الأولى، وأما صلاة الجنازة فلأن التشاغل عنها(3/215)
ربما فوتها، وتأخيرها ربما أفسد الميت، مع أن الزمن يسير. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يترك الطواف لغير هذين، وهو كذلك، ومتى ترك وطال الفصل بطل، لفوات شرطه وهو الموالاة على المذهب، وإن لم يطل لم يبطل فيبني، ودليل اشتراطها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبه الطواف بالصلاة، والموالاة تشترط في الصلاة، فكذلك في الطواف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والى في طوافه وقال: «خذوا عني مناسككم» (وفي المذهب قول ثان) لا تشترط الموالاة، فلو طاف أول النهار شوطا، وآخر النهار بقية الأسبوع أجزأه، حكاه أبو الخطاب تخريجا، وصاحب التلخيص وجها، وأبو البركات رواية، وكذلك أبو محمد في الكافي والمغنى، لكنه خصها بحال العذر، ونص الإمام إنما يدل على ذلك، قال: إذا أعيى في الطواف لا بأس أن يستريح.
1660 - وقال: الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله، فلما أفاق أتمه.(3/216)
وظاهر كلام الخرقي أن حكم السعي حكم الطواف في الموالاة، وعلى هذا اعتمد القاضي، وصاحب التلخيص، وأبو البركات وغيرهم، وخالفهم أبو محمد، فاختار أنها لا تشترط هنا بخلاف ثم، وهو ظاهر كلام أحمد، واختيار أبي الخطاب، والله أعلم.
قال: وإن أحدث في بعض طوافه تطهر وابتدأ الطواف إن كان فرضا.
ش: الطواف في حكم الصلاة، فيثبت له ما يثبت لها إلا ما استثناه الشارع، فإذا أحدث في طوافه فإن كان عمدا أبطله واستأنف، وإن سبقه الحدث فهل يتطهر ويستأنف، أو يبني، أو يستأنف إن كان الحدث غائطا أو بولا، ويبني إن كان غيرهما؟ على ثلاث روايات، كالروايات الثلاث في الصلاة، كذا ذكره القاضي في روايتيه، وبناه أيضا على القول باشتراط الطهارة للطواف، وفيه نظر، فإنه وإن لم يشترطها، فالخلاف جار، ليأتي بالواجب، فإنه لا نزاع في وجوبها، نعم ينبغي البناء على أصل آخر وهو الموالاة، فإنا إن لم نشترطها ينبغي البناء مطلقا.(3/217)
وقول الخرقي: وابتدأ الطواف إن كان فرضا. يحترز به عن النفل، فإنه لا يلزمه أن يبتدئ به، لأنه لا يلزم بالشروع، بخلاف الفرض، فإنه لازم له، ولا يتوهم أن مراده إذا كان نفلا أنه يبني، فإنه لا فرق في البناء وعدمه في الفرض والنفل، والله أعلم.
قال: ومن طاف أو سعى محمولا لعلة أجزأه.
ش: إذا طاف راكبا أو محمولا لعذر من مرض أو غيره أجزأه بلا ريب.
1661 - لما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن» ، وفي رواية لأبي داود «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته» .
1662 - «وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: شكوت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي، فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بـ {وَالطُّورِ} [الطور: 1] {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] » متفق عليه.
وإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي(3/218)
- وهو إحدى الروايات وأشهرها عن الإمام محمد، واختيار القاضي أخيرا، والشريف أبي جعفر -[لا يجزئه. لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] شبه الطواف بالصلاة، والصلاة لا تفعل كذلك إلا لعذر، فكذلك الطواف، وطواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا كان لعذر، إما لشكاية به كما تقدم في رواية أبي داود، وإما ليراه الناس فيأتموا به، ويتعلموا منه.
1663 - قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على راحلته بالبيت، يستلم الركن بمحجنه، وبين الصفا والمروة ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه» . رواه مسلم، وأبو داود والنسائي. وكذلك قال أحمد في رواية محمد بن أبي حرب، وحنبل. (والرواية الثانية) يجزئه ولا شيء عليه، على ظاهر كلام أحمد، اختارها أبو بكر. في زاد المسافر، وابن حامد، والقاضي قديما، قال في تعليقه: كنت أنصر أنه يجزئه [ولا دم عليه] ثم رأيت كلام أحمد أنه لا يجزئه، فنصرت نفي الإجزاء، وذلك لأن الله تعالى ذكر الطواف ولم(3/219)
يبين صفته، فكيف ما طاف أجزأه، ولطوافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا، وقد تقدم الجواب عن ذلك. وحكى أبو محمد (رواية ثانية) : يجزئه ويجبره بدم. ولم أرها لغيره، بل قد أنكر ذلك أحمد في رواية محمد بن منصور الطوسي، في الرد على أبي حنيفة قال: طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعيره. وقال هو: إذا حمل فعليه دم. انتهى. وحكم السعي حكم الطواف عند الخرقي، وصاحب التلخيص، وأبي البركات وغيرهم، قال القاضي: وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية حرب: لا بأس بالسعي بين الصفا والمروة على الدواب للضرورة، وخالفهم أبو محمد فقطع بالإجزاء، كما اختار أنه لا تشترط له الطهارة.
(تنبيه) : إذا طاف أو سعى راكبا لم يرمل، نص عليه أحمد، واختاره أبو محمد، لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واختار القاضي - أظنه في المجرد - أن بعيره يخب به، والله أعلم.(3/220)
[طواف وسعي القارن والمفرد]
قال: ومن كان قارنا أو مفردا أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى، ويجعلها عمرة، إلا أن يكون قد ساق معه هديا فيكون على إحرامه.
ش: قد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، ثبوتا لا ريب فيه، وقد تقدم في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمره بذلك، «قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد» .
1664 - وعن «أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: «حججت؟» فقلت: نعم. قال «بما أهللت؟» قال: قلت لبيك بإهلال كإهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فقد أحسنت، طف بالبيت، وبالصفا والمروة، وأحل» قال: فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس، ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج، قال: فكنت أفتي به الناس، حتى كان في خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له رجل: يا أبا موسى - أو يا عبد الله بن قيس - رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس من كنا أفتيناه(3/221)
فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فأتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك له فقال: إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمرنا بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى بلغ الهدي محله. متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي رواية له قال: «هل سقت من هدي؟» قال: لا. قال: «فطف بالبيت، وبالصفا والمروة ثم حل» وفي رواية له أيضا أن عمر قال: قد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم» .
1665 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد» . مختصر متفق عليه واللفظ لمسلم.
1666 - «وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/222)
ونحن نصرخ بالحج صراخا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورجعنا إلى منى أهللنا بالحج» . رواه أحمد ومسلم.
1667 - وقد روي ذلك [أيضا من حديث أسماء، وعائشة، وابن عباس، وأنس بن مالك وكلها في الصحاح، وروي] أيضا عن البراء بن عازب وغيرهم، قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا بكر بن أيوب يقول: سمعت إبراهيم الحربي يقول - وسئل عن فسخ الحج فقال -: [قال] سلمة بن شبيب لأحمد: كل شيء منك حسن غير خلة واحدة، قال: ما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج، قال أحمد: كنت أرى لك عقلا، عندي ثمانية عشر حديثا صحيحا أتركها لقولك. انتهى.
ولا نزاع بين المسلمين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك، وإنما النزاع هل كان ذلك خاصا بأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(3/223)
أو لمعنى آخر لا يشركهم فيه غيرهم، أو لأن إحرامهم وقع مطلقا. فقيل - وهو أضعفها - لم يكونوا أحرموا بالحج.
1668 - قال: لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا مطلقا ينتظرون القضاء. فلما نزل عليهم القضاء قال: «اجعلوها عمرة» ولا نزاع أن من لم يعين ما أحرم به له أن يجعله عمرة، وهذا ذهول أو مكابرة في الأحاديث، فإن في حديث جابر: لسنا نريد إلا الحج، لسنا نعرف العمرة. وفي حديث أبي موسى أنه أهل كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد تقدم نسك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والخصم يدعي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفردا أو قارنا، وفي حديث أبي سعيد: نصرخ بالحج صراخا.
1669 - وفي «حديث أسماء في رواية لمسلم: قدمنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مهلين بالحج» . وفي حديث عائشة: «لا نرى إلا أنه الحج» .
1670 - وفي حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بذي الحليفة حتى أصبح، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما» .(3/224)
1671 - «وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه صبيحة رابعة، مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: «الحل كله» متفق عليه.
وهذه الأحاديث - مع جملة أيضا من الأحاديث - تنفي أنهم أحرموا مطلقا.
وقيل: لأن الفسخ كان لمعنى في حقهم، وهو معدوم في حقنا، وهو أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، بدليل حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم. ورد بأنه لو كان كذلك لما خص بالفسخ من لم يسق الهدي، لأن الجميع كانوا في الاعتقاد على حد سواء، ولكان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل امتناعه من الفسخ بكونه يعتقد جواز العمرة، ولم يعلل بذلك، وإنما علل بسوق الهدي.
وقيل - وهو أقواها عندهم -: إن ذلك كان خاصا لأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1672 - بدليل ما روي «عن الحارث بن بلال، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: «بل لنا خاصة» رواه الخمسة إلا الترمذي.(3/225)
1673 - وعن أبي ذر قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وفي رواية قال: كانت رخصة. يعني متعة الحج، رواه مسلم، ولأبي داود: كان يقول - فيمن حج ثم فسخها بعمرة -: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقد أجاب أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن هذا، فقال عبد الله: قيل لأبي: حديث بلال بن الحارث؟ قال: لا أقول به، فلا يعرف هذا الرجل. وقال في رواية الميموني: أرأيت لو عرف بلال بن الحارث، إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يروي ما يروي، أين يقع بلال بن الحارث منهم؟ وقال في رواية أبي داود: ليس يصح حديث في أن الفسخ(3/226)
كان لهم خاصة، وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر، وشطرا من خلافة عمر. انتهى.
فقد أشار أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى ضعف الحديث، ثم على تقدير صحته عارضه بالجم الغفير من الصحابة الذي رووا خلاف ذلك، ويشهد بذلك حديث جابر «لا بل لأبد الأبد» وهذا خبر لا يقبل الفسخ والتغيير، ويؤيد هذا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يذكر تخصيصا، وإنما استدل بظاهر الكتاب، وبفعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل قد أقر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه فعلوا ذلك، واعتذر بما ذكر من أنهم يظلون معرسين، وقد تقدم الجواب عن قولهم، في أي الأنساك أفضل، وقول أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوف عليه، وهو مخالف لقول صاحب الشريعة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قد خالفه أبو موسى وأفتى به في خلافة أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وخالفه أيضا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله(3/227)
عنهما، بل كان من مذهبه أنه متى طاف بالبيت حل.
1674 - فعن عطاء قال: كان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل. قيل لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] قيل لعطاء: فإن ذلك بعد المعرف، قال: فكان ابن عباس يقول: هو بعد المعرف وقبله، وكان يأخذ ذلك جوازا من أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين أمرهم أن يحلوا من حجة الوداع.
إذا تقرر هذا فشرط جواز الفسخ عدم سوق الهدي، أما من ساق الهدي فإنه لا يجوز له الفسخ، لما تقدم من النصوص، (وشرطه) أيضا عدم الوقوف، أما بعد الوقوف فلا فسخ، لوجود معظمه، ولأنه إذا يشرع في تحلله، فلا يليق فسخه، مع أن النص لم يرد بذلك، ولو فسخ السائق أو الواقف لم ينفسخ.
ومعنى الفسخ أنه إذا طاف وسعى فسخ نية الحج، ونوى عمرة مفردة، فيصير متمتعا، فيقصر ويحل، هذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى كلام الخرقي وأبي محمد، وعن ابن عقيل: الطواف بنية العمرة هو الفسخ، وبه حصل رفض الإحرام لا غير، فهذا تحقيق الفسخ وما ينفسخ به. (قلت) : وهذا جيد، والأحاديث لا تأباه، والقاضي وأبو الخطاب وغيرهما لم يفصحا بالمسألة، بل قالوا: يفسخ(3/228)
نيته بالحج، وينويان إحرامهما ذلك لعمرة، فإذا فرغا منها أحرما بالحج، ولا يغرنك كلام ابن المنجا فإنه قال: إن ظاهر كلام المصنف أن الطواف والسعي شرط في استحباب الفسخ، قال: وليس الأمر كذلك، لأن الأخبار تقتضي الفسخ قبل الطواف والسعي، ولأنه إذا طاف وسعى ثم فسخ يحتاج إلى طواف وسعي لأجل العمرة، ولم يرد مثل ذلك، قال: ويمكن تأويل كلام المصنف على أن (إذا) ظرف لأحببنا له أن يفسخ وقت طوافه، أي وقت جواز طوافه. انتهى كلامه.
وقد غفل - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن كلام الخرقي - وعن كلام الشيخ في المغني فإن نصه ما قلته، وكلام القاضي ومن وافقه لا يأبى ذلك، فإنهم لم يشترطوا للفسخ إلا عدم سوق الهدي والوقوف، وكلامه صريح بأنه لو فسخ بعد الطواف صح ذلك، وليس في كلامهم ما يقتضي أنه يطوف [طوافا] ثانيا كما زعم، ولا بدع أن ينقلب الطواف فيصير للعمرة، [كما ينقلب إحرامه للحج فيصير للعمرة] ، وقوله: إن الأخبار تقتضي(3/229)
الفسخ قبل الطواف والسعي. ليس كذلك، بل قد يقال: إن ظاهرها أن الفسخ إنما هو بعد الطواف، ويؤيد ذلك حديث جابر المتقدم، فإنه كالنص، فإن الأمر بالفسخ إنما كان بعد طوافهم. انتهى.
وظاهر كلام الخرقي - وتبعه أبو محمد، وصاحب التلخيص [وغيرهم]- أن الفسخ على سبيل الاستحباب، وهو مقتضى النصوص، والقاضي وأبو الخطاب وأبو البركات جعلوا ذلك جائزا.
(تنبيه) : «اتئد في فتياك» «يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم» .
«الفجور» الميل عن الواجب «الدبر» جمع دبرة وهي العقرة في ظهر البعير يقول: دبر البعير بالكسر، وأدبره القتب. «وعفا الأثر» .(3/230)
قال: ومن كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت، والله أعلم.
ش: منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الجماعة - الميموني، والأثرم، وحنبل، وأبي داود - أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر، لأنه إذا شرع في التحلل، أشبه الحاج إذا شرع في رمي جمرة العقبة.
1675 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يرفع الحديث: «أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة حين يستلم الحجر» . رواه الترمذي وصححه.
1676 - وعنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر» رواه أبو داود، قال: وقد روي موقوفا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
وقول الخرقي: إذا وصل إلى البيت، يجوز أن يحمل على منصوص الإمام، لأن الرائي للبيت غالبا يشرع في الطواف،(3/231)
وعلى هذا حمله [أبو محمد، ويجوز أن يحمل على ظاهره، وأن يقطع بمجرد الرؤية وإن لم يشرع في الطواف، وعلى هذا حمله] أبو البركات، وجوز القاضي في التعليق الاحتمالين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب ذكر الحج]
قال: وإذا كان يوم التروية أهل بالحج.
ش: ظاهر هذا الكلام أن كل من كان بمكة لم يحرم بالحج فإنه يحرم به يوم التروية، سواء كان من المقيمين بمكة، أو من المتمتعين الذين حلوا، أو لم يحلوا لسوق الهدي، ويحتمله كلام أبي البركات، وكلام صاحب التلخيص يقتضي أن من ساق الهدي من المتمتعين يحرم بالحج [عقب] طوافه وسعيه، قال: إلا أن يكون قد ساق الهدي، فيحرم بالحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل التحلل منها، وكذلك قال القاضي قبله: المتمتع السائق للهدي إذا طاف وسعى لعمرته لا يحل منها، ولكن يحرم بالحج، ويحتمل هذا كلام أبي محمد، وأن استحباب الإحرام يوم التروية لمن كان حلالا، ويشهد لهذا حديث جابر المتقدم، قال: «فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي، فلما كان(3/232)
يوم التروية ووجهوا إلى منى أهلوا بالحج» . وظاهره أن الذين حلوا هم الذين أحرموا يوم التروية.
وقوله: أهل بالحج: يعني من مكة، لما تقدم له من أن ميقات أهل مكة من مكة، ولو أحرم من خارج مكة من الحرم جاز، لقول جابر: فأهللنا بالحج من الأبطح. ويستحب أن يغتسل ويتنظف، ونحو ذلك مما يفعله عند الإحرام [ويطوف أسبوعا، ثم يصلي ركعتين، ويحرم، ولا يسن تطويف بعد الإحرام] .
(تنبيه) : يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك قيل: لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده. وقيل: لأن قريشا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم، فيرتوون منه وقيل: لأن الإمام يروي للناس(3/233)
فيه من أمر المناسك. وقيل: لأن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تروى فيه في ذبح ولده، والله أعلم.
[ذهاب الحاج إلى منى يوم التروية]
قال: ومضى إلى منى فيصلي بها الظهر إن أمكنه، لأنه يروى عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى بمنى خمس صلوات» .
ش: كذا في حديث جابر، قال: «فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وأهلوا بالحج، فركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بها الظهر، والعصر والمغرب، والعشاء، والفجر» .
وقول الخرقي: إن أمكنه. لأن كثيرا من الناس يشتغل يوم التروية بمكة إلى آخر النهار، قال أبو محمد: وهذا كله على سبيل الاستحباب. وظاهره أن المبيت بمنى في هذه الليلة لا يجب.
(تنبيه) : لو صادف يوم التروية يوم الجمعة وجب فعلها لمن تجب عليه [وأقام حتى زالت الشمس، وإلا لم تجب] ، والله أعلم.
[الدفع إلى عرفة والوقوف بها]
قال: فإذا طلعت الشمس دفع إلى عرفة.
ش: من المستحب أيضا أن لا يدفع من منى حتى تطلع الشمس، كما صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله أعلم.
قال: فأقام بها حتى يصلي مع الإمام الظهر والعصر بإقامة لكل صلاة، وإن أذن فلا بأس.(3/234)
ش: إذا دفع من منى إلى عرفة فالأولى أن يقيم بنمرة، ثم يخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها حكم الوقوف، والمبيت بمزدلفة، ويحثهم على المهم من أمر الإسلام، تأسيا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد ثبت ذلك عنه في حديث جابر، ثم ينزل الإمام فيصلي بهم الظهر والعصر، ويجمع بينهما بأذان يعقب الخطبة، ثم بإقامة لكل صلاة، كما في حديث جابر، وحكى صاحب التلخيص في الأذان روايتين، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خير في الأذان، وكذا قال أحمد، لأن كلا يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإطلاق الخرقي يشمل كل من كان بعرفة من مكي وغيره، وصرح به أبو محمد. معتمدا على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع فجمع معه من حضره، ولم يأمرهم بترك الجمع.
1677 - كما أمر بترك القصر في محل آخر، حيث قال «أتموا فإنا قوم(3/235)
سفر» وإلا يكون تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكذلك من صلى مع الإمام.
وشرط القاضي وأصحابه ومتابعوهم - كأبي البركات وصاحب التلخيص كذلك - أن يكون ممن يجوز له الجمع.
(تنبيه) : «نمرة» موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم، على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف، قاله المنذري، وبهذا يتبين أن قول صاحب التلخيص: أقام بنمرة، وقيل بعرفة. ليس بجيد، إذ نمرة من عرفة، وكلام الخرقي قد يشهد لهذا، لأنه قال: دفع إلى عرفة. ثم قال: ثم يسير إلى موقف عرفة. والله أعلم.
قال: وإن فاته مع الإمام صلى في رحله.(3/236)
1678 - ش: أي إذا فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله، كذا يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه يجمع مع الإمام، فجمع وحده كغير هذا الجمع، والله أعلم.
قال: ثم يصير إلى موقف عرفة عند الجبل.
ش: كذا قال جابر: «ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة» . والوقوف عند الجبل، واستقبال القبلة، ونحو ذلك من المستحبات، اتباعا للنبي – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.(3/237)
قال: وعرفة كلها موقف، ويرفع عن بطن عرنة فإنه لا يجزئه الوقوف فيه.
1679 - ش: في رواية لمسلم في حديث جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف» ورواه أحمد، وأبو داود وابن ماجه أيضا.
1680 - وعن مالك: بلغه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» .
1681 - وعن ابن الزبير من قوله كذلك، رواهما مالك في موطئه.(3/238)
(تنبيه) : الوقوف بعرفة ركن إجماعا.
1682 - وقد روي «عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فتم حجه، أيام منى ثلاثة أيام، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وأردف رجلا ينادي بمنى» . رواه الخمسة.
وعن عروة بن مضرس نحو ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى، والمشترط الحصول بعرفة. عاقلا، فلا وقوف لمجنون، ولا لمغمى عليه، ولا لسكران، قاله ابن عقيل وغيره، لعدم شعورهم بها، وفي النائم وجهان، أصحهما عند صاحب التلخيص - وبه جزم أبو محمد - الإجزاء لأنه في حكم المنتبه، وكذلك في الجاهل بكونها عرفة [وجهان] ،(3/239)
الإجزاء، قطع به أبو محمد، وعدمه قاله أبو بكر في التنبيه.
1683 - ويشهد لقول أبي محمد عموم «حديث عروة بن مضرس الطائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالموقف، يعني بجمع قلت: جئت يا رسول الله من جبلي طيئ، فأكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه» رواه الخمسة وهذا لفظ أبي داود وصححه الترمذي، ولا يشترط للوقوف طهارة، ولا نية،(3/240)
ولا استقبال، ولا ستارة.
(تنبيه) : «جمع» اسم علم للمزدلفة.
1684 - وسميت بذلك قيل لاجتماع آدم بحواء فيه، كذا روى ابن عباس و «الحبل» بالحاء المهملة أحد حبال الرمل، وهو ما اجتمع منه واستطال، وروى «جبل» بالجيم.
1685 - و «التفث» قال الأزهري لا يعرف في كلام العرب إلا في قول ابن عباس وأهل التفسير، وقال غيره: هو قص الأظفار، والشارب، وحلق العانة، والرأس، ورمي الجمار والنحر، وأشباه ذلك. وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن، والوسخ مطلقا، والله أعلم.(3/241)
قال: ويكبر ويهلل، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس.
1686 - ش: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أكثر دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» رواه أحمد والترمذي ولفظه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» » قيل لسفيان بن عيينة: هذا ثناء وليس بدعاء؟ فقال: أما سمعت قول الشاعر:(3/242)
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
انتهى.
1687 - «وعن أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت ردف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه، وهو رافع يده الأخرى» . رواه النسائي. ولمطلوبية الدعاء في هذا اليوم استحب الإفطار كما تقدم، وإن كان صومه يكفر سنتين.
1688 - وقد روى ابن ماجه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من(3/243)
يوم عرفة، فإنه ليدنو عز وجل، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء» ؟» .
وقول الخرقي: ويكبر ويهلل، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس. التكبير والتهليل والدعاء مستحب، وأما الوقوف إلى غروب الشمس فواجب، ليجمع بين الليل والنهار، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حتى غربت الشمس كذا في حديث جابر، وفي حديث غيره، وقد قال: «خذوا عني مناسككم» والواجب عليه إذا وقف نهارا أن يكون قبيل الغروب بعرفة، لتغرب الشمس عليه وهو بها، فلو لم يأت عرفة إلا بعد الغروب فلا شيء عليه، وكذلك لو دفع منها نهارا ثم عاد قبل الغروب، فوقف إلى الغروب، هذا تحصيل المذهب. والله أعلم.
[الدفع من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها]
قال: فإذا دفع الإمام دفع معه إلى مزدلفة.
ش: الإمام هو الذي إليه أمر الحج، ولا نزاع في مطلوبية(3/244)
اتباعه، وأن لا يدفع إلا بعد دفعه، لأنه الأعرف بأمور الحج، وما يتعلق بها، وأضبط للناس من أن يتعدى بعضهم على بعض، ولا ريب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه معه دفعوا من عرفة، وكان يأمرهم بالرفق في السير.
1689 - فعن «ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه دفع مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم، وقال: «أيها الناس عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» متفق عليه، والإيضاع ضرب من سير الإبل سريع، والله أعلم.
قال: ويكون في الطريق يلبي ويذكر الله عز وجل.
ش: أما الذكر فلأنه مطلوب في كل وقت إلا أن يمنع منه مانع، وهنا أجدر، لكونه في عبادة.
1690 - وأما التلبية فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن أسامة كان ردف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي حتى رمى جمرة العقبة» .(3/245)
1691 - وعن «محمد بن أبي بكر الثقفي قال: قلت لأنس غداة غرفة: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟ قال: سرت هذا المسير مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فمنا المكبر، ومنا المهلل، لا يعيب أحدنا على صاحبه» ، متفق عليهما، والله أعلم.
قال: ثم يصلي مع الإمام المغرب وعشاء الآخرة.
ش: يعني بمزدلفة، ولا نزاع والحال هذه [أن المطلوب] تأخير المغرب ليجمع بينها وبين العشاء بمزدلفة، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما تقدم في حديث جابر، ولو ترك ذلك صح، والله أعلم.
قال: بإقامة لكل صلاة، وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس.
ش: يجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، بإقامة لكل صلاة، بلا أذان.
1692 - لما روى أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت: الصلاة يا رسول الله؟ فقال «الصلاة أمامك» فركب فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل(3/246)
إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلى ولم يصل بينهما» . متفق عليه. وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس.
1693 - لأنه يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا، والعشاء ركعتين، بإقامة واحدة» ، رواه مسلم.
والأول قال ابن المنذر: إنه قول أحمد، لأنه رواية أسامة، وهو أعلم بحال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كان رديفه، وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها، بخلاف المجموعتين بعرفة، قال أبو محمد: وإن أذن للأولى وأقام، ثم أقام لكل صلاة فحسن، لما تقدم في حديث جابر، وهو متضمن لزيادة، وكسائر الفوائت والمجموعات، قلت: وقد يقال: إن حديث جابر لا يخالف حديث أسامة، إذ قوله: ثم أقيمت الصلاة، أي دعي إليها، وذلك قد يكون بأذان وإقامة، والارتداف لا يرجح روايته والحال هذه، لأنه لم يخبر عن شيء وقع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو رديفه، إنما أخبر بعد زوال الارتداف، والله أعلم.(3/247)
قال: وإن فاته مع الإمام صلى وحده.
ش: أي يجمع منفردا كما يجمع مع الإمام، وهذا إجماع والحمد لله، إذ الثانية منهما تفعل في وقتها، بخلاف العصر مع الظهر، والله أعلم.
قال: فإذا صلى الفجر وقف مع الإمام عند المشعر الحرام فدعا.
ش: كذا في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله تعالى وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس» . وقد قال الله سبحانه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] وجميع هذا مستحب إلا المبيت بمزدلفة كما سيأتي، وفيه نظر، لأن الله سبحانه أمر بالذكر عند المشعر الحرام، وفعله المبين لكتاب ربه، مع قوله «خذوا عني مناسككم» وهذا لا يتقاصر عن الوجوب، بل قد قال بعض العلماء بركنيته، ويشهد له حديث عروة بن مضرس.
(تنبيه) : المشعر الحرام بفتح الميم، قال المنذري: وأكر كلام العرب بكسرها، وحكى القتيبي وغيره أنه لم يقرأ(3/248)
بها أحد، وحكى الهذلي أن أبا السمال قرأ المشعر بالكسر، وسمي مشعرا لأنه من علامات الحج، وكل علامات الحج مشاعر، والله أعلم.
قال: ثم يدفع قبل طلوع الشمس.
ش: لما تقدم في حديث جابر.
1694 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير. قال: فخالفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض قبل طلوع الشمس» . رواه البخاري وغيره، والله أعلم.(3/249)
قال: فإذا بلغ محسرا أسرع ولم يقف فيه حتى يأتي منى.
ش: «محسر» قيل: واد بين عرفة ومنى، وهو مقتضى قول الخرقي، لأنه غيا الإسراع فيه إلى إتيان منى، وقيل: موضع بمنى، وقيل: ما صب [من محسر في المزدلفة فهو منها، وما صب] منه في منى فهو من منى، قال المنذري: وصوبه بعضهم، ويستحب الإسراع فيه إن كان ماشيا، أو يحرك دابته إن كان راكبا، تأسيا بمن المأمور اتباعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [قال أصحابنا: وذلك بقدر رمية حجر] . قال جابر في حديثه: حتى أتى محسرا فحرك قليلا. قال المنذري: لعله سمي بذلك لأنه يحسر سالكيه ويتبعهم. وقال الشافعي في الإملاء: يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع. وقيل: يجوز أن يكون فعله لأنه مأوى الشياطين. وقيل: سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيى. والله أعلم.(3/250)
قال: وهو مع ذلك ملب.
ش: يعني من الدفع من مزدلفة إلى منى، لما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عباس، والله أعلم.
[رمي الجمرات]
قال: ثم يأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة.
ش: الرمي تحية منى، فلا يشتغل عند الوصول إليها بغيره، فلذلك ندب أن يأخذ الحصى من طريقه أو من مزدلفة.
1695 - ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يأخذ الحصى من جمع.
1696 -[وفعله سعيد بن جبير، وقال: كانوا يتزودون الحصى من جمع] وعن أحمد: خذ الحصى من حيث شئت. وهذا اختيار أبي محمد، وهو الذي فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1697 - «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة العقبة وهو على راحلته «هات القط لي» فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين» رواه النسائي وابن ماجه ولهذا الخبر قلنا: الالتقاط أولى من التكسير. والله أعلم.(3/251)
قال: والاستحباب أن يغسله.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
1698 - لأنه يروى عن ابن عمر أنه غسله، وكان يتحرى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(والثانية) : - واختارها أبو محمد - لا يستحب، وقال: لم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله. انتهى، وهو مقتضى حديث ابن عباس السابق، وعلى هذا لو رمى بحجر نجس فهل يجزئه لوجود الحجرية، أو لا يجزئه لأنه يؤدي به عبادة، أشبه حجر الاستجمار؟ فيه قولان، والله أعلم.(3/252)
قال: فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات.
ش: جمرة العقبة هي آخر الجمرات مما يلي منى، وأولها مما يلي مكة، وهي عند العقبة، وبها سميت، فإذا قدم من مزدلفة إلى منى فأول ما يبدأ برميها بسبع حصيات، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال جابر: حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات. وكذلك في حديث غيره.
وقول الخرقي: رمى. يخرج منه ما لو وضعها بيده في المرمى، فإنه لا يجزئه، لعدم الرمي، نعم لو طرحها طرحا أجزأته، لوجود الرمي.
وقوله: حصيات. المستحب كونها مثل حصى الخذف، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفي حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بمثل حصى الخذف. وفسره الأثرم بأن يكون أكبر من الحمص، ودون البندق.
1699 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مثل بعر الغنم. وهو قريب(3/253)
من ذلك، فإن خالف ورمى بحجر كبير أجزأه على قول، وهو المشهور، لوجود الحجرية، وعن أحمد: لا يجزئه حتى يأتي بما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك القولان في الصغير قاله أبو محمد، وشرطه على كل حال الحجرية، فلا يجزئ الرمي بغيره كالكحل، والجواهر المنطبعة، والفيروزج، والياقوت، ونحو ذلك، على المشهور والمختار من الروايات، (وعنه) : يجزئ مع الجهل دون القصد، والرخام والكذان والرام ونحو ذلك ملحق بالحجر عند أبي محمد، وعند القاضي بالفيروزج، وجعل الدراهم،(3/254)
والدنانير، والحديد، والنحاس، والرصاص أصلا قاس عليه المنع.
ولا بد أن يقع الحصى في المرمى، فلو وقع دونه لم يجزئه، نعم لو وقعت الحصاة على [ثوب] إنسان فطارت فوقعت في المرمى أجزأه، لاختصاصه بالفعل، فلو نفضها الإنسان فوقعت في المرمى أجزأت، قاله أبو بكر في الخلاف، حاكيا له عن أحمد في رواية بكر بن محمد، ولم يجز عند ابن عقيل، والله أعلم.
قال: يكبر في أثر كل حصاة.
ش: في حديث جابر: يكبر مع كل حصاة، وكذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
قال: ولا يقف عندها. والله أعلم.
1700 - ش: لما روى سالم «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيسهل فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه البخاري وغيره. والسنة أن(3/255)
يستبطن الوادي، وأن يستقبل القبلة لهذا الخبر، كذا قال أصحابنا، وفيه نظر، إذ ليس في هذا الحديث أنه استقبل القبلة في جمرة العقبة ولا في غيرها.
1701 - وقد ورد في الصحيحين عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: «رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة من بطن الوادي، بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، فقيل له: إن ناسا يرمونها من فوقها. فقال عبد الله: هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة» .
1702 - لكن قد ورد في رواية النسائي والترمذي «أنه استبطن الوادي، واستقبل الكعبة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن، وقال: من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» ، ولو رماها من فوقها جاز.(3/256)
1703 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رماها كذلك للزحام، والله أعلم.
قال: ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي.
1704 - ش: لما تقدم في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن أسامة والفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما قالا: «لم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي حتى رمى جمرة العقبة» . وفي رواية للنسائي «فلما رمى قطع التلبية» ، والله أعلم.
[نحر الهدي]
قال: وينحر إن كان معه هدي.
ش: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر» . ولا فرق في ذلك بين الواجب والتطوع، فلو لم يكن معه هدي، وعليه هدي واجب اشتراه ونحره، وإلا فإن أحب الأضحية اشترى ما يضحي به.(3/257)
وقوله: وينحر إن كان معه هدي. النحر مختص بالإبل، وأما غيره فيذبح، وكأنه أشار بذلك إلى أن الأولى في الهدي أن يكون من الإبل، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا إشكال في ذلك، وفي مسنونية سوقه، ووقفه بعرفة، والجمع فيه بين الحل والحرم، والله أعلم.
[الحلق والتقصير]
قال: ويحلق أو يقصر.
1705 - ش: عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق «خذ» وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس» . متفق عليه، والسنة البداءة بالجانب الأيمن لهذا، ويخير بين الحلق والتقصير كما اقتضاه كلام الخرقي، ولا ريب فيه، وقد قال سبحانه: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] .
1706 - قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق في حجة الوداع وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم» ، متفق عليه.
1707 - وثبت عنه أنه دعا للمحلقين بالرحمة، وفي رواية بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة، [والأولى الحلق] ، ولهذا قدمه الخرقي، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/258)
1708 - وقد قال – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟ قال: «وللمقصرين» قال: ذلك في الثالثة أو الرابعة» . والحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه أبلغ في العبادة، وأدل على صدق النية لله تعالى، لأن المقصر مبق على نفسه بعض الزينة التي ينبغي للحاج أن يكون مجانبا لها.
1709 - وقيل: إن سبب دعائه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمحلقين ثلاثا أنه لما أمرهم يوم الحديبية [بالحلاق] لم يقم أحد منهم، لما في أنفسهم من أمر الصلح، فلما حلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة، تبادروا إلى ذلك.(3/259)
1710 - وقد ورد في مسلم من «حديث أم الحصين أنها سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة» ، هذا يدل على أن الحديبية لم يكن لها اختصاص بذلك.
وهل يستثنى من ذلك من لبد أو عقص، أو ظفر؟ ظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب عدم استثنائه، وعموم كلام أحمد يقتضيه، قال في رواية حنبل والميموني: إن شاء قصر، وإن شاء حلق، والحلق أفضل، وذلك للعمومات المتقدمة، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من فعل ذلك فليحلق.
1711 - وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من عقص رأسه أو ظفر أو لبد فقد وجب عليه الحلاق. رواه مالك في الموطأ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبد رأسه وحلق.
1712 - ويروى عنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من لبد فليحلق» قال أبو محمد: والأول أصح إلا أن يثبت الخبر.(3/260)
1713 - إذ عمر خالفه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فتسلم العمومات المتقدمة، وفعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكون الحلاق أفضل لا لتعينه. انتهى.
ولو لم يكن على رأسه شعر كالأصلع ومن رأسه محلوق، فظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنه يمر الموسى على رأسه، قال في رواية المروذي في المتمتع: إن دخل يوم التروية فأعجب إلي أن يقصر، فإن دخل في العشر فأراد أن يحلق حلق، [فإن دخل يوم التروية فحلق فلا بأس، ويمر الموسى على رأسه يوم الحلق] ، وحمله القاضي على الاستحباب، لقوله في رواية بكر بن محمد: لا يعتمر حتى يخرج شعره، فيمكن حلقه أو تقصيره. قال: فدل على أن إمرار الموسى لا يجب، فلا يقوم مقام الحلق، وفي أخذ الاستحباب من هذا نظر، لكن في الجملة هو قول الأصحاب، لقول الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، أي: شعور رءوسكم، فمن لا شعر له لم تتناوله الآية.
1714 - وإنما استحب له إمرار الموسى اقتداء بقول عمر: الأصلع يمر الموسى على رأسه، رواه النجاد.(3/261)
وقوله: يحلق أو يقصر. ظاهره أن الحكم متعلق بالجميع، فيحلق أو يقصر من جميع رأسه، فإن كان الشعر مضفورا قصر من رءوس الضفائر، وإلا جمعه وقصر من أطرافه، ولا يجب التقصير من كل شعرة، لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه، هذا أشهر الروايتين، والرواية الثانية) يجزئ حلق بعضه، أو تقصير بعضه، ومبنى الخلاف على المسح في الطهارة، قاله غير واحد، وعلى هذا «هل هذا» . البعض هو الأكثر أو قدر الناصية، أو إنما يكتفى بالبعض في حق المرأة دون الرجل؟ مبني على ما تقدم من الخلاف، والله أعلم.
قال: ثم قد حل من كل شيء إلا النساء.
ش: هذا المذهب والمشهور من الروايتين.
1715 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» . فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أما أنا فقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟» رواه أحمد، ورواه النسائي(3/262)
موقوفا على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(والرواية الثانية) : يحل من كل شيء إلا الوطء في الفرج، فتحل له القبلة، واللمس لشهوة، وعقد النكاح، لأن الوطء هو الأغلظ، ولهذا اختص الفساد به، [فيختص المنع به] بخلاف غيره، ونقل الميموني في المتمتع إذا دخل الحرم حل له بدخوله كل شيء إلا النساء والطيب، قبل أن يقصر أو يحلق، وهذا يعطي رواية ثالثة.
1716 - ومرجعها قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما خطب الناس في عرفة فقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى غدا فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت، رواه مالك في الموطأ.(3/263)
والمعنى يعضده، إذ الطيب من دواعي النكاح، فهو كالقبلة. انتهى.
وقد أشعر كلام الخرقي بأمرين (أحدهما) أن الحلق أو التقصير نسك، ويثاب على فعله، ويذم بتركه، وهذا المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، حتى إن القاضي في التعليق، وغيره، لم يذكروا خلافا، وذلك لقوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ، قيل: المراد به الحلق، وقيل: بقايا أفعال الحج، من الرمي ونحوه، وعلى كليهما فقد دخل الحلق في الأمر، وظاهره الوجوب، لا سيما وقد قرن بالوفاء بالنذور، وبالطواف، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، فوصفهم وامتن عليهم بذلك، فدل على أنه من العبادة لتتميز به، وليعبر عنها به.
1717 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبد رأسه وأهدى، فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن، قلن: ما لك أنت لم تحل؟ قال: «إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من حجتي، وأحلق رأسي» . رواه أحمد، ولو(3/264)
لم يكن نسكا لم يتوقف الحل عليه، وقد تقدم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا للمقصرين والمحلقين، وفاضل بينهم، فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء، ولما فاضل فيه، إذ لا تفاضل في المباح.
(والرواية الثانية) أنه إطلاق محظور كان محرما عليه بالإحرام، فأطلق فيه عند الحل، كاللباس والطيب، قال: «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «بما أهللت؟» . قال: بإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هل سقت الهدي؟» . قلت: لا. قال: «فطف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حل» . فطفت بالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني، وغسلت رأسي. الحديث» ، وقد تقدم، فظاهره أن الحل مرتب على الطواف والسعي، وهو الذي فهمه أبو موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه لم يذكر أنه قصر، ولا أنه حلق.
1718 - «وعن سراقة بن مالك المدلجي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم. فقال: «إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حل، إلا من كان معه هدي» . رواه أبو داود، انتهى.(3/265)
(الأمر الثاني) ظاهر كلام الخرقي أن الحل مرتب على الرمي والحلق أو التقصير، لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «لا أحل حتى أحل من حجتي، وأحلق رأسي» .
1719 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطلحة، وقدم علي من اليمن معه هدي، فقال: أهللت بما أهل به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أن يجعلوها عمرة، ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي» . مختصر متفق عليه.
1720 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف ويسعى، ويقصر، ثم يحل» . رواه أبو داود، وأصله في الصحيحين. (وعن أحمد) ، رواية أخرى، أن التحلل يحصل بالرمي وحده، لما تقدم من حديث أبي(3/266)
موسى، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «إذا رميتم الجمرة حل لكم كل شيء» . وحديث سراقة.
(تنبيه) : الخلاف في توقف الحل على الحلق والتقصير مرتب على نسكيته ووجوبه، فإن قيل بذلك توقف الحل عليه، وإلا فلا، هذا مقتضى كلام جماعة، وصرح به بعضهم، وجعل القاضي في تعليقه الروايتين في توقف الحل عليه على القول بنسكيته، ولا نزاع في ذلك، إذ المبيت بمزدلفة ونحو ذلك نسك ولا يتوقف الحل عليه، وهذا - أعني: عدم البناء - إليه ميل أبي محمد في المغني، لأنه صحح القول بأنه نسك، والقول بأن الحل لا يتوقف عليه.
(تنبيه) : ليس عند أحمد فيما علمت قولا يدل على إباحته، حتى يقول إنه إطلاق محظور، بل نصوصه متوافرة على مطلوبيته، وذم تاركه، نعم عنه ما يدل على أنه غير واجب، قال في الذي يصيب أهله في العمرة: الدم كثير. وقال فيمن اعتمر فطاف وسعى ولم يقصر حتى أحرم بالحج: بئس ما صنع، وليس عليه شيء. ومن هذا وشبهه أخذ أنه(3/267)
إطلاق محظور، ومن هنا يعلم أن جزم القاضي بأنه نسك - يثاب على فعله، ويذم على تركه - وأن حكاية أبي البركات الخلاف في وجوبه، أجود من عبارة غيرهما أنه نسك، أو إطلاق محظور، والله أعلم.
قال: والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة.
ش: المشروع في حق المرأة التقصير بالإجماع، حكاه ابن المنذر.
1721 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير» . رواه أبو داود.
1722 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تحلق المرأة رأسها» . رواه الترمذي.(3/268)
وظاهر كلام الخرقي أن قدر الأنملة واجب، وهو ظاهر كلام أحمد والأصحاب.
1723 - قال أحمد: تقصر من كل قرن قدر الأنملة، وهو قول ابن عمر، وسئل أحمد: تقصر من كل رأسها؟ قال: نعم، تجمع رأسها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطراف رأسها قدر الأنملة. وحمل أبو محمد ذلك على الاستحباب، قال: لأن الأمر به مطلق، وبأي شيء أزال الشعر أجزأه، وكذلك إن أزاله بنورة، أو بنتفه، إذ القصد إزالته، والله أعلم.
[من أركان الحج الطواف بالبيت]
قال: ثم يزور البيت، فيطوف به سبعا. وهو الطواف الواجب، الذي به تمام الحج.
ش: يعني أنه بعد رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق أو التقصير يزور البيت، فيطوف به سبعا، لأن في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أن ذكر النحر قال: «ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأفاض إلى البيت» . وهذا الطواف هو الذي به تمام الحج بالإجماع، قاله ابن عبد البر، ويشهد له قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] .
1724 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: حججنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/269)
فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنها حائض، قال: «أحابستنا هي؟» . قالوا: يا رسول الله إنها أفاضت يوم النحر. قال: «اخرجوا» . متفق عليه. فدل على أنه حابس لمن لم يأت به، ولا بد في هذا الطواف من تعيينه بالنية، كما سينص عليه الخرقي، فلو أطلق، أو طاف للوداع لم يجزئه، لأن الأعمال بالنية، وليتميز عن بقية الأطوفة، ويسمى هذا: «طواف الفرض» . لأنه فرض عليه فعله بالحج، «وطواف الزيارة» . لأنه يزور به البيت، و «طواف الإفاضة» . لأنه يفعل بعد الإفاضة من منى، و «طواف الصدر» . لأنه يصدر إليه من منى، وقيل - قال المنذري: وهو المشهور -: إن طواف الصدر هو طواف الوداع، وهو أقرب، إذ الصدر رجوع المسافر من مقصده، والله أعلم.
قال: ثم يصلي ركعتين.
ش: كما تقدم في طواف القدوم. قال: إن كان مفردا أو قارنا، ثم قد حل له كل شيء.
ش: قد تقدم أن القارن والمفرد إذا دخلا مكة يطوفان للقدوم(3/270)
ثم يسعيان، فإذا طافا، والحال هذه، لم يبق عليهما شيء من أركان الحج، فيحلان إذا الحل كله.
1725 - لحديث ابن عمر الصحيح: «ثم لم يحلل من شيء حرم عليه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض. فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم عليه» ، وفعل مثل ما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهدى فساق الهدي من الناس. والله أعلم.
قال: وإن كان متمتعا فيطوف بالبيت [سبعا، وبالصفا والمروة سبعا، كما فعل للعمرة، ثم يعود فيطوف بالبيت] طوافا ينوي به الزيارة، وهو قوله عز وجل: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] .
ش: المتمتع إذا قدم على مكة فإنه يطوف للعمرة ويسعى لها، ثم يحرم بالحج يوم التروية، فيسن في حقه طواف القدوم، لكن على أشهر الروايتين لا يفعله إلا بعد رجوعه من منى، فإذًا يطوف للقدوم، ثم يسعى، ثم يطوف للزيارة، وأشار الخرقي بقوله: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، إلى آخره، بأن هذا [هو] الطواف المتحتم، المأمور به في كتاب الله عز وجل، بخلاف طواف القدوم.(3/271)
1726 - واستدل أحمد على ذلك بحديث جابر: أنهم طافوا بعدما رجعوا من منى.
1727 - وبحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «طاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا» . انتهى.
1728 - وقد روى نافع أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى. رواه مالك في الموطأ، ولأن طواف القدوم والحال هذه(3/272)
كتحية المسجد، عند دخول المسجد قبل شروعه في الصلاة.
(والرواية الثانية) عن أحمد: يجوز فعله قبل الرجوع، فيفعله عقب الإحرام. ومنع أبو محمد مسنونية هذا الطواف رأسا، وقال: ولا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا. واعتمد على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل أنه أمر من تمتع في حجة الوداع به، ولا أن الصحابة المتمتعين فعلوه، قال: وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يدل على هذا، لأنها إنما ذكرت طوافا واحدا، وأضافته للحج، وهذا هو طواف الزيارة، وإلا تكون قد أخلت بذكر الركن، وذكرت ما ليس بركن، ثم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قد قرنت الحج والعمرة بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تكن طافت للقدوم، ثم لم ينقل أنها طافت للقدوم، ولا أمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به. انتهى.
والحكم في المكي إذا أحرم [من مكة] والمفرد، والقارن الآفاقيان إذا لم يأتيا مكة قبل يوم النحر، كالحكم في المتمتع على ما سبق، فعلى قول [أبي محمد] هؤلاء كلهم يسعون عقب طواف الإفاضة، ثم يحلون. وقد أشعر كلام الخرقي بأن الحل يتوقف على السعي، ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب، في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن [يسعى، فسدت عمرته وعليه مكانها، ولو طاف وسعى ثم وطئ قبل أن] يحلق أو يقصر، عليه دم، إنما(3/273)
العمرة الطواف والسعي والحلاق. انتهى، ولا نزاع في هذا إن قلنا بركينة السعي، (وهو إحدى الروايتين) عن أحمد، واختيار القاضي في التعليق الكبير، أما إن قلنا بسنيته - (وهو الرواية الثانية) - فهل يتوقف الحل عليه؟ فيه وجهان (أحدهما) : نعم، وهو ظاهر كلام أبي البركات (والثاني) وبه قطع في التلخيص: لا، وعلى هذا إن قيل: بوجوبه - كما هو اختيار القاضي في المجرد، وأبي محمد في المغني، وحكاه صاحب التلخيص رواية - فالقياس توقف الحل عليه.
(تنبيه) : الطواف محلل من المحللات، فيحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة، الرمي والحلق والطواف، ويحصل التحلل الثاني بالثالث، هذا إن قلنا: الحلاق نسك، وإلا حصل الأول بواحد من اثنين: الرمي والطواف، ويحصل الثاني بالثاني، صرح به صاحب التلخيص، وقال أبو محمد: إنه مقتضى قول الأصحاب، فكأنه لم ير ذلك مصرحا به، والله أعلم.
قال: ثم يرجع إلى منى.(3/274)
1729 - ش: في الصحيحين وغيرهما عن نافع، عن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى، قال نافع: وكان ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله» ، والله أعلم.
قال: ولا يبيت بمكة ليالي منى.
ش: ظاهر هذا أن المبيت بمنى لياليها واجب، وهو المشهور، والمختار من الروايتين.
1730 - لما روي عن ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «استأذن العباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته، فأذن له» ، متفق عليه. فظاهر هذا أن غيره كان ممنوعا من ذلك.
1731 - وقد روي: «لم يرخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأحد يبيت بمكة إلا للعباس من أجل سقايته» . رواه ابن ماجه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها، وقال: «خذوا عني مناسككم» .(3/275)
1732 - وقال مالك في الموطأ: زعموا أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يبعث رجالا يدخلون الناس من وراء العقبة.
(والرواية الثانية) : يسن ولا يجب، لأنه قد حل من حجه، فلا يجب عليه المبيت بموضع معين، كليلة الحصبة.
1733 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت. انتهى ويجب الليالي الثلاث إن لم يرد التعجل، وإن أراد فليلتان، والله أعلم.
قال: فإذا كان من الغد وزالت الشمس رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها ويدعو فيطيل، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات يكبر أيضا(3/276)
ويدعو، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ولا يقف عندها.
ش: الجمرة الأولى هي أبعد الجمرات من مكة، وتلي مسجد الخيف، فإذا كان غداة يوم النحر، بدأ بها فرماها بسبع [حصيات] .
1734 - «لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو، ويرفع يديه، ويقوم طويلا، [ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا] ، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة، من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» .
وهذا الترتيب شرط، فلو بدأ بجمرة العقبة، أو الوسطى لم يجزئه، على المنصوص والمختار من الروايتين أو الروايات، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتبها، وفعله خرج بيانا لصفة الرمي المشروع.
1735 - لا سيما وقد عضده ما روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لنا: «خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد(3/277)
حجتي هذه» . رواه مسلم وغيره، وهذا أمر بالاقتداء به، فإن فعله ورد بيانا لمجملات الحج، والأشهر في الرواية: يقول لنا: بلام مفتوحة وبالنون، وروي: «لتأخذوا» ، بكسر اللام للأمر، وبالتاء باثنين من فوق، وهي لغة.
(والثانية) يجزئه. قال في رواية محمد بن يحيى الكحال - فيمن رمى جمرة قبل جمرة: أرجو أن لا يكون عليه شيء.
1736 - وذلك لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج» . وحكى أبو البركات الرواية بالإجزاء مع الجهل. وشرط صحة الرمي في الجميع أن يكون بعد الزوال، على المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين.
1737 - لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.(3/278)
1738 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس» . رواه الترمذي، وفعله خرج بيانا كما تقدم، وقد فهمت هذا الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
1739 - قال وبرة بن عبد الرحمن السلمي: سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه.
فأعدت عليه المسألة فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. رواه البخاري وغيره.
(والرواية الثانية) : إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه ولا ينفر إلا بعد الزوال.
(والثالثة) : كالثانية، إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه. قال في رواية ابن منصور: إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم نفر، كأنه لم ير عليه دما.
واختلف في عدد الحصا، فعنه: لا بد من سبع. كما قال الخرقي، اتباعا لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد ثبت ذلك عنه من حديث ابن عمر المتقدم، ومن حديث ابن مسعود، وعائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وفعله خرج بيانا كما تقدم.(3/279)
1740 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الاستجمار تو، ورمي الجمار تو، والسعي بين الصفا والمروة تو، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو» . [رواه مسلم وغيره] والتو: الوتر. (وعنه) تجزئ الست، ولا يجزئ ما دونها.
1741 - لما «روى سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رجعنا في الحجة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعضنا يقول: رميت بسبع. وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضهم على بعض» . رواه النسائي وأحمد. وهذا اتفاق منهم على جواز الاكتفاء بالست.
1742 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا أبالي رميت بست أو بسبع. (وعنه) : تجزئ الخمس، إذ الأكثر يعطى حكم(3/280)
الجميع، وقد ثبت عن الصحابة التساهل في البعض. ويسن أن يكبر مع كل حصاة، لما تقدم من حديث جابر، وابن عمر، وابن مسعود، ويقف يدعو، ويطيل في الجمرتين الأوليين، ولا يقف في جمرة العقبة، لما تقدم من حديث ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والخرقي قال: يقف عندها. ولعله يريد قريبا منها، إذ السنة التقدم كما في الحديث، والله أعلم.
قال: ويفعل في اليوم الثاني كما فعل بالأمس.
1743 - ش: لا نزاع في ذلك، وعلى ذلك فعل الخلف، اقتداء بالسلف، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أفاض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يوم النحر حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» . رواه أبو داود، والله أعلم.(3/281)
قال: فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل المغرب.
ش: أيام منى وأيام التشريق: ثلاثة أيام بعد النحر، فمن أحب أن يتعجل في يومين منها خرج قبل المغرب، لقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] الآية، والتخيير هنا، والله أعلم، نظرا لجواز الأمرين، وإن كان التأخر أفضل، وكلام الخرقي وعامة الأصحاب يشمل مريد الإقامة بمكة، وكذلك عموم الآية الكريمة.
1744 - وعن يحيى بن يعمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» . مختصر، رواه أبو داود وغيره. (وعن أحمد) : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة.
1745 - وذلك لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من شاء من الناس كلهم أن ينفر في الأول، إلا آل خزيمة، فلا ينفروا إلا في النفر الأخير، فجعل [أحمد وإسحاق معنى قول عمر رضي(3/282)
الله عنه: إلا آل خزيمة. أي أنهم أهل حرم، وحمل أبو محمد] هذا على الاستحباب، محافظة على العموم، والله أعلم.
قال: فإذا غربت الشمس، وهو بها، لم يخرج حتى يرمي في غد بعد الزوال، كما رمى بالأمس.
ش: شرط جواز التعجل في اليومين أن ينفر قبل غروب الشمس، فلو أقام حتى غربت الشمس، لزمه المبيت والرمي من الغد، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التعجل في اليوم، [وكذلك المبين] لكلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واليوم اسم للنهار، فمن غربت الشمس عليه خرج عن أن يكون في اليوم، فهو ممن تأخر.
1746 - وعن نافع أن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كان يقول: من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى، فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد. رواه مالك في الموطأ.(3/283)
وقول الخرقي: حتى يرمي في غد بعد الزوال، يحترز به عن [مذهب] الحنفية من أنه يجوز في هذا اليوم الرمي قبل الزوال، وهي رواية مرجوحة قد تقدمت، والله أعلم.
قال: ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام.
ش: يعني مسجد الخيف، تأسيا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1747 - «قال عبد الله بن مسعود: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ركعتين، صدرا من خلافته» . وهذا إن لم يمنع [مانع، فإن منع مانع] من فسق أو غيره [صلى] في رحله، والله أعلم.
قال: ويكبر في دبر كل صلاة، من صلاة الظهر يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق.
ش: قد تقدم الكلام في التكبير في عيد النحر، وفي صفته، ومحله ووقته، وأن المحل يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، وأما المحرم فيكبر من صلاة الظهر يوم النحر، لأنه قبل ذلك مشتغل بالتلبية حتى يرمي جمرة العقبة، وليس بعد جمرة العقبة صلاة يكبر فيها إلا الظهر، فلو رمى جمرة العقبة قبل(3/284)
الفجر - إذ وقتها يدخل بانتصاف ليلة النحر، على المشهور من الروايتين - فعموم كلام أصحابنا يقتضي أنه: لا فرق، حملا على الغالب، ويؤيد هذا أنه لو أخر الرمي إلى بعد صلاة الظهر فإنه يجتمع في حقه التكبير والتلبية، ومنصوص أحمد في رواية ابنه عبد الله أنه يبدأ بالتكبير ثم يلبي، إذ التلبية قد خرج وقتها المستحب، وهو الرمي ضحى، فبذلك قدم التكبير عليها، والله أعلم.
[طواف الوداع]
قال: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، يطوف به سبعا، ويصلي ركعتين.
1748 - ش: لما «روي عن ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» . رواه أحمد ومسلم، وليس بركن اتفاقا، بل واجب، يجبر بالدم، لهذا الحديث، هذا المشهور والمعروف عند الأصحاب.
وقال أحمد - في رواية ابن إبراهيم -: إذا نسي طواف الزيارة، فطاف للصدر لا يجزئه، وكيف يجزئه التطوع عن الفريضة، وكذلك نقل المروذي، وظاهر هذا أنه سنة لا واجب. إلا أن يقال: أطلق على الواجب تطوعا حيث قابله بالركن، إذ واجبات الحج تترك،(3/285)
وتصح العبادة بدونها، فلها شبه بالتطوع.
وقول الخرقي: لم يخرج. يقتضي أنه لو أراد المقام بمكة لا وداع عليه، وهو كذلك، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده. وقوله: لم يخرج. ظاهره أنه لو خرج ولو إلى دون مسافة القصر أنه يلزمه الطواف، وهو ظاهر إطلاق الحديث، والمراد بالخروج: الخروج عن الحرم. ويجزئه طواف الزيارة إذا طافه عند الخروج عن طواف الوداع، في أشهر الروايتين لأنه حصل آخر عهده بالبيت طواف، والله أعلم.
قال: إذا فرغ من جميع أموره، حتى يكون آخر عهده بالبيت.
ش: يعني أن هذا الطواف يكون في وقت فراغه من جميع أموره، كي يكون آخر عهده بالبيت، اتباعا لنص حديث ابن عباس، والله أعلم.
قال: فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع ثم رحل.
ش: يعني يتفرع على ما تقدم أنه لو ودع ثم اشتغل في تجارة، أو حاجة، أو عيادة مريض، أنه يعيد الوداع، عملا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى يكون آخر عهده بالبيت» . ومن أقام في تجارة أو زيارة لم يكن آخر عهده بالبيت الطواف، وقد بالغ أحمد في ذلك، فقال له أبو داود: إذا ودع البيت ثم نفر(3/286)
يشتري طعاما يأكله؟ قال: لا، يقولون حتى يجعل الردم وراء ظهره. وقال في رواية أبي طالب: إذا ودع لا يلتفت، فإن التفت رجع حتى يطوف بالبيت، وأبو محمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يجوز شراء اليسير، وقضاء الحاجة في الطريق، لأنه لا يسمى إقامة، والله أعلم.
قال: فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب، وإن أبعد بعث بدم.
ش: نص أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، على هذا، محافظة على الإتيان بالواجب، إذ القريب في حكم المقيم، أما البعيد فمسافر، مع أن المشقة تلحقه غالبا، بخلاف القريب، ولو تعذر على القريب الرجوع فهو كالعبيد.
1749 - وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رد رجلا من مر الظهران - لم يكن ودع البيت - حتى ودع، رواه مالك في الموطأ.(3/287)
ومقتضى كلام الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أنه لو رجع القريب لا دم عليه، وهو كذلك، لأنه في حكم المقيم أما البعيد إذا رجع؛ فعن القاضي: لا يسقط عنه الدم، لاستقراره بالبعد، ولأبي محمد احتمال، وحد البعد مسافة القصر، نص عليه أحمد، واعتبرها أبو محمد من مكة، وقد يقال من الحرم، والله أعلم.
قال: والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت، ولا وداع عليها ولا فدية.
ش: أما سقوط طواف الوداع عن الحائض فقول العامة.
1750 - لما «روى ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» . متفق عليه.
1751 - وعن نافع، «أن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت، إلا الحيض، رخص لهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الترمذي.
1752 - وفي مسلم وغيره «عن عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: حاضت صفية، قالت عائشة: فذكرت حيضها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال(3/288)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحابستنا هي؟» . قلت: يا رسول الله إنها قد كانت أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فلتنفر» .
أما انتفاء الفدية فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكرها في شيء من الأحاديث، ولو وجبت لذكرها، وحكم النفساء حكم الحائض.
(تنبيه) : إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل مفارقة البنيان لزمها الرجوع والوداع، فإن لم ترجع ولو لعذر فعليها الدم، ولو كان الطهر بعد مفارقة البنيان فلا رجوع عليها، والله أعلم.
قال: ومن خرج قبل طواف الزيارة رجع من بلده حراما، حتى يطوف بالبيت.
ش: قد تقدم أن طواف الزيارة ركن لا يتم الحج إلا به، فإذا تركه الإنسان، ورجع إلى بلده، فإنه لا بد أن يرجع من بلده، ليأتي بركن الحج، ويرجع حراما عن النساء، إن كان قد رمى جمرة العقبة، وإلا فحراما عن كل شيء كما تقدم، وقد دل على الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفية: أحابستنا هي؟» . فدل على أن الطواف يحبس صاحبه. والله أعلم.(3/289)
قال: وإن كان قد طاف للوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة.
ش: لا بد من تعيين النية لطواف الزيارة، فإذا طاف للوداع، أو مطلقا، لم يجزئه عن طواف الزيارة، [نظرا] لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . الحديث، وهذا لم ينو طواف الزيارة، فلا يكون له، ونبه بهذا على مذهب مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في أنه يجزئه ذلك، والله أعلم.
قال: وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد.
ش: هذا هو المذهب المختار للأصحاب، والمشهور عن أحمد في الروايتين، حتى إن القاضي في تعليقه لم يذكر غيره، ورواه عن أحمد سبعة من أصحابه، وذلك لما تقدم من أن الصحيح أن النبي(3/290)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان نسكه القرآن، والخصم يسلم ذلك، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه طاف إلا طوافا واحدا.
1753 - كما صرح به جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن الحج والعمرة، وطاف لهما طوافا واحدا» . رواه الترمذي والنسائي.
1754 - وعنه أيضا قال: «لم يطف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا، طوافه الأول» . رواه الجماعة إلا البخاري.
1755 - وروى عبد الله بن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما، حتى يحل منهما جميعا» . رواه الترمذي وهذا لفظه، والنسائي وقال: «إن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قرن الحج والعمرة، فطاف لهما طوافا واحدا، وقال: هكذا رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» .(3/291)
1756 - وفي الصحيحين أيضا معنى هذا عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في حديث طويل، لما حج حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
1757 - وعن عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، في حديثها الصحيح - وسيأتي إن شاء الله تعالى - قالت: «وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا» .
1758 - ولمسلم في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» .
1759 - ولأبي داود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» . لا يقال: الطواف اسم جنس مضاف لها، فيشمل كل طواف صدر منها، لأنا نقول: طواف. يقتضي ما يقع عليه اسم الطواف، وهو(3/292)
يصدق بواحد، كذا أجاب القاضي، وفيه شيء، إذ لا يظهر لي فرق بين [طوافك] وعبدك، ونحوه، وهو وإن صدق بواحد، لكن لا يدل على تعيين الواحد، وإنما الجواب: أن المعلوم من قصتها أنها طافت طوافا واحدا، والخصم يسلم ذلك، لأن عنده أن أمرها آل إلى الإفراد، ثم لو لم يكن كذلك لم يكن [في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» .
فائدة، إذ لا يتوهم أن في القران ثلاثة أطواف، ولأنهما عبادتان [من جنس واحد] فإذا اجتمعا دخلت الصغرى في الكبرى كالطهارتين.
(والرواية الثانية) : يلزمه طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج، لا يدخل أحدهما في الآخر، حكاها جماعة، وهي نظير الرواية المذكورة في الوضوء والقاضي جعل في التعليق بدل هذه الرواية رواية أن عمرة القران لا تجزئ عن عمرة الإسلام، (وبالجملة) قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وإتمامها أن يأتي بأفعالها على الكمال.(3/293)
1760 - وبأنه قد روي «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه طاف طوافين، وسعى سعيين» من رواية علي، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
1761 - وروي عنه أيضا أنه قال: «من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان» .
1762 - وأجيب عن الآية بأن الإتمام أن يحرم بهما من دويرة أهله، كما(3/294)
قال عمر وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، على أنا نقول بموجبه، لأنا نقول: إذا طاف وسعى لهما فقد أتمهما، وعن الأحاديث بضعفها، قال الحافظ المنذري: ليس فيها شيء يثبت. وينبني على الخلاف إذا قتل القارن صيدا أو أفسد نسكه، فالمنصوص جزاء واحد للصيد، وبدنة للوطء، وخرج جزاآن للصيد، وبدنة وشاة، كما لو فعل ذلك في كل من النسكين.
(تنبيه) : لا نزاع في اتحاد الإحرام والحلق، والله أعلم.
قال: إلا أن عليه دما، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، يكون آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
ش: هذا استثناء منقطع، لأن الدم ليس من عمل القارن، فالتقدير: لكن عليه دم. أو التقدير: ليس في عمل القارن، ولا في حكمه زيادة على عمل المفرد، ولا في حكمه، إلا أن عليه دما. وبالجملة وجوب الدم قول الجمهور، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية، وقد تقدم أن القارن يدخل في ذلك.
1763 - ويؤيد ذلك ما «قال سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال له(3/295)
علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنهى الناس عنه. فقال له عثمان: دعنا. قال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك أهل بهما جميعا» ، متفق عليه، وفي رواية: لما رأى ذلك عليٌّ أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة. ففهم عليٌّ دخول القران في لفظ التمتع، ففعله ليعلم الناس أنه غير منهي عنه.
1764 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بقرة يوم النحر» . رواه مسلم. وقد تقدم أنها كانت قارنة، ولأنه ترفه بأحد السفرين، فلزمه دم كالمتمتع. وإذا لم يجد الهدي صام على الصفة المذكورة كالمتمتع، وسيأتي [ذلك] إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
[دم التمتع وصيامه]
قال: ومن اعتمر في أشهر الحج، فطاف وسعى وحل، ثم أحرم بالحج من عامه، ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فهو متمتع، وعليه دم.
ش: وجوب الدم على المتمتع في الجملة إجماع، وقد شهد له الآية الكريمة: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، أي: فعليه، أو فالواجب: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .(3/296)
1765 - وفي مسلم وغيره عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنا نتمتع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها» .
ويشترط لذلك شروط: (أحدها) أن يعتمر في أشهر الحج، فلو اعتمر بها في غير أشهره، لم يكن متمتعا، لأن قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: أوصل ذلك بالحج، وهذا إنما يكون إذا كان في أشهر الحج، والاعتبار عندنا بالشهر الذي أحرم فيه، لا بالشهر الذي حل فيه، فلو أحرم بالعمرة في رمضان، ثم حل في شوال لم يكن متمتعا، نص عليه أحمد في رواية جماعة.
1766 - ويروى ذلك عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعليه اعتمد أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(الشرط الثاني) أن يحل من عمرته ثم يحرم بالحج، فلو أدخل الحج على العمرة قبل طوافها صار قارنا، إذ أحد نوعي القران أن يدخل الحج على العمرة.(3/297)
1767 - كما صنع ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عام حجة الحرورية، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تقدم.
(الثالث) أن يحج من عامه، لظاهر الآية الكريمة، مع أن هذا كالإجماع.
(الرابع) أن لا يخرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فإن خرج إلى ما تقصر فيه الصلاة لم يكن متمتعا، نص عليه أحمد، إلا أن لفظه: إن خرج من الحرم سفرا تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع فحج، فليس بمتمتع. وبينه وبين كلام الخرقي فرق، إذ الخرقي اعتبر الخروج من مكة، وأحمد اعتبر الخروج من الحرم.
1768 - وبالجملة: العمدة في ذلك ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع. وعن ابنه نحو ذلك، رواه أبو حفص، وهذه الشروط الأربعة لا أعلم فيها خلافا بين الأصحاب.
ويشترط أيضا (شرط خامس) : لا نزاع فيه بينهم وهو أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، أي: (ذلك)(3/298)
الحكم - وهو وجوب الدم - (لمن لم يكن أهله) من (حاضري المسجد الحرام) ، أي: ثابت، (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) ، وهذا أجود من جعل اللام بمعنى (على) ، أي: ذلك الواجب على من لم يكن أهله حاضري، كما في قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ، إذ هذا [مجاز] للمقابلة، ومهما أمكن استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي فهو أولى، لا يقال: (ذلك) إشارة إلى قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: هذا التمتع، (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فيخرج المكي، لأنا نقول: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] شرط، و {فَمَا اسْتَيْسَرَ} [البقرة: 196] جزاء، و {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ} [البقرة: 196] استثناء، [والاستثناء] يرجع إلى الجزاء دون الشرط، كقول القائل: من دخل داري فأعطه درهما، إلا أن يكون أعجميا. انتهى، وهذا الشرط يعم المتمتع والقارن.
(تنبيه) : إلا حاضري المسجد الحرام المقيم بالحرم، سواء كان من أهله أو داخلا إليه، فلو دخل الآفاقي بعمرة(3/299)
في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة، فاعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه فهو متمتع، نص عليه، وبالغ القاضي فقال: في الآفاقي: إذا تجاوز الميقات إلى أن بقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، فلا دم عليه، لأنه من حاضريه. وخالفه أبو محمد، لأن الحضور بالإقامة. انتهى.
واختلف في ثلاثة شرائط، (أحدها) : هل يشترط أن لا يحرم من الميقات، فإن أحرم منه فليس بمتمتع؟ وفيه روايتان، أنصهما - وبه جزم أبو البركات - الاشتراط، قال أحمد في رواية يوسف بن موسى، وأحمد بن الحسن: إذا أقام فأنشأ الحج من مكة فهو متمتع، فإن خرج إلى الميقات فأحرم(3/300)
بالحج فليس بمتمتع، وذلك لأنه لم يترفه بترك أحد الميقاتين، فلم يلزمه الدم، كما لو لم يحج من عامه.
(والثانية) : لا يشترط ذلك، إنما المشترط مفارقة الحرم بمسافة القصر، قال أحمد - في رواية حرب في من أحرم بعمرة في أشهر الحج - فهو متمتع إذا أقام حتى يحج، فإن خرج من الحرم سفرا تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع فحج فليس بمتمتع، وهذا اختيار القاضي في تعليقه، وبالغ فحمل الأولى على أن بين الميقات وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة، ولا يعرف أبو محمد غير هذا، نظرا إلى أن القريب في حكم الحاضر، ويظهر أثر هذا الشرط في «قرن» ميقات أهل نجد، فإنه [على] يوم وليلة من مكة، أما ما عداه فإن بينها وبين مكة مسافة القصر فأزيد، فلا حاجة إلى هذا الشرط فيها.:
(الثاني) هل تشترط النية في ابتداء العمرة أو أثنائها؟ فيه وجهان، والاشتراط اختيار القاضي وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص، وعدمه هو اختيار أبي محمد.
(الثالث) هل يشترط أن يكون النسكان عن رجل واحد، فلو كانا عن شخصين فلا تمتع؟ اشترط ذلك صاحب التلخيص، قال: لأنه لا يختلف أصحابنا أنه لا بد للإحرام بالنسك الثاني من(3/301)
الميقات، إذا كان عن غير الأول، يعني: والإحرام من الميقات يسقط التمتع، ولم يشترط ذلك الشيخان، وأبو محمد يخالف صاحب التلخيص في الأصلين اللذين بني عليهما كما عرفت، أما أبو البركات فيوافقه في الأصل الثاني، فظاهر كلامه مخالفته في الأول، وإذا يزول البناء.
(تنبيه) : هذه الشروط كلها للتمتع الموجب للدم، لا للتمتع المطلق كما تقدم التنبيه عليه، والله أعلم.
قال: فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع.
ش: أي إذا لم يجد الدم صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله، لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] ،(3/302)
ويعتبر الوجدان بالموضع الذي هو فيه، دون بلده، ولا ريب في وجوب الصوم على العادم للهدي في الجملة. والكلام فيه في ثلاثة أشياء؛ في وقت وجوبه، ووقت استحبابه، ووقت جوازه، فأما وقت الوجوب فهو وقت وجوب الهدي، لأنه بدل عنه، قاله القاضي وأبو محمد، وقد سئل أحمد في رواية ابن القاسم: متى يجب صيام المتعة؟ فقال: إذا عقد الإحرام، قال القاضي في التعليق: أي إن عقده سبب للوجوب، لأن الوجوب يتعلق به، وهذا التأويل بعيد، لتصريح السائل بالوجوب، ووقت وجوب الهدي عند القاضي في تعليقه، ومن تابعه - كصاحب التلخيص وغيره - بطلوع فجر يوم النحر، واعتمد القاضي على قول أحمد في رواية المروذي، وقيل له: متى يجب على المتمتع الدم؟ قال: إذا وقف بعرفة. قال القاضي: معناه إذا مضى وقت الوقوف. وأجرى أبو محمد الرواية على ظاهرها، فحكى الرواية أنه يجب بالوقوف، وقال: إنها اختيار القاضي، ولعله في المجرد.
وحكى أبو محمد وغيره رواية أخرى أنه يجب بالإحرام بالحج، ولعلهم أخذوه من رواية ابن القاسم التي أولها القاضي، وهي محتملة، إذ الإحرام يحتمل إحرام الحج وإحرام العمرة، ويتلخص على هذا أربعة أقوال، ومدركها - والله أعلم - أن قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ} [البقرة: 196] ، أي: فمن تمتع بالعمرة قاصدا إلى الحج، أو: فمن(3/303)
تمتع بالعمرة موصلا بها إلى الحج. وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج، وهذا أظهر، أو أن الحج إنما يتحقق بالحصول بعرفة، إذ هو الركن الأعظم، وقبل ذلك هو معرض للفوات، أو أن وقت نحر الهدي هو يوم النحر، فلا يجب قبله، لعدم قدرته على الفعل، وعلله القاضي بأن الهدي من جنس ما يحصل به التحلل، فكان وقته بعد وقت الوقوف، كالطواف والحلق، وفي كلا التعليلين نظر.
(تنبيه) : على كل الأقوال لا ينحر إلا يوم النحر، على ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور، واختيار الجمهور، والمنصوص عنه في رواية أبي طالب وغيره أنه إن قدم [في] العشر فكذلك، اتباعا لفعل الصحابة، وقبله ينحر حذارا من ضياع الهدي أو تلفه، انتهى.
وأما وقت الاستحباب (ففي الثلاثة) يكون آخرها يوم عرفة، كما ذكره الخرقي، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، وأبي طالب، واختاره القاضي في تعليقه، وأبو محمد وغيرهما، فيصوم السابع، والثامن، والتاسع، وفي المجرد: ويكون(3/304)
آخرها يوم التروية، فيصوم السادس، والسابع، والثامن، حذارا من صوم يوم عرفة، والأولون قالوا: يوم فاضل، فكان أولى بصوم الواجب، وحذارا من تقديم الإحرام، فعلى الأول قال أبو محمد: يقدم الإحرام على يوم التروية، فيحرم يوم السابع، وعلى ما في المجرد يحرم يوم السادس، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: بعد الإحرام بالحج، وخروجا من الخلاف، (وفي السبعة) إذا رجع إلى أهله، للآية الكريمة.
1769 - وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتفق عليه: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله» . وأما وقت الجواز (ففي الثلاثة) إذا أحرم بالعمرة، على المختار للأصحاب، إناطة [للحكم] بالسبب، كالتكفير قبل الحنث ونحوه، وقد أشار أحمد إلى هذا، قال: إذا عقد الإحرام فصام، أجزأه إذا كان في أشهر الحج، وهذا قد يدخل على من قال: لا تجزئ الكفارة إلا بعد الحنث، ولعل هذا ينصرف فلا يحج. انتهى.
ومن هذا أخذ القاضي هذا الحكم، وقال: قوله: عقد الإحرام. أي إحرام العمرة(3/305)
قال: لتشبيهه بالكفارة، وإنما يقع التشبيه إذا كان صومه قبل الإحرام بالحج، لأنه وجد أحد السببين، قال: ولأنه قال: إذا عقد الإحرام في أشهر الحج، وهذا إنما يقال في إحرام العمرة، ليوجد شرط التمتع، انتهى.
(وعن أحمد رواية ثانية) حكاها أبو محمد: وقت الجواز إذا حل من العمرة. ليتحقق وجود السبب (وحكى بعضهم رواية ثالثة) : يجوز تقديم الصوم على إحرام العمرة، قال أبو محمد: وليست بشيء، لما فيه من تقديم الصوم على سببه ووجوبه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزه عن هذا. انتهى.
وكأن هذه الرواية أخذت من قول أحمد في رواية الأثرم في قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] : يجعل آخرها يوم عرفة، ولا يبالي أن يقدم أولها، بعد أن يصومها في أشهر الحج، وإن صامها قبل أن يحرم فجائز، انتهى، فجعل أشهر الحج ظرفا وقال: قبل أن يحرم. وأطلق، والقاضي قال: أراد قبل أن يحرم بالحج. وقد أورد على هذا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فظاهره أن الصوم إنما يكون بعد أن يصل العمرة بالحج، وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج،(3/306)
وقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، جعل الحج ظرفا للصوم، وإنما يكون ذلك بعد الإحرام به (وأجيب) بأن المحرم بالعمرة وهو يريد الحج يصير متمتعا، بدليل لو ساق هديا كان هدي متعة، فإذا معنى الآية الكريمة، والله أعلم: فمن تمتع بالعمرة مريدا إيصالها بالحج، وأما الأمر بالصوم فلا بد فيه من تقدير، إذ نفس الحج لا يصام فيه، فالخصم يقدر: في إحرام الحج. ونحن نقدر: في وقت الحج. وهو أولى، لأن الوقت ظرف للفعل حقيقة، والإحرام ليس بظرف له حقيقة، مع أنا نقول بموجب تقدير الخصم، والآية إذا إنما دلت على الوجوب حالة الإحرام بالحج، ونحن نلتزمه.
قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي - وسئل عن صيام المتعة: متى يجب؟ قال -: إذا عقد الإحرام. والكلام هنا في الجواز. انتهى.
ووقت الجواز في السبعة بعد الفراغ من الحج، هذا قول القاضي، وحكى أبو محمد: بعد أيام التشريق. وهما(3/307)
متقاربان، وقد قال أحمد في رواية أبي طالب: إن قدر على الهدي، وإلا يصوم بعد الأيام، قيل له: بمكة أم في الطريق؟ قال: كيف شاء. ومراده بالأيام - والله أعلم: أيام التشريق، وذلك لأنه متمتع صام بعد الفراغ من النسك، في وقت يصح فيه الصوم، فوجب أن يجزئه إذا لم يكن معه هدي، كما لو رجع إلى وطنه. وأما قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، فيحتمل: إذا رجعتم من الحج. أي: رجعتم إلى ما كنتم عليه من الحل، وعلى هذا فحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السابق بين الاستحباب، والآية بينت الجواز، ويحتمل أن المراد بالرجوع في الآية الرجوع إلى الأهل كالحديث، ولا ينافي ذلك مدعانا، لأن معنى الآية إذا: وسبعة في وقت رجوعكم إلى أهليكم، وبالفراغ من الحج غالبا يشرع في الرجوع إلى الأهل فيجوز الصوم، ولو سلم أن المراد بالرجوع إلى الأهل الحصول في الأهل فذلك رخصة من الشارع، تخفيفا على المكلف ورفقا به، ولا إشكال في مطلوبية ذلك، ويجوز معه الأخذ بالعزيمة والفعل وقت الوجوب.
(تنبيه) : هنا سؤالات (أحدها) كيف جاز تقديم الصوم قبل وجوبه؟ وجوابه أنه كتقديم الزكاة والكفارة ونحوهما،(3/308)
مما يقدم بعد سببه، وقبل وجوبه.
(ثانيها) أن الصوم بدل عن الهدي ولا ينتقل إلى البدل إلا عند العجز عن المبدل، ولا يتحقق العجز إلا في وقت الوجوب ووقت الوجوب عندهم على المشهور يوم النحر؟ وجوابه أنا اكتفينا بالعجز الظاهر، إذ الأصل استمراره.
(وثالثها) أن وقت الوجوب على زعمهم يدخل بيوم النحر، ولا يجوز الصوم إذا، بل ولا يصح، وإذا فعله بعد، فعله قضاء كما صرح به القاضي وغيره، فهذا واجب ليس له وقت أداء أصلا، وإنما يفعل قبل وقته على سبيل التعجيل، وأبلغ من هذا أنه لو لم يعجل وأخر إلى وقت الوجوب وجب عليه دم على رواية، ولا يعرف لهذا نظير إلا أن يقال: الحائض يتعلق بها وجوب الصوم، ولا يتصور في حقها، وكذلك من أدرك من الوقت قدر تكبيرة، لأنا نقول ثم: الفعل له وقت إذا في الجملة، وإن تعذر في فرد. ولو قيل: إن الوجوب بالإحرام بالحج، كما هو ظاهر كلام أحمد، بل ليس في كلامه ما يدل على خلافه، لسلمنا من هذه الإيرادات أو غالبها، والله أعلم.(3/309)
قال: فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى: لا يصوم أيام منى، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام، وعليه دم.
ش: أيام منى أيام التشريق، وقد تقدم كلام الخرقي في أنه هل يصومها عن الفرض أو لا؟ وتقدم الكلام عليه، فلا حاجة إلى إعادته. لكن هنا شيء آخر، وهو أنه إذا أخر صوم الثلاثة عن يوم النحر، وعن أيام منى، لمنعه من الصوم فيها أو مطلقا، فإنه يقضيها فيما بعد، لأنه واجب، فلا يسقط [بخروج] وقته، كصوم رمضان، وبناء على أصلنا، وهو أن القضاء بالأمر الأول لا بأمر جديد. (وهل عليه دم) والحال هذه؟ فيه ثلاث روايات (إحداها) نعم، اختارها الخرقي، ونص عليها أحمد.
1770 - معتمدا على [أن] هذا قول ابن عباس ولأنه أخر واجبا من مناسك الحج عن وقته، فلزمه دم [كرمي الجمار] (والثانية) لا دم عليه، وهي التي نص عليها القاضي في تعليقه، ونص عليها أحمد في الهدي إذا أخره، وذلك لأنه أخره إلى وقت(3/310)
جواز فعله، فلم يجب به دم، كما لو أخر الوقوف إلى الليل ونحوه، (والثالثة) يجب الدم إلا مع العذر، حملا عليه، نص عليها أحمد في الهدي أيضا إذا أخره، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد، وصرح في التعليق بأن المذهب عدم التفرقة، وقد علمت أن المنصوص في الصوم وجوب الدم، وفي الهدي عدم الوجوب، والوجوب مع انتفاء العذر، فحصل من المجموع ثلاث روايات في المسألتين.
والخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خص وجوب الدم بما بعد أيام منى، فمقتضاه أنه لو صام أيام منى لا دم عليه، ويقرب منه كلام القاضي، قال: إذا لم يصم قبل يوم النحر صامها قضاء، وهل عليه دم لتأخيرها عن أيام الحج؟ انتهى، وأيام منى هي أيام الحج، والله أعلم.
قال: ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي، لم يكن عليه أن يخرج من الصوم إلى الهدي إلا أن يشاء.
ش: لأنه تلبس بالصوم، فلم يلزمه الانتقال إلى الهدي، كما إذا دخل في صوم السبعة فإنه اتفاق، ودعوى الخصم بأن الهدي بدل عن الثلاثة لا السبعة، فإذا وجد الهدي في الثلاثة بطل حكمها، للقدرة على المبدل، لا نسلم، بل نقول: الهدي بدل عن الجميع وهو ظاهر الآية الكريمة:(3/311)
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، [والمعطوف والمعطوف عليه في حكم الشيء الواحد، ويرجح هذا قوله سبحانه] : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قدر على الهدي قبل الشروع في الصوم أنه يلزمه الانتقال إليه، وهو إحدى الروايتين، ومبنى الخلاف على ما قال في التلخيص: هل الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب، أو بأغلظ الأحوال؟ فيه روايتان مشهورتان، تأتيان إن شاء الله تعالى في محلهما، والله أعلم.
قال: والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت، وخشيت فوات الحج أهلت بالحج، وكانت قارنة.
ش: إذا دخلت المرأة متمتعة وحاضت ولم تطف، فإنها ممنوعة من الطواف كما تقدم، ولا يمكن أن تحل من عمرتها إلا به، فحينئذ إن خشيت فوات الحج، بأن كان ذلك قريب وقت الوقوف، وخشيت أنها إن بقيت في عمرتها فاتها الحج، فإنها تحرم بالحج، وتصير قارنة، لتأمن بذلك الفوات، إذ إدخال الحج على العمرة مع الأمن جائز، فكيف مع عدمه.(3/312)
1771 - وقد وقع هذا «لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، موافين هلال ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة قال: «من شاء أن يهل بحجة فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل، وإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة» . قالت: فكنت فيمن أهل بعمرة، فلما كان في بعض الطريق حضت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك؟» . قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام. فقال: «ارفضي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج» . فلما كان ليلة الصدر أمر - تعني: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم، فأهلت بعمرة مكان عمرتها، فطافت بالبيت، رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ مختلفة.
1772 - ولمسلم في رواية: قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» .
1773 - ولأبي داود: قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» . وإنما يسعها أو يكفيها طوافها لحجها وعمرتها إذا حصلا لها.
1774 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث له قال: «وأقبلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت. وذكر(3/313)
الحديث إلى أن قال: ثم دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فوجدها تبكي، فقال: «ما شأنك؟» . قالت: شأني أني قد حضت، وقد أحل الناس ولم أحل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، قال: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج» . ففعلت ووقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم قال: «قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» . قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: «فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» . وذلك ليلة الحصبة» ، رواه مسلم، والنسائي، وأبو داود وهذا لفظه. وهو صريح في حصول النسكين لها كما قلناه. (وقد اعترض) على حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأنها إنما كانت مفردة.
1775 - بدليل أن في رواية في الصحيح قالت: «فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك يا هنتاه؟» . فقلت: سمعت قولك لأصحابك، فمنعت العمرة، قال: «وما شأنك؟» . قلت: لا أصلي. قال: «فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجك، فعسى الله أن يرزقكيها» . وفي رواية: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نذكر إلا الحج، [حتى جئنا سرف] فطمثت.(3/314)
وذكرت القصة، وفيها: قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» .
1776 - وأيضا ففي لفظ لمسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «فقضى الله حجتنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي، ولا صدقة، ولا صوم» . والقارن على قول العامة لا يخلو من أحدها. (ويجاب) بأنها قد أخبرت عن نفسها كما سبق بأنها كانت ممن أهل بعمرة.
1777 - وكذلك أخبر عنها جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذلك قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارفضي العمرة» . ونحو ذلك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . يدل على أنها كانت معتمرة، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلي ما يفعل الحاج» . أي: أنشئ ما ينشئ الحاج من الإهلال به والاغتسال [له، كما جاء مصرحا به، «وأهلي بالحج» . وكذلك يحمل «فكوني في حجك» . أي ادخلي في الحج] ونحو ذلك، إذ هذا ونحوه مما نقل بالمعنى قطعا، فإن الواقعة واحدة، واللفظ واحد، وأما قولها: ولم يكن في ذلك هدي، ولا صدقة، ولا صوم. [فهو نفي،(3/315)
وقد جاء في مسلم من رواية جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عائشة بقرة. يوم النحر» . والمثبت مقدم على النافي، ويحتمل أن تريد: لم يكن في ذلك علي هدي، ولا صوم، ولا صدقة] ويكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحمل عنها ذلك، وهو يعلم رضاها بذلك، فلا يحتاج إلى أذنها في التكفير. والنعمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: آل أمرها إلى الإفراد، ويوافق [على] أن إحرامها كان بعمرة، ثم لما حاضت أمرها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بترك العمرة، ثم بالإهلال بالحج.
1778 - مستدلا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «ارفضي العمرة، وانقضي رأسك وامتشطي» . وفي رواية: «اتركي العمرة» . وفي رواية «دعي العمرة» . وهذه الألفاظ كلها في الصحيح والسنن.
1779 - ويرشح هذا ما في الحديث: فأهلت بعمرة مكان عمرتها، وفي رواية: «أرسلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: «هذه مكان عمرتك» . وفي رواية: «قالت يا رسول الله أترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بحج؟ فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب(3/316)
بها إلى التنعيم، فلبت بالعمرة» . وقد أجيب عن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «انقضي رأسك، وامتشطي» . أن ذلك [يجوز أن] يكون لعذر، كما جوز لكعب بن عجرة الحلق، مع أن المحرم يجوز له نقض الشعر، والامتشاط غايته أن يكون برفق، حذارا من نتف الشعر، وإنما قال ذلك الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هنا لأجل اغتسالها للحج، وأما قوله: «ارفضي العمرة» . ونحو ذلك فحمله الإمام الشافعي وغيره على ترك أفعال العمرة، لا على ترك العمرة رأسا، ليوافق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قد حللت من حجك وعمرتك» . وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في رواية أبي طالب: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: «أمسكي عن عمرتك، وامتشطي وأهلي بالحج» . وقال في رواية الميموني وذكر له عن أبي معاوية يرويه: «انقضي عمرتك» . فقال: غير واحد يرويه: «أمسكي عن عمرتك» . أيش معنى: انقضي، هو شيء تنقضه، هو ثوب تلقيه؟ وعجب من أبي معاوية.(3/317)
وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه مكان عمرتك» . [أي: مكان عمرتك] التي أحرمت بها مفردة، وقولها: أترجع صواحبي بحج وعمرة. إلى آخره أي بحج، وعمرة مفردة عن الحج، وأرجع بحج اندرجت فيه العمرة، وأما إعمارها من التنعيم فتطييب لقلبها، كذا قال الإمام أحمد وغيره، ويشهد له حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، انتهى.
وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه يلزمها إدخال الحج والحال هذه، وكذلك كل من خشي فوات الحج، حذارا من تفويت الحج الواجب على الفور.
(تنبيه) : «هنتاه» ، كناية عن البله، وقلة المعرفة بالأمور. «وليلة الصدر» ، و «ليلة الحصبة» ، «وليلة البطحاء» ، كل ذلك واحد، وهو نزوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمحصب ليلة النفر الآخر، والمحصب والأبطح، والمعرس وخيف بني كنانة واحد، وهو بطحاء مكة [وهو بين مكة] ومنى. و «سرف» ، على فرسخين من مكة، وقيل: على أربعة أميال. و «عركت» ، بفتح العين والراء، أي: حاضت، والعارك: الحائض، وكذلك «طمثت» ، حاضت، والله أعلم.(3/318)
قال: ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم.
ش: أي إذا طهرت، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بقضائه، وهذا مما يورد على المتمتع في قضائه طواف القدوم، ويجاب عنه بأنه هنا سقط عنها لمكان العذر، كما يسقط طواف الوداع عن الحائض، أما ثم فلا عذر، والله أعلم.
قال: ومن وطئ قبل أن يرمي جمرة العقبة فقد أبطل حجهما.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في قوله: فإن وطئ محرم في الفرج. إلا أنه ثم فصل بين أن يطأ في الفرج أو دونه، وبين هنا أن شرط بطلان الحج أن يكون قبل رمي جمرة العقبة، أما إن كان بعد رمي الجمرة فإن النسك لا يبطل، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: وعليه دم إن كان استكرهها، ولا دم عليها.
ش: تقدمت هذه المسألة أيضا، وأن الدم بدنة، وأنها إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما [بدنه] . والله أعلم.
قال: وإن وطئ بعد رمي جمرة العقبة فعليه دم.
ش: وإذا كان الوطء بعد التحلل الأول - كما إذا رمى جمرة العقبة - فإن النسك لا يفسد.
1780 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن رجل وقع(3/319)
بأهله وهو بمنى، قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنة، وفي رواية عن عكرمة قال: لا أظنه إلا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي. رواه مالك في الموطأ.
1781 - ولعموم: «الحج عرفة، من صلى صلاتنا، ووقف معنا، حتى ندفع، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة في ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه» . وقد تقدم ذلك.
ويلزمه دم، وهل هو بدنة، كما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أو شاة، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، كالوطء دون الفرج إذا لم ينزل، والجامع عدم البطلان بهما؟ فيه روايتان، والله أعلم.
قال: ويمضي إلى التنعيم فيحرم، ليطوف وهو محرم [وكذلك المرأة] .
ش: قد تقرر أن الحج لا يبطل بالوطء بعد رمي جمرة العقبة، وإذا لم يبطل فما بقي من الإحرام يبطل، لحصول(3/320)
الوطء فيه، وإذا يلزمه أن يحرم، ليأتي بطواف الركن في إحرام صحيح، ويحرم من الحل، ليجمع في الإحرام بين الحل والحرم، وأقرب الحل إلى مكة التنعيم، فلذلك ذكره الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنه إذا أحرم أتى بالطواف، وإن كان لم يسع أتى بالسعي، على ما تقدم، ثم قد حل، لأن هذا هو الذي بقي عليه من حجه، قال أبو محمد: والمنصوص عن أحمد أنه يعتمر، قال: فيحتمل أنه يريد هذا، وهو يسمى عمرة، لأنه هو أفعال العمرة، ويحتمل أنه يريد عمرة حقيقية، فيلزمه سعي وتقصير.
وظاهر كلامه أيضا أن الوطء بعد رمي جمرة العقبة لا يفسد، وإن كان قبل الحلق وظاهر كلام جماعة أنه إذا أوقفنا الحل عليه فسد النسك به، لأنهم ينيطون الحكم بالحل الأول.(3/321)
والخرقي ظاهر كلامه أنه متوقف على الحلق، وقرر أبو محمد الأول على ظاهره، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمة.
(تنبيهان) : «أحدهما» . إذا وطئ بعد الطواف وقبل الرمي فظاهر كلام جماعة أنه كالأول، لإناطتهم الحكم بالوطء بعد التحلل الأول، ولأبي محمد في موضع في لزوم الدم - والحال هذه احتمالان، وله في موضع القطع بلزوم الدم متابعة للأصحاب.
«الثاني» . لم يتعرض الخرقي لحكم الوطء في العمرة، والحكم أنه يجب بالوطء فيها شاة، وهل تفسد؟ إن كان قبل السعي فسدت، وإن كان بعده وجب دم ولم تفسد، نص عليه أحمد، وقاله الشيخان، ومقتضى كلامهما وإن قلنا: الحلق نسك، بل هو صريح كلام أبي محمد، وبني [ذلك] صاحب التلخيص على الحلق، إن قيل: إطلاق محظور فكذلك، وإن قيل: نسك فسدت، والله أعلم.
قال: ومباح لأهل السقاية والرعاء أن يرموا بالليل.
ش: تخفيفا، ودفعا للحرج والمشقة عنهما، إذ أهل السقاية مشتغلون بالسقي [نهارا] ، وكذلك الرعاة مشتغلون بالرعي [كذلك] فعلى هذا يرمون كل يوم في الليلة التي تعقبه، فجمرة العقبة في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، ورمي اليوم الأول في ليلة الثاني، ورمي الثاني في ليلة الثالث، والثالث(3/322)
إذا أخروه إلى الغروب سقط عنهم، كسقوطه عن غيرهم.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يباح الرمي في الليل لغير الصنفين، وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية ابن منصور - وقد سئل عن الرمي في الليل إذا فاته فقال: - أما الرعاء فقد رخص لهم، وأما غيرهم فلا يرمون إلا بالنهار من الغد إذا زالت الشمس يرمي رميين، وكذلك صرح صاحب التلخيص بأن آخر الوقت غروب الشمس، والليل على هذا كقبل الزوال.
(تنبيه) : «أهل السقاية» : هم الذين يسقون على زمزم. «والرعاة» : بضم الراء، وبهاء في آخره، وبكسر الراء ممدودا بلا هاء، لغتان مشهورتان، والثانية لغة الكتاب والسنة، والله أعلم.
قال: ومباح للرعاء أن يؤخروا الرمي، فيقضوه في اليوم الثاني، والله أعلم.
ش: الرعاء يشق عليهم المبيت، ليرموا في كل يوم، فلذلك رخص لهم في ترك رمي يوم، ليرموه في الذي بعده.
1782 - وقد روى أبو البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا يوما، ويدعوا يوما» ، رواه أبو(3/323)
داود، والنسائي والترمذي وصححه، وفي رواية: «أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر، فيرمونه في آخرهما» ، قال مالك: ظننت أنه قال: في الأول منهما، ثم يرمون يوم النفر.
وقد تضمن هذا الكلام أن للرعاء ترك المبيت بمنى، وكذلك الحكم في أهل السقاية، إلا أن الخرقي لم يتعد هذا الحديث، وقد تقدم أن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته فأذن له. إلا أن بين الرعاء وأهل السقاية فرقا، وذلك أن الرعاء متى غربت الشمس وهم بمنى لزمهم المبيت، بخلاف أهل السقاية. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يباح تأخير الرمي من يوم إلى آخر لغير من تقدم، ولعل مراده نفي الإباحة الاصطلاحية، وهو ما استوى طرفاه، لا الإباحة التي هي بمعنى الإذن في الفعل، ومراده بالإباحة في التأخير إلى الليل الإذن في الفعل، والذي ألجأ إلى هذا أن ظاهر كلام الأصحاب أنه يجوز تأخير الرمي كله إلى آخر أيام التشريق، ولا يجوز مجاوزة أيام(3/324)
التشريق، قال أبو محمد، وصاحب التلخيص: إذا أخر إلى آخر أيام منى [ترك السنة ولا شيء عليه، وقال أبو البركات: إذا أتى بالرمي كله في آخر أيام منى] جاز، وأصرح من هذا كلام القاضي في التعليق قال: أيام التشريق كلها بمنزلة اليوم [الواحد، واعتمد على نص أحمد المتقدم في رواية ابن منصور]- ثم قال بعد - لما قيل له: إن التأخير لليوم الثاني منهي عنه. قال -: لا نسلم، بل جميع الثلاثة وقت للرمي، إذًا لا قضاء وإنما يكون تاركا للفضيلة، انتهى.
وقوة كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك، وهو ظاهر الحديث، وكلام أحمد - في [غير] رواية - إنما يدل على أن اليوم الثاني [والثالث] يرمي فيه، ولا دم عليه، وليس فيه - فيما رأيت - تصريح بجواز التأخير.
(تنبيه) : وحيث أخر فرمى في اليوم الثاني أو الثالث فإنه لا بد من ترتيب ذلك بالنية، والله أعلم.
[باب الفدية وجزية الصيد]
قال: ومن حلق أربع شعرات فصاعدا، عامدا أو مخطئا، فعليه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين، أو ذبح شاة، أي ذلك فعل أجزأه.(3/325)
ش: لا نزاع في وجوب الفدية بحلق الرأس في الجملة، وقد شهد لذلك [نص] الكتاب، قال سبحانه: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، أي: فحلق فعليه فدية، أو فالواجب فدية.
1783 - ونص السنة، وهو ما روي عن كعب بن عجرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به زمن الحديبية، فقال: «قد آذاك هوام رأسك؟» . قال: نعم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احلق، ثم اذبح شاة نسكا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر، على ستة مساكين» . رواه الشيخان وغيرهما، وفي أبي داود قال: «أصابني هوام في رأسي، وأنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية، حتى تخوفت على بصري، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الآية. فدعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لي: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب، أو انسك شاة» . فحلقت رأسي ثم نسكت» .
واختلفت الرواية عن أحمد في القدر الذي يتعلق به الفدية، (فعنه) - وهو اختيار القاضي وأصحابه وغيرهم - تجب في ثلاث فصاعدا، إذ بذلك يسمى حالقا، فيدخل تحت قوله(3/326)
تعالى: {فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] ، إذ التقدير: فحلق، (وعنه) - وهو الأشهر عنه، واختيار الخرقي - لا يجب إلا في أربع فصاعدا، إذ الثلاثة آخر حد القلة، وما زاد عليه كثير، فيتعلق الحكم به دون القليل، (وعنه) - وهو أضعفها، واختيار أبي بكر - لا يتعلق إلا بخمس فصاعدا، (وزوال الشعر) بنورة أو غيره كحلقه، إناطة بالترفه، وإنما ذكر الخرقي الحلق إناطة بالغالب.
وقد دخل في كلام الخرقي شعر الرأس والبدن، ولا إشكال في تعلق الفدية عندنا بشعر البدن، لحصول الترفه به، ثم هل هو مع شعر الرأس كالشيء الواحد، فلو حلق منه شعرتين، ومن شعر الرأس شعرتين وجبت الفدية، ولو حلق منه أربع شعرات، ومن شعر الرأس أربع شعرات لم يجب إلا فدية واحدة، لأن الشعر كله جنس واحد، أو لكل واحد منهما حكم منفرد، لحصول التحلل بأحدهما دون الآخر، فلا تكمل الفدية في الصورة الأولى، وتجب في الصورة الثانية فديتان؟ فيه روايتان منصوصتان، الأولى اختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، والثانية اختيار القاضي في التعليق وفي غيره، وابن عقيل.
ولا فرق في زوال الشعر بين من له عذر وهو الذي ورد فيه(3/327)
النص، ومن لا عذر له، ولا بين العامد والناسي ونحوه، على المنصوص، والمعمول به في المذهب، إذ غاية الناسي ونحوه أنه معذور، وقد وجبت [الكفارة بالنص على المعذور، والفقه] في ذلك أنه إتلاف لا يمكن تداركه، بخلاف اللباس ونحو.
ونص أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في الصيد أنه لا كفارة إلا في العمد، فخرج القاضي ومن بعده منه هنا قولا أنه لا يجب إلا في العمد، تعلقا بظاهر آية الصيد، وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، الحديث.
والفدية واحد من ثلاثة أشياء، الصوم، والصدقة، والنسك، كما نص الله عليها، وبينها من له البيان بأنها صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة، ويجزئ فيها ما يجزئ في الفطرة، وغالب الروايات وردت بالتمر، ولذلك اقتصر عليه الخرقي، وورد أيضا الزبيب، كما تقدم، وفي رواية في الصحيح: «نصف صاع طعام لكل(3/328)
مسكين» . وهو يشمل البر والشعير، ولا نزاع في وجوب نصف صاع من التمر، والزبيب، والشعير، وأما من البر فروايتان (إحداهما) كذلك، لظاهر: «نصف صاع طعام» . و (الثانية) وهي أشهرهما - يجزئ مد بر كما في كفارة اليمين وغيرها، ويخير بين الثلاثة مع العذر بلا ريب للنص.
1784 - وفي رواية أبي داود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين» .
ومع عدمه فيه روايتان (إحداهما) - وهي ظاهر كلام الخرقي، وإليها ميل أبي محمد - أنه كذلك، لأن الحكم يثبت فيه بطريق التنبيه، والفرع لا يخالف أصله.
(والثانية) يتعين الدم، وبها جزم ابن أبي موسى، والقاضي في جامعه وفي تعليقه، ونص عليها أحمد، ولفظه: لا ينبغي أن يكون مخيرا، لأن الله سبحانه خير الحالق لوجود الأذى، فإذا عدم الأذى عدم التخيير، ووجوب الدم مع عدم العذر للجناية على الإحرام، لا بالقياس على المعذور، والله أعلم.
قال: وفي كل شعرة من الثلاث مد من الطعام.(3/329)
ش: لما كان الثلاث عند الخرقي هي حد القلة، ووجوب الفدية منوط بما زاد عليها، جعل في كل واحدة من الثلاث مدا من طعام، وعلى المذهب تجب الفدية في الثلاث، فيجب في الشعرتين مدان، وعلى الرواية الضعيفة لا تجب الفدية إلا في خمس، فيجب المد في كل واحدة من الأربع
وبالجملة وجوب المد في الشعرة هو المشهور من الروايات، والمختار لعامة الأصحاب؛ الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، غيرهم، نظرا إلى أن هذا لا مقدر فيه، والمد أقل ما وجب في الشرع فدية، فوجب الرجوع إليه، ولا ينتقص منه، إذ لا ضابط لذلك، ولا يزاد عليه إذ الأصل براءة الذمة.
فإن قيل: فلا يجب شيء نظرا للأصل؟ قيل: ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد
(والثانية) يجب في كل شعرة قبضة من طعام، لأنه حصل نوع تكفير، والنص عن أحمد الذي فيه هذه الرواية أن في الشعرة والشعرتين قبضة.
(والثالثة) يجب في كل شعرة درهم، أو نصف درهم، خرجها القاضي ومن بعده من ليالي منى، ويلزم على ذلك أن يخرج أن لا شيء، وأن يجب كما حكي ذلك في ليالي منى. وفي بعض الشعرة ما في كلها على الأشهر، وقيل: يجب بالقسط، والله أعلم.(3/330)
قال: وكذلك الأظفار.
ش: الحكم في الأظفار كالحكم في الشعر سواء، في جميع ما تقدم، والجامع حصول الترفه بكل منهما، والله أعلم.
قال: وإن تطيب المحرم عامدا، غسل الطيب، وعليه دم.
ش: أما غسل الطيب فلا ريب فيه، إذ كل من فعل محظورا فإنه يجب عليه تركه، والرجوع إلى أمر ربه.
1785 - وقد ورد في غير هذا عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق، أو قال صفرة، وعليه جبة، فقال: يا رسول الله، كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله سبحانه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوحي، فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟» قال: «اغسل عنك أثر الخلوق - أو قال - أثر الصفرة - واخلع الجبة عنك، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» . متفق عليه.
وأما وجوب الدم فلا نزاع فيه، لأنه ترفه بما منع منه، فوجبت الفدية، كحلق الرأس، وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير، وهو كذلك، وقول الخرقي: عليه دم. فيه تجوز، إذ لا يتعين الدم. بل الواجب فدية كفدية حلق الرأس كما(3/331)
تقدم، وقوله: عامدا. يحترز به عن الناسي، وسيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: وكذلك إن لبس المخيط، أو الخف عامدا وهو يجد النعل، خلع وعليه دم.
ش: لا نزاع أيضا في وجوب الفدية بلبس المخيط، وتغطية الرأس، ولبس الخف، بالقياس على حلق الرأس.
(تنبيه) : إذا جمع الجميع، فلبس وغطى رأسه، ولبس الخف، لم تجب إلا فدية واحدة، لأن الجميع جنس واحد.
وقول الخرقي: وهو يجد النعل، احترازا مما إذا عدمه، فإنه يلبس الخف ولا شيء عليه، والله أعلم.
قال: وإن تطيب أو لبس ناسيا فلا فدية عليه.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي محمد، والقاضي في روايتيه، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، الحديث. ويلتزم العموم في المضمرات ولحديث يعلى بن أمية السابق، إذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر له فدية، ولو وجبت لذكرها، إذ هو سائل عن حالة، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز، ولا يلزم الحلق، والتقليم، وقتل الصيد، لتعذر تلافيها، بخلاف ما نحن فيه
(والثانية) - واختارها القاضي في تعليقه - تجب الفدية،(3/332)
لأنه معنى يحظره الإحرام، فاستوى عمده وسهوه، كالحلق [وقلم الظفر] ، واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أن الله أوجب الكفارة في قتل الخطأ، مع انتفاء القصد، فكذلك هنا، ومنع القاضي العموم في المضمرات، وجعل التقدير: رفع المأثم. وأجاب عن حديث يعلى بأن ذلك قبل تحريم الطيب، بدليل انتظاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للوحي، قال: ولا أثر للتفرقة بالتلافي وعدمه، لأن الفدية تجب لما مضى، وذلك مما لا يمكن تلافيه، انتهى.
وحكم الجاهل بالتحريم حكم الناسي، قاله غير واحد من الأصحاب، وكذلك المكره قاله أبو محمد، والله أعلم.
قال: ويخلع اللباس، ويغسل الطيب.
ش: لما تقدم من الحديث، والله أعلم.
قال: ويفزع إلى التلبية.
ش: أي يسرع إليها استذكارا للحج أنه نسيه، واستشعارا بإقامته [عليه] ، والله أعلم.
قال: ولو وقف بعرفة نهارا، ودفع قبل الإمام فعليه دم.
ش: أما وجوب الدم بما إذا وقف نهارا - أي: ولم يقف إلى الليل - فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف إلى الليل، وقال: «خذوا [عني] مناسككم» .
1786 - وقد قال ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم. والواجب على من وقف نهارا أن يجمع في وقوفه بين الليل والنهار، لا أن يستمر الوقوف إلى الليل، فلو دفع قبل الغروب [ثم عاد قبل الغروب] ، فوقف إليه فلا شيء عليه، ولو لم يواف عرفة إلا ليلا(3/333)
فلا شيء عليه.
وأما وجوب الدم فيما إذا دفع قبل الإمام فاقتداء بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم لم يدفعوا إلا بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه إحدى الروايتين.
(والثانية) - وهي اختيار جمهور الأصحاب - لا دم عليه، ولا يجب الوقوف حتى يدفع مع الإمام، بل يستحب، إذ لم يثبت أن ذلك نسك، حتى يدخل تحت قوله: «خذوا عني مناسككم» .
وفي بعض النسخ: ولو وقف بعرفة نهارا، ودفع قبل الإمام. فلا يستفاد منه إلا مسألة واحدة، وهي الدفع قبل الإمام، ويكون وجوب الدم مشروطا بمن وقف نهارا، وأظنها أشهر، ولا يحتاج معها إلى تقدير، ولكن الأولى عليها شرح أبو محمد، والله أعلم.
قال: ومن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل - من غير الرعاء وأهل سقاية الحاج - فعليه دم.
ش: المبيت بمزدلفة ليلتها واجب في الجملة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه باتوا بها، وقال: «خذوا عني مناسككم» . ويجب بتركه دم، نص عليه، لما تقدم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكبقية الواجبات، وقيل عنه: لا دم عليه. ولا عمل عليه.
والواجب أن لا يدفع قبل نصف الليل، ولو دفع بعده جاز، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم ضعفة أهله بعد نصف الليل.(3/334)
1787 - «وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنا ممن قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله» . أخرجه الجماعة.
1788 - وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. تعني عندها» ، رواه أبو داود وغيره.
1789 - وعن أم حبيبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث بها من جمع بليل، وفي رواية قالت أم حبيبة: كنا نفعله على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نغلس من جمع إلى منى» . رواه النسائي.
واستثنى الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرعاء، وأهل السقاية، فلم يجعل عليهم مبيتا، لأن بهم حاجة إلى حفظ مواشيهم، وسقي الحاج، فلذلك رخص لهم، بخلاف غيرهم، ولم أر من صرح باستثنائهما إلا أبا محمد، حيث شرح كلام الخرقي، والله أعلم.
قال: ومن قتل، وهو محرم، من صيد البر عامدا أو(3/335)
مخطئا، فداه بنظيره من النعم، إن كان المقتول دابة.
ش: وجوب الجزاء بقتل صيد البر على المحرم إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، الآية.
ويستثنى من ذلك ثلاثة أشياء (أحدها) إذا صال الصيد عليه، ولم يقدر على دفعه إلا بقتله، فإنه يباح له قتله ولا جزاء عليه، لأنه قد التحق بالمؤذيات طبعا، مع أنه المتعدي على نفسه، وعن أبي بكر فيه الجزاء، نظرا إلى أن قتله لحاجة [نفسه] أشبه قتله لحاجة الأكل.
(الثاني) إذا خلص الصيد من سبع، أو شبكة، ونحو ذلك، فأفضى ذلك إلى قتله، فلا ضمان فيه، نظرا إلى أنه فعل مباح مطلوب، أشبه مداواة الولي [لموليه] ونحوه، وقيل: عليه الضمان، إذ غايته أنه لم يقصد قتله، [فهو] كالخاطئ.
(الثالث) إذا قتله في مخمصة، فعن أبي بكر: لا ضمان عليه، إناطة بإباحة قتله، والمذهب المجزوم به عند الشيخين وغيرهما وجوب الضمان، لعموم الآية، ولأن إتلافه لمحض نفع نفسه،(3/336)
من غير تعد من الصيد، أشبه حلق الشعر لأذى برأسه. انتهى.
والصيد [الذي يتعلق به الجزاء ما كان وحشيا، مأكولا، ليس بمائي، فيخرج بالوصف الأول ما ليس بوحش كبهيمة الأنعام ونحوها، والاعتبار] في ذلك بالأصل لا بالحال، فلو استأنس الوحش وجب الجزاء، ولو توحش الأهلي فلا جزاء، ويستثنى من ذلك ما تولد بين وحشي وغيره، تغليبا للتحريم، واختلف في الدجاج السندي، والبط، هل فيهما جزاء، على روايتين، والصحيح في البط [وجوب] الجزاء، نظرا لأصله، وهو التوحش.
ويخرج بالوصف الثاني ما ليس بمأكول، كسباع البهائم، وجوارح الطير [ونحو ذلك] ، قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما جعلت الكفارة في [الصيد] المحلل أكله. واختلف في الثعلب، وسنور البر، والهدهد، والصرد، هل فيها جزاء؟ كما اختلف في إباحتها، وكذلك كل ما اختلف في إباحته، مختلف في جزائه، هذا الصحيح من الطريقتين عند أبي محمد، والقاضي وغيرهما، وقيل: لا يلزم ذلك، بل يجب الجزاء في الثعلب ونحوه وإن حرمنا أكله، تغليبا للتحريم، كما(3/337)
وجب الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره، ومما يستثنى من القاعدة القمل، على رواية قد تقدمت، واستثنى بعض الأصحاب أم حبين، وهي دابة منتفخة البطن، تستخبث عند الأصحاب.
1790 - فأوجب فيها جديا تبعا لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه روي عنه أنه قضى فيها بذلك، والصحيح عدم استثنائها، جريا على القاعدة.
ويخرج بالوصف الثالث ما كان مائيا لقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الآية، والمائي: هو ما يعيش في الماء، ويبيض فيه، ويفرخ فيه، وإن كان يعيش في البر، كالضفدع والسلحفاة، [ونحوهما] ، وعن ابن أبي موسى أنه أوجب الجزاء في الضفدع، وعلى قياسه كل ما يعيش في البر، تغليبا للتحريم.(3/338)
ويخرج مما تقدم طير الماء، لكونه مما يفرخ، ويبيض في البر، وإنما يدخل في الماء ليتعيش فيه، ويتكسب منه.
- واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجراد، فقيل: هو من صيد البر، لأنه يطير فيه، فهو كغيره من الطيور، ولذلك يهلكه الماء.
1791 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما يدل عليه أو أنه من صيد البحر.
1792 - ويحكى ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(3/339)
1793 - وعن عروة: هو من نثرة حوت.
1794 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجراد من صيد البحر» . وفي حديث [آخر] : «إنما هو من صيد البحر» . لكن قال أبو داود: كلا الحديثين وهم. وقال أبو بكر المعافري: ليس في الباب حديث صحيح، على روايتين. انتهى.
ولا فرق في وجوب الجزاء بقتل الصيد بين العمد والخطأ، على المنصوص المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لأنه ضمان إتلاف، فاستوى عمده وخطؤه، كغيره من المتلفات.
1795 - وأيضا «قول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضبع يصيبه المحرم كبشا.» وفي رواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في(3/340)
الضبع إذا أصابه المحرم كبش» . فعلق الوجوب على إصابة المحرم، وكذلك حكم الصحابة - على ما سيأتي - يدل على ذلك.
(والثانية) يختص الضمان بالعمد، لظاهر قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، ودليل خطابه أن غير المعتمد لا جزاء عليه، وأجيب بأن الآية نزلت في المتعمد، بدليل: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ، وما نزل على سبب لا مفهوم له اتفافا، انتهى.(3/341)
والجزاء هو فداء الصيد بنظيره من النعم إن كان المقتول دابة، لقوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، وهذا على قراءة من نون (جزاء) ورفع (مثل) واضح، إذ التقدير: فعليه جزاء مثل الذي قتل من النعم، أي: صفته مثل ما قتل، ف (مثل) هي نعت للجزاء. وأما على قراءة من لم ينون (جزاء) وخفض (مثل) بإضافته إليه، فقد يقال: ظاهره وجوب القيمة، إذ ينجلي إلى: فجزاء من مثل المقتول من النعم، أي: من مثل جنس المقتول من النعم، والواجب [في المقتول من النعم القيمة، فكذلك في الصيد. وهذا أولا ممنوع، لأن الحيوان قد يجب فيه مثله، بدليل وجوب المثل في الضبع ونحوه، وقد ثبت ذلك بالسنة، ثم لو سلم ثم لا نسلمه هنا، إذ ثمة الحق لآدمي، والواجب] المثلية في جميع الصفات، أو في المقصود منها، ويتعذر غالبا وجود ذلك، فلذلك عدل إلى القيمة، وهنا الحق للرب سبحانه وتعالى، والواجب المثل تقريبا، وقد وكله سبحانه إلى اجتهاد ذوي عدل منا، وتعين هذا القراءة الأخرى، إذ الأصل توافق القراءتين.
ثم إن المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك أصحابه نجوم الهدى، الذين خوطبوا بالحكم إنما حكموا بالمثل لا بالقيمة.(3/342)
1795 - م - «فعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضبع يصيبه المحرم كبشا، وجعله من الصيد.» رواه أبو داود وابن ماجه.
1796 - وعنه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة» . قال: والجفرة، التي قد ارتعت. رواه الدارقطني.
1797 - وعن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان، فماذا ترى؟ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لرجل إلى جنبه: تعال حتى نحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلا فحكم معه. فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقال: لا. فقال: هل تعرف هذا الرجل الذي حكم(3/343)
معي؟ فقال: لا. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا، ثم قال: إن الله عز وجل يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وهذا عبد الرحمن بن عوف. رواه مالك في الموطأ.
1798 - وعن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ومعاوية، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: في النعامة بدنة.
1799 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حكم في حمار الوحش ببقرة.
1800 - وعن ابن عباس، وأبي عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما حكما فيه ببدنة، لا يقال: الحكم بذلك لأنه وافق القيمة، لأنا(3/344)
نقول: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حكم حكما عاما، وكذلك الصحابة، وعمر وعبد الرحمن، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لم يحضرا الظبي، ولا سألا عن صفته، ووجوب القيمة متوقف على ذلك، أما وجوب النظير في الصورة تقريبا فلا يتوقف على ذلك. انتهى.
والمرجع في النظير إلى ما حكم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أصحابه، فإن لم يكن فقول عدلين من أهل الخبرة وإن كانا قتلا، وبيان تفاصيل ذلك له موضع آخر.
وقول الخرقي: إن كان المقتول دابة. يحترز عما إذا كان طائرا كما سيأتي، فأطلق الدابة على ما في البر من الحيوان، وهو عزيز إذ الدابة في الأصل لكل ما دب، ثم في العرف للخيل والبغال والحمير، وكأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى قوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] الآية، والله أعلم.
قال: وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه، إلا أن(3/345)
تكون نعامة، فيكون فيها بدنة، أو حمامة وما أشبهها، فيكون في كل واحد منها شاة.
ش: هذا قسيم: إن كان المقتول دابة. وملخصه أن الطيور على أربعة أقسام (أحدها) النعامة، وسماها طيرا لأن لها جناحين، وفيها بدنة بلا ريب، لقضاء الصحابة بذلك، ولشبهها لها في الصورة (الثاني) الحمام، فيجب فيه شاة.
1801 - لأن عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حكموا بذلك، ويلحق به ما أشبهه مما يعب الماء، أي:(3/346)
يكرعه كرعا ككرع الشاة، ولا يأخذه قطرة قطرة كالعصفور ونحوه، فيجب فيه شاة، لشبهه لها في كرع الماء.
(الثالث) ما كان أصغر [من الحمام] ولم يشبهها، فتجب قيمته، لتعذر مثله من النعم.
(الرابع) ما كان أكبر من الحمام كالحبارى، والكركي ونحوهما، ففيه وجهان (أحدهما) - وهو اختيار ابن أبي موسى - يجب شاة، إذ وجوبها في الحمام تنبيه على وجوبها هنا.
1802 - مع أن ذلك يروى عن ابن عباس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (والثاني) - وهو ظاهر كلام أبي البركات - تجب القيمة، إذ المعروف عن الصحابة القضاء في الحمام، وإذا لم يتحقق لهذا مثل، فيرجع إلى قيمته كالعصافير.
وقول الخرقي: فداه بقيمته في موضعه، أي: بقيمة الطائر في الموضع الذي أتلفه فيه، كغيره من المتلفات، والله أعلم.
قال: وهو مخير إن شاء فداه بالنظير، أو قوم النظير بدراهم، ونظر كم يجيء به طعاما، فأطعم كل مسكين مدا، أو صام عن كل مد يوما، موسرا كان أو معسرا.
ش: يخير قاتل الصيد الذي له نظير بين التكفير بواحد من هذه الثلاثة المذكورة، موسرا كان أو معسرا، على المختار للأصحاب، والمنصوص من الروايتين، للآية الكريمة: إذ(3/347)
أصل (أو) التخيير. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو على ما في القرآن، وكل شيء في القرآن (أو) فإنما هو على التخيير.
1803 - وهذا اللفظ يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضا، ولأنها فدية وجبت بفعل محظور، فخير فيها كفدية الأذى.
(والثانية) لا يخير، بل الجزاء مرتب، فيجب المثل، فإن لم يقدر عليه أطعم، فإن لم يجد صام، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه حكموا بالنظير، وظاهر حكمهم تعينه، وإلا لذكروا قسيميه، وبالقياس على دم المتعة، (وجوابه) بأن حكمهم بالنظير لتبيينه لا لتعيينه، والقياس فاسد، لمخالفته النص. انتهى.
والتخيير أو الترتيب بين الثلاثة على المذهب بلا ريب، (وعنه) أن ذلك بين شيئين، وأنه لا مدخل للإطعام في جزاء الصيد، وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام.
1804 - ويحكى هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا عمل عليه. إذا تقرر هذا فمن أراد إخراج النظير لزمه ذبحه، لأن الله سماه هديا، والهدي يجب ذبحه، والتصدق به على مساكين(3/348)
الحرم، لأن الله سبحانه قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، ولا يختص ذبحه بأيام النحر، بل بالحرم، ومن أراد التقويم فإنه على المشهور والصحيح من الروايتين يقوم المثل.
(والرواية الثانية) يقوم الصيد، وأيما قوم فإنه يشتري بالقيمة طعاما، ويطعمه المساكين، على المذهب أيضا من الروايتين، والرواية الأخرى يجوز أن يتصدق بالقيمة، حكاها ابن أبي موسى، وإذا أطعم أطعم كل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، على المنصوص والمشهور كبقية الكفارات.
وظاهر كلام الخرقي الاجتزاء بمد مطلقا، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع، ولا يجزئ من الطعام إلا ما يجزئ في الفطرة، قاله أبو محمد هنا، وفي فدية الأذى، لكنه فسر ذلك بالبر، والشعير، والتمر، والزبيب، وقد يوهم كلام أبي البركات الاقتصار على البر والشعير والتمر، ولأبي محمد هنا احتمال أنه يجزئ ما يسمى طعاما، نظرا لإطلاق الآية.
(تنبيه) : يعتبر قيمة المثل في الحرم، لأنه محل ذبحه، ومن أراد الصيام فالذي قال الخرقي وتبعه أبو محمد في كتابه الصغير: أنه يصوم عن كل مد يوما، وحكى ذلك في(3/349)
المغني رواية وحكى رواية أخرى أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما، ثم حكى هو وصاحب التلخيص عن القاضي أنه حمل رواية المد على الحنطة، ورواية نصف الصاع على التمر والشعير، إذ الصيام مقابل بإطعام لمسكين في كفارة الظهار وغيرها، فكذلك هنا، والذي رأيته في روايتي القاضي أن حنبلا وابن منصور نقلا عنه أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما، وأن الأثرم نقل في فدية الأذى عن كل مد يوما وعن كل نصف صاع تمر أو شعير يوما، [قال: وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، قال: ويمكن أن يحمل قوله: عن كل نصف صاع يوما. على أن نصف الصاع من التمر والشعير لا من البر] ، انتهى.
وعلى هذا فإحدى الروايتين مطلقة، والأخرى مقيدة، لا أن الروايتين مطلقتان، وإذا يسهل الحمل، وكذلك قطع به أبو البركات وغيره، إلا أن عزو ذلك إلى الخرقي فيه نظر. وما لا نظير له من الصيد يخير قاتله على المذهب بين أن يشتري بقيمته طعاما فيطعمه المساكين، وبين أن يصوم، والله أعلم.
قال: وكلما قتل صيدا حكم عليه.
ش: يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني والثالث، كما يجب بالأول، ولا يتداخل، على المختار، والمشهور من الروايات(3/350)
لأنه بدل متلف، يجب فيه المثل أو القيمة، فلم يتداخل، كبدل مال الآدمي، قال أحمد: روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ فيمن قتل، ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أو لا.
(والثانية) : إن كفر عن الأول فللثاني كفارة، وإلا يتداخلا، لأنها كفارة تجب لفعل محظور في الإحرام، فتداخل جزاؤها قبل التكفير، كاللبس، والطيب. (ويجاب) بأن هذا بدل متلف، فلم يتداخل، بخلاف ثم، فإنه لمحض [المخالفة فهو] كالحدود.
(والثالثة) لا يجب إلا جزاء الأول فقط، تمسكا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] . [ويجاب] بأن الانتقام لأجل المخالفة، وانتهاك محارم الرب سبحانه، وذلك لا يمنع وجوب البدل، ويرشح هذا أن قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] ، أي والله أعلم قاصدا للفعل، غير عالم بالتحريم، وهذا هو الخاطئ، ثم قوله بعد: {وَمَنْ عَادَ} [المائدة: 95] ، أي: إلى القتل، بعد أن علم النهي، فإن الله تعالى ينتقم منه لمخالفته، والجزاء على ما تقدم، والله أعلم.
قال: ولو اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد.(3/351)
ش: هذا المختار من الروايات، اختاره ابن أبي موسى وابن حامد، والقاضي، وأبو الخطاب، وأبو محمد وغيرهم، لظاهر قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، أي: فالواجب مثل [ما قتل] من النعم. أو: فعلى القاتل مثله. وهذا يشمل الواحد والجماعة، ويمنع من إيجاب زائد على ذلك، ولأنه بدل متلف، فلم يجب فيه إلا جزاء واحد، كبدل مال الآدمي.
(والثانية) على كل واحد جزاء، اختاره أبو بكر، نظرا لوجود المخالفة من كل واحد منهم، وزجرا له عن فعله.
(والثالثة) إن كفروا بالمال فكالأول، لأنه إذا تمحضت بدليته، وإن كفروا بالصيام فعل كل واحد كفارة، لأنها إذا تتمحض كفارة، وهي كفارة قتل، فأشبهت قتل الآدمي على المذهب.
(تنبيهان) : «أحدهما» . هذه المسألة فيما إذا [كان] كل منهم صالحا لترتب الجزاء عليه، كما لو كانوا محرمين، أما لو لم يكن كذلك - كما إذا كان أحدهم حلالا - فإنه لا شيء عليه، ثم إن سبق الحلال بالجرح فعلى المحرم جزاؤه مجروحا، وإن سبق المحرم ضمن أرش الجرح فقط، وإن وجدت الجراحات معا فهل على المحرم بقسطه(3/352)
كما لو كان المشارك له مثله، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، أو يكمل الجزاء عليه، لتعذر إيجاب الجزاء على شريكه؟ فيه وجهان، هذا تفصيل أبي محمد، وفيه بحث.
(والثاني) : قال القاضي وأبو الخطاب: إن المنصوص في الصوم أن على كل واحد كفارة، وأن ابن حامد قال بالاشتراك، كما لو كان التكفير بغيره، والله أعلم.
قال: ومن لم يقف بعرفة حتى يطلع الفجر من يوم النحر تحلل بعمرة.
ش: من فاته الوقوف بعرفة فهل يجب عليه أن يمضي في حج فاسد ويقضي، لأنه بالإحرام لزمه إتمامه، وتعذر الإتيان بالبعض لا يمنع الإتيان بما بقي، أو لا يجب عليه، بل(3/353)
يتحلل منه لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذلك.
1805 - فعن سليمان بن يسار أن أبا أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج حاجا، حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة أضل رواحله، وإنه قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم النحر، فذكر ذلك له، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد حللت، فإذا أدركك الحج قابلا فاحجج، واهد ما استيسر من الهدي.
1806 - وعنه أيضا قال: إن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة، كنا نرى أن هذا اليوم يوم عرفة. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اذهب إلى مكة وطف أنت ومن معك، وانحروا هديا إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا، وارجعوا، فإذا كان عاما(3/354)
قابلا فحجوا وأهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع. رواهما مالك في الموطأ.
1807 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحو ذلك.
1808 - وعن عطاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يدرك الحج فعليه الهدي، وحج من قابل، وليجعلها عمرة» . رواه ابن أبي شيبة(3/355)
وغيره، لكنه مرسل، قيل: وضعيف؟ على روايتين المذهب منهما بلا ريب الثاني، وعليه: المذهب أيضا المنصوص أنه يتحلل بعمرة، اختاره الخرقي، وأبو بكر، والقاضي وأصحابه، والشيخان، فيطوف ويسعى، ويحلق أو يقصر، ثم قد حل، وهذا ظاهر ما تقدم عن عمر وابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
1809 - ويروى أيضا عن ابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(3/356)
(وعن أحمد رواية أخرى) - حكاها أبو الحسين، وأبو الخطاب، وهو قول ابن حامد -: إحرامه بحاله، ويتحلل منه بطواف وسعي، إذ هذا مقتضى الإحرام المطلق، فعلى الأولى صرح أبو الخطاب، وصاحب التلخيص وغيرهما أن إحرامه ينقلب بمجرد الفوات إلى عمرة، ولفظ أبي محمد في المغني: يجعل إحرامه بعمرة، ولا فرق بين الفوات لعذر - من مرض، أو ضياع نفقة، أو غلط عدد ونحو ذلك - أو لغير عذر من توان، أو نوم، أو تتشاغل بما لا يغني، إلا في المأثم، قال ذلك صاحب التلخيص وغيره. وقد استفيد من كلام الخرقي أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر، ولا نزاع في ذلك، وحديث عروة بن مضرس - وقد تقدم - يدل على ذلك، وكذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك» . واختلف في أول الوقت، فالمذهب عندنا أنه من طلوع الفجر يوم عرفة، لحديث عروة بن مضرس: «وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه» ، الحديث، واختار أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص(3/357)
العكبريان بأن أوله زوال الشمس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حينئذ. قال: وذبح إن كان معه هدي.
ش: يعني إذا فاته الحج، وتحلل بعمرة، فإن كان معه هدي ساقه فإنه يذبحه، كما لو أحرم بعمرة ابتداء، وساق هديا، قال ابن أبي موسى وصاحب التلخيص: ولا يجزئه عن دم الفوات. وأطلقا، وقال أبو محمد في المغني: لا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء، والذي يظهر النظر في هذا الهدي، فإن كان واجبا فإنه ليس له صرف هذا الوجوب إلى وجوب آخر، وذبحه عن دم الفوات، وإن قلنا: لا قضاء عليه وإن كان تطوعا، فهذا باق على ملكه، فله أن يذبحه عن الفوات إن قيل بعدم القضاء، والله أعلم.
قال: وحج من قابل وأتى بدم.
ش: يعني يلزم من فاته الحج القضاء على الفور، والهدي، وهذا إحدى الروايات، وأصحها عند الأصحاب،(3/358)
لما تقدم من قضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن حديث عطاء.
(والثانية) نقلها الميموني: يلزمه القضاء، ولا يلزمه الهدي، وإلا لزم المحصر هديان؛ هدي للإحصار وهدي للفوات، ولا يلزمه إلا هدي واحد
(والثالثة) نقلها أبو طالب: يلزمه الهدي لما تقدم، ولا يلزمه القضاء حذارا من وجوب الحج على إنسان مرتين، والنص قد شهد بمرة، فعلى هذا يذبح الهدي في عامه، وعلى الأول يذبحه في حجة القضاء. ومحل الخلاف في القضاء فيما إذا كان الذي فاته تطوعا، أما إن كان واجبا بأصل الشرع أو بغيره، فإنه يفعله ولا بد بالوجوب السابق.
(تنبيه) : قال أبو محمد: إذا اختار من فاته الحج البقاء على إحرامه ليحج من قابل فله ذلك، لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه كالعمرة، قال: ويحتمل أنه ليس له ذلك، لظاهر قول الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن إحرام الحج يصير في غير أشهره. انتهى.
وهذا ظاهر في أن الإحرام لا ينقلب بمجرد الفوات بعمرة، وقد صرح أبو الخطاب بأن فائدة الخلاف أنه إذا قيل بالانقلاب له أن يدخل عليه الحج، وإذا قيل بعدم الانقلاب [كما يقوله ابن(3/359)
حامد] لا يدخل عليه الحج، والله أعلم.
قال: وإن كان عبدا لم يكن له أن يذبح.
ش: العبد لا يلزمه هدي، لأنه في حكم المعسر، إذ لا مال له، بل هو أسوأ حالا منه، لأنه لا يملك، ولو ملك على ما عليه الفتيا، ولهذا قال الخرقي: إنه ليس له الذبح مطلقا،(3/360)
بناء على قاعدته، من أنه لا يملك، والتكفير إنما يكون بما يملكه، إذ ذلك محنة، ولا محنة بما لا يملك، أما على الرواية الأخرى التي نقول فيها: إنه يملك، فمتى ملكه سيده مالا، وأذن له في التكفير فله ذلك، لوجود المقتضي وانتفاء المانع، هذا هو الجادة عند القاضي ومن بعده، وذهب كثير من متقدمي الأصحاب أن له التكفير بإذن سيده وإن لم نقل بملكه، بناء على أحد القولين من أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر عنه، أو أنه يثبت له ملك خاص [بقدر ما يكفر] كما نقوله في التسري، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وحيث جاز له التكفير بإذن السيد، فهل يلزمه ذلك؟ قال القاضي، وابن عقيل - وتبعه أبو محمد هنا - باللزوم، لأنه واجب، فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، لا تحت قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] .
وقال أبو محمد في الكفارات على كلتي الروايتين: لا يلزمه التكفير، وإن أذن له سيده، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك بما هو أبسط من هذا.
(تنبيه) : الحكم في كل دم لزم العبد في الإحرام حكم ما تقدم، والله أعلم.(3/361)
قال: وكان عليه أن يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما.
ش: إذا انتفى الهدي في حق العبد انتفى الإطعام أيضا، إذ المعنى فيهما واحد، وإذا يتعين في حقه الصوم، ويصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما، جريا على قاعدة الخرقي من أن اليوم يقابل المد، وقد تقدم أن المذهب أنه يقابل المد من البر، أما من غيره فنصف الصاع. وقال أبو محمد: الأولى أن يكون الواجب هنا من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة، اقتداء بقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم لهبار، والله أعلم.
قال: ثم يقصر ويحل.
ش: هذا تنبيه على أن العبد لا يحلق، لا هنا ولا في موضع آخر، لأن الشعر ملك للسيد، ويزيد في قيمته، ولم(3/362)
يتعين زواله، فلم يكن له ذلك كغير حال الإحرام، نعم إن أذن له سيده جاز، إذ الحق له، والله أعلم.
قال: وإذا أحرمت المرأة بواجب لم يكن لزوجها منعها.
ش: إذا أحرمت المرأة بحج أو عمرة فلا يخلو إما أن يكون بإذن زوجها أو بغير إذنه. فإن كان بإذنه لم يملك تحليلها بلا ريب، وإن كان ما أذن فيه تطوعا، لأنه قد أسقط حقه فيما يلزمها المضي فيه، وهذه الصورة ترد على عموم مفهوم [كلام] الخرقي، إذ مفهومه أن له منعها في التطوع مطلقا. وإن كان إحرامها بغير إذنه فلا يخلو إما إن يكون بواجب أو بتطوع. فإن كان بواجب فلا يخلو إما أن يكون وجوبه بأصل الشرع، أو بإيجابها على نفسها. فإن كان بأصل الشرع لم يملك منعها، على المذهب، كما لو صلت الفريضة في أول وقتها ونحو ذلك.
قال في التلخيص: وقيل في ذلك روايتان، [ولا فرق] بين أن تكمل شروط الحج في حقها أولا، كما إذا لم تجد الاستطاعة أو المحرم، على ظاهر إطلاق الأصحاب، وصرح به أبو محمد في شرط الاستطاعة وله فيه احتمال. أن له منعها.(3/363)
وإن كان بإيجابها على نفسها فروايتان، ذكرهما القاضي، وصاحب التلخيص، والمنصوص منهما أنه ليس له ذلك، قال في رواية ابن إبراهيم - في المرأة تحلف بالحج والصوم، ويريد زوجها منعها، فقال -: ليس له ذلك، قد ابتليت، وابتلي زوجها. قال القاضي: حلفت، أي: نذرت.
(الثانية) خرجها القاضي من إحدى الروايتين في أن للسيد تحليل عبده، والفرق أن النذر من جهتها، أشبه التطوع.
والمذهب الأول، وبه قطع الشيخان، إذ بعد الإيجاب تحتم عليها الفعل، فهو كالواجب الأصلي. ولهذا المعنى قال القاضي: لا يمتنع أن نقول: إذا نذرت أن تحج متى شاءت: أن له تحليلها. انتهى.
وإن كان الإحرام بتطوع فروايتان: (إحداهما) -: وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن حامد وأبي محمد - له منعها، حذارا من أن تتسبب في إسقاط واجب عليها، وهو حق الزوج، [بما ليس بواجب] ، لا يقال: بعد الإحرام قد صار واجبا، فلا فرق، لأنا نقول: وجوب حق الزوج مقدم، فاقتضى تقديمه.
(والثانية) - وهي أصرحهما - ليس له منعها، اختارها أبو بكر في الخلاف، والقاضي، وقال: تأملت كلام أحمد فوجدت أكثره يدل على ذلك، لأنها عبادة تلزم بالدخول فيها، فإذا عقدها بغير إذن(3/364)
سيده لم يملك فسخها أصله الإيمان ولعموم {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، انتهى.
ولا نزاع عندهم فيما علمت أن إحرامها ينعقد بدون إذنه، لأن الحج عبادة محضة أشبه الصلاة والصوم.
(تنبيهان) : «أحدهما» : معنى منعها أنه يأمرها بالتحلل، فتصير كالمحصر على ما تقدم، فإن أبت أن تتحلل فله مباشرتها والإثم عليها، قاله صاحب التلخيص.
(الثاني) : إذا لم تحرم فله منعها من حج التطوع بلا نزاع، وكذلك من حج الفرض إذا لم تكمل الشروط، قاله أبو محمد [ومع استكمالها ليس له منعها من الواجب بأصل الشرع. وفي المنذور روايتان] وهذا أيضا وارد على عموم مفهوم كلام الخرقي، إذ مفهومه أنها إذا لم تحرم فله منعها مطلقا، والله أعلم.
[سوق الهدي]
قال: ومن ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء.
ش: سوق الهدي يقع على ضربين: واجب وتطوع،(3/365)
وسيأتي إن شاء الله تعالى، والواجب على ضربين أيضا: (أحدهما) : واجب عينه عما في ذمته، من هدي متعة، أو قران، أو نذر، أو غير ذلك، وهذا مراد الخرقي، فهذا إذا عطب دون ملحه الذي هو الحرم فهل له استرجاعه، فيصنع به ما شاء، من أكل وبيع ونحو ذلك، أم لا؟ فيه روايتان: (إحداهما) - وهو اختيار الخرقي، وابن أبي موسى -: له ذلك، لأنه إنما أوجبه عما في ذمته، ولم يقع عنه، فيكون له العود فيه، كمن أخرج زكاة ماله الغائب، فبان أنه كان تالفا.
1810 - وقد روى سعيد: حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا أهديت هديا تطوعا فعطب فانحره، ثم اغمس النعل في دمه، ثم اضرب بها صفحته، فإن أكلت أو أمرت به غرمت، وإذا أهديت هديا واجبا فعطب فانحره، ثم كله إن شئت، وأهده إن شئت، وبعه إن شئت، وتقو به في هدي آخر.
(والثانية) : -(3/366)
ليس له ذلك، لأن حق الفقراء قد تعلق به، أشبه ما لو عينه ابتداء بنذره.
(الثاني) : من ضربي الواجب عينه ابتداء لا عما في ذمته، كأن قال: هذا لله. ونحو ذلك، فهذا إذا عطب لا يرجع فيه بلا ريب، لأنه قد صار لله تعالى، أشبه الدراهم ونحوها.
1811 - ولدخوله تحت قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تعد في صدقتك» ، الحديث، ويصنع به ما يصنع بهدي التطوع على ما سيأتي.
(تنبيه) : تعيين الهدي لا يحصل إلا بالقول، بأن يقول: هذا هدي، أو نحو ذلك، من ألفاظ النذر، على المذهب المعروف المشهور، ولأبي الخطاب احتمال بالاكتفاء بالنية، وتوسط أبو محمد فضم مع النية التقليد أو الإشعار، وحكاه مذهبا، ولا يتابع على ذلك، وقد يشهد لقوله صحة الوقف بالفعل، كما إذا بني بيته مسجدا، أو جعل أرضه مقبرة ونحو ذلك، لكن ثم لا بد من قوله وهو أن يأذن للناس في الصلاة في المسجد، أو الدفن في المقبرة، والله أعلم.(3/367)
قال: وعليه مكانه.
ش: إذا عين واجبا عما في ذمته، فعطب دون محله، فإن عليه مكانه، إذ ما في ذمته لا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه، أشبه ما إذا أخرج الدراهم ليدفعها عن دينه، فتلفت قبل الأداء.
1812 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أهدى تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء، وإن كانت نذرا فعليه البدل» . وفي رواية: «ثم عطبت» ، رواه الدارقطني لكنه ضعيف، وقد رواه مالك في الموطأ من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نفسه. وقد يقال: مفهوم كلام الخرقي أن ما عطب في محله لا(3/368)
يرجع فيه، أو ليس عليه بدله، وليس كذلك، فلا فرق بين أن يعطب في محله أو دونه، في أنه إن كان عن واجب في الذمة فلا بد من نحره صحيحا، وإن كان معينا ابتداء نحره مطلقا، والله أعلم.
قال: وإن كان ساقه تطوعا فعطب دون محله] نحره موضعه، وخلى بينه وبين المساكين، ولم يأكل منه، ولا أحد من أهل رفقته.
ش: إذا ساق هديا يقصد به التقرب إلى الله سبحانه، لا عن واجب في ذمته، أو عن واجب لم يعينه عنه كما تقدم، فإنه إذا عطب دون محله فإنه ينحره في موضعه، ويخلي بينه وبين [المساكين] ولا يأكل منه، ولا أحد من رفقته.
1813 - لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث معه بالبدن، ثم يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليها موتا، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب بها صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» . رواه مسلم وغيره.(3/369)
1814 - وبهذا يتقيد حديث ناجية الخزاعي قال قلت: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي، قال: «انحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم خل بينها وبين الناس فيأكلونها» . رواه الترمذي وأبو داود.
والمعنى - والله أعلم - في منع رفقته ونفسه من الأكل ليبالغ في حفظها، لأنه إذا علم أنها إذا عطبت لا يحصل له منها نفع البتة بالغ في حفظها. وحكم الواجب المعين حكم التطوع، إلا أن بينهما فرقا، وهو أن الواجب المعين لا بد من نحره مع عطبه، فلا طريق له في رجوعه إلى ملكه، وفي التطوع وما نواه عن الواجب ولم يعينه، له أن يفسخ نيته فيه، فيرجع إلى ملكه، يصنع به ما يشاء، والله أعلم.
قال: ولا بدل عليه.(3/370)
ش: إذا لم يلتزم شيئا في ذمته لم يلزمه بدله، والله أعلم.
قال: ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع.
ش: [وكذلك القران] وكأن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - استغنى بذكر التمتع عن القران لأنه نوع تمتع، لترفهه بأحد السفرين، وبالجملة لا نزاع في المذهب فيما علمت أنه لا يأكل من جزاء الصيد، لتمحض بدليته، ولا من المنذور لتعيينه لله، نعم أجاز أبو بكر - ومال إليه أبو محمد - الأكل من أضحية النذر، ولا نزاع أنه يأكل من هدي المتعة، وكذلك القران على المذهب، وقد تقدم «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت قارنة، وبقية نسائه كن متمتعات.
» 1815 - لأن «في حديث عائشة الطويل قالت: فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفضت، قالت: فأتينا بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نسائه بالبقر» .(3/371)
1816 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن» . رواه أبو داود. وقد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يأكل [منه، وهل يأكل] مما عدا ذلك، نظرا للإباحة الأصلية، ولا نص مانع، أو لا يأكل، وهو الأشهر، لأنه وجب بفعل محظور، أشبه جزاء الصيد؟ فيه روايتان، وألحق ابن أبي موسى الكفارة بجزاء الصيد والنذر، وجوز الأكل مما عدا ذلك، ويتركب من مجموع الأقوال - ما عدا جزاء الصيد والنذر، وهدي المتعة - أربعة أقوال: الجواز، وعدمه، والجواز إلا في دم الكفارة، وعدمه إلا في دم القران.
(تنبيه) : مفهوم كلام الخرقي أنه يأكل من التطوع، وهو كذلك، بل يستحب، قال سبحانه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، «وفي حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم: ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت،(3/372)
فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.» وهدي التطوع ما ساقه تطوعا، وكذلك ما أوجبه ابتداء، قاله أبو محمد. قال: وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم، إن قدر على إيصاله إليهم، إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه.
ش: جميع الهدايا - ما عدى جزاء الصيد، ودم الإحصار، وما وجب بفعل محظور - محلها الحرم، لقوله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، وكذلك جزاء الصيد، على المذهب بلا ريب، لقوله سبحانه: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
(وعنه) يفدي حيث القتل كبقية المحظورات، وعلى المذهب إن اضطر إليه فهل يأتي بالجزاء موضع اضطراره أو يختص بالحرم؟ فيه وجهان. وأما دم الإحصار ففيه روايتان أيضا وقد تقدمتا، والمذهب منهما عكس المذهب في الصيد. وأما ما وجب بفعل محظور - كفدية حلق الرأس، واللبس، ونحوهما - فعنه يختص بالحرم، لظاهر: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، وعنه: ينحر حيث فعل.(3/373)
1817 - لما تقدم من «حديث كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بالفدية وهو بالحديبية، ولم يأمره ببعثها إلى الحرم. وفي رواية أنه قال: فحلقت رأسي ثم نسكت» . وقال القاضي، وابن عقيل، وأبو البركات: ما فعله لعذر ينحر هديه [حيث استباح] ، وما فعله لغير عذر اختص بالحرم. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما نص على الحلق مع العذر فقط، فيحتمل أن يختص الجواز به، دون غيره من المحظورات، لأن النص ورد به، فيخرج من عموم (ثم محلها) ، ويبقى فيما عداه على قضية العموم، والقاضي ومن وافقه يقيسون على الصورة ما في معناها، وهو أوجه، إذ المذهب تخصيص العموم بالقياس، [والطعام تبع للنحر ففي أي موضع قبل النحر فالطعام كذلك] .
(تنبيهات) :
«أحدها» : إنما يجب النحر في الحرم إذا قدر على إيصال الهدي إليه، إما بنفسه، أو بمن يرسله معه، فإن عجز مطلقا نحر حيث كان، كما دل عليه كلام الخرقي، لأنه فعل ما استطاع، فلا يكلف زيادة عليه، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وخرج ابن عقيل رواية - وصححها - فيمن حصر عن الخروج لذبح الهدي المنذور، أنه يذبحه في(3/374)
موضع حصره، ولا يلزمه تنفيذه، كدم الإحصار على المذهب. «الثاني» : حيث قيل: النحر في الحرم، فإنه لا يجوز في الحل، لكنه لا يختص بمحل من الحرم، بل في أي موضع نحر من الحرم أجزأه، وحيث قيل: النحر في الحل فذلك على سبيل الجواز، على مقتضى كلام الشيخين، وظاهر كلام الخرقي، وصاحب التلخيص وطائفة الوجوب، ويحتمله كلام أحمد: وما كان من فدية حلق الرأس فحيث حلقه.
«الثالث» : مساكين الحرم من كان فيه، من أهله أو وارد إليه، من الحاج وغيرهم، وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، والله أعلم.
قال: وأما الصيام فيجزئه بكل مكان.
ش: لا نزاع في ذلك.
1818 - وعن ابن عباس: الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء. والمعنى فيه - والله أعلم - أن نفعه لا يتعدى إلى أحد، فلم يتخصص بمكان، بخلاف الهدي والإطعام، والله أعلم.(3/375)
قال: ومن وجبت عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه.
ش: تجزئ السبع من الغنم عند عدم البدنة بلا نزاع.
1819 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل فقال: إن علي بدنة وأنا موسر لها، ولا أجدها فأشتريها؟ فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن.» رواه أحمد وابن ماجه.
وأما مع وجودها فقولان: «أحدهما» : واختاره ابن عقيل، وزعم أنه ظاهر كلام أحمد: لا يجزئه لأنها بدل، والبدل لا يجزئ مع وجود المبدل، ولذلك جوزها الشارع عند العدم.
«والثاني» - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد -: يجزئه، لأن الشاة معدولة بسبع بدنة.
1820 - بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر السبعة بالاشتراك في البدنة فالسبع(3/376)
شياه يعدلن البدنة شياه يعدلن البدنة، وما أجزأ فيه أحد المثلين أجزأ فيه المثل الآخر، والسؤال وقع عن حال العدم، فأجاب بالجواز، ولا مفهوم له اتفاقا، ولا نسلم أن أحدهما بدل عن الآخر. وعكس هذا من وجب عليه سبع من الغنم تجزئه البدنة إن كان في غير جزاء الصيد، لما تقدم من أنهما مثلان، أما في جزاء الصيد فلا، لأن معتمده التقويم، والله أعلم.
قال: وما لزم من الدماء فلا يجزئ فيه إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره، والله أعلم.
ش: لأنه دم مشروع إراقته، فلا يجزئ فيه إلا ما يجزئ في الأضحية، والجامع مشروعية الإراقة، ودليل الأصل يأتي إن شاء الله تعالى، وبيان الجذع من الضأن، والثني من المعز قد تقدم في الزكاة، والثني من البقر: ما كمل سنتين، ومن الإبل: ما كمل خمسا، والله أعلم.(3/377)
[كتاب البيوع]
ش: البيوع جمع بيع، مصدر: باع يبيع. بمعنى: ملك، وبمعنى: اشترى، وكذلك شرى، يكون بالمعنيين، وعن أبي عبيدة وغيره: أباع بمعنى باع، وهو (في اللغة) قيل: أن يدفع عوضا ويأخذ معوضا منه. وقال أبو عبد الله السامري: إنه الإيجاب والقبول إذا تناول عينين، أو عينا بثمن.
(وفي الشرع) قال القاضي وابن الزاغوني وغيرهما: إنه عبارة عن الإيجاب والقبول، إذا تضمن عينين للتمليك، وأبدل السامري: عينين. بمالين، ليحترز عما ليس بمال، فلا يطرد لدخول الربا، وقد يدخل القرض على الثاني، فلا ينعكس، لخروج بيع المعاطاة، على رواية مختارة، وخروج المنافع كممر الدار ونحوه، والبيع في الذمة. وقال أبو محمد:(3/378)
مبادلة المال بالمال لغرض التمليك، فدخلت المعاطاة، وقد يدخل القرض، إلا أنه وإن قصد فيه التملك لكن المقصود الأعظم فيه الإرفاق، لكنه يدخل عليه الربا. وحده بعض المتأخرين بأنه: تمليك عين مالية، أو منفعة مباحة، على التأبيد، بعوض مالي على التأبيد، ويدخل عليه أيضا القرض والربا، وبالجملة الحدود قل ما يسلم منها، انتهى.
واشتقاقه قال أبو محمد وكثير من الفقهاء: إنه مشتق من الباع، لأن كل واحد منهما يمد باعه للأخذ. ورد (من جهة الصناعة) بأنه مصدر، والمصدر على رأي البصريين منبع(3/379)
الاشتقاق، فهو مشتق منه، لا أنه مشتق، فإن أجيب بالتزام مذهب الكوفيين بأن الأصل والاشتقاق للفعل رد بأنه الفعل الذي منه المصدر، لا فعل مقدر آخر، لأن الباع عينه واو، إذ هو من: بوع. والبيع عينه ياء، من: بيع. وشرط الاشتقاق موافقة الأصل والفرع في الحروف الأصول، وقد يجاب عن هذا وعن كثير من اشتقاقات الفقهاء بأن هذا من الاشتقاق الأكبر، الذي يلحظ فيه المعنى، دون الموافقة في الحروف، ولا ريب أن بين البيع والباع مناسبة ما كما تقدم، على أن بعض البيانيين لم يشترط الموافقة على المعنى [أيضا] فقال في قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] : إنه من الاشتقاق الكبير، المشبه للاشتقاق الصغير، مع أن قال(3/380)
من القول، (والقالين) من القلي، وهو البغض، فالحروف لم تتفق، والمعنى لم يتحد. (ومن جهة المعنى) بالبيع في الذمة ونحوه، لانتفاء مد الباع فيه.
وقيل: إنه مشتق من البيعة، وفيه نظر، إذ المصدر لا يشتق من المصدر، ثم معنى البيع غير معنى المبايعة. انتهى.
وهو مما علم جوازه من دين الله سبحانه بالضرورة، وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، إن قيل: إن الألف واللام فيه للاستغراق أو للعهد، بناء على أنه منقول شرعي، أما إن قيل: إنه مجمل، فلا، وأما السنة فما لا يحصى كثرة، وسيأتي جملة منه إن شاء الله، وأما الإجماع فبنقل الأثبات، ثم الحكمة تقتضيه، إذ الإنسان قد يحتاج إلى ما في يد(3/381)
صاحبه من مأكول، وملبوس، وغير ذلك، وليس كل أحد يسمح أن يبذل ماله مجانا، فاقتضت الحكمة جواز ذلك، تحصيلا للمصلحة من الطرفين.
واعلم أن ماهية البيع مركبة من ثلاثة أشياء، عاقد، ومعقود عليه، ومعقود به (أما العاقد) فيشترط له أهلية التصرف، وهو أن يكون بالغا، عاقلا، مأذونا له، مختارا، غير محجور عليه، (وأما المعقود به) فهو كل ما دل على الرضا، ولا يتعين: بعت واشتريت. على أشهر الروايتين، وهل يتعين [اللفظ] فلا يصح بيع المعاطاة، أو لا يتعين، فيصح، أو يتعين فيما له خطر دون المحقرات؟ على ثلاثة أقوال، وفصل الخطاب في ذلك أن قوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، هل المعتبر حقيقة الرضى، فلا بد من صريح القول، أو ما يدل عليه، فيكتفى بما يدل على ذلك؟ فيه قولان للعلماء.
ثم رتبة الإيجاب التقدم، ورتبة القبول التعاقب له، فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الطلب نحو: بعني. فروايتان منصوصتان، وخرجهما أبو الخطاب وجماعة فيما إذا تقدم بلفظ الماضي، نحو: ابتعت منك.
وظاهر كلام أبي محمد في الكافي منع ذلك، والجزم بالصحة، أما الاستفهام نحو:(3/382)
أتبيعني؟ فليس بقبول، وإذا لا مدخل له في التقسيم، وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في مجلس العقد، ولم يتشاغلا بما يقطعه. وأما المعقود [عليه] فيشترط له شروط: (أحدها) كونه مما فيه منفعة مباحة لغير حاجة.
(الثاني) : كونه مأذونا للعاقد في بيعه، بملك أو إذن.
(الثالث) : كونه معلوما للمتعاقدين برؤية حال العقد بلا ريب، وكذلك على المذهب بصفة ضابطة لما يختلف به الثمن غالبا، أو برؤية متقدمة بشرط عدم تغير المبيع غالبا.
(الرابع) كونه مقدورا على تسليمه، ثم مع [جميع] ذلك لا بد من انتفاء مانعه، وهو مقارنة نهي من الشارع، وتحقيق ذلك يحتاج إلى بسط طويل، لا يليق بهذا الكتاب، والله أعلم.
[باب خيار المتبايعين]
قال: باب خيار المتبايعين
ش: الخيار اسم مصدر من: اختار يختار اختيارا. وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه، والله أعلم.(3/383)
قال: والمتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما.
1821 - ش: الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن تبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع» . متفق عليه.
1822 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله» . رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وحسنه الترمذي، وللدارقطني فيه: «حتى يتفرقا من مكانهما» . وهذا نص في أن التفرق بالأبدان لا بالأقوال، ويقرب منه حديث ابن عمر لقوله: «وإن تفرقا بعد أن تبايعا» . وحقيقة ذلك بعد صدور البيع، ثم يعين ذلك فعل راويه المشافه لقائله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(3/384)
1823 - ففي مسلم عن نافع، أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله مشى هنية ثم رجع، وراوي الحديث إذا فسره بما يقتضي ظاهره أكد ذلك الظاهر، ومنع تأويله عند العامة، [ثم يرجح ذلك أن البائع اسم مشتق من البيع، وحقيقته بعد البيع] . واعتراض المالكي بعمل أهل المدينة مردود بمخالفة سعيد بن المسيب، والزهري، وابن أبي ذئب، ولقد بالغ ابن أبي ذئب في الإنكار على من خالف الحديث.(3/385)
واعتراض الحنفي بكونه خبر آحاد فيما تعم به البلوى مردود باستفاضة الحديث.
1824 - فقد رواه الجماعة من حديث عبد الله بن عمر، وحكيم بن حزام، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة، والنسائي من حديث سمرة بن جندب، وأبو داود من حديث أبي برزة، والترمذي من حديث جابر. ثم قد عمل الصحابة(3/386)
عليه، على أنا لا نسلم الأصل، بل نقول بخبر الواحد والحال ما تقدم.
وقول الخرقي: والمتبايعان. يدخل فيه جميع أنواع البيع، من التولية، والمرابحة، والشركة، والمواضعة، وكذلك (الصلح) بمعنى البيع، كما إذا أقر له بدين أو بعين، ثم صالحه عنه بعوض، (والإجارة) لأنها بيع منافع، وفي الكافي وجه بالمنع إذا كانت الإجارة على مدة تلي العقد، ويدخل أيضا الصرف، والسلم، لأنهما بيع حقيقة، وعنه: لا خيار فيهما، وخص القاضي في روايتيه الخلاف بالصرف، وتردد في السلم هل يلحق بالصرف أو ببقية البياعات؟ على احتمالين، ويدخل أيضا (الهبة بعوض) ، إذ المغلب إذا حكم البيع على المشهور، والإقالة، والقسمة، حيث قيل:(3/387)
إنهما بيع، ويدخل أيضا (الحوالة) إن قيل: إنها بيع. لا إن قيل: إنها إسقاط، أو عقد مستقل، لوجود البيع في جميع ما تقدم. ويستثنى من عموم كلامه إذا اشترى من يعتق عليه، فإنه لا خيار له، كما لو باشر عتقه، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وفي سقوط حق صاحبه وجهان. ويخرج من كلامه كل ما ليس ببيع، كالنكاح، والخلع، والقرض والكتابة، وغير ذلك، وكذلك المساقاة، والمزارعة، والسبق، والشفعة، إذا أخذ بها، وفي الأربعة إن قيل بلزومها وجه. وقد يخرج من كلامه ما إذا اتحد العاقد، كما إذا اشترى لنفسه من مال ابنه الصغير، ونحو ذلك، إذ لا متبايعان، وقد يدخل لأنه في حكم متبايعين، وبالجملة في ثبوت الخيار لمن هذه حالته قولان، المجزوم به منهما - لصاحب [التلخيص] وابن حمدان في الصغرى، وأورده أبو محمد مذهبا - عدم الثبوت، وعلى القول بالثبوت هل يعتبر مفارقة المجلس، أو لا بد من اختيار اللزوم؟ قولان أيضا.(3/388)
وقوله: ما لم يتفرقا بأبدانهما. يقتضي أن الخيار لهما ولو طال المجلس بنوم، أو بناء حاجز، أو مشي منهما، ونحو ذلك، وهو كذلك، لظاهر الحديث.
1825 - وكذا فهم أبو برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحد رواة الحديث، وكلامه (شامل) لما إذا مات أحدهما، لعدم التفرق بالأبدان، وهو أحد الوجهين.
(والثاني) - وبه جزم ابن حمدان، وصاحب التلخيص، ويحتمله كلام الخرقي كما سيأتي - أن الخيار والحال هذه يبطل، إذ الموت أعظم الفرقتين، (وشامل) أيضا لما إذا تبايعا على أن لا خيار(3/389)
بينهما، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي في تعليقه، وأبي الخطاب في خلافه الصغير، وأبي الحسين، وابن عقيل في الفصول، لأن أكثر الأحاديث: «البيعان بالخيار» ، من غير زيادة، ولأنه إسقاط للحق قبل وجوبه.
(والثانية) - وهي اختيار ابن أبي موسى، والقاضي في روايتيه، والشيرازي، وأبي محمد - يبطل الخيار والحال هذه، لما تقدم في حديث ابن عمر: «أو يخير أحدهما الآخر، فإن تبايعا على ذلك فقد وجب البيع» ، والأخذ بالزائد أولى، والتبايع على ذلك يمنع انعقاد السبب مؤقتا.
(فعلى الأولى) في فساد العقد باشتراط ذلك قولان، أظهرهما - وهو ظاهر كلام الخرقي - عدم الفساد. ومفهوم كلامه أنه متى حصل تفرقهما بطل خيارهما، ويدخل في ذلك ما لو حصلت الفرقة بهرب، أو من غير قصد، أو جهلا، أو بإكراه، وهو كذلك، نعم في الإكراه (وجه آخر) ، يحكى عن القاضي، وأورده في التلخيص مذهبا: أن خيار المكره لا ينقطع، وإذا يكون له الخيار في(3/390)
المجلس الذي زال عنه الإكراه فيه دون صاحبه، (وقول ثالث) : إن كان المكره قادرا على كلام يقطع به خياره انقطع، وإلا فلا، ثم إن أبا محمد في المغني خص الخلاف بما إذا أكره أحدهما، أما إن أكرها فقال: ينقطع خيارهما، لأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر، فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه، وصرح في الكافي بالخلاف في الصورتين، [وهو أجود] وقد قطع ابن عقيل في الفصول ببقاء خيارهما مع إكراههما، وجعل من صور ذلك إذا رأيا سبعا، أو ظالما يؤذيهما، أو احتملهما السيل أو أحدهما، أو حملت الريح أحدهما، وجعل في جميع ذلك الخيار لهما في موضع زوال المانع، ويتلخص من ذلك - على ما قطع به ابن عقيل، وأورده في المغني مذهبا، فيما إذا أكرها أو أحدهما - ثلاثة أقوال، يبطل الخيار في الصورتين، لا يبطل فيهما، يبطل فيما إذا أكرها، ولا يبطل فيما إذا أكره أحدهما، بل يكون الخيار له دون صاحبه.
ثم هل له الخيار مطلقا، أو بشرط عدم قدرته على كلام يقطع به خياره؟ فيه قولان.(3/391)
(تنبيهان) : «أحدهما» المرجع في التفرق إلى العرف لعدم نص من الشارع ببيانه، وقد ضبط ذلك بأنهما إن كانا في رحب واسع فبأن يمشي أحدهما مستدبرا لصاحبه خطوات، على ما قطع به ابن عقيل، وأورده في المغني مذهبا، اتباعا لفعل ابن عمر المتقدم، وقيل - وقطع به في الكافي -: [بل] يبعد منه، بحيث لا يسمع كلامه عادة، وإن كانا في دار كبيرة فمن بيت إلى آخر، أو إلى مجلس أو صفة، بحيث يعد مفارقا له، وفي صغيرة يصعد أحدهما سطحها، أو يخرج منها، وفي سفينة صغيرة يخرج أحدهما ويمشي، وفي كبيرة يصعد أحدهما أعلاها وينزل الآخر أسفلها، ونحو ذلك.
(الثاني) : قول الخرقي: ما لم يتفرقا - وكذلك في الحديث - قال الأزهري: سئل أحمد بن يحيى - ثعلب - عن الفرق بين التفرق والافتراق، فقال: أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال: يقال: فرقت بين الكلامين - مخففا - فافترقا، وفرقت(3/392)
بين اثنين - مشددا - فتفرقا، فجعل الافتراق في الأقوال، والتفرق في الأبدان وهو يؤيد ما ذهبنا إليه.
وقوله في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص «إلا أن يكون صفقة خيار» أصل الصفقة ضرب اليد [على اليد] في البيع، ثم جعل عبارة عن العقد، أي إلا أن يكون عقد خيار، ثم يحتمل أن المراد عقد شرط فيه الخيار، ويكون مستثنى مما بعد الغاية، ويحتمل أنه عقد نفي فيه الخيار، فيكون مستثنى من المنطوق، ولعله أظهر وقول نافع: مشى هنيهة. تصغير «هنة» وهي كلمة يعبر بها عن كل شيء قليل، والله أعلم.
قال: فإن تلفت السلعة، أو كان عبدا فأعتقه المشتري أو مات، بطل الخيار.
ش: إذا تلفت السلعة في مدة الخيار بطل في إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها الخرقي وأبو بكر، نظرا إلى أن التالف لا يتأتى عليه الفسخ (والثانية) - وهي أنصهما، واختارها الشريف، وابن عقيل، وحكاها في موضع من(3/393)
الفصول عن الأصحاب - يبطل خيار المشتري، لحصول التلف في ملكه، ولا يبطل خيار البائع، بل له الفسخ، والرجوع إلى البدل، لتعذر الرجوع في العين، نظرا إلى أن الفسخ للعقد، وإنما ورد على موجود، ولعموم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» وكأن محل التردد هل النظر إلى حال العقد أو إلى الحال الراهنة، وحكم عتق المشتري للعبد [المبيع] حكم تلفه، لأنه تلف معنوي، لانتفاء المالية منه، ولما كان التلف المعنوي قد يتوهم أنه يخالف التلف الحسي نبه الخرقي عليه، مع زيادة فائدة يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، ثم لما فصل العبد من بقية السلع، ذاكرا لحكم عتقه، ربما أوهم أن تلفه ليس كذلك، فأزال ذلك الوهم فقال: أو مات. ويحتمل أن يعود الضمير - لعله أظهر - في: أو مات. إلى المشتري، فيفيد أن المشتري إذا مات [في] مدة خيار المجلس يبطل الخيار، لما تقدم من أن الموت أعظم الفرقتين.
والفائدة التي أشرنا إليها ثم في كلام الخرقي هي أن عتق المشتري يصح، وهو مبني على انتقال الملك إليه بمجرد العقد، كما هو المشهور والمختار من الروايتين، وعلى(3/394)
الرواية التي تقول لا ينتقل الملك إليه إلا بانقضاء الخيار لا ينفذ عتقه، بل عتق البائع، إناطة بالملك.
واعلم أنه لا يصح تصرف المشتري فيما صار إليه، ولا تصرف البائع فيما بذل له، بشيء في مدة الخيار، على المشهور من الروايتين، حذارا من إبطال حق الغير من الخيار أو التصرف في غير ملك، (والثانية) يقع التصرف موقوفا على انقضاء الخيار، [ولا يبطل حق من لم يتصرف من الخيار] فإن انقضى ولا فسخ صح التصرف، وإن فسخ من لم يتصرف، بطل التصرف، ويستثنى من ذلك العتق، فإنه يصح ممن له الملك بلا نزاع نعلمه عندنا.
1826 - اعتمادا على عموم مفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عتق لابن آدم فيما لا يملك» [ولبنائه على التغليب والسراية] ولتشوف الشارع إليه، [ولهذا يسري في ملك الغير] وفي إلحاق الوقف به(3/395)
خلاف، الأصح: لا، واستثنى أبو الخطاب في الانتصار والشيخان تصرف المشتري والخيار له وحده، وزاد أبو البركات بتصرفه مع البائع، ونبه بذلك على [تصرفه بإذن البائع، أو تصرف البائع، بوكالة المشتري أنه يصح بطريق الأولى، كما صرح به أبو محمد، وله في تصرف البائع بإذن المشتري احتمالان، ولصاحب التلخيص احتمال بعدم] صحة تصرف المشتري، والخيار له وحده، وبناه على القول بأن الملك إنما يحصل له بالعقد واللزوم، على الرواية الضعيفة، وقد عرف من هذا أن الشيخين فرعا على الرواية المشهورة، من حصول الملك له بالعقد، وأن إيراد ابن حمدان المذهب بمنع التصرف مطلقا إلا في العتق - تبعا لإطلاق بعض الأصحاب المنع - ليس بشيء.
(تنبيه) : كلام الخرقي ومن حذا حذوه - والله أعلم - في التلف إنما هو فيما كان من ضمان المشتري، أما ما كان من ضمان البائع فسيأتي أنه تارة ينفسخ العقد فيه بمجرد التلف، وتارة يخير المشتري بين الفسخ والإمضاء، ومطالبة المتلف بالبدل، وكلامهم يشمل ما إذا كان في مدة الخيارة أو بعدها، وقد نبه على ذلك أبو محمد، وإن كان في كلامه(3/396)
تجوز، فإنه قال: إن التلف إن كان قبل القبض وكان مكيلا أو موزونا انفسخ العقد، وكان من مال البائع، قال: ولا أعلم فيه خلافا، إلا أن يتلفه المشتري، فيكون من ضمانه، ويبطل خياره، وفي خيار البائع روايتان، فأطلق - والحال ما تقدم - أن العقد ينفسخ، وهو ممنوع لأنه إذا أتلفه أجنبي لم ينفسخ العقد كما سيأتي، بل يخير المشتري بين الفسخ ومطالبة متلفه ببدله، وقد وقع لابن عقيل أيضا نحو قوله، والله أعلم.
قال: وإن تفرقا من غير فسخ لم يكن لواحد منهما الرد إلا بعيب أو خيار.
ش: إذا تفرق المتبايعان من غير فسخ لم يكن لواحد منهما الرد في الجملة، لما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي رواية حتى يتفرقا» غياه إلى غاية هي التفرق فمفهومه أنه لا خيار لهما بعد التفرق، وأصرح من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع» أي ثبت واستقر.(3/397)
وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ما يفتقر إلى القبض، وهو المذهب بلا ريب، لظواهر الأحاديث وعن القاضي في [موضع] أن ما يفتقر إلى القبض لا يلزم إلا بقبضه.
واستثنى الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شيئين (أحدهما) أن من اطلع منهما على عيب فإن له الرد، وهو كذلك في الجملة، وقيل: إنه لم يصح فيه حديث، ولكنه إجماع، وفي معنى العيب إذا أخبره في المرابحة بثمن، فبان أنه أقل، أو أخبره أن الثمن حال، فبان مؤجلا، ونحو ذلك، والتدليس بما يختلف به الثمن، ويقرب منه اشتراط صفة تقصد فلم توجد.
(الثاني) : إذا اشترطا أو أحدهما خيار اليوم أو الشهر، فإن له الرد بذلك.(3/398)
1827 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» الحديث، ولما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو «إلا أن تكون صفقة خيار» على أحد الاحتمالين فيه، ولأنها مدة ملحقة(3/399)
بالعقد، فصحت كالأجل، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك في الكافي إجماعا، لكنه معترض، نعم هو قول العامة، وهذا يلقب بخيار الشرط، والأول بخيار المجلس.
وقوله: بعيب أو خيار. الباء للسببية، أي بسبب عيب، أو بسبب خيار، فيحتمل أن يريد ما تقدم من شروط الخيار، وهو أظهر لما سيأتي، ويحتمل أن يريد حيث ثبت لواحد منهما خيار، فيدخل في ذلك خيار تلقي الركبان والنجش، ويأتيان إن شاء الله تعالى، وخيار المسترسل، وهو الجاهل بقيمة المبيع، كفقير يشتري جوهرة، ونحو ذلك، والمذهب صحة معاوضة من هذه حاله، والمذهب أيضا على صحة البيع ثبوت الخيار له إذا غبن، والمذهب المنصوص أيضا عدم تحديد الغبن، وإناطته بما لا يتغابن بمثله، أما إن كان عالما بالقيمة فإنه لا خيار له وإن غبن، قاله القاضي وغيره، ولأن ذلك الغبن حصل بعجلته، وعدم تأمله عادة وقدره أبو بكر، وابن أبي موسى بالثلث، وبعض الأصحاب بالسدس، ويدخل أيضا خيار الخلف في الصفة حيث صح البيع بها، أو برؤية(3/400)
متقدمة، وخيار الرؤية على المشهور من الروايتين، حيث صح البيع بلا رؤية مطلقا ولا صفة، كما هو رواية مرجوحة، والله أعلم.
قال: والخيار يجوز أكثر من ثلاث.
ش: الألف واللام لمعهود تقدم، هو خيار الشرط، وقوله: أكثر من ثلاث أي ثلاث ليال بأيامها، إذ التاريخ يغلب فيه الليالي، وكأن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبع لفظ الحديث.
1828 - وهو ما «روي عن [محمد بن] يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمرو كان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع على ذلك التجارة، فكان لا يزال يغبن، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له، فقال: «إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، إن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها» رواه البخاري في تأريخه، وابن ماجه والدارقطني.(3/401)
1829 - وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر «أن رجلا ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يخدع في البيوع، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بايعت فقل: لا خلابة» فكان إذا بايع قال: لا خلابة» . رواه البخاري ورواية مسلم قال: لا خيابة. إذا عرف هذا فالأصل في جواز الخيار أكثر من ثلاث قوله سبحانه: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون عند شروطهم» ولأنها مدة ملحقة بالعقد، فجاز ما اتفقا عليه كالأجل، ولا يرد خبر منقذ، لأنه خاص به.(3/402)
1830 - بدليل أنه عاش إلى زمن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان يبايع ويغبن، ويرد السلع على التجار، ويقول: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل لي الخيار ثلاثا، فيمر الرجل من أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: ويحك صدقك، إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل له الخيار ثلاثا.
ويدخل في عموم كلام الخرقي إذا كان المبيع لا يبقى في المدة المشترطة كطعام رطب [ونحوه] ، وصرح بذلك القاضي في أثناء مسألة اشتراط الخيار [في الإجارة] ، وأورد عليه فقال: يصح ويباع، ويحفظ ثمنه إلى المدة، قلت: وهذا قياس ما قالوه في الرهن إذا كان لا يبقى إلى المدة، قال أبو العباس: ويتوجه عدم الصحة من وجه في الإجارة، أي من وجه عدم صحة اشتراط الخيار في إجارة تلي العقد، ومن أن تلف المبيع يبطل الخيار.
(تنبيهان) : (أحدهما) : من شرط الخيار أن يكون معلوما، فلا يصح مجهولا على المشهور المعمول عليه من(3/403)
الروايتين، (والثانية) يصح وينقطع بانقطاع من له الخيار أو انقطاع مدته (ثم محل الخيار البيع) وما في معناه، إلا بيع بشرط القبض، كالصرف، والسلم، (وفي الإجارة) ، لأنها بيع في الحقيقة، لا إجارة تلي العقد في وجه، (الثاني) قد تقدم عن يحيى بن حبان أن الذي كان يغبن هو جده منقذ بن عمرو، وقال جماعة: إنه والده حبان، وهو بفتح الحاء وبالموحدة «والآمة» [هي التي تصل إلى جلدة الدماغ كما] سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى، ولا خلابة بكسر الخاء، أي لا خديعة، ومنه قولهم: «إذا لم تغلب فاخلب» وقوله: لا خيابة لأنه كان ألثغ، يبدل اللام ياء ورواه بعضهم: لا خيانة. بالنون وهو تصحيف، والله أعلم.(3/404)
[باب الربا والصرف وغير ذلك]
قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
باب الربا والصرف وغير ذلك
ش: الربا مقصور، وأصله الزيادة، والمادة حيث تصرفت لذلك، قال الله سبحانه: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي علت وارتفعت، وقال تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي أكثر عددا، وقال تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] أي بمكان عال، وهو في الشرع: زيادة في شيء مخصوص.
والصرف بيع أحد النقدين بالآخر قيل: سمي بذلك من صريفهما وهو تصويتهما في الميزان، وقيل: لانصرافهما عن مقتضى البياعات، من عدم جواز التفرق قبل القبض والبيع نساء.
«وغير ذلك» أي من حكم العيب إذا وجد في الصرف، وبيان العرايا، والربا نوعان -، قد شملهما كلام الخرقي - ربا(3/405)
الفضل، وربا النسيئة، وكلاهما محرم، وممنوع منه في الجملة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] إن لم نقل: إنها مجملة كما تقدم.
1831 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه.
1832 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه» ، رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وأجمع المسلمون على تحريم ربا النسيئة تحريما لا ريب فيه، وعامتهم على تحريم ربا الفضل.(3/406)
1833 - ووقع خلاف في الصدر الأول عن أسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، وابن الزبير، وابن عباس وعنه اشتهر.(3/407)
1834 - لما روى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ربا إلا في النسيئة» رواه البخاري وقد أقر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأبي سعيد أنه سمع ذلك من أسامة.
1835 - وحديث أسامة في الصحيحين «الربا في النسيئة» وفي رواية «إنما الربا في النسيئة» وفي أخرى «لا ربا فيما كان يدا بيد» وهذه أصرحها، ثم قد صار إجماعا، ورجع من تقدم إلى قول الجماعة، واختلف في رجوع ابن عباس، وبالجملة(3/408)
يشهد لقول العامة إطلاق ما تقدم.
1836 - وعن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» رواه أحمد، ومسلم، وغيرهما.(3/409)
1837 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» متفق عليه وفي رواية لأحمد والبخاري «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» .
1838 - وفي الصحيح أيضا هذا المعنى من حديث فضالة بن عبيد، وأبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وحديث أسامة لا يقاوم هذه، لكثرة رواتها، وصراحة دلالتها، إذ هي دلالة منطوق بلا ريب،(3/410)
ثم يحمل على أنه وقع جوابا لسؤال عن الجنسين من أموال الربا، أو مطلقا، فقال: «لا ربا إلا في النسيئة» أي في المسئول عنه وهو الجنسان، أو أن المراد نفي الربا الأغلظ الذي ورد نص القرآن في تحريمه بلا ريب، وهو الذي كانت العرب تعرفه، تقول للغريم إذا حل الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي في الدين، أي تزيد.(3/411)
1839 - وهو الذي نسخه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، وقال عنه: «ألا إن كل ربا موضوع، وإن أول ربا أضعه ربا عباس» وهذا كما يقال: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع علي، ونحو ذلك، ثم لو قدر التعارض من كل وجه، فقد يقال: نسخ حديث أسامة أولى، لورود النسخ إذا على مباح الأصل، لأن الشارع إنما منع من النساء، وبقي التفاضل على ما كان عليه.
(تنبيه) : «لا تشفوا بعضها على بعض» أي لا يكون لأحدهما شفوف على الآخر، أي زيادة، و «الناجز» المعجل الحاضر، والله أعلم.
قال: وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز(3/412)
التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا.
ش: قد تقدم أن الإجماع قد انعقد على تحريم ربا الفضل في الجملة، وإن كان قد وقع في الصدر الأول خلاف، وأجمعوا على ذلك في الأعيان الستة المذكورة في حديث عبادة، ثم اختلفوا هل جرى الربا فيها لأعيانها أو لمعان فيها؟ فقال داود ومتابعوه: لأعيانها، فلا يتعدى الحكم إلى غيرها، وقال العامة: لمعان فيها، ثم اختلفوا هل عرف ذلك المعنى أم لا؟ فعن ابن عقيل في العمد أنه تردد في المعنى، ولم يتعد الستة، لتعارض الأدلة عنده في المعنى وتكافئها، ويحتمل هذا قول طاوس وقتادة، فإنه حكي عنهما القصر على الستة، ويحتمل أن قولهما كقول داود، وأن عندهما أن {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] عام، خرج منه الأعيان الستة، بقي ما عداها على مقتضى العموم، ولا يريان تخصيص العام بالقياس.(3/413)
وجمهور أهل العلم على معرفة العلة، وتعديها إلى غير الستة، ثم اختلفوا فيها على سبعة أقوال، وعن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - من ذلك ثلاثة أقوال.
(أحدها) : - وهو الأشهر عنه، ومختار عامة أصحابه، قال القاضي: اختارها الخرقي وشيوخ أصحابنا - أن العلة في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مكيلات جنس، فيتعدى الحكم إلى كل موزون، ومكيل بيع بحبسه، كالحديد، والنحاس، والحبوب، والأبازير، وغير ذلك، دون ما لا يكال ولا يوزن من مطعوم وغيره.
1840 - لما روي عن أبي سعيد، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال: «أكل تمر خيبر هكذا؟» فقال: لا يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا» وقال في الميزان مثل ذلك، ولمسلم «وكذلك الميزان» متفق عليه فقوله: في الميزان أي في الموزون،(3/414)
وإلا فنفس الميزان ليس من أموال الربا.
1841 - وقال الإمام إسحاق بن راهويه: أخبرنا روح بن عبادة، حدثنا حيان بن عبيد الله، وكان رجلا صدوقا - عن أبي مجلز، عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التمر بالتمر» وذكر الحديث، إلى قوله: «فما زاد فهو ربا» قال: «وكذلك ما يكال وما يوزن» وهو نص، إلا أن ابن حزم زعم أن «وما يكال وما يوزن» من قول أبي سعيد، قال: دل على ذلك قوله: قال: وكذلك ما يكال وما يوزن. وليس في هذا دليل، لاحتمال عود الضمير إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،(3/415)
وهو الأصل، ويؤيده رواية البخاري السابقة: وقال في الميزان مثل ذلك.
1842 - وعن الحسن عن أنس وعبادة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما وزن مثلا بمثل، إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك» رواه الدارقطني.
1843 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء» وهو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: «لا بأس إذا كان يدا بيد» رواه أحمد.
(والقول الثاني) : أن العلة في الذهب والفضة الثمنية، فلا يتعدى إلى غيرهما، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مطعوم جنس.
1844 - لما روى معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا، فذهب الغلام فأخذ صاعا زيادة بعض(3/416)
الصاع، فلما جاء معمرا أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق به فرده، وقال: لا تأخذ إلا مثلا بمثل، فإني كنت أسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل» وكان طعامنا يومئذ الشعير، قيل له: فإنه ليس بمثله، قال: إني أخاف أن يضارع، رواه مسلم والطعام يشمل كل مطعوم، ولأن الطعم وصف شريف، إذ به قوام الأبدان، وكذلك الثمنية، إذ بها قوام الأموال، فاقتضت الحكمة التعليل بهما.
(والقول الثالث) : العلة في النقدين الثمنية، والعلة في الأربعة الباقية الطعم والتقدير في الجنس، فإن الأربعة مكيلة، غير أن المؤثر إنما هو التقدير المنضبط، فيدخل فيه الوزن، فيتعدى ذلك إلى كل مطعوم مقدر بكيل أو وزن بيع بجنسه، وهذا اختيار أبي محمد، نظرا إلى ما ذكرناه من أن هذه الأربعة مطعومة، والمماثلة إنما تعتبر بالمعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن، وجمعا بين الأحاديث، فنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، يحمل على ما فيه معيار شرعي، وهو الكيل أو الوزن ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين [ونحوه](3/417)
يحمل على المطعوم، توفيقا بينهما.
ويرجح الأول بأن الطعام بعض أفراد الصاع [بالصاعين] ونحو ذلك، لما تقدم من أن المثلية لا تتحقق إلا بكيل أو وزن، وهو المدعى على القول الأول علة، ويجاب بمخالفته له في المفهوم، وهو مبني على اعتبار مفهوم اللقب، والمذهب اعتباره، ثم على اعتباره والحال هذه، وفيه وجهان، انتهى واتفق الكل على اعتبار الجنس في ربا الفضل، كما نص عليه الخرقي.
1845 - إلا سعيد بن جبير، فإنه جعل الشيئين المتقارب نفعهما - كالحنطة مع الشعير، والتمر مع الزبيب - كالجنس الواحد، وهو مردود بالنصوص السابقة.
(تنبيهات) : «أحدها» على المذهب يجري الربا في كل مكيل، وإن لم يكن مطعوما، كالأشنان ونحوه، وفي كل موزون، وإن لم يكن كذلك، كالحديد ونحوه، ولا يجري في(3/418)
مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالبيض والماء ونحوهما، والمعتبر كون جنس ذلك مكيلا أو موزونا، وإن لم يأت فيه ذلك، إما لقلته، كتمرة، وحبة شعير ونحو ذلك، وإما لثقله، كالزبرة العظيمة من الحديد ونحوه، وإما للعادة كلحم الطير ونحوه، فلا يجوز بيع بعض ذلك ببعض إلا مثلا بمثل، بمعياره الشرعي، وهو الكيل أو الوزن ويحتمل قول الخرقي جواز ذلك، لقوله: وكل ما كيل أو وزن. وهو محمول على ما جنسه الكيل أو الوزن، وهل يعم المعمول من الموزون بأصله، أو بحاله بعد العمل؟ نص أحمد في رواية: جماعة: أنه لا يباع فلس بفلسين، ولا سكين بسكينين، ولا إبرة بإبرتين، معللا بأن أصل ذلك الوزن، ونص في رواية جماعة أنه لا بأس ببيع ثوب بثوبين، وكساء بكسائين، فنقل القاضي في المجرد إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل فيهما جميعا روايتين، والمنع اختيار جماعة منهم ابن عقيل في الفصول وغيره اعتبارا بأصله، والجواز اختيار أبي محمد في المغني، نظرا للحال الراهنة، ومقتضى كلام القاضي في التعليق، وفي الجامع(3/419)
الصغير، حمل النص على اختلاف حالين، فإنه لما قال: يجري الربا في معمول الحديد ونحوه، وذكر نصه على ذلك، فأورد عليه النص الآخر في جواز ثوب بثوبين، فقال: هذا في ثياب لا ينبغي بها الوزن، أما الإبريسم ونحوه فإنه لا يجوز، ونحو هذا قول جماعة [وهو أوجه] فينظر في حاله بعد العمل، فإن قصد وزنه جرى فيه الربا، وإلا فلا، وأبو محمد في الكافي نظر إلى هذا المعني في الموزون، وقطع في منسوج القطن والكتان بأنه لا ربا فيه وأطلق، وصاحب التلخيص جعل الروايتين فيما لا يتعين وزنه بعد عمله، أما ما يقصد وزنه بعد عمله فجزم بوجوب التماثل فيه. انتهى. ثم إن صاحب التلخيص قال في الفلوس - بعد أن حكى فيها الروايتين -: وسواء كانت نافقة أو كاسدة، بيعت بأعيانها أو بغير أعيانها، وكذلك قال القاضي في الجامع الصغير، وابن عقيل، والشيرازي وغيرهم، وجزم أبو الخطاب في خلافه الصغير بأنها مع نفاقها لا تباع بمثلها إلا متماثلة، معللا بأنها أثمان فأشبهت الدراهم والدنانير، ثم عقب ذلك بذكر الخلاف(3/420)
في معمول الحديد، وظاهر هذا أنها مع كسادها يجوز التفاضل فيها إن لم يعتبر الوزن، ويتلخص من ذلك أن الفلوس النافقة هل تجري مجرى الأثمان، فيجري الربا فيها، إن قلنا، العلة في النقدين الثمنية مطلقا، وهو ظاهر ما حكاه عن أبي الخطاب في خلافه الصغير، أو لا تجري مجراها، نظرا إلى أن العلة ما هو ثمن غالبا، وذلك يخص الذهب والفضة، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الكبير؟ على قولين، فعلى الثاني لا يجري الربا فيها إلا إذا اعتبرنا أصلها، وقلنا: العلة في النقدين الوزن، كالكاسدة، وعلى رواية الطعم والثمنية في النقدين يجري الربا في كل مطعوم قوتا كان أو أدما، أو فاكهة، أو دواء.
ويستثنى من ذلك الماء، على ما قطع به القاضي في الجامع الصغير، وأبو محمد وصاحب التلخيص، والسامري، وغيرهم، مع أنه مطعوم، قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] وعلل ذلك صاحب التلخيص بأن أصله الإباحة، وهو منتقض بلحم الطير، وبالطين الأرمني ونحوهما، وبأنه مما لا يتمول، وهو مردود، بأن العلة عندنا ليست المالية،(3/421)
والقياس جريان الربا فيه على هذه الرواية، وهو ظاهر ما في خلاف أبي الخطاب الصغير.
والمعتبر الطعم للآدميين لا لغيرهم، فلا يجري الربا في التبن ونحوه على مقتضى كلام أبي محمد، ويجري الربا في الذهب والفضة، تبرهما ومضروبهما، وكيف ما كانا، على المشهور، وعنه أنه منع من بيع الصحاح بالمكسرة، ولا عمل عليه، لظواهر النصوص، وهل يجري الربا في الفلوس النافقة؟ فيه تردد تقدم، وعلى رواية اعتبار الطعم مع الكيل أو الوزن لا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح، والرمان، والسفرجل، والخوخ، والكمثرى، والأجاص، والجوز، والأترج، والخيار والبيض، ونحو ذلك، [ولا في غير مطعوم، كالأشنان، والحديد والرصاص، ونحو ذلك] .
(التنبيه الثاني) : قول أحمد: لا تباع سكين بسكينتين. محمول على ما إذا اختلف الوزنان، أما إن اتحدا جاز، إذ العبرة به لا بالعدد.
(الثالث) : «سائر» استعملها الخرقي هنا، وفي قوله - بعد - وسائر اللحمان جنس واحد. وفي مواضع بمعنى(3/422)
«جميع» وهو خلاف اللغة المشهورة، حتى أن بعضهم أنكر ذلك، وقد استعمل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اللغة المشهورة أيضا في الغسل، في قوله: ثم يفيض الماء على سائر جسده. وكذلك في باب المصراة.
1846 - وهي التي نطق بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله لغيلان بن سلمة «أمسك أربعا، وفارق سائرهن» وعلى هذا هي مأخوذة من السؤر، وهو البقية، وعلى الأول من سور البلد، وهو ما أحاط به، «والتمر الجنيب» بفتح الجيم وكسر النون، وآخره باء موحدة، نوع من جيد التمر، «والجمع» بفتح الجيم،(3/423)
وسكون الميم، تمر مختلف، من أنواع متفرقة، غير مرغوب فيه للاختلاط، إذ ما يخلط إلا لرداءته «والرماء» بفتح الراء مخففا ممدودا، لغة في الربا، «ويضارع» أي يشابه «وأبي مجلز» بكسر الميم، وسكون الجيم، وآخره زاي، «وحيان» بحاء مهملة مفتوحة، وبعدها ياء مشددة، مثناة من تحت، والله أعلم.
قال: وما كان من جنسين جاز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئة.
ش: قد تقدم أن شرط جريان ربا الفضل الجنس عند العامة، فإذا عدم الجنس امتنع ربا الفضل، وجرى ربا النسيئة، إن اجتمع الجنسان في علة واحدة، كمكيل بمكيل،(3/424)
وموزون بموزون، ومطعوم بمطعوم، إن علل بالطعم، وذلك لما تقدم من حديث عبادة، وأبي سعيد يدا بيد وفي حديث أبي سعيد «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» .
وإن اختلفا في العلة - كمكيل مع موزون - فروايتان، (إحداهما) - وهي ظاهر كلام الخرقي - جريانه أيضا، لحديث عبادة المتقدم «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» (والثانية) لا يجري، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل، فأشبه الثياب، والحيوان، كما سيأتي.
ويستثنى مما تقدم إذا كان أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء بغير خلاف نعلمه، وإن اتحدا في الوزنية، لئلا ينسد باب السلم في الموزونات.
وقول الخرقي: يدا بيد. يقتضي وجوب التقابض في الجنسين من مالي الربا، إذا بيع أحدهما بالآخر، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه في ذلك، إن كانت العلة واحدة، لما تقدم من حديثي عبادة، وأبي سعيد.
1847 - وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(3/425)
«الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء» متفق عليه أي: إلا هاك وهات. كذا فهمه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
1848 - ففي الموطأ: قال مالك بن أوس بن الحدثان النصري: أنه التمس صرفا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة، وعمر بن الخطاب يسمع، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وذكر الحديث، وهذا يمنع تأويل من ادعى أن «يدا بيد» أي لا يكون نسيئة انتهى.
أما إن اختلفت العلة فظاهر إطلاق الخرقي وجوب التقابض أيضا، وصرح بذلك ابن عبدوس على رواية منع النساء التي هي أيضا ظاهر كلام الخرقي، وهو ظاهر حديث عبادة المتقدم، والمعروف عند كثير من المتأخرين - حتى أن أبا الخطاب قال: إنه رواية واحدة - جواز التفرقة قبل القبض، وإن منعنا النساء، وحيث أوجبنا التقابض فتفرقا قبله بطل العقد.(3/426)
(تنبيه) : هاء وهاء بالمد، وفتح الهمزة، وفيه أربع لغات هذه إحداهن، وفيها لغتان (إحداهما) أنها تقال بلفظ واحد مطلقا، (وثانيتهما) تلحق بها العلامات المفرقة، فللمذكر «ها» وللمؤنث «هات» وللاثنين «هاءآ» وللجميع «هاؤا» كالحال في «هاؤم» (اللغة الثانية) في الأربع «هأ» بالقصر والهمزة الساكنة على وزن «خف» وفيها اللغتان المتقدمتان، فعلى التفريق للمذكر «هأ» كخف وللمؤنث «هائي» كخافي، وللاثنين «هاآ» كخافا، وللجمع «هاؤا» كخافوا (اللغة الثالثة) «هاء» بالمد، وكسر الهمزة، [بلفظ واحد مطلقا، غير أنهم زادوا ياء مع المؤنث، فقالوا: هائي. (الرابعة) بالقصر وترك الهمزة] ، حكاها بعض اللغويين، وأنكرها أكثرهم، حتى أن الخطابي خطأ من روى من المحدثين كذلك، ومعنى «هاء وهاء» : خذ وهات في الحال، كما قيل: يدا بيد. «وتراوضنا» تجارينا، والله أعلم.(3/427)
قال: وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئه.
ش: قد علم من ترجمة هذه المسألة أن وضع المسألة السابقة فيما كان مكيلا أو موزونا، وهذا والله أعلم الذي أحوج الخرقي إلى فصل المسألتين، ليفصل مسألة الوفاق من مسألة الخلاف، وإلا فحكم المسألتين عنده واحد.
إذا عرف هذا فقد اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا انتفت علة ربا الفضل، هل يجوز النساء؟ على أربع روايات (إحداهن) - وهي اختيار القاضي وأبي الخطاب، وابن عبدوس، وأبي محمد، وغيرهم - يجوز.(3/428)
1849 - لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يجهز جيشا، فنفذت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» ، رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني وصححه.(3/429)
1850 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه باع جملا له يسمى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل، رواه مالك في موطئه، والشافعي في مسنده.
1851 - وعن ابن عمر، ورافع بن خديج نحوه، ذكر ذلك البخاري وغيره. (والثانية) - واختارها ابن أبي موسى، وأبو بكر، والخرقي فيما قاله القاضي، وأبو الخطاب وغيرهما - لا يجوز.
1852 - لما روى الحسن عن سمرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» ، رواه الخمسة وصححه الترمذي.(3/430)
1853 - وقد روي من حديث جابر بن سمرة رواه عبد الله بن أحمد، ومن رواية ابن عباس، رواه البزار، ومن رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جميعا وهو يشمل بعمومه الجنس والجنسين، ولا يضر التكلم في بعضها، إذ الحجية تحصل بمجموعها، لتقوي بعضها ببعض، مع أن الترمذي قد صحح الأول، وأحمد احتج به في رواية ابن إبراهيم، وحديث عبد الله بن عمرو قضية عين، فلعل ذلك كان في بدء الإسلام، قبل نزول تحريم الربا، أو كانت المعاملة مع أهل الحرب، جمعا بين الأدلة.(3/431)
ومن نصر الأول رجحه بفعل الصحابة، وطعن في الأحاديث بأن أحمد قال: ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه، وقال في حديث ابن عمر وابن عباس: إنهما مرسلان، وإن الحسن لا يصح سماعه من سمرة، ولا يخفى أن مثل هذا الطعن لا يسقط الحجية، لما تقرر من أن المرسل حجة عندنا، بل وعند العامة في مثل هذا الموطن لاعتضاده بحديث آخر، وبمرسل آخر، فعلى هذه الرواية لو باع عرضا بعرض، ومع أحدهما دراهم، العروض نقدا، والدراهم نسيئة جاز، إذ لا نساء بين الثمن والمثمن، ولو كانت الدراهم نقدا، والعرضان أو أحدهما نسيئة لم يجز، حذارا من النسيئة في العروض، نص عليه أحمد، وقاله القاضي وغيره (والرواية الثالثة) يحرم في الجنس الواحد، ولا يحرم في الجنسين لأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل، فمنع النساء كالكيل والوزن، ويحمل حديث سمرة بن جندب ونحوه على ذلك، وهو مردود بأن الجنس شرط الجريان ربا الفضل أو محل في ذلك، لا وصف في العلة، والحمل على ما ذكر فيه تعسف(3/432)
(والرابعة) يحرم في الجنس الواحد متفاضلا لا متماثلا، ولا في الجنسين.
1854 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا يصلح الحيوان بالحيوان اثنان بواحد نسيئة، ولا بأس به يدا بيد» رواه الترمذي وحسنه، ومفهومه جواز الواحد بالواحد، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة، وقد قال أحمد: زاد فيه «نساء» وليث بن سعد سمعه من أبي الزبير، لا يذكر فيه «نساء» قال أبو محمد: ويحتمل أن الخرقي أراد هذه الرواية، قلت: وعلى هذا يكون تقدير الكلام: وما كان مما لا يكال ولا يوزن، فجائز التفاضل فيه يدا بيد، إذا كان جنسا واحدا، ولا يجوز نسيئة، وعلى ما قال الجماعة أنه اختيار الخرقي التقدير في الثاني: أي ولا يجوز بيعه نسيئة، ويحتمل كلام الخرقي منع النساء مع التفاضل مطلقا، والتقدير إذا: ولا يجوز التفاضل فيه نسيئة، وهذا يرجحه أن في اللفظ ما يدل عليه وهو ذكر(3/433)
التفاضل، ويبعده ما تقدم في صدر المسألة.
(تنبيه) : «القلائص» جمع قلوص، وقد تقدم في أول الكتاب، «والراحلة» [اسم للجمل والناقة إذا كانا قويين على الأحمال والأسفار «ونفذت الإبل» أي فنيت] ، والله أعلم.
قال: ولا يباع شيء من الرطب بيابس من جنسه إلا العرايا.
ش: الألف واللام في الرطب لمعهود ذهني، وهو رطب يجري فيه الربا، كالرطب والعنب، فلا يباع الأول بالتمر، ولا الثاني بالزبيب، متماثلا ولا متفاضلا.
1855 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله» ، متفق عليه.
1856 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب؟ فقال لمن حوله «أينقص الرطب إذا يبس؟» قالوا: نعم. فنهى عن ذلك» ، رواه(3/434)
الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا السؤال إرشاد للعلة، وهي النقص في ثاني الحال، أو انفراد أحدهما بالنقص، سؤال تقرير وتنبيه، لا استفهام حقيقي، لعلمه بذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. واستثنى الخرقي العرايا، وسيأتي ذلك إن شاء الله، ومفهوم كلامه جواز بيع الرطب بالرطب، ويأتي أيضا إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزنا، ولا ما أصله الوزن كيلا.
ش: المساواة المعتبرة فيما يحرم فيه التفاضل هي المساواة في معياره الشرعي، وهو الكيل في المكيل، والوزن في الموزون، فلا يباع المكيل بجنسه، إلا كيلا، ولا الموزون(3/435)
بجنسه إلا وزنا، إلا إذا علم مساواته في معياره [الشرعي] .
1857 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا» رواه مسلم.
1858 - وفي حديث عبادة في رواية أبي داود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد فقد أربى» فاعتبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الموزون الوزن، وفي المكيل الكيل، فمن خالف ذلك خرج عن المشروع المأمور به.
1859 - وإذا يدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» نعم لا يعتبر كيل جرت العادة به، بل يجوز(3/436)
التعديل بإناء لم تجر العادة بالكيل به، كما يجوز بالوضع في كفتي الميزان، ذكره في التلخيص.
ومفهوم كلام الخرقي جواز بيع المكيل بمكيل [من غير جنسه وزنا، وبيع الموزون بموزون] من غير جنسه كيلا، وهو كذلك لحديث عبادة «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» .
1860 - وفي الصحيح من حديث أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا» ، متفق عليه، ومن ثم اختار الشيخان وابن عقيل، وصاحب التلخيص، وغيرهم جواز بيع المكيل بالمكيل جزافا، وبيع الموزون بالموزون جزافا، ومنع ذلك ابن أبي موسى، والقاضي في المجرد، والشريف، وغيرهم ونص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب وغيره.(3/437)
1861 - لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام مجازفة، وهو محمول على الجنس الواحد، جمعا بين الأدلة.
(تنبيه) : المرجع في الكيل إلى مكيال أهل المدينة، وفي الوزن إلى ميزان أهل مكة، في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1862 - لما روى ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة» رواه النسائي.
1863 - وهو لأبي داود من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وما لا عرف له بهما فهل يعتبر عرفه في موضعه، أو يرد إلى أقرب الأشياء شبها به بالحجاز؟ فيه احتمالان حكاهما القاضي في التعليق ومن بعده، وما لا أصل له بالحجاز في كيل ولا(3/438)
وزن، ولا له شبهه بما جرى فيه العرف، كالثياب، والحيوان، والمعدود من الجوز، والبيض، والرمان، والقثاء، والخيار، والخضروات، والبقول، [والسفرجل] ، والكمثرى، والخوخ ونحو ذلك، فإذا اعتبر التماثل فيه اعتبر بالوزن، لأنه أضبط، قاله أبو محمد، وكذلك ذكر القاضي في الفواكه الرطبة.
إذا عرف هذا فالبر والشعير مكيلان بالنص [قال أبو محمد: وكذلك سائر الحبوب، والأبازير، والأشنان، والجص، والنورة ونحوها والتمر مكيل بالنص] [قال أبو محمد: وكذلك سائر ثمرة النخل، من الرطب والبسر ونحوهما] ، وسائر ما تجب فيه الزكاة كالزبيب، والفستق، والبندق، والعنب، والمشمش، والبطم، والزيتون، واللوز.
والملح [مكيل بالنص، والذهب والفضة موزونان، قال أبو محمد: وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد، والرصاص، والصفر والنحاس، والزجاج والزئبق] ، وكذلك(3/439)
الإبرسيم، والقطن والصوف والكتان، وغير ذلك [وكذلك الخبز واللحم، والشحم، والزبد، والجبن، وكذا الشمع وما أشبهه] وكذلك الزعفران، والعصفر، والورس.
والدقيق، والسويق مكيلان عند أبي محمد، نظرا لأصلهما، وجوز القاضي بيعهما بالوزن كالخبز، أما المائعات كاللبن، والأدهان، من الزيت، والشيرج، والعسل، والدبس، فقال أبو محمد: الظاهر أنها مكيلة، وكذا قال القاضي في الأدهان أنها مكيلة، وقال في اللبن: يصح السلم فيه كيلا، وعن أحمد أنه سئل عن السلف في اللبن، فقال: نعم كيلا أو وزنا. والله أعلم.
قال: والتمور كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها.
ش: الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة [بأنواعها، والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة] بأشخاصها، والمراد هنا الجنس(3/440)
الأخص، والنوع الأخص، إذ قد يكون الشيء جنسا بالنسبة إلى ما تحته، ونوعا بالنسبة [إلى ما فوقه، وكالإنسان فإنه جنس بالنسبة إلى الزنجي، والتركي، وغير ذلك، ونوعا بالنسبة] إلى الحيوان، والمعتبر هنا الاتفاق في الاسم الخاص من أصل الخلقة، كالحنطة والتمر وغيرهما، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر التمر بالتمر، والبر بالبر وأطلق، بل ومنع من بيع الجنيب بالجمع متفاضلا كما تقدم.
إذا عرف هذا فالأدقة والأدهان تختلف باختلاف أصولها، [فدقيق الحنطة والشعير والفول أجناس، كما أن أصولها] كذلك، والزيت، والشيرج، ودهن بزر الكتان، ودهن السمك، ونحو ذلك أجناس كأصولهن، ودهن الورد، ودهن البنفسج ونحوهما جنس، إن كان أصلهما واحدا، والخلول أجناس على المذهب كأصولها، (وعنه) أن خل العنب والتمر في حكم الجنس الواحد، وفي التلخيص وجه أن الخلول كلها جنس واحد ولا معول عليهما، أما على المذهب فيجوز(3/441)
بيع خل العنب بخل التمر متماثلا ومتفاضلا، وخل التمر بخل التمر متماثلا لا متفاضلا، ويغتفر ما فيهما من الماء، لأنه غير مقصود للمصلحة، أما خل العنب بخل الزيت فالمنصوص - وقاله القاضي وغيره - منع بيع أحدهما بالآخر مطلقا، لانفراد أحدهما بالماء، فأشبها تمرين في أحدهما نواه، والآخر نزع منه والله أعلم.
قال: والبر والشعير جنسان.
ش: هذا على المذهب المنصوص بلا ريب، لحديث عبادة «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» وللنسائي وأبي داود فيه: «وأمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد، كيف شئنا؛» (وعنه) ما يدل على أنهما جنس واحد، قال: الحنطة والشعير والسلت صنف، وقال: يكره أن يبيع الحنطة بالشعير اثنين بواحد؛ لما تقدم عن معمر بن عبد الله، وهو محمول على التورع، كما أشار هو إليه فقال: أخاف أن يضارع. أي يشابه، ثم مع النص السابق لا يعرج على غيره، والله أعلم.(3/442)
قال: وسائر اللحمان جنس واحد.
ش: هذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - (والثانية) أنها أجناس باختلاف أصولها، اختارها أبو بكر، والقاضي في تعليقه، وأبو الحسين، وأبو الخطاب في خلافه، وابن عقيل، وأبو محمد ومبناهما - والله أعلم - على أن الاعتبار - هل هو بحال جريان الربا فيه، وهو إذا يشمله اسم واحد، ويرجحه نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، وهي كلها طعام، أو باعتبار أصوله، وأصوله مختلفة، وينقض الأول(3/443)
بعسل النحل، وعسل القصب، والحديث محمول على ما إذا اتفق الجنس، بدليل ما تقدم (والثالثة) أنها أربعة أجناس، لحم الأنعام جنس، ولحم الوحش جنس، ولحم الطير جنس، ولحم دواب الماء جنس، وهي اختيار القاضي في روايتيه، وحمل كلام الخرقي على ذلك، لأن لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها، والقصد إليها، فجعل كل واحد جنسا، نظرا لذلك، فعلى الثانية لحم الإبل كله جنس واحد، وكذلك البقر، وكذلك الغنم على المشهور، ولأبي محمد احتمال بأنهما جنسان، ضأن ومعز، لتفريقه سبحانه بينهما حيث قال: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] وكل ما له اسم يخصه من الوحش والطير جنس.
(تنبيهات) «أحدها» اللبن، والشحم، والأكبدة، والأطلحة، والرئات، والجلود، والأصواف، والعظام، والرؤوس، والأكارع، ونحو ذلك مما اشتمل عليه اللحم، فيجري فيهن ما يجري فيه من الخلاف، وكذلك مقلو البيض، لصيرورته موزونا، أما قبل ذلك فهو معدود، فلا يجري فيه الربا على المذهب.(3/444)
(الثاني) اللحم والشحم جنسان على المشهور، فيخرج [بيع أحدهما بالآخر متماثلا ومتفاضلا، وعن القاضي منع] بيع أحدهما بالآخر مطلقا.
(الثالث) اللحم الأبيض - كسمين الظهر - والأحمر جنس واحد على الأشهر، قاله القاضي، وابن البنا، وغيرهما، وقال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي أنهما جنسان، لقوله: إن اللحم لا يخلو من شحم، قال: ولو لم يكن هذا شحما لم يختلط لحم بشحم، وفرع على قوله أن كل أبيض في الحيوان يصير دهنا جنس واحد، واختار ذلك في المغني، وبنى على ذلك أن الألية والشحم جنس، والمشهور عند الأصحاب أنهما جنسان، وهو الذي قاله في المقنع.
(الرابع) هل لحم رأس شيء جنس برأسه كالقلب ونحوه، أو نوع من لحم جنسه؟ فيه وجهان.(3/445)
(الخامس) هل يجوز بيع اللبن باللبأ؟ فيه وجهان، حكاهما ابن البنا، وعن القاضي أنه خصهما بما إذا مست النار أحدهما، وعند أبي محمد والسامري أنهما جنس واحد، يجوز بيع أحدهما بالآخر متماثلا، لا متفاضلا ولا بعد أن تمس النار أحدهما، وعلى ما إذا مست النار أحدهما حمل السامري وجه منع ابن البنا، والله أعلم.
قال: ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا، ويجوز إذا تناهى جفافه مثلا بمثل.
ش: لا إشكال في جواز بيع ما كان رطبا، عند تناهي جفافه، من التمر، واللحوم، وغيرهما بمثله، واختلف في بيع كل رطب بمثله رطبا، فعنه المنع مطلقا، حكاه ابن الزاغوني، واختاره أبو حفص العكبري، وحمل كلام الخرقي عليه، لنصه عليه في اللحم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الرطب بالتمر، مشيرا للتعليل بالنقص، وهذا موجود في الرطبين، لأنهما ينقصان، يحققه أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا.
1864 - بدليل «نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر» ، رواه مسلم، وهنا يجهل التساوي في(3/446)
ثاني الحال، وذهب جمهور الأصحاب - القاضي، وأبو الخطاب، والشيخان وغيرهم، وهو مقتضى مفهوم كلام الخرقي السابق، ونص عليه أحمد في الرطب بالرطب - إلى الجواز، لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، والرطبان إذا بيعا مثلا بمثل قد استويا في المثلية، فدخلا في عموم المستثنى، ولأنهما استويا في الحال، على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص، فأشبها اللبن باللبن، وخرج بيع الرطب بالتمر، لانفراد أحدهما بالنقص واشتراط عدم الجهل بالتساوي [في ثاني الحال] لا نسلمه، بل المشترط عدمه في الحال، فكان مناط المسألة - والله أعلم - التساوي، هل يشترط في الحال ولا يضر الجهل به في ثاني الحال، أو يشترط حالا ومآلا؟ على قولين، إلا أنه استثنى على الثاني بيع رطب لا يجيء منه تمر، وعنب لا يجيء منه زبيب، فإنه يجوز بيعه بمثله قبل جفافه، نظرا إلى أن كمال ذلك في حال رطوبته، وفساده في حال جفافه، قاله في التلخيص.
(تنبيه) : اشترط القاضي والأكثرون في بيع اللحم بمثله نزع العظم، لتتحقق المساواة المعتبرة شرعا، وكالعسل(3/447)
بالعسل، لا يباع إلا بعد التصفية، ومال أبو محمد إلى عدم اشتراط ذلك، وذكر أنه ظاهر كلام الإمام، وعلله بأن العظم تابع من أصل الخلقة، فأشبه النوى في التمر، وخرج الشمع في العسل، لأنه من فعل النحل.
[بيع اللحم بالحيوان]
قال: ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان.
ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه، كبيع لحم بقر ببقر، ونحو ذلك.
1865 - لما روي عن سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللحم بالحيوان» ، رواه مالك في الموطأ، وأبو داود في المراسيل.
1866 - وعنه أيضا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحي بالميت» . احتج به أحمد، ورواه أبو داود في المراسيل أيضا، وناهيك بمراسيل سعيد، مع أن الأول قد أسند من حديث ثابت(3/448)
بن زهير، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن ثابتا منكر الحديث، قاله أبو حاتم الرازي.
1867 - وقال أبو الزناد: كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان. ولأنه مال ربوي، بيع بما فيه من جنسه، مع جهالة المقدار، أشبه السمسم بالشيرج، والزيتون بالزيت [ونحو ذلك] .
واختلف في بيع اللحم بحيوان من غير جنسه، كلحم بقر بإبل، وظاهر كلام أحمد والخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي في تعليقه، وجامعه الصغير، وأبي الخطاب في خلافه الصغير، وغيرهم، أنه لا يجوز، نظرا لإطلاق ما تقدم.(3/449)
1868 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن جزورا نحرت، فجاء رجل بعناق، فقال أعطوني جزءا بهذا العناق. فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصلح هذا. رواه الشافعي، وقال: لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك.
واختار القاضي - فيما حكاه عنه أبو محمد - الجواز، لأنه مال ربوي بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز، كما لو باعه بذهب أو فضة، وبعض المتأخرين بنى القولين على الخلاف في اللحم، هل هو جنس من أجناس؟ وصرح أبو الخطاب في الانتصار بأنهما على القول بأنه أجناس، وهو الصواب، ولهذا اختلف في بيع اللحم بحيوان لا يؤكل، كعبد وحمار ونحوهما، قال أبو الخطاب: ولا رواية في ذلك، فيحتمل وجهين. والجواز صرح به في خلافه الصغير، وكذا شيخه في التعليق، وابن الزاغوني، وهو ظاهر كلام أبي جعفر، وشيخه في الجامع الصغير، والمنع أورده ابن عقيل في(3/450)
التذكرة مذهبا، وهو احتمال له في الفصول، والصحيح عنده فيه كقول الأكثرين، ولم يطلع أبو محمد على المسألة صريحا، فقال: ظاهر كلام الأصحاب الجواز. والله أعلم.
قال: وإذا اشترى ذهبا بورق عينا بعين، فوجد أحدهما فيما اشترى عيبا فله الخيار بين أن يرد أو يقبل، ويأخذ قدر ما نقص بالعيب، إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه.
ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان الربا، شرع يتكلم في الصرف، ومعنى العين بالعين أن يقول: بعتك هذه الدراهم بهذه الدنانير، ونحو ذلك، فإذا وقع العقد كذلك، فوجد أحدهما بما اشتراه عيبا فله حالتان، (إحداهما) أن يكون من غير جنس المعقود عليه، كالرصاص في الفضة،(3/451)
ونحو ذلك، فهنا يبطل العقد على المذهب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، (الثانية) أن يكون العيب من جنس المعقود عليه، كالسواد في الفضة، ونحو ذلك، وهذا الذي ذكره الخرقي هنا، ولا بد من بنائه على أصل، وهو أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا؟ فإن قلنا: لا تتعين، فحكم ذلك حكم التصارف في الذمة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإن قلنا: تتعين - وهو المذهب، وعليه بنى الخرقي كلامه - فلواجد العيب - والحال ما تقدم - الخيار بين الرد والإمساك بلا خلاف نعلمه، كغير الذهب والفضة من المبيعات، فإن اختار الرد بطل العقد، ولم يكن له أخذ البدل، كما لو كان المبيع عرضا، لأن البيع تعلق بعينه، فيفوت بفواته، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا نزاع نعلمه أيضا، وله مع ذلك أخذ ما نقص المبيع بالعيب في الجملة، وعلى المذهب المجزوم به عند الشيخين، وصاحب التلخيص، والسامري، وهو جار(3/452)
على قاعدة المذهب في سائر المبيعات، من جواز أخذ الأرش مع القدرة على الرد.
وظاهر ما أورده أبو الخطاب في الهداية مذهبا - وأحد نسخ الخرقي - أنه لا يجوز أخذ الأرش مطلقا، لأن ذلك زيادة على ما وقع عليه العقد، وهذا قد يتوجه من جهة الدليل، وهو قياس الرواية الضعيفة في سائر المبيعات، لأنه لا أرش مع القدرة على الرد، فعلى الأول لا يجوز أخذ الأرش في الجنس الواحد مطلقا، كفضة بفضة، حذارا من فوات المماثلة المشترطة.
وعن القاضي أنه خرج وجها بالجواز في المجلس، نظرا إلى أن الزيادة طرأت بعد العقد، وأبو الخطاب في الهداية يخرج قولا بجواز أخذ الأرش، ويطلق، ويدخل في كلامه الجنس والجنسان، وفي المجلس وبعده، وابن عقيل يحكي ذلك رواية في صورة تلف أحد العوضين، ووجهه جعل الإمام الصنعة مقومة مع الجنس، كذلك الصفة، وهذا ليس بشيء لأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - – وإن جعل الصنعة مقومة - فإنه لا يجوز أخذ عوضها مع اتحاد الجنس بلا ريب، بل يمنع على هذا القول من بيع الصحاح بالمكسرة ونحو ذلك، وأما قول القاضي فقد رده أبو محمد بأن الأرش من العوض، بدليل أنه يخبر به في المرابحة، ويأخذ به الشفيع، وقوله: إن(3/453)
الأرش من العوض. ليس بجيد، كما سيأتي، مع أن هذا القول لا وجه له، لأن الأرش في المعيب عوض عن جزء من مقابله، وهو الصحيح، إذ الثمن يتقسم على المثمن، فالعيب لم يقابله شيء فيرجع بقسطه، فلو جاز أخذ الأرش في الجنس الواحد لكان صاحب الدينار الصحيح دفع دينارا [إلا جزءا - وهو الأرش الذي أخذه في مقابلة العيب - وأخذ دينارا] معيبا، وإنه عين الربا، انتهى.
ويجوز في الجنسين مطلقا، أعني قبل المجلس وبعده، على ظاهر إطلاق الخرقي، وصاحب التلخيص، وأبي البركات، والسامري، وهو الصواب، الذي لا ينبغي على المذهب غيره، لما تقدم من أن الأرش عوض عن الجزء الفائت من الثمن، فالدافع لأرش دينار ظهر معيبا بيع بعشرة دراهم، إنما يدفعه عوضا عن جزء من العشرة [دراهم] تبينا عدم استحقاقه، وإذا فالعوضان في الصرف قد قبضا بكمالهما، ومع أحدهما زيادة تبينا عدم استحقاقه لها.
وفصل أبو محمد فقال: إن كانا في المجلس جاز أخذ الأرش، إذ قصاراه تأخر قبض بعض عوض الصرف عن بعض، وإنه جائز ما داما في المجلس، وإن تفرقا لم يجز،(3/454)
حذارا من التفرق قبل قبض بعض الصرف، إلا أن يجعلا أرش الفضة مثلا ثوبا، نحو ذلك فيجوز، لعدم اشتراط القبض لذلك، وهذا منه يقتضي أن الأرش عوض عن الجزء الفائت من المعيب، [فكأنه من جملة العوض، وهذا ليس بشيء على المذهب، وإنما هو بدل ما قابل الجزء الفائت من المبيع بالعيب] [ويدل على ذلك قطعا نسبة الأرش إلى الثمن، ولو كان عوض الجزء الفائت من المبيع المعيب] لكان المأخوذ ما نقص بالعيب فقط، من غير نسبة إلى ثمن ولا غيره، نعم أظن أن هذا اختيار أبي العباس ثم يلزم أبا محمد أن يقول: بالتفرق بطل العقد، أو بطل في قدر ما يقابل العيب، لحصول(3/455)
التفرق قبل كمال الصرف، ويلزمه أيضا أن لا يجوز أخذ أرش عيب الفضة ذهبا، ولا أرش عيب الذهب فضة، حذارا من مسألة مد عجوة، وهو لم يشترط ذلك، بل هذا الإلزام وارد في سائر المبيعات، فإنا إذا أخذنا أرش ثوب بيع بعشرة دراهم درهما مثلا، كان على مقتضى قوله قد بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض، مع أحدهما من غير جنسهما، فكان ينبغي أن لا يجوز ذلك، والظاهر أن الإجماع على خلافه.
إذا تحققت هذا فشرط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للتخيير المتقدم أن يكون المردود بصرف يومه أي يوم الصرف، فلو نقصت قيمته عن يوم الصرف - كأن كان الدينار بعشرة، فصار بتسعة - زال التخيير - وتعين الأرش، كذا فهم عنه ابن عقيل، وأبو محمد، وهو ظاهر كلام أحمد على ما قال أبو محمد، وقطع به السامري، حذارا من أن يرد المبيع مع تعيبه في يده، والصحيح عند أبي محمد أن التخيير بحاله، بناء على أن(3/456)
تغير السعر ليس بعيب، بدليل عدم ضمانه في الغصب، ثم لو سلم أنه عيب فظاهر المذهب - وهو الذي قاله الخرقي كما سيأتي إن شاء الله تعالى - أن تعيب المبيع عند المشتري لا يمنع الرد، انتهى. هذا شرح أبي محمد أو نحوه، بناء على أحد نسخ الخرقي، ولفظها: فله الخيار بين أن يرد أو يقبل إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، وليس فيها ذكر الأرش، إلا أنه جعل الشرط راجعا للرد، ويلزم على قوله أن في الكلام تقديما وتأخيرا، التقدير: له الخيار بين أن يرد إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، أو يقبل، والظاهر جعل الشرط راجعا للتخيير كما تقدم، حذارا من تقديم وتأخير الأصل عدمه، انتهى. ثم على هذه النسخة قد عطف على اشتراط كون المردود بصرف يومه، كون العيب من جنس المعقود عليه، فثبوت الخيار مشروط بشرطين، كون المردود على صرف يومه، وكون عيبه من(3/457)
جنسه، فلو كان عيبه من غير جنسه زال التخيير، وأما الحكم فيأتي، وهو أن الصرف يكون فاسدا.
وفي بعض النسخ - وعليها شرح ابن الزاغوني -: فله الخيار بين أن يرد، أو يأخذ قدر ما نقص بالعيب، وهذه واضحة، وفي أخرى: له الخيار بين أن يرد أو يقبل، إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، أو يأخذ أرش ما نقص بالعيب، وعلى هذه النسخة يكون في الكلام أيضا تقديم وتأخير، أي له الخيار بين أن يرد بشرط كذا وكذا، وبين أن يقبل ويأخذ الأرش، ويكون «أو» بمعنى الواو.
وأما على النسخة التي كتبناها فالظاهر رجوع الشرط إلى الأرش، أي: له الخيار بين أن يرد أو يقبل ويأخذ الأرش،(3/458)
بشرط كونه على حساب يوم اصطرفا [لا على أزيد منه، كما إذا كان الدينار يوم اصطرفا] بعشرة، فصار باثني عشر، ولا على أنقص، كما إذا صار بثمانية، وما ذاك إلا أن الثمن ينقسم على المثمن يوم العقد، فالفائت بالعيب فات على حساب يوم العقد، وهذا فرع من مسألة تقويم المبيع المعيب، وقد صرحوا بأنه يقوم يوم العقد، إلا ما كان من ضمان البائع فتقويمه يوم القبض، وعلى هذا يسلم من الاعتراض السابق، ومن دعوى تقديم وتأخير الأصل عدمه، بقي أنه عطف على ذلك كون العيب من جنس المعقود [عليه] ، فلو كان من غير الجنس لم يتصور أخذ الأرض كما سيأتي.
فإن قيل: ظاهر هذا أن العيب إذا كان من غير الجنس امتنع الأرش، وله القبول، قيل: إذا حصل التصريح بخلاف(3/459)
ذلك فلا عبرة بالظاهر، انتهى.
وقول الخرقي: فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا. يشمل العيب في الجميع وفي البعض، وهو كذلك، إلا أنه إذا اختار إمساك الصحيح ورد العيب فهل له ذلك؟ على قولي تفريق الصفقة، والله أعلم.
قال: وإذا تبايعا ذلك بغير عينه، فوجد أحدهما [فيما اشتراه] عيبا فله البدل، إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، كالوضوح في الذهب، والسواد في الفضة.(3/460)
ش: هذا هو المعبر عنه بالصرف في الذمة، ومثاله: بعتك دينارا مغربيا، بعشرة دراهم ناصرية، ونحو ذلك، وهو جائز عندنا، لظاهر قوله «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» فمقتضاه جواز ما عدا ذلك، بشرط القبض في المجلس، بدليل الرواية الأخرى يدا بيد ونحو ذلك، إذا ثبت هذا فتصارفا في الذمة، ثم وجد أحدهما بما قبضه عيبا ليس من غير جنس المعقود عليه، بل من جنسه كما مثل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلا يخلو إما أن يجد ذلك قبل التفرق أو بعده، فإن وجده قبل التفرق فله المطالبة بالبدل الذي وقع عليه العقد وهو صحيح لا عيب فيه، وله الإمساك، إذ قصاراه الرضى بدون حقه، وله أخذ الأرش في الجنسين، لا في الجنس على المذهب فيهما، وإن وجده بعد التفرق واختار الرد فهل يبطل(3/461)
العقد برده، وهو اختيار أبي بكر، لوجود التفرق قبل القبض، لأن البدل إنما يأخذه عوضا عما وقع عليه العقد، أو لا يبطل وله البدل في مجلس الرد، فإن تفرقا قبله بطل العقد، وهو اختيار الخرقي والخلال، والقاضي وأصحابه، وغيرهم، لأن القبض وقع صحيحا، وإلا لبطل العقد بالتفرقة مطلقا، وبدله يقوم مقامه؟ فيه روايتان، وحكى عنه ثالثة: أن البيع قد لزم، وهي بعيدة، لأنه يلزم منها إلزام العاقد بما لم يلتزمه.
فعلى الأولى إن وجد البعض رديئا فرده بطل فيه، وفي البقية قولا تفريق الصفقة.
وعلى الثانية: له بدل المردود في مجلس الرد. انتهى، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا ريب، لكن إن طلب مع ذلك(3/462)
الأرش فقال أبو محمد - بناء على ما تقدم -: له ذلك على الثانية لا الأولى، وأما على المحقق - وقد تقدم - فله ذلك في الجنسين على الروايتين، إذ الذي يأخذه عوض عن جزء فات من الثمن، ولا يجوز في الجنس الواحد مطلقا حذارا مما تقدم، والله أعلم.
قال: فأما إن كان عيب ذلك دخيلا عليه من غير جنسه، كان الصرف فيه فاسدا.
ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان العيب إذا كان من الجنس شرع في بيانه إذا كان من غير الجنس، ثم إنه فصل(3/463)
بين ما إذا تصارفا عينا بعين وبين ما إذا تصارفا في الذمة، وهنا أطلق فشمل كلامه المسألتين، ثم كلامه أيضا شامل لما قبل التفرق وبعده، وعلى ذلك جرى السامري مصرحا به، وزاعما أن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليه، وذكره الخرقي، والظاهر أن مستنده من كلام أحمد إطلاق، كما هو في كلام الخرقي، وكذلك تبعه أبو العباس، حتى أنه وهم جده في قوله: وعنه أنها لا تتعين فتبدل مع الغصب والعيب بكل حال، لشمول كلامه للعيب من الجنس ومن غيره، وفي توهيمه بهذا الإطلاق نظر، لأنه قد تقدم له قبل ذلك بأسطر أن المتصارفين إذا تفرقا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا من غير الجنس بطل الصرف، فيحمل كلامه هنا على غير الصرف، توفيقا بين كلاميه.
وإذا عرف هذا فلا بد من التعرض للتفصيل، وبيان محل الوفاق من محل الخلاف، فنقول: إذا تصارفا مثلا ذهبا بفضة عينا بعين ثم وجدا أو أحدهما عيبا من غير جنس المعقود عليه - مثل أن ظهرت الدراهم أو بعضها رصاصا، أو الدنانير نحاسا، ونحو ذلك - فلا يخلو إما أن نقول: إن النقود تتعين بالتعيين، أم لا، فإن قلنا، لا تتعين. فكما لو تصارفا في(3/464)
الذمة على ما سيأتي، وإن قلنا: تتعين - وهو المذهب كما تقدم - فإنا نتبين فساد الصرف على المعروف المجزوم به لعامة الأصحاب، لأن البدل متعذر، لتعلق البيع بالعين، وكذلك الرضى بالموجود، لأنه غير ما وقع عليه العقد، فهو كما لو قال: بعتك هذه البغلة. فإذا هي حمار، ونحو ذلك، وقيل عنه: يلزم العقد والحال هذه، تغليبا للإشارة، ولا معول عليه، فعلى المذهب إن ظهر البعض معيبا بطل فيه، وهل يبطل في غيره؟ قولا تفريق الصفقة، وإن تصارفا في الذمة ثم وجدا أو أحدهما العيب السابق، فإن كان قبل التفرق رد وأخذ بدله، والصرف صحيح، وفاقا لابن عقيل، والشيرازي وصاحب التلخيص، وأبي محمد، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، إذ المقبوض تبين أنه غير الذي وقع عليه العقد، وظاهر إطلاق(3/465)
الخرقي - وهو الذي قاله السامري وأبو العباس - فساده كما بعد التفرق.
وإن كان بعد التفرق - وعليه عندي يحمل كلام الخرقي، نظرا للغالب فإنا نتبين فساد الصرف على المذهب المحقق، لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه فيما شرط له القبض، ولا قبض ما يصلح أن يكون عوضا عنه، وبهذا خرج إذا كان العيب من الجنس، لصلاحية المقبوض للعوضية عن ذلك، ولا أرش قبل التفرق ولا بعده لما قلناه من أن المقبوض لا يصلح(3/466)
أن يكون عوضا، وأجرى أبو محمد في الكافي وصاحب التلخيص فيه هنا - والحال هذه - الروايتين اللتين فيما إذا كان العيب من الجنس، إحداهما أن العقد يبطل برده، والثانية لا يبطل، وبدله في مجلس الرد يقوم مقامه، فمجرد وجود العيب من غير الجنس عندهما بعد التفرق لا يبطل قولا واحدا، عكس المذهب، وليس بشيء، فعلى ما اختاره أبو محمد وغيره إن وجد العيب في البعض فقبل التفرق يبدل، وبعده يبطل فيه، وفي غير المعيب قولا تفريق الصفقة.
واعلم أن كلام الأصحاب في هذه المسألة فيه اضطراب كثير، وقد تقدم أن أبا العباس وهم جده فيها، مع أن في توهيمه ما فيه، وناهيك بهما، وقد بالغت في تحريره على غاية الضعف وبالله المستعان.
وقول الخرقي: وجد. أي ظهر، فيخرج منه ما إذا علم حال العقد، والحكم فيه أن العيب إن كان من الجنس فالعقد لازم ولا كلام.(3/467)
نعم إن كان الصرف في جنس، والعيب في البعض، فقد يبطله من يمنع بيع النوعين بنوع منه، وإن كان العيب من غير الجنس والصرف في جنسين انبنى على إنفاق [المغشوشة] ، وفيه روايتان، المختار منهما الجواز، وأبو محمد يحمل رواية الجواز على ما ظهر غشه، واصطلح عليه ورواية المنع على ما خفي غشه، ويقع في اللبس، ونحو ذلك قال ابن عقيل في الفصول.
وإن كان الصرف في جنسين، فإن كان العيب في أحد العوضين، ويخل بالمماثلة، ولا قيمة له، لم يجز، لإفضائه إلى عدم التماثل المشترط شرعا، وإن كان له قيمة خرج على مسألة مد عجوة، وإن كان العيب في العوضين وتساوى العيبان فقولان، أظهرهما عند أبي محمد الجواز، وقطع ابن عقيل في الفصول، والسامري بالمنع.
ثم اعلم أنا قد ذكرنا أصلا بنينا عليه ما تقدم، وهو: أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا؟ فنشير إلى بيان ذلك فنقول: المذهب المنصوص في رواية الجماعة، والمعمول عليه عند الأصحاب كافة، أن النقود تتعين بالتعيين كالعروض بالاتفاق، لأن ذلك عوض مشار إليه في العقد، فوجب أن يتعين(3/468)
كالعروض، ولأن ما تعين في الغصب والوديعة تعين بالعقد كالعروض، ومعنى تعين ذلك في الغصب أنه لو طولب بذلك لزمه تسليمه بعينه، ولا يجوز العدول عنه.
1869 - ومما استدل به على ذلك أيضا حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين» .
ولو كان الذهب والفضة في الذمة لم يكن عينا بعين، وإنما يكون عينا بعين إذا ملكت عين كل واحد منهما، وفيه نظر، إذ يلزم منه أن لا يباع الذهب بمثله إلا عينا بعين، وقد حكي الإجماع على خلافه، والذي يظهر أن المراد من الحديث والله أعلم حضور الطرفين المصطرف عليهما، كما يحكى عن مالك أو تعيينهما بإقباضهما، وحضورهما في المجلس،(3/469)
وكونهما حالين، كما يقوله أصحابنا وغيرهم، بدليل أن في رواية أخرى في هذا الحديث يدا بيد بدل عينا بعين وكذا في رواية أخرى يدا بيد وفي وراية أخرى «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وقول القاضي وأبي الخطاب وغيرهما: إن رواية عبادة «يدا بيد، عينا بعين» وإن يدا بيد أن لا يكون نسيئة «وعينا بعين» تعينهما بالتعيين، لم أرهما مجموعين في روايته، ولا في رواية غيره، مع أنه معترض بما تقدم، انتهى.
ونقل أبو داود عن أحمد - وسأله عن عبد دفع إلى رجل مالا، وأمره أن يشتريه فاشتراه به فأعتقه - قال: يرد الدراهم على المولى، ويؤخذ المشتري بالثمن، والعبد حر. فظاهر هذا أنه لم يحكم بتعيينه، وإلا لبطل العقد، ولم تقع الحرية، وتأول القاضي ذلك في تعليقه على أن قوله: اشتراه به. أي نقده في ثمنه، واشترى في ذمته، توفيقا بين نصوصه، وأبى ذلك أبو الخطاب والجمهور، نظرا للظاهر، ووجه ذلك أنه لا غرض في أعيان الدراهم والدنانير، وإنما الغرض في مقدارها، فإذا عينت كان تعيينها كالمكيال والميزان، وكما لو استأجر أرضا ليزرعها حنطة، فإن الحنطة لا تتعين، بل له أن يزرع ما(3/470)
هو مثلها ضررا، ولأن الفراء قال في قوله سبحانه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] الآية: الثمن ما يثبت في الذمة. فجعل من صفة الثمن ثبوته في الذمة، ومن قال بالتعيين لم يجعلها تثبت في الذمة، وهي ثمن قطعا، ونقض الأول بالغصوب والعواري، فإنها لا تبدل وإن كان المعنى واحدا، وبما إذا باع قفيزا معينا من صبرة، لم يكن للبائع إبداله بمثله من تلك الصبرة، وإن لم يتعلق به غرض، على أنا نمنع أن التعيين لا غرض فيه، إذ قد يكون فيه غرض، وهو اعتقاد حلها ونحو ذلك، وقول الفراء لا يقبل في الأحكام، وإنما يقبل في ما طريقه اللغة، والتعيين وعدمه حكم شرعي.
وفائدة الخلاف - على ما قال أبو الخطاب في الانتصار - أن على المذهب لا يجوز للمشتري إبدالها، وإذا خرجت مستحقة بطل العقد، وإذا وجد البائع بها عيبا كان له الفسخ، وإذا تلفت قبل القبض تلفت من مال البائع، بناء على المذهب من أن المتعين، لا يفتقر إلى قبض.
وعلى المرجوح للمشتري إبدالها، ولا يبطل العقد بكونها مستحقة، ولا يفسخ البائع بالعيب فيها، ويجب إبدالها، وإذا تلفت كانت من مال المشتري، ما لم يقبض البائع.(3/471)
(تنبيه) : في نسخة من التلخيص بخط الموفق المصري فيما أظن: الثمن إن عين تعين بالتعيين، في البيع وغيره من عقود المعاوضات، في أصح الروايتين، وينفسخ العقد بتلفه قبل القبض في كل معاوضة محضة، كالإجارة، والصلح بمعنى البيع، وإن لم يتمحض لم ينفسخ بتلفه كالمهر، وهذا سبق قلم منه أو من الناسخ، لأنه إذا تعين تلف من مال البائع كما تقدم، واستقر الملك فيه، أما إن لم يتعين فيتلف من مال المشتري، وينفسخ العقد فيه، والله أعلم.
قال: ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما.
ش: الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض كما تقدم، والقبض في المجلس شرط لصحة العقد، نص عليه القاضي، وابن عقيل، والشيخان، وغير واحد، مع أن ابن المنذر قد حكاه إجماعا، فقال: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد، وقد شهد لذلك النصوص السابقة «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» وغير ذلك، والمجلس هنا مجلس الخيار في البيع، فلا يضر طوله مع تلازمهما، فلو مشيا ولو يوما ونحوه إلى منزل أحدهما مصطحبين صح، وقبض الوكيل يقوم مقام قبض موكله، بشرط قبضه قبل مفارقة موكله المجلس، فإن(3/472)
فارق الموكل المجلس فسد الصرف، وإن قبض الوكيل في المجلس، وموت أحد المتصارفين قبل القبض يفسد الصرف، لعدم تمام العقد، فإن قبض البعض دون البعض فلا بيع بينهما فيما لم يقبض، وفيما قبض قولا تفريق الصفقة.
واعلم أن عبارة الخرقي هنا أجود من عبارة من قال: بطل الصرف. فإنه يوهم وجود عقد ثم بطلانه، وليس كذلك، إذ هنا القبض بمنزلة القبول، لا يتم العقد إلا به، والله سبحانه أعلم.
[بيع العرايا]
قال: والعرايا التي رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها هو أن يوهب للإنسان من النخل ما ليس فيه خمسة أوسق، فيبيعها بخرصها تمرا، لمن يأكلها رطبا.
1870 - ش: الرخصة التي رخصها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي ما قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص [لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر، وفي رواية: رخص] في العرية، يأخذها أهل البيت بخرصها يأكلونها رطبا» .
1871 - وعن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم» .(3/473)
1872 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوهما، متفق عليهن.
إذا عرف هذا فقد اختلف في العرية لغة، فقيل: إنها نوع من العطية، خصت باسم كالنحلة، لا بيع، قال الجوهري: العرية النخلة يعريها رجلا محتاجا، فيجعل تمرها(3/474)
له عاما، فعيلة، بمعنى مفعولة وأنشد لسويد بن الصامت:
وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
وقال غيره: إنه من عراه يعروه، إذا أتاه يطلب منه عرية، فأعراه أي أعطاه إياها، كما يقال: سألني فأسألته. وهو نحو الأول، وعن أبي عبيد: العرية اسم لكل ما أفرد عن جملة، سواء كان للهبة، أو للبيع، أو للأكل. ونحو(3/475)
ذلك قال أبو بكر وغيره من أصحابنا، قال بعضهم: سميت بذلك هنا لأنها معرية من البيع المحرم، أي مخرجة منه.
واختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في العرية التي وقع الترخيص فيها شرعا، على نحو اختلاف أهل اللغة، فظاهر كلام الخرقي وتبعه صاحب التلخيص - تخصيصها بالهبة، وهو ظاهر كلام أحمد، قال أيضا في رواية سندي، وابن القاسم: العرية أن يهب الرجل للجار أو ابن العم النخلة والنخلتين، ما لا تجب فيه الزكاة، فللموهوب له أن يبيعها بخرصها تمرا للمرفق.
ومختار القاضي وجمهور الأصحاب عدم اختصاصها بالهبة، بل هي عندهم [في الجملة] شراء الرطب على رؤوس النخل، سواء كان ذلك موهوبا أو غير موهوب.
1873 - وقد روي «عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يتبايعون به رطبا، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم، يأكلونه رطبا» ، وهذا بظاهره - إن صح - يدل لما قاله الجمهور.(3/476)
1874 - ويرشحه ما في الصحيح من حديث سهل «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في بيع العرية أن تباع بخرصها تمرا، يأكلها أهلها رطبا» ، وقد يقال: إنه لا دليل في كليهما، إذ فيهما أنه رخص في بيع] العرايا، وليس في الحديث بيان العرايا ما هي.
1875 - ومما استدل به أيضا لقول القاضي ومن وافقه تفسير يحيى بن سعيد، أحد رواة الحديث، فإنه قال: العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات، لطعام أهله رطبا، بخرصها تمرا.
1876 - وعورض بتفسير ابن إسحاق، فإنه فسرها بالهبة، كذا نقل عنه أبو داود، مع أن كليهما غير صحابي، فلا حجة في(3/477)
تفسيرهما.
وبالجملة يشترط لجوازها على كلا القولين شروط (أحدها) كونه رطبا على رؤوس النخل، لما تقدم، أما الرطب على وجه الأرض فلا يجوز بتمر، لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر، خرج منه ما تقدم بحكم الأخذ شيئا فشيئا، لحاجة التفكه كما دلت عليه قصة محمود بن لبيد، وهذا المعنى مفقود في الرطب المجذوذ، فيبقى فيه على المنع.
(الثاني) : كونها فيما دون خمسة أوسق.
1877 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في العرايا بخرصها، فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق» . متفق عليه، شك داود بن الحصين، أحد الرواة، وهذا يخص ما تقدم من حديث زيد، ورافع(3/478)
وسهل، وغيرهم، ويقضي عليها، فلا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق، على المذهب المعروف، المجزوم به، وبعض الأصحاب يقول: رواية واحدة، وأغرب ابن الزاغوني في(3/479)
وجيزه فلم يشترط الأوسق أصلا فيما إذا كان المشتري هو الواهب، بأن شق عليه دخول الموهوب له وخروجه في بستانه، أو كره الموهوب له دخول بستان غيره، ولا نظير لهذا.
أما على المذهب ففي الخمسة (روايتان) المختار منهما عند الأصحاب المنع، لأن النهي عن المزابنة مطلق، خرج منه ما دون الخمسة بيقين، ووقع الشك في الخمسة بيقين، فيبقى على مقتضى الأصل من المنع، (والثانية) الجواز، نظرا إلى عموم أحاديث الرخصة، خرج منها ما زاد على الخمسة بيقين، فما عداه يبقى على مقتضى الترخيص.
(الثالث) : كون ذلك بخرصه لا جزافا، لما تقدم من الأحاديث، وأيضا فالشارع أقام الخرص للحاجة مقام الكيل، فلا يجوز العدول عنه، كما لا يعدل عن الكيل فيما يشترط فيه الكيل، ثم هل الخرص على ما يؤول إليه عند الجفاف، وهو اختيار القاضي، وأبي محمد، وصاحب التلخيص، ارتكابا لأخف المفسدتين - وهو الجهل بالتساوي - دون أعظمهما - وهو العلم بالتفاضل - أو(3/480)
على ما هو عليه إذا نظرا للتساوي في الحال، ولعله ظاهر الأحاديث وقيل: إنه المنصوص هنا؟ على روايتين.
(الرابع) : كون البيع بتمر، فلا يجوز بيعها بخرصها رطبا، لما تقدم من حديثي زيد وسهل، نعم لا إشكال في جواز البيع بنقد أو بعرض، لانتفاء المزابنة رأسا، ويشترط في التمر المشترى به (أن يكون) كيلا لا جزافا.
1878 - لأن في البخاري عن ابن عمر عن زيد مرفوعا: «ورخص في العرايا [أن تباع بخرصها كيلا» ، ولأن الأصل كما تقدم اعتبار الكيل من الجانبين، سقط في أحدهما، وأقيم الخرص مقامه للحاجة، ففي الآخر يبقى على مقتضى الأصل، (وأن يكون) التمر مثل ما حصل به الخرص، لا أزيد ولا أنقص.
1879 - لأن في الترمذي في حديث زيد: «أذن لأهل العرايا] أن يبيعوها بمثل خرصها» .(3/481)
(السادس) اشتراط الحلول والقبض من الطرفين في مجلس العقد، نص عليه، لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبر فيه جميع شروطه، عدا ما استثناه الشارع، وقبض كل منهما بحسبه، ففي النخلة بالتخلية، وفي التمر باكتياله، فإن سلم أحدهما ثم مشى الآخر فسلم جاز. (السابع) اعتبار الحاجة،(3/482)
لما تقدم من قصة محمود بن لبيد، وذكر الرخصة يؤذن بذلك. ثم الحاجة [تارة] تكون للمشتري، بأن يحتاج إلى أكل الرطب، ولا ثمن معه إلا التمر، وهذا الذي في قصة محمود بن لبيد، وهو الذي قاله الخرقي، (وتارة) تكون للبائع، بأن يحتاج إلى أكل [التمر] ، ولا ثمن معه إلا الرطب، وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي وطائفة من الأصحاب، ونص عليها أبو بكر، وأبو البركات، وغيرهما، وجوازها بطريق التنبيه، لأنه إذا جاز مخالفة الأصل لحاجة التفكه فلحاجة الاقتيات أولى، وهذا يعتمد أصلا، وهو جواز القياس على الرخصة، وعليه المعول، إن فهمت(3/483)
[العلة] كمسألتنا، وعن ابن عقيل أنه جعل من صور الحاجة - إذا كانت موهوبة - أن يشق على الواهب دخول الموهوب له بستانه وخروجه، أو يكره الموهوب دخول بستان غيره، فيجوز إذا البيع، انتهى.
ويكتفى بالحاجة المتقدمة من جهة البائع أو المشتري على المشهور، والمختار لأبي محمد وغيره، وظاهر ما في التلخيص أنه يشترط مع حاجة المشتري المتقدمة أن يشق على الموهوب له القيام عليها، وحكى أبو محمد عن القاضي، وأبي بكر اشتراط [الحاجة من جانبي البائع والمشتري، والذي في (التنبيه) : العرية أن يكون للرجل النخلة والنخلتان حملهما دون خمسة أوسق، وهو محتاج إلى التمر] ، أو يكون إنسان يحتاج إلى الرطب ولا يمكنه شراؤه إلا بالتمر، فيتبايعان الرطب بالتمر، وهذا صريح في الاكتفاء بالحاجة من أحد الجانبين، [نعم اشتراط الحاجة من الجانبين] هو المقدم عند ابن عقيل.(3/484)
(تنبيهات) : «أحدها» يتفرع على اشتراط الحاجة من الجانبين أنه لو باع رجل عريتين [من رجلين] ، فيهما أكثر من خمسة أوسق لم يجز، أما من اكتفى بالحاجة من أحد الجانبين فإنه ألغى جانب البائع، ولم يعتبر إلا المشتري، فيجوز للبائع أن يبيع مائة وسق في عقود متعددة، بالشروط السابقة، ولا يجوز للمشتري أن يشتري أكثر من خمسة أوسق، ولو في صفقتين.
(الثاني) (هل تختص) الرخصة بعرية النخل، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار ابن حامد، وابن عقيل، وأبي(3/485)
محمد، اقتصارا على مورد النص، إذ غيرها لا يساويها في الحاجة، لجمعها بين المصلحتين، التفكه والاقتيات.
1880 - ثم في الترمذي في حديث رافع وسهل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة التمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه» .
(أو لا تختص) ، فتجوز في سائر الثمار وهو قول القاضي، إلحاقا لذلك بعرية النخل، بجامع الحاجة، أو يلحق العنب فقط، وهو احتمال لأبي محمد، لقوة شبهه بالرطب في الاقتيات والتفكه على ثلاثة أقوال، وخرج أبو العباس على ذلك بيع الخبز باليابس في برية الحجاز ونحوها، وكذلك بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة، نظرا للحاجة.
1881 - (الثالث) المزابنة فسرها أبو سعيد الخدري، ورافع، وسهل، ببيع الثمر بالتمر وفي حديث سهل في الصحيح:(3/486)
«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: ذلك الربا، تلك المزابنة» .
1882 - وفسرها ابن عمر بأن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله. متفق عليه، زاد مسلم: «وعن كل تمر بخرصه» .
(والمزابنة) : مفاعلة، مأخوذة من «الزبن» بفتح الزاي، وإسكان الموحدة، والزبن في اللغة الدفع الشديد، ومنه وصفت الحرب بالزبون، [لشدة الدفع فيها، وسمي الشرطي زبنيا، لأنه يدفع الناس بعنف وشدة، ومن ذلك أيضا]- والله أعلم - (الزبانية) ولما كان كل واحد من المتبايعين في هذه المبايعة يدفع الآخر عن حقه سميت بذلك، «والخرص» بكسر الخاء اسم للمخروص، وبفتحها المصدر، والرواية بالكسر، قاله القرطبي، وقال النووي: «بخرصها» بفتح الخاء وكسرها، الفتح أشهر، فمن فتح قال مصدر، ومن كسر قال اسم للشيء المخروص، وعلى هذا يترجح بل يتعين ما قاله القرطبي «ونهى عن بيع الثمر بالتمر» الأول بثلاث نقط، والثاني باثنتين، والمراد بذلك - والله أعلم - بيع الرطب بالتمر، «والرجبية» من النخل منسوبة إلى رجب،(3/487)
جمع رجبة، كركبة وركب، قاله في الصحاح، وقال القزاز في جامعه: ومعنى البيت: ليست هذه النخلة كريمة علينا، ولكن نعريها الزائر والضيف، والترجيب التعظيم، وإن فلانا لمرجب، أي معظم، والله أعلم.
قال: فإن تركها حتى تتمر بطل البيع.
ش: الضمير في «تركها» يرجع للمشتري، وهذا هو المذهب من الروايتين، إذ بتأخره علمنا عدم الشرط، وهو عدم الحاجة إلى أكل الرطب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يأكلها أهلها رطبا أي حالها أن يأكلها أهلها رطبا، فإذا لم يأكلها أهلها رطبا انتفت صفتها التي هي حكمة الرخصة، ولا فرق بين الترك لعذر أو غيره، سدا للذريعة (والثانية) لا يبطل، لاستكمال الشروط حال العقد، وعن أحمد فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم تركها، إن قصد ذلك حال العقد بطل، وإلا لم يبطل، فيخرج هنا كذلك، والقول بالبطلان كما دل عليه كلام الخرقي فيما إذا كانت الحاجة في الرطب للمشتري، أما إن كانت للبائع(3/488)
في التمر فترك المشتري لها حتى تتمر وعدمه سيان، والله أعلم.
[باب بيع الأصول والثمار]
ش: «الأصول» جمع أصل، كفلس وفلوس والمراد هنا الأشجار «والثمار» جمع ثمر، كجبل وجبال، وواحدة الثمر ثمرة، وجمع الثمار ثمر، ككتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار كعنق وأعناق، والله أعلم.
قال: ومن باع نخلا مؤبرا - وهو ما قد تشقق طلعه - فالثمرة للبائع متروكة في رؤوس النخل إلى الجذاذ، إلا أن يشترطها المبتاع.
ش: من باع نخلا مؤبرا فإن ثمرته تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع.(3/489)
1883 - على نص حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» متفق عليه وتكون للبائع متروكة في النخل إلى الجذاذ، ولا يلزمه قطعها في الحال، إذ النقل والتفريغ جار على العرف، كما لو باع دارا له فيها قماش ونحو ذلك، فلا يلزم بالنقل ليلا، ولا جمع دواب البلد لذلك، بل إنما ينقله على المعتاد، والمعتاد في الثمرة أخذها عند جذاذها، والمرجع في ذلك إلى العادة، فإن كان نخلا فحين تتناهى حلاوة ثمره، إلا أن تجري العادة بأخذه بسرا، أو يكون بسره خيرا من رطبه، فإنه يجذه حين استحكام حلاوة بسره، وإن كان فاكهة فأخذه حين [يتناهى] إدراكه، ويجذ مثله، وإن قيل: إن بقاءه خير له، فلو أصابت الثمرة آفة، بحيث لم يبق في بقائها فائدة، فهل يجب تفريغ الأشجار منها في الحال، لعدم الفائدة في بقائها إذا؟ فيه احتمالان، ولو خيف على الأصول ضرر كثير - كالجفاف ونحوه - فهل يجبر أيضا رب الثمرة على القطع حفظا للأصول، أو لا، لأن رب الأصول دخل على ذلك؟ فيه وجهان أيضا، وإن احتاجت الثمرة مدة بقائها على الأصول إلى سقي لم يلزم المشتري، لأن البائع لم يملكها من جهته، لكنه لا يملك منع البائع منه إن احتاجت إليه الثمرة،(3/490)
وإن أضر بالأصل، لاقتضاء العقد البقاء، وكذلك إن احتاجت الأصول إلى سقي، لم يملك صاحب الثمرة منع ربها، وإن أضر بثمرته كذلك أيضا.
ومفهوم كلام الخرقي أن الثمرة إذا لم تؤبر فهي للمشتري بإطلاق العقد، وهو مفهوم الحديث أيضا.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما حكم على النخل إذا أبر جميعه، أما إذا أبر بعضه فلم يتعرض له، والحكم أن النخلة الواحدة، ما لم يؤبر منها يتبع ما أبر، فيكون الجميع للبائع، بلا خلاف نعلمه، وكذلك الحكم في النوع عند ابن حامد، حذارا من سوء المشاركة، واختلاف الأيدي، والمنصوص أن لكل حكم نفسه نظرا لظاهر الحديث، فعلى الأول هل الجنس كالنوع، فيتبع النوع الذي لم يؤبر النوع الذي أبر جميعه وبعضه، ويكون الجميع للبائع إذا بيع جميع الجنس، أم لكل حكمه؟ فيه قولان، أشهرهما الثاني، أما الحائطان فلا يتبع أحدهما الآخر، ولهذه المسألة التفات إلى مسألة بدو الصلاح في البعض، ويأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى بما هو أتم من هذا.(3/491)
(تنبيه) : أصل التأبير التلقيح، وهو وضع الذكر في الأنثى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فسره بالتشقق، لأن الحكم عنده منوط به، وإن لم يلقح، لصيرورته في حكم عين أخرى، وعلى هذا فإنما أنيط الحكم - والله أعلم - في الحديث بالتأبير لملازمته للتشقق غالبا، وهذا الذي قاله الخرقي هو أشهر الروايتين، وقد بالغ أبو محمد فقال: إنه لا اختلاف فيه بين العلماء.
(والثانية) : لا بد من التلقيح بعد التشقق وإلا يكون للمشتري، عملا بظاهر الحديث، وتمسكا بالمقتضى اللغوي، والله أعلم.
قال: وكذلك بيع الشجر إذا كان فيه ثمر باد.
ش: أي ظاهر كالتين ونحوه، والحكم في ذلك كالحكم فيما تقدم أنه إن ظهر فهو للبائع، لأنه قد صار كعين أخرى إلا أن يشترطه المبتاع، وإن لم يظهر فهو للمشتري، قياسا على ما تقدم، لمساواته له في المعنى، والأصحاب قد قسموا الشجر على أضرب ليس هذا موضع بيانها، والله أعلم.(3/492)
قال: وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ولم يبد صلاحها على الترك لم يجز، وإن اشتراها على القطع جاز.
ش: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بدون أصلها له ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن تباع بشرط التبقية، فلا يصح إجماعا.
1884 - لما رواه عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع، وفي رواية قال: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه» .
1885 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر حتى تزهو، قلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: حتى تحمر وتصفر» .
قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه» وفي رواية: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لم يثمرها الله فبم تستحل مال أخيك» متفق عليه.(3/493)
1886 - وروي نحو ذلك من حديث جابر، وأبي هريرة، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
(والثاني) : أن يشتريها بشرط القطع في الحال، فيجوز في قول العامة، لأمن المفسدة التي علل بها صاحب الشريعة، وهو منع الله الثمرة، واستحلال مال أخيه بغير شيء، وهنا الأخذ في الحال، فالاستحلال بما أخذ في الحال.
(الثالث) : اشتراها وأطلق، وهذا لم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للحكم عليه بنفي ولا إثبات، وفيه قولان للعلماء، هما روايتان عن إمامنا، أشهرهما - وبه جزم الشيخان والأكثرون - لا يصح، لأن الإطلاق يقتضي النقل على ما جرت به العادة، والعادة في الثمرة كما تقدم قطعها إذا بدا صلاحها، فصار كأنه مشروط عدم القطع.
(والثانية) : يصح إن قصد القطع، ويلزم به في الحال، نص عليها في رواية عبد الله، حملا على عرف الشرع والحال(3/494)
هذه، وتصحيحا لكلام المكلف ما أمكن، والشيرازي يحكي رواية بالصحة من غير اشتراط قصد القطع، وما حكاه السامري عن ابن عقيل في التذكرة - أنه ذكر في هذه المسألة أربع روايات - ليس بجيد، إنما حكى ذلك - على ما اقتضاه لفظه - فيما إذا شرط القطع ثم ترك، انتهى، أما بيعها مع أصلها فيجوز إجماعا، لأنها إذا تتبع الأصل، فأشبهت الحمل مع أمه، وأس الحيط، وأيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع» .
وإن بيعت لمالك الأصل - كما إذا باع أصولها بعد أن أبرت، ولم يشترطها المشتري، ثم باعها له، وكذلك لو وصى بنخل مؤبر ثم باع الورثة الثمرة للموصى له - فوجهان (أحدهما) : يصح، وهو اختيار السامري، وصاحب التلخيص فيه، لأنه اجتمع الأصل والثمرة للمشتري، فأشبه ما لو اشتراهما معا (والثاني) : - وهو(3/495)
ظاهر كلام الخرقي - لا يصح، لعموم الحديث، ولأنه لا متبوع ولا تابع، وعلى هذا لو شرط القطع صح، قال أبو محمد: ولا يلزم الوفاء بالشرط، لأن الأصل له، ومقتضى هذا أن اشتراط القطع حق للآدمي، وفيه نظر، بل هو حق لله تعالى كما سيأتي.
(تنبيهان) : (أحدهما) : الزرع قبل اشتداده كالثمرة قبل بدو صلاحها، يجري فيها ما تقدم.
1887 - ولمسلم وأبي داود، والترمذي، في رواية في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» .
1888 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» ، رواه أبو داود والترمذي.
(الثاني) : «الزهو» قد فسره أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،(3/496)
وفيه لغتان: زهى يزهو، وأزهى يزهي، حكاهما أبو زيد، قال الأصمعي: لا يقال النخل يزهو. وإنما يقال: يزهي، قال الخطابي: هكذا روي الحديث. يعني «يزهو» ، والصواب في العربية «تزهي» قال ابن الأثير: وهذا القول منه ليس عند كل أحد، فإن اللغتين قد جاءتا عند بعضهم، وبعضهم لا يعرف في النخل إلا «أزهى» ، انتهى وابن الأعرابي فسر «زهى يزهو» بمعنى: ظهر. «وأزهى يزهي» إذا احمر أو اصفر، «والحب» الطعام، واشتداد الحب قوته وصلابته، والله أعلم.
قال: فإن تركها حتى يبدو صلاحها بطل البيع.
ش: هذا هو المذهب المنصوص، والمختار من الروايات للأصحاب الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وغيرهم، لعموم نهيه عن بيع الثمرة حتى تزهو، خرج منه صورة اشتراط القطع، وفعله عقب العقد بما هو كالإجماع فيبقى فيما عداه على مقتضى النهي، ولأنه أخر قبضا مستحقا لله تعالى، فأبطل العقد، كتأخير [قبض] رأس مال السلم والصرف.(3/497)
والمعتمد في المسألة سد الذرائع، فإنه قد يتخذ اشتراط القطع حيلة، ليسلم له العقد، وقصده الترك، والذرائع معتبرة عندنا في الأصول وقد عاقب الله سبحانه وتعالى أصحاب السبت بما عاقبهم به، لما نصبوا الشباك يوم الجمعة، حيلة على الصيد بها يوم السبت، وعاقب أصحاب الجنة بما عاقبهم، لما قصدوا حرمان الفقراء، والتحيل على إسقاط حق الله سبحانه، ونهى سبحانه عن سب الآلهة التي تدعى من دون الله، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب الله جل وعلا، بقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
1889 - وامتنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قتل المنافقين، حذارا من أن يقال: إن محمدا يقتل أصحابه.(3/498)
1890 - ومنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سائق الهدي أن يأكل منه هو أو أحد من رفقته إذا عطب دون محله، حذارا من أن يقصر في علفه ويفرط فيه.
1891 - ومنع القاتل من الإرث، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى تعجيل الميراث.
1892 - وأمر عمر بقتل الجماعة بالواحد، سدا للذريعة أيضا، وأدلة هذا الأصل كثيرة، وقد عمل إمامنا على ذلك في كثير من المسائل. (والرواية الثانية) لا يبطل البيع، نظرا إلى أن المبيع بحاله، وغاية الأمر أنه انضاف إليه غيره، وذلك لا يقتضي البطلان، بدليل ما لو اشترى حنطة فاختلطت بأخرى ولم تتميز، (والثالثة) : نقلها أبو طالب - إن قصد الحيلة فسد البيع، لمقارنة النهي للعقد إذا، وإن لم يقصد(3/499)
الحيلة لم يفسد، لخلو العقد عن النهي ظاهرا وباطنا، وقد اختلف الأصحاب في هذه الرواية والتي قبلها، فأثبتها ابن عقيل وغيره، وتأول الثالثة شيخه فقال: معناها ما إذا لم يقصد الحيلة وهو أسهل، يعني أنه لا يأثم، وإن قصد الحيلة أثم، قال: وإلا فهما يتفقان في حكم الصحة والبطلان، إذ ما يبطل العقد لا فرق فيه بين القصد وعدمه، قال: فمحصول المذهب فيه روايتان، وأبو محمد تأول الثانية على ما إذا لم يقصد الحيلة، ومع القصد يبطل البيع عنده رواية واحدة، ومحل الخلاف عنده مع عدم القصد، وطريقته أخص الطرق، كما أن أعم الطرق طريقة ابن عقيل. (وحيث قيل) بالفساد فإن المبيع بزيادته للبائع، نص عليه أحمد، ويرد الثمن، لأنه قد تبين عدم الشرط المصحح للعقد، فبطل من أصله. (وحيث قيل) بالصحة فهل يشترك البائع والمشتري في الزيادة، لحدوثها عن ملكيهما، أو يتصدقان بها استحسانا للاختلاف؟ فيه روايتان منصوصتان، وحمل القاضي في(3/500)
روايتيه وفي تعليقه كلا النصين على الاستحباب، وجعل الزيادة للمشتري، هذا هو التحقيق في النقل، وفاقا لنصوص الإمام وللقاضي في التعليق، وأبي البركات، وحكى ابن الزاغوني وأبو محمد وغيرهما رواية أن البائع يتصدق بالزيادة على القول بالبطلان، وكأنهم تبعوا القاضي في روايتيه، فإنه زعم أن حنبلا روى ذلك عن الإمام، وفيه نظر، فإنه صرح في التعليق بأن حنبلا وابن سعيد اتفقا على الصحة، إلا أن ابن سعيد [قال] : يشتركان، وحنبلا قال: يتصدقان، وفي الكافي رواية بالشركة على القول بالبطلان أيضا، وكأنه أخذها من قول ابن أبي موسى: وقيل عنه. ويتلخص من ذلك أن على القول بالبطلان ثلاثة أقوال، كما ذلك على القول بالصحة.
ومعنى التصدق بالزيادة أو الاشتراك فيها أن ينظر كم قيمتها وقت العقد، وكم قيمتها بعد الزيادة، فما بينهما محل التردد،(3/501)
فإذا قيل - مثلا - قيمتها وقت العقد مائة، ثم صارت قيمتها بعد الزيادة مائتين، فالصدقة أو الشركة له بالمال الزائد.
ثم من المباشر للصدقة فيها؟ قد تقدم أن على رواية البطلان يتصدق بها البائع، أما على رواية الصحة فظاهر نص الإمام كما سيأتي أنهما يتصدقان بها، وقال ابن الزاغوني: لا تدخل في ملك واحد منهما، ويتصدق بها المشتري.
(تنبيه) : ترجم الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المسألة إذا ترك حتى بدا الصلاح، وكذا القاضي وجماعة، وكذا وقعت نصوص أحمد الذي حكم فيها بالبطلان، أما نصاه اللذان حكم فيهما بالصحة، فقال فيهما: إذا كبرت وزادت، قال في رواية ابن سعيد: لا يشتري الرطبة إلا جزة، فإن تركها حتى تطول وتكبر كان البائع شريكا للمبتاع في الثمن، إلا أن يكون يسيرا، قدر يوم أو يومين، وكذلك النخل، ومن ثم استثن ابن عقيل من كون البائع يشارك المشتري الزمن اليسير، تبعا لنص الإمام انتهى، وقال في(3/502)
رواية حنبل: إذا باعه زرعا على أن يجزه، أو نخلا على أن يصرمه، فتركه حتى زاد، فالزيادة لا يستحقها واحد منهما، ويتصدقان بها، فقد يقال بتقرير نصوصه، فالبطلان إذا بدا الصلاح، والصحة إذا لم يبد، والله أعلم.
قال: وإن اشتراها بعد أن يبدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز.
ش: الأصل في ذلك ما تقدم من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن بيعها حتى تزهو، ونحو ذلك.
1893 - وعن عمرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة» ، رواه مالك في الموطأ.
ودلالة هذه الأحاديث من أوجه (أحدهما) : أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيا النهي بغاية، فبوجودها يزول النهي، ويبقى على أصل الإذن في جواز البيع (الثاني) أن ما بعد الغاية والحال هذه يعطى(3/503)
عكس حكم ما قبلها، وإلا فذكر الغاية إذا وعدمها سيان، وما قبلها لا يجوز إلا بشرط القطع، فما بعدها يجوز وإن شرط الترك، (الثالث) : أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل المنع بعلة، وهي الخوف من تلفها، ووقوع العاهة بها، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وإذا بدا الصلاح زالت العلة غالبا، فيزول المنع انتهى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على ما إذا اشتراها بشرط القطع، ليصرح بمخالفة الخصم، ويفهم منه بطريق التنبيه صورة الوفاق، وهي ما إذا أطلق.
(تنبيهان) : «أحدهما» بدو الصلاح في شجرة صلاح لجميعها، بلا خلاف أعلمه بين الأصحاب، وكثير منهم يقول: رواية واحدة، واختلف في صلاح بعض النوع، هل يكون صلاحا [لسائر ذلك النوع الذي في القراح؟ فيه روايتان، أشهرهما عن الإمام: لا يكون صلاحا له كما لا يكون صلاحا] لقراح آخر، وهذا اختيار أبي بكر في الشافي، وابن شاقلا في تعاليقه، واستدل له ابن شاقلا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حتى يبدو صلاحه» وقال: وهو يقتضي الكل(3/504)
بدلالة قَوْله تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] فإنه يقتضي الكل لا البعض (والثانية) : - وهي اختيار الأكثرين، ابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي وأصحابه وغيرهم - يكون صلاحا كما في النخلة الواحدة [إذ سوء المشاركة والاختلاط موجود في النوع، كما في النخلة الواحدة] ، وخرج بذلك قراح آخر، واختلف القائلون بهذه الرواية في النوع - كالبرني مثلا - هل يكون صلاحا لسائر الجنس الذي في القراح؟ فقال القاضي، وابن عقيل، وأبو محمد والأكثرون: لا يكون صلاحا، وقال أبو الخطاب: يكون صلاحا، وهو ظاهر النص الآتي.
ولا نزاع أن المذهب أن صلاح الجنس لا يكون صلاحا لجنس آخر، وكذلك صلاح نوع من بستان، لا يكون صلاحا لنوع آخر من بستان آخر، وعنه أن بدو الصلاح في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه.(3/505)
(الثاني) نص أحمد في الرواية الأولى: إذا احمر بعضه وبعضه أخضر، يباع الذي بلغ، وهذا يشمل النخلة والنخلات، لكن القاضي قال: يجب أن يحمل هذا على أنه لا يكون صلاحا لنخلة أخرى، أما النخلة فيكون صلاحا لها رواية واحدة، ونصه في الثانية، في بستان بعضه بالغ، وبعضه غير بالغ: بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ، فمن القائلين بالرواية الثانية، من قصر الحكم على الغلبة، كالقاضي في تعليقه، وأبي حكيم النهرواني، وأبي البركات، تبعا لهذا النص، ومنهم من سوى بين القليل والكثير، كابن أبي موسى مصرحا به، وأبي الخطاب وغير واحد، تبعا - والله أعلم - للنص المحكي أخيرا، ويتلخص في المسألة ثلاث روايات، (الثالثة) الفرق بين الغلبة وغيرها، ثم كلا النصين اللذين حكم فيهما الإمام بالصلاح يشملان النوع، والجنسين، كما يقوله أبو الخطاب، عكس المشهور.
واعلم أن معنى: ما لم يبد صلاحه في حكم ما بدا صلاحه، في جواز بيعه مع ما بدا صلاحه تبعا له، فلو أفرد بالبيع فوجهان، وحكاهما القاضي في المجرد، فيما لم يؤبر من النوع، إذا أفرد بالبيع أن ثمرته تكون للبائع، إن قيل: إن ما لم يؤبر تبع لما أبر، وخالفه ابن عقيل فقال: إن الثمرة(3/506)
- والحال هذه - تكون للمشتري قولا واحدا، والله أعلم.
قال: فإن كانت ثمرة نخل فبدو صلاحها أن تظهر فيها الحمرة أو الصفرة، وإن كانت ثمرة كرم فصلاحها أن تتموه، وصلاح ما سوى النخل والكرم أن يبدو فيه النضج.
ش: لما أناط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز البيع ببدو الصلاح فسره وبينه، بأنه ظهور الحمرة أو الصفرة في ثمرة النخل، وذلك لما تقدم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حتى تحمر وتصفر.
1894 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع الثمرة حتى تشقح، قيل: وما تشقح؟ قال: حتى تحمار وتصفار ويؤكل منها» .
1895 - وسأل سعيد بن فيروز ابن عباس عن بيع النخل، فقال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل، وحتى يوزن، قال فقلت: وما يوزن؟ فقال رجل عنده:(3/507)
حتى يحزر» . متفق عليهما، وصلاح ثمرة الكرم أن تتموه، أي يجري فيها الماء الحلو وتلين، وكذلك ما سوى ثمرة النخيل والكرم، صلاحه أن يبدو فيه النضج لصلاحيته، وكذلك الذي قبله للأكل، وإذا يدخل في معنى الأحاديث السابقة، وعلى هذا أيضا ينبغي أن يحمل كلام الخرقي في ثمرة النخل، أنه لا بد مع احمرارها واصفرارها من صلاحيتها للأكل، وفاقا لحديث جابر وابن عباس، وكذلك جعل أبو البركات الضابط في جميع الثمار أن يطيب أكلها، ويظهر فيها النضج، وأبو محمد جعل ما يتغير لونه عند صلاحه، كالأجاص، والعنب الأسود، صلاحه تغير لونه كثمرة النخل، والضابط الذي ذكره أبو البركات أجود.
(تنبيهان) : «أحدهما» اختلف الأصحاب فيما يؤكل صغارا وكبارا، كالقثاء والخيار، ونحوهما، فقال القاضي وابن عقيل: صلاحه تناهي عظمه، وقال أبو محمد: أكله(3/508)
عادة. وتوسط صاحب التلخيص فقال: صلاحه التقاطه عرفا، وإن طاب أكله قبل ذلك.
(الثاني) «تشقح» بضم التاء وإسكان الشين، وتخفيف القاف، مضارع «أشقح» وقد فسره جابر، و «تحزر» بتقديم الزاي على الراء، أي تخرص، وفي بعض الأصول بتقديم الراء، قيل: إنه تصحيف، والله أعلم.
قال: ولا يجوز بيع القثاء والخيار، والباذنجان، وما أشبهها إلا لقطة لقطة.
ش: لا يجوز بيع الخيار، والباذنجان، وما أشبه ذلك - كالقثاء والبطيخ - إلا لقطة لقطة، لأن الزائد على ذلك غير معلوم، فلم يجز بيعه، لعدم العلم به.
واعلم أن هذه الأشياء عند جمهور الأصحاب أصولها كالشجر النابت، وثمرتها كثمرته، فتباع أصولها مطلقا، وثمرتها قبل بدو صلاحها [معها] ، أو لمالكها على وجه، أو بشرط القطع، أو مطلقا بشرطه على رواية، وبعد بدو الصلاح يباع الموجود منها واختار صاحب التلخيص المنع(3/509)
من بيع ثمارها قبل بدو صلاحها إلا بشرط القطع، وإن بيعت مع أصولها، لتعرضها للآفة مع الأصول إلا إن بيعت مع الأرض، أو لمالكها، وقياس قوله أن أصولها لا تباع صغرة إلا إذا أمنت العاهة، إلا أن تباع مع الأرض أو لمالكها، أو بشرط القطع، والله أعلم.
قال: وكذلك الرطبة كل جزة.
ش: حكم الرطبة وما ثبت أصوله في الأرض ويؤخذ دفعة بعد دفعة - كالنعنع، والهندباء، ونحو ذلك - حكم الخيار، والباذنجان، لا يباع إلا الموجود منه جزة جزة، بشرط القطع في الحال، إذ ما لم يظهر معدوم، والموجود متى ترك ولم يقطع اختلط بغيره، وإذا يفضي إلى مشاجرة ونزاع، وذلك مما لا يرضاه الشارع.
(تنبيه) : حكم بيع الخيار ونحوه، والرطبة ونحوها - إذا بيع بشرط القطع، ثم ترك حتى طالت الجزة، أو حدثت ثمرة أخرى ولم يتميزا - حكم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، إذا بيعت بشرط القطع، ثم تركت حتى بدا صلاحها على ما تقدم، قال غير واحد: ونص أحمد وقع في رواية ابن(3/510)
سعيد في الرطبة إذا تركها حتى طالت بالصحة، وأظن أن ذلك وقع لابن عقيل أيضا.
أما إن اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها، فحدثت ثمرة أخرى للبائع، فإن تميزتا فلا كلام، وإن لم تتميزا اشتركا بقدر ما لكل منهما، فإن لم يعلم القدر وقف الأمر حتى يصطلحا، هذا رأي ابن عقيل، وأبي محمد وهو الصواب، بخلاف الثمرة قبل بدو صلاحها ونحوها، لارتكاب النهي ثم، وسدا للذريعة، لئلا يتخذ ذلك حيلة لما هو ممنوع منه شرعا، وأجرى أبو الخطاب في ذلك الروايتين اللتين في الثمرة قبل بدو صلاحها، وقال القاضي: إن كانت الثمرة للبائع، فحدثت أخرى، قيل لكل منهما: اسمح بنصيبك. فإن فعل أجبر الآخر على القبول، وإن امتنعا فسخ العقد، وإن اشترى ثمرة فحدثت أخرى لم يقل للمشتري اسمح، إذ الثمرة كل المبيع، ويقال للبائع ذلك، فإن سمح أجبر المشتري على القبول، وإلا فسخ العقد، قال ابن عقيل: ولعل هذا القول لبعض أصحابنا، فإني لم أجده معزيا إلى أحمد، والله أعلم.(3/511)
قال: والحصاد على المشتري.
ش: الحصاد قطع الزرع، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كأنه استعمله في جميع ما تقدم، لأن الجميع قطع، وإنما كان ذلك على المشتري لأنه لتفريغ ملكه عن ملك البائع، وأنه عليه كنقل الطعام ونحوه، وفارق الكيل والوزن والذرع والعدد، فإنهن من تمام التسليم، وذلك على البائع، والتسليم هنا حصل بالتخلية، والله أعلم.
قال: فإن شرطه على البائع بطل البيع.
ش: اختلف الأصحاب أولا في جواز هذا الشرط، فذهب جماعة منهم - كأبي بكر، وابن حامد، والقاضي وجماعة من أصحابه وغيرهم - إلى جوازه، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن البيع لا يبطله شرط واحد، ولأن قصاراه أنه بيع وإجارة، وإنهما جائزان منفردين، فجازا مجتمعين، وذهب الخرقي إلى منعه، وهو الذي أورده ابن أبي موسى مذهبا، لأنه اشترط العمل في المبيع قبل ملكه، أشبه ما(3/512)
لو استأجره ليخيط له ثوب زيد إذا ملكه، وأجيب بأن في مسألتنا حصلت الإجارة والملك معا، ومثل ذلك لا يمنع، على المنصوص في جواز رهن المبيع على الثمن، بخلاف ما تقدم، وعلى هذا القول هل يبطل البيع لبطلان الشرط؟ فيه روايتان حكاهما ابن أبي موسى.(3/513)
والخرقي قطع بالبطلان، فيحتمل أن مذهبه بطلان البيع بالشرط الفاسد، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وابن عقيل، ويحتمل أن يخص البطلان هذا الشرط، وهو المرجح عند أبي محمد.
(تنبيه) : خرج أبو الخطاب وجماعة من أتباعه من قول الخرقي عدم صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع مطلقا، وأبو البركات وصاحب التلخيص ذكرا ذلك رواية، فيحتمل أن مستندهما ذلك، ويحتمل أنهما اطلعا على نص، وتردد أبو محمد في التخريج، والأرجح عنده عدمه، وقصر كلام الخرقي على هذه المسألة وشبهها مما يفضي إلى التنازع، فإن البائع يريد القطع من أسفل، ليبقى له بقية، والمشتري يريد الاستقصاء ليزيد له ما يأخذه، وإنما ترجح ذلك عنده لما تقدم من إفضاء ذلك إلى التنازع، وليوافق المذهب [في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع، إذ القاضي قد قال: إنه لم يجد بما قال الخرقي رواية في المذهب] لأن الخرقي قال بعد: والبيع لا يبطله شرط واحد.(3/514)
وجميع ذلك معترض، أما الإفضاء إلى التنازع فممنوع، إذ القطع على ما جرت به العادة، كما لو لم يشترطه عليه، وأما موافقة المذهب فإن المذهب أيضا عند الأكثرين صحة هذا الشرط، والقاضي إنما كلامه فيه، وأما قول الخرقي فلا بد من تخصيصه بهذا الشرط، أو بشرط منفعة البائع في المبيع.
وبالجملة يتلخص في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع ثلاثة أقوال، (الصحة) مطلقا، وهو المختار للأكثرين، والمنصوص عن الإمام.
1896 - محتجا بأن محمد بن مسلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من نبطي جزرة حطب، وشارطه على حملها، (والمنع) مطلقا، (والمنع) في جز الرطبة وما في معناها، والصحة فيما عدا ذلك، ثم محل الخلاف إذا كانت المنفعة معلومة، أما إن جهلت لهما أو لأحدهما فإنه لا يصح اشتراطها بلا نزاع نعلمه، والله أعلم.(3/515)
[الاستثناء في البيع]
قال: وإذا باع حائطا واستثنى منه صاعا لم يجز، فإن استثنى نخلة أو شجرة بعينها جاز.
ش: لا نزاع فيما نعلمه في جواز الثنيا كانت معلومة، ولم تعد على المستثني بجهالة، كما إذا باع حائطا واستثنى منه نخلة بعينها أو نخلات كذلك، ونحو ذلك.
1897 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المحاقلة والمزابنة، والثنيا إلا أن تعلم» ، رواه النسائي، والترمذي وصححه، وهذه الثنيا معلومة، فصحت بمقتضى الحديث، ولأن مثال ذلك إذا كان في الحائط مائة نخلة مثلا، واستثنى نخلة منه فقال: بعتك تسعا وتسعين.(3/516)
ولا إشكال أيضا في منع الثنيا إذا كانت مجهولة، كما لو قال - والحال ما تقدم -: إلا نخلة، أو إلا جزءا من الثمرة، ونحو ذلك، للحديث أيضا، ولأن جهالة المستثنى تفضي إلى جهالة المستثنى منه، ومن شرط المبيع كونه معلوما.
1898 - بدليل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر، ونحو ذلك.
واختلف فيما إذا باع حائطا واستثنى منه صاعا، أو صبرة لا يعلمان قفزانها واستثنى منها قفيزا، ونحو ذلك، أو باع حائطا واستثنى ثلث ثمرته أو ربعها، أو صبرة واستثنى سبعها أو ثمنها ونحو ذلك، على ثلاثة روايات، (إحداهما) : الصحة في الجميع، اعتمادا على الحديث، إذ الثنيا والحال هذه(3/517)
معلومة، وقد قيل: إنه إجماع أهل المدينة، (والثانية) : - وهي اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى - عدم الصحة في الجميع، لأن الثنيا والحال هذه تفضي إلى جهالة المبيع، وبيانه أن المبيع والحالة هذه إنما علم بالمشاهدة، وبعد إخراج المستثنى تختل المشاهدة، وإذا يدعى تخصيص الحديث لذلك (والثالثة) : يصح في: إلا ثلثها، إلا سبعها، ونحو ذلك، إذ معناه، بعتك ثلثيها، بعتك ستة أسباعها، وهو معلوم، ولا يصح في: إلا صاعا، إلا قفيزا، ونحو ذلك، لما تقدم من أن المصحح للبيع - والحال هذه - الرؤية، وبإخراج الصاع ونحوه تختل، وهذه الرواية اختيار القاضي وجماعة من أصحابه، وأبي محمد وغيرهم.
واختلف الأصحاب فيما إذا باع نخلة واستثنى منها صاعا ونحو ذلك، فأجرى أبو محمد فيه الخلاف، وقطع القاضي في شرحه، وفي جامعه الصغير بالصحة، معللا بأن الجهالة هنا يسيرة فتغتفر، بخلاف ثم، وكذا وقع نص أحمد في رواية حنبل بالصحة، وتردد القاضي في التعليق(3/518)
فيه، هل يجري على ظاهره، لما تقدم من قلة الجهالة، أو يحمل على الرواية التي قال فيها ثم بالصحة.
واختلفوا أيضا فيما إذا قال: بعتك هذا الحيوان إلا ثلثه، أو إلا ربعه، ونحو ذلك، فأجازه أبو محمد، وابن عقيل، كما لو قال في الصبرة: إلا ثلثها، ومنع ذلك القاضي في المجرد، قال: على قياس قول الإمام في الشحم، ورد بأن الشحم مجهول، ولا جهالة هنا، وحمل ابن عقيل كلام شيخه على أنه استثنى ربع لحم الشاة، لا ربعها مشاعا، ثم اختار الصحة في ذلك أيضا، والله أعلم.
[وضع الجوائح]
قال: وإذا اشترى الثمرة دون الأصل فلحقتها جائحة من السماء رجع بها إلى البائع.
ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه في وضع الجوائح في الجملة.
1899 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ من مال أخيك بغير حق؟» وفي رواية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وللنسائي في رواية أخرى «من باع ثمرا فأصابته(3/519)
جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا، علام يأكل أحدكم مال أخيه المسلم» ولأن الثمار على رؤوس الأشجار تجري مجرى الإجارة، لأنها تؤخذ شيئا فشيئا كالمنافع، ثم المنافع إذا تلفت قبل مضي المدة كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمار، لا يقال: المنافع قبل مضي المدة غير مقبوضة، بخلاف الثمار فإنها مقبوضة، لأنا نقول: كلاهما في حكم المقبوض من وجه، ولهذا جاز التصرف في كل منهما على المذهب، ثم لا نسلم أن الثمرة مقبوضة القبض التام، بدليل أنها لو تلفت بعطش كانت من ضمان البائع، فلا ترد صحة التصرف فيها، فإنا نمنعه على رواية اختارها أبو بكر، فيما حكاه عنه ابن شاقلا.
1900 - وقال: إنه قول زيد بن ثابت، وإن سلمناه فالإجارة، يجوز التصرف فيها، وإذا تلفت كانت من ضمان المؤجر.(3/520)
1901 - وقد اعترض على هذا بالحديث الصحيح «أن رجلا أصيب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصدقوا عليه» ، قال: فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» ولو كان الضمان على البائع لكانت المصيبة عليه، وأجيب بأن هذا واقعة عين، فيحتمل أنه أصيب بعد حرزها وقبضها القبض التام.
1902 - واعترض أيضا بحديث عمرة بنت عبد الرحمن، قالت: «ابتاع رجل ثمرة حائط في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعالجه وقام فيه، حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع له أو يقيله، فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت ذلك له، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تألى فلان أن لا يفعل خيرا» رواه أحمد ومالك في الموطأ(3/521)
وظاهره أن الوضع غير واجب على البائع، وإلا لطلب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البائع، وأمره بذلك، وأنكر عليه حلفه، وامتناعه من الواجب، وقد أجيب بأن الجائحة هنا يحتمل أن تكون بفعل آدمي والضمان عليه، ويحتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه ينزجر بقوله، ويخرج من الحق، فلم يحتج إلى طلبه.
1903 - ويشهد لذلك ما في المسند أن الرجل بلغه، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن شئت الثمن كله، وإن شئت ما وضعوا، فوضع عنهم ما وضعوا.
1904 - وفي الموطأ فسمع بذلك رب الحائط، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، هو له ويحتمل أنه كان قبل الأمر بوضع الجوائح، على أنه ليس في الحديث أن الثمرة أصابتها جائحة، مع أن الحديث مرسل، ثم يضعفه اختلاف ألفاظه، وما في المغني من أن المرأة قالت: فأذهبتها الجائحة، وأنه متفق عليه [الظاهر] أنه وهم.(3/522)
واعترض أيضا بالأحاديث الصحيحة من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمرة حتى تزهو، وقوله: «أرأيت إن لم يثمرها الله بم تستحل مال أخيك؟» ولو كان الضمان على البائع لما استحل مال أخيه، وهذا أقوى ما اعترض به.
وقد أجاب عنه القاضي بأن معناه: بم تستحل جواز الأخذ، فهو إنكار على البائع في أخذ الثمن، نظيره قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] ولا يخفى أن ظاهر اللفظ خلاف هذا.
والذي يظهر لي عدم القول بوضع الجوائح، وأن ذلك كان أولا، حين كانوا يتبايعون الثمار قبل بدو الصلاح.
1905 - بدليل ما قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان الناس في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبايعون الثمار، فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام، عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كثرت عنده الخصومة -: «إما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر» كالمشورة يشير بها، لكثرة خصومتهم، رواه البخاري، وأبو داود، وزاد: «يتبايعون(3/523)
الثمار قبل بدو صلاحها» ، وهذا بين في أنهم كانوا يتبايعون الثمار [قبل بدو صلاحها، وأن الجوائح ما كانت توضع، وإلا لم يكن في الخصومة فائدة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع ذلك، بأن منع البيع] قبل بدو الصلاح.
ولا تفريع على هذا، أما على المذهب، فهل توضع الجوائح مطلقا، عملا بعموم الحديث، وهو اختيار جمهور الأصحاب، إلا القدر اليسير الذي لا بد من تلفه غالبا، قال أحمد: لا أقول في عشر تمرات، ولا عشرين تمرة، وما أدري ما الثلث؟ أو لا يوضع إلا أن أتلفت الثلث فصاعدا، وهو اختيار الخلال، لأن اليسير مغتفر إذ لا بد من تلف ما غالبا، وما دون الثلث يسير.(3/524)
1906 - بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثلث، والثلث كثير» ؟ على روايتين، وقيدهما ابن عقيل وصاحب التلخيص بما بعد التخلية، وظاهره أن قبل التخلية الكل على البائع، ثم على الثانية: عل يعتبر الثلث بالقدر أو بالقيمة؟ فيه قولان. ومعنى وضع الجوائح أن الثمرة إذا تلفت أو بعضها قبل الجذاذ كان ذلك من ضمان البائع على المذهب، فيرجع المشتري عليه بالثمن أو ببعضه حسب التالف. وعلى الرواية الأخرى إن أتلفت دون الثلث فمن ضمان المشتري، وإن أتلفت الثلث فصاعدا فمن ضمان البائع، وإن تعيبت الثمرة ولم تتلف خير المشتري بين الإمضاء والأرش، وبين الرد وأخذ الثمن كاملا.(3/525)
ثم الجائحة التي هذا حكمها ما لم يكن بفعل آدمي، كالريح، والمطر، والجراد، والبرد، ونحو ذلك، أما ما كان بفعل آدمي كالحاصلة من قطاع الطريق، ونهب الجيوش، ونحو ذلك، فإن المشتري مخير بين فسخ العقد، ومطالبة البائع بالثمن، وبين إمضائه ومطالبة المتلف بالبدل، قاله القاضي وغير واحد، واختار أبو الخطاب في الانتصار أن الضمان - والحال هذه - يستقر على المشتري، فيلزم العقد في حقه، ثم يرجع هو على المتلف، وفي التلخيص وغيره أن في إحراق اللصوص، ونهب الحرامية والجيوش وجهان، يعني هل هو من الجائحة أم لا؟ وكأن مرادهم خلاف أبي الخطاب وشيخه، انتهى.
وقول الخرقي: اشترى الثمرة. الألف واللام للعهد، أي: الجائز بيعها، وذلك بعد بدو صلاحها مطلقا، وقبله بشرط القطع، (وقوله) : دون الأصل، يخرج به ما إذا اشتراها(3/526)
مع الأصل، فإن ضمانها يستقر عليه، لحصولها تابعة لما ضمانه عليه، وهو الأرض. (وقوله) : ولحقتها جائحة من السماء. يخرج به الجائحة من آدمي، وكذا قال أبو البركات، وظاهره كقول أبي الخطاب. (وقوله) : رجع بها على البائع. هذا فيما قبل تناهي الثمرة، أما إن جذت فلا نزاع في استقرار العقد، ولزوم الضمان للمشتري، وكذلك إن حصل تناهيا، لأن التفريط إذا من المشتري، وكذلك إن تمكن من قطعها ولم يقطعها، فيما إذا بيعت قبل الصلاح بشرط القطع، قاله أبو البركات، والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، وهو احتمال له في التعليق، لما تقدم، وزعم فيه أن ظاهر كلام الإمام الوضع أيضا، اعتمادا على إطلاقه، ونظرا إلى أن القبض لم يحصل.(3/527)
ثم قول الخرقي: اشترى الثمرة. يشمل ثمرة النخل وغيرها، وأحمد قال - فيما حكاه عنه ابن عقيل -: إنما الجوائح في النخل، فظاهره إخراج ثمرة الشجرة، لكن قال القاضي: إنما أراد إخراج [الزرع] ، والخضروات إذ لا فرق يظهر بين الشجر، والنخل.
ويخرج من قول الخرقي وأحمد ما عدا الثمار، من الزرع، والخضروات، فلا وضيعة في ذلك، بل ضمانه على المشتري، وهذا أحد احتمالي القاضي: وقال: إنه الأشبه، بعد أن قال: إنه لا يعرف الرواية في ذلك، وفرق بأن الزرع لا يباع من غير شرط القطع إلا بعد تكامل صلاحه، فإذا تركه بعد فقد فرط، والثمرة تباع بعد بدو الصلاح، وقبل تكاملها على الترك، فلا تفريط. (والثاني) : وبه قطع أبو البركات حكم ذلك حكم الثمرة بالقياس عليها.
(تنبيهان) : «أحدهما» : ليس من الجائحة إذا استأجر أرضا للزراعة فزرعها ثم تلف الزرع بغرق أو نحوه، نص عليه(3/528)
أحمد، وقاله الأصحاب، قال أبو محمد: ولا نعلم فيه خلافا، لأن المعقود عليه منفعة الأرض، وقد استوفيت بالزراعة، والتلف حصل لمال المستأجر، فهو كما لو استأجر بهيمة لحمل متاع، فحملته فتلف أو سرق.
(الثاني) : «الجائحة» في اللغة واحدة الجوائح، وهي الآفات التي تصيب الثمار فتتلفها، يقال: جاحهم الدهر يجوحهم، واجتاحهم، إذا أصابهم مكروه عظيم، «وتألى» حلف، و «الدمان» بفتح الدال، [وتخفيف الميم] ، عفن يصيب النخل فيسوده، و «المراض» داء يقع في الثمرة فتهلك، يقال: أمرض الرجل. إذا وقع في ماله العاهة، و «القشام» هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحا، و «إما لا» أصله، إن ما لا. فأدغمت(3/529)
النون في الميم، والمعنى: إن لم يفعل فليكن هذا. وتمال إمالة خفيفة، والله سبحانه أعلم.
[تلف المبيع قبل القبض]
قال: وإذا وقع البيع على مكيل، أو موزون، أو معدود، فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، فإذا تلف فهو من مال المشتري.
ش: المبيع على ضربين، متميز، وغير متميز، فغير(3/530)
المتميز قسمان (أحدهما) مبهم تعلق به حق توفية، كقفيز من هذه الصبرة، ورطل من هذه الزبرة، ونحو ذلك، فهذا يفتقر إلى القبض، على المذهب المعروف، المقطوع به عند عامة الأصحاب، حتى إن بعضهم يقول: رواية واحدة.
1907 - لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنه قال: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع» . ذكره البخاري من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تعليقا،(3/531)
واحتج به أحمد، وقول الصحابي: مضت السنة. ينصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يدل بمفهومه على أن المبيع من مال البائع، وفي كلام أبي محمد ما يقتضي حكاية رواية بعدم افتقار ذلك إلى القبض، ولا يتابع عليها.
(القسم الثاني) : مبهم لم يتعلق به حق توفيه، كنصف العبد، وربع الإناء، وسدس القربة، ونحو ذلك، فاختلف كلام صاحب التلخيص فيه، ففي البلغة أنه كالذي قبله، قال: وإنما يفترقان في أنه لو تلفت الصبرة إلا قفيزا منها تعين أنه المبيع، بخلاف الجزء المشاع. وفي التلخيص في البيع وفي الرهن جعله من المتميزات، فيه الخلاف الآتي. والمتميز قسمان أيضا: (أحدهما) : ما تعلق به حق توفية، كبعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم، وهذا الثوب على أنه عشرة أذرع. فالمشهور عند الأصحاب - وبه قطع أبو البركات وغيره - أنه كالمبهم الذي تعلق به حق توفية، إناطة بها، قال في التلخيص: وخرج بعض الأصحاب فيه وجها أنه كالعبد والثوب، بناء على أن العلة ثم اختلاط المبيع بغيره. قلت:(3/532)
وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، وذكر له قول الثوري: كل شيء ليس فيه كيل، ولا وزن، ولا عدد، فخراجه، وحمله، ونقصه على المشتري، وكل بيع فيه كيل، أو وزن، أو عدد، فلا بد للبائع أن يوفيه. فقال أحمد: أما العدد فلا، ولكن كل ما يكال ويوزن فلا بد للبائع أن يوفيه، لأن ملكه قائم فيه.
(القسم الثاني) متميز لم يتعلق به حق توفية، كالعبد، والدار، والصبرة، ونحو ذلك من الجزافيات، ففيه روايات.
(إحداهن) - وهي الأشهر عن الإمام، والمختار لجمهور الأصحاب - عدم افتقار ذلك إلى القبض، لمنطوق ما تقدم عن ابن عمر.
1908 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى «أن الخراج بالضمان» رواه الخمسة، أي: حاصل أو ثابت بسبب(3/533)
الضمان، وفي رواية: «أن رجلا ابتاع غلاما فاستعمله، ثم وجد به عيبا، فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغلة بالضمان» رواه أحمد، وأبو داود، وظاهره أن المبيع المتعين من ضمان المشتري، لأنه جعل خراجه له، بسبب أن ضمانه عليه.
(والثانية) : افتقار ذلك إلى القبض، حكاها جماعة، منهم أبو الخطاب في الانتصار، وأخذها من قول أحمد في(3/534)
رواية الأثرم: إن الصبر لا تباع حتى تنقل. قال: وهي معينة كالعبد والثوب. وأظهر من هذا أخذها من رواية مهنا، في من تزوج امرأة على غلام بعينه، ففقئت عين الغلام ولم تقبضه فهو على الزوج، وهذه قال في التلخيص: إنها اختيار ابن عقيل، والذي في الفصول تصحيح الأولى، ثم إنه حكى عن أبي بكر ما يقتضي تأويل الثانية، واختار هو أنها على ظاهرها، وأن عليها لا يكون الضمان على المشتري، وهذا ليس منه اختيارا للرواية، إنما فيه إثباتها، نعم هو يختار أنه لا يجوز التصرف في ذلك قبل قبضه.
1909 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: ابتعت زيتا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» ، رواه أحمد، وأبو داود.(3/535)
1910 - وعن «حكيم بن حزام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله، إني أبتاع هذه البيوع، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال «يا بن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه» رواه البيهقي في سننه.
(والرواية الثالثة) : أن المفتقر من ذلك إلى القبض هو الطعام، وإن كان غير مكيل ولا موزون، على ظاهر ما نقله أحمد بن الحسين الترمذي، وقد سأله عن بيع الفاكهة قبل القبض، فقال: في هذا شيء إن خرج مخرج الطعام، لأن الحديث في الطعام، وأصرح من هذا رواية الأثرم، وسأله(3/536)
عن قوله: نهى عن ربح ما لم يضمن. قال: هذا في الطعام وما أشبهه، من مأكول، أو مشروب، فلا تبعه حتى تقبضه، ونحوه نقله المروذي، وهذه الرواية قال ابن عبد البر: إنها الأصح عن إمامنا، وإليها ميل أبي محمد بل ظاهر كلامه إناطة الحكم بها، وعدم النظر إلى كون المبيع مبهما أو مما تعلق به حق توفية، أو غير ذلك.
1911 - وقد استدل لها بما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» .
1912 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه» ، وفي رواية: حتى يكتاله. متفق عليهما.
1913 - وفي مسلم نحوهما من حديث جابر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(3/537)
وهذه الأحاديث شاملة بمنطوقها لكل طعام، ومفهومها أن غير الطعام ليس كذلك، وهو في معنى مفهوم الصفة، لأنه اسم مشتق، لا اسم جامد كزيد ونحوه.
(والرابعة) : المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل والموزون، بشرط أن يكون مطعوما، قال في رواية مهنا: كل شيء يباع قبل قبضه، إلا ما كان يكال أو يوزن، مما يؤكل أو يشرب.
(والخامسة) : - وهي ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه - المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل أو الموزون، أخذا من نصه في رواية الأثرم: أن الصبر لا تباع حتى تنقل.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أناط الحكم بالمكيل، والموزون والمعدود، وظاهره خلاف هذه الأقوال، فيكون قولا سادسا، ويحتمل أنه أراد ما تعلق به حق توفية، وهو أولى، وفاقا للمذهب المنصوص. والله أعلم.(3/538)
واعلم أن أكثر هذه الروايات وأدلتها أخذت من المنع من البيع قبل القبض، أو هو من كون الضمان على البائع، وهو مبني على ما يقوله أكثر الأصحاب، من أن المنع من البيع، ولزوم الضمان للبائع، متلازمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(3/539)
والمذهب عند العامة أن الذي يفتقر إلى القبض هو ما تعلق به حق توفية دون غيره.
إذا عرف هذا فالمفتقر إلى القبض يكون قبله من ضمان البائع، ولا يجوز لمشتريه التصرف فيه كما سيأتي، وما لا يفتقر إلى قبض من ضمان مشتريه، وله التصرف فيه، سواء قدر على القبض أو لم يقدر، لكن متى منعه البائع منه بعد المطالبة، واتساع الوقت للتسليم، ضمن ضمان غصب، لا ضمان عقد، وليس اللزوم من أحكام القبض، على المذهب كما تقدم، ولا الضمان وعدمه مرتبا على اللزوم، وقول السامري: إذا تم العقد بغير خيار، أو بخيار وانقضت مدته من غير فسخ، فإن كان المبيع غير متميز. إلى آخره، يوهم ترتب الضمان على اللزوم وليس بشيء، وكذلك ليس الملك من أحكام القبض هنا، بل يحصل الملك بمجرد العقد، على المذهب كما تقدم، نص عليه أحمد في رواية محمد بن موسى، في من اشترى قفيزا من طعام من جملة أقفزة، فهو من مال البائع، [فقيل له: أليس قد ملكه المشتري؟ فقال: بلى ولكن هو من ضمان البائع] انتهى، وإذا ما حصل من نماء في يد البائع فهو أمانة في يده للمشتري، إذ النماء تابع للملك.(3/540)
ومعنى تضمين البائع ما تقدم أنه إن تلف بأمر سماوي بطل العقد فيه، وكان من مال البائع، فيلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه، وإلا فلا شيء له، قال القاضي وغيره: على قياس قوله في الثمرة إذا تلفت قبل أخذها بآفة سماوية، وإن تلف بفعل من جهة آدمي، فإن كان المشتري فقد استقر العقد، وتلف من ماله، وإن كان البائع أو أجنبيا خير المشتري بين فسخ العقد والرجوع بالثمن إذا كان قد دفعه، وبين إمضائه ومطالبة متلفه بعوضه، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن تلف البائع يبطل العقد. وقد يقال: إن ظاهر إطلاق الخرقي بطلان العقد مطلقا، ونص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، في رجل باع ثوبا من رجل، ثم باعه من آخر قبل التفرق، ولما يسلمه للأول، واستهلكه البائع، أخذ بخلاصه، فإن لم يقدر أن يخلصه فعليه قيمته يوم استهلكه، فإن كان ذلك مما يكال أو يوزن فعليه المثل، وظاهر هذا أن التلف إذا كان من جهة البائع ضمنه، ولم يبطل العقد، ولا يخير المشتري، ويتلخص من هذا أن في تلف البائع ثلاثة أقوال، والقاضي قال: يجب أن يحمل هذا النص على أنه اختار الإمضاء، أما إن اختار(3/541)
الفسخ فله ذلك، كما إذا ظهر على عيب بعد القبض، فإنه يخير بين الإمضاء وبين الفسخ. (قلت) : وليس هذا نظير المسألة، إنما نظيرها أن يظهر على عيب بعد التلف، وإذا لا تخيير على المعروف، انتهى.
والعوض مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن لم يكن مثليا، كما نص عليه أحمد، وقاله جماعة، ووقع لأبي البركات وجماعة أن الواجب القيمة، فقيل: مرادهم كما تقدم، وأرادوا بالقيمة البدل الشرعي. وكان شيخنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورضي عنه - القاضي موفق الدين ينصر أن المراد القيمة على ظاهرها، انتصارا للمجد، إذ هو في كلامه أظهر منه في كلام غيره، ونظرا إلى تحقيقه، ويعلله بما ملخصه: أن الملك هنا استقر على المالية، فلذلك وجبت القيمة، والمثلية(3/542)
لم يستقر الملك عليها، فلذلك لم تجب، ونص ابن سعيد يقطع النزاع. والله أعلم.
(تنبيهان) : «أحدهما» : إذا اختلط ما تقدم بغيره ولم يتميز، فإنه يبنى على أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا؟ فيه وجهان، ومحل ذلك كتاب الغصب، ولو تلف بعض المبيع بآفة سماوية انفسخ في قدره، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، قال في التلخيص: والذي قطع به الشيخان عدم الفسخ في الباقي، لكن يخير المشتري، لتفريق الصفقة عليه، ثم ظاهر كلام أبي محمد أنه يخير بين قبول كل المبيع ناقصا ولا شيء له، وبين الفسخ والرجوع بكل الثمن، وظاهر كلام غيره أن التخيير في الباقي، وأن التالف يسقط ما قابله من الثمن، وإن كان تلف البعض بفعل المشتري كان ذلك بمنزلة قبضه له، وإن كان بفعل البائع أو أجنبي، خير المشتري بين الفسخ والرجوع بكل الثمن، وبين الإمضاء والرجوع على المتلف بعوض ما أتلف، أما إن تعيب ولم يتلف، فإن كان بفعل البائع أو أجنبي، فالمشتري بالخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين الإمضاء ومطالبة المتلف بالأرش، وإن كان بغير فعل آدمي، خير بين أخذه ناقصا، ولا شيء له، وبين الفسخ والرجوع بالثمن، قاله أبو محمد، وصاحب التلخيص، فلو كان المبيع دارا فتلف سقفها قبل(3/543)
القبض، وقلنا: إنها من ضمان البائع، على الرواية الضعيفة، فهل ذلك بمنزلة العيب، كما لو تلفت يد العبد، أو بمنزلة تلف البعض كأحد العبدين؟ فيه وجهان.
(الثاني) : في معنى ما يتعلق به حق توفية - وإن لم يكن هو - المبيع برؤية أو صفة متقدمة، فإنه من ضمان بائعه حتى يقبضه المبتاع، ذكره ابن أبي موسى وغيره، والله أعلم.
قال: ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه.
ش: قد تقدم أن جمهور الأصحاب جعلوا المنع من البيع والضمان متلازمين، وأن الافتقار إلى القبض علم عليهما، فكل ما افتقر إلى القبض فضمانه على بائعه، ومشتريه ممنوع من بيعه قبل قبضه، وما لا فلا.(3/544)
1914 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ربح ما لم يضمن» ، ومنع من بيع أشياء حتى تقبض، والظاهر أن منعه من ذلك حذارا من أن يربح فيما لم يضمن، وإذا إنما يبقى النظر في الممنوع من بيعه قبل قبضه، هل هو كل شيء، كما في حديثي زيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، وأحاديث المنع من بيع الطعام بعض أفراد ذلك، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره، إذ لا ريب أن أحاديثه أثبت، ورواته أكثر، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه ما تعلق به حق توفية، فقط ما دل عليه قول ابن عمر تضمنه أن المنع من البيع،(3/545)
وتضمين البائع متلازمان، ويحتمله حديث عائشة في المتعين؟ انتهى.
وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول أن المنع من البيع غير ملازم للضمان، لأنه حكى أن ما تعلق به حق توفية من ضمان البائع، وفي غيره من المتعينات - كالعبد والصبرة ونحوهما - روايتان، ثم قال: إذا ثبت أن المبيع المتعين من ضمان مشتريه، فهل يصح بيعه قبل قبضه؟ نقل الأثرم: لا يجوز بيع الصبرة قبل قبضها. ونقل ابن القاسم ما يدل على الجواز، ثم حكى الخلاف أيضا في المكيل والموزون إذا لم يكن مطعوما، وفي المطعوم إذا لم يكن مكيلا، وهذا أيضا ظاهر ما حكى السامري عن القاضي، فإنه حكى عنه في الصبرة هل هي من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟ على روايتين [وأنه هل يجوز للمشتري التصرف فيها قبل القبض؟ على روايتين] قال: الأقيس جواز التصرف، لأنه لم يتعلق به حق توفية، ولو تلف قبل القبض كان من مال المشتري، فهو كالعبد، وظاهر كلاميهما أن الخلاف في جواز التصرف على القول بالضمان، والذي يظهر لي من جهة الدليل عدم التلازم، وأن المتعينات من ضمان المبتاع لظاهر حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقول ابن عمر، وغيرها(3/546)
من ضمان البائع، لمفهوم قول ابن عمر، وأن جميع الأشياء يمنع من بيعها قبل قبضها، لحديث زيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، إذ الذي منع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره، انتهى.
(تنبيهات) : «أحدها» : عموم كلام الخرقي المنع للبائع ولغيره، وهو كذلك انتهى، (الثاني) : حيث جوزنا البيع قبل القبض فباع قبل أن يقبض، فالمشتري الثاني مخير بين أن يطالب به الأول، وبين أن يطالب به الثاني، والثاني يطالب الأول (الثالث) : بيان القبض يأتي إن شاء الله تعالى للخرقي في الرهن، فلنتكلم عليه ثم، والله أعلم.
قال: والشركة فيه والتولية والحوالة به كالبيع.
ش: الشركة في المبيع بيع بعضه بقسطه من الثمن، بأن يقول: أشركتك في نصفه بنصف الثمن، أو في سدسه بسدس الثمن، ونحو ذلك، والتولية فيه بيع جميعه بكل الثمن، وهما نوعان من أنواع البيع، فما ثبت في البيع ثبت فيهما، وقد ثبت المنع من البيع قبل القبض فيما تقدم، فكذلك فيهما، ومثلهما بيع المرابحة، نحو: رأس مالي فيه(3/547)
مائة، بعتك بها وربح عشرة، والمواضعة، كأن يقول والحال هذه: ووضيعة عشرة. والصلح بمعنى البيع، كأن يقر له بمائة فيعطيه عنها عرضا، ونحو ذلك، والهبة بثواب، لأن المغلب فيها حكم البيع، على المذهب، والإجارة، لأنها بيع في الحقيقة، ويتصور ذلك في الأواني الموزونة، وفي المبهم في الموزون، كرطل من صنجة حديد، وفي المعين على رواية اعتبار القبض فيه، وعليها التزويج كالإجارة، قاله في التلخيص، والقسمة حيث قيل إنها بيع، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الشركة والتولية على سبيل التمثيل، أما الحوالة فقد منع الخرقي منها فيحتمل لأنها عنده بيع، ويحتمل وإن قيل: إنها عقد مستقل. لأنه تصرف في المبيع المفتقر إلى القبض قبل قبضه، فلم يجز كالبيع، ويكون الخرقي قد نبه بهذه الصورة على بقية التصرفات، وهذا أوفق لعبارة القاضي،(3/548)
وأبي الخطاب وغيرهما، لقولهم: يجوز التصرف في المبيع المتعين قبل قبضه، ولا يجوز فيما لم يتعين قبل قبضه، إلا أن القاضي وأبا الخطاب وقع في أثناء كلامهما استثناء العتق يريدان على القول بأن جميع الأشياء تفتقر إلى القبض، وقد صرح باستثناء العتق أيضا صاحب التلخيص وغيره، وحكى صاحب التلخيص عن القاضي وابن عقيل أنهما ذكرا في موضع أن رهن ما افتقر إلى القبض يصح بعد قبض الثمن، لأن قبضه قد صار مستحقا من غير خلاف، وخرج هو على ذلك الهبة بغير ثواب، وفي هذا التعليل نظر، لأن مقتضاه جواز كل التصرفات في المفتقر إلى القبض بعد قبض ثمنه، لاستحقاق قبضه، والله أعلم.
قال: وليس كذلك الإقالة، لأنها فسخ، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإقالة بيع.
ش: أي ليست الإقالة كالتولية والشركة ونحوهما، لما علل به من أنها فسخ، والممنوع منه إنما هو البيع وما في معناه، (والرواية الثانية) الإقالة بيع، أي في معناه، فتلحق بالتولية والشركة ونحوهما، وقد فهم من كلام الخرقي وتعليله إناطة الحكم بالبيع وما في معناه، وإذا ظاهره مخالف لما تقدم من قول القاضي وغيره.(3/549)
(تنبيه) : المشهور من الروايتين - وهو اختيار جمهور الأصحاب، القاضي، وعامة أصحابه، وأبي الحسين، وأبي محمد، وحكاه عن أبي بكر - الذي قدمه الخرقي، لأن الإقالة هي الرفع والإزالة، يقال: أقالك الله عثرتك. أي أزالها.
1915 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أقال نادما أقاله الله عثرته» رواه أبو داود،(3/550)
والرفع والإزالة غير البيع، إذ هو عقد، وهي رفع له فهما ضدان، ومن ثم لا يحصل أحدهما بلفظ الآخر، وجازت الإقالة في المسلم فيه، مع الاتفاق على أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، (والثانية) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه، وعللها بأنها إزالة ملك إلى مالك، ويريد فيه بعوض على وجه التراضي، وإذا هي في معنى البيع، فتلحق به.
وللخلاف فوائد، (منها) أن على الأول يجوز قبل القبض فيما يعتبر له القبض، ولا يحتاج إلى كيل ثان، وحكى أبو محمد عن أبي بكر أنه لا بد فيها من كيل ثان إقامة للفسخ مقام البيع، والذي في التنبيه إيجاب الكيل على القول بأنها بيع، لا على القول بأنها فسخ، (ولا تجوز) إلا بمثل الثمن، (ولا تستحق) بها شفعة، (ولا يحنث) بفعلها فيما إذا حلف لا يبيع فأقال، (ويكون النماء) للبائع، قاله القاضي في الجامع الصغير، وعلى الثانية تنعكس هذه الأحكام إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين، أما وجوب الاستبراء على البائع إذا عادت إليه بإقالة فالذي قطع به أبو بكر في التنبيه وجوبه على القول بأن الإقالة بيع، وكذلك الشيرازي قطع بالوجوب، وقاله وبنى المسألة على أن(3/551)
الإقالة بيع، ومقتضى كلاميهما عدم الوجوب إن لم يقل إنها بيع، والمنصوص عن أحمد في رواية ابن القاسم، وابن بختان، وجوب الاستبراء مطلقا، ولو قبل القبض، وهو مختار القاضي وجماعة من أصحابه، إناطة بالملك، واحتياطا للأبضاع، ونص في رواية أخرى أن الإقالة إن كانت بعد القبض والتصرف وجب الاستبراء، وإلا لم يجب، وكذلك حكى الرواية القاضي، وأبو محمد في الكافي، والمغني، وكأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ينظر في هذه إلى انتقال الملك، إنما نظر إلى الاحتياط.
والعجب من أبي البركات، حيث لم يذكر: قبل التفرق، مع جودته وتصريح الإمام به، لكنه قيد المسألة بقيد لا بأس به، وهو بناؤها على القول بانتقال الملك، أما لو كانت الإقالة في بيع خيار، وقلنا: ولم ينتقل الملك. فظاهر كلامه أن الاستبراء لا يجب، وإن وجد القبض، ولم يعتبر أبو البركات أيضا القبض فيما إذا كان المشتري لها امرأة، بل حكى فيها الروايتين وأطلق، وخالف أبا محمد في تصريحه بأن المرأة بعد التفرق كالرجل، ونص أحمد الذي فرق فيه بين التفرق وعدمه وقع في الرجل، والله أعلم.(3/552)
قال: وإذا اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها.
ش: وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيره، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» وقال ابن عمر: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . وهذا يقال: إنه استفيد مما تقدم، بناء على أن مراد الخرقي بالكيل ما تعلق به حق توفية وغيره، وهو ظاهر ما شرح عليه أبو محمد وغيره، وقد يقال بالمنع هنا، وإن قيل: إنه من ضمان المشتري، اتباعا لإطلاق النص.
(تنبيه) : «الصبرة» قال الأزهري: هي الكومة المجموعة من الطعام. قال: وسميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض. والله أعلم.
قال: ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة.
ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعليه الأصحاب،(3/553)
حذارا من تغرير المشتري وغشه، إذ البائع لا يفعل ذلك غالبا - والحال هذه - إلا لذلك، والغش حرام.
1916 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» .
1917 - وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه» وهذا نص في المسألة، وعن مالك(3/554)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على كراهة ذلك وإساءة فاعله، من غير تحريم، إذ المشتري يحتاط لنفسه، فلا يشتري ما يجهله، وإذا اشترى مع الجهل فالتفريط منسوب إليه، وعلى هذه الرواية البيع صحيح لازم، نص عليه، أما على الأولى فهل يفسد البيع لأجل النهي، وبه قطع أبو بكر في التنبيه، وطائفة من الأصحاب، أو لا يفسد، وهو قول القاضي، وكثير من أصحابه، إذ قصاراه أنه تدليس، وهو غير مفسد، بدليل حديث المصراة؟ فيه وجهان، ثم على القول بالصحة إن علم المشتري بعلم البائع فلا خيار له، لدخوله على بصيرة، وإن لم يعلم فله الخيار كالتدليس، ولو انفرد المشتري بالعلم دون البائع فحكمه حكم انفراد البائع بذلك، في أنه ينهى عن الشراء، وإذا اشترى ففي صحة شرائه الخلاف السابق، أما مع علمهما فعموم كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك أيضا، وقد غالى أبو بكر فجزم(3/555)
بالبطلان فيه، وهو أحد الوجهين على القول بالبطلان مع علم أحدهما، حكاهما في التلخيص، وأما مع جهلهما فيصح البيع بلا تردد، كما فهم ذلك من كلام الخرقي، وقد دل عليه حديث ابن عمر وغيره. ولا فرق عندنا بين عين الأثمان والمثمنات.
ولا يشترط معرفة باطن الصبرة، دفعا للحرج والمشقة، اعتمادا على تساوي أجزائها غالبا، بخلاف الثوب ونحوه، وشرط أبو بكر في التنبيه لجواز بيع الصبرة تساوي موضعها، فإن لم يتساو لم يجز، إلا أن يكون يسيرا يتغابن بمثله، وعامة الأصحاب لا يشترطون ذلك، وعندهم أنه إن ظهر تحتها ربوة أو فيها حجر ونحو ذلك مما يتغابن بمثله في مثلها، ولم يعلم به المشتري، فله الخيار بين الرد والإمساك، كما لو وجد باطنها رديئا، نص عليه أحمد، ولابن عقيل احتمال أنه يرجع بمثل ما فات، إذا أمكن تحقيق ذلك أو حزره، وإن بان تحتها حفرة تأخذ العين المذكورة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها، فلا خيار للمشتري، وللبائع الخيار إن لم يعلم، ولأبي محمد احتمال أنه لا خيار له، إذ الظاهر علمه بذلك، ولابن عقيل احتمال أنه يأخذ منها ما حصل في الانخفاض، حتى يتساوى وجه الأرض، واختار صاحب(3/556)
التلخيص أن حكم الأولى حكم ما لو باعه أرضا على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة، وحكم الثانية حكم ما لو باعه أرضا على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر، والله أعلم.
قال: وإذا اشترى صبرة على أن كل مكيلة منها بشيء معلوم جاز.
ش: لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، وقدر ما يقابل كل جزء من المبيع من الثمن معلوم، فصح للعلم بالعوض.
1918 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه أجر نفسه كل دلو بتمرة، وجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتمر فأكل» ، والله أعلم.(3/557)
[باب المصراة وغير ذلك]
ش: معنى التصرية عند الفقهاء أن يجمع اللبن في ضرع البقرة أو الشاة ونحوهما اليومين والثلاثة، حتى يعظم، فيظن المشتري أن ذلك لكثرة اللبن، وإذا هي المصراة، والمحفلة أيضا، يقال: ضرع حافل. أي عظيم، والحفل الجمع العظيم، واختلف في معناها لغة، فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: التصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة، ويترك حلبها اليومين والثلاثة، حتى يجتمع لبنها، فيزيد المشتري في ثمنها لما يرى من ذلك. وقال أبو عبيد: المصراة هي الناقة، أو البقرة، أو الشاة يصرى اللبن في ضرعها، أي يجمع ويحبس. قال: ولو كانت من الربط لقيل فيها: مصرورة. وإنما جاءت مصراة، وهذا هو المشهور. وقال الخطابي: قول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح،(3/558)
والعرب تصر الحلوبات، وتسمي ذلك الرباط صرارا، واستشهد بقول العرب: العبد لا يحسن الكر، وإنما يحسن الحلب والصر. انتهى.
والتصرية حرام، إذا قصد بها التدليس على المشتري لما سيأتي، ولأنها غش وخديعة، وقد قال: «من غشنا فليس منا» .
1919 - وقوله: «بيع المحفلات خلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم» .(3/559)
وقول الخرقي: وغير ذلك. أي مما إذا وجد بالمبيع عيبا، لأن ذلك يقع عن تدليس وعن غيره، ومن اختلاف المتبايعين، ومن بيوع منهى عنها، ونحو ذلك مما ستقف عليه، إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: ومن اشترى مصراة وهو لا يعلم، فهو بالخيار بين أن يقبلها، أو يردها وصاعا من تمر.
1920 - ش: الأصل في هذا ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصروا - وفي رواية - لا تصر الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين، بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر» متفق عليه.
1921 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «من اشترى محفلة فردها فليرد معها صاعا» رواه البخاري، والبرقاني على شرطه وزاد من تمر.
1922 - وروي نحوه من حديث ابن عمر وأنس.(3/560)
ولا يقال: إن هذا مخالف لقواعد كلية، (منها) أن اللبن مثلي، والتمر ليس بمثل له، والقاعدة ضمان المثلي بمثله لا بغيره، (ومنها) أن الصاع محدود، واللبن ليس بمحدود، فإنه يختلف بالقلة والكثرة، والقاعدة أن الضمان على قدر الذهاب، ثم لما عدل عن المثل إلى غيره فقد يجيء به نحو المتابعة، فهو بيع الطعام بالطعام غير يد بيد، فهو الربا، لأنا نقول: حديث المصراة أصل مستثنى من تلك القواعد، لمعنى يخصه، وبيانه أن اللبن الحادث بعد العقد ملك للمشتري، فيختلط باللبن الموجود حال العقد، وقد يتعذر الوقوف على قدره، فاقتضت حكمة الشرع أن جعل(3/561)
ذلك مقدرا، لا يزيد ولا ينقص، دفعا للخصام، وقطعا للمنازعة، وإنما خص ذلك - والله أعلم - بالطعام لأنه قوت كاللبن، وجعل تمرا لأنه غالب قوتهم، ولا يحتاج في تقوته إلى كلفة، ومن ثم - والله أعلم - وصفه بقوله: «لا سمراء» دفعا للحرج في تكلف السمراء، لقلتها عندهم، ثم لا نظر للقياس مع وجود النص.
وقد عارض بعضهم حديث المصراة بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» ونشأ له ذلك من جعله التمر في مقابلة اللبن الحادث بعد العقد، وهو ممنوع، وإنما هو في [مقابلة الموجود حال العقد.
1923 - بدليل ما في البخاري وأبي داود في الحديث «من اشترى غنما مصراة فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر» على تقدير تسليم أنه في](3/562)
مقابلة الحادث - وإنه لبعيد - فهو عام، وحديث المصراة خاص، ولا معارضة بين العام والخاص انتهى.
وقول الخرقي: مصراة. يشمل بعمومه الآدميات، والأتان، والفرس، وهو أحد الوجهين، واختيار ابن عقيل، اعتمادا على عموم الحديث، ونظرا إلى أن الثمن يختلف بذلك، (والثاني) : لا يثبت، ويحتمله كلام الخرقي بعد في قوله: وسواء كان المشتري ناقة، أو بقرة، أو شاة. لاقتصاره على ذلك، وزعم ابن البنا - تبعا لشيخه - أنه قياس المذهب، بناء منهما على أن لبن الآدمية لا يجوز بيعه، وذلك لأن لبن ما ذكر لا يعتاض عنه عادة، ولذلك لا يجب في مقابلته شيء، ولا يقصد قصد بهيمة الأنعام، والخبر ورد فيما يقصد عادة.(3/563)
وقوله: وهو لا يعلم. يخرج ما إذا علم التصرية، فإنه لا خيار له، وهو كذلك لعلمه بالعيب.
وقوله: فهو بالخيار، أي إذا علم بالتصرية، إذ ثبوت أمر لشخص يعتمد علمه به. ثم كلامه يشمل قبل الحلب، ويعلم ذلك ببينة، أو بإقرار من البائع، وإذا له الرد عندنا ولا شيء عليه، بناء على ما تقدم من أن التمر في مقابلة اللبن الموجود حال العقد، ولا وجوب للبدل مع وجود المبدل، وهذه الصورة تستثني من كلام الخرقي. ويشمل أيضا ما إذا حلب اللبن وأراد رده، فإنه لا يجزئه إلا التمر، وهذا أحد الوجوه، وهو الذي جعله أبو الخطاب وأبو البركات مذهبا، نظرا لإطلاق الحديث، (والثاني) يجزئه رده، ولا شيء عليه وإن تغير، لما تقدم من أن البدل إيحابه منوط بعدم المبدل، والمبدل موجود، وإن حصل نقص فبتدليس البائع، (والثالث) - وهو اختيار القاضي، وأبي محمد - إن كان اللبن بحاله لم يتغير فكالثاني، لما تقدم، وإن تغير فكالأول، دفعا للضرر عن البائع.
ويشمل أيضا ما إذا صار لبنها عادة، ومراده - والله أعلم - بالحكم الذي حكم به صورة واحدة، وهو ما إذا حلبها(3/564)
ولم يصر لبنها عادة، أما إذا صار لبنها عادة فلا خيار، لزوال العيب الذي لأجله ثبت الرد، وهذه الصورة أيضا مستثناة من كلام الخرقي.
[وقول الخرقي] : بين أن يقبلها. ظاهره ولا أرش له، وهو المشهور عند الأصحاب، وظاهر الحديث.
1924 - وفي رواية لمسلم «إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة، أو شاة مصراة فهو بخير النظرين [بعد أن يحلبها] ، إما هي، وإلا فليردها وصاعا من تمر» (وعن أحمد) في رواية ابن هانئ: إن شاء رجع عليه بقدر العيب، وكذا ذكر أبو بكر في التنبيه، وتبعه الشيرازي، وصاحب التلخيص فيه قياسا على بقية العيوب.(3/565)
وقوله: وصاعا من تمر. يقتضي أنه لا يجزئه غيره، وهو كذلك اتباعا للنص، وما ورد في الحديث «صاعا من طعام» فالمراد به - والله أعلم - التمر، إذ في رواية أخرى «صاعا من طعام لا سمراء» وما ورد في حديث ابن عمر - وسيأتي إن شاء الله - «فإن ردها رد معها مثل - أو قال - مثلي لبنها قمحا» أشار البخاري إلى تضعيفه، ويؤيد ضعفه أنه لا قائل به، وقال الشيرازي: الواجب أحد شيئين، صاع من تمر، أو صاع من قمح.
1925 - لأن في حديث رواه البيهقي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من اشترى مصراة فهو بخير النظرين، فإن حلبها ورضيها أمسكها، وإن ردها رد معها صاعا من طعام، أو صاعا من تمر» والطعام إذا(3/566)
أطلق غالبا يراد به البر، ويجاب أنه بعد تسليم صحته محمول على أنه شك من الراوي، توفيقا بين الأحاديث، ويعين ذلك قوله في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم «صاعا من طعام لا سمراء» .
وإطلاق الخرقي يقتضي [وجوب] التمر وإن زادت قيمته على قيمة الشاة، وهو كذلك للخبر، والواجب فيه أن يكون سليما من العيب، لأن الإطلاق يقتضي السلامة.
(تنبيهان) : «أحدهما» : لم يبين الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مقدار الخيار، وكذلك جماعة، وقال أبو الخطاب في الهداية: عندي أنه إذا تبين له التصرية ثبت له الرد، قبل الثلاث وبعدها، إلحاقا لها بالعيوب. ويتخرج من قوله قول آخر أن الخيار على الفور، بناء على القول به ثم، وقدره ابن أبي موسى، والقاضي، وأبو البركات، وغيرهم بثلاثة أيام.(3/567)
1926 - لأن في الحديث في رواية مسلم وغيره «من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام» .
1927 -[وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام» ، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا» رواه أبو داود، ثم اختلف هؤلاء، فقال القاضي - وزعم أبو محمد أنه ظاهر كلام أحمد -: الثلاثة أيام مضروبة لتتبين بها التصرية، إذ في اليوم الأول لبنها لبن التصرية، وفي الثاني والثالث يجوز أن يكون نقص لاختلاف العلف، وتغير المكان، فإذا مضت الثلاثة تحققت التصرية غالبا، فيثبت الخيار إذا على الفور، وقال ابن أبي موسى - على ظاهر كلامه - وأبو البركات: له الخيار في الثلاثة أيام إلى انقضائها. وهذا هو ظاهر الحديث، وعليه المعتمد، وهو عكس قول القاضي، ثم إن أبا البركات صرح بأن ابتداء المدة بتبين التصرية، وهو ظاهر(3/568)
قول ابن أبي موسى، قال: هو بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء ردها، وإن شاء أمسكها. ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في الكافي أن ابتداءها على قول ابن أبي موسى من حين البيع.
(الثاني) : «تصروا» الرواية الصحيحة فيه ضم التاء، وفتح الصاد، وتشديد الراء [المضمومة] ، بعدها واو الجمع، نحو: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] من: صراها يصريها تصرية، كزكاها يزكيها تزكية، وأصل «تصروا» : تصريوا. استثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها، لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموما، فانقلبت الياء واوا، فاجتمع ساكنان فحذفت الواو الأولى وبقيت واو الجمع، «والإبل» نصب على أنه مفعول تصروا، وفيه رواية أخرى «لا تصروا الإبل» بفتح التاء، وضم الصاد،(3/569)
من: صريصر. «والغنم» على هذا أيضا منصوبة الميم، وروي ثالثة: «لا تصر الإبل» بضم التاء بغير واو بعد الراء، وبرفع الإبل على ما لم يسم فاعله، من الصر أيضا وهو الربط، وهاتان الروايتان يجيئان على تفسير الشافعي، والأولى على تفسير أبي عبيد «والمحفلة» قد تقدم تفسيرها، «والسمراء» حنطة الشام، والبيضاء حنطة مصر، وقيل: السمراء الحنطة مطلقا، والبيضاء الشعير. «واللقحة» بفتح اللام وكسرها - وهو أفصح - الناقة القريبة العهد بالولادة، بنحو الشهرين والثلاثة، والله أعلم.
قال: فإن لم يقدر على التمر فقيمته.
ش: من وجب عليه شيء فعجز عنه رجع إلى بدله، وبدل المثلي عند إعوازه هو القيمة، كما هو مقرر في موضعه، وتجب قيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد، والله أعلم.(3/570)
قال: وسواء كان المشتري ناقة، أو بقرة، أو شاة.
ش: لا نزاع عندنا نعلمه في ذلك، لورود النص به في الإبل والغنم، ولبن البقر أغزر، فيثبت الحكم فيه بطريق التنبيه، ثم عموم «مصراة» يشمل الجميع، والله أعلم.
قال: وإذا اشترى أمة ثيبا فأصابها أو استغلها ثم ظهر على عيب كان مخيرا بين أن يردها ويأخذ الثمن كاملا، لأن الخراج بالضمان، والوطء كالخدمة، وبين أن يأخذ ما بين الصحة والعيب.
ش: هذا يبنى على قواعد، فنشير إليها، ثم نتعرض للفظ المصنف.
(منها) : أن المذهب المشهور - حتى إن أبا محمد لم يذكر فيه خلافا - أن من اشترى معيبا لم يعلم عيبه ثم علم ذلك فإنه يخير بين الرد وبين الإمساك وأخذ الأرش.
أما الرد فلا نزاع فيه نعلمه، دفعا للضرر عن المشتري، إذ إلزامه بالعقد والحال هذه ضرر عليه، والضرر منفي شرعا.
1928 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رجلا اشترى غلاما في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه عيب لم يعلم به، فاستغله، ثم علم العيب(3/571)
فرده، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إنه استغله منذ زمن. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغلة بالضمان» رواه أبو داود وغيره، وهذا يدل على أن العيب سبب للرد.
1929 - «وعن العداء بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كتب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوزة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء، ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم للمسلم» رواه الترمذي وابن ماجه، وهذا يدل على أن بيع المسلم هذا حاله، وأيضا ما ثبت من أحاديث المصراة المتقدمة.(3/572)
وأما الإمساك وأخذ الأرش فلأن البائع والمشتري تراضيا على أن العوض في مقابلة المعوض، فكل جزء من العوض يقابله جزء من المعوض، ومع وجود العيب قد فات جزء من المعوض، فيرجع ببدله وهو الأرش. (وعن أحمد) رواية أخرى - اختارها أبو العباس - وهي أصح نظرا -: لا أرش لممسك له الرد، حذارا من أن يلزم البائع ما لم يرض به، فإنه لم يرض بإخراج ملكه إلا بهذا العوض، فإلزامه بالأرش إلزام له بشيء لم يلتزمه، ويوضح هذا ويحققه المصراة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل فيها أرشا، ودعوى أن التصرية ليست عيبا ممنوع، انتهى.
والأرش ما بين قيمة الصحيح والمعيب منسوبا إلى الثمن، وبيانه أن يقال مثلا فيما اشترى بمائة وخمسين: كما يساوي هذا وهو صحيح؟ فإذا قيل: مائة. قيل: وكم يساوي وهو معيب؟ فإذا قيل: تسعين. فما بين القيمتين هو العشر، فإذا نسبت ذلك إلى الثمن وجدته - والحال هذه - خمسة عشر درهما، فهو الواجب للمشتري، ولو كان الثمن خمسين درهما لكان عشره خمسة دراهم، فهو الواجب له، وإنما نسب إلى الثمن، ولم يجعل ما بين القيمتين من غير نسبة، لئلا يجتمع للمشتري العوض والمعوض، [كما لو(3/573)
اشترى شيئا بمائة، ثم وجد به عيبا، وكانت قيمته وهو صحيح مائتين، وقيمته وهو معيب مائة، فما بينهما مائة، فلو أوجبت المائة للمشتري لاجتمع له العوض والمعوض] وعلى ما تقدم لا يلزم ذلك، إذ يجب له والحال هذه نصف الثمن، ولا فرق فيما تقدم بين علم البائع بالعيب وعدمه.
(تنبيه) : هل يملك المشتري أخذ الأرش من عين الثمن أو لا يملكه؟ فيه احتمالان ذكرهما في التلخيص.
(القاعدة الثانية) أن المبيع المعيب تعيبه عند المشتري هل يمنع من رده؟ فيه نزاع يأتي إن شاء الله تعالى، واختلف في وطء الثيب هل هو عيب، لأنه نقص في الجملة، أو ليس بعيب، وهو اختيار العامة، لأنه لم يحصل به نقص جزء(3/574)
ولا صفة، وكما لو كانت مزوجة فوطئها الزوج؟ على روايتين، وعلى الأولى فإن لم يمنع العيب الرد فالأرش هنا هو مهر المثل.
(القاعدة الثالثة) : أن المبيع إذا زاد وأراد المشتري رده بعيب وجده، فهل يلزمه رد الزيادة؟ لا يخلو إما أن تكون متصلة كالسمن وتعلم صنعة، أو منفصلة كالولد والكسب، فإن كانت متصلة فلا يتصور مع الرد إلا ردها، لكن هل يكون له قيمتها لحدوثها على ملكه، وتعذر فصلها، أو لا قيمة لها، لئلا يلزم البائع معاوضة لم يلتزمها، وهو قول عامة الأصحاب؟ على قولين، وعن ابن عقيل: القياس أن له القيمة، بناء على قولهم في الصداق، إذا زاد زيادة متصلة، ثم وجد ما يقتضي سقوطه أو تنصفه، فإن المرأة لها أن تمسك ذلك وترد القيمة أو نصفها، قلت: وفي هذا القياس نظر، وإنما قياس الصداق أن المشتري يمسك(3/575)
ويرد قيمة العين، نعم ما يحكى عن ابن عقيل سيأتي أنه رواية منصوصة أو ظاهرة.
وإن كانت الزيادة منفصلة فلا يخلو إما أن تكون حدثت من عين المبيع، كالولد والثمرة، أو لم تكن، كالأجرة والهبة، ونحو ذلك، (فالثاني) فيما نعلمه لا نزاع أن للمشتري إمساكه، ورد المبيع دونه، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في الكافي، من أن فيه الخلاف الآتي، فإنه في المغني لم يذكر فيه عن أحد خلافا، أما (الأول) - وهو ما إذا كانت الزيادة من عين المبيع -، فالمنصوص، والمعمول عليه عند الأصحاب - حتى إن أبا محمد في المغني جزم به - أن الحكم كذلك، الزيادة للمشتري فيرد المبيع دونها.(3/576)
1930 - لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» وفي رواية: «قضى أن الخراج بالضمان» . رواه أبو داود وغيره، وقد ورد في المسند وسنن أبي داود، وابن ماجه، أن الحديث ورد على مثل هذا، فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رجلا اشترى غلاما في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبه عيب لم يعلم به، فاستغله ثم علم العيب، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إنه استغله منذ زمان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغلة بالضمان» وقضية السبب داخلة في العموم قطعا.
وحكى القاضي وجماعة من أصحابه، والشيرازي، والشيخان، وغير واحد، عن أحمد رواية أخرى، أنه يلزم البائع رد النماء مع الأصل، جعلا للنماء كالجزء من الأصل، ونظرا إلى أن الفسخ رفع للعقد من أصله حكما، ويرد عليه الكسب ونحوه، وهذه الرواية، قال أبو العباس: إن القاضي وأصحابه أخذوها من نص أحمد في رواية ابن منصور، في من اشترى سلعة فنمت عنده، فبان بها داء، فإن شاء المشتري حبسها ورجع بقدر الداء، وإن شاء ردها(3/577)
ورجع عليه بقدر النماء، فجعلوا الراجع بقدر النماء هو البائع، قال: وكذا صرح به ابن عقيل في النظريات، قال أبو العباس: وهو غلط، بل الراجع المشتري على البائع بقدر النماء، فإن قوله: نمت عنده، ظاهر في النماء المتصل، ولو فرض أنه غير المتصل [فلم يذكر أنه تلف بيد المشتري، والأصل بقاؤه، قال: فتكون هذه الرواية أن الزيادة المتصلة] لا يجب على المشتري الرد بها، بل له إذا أراد رد العين أن يأخذ من البائع قيمة الزيادة. انتهى.
ويستثنى على المذهب إذا كانت الزيادة ولد أمة، فإنه يتعذر على المشتري الرد، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعا، هذا اختيار الشيخين، وظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، لكن إذا اختار ردهما معا فهل يلزم البائع(3/578)
القبول؟ يحتمل وجهين، الظاهر اللزوم، وقال الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وشيخهما فيما أظن في تعليقه: له إمساك الولد ورد الأم، لأنه موضع حاجة، وهو ممنوع، للتمكن من الأرش. إذا عرف ذلك رجعنا إلى لفظ المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فقوله: إذا اشترى أمة ثيبا. يحترز عن البكر كما سيأتي، وقوله: فأصابها أو استغلها. لأنه إذا لم يصبها ولم يستغلها المبيع بحاله ولا كلام، وقوله: ثم ظهر على عيب، يخرج ما إذا كان عالما حال العقد، لدخوله على بصيرة، وإذا لا رد له ولا أرش، وقوله: كان مخيرا. إلى آخره، مبني على القواعد الثلاث المتقدمة، وهي أن مشتري المبيع المعيب غير عالم بعيبه يخير بين الرد، والإمساك مع الأرش، وأن وطء الثيب ليس بعيب، وأن الغلة للمشتري، ولا يمنع الرد، وقوله: لأن الخراج بالضمان. تعليل لأن الغلة للمشتري، وقوله: والوطء كالخدمة. بيان لأن الوطء ليس بعيب. والألف واللام في الوطء لمعهود تقدم، وهو وطء الثيب، والله أعلم.(3/579)
قال: فإن كانت بكرا فأراد ردها كان عليه ما نقصها.
ش: أي فأراد ردها بعدما أصابها، ولا إشكال أن وطء البكر يعيبها عرفا، وينقصها حسا، لأنه يذهب جزءا منها، وإذا فقد تعيب المبيع عنده، فهل يمنعه ذلك من الرد إذا اطلع على عيب؟ فيه روايتان مشهورتان، (أشهرهما) عن الإمام - وهو اختيار الخرقي، والقاضي أبي الحسين، وأبي الخطاب في الانتصار، وأبي محمد، وغيرهم، قال في التلخيص: هي المشهورة، وعليها الأصحاب -: أن ذلك لا يمنع الرد، لما تقدم من حديث المصراة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للمشتري الرد، مع ذهاب جزء من المبيع وهو اللبن، وجعل التمر بدله.
1931 - وروى الخلال بسنده، عن ابن سيرين، أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال - في رجل اشترى ثوبا ولبسه، ثم اطلع على عيب -: يرده وما نقص. فأجاز الرد مع النقصان، وعليه اعتمد أحمد.(3/580)
1932 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحو ذلك أيضا، قال: إن كانت ثيبا رد معها نصف العشر، وإن كان بكرا رد العشر. لكنه ضعيف، ولهذا لم يعتمده الإمام، ولأن ثبوت الرد كان ثابتا له قبل حدوث العيب عنده، والأصل البقاء ما لم يأت دليل، ثم الحمل على البائع أولى، لأنه إما مدلس، أو مفرط، حيث لم يختبر ملكه.
(والثانية) - واختارها أبو بكر، وابن أبي موسى، وأبو الخطاب في خلافه الصغير - يمنع ذلك الرد، إذ الرد كان لإزالة الضرر [عنه، ومع وجود العيب يلحق الضرر بالبائع، والضرر لا يزال بالضرر] .(3/581)
1933 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل اشترى جارية فوطئها فوجد بها عيبا - قال: لزمته، ويرد البائع ما بين الصحة والداء، وإن لم يكن وطئها ردها. لكنه ضعيف أيضا، ومن ثم قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعلم يثبت عن عمر ولا علي. فعلى هذه الرواية يتعين للمشتري الأرش، وعلى الأولى على المشتري مع الرد أرش النقص الحادث عنده، وهو ما نقص المبيع المعيب بالعيب، مثاله أن يقال في مسألتنا: كم قيمتها بكرا معيبة بالعيب القديم؟ فإذا قيل: مائة.(3/582)
فيقال: وثيبا؟ فإذا قيل: ثمانون. فما بينهما عشرون، فهو الواجب، وعلى هذا.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أن الواجب في وطء البكر المهر، مع أرش البكارة. والله أعلم.
قال: إلا أن يكون البائع دلس العيب، فيلزمه رد الثمن كاملا.
ش: هذا استثناء مما إذا تعيب المبيع عنده، فإنه على رأيه يرده مع الأرش، واستثنى من ذلك إذا دلس البائع العيب، أي كتمه وأخفاه، فإن للمشتري الرد بلا أرش، وإذا يلزم البائع رد الثمن كاملا، وهذا هو المذهب المنصوص المعروف، وقد نص الإمام على أن المبيع لو تلف عند المشتري - والحال هذه - ثم علم العيب رجع بالثمن كله، ولا شيء عليه للتلف، وبالغ ابن أبي موسى فقال - في صورة الخرقي -: له الرد قولا واحدا، ولا عقر عليه، وذلك لأن البائع مع التدليس قد ورط المشتري وغره، فاقتضى(3/583)
الحمل عليه، وصالا كالغار بحرية أمة، الضمان عليه بقضاء الصحابة، فكذلك هنا، ومال أبو محمد إلى وجوب الأرش والحال ما تقدم، مستدلا بحديث المصراة، فإن الشارع جعل لبائعها بدل اللبن، مع تدليسه وارتكابه النهي، وبحديث «الخراج بالضمان» والمشتري - والحال هذه - له الخراج، فيكون الضمان عليه لعموم الحديث، وهذا هو الصواب، وقد حكاه أبو البركات رواية، وكذلك صاحب التلخيص، لكنه إنما حكاها في التلف، إذ المشتري لا يرجع إلا بالأرش، والله أعلم.
قال: وكذلك سائر المبيع.
ش: استعمل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - «سائر» هنا بمعنى «باقي» وهي اللغة الفصحى، كما تقدم، أي باقي المبيع حكمه حكم الأمة فيما تقدم، في أنه إذا اطلع على عيب فيه، خير بين الرد وبين الأرش، [وفي أنه إذا استغله أو فعل فيه فعلا ليس بعيب، لم يمنع ذلك من رده] ، وفي أنه إذا تعيب عنده(3/584)
له الرد، مع رد النقص الحادث عنده، إلا مع التدليس فلا أرش عليه.
واعلم أن مذهب أبي بكر في التنبيه أن وطء الأمة يمنع الرد مطلقا، معللا باحتمال أن تحمل منه، وتعيب المبيع لا يمنع الرد، فهو قول ثالث، والله أعلم.
قال: ولو باع المشتري بعضها ثم ظهر على عيب، كان مخيرا بين أن يرد ملكه منها بمقداره من الثمن، أو يأخذ أرش العيب بقدر ملكه فيه.
ش: إذا لم يعلم المشتري بالعيب حتى باع بعض المبيع، فله أرش الباقي في ملكه بلا نزاع نعلمه، فإذا باع النصف مثلا، كان له أخذ نصف الأرش، وإن باع الربع كان له ثلاثة أرباع الأرش، وهل له أرش ما باعه؟ فيه روايتان مبنيتان على ما إذا باع الجميع ثم علم بالعيب، هل له الأرش، وهو اختيار القاضي، وأبي محمد، كما لو لم يبعه إذ الأرش بدل الجزء الفائت، أو لا أرش له إلا أن يعود إليه، وهو ظاهر كلام الخرقي، لتوقع العود، أو لاستدراك ظلامته بالبيع؟ فيه روايتان، وهل له رد ما بقي من ملكه من المبيع؟ فيه روايتان أيضا، بناهما القاضي، وابن الزاغون، وغيرهما على تفريق الصفقة، قال أبو محمد عن القاضي: سواء كان المبيع عينا واحدة أو عينين، وابن الزاغوني(3/585)
مثل بالعينين، وخص أبو محمد الخلاف بما إذا كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق، كالعبدين، والثوبين، أما إن كان عينا واحدة، أو عينين لكن ينقصهما التفريق، كزوجي خف، ونحو ذلك، فيمتنع عليه الرد، دفعا للضرر عن البائع، لنقص المبيع - والحال هذه - بالتفريق، إلا أن يكون البائع دلس المبيع، فإن للمشتري الرد مطلقا، لأن نقص المبيع عنده مع التدليس لا أثر له.
قلت: الضرر يندفع عن البائع برد أرش نقص التشقيص، وقد صرح بذلك صاحب التلخيص، وإذا فما قاله غيره أوجه.
وقول الخرقي: ولو باع المشتري بعضها. (يحتمل) أن يرجع الضمير إلى بعض السلعة المبيعة، وعلى هذا شرح ابن الزاغوني، وإذا يكون اختيار الخرقي جواز رد الباقي، وكذا(3/586)
حكى أبو محمد عنه، وعلى هذا إن حصل بالتشقيص نقص رد أرشه من كلامه السابق، إلا مع التدليس كما تقدم (ويحتمل) أن يرجع إلى بعض السلعة المدلسة، وعلى هذا لا يكون في كلامه تعرض لرد الباقي، فيما إذا كان المبيع غير مدلس.
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه ليس له رد ما باعه، وهو واضح، نعم إذا عاد إليه ولو بعقد فله الرد إن لم يأخذ أرشه، ولم يعلم بعيبه حين بيعه، والله أعلم.
قال: وإن ظهر على عيب بعد إعتاقه لها أو موتها في ملكه فله الأرش.
ش: إذا ظهر المشتري على عيب في السلعة المبيعة، بعد أن تلفت - تلفا معنويا كالإعتاق، ونحوه الوقف، والاستيلاد، أو حسيا كالموت - فله الأرش رواية واحدة، لأنه كان له قبل ذلك، والأصل البقاء، وفارق البيع على رواية، لعدم توقع العود، وعدم استدراك الظلامة، وهل له الفسخ، والرجوع بالثمن، وغرامة القيمة؟ عامة الأصحاب على أنه ليس له ذلك، ولأبي الخطاب تخريج بجواز ذلك، كأنه من(3/587)
رواية تلف المبيع في مدة الخيار، وفرق صاحب التلخيص بأن هنا يعتمد الرد ولا مردود، وثم يعتمد الفسخ.
وظاهر كلام الخرقي أن أرش العبد المعتق يكون للمشتري، ولا يلزمه صرفه في الرقاب، وهو إحدى الروايتين وأصحهما، إذ العتق إنما صادف الرقبة، لا الجزء الفائت، (والثانية) : يجب صرفه في الرقاب، لأنه خرج عن الرقبة لله تعالى، ظانا سلامتها، وذلك يقتضي خروجه عن هذا الجزء، وأبو محمد يحمل هذه الرواية على الاستحباب، والقاضي يحملها على ما إذا كان العتق كان في واجب، أما إن كان تبرعا فالأرش له قولا واحدا.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو حصل تصرف المشتري بالبيع، أو العتق، ونحوهما، بعد العلم بالعيب، أنه لا أرش له، وهو المشهور عند الأصحاب، لأنه قد رضي بالمبيع، فسقط حقه من الأرش، كما سقط من الرد بلا نزاع، وحكى صاحب التلخيص [عن بعض الأصحاب أن الأرش لا يمنع التصرف مطلقا، وأبو محمد يقول: إن هذا](3/588)
قياس المذهب، كما لو اختار الإمساك والمطالبة بالأرش، ولأن الأرش عوض الجزء الفائت بالعيب، وذلك موجود مع التصرف.
(تنبيه) : إذا لم يعلم بالعيب حتى خرجت السلعة المبيعة عن ملكه بهبة، فهل له الأرش؟ إن قلنا -: فيما إذا باعها -: له الأرش. فكذلك هنا، وإن قلنا: لا أرش له ثم. فهنا روايتان مبنيتان على تعليل عدم الأرش في البيع، فإن علل باستدراك الظلامة وجب هنا، لعدم الاستدراك، وإن علل بتوقع العود لم يجب هنا لذلك، ومختار القاضي وأبي محمد الوجوب، والله أعلم.
قال: وإن ظهر على عيب يمكن حدوثه بعد الشراء وقبله حلف المشتري، وكان له الرد أو الأرش.
ش: إذا ظهر المشتري على عيب يحتمل حدوثه بعد الشراء وقبله، كالسرقة، والإباق، والخرق في الثوب، ونحو(3/589)
ذلك، ففيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) : - وهي اختيار الخرقي - القول قول المشتري مع يمينه، إذ الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، فكان القول قول من ينفيه، كما لو اختلفا في قبض المبيع. (والثانية) : - وهي أصوبهما واختيار القاضي في الروايتين، وأبي الخطاب في الهداية - القول قول البائع مع يمينه، لأن الأصل السلامة، وعدم استحقاق الفسخ، فكان القول قول من يدعي ذلك، ولو لم تحتمل الدعوى إلا قول المشتري - كالإصبع الزائدة، والجراحة المندملة عقب العقد، ونحو ذلك - فإن القول قوله بلا يمين، للعلم بصدقه بلا نزاع، وكذلك إن لم تحتمل إلا قول البائع - كالجرح الطارئ الذي لا يحتمل كونه قديما، ونحو ذلك - فإن القول قوله بلا يمين أيضا لما تقدم.
(تنبيه) : صفة يمين المشتري أن يحلف أنه اشتراه وبه هذا العيب، أو أنه ما حدث عنده، أما يمين البائع فعلى حسب جوابه، إن أجاب أن هذا العيب لم يكن فيه حلف على ذلك، وإن أجاب أنه ما يستحق علي ما يدعيه من الرد حلف على ذلك، ويحلف على البت، على المشهور من الروايتين، والله أعلم.(3/590)
قال: وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه، فكسره فوجده فاسدا، فإن لم يكن له مكسورا قيمة - كبيض الدجاج - رجع بالثمن على البائع، وإن كان له مكسورا قيمة - كجوز الهند - فهو مخير في الرد، ويأخذ الثمن، وعليه أرش الكسر، أو يأخذ ما بين صحيحه ومعيبه.
ش: مناط هذه المسألة إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه إلا بكسره، كالذي ذكره الخرقي ونحوه، فكسره فوجده معيبا، هل له شيء، أو لا شيء له ما لم يشترط سلامته؟ فيه روايتان: (إحداهما) : لا شيء له ما لم يشترط سلامته، اعتمادا على العرف، إذ الناس في بياعاتهم على ذلك. (والثانية) : - وهي المذهب بلا ريب - له شيء، نظرا إلى أن إطلاق العقد يقتضي السلامة من عيب لم يطلع عليه المشتري، [فاعتمد ذلك] .
1934 - ودليل هذا الأصل ما روي «عن العداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كتب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هذا ما اشترى العداء بن خالد(3/591)
بن هوذة، من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اشترى منه عبدا أو أمة - شك عباد أحد الرواة - لا داء، ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم» رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وهذا يدل على أن بيع المسلم هذا حاله.
وعلى هذا لا يخلو إما أن يكون لمكسور ذلك قيمة، أو لا قيمة له، فإن لم يكن لمكسوره قيمة - كبيض الدجاج، والجوز الخرب، قال أبو محمد: والبطيخ التالف - فإنا نتبين فساد العقد، لانتفاء شرطه وهو المنفعة، وإذا يرجع المشتري بالثمن كله. وإن كان لمكسوره قيمة - كجوز الهند، وبيض النعام - فإن كسره كسرا لا ينتفع به معه فقد أتلفه، فيتعين له الأرش، وإلا إن كان الكسر بقدر استعلام المبيع فهل ذلك بمنزلة العيب الحادث عنده؟ يخرج فيه روايتيه، أو ليس بعيب، فيرده بلا أرش، وهو اختيار القاضي، لأنه لا يمكنه معرفة المبيع إلا بذلك، مع أن البائع سلطه عليه، أو له الرد(3/592)
مع الأرش، وهو أعدل الأقوال، واختيار أبي محمد، وصاحب التلخيص، ويشهد له قصة المصراة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للمشتري الرد، مع رد بدل ما تلف بيده من المبيع، وهو اللبن، مع تدليس البائع وغروره، فهنا أولى؟ على ثلاثة أقوال.
وإن كان كسرا يمكن استعلام المبيع بدونه، فلا ريب أنه على الروايتين المتقدمتين، فيما إذا عاب عنده، نعم على قول القاضي في الذي قبله، إذا رد هل يلزمه أرش الكسر أو لا يلزمه إلا الزائد على استعلام المبيع؟ محل تردد، والله أعلم.
قال: وإذا باع عبدا وله مال - قليلا كان المال أو كثيرا - فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، إذا كان قصده العبد لا المال.(3/593)
ش: إذا باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، فيكون له بشرطه.
1935 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من ابتاع نخلا قد أبرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا له مال، فماله للذي باعه، إلا أن يشترط المبتاع» ] رواه مسلم وغيره.
1936 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، رواه أبو داود.
1937 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بذلك.
1938 - وعن عبادة نحوه، رواه البيهقي في سننه.(3/594)
وشرط الخرقي لصحة اشتراط المبتاع مال العبد مطلقا، أن يكون قصده العبد لا المال، لأن المال إذا يدخل عن طريق التبع، فلا تضر جهالته ولا غير ذلك، كأساسات الحيطان، لا يقال: فباشتراطه يدل على أنه مقصود، لأنا نقول: المقصود بالشرط - والحال هذه - بقاء المال في يد العبد، من غير التفات إلى المال، وتحقيق ذلك ألا ترى أن الشارع جوز قرض الدراهم وغيرها، مع أنه مفض إلى بيع دراهم بدراهم إلى أجل، لكن لما كان القصد منه الرفق، لا بيع دراهم بدراهم نسيئة، لم يمنع منه، أما إن كان قصده المال فإنه يشترط لصحة الشرط اشتراط شروط المبيع، من العلم بالمال، وكونه مع العوض المبذول لا يجري الربا بينهما، وغير ذلك، كما يشترط ذلك في العينين المبيعتين، لأنه إذا بمنزلتهما.
واعلم أن من مذهب الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العبد لا يملك، فكلامه خرج على ذلك، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، وتبعهما أبو البركات، أما إن قلنا: العبد يملك. فصرح أبو البركات بأنه يصح شرطه إن كان مجهولا، ولم(3/595)
يعتبر أبو محمد الملك، بل أناط الحكم بالقصد وعدمه، وزعم أن هذا منصوص أحمد والخرقي، وفي نسبة ذلك إليهما نظر، لاحتمال بنائهما على الملك كما تقدم، وهو أوفق لكلام الخرقي، ولمشهور كلام الإمام، وحكى أبو محمد عن القاضي أنه رتب الحكم على الملك وعدمه، فإن قلنا: يملك. لم يشترط، وإن قلنا: لا يملك. اشترط، وحكى صاحب التلخيص عن الأصحاب أنهم رتبوا الحكم على القصد وعدمه، كما يقوله أبو محمد، ثم قال: وهذا على القول بأن العبد يملك، أما على القول بأنه لا يملك، فيسقط حكم التبعية، ويصير كمن باع عبدا ومالا، وهذا(3/596)
عكس طريق أبي البركات، ثم يلزم منه التفريع على الرواية الضعيفة، ويتلخص في المسألة أربع طرائق، والله أعلم.
[البيع بشرط البراءة من العيوب]
قال: ومن باع حيوانا أو غيره بشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ، سواء علم به البائع أم لم يعلم.
ش: من باع شيئا وشرط البراءة من كل عيب - بأن يقول: بعتك وأنا بريء من كل عيب - لم يبرأ، وكذلك إن لم يعمم ولم يبين، بأن قال: من عيب كذا إن كان فيه، ولا فرق في ذلك بين علم البائع وعدمه، على المنصوص والمختار للأصحاب من الروايات، لأنه خيار ثبت شرعا بمطلق العقد، فلم يسقط بشرط الإسقاط، الدليل عليه خيار الرؤية، وخيار الفسخ عند انقطاع المسلم فيه في المحل، ولأن في ذلك خطرا وغررا، وهما منفيان شرعا.
(والرواية الثانية) : إن علم البائع بالعيب وكتمه لم يبرأ، لأنه إذا مدلس مذموم.
1939 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من غش» وقال: «من غش فليس مني» .(3/597)
1940 - وقال: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم إن باع من أخيه بيعا أن لا يبينه له» وإن لم يعلم برئ، لعدم ارتكابه الذم، وتمهد عذره في ذلك.
1941 - وبهذا قضى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ففي الموطأ أن ابن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم، وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه: بالغلام داء ولم يسمه، فاختصما إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال الرجل: باعني عبدا وبه داء ولم يبينه لي. فقال ابن عمر: بعته بالبراءة، فقضى عثمان على ابن عمر باليمين، أن يحلف له: لقد باعه الغلام وما به داء يعلمه. فأبي عبد الله أن يحلف له، وارتجع العبد، فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم، ومثل هذا يشتهر ولم ينكر، فينزل منزلة الإجماع، مع أن مالكا قد حكاه إجماعا لهم، فقال: الأمر المجتمع عليه عندنا في من باع عبدا أو حيوانا بالبراءة، فقد برئ من كل عيب، إلا أن يكون علم في ذلك عيبا فكتمه، فإن كان علم عيبا فكتمه لم تنفعه(3/598)
تبرئته، وكان ما باع مردودا عليه، (وعن أحمد) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صحة البراءة من المجهول، فخرج من ذلك أبو الخطاب وأتباعه صحة هذا الشرط، لأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - علل الرواية بالجهالة ويستدل لهذا التحريم بعموم «المسلمون عند شروطهم» ونحو ذلك.
1942 - وبدليل الأصل، وهو ما روي «أن رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استهما وتوخيا الحق، وليحلل كل منكما صاحبه»(3/599)
انتهى.
(فعلى المذهب) يلغو الشرط، ويصح العقد، وخرج أبو الخطاب أيضا ومن تبعه قولا ببطلانهما، من الرواية في الشروط الفاسدة، وفرق القاضي في المجرد بأن إطلاق العقد يقتضي عدم الرد، إذ الأصل السلامة، واشتراط عدم الرد شرط من مقتضى العقد، وكأنه اشتراه بغير شرط البراءة، وقد أصاب به عيبا، فيخير بين الإمساك والرد. «وعلى الثانية» لو ادعى المشتري أن البائع علم بالعيب، وإنما اشترط البراءة تدليسا، فالقول قول البائع مع يمينه، ولا تفريع على الثالثة.(3/600)
ونص الخرقي على الحيوان لينبه على مذهب الغير.
(تنبيه) ليس منصوص المسألة: بعتك على أن به عيب كذا، وأنا بريء منه، بل هنا يصح الشرط، كما لو قال: وبه هذا العيب، وأوقفه عليه، والله أعلم.
قال: ومن باع سلعة بنسيئة، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به.
ش: أي نقدا، بقرينة ذكر النسيئة أولا.
1943 - وذلك لما روى الدارقطني بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته، أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بطل إلا أن يتوب. ومثل هذا لا يقال قياسا، إنما يقال توقيفا،(3/601)
وأيضا ما تقدم من سد الذرائع، إذ ذلك وسيلة إلى بيع ثمانمائة بستمائة إلى أجل، وإنه لا يجوز.
1944 - ومن ثم يروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في مثل ذلك أنه قال: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة.
1945 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه(3/602)
حتى تراجعوا دينكم» رواه أبو داود وقد فسر أبو عبيد الهروي العينة بما تقدم.
وقيل: بالجواز، كما لو كان الشراء بعد قبض ثمنه بدونه، أو قبله بمثله أو أكثر، ونحو ذلك، وينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يكن حيلة، أما إن قصد الحيلة ابتداء فإن العقدين يبطلان، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان هذا ثابتا - أي ما روي عن عائشة - فتكون عابت عليه بيعا إلى العطاء، لأنه أجل غير معلوم، بناء منه على أن في بعض الروايات:(3/603)
إني بعته جارية إلى العطاء. مردود بأن في رواية أخرى قالت: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} [البقرة: 275] وهذا دليل على أنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رأت أن ذلك ربا، وعابته لذلك، (وقوله أيضا) : إن زيدا خالفها، وإن القياس معه، فقوله أولى. معترض بأنه لم ينقل أنه خالفها بعد إنكارها عليه، والظاهر أنه لم يكن عنده علم بالمسألة، فاعتمد على الأصل في الإذن في البيع، وإذا فتوعد عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على استمراره على ذلك، ولا نسلم أن القياس معه، بل القياس المنع، اعتمادا على [قاعدة سد الذرائع، ثم لا نسلم أن موافقة القياس تقتضي ترجح قوله، بل العكس، إذ من] خالف القياس الظاهر أن قوله عن توقيف، ومن ثم قال بعض العلماء: إن قول الصحابي إذا خالف القياس حجة، بخلاف ما إذا لم يخالفه. انتهى.(3/604)
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترجم المسألة بقوله: ومن باع سلعة إلى آخره، اكتفاء بالمعتاد في ذلك، وتمام ترجمتها «بأن يشتري ما باعه نقدا، هو أو وكيله، من مشتريه، بدون ما باعه به نسيئة، قبل قبض ثمنه، مع بقاء صفته» «فنقدا» يخرج ما لو كان البيع بعرض والشراء بنقد، أو بالعكس، أو البيع بعرض والشراء بآخر، فإنه يجوز إذ لا ربا بين الأثمان والعروض، ولا بين عرضين، «وهو أو وكيله» يخرج ما لو كان المشتري أباه أو ابنه، ونحو ذلك، فإنه يجوز، وفيه تصريح بأن فعل الوكيل كفعل الموكل، و «من مشتريه» يخرج ما لو اشتراه من غيره، بعد انتقاله إليه، ونحو ذلك، فإنه يجوز، و «بدون ما باعه به» يخرج ما إذا باعه بمثله أو أزيد، فإنه يجوز، ويخرج ما إذا باعه بجنس - كالدراهم مثلا - واشتراه بجنس آخر، كالدنانير، فإنه يجوز على قول الأصحاب، كما لو اشتراه بعرض، وأبو محمد يختار المنع، لأن النقدين كالجنس الواحد في معنى الثمنية، و «نسيئة» هو أحد شقي المسألة، أن يبيع نقدا ويشتري نسيئة، و «قبل قبض ثمنه» يخرج ما إذا باعه(3/605)
بعد قبض الثمن، فإنه يجوز، و «مع بقاء صفته» يخرج ما إذا تغيرت صفته بما ينقصه، فإنه يجوز شراؤه بأقل مما باع به، أما لو تغيرت بزيادة فبطريق التنبيه لا يجوز، ويفهم من تغير الصفة أنه لا أثر لتغير السعر.
(تنبيه) : عكس هذه المسألة إذا كان البيع حالا، والشراء بأكثر مما باعها به نسيئة، وفي ذلك روايتان، حكاهما أبو العباس: (إحداهما) : - ونص عليها في رواية حرب - المنع كالتي قبلها. (والثانية) : - وهي احتمال لأبي محمد - الجواز ما لم يكن حيلة، نظرا لأصل حل البيع، خرج منه الصورة المتقدمة، وهذه لا تساويها، لندرة وقوعها، فتبقى على الأصل، والله أعلم.
قال: وإذا باع شيئا مرابحة، فعلم أنه زاد في رأس المال، رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح.
ش: المرابحة البيع برأس المال وربح معلوم، نحو: بعتك برأس مالي وربح عشرة. أو: على أن أربح في كل عشرة(3/606)
درهما، وهو «ده يازده» ويشترط للصحة في الصورتين معرفة البائع والمشتري لرأس المال حال العقدين، فلو جهلا أو أحدهما لم يصح.
إذا عرف هذا، وتبايعا كذلك، ثم علم المشتري بعد ذلك - ببينة أو إقرار - أن البائع زاد في رأس المال، - كأن كان رأس المال تسعين، فأخبر أنه مائة - فإن المشتري يرجع عليه بالزيادة - لأن البائع التزم له البيع برأس المال - بحظها من الربح، لأن العشرة مثلا إذا سقطت يسقط ما يقابلها، لأنه إنما ثبت تبعا لها، ولأبي محمد احتمال في:(3/607)
وربح عشرة. أن المشتري لا يرجع بشيء من الربح، لأن البائع إنما رضي بإخراجها عن ملكه بهذا الربح. انتهى.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار للمشتري والحال هذه، وهو إحدى الروايتين، واختيار صاحب التلخيص فيه، لأنه ازداد خيرا، إذ من رضي بمائة وعشرة مثلا، يرضى بتسعة وتسعين، (والثانية) : له الخيار. لاحتمال أن له غرضا في الشراء بالثمن الأول، لتحلة قسم، أو وفاء بعهد، ونحو ذلك، ثم مع ظهور خيانة البائع يزول ائتمان المشتري له في الثمن الثاني، والله أعلم.
قال: وإن أخبر بنقصان من رأس ماله، كان للمشتري ردها أو إعطاؤه ما غلط به.
ش: إذا باع مرابحة ثم أخبر بنقصان من رأس المال - مثل أن يخبر أن رأس ماله مائة، ثم يدعي أن رأس ماله إنما هو(3/608)
مائة وعشرة، وأنه غلط فيما أخبر به أولا - فهل (القول قوله) وهو ظاهر قول الخرقي، لأن البائع لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه، والقول قول الأمين، (أو لا يقبل قوله) إلا أن يكون معروفا بالصدق، لترجح قوله إذا، بخلاف ما إذا لم يكن معروفا بذلك، فإن الظاهر كذبه، فيلغى قوله، (أو لا يقبل إلا ببينة) ، لأن مجرد قوله الثاني يعارضه قوله الأول، فيتساقطان، بخلاف ما إذا كان مع الثانية بينة، فإنه يترجح بها، وهذا اختيار أبي محمد، وحمل كلام الخرقي عليه، مدعيا أن الخرقي إنما لم يذكر ذلك لأنه عطفه على قوله قبل: فعلم أنه زاد في رأس المال. والعلم يكون ببينة أو إقرار، كذلك هنا. (أو لا يقبل قوله) وإن أتى ببينة، لتكذيبه لها ظاهرا؟ أربع روايات.
فعلى الأولى إن صدق المشتري البائع فلا يمين عليه، وإن كذبه فعليه اليمين، كغيره من الأمناء، وهذه اليمين تستفاد من قول الخرقي بعد: وكل من قلنا: القول قوله. فلصاحبه عليه اليمين. وصفة هذه اليمين، كما قاله أبو الخطاب: إني غلطت، وشراؤها علي كذا، لأنه يحلف على فعل نفسه،(3/609)
فيمينه على البت، وكذلك الحكم على الثانية إن كان معروفا بالصدق، وإلا فدعواه ملغاة رأسا إن لم يكن له بينة، وكذلك تلغى دعواه على الثالثة إن لم يكن له بينة، وكذلك على الرابعة مطلقا، بقي إذا لم يقبل مجرد قوله، فادعى أن المشتري يعلم غلطه، فأنكر، فإن القول قوله، لإنكاره، وهل ذلك مع يمينه، وهو رأي أبي محمد، أو لا يمين عليه، وهو رأي القاضي لأنه مدع، واليمين على المدعى عليه؟ على قولين، ورد قول القاضي بأنه - والحال هذه - مدعى عليه.
إذا عرف هذا فحيث ثبت أنه أخبر بنقصان - إما بتصديق المشتري له، وإما بقوله، أو ببينة، ونحو ذلك - فإن المشتري يخير بين إعطاء البائع ما غلط به، لأن بيعه كان(3/610)
برأس ماله، ورأس ماله قد ثبت أنه كذلك، فإن لم يعطه كان له الفسخ، وبين الرد، لأنه لم يرض بالزائد، نعم إن رضي البائع بترك الزيادة فلا رد له. ولم يذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن البائع - والحال هذه - يرجع على المشتري بحظ ما غلط به من الربح، وكذا أبو الخطاب في الهداية، وصاحب التلخيص فيه، وأبو البركات، وقال أبو محمد: يرجع بحظ ذلك من الربح، فإذا قال: وربح درهم في كل عشرة. رجع بدرهم، إذا كان الغلط بعشرة، وكذلك إن قال: وربح عشرة. وكان ما أخبر به أولا مائة، وله احتمال في هذه الصورة فقط، أنه لا يرجع بشيء، لرضاه في السلعة بربح عشرة، والله أعلم.
قال: وله أن يحلفه أنه وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها أكثر من ذلك.
ش: حيث ثبت أن البائع أخبر بنقصان - إما بقوله، أو ببينة، ونحو ذلك - فادعى عليه المشتري أنه وقت البيع كان عالما أن شراءها أكثر مما أخبر به، فإن دعواه تسمع، لأن(3/611)
البائع لو أقر بذلك لزم البيع في حقه بما أخبر به، أولا، لرضاه به، وتعاطي سببه، فهو كمشتري المعيب عالما بعيبه، ثم إن أقر البائع بذلك لزم البيع بما حصل الإخبار به أولا، لما تقدم، وإن أنكر - بأن قال: ما علمت ذلك. ونحوه - فللمشتري أن يحلفه على حسب جوابه، فإن حلف فلا كلام، وإن نكل، أو أقر قضي عليه، والله أعلم.
[اختلاف المتبايعين في البيع]
قال: وإن باع شيئا واختلفا في ثمنه تحالفا.
ش: إذا اختلف المتبايعان في ثمن المبيع - كأن قال البائع: بعته بمائة. مثلا، وقال المشتري: إنما اشتريته بخمسين. ونحو ذلك - فإن كانت لأحدهما بينة حكم بها، وإلا تحالفا، على المشهور، والمختار للأصحاب من الروايات.
1946 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» متفق عليه واللفظ لمسلم.(3/612)
1947 - وللبيهقي «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» وكل من المتبايعين مدع ومنكر، إذ البائع في مثالنا يدعي فضل الثمن، والمشتري ينكره، والمشتري يدعي السلعة بأقل، والبائع ينكره، وإذا يحلف كل واحد منهما على ما أنكره، عملا بعموم الحديث.
1948 - وللبيهقي في سننه عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن [الفقهاء من] أهل المدينة، كانوا يقولون: إذا تبايع الرجلان واختلفا في الثمن تحالفا، فأيهما نكل لزمه القضاء، فإن حلفا فالقول قول البائع، وخير المبتاع، إن شاء أخذ بذلك الثمن، وإن شاء ترك، وقد زعم أبو محمد أن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود الآتي «إذا اختلف المتبايعان، والسلعة قائمة، ولا بينة لأحدهما تحالفا» (والثانية) القول(3/613)
[قول] البائع مع يمينه، حكاها ابن أبي موسى، وابن المنذر، وزاد: ويترادان البيع.
1949 - لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة، فالقول ما يقول صاحب السلعة، أو يترادان» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وفي رواية: «أو يتتاركان» وفي أخرى «فالقول ما قال البائع، والمبتاع بالخيار» وفي أخرى لأحمد والنسائي «عن أبي عبيدة، وأتاه رجلان تبايعا سلعة، فقال هذا: أخذت بكذا وكذا، وقال هذا: بعت بكذا وكذا. فقال أبو عبيدة: أتي عبد الله في مثل هذا، فقال: حضرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مثل هذا، فأمر بالبائع أن يستحلف، ثم يخير المبتاع، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك» . ولم أر في شيء(3/614)
من ألفاظ الحديث «تحالفا» .
وهذه الرواية، وإن كانت خفية مذهبا، فهي ظاهرة دليلا، اعتمادا على هذا الحديث، لا يقال: هذا الحديث منقطع، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا قال ابن عبد البر [وغيره: إن فيه انقطاعا. لأنا نقول: لما تعددت طرقه، تقوى بعضها ببعض، ودل ذلك على أن له أصلا، وقد قال ابن عبد البر] : هو محفوظ، مشهور، أصل عند جماعة(3/615)
العلماء، تلقوه بالقبول، وبنوا عليه كثيرا من فروعه، قد اشتهر عنهم بالحجاز، والعراق، شهرة يستغنى بها عن الإسناد.
1950 - كما اشتهر حديث «لا وصية لوارث» انتهى.
ويشهد لذلك أيضا (من جهة المعنى) أن السلعة كانت للبائع، والمشتري يدعي نقلها بعوض، والبائع ينكره إلا(3/616)
بالعوض الذي عينه، والقول قول المنكر، وعدم الرضى إلا بذلك، (ومن جهة المذهب) إذا اختلف المكاتب وسيده في عوض الكتابة: القول قول السيد. على رواية مرجحة عند البعض.
وما ذكر للرواية الأولى فغايته أنه عموم، على أنه قد يمنع أن كلا منهما، منكر، بل قد يقال: البائع هو المنكر للنقل بالعوض الذي ذكره المشتري، أو المنكر هو المشتري، لأن حقيقة ما يدعي عليه قدر رأس المال، وهو ينكره.
(والثالثة) : حكاها أبو الخطاب في الانتصار: إن كان قبل القبض تحالفا، لما تقدم أولا، وإن كان بعده فالقول قول المشتري، لاتفاق البائع والمشتري على حصول الملك له، ثم البائع يدعي عليه عوضا، والمشتري ينكر بعضه، والقول قول المنكر، والله أعلم.(3/617)
قال: فإن شاء المشتري أخذه بعد ذلك بما قال البائع، وإلا انفسخ البيع بينهما.
ش: هذا تفريع على المذهب من أنهما يتحالفان، وإذا هل ينفسخ البيع بينهما بنفس التحالف، وهو المنصوص، على ما زعم ابن الزاغوني، لأن المقصود من التحالف رفع العقد، فاعتمد ذلك أو لا ينفسخ بذلك، وهو المشهور، والمعروف، والمختار للخرقي، وابن أبي موسى، وأبي الخطاب، والشيخين وغير واحد، لأنه عقد صحيح، فتنازعهما لا يقتضي فسخه، كما لو أقام كل منهما بينة؟ على قولين، وعلى الثاني إن شاء المشتري الأخذ بما قال البائع أخذ به ولا فسخ، لما تقدم من حديث ابن مسعود، وكذلك إن رضي البائع بما حلف عليه المشتري.
وإن امتنعا من ذلك فهل ينفسخ البيع بمجرد إبائهما، وهو ظاهر كلام الخرقي، أو لا ينفسخ بذلك، وهو المعروف عند الشيخين وغيرهما؟ على قولين، وعلى الثاني: هل يفتقر الفسخ إلى حاكم؟ وهو احتمال لأبي الخطاب في الهداية، وقطع به ابن الزاغوني، لوقوع الخلاف في ذلك، أو لا يفتقر(3/618)
إلى ذلك، بل لكل منهما الفسخ، وهو مختار الشيخين وغيرهما، لما تقدم من حديث ابن مسعود «أو يترادان البيع،(3/619)
أو يتتاركان البيع، ثم يخير المبتاع، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك» وفي الحديث أن الأشعث بن قيس قال لعبد الله بن مسعود - وكانا اختلفا في ثمن مبيع -: فإني تارك لك البيع؟ على قولين، والله أعلم.
قال: والمبتدي باليمين البائع.
ش: لما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن البائع والمشتري يتحالفان. فلا بد من أن أحدهما يبدأ باليمين، فقال: إن المبتدئ بها هو البائع، وذلك لتساويهما من حيث الإنكار، وترجح البائع لكون العين ترجع إليه بعد التحالف، ومن نكل منهما عن اليمين، أو عن بعضها قضي عليه.
(تنبيه) صفة اليمين أن كلا منهما يحلف يمينا واحدة، يجمع فيها بين النفي والإثبات، فيحلف البائع: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، أو ما بعته إلا بكذا. ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا. أو: ما اشتريته إلا بكذا، لأن كلا منهما مدع ومدعى عليه، فالإثبات لدعواه، والنفي لما ادعي عليه، ثم هل يبدأ بالنفي،(3/620)
وهو المشهور، لدفع قول الخصم، أو بالإثبات، لإثبات دعواه ابتداء؟ على وجهين، والله أعلم.
قال: وإن كانت السلعة تالفة تحالفا.
ش: يعني أنه لا فرق بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة، أنهما يتحالفان، وهذا إحدى الروايتين، (والثانية) - وهي أنصهما، واختيار أبي البركات -: إن كانت السلعة باقية تحالفا، وإن كانت تالفة فالقول قول المشتري مع يمينه.(3/621)
1951 - لأن في حديث ابن مسعود - في رواية ابن ماجه - والبيع قائم بعينه وفي رواية لأحمد والسلعة كما هي ومفهومه أن السلعة إذا تلفت لا يكون القول قول البائع، وإذا يكون قول المشتري، لأن حقيقة ما يدعى عليه قدر رأس المال، وهو ينكر بعضه، والقول قول المنكر، وقد صرح بذلك الدارقطني في رواية، فقال: «إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع، فإذا استهلك فالقول ما قال المشتري» وهذا نص.
والرواية الأولى اختيار الخرقي والأكثرين، لأن المشهور والصحيح من الرواية في الحديث ما تقدم، وهذه الرواية قد ضعفت، من قبل أن راويها محمد بن أبي ليلى، وهو سيء الحظ، ورواية الدارقطني فيها الحسن بن عمارة، وهو متروك.
1952 - ثم يعارضه ما روى الدارقطني أيضا في الحديث عن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اختلف البيعان، والمبيع مستهلك،(3/622)
فالقول قول البائع» لكنه من رواية عبد الله بن عصمة، وهو ضعيف، انتهى.
واعلم أن هذه الرواية المنصورة، وقد أخذها القاضي في روايتيه من إطلاق أحمد أن المتبايعين إذا اختلفا تحالفا، ولم يفرق، وعلى هذا من يخص عام كلام إمام بخاصه تكون المسألة عنده رواية واحدة، في أن القول مع التلف قول المشتري. ثم اعلم أن أبا محمد ينصر الرواية المنصورة عند الأصحاب، لكن يقول: ينبغي أن قيمة السلعة إذا كانت مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري، أن القول قول المشتري مع يمينه، لعدم الفائدة في يمين البائع، وفسخ البيع، إذ حاصله يرجع إلى ما ادعاه المشتري، وله فيما إذا كانت القيمة أقل احتمالان: (أحدهما) : كالأول، إذ لا فائدة للبائع في الفسخ، بل وفيه ضرر عليه: (والثاني) : يشرع(3/623)
التحالف، لحصول الفائدة للمشتري، والله سبحانه أعلم.
قال ورجعا إلى قيمة مثلها، إلا أن يشاء المشتري أن يعطي الثمن على ما قاله البائع.
ش: يعني إذا كانت السلعة تالفة وتحالفا فإن شاء المشتري أن يعطي الثمن عل ما قال البائع، وإلا انفسخ البيع بينهما على ما قاله الخرقي، وإذا يرجع كل منهما إلى ما خرج عنه، والذي خرج عن المشتري هو الثمن، فيرجع فيه، إن كان قد قبض، والذي خرج عن البائع هو السلعة، وقد تعذر الرجوع فيها، فيرجع في بدلها وهو القيمة، فإن تساويا، وكانا من جنس واحد، تقاصا وتساقطا، وإلا سقط الأقل، ومثله من الأكثر، هذا المشهور والمعروف.
وقال ابن المنجا: إن كلام أبي الخطاب أن القيمة إن زادت على الثمن أن المشتري لا تلزمه الزيادة، لأنه قال: المشتري بالخيار بين دفع الثمن الذي ادعاه البائع، وبين دفع(3/624)
القيمة، وذلك لأن البائع لا يدعي الزيادة (قلت) : وكلام أبي الخطاب ككلام الخرقي، وليس فيه أن ذلك بعد الفسخ، بل هذا التخيير مصرح به بأنه بعد التحالف، وليس إذ ذاك فسخ، ولا شك أن المشتري والحال هذه مخير - على المشهور كما تقدم - عند قيام السلعة، فكذلك عند تلفها، والذي قاله ابن المنجا كأنه بحث لصاحب النهاية، فإنه حكى عنه بعد ذلك أنه قال: وجوب الزيادة أظهر لأن بالفسخ سقط اعتبار الثمن.
وقد بحث أبو العباس ذلك أيضا، فقال: يتوجه أن لا تجب قيمته إلا إذا كانت أقل من الثمن، أما إن كانت أكثر فهو قد رضي بالثمن، فلا يعطى زيادة، لاتفاقهما على عدم استحقاقها، قال: كما قلنا مثل هذا في الصداق ولا فرق، إلا أن هنا انفسخ العقد الذي هو سبب استحقاق المسمى، بخلاف الصداق، فإن المقتضي لاستحقاقه قائم. والله أعلم.(3/625)
قال: فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري مع يمينه في الصفة.
ش: أي إذا تحالفا ورجعا إلى قيمة السلعة، فإن اتفقا على قيمتها فلا كلام، وإن اختلفا في صفتها، والصفة ليست عيبا - كالسمن والكتابة ونحوهما - فالقول قول المشتري مع يمينه، بلا نزاع نعلمه، لأنه غارم، والقول قول الغارم، واعتمادا على أصل براءة الذمة، ثم الأصل عدمها، وإن كانت عيبا، كالبرص، والخرق في الثوب، ونحو ذلك، فهل القول قول المشتري، وهو المشهور، وظاهر كلام الخرقي، لما تقدم من أنه غارم، أو قول البائع في نفي ذلك، لأن الأصل عدمها؟ فيه وجهان، وملخص الأمر أنه قد تعارض أصلان، فخرج قولان، والله أعلم.
[بيع العبد الآبق والطير في الهواء]
قال: ولا يجوز بيع الآبق.
ش: لأنه بيع غرر، وإنه منهي عنه شرعا، والنهي يقتضي الفساد.(3/626)
1953 - ودليل النهي ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» .
1954 - على أن في المسند، وسنن ابن ماجه، عن أبي سعيد: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع ما في بطون الأنعام، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء الغنائم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن ضربة الغائص» . إلا أن فيه كلاما، ومن ثم قال البيهقي: هذا وإن لم يثبت فكله داخل في بيع الغرر، [قلت(3/627)
وهذا صحيح، إذ الغرر]- على ما فسره القاضي من أصحابنا [وغيره]- ما تردد بين جائزين، ليس هو في أحدهما أظهر، والآبق كذلك، لأنه متردد بين الحصول والعدم، وكلام الخرقي شامل لآبق يعلم خبره أو لا يعلم، وهو كذلك، والله أعلم.
قال: ولا الطائر قبل أن يصاد.
ش: لأن ذلك من الغرر المتقدم، وقد دخل في كلام الخرقي المملوك وغير المملوك، وما يألف العود أو لا يألفه، وهو كذلك.
وقوله: قبل أن يصاد، يخرج منه ما إذا صيد [وهو واضح، ثم: ما صيد. يدخل فيه ما صيد] ببرج ونحوه،(3/628)
وقد اختلف في بيع الطائر في البرج، فأجازه أبو محمد، بشرط كون الباب مغلوقا، إناطة بالقدرة على التسليم، وشرط القاضي مع ذلك إمكان أخذه بسهولة، فإن لم يمكن أخذه إلا بتعب ومشقة لم يجز، لأن قدر ذلك غير معلوم، والله أعلم.
قال: ولا السمك في الآجام.
ش: لما تقدم أيضا.
1955 - وقد روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر» رواه الإمام أحمد، لكن قال البيهقي: إن فيه انقطاعا.
وقوله: في الآجام. يخرج منه ما إذا كان بيده ونحوه ذلك، كأن كان في بركة معدة للصيد، وعرف إما برؤيته كما إذا رئي في الماء لصغر البركة، ونحوها، وأمكن أخذه،(3/629)
صح بيعه، لانتفاء المحذور، وهو عدم القدرة على التسليم، نعم إن كان في أخذه كلفة ومشقة خرج فيه ما تقدم من الخلاف في الطائر في البرج، وأبو محمد هنا يسلم أن البركة إذا كانت كبيرة، وتطاولت المدة في أخذه، أنه لا يجوز بيعه، للجهل بوقت إمكان التسليم، والله أعلم.
قال: والوكيل إذا خالف فهو ضامن، إلا أن يرضى الآمر فيلزمه.
ش: أما ضمان الوكيل إذا فلأنه خرج بمخالفته من حيز الأمانة إلى حيز الخيانة، وإذا يضمن، لتعديه وظلمه، وأما زوال الضمان عنه برضى الآمر فلأن الضمان كان لمخالفته، وبرضى الآمر كأن المخالفة قد زالت.
هذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فمخالفة الوكيل تارة تكون في أصل ما وكل فيه، كأن يوكله في شراء عبد، فيشتري ثوبا، أو في بيع عبده زيد، فيبيع عبده سعيدا، ونحو ذلك، فهذا لا إشكال في ضمان ما فوته على المالك، لعدم موافقته المأمور بوجه، ثم ينظر فإن كان البيع لأعيان مال الموكل، أو الشراء بعين ماله، لم يصح تصرفه، على الصحيح المشهور من الروايتين، لارتكابه النهي.(3/630)
1956 - بدليل حديث «حكيم بن حزام: نهاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبيع ما ليس عندي» . وفي لفظ: «لا تبع ما ليس عندك» رواه البخاري وغيره، أي: ما ليس في ملكك.
1957 - بدليل ما في سنن البيهقي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل عتاب بن أسيد إلى أهل مكة «أن أبلغهم عن أربع خصال، إنه لا يصلح شرطان في بيع، [ولا بيع وسلف] ، ولا بيع ما لم يملك، ولا ربح ما لم يضمن» .(3/631)
(والثانية) يقع التصرف موقوفا على إجازة مالكه، إن أجازه جاز، وإن رده بطل.
1958 - لحديث «عروة بن أبي الجعد البارقي، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب لربح فيه» ، رواه البخاري وغيره.(3/632)
وإن كان الشراء في الذمة فهل ذلك كما لو كان الشراء بالعين، تجري فيه الروايتان، وهو قول القاضي في روايتيه، أو يصح هذا في الجملة بلا خلاف، وهو المعروف المشهور؟ على طريقتين للأصحاب، وعلى الثاني: هل من شرط الصحة أن لا يسمي الموكل في العقد، وهو رأي القاضي، وأبي البركات، أو لا يشترط ذلك، وهو رأي أبي محمد؟ وفيه قولان، وحيث حكم بالصحة فإن رضي الموكل بذلك التصرف لزمه، وزال الضمان عن الوكيل، فيما دفعه من مال ونحو ذلك، وإلا لزم الوكيل ما اشتراه، وعليه ضمان الثمن إن كان قد نقده، وعلى هذه الصورة يحمل كلام الخرقي، انتهى.(3/633)
وتارة يخالف الوكيل في صفة ما وكل فيه، فهذا إن شهد العرف أن مخالفته كلا مخالفة لم تضر، وذلك كأن يوكله في بيع شيء بمائة، فيبيعه بمائة وعشرة، أو بدرهم فيبيعه بدينار، على أحد الوجهين، لحصول المقصود بالدرهم من الدينار من كل وجه، بخلاف العرض، أو يأمره بالبيع نساء، أو الشراء حالا، فيبيع حالا، أو يشتري نسيئة، ولا ضرر على الموكل في حفظ الثمن، وعن القاضي أنه لم يشترط نفي الضرر، أو يأمره بالبيع بثمن في سوق، فيبيع به في آخر، لعدم تعلق الغرض به غالبا، بخلاف ما لو قال: بعه لزيد، فباعه لعمرو، فإنه لا يصح لتعلق عرضه بذلك غالبا، انتهى.
وإن لم يشهد العرف بذلك لكن يمكن تدارك ما حصل من الضرر عن الموكل، مثل أن يوكله في بيع شيء بمائة، أو شراء شيء بخمسين فيبيع بخمسين ويشتري بمائة، ونحو ذلك، فهذا هل يصح ويضمن الوكيل الزيادة والنقص، لتفريطه، ومخالفته، وهو المنصوص، لزوال الضرر عن الموكل، ولا يلزم من زوال الوصف زوال الأصل، أو لا يصح، وهو اختيار أبي محمد في المغني، وبه جزم صاحب(3/634)
التلخيص، وقال: إنه الذي تقتضيه أصول المذهب، ويحكى رواية، لأنه مع مخالفته خرج عن حيز الأمانة، فصار بمنزلة الأجنبي، أو يصح البيع ولا يصح الشراء، لئلا يلزم العوض لغير من حصل له المعوض، وهذا المحذور فائت في البيع، وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع؟ على ثلاثة أقوال، انتهى.
وإن لم يشهد العرف بذلك، ولم يمكن التدارك، كما تقدم فيما إذا أمره بالبيع لزيد فباع لعمرو، ونحو ذلك، فإنه لا يصح قولا واحدا، والله أعلم.
[بيع الملامسة والمنابذة]
قال: وبيع الملامسة والمنابذة غير جائز.
ش: المراد هنا بالجواز الصحة، وبعدمه البطلان، وإنما لم يصحا للنهي عنهما، المقتضي للفساد شرعا.(3/635)
1959 - ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الملامسة والمنابذة» ، وفي رواية لمسلم «أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه، بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر كل واحد منهما ثوب صاحبه» .
1960 - وفي الصحيحين عن أبي سعيد نحوه، متنا وتفسيرا، والمنع من ذلك كان لاختلال شرط في المبيع، وهو العلم به، وقد فسر أيضا بأن يقول: أي ثوب لمسته فهو علي بكذا، أو أي ثوب نبذته فهو علي بكذا، وهنا يجتمع مفسدان: الجهالة، والتعليق على شرط، والله أعلم.
[بيع الحمل في البطن دون الأم]
قال: وكذلك بيع الحمل في البطن دون الأم.
ش: أي غير جائز، وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك.
1961 - وفي الصحيحين عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع حبل الحبلة» ، وكان بيعا يتبايعه أهل(3/636)
الجاهلية، يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، وتنتج التي في بطنها.
1962 - وروى مالك عن ابن شهاب، أن سعيد بن المسيب كان يقول: لا ربا في الحيوان، «وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نهى في بيع الحيوان عن ثلاث، المضامين والملاقيح، وحبل الحبلة» ، فالمضامين ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال، والنهي عن ذلك لعدم العلم بالمبيع، وانتفاء(3/637)
القدرة على التسليم.
وقول الخرقي: دون الأم. احترازا مما إذا باعه مع أمه، فإنه يصح، تبعا لأمه، كأس الحيط، ويدل هذا من كلامه على أن للحمل حكما، وأنه يأخذ قسطا من الثمن، وهو التحقيق، واختيار أبي محمد وغيره، وعن القاضي أنه لا حكم له وبيان ذلك، وما يتفرع عليه له محل آخر.
(تنبيه) : «حبل الحبلة» بفتح الباء فيهما على الصحيح رواية ولغة، والحبل مصدر: حبلت المرأة. بكسر الباء: تحبل. بفتحها، إذا حملت، والحبلة جمع حابل كظالم وظلمة، وأصل الحبل في بنات آدم، والحمل في غيرهن، قاله أبو عبيد، وقد فسر ابن عمر ذلك، وإلى تفسيره صار الفقهاء، وقال المبرد: حبل الحبلة حمل الكرمة قبل أن تبلغ، والحبلة الكرمة، بسكون الباء وفتحها «والمضامين، والملاقيح» قد فسرهما سعيد بن المسيب، قال الشافعي: الملاقيح ما في بطون الإناث، والمضامين ما في(3/638)
ظهور الجمال. وكذا فسره أبو عبيد وغيره، والله أعلم.
[بيع عسب الفحل]
قال: وبيع عسب الفحل غير جائز.
ش: عسب الفحل ضرابه، وبيع ذلك - وكذلك إجارته لذلك - لا تصح، للنهي عن ذلك.
1963 - ففي البخاري عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن عسب الفحل» .
1964 - وفي مسلم: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ضراب الفحل» ، ولأنه لا يتحقق تسليم ذلك، لأنه معلق باختيار الفحل وشهوته.(3/639)
ولابن عقيل احتمال: يجوز إجارته لذلك، لأنها منفعة مقصودة، والغالب حصول النزو، فيكون ذلك مقدورا عليه، وجوز أبو محمد دفع الأجرة دون أخذها، لاحتياج الدافع إلى ذلك.
1965 - ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الحجام.
1966 - وقال: «إن كسبه خبيث» وفيما قاله نظر، لأنه إن سلم أن الخبيث المحرم فالمراد بالكسب الأجرة، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدفع إليه ذلك أجرة، وإلا يلزم أنه أعانه على المعصية،(3/640)
وهو ممتنع قطعا، وإنما دفع إليه ما دفعه على سبيل البر والصلة.
وقد بالغ إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فمنع أن يعطى صاحب الفحل شيئا على سبيل الهدية ونحوها، وقوفا على ما ورد، وقال: لم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى في مثل هذا شيئا، كما بلغنا في الحجام، وقد قرر القاضي ذلك، وقال: إنه مقتضى النظر، لكن ترك في الحجام للنص، فيبقى فيما عداه على مقتضى المنع، وأبو محمد حمل كلام الإمام أحمد على التورع، وجوز الدفع إليه على سبيل الهدية ونحوها.
1967 - لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من بني كلاب سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عسب الفحل، فنهاه عن ذلك، فقال: يا رسول الله إنا نطرق ونكرم، فرخص في الكرامة» ، رواه الترمذي، (قلت) : وهذا الحديث الظاهر أنه لم(3/641)
يثبت عند الإمام، والله سبحانه أعلم.
[بيع النجش]
قال: والنجش منهي عنه.
ش: هذا مما لا ريب فيه.
1968 - فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تتلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد» .
1969 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النجش» ، والنجش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها، وليس في نفسك شراؤها، فيقتدي بك غيرك.(3/642)
1970 - وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا، خائن، وهو خداع باطل لا يحل. ذكره البخاري تعليقا.
وظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن البيع مع النجش صحيح، لأنه قال: والنجش منهي عنه، وقال فيما تقدم: غير جائز، وهذا هو المذهب المشهور، لأن النهي لحق آدمي معين، ويمكن تداركه، فأشبه تلقي الركبان، وبيع المدلس، ونحو ذلك، وقيل عن أحمد رواية أخرى، أن البيع باطل تغليبا لحق الله تعالى في النهي، وقال أبو محمد: إن هذا اختيار أبي بكر، والذي في التنبيه: أن النجش لا يجوز.
وفي المذهب قول ثالث، صححه ابن حمدان: إن نجش البائع، أو واطأ على ذلك بطل البيع، وهذا القول خرجه صاحب التلخيص من قول أبي بكر، في إبطال البيع بتدليس العيب، وهو يؤيد رد ما حكاه عنه أبو محمد من البطلان(3/643)
مطلقا، انتهى، ووجه هذا القول أن البائع أحد ركني العقد، فارتكابه النهي يفسد البيع، بخلاف الأجنبي.
وإذا صح البيع فحيث غر المشتري - وذلك بأن كان جاهلا بالقيمة، فغبن غبنا يخرج عن العادة - ثبت له الخيار، نص عليه، دفعا للضرر عنه المنفي شرعا، أما إن كان عارفا بالقيمة فلا خيار له، لأنه الظالم لنفسه بتفريطه.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض للخيار، فيحتمل أنه لم ير ذلك، كما هو قول بعض أهل العلم، لأنه فرط، حيث اشترى ما لا يعرف قيمته، والله أعلم.
قال: وهو أن يزيد في السلعة، وليس هو مشتريا لها.
ش: هذا تفسير النجش، وإذا يغر المستام، وهو نحو تفسير ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو حرام وخداع، كما قال ابن أبي أوفى، وقد زاد بعض أصحابنا في تفسيره، فقال: ليغر الغر. وهو حسن، لأن غير الغر - وهو العارف بالقيم -(3/644)
لا يغتر بمثل ذلك، وإن اغتر فذلك لعجلته، وعدم تأمله، وأصل النجش قيل: الاستثارة والاستخراج، ومنه سمي الصائد ناجشا، لاستخراجه الصيد من مكانه، فالزائد في السلعة كأنه استخرج من المستام في ثمن السلعة ما لا يريد أن يخرجه، وقيل: أصل النجش مدح الشيء وإطراؤه، والناجش يغر المشتري بمدحه، ليزيد في الثمن، انتهى. وحكم زيادة المالك في الثمن - كأن يقول: أعطيت في هذه السلعة كذا. وهو كاذب - حكم نجشه، والله أعلم.
[بيع الحاضر للبادي]
قال: فإن باع حاضر لباد فالبيع باطل.
ش: الحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم بالبادية، والمراد هنا بالبادي - على ما قال أبو محمد - من يدخل البلدة من غير أهلها، وإن كان من قرية أو من بلدة أخرى، والحاضر المقيم في البلد، ولا ريب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحاضر للبادي» .
1971 - فعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا بيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» رواه مسلم، والترمذي، وأبو داود، والنسائي.(3/645)
1972 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه لأبيه وأمه» .
1973 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» متفق عليهما.
1974 - وروي أيضا ذلك من حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وطلحة بن عبيد الله، وإنما نهى عن ذلك - والله أعلم - لأنه متى ترك القادم يبيع سلعته اشتراها الناس منه برخص، وتوسع عليهم السعر، بخلاف ما إذا تولى الحاضر بيعها، فإنه لا يبيعها غالبا إلا بغلاء، وإذا يحصل الضرر لأهل البلد،(3/646)
وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تعليله إلى ذلك.
ولما كان هذا المعنى وجوده في أول الإسلام أكثر، لما كان عليهم من الضيق، اختلف العلماء في بقاء النهي، وعن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك روايتان (إحداهما) زواله، وقال: كان ذلك مرة.
(والثانية) - وهي المشهورة عنه، وعليها الأصحاب - بقاؤه، لعمومات النهي، ووجود المعنى إذا، فعلى الأولى لا تفريع، أما على المذهب فإذا باع الحاضر لهم، فهل يبطل البيع بشرطه، وبه قطع الخرقي، اعتمادا على النهي لاقتضائه فساد المنهي عنه، ولأن الضرر لا يمكن تداركه لأنه لآدمي غير معين، بخلاف تلقي الجلب، أولا يبطل، لأن النهي لمعنى يتعلق بعين المعقود عليه، وهو النظر لأهل البلد، لمقصود التوسعة، فهو كتلقي الركبان، نظرا لحق الجالبين، لكن ثبت الخيار ثم، لاختصاص الضرر بالعاقد، وهنا غلاء السعر عام؟ على روايتين، وجعل ابن المنجا الصحة على القول بزوال النهي، والبطلان على القول ببقائه ليس بشيء، إنما الروايتان على القول بالبقاء.(3/647)
ومقتضى كلام الخرقي صحة الشراء للبادي، وهو كذلك، لأن النهي إنما ورد عن البيع، لمعنى يختص به، وهو الرفق بأهل الحضر، وهذا غير موجود في الشراء للبادي، إذ لا يتضرر الحاضر إذا لم يغبن البادي، والخلق في نظر الشارع على السواء.
(تنبيه) : هل للحاضر أن يشير على البادي، من غير أن يباشر العقد؟ مال أبو محمد إلى جواز ذلك.
1975 - اقتداء بطلحة بن عبيد الله، فإنه قال لباد سأله أن يبيع له: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يبيع حاضر لباد» ، ولكن اذهب إلى السوق، فإن جاءك من يبايعك فشاورني، حتى آمرك وأنهاك.
1976 - (قلت) : وقد روى البيهقي في سننه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه» وهذا نص إن صح، والله أعلم.(3/648)
قال: وهو أن يخرج الحضري إلى البادي، وقد جلب السلع، فيعرفه السعر، ويقول: أنا أبيع لك بكذا، فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» .
ش: أي بيع الحاضر للبادي - الذي قد نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والذي هو باطل - هو هذا، وهو (أن يخرج الحضري إلى البادي) أي ليبيع له، فإن كان القاصد هو البادي لم يكن للحاضر أثر في الفعل، وإذا يصح البيع، ويزول النهي، وعموم الأحاديث - وهو الذي فهمه طلحة ابن عبيد الله - يقتضي عدم اشتراط ذلك، انتهى. (وأن يكون) البادي جلب السلع، أي للبيع لا للخزن ونحو ذلك، [لأن المنع كان لأجل التوسعة، ومع قصد الخزن ونحو ذلك التوسعة في ترغيبه في البيع] . (وأن يكون) البادي جاهلا بالسعر، والحاضر عارفا به، ليعرفه إياه، لأنه(3/649)
إذا كان عارفا بالسعر لم يزده الحاضر على ما عنده شيئا، وحكى ابن أبي موسى رواية بالبطلان وإن عرف البادي السعر، ورواية بالبطلان أيضا وإن جهل الحاضر السعر.
وزاد القاضي وغيره شرطين آخرين (أحدهما) أن يريد البادي البيع بسعر اليوم، فإن كان قصده البيع بسعر معلوم، كان المنع من البيع من جهته، لا من جهة الحاضر، وزاد بعضهم في هذا الشرط: أن يقصد البيع بسعر اليوم حالا لا نسيئة. (الشرط الثاني) أن يكون بالناس حاجة إليها، لأن مع عدم حاجتهم التوسعة مستغنى عنها، وهذه الشروط الخمسة شروط للبطلان والنهي، متى فقد واحد منها صح البيع، وزال النهي، والله سبحانه أعلم.
[حكم تلقي الركبان]
قال: ونهى عن تلقي الركبان.
1977 - ش: الأصل في ذلك ما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق» .(3/650)
1978 - وعن ابن عباس: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتلقى الركبان، ولا يبيع حاضر لباد» . متفق عليهما.
1979 - وفي الصحيح أيضا نحو ذلك عن ابن مسعود، وأبي هريرة.
(تنبيه) : يجوز تلقي الجلب في أعلى السوق، قاله أبو محمد، لأن في حديث ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها إلى السوق» . والله أعلم.
قال: فإن تلقوا واشترى منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق، وعرفوا أنهم قد غبنوا، إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا.
ش: إذا تلقيت الركبان فاشترى منهم، فهل يصح البيع، وهو المذهب المنصوص المقطوع به.
1980 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه شيئا فصاحبه بالخيار إذا جاء السوق» روه مسلم، وأبو داود،(3/651)
والترمذي. ولأن الحق في النهي لآدمي معين، أمكن تداركه، وبهذا فارق الحاضر للبادي، والبيع في وقت النداء، أو لا يصح، اعتمادا على عامة الأحاديث في النهي المطلق؟ على روايتين.
وعلى المذهب للركبان الخيار إذا هبطوا السوق، ورأوا أنهم قد غبنوا، على ظاهر الحديث، وقول عامة الأصحاب، ولم يشترط ذلك بعض المتأخرين، بل العلم بالغبن لأن دخول السوق في الحديث حيلة - والله أعلم - بمعرفة الغبن، فإذا عرف قبل ثبت له الخيار.
وشرط ثبوت الخيار بالغبن أن يكون فاحشا، يخرج عن العادة على المذهب، وقدره بعض الأصحاب بالسدس،(3/652)
وبعضهم بالثلث، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق الغبن فيحتمل أنه اكتفى بمجرد الغبن، ويحتمل أن يكون موافقا للأصحاب، إذ الغبن إذا لم يخرج عن العادة لم يطلق عليه في العرف غبن.
وحكم البيع لهم حكم الشراء منهم، إذ الخديعة موجودة فيهما، وإذا الخرقي إنما ذكره الشراء لأنه الغالب.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الحكم مخصوص بقصد التلقي، فلو خرج بغير قصد، فوافقهم فاشترى منهم، لم يحرم عليه ذلك، وهو احتمال لأبي محمد، وقال القاضي: لا فرق بين القصد وعدمه في امتناع الشراء منهم، إذ النهي دفعا للخديعة والغبن عنهم، وهذا موجود وإن لم يقصد التلقي.(3/653)
(تنبيه) : المعنى في النهي عن التلقي، والله أعلم، أن المتلقي غالبا إما أن يكذب في سعر البلد، وإذا يكون غارا غاشا، أو يسكت فيكون مدلسا خادعا، أما إن صدق في سعر البلد، فهل يثبت للركبان الخيار، لعموم النهي أو لا يثبت لانتفاء الخديعة؟ فيه احتمالان والله أعلم.
[بيع العصير ممن يتخذه خمرا]
قال: وبيع العصير ممن يتخذه خمرا باطل.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لأنه وسيلة إلى المحرم، والوسيلة إلى المحرم محرمة بلا ريب، وإذا يبطل البيع لارتكاب المحرم، قال جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] .
1981 - وفي السنن «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها» وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها.(3/654)
وفي المذهب قول آخر: يصح البيع مع التحريم، وشرط البطلان على البائع قصد المشتري ذلك، إما بقوله، أو بقرائن دلت على ذلك، أما إن ظن ذلك ولم يتحققه فإن البيع يصح مع الكراهة، قاله صاحب التلخيص، وحكم ما كان وسيلة إلى المحرم كذلك، كبيع السلاح للبغاة، أو لأهل الحرب، أو الجارية للغناء، أو الأقداح والخبز والفواكه والمشموم والشموع لمن يشرب عليها المسكر، والبيض للقمار، والحرير لمن يحرم عليه، ونحو ذلك، أما بيع السلاح من أهل(3/655)
العدل لقتال البغاة، وقطاع الطريق، فجائز، والله أعلم.
قال: ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد.
ش: يبطل البيع بشرطين في الجملة.
1982 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» رواه أبو داود، والترمذي وصححه، ولا يبطل بشرط واحد، لمفهوم ما تقدم.
1983 - وللحديث الصحيح «من باع نخلا مؤبرة فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع» .
1984 - قال الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شرطين في البيع، قال: وحديث جابر يدل على إباحة(3/656)
الشرط، حين باعه جملة، واستثنى ظهره إلى المدينة، ويستثنى من ذلك - على رأي الخرقي - جز الرطبة فقط، وما في معناها على ما تقدم.
وعموم كلام الخرقي يدخل فيه الشرط الفاسد، فلا يفسد البيع به، وهو إحدى الروايتين، وقد تقدم ذلك أيضا.
(تنبيه) : اختلف في الشرطين المبطلين للعقد، فعن القاضي في المجرد أنهما شرطان مطلقا، أي سواء كانا صحيحين أو فاسدين، من مصلحة العقد أو من غير مصلحته، زاعما أن هذا ظاهر كلام أحمد، ومعتمدا على إطلاق الحديث، وكذلك قال ابن عقيل في التذكرة، معللا بأن اشتراط الشرطين يفضي إلى اشتراط الثلاثة، وما لا(3/657)
نهاية له، وعن أحمد أنه فسرهما بشرطين صحيحين، ليسا من مصلحة العقد، كأن يشتري حزمة حطب، ويشترط على البائع حملها وتكسيرها، أو ثوبا ويشترط خياطته وتفصيله، ونحو ذلك، لا ما كان من مصلحته، كالرهن، والضمين، فإن اشتراط مثل ذلك لا يؤثر، وإن كثر، ولا ما كان من مقتضاه بطريق الأولى، ولا الشرطين الفاسدين، إذ الواحد كاف في البطلان، وهذا اختيار الشيخين، وصاحب التلخيص، والقاضي في شرحيه، وغالى أبو محمد فقال: إن ما كان من مقتضى العقد كاشتراط تسليم المبيع، وحلول الثمن، لا يؤثر فيه بلا خلاف. وعن الإمام أنه فسرهما بشرطين فاسدين، وكذلك بعض الأصحاب، وضعفه صاحب التلخيص، بأن الواحد يؤثر في العقد، فلا حاجة إلى التعدد، ويجاب بأن الواحد في تأثيره خلاف، أما الشرطان فلا خلاف في تأثيرهما، والله أعلم.(3/658)
قال: وإذا قال: أبيعك بكذا، على أن آخذ منك الدينار بكذا، لم ينعقد البيع، وكذلك إن باعه بذهب، على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه.
ش: إذا شرط عقدا في عقد، مثل أن باعه شيئا بدراهم، وشرط أن يصارفه عن الدراهم بدنانير معلومة: أو بذهب وشرط أن يأخذ دراهم، أو باعه داره على أن يبيعه داره الأخرى، أو على أن يبيعه المشتري داره، أو على أن يؤجرها له، ونحو ذلك، فالمذهب المشهور أن العقد يبطل.
1985 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة» ، رواه الترمذي وصححه، قال إمامنا:(3/659)
هذا معناه. ولما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو «لا يحل سلف وبيع» وفي المذهب قول آخر، حكاه أبو محمد، تخريجا من الشروط المنافية لمقتضى العقد، كأن لا يبيع، ولا يهب، وأبو البركات حكاه رواية: يصح العقد، ويبطل الشرط، كما ثبت ذلك بالنص في شرط الولاء.
واعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال قبل: إن البيع لا يبطله شرط واحد، وقال هنا بالبطلان، فيحتمل أن مذهبه أن كل الشروط الفاسدة تبطل البيع، ويكون ما تقدم مرادا به الشرط الصحيح، ويحتمل أن يخص البطلان بهذا الشرط وما في معناه من اشتراط عقد في عقد.
(تنبيه) : للعلماء في تأويل بيعتين في بيعة تأويل آخر، قاله مالك، والشافعي وغيرهما، وهو أن يقول بعتك(3/660)
بعشرة نقدا، أو بعشرين نسيئة، أو بعتك بدينار، أو بعشرة دراهم، ونحو ذلك، وهذا أيضا لا يصلح على المذهب، لعدم العلم بالمبيع، وخرج أبو الخطاب في الهداية صحة ذلك، من رواية: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم، وتردد أبو محمد في التخريج، وفرق على البيع بأن العقد ثم تمكن صحته، لكونه جعالة، تحتمل فيها الجهالة، وبأن العمل الذي يستحق به الأجرة لا يقع إلا على إحدى الصفتين، فتتعين الأجرة المسماة عوضا، فلا تنازع، بخلاف هنا، وفي كليهما نظر، لأن العلم بالعوض في الجعالة شرط، كما هو في الإجارة، والبيع والقبول أيضا في البيع لا يقع إلا على إحدى الصفتين فيتعين ما سمي لها، والله أعلم.
1986 - ش: لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي ليتيم مالا فليتجر به، ولا يدعه حتى تأكله الصدقة» رواه الترمذي.(3/661)
1987 - وروي نحوه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال علماء الحديث: وهو أصح من المرفوع.
1988 - وعن القاسم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كانت عائشة تزكي أموالنا وإنها لتتجر بها في البحرين. ولأن ذلك أحظ لليتيم، لكون نفقته تكون في ربحه، والولي يفعل الأحظ، ويشعر هذا التعليل بأن شرط الاتجار به كونه في المواضع الآمنة، ولا بد من ذلك، وحكم الأب والحاكم، وأمينه حكم الوصي بل أولى، وظاهر كلام أبي محمد في(3/662)
المغني أو صريحه أن ذلك على سبيل الجواز والندبية، لا على سبيل الوجوب، إذ لا يجب على الولي أن يحصل له نفع، بل الواجب عليه أن لا يضره، وأورد على هذا إذا وهب له من يعتق عليه، ولا تلزمه نفقته، أنه يجب على الولي القبول، ويجاب بأن هنا محض مصلحة، من غير ضرر ما، بخلاف ما تقدم، فإن على الولي ضررا في تفويت منافعه، والله أعلم.
قال: ولا ضمان عليه.
ش: أي إذا اتجر الوصي بمال اليتيم، فخسر المال أو تلف، فلا ضمان عليه، لأنه فعل ما أذن له فيه، أشبه ما لو أحرزه في حرز مثله فتلف، ونحو ذلك، والله أعلم.(3/663)
قال: والربح كله لليتيم.
ش: لأنه نماء ملكه، فكان له كبقية أملاكه، وليس للولي من ذلك شيء، لأنه إنما يكون له ذلك بعقد، وليس له أن يعقد مع نفسه، لقوة التهمة عليه في ذلك، والله أعلم.
قال: فإن أعطاه لمن يضارب له به فللمضارب من الربح ما وافقه عليه الوصي.
ش: للوصي أن يدفع المال إلى من يتجر فيه، كما لو أن يتجر فيه بنفسه.
1989 - وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فعل ذلك وله أن يجعل للمدفوع إليه جزءا من الربح، لأن ذلك مما يعد في العرف [مصلحة] و [تصرف] الولي منوط بالمصلحة، والله أعلم.
قال: وما استدان العبد فهو في رقبته، يفديه سيده، أو يسلمه، فإن جاوز ما استدان قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته، إلا أن يكون مأذونا له في التجارة، فيلزم مولاه جميع ما استدان.(3/664)
ش: للعبد في استدانته ونحوها حالتان: (إحداهما) : أن يكون مأذونا له في التجارة، فهذا ما استدانه كبيع أو قرض ونحوهما (هل يلزم سيده) ؟ وهو المشهور من الروايات واختيار الخرقي، والقاضي، وأبي الخطاب، وغيرهم، لأنه أغرى الناس بمعاملته، بإذنه فيها، أشبه ما لو قال: داينوه.
1990 - ولعموم ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع عبدا وله مال، فله ماله وعليه دينه، إلا أن يشترط المبتاع» رواه البيهقي في سننه، وقال: هذا إن صح فالمراد العبد المأذون له في التجارة. (أو برقبة العبد) ؟ لأنه القابض للمال، المتصرف فيه، أشبه غير المأذون له. (أو بذمة السيد) لإذنه، (ورقبة العبد) لقبضه المال؟ على ثلاث روايات، وبنى أبو العباس الروايتين الأولتين على أن تصرفه مع الإذن هل هو لسيده فيتعلق ما أدانه بذمته كوكيله، أو لنفسه فيتعلق برقبته؟ على روايتين، انتهى.
ومحل الخلاف فيما ثبت ببينة، أو بإقرار السيد، أما ما أنكره(3/665)
السيد، ولا بينة به، فإنه يتعلق بذمة العبد إن أقر به، وإلا فهو هدر.
وعموم كلام الخرقي وكثير من الأصحاب يقتضي جريان الخلاف [وإن كان في يده مال، ويؤيد إرادة ذلك ما حكاه أبو محمد، بعد حكاية الخلاف] عن مالك، والشافعي رحمهما الله، أنهما قالا: إن كان في يده مال قضي دينه منه، وإلا تعلق بذمته، ومقتضى ذلك أنا نخالفهما في ذلك، ثم إذا قلنا: إنه كالوكيل. فإن العهدة تتعلق بالموكل الذي هو السيد هنا، وإن كان له في يد موكله مال، وجعل ابن حمدان محل الخلاف فيما إذا عجز ما في يده عن الدين.
«تنبيهان» : «أحدهما» : حكم ما استدانه أو اقترضه بإذن سيده حكم ما استدانه حيث أذن له في التجارة، قاله في المغني، وقطع في التلخيص والبلغة بلزومه للسيد، وكذا قال أبو العباس، وهو ظاهر كلام المجد. «الثاني» : قال أبو(3/666)
محمد - وتبعه ابن حمدان -: لا فرق في الذي استدانه بين أن يكون في [الذي] أذن له فيه، أو في الذي لم يأذن له فيه، كأن يأذن له في التجارة في البر مثلا، فيتجر في غيره، إناطة بتغرير السيد، وفيه نظر.
(الحالة الثانية) العبد غير المأذون له، ولتصرفه حالتان أيضا: (إحداهما) : أن يتصرف في عين المال، إما لنفسه أو للغير، فهذا كالغاصب، أو كالفضولي، على ما هو مقرر في موضعه (الثانية) أن يتصرف في الذمة، فهل يصح تصرفه، إلحاقا له بالمفلس، إذ الحجر عليه لحق غيره وهو السيد، أو لا يصح إلحاقا له بالسفيه، إذ أهليته ناقصة، وإذن السيد مكمل لها؟ فيه قولان، حكاهما أبو محمد، وصاحب التلخيص وجهين، وأبو البركات روايتين، فعلى الأول ما اشتراه أو اقترضه، إن وجد في يده انتزع منه، لتحقق إعساره، قاله أبو محمد وصاحب التلخيص، وغيرهما، وإن أخذه سيده لم ينتزع منه على المشهور، لأنه وجده في يد مملوكه بحق، أشبه ما لو وجد في يده صيدا ونحو ذلك، واختار صاحب التلخيص جواز الانتزاع منه،(3/667)
معللا بأن الملك واقع للسيد ابتداء، وإن تلف بيد السيد لم يضمنه، ثم هل يتعلق ثمنه برقبة العبد، أو بذمته، على الخلاف الآتي؟ وكذلك إن تلف بيد العبد، ومقتضى كلام أبي البركات أنه لا ينتزع ولو كان بيد العبد، وأن الثمن يتعلق بذمته بلا نزاع، ويظهر قوله إن علم البائع أو المقرض بالحال، أما إذا لم يعلم فيتوجه قول الأكثرين، وعلى الثاني - وهو بطلان التصرف - يرجع مالك العين في عينه حيث وجدها، فإن تلفت في يد العبد فهل تتعلق قيمتها برقبته كجناياته، وهو المشهور، واختيار الخرقي، وأبي بكر، أو بذمته، يتبع بها إذا عتق، حذارا من تضرر السيد.
1991 - ولعموم ما روى ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الفقهاء التابعين من أهل المدينة، قال: كانوا يقولون: دين المملوك في ذمته. رواه البيهقي في سننه، أو إن علم رب العين(3/668)
بكونه عبدا فلا شيء له، لأنه المتلف لماله، نص عليها في رواية حنبل، معللا بما تقدم؟ على ثلاث روايات، وإن تلفت بيد السيد فكذلك، على مقتضى كلام المجد، وقال أبو محمد، وصاحب التلخيص، وغيرهما: يرجع إن شاء على السيد، وإن شاء على العبد، ثم إن أبا محمد مال إلى رقبته، ومال صاحب التلخيص وابن حمدان إلى ذمته.
وحيث علق شيء من ذلك برقبة العبد، فإن سيده يخير بين تسليمه أو فدائه، فإن سلمه برئ، وإن لم تف قيمته بالحق، أما إن سلم فبيع، وفضلت من ثمنه فضلة عن أرش جنايته، فهل تكون لسيده - وهو اختيار أبي محمد -، أو للمجني عليه - وهو ظاهر كلام الإمام، على ما قاله القاضي -؟ فيه قولان، وإن فداه وكذا إن أعتقه فهل يلزمه أرش الجناية، بالغة ما بلغت، أو لا يلزمه إلا الأقل من قيمته، أو أرش جنايته، وهو المشهور؟ على روايتين، والله أعلم.(3/669)
[بيع الكلب]
قال: وبيع الكلب باطل، وإن كان معلما.
1992 - ش: لما في الصحيحين، عن أبي مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي وحلوان الكاهن» .
1993 - وقال «ثمن الكلب خبيث» رواه مسلم.
1994 - وأصرح منها ما في سنن البيهقي - وقد جود إسناده - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي» .(3/670)
وقول الخرقي: وإن كان معلما. لأن بعض العلماء أجاز بيع المعلم دون غيره، وإليه ميل بعض المتأخرين من أصحابنا.
1995 - لأن في رواية لأبي هريرة إلا كلب الصيد وكذلك في حديث لجابر، لكنهما ضعيفان، قال البيهقي: الثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خال من هذا الاستثناء والاقتناء، ونحو ذلك قال الدارقطني وغيره، والله أعلم.(3/671)
قال: ومن قتله وهو معلم فقد أساء.(3/672)
ش: فسر أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أساء» بالتحريم، وذلك لأنه حيوان يباح اقتناؤه، والانتفاع به، فحرم إتلافه كالشاة.
1996 - ولعموم «لا ضرر ولا ضرار» وكذلك حكم كل كلب يباح اقتناؤه ككلب الماشية والزرع، لا لحفظ البيوت على الأشهر، أما ما لا يباح اقتناؤه، ولا أذى فيه، فقال أبو محمد: لا يباح قتله. ويحتمله كلام الخرقي في المحرم في قوله: وله أن يقتل الحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور، وكل ما عدا عليه، أو آذاه، ولا فداء عليه.
1997 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها، فنقتله، ثم نهى عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم،(3/673)
ذي النقطتين، فإنه شيطان» رواه مسلم.
وقوة كلام الخرقي هنا يقتضي عدم التحريم، لتخصيصه الحكم بالمعلم، وبه قطع أبو البركات، مع القول بالكراهة، وقد ينبني ذلك على النهي بعد الأمر. [هل هو لما قبل الأمر] ، أو للكراهة؟ على قولين، أشهرهما الأول، ويستثنى على كل حال الكلب الأسود البهيم، فإنه يباح قتله للحديث، وكذلك الكلب العقور.
1998 - لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خمس من الدواب كلهن فواسق، يقتلن في الحرم، الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» ويقتلان وإن كانا معلمين، ويلحق بالكلب العقور كل ما آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم، فإنه يباح قتله، وما لا أذى فيه لا يباح قتله على قول أبي محمد، ويباح على قول المجد، ولا غرم عليه عند المجد، لكن يكره تنزيها، والله أعلم.
قال: ولا غرم عليه.
ش: إذا قتل الكلب قاتل غرم عليه، وإن كان معلما(3/674)
لأنه لا يقابل بالعوض شرعا للنهي عنه وجعله خبيثا.
1999 - وقد جاء في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثمن الخمر، ومهر البغي، وثمن الكلب، وقال: «إذا جاء يطلب ثمن الكلب، فاملأ كفه ترابا» رواه أبو داود.
2000 - وما جاء عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما غرما قاتل الكلب، فقد ضعفا. والله أعلم.
[بيع الفهد والصقر المعلم والهر]
قال: وبيع الفهد والصقر المعلم جائز.
ش: وكذلك ما في معناهما كالشاهين، والبازي، ونحوهما، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، لأنه حيوان يباح(3/675)
نفعه واقتناؤه مطلقا، فأشبه البغل والحمار، [ولعموم {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] إن قيل بعمومه. (والثانية) : - واختارها أبو بكر، وابن أبي موسى - لا يجوز، إلحاقا لها بالكلب، لنجاستها، إذ المنع منه معلل بذلك، وخرج البغل والحمار] ، وإن قيل بنجاستهما بالإجماع، على أن ابن عقيل خرج فيهما قولا بالمنع. انتهى، ومقتضى هذا التعليل تخصيص محل الخلاف، وجعله على القول بنجاسة ذلك، وكثير من الأصحاب يطلق الخلاف، وقد أكد ابن حمدان إرادة الإطلاق، فقال - بعد ذكر الروايتين -: وقيل: ما قيل بطهارته منها صح بيعه، وما لا فلا.
وقول الخرقي: المعلم. يحترز عن غير المعلم فإنه لا يجوز بيعه، لعدم الانتفاع به، نعم إن قبل التعليم جاز بيعه على الأشهر، كالجحش الصغير، والله أعلم.(3/676)
قال: وكذلك بيع الهر.
ش: أي يجوز بيعه، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، لما تقدم.
2001 - ولما في الصحيح «أن امرأة دخلت النار في هرة لها حبستها» ، والأصل في اللام أنها للملك، (والثانية) : واختارها أبو بكر: لا يجوز.
2002 - لما في مسلم، «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه سئل عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك» .(3/677)
2003 - وعنه أيضا: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] عن ثمن الهر» ، رواه أبو داود، وحمل على غير المملوك، أو على ما لا نفع فيه، أو على الهر المتوحش، أو على أن ذلك كان في الابتداء، لما كان محكوما بنجاسته، ثم لما حكم بطهارة سؤره حل ثمنه، وكلها محامل ودعوى لا دليل عليها، والله أعلم.
قال: وكل ما فيه المنفعة.
ش: أي يجوز بيعه، وقد علم من هذا إناطة الحكم عنده بما فيه منفعة، وكذلك الثياب، والعقار، وبهيمة الأنعام، ونحو ذلك، لأن الحكمة في جواز البيع الانتفاع وشرط المنفعة أن تكون مباحة، لتخرج آلات اللهو ونحوها، ويستثنى من ذلك الوقف، وأم الولد، والمدبر، والزيت النجس، على خلاف في بعض ذلك، وبسط ذلك يحتاج إلى طول، والله سبحانه أعلم.(3/678)
[كتاب السلم]
ش: يقال: سلم وأسلم، وسلف وأسلف، والسلم والسلف عبارتان عن معنى واحد، قاله الأزهري وغيره، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب السلم، لأن السلف يقال على القرض، ولذلك بوب الخرقي وغيره السلم، دون السلف، وهو نوع من البيع، ينعقد بما ينعقد به، وبلفظه، ويشترط له ما يشترط له، ويزيد شروطا يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، وهو جائز بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
2004 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية، وفي رواية: إن الله قد أحله في كتابه، وأذن فيه، وقال الآية، رواهما البيهقي في سننه. ولا ريب أن الآية الكريمة شاملة له.(4/3)
2005 - وفي الصحيحين عنه قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» أقر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وبين شرطه، والله أعلم.
[شروط السلم]
قال: وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز.
ش: يشترط للمسلم فيه شروط، دل كلامه هنا منها على شرطين (أحدهما) : أن يكون مما يتأتى ضبطه بالصفة، ليوجد شرط المبيع، وهو العلم به، فعلى هذا يصح السلم في المكيل، والموزون، والمذروع، ونحوها، لتأتي الصفة على ذلك، وقد أقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السلف في الثمار، وقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» .
2006 - وروى البخاري عن عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، قالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة، والشعير،(4/4)
والزبيب، في كيل معلوم إلى أجل معلوم، فقلت: أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. وأجمع المسلمون على جواز السلم في الثياب، وعلى جوازه في الطعام، قاله ابن المنذر، ولا يصح فيما لا ينضبط بالصفة، كجوهر، وما فيه أخلاط مقصودة لا تتميز، كمعجون، وثمن مغشوش، وحامل من حيوان، وشاة لبون، على الصحيح فيها، وفي الرؤوس، والجلود - والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط، ونحو ذلك، وكذلك ما يجمع أخلاطا تتميز، كالخفاف، والقسي، والنبل المريش، والثوب المنسوج من نوعين، والمعدود(4/5)
المختلف، كالحيوان، والبيض، والرمان، ونحو ذلك، واللحم المشوي، والمقلي، والمطبوخ - خلاف، وبسط ذلك له محل آخر.
ويشترط في الصفة أن تكون بحيث يعرف بها المبيع عرفا، لما تقدم، فيصفه بما يختلف به الثمن غالبا، فيذكر جنسه كتمر، ونوعه كبرني، وبلده كعراقي، وقدره كصغار أو كبار، وحداثته كحديث، وجودته كجيد، أو عكسهما كقديم ورديء، ولا يصح: أجود، ويصح: أردى، على أصح الوجهين، وقد يزاد على هذه، أو ينقص منها، بحسب المسلم فيه وليس هذا موضع استقصاء ذلك.(4/6)
(الشرط الثاني) : كونه في الذمة، فلا يصح في عين، لأن لفظ السلم والسلف للدين.
2007 - «وعن رجل من أهل نجران قال: قلت لابن عمر: أسألك عن السلم في النخل، قال: أما السلم في النخل فإن رجلا أسلم في نخل لرجل، فلم يحمل ذلك العام، فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «بم يأكل ماله؟ فأمره فرده عليه، ثم نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه» ، رواه أبو داود وغيره.
2008 - وفي الصحيح «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: نهي عن بيع النخل حتى يبدو صلاحه» . وقيل: إن أهل المدينة كانوا يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها، فلما قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاهم عن ذلك، وقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم» الحديث، والله أعلم.(4/7)
قال: إذا كان كيل معلوم أو وزن معلوم، أو عدد معلوم.
ش: هذا (الشرط الثالث) : وهو أن يقدر المسلم فيه: بكيل معلوم عند العامة، إن كان مما يكال، أبو بوزن كذلك إن كان مما يوزن، لما تقدم من حديث ابن عباس، أو بعدد، أو ذرع كذلك، قياسا على ما تقدم، ولأنه عوض ثبت في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن، ولا يتعين ما عيناه من كيل العامة، ونحوه على المذهب، لعدم الفائدة في ذلك، وهل يفسد به العبد؟ فيه وجهان، ولا يصح بإناء أو صنجة غير معلومين عند العامة، لاحتمال هلاك ذلك، وإذا يتعذر المسلم فيه، وذلك غرر، ولا حاجة إليه، ومن ثم اشترط أن يكون المكيال والميزان - وكذلك الوصف - بلغة يفهمها غير المتعاقدين، فإن فهمها عدلان دون أهل الاستفاضة كفى على المقدم، لارتفاع التنازع بالرجوع إليهما انتهى.
ومقتضى ما تقدم أنه لا يصح السلم فيما يكال وزنا، ولا فيما يوزن كيلا، وهو المشهور، والمختار للعامة، ونص عليه الإمام في المكيل لا يسلم فيه وزنا قياسا كالربويات، وكالمذروع وزنا وعكسه، فإنه لا يصلح اتفاقا، وعنه ما يدل - واختاره أبو محمد، ويحتمله كلام الخرقي - أنه يجوز،(4/8)
لحصول معرفة القدر، ومقتضى كلام الخرقي أنه يسلم في جميع المعدودات عددا، ولا ريب في ذلك في الحيوان، أما في غيره فثلاثة أقوال، وزنا، عددا، ما تقارب كالجوز، والبيض، عددا، وما تفاوت كالبطيخ، والرمان، والبقول، وزنا، والله أعلم.
قال: إلى أجل.
ش: هذا (الشرط الرابع) وهو أن يكون مؤجلا على المذهب المعروف، لما تقدم في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر، والأمر للوجوب.
2009 - قال القرطبي في شرح مسلم: لا سيما على رواية من روى: «من أسلم فلا يسلم إلا في كيل معلوم» إلى آخره انتهى.
2010 - وفي سنن البيهقي عن ابن عباس أنه قال: اضرب له أجلا. ولأن السلم إنما جاز رخصة، لأنه للارتفاق لأنه(4/9)
بيع معدوم، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، والله أعلم.
قال: معلوم بالأهلة.
ش: يشترط في الأجل كونه معلوما، لما تقدم من الحديث، ولقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فلا يصح إلى نزول المطر، أو قدوم زيد، ونحو ذلك، وهل يصح إلى الحصاد ونحوه، أو إلى نفس العطاء، - لتقارب الزمن - أو لا يصح، لتقدم ذلك وتأخره.
2011 - وهو قول ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، واختاره عامة الأصحاب؟ فيه قولان، وقيل: محل الخلاف في الحصاد إذا جعله إلى زمنه، أما فعله فلا يصح، واختلف(4/10)
أيضا فيما إذا علقه باسم يتناول شيئين كربيع، ويوم النفر، هل يصح ويتنزل على أول يوم، وبه قطع في المغني، أو لا يصح، [وهو الذي أورده في التلخيص مذهبا؟ وفيما إذا قال: شهر كذا. هل يصح. ويتعلق بأوله، وهو اختيار أبي محمد، أو لا يصح رأسا، وفيما إذا قال مثلا: أول رمضان أو آخره، هل يصح ويتعلق بأول جزء، وآخر جزء، أو لا يصح] ، لأن أول الشهر يعبر به عن النصف الأول، وكذا الآخر، وهو احتمال لصاحب التلخيص؟ على قولين في الجميع. انتهى.
ثم ظاهر كلام الخرقي - وكذلك ابن أبي موسى وابن عبدوس - أن علم ذلك لا غير بالأهلة، بأن يجعل حلوله في أول جزء من رمضان، أو يوم عاشوراء، أو إلى شهر رجب، ونحو ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التأقيت: بهن، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فعلى هذا لا يصح تأقيت بعيد من أعياد الكفار مطلقا، وقال القاضي وغيره: إن كان مما يتقدم ويتأخر - كعيد السعانين للنصارى، ونحو ذلك - لم يصح، وإلا صح، كالنيروز ونحوه.(4/11)
(تنبيه) : يشترط للأجل شرط آخر، وهو أن يكون له وقع في الثمن، بحيث يختلف به السعر، ومثل ذلك أبو محمد في الكافي بالشهر، ونصفه، لا اليوم ونحوه، وكثير من الأصحاب يمثل بالشهر، والشهرين، فمن ثم قال بعضهم: أقله شهر. نعم يصح كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما يأخذ منه كل يوم قدرا معلوما، كالخبز، واللحم، ونحو ذلك، نص عليه، والله أعلم.
قال: موجودا عند محله.
ش: هذا (الشرط الخامس) وهو كون المسلم فيه عام الوجود في وقت حلوله غالبا، لوجوب تسليمه إذا، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، فإن الغالب عدم تسليمه، فلم يصح(4/12)
بيعه، كالآبق ونحوه، وذلك كالسلم في العنب والرطب في الصيف، لا في الشتاء، لندرة وجودهما فيه، وفي معنى ذلك إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، أو قرية صغيرة، ونحو ذلك لاحتمال جائحة ذلك، وقد حكى الجوزجاني الإجماع على كراهة ذلك، قال ابن المنذر: إن المنع منه كالإجماع، وقال أبو بكر في التنبيه: إن كان قد بلغ، وأمنت عليه الجائحة صح. قلت: وهو حسن إن لم يحصل إجماع، إذ الغالب له التسليم إذا، ثم حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم، أنه نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه، يشهد لذلك.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط [وجوده حال العقد، وهو كذلك، وكذلك لا يشترط] عدمه، وهو الصحيح من الوجهين، حكاهما ابن عبدوس، والله أعلم.
قال: ويقبض الثمن كاملا وقت السلم، قبل التفرق.(4/13)
ش: هذا (الشرط السادس) وهو خاتمة الشروط عنده، وهو أن يقبض رأس مال السلم قبل التفرق عن مجلس العقد، حذارا من أن يصير بيع دين بدين.
2012 - فيدخل تحت النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وقد استنبط ذلك الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف فليسلف» قال: أي فليعط. قال: لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما سلفه فيه، قبل أن يفارق من سلفه. انتهى ولأنه لا يجوز شرط تأجيل العوض فيه، فلم يجز(4/14)
التفرق فيه قبل القبض كالصرف، وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما لم يقبض، وهل يبطل في المقبوض - وهو ظاهر كلام الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، لقوله: إذا أسلفه دراهم، فخرج بعضها رديئا فالسلم كله باطل - أو لا يبطل وهو المشهور؟ فيه روايتا تفريق الصفقة، والله أعلم.
(تنبيه) : المجلس هنا كمجلس الصرف، وكلاهما كمجلس الخيار، هذا مقتضى كلام الأصحاب، ووقع للقاضي في الجامع الصغير أنه إذا تأخر قبض رأس مال السلم اليومين والثلاثة، لم يصح العقد، والله أعلم.
قال: ومتى عدم شيء من هذه الأوصاف بطل.
ش: الإشارة إلى الأوصاف المتقدمة، وهذا هو شأن الشروط يعدم المشروط عند عدمها، أو عدم بعضها، ولو قال الخرقي: فسد العقد. كما قال في الصرف: ومتى افترق المتصارفان فسد العقد. لكان أولى، لئلا يوهم وجود عقد ثم بطلانه.(4/15)
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك، وقد تقدم أن في اشتراط عدم المسلم فيه حين العقد خلاف، وكذلك في اشتراط وصف رأس المال، والعلم بقدره إذا كان مشاهدا وجهان، (أحدهما) - وهو قول القاضي، وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص، وغيرهم - اشتراطه، كما لو كان في الذمة، ولأنه عقد يتأخر تسليم المعقود عليه، فوجب معرفة رأس ماله، ليرد بدله، كالقرض والشركة، وعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال جوهرا ونحوه، لعدم تأتي الصفة عليه (والثاني) - وإليه ميل أبي محمد - لا يشترط، كما في بيوع الأعيان، وكذلك في اشتراط ذكر مكان الإيفاء تردد، فالقاضي لا يشترطه مطلقا، ويقول - في مثل البرية ونحوها -: يوفي في أقرب الأماكن إلى مكان العقد، وابن أبي موسى، وصاحب التلخيص، يشترطانه في البرية ونحوها، واتفق الفريقان على عدم الاشتراط حيث أمكن الوفاء في محل العقد، نعم لو شرطه في غيره - والحال هذه - صح شرطه، على أصح الروايتين، ولم يصح في الأخرى، وبها قطع أبو بكر في التنبيه، والقاضي، وأبو الخطاب أطلقا الروايتين، فيشمل كلامهما ما إذا شرطاه في محل العقد أيضا وهو ضعيف، والله أعلم.(4/16)
[بيع المسلم فيه قبل قبضه]
قال: وبيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد.
ش: بيع المسلم فيه قبل قبضه - من بائعه مثل أن يسلم إليه في أردب قمح، فيأخذ عنه فولا، أو شعيرا أو دراهم، أو نحو ذلك - فاسد.
2013 - لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» رواه أبو داود إلا أنه ضعيف، والمعتمد على نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن.(4/17)
2014 - وقد سئل ابن عمر عن ذلك فقال: خذ رأس مالك ولا ترده في سلعة أخرى، رواه البيهقي في سننه، (وعنه) فيمن أسلم في بر، فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكانه جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وحمله أبو محمد على رواية أن البر والشعير جنس، ولكن بيعه من غير بائعه لا يصح، للنهي عن ربح ما لم يضمن، وبيع الطعام قبل قبضه، والله أعلم.
قال: وكذلك الشركة فيه، والتولية، والحوالة به، طعاما كان أو غيره.
ش: أي فاسد كالبيع، أما الشركة والتولية فلأنهما نوعان من أنواع البيع، فيثبت لهما حكمه، وأما الحوالة فلأنها إما بيع أو فيها شائبته، فلم تجز كالبيع، والحوالة تارة تقع عليه، كما إذا أحال المسلم بما عليه من قرض، أو بدل متلف، على المسلم إليه، وهنا قد حصل التصرف في المسلم فيه قبل قبضه، أشبه بيعه، ثم الحوالة وقعت على غير مستقر، وتارة تقع به، كأن يحيل المسلم إليه، بما عليه من السلم، على(4/18)
من له عليه مثله، من قرض، أو بدل متلف، وهذه صورة الخرقي، وهنا لا يظهر لي وجه المنع، والله أعلم.
قال: وإذا أسلم في جنسين ثمنا واحدا، لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس.
ش: مثل أن يسلم دينارا مثلا في أردب قمح، وأردب فول، فلا يصح حتى يبين قسط كل واحد منهما من الدينار، كأن يقول مثلا: ثلثه عن الفول، وثلثاه عن الشعير، وهذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، إذ لا يؤمن الفسخ بتعذر أحدهما، فلا يعرف ما يرجع به، فيفضي إلى التنازع المطلوب عدمه (والرواية الثانية) يجوز وإن لم يبين قسط ما لكل منهما كبيوع الأعيان، ولهذه المسألة التفات إلى معرفة رأس مال السلم وصفته، ولعل الوجهين ثم من الروايتين هنا، وأبو محمد لما لم يطلع على الرواية الثانية خرج هنا وجها من الوجه [ثم] ، إن ابن أبي موسى، وأبا بكر وغيرهما [منعوا] من ذلك إذا أسلم في خمسة دنانير، وخمسين درهما، في أردب حنطة، فقالوا: لا يجوز حتى يبين حصة ما لكل واحد منهما [من الثمن، وخالف أبو محمد فقال بالجواز هنا، وهو(4/19)
الصواب، إذ بتعذر المسلم فيه يرجع] بقسطه منهما، والله أعلم.
قال: وإذا أسلم في شيء واحد، على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة فجائز.
ش: مثل أن يسلم إليه عشرة دراهم في قنطار خبز، يأخذ منه كل يوم عشرة أرطال، أو في عشرين رطل لحم، يأخذ كل يوم رطلين، ونحو ذلك، لحصول الرفق الذي لأجله شرع السلم، والله أعلم.
قال: وإذا لم يكن السلم كالحديد، والرصاص، وما لا يفسد، ولا يختلف قديمه وحديثه، لم يكن عليه قبضه قبل محله.
ش: السلم أي المسلم فيه، تسمية للمفعول بالمصدر، كتسمية المرهون رهنا، والمسروق سرقة، ونحو ذلك، ولا يخلو المسلم فيه إما أن يؤتى به في وقته، أو بعده، أو قبله،(4/20)
فإن أتي به في وقته [أو بعده لزم قبوله، وإن تضرر المسلم بذلك، وإن أتي به قبل وقته] فإن كان في قبضه ضرر ولو مآلا - لكونه مما يتغير، كالفاكهة ونحوها، أو لكون قديمه دون حديثه كالحبوب، أو كان مما يتغير قبل الوقت المشترط، أو لكونه مما يحتاج في حفظه إلى مئونة كالحيوان ونحوه، أو كان مما يخاف عليه إذا من ظالم، ونحو ذلك - لم يلزم المسلم قبوله، لأن عليه في ذلك ضررا، وإنه منفي شرعا، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وإن كان مما لا ضرر في قبضه - كالحديد، والرصاص، إذ لا فرق بين قديمه وحديثه، وكان الوقت آمنا، ولا مئونة لحفظه - لزمه قبوله، لأن غرضه حاصل مع زيادة منفعة لا ضرر عليه فيها، فأشبه زيادة الصفة على المذهب، وهذا كله إذا أتى به على صفته، فإن أتى به على غير صفته فإن كان دونها جاز قبوله مع اتحاد الجنس، ولم يلزم، وإن كان فوقها واختلف الجنس لم يجز كما تقدم، وإن اتحد الجنس والنوع لزم القبول على المذهب بلا ريب، وقيل: لا يلزم بل يجوز، وقيل: لا يجوز، [وعلى المذهب فإن اختلف النوع فهل يلزم القبول، وهو قول القاضي والمجد، أو لا يلزم، وهو(4/21)
قول أبي محمد، أو لا يجوز] ويحكى رواية؟ على ثلاثة أقوال، والله أعلم.
قال: ولا يجوز أن يأخذ رهنا ولا كفيلا من المسلم إليه.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر في التنبيه، وابن عبدوس، إذ وضع الرهن الاستيفاء من ثمنه، عند تعذر الاستيفاء من ذمة الغريم، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، ولا من ذمة الضامن، حذارا من أن يصرفه إلى غيره، وإنه منهي عنه، وفيه نظر، لأن الضمير في «لا يصرفه» راجع للمسلم فيه، وإذا يشتري ذلك من ثمن الرهن ويدفع ولا محذور، وكذلك يشتريه الضامن ويسلمه، وإذا لم يصرف إلى غيره (والثانية) - وهي الصواب إن شاء الله تعالى، واختيار أبي محمد، وحكاها القاضي في روايتيه عن أبي بكر -: يجوز ذلك، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282](4/22)
إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وقد شهد ترجمان القرآن أن السلم مراد منها وداخل فيها، فهي كالنص فيه، والكفيل كالرهن بجامع التوثقة.
2015 - ومن ثم روى البيهقي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنه كان لا يرى بأسا بالرهن والقبيل في السلم، وروى نحو ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
2016 - وحكاية أبي محمد الكراهة عنهما في الرهن والكفيل، يحتمل أنه رواية أخرى عنهما.(4/23)
2017 - وقد استدل على ذلك أيضا بما في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاما، ورهنه درعا من حديد» ، وليس بالبين، ومقتضى كلام الأصحاب أنا إذا منعنا أخذ الرهن لم يجز وإن تراضيا بذلك، وأنا إن جوزناه كان كبقية الرهون، يلزم بالقبض، أو بمجرد العقد إن لم يكن معينا على رواية، وإذا لم يلزم، ولم يقبض فللمسلم الفسخ، وقال ابن عبدوس: ليس للمسلم طلب رهن، فإن شرطاه لم يلزم المسلم إليه الدفع إلا أن يشاء، والله أعلم.(4/24)
[كتاب الرهن]
ش: الرهن في اللغة الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن. أي راكد، ونعمة راهنة، أي ثابتة دائمة، وقيل: هو مأخوذ من الحبس، ومنه قوله سبحانه: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] أي حبيس بمعنى محبوس، وهو قريب من الأول، لأن المحبوس ثابت في مكانه لا يزايله، وهو في اصطلاح الفقهاء: توثقة دين بعين - أو بدين على قول - يمكن أخذه من ذلك، إن تعذر الوفاء من غيره، وهو جائز بالإجماع، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
2018 - وفي الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاما، ورهنه درعا من حديد» .
2019 - وفي البخاري «عن عائشة: توفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير» ، والله أعلم.(4/25)
[اشتراط القبض لصحة الرهن]
قال: ولا يصح الرهن إلا أن يكون مقبوضا.
ش: ظاهر كلام الخرقي، وابن أبي موسى، وابن عقيل في التذكرة، والقاضي في الجامع الصغير، وابن عبدوس أن القبض شرط في صحة الرهن، والمعروف عند الأصحاب أنه إنما هو شرط للزومه، وعلى ذلك حمل القاضي - فيما أظن - وابن الزاغوني وأبو محمد - كلامه، وكذلك قال في الهبة أيضا: إن القبض شرط لصحتها، وهو مقتضى كلام طائفة ثم، وقد جعل القاضي في التعليق القبض في الرهن آكد منه في الهبة، معللا بأن استدامة القبض في الرهن شرط فيه، بخلاف الهبة، وبأن القصد التوثقة، ولا تحصل إلا بالقبض، بخلاف الهبة، إذ القصد منها الملك، قال: وهو يحصل وإن لم تقبض.
إذا عرف هذا فجعل القبض شرطا للصحة أو للزوم إنما هو في غير المعين المفرز، كقفيز من صبرة، ورطل من(4/26)
زبرة، ونحوهما، أما المعين كالعبد والدار ونحوهما، والمشاع المعلوم بالنسبة من معين، فهل حكمه حكم ما تقدم، يشترط لصحته أو للزومه القبض؟ وهو مقتضى كلام الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، وابن أبي موسى، ونصبها أبو الخطاب والشريف وقال في الكافي: إنه المذهب لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وصفها سبحانه بكونها مقبوضة، ولأنه عقد إرفاق أشبه القرض، أو لا يشترط له ذلك، بل يلزم بمجرد العقد وقال في التلخيص: إنه الأشهر، قياسا على البيع؟ على روايتين.
(تنبيه) : حيث اعتبر اللزوم فذلك في حق الراهن، إذ لا لزوم في حق المرتهن، والله أعلم.
[من يصح منه الرهن]
قال: من جائز الأمر.(4/27)
ش: الجار والمجرور في موضع الحال، أي لا يصح الرهن إلا مقبوضا في حال كونه من جائز الأمر، وصاحب الحال محذوف دل عليه السياق، وتقديره: من مقبض جائز الأمر، وهو المكلف، الرشيد، المختار، فلو رهن وهو كذلك فحجر عليه لجنون، أو سفه، أو فلس لم يصح تقبيضه، بل ويبطل إذنه في القبض إن كان قد أذن، لأنه نوع تصرف، وتصرف هؤلاء غير صحيح، وكذلك إن أغمي عليه، نعم يقوم ولي المجنون والسفيه مقامه في ذلك، وفي المفلس يعتبر إذن الغرماء في القبض، ولو رهن وهو مختار، ثم أكره على القبض لم يصح ذلك، ويستفاد مما تقدم أنه إذا لم يصح التقبيض من هؤلاء - وإن كان قد وجد الرهن - فلأن لا يصح عقد الرهن بطريق الأولى، والله أعلم.
قال: والقبض فيه من وجهين، فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل - كالدور، والأرضين - فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه، لا حائل دونه.(4/28)
ش: قبض كل شيء بحسبه، على ما جرت العادة فيه، على المشهور والمختار من الروايتين، فقبض ما ينقل - كالصبر ونحوها - بالنقل.
2020 - «قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . متفق عليه، والنهي عن ذلك لعدم قبضه.
2021 - لأن في البخاري عنه أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه» وفي لفظ «حتى يستوفيه» وقبض ما يكال، أو يوزن، أو يعد، أو يذرع، بكيله أو وزنه أو عدده أو ذرعه، نظرا للعرف في ذلك، ولما تقدم.
2022 - وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فكل» رواه أحمد والبيهقي، وللبخاري منه كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير إسناد، وفي رواية للبيهقي «إذا ابتعت كيلا فاكتل، وإذا بعت كيلا فكل» .(4/29)
2023 - «وعن حكيم بن حزام، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يجلبان الطعام من أرض قينقاع إلى المدينة، فيبيعانه بكيله، فأتى عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ما هذا؟» قالا: جلبناه من أرض كذا وكذا، ونبيعه بكيله، قال: «لا تفعلا ذلك، إذا اشتريتما طعاما فاستوفياه، فإذا بعتماه فكيلاه» رواه البيهقي في سننه، ولا يشترط مع ذلك نقله على المذهب، لظاهر ما تقدم، وفيه احتمال، وشرط الاعتداد بكيل ذلك أو وزنه ونحوهما حضور المشتري أو وكيله، فلو كيل أو وزن بغير حضوره لم يكن قبضا إلا أن يشتري منه مكيلا بعينه، ويدفع إليه ظرفا ويقول: كله لي. فيفعل، فإنه يصير مقبوضا، قال صاحب التلخيص: وفيه نظر(4/30)
إذ الفرق بين كيله في ظرف أو غير ظرف بعيد جدا.
وهل يكتفي بعلم كيل ذلك أو وزنه [ونحو ذلك] عن الكيل والوزن ونحوهما؟ نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المكيل على روايتين، كما إذا اشترى مكيلا قد شاهد كيله قبل البيع، ولم يغب عنه، (إحداهما) لا يكتفي بذلك، ولا يكون قبضا صحيحا، وهي اختيار أبي بكر، والقاضي.
2024 - لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع، وصاع المشتري» ، رواه ابن ماجه، والبيهقي. واحتج به أحمد في رواية ابن إبراهيم.
2025 - ورواه البيهقي من رواية أبي هريرة أيضا، وزاد «فيكون للبائع الزيادة، وعليه النقصان» (والثانية) يكتفي بذلك، قبضا صحيحا، إذ المقصود معرفة المقدار وقد حصل، وعلى هذا للمشتري التصرف فيه بذلك، وليس له(4/31)
مطالبة البائع بكيل، وإن ادعى نقصانه لم يقبل منه، وعلى الأول تنعكس هذه الأحكام، وظاهر كلام المجد، وغيره الاكتفاء بعلم ذلك في غير المكيل، وصاحب التلخيص أجرى ذلك في الوزن أيضا فقال فيما اشتري بكيل أو وزن، وقبض بمعياره، ثم بيع من بائعه، أن فيه الروايتين.
(تنبيه) : فإن كان المبيع في الكيل، وعقد البيع الثاني، ففرغه المشتري الثاني، صح القبض، وأغنى عن الاستئناف، انتهى.
وقبض ما يتناول - كالجواهر، والأثمان، ونحوهما - بالتناول، إذ العرف فيها ذلك، وقبض الحيوان بمشيه من مكانه. وما عدا ذلك - كالدور، والعقار، والثمرة على الشجرة، ونحو ذلك - بالتخلية بينه وبين مرتهنه، من غير حائل بينهما، بأن يفتح له باب الدار، أو يسلم إليه مفتاحها، ونحو ذلك، وإن كان فيها متاع للراهن، وعن أحمد رواية أخرى أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز، قياسا على العقار ونحوه.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لم يجعل للقبض إلا وجهين فقط، النقل، والتخلية، فقد يقال في الجواهر(4/32)
ونحوها: إن تناولها نقل لها، لأنها انتقلت من يد البائع إلى يد المشتري، وكيل المكيل ونحوه نقله من محله إلى محل آخر، وخلاصته أن صفات النقل تختلف، وأحال الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيانها على موقف، ثم إنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لصفة القبض فيما يعتبر له القبض في البيع، فليعتمد هنا.
وقوله: أخذ من راهنه. إشارة إلى أنه لا بد في القبض من التسليم من الراهن، أو ما يقوم مقامه، وهو إذنه في ذلك، أما إن لم يوجد واحد منهما فإن وجود ذلك كعدمه، على المعروف المجزوم به، وفي التلخيص في الهبة حكاية رواية بصحة قبض ما قبضه المتهب بدون إذن الواهب، فيخرج هنا كذلك، ولا معرج على ذلك، أما على المذهب فلو كان الرهن في يد المرتهن، بإعارة، أو وديعة، ونحو ذلك، ففي اشتراط إذنه له في القبض روايتان، وقيل: وجهان، فإن اشترط فلا بد من مضي زمن يتأتى القبض فيه، فإذا كان المرهون حاضرا بين يدي الراهن، اكتفي بمضي مدة يتأتى قبض ذلك فيها، فاكتياله(4/33)
أو وزنه، أو نقله حسب ما هو، وإن كان في بيته، أو دكانه، ونحو ذلك، فلا بد من أن يمضي إليه، ويشاهد المرهون، ليتحقق التمكين، ثم بعد ذلك تمضي مدة يمكن القبض فيها على ما ذكر، وإن لم يشترط الإذن ففي اعتبار مضي زمن يتأتى القبض فيه وجهان، والله أعلم.
قال: وإذا قبض الرهن من تشارطا أن يكون الرهن على يده صار مقبوضا.
ش: تصح النيابة في قبض الرهن، لأنه قبض في عقد، فجاز التوكيل فيه كسائر القبوض، فعلى هذا إذا اتفق الراهن والمرتهن حال العقد أو بعده على جعل الرهن في يد إنسان صح، وصار مقبوضا للمرتهن، قاله في المغني، وفيه تساهل، لأنه يوهم أن له أخذه منه، وليس كذلك كما سيأتي.
ثم قول الخرقي: من. يشمل المسلم والكافر، والعدل والفاسق، والذكر والأنثى، والحر والعبد، وغيرهم، وهو كذلك، إلا أنه لا بد أن يقيد بكونه جائز(4/34)
التبرع، ليخرج الصبي، والمجنون، والعبد بغير إذن سيده، والمكاتب بلا جعل، أما إن أذن السيد، أو جعل للمكاتب جعل، فإنه يجوز، لزوال المانع، وانتفاء التبرع (ويشمل) أيضا الاثنين، والجماعة، وهو كذلك، وليس لواحد منهم الانفراد بحفظه.
وقوله: من تشارطا قوته تقتضي أن يكون غيرهما، فلو استناب المرتهن الراهن في القبض لم يصح، قاله في التلخيص، وعبد الراهن القن، وأم ولده، ومستولدته كهو، نعم يجوز استنابة مكاتبه، وكذلك عبده المأذون له في أصح الوجهين، وفي الآخر لا يجوز إلا أن يكون عليه دين.
وقوله: صار مقبوضا. يقتضي أنه ليس لواحد منهما نقله عن من جعل على يده، وهو كذلك، كما لو كان بيده المرتهن، نعم إن اتفقا على ذلك جاز، وكذلك إن تغيرت(4/35)
حال المجعول على يده، كأن كان عدلا ففسق ونحوه، كان لكل منهما طلب التحويل إلى آخر، ثم إن اتفقا عليه وإلا جعله الحاكم عند عدل، وكذا لو تغيرت حال المرتهن، فللراهن رفع الأمر إلى الحاكم، ليضعه على يد عدل، والله أعلم.
قال: ولا يرهن مال من أوصي إليه بحفظ ماله إلا من ثقة.
ش: لأن ولي اليتيم إنما يتصرف بالأحسن، قال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] والأحسن بل الحسن أن لا يرهن مال اليتيم إلا عند ثقة، إذ الرهن أمانة، وغير الثقة لا يؤتمن، ولا بد أن يكون الحظ لليتيم في الرهن، كأن يحتاج إلى نفقة على نفسه، أو عقاره المتهدم، ونحو ذلك، وله مال ينتظر وروده، فالأحظ إذا في الاقتراض، ورهن بعض أصول ماله، أما إن لم يكن له مال ينتظر، فلا حظ في الاقتراض، وإذا يبيع بعض أصول(4/36)
ماله، فإن لم يجد من يقرضه، ووجد من يبيعه نساء، وكان أحظ من بيع ماله، جاز الشراء نساء، ورهن شيء من ماله، قاله في المغني، وظاهره أنه لا ينتقل إلى الشراء نسيئة إلا عند عدم من يقرضه، والذي ينبغي مراعاة الأصلح لليتيم. انتهى.
وحكم الحاكم وأمينه حكم الوصي في ذلك، وكذلك الأب بطريق الأولى، ومن ثم له أن يرتهن من نفسه، بخلاف غيره على المحقق، وفي المغني حكاية رواية بجواز ذلك لغيره، وفيها نظر، إذ أصل ذلك - والله أعلم - البيع، ولا يعرف فيه رواية مطلقة بالجواز، والله أعلم.
قال: وإذا قضاه بعض الحق كان الرهن بحاله على ما بقي.
ش: العين المرهونة رهن بجميع الدين، وبكل [جزء] من أجزائه، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على نحو ذلك، والله أعلم.(4/37)
قال: وإذا أعتق الراهن عبده المرهون فقد صار حرا.
ش: هذا هو المشهور والمختار من الروايات للأكثرين، لأنه عتق من مالك.
2026 - فشمله مفهوم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عتق فيما لا يملك ابن آدم» . وفارق غيره من التصرفات، لتشوف الشارع إليه، ومن ثم نفذ في ملك الغير، وفي المبيع قبل القبض، وفي الآبق، والمبهم، ونحو ذلك، (والثانية) واختارها الشيرازي: لا ينفذ مطلقا، حذارا من إبطال حق المرتهن من الوثيقة، وأنه لا يجوز، كما لا يجوز بيعه، وهبته، ونحوهما، (والثالثة) ينفذ عتق الموسر لا المعسر، تخريجا على المفلس، إذ الموسر لا ضرر على المرتهن في عتقه،(4/38)
لإمكان أخذ القيمة منه، بخلاف المعسر، وهذا كله في نفوذ العتق، أما الإقدام عليه فإنه لا يجوز، لما فيه من إدخال الضرر على المرتهن، بإبطال حقه من الوثيقة، نعم إن أذن المرتهن في العتق جاز، ونفذ بلا ريب، لزوال المانع، والله أعلم.
قال: ويؤخذ إن كان له مال بقيمة المعتق فيكون رهنا.
ش: إذا قلنا بنفوذ العتق نظرنا في الراهن، فإن كان له مال أخذت منه قيمة المعتق، لتفويته إياه على المرتهن، فتجعل رهنا، لأنها بدل المرهون والحال هذه، وبدل الشيء يقوم مقامه، وخير أبو بكر في التنبيه المرتهن بين الرجوع بقيمة العبد، أو بعبد مثله، وإن لم يكن له مال بأن كان معسرا، بقيت القيمة في ذمته إلى حين يساره، ولا يستسعى العتيق، فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه كما تقدم، وإن أيسر بعده فلا فائدة في جعل القيمة رهنا، ويؤمر بالوفاء، وتعتبر القيمة حين العتق، لأنه وقت التلف، وإن لم نقل بالنفوذ، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا ينفذ بعد زوال الرهن، ولابن حمدان احتمال بالنفوذ إذا، هذا كله إذا لم يأذن المرتهن، أما إن أذن في العتق فإن حقه يبطل من الوثيقة، ولا قيمة له، والله أعلم.(4/39)
قال: وإن كانت جارية فأولدها الراهن خرجت أيضا من الرهن.
ش: لأن الإيلاد إتلاف معنوي، فنزل منزلة الإتلاف الحسي، وعامة الأصحاب يجزمون هنا بذلك، بخلاف العتق، لأن الفعل أقوى من القول، بدليل نفوذ إيلاد المجنون، دون عتقه، وظاهر كلامه في التلخيص إجراء الخلاف فيه، فإنه قال: والاستيلاد مرتب على العتق، وأولى بالنفوذ، لأنه فعل، والله أعلم.
قال: وأخذ منه قيمتها تكون رهنا.
ش: أي إذا كان له مال، وإلا بقيت القيمة في ذمته إلى يسرته، على ما تقدم في العتق، والاعتبار في القيمة بيوم الإحبال، قاله في الرعاية، ولا بد أن يلحظ أيضا أن المرتهن لم يأذن في الوطء، قال في التلخيص: وصدقه المرتهن أنها(4/40)
ولدته من وطئه، أما إن أذن المرتهن في الوطء وحملت، فإن الرهن يبطل، ولا قيمة للمرتهن، بشرط أن يصدقه أن الراهن وطئ، وأنها ولدته لمدة يمكن أن يكون من ذلك الوطء، أما إن صدقه في الإذن، وكذبه في أنه وطئ، أو أنها ولدته أو في المدة، فالقول قوله، والرهن بحاله، لأن الأصل معه، والله أعلم.
[جناية العبد المرهون]
قال: وإذا جنى العبد المرهون، فالمجني عليه أحق برقبته من مرتهنه، حتى يستوفى حقه. فإن اختار سيده أن يفديه وفعل فهو رهن بحاله.
ش: مراد الخرقي - والله أعلم - إذا جنى المرهون على أجنبي، لا على السيد، ولا على عبد السيد، ولا موروثه، إذ بيان ذلك يحتاج إلى بسط وتطويل، لا يليق بمختصره، ولا بهذه التعليق، وجناية العبد على الأجنبي، أو على ماله، تتعلق برقبة العبد.
2027 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» فإن كان مرهونا قدم حق المجني عليه، على حق المرتهن، لأن حقه(4/41)
ثبت بطريق الاختيار، وحق المجني عليه ثبت لا بطريق الاختيار، فكان أقوى، ثم حق المرتهن يرجع إلى بدل وهو الذمة، فلا يفوت بخلاف حق المجني عليه، فإنه يفوت بفوات العين، ويتفرع على هذا أن المجني عليه أحق برقبة العبد من المرتهن، حتى يستوفي حقه، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فللمجني عليه ذلك، فإن فعل - والجناية على النفس - بطل الرهن، وإن كانت على الطرف فالرهن بحاله، لوجود سببه، وزوال ما يقتضي التقديم، وكذلك إن عفا مجانا، وإن عفا على مال، أو كانت الجناية ابتداء موجبة للمال، فالسيد يخير بين فدائه أو بيعه في الجناية، على إحدى الروايات (والثانية) يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية، (والثالثة) : يخير بين الثلاثة، فإن اختار البيع والجناية(4/42)
مستغرقة لقيمته، بيع فيها وبطل الرهن، وإن لم تستغرق قيمته، فهل يباع جميعه، دفعا لضرر الشريك؟ وإذا يكون باقي ثمنه رهنا، أو لا يباع منه إلا قدر الجناية، ويكون باقيه رهنا، لسلامته من معارض؟ فيه وجهان، فإن اختار السيد فداءه، قبل منه فداؤه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته، على المشهور من الروايتين (والثانية) لا يقبل منه إذا اختار الفداء إلا أرش الجناية كاملة، فإذا فداه فهو رهن بحاله، لزوال ما تعلق به، وإن أراد السيد الدفع في الجناية، واختار المرتهن فداءه فله ذلك، ثم بكم يفديه؟ فيه الروايتان المتقدمتان، وإذا فداه وهو متبرع لم يرجع، وبإذن الراهن يرجع، وبغير إذنه فيه الوجهان في من أدى عن غيره واجبا بغير إذنه، والمشهور ثم الرجوع، وبه قطع القاضي، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وغيرهم هنا، وقيل: لا يرجع هنا، وإن رجع ثم، وهو اختيار أبي البركات، لعدم تحتم الفداء على السيد.
(تنبيه) : إذا شرط المرتهن جعله رهنا بالفداء مع الدين الأول صح، قاله القاضي، لأن الرهن مع الجناية صيرته بمنزلة الجائز، وقيل: لا يصح، لأن رهن المرهون لا يصح، والله أعلم.(4/43)
قال: وإذا جرح العبد المرهون أو قتل فالخصم في ذلك سيده.
ش: لأنه مالكه ومالك بدله، والمرتهن إنما يملك حبسه، فهو كالمستأجر، نعم إن ترك السيد المطالبة لعذر أو غيره، فللمرتهن المطالبة، لأن حقه يتعلق بموجب الجناية، قاله القاضي، وغير واحد من أصحابه، وفرقوا بينه وبين المودع، على المشهور عندهم، بأن ثم مجرد حفظ وائتمان، بخلاف الرهن والإجارة، فإن له فيها حق الوثيقة والمنفعة، والله أعلم.
قال: وما قبض بسبب ذلك من شيء فهو رهن.
ش: قد تقدم أن العبد المرهون إذا قتل أو جرح أن الخصم في ذلك هو السيد، إلا أنه - على ما قال صاحب التلخيص وغيره - ليس له القصاص إلا أن يأذن الراهن، قال في التلخيص: أو إعطائه قيمة العبد، وجعل ابن حمدان ذلك قولا، فإن اقتص كذلك فلا شيء عليه، وإلا فعليه، أقل الأمرين، من قيمة العبد المرهون، أو قيمة الجاني إن كانت [الجناية على النفس، أو أقل الأمرين من أرش(4/44)
الجرح، أو قيمة الجاني، إن كانت] على ما دونها، بجعل ذلك رهنا، لتفويته ذلك - باقتصاصه - على المرتهن، أشبه ما لو كانت الجناية موجبة للمال، هذا هو المشهور عند الأصحاب، والمنصوص عن أحمد.
وعن القاضي - وبه قطع ابن الزاغوني في الوجيز، واختاره المجد - لا شيء عليه، لأن الجناية لا توجب مالا، وإن لم يقتص السيد، بل عفا إلى مال، أو مطلقا - وقيل: الواجب أحد شيئين - أو كانت الجناية موجبة للمال ابتداء، ثبت المال، وأخذ فجعل رهنا مكان العبد، لأنه بدله فقام مقامه، وإن عفا إلى غير مال، وقلنا: الواجب القصاص عينا، أو مطلقا، وقلنا كذلك، كان كما لو اقتص، فيه القولان السابقان، قاله أبو محمد، وصحح صاحب التلخيص أنه لا شيء على السيد هنا، مع قطعه ثم بالوجوب كما هو المنصوص، وإن عفا عن المال بعد ثبوته، أو إلى غير مال، وقلنا: الواجب أحد شيئين، فهل يصح عفوه، ويؤخذ منه أرش الجناية، فيجعل رهنا؟ وهو قول أبي الخطاب وصاحب التلخيص، أو لا يصح، ويؤخذ الأرش من قبل الجاني؟ وهو اختيار أبي محمد، أو يصح(4/45)
بالنسبة إلى الراهن دون المرتهن، فيؤخذ الأرش فيجعل رهنا، فإذا انفك الرهن رد الأرش إلى الجاني؟ وهو قول القاضي، على ثلاثة أقوال، وعلى الثالث لو استوفي الدين من الأرش فهل يرجع الجاني على العافي أم لا؟ فيه احتمالان، والله أعلم.
قال: وإن اشترى منه سلعة على أن يرهنه بها شيئا من ماله يعرفانه، أو على أن يعطيه بالثمن حميلا يعرفانه، فالبيع جائز، فإن أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل، فالبائع مخير في فسخ البيع، وفي إقامته بلا رهن ولا ضمين.
ش: الحميل الضمين فعيل بمعنى فاعل، يقال: ضمين، وحميل، وكفيل، وزعيم، وقبيل، وصبير، بمعنى، فإذا اشترى شيئا وشرط للبائع رهنا أو ضمينا على الثمن، صح البيع والشرط، لأنه شرط واحد، من مصلحة العقد، لما تقدم في قوله: والبيع لا يبطله شرط واحد، ويشترط في الرهن والضمين أن يكونا معينين، فلا يصح اشتراط(4/46)
أحد هذين العبدين، كما لا يصح بيع أحدهما، ولا ضمان أحد هذين الرجلين، لأن الغرض يختلف، وإذا صح الشرط فإن حصل الوفاء به فلا كلام، وإن لم يحصل الوفاء به - بأن امتنع من عين للضمان منه - إذ هو التزام، فلا يلزمه بدون رضاه، كبقية الالتزامات - أو امتنع المشتري من تسليم الرهن، لأن الشرط لا يوجب عليه ذلك - فإن البائع يخير بين فسخ العقد، لفوات الشرط عليه، وبين إمضائه بلا رهن ولا كفيل، ثم هل له الأرش إذا إلحاقا له بالعيوب، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، ويحكى عن ابن عقيل في العمد، أو لا أرش له، إلحاقا له بالتدليس، وهو ظاهر كلام الخرقي، والقاضي، وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص فيه، والسامري، وأبي محمد؟ على(4/47)
قولين، واتفق الفريقان على وجوب الأرش عند تعذر الرد، على مقتضى قول المجد، والله أعلم.
[الانتفاع بالمرهون]
قال: ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا، فيركب ويحلب بقدر العلف.
ش: نماء الرهن ملك للراهن، إذ النماء تابع للملك.
2028 - وعن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه، وعليه غرمه» رواه الشافعي والدارقطني وحسن إسناده، وروي مرسلا عن سعيد، وناهيك بمراسيله،(4/48)
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: غنمه زيادته، وغرمه هلاكه ونقصه، انتهى، وإذا كان النماء للراهن فلا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، لا من الأصل، ولا من النماء.
2029 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» نعم إن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع، ولم يكن الدين عن قرض جاز لوجود طيب النفس.
2030 - وإن كان الدين عن قرض لم يجز، حذارا من «قرض جر منفعة» .(4/49)
وهل يستثنى مما تقدم إذا كان الرهن مركوبا أو محلوبا أو لا؟ فيه روايتان (إحداهما) لا، فلا ينتفع المرتهن من ذلك بشيء إلا بإذن مالكه، كما تقدم للحديث.
2031 - وعن إبراهيم النخعي - وذكر له قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن محلوب ومركوب» - فقال: إن كانوا ليكرهون أن يستمتعوا من الرهن بشيء. رواه البيهقي.
(والثانية) : - وهي المشهورة، والمعمول عليها في المذهب - للمرتهن أن يركب ما يركب، ويحلب ما يحلب، بمقدار العلف، متحريا للعدل في ذلك.
2032 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب(4/50)
بنفقته إذا كان محلوبا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يشبه قول أبي هريرة أن من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الراهن ظهرها ودرها، لأن له رقبتها.
2033 - يرده ما في المسند «إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته» فجعل المنفق هو المرتهن، فيكون هو المنتفع، ثم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظهر يركب بنفقته» أي بسبب نفقته، وهو إشارة إلى أن الانتفاع عوض النفقة، وذلك إنما يتأتى في المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه ليسا بسبب المعاوضة، وإنما ذلك بسبب الملك، ولأن ذلك محض مصلحة، من غير مفسدة، ومبنى الشرع على ذلك، وبيانه أن منفعة الركوب لو تركت لذهبت مجانا، وكذلك اللبن لو ترك لفسد، وبيعه أولا(4/51)
فأولا ربما تعذر، ثم هذا الحيوان لا بد له من نفقة، فأخذها من مالكه ربما أضر به، وربما تعذر أخذها منه، فإن بيع بعض الرهن فيها فقد يفوت الرهن بالكلية، فجوز الشارع للمرتهن الإنفاق والاستيفاء بقدره، إذ لا حرج عليه في ذلك، بل فيه دفع الحرج عنه، وحفظ الرهن، وإذا تحصل المصلحة من الطرفين. انتهى.
ويدخل في المحلوب إذا كانت أمة مرضعة، فإن للمرتهن أن يسترضعها بقدر نفقتها، كما أشار إليه أبو بكر في التنبيه، ونص عليه ابن حمدان، وهل يلحق بالمركوب والمحلوب ما يخدم من عبد أو أمة؟ فيه روايتان (أشهرهما) لا، قصرا للنص على مورده، كما أشار إليه الإمام في رواية الأثرم، إذ الأصل المنع مطلقا.
2034 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» خرج منه ما تقدم (والثانية) نعم، قياسا على ما تقدم، لفهم العلة وهو ذهاب المنفعة.
إذا عرف هذا فشرط الاستيفاء أن يكون بقدر العلف، مع تحري العدل، ولا ينهك ولا يعجف بالركوب والحلاب، حذارا من الضرر المنفي شرعا، ثم إن فضل من اللبن شيء عن النفقة ولم يمكن بقاؤه إلى وقت حلول الدين، فإن المرتهن يبيعه إن أذن له في ذلك، أو الحاكم إن لم يؤذن(4/52)
له، ويجعل ثمنه رهنا، وإن فضل من النفقة شيء رجع به على الراهن، قاله أبو بكر، وابن أبي موسى، وغيرهما، وظاهر كلامهم الرجوع هنا، وإن لم يرجع إذا أنفق على الرهن في غير هذه الصورة، لكن ينبغي إذا أنفق متطوعا أنه لا يرجع بلا ريب.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لجواز الإنفاق والاستيفاء - فيما تقدم - تعذر النفقة من المالك بامتناعه أو غيبته، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية، وأبي البركات، وطائفة، وصرح به أبو محمد في المغني، نظرا لإطلاق الحديث، وشرط أبو بكر في التنبيه امتناع الراهن من النفقة، والقاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في خلافه وصاحب التلخيص وغيرهم غيبة الراهن، وابن عقيل في التذكرة إذا لم يترك له راهنه نفقة، وينبغي أن يكون هذا محل وفاق.
(تنبيه) : قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» في رواية «من صاحبه» الحديث أي لا يستحقه المرتهن، يقال: غلق الرهن إذا لم يوف الراهن الحق، فاستحق المرتهن الرهن، قال زهير:(4/53)
وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرهن لا يغلق، وقد جاء ذلك صريحا في حديث مرسل.
2035 - فروى البيهقي في سننه بسنده إلى معاوية بن عبد الله بن جعفر، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» وإن رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل، فلما جاء الأجل قال الذي ارتهن: هي لي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يغلق الرهن» انتهى.
2036 - وقال معمر: قلت للزهري: يا أبا بكر قوله: «الرهن لا يغلق» قال: يقول: إن لم آتك إلى كذا وكذا فهو لك. والله أعلم.
- قال: وغلة الدار وخدمة العبد، وحمل الشاة وغيرها، وثمرة الشجرة المرهونة من الرهن.(4/54)
ش: نماء الرهن كأجرة الدار والعبد، وما يكتسبه باصطياد ونحوه وثمرة الشجرة وولد الأمة ونحو ذلك تبع للرهن، فيكون مرهونا كالأصل، لأنه حكم ثبت في العين بعقد المالك، فدخل فيه النماء والمنافع كالملك، ولا يرد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: له غنمه لأنا نقول بموجبه، وأن الغنم مال للراهن، ولا يمنع ذلك من تعلق حق المرتهن به كالأصل.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز إجارة المرهون في الجملة، مع بقائه على الرهنية واللزوم، لقوله: وغلة الدار. ولا غلة للدار إلا بالإجارة، وهذا اختيار أبي محمد، وإحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليها في رواية ابن منصور، فقال: له أن يكريه بإذن الراهن، وتكون الأجرة للراهن.
(والثانية) : يزول لزوم الرهن بذلك، أومأ إليها في رواية ابن منصور أيضا، في رجل ارتهن دارا فأكراها من صاحبها، فلا تكون رهنا حتى ينقضي ذلك، فإذا انقضى كراه رجعت إليه وصارت رهنا، ونحوه نقل ابن ثواب، وهذا اختيار أبي بكر في الخلاف، قال: إن منافع الرهن تعطل، ومبنى الخلاف على ما أشار إليه أبو الخطاب في(4/55)
الانتصار، أن مقصود الرهن هل هو الاستيفاء من ثمنه، عند تعذر الاستيفاء من الغريم، والاختصاص به دون بقية الغرماء، وذلك لا ينافي إجارته، أو ذلك مع استحقاق حبسه، وكونه تحت اليد على الدوام، والإجارة تخرجه عن يده.
وفي المذهب قول ثالث: إن أجر المرتهن بإذن الراهن فالرهن بحاله، لعدم خروجه عن يد المرتهن وتصرفه، وإن أجر الراهن بإذن المرتهن، خرج من الرهن، لخروجه إلى يد الراهن، وإلى هذا القول ميل أبي الخطاب، ومنصوص أحمد مما يدل على ذلك، ومحل الخلاف إذا اتفقا على الإيجار، أما إن امتنع أحدهما من الإيجار فإن منافعه تعطل على المذهب، واختار ابن حمدان أنها لا تعطل، فيجبر من أبى منهما على الإيجار، والحكم في إعارته كالحكم في إجارته، والله أعلم.
[مؤونة الرهن]
قال: ومؤونة الرهن على الراهن.
ش: مؤونة الرهن من طعام، وكسوة، ومسكن، وغير ذلك على الراهن، لأنه ملكه، فكان ذلك عليه كبقية الأملاك، وقد تقدم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه، وعليه غرمه» والمؤونة من الغرم، والله أعلم.(4/56)
قال: وإن كان عبدا فمات فعليه كفنه.
ش: لأن الكفن من الغرم وهو عليه، والله أعلم.
قال: وإن كان مما يخزن فعليه كراء مخزنه.
ش: لأنه من مؤونته، وهي عليه لما تقدم، والله أعلم.
[تلف الشيء المرهون]
قال: والرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن، رجع المرتهن بحقه عند محله، وكانت المصيبة فيه من راهنه، وإن كان تعدى المرتهن، أو لم يحرزه ضمن.
ش: الرهن أمانة في يد المرتهن، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه، وعليه غرمه» وهذا يدل على أن الغرم على الراهن لا المرتهن، وهذا هو المذهب المعروف. ونقل أبو طالب عن أحمد إذا ضاع الرهن عند المرتهن لزمه. وظاهرها لزوم الضمان له مطلقا، لكن تأول ذلك القاضي على ما إذا تعدى، وأبى ذلك ابن عقيل، جريا على الظاهر.
2037 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: الرهن بما فيه رواه الدارقطني والبيهقي، لكنه ضعيف، بل قيل: إنه موضوع. على أنه يحتمل أنه محبوس بما(4/57)
فيه، وبما روي «عن عطاء أن رجلا رهن فرسا فنفق في يده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرتهن: «ذهب حقه» رواه الدارقطني أيضا وغيره، وهو ضعيف أيضا مع إرساله،(4/58)
وقد قال أحمد: مرسلات سعيد صحاح، وأما الحسن وعطاء فهي أضعف المرسلات، لأنهما كانا يأخذان عن كل.
2038 - قال الشافعي: ومما يدلك على وهن هذا عند عطاء إن كان رواه أن عطاء يفتي بخلافه، ويقول فيما ظهر هلاكه أمانة، وفيما خفي هلاكه: يترادان الفعل. انتهى.
ويتفرع على المذهب أن المصيبة فيه كأنها حصلت من راهنه، فلو تلف أن نقص كان ذلك على راهنه، وحق المرتهن بحاله، يرجع به عند محله، هذا كله إذا لم يتعد المرتهن ولم يفرط، أما إن تعدى - بأن استعمل الرهن - أو فرط - بأن لم يحرزه حرز مثله ونحو ذلك - فإنه يضمن، كما يضمن المودع ونحوه، والله أعلم.
- قال: وإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه.
ش: حيث لزم المرتهن الضمان، فاختلف هو والراهن في قيمة العين، وهي تالفة أو ناقصة بأن يدعي الراهن مثلا أن قيمتها ثلاثون، ويدعي المرتهن أن قيمتها عشرون، ولا بينة بما قال واحد منهما، فالقول في ذلك قول المرتهن، لأنه(4/59)
غارم، ومنكر للزيادة، والقول قول المنكر مع يمينه، والله أعلم.
قال: وإن اختلفا في قدر الحق فالقول قول الراهن مع يمينه، إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة.
ش: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي به الرهن، مثل أن يقول الراهن: رهنتك هذا على ألف.
فيقول المرتهن: بل على ألفين. فإذا القول قول الراهن مع يمينه، سواء أقر بالألف الأخرى أو أنكرها، لأنه منكر للرهن بالزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكر، وكما لو اختلفا في أصل الرهن، وهذا مع عدم البينة، أما إن وجدت، فإن الحكم لها، لأنها تبين الحق وتظهره.
وقول الخرقي: إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة. الشرط راجع لهذه الصورة والتي قبلها، والله أعلم.
قال: والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه، حيا كان الراهن أو ميتا.
ش: لا يختلف المذهب فيما نعلمه أن المرتهن أحق بثمن(4/60)
الرهن إلى أن يستوفي حقه من بقية الغرماء، في حياة الراهن لترجح حقه على حق غيره، والراجح مقدم، وبيانه أن حقه قد تعلق بالعين والذمة، وحق غيره إنما تعلق بالذمة فقط، فعلى هذا إذا حجر على الراهن لفلس فإن المرتهن يقدم بثمن الرهن، فإن كان وفق حقه فلا كلام، وإن نقص ضرب مع الغرماء بالنقص، وإن زاد رد الفاضل على الغرماء.
أما مع موت الراهن. وضيق التركة عن جميع الديون، فهل المرتهن أسوة الغرماء، لأن التركة انتقلت إلى الورثة، وتعلق حق الغرماء بها تعلقا واحدا، أو يقدم بثمن الرهن كما في حال الحياة، إذ التركة إنما تنتقل إلى الورثة بصفة ما كانت للموروث، وهذا هو المعروف عند الأصحاب؟ على روايتين منصوصتين، ولا يرد على الخرقي إذا جنى العبد المرهون، فإن حق المجني عليه يقدم على الراهن، لأن المجني عليه في الحقيقة ليس غريما للراهن، إذ حقه متعلق بعين الرهن فقط، لا بذمة الراهن، مع أن الخرقي قد ذكر حكم ذلك، والله أعلم.(4/61)
[باب المفلس]
قال:
باب المفلس ش: المفلس في عرف الفقهاء من فلسه الحاكم بالحجر عليه، وسببه أن يكثر دينه على ماله، ويطلب ذلك الغرماء، على ما يأتي إن شاء الله تعالى، والفلس في اللغة ذهاب المال غير الفلوس، قال ابن فارس: يقال: أفلس الرجل. إذا صار ذا فلوس، بعد أن كان ذا دراهم، وقيل: هو العدم، يقال: أفلس بالحجة إذا عدمها، وقيل: هو من قولهم: تمر مفلس. إذا خرج منه نواه، فهو خروج الإنسان من ماله، وعلى هذا سمي المفلس مفلسا، وإن كان له مال يضيق عن دينه، لأن ماله مستحق للصرف، أشبه من لا مال له، أو باعتبار ما يؤول إليه، لأنه يؤول إلى أنه لا شيء له.
2039 - وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: «ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فرد عليه،(4/62)
ثم طرح في النار» فأخبرت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن المفلس في عرفهم ولغتهم، وهو الذي لا شيء له، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا الفلس كلا فلس، إنما الفلس المعتبر، الذي معه الحسرة العظيمة، والفقر الدائم، هو فلس الآخرة، حتى إن فلس الدنيا عنده بمنزلة الغنى.
2040 - ونحو هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس» والله أعلم.
قال: وإذا فلس الحاكم رجلا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به.
ش: إذا ثبت على شخص دين حال ببينة أو إقرار، وماله أقل منه - قال ابن حمدان: أو قدره، ولا كسب له، ولا ما ينفق عليه منه، أو خيف تصرفه فيه. انتهى - فسأل(4/63)
غرماؤه - قال في التلخيص: أو بعضهم ودينهم أكثر من ماله، وحكى ابن حمدان ذلك قولا. انتهى - الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ، وباع ماله [في دينه.
2041 - فروى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ بن جبل ماله، وباعه] في دين كان عليه، وكان معاذ شابا حليما سمحا، من أفضل شباب قومه، ولم يكن يمسك شيئا، فلم يزل يدان، حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلم غرماءه، فلو تركوا أحدا من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فباع لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني ماله، حتى قام معاذ بغير شيء» .(4/64)
2042 - وكذلك حجر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الأسيفع، أسيفع جهينة.
فإذا حجر الحاكم عليه - وهو معنى تفليسه له - ترتب بذلك أحكام (أحدها) تعلق حق غرمائه بماله، فلا يقبل إقراره عليه، ولا يصح تصرفه المستأنف فيه، إلا بالعتق على رواية، وخرج بقيد «المستأنف» الرد بالعيب فيما اشتراه قبل الحجر، والفسخ لخيار مشترط كذلك، فإن تصرفه في ذلك صحيح، لكن هل يتقيد بالأحظ؟ وفي التلخيص أنه قياس المذهب بناء على إجبار المفلس على اكتساب المال بما لا منة عليه فيه، أو لا يتقيد بذلك، وهو المشهور، لعدم استقرار العقد إذا؟ فيه قولان، وبقيد «المال» التصرف في الذمة، وكذلك التصرف في البضع، وفي الدم، وفي(4/65)
النسب، (والحكم الثاني) بيع الحاكم ماله، وقسم ثمنه بين غرمائه لما تقدم، (الثالث) : انقطاع المطالبة عنه ما دام كذلك، لظهور عسرته، ووجوب إنظاره إلى ميسرته.
(الرابع) : أن من وجد من الغرماء متاعه بعينه عنده فهو أحق به من بقية الغرماء، بمعنى أن له فسخ البيع، وأخذ سلعته، بشروط تذكر إن شاء الله تعالى، وهذه مسألة الكتاب.
2043 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، أو إنسان قد أفلس فهو أحق به» وفي رواية متاعه بعينه متفق عليهما.(4/66)
2044 - ومن ثم قضى بذلك عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه عنه البيهقي، ولقد بالغ إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اتباع السنة كما هو دأبه، فقال: لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء، ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث، رد حكم الحاكم. ومقتضى كلام الخرقي أن الفسخ والرجوع لا يفتقر إلى حكم حاكم، وهو كذلك، لثبوت ذلك بالنص، فهو كخيار المعتقة ومن ثم أجاز أحمد نقض حكم من حكم بخلاف ذلك، وعموم كلامه يشمل البيع، والقرض، والدابة، والأرض المؤجرة إذا أفلس المستأجر قبل مضي مدة لمثلها أجر، وكذلك الصداق، كأن يصدق امرأة عينا، ثم يستحق الرجوع فيها أو في نصفها، بأن ينفسخ النكاح لسبب من جهتها كردتها، أو من جهته - كطلاقه - وقد أفلست فإنه يرجع في عين ماله بشرطه.(4/67)
وقوة كلام المصنف يقتضي أن الرجوع في عين المال مختص ببيع ونحوه وجد قبل الفلس، فيخرج ما وجد بعده فلا يرجع فيه، وهو أحد الوجوه، لدخوله على بصيرة أو تفريطه، (والثاني) : يرجع أيضا، لإطلاق الخبر، (والثالث) : يفرق بين العلم بالفلس وعدمه، وهو حسن.
(تنبيه) : «الأسيفع» تصغير «أسفع» والسفعة في اللون السواد، والله أعلم.
قال: إلا أن يشأ تركه، ويكون أسوة الغرماء.(4/68)
ش: يعني أن البائع إذا وجد ماله بعينه عند من أفلس، فإنه يخير، إن شاء رجع فيه لما تقدم، وإن شاء لم يرجع، وكان أسوة الغرماء، لأن الشارع جعله أحق به وأولى به، ولم يحتم ذلك عليه، وظاهر كلام المصنف أنه لو بذل له الغرماء الثمن، لم يلزمه القبول، لأنه لم يستثن ذلك، ونص عليه أحمد، لظاهر الخبر، ودفعا للمنة عنه، [نعم إن بذلوا الثمن للمفلس فبذله له امتنع عليه الفسخ، لزوال سببه وهو عجزه عن أخذ الثمن] ، ومن ثم لو أسقط الغرماء حقوقهم، أو وهب له مال بحيث يمكن أداء الثمن زال الفسخ، والله أعلم.
قال: فإن كانت السلعة قد تلف بعضها، أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها، أو نقد بعض ثمنها، كان البائع فيها كأسوة الغرماء.
ش: قد تقدم أن أحد الغرماء إذا وجد متاعه بعينه عند من فلسه الحاكم أنه أحق به، لكن ذلك بشروط (أحدها) أن يكون المتاع باقيا بحاله، لم يتلف بعضه، فإن تلف بعضه - كأن تلف بعض الدار، أو الثوب، أو الثمرة المبيعة(4/69)
مع الشجرة، أو قطعت بعض أطراف العبد، ونحو ذلك - فلا رجوع للبائع، بل يكون أسوة الغرماء، نظرا للخبر، فإنه لم يجد المتاع بعينه، فلو تعدد المبيع، كعبدين أو ثوبين، فتلف أحدهما فهل يمتنع الرجوع رأسا، أو يرجع في الموجود، ويضرب مع الغرماء بقسط التالف من الثمن؟ فيه روايتان، ولعل مبناهما أن العقد هل يتعدد بتعدد المبيع أم لا؟ وحكم انتقال البعض ببيع ونحوه حكم التلف، نعم إن عاد المنتقل إلى ملك المفلس فهل هو كالذي لم يزل، أو كالذي لم يعد؟ فيه وجهان مشهوران، وحكى أبو محمد وجها ثالثا: إن عاد بسبب جديد - كبيع أو هبة، ونحوهما فكالذي لم يعد، وإن عاد بفسخ كالإقالة، والرد بالعيب - فكالذي لم يزل، وجعل أبو محمد من صور تلف البعض إذا استأجر أرضا للزرع، فأفلس بعد مضي مدة لمثلها أجرة، تنزيلا للمدة منزلة المبيع، ومضي بعضها بمنزلة تلف بعضه، وقال القاضي، وصاحب التلخيص: له الرجوع، ويلزمه تبقية زرع المفلس بأجرة المثل، ثم هل يضرب بها(4/70)
مع الغرماء - وهو المحكي عن القاضي - أو يقدم بها عليهم - وهو الذي في التلخيص -؟ على وجهين.
وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه فيما إذا تلف المبيع جميعه، فإنه لا رجوع، وكذلك لو انتقل عنه، وفهم من كلامه أيضا أن نقص الصفات - كالهزال، ونسيان صناعة ونحو ذلك - لا يمنع الرجوع، وهو كذلك، لأن المتاع موجود بعينه، وإذا أخذ إنما يأخذ بجميع حقه، واختلف في وطء البكر، وجرح العبد، هل هو من فقد الصفات فلا يمنع الرجوع - وبه قطع أبو بكر - أو من فقد الأجزاء فيمنع؟ على وجهين، أما وطء الثيب فبمنزلة فقد الصفات على المشهور، وأجرى ابن أبي موسى فيه الوجهين، وإذا قيل بالرجوع مع الجرح، فإن كان الجرح مما لا أرش(4/71)
له، كالحاصل بفعل بهيمة أو المفلس، ونحو ذلك فلا شيء له مع الرجوع، وإن كان مما له أرش كالحاصل بفعل أجنبي، نظر ما نقص من قيمته، فرجع بقسطه من الثمن، قاله أبو محمد، وقياس جعله من باب فقد الصفات، أنه لا شيء له مطلقا.
(تنبيه) : إذا خلط المبيع أو بعضه بما لا يتميز منه - كأن كان زيتا فخلطه بمثله، ونحو ذلك - فقال أبو محمد: يسقط حقه من الرجوع، لأنه لم يجد عين ماله، [وقد يقال: إنه ينبني على الوجهين في أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا؟ ولا نسلم أنه لم يجد عين ماله] ، بل وجده حكما.
(الشرط الثاني) : أن لا يزيد المتاع زيادة متصلة، كالسمن، وتعلم صناعة، ونحو ذلك، على اختيار الخرقي، والشيرازي، ولم يعتبر ذلك الإمام في رواية الميموني، بل جوز للبائع الرجوع بالزيادة مجانا، ومناط ذلك أن المبيع مع الزيادة المتصلة هل خرج عن أن يكون بعينه أم لا؟ وخرج من كلام الخرقي الزيادة المنفصلة، فإنها لا تمنع الرجوع في الجملة، بلا خلاف نعلمه بين الأصحاب، لوجود المتاع بعينه، ثم هل تكون الزيادة للمفلس في الجملة(4/72)
ويحتمله كلام الخرقي، لمنعه من الرجوع مع الزيادة المتصلة، وهو اختيار ابن حامد، والقاضي في روايتيه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد، لأنها نماء ملكه - أو للبائع - وهو اختيار أبي بكر، والقاضي في الجامع، تمسكا بإطلاق أحمد - في رواية حنبل - في ولد الجارية، ونتاج الدابة، أنه للبائع، وهو محمول - عند ابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي، وأبي محمد - على ما إذا باعها حاملا؟ على قولين، فعلى الأول لو كانت الزيادة ولد الأمة فهل يمتنع الرجوع مطلقا، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعا - وهو قول ابن أبي موسى - أو لا يمتنع إلا إن امتنع البائع من دفع القيمة، - أما إن دفع قيمة الولد فله الرجوع، - أو لا يمتنع مطلقا، بل تباع الأم وولدها، ويصرف للبائع ما خص الأم من الثمن، على أنها ذات ولد؟ على ثلاثة أوجه.
ويدخل في قول الخرقي: أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها. ما إذا زادت بصناعة، كقصارة، ونحو ذلك، وهو أحد الوجهين، واختيار ابن أبي موسى، (والثاني) - وقال صاحب التلخيص: إنه المذهب - لا يمنع ذلك الرجوع،(4/73)
ثم هل تسلم للبائع مجانا، - كالزيادة المتصلة على المنصوص - أم عليه الأجرة؟ فيه وجهان، وقد تحرز الخرقي بقوله: مزيدة بما لا تنفصل زيادتها. عما إذا كان المتاع بابا فسمر فيه مسامير، أو نحو ذلك، فإن الزيادة تنفصل، ويرجع البائع في عين ماله.
(الشرط الثالث) : أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا، فإن قبض منه شيئا سقط حقه في الرجوع.
2045 - لأن في الحديث في رواية لأبي داود «أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته بعينها، عند رجل قد أفلس، ولم يقبض من ثمنها شيئا فهي له، فإن كان قضاه من ثمنها شيئا فما بقي فهو أسوة الغرماء» وفي معنى قبض البعض الإبراء منه، والله أعلم.(4/74)
قال: ومن وجب له حق بشاهد فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه ويستحقوا.
ش: لأنهم غير مدعين، واليمين إنما هي على المدعي مع شاهده.(4/75)
2046 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي» واليمين لا تدخلها النيابة ومقتضى قول الخرقي أن المفلس إذا حلف صح حلفه، وهو كذلك، وأنه إذا لم يحلف لم يجبر، وهو كذلك، لاحتمال قيام شبهة عنده تمنعه من اليمين، والله أعلم.
[الديون المؤجلة هل تحل بالتفليس]
قال: وإذا كان على المفلس ديون مؤجلة لم تحل بالتفليس.
ش: هذا المذهب المشهور، حتى إن القاضي جعله رواية واحدة، لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه، وعنه: يحل. حكاها أبو الخطاب، دفعا للضرر عن ربه، (وعنه) : إن وثق لم يحل، لزوال الضرر، وإلا حل، نقلها ابن منصور، فإن قلنا بحلوله فهو كبقية الديون الحالة، وإن قلنا بعدم حلوله، فإنه لا يوقف لربه شيء، ولا يرجع على الغرماء به إذا حل، نعم إذا حل قبل القسم شارك الغرماء، [وإن حل بعد قسمة البعض شاركهم أيضا، وضرب بجميع دينه، وباقي الغرماء] ببقية ديونهم، والله أعلم.(4/76)
قال: وكذلك في الدين الذي على الميت، إذا وثق الورثة.
ش: أي لا يحل بالموت إذا وثق الورثة بأقل الأمرين، من قيمة التركة، أو الدين، بكفيل مليء، أو رهن يفي بالحق، لأن الأجل حق للميت، فورث عنه كبقية حقوقه.
2047 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك حقا أو مالا فلورثته» هذا هو المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين (والثانية) وهي(4/77)
اختيار ابن أبي موسى: يحل. لأن ذمة الميت قد خربت، أو في حكم الخراب، لتعذر المطالبة، والورثة لم يلتزموا الدين، ولا رضي صاحبه بذممهم، وتعلقه بالتركة فيه ضرر على الميت، لأن ذمته مرتهنة بدينه.
2048 - كما في الترمذي وحسنه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه»(4/78)
وعلى رب الدين، لاحتمال تلف التركة، ولا نفع فيه للورثة، لعدم تصرفهم في التركة إن قيل بتعلق الدين بها، انتهى، فإن لم يوثق الورثة حل على المشهور والمجزوم به للشيخين وغيرهما، لغلبة الضرر، وظاهر كلام أبي الخطاب في الانتصار أن الوارث لا يلزمه التوثيق إذا كانت ذمته مليئة، وإنما يلزمه إذا كان على غير مليء.
(تنبيهان) : «أحدهما» فعلى المذهب إن لم يكن له وارث فهل يحل الدين، أو لا وينتقل المال إلى بيت المال، ويضمن للغرماء؟ فيه احتمالان ذكرهما في الانتصار، «الثاني» لا خلاف نعلمه أن دين الميت المؤجل لا يحل بموته، وكذلك لا يحل دين المفلس المؤجل بفلسه، والله أعلم.
قال: وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يوقفه الحاكم فجائز.(4/79)
ش: معنى إيقاف الحاكم هو تفليسه، لأنه بالتفليس أوقفه عن التصرف في ماله، ويحتمل أن يريد بإيقاف الحاكم له إظهار الحجر عليه، بالمناداة عليه بأن فلانا قد حجر الحاكم عليه فلا تعاملوه، وبالجملة ما فعله المفلس قبل تفليس الحاكم له في ماله، - من بيع، أو قضاء بعض الغرماء، ونحو ذلك - فهو جائز، لأنه رشيد غير محجور عليه، فنفذ تصرفه كغيره.
ومفهوم كلام الخرقي أن ما فعله في ماله بعد الحجر عليه لا يجوز، أي لا يصح وهو كذلك، وقد تقدم، ويدخل في عموم المفهوم عتقه لبعض أرقائه، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر في التنبيه، والقاضي والشريف -: ينفذ، وإنما قيد ذلك بالمال لأن تصرفه في الذمة يصح مطلقا، لكن لا يشارك أصحابه بعد الحجر عليه الغرماء، والله أعلم.
قال: وينفق على المفلس، وعلى من تلزمه مؤونته من(4/80)
ماله، إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه.
ش: ينفق على المفلس من ماله، لأن ملكه باق.
2049 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وكذلك ينفق على من تلزمه مؤونته للحديث، وشرط أبو محمد للنفقة عليه وعلى من تلزمه مؤونته أن لا يكون له صناعة تفي بذلك، والواجب من النفقة أدنى نفقة مثله بالمعروف، وحكم الكسوة حكم النفقة، والله أعلم.
قال: ولا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها.
ش: لأن حاجته داعية إلى ذلك، فأشبه النفقة، والكسوة، ولابن حمدان احتمال أن من أدان ما اشترى به مسكنا، أنه يباع، ولا يترك له، ولو كان المسكن عين ماله بعض الغرماء أخذه بالشروط السابقة، وقد تقدم ذلك للخرقي، وحكم الخادم المحتاج إليه حكم الدار، وقد خرج من كلام الخرقي إذا كان له داران، فإن إحداهما تباع، لغناه عنها، وكذلك(4/81)
لو كانت له دار واسعة، لا يسكنها مثله، ويشترى له مسكن مثله والله أعلم.
قال: ومن وجب عليه دين فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بمعسرته.
ش: من وجب عليه دين فإن كان مؤجلا لم يطالب به ولم يلازم به، وإن كان حالا فطولب به وله مال ظاهر أمر بوفائه، وإن لم يكن له مال ظاهر فذكر أنه معسر، فإن صدقه الغريم أو لم يصدقه وقامت بينة - كما سيأتي - بذلك لم يتعرض له لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، وإن لم يصدقه ولم تقم بينة بذلك، فإن علم له مال، أو كان دينه ثبت عن مال - كالبيع والقرض - والغالب بقاؤه، أو من غير مال كالضمان ونحوه وأقر أنه مليء، فالقول قول غريمه مع يمينه أنه لا يعلم عسرته بدينه، وفي الرعاية أنه يحلف أنه موسر بدينه، ولا يعلم إعساره به، فإن نكل عن اليمين حلف المفلس وخلي سبيله، وإن(4/82)
حلف حبس المدين ليظهر حاله إلى أن يقيم بينة - ولو بعد يوم -[تشهد بتلف أو إعساره هذا هو التحقيق، وفاقا للمجد وغيره، وفي التلخيص أنها لا بد وأن تشهد بالتلف، وظاهر كلامه: والإعسار. وكذا في الرعاية، قال:] تشهد بذهابه وإعساره، لا أنه لا يملك شيئا، ثم إن شهدت بالإعسار اعتبر خبرتها بباطنه وإن شهدت بالتلف لم يعتبر ذلك، إذ التلف يطلع عليه كل أحد، بخلاف الإعسار، وهل يحلف مع بينته؟ فيه قولان، والتحقيق منهما - وقطع به أبو محمد في الكافي، وأبو البركات، وصححه ابن حمدان - أنها إن شهدت بالتلف فطلب منه اليمين على عسرته وجب عليه ذلك، لأن اليمين على أمر محتمل، خلاف ما شهدت به البينة، وإن شهدت بالإعسار فلا، لما فيه من تكذيب البينة، وإن لم يعلم له مال، ولم يكن دينه عن مال، كعوض النكاح وغيره، ولم يقر بالملاءة به، أو عن مال والغالب ذهابه، فالقول قوله مع يمينه، لترجحة جانبه، إذ الأصل عدم المال، ومن ثم يرجح جانب غريمه فيما إذا ثبت له مال إذ الأصل(4/83)
بقاؤه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يفرق بين حالة وحالة والمعروف التفرقة.
وقد علم من كلام الخرقي أن البينة تسمع على الإعسار وهو كذلك.
2050 - لحديث قبيصة بن المخارق - وقد تقدم في الزكاة - «حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة» والله أعلم.
قال: وإذا مات فتبين أنه كان مفلسا لم يكن لأحد من الغرماء أن يرجع في عين ماله.
ش: هذا الشرط الرابع في رجوع البائع في عين ماله، وهو أن يكون المفلس حيا، فإن مات فلا رجوع له، سواء مات بعد الحجر عليه أو قبله فتبين فلسه.(4/84)
2051 - لأن في بعض ألفاظ الحديث: عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء» رواه مالك في الموطأ وأبو داود، ولا يعترض بأنه مرسل، إذ المرسل عندنا حجة مع أن أبا داود قد رواه أيضا فوصله فقال: عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولفظه «وأيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه، اقتضى منه شيئا أو لم يقتض، فهو أسوة الغرماء» . وقول الشافعي: إنه موجود في حديث أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى بالقول فهو أحق به، وأنه يشبه أن يكون ما زاد من قوله: وإن مات. إلى آخره من رأيه لا روايته الظاهر خلافه، وتركه الزيادة إن ثبت(4/85)
فلعله لعدم الحاجة إلى ذكرها إذا، مع كون الحكم لا يختل بتركها، أو لنسيانها.
2052 - واعتراضه بحديث ابن خلدة قاضي المدينة الذي رواه الطيالسي، قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فأصاب رجل متاعه بعينه، فقال أبو هريرة: هذا الذي قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من أفلس أو مات فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به، إلا أن يدع الرجل وفاء. يجاب عنه بضعفه، قال ابن المنذر: إنه مجهول الإسناد، وقال ابن عبد البر: يرويه أبو المعتمر، عن ابن خلدة، وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم وهذا الشرط أهمله صاحب التلخيص انتهى.
وقد بقي من شروط رجوع البائع فيما تقدم شروط، ولم يتعرض لها الخرقي (منها) ما هو متفق عليه، ومنها ما(4/86)
هو مختلف فيه (أحدها) أن لا يتغير المبيع تغيرا يزيل اسمه، كأن كان حنطة فصار دقيقا، أو دقيقا فصار خبزا، أو زيتا فصار صابونا، أو غزلا فصار ثوبا، أو ثوبا فصار قميصا ونحو ذلك، لأن المبيع لم يبق بعينه، واختلف فيما إذا كان بذرا فصار زرعا، أو بيضا فصار فراخا ونحو ذلك، هل يسلك به سبيل الزيادة المتصلة كالجنين إذا صار ولدا، فيجري في الرجوع فيه الخلاف السابق، وهو رأي القاضي، وصاحب التلخيص فيه، أو سبيل ما تقدم مما تغير اسمه بصناعة، فيمتنع الرجوع فيه، وهو ظاهر كلام أبي محمد؟ على قولين (الشرط الثاني) : أن لا يتعلق بالمبيع حق الغير، كأن يجده مرهونا، لئلا يزال الضرر بالضرر، ولأن الحديث «من وجد متاعه عند رجل قد أفلس» وهذا لم يجده عند المفلس، واختلف فيما إذا كان عبدا فجنى، هل يكون تعلق الجناية به مانعا من الرجوع فيه، كما في الرهن، إذ حق الجاني مقدم على حق الراهن، والمقدم على المقدم مقدم، أو ليس بمانع، لأن تعلق الجناية لا يمنع التصرف في الجاني بخلاف الرهن؟ على وجهين، وكذلك اختلف فيما إذا كان شقصا مشفوعا هل يمنع تعلق الشفعة به من الرجوع فيه،(4/87)
لتعلق حق الشفيع به ابتداء، وهو اختيار أبي الخطاب، أو لا يمنع، لأن بالرجوع يعود كما كان، فيزول الضرر، وهو اختيار ابن حامد، أو إن طالب الشفيع امتنع الرجوع، لتأكد حق الشفيع بالطلب [وإن لم يطالب] رجع؟ على ثلاثة أوجه: (الشرط الثالث) أن يكون ثمن العين المبيعة حالا، فإن كان مؤجلا فلا رجوع للبائع، قاله أبو بكر في التنبيه، وصاحب التلخيص فيه، لعدم تمكنه من مطالبة الثمن إذا الذي العجز عنه سبب الرجوع، والمنصوص عن أحمد في رواية الحسن بن ثواب - وعليه الجمهور - أن هذا ليس بشرط، لكن المنصوص أن المتاع يوقف إلى الأجل، ثم عند انقضائه يخير البائع بين الأخذ والترك، إعمالا لحقيهما، حق البائع في الرجوع، وحق المفلس في الأجل، وابن أبي موسى يقول: يؤخذ في الحال لعدم الفائدة في(4/88)
الوقف (الشرط الرابع) العجز عن أخذ الثمن، فلو تجدد للمفلس مال بعد الحجر وقبل الرجوع فلا رجوع، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا.
(الخامس) كون البائع حيا، فلا رجوع للورثة، لظاهر الحديث، وحكى الآمدي رواية [أخرى] أن هذا ليس بشرط، فترجع الورثة، وهو ظاهر كلام الشيخين، لعدم اشتراطهم [ذلك] وعلى هذا مجموع الشرائط تسعة أو ثمانية أو سبعة، والله أعلم.
قال: ومن أراد سفرا وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه.
ش: كمن أراد السفر من أهل مصر إلى الحجاز، وعليه دين يحل في أول المحرم ونحو ذلك لما يلحق الغريم من الضرر بتأخير حقه، والضرر منفي شرعا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وإن كان الدين لا يستحق إلا بعد مدة السفر،(4/89)
كما إذا كان قدومه في أواخر المحرم، والدين يحل في أول ربيع، ونحو ذلك، فإن كان السفر للجهاد منع، لما فيه من المخاطرة بالنفس، فلا يؤمن فوات النفس، وإن كان لغير الجهاد فروايتان (إحداهما) له منعه، لاحتمال التأخير بحدوث حادث أو غيره، فيلحق الغريم الضرر (والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي - ليس له منعه، لأن الأصل بل والغالب عدم الضرر، إذ الأصل عدم الحادث، وحيث قيل بالمنع فذلك معتبر بتوثيق برهن يفي بالحق، أو كفيل مليء، فيزول المنع لزوال الضرر إذا.
(تنبيه) : محل الخلاف على مقتضى كلام أبي محمد في السفر الطويل والله أعلم.(4/90)
[كتاب الحجر]
الحجر في اللغة المنع [والتضييق] ومنه سمي الحرام حجرا، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] أي حراما محرما، ويسمى العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته، قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] أي عقل، وهو في الشرع منع خاص وهو: منع الصبي، والمجنون، والسفيه، من التصرف في مالهم مطلقا، ومنع العبد، والمكاتب، والمريض والراهن والولي، ونحوهم من تصرف خاص، ثم الحجر تارة لحق نفسه، كالحجر على الصبي، والمجنون، والسفيه، وهذا الذي عقد الباب لأجله، وتارة لحظ غيره، وهو ما عدا ذلك.
والأصل في مشروعية الحجر قول الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] الآية وأضيفت الأموال إلى الأولياء لأنهم القائمون عليها،(4/91)
المدبرون لها، وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] الآية، وإذا ثبت الحجر على هذين، ثبت على المجنون بطريق التنبيه. والله أعلم.
قال: ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ.
ش: هذا مما لا خلاف فيه في الجملة، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا، ويشهد له قول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، ولأن الحجر كان لمعنى، فيزول بزوال ذلك المعنى، وهل يعتبر مع ذلك حكم الحاكم؟ أما في المجنون فلا يعتبر لظهوره، وأما في غيره فثلاثة أوجه (ثالثها) يعتبر في حجر السفيه دون الصبي، وهو الصحيح عند الشيخين وغيرهما.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه إنما حكم على الصبي، وحكم المجنون والسفيه حكمه، فيدفع إلى المجنون إذا عقل، وإلى السفيه إذا رشد، وحكم حاكم على الصحيح، وقد يقال: إن كلامه يشمل الثلاثة، إذ الرشد لا بد منه فيها، وإذا تقدير كلامه: ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله، فإن كان صبيا فإذا بلغ، وفيه شيء.(4/92)
ومفهوم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يدفع المال قبل البلوغ والرشد، وهو صحيح ولو صار شيخا، لأن الله تعالى شرط للدفع ذلك، والمشروط عدم عند عدم شرطه.
2053 - وروى الجوزجاني في كتابه المترجم قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش، ذي أهل ومال، فلا يجوز له أمر في ماله دونه، لضعف عقله.
ويستفاد من كلامه بطريق الإشارة أنه يحجر على الصبي ونحوه، وقد تقدم ذلك والله أعلم.
[علامات البلوغ في حق الغلام والجارية]
(تنبيه) : البلوغ يحصل في حق الغلام والجارية بالاحتلام، وهو خروج المني الدافق بلذة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] .
2054 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم» .(4/93)
وبنبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل، وفرج المرأة، وحول الفرجين إن كان خنثى.
2055 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وأمر بأن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت ألحق بالذرية، وقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» .
2056 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كتب إلى عامله أن لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه الموسى.(4/94)
2057 - وباستكمال خمس عشرة سنة «لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» . متفق عليه.
2058 - وفي مسند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عمر بن عبد العزيز أخبر بذلك، فكتب إلى عامله: أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة.
2059 - وتزيد الجارية بالحيض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» .
وأما الحمل فهو دليل إنزالها، فيحكم ببلوغها إذا ولدت منذ ستة أشهر، لأنه اليقين، إذ الولد إنما يخلق من مائهما، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] .(4/95)
قال صاحب التلخيص فيه: فإن كانت ممن لا توطأ كأن طلقها زوجها، وأتت بولد لأكثر مدة الحمل من حين طلاقه، فيحكم ببلوغها قبل المفارقة.
(تنبيه) : هل الإنزال من أحد فرجي الخنثى المشكل علم على بلوغه؟ فيه وجهان.
(أحدهما) : لا، لأن لا يكون إلا من أحدهما وهو مشكوك فيه، والثاني نعم، قال في التلخيص: لأن الاعتبار عندنا بالانتقال، وهذا مختار أبي محمد، لكنه لا يعتبر هذا [البناء، وفي الحيض] أيضا، فأما إن حاض وأنزل فإنه يحكم ببلوغه عند القاضي، وصاحب التلخيص وقيل: لا. والله أعلم.
قال: وكذلك الجارية وإن لم تنكح.
ش: حكم الجارية حكم الغلام، عند الخرقي، وأبي محمد، فيدفع إليها مالها إذا رشدت وبلغت، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] الآية، ومنصوص الإمام أحمد. في رواية أبي طالب أنه لا يدفع إليها بعد بلوغها ورشدها، حتى تتزوج وتلد، أو يمضي عليها حول في بيت زوجها، وهذا(4/96)
مختار أبي بكر والقاضي، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة.
2060 - لما روى سعيد بن منصور في سننه، عن شريح أنه قال: عهد إلي عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد ولدا. وعلى هذا إن لم تتزوج فقال القاضي: عندي أنها يدفع إليها مالها إذا عنست، أي كبرت وبرزت للرجال.
قال أبو محمد: ويحتمل دوام الحجر عليها مطلقا. والله أعلم.
قال: والرشد الصلاح في المال.
ش: هذا المشهور المعروف في المذهب، اتباعا لتفسير ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(4/97)
2061 - فإنه قال في قوله سبحانه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] : يعني صلاحا في أموالهم. ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام، فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا، فعلى هذا إذا كان مصلحا لماله، دفع إليه ماله، وإن كان مفسدا لدينه، كمن يترك الصلاة، أو يمنع الزكاة، أو يغتاب الناس، ونحو ذلك، نعم إن كان فسقه يلزم منه تبذير المال، كمن يشتري الخمر، أو المغنيات، ونحو ذلك - فليس برشيد، لا لفسقه، بل لعدم حفظه، وذهب ابن عقيل إلى أن الرشد الصلاح في المال وفي الدين، قال: وهو الأليق بمذهبنا وقولنا، بحسب الذرائع، واستدل لذلك بالآية الكريمة، فإنها نكرة في سياق الشرط فتعم والله أعلم،
قال: فإن عاوده السفه حجر عليه.
ش: إذا فك الحجر عن المحجور عليه بشرطه، فعاود السفه أو جن أعيد الحجر عليه، نظرا إلى دوران الحكم مع العلة.(4/98)
2062 - ويروى أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لآتين عثمان ليحجر عليك. فأتى عبد الله بن جعفر الزبير، فقال: قد ابتعت بيعا، وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان، فيسأله الحجر علي. فقال الزبير: أنا شريكك في البيع. فأتى علي عثمان، فقال: إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه. فقال الزبير: أنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير.
(تنبيه) : الذي يحجر هنا هو الحاكم لا غير، ولا ينفك الحجر إلا بحكمه على الصحيح والله أعلم.
قال: فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله.
ش: من عامل السفيه بعد الحجر عليه ببيع أو قرض، أو غيرهما لم تصح معاملته لأنه محجور عليه، أشبه المجنون،(4/99)
ثم ما أخذ منه يجب انتزاعه إن كان باقيا، أو بدله إن كان تالفا، وما أخذه السفيه رد على مالكه إن كان باقيا، وإن كان تالفا فهو من ضمان مالكه، علم بالحجر أو لم يعلم، إذ مع العلم هو المتلف لما له، حيث دفعه لمن ليس من أهل الدفع، وسلطه عليه، ومع عدم العلم هو المفرط، حيث عامل من لم يعرف، واختار ابن عقيل وجوب الضمان على السفيه، لكونه من أهل الضمان، سيما مع عدم العلم بالحجر، (وخرج) بقيد المعاملة شيئان (أحدهما) ما قبضه السفيه بإذن مالكه، لكن من غير أن يسلطه عليه، كما لو أودعه، أو أعاره فأتلف ذلك، أو تلف بتفريطه، فقال القاضي: يضمن، نظرا إلى أن المالك لم يسلطه على ذلك، بخلاف القرض ونحوه، وقيل: لا يضمن، لأن المالك مفرط، حيث دفع المال لفاقد الأهلية، ولعل منشأ الخلاف هل يصح استحفاظه أم لا؟ لكن مقتضى كلام أبي البركات أن محل الخلاف فيما أتلفه، أما ما تلف بتفريطه فإنه من ضمان مالكه بلا نزاع، لأنه مفرط، حيث دفعه في غير حرز، (الثاني) : ما أخذه بغير اختيار صاحبه، وأتلفه،(4/100)
كأن غصب أو جنى، فإن عليه ضمانه، لانتفاء التفريط من المالك، والله أعلم.
[إقرار المحجور عليه]
قال: وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا، أو طلق زوجته لزمه ذلك.
ش: إذا أقر المحجور عليه لسفه بما يوجب حدا، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، أو قصاصا كالقتل العمد، أو قطع اليد ونحو ذلك لزمه ذلك، لأنه تصرف في غير مال، والحجر إنما وقع على المال، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، وكذلك إذا طلق زوجته صح طلاقه، لكونه غير مال، وبطريق الأولى إذا خالع، وحكم المفلس حكم السفيه، والله أعلم.
قال: وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره.(4/101)
ش: لئلا يزول معنى الحجر، وقياسا على الصبي والمجنون، ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره من الأصحاب أنه يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه، لأنه مكلف، وإنما منع من إعمال ما أقر به الحجر، وقد زال، فيلزمه ما أقر به، واختار أبو محمد أنه لا يلزمه مطلقا، إذ المنع من نفوذ إقراره في حال الحجر عليه حفظ ماله، ودفع الضرر عنه، ونفوذه بعد فك الحجر عليه يلزم منه تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه وحكم ما يوجب الدين - كجناية الخطأ والغصب، ونحو ذلك - حكم الدين والله سبحانه أعلم.(4/102)
[كتاب الصلح]
ش: الصلح يتنوع أنواعا، صلح بين المسلمين وأهل الحرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما، وصلح بين المتخاصمين في غير مال، أو في المال وهو المراد هنا، والأصل فيه [عموم] قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] .
2063 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلح بين المسلمين جائز، إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأجمعت الأمة على جواز الصلح في الجملة والله أعلم.(4/103)
[شروط جواز الصلح]
قال: والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه، فيصطلحان على بعضه، فإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل.
ش: الصلح على الإنكار جائز في الجملة، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصلح بين المسلمين جائز» ولأن الشريعة جاءت بجلب المصالح، ودرء المفاسد، وهذا كذلك، إذ المدعي يأخذ عوض حقه الثابت له في اعتقاده، والمدعى عليه يدفع ما يدفعه لدفع الشر عنه، واليمين، وحضور مجالس الحكام، إلى غير ذلك، ويتفرع على هذا أن الإنسان إذا ادعى حقا يعتقد ثبوته على إنسان، فأنكره لاعتقاده أنه لا حق عليه، ثم صالحه عنه بعوض، جاز، لما تقدم من أن المدعي يأخذ عوض حقه، والمدعى عليه يدفع ذلك افتداء ليمينه، ودفع الخصومة عنه.
2064 - وفي الصحيح «أن رجلين اختصما في مواريث درست بينهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استهما وتوخيا، وليحلل كل منكما(4/104)
صاحبه» مختصر من حديث طويل، ويكون هذا الصلح بيعا في حق المدعي، لاعتقاده أن الذي يأخذه عوض ماله، حتى إنه إن وجد بما أخذه عيبا فله رده، وإن كان شقصا تثبت فيه الشفعة وجبت فيه، اللهم إلا أن يكون المأخوذ بعض العين المدعاة، فلا رد له ولا شفعة فيه، لأنه يزعم أنه أخذ بعض حقه وترك بعضا، ويكون إبراء في حق المدعى عليه، فلا يرد ما صالح عنه بعيب، ولا يؤخذ منه بشفعة، لاعتقاده أنه لم يزل ملكه عنه، وأن الذي دفعه إنما هو لافتداء اليمين، وقطع الخصومة.
وإن كان المدعى عليه يعلم ما عليه فجحده ثم صالح عنه، فالصلح باطل في حقه، لأنه توصل بإنكاره إلى هضم الحق، وأكل مال الغير بالباطل، وهذا صلح حلل حراما في الظاهر، وكذلك لو ادعى المدعي شيئا لا يعتقد أنه له، ثم صالح عنه، فالصلح أيضا باطل في حقه، لأنه أكل للمال بدعواه الباطلة الكاذبة، والله أعلم.(4/105)
قال: ومن اعترف بحق فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحا، لأنه هضم للحق.
ش: من اعترف بحق وصالح على بعضه فله حالتان (إحداهما) أن يمتنع من الأداء إلا بالمصالحة، فهذا ليس بصلح صحيح، لما علل به المصنف من أنه هاضم للحق، آكل لمال الغير بامتناعه المحرم. (الحالة الثانية) أن يكون باذلا، وتقع المصالحة، كأن يقول: صالحني بخمسين عن المائة التي لك علي، أو على نصف دارك، ونحو هذا، فهل فيه روايتان، المشهور منهما وهو مختار القاضي، وابن عقيل وغيرهما، ومقتضى كلام الخرقي - أنه لا يصح، لأنه صالح عن بعض ماله ببعض، (والثانية) يصح، لأن معنى الصلح الاتفاق والرضا، وقد حصل هذا من غير هضم للحق، ولا امتناع من أداء الواجب، وحقيقة هذا أن المدعي يرضى بترك بعض حقه وأخذ البعض، فصار كما لو قال: أبرأتك من نصف المائة، فأعطني نصفها، أو وهبتك نصف داري. ونحو هذا، وهذا غير ممنوع منه بالاتفاق، قال(4/106)
أبو البركات: وكذلك يخرج في قوله: أبرأتك من كذا على أن توفيني الباقي.
واعلم أن مقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يسمى الصلح على الإقرار صلحا، وكذلك ابن أبي موسى، وسماه القاضي وطائفة من أصحابه صلحا، وصورته الصحيحة عندهم أن يعترف له بعين فيعاوضه عنها، أو يهبه بعضها، أو بدين فيبرئه من بعضه، ونحو ذلك فيصح إن لم يكن بشرط، ولا امتناع من أداء الحق بدونه، قال أبو محمد: والخلاف في التسمية، أما المعنى فمتفق عليه، وهو فعل ما عدا وفاء الحق وإسقاطه، على وجه يصح، والله أعلم.
قال: وإذا تداعى نفسان جدارا معقودا ببناء كل واحد منهما، تحالفا وكان بينهما.
ش: لاستوائهما في الدعوى بلا مرجح، والله أعلم.
قال: وكذلك إن كان محلولا من بنائهما.
ش: أي تحالفا وكان بينهما، لما تقدم، وصفة اليمين - قال أبو محمد -: أن يحلف كل واحد منهما - على نصف الحائط - أنه لو ولو حلف كل واحد منهما على جميع الحائط أنه له دون صاحبه جاز، وكان بينهما، قلت: والذي(4/107)
ينبغي أن تجب اليمين على حسب الجواب والله أعلم.
قال: وإن كان معقودا ببناء أحدهما كان له مع يمينه.
ش: لأنه ترجح بالعقد ببنائه دون صاحبه، واليمين في جنبة أقوى المتداعيين، لكن شرط هذا العقد أن لا يمكن إحداثه عادة، عند القاضي وأبي البركات، وظاهر كلام الخرقي الإطلاق، والله أعلم.(4/108)
[كتاب الحوالة والضمان]
ش: الحوالة مشتقة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، ولها شبه بالمعاوضة، من حيث إنها دين، وشبه بالاستيفاء، من حيث إنه يبرأ بها المحيل، ولترددها بين ذلك ألحقها بعض الأصحاب بالمعاوضة، وبعضهم بالاستيفاء، واختار أبو محمد أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس بمحمول على غيره، إذ لو كانت بيعا للزم بيع الدين بالدين، ولما جاز التفرق قبل القبض، لأنه بيع مال الربا بجنسه، ولجازت بين جنسين كالبيع، قال: وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله (والضمان) يأتي إن شاء الله تعالى بيانه، والألف واللام فيه للجنس، فيشمل ضمان المال، وضمان النفس، والأصل في جواز الحوالة في الجملة الإجماع.
2065 - وسنده ما في الصحيحين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن(4/109)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع» .
قال: ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي، فقد برئ المحيل أبدا.
ش: من أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي بالحوالة، برئ المحيل، سواء أمكن استيفاء الحق، أو تعذر لمطل أو فلس، أو غير ذلك، أما مع استيفاء الحق فواضح، إذ وضع الحوالة انتقال الحق من ذمة المحيل، إلى ذمة المحال عليه، وإذا يبرأ المحيل، وأما مع تعذره فلأنه مفرط، حيث لم يشترط اليسار.
2066 - ويروى أن حزنا جد سعيد بن المسيب كان له على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دين، فأحاله به، فمات المحال به عليه، فأخبره فقال: اخترت علينا أبعدك الله. فأبعده بمجرد احتياله، ولم يخبره أن له الرجوع، وهذا هو المشهور في المذهب، وبه قطع أبو البركات وغيره، قال أبو محمد: وعن أحمد ما يدل على أن المحال عليه إذا كان مفلسا، ولم(4/110)
يعلم المحتال بذلك، فله الرجوع، قال: وبه قال جماعة من أصحابنا، إذ الفلس عيب في المحال عليه، فكان له الرجوع، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة.
ويستثنى من كلام الخرقي إذا شرط المحتال ملاءة المحال عليه، فإنه إذا بان معسرا يرجع على المحيل بلا خلاف نعلمه في المذهب اعتمادا على الشرط، وخرج من كلام الخرقي إذا لم يرض المحتال، ثم بانت عسرة المحال عليه، فإن المحتال يرجع على المحيل، بلا خلاف، لأنه لا تلزمه الحوالة على غير مليء لمفهوم الحديث، ومن هنا يتبين لك أن الرضا مسقط لرجوع المحتال على المحيل، لا أنه شرط لصحة الحوالة، إذ الحوالة تصح بدونه، لكن لصحتها شروط (أحدها) : رضا المحيل اتفاقا، (الثاني) : تماثل الحقين، وقد أشار الخرقي إلى ذلك، والتماثل في الجنس، كدراهم بدراهم، وفي الصفة، كناصرية بناصرية، وفي الحلول أو التأجيل، كحال بحال، ومؤجل بمؤجل، بشرط اتفاق الأجلين فإن أحاله بناصرية على دمشقية أو بالعكس، لم يصح عند أبي محمد، وكذلك عند من ألحقها بالمعاوضة، إذ اشتراط التفاوت فيهما ممتنع كالقرض، وأما من ألحقها بالاستيفاء فقال: إن كان تفاوتا يجبر على أخذه عند بذله كالجيد عن الرديء - صحت وإلا فلا.
(الشرط(4/111)
الثالث) أن يكون بمال معلوم كالمثليات لا بما لا يصح السلم فيه كالجوهر ونحوه، وفيما يصح السلم فيه غير المثلي كالمذروع والمعدود - وجهان، وفي الحوالة بإبل الصدقة على من عليه مثلها وجهان، وإن أحال بإبل الدية على إبل القرض صح إن قيل برد المثل في القرض، وإن قيل برد القيمة لم يصح، لاختلاف الجنس، وفي العكس كأن أحال المقرض بإبل الدية - لا يصح مطلقا، لأنا وإن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفته، وقيمته [ومن عليه الدية لا] يلزمه ذلك (الرابع) الديون على أربعة أقسام، دين سلم، ودين كتابة، وما عداهما وهو قسمان، مستقر، وغير مستقر، كثمن المبيع في مدة الخيار، [ونحو ذلك] ، فلا تصح الحوالة بدين السلم، ولا عليه، وهل يجري هذا الحكم على رأس ماله بعد الفسخ؟ فيه وجهان، وتصح بدين الكتابة – على الصحيح دون عليه، ويصحان في سائر الديون، مستقرها وغير مستقرها، وقيل: لا تصح(4/112)
على غير مستقر بحال، وإليه ذهب أبو محمد، وجماعة من الأصحاب، وقيل: ولا بما ليس بمستقر، وهو اختيار القاضي في المجرد، وتبعه أبو الخطاب والسامري، والله أعلم.
قال: ومن أحيل بحقه على مليء فواجب عليه أن يحتال.
ش: نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك، اتباعا لظاهر الأمر في الحديث، وفسر المليء في رواية إسماعيل العجلي بأن يكون بماله، وقوله، وبدنه، قلت: فالمال أن يقدر على الوفاء، والقول أن لا يكون مماطلا، والبدن أن يمكن حضوره إلى(4/113)
مجلس الحكم، هذا الذي يظهر لي في التفسير، فإن امتنع من القبول أجبر على ذلك، لكن هل تبرأ ذمة محيله قبل أن يجبره الحاكم؟ فيه روايتان، (إحداهما) نعم، فلو هلك المحال عليه معسرا فلا شيء له، وهي التي صححها القاضي يعقوب.
(والثانية) : لا، لكن تنقطع المطالبة بمجرد الحوالة، ويصير بمثابة من بذل ما عليه من دين، فامتنع صاحبه من القبض، فإن الحاكم يجبره على القبض، ولا تبرأ ذمة الغريم قبل ذلك.
وفهم من كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يعتبر رضا المحتال، ولا المحال عليه، وهو الصحيح، أما المحتال فللحديث، وأما المحال عليه فلأن للإنسان أن يستوفي حقه بنفسه وبوكيله، والمحتال قد أقامه المحيل مقام الوكيل، والله أعلم.
قال: ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه، أو قال: ما أعطيته فهو علي فقد لزمه ما صح أنه أعطاه.
ش: الضمان مشتق عند أبي محمد من الضم، فهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، ورد بأن لام(4/114)
الكلمة في الضم ميم، وفي الضمان نون، وشرط صحة الاشتقاق وجود حروف الأصل في الفرع، ويجاب بأنه من الاشتقاق الأكبر، وهو المشاركة في أكثر الأصول، مع ملاحظة المعنى، وعند القاضي من التضمن فذمة الضامن تتضمن الحق، وعند ابن عقيل: من الضمن، فذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه، والخلاف في الاشتقاق، أما المعنى فواحد، وعرفه أبو البركات بأنه التزام الإنسان في ذمته دين المديون، مع بقائه [عليه] ، وليس بمانع، لدخول كل من لم يصح تبرعه، ولا جامع، لخروج ضمان ما لم يجب، والأعيان المضمونة، ودين الميت إن برئ بمجرد الضمان عنه، على رواية.(4/115)
وهو جائز في الجملة بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .
2067 - قال ابن عباس: الزعيم الكفيل.
2068 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» إلى غير ذلك من الأحاديث. إذا تقرر هذا عدنا إلى لفظ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقوله: ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فقد لزمه. أي لزم الضامن ذلك الحق، وذلك لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه.(4/116)
وقوة كلام الخرقي تقتضي أنه لا بد من رضا الضامن، وهو واضح، إذ الإنسان لا يلزمه عقد لم يلتزمه، لكن لا بد مع رضاه من أن يصح تبرعه، ومقتضى كلامه أنه لا يعتبر رضا المضمون له، ولا رضا المضمون عنه، ولا معرفتهما، لحديث أبي قتادة، وقال القاضي: تعتبر معرفتهما. وقيل: تعتبر معرفة المضمون له، دون المضمون عنه وقوله أو قال: ما أعطيته فهو علي. فهذه مسألة ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، ومذهبنا الصحة فيهما، فما ثبت أنه أعطاه - ولو في المستقبل - فإنه يلزمه، للآية الكريمة، إذ حمل البعير مجهول، وغير واجب حينئذ.
وقول الخرقي: ما أعطيته. قال أبو محمد: مراده الاستقبال، دفعا للتكرار، ولأنه عطفه على الأول، فدل على أنه غيره، إذ العطف يقتضي المغايرة، واحتمل أن مراده الماضي، ويكون فائدة المسألة بيان صحة ضمان المجهول، وقد حكى الأصحاب في نحو هذا اللفظ، هل هو(4/117)
للماضي أو للمستقبل وجهين، ذكرهما ابن أبي موسى، وكذلك النحاة قالوا: الفعل الماضي الواقع صلة لموصول، أو لنكرة موصوفة، يحتمل أن يحمل على الماضي، كما في قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] ويحتمل أن يحمل على المستقبل، كما في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] أي يتوبوا، ويرجح الأول إعمال الحقيقة والله أعلم.
قال: ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن.
ش: لا يبرأ المضمون عنه بنفس الضمان، بل يثبت الحق في ذمة الضامن، مع بقائه في ذمة المضمون عنه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» .
2069 - وفي المسند «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: توفي صاحب لنا، فأتينا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فخطا خطوة ثم قال: «أعليه دين» ؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة فقال: الديناران علي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وجب حق الغريم، وبرئ الميت منهما؟» قال: نعم. فصلى عليه،(4/118)
ثم قال بعد ذلك: «ما فعل الديناران» ؟ قال: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الآن بردت جلدته» فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه حينئذ أي حين القضاء بردت جلدته.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أن المضمون عنه إذا كان ميتا برئ بمجرد الضمان عنه، استدلالا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر: «وبرئ الميت منهما» ويجاب عنه بأن هذا ليس إخبارا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببراءته، وإنما هو استفهام من أبي(4/119)
قتادة، في أنه هل ضمن متبرعا لا ليرجع، ولهذا أجابه بنعم.
(تنبيه) : حكى أبو الخطاب وأبو محمد وغيرهما هذه الرواية في الميت مطلقا، وخصها أبو البركات بالميت المفلس والله أعلم.
قال: فمتى أدى رجع به عليه، سواء قال له: اضمن عني أو لم يقل.
ش: إذا أدى الضامن الدين لم يخل من أحوال، (الأول) ضمن بإذنه وأدى بإذنه، (والثاني) ضمن بإذنه وأدى بغير إذنه (الثالث) بالعكس، ولا خلاف عندنا أنه يرجع في هذه الصور الثلاث، (الرابع) ضمن وقضى بغير إذنه، لكن نوى الرجوع فعنه لا يرجع، لأن أبا قتادة لو استحق الرجوع لصار له دين على الميت، وإذا لم يصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه، لعدم فائدة الضمان إذا، إذ ذمة الميت لم تزل مشغولة بدين، (وعنه) وهي اختيار الخرقي، والقاضي، وأبي الخطابي، والشريف، وابن عقيل، والشيرازي وابن(4/120)
البنا، وغيرهم - يرجع، لأنه قضاء مبرئ من واجب عليه، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وهو شامل لما إذا أرضعت بأمره أو بلا أمره، وأما حديث أبي قتادة فإنما قضى متبرعا، لعلمه أنه لا وفاء له، وقصده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي عليه، بل قد يقال: في حديث أبي قتادة دليل على أن غير المتبرع يرجع، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: «وجب حق الغريم» أي عليك «وبرئ الميت منهما» (الحال الخامس) إذا ذهل عن قصد الرجوع وعدمه، وظاهر كلام الخرقي - وتبعه صاحب الوجيز - أنه يرجع، وإذا المقتضي للرجوع هو تأدية الواجب عن الغير والمسقط له هو قصد التبرع وقد عرفت من هذا (حالا سادسا) وهو إذا نوى التبرع، فلا يرجع بلا ريب، وهذه الصور تستثنى من عموم كلام الخرقي، والله أعلم.
[الكفالة بالنفس]
قال: ومن تكفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها.
ش: الكفالة بالنفس صحيحة، في قول الجمهور، حتى(4/121)
قيل: إنه إجماع، لقول الله تعالى - حكاية عن يعقوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وفيه نظر، إذ الظاهر أن المراد بالموثق اليمين، ولأن النفس يجب تسليمها بعقد، فوجب تسليمها بالكافلة كالمال، فعلى هذا إن لم يسلم النفس مع بقائها لزمه ما عليها، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» وقياسا على الكفالة بالمال.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا بد من رضا الكفيل، وهو واضح، وأنه لا يشترط لصحتها رضا المكفول به، وهو أحد الوجهين ككفالة المال، والوجه الآخر يشترط، لئلا يفوت معنى الكفالة، إذ معناها حضور المكفول به، وإذا كان بلا إذنه لم يلزمه الحضور.
وشرط صحة الكفالة بالنفس أن تكون بالمال، فلا تصح الكفالة ببدن من عليه حد أو قصاص، وتخصيص الخرقي الكفالة بالنفس يخرج منه الكفالة بالعين وهو واضح في(4/122)
غير المضمونة، وفي المضمونة وجهان، والله أعلم.
قال: فإن مات برئ المتكفل.
ش: إذا مات المكفول به برئ المتكفل، لأن الكفالة على الحضور، وبموت المكفول به يسقط عنه الحضور، وإذا سقط عنه الحضور سقط عن فرعه وهو الكفيل، والله سبحانه أعلم.(4/123)
[كتاب الشركة]
الشركة بوزن نعمة، وبوزن سرقة، وحكى بعضهم شركة بوزن ثمرة، وهي: الاجتماع في استحقاق أو تصرف، وهي جائزة بالإجماع، وسند ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] أي من الشركاء.
2070 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» والشركة على ضربين، شركة ملك، وشركة عقود، وهذا المقصود هنا.
[حكم شركة الأبدان]
قال: وشركة الأبدان جائزة.
ش: نص أحمد على ذلك.
2071 - مستدلا «بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرك بين عمار وسعد وابن مسعود» ، فجاء سعد بأسيرين، ولم يجيئا بشيء، ومعنى(4/124)
شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما، وكلام الخرقي يشمل [الاشتراك] في المباح، [كالاشتراك] في الاصطياد، والمعادن ونحو ذلك، وكلام أحمد واستدلاله نص فيه، وإطلاق الخرقي يشمل ما لو اختلفت الصنائع، وهو أحد الوجهين، واختيار القاضي، لأن من لزمه عمل شيء لا يعرفه أمكنه القيام به، بأن يستأجر عليه من يفعله، ونحو ذلك (والثاني) - وهو اختيار أبي الخطاب لا يصح، لئلا يلزم الشخص ما لا قدرة له على فعله، والله أعلم.
قال: وإن اشترك بدنان بمال أحدهما، أو بدنان بمال غيرهما، أو بدن ومال، أو مالان وبدن صاحب أحدهما،(4/125)
أو بدنان بماليهما، تساوى المال أو اختلف، فكل ذلك جائز.
ش: أنواع الشركة الصحيحة أربعة (أحدها) شركة الأبدان وقد تقدمت، (الثاني) : شركة العنان، وهي المذكورة في قوله: أو بدنان بماليهما. أي يشترك رجلان بماليهما، ليعملا فيه بأبدانهما، وهي جائزة بالإجماع، حكاه ابن المنذر. ومأخوذة قيل: من تساوي عناني الفرسين في السير. لأن كلا من الشريكين مساو لصاحبه في المال والتصرف، وقيل: بل من «عن» إذا عرض، فكل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه، وقيل: من عانه إذا عارضه. فكل واحد منهما عارض الآخر بمثل ماله وعمله، (الثالث) : شركة المضاربة، وهي المذكورة في قوله: أن يشترك بدنان بمال أحدهما، أو بدن ومال. والأصل فيها أن يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل فيه.
2072 - والأصل في جوازها ما روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرجا في جيش إلى العراق، فتسلفا من أبي موسى مالا وابتاعا به متاعا، وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه، فأراد(4/126)
عمر رأس المال والربح كله، فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فلم لا يكون ربحه لنا. فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا؟ قال: قد جعلته. وأخذ منهما نصف الربح، وهذا دليل على جواز القراض.
2073 - وقد روي جوازه أيضا عن عثمان، وعلي، وابن مسعود، وحكيم بن حزام، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة(4/127)
فكان إجماعا، مع أن ابن المنذر قد حكى ذلك إجماعا، وحكمة الشرع تقتضي جوازها. [إذ الدراهم والدنانير لا تنمي إلا بالتجارة، وقد يملكها من لا يحسن التجارة، ويحسن التجارة من لا يملكها، فالحكمة تقتضي جوازها من الجانبين] ، وهي مأخوذة قيل من الضرب في الأرض، وهو السفر فيها غالبا للتجارة، قال سبحانه: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وقيل: بل من ضرب كل واحد منهما في الربح وتسمى قراضا، قيل: من القطع، يقال: قرض الفأر الثوب. إذا قطعه، فصاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلمها للعامل، واقتطع له قطعة من الربح. وقيل: بل من المساواة والموازنة، يقال: تقارض الشاعران، إذا وازن كل واحد منهما الآخر بشعره، وهنا من العامل العمل، ومن الآخر المال فتوازنا. انتهى.
وأما إذا اشترك بدنان بمال أحدهما فهذه مضاربة يشترط فيها عمل رب المال، والذي ذكره الخرقي [وهو] منصوص أحمد في رواية أبي الحارث - الجواز لأن من لا مال له(4/128)
يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره، وهذا [هو] حقيقة المضاربة، وذهب ابن حامد، وتلميذه، وتلميذ تلميذه القاضي، وأبو الخطاب، وطائفة إلى أن هذا لا يصح، إذ وضع المضاربة تسليم المال إلى المضارب، ومع اشتراط عمله لا تسليم وعلى هذا في اشتراط عمل غلامه وجهان، (المنع) وهو قول القاضي، إذ يد الغلام كيد السيد (والجواز) إذ هو مال فصح [كما] لو ضم إليه بهيمة يحمل عليها ونحو ذلك.
«الرابع» : شركة الوجوه، وهي أن يشترك اثنان على أن يشتريا بجاههما دينا، وهي جائزة، إذ معناها وكالة كل واحد منهما صاحبه في الشراء والبيع، والكفالة بالثمن، وكل ذلك صحيح، ولأنها مشتملة على مصلحة من غير مضرة، وأخذها أبو محمد من [قول] الخرقي: أو بدنان بمال غيرهما، كيلا يخل بنوع من أنواع الشركة وقال القاضي: مراد الخرقي بهذا أن يدفع واحد ماله إلى اثنين مضاربة، فيكون المضاربان شريكين في ربح بمال غيرهما [لأنهما إذا أخذا المال بجاههما فلا يكونان مشتركين بمال(4/129)
غيرهما] وهذا الذي قال القاضي هو ظاهر اللفظ، وعلى هذا يكون هذا نوعا من أنواع المضاربة [ويكون] قد ذكر للمضاربة ثلاث صور، وبقي من كلام الخرقي قوله: أو مالان وبدن صاحب أحدهما، وهذا يجمع شركة ومضاربة، فمن حيث إن من كل واحد منهما المال، يشبه شركة العنان، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه بجزء من الربح هو مضاربة، ونبه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا على أنه كما يجوز كل واحد من أنواع الشركة على انفراده، كذلك يجوز اجتماع الجميع والله أعلم.
قال: والربح على ما اصطلحا عليه.
ش: يعني فيما تقدم من أنواع الشركة، أما في المضاربة فإجماع حكاه ابن المنذر، وأما في شركة العنان فاعتمادا على الشرط، ولأن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر فيجوز اشتراط زيادة في الربح في مقابلة عمله، كاشتراط الربح في مقابلة عمل المضارب، وكذلك شركة الأبدان لأنهما قد يتفاضلان في العمل، وأما شركة الوجوه فإن قلنا: هي داخلة في كلام الخرقي، اقتضى كلامه أن يكون حكمها كذلك وهذا الذي قطع به أبو البركات.(4/130)
وقال أبو محمد: إنه قياس المذهب، لأنها شركة فيها عمل، فجاز ما اتفقا عليه كسائر الشركات.
وقال القاضي: الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى؛ لأن الربح يستحق بالضمان، لوقوع الشركة عليه خاصة، والضمان لا تفاضل فيه.
وأما ما جمع شركة ومضاربة - كأن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما، مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفا ليعمل أحدهما فيهما - فلا بد وأن يشترط للعامل أكثر من ربح ماله، كأن يشترط له الثلثان، أو النصف والربع، ونحو ذلك في مسألتنا، ليكون الزائد على ربح ماله مقابلا لعمله في نصيب صاحبه، ولو جعل للعامل في صورتنا دون النصف لم يصح، لأن الربح: [استحقاقه إما بمال أو بعمل، وهذا الجزء الزائد على النصف الذي شرط] لغير العامل ليس في مقابلة مال، ولا عمل، ولو جعلا الربح والحال هذه بينهما نصفين فلا شركة ولا مضاربة، إذ شركة العنان وضعها الشركة في المال والعمل، وقد فات العمل من أحدهما،(4/131)
والمضاربة وضعها جعل جزء من [الربح في مقابلة عمل] العامل، وقد فات الجعل، ويكون هذا إبضاعا، وهو جائز إن لم يكن عوضا [عن قرض، كأن كان العامل اقترض الألف، وجعل عمله في مال صاحبه عوضا] عن قرضه، فإن ذلك غير جائز، هذا كله إذا اصطلحا على ذكر شيء، فأما إن لم يصطلحا على شيء، فإن في المضاربة يكون الربح لمالك المال، وللعامل أجرة المثل، وفي العنان: يكون الربح على قدر المالين، وفي شركة الوجوه: على قدر ملكي المشتري، وفي شركة الأبدان: يقسم أجرة ما تقبلاه بالسوية، وهل يرجع كل واحد على الآخر بأجرة عمله؟ فيه وجهان، والله أعلم.(4/132)
قال: والوضيعة على قدر المال.
ش: الوضيعة تختص المال وتتقدر به، بلا خلاف نعلمه، ففي شركة العنان على قدر المالين، وفي شركة الوجوه على قدر ملكي المشتري، وفي المضاربة تختص المال لا تتعداه إلى العامل، والله أعلم.
قال: ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم.
ش: أو يجعل نصيبه كله من الربح دراهم؛ كأن يشترط له ثلث الربح [مثلا] وعشرة دراهم، أو يشترط له مائة درهم، من غير جزء من الربح، وفي كليهما يفسد العقد، وقد حكاه ابن المنذر في القراض إجماعا، والمعنى في ذلك احتمال أن لا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، وفي ذلك ضرر وغرر بالآخر، والشريعة تأباه، والله أعلم.
[ما يجوز للمضارب وما لا يجوز]
قال: والمضاربة إذا باع بنسيئة بغير أمر ضمن في إحدى الروايتين، والأخرى: لا يضمن.(4/133)
ش: إذا أذن للمضارب أو لغيره من الشركاء أن يبيع نسيئة أو أمر بذلك أو نهى [عنه] اعتمد الإذن، ومتى خالف ضمن، وإن أطلق له جاز أن يبيع بالحال، وهل يجوز أن يبيع بالنسيئة؟ فيه روايتان:
(الجواز) : واختاره ابن عقيل، إذ ذلك عادة التجار، فكان مأذونا له عرفا.
(والمنع) : إذ التصرف المأذون فيه ما كان على وجه الحظ، ومع النسيئة لا حظ، لما في ذلك من التغرير بالمال، فكأنه منهي عنه عرفا.
فعلى الأول: لا ضمان عليه ما لم يفرط ببيع من لم يوثق به، أو من لم يعرفه.
وعلى الثاني: يلزمه ضمان الثمن.
«قلت» : وينبغي أن يكون حالا، والبيع صحيح على مقتضى كلام الخرقي، وجعله أبو محمد من تصرف الفضولي، فيبطل على الصحيح، والله أعلم.
[المضاربة لأكثر من رجلين]
قال: وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر، إذا كان فيه ضرر على الأول، [فإن فعل وربح رده في شركة الأول] .(4/134)
ش: إذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول، كأن يكون المال الثاني كثيرا، يشغله عن [العمل في] الأول، أو الأول كثير، متى اشتغل بغيره تعطل العمل في بعضه، إذ وضع المضاربة على الحظ والنماء، ومع وجود الضرر لا حظ ولا نماء، فإن خالف وفعل رد ما ربح في المضاربة الثانية في [شركة] الأول، لأن الأول - والحال هذه - يستحق منافعه، فيستحق ما حصل في مقابلتها، وخرج من كلام الخرقي إذا لم يكن على الأول ضرر بالمضاربة، لقلة المال ونحو ذلك، فإن للمضارب المضاربة لآخر، إذ منافعه لم تملك عليه، إنما الذي ملك عليه فعل ما فيه حظ ونحوه، والله أعلم.
قال: وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال.
ش: وضع المضاربة أن ينض مال المضاربة، ثم يقسم الربح، والله أعلم.
[ربح المضارب في سلعة وخسارته في الأخرى]
قال: وإذا اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى؛ جبرت الوضيعة من الربح.(4/135)
ش: لأن رأس المال واحد، فلا يستحق المضارب فيه ربحا حتى يستوفي رأس المال، كالتي قبلها، والله أعلم.
قال: وإذا تبين للمضارب أن في يده فضلا، لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال.
ش: لأن الربح وقاية لرأس المال، فربما خسر بعد، فتبين أن لا ربح، ولأن رب المال شريكه في الربح، فلا يقاسم نفسه إلا بإذنه، وخرج إذا أذن رب المال لأن الحق لهما، لا يخرج عنهما، نعم: متى خسر المال - والحال هذه - لزم العامل رد أقل الأمرين مما أخذه، أو نصف الخسران، إذا قسما الربح نصفين.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن العامل يملك الربح بنفس الظهور، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والمنصوبة في المغني للخلاف، اعتمادا على الشرط، إذ هو صحيح، فوجب العمل بمقتضاه.
«والرواية الأخرى» : لا يملكه إلا بالقسمة، إذ لو ملكه بالظهور لكان ربحه له، وكان شريكا لرب المال به، وكل ذلك ممتنع، والله أعلم.
[اتفاق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما]
قال: وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما، كان الربح بينهما والوضيعة على المال.(4/136)
ش: لا إشكال في صحة شرط الربح، ولا في بطلان اشتراط الوضيعة أو بعضها على المضارب، لمنافاة هذا الشرط لمقتضى المضاربة.
ومقتضى كلام الخرقي أن العقد لا يفسد بهذا الشرط، وهو منصوص أحمد والمذهب، لعدم تأثيره في جهالة الربح، وعنه يفسد العقد، لأنه شرط فاسد، أشبه اشتراط فضل دراهم، والله أعلم.
قال: ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدين الذي عليك.
ش: حكى ابن المنذر هذا إجماعا عمن يحفظ عنه من أهل العلم، لأن المال ما دام في يد المدين لا يصير للغريم إلا بقبضه، ولم يوجد القبض هنا، وخرج أبو البركات الصحة من صحة المضاربة بالعروض، لأنه إذا اشترى شيئا للمضاربة، ودفع الدين، فقد وقع الشراء [والدفع بإذن الغريم] ، فيصير كما لو دفع إليه عرضا، وقال: ضارب به، والله أعلم.
قال: وإن كان في يده وديعة جاز له أن يقول: ضارب بها.(4/137)
ش: لأن الوديعة ملك لصاحبها، فجازت المضاربة عليها، كما لو كانت حاضرة.
ومراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذه الوديعة: الدراهم والدنانير، إذ غرضه بهذه المسألة بيان أن الوديعة يجوز دفعها لمن هي في يده مضاربة، وقد يقال: إن إطلاقه يشمل ما إذا كانت غير الدراهم والدنانير، فيكون من مذهبه جواز المضاربة على العروض، كالرواية المرجوحة، مع أن المسألة السابقة قد تأتي ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/138)
[كتاب الوكالة]
الوكالة بفتح الواو وكسرها: التفويض.
وفي الاصطلاح: التفويض في شيء خاص في الحياة، وهي جائزة بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] . ولهذا «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث السعاة لقبض الصدقات» ، وقَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] .
2074 - وأيضا «توكيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عروة بن الجعد في شراء الشاة» .
2075 - «وتوكيل أبي رافع في تزويج ميمونة» .(4/139)
2076 - «وعمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة» .
[ما تجوز فيه الوكالة]
قال: ويجوز التوكيل في الشراء والبيع، ومطالبة الحقوق، والعتق، والطلاق؛ حاضرا كان الموكل، أو غائبا.
ش: يجوز التوكيل في الشراء، لما تقدم من الآية والخبر، ولذلك قدمه الخرقي، وفي البيع، لأنه في معناه، وكذلك ما في معناهما من الإجارة، والصلح، والرهن، والجعالة، والمساقاة، والنكاح، ونحو ذلك من عقود المعاوضات، ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق.(4/140)
2077 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل عقيلا عند أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: ما قضي له فلي، وما قضي عليه فعلي.
2078 - ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان، وقال: إن للخصومة قحما، وإن الشيطان ليحضرها، وإني لأكره أن أحضرها.
قال أبو زياد: القحم: المهالك. ومثل هذا يشتهر، ولم ينقل إنكاره فكان إجماعا، ويجوز التوكيل في العتق، والطلاق، لأن الحاجة قد تدعو إليهما، أشبها ما تقدم، ولأنه إذا جاز التوكيل في الإنشاء؛ جاز في الإزالة بطريق الأولى، وفي معناهما الوقف، والهبة، والخلع، ونحو ذلك مما يزيل ملك المال، أو ملك البضع، وسواء في جميع ذلك حضور الموكل وغيبته، لعموم الأدلة، وإنما ذكر(4/141)
المصنف ذلك تنبيها على مخالفة الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذ عنده أن للخصم الامتناع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا، والله أعلم.
قال: وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه، إلا أن يجعل ذلك إليه.
ش: لا يجوز للوكيل التوكيل إلا بإذن، على المشهور من الروايتين، واختاره الخرقي، وأبو محمد، وغيرهما؛ إذ إذن الموكل إنما يتناول تصرف الوكيل بنفسه، فلا يتعداه إلى غيره، كما لو نهاه، فإنه ليس له التوكيل اتفاقا.
وعنه: له ذلك، لأن له أن يتصرف بنفسه، فله أن يفوض ذلك إلى نائبه كالمالك، أما إن جعل التوكيل إليه - إما بنص، ولفظ عام، بأن قال له: اصنع ما شئت. أو قرينة حالية كأن يكون الوكيل لا يتولى مثله ذلك، لدناءة الموكل فيه، وشرف الوكيل، ونحو ذلك، أو يعجز عنه لكثرته - فإنه يجوز، اعتمادا على الإذن اللفظي أو العرفي، نعم هل يجوز التوكيل فيما يعجز عنه في الجميع، أو في القدر الذي يعجز(4/142)
عنه فقط؟ فيه وجهان، وحيث جوز له التوكيل فإنه يتقيد بأمين، لأن ذلك هو الحظ دون غيره، والله أعلم.
قال: وإذا باع الوكيل ثم ادعى تلف الثمن، من غير تعد منه، فلا ضمان عليه، فإن اتهم حلف.
ش: الوكيل في البيع وكيل فيه وفيما ينشأ عنه، وهو حفظ الثمن، فإذا باع وقبض الثمن، ثم ادعى تلف الثمن، والحال أنه من غير تعد منه، فالقول قوله، لأنه أمين، والقول قول الأمين، والحكمة في ذلك أنه لو كلف إقامة البينة على ذلك؛ لتعذر عليه أو شق، فيمتنع الناس من الدخول في الأمانة مع الحاجة إليه، فيحصل الضرر، ولهذا قلنا: إذا ادعى التلف بأمر ظاهر - كحريق عام، ونهب جيش، ونحو ذلك مما تسهل إقامة البينة عليه - كلف إقامة البينة على وجود ذلك، ثم القول قوله في التلف، ويتفرع على أن القول قوله أنه لا ضمان عليه، أما لو ثبت تعديه ببينة أو إقرار؛ فإن الضمان عليه، لزوال أمانته، فهو كالغاصب، ومتى قلنا: القول قوله. فأنكره الموكل فإنه يحلف، لأن ما ادعاه عليه محتمل، والله أعلم.(4/143)
قال: ولو وكله أن يدفع إلى رجل مالا، فادعى أنه دفعه إليه، لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة.
ش: إذا وكل وكيلا أن يدفع إلى رجل مالا، فادعى أنه دفعه إليه، وأنكره من أمر بدفعه إليه، فإن قول الوكيل لا يقبل على الآمر، ويلزمه الضمان على المذهب، لأنه مفرط، حيث لم يشهد على الدفع، أشبه ما لو أمره بذلك فخالف، (وعنه) : يقبل قول الوكيل على الآمر، فلا ضمان عليه، حملا للتفريط على المالك، لأنه لم يحتط لنفسه، حيث لم ينص له على الإشهاد، ولهذا قلنا - على الصحيح -: أنه لو دفع المال بحضرته لم يضمن، لأن حضوره قرينة رضاه بالدفع بغير بينة، وقيل: لا ينتفي الضمان. اعتمادا على أن الساكت لا ينسب له قول، (هذا كله) إذا لم يكن بينة، أما مع البينة فإن قوله يقبل على الآمر، وينتفي عنه الضمان، لعدم تفريطه، ولا فرق بين أن تكون البينة قائمة، أو غائبة، أو ميتة، إذا كانت على حال لو وجدت(4/144)
قبلت، نعم لو كانت ممن اختلف في ثبوت الحق بشهادتها - كشاهد واحد، أو رجل وامرأتين - فهل يبرأ من الضمان؟ قال أبو محمد: يخرج على روايتين.
وقول الخرقي: ولو وكله أن يدفع إلى رجل مالا. يشمل الدفع على أي صفة كان، فدخل في كلامه ما لو أمره بالإيداع، والأصحاب على أنه في الإيداع لا يلزمه الإيداع إذا لم يشهد، لعدم الفائدة في الإشهاد، إذ القول قول المودع في الرد والتلف، ويرد بأن فيه فائدة، وهو ثبوت الوديعة، فلو مات أخذت من تركته.
وقول الخرقي: لم يقبل قوله على الآمر. دل بطريق التنبيه أنه لا يقبل قوله على من أمر بالدفع إليه، لأنه إذا لم يقبل قوله على من ائتمنه، فعلى من لم يأتمنه أولى.
ومقتضى كلام الخرقي: أن الآمر أنكر الوكيل، وعلى هذا لو صدق الآمر الوكيل في الدفع فلا ضمان عليه.
وصرح القاضي وغيره(4/145)
من الأصحاب: أنه لا فرق في تضمين الوكيل بين تصديق الآمر له أو تكذيبه، لأن مناط الضمان كونه فرط، حيث لم يشهد، والله أعلم.
قال: وشراء الوكيل من نفسه غير جائز.
ش: هذا هو المشهور من الروايات، اختارها الخرقي، والشريف، وأبو الخطاب، وابن عقيل، وغير واحد، للتهمة، إذ الإنسان طبع على طلب الحظ لنفسه، ومقتضى الوكالة طلب الحظ للموكل، فيتنافى الغرضان، أو أن مقتضى الإذن في البيع أن يبيع من غيره، لا من نفسه، فكأنه قال: بع هذا ولا تبع من نفسك.
(والرواية الثانية) : يجوز، بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، لانتفاء التهمة غالبا، ويلزم على هذه الرواية أن يقول بجواز التوكيل للوكيل، إما مطلقا، وإما مع وجود قرينة تدل(4/146)
على ذلك.
(والرواية الثالثة) : يجوز، بشرط أن يوكل من يبيع، ويكون هو أحد المشتريين، معللا بأنه لا يأخذ بإحدى يديه من الأخرى.
(والرواية الرابعة) : يجوز أن يشارك فيه، لا أن يشتريه كله، لانتفاء التهمة أو ضعفها إذا، وعلى الروايات كلها إذا أذن له في الشراء من نفسه جاز له الشراء بلا نزاع، نعم على مقتضى تعليل أحمد - في الرواية الثالثة - لا يجوز؛ لأنه يأخذ بإحدى يديه من الأخرى، والله أعلم.
قال: وكذلك الوصي.
ش: حكم الوصي حكم الوكيل، لا يجوز له الشراء من مال موليه إلا حيث يجوز للوكيل، لاستوائهما معنى، فاستويا حكما، إذ كل منهما متصرف على الغير، والله أعلم.
قال: وشراء الرجل لنفسه من مال ولده [الطفل] جائز، وكذلك شراؤه له من نفسه.(4/147)
ش: يجوز للأب أن يشتري لنفسه من مال ولده الذي تحت حجره، ويبيع له من ماله، لانتفاء التهمة في حقه غالبا، لكمال شفقته، والله أعلم.
قال: وما فعل الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فباطل.
ش: أما إذا علم الوكيل بفسخ الموكل أو موته، فلا شك في بطلان ما فعله بعد ذلك، وأما إذا لم يعلم، فظاهر كلام الخرقي - وهو اختيار الشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل وغيرهم -: أن تصرفه غير نافذ أيضا، لأنه متصرف بلا إذن، لزواله بالفسخ أو الموت، ولا ملك، أشبه الفضولي.
قال القاضي: وهذا أشبه بأصول المذهب وقياسه، لقولنا: إن الخيار إذا كان لهما كان لأحدهما الفسخ من غير محضر من الآخر، ولم يذكر عن أحمد نصا، والمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن منصور، وجعفر بن محمد، وأبي الحارث: أن تصرفه نافذ، اعتمادا على أن الحكم لا يثبت في حقه قبل العلم، كما نقول في الأحكام المبتدأة، قال(4/148)
سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ومقتضى كلام الخرقي أن الوكالة عقد جائز، لبطلانه إياها بالموت والفسخ، وهو صحيح.
(تنبيه) : القاضي وأبو محمد وغيرهما يجعلون الخلاف في نفس انفساخ عقد الوكالة قبل العلم، وأبو البركات وغيره - وهو مقتضى كلام الخرقي - يجعلون الخلاف في نفوذ التصرف، لا في نفس الانفساخ، وهذا أوفق لمنصوصات أحمد، قال أبو العباس: وهو لفظي، والله أعلم.
قال: وإذا وكله في طلاق زوجته فهو في يده، حتى يفسخ أو يطأ.
ش: الوكالة تنفسخ بما يدل على الفسخ من لفظ أو فعل، إناطة للحكم على المعنى، فإذا وكله في طلاق زوجته فإنه يملك ذلك مطلقا، لعدم تقييده له بزمان ولا مكان، إلى أن يفسخ أو يطأ، إذ وطؤه دليل رغبته فيها، وعلى هذا إذا باشرها دون الفرج، فقال أبو محمد: فيه احتمالان، بناء على التردد في حصول الرجعة بذلك، والله أعلم.(4/149)
قال: ومن وكل في شراء شيء فاشترى غيره، فإن الآمر مخير في قبول الشراء، فإن لم يقبل لزم الوكيل، إلا أن يكون اشتراه بعين المال، فيبطل الشراء.
ش: من وكل في شراء شيء فاشترى غيره - كأن وكل في شراء عبد زيد، فاشترى عبد عمرو، أو في شراء عبد، فاشترى ثوبا، ونحو ذلك - فلا يخلو إما أن يقع الشراء بعين مال الموكل، أو في ذمة الوكيل، فإن وقع بعين مال الموكل فهل يبطل، وهو المذهب.
2079 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» ، أو يقف على إجازة المالك - لحديث عروة بن الجعد - فيه روايتان، وإن وقع في ذمة الوكيل بنية الشراء للموكل فهل الشراء صحيح - وهو المذهب المعروف المشهور، وجزم به الشيخان وغيرهما - إذ التصرف وقع في الذمة، وهي قابلة لذلك، أو باطل - كالشراء بالعين، حكاه القاضي في الروايتين؟ فيه خلاف، وعلى الأول فهل يلزم المشتري، لكونه اشترى لغيره بغير أمره،(4/150)
أشبه ما لو لم ينوه له، أو يقف على إجازة الموكل، فإن أجازه لزمه، لأنه اشترى له، أشبه ما لو أذن فيه، وإن رده لزم الموكل لصدور الشراء منه؟ فيه روايتان، حكاهما أبو محمد، ثم شرط القاضي - وتبعه أبو البركات - أن لا يسمي الموكل في العقد إذا كان الشراء في الذمة، فإن سماه بطل، وظاهر كلام الخرقي وأبي محمد عدم اشتراط هذا الشرط، والله أعلم.
[باب الإقرار]
بالحقوق الإقرار: الاعتراف، وحده الإظهار لأمر متقدم، وليس بإنشاء، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وقال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] .(4/151)
2080 - «وثبت أن النبي – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا بإقراره، وقال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» . وأجمع المسلمون على صحة الإقرار في الجملة.
[الاستثناء في الإقرار]
قال: ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه، كان استثناؤه باطلا، إلا أن يستثني عينا من ورق، أو ورقا من عين.
ش: إذا أقر بشيء واستثنى من جنسه - كأن أقر بعشرة دراهم، واستثنى منها درهما ونحو ذلك - فإنه يصح بلا نزاع، ويكون مقرا بالباقي بعد المستثنى، لورود ذلك في الكتاب، والسنة، وكلام العرب، قال سبحانه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] .
2081 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشهيد: تكفر عنه خطاياه كلها إلا الدين» . ويدخل في كلام الخرقي ما إذا أقر بنوع من(4/152)
جنس، واستثنى نوعا آخر، كأن أقر بتمر برني، واستثنى تمرا معقليا، ونحو ذلك، وهو أحد احتمالي [المغني.
والاحتمال الآخر - وهو الصحيح عند] أبي محمد -: لا يصح، لعدم دخول المعقلي في البرني.
وإن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه؛ فلا يخلو إما أن يكون ذلك في الدراهم والدنانير، أو في غيرهما، فإن كان في غيرهما - كأن أقر بدراهم واستثنى منها ثوبا، أو بثياب واستثنى منها دراهم، أو بتمر واستثنى منه برا، ونحو ذلك - فالمذهب المعروف المشهور: أنه لا يصح، لأن الاستثناء؛ إما إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، أو ما يصلح أن يتناوله اللفظ، مأخوذ من قولهم: ثنيت فلانا عن رأيه: إذا صرفته عن رأي كان عازما عليه، وأحد الجنسين لا يتناوله الآخر، ولا يصح أن يتناوله إلا على سبيل المجاز، والأصل الحقيقة، وعن أبي الخطاب صحة ذلك، بناء على جواز استثناء أحد النقدين من الآخر. انتهى.(4/153)
وإن كان ذلك في الدراهم والدنانير - مثل أن أقر بمائة درهم، واستثنى منها دينارا، أو بدينار واستثنى منه خمسة دراهم - ففيه روايتان: (إحداهما) : لا يصح، اختارها أبو بكر، لما تقدم.
(والثانية) : يصح، اختارها الخرقي، لأنهما في معنى الجنس الواحد، لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر، فإذا قال: له علي مائة درهم إلا دينارا، فمعناه إلا عشرين درهما، ويعبر بأحدهما عن الآخر، فمعنى: له علي دينار إلا درهمين، له علي عشرون درهما إلا درهمين. إذ الدينار يعبر به عن عشرين درهما، ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح حمل عليه، فعلى هذا يرجع في تفسير(4/154)
الدينار إلى المقر إن لم يكن للدينار بالبلد سعر معلوم، وإن كان له سعر فهل يرجع إلى سعره، أو إلى التفسير؟ فيه قولان، قال أبو محمد: ويمكن حمل الروايتين على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال بالصحة فيه، إذا عبر بأحدهما عن الآخر، أو علم قدره منه، والموضع الذي قال بالبطلان فيه، إذا انتفى ذلك، والله أعلم.
قال: ومن ادعي عليه شيء فقال: قد كان ذلك وقضيته. لم يكن ذلك إقرارا.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية جماعة، وجزم به الجمهور، كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وشيخهم، وقال: لم أجد رواية بغير هذا، وذلك لأن الكلام بآخره، والذي تضمنه مجموع كلامه أنه لا شيء له عليه، لأن الاستصحاب إنما يعمل عمله إذا لم يرد ما يخالفه.(4/155)
وعن أحمد رواية أخرى اختارها أبو الخطاب، أنه يكون مقرا مدعيا للقضاء، ولا يقبل قوله في دعوى القضاء إلا ببينة؛ إذ كلامه انطوى على جملتين: إحداهما: كان له علي ألف.
(والثانية) : وقضيته. فيقبل قوله فيما عليه، ولا يقبل قوله فيما له إلا ببينة.
وعنه رواية ثالثة، حكاها أبو البركات: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب، إذ إقراره الأول يناقضه دعوى القضاء ثانيا، وإذا تناقضا تساقطا، ولو قال: له علي ألف وقضيته. ولم يقل «كان» ففيه الروايتان الأوليان، وثالثة أنه مقر بالحق، مكذب لنفسه في الوفاء، فلا يسمع منه، وإن أتى ببينة، لأن: له علي ألف. يقتضي بقاءها في ذمته، ودعوى القضاء تناقض ذلك، ولو قال: كان له علي ألف. ولم يقل: وقضيته. فهو إقرار، وخرج عدمه، والله أعلم.(4/156)
قال: ومن أقر بعشرة دراهم، ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، ثم قال: زيوفا، أو صغارا، أو إلى شهر. كانت عشرة جيادا. وافية. حالة.
ش: إذا أقر بدراهم لزمته جياد وافية حالة، إذ هذا مقتضى الإطلاق، كما لو وقع البيع على ذلك، نعم إذا كان في بلد أوزانهم ناقصة، أو دراهمه مغشوشة، فهل يلزمه من دراهم البلد، كثمن المبيع بها - وهو مقتضى كلام ابن الزاغوني، وما صححه صاحب التلخيص - أو جياد وافية، إذ إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إلى ذلك، بدليل نصاب الزكاة - وهو مقتضى كلام الخرقي؟ فيه وجهان، وحيث قلنا مع الإطلاق يلزمه جياد وافية حالة، ففسرها بزيوف - وهي الرديئة - أو بصغار - وهي الناقصة - كدراهم طبرية، وهي أربعة دوانيق، بخلاف دراهم الإسلام فإنها ستة دوانيق - أو قال: مؤجلة. فلا يخلو إما أن يكون بكلام متصل، أو ما في حكمه؛ كالسكوت لتنفس، أو عطاس، ونحو ذلك، أو منفصل، فإن كان بكلام منفصل لم يسمع منه، لإفضائه إلى إبطال بعض ما اقتضاه ظاهر إقراره، وهو الجودة، والحلول، والكمال، فإن كان [بمتصل ونحوه سمع(4/157)
منه، إذ الكلام بآخره، فالإقرار إنما حصل على صفة، فلا يلزم غيرها، نعم إذا قال: زيوف. وفسرها بما لا فضة فيه لم يسمع، لأن قوله: دراهم يناقضه، وشرط القاضي فيما إذا قال: صغار. أن يكون للناس دراهم صغار، وإن لم يكن لهم دراهم صغار لم يسمع منه، وحكى أبو الخطاب احتمالا فيما إذا فسر بالتأجيل أنه لا يسمع منه، والله أعلم.
قال: ومن أقر بشيء واستثنى الكثير - وهو أكثر من النصف - أخذ بالكل، وكان استثناؤه باطلا.
ش: لا نزاع في جواز استثناء الأقل، ولا في منع استثناء الكل، ولا في أن المذهب المعروف المشهور أنه لا يجوز استثناء الأكثر، حتى إن أبا محمد قال: لا يختلف المذهب في ذلك، نظرا إلى أن هذا الذي ورد في كلام العرب.
قال الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، ولو قال قائل: مائة إلا تسعة وتسعين. لم يكن(4/158)
متكلما بالعربية، وكان عيا من الكلام ولكنة
وقال القتيبي: يقال: صمت الشهر إلا يوما. ولا يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين. ولأن القليل في معرض النسيان، فقبل وإن خالف مقتضى ما نطقه به، بخلاف الكثير، فإن احتمال السهو فيه بعيد، وقيل: يجوز استثناء الأكثر، نظرا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] والغاوون أكثر، بدليل {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] ومنع أن الغاوين أكثر، إذ العباد يدخل فيهم الملائكة، والجن، والإنس، وعلى تقدير التسليم، فاستثناء الأكثر إنما يمتنع من عدد محصور، أما الاستثناء بالصفة من جنس فإنه يجوز وإن كان أكثر، وهذا أحد جوابي القاضي، والآخر أنه استثناء منقطع، بمعنى «لكن» ، ولما كان النصف حدا بين القليل(4/159)
والكثير، تردد الأصحاب فيه، فمنعه أبو بكر، وجوزه الخرقي، والله أعلم.
قال: وإذا قال: له عندي عشرة دراهم. ثم قال: وديعة. كان القول قوله.
ش: لأنه فسر كلامه بما يوافق ظاهره لا بما يخالفه، وإذا يثبت لها حكم الوديعة، بحيث لو ادعى تلفها بعد ذلك أو ردها قبل منه، والله أعلم.
قال: ولو قال: له علي ألف، ثم قال: وديعة. لم يقبل قوله.
ش: هذا هو المشهور لمخالفته ظاهر إقراره، لأن «علي» للإيجاب، فمقتضى اللفظ أنها في ذمته، والوديعة ليست في(4/160)
ذمته، وعن القاضي: يقبل قوله على تأويل أن علي حفظها، أو ردها، ونحو ذلك، والله أعلم.
قال: ولو قال: له عندي رهن. وقال المالك: وديعة. كان القول قول المالك.
ش: لأن المقر يدعي على المالك عقدا، وهو ينكره، والأصل معه، ولأن إقراره يتضمن حقا عليه، وحقا له، فقبل فيما عليه دون ما له، والله أعلم.
قال: ولو مات فخلف ولدين، فأقر أحدهما بأخ أو بأخت، لزمه أن يعطي الفضل الذي في يديه لمن أقر له.
ش: إذا مات رجل وخلف ولدين، فأقر أحدهما بأخ أو بأخت، وكذبه الآخر؛ لم يثبت النسب اتفاقا، ويلزم المقر أن يدفع إلى المقر له ما فضل في يده عن ميراثه، لأن إقراره تضمن ذلك، وكما لو ثبت نسبه ببينة، ففي صورة الإقرار بأخ يلزمه أن يدفع إليه السدس، لأنهم إذا كانوا ثلاثة على زعم المقر، يكون المال بينهم أثلاثا، لكل واحد ثلثه، وفي يده النصف، فالفاضل عما يستحقه السدس، وفي مسألة الإقرار بأخت يدفع إليها نصف الخمس لأن المال بينهم على خمسة، لكل أخ خمسان، ولها خمس، وفي يده النصف،(4/161)
فالفاضل عما يستحقه نصف الخمس، وعلى هذا فقس، والله أعلم.
قال: وكذلك إن أقر بدين على أبيه لزمه من الدين بقدر ميراثه.
ش: فإذا كان ميراثه النصف لزمه من الدين نصفه، وإن كان ميراثه الثلث لزمه منه الثلث، وعلى هذا، لأنه إقرار يتعلق بحصته وحصة أخيه، فلا يلزمه إلا ما يخصه، كالإقرار بالوصية، وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة، والله أعلم.
قال: وكل من قلت: القول قوله. فلخصمه عليه اليمين.
ش: أي في هذا الباب، نحو: له عندي مائة درهم. وفسرها بوديعة، أو: له عندي رهن. وقال المالك: وديعة: وما أشبهه، كالمضارب، والشريك، والراهن، ونحوهم، فمن القول قوله فلخصمه عليه اليمين؛ لأن ما ادعاه عليه محتمل.(4/162)
2082 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» والله أعلم.
[إقرار المريض]
قال: والإقرار بدين في مرض موته، كالإقرار في صحته، إذا كان لغير وارث.
ش: إذا أقر بمال لغير وارث في مرضه المحجور عليه فيه كان كما لو أقر له في صحته، على المشهور من الروايات، والمختار عند الأصحاب، لانتفاء التهمة غالبا، ولاحتياجه إلى براءة ذمته، وقد ينحصر الطريق في ذلك.
والرواية الثانية: لا يقبل مطلقا؛ كالإقرار لوارث.
والثالثة: يلزم في الثلث فما دون، لا فيما زاد عليه، تنزيلا له منزلة الوصية.
ويدخل في كلام الخرقي - بطريق التنبيه -: الإقرار بغير مال، كالإقرار بالطلاق ونحوه، فإنه يصح بلا نزاع، فعلى الأولى - وهو المذهب - هل يحاص المقر له في المرض من ثبت دينه ببينة أو بإقرار في الصحة؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : وبه جزم القاضي [في الجامع] والشريف، وأبو الخطاب، والشيرازي في موضع، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار التميمي: نعم، لأنه يجب قضاؤهما من رأس المال، أشبه ما لو ثبتا ببينة.
(والثاني) : واختاره أبو(4/163)
الخطاب في الانتصار، وقال ابن البنا - تبعا لشيخه أظنه في المجرد إنه قياس المذهب -: لا، لنص أحمد في المفلس أنه إذا أقر وعليه دين ثبت ببينة أنه يبدأ به. وعلى الرواية الثالثة يقدم دين الصحة بلا نزاع، لأنا نزلنا الإقرار منزلة الوصية، والله أعلم.
[الإقرار للوارث بدين]
قال: وإن أقر لوارث بدين لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببينة.
ش: أما مع البينة فواضح، وأما مع عدمها فلا يلزم باقي الورثة القبول، لمكان التهمة، نعم لا يبطل الإقرار على المشهور من المذهب، بل يقف على إجازة الورثة، فإن أجازوه جاز، وإن ردوه بطل، ولهذا قال الخرقي: لم يلزم.
ومقتضى كلام الخرقي: أن الحكم منوط بحال الإقرار، فلو أقر لوارث فصار عند الموت غير وارث لم يصح إناطة بالتهمة، ولو أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثا صح لانتفاء التهمة، نص عليه أحمد، معللا بما تقدم.
(وعنه) : الاعتبار بحال الموت كالوصية، والأول المذهب، والله أعلم.
[باب العارية]
[العارية مضمونة]
قال: والعارية مضمونة، وإن لم يتعد فيها المستعير.
ش: يعني: إذا تلفت أو نقصت.(4/164)
2083 - لما روى الحسن، عن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . رواه الخمسة إلا النسائي.
2084 - «وعن صفوان بن أمية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار منه أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة» ، قال: فضاع بعضها، فعرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضمنها، فقال: أنا اليوم في الإسلام أرغب» . رواه أحمد، وأبو داود.(4/165)
وعموم كلام الخرقي يقتضي الضمان ولو شرط نفيه، وهو المشهور من المذهب، لمخالفة الشرط مقتضى العقد.
وعنه - واختاره أبو حفص -: يسقط الضمان، لأنه أبرأ من الضمان مع وجود سببه، أشبه ما لو أبرأه من السراية بعد الجراحة.
ومقتضى كلام الخرقي: أنه لا يضمن الولد، وهو الصحيح من الوجهين، عند أبي محمد، والله أعلم.
[الفرق بين العارية والوديعة]
(تنبيه) : العارية يد آخذة، والوديعة يد معطاة، فالعارية مثل القرض، فجميعا قابضهما ضامن، والفرق بينهما أن العين المستعارة لا يجوز استهلاكها، ولا هبتها، ولا تغييرها، ولا التصرف فيها، بخلاف القرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/166)
[باب الغصب]
الغصب محرم بالإجماع، وقد دل عليه قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الآية.
2085 - وعن السائب بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا، ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها عليه» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.
وهو في اللغة: أخذ الشيء ظلما. قاله الجوهري، وابن سيدة، وغيرهما.
وفي الاصطلاح قال أبو محمد في المقنع: أنه الاستيلاء على مال الغير قهرا بغير حق. فالاستيلاء يستدعي القهر والغلبة، فإذا قوله:(4/167)
«قهرا» زيادة في الحد، ولهذا أسقطه في المغني، لكن فيه زيادة إيضاح، يخرج بذلك المال المسروق، والمنتهب، والمختلس، لأنه لم يأخذه على وجه القهر.
وقوله: بغير حق. يخرج الاستيلاء بحق، كاستيلاء الولي على مال الصبي، والحاكم على مال المفلس، ونحو ذلك.
وهو غير جامع، لخروج ما عدا المال من الحقوق؛ كالكلب، وخمر الذمي، ونحو ذلك، ثم إنه عرف «غير» بالألف واللام، والمشهور عدم تعريفها بهما، ولهذا لم يعرفها في المغني.
وقال أبو البركات: هو الاستيلاء على مال الغير ظلما. ويرد عليه ما ورد على الأول، وأنه غير مانع، لدخول السرقة، والانتهاب، ونحو ذلك - كالاختلاس - فيه، والله أعلم.
[تصرفات الغاصب في المغصوب]
قال: ومن غصب أرضا فغرسها أخذ بقلع غرسه،(4/168)
وأجرتها إلى وقت تسليمها، ومقدار نقصانها، إن كان نقصها الغرس.
ش: يصح غصب العقار على المذهب المعروف المشهور، حتى إن القاضي وعامة أصحابه لم يذكروا في المسألة خلافا، مع أن القاضي ذكر رواية ابن منصور، واستشكلها.
2086 - وذلك لما روي عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين» . متفق عليه. وفي لفظ لأحمد: «من سرق» .
2087 - وعن الأشعث بن قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض باليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله أرضي اغتصبها هذا وأبوه. فقال الكندي: يا رسول الله أرضي ورثتها من أبي. فقال الحضرمي: استحلفه يا رسول الله أنه ما يعلم أنها أرضي وأرض والدي، اغتصبها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه لا يقتطع عبد - أو رجل - مالا بيمينه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم» . فقال الكندي: هي أرضه وأرض والده» . رواه أحمد.(4/169)
ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أن العقار لا يضمن بالغصب، إذ الغصب إثبات اليد على المال عدوانا، على وجه تزول به يد المالك، ولا يوجد ذلك في العقار، وفائدة الخلاف أنها لو غرقت بماء السماء ونحو ذلك، أو كان فيها بناء فانهدم، ضمن على الأول دون الثاني، ولو غصبها غاصب آخر، فهدم بناءها، أو نقل ترابها، فللمالك تضمين من شاء منهما على الأول، وعلى الثاني يضمن الثاني فقط، لوجود النقل والهدم منه. إذا تقرر هذا فإذا غصب أرضا فغرسها، فإنه يؤخذ بقلع غرسه.
2088 - لما روى عروة بن الزبير، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا فهي له، وليس لعرق ظالم حق» . قال: ولقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث «أن رجلين اختصما إلى رسول الله(4/170)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس، وإنها لنخل عم» . رواه أبو داود، والدارقطني، قال أحمد: العم الطوال. ويؤخذ بأجرتها إلى وقت تسليمها، وكذلك كل ما له أجر، بناء على أن منافع المغصوب مضمونة، إذ هي بمنزلة الأموال؛ ولهذا قلنا - على المشهور -: يجبر المفلس المحترف على إيجار نفسه لوفاء دينه، وسواء انتفع أو لم ينتفع، لتلفها تحت يده العادية.
ويؤخذ أيضا بنقص الأرض إن نقصها الغرس، وكذا لو نقصت بغيره، وكذلك الحكم في كل عين مغصوبة، على(4/171)
الغاصب ضمان نقصها، كما يضمن جملتها، والنقص هو نقص القيمة في جميع الأعيان، اختاره الشيخان. (وعنه) - وهو المشهور عنه -: أن في عين الدابة ربع قيمتها.
2089 - واعتمد في ذلك على ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كتب إلى شريح - وقد كتب إليه يسأله عن عين الدابة -: إنا كنا ننزلها بمنزلة الآدمي، إلا أنا أجمع رأينا أن فيها ربع الثمن. وهذا إجماع، وهو اختيار القاضي في التعليق، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، ثم الشيخان، وأبو الخطاب في الهداية والقاضي في روايتيه، جعلوا الخلاف في عين الدابة من الخيل، والبغال، والحمير، ونصوص أحمد على ذلك، والقاضي في تعليقه وفي جامعه، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وصاحب التلخيص، والمستوعب، وأبو محمد في الكافي، خصوا الخلاف بعين الفرس.
(وعنه) : أن الرقيق يضمن بما يضمن به في الإتلاف، [وتفرد أبو محمد في المقنع عن الأصحاب، فخرج أنه يضمن بأكثر الأمرين من النقص أو مما يضمن به في(4/172)
الإتلاف] ، وتحرير ذلك يحتاج إلى طول. والله أعلم.
قال: وإن كان زرعها فأدركها ربها والزرع قائم، كان الزرع لصاحب الأرض، وعليه النفقة، وإن استحقت بعد أخذ الغاصب الزرع لزمته أجرة الأرض.
ش: إذا غصب أرضا فزرعها فإن أدركها ربها والزرع قائم، كان الزرع له وعليه النفقة، على ظاهر كلام أحمد - في عامة نصوصه - والخرقي، والشيرازي، وابن أبي موسى فيما أظن.
2090 - لما روى رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» . رواه الخمسة إلا النسائي، وقال البخاري: هو حديث حسن. وعليه اعتمد أحمد، فقال في رواية(4/173)
علي بن سعيد: آخذ به. وفي رواية حرب: أذهب إليه. وقال القاضي، وعامة أصحابه، والشيخان: يخير مالك الأرض بين تركه إلى الحصاد بالأجرة، وبين أخذه بالنفقة، نظرا إلى رب الأرض، وحملا على الغاصب، إذ لو كلف الأخذ بالقيمة ربما شق ذلك عليه، وحكى أبو الخطاب احتمالا بأن الزرع للغاصب، لأنه نماء ملكه، وعليه الأجرة.
ولا نزاع أن رب الأرض لا يجبر الغاصب على قلع الزرع. ثم هل النفقة قيمته - وهي التي صححها القاضي في التعليق، قياسا على ما إذا أتلفه - أو نفقته من البذر والمؤونة - وهو ظاهر كلام الخرقي لظاهر الحديث؟ فيه روايتان.
وقال ابن الزاغوني: أصلهما هل يضمن ولد المغرور بمثله(4/174)
أو بقيمته؟ وإن أدركها ربها بعد أخذ الغاصب الزرع فقد استقر ملك الغاصب عليه، لأنه نماء ملكه، فيكون له على القاعدة، وإنما خرجنا عن ذلك في الزرع للحديث، وبعد الأخذ لا يشمله الحديث، لأنه إنما يكون زرعا ما دام قائما، وعليه الأجرة، ونقص الأرض إن كانت نقصت، لما تقدم.
ويدخل في عموم كلام الخرقي الزرع الذي يجز مرة بعد أخرى، كالنعنع ونحوه، وهو أحد احتمالي أبي محمد.
والاحتمال الثاني: أن حكمه حكم الغراس، والله أعلم.
[الزيادة والنقصان في قيمة المغصوب]
قال: ومن غصب عبدا أو أمة وقيمته مائة، فزاد في بدنه، أو بتعليمه، حتى صارت قيمته مائتين، ثم نقص بنقصان بدنه، أو نسيان ما علم، حتى صارت قيمته مائة، أخذه سيده من الغاصب، وأخذ مائة.
ش: خلاصته أن زوائد العين المغصوبة مضمونة على الغاصب، سواء كان ذلك ذاتا؛ كالسمن، أو معنى؛ كتعلم صناعة، ونحو ذلك، لأنها تحدث على ملك مالك العين، وقد تحصلت تحت يد الغاصب، فلزمه ضمانها كالأصل، فإذا غصب عبدا قيمته مائة، فسمن أو تعلم صناعة، فصارت قيمته مائتين، ثم عاد كما كان، بأن(4/175)
هزل أو نسي الصناعة، فإنه يجب على الغاصب رده، ورد مائة في مقابلة ما ذهب من السمن أو الصناعة، والله أعلم.
[وطء الجارية المغصوبة]
قال: ومن غصب جارية فوطئها وأولدها، لزمه الحد، وأخذها سيدها وأولادها، ومهر مثلها.
ش: إذا غصب جارية فوطئها لزمه الحد، لأنه زان، إذ لا شبهة له في ذلك، ثم إذا قدر عليها سيدها أخذها، لأنها عين ملكه، وأخذ أولادها، لأنهم نماء ملكه، ولا يلحق نسبهم بالواطئ لأنه زان، وأخذ مهر مثلها لأنه بدل منفعة.
(وعنه) : لا مهر للثيب، وهو بعيد، ولا لمطاوعة وهو جيد، «لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مهر البغي» ، والأول المذهب، لأن الحق للسيد، فلا يسقط بمطاوعتها، فإذا كانت بكرا فعليه أرش بكارتها على الصحيح، ولو اعتقد الغاصب حل الوطء، ومثله يجهل ذلك، لقرب عهده بالإسلام، ونحو(4/176)
ذلك، فالحكم كذلك، إلا أنه لا حد عليه، وأولاده أحرار يفديهم كما سيأتي، والله أعلم.
قال: وإن كان الغاصب باعها فوطئها المشتري، وأولدها وهو لا يعلم، ردت الجارية إلى سيدها، ومهر مثلها، وفدى أولاده بمثلهم، وهم أحرار، ورجع بذلك كله على الغاصب.
ش: إذا باع الغاصب الجارية المغصوبة، فإن البيع فاسد على المذهب، وقيل عنه: يقف على الإجازة، وقيل عنه: يصح مطلقا، والتفريع على الأول، فنقول: لا يخلو المشتري إما أن يكون عالما بالغصب أو غير عالم، والمرجع في ذلك إليه، لأن ذلك مما يخفى، فإن كان عالما؛ فحكمه حكم الغاصب على ما تقدم، وإن لم يكن عالما؛ فإن الجارية ترد إلى مالكها، لأنها مال غيره في يده، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، ويرد مهر مثلها، لأنه في مقابلة منفعتها غير المأذون فيها، وإن كان المشتري قد أولدها؛ فإن ولده حر، لاحق نسبه به، لمكان الشبهة، وعليه فداؤه على المذهب، لأنه فوت رقه على سيده، باعتقاده(4/177)
حل الوطء، وعنه لا فداء عليه، لانعقاده حرا، ويفديه بمثله يوم الوضع على مختار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيخين، وغير واحد، لأنه أول أوقات الإمكان، وقيل: يوم المحاكمة. وهو ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور، وجعفر بن محمد، ثم هل يفديه بمثله - وهو مختار الخرقي، والقاضي، وعامة أصحابه - أو بقيمته - وهو مختار أبي محمد، وصاحب التلخيص، أو يخير، وهو مختار أبي بكر في المقنع؟ على ثلاث روايات، وأصل الاختلاف اختلاف الصحابة، وهل المعتبر المثل في الصفات تقريبا - وهو ظاهر كلام الخرقي وأحمد - أو المثل في القيمة وهو اختيار عبد العزيز؟ فيه وجهان.(4/178)
ويرجع المشتري على الغاصب بقيمة الولد، لأنه دخل على أنه غير مضمون عليه، ولا إتلاف من جهته، وهل يرجع بالمهر؟ فيه روايتان؛ (إحداهما) وهي اختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه: نعم.
2091 - تبعا لقضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه قضى بالرجوع، ولما تقدم.
(والثانية) وهي اختيار أبي بكر: لا، اتباعا لقضاء علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه قضى بعدم الرجوع، ولأنه غرم ما استوفى بدله، فلم يرجع به، كما لو تلفت الجارية أو أجزاؤها، والله أعلم.
[هلاك الشيء المغصوب]
قال: ومن غصب شيئا ولم يقدر على رده لزم الغاصب القيمة، فإن قدر عليه رده، وأخذ القيمة.(4/179)
ش: من غصب شيئا فعجز عن رده؛ كعبد أبق، أو فرس شرد، ونحو ذلك، لزمته قيمته، لأنه تعذر رده، أشبه ما لو تلف، ويملكها المغصوب منه، قاله أبو محمد.
وقال القاضي في التعليق: لا يملكها، وإنما يباح له الانتفاع بها، بإزاء ما فاته من منافع العين المغصوبة، ولا نزاع أن الغاصب لا يملك العين المغصوبة، فإذا قدر عليها بعد أداء القيمة ردها على المغصوب منه، لبقائها على ملكه، وأخذ القيمة، لأن دفع القيمة كان لتعذر العين، وقد زال التعذر، ولئلا يجتمع البدل والمبدل لشخص واحد، والله أعلم.
قال: ولو غصبها حاملا فولدت في يده، ثم مات الولد، أخذها سيدها، وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته.
ش: إذا غصب حاملا، أو حائلا فحملت عنده، فإن الولد مضمون عليه، إذ الولد إما مودع في الأم، وإما كأجزائها، وفي كلا الموضعين يجب الضمان، إذ الاستيلاء على الظرف وعلى الجملة استيلاء على المظروف وعلى الجزء.
إذا تقرر هذا فإذا ولدت في يده؛ فلا يخلو إما أن تلده حيا أو ميتا، فإن ولدته ميتا وكان قد غصبها حاملا، فلا(4/180)
شيء عليه، لأنه لا يعلم حياته حين استيلائه، وإن كان قد غصبها حائلا فحملت، ثم أسقطته ميتا، فكذلك عند القاضي أبي يعلى، وعند ابنه أبي الحسين يضمنه بقيمته لو كان حيا.
قال أبو محمد: والأولى إن شاء الله أن يضمنه بعشر قيمة أمه، وإن ولدته حيا وجب رده مع أمه على مالكها، مع أرش نقص الولادة إن كان ثم نقص، فلما مات الولد رد الأم ورد قيمة الولد لما تقدم، ثم إن كانت قيمته لا تختلف من يوم الولادة إلى يوم التلف ردها، وإن اختلفت فإن كان لمعنى فيه من كبر، وسمن، وهزال، وتعلم صناعة، ونحو ذلك؛ فالواجب القيمة الزائدة، لأنه مغصوب في تلك الحال، فإذا نقص البعض؛ ضمن النقص، وإن كان الاختلاف لتغير الأسعار؛ لم يضمنه، نص عليه، واختاره الأصحاب، حتى إن القاضي قال: لم أجد عن أحمد رواية بالضمان، ونقل عنه ابن أبي موسى - وناهيك به - رواية بالضمان لذلك، وعليها حمل القاضي كلام الخرقي هنا.
فعلى المذهب يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه، على المشهور والمختار أيضا عند الأصحاب: إذ قبل التلف الواجب رد العين، وإنما ثبتت القيمة حين التلف. ونقل عنه ابن مشيش: يضمنه بقيمته يوم غصبه، وكذلك نقل عنه ابن(4/181)
منصور، إلا أنه عاوده في ذلك فجبن عنه، تنزيلا لزوال يده منزلة تلف العين، وحكم بقية المتقومات كذلك، أما المثلي فيضمن بمثله، فإن تعذر المثل فبقيمته يوم إعوازه على المذهب، والله أعلم.
قال: وإذا كانت للمغصوب أجرة، فعلى الغاصب رده وأجرة مثله مدة مقامه في يده.
ش: يجب رد المغصوب ما دام باقيا، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن أخذ عصا أخيه فليردها» ، ويجب الرد وإن تضرر بذلك، كأن بعده، أو بنى عليه، ونحو ذلك، لأنه الذي أدخل الضرر على نفسه، وإذا رده فإن كانت له أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يديه، على المنصوص والمختار للأصحاب، وسواء استوفى المنافع، أو لم يستوفها؛ لأن المنافع مال فوجب ضمانه كالعين، ونقل عنه محمد بن(4/182)
الحكم التوقف في ذلك، إلا أن الخلال قال: هذا قول قديم، لأن ابن الحكم مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة. واستدل لذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» وحمل على الأعيان، والله أعلم.
قال: ومن أتلف لذمي خمرا أو خنزيرا فلا غرم عليه، وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه.
ش: من أتلف - من مسلم أو ذمي - خمرا أو خنزيرا لذمي، فإنه لا غرم عليه.
2092 - لما في الصحيحين عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ألا إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام» . وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته(4/183)
كالميتة.
وخرج أبو الخطاب - وتبعه أبو البركات - رواية بضمان خمر الذمي على الذمي، بناء على أنها مال، وعلى كل حال فينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه، لأن عقد الذمة اقتضى تركهم وما هم عليه، ما لم يضر المسلمين، والوفاء بالعهد واجب، أما إن أظهروا ذلك فإنه يتعرض لهم، ويمنعون منه، لمخالفتهم الشرط، والله أعلم.(4/184)
[كتاب الشفعة]
الشفعة مأخوذة من ضم الشيء إلى الشيء، ومن ذلك الشفع، اسم للزوج، لأنه انضم الثاني إلى الأول، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] والشفيع، لانضمامه في المعونة إلى المشفوع له، (وحدها) .
في الاصطلاح قال أبو محمد في المقنع: إنها استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها. وهو غير جامع، لخروج الصلح بمعنى البيع، والهبة بشرط الثواب، ونحو ذلك منه.
وقال في المغني: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه، من يد من انتقلت إليه، وهو غير مانع، لدخول ما انتقل بغير عوض، كالإرث، والوصية، والهبة بغير ثواب، أو بعوض غير مالي على المشهور، كالخلع ونحوه، فالأجود إذًا أن يقال: من يد من انتقلت إليه بعوض مالي أو مطلقا.
2093 - وهي جائزة لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود،(4/185)
وصرفت الطرق فلا شفعة» . رواه أحمد، والبخاري، وفي لفظ: إنما جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الحديث رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، إلى غير ذلك من الأحاديث، والإجماع على ذلك إلا خلافا شاذا يروى عن الأصم، والله أعلم.(4/186)
[متى تجب الشفعة]
قال: ولا تجب الشفعة إلا للشريك المقاسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة.
ش: يشترط للشفعة شروط:
(أحدها) : أن يكون شريكا، فلا تجب الشفعة للجار، لما تقدم من حديث جابر، إذ معناه الشفعة حاصلة أو ثابتة، أو مستقرة في كل ما لم يقسم، فما قسم لا تحصل فيه ولا تثبت، ويؤيد هذا الرواية الأخرى المصرح فيها بالحصر: إنما جعل، وتمام الحديث أيضا يدل على ذلك، والراوي ثقة، عالم باللغة، فلا ينقل إلا اللفظ أو معناه.
2094 - وقد روى الترمذي وصححه في هذا الحديث؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة» .
2095 - وأصرح من هذا كله ما رواه أبو داود عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قسمت الدار، وحدت فلا شفعة فيها» .(4/187)
2096 - وقد روى الأثرم عن عمر، وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنه لا شفعة للجار.
ونقل القاضي يعقوب رواية بثبوت الشفعة بالجوار، وصححه ابن الصيرفي، واختاره الحارثي فيما أظن.
2097 - لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا» رواه الخمسة وقال الترمذي: حسن غريب. لكن قد تكلم فيه شعبة وغيره. وقال بعض المحققين: إنه صحيح، وإن كلامهم بلا حجة.(4/188)
2098 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جار الدار أحق بالدار» رواه النسائي، وابن حبان، وعلى المذهب لو حكم الحنفي لحنبلي بالجوار فهل له الأخذ؟ منعه القاضي، وجوزه ابن عقيل.
(الشرط الثاني) : أن يكون ذلك الشقص المشترك مما يقبل القسمة، وهذا معنى قول الخرقي: للشريك المقاسم الذي يقاسم، أي يستحق أن يقاسم، فلا تجب في الحمام الصغير، والبئر، والعراص الضيقة، ونحو ذلك، لأن الحديث: «إذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق» والحدود(4/189)
إنما تقع فيما يقبل القسمة، فإذا تقدير الحديث: الشفعة في كل شيء يقبل القسمة ما لم يقسم.
2099 - وقد روى أبو عبيد في الغريب، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى أن لا شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة، ولا ركح» .
قال أبو عبيد: المنقبة: الطريق الضيق بين الدارين، لا يمكن أن يسلكه أحد، والركح: ناحية البيت من ورائه.(4/190)
2100 - واعتمد أحمد على ما رواه عن ابن إدريس، عن أبي عمارة، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبان بن عثمان، عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا شفعة في بئر، ولا فحل، والأرف يقطع كل شفعة. قال أحمد: الأرف: الأعلام، والفحل: فحل النخل.
(الشرط الثالث) : أن يكون المبيع أرضا، فلا شفعة في غير الأرض، لأن ظاهر الحديث أنه إنما حكم بذلك في الأرض دون غيرها، إذ وقع الحدود. وتصريف الطرق، إنما هو في الأرض، لأن الأرض هي التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها، ويستثنى من غير الأرض البناء، والغراس، فإن الشفعة تجب فيهما تبعا للأرض.
2101 - وفي حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط، لا يحل(4/191)
له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به» رواه مسلم وغيره، فنص على الحائط، أي حائط النخل، وهذا الشرط قد يؤخذ من كلام الخرقي، من قوله: فإذا وقعت الحدود. إذ الخرقي سبك الحديث.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أن الشفعة تجب في كل شيء، إلا في منقول ينقسم، فتجب على هذا في كل ما لا ينقسم، كالحمام الصغير ونحوه، وفي غير الأرض، من البناء [المنفرد] ونحوه، لعموم حديث جابر المتقدم.
2102 - وروى عبد الله بن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسند، عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور» .
2103 - وروى الطحاوي بسنده عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل شيء» .
قال بعض الحذاق من المحدثين: ورواته ثقات. ولا ريب عند الأصحاب أن المذهب ما تقدم.(4/192)
(الشرط الرابع) : أن ينتقل الشقص بعوض مالي، وتحريره أنه إن انتقل بغير عوض - كالإرث والوصية ونحوهما - لم تثبت الشفعة عندنا بلا نزاع، وإن انتقل بعوض مالي - كالبيع، والهبة بشرط الثواب، ونحوهما - ثبتت الشفعة بلا نزاع، وإن انتقل بعوض غير مالي - كالصداق، والصلح عن دم العمد، ونحوهما - فوجهان، أشهرهما عند القاضي وأكثر أصحابه: لا.
(والثاني) - واختاره ابن حامد، وأبو الخطاب في الانتصار -: نعم، وعليه هل يأخذ الشقص بقيمته أو بالدية ومهر المثل؟ فيه وجهان، والله أعلم.
قال: ومن لم يطالب بالشفعة في وقت علمه بالبيع فلا شفعة له.
ش: إذا ثبتت الشفعة فهل حق المطالبة بها على الفور أو التراخي؟ فيه روايتان: (إحداهما) - وهي المشهورة، والمختارة عند الأصحاب -: أنه على الفور، فلو أخره من غير عذر سقطت شفعته.(4/193)
2104 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الشفعة لمن واثبها» ولأن ثبوته على التراخي ربما أضر بالمشتري، لعدم استقرار ملكه.
(والثانية) - واختارها القاضي يعقوب -: أنه على التراخي، لأنه خيار لدفع ضرر محقق، فكان على التراخي كخيار العيب.
(فعلى الأولى) : هل يتقيد بساعة العلم - وهو ظاهر كلام الخرقي، وأحمد، واختيار أبي محمد، لظاهر الحديث - أو يتقيد بمجلس العلم؛ اختاره ابن حامد، والقاضي وأصحابه، وحكاه ابن الزاغوني رواية عن أحمد، إذ حالة المجلس في حكم حالة العقد؟ فيه قولان، وعلى الفورية متى كان التأخير لعذر لم تسقط شفعته، كأن يعلم ليلا فيؤخر إلى الصبح، أو لأكل، أو شرب لجوع أو عطش به، أو ليخرج من الحمام، أو ليأتي بالصلاة وسننها، أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها، ونحو ذلك.
وقد نبه الخرقي على ذلك بقوله:
ومن كان غائبا وعلم بالبيع في وقت قدومه، فله الشفعة وإن طالت غيبته.(4/194)
ش: لأن الغائب معذور، إذ الحكم لا يثبت في حقه إلا بعد العلم، فإذا علم ثبت الحكم في حقه، ومثله المحبوس، والمريض، ونحوهما ممن لم يعلم بالبيع لعذر، والله أعلم.
قال: وإن علم وهو في السفر فلم يشهد على مطالبته فلا شفعة له.
ش: إذا علم وهو في السفر بالشفعة، فأشهد على الطلب بها فهو على شفعته، لأنه قد علم منه أنه غير تارك لها، بل مطالب، وكذلك إن لم يشهد لتعذر الشهود ونحو ذلك، لمقام العذر، وإن لم يشهد مع وجود من تقبل شهادته سقطت شفعته، كما لو أخر الطلب مع حضوره نعم، إن ترك الإشهاد وسار في الطلب ففيه وجهان: (السقوط) ، وهو ظاهر كلام أحمد، والخرقي؛ لأن السير يكون للطلب وغيره، فلا يتبين إلا بالإشهاد (وعدمه) لأن الظاهر أن السير للطلب، وينبغي أن يكون حكم سير وكيله حكم سيره، وإذا أشهد ثم أخر القدوم مع إمكانه بطلت شفعته عند القاضي، ولم تبطل على ظاهر كلام الخرقي، وكذلك الوجهان إن أخر الطلب بعد القدوم والإشهاد.
ومقتضى كلام الخرقي: أن الإشهاد إنما يكتفى به في السفر إناطة بالعذر، وأبو البركات جعل الشرط أحد شيئين الإشهاد، أو المضي المعتاد، والله أعلم.(4/195)
قال: فإن لم يعلم حتى تبايع ذلك ثلاثة فأكثر، كان له أن يطالب بالشفعة من شاء منهم، فإن طالب الأول رجع عليه الثاني بالثمن الذي أخذه منه، والثالث على الثاني.
ش: هذا تفريع على القول بالفورية كما هو المذهب، فإذا لم يعلم الشفيع بالبيع حتى تبايع ذلك الشقص اثنان، أو ثلاثة، أو أكثر من ذلك، فإن للشفيع أن يطالب بالشفعة من شاء منهم، لأن سبب الشفعة الشراء، وقد وجد من كل واحد منهم، فإن طالب الأول فسخ عقد من بعده، وإذًا يرجع الثاني بالثمن على الأول، لأنه لم يسلم له المبيع، ويرجع الثالث على الثاني أيضا لذلك، وعلى هذا، وإن طالب الثاني أخذ بما اشتراه به، واستقر عقد الأول، وفسخ عقد الثالث، فيرجع الثالث على الثاني بالثمن لما تقدم، وإن طالب الثالث أخذ بما اشتراه به، واستقر عقد الأولين، وجعل ابن أبي موسى هذا الحكم إذا لم يكن الشقص في يد واحد منهم بعينه، أما إن كان في يد أحدهم فالمطالبة له وحده.
ومقتضى كلام الخرقي: [أن المشتري] يصح تصرفه في الشقص المبيع قبل أخذ الشفيع، أو قبل علمه، وهو صحيح، لأن قصاراه أن يكون قد ثبت فيه حق تملك،(4/196)
وذلك لا يمنع التصرف، بدليل الابن يتصرف في العين الموهوبة له، وإن جاز لأبيه الرجوع فيها، وقيد أبو البركات ذلك بما قبل الطلب، فلعله بنى ذلك على أن الأخذ يحصل بالطلب، وهو رأي القاضي، وأبي الخطاب، بشرط الملاءة [بالثمن] ، وعند أبي محمد لا يملكه إلا بالأخذ، أو ما يدل عليه، نحو: أخذته بالثمن، أو تملكته. وعند ابن عقيل لا يملكه إلا بدفع الثمن، وعلى رأي الجميع لا يفتقر إلى حكم حاكم، وفي التذكرة أنه يفتقر، والله أعلم.
قال: وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة.
ش: الشفعة تثبت للصبي كما تثبت للبالغ، للعمومات، ولأن ثبوتها لدفع ضرر عن المال، أشبهت خيار العيب، فعلى هذا إن كان فيها حظ فللولي الأخذ بها، بل قال أبو محمد: يجب، لأنه مصلحة من غير مفسدة، والولي عليه رعاية مصالح الصبي. وإن لم يكن فيها حظ فليس له الأخذ، فإن أخذ فهل يصح - لأن فيه دفع ضرر عن الصبي في الجملة - أو لا يصح - لمنعه من الشراء، أشبه ما لو اشترى معيبا يعلم عيبه؟ فيه روايتان، وإن ترك الولي الأخذ(4/197)
بها مطلقا فهل للصبي إذا بلغ الأخذ بها وهو ظاهر كلام أحمد - في رواية ابن منصور - والخرقي، لأن الأخذ حق ثبت له، فلا يسقط بترك غيره، كوكيل الغائب - (أو ليس له الأخذ) - وبه كان يفتي ابن بطة، فيما حكاه عنه أبو حفص، لأنه يملك الأخذ، فملك الترك كالمالك - (أو إن تركها) الولي والحظ فيها للصبي فله الأخذ، وإن تركها لعدم الحظ سقطت؛ وهو اختيار ابن حامد، وتبعه القاضي، وعامة أصحابه، لأنه فعل ما له فعله فينفذ، كما لو أخذ مع الحظ؟ ثلاثة أقوال، وحكم المجنون والسفيه حكم الصبي، والله أعلم.
قال: وإذا بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه، إلا أن يشاء المشتري أن يأخذ بناءه فله ذلك، إذا لم يكن في أخذه ضرر.
ش: إذا بنى المشتري قبل أخذ الشقص، ثم اختار الشفيع الأخذ، فله ذلك للعمومات، ويلزمه أن يدفع إلى المشتري قيمة بنائه، نص عليه أحمد في رواية الجماعة، دفعا للضرر المنفي عنه شرعا، قال القاضي وأصحابه(4/198)
والشيخان وغيرهم: أو يقلعه ويضمن نقصه، لأنه في معنى ما تقدم، لزوال الضرر به، هذا إن لم يشأ المشتري أخذ بنائه، فإن أراد أخذ بنائه فقيل - وهو ظاهر كلام الأكثرين، بل الذي جزموا به -: له ذلك، أضر بالأرض أو لم يضر، لأنه عين ماله، ولا يلزمه طم الحفر، ولا الأرش، قاله القاضي، إذ النقص حدث في ملكه، فلا يقابل بعوض، فعلى هذا يخير الشفيع بين أخذه ناقصا بكل الثمن أو تركه، وقال أبو محمد: ظاهر كلام الخرقي أن عليه ضمان النقص الحاصل بالقلع. قلت: وينبغي أن يزيد إذا، أو بالطم.
وظاهر كلام الخرقي: امتناع الأخذ على المشتري مع الضرر بالأرض، إذ الضرر لا يزال بالضرر، وتبعه على ذلك ابن عقيل في التذكرة، فعلى هذا يبقى التخيير السابق للشفيع، فلو امتنع منه سقط حقه، وحكم الغراس حكم البناء.
(تنبيهان) : (أحدهما) : يتصور بناء المشتري على القول بالفورية في صور، (منها) إذا أظهر المشتري زيادة في(4/199)
الثمن، أو أن الشقص موهوب له، أو أن الشراء لفلان فقاسمه، بناء على ذلك، أو لجهل الشفيع بثبوت الشفعة له، قاله ابن الزاغوني، أو قسم عليه لصغره مع الولي، أو لغيبته إن قلنا: الحاكم يقسم على الغائب، وغرس أو بنى ثم بان للشفيع الحال، أو قدم، أو بلغ.
(الثاني) : في كيفية تقويم البناء، قال أبو محمد: الظاهر أن الأرض تقوم وفيها البناء، ثم تقوم خالية، فما بينهما قيمة البناء، فيدفع إلى المشتري إن أحب الشفيع، أو ما نقص منه إن اختار القلع، لا قيمته مستحقا للبقاء، ولا قيمته مقلوعا، والله أعلم.
قال: وإن كان الشراء وقع بعين أو ورق أعطاه الشفيع مثل ذلك، وإن كان عرضا أعطاه قيمته.
ش: الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد.
2105 - لأن في بعض ألفاظ حديث جابر: «هو أحق به بالثمن» رواه الجوزجاني، ولأن الشفيع يستحق أخذ الشقص، فيستحقه(4/200)
بالثمن كالمشتري، إذا تقرر هذا فإذا وقع العقد على مثلي - كالدراهم، والدنانير، والمكيلات، والموزونات - أخذ بمثله لمماثلته له صورة ومعنى، وإن وقع العقد على غير مثلي - كالثياب والحيوان - أخذ بقيمته وقت العقد، لتعذر مثله، ولعل الخرقي إنما خص بالدراهم والدنانير بوجوب المثل لغلبة وقوع البيع بهما، بخلاف غيرهما من المثليات.
وقول الخرقي: وإن كان الشراء وقع بعين. . إلى آخره، يستثنى منه ما إذا وقع العقد على ثمن ثم زيد فيه أو نقص في مدة الخيارين، فإن الاعتبار بما استقر عليه العقد، لا بما وقع العقد عليه، والله أعلم.
قال: وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري، إلا أن يكون للشفيع بينة.
ش: إذا اختلفا في الثمن، فقال المشتري: اشتريته بمائة. وقال الشفيع: بل بخمسين. مثلا، فالقول قول المشتري، إذا الشفيع يدعي الاستحقاق بالثمن الأول، والمشتري ينكره، والقول قول المنكر مع يمينه، ولأن المشتري هو(4/201)
العاقد، فهو أعلم بصفة العقد، فإن كانت للشفيع بينة فالقول قوله، وكذلك إن كانت للمشتري بينة، وإذا لا يمين عليه، ولو أقاما بينتين بما ادعياه، فقال الشريف: تقدم بينة الشفيع، لأنه خارج، وهو ظاهر كلام الخرقي، وقيل: يتعارضان، والله أعلم.
[الشفعة بين الشركاء]
قال: وإن كانت دار بين ثلاثة، لأحدهم نصفها، وللآخر ثلثها، وللآخر سدسها، فباع أحدهم، كانت الشفعة بين النفسين على قدر سهامهما.
ش: الصحيح المشهور من الروايتين أن الشفعة تستحق على قدر الأملاك، اختاره الخرقي، وأبو بكر، وأبو حفص، والقاضي، وجمهور أصحابه، لأنه حق يستفاد بالملك، فكان في حال الاشتراك على قدره كالغلة.
(والرواية الثانية) : أنه على عدد الملاك، اختارها ابن عقيل، إذ لو انفرد كل واحد لاستحق الجميع، فإذا اجتمعوا تساووا، كالبنين في الميراث، (فعلى الأول) تنظر مخرج سهام الشركاء، وتأخذ السهم المشفوع فتقسمه على عدد سهام الشفعاء، ففي هذا المثال الذي ذكره الخرقي، مخرج السهام ستة، فإذا باع صاحب النصف فسهام الشفعاء ثلاثة، فالسهم المشفوع بينهم على ثلاثة، لصاحب الثلث سهمان،(4/202)
ولصاحب السدس سهم، فيصير العقار بينهم على ثلاثة، ولو باع صاحب الثلث كان نصيبه بينهم أرباعا، ولو باع صاحب السدس كان نصيبه بينهم أخماسا، وعلى القول الثاني يقسم السهم المشفوع بين الآخرين نصفين على كل حال، والله أعلم.
قال: فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر أن يأخذ إلا الكل أو يترك.
ش: إذا ترك أحد الشركاء شفعته لم يكن لبقية الشركاء أن يأخذوا إلا الكل، لما في أخذ البعض من التشقيص على المشتري، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، فلو كان الشركاء غائبين، فقدم أحدهم، لم يكن له أيضا أن يأخذ إلا الكل أو يترك، ثم إذا أخذ الكل، فقدم آخر قاسمه أو عفى، ثم إذا قدم ثالث قاسم الأولين أو عفى، فيبقى ما كان يستحقه للأولين، والله أعلم.
قال: وعهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع.
ش: العهدة في الأصل كتاب الشراء، ويقال: عهدته على فلان. أي ما أدرك فيه من درك فإصلاحه عليه، والمراد هنا أن الشقص إذا ظهر مستحقا أو معيبا فإن الشفيع يرجع(4/203)
بالثمن أو بأرش العيب على المشتري، إذ الشفيع تملكه من جهته، فرجع عليه لكونه بائعه، ثم يرجع المشتري على البائع، لما تقدم في الشفيع مع المشتري، ويستثنى من ذلك إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري، وقلنا بثبوت الشفعة، فإن العهدة إذا على البائع، لحصول الملك له من جهته، والله أعلم.
[ميراث الشفعة]
قال: والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها.
ش: إذا لم يطالب الشفيع بالشفعة لم تورث عنه على المنصوص المشهور، وعليه الأصحاب، لأنه نوع خيار للتمليك، أشبه خيار القبول، ولأنا لا نعلم بقاءه على شفعته، لاحتمال رغبته عنها، ولا ينتقل للورثة ما يشك في ثبوته، وخرج أبو الخطاب قولا بالإرث، بناء على رواية إرث الأجل، أما إن طالب فيورث عنه بلا نزاع، أما على رأي القاضي ومن تبعه فواضح، وأما على رأي ابن عقيل، وأبي محمد، ومن تبعهما فلأنه قد علم بمطالبته(4/204)
بقاؤه على شفعته واختياره.
واعلم أنه قد اختلف تعليل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إبطال الشفعة بالموت، فقال في رواية أبي طالب: الشفعة لا تورث، لعله لم يكن يطلبها، فجعل العلة عدم العلم برغبة الميت، قال القاضي في التعليق. فعلى هذا لو علم الوارث أنه راغب فيها، كان له المطالبة وإن لم يطالب الميت، وقال في رواية ابن القاسم: إنها تجب بالطلب، وإذا تركت لم تجب، كيف تورث وأصحابها تركوها؟ ، قال القاضي: وظاهر هذا أنه جعل العلة ترك المطالبة من الميت، لأنها تسقط بتركها، قال: فعلى هذا لو مات قبل العلم بالبيع - لسفر أو غيره - كان للوارث المطالبة. انتهى وقد تحرر من هذا أنها تورث بالمطالبة بلا نزاع، وبما إذا لم يعلم الشفيع بالبيع على رواية، وعلى أخرى إذا علم منه الرغبة في الأخذ، وإذا ينبغي أن يكون القول قول الوارث في ذلك مع يمينه، والله أعلم.
قال: وإذا أذن الشريك في البيع ثم طالب بالشفعة بعد وقوع البيع فله ذلك.
ش: إذا أسقط الشريك شفعته قبل البيع، أو وجد منه ما يدل عليه، كالإذن في البيع ونحو ذلك لم تسقط شفعته، نص عليه أحمد، معللا بأن الشفعة إنما وجبت له بعد البيع، وعلى هذا الأصحاب، ونقل عنه إسماعيل بن سعيد أن القول(4/205)
بالإسقاط ليس ببعيد، معتمدا على الحديث المتقدم: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به» . فظاهره أن الترك يسقط الشفعة، وقد أكده مفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به» فمفهومه أنه إن باعه وقد آذنه فلا حق له، وهذا ظاهر، والله أعلم.
[الشفعة مع اختلاف الدين]
قال: ولا شفعة لكافر على مسلم.
ش: لأنه معنى يختص به العقار، أشبه الاستعلاء في البنيان.
2106 - وقد روى الدارقطني في كتاب العلل، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة لنصراني» .
ومفهوم كلام الخرقي أن الشفعة تثبت للمسلم على الذمي، لأنها إذا ثبتت للمسلم على المسلم، فللمسلم على الكافر أولى، ومفهومه أيضا أنها تثبت(4/206)
للذمي على الذمي، وذلك للعمومات، وشمل كلام الخرقي من حكم بكفره من أهل البدع، فإنه لا شفعة له على مسلم.
(تنبيه) : قال أحمد في رواية حنبل: لا نرى شفعة في أرض السواد.
2107 - وذلك لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقفها، وكذلك كل أرض وقفها عمر، كأرض الشام ومصر، قال أبو محمد: إلا أن يحكم ببيع ذلك حاكم، أو يفعله الإمام أو نائبه، فتثبت الشفعة، لأنه مختلف فيه، وحكم الحاكم ينفذ في المختلف فيه، والله أعلم.(4/207)
[كتاب المساقاة]
المساقاة مفاعلة من السقي؛ سميت بذلك لاحتياج أهل الحجاز إلى السقي من الآبار.
وهي في الاصطلاح قال أبو محمد: عبارة عن أن يدفع الرجل شجره إلى آخر، ليقوم بسقيه وما يحتاج إليه، بجزء معلوم له من ثمره، وليس بجامع، لخروج ما يدفعه إليه ليغرسه ويعمل عليه، ولا بمانع، لدخول ما له ثمر غير مقصود كالصنوبر.
2108 - والأصل في جوازها ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «عامل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر» ، متفق عليه.
2109 - وقال البخاري: قال قيس بن مسلم، عن أبي جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث أو الربع، وزارع علي، وسعد بن مالك، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل(4/208)
أبي بكر، وآل عمر، وآل علي قال: وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا، ومثل هذا لا يقصر عن رتبة الإجماع. والله أعلم.(4/209)
قال: وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم، بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر.
ش: تجوز المساقاة في النخل والكرم، وكل شجر له ثمر مقصود، لعموم ما تقدم من حديث ابن عمر، ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة على الشجر، فأشبه النخل والكرم، ويشترط أن يكون بجزء مشاع معلوم، كالثلث، والربع، والعشر، ونحو ذلك، للحديث، لا على صاع أو آصع، أو ثمرة نخلة بعينها، لما فيه من الغرر، إذ يحتمل أن لا يحصل إلا ذلك فيتضرر رب الأصل، ويحتمل أن يكثر الحاصل فيتضرر العامل.(4/210)
2110 - وفي الصحيحين «عن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأما الورق فلم ينهنا» . ولا على جزء مبهم كنصيب ونحوه، للغرر المنهي عنه شرعا.
ومقتضى كلام الخرقي: أن التسمية تكون للعامل، لأن المالك يستحق بالأصل، فلو كانت التسمية للمالك - كأن قال: لي النصف - فهل تصح، ويكون الباقي للعامل، أو لا تصح؟ فيه وجهان، ومقتضى كلامه أنها لا تصح على ما لا ثمر له، وهو صحيح، إذ ليس منصوصا عليه، ولا في معنى المنصوص عليه، وكذلك ما له ثمر غير مقصود، نعم إن قصد ورقه كالتوت، أو زهره كالورد ونحوه، فقال أبو محمد: القياس جواز المساقاة، عليه، لأنه في معنى المنصوص، وقد يقال: إن المنصوص يشمله، وقوله: الثمر «أل» بدل من المضاف إليه، أي من ثمرتها، فلو شرط له ثمرة نخل غير التي ساقاه عليها لم يصح، وكذلك لو جعل(4/211)
له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه عليها، لمخالفة ذلك لموضوع المساقاة، والله أعلم.
قال: ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم.
ش: إذا شرط له جزءا معلوما - كالربع مثلا - ومائة درهم لم يصح، لأنه في معنى شرط آصع، إذ يحتمل أنه لا يحدث من النماء ما يساوي تلك الدراهم، فيتضرر رب المال، وبطريق الأولى لو شرط له دراهم منفردة عن جزء لما تقدم، ولمخالفة موضوعها، والله أعلم.
[المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض]
قال: وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض.
ش: المزارعة دفع الأرض إلى من يزرعها، ويعمل عليها بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها لما تقدم من حديث ابن عمر، وقصة أبي جعفر.
2111 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف» ، رواه أحمد، وابن ماجه. والله أعلم.(4/212)
قال: إذا كان البذر من رب الأرض.
ش: المشهور عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما قال الخرقي أنه يشترط كون البذر من رب الأرض، وعلى هذا عامة الأصحاب، حتى إن القاضي وكثيرا من أصحابه لم يذكروا خلافا، لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كله من أحدهما، كالمساقاة والمضاربة.
ونقل عنه مهنا ما يدل على جواز كون البذر من العامل، واختاره أبو محمد.
2112 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها» ، رواه البخاري، «ولمسلم وأبي داود والنسائي: دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها، على أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شطر ثمرتها» . وقد تقدم عن عمر أنه(4/213)
قال: وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا. والله أعلم.
قال: وإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز، وكانت للمزارع أجرة مثله.
ش: إذا اتفقا على أن رب الأرض يأخذ مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز، لأنه بمنزلة ما لو اشترط آصعا معلومة، إذ ربما لا تخرج هذه الأرض إلا مقدار البذر، فيذهب عمل العامل مجانا، وإذا يفسد هذا الشرط، ويفسد به العقد، لأنه يعود بجهالة نصيب كل منهما، وإذا فسد العقد كان الزرع لصاحب البذر، لأنه عين ماله، سيما والأرض أرضه، وعليه للعامل أجرة مثله، لأنه إنما دخل للعمل ولم يسلم له، والله أعلم.
قال: وكذلك تبطل إن أخرج المزارع البذر، ويصير الزرع للمزارع، وعليه أجرة الأرض.
ش: هذا تصريح منه بالبطلان في المسألة السابقة، وإنما بطلت المزارعة هنا - إذا أخرج المزارع البذر - لما مر من أن شرط صحة المزارعة كون البذر من رب الأرض، فإذا فات الشرط؛ فات المشروط، وإذا يصير الزرع للمزارع،(4/214)
لأنه عين ماله، وعليه أجرة الأرض، لأن ربها إنما بذلها بعوض ولم يسلم له، والله سبحانه أعلم.(4/215)
[كتاب الإجارة]
قال في المغني: إنها مشتقة من الأجر وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرا، وحدها في الوجيز بأنها: عوض معلوم، في منفعة معلومة، من عين معينة أو موصوفة في الذمة، أو في عمل معلوم. وليس بمانع، لدخول الممر وعلو بيت ونحوه، والمنافع المحرمة.
والأصل في جوازها قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقَوْله تَعَالَى حكاية عن صاحب موسى:(4/216)
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] الآية.
2113 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أجر نفسه ثماني حجج أو عشرا، على عفة فرجه، وطعام بطنه» . رواه أحمد وابن ماجه.
2114 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في حديث الهجرة قالت: «واستأجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلا هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - وهو على دين كفار قريش، وأمناه فدفعا(4/217)
إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا» . رواه أحمد والبخاري.
2115 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ قال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» . رواه أحمد والبخاري، والإجماع على ذلك إلا ما حكي عن الأصم ولا عبرة به، والله أعلم.(4/218)
[معلومية الأجرة والمدة في عقد الإجارة]
قال: وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة، بأجرة معلومة؛ فقد ملك المستأجر المنافع، وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد، إلا أن يشترطا أجلا.
ش: الإجارة على ضربين: (أحدهما) : أن تقع على عين موصوفة أو معينة، مدة معلومة، كأجرتك هذه الدار شهرا، ونحو ذلك.
(والثاني) : أن تقع على عمل معلوم، كبناء حائط، وخياطة ثوب، وحمل إلى موضع معين، ونحو ذلك، والمقصود هنا هو الأول.
واعلم أن الإجارة لها ثلاثة أركان:
(الركن الأول) : العاقد، ولم يذكره الخرقي لوضوحه، إذ شرط العاقد في جميع العقود كونه جائز التصرف.
(الثاني) : المعقود عليه، وهو المنفعة والأجرة؛ (أما المنفعة) : فمن شرطها أن تكون معلومة، فإذا كانت على مدة كما قال الخرقي اشترط كونها(4/219)
معلومة، كشهر كذا ونحو ذلك، بلا خلاف نعلمه، ولو علقها على ما يقع اسمه على شيئين؛ كالعيد، وجمادى، فهل يصح وينصرف إلى الأول منهما - وهو رأي أبي محمد - أو لا يصح حتى يعين ذلك؛ وهو رأي القاضي؟ فيه وجهان.
وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يشترط في المدة أن تلي العقد وهو صحيح، وإذًا لا بد من ذكر الابتداء كالانتهاء، فلو أطلق فقال: أجرتك هذه الدار شهرا، فهل يصح، ويكون ابتداؤه من حين العقد - وهو اختيار أبي محمد - أو لا يصح حتى يسمي الشهر - وهو منصوص أحمد، وبه قطع القاضي وكثيرون؟ فيه قولان.
وظاهر كلامه أيضا: أنه لا تقدير لأكثر مدة الإجارة، فتجوز إجارة العين مائة سنة وأكثر، إذا غلب على الظن بقاؤها فيها، وهذا المذهب، وقد نص أحمد على جواز عشر(4/220)
سنين، وقيل - واختاره ابن حامد -: يتقيد ذلك بسنة، فلا يجوز أكثر منها، وقيل: بل بثلاثين سنة.
(وأما الأجرة) : فمن شرطها أيضا أن تكون معلومة كالثمن في المبيع.
2116 - وقد روي عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره» . رواه أحمد، ثم هل يشترط العلم بقدر رأس المال وصفته، أو تكفي مشاهدته؟ فيه وجهان.
(الركن الثالث) : المعقود به وهو الصيغة، وتنعقد بلفظ الإجارة والكراء، وكذا ما في معناهما على الصحيح، وهل(4/221)
تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان، أصلهما هل هي نوع من البيع أو شبيهة بالبيع.
إذا تقرر هذا وصحت الإجارة فقال الخرقي: فقد ملك المستأجر المنافع. ولا ريب في هذا.
2117 - وقد نص عليه أحمد، محتجا بأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اكترى جمالا ثم صارف الجمال، ولو لم يكن قد ملكها لم تصح مصارفته، فظاهر احتجاجه إنما هو في الأجرة، لأنها أحد العوضين، فإذا ملكت ملك الأجر، وأيضا فإن المؤجر يملك التصرف في هذه المنفعة كما يتصرف في العين، فإذا أجرها ملك المستأجر منها ما كان يملك المؤجر، وإذا ملك المستأجر المنافع حين العقد ملك المؤجر جميع الأجرة إذا، لأنها أحد العوضين فيملك بما يملك به الآخر. [إذ المعارضة مبناها المعادلة، فإذا ملك المستأجر المنفعة ملك المؤجر الأجرة] .
واعلم أن الأجرة وإن ملكت بالعقد، فإنها لا تستقر إلا بمضي المدة، ولا يستحق تسليمها إلا بعد تسليم المعقود(4/222)
عليه، فإذا كانت على عين إلى مدة - وهو الذي ذكره الخرقي - فلا يجب تسليم الأجرة إلا بعد تسليم العين، وإن كانت على عمل في الذمة فلا يجب تسليم أجرته إلا بعد تسليم العمل، وعلى هذا وردت النصوص، نحو قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فإن الإرضاع عمل في الذمة، فإذا سلمته وجب إيتاؤها أجرتها.
2118 - وما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره» . رواه أحمد والبخاري.
2119 - وروى أيضا في حديث له «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: «لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» رواه أحمد. فهذه النصوص ظاهرها أنها على عمل في الذمة.(4/223)
هذا كله إن لم يوجد شرط لفظي أو عرفي يقتضي التأخير أو التعجيل، فإنه يعمل بمقتضاه، فلو أجره داره شهرا بمائة درهم تحل في آخره، أو أجره على خياطة ثوب بدرهم الآن، عمل على ذلك، وعلى هذا يحمل قول ابن أبي موسى، وإن استؤجر كل يوم بأجر معلوم، فله أجر كل يوم عند تمامه، إذ عرف الناس المطرد في ذلك، أنهم إذا استأجروا إنسانا شهرا كل يوم بكذا، فإنهم يعطونه الأجرة في آخر كل يوم، فيجري هذا مجرى الشرط، ولو لم يحمل على هذا لكان ظاهره مخالفا لقول الخرقي والأصحاب، كما أن ظاهر قول الخرقي: وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد، إلا أن يشترطا أجلا. يقتضي أن الأجرة المؤجلة لا تملك حين العقد، وفيه نظر، إذ صرح القاضي في تعليقه في الجنايات بأن الدين في الذمة غير مؤجل، بل ثابت في الحال، وإن تأخرت المطالبة به، وإذا ينبغي أن يكون تقدير(4/224)
كلامه: وملكت عليه الأجرة، ووجب تسليمها إن سلمت العين، إلا أن يشترطا أجلا فلا يجب التسليم، فيكون الاستثناء من مقدر، والله أعلم.
قال: وإذا وقعت الإجارة على كل شهر بشيء معلوم، لم يكن لواحد منهما الفسخ إلا عند تقضي كل شهر.
ش: قد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحة نحو هذه الإجارة، وهو المنصوص من الروايتين، واختيار القاضي، وعامة أصحابه، والشيخين.
2120 - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جعت مرة جوعا شديدا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرا، فظننتها تريد بله، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا، حتى مجلت يداي، ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته فأكل معي منها. رواه أحمد، ووزان هذا(4/225)
إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، فالعلم بالثمن يتبع العلم بالمثمن، كذلك هنا، العلم بالأجر يتبع العلم بالمنفعة.
(والرواية الثانية) - واختارها أبو بكر، وابن حامد وفي الكافي أبو بكر، وجماعة من أصحابنا -: بطلان ذلك،(4/226)
نظرا إلى أن المدة مجهولة، إذ «كل» اسم للعدد، فإذا لم يقدره كان مجهولا، فعلى الأولى الإجارة تلزم في الشهر الأول وتكون فيما بعده مراعاة، فلكل واحد منهما أن يفسخ عند رأس كل شهر، بأن يقول: فسخت الإجارة في الشهر المستقبل. ونحو ذلك، فلو لم يفسخ حتى دخل الشهر الثاني لزم العقد فيه، وكذلك الثالث، هذا مقتضى كلام الخرقي، وأبي الخطاب في الهداية، وابن عقيل في التذكرة، وأبي محمد في كتبه، وقد صرح بذلك ابن الزاغوني فقال: تلزم بقية الشهور إذا شرع في أول الجزء من ذلك الشهر، وقال القاضي: له الفسخ في جميع اليوم الأول من الشهر الثاني، وبه قطع أبو البركات، وأورده ابن حمدان مذهبا، والله أعلم.
[فسخ عقد الإجارة قبل انقضاء المدة]
قال: ومن استأجر عقارا مدة بعينها فبدا له قبل تقضيها(4/227)
لزمته الأجرة.
ش: من شرط صحة استئجار العقار أن يكون على مدة معينة، ولا بد أيضا أن يكون معلوما برؤية، ولا تكفي الصفة، لعدم تأتيها على ذلك، إذا تقرر ذلك، فمتى بدا للمستأجر الفسخ قبل تقضي المدة لم تنفسخ، لأن الإجارة عقد لازم من الطرفين، إذ هي أحد نوعي البيع، وإذا لا يملك أحد المتعاقدين فسخه، فإذا فسخ المستأجر فوجود ذلك كعدمه، في بقاء الأجرة عليه، وفي ثبوت المنفعة له، والله أعلم.
قال: ولا يتصرف مالك العقار فيه إلا عند تقضي المدة.
ش: لا يتصرف مالك العقار فيه إذا فسخ المستأجر الإجارة أو لم يفسخها إلا إذا انقضت المدة، لما تقدم من أن الفسخ لا ينفذ، وأن المنفعة باقية على ملكه، وبطريق الأولى إذا لم يفسخ، فإن تصرف فإن كان قبل تسليم العين فقال أبو محمد: تنفسخ الإجارة. وإن كان بعده - كما إذا أكراه دارا سنة وسلمها له فسكن شهرا، ثم ترك السكنى فتصرف المالك فيها - فهل تنفسخ الإجارة فيما تصرف فيه أو لا ويكون للمستأجر عليه أجرة المثل؟ فيه احتمالان، والله أعلم.(4/228)
قال: فإن حوله المالك قبل تقضي المدة لم يكن له أجرة لما سكن.
ش: إذا حول المؤجر المستأجر قبل انقضاء المدة المعقود عليها، لم يكن للمؤجر أجرة لما سكن، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب؛ لأنه لم يسلم إليه المعقود عليه، فلم يستحق [شيئا] ، كما لو استأجره ليحفر له عشرين ذراعا، فحفر عشرة، وامتنع من حفر الباقي، وحكى أبو محمد في المقنع احتمالا بأن عليه من الأجرة بقسطه، لأن استيفاءه حصل على وجه المعاوضة، أشبه المبيع [إذا] استوفى بعضه، ومنعه المالك بقيته، والله أعلم.
[منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها]
قال: وإن جاء أمر غالب، يحجز المستأجر [عن] منفعة ما وقع عليه العقد، لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه.
ش: قد تقدم أن المعقود عليه المنفعة، فإذا جاء أمر منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها، وكان قد انتفع،(4/229)
فإن عليه من الأجرة بقدر ما انتفع، لحصول المعقود عليه، والتمكن من استيفائه شرعا، فأشبه ما لو استوفى جميع المنفعة، ولا يلزمه أجرة لما يستقبل، لعدم حصول المعقود عليه، إذ حصولها إنما هو باستيفائها أولا فأول، وقد تعذر ذلك، وصار هذا كما لو اشترى صبرتين، فقبض إحداهما وتلفت الأخرى بأمر سماوي قبل قبضها، ثم إن كانت أجرة المدة متساوية، وقد استوفى نصف المدة مثلا، ومنع من باقيها، فعليه نصف الأجرة، وإن اختلفت؛ كأن يكون أجرها في الصيف أكثر من أجرها في الشتاء، أو بالعكس، فإن الأجر المسمى يقسط على ذلك، فإذا قيل: إن أجرها في الصيف يساوي مائة درهم، وأجرها في الشتاء يساوي خمسين، وكان قد سكن الصيف، كان عليه بقدر ثلثي المسمى.
إذا تقرر هذا فاعلم أن الأمر الغالب الذي ذكره الخرقي له صور:
(إحداها) : إذا تلفت العين، ثم إن كان تلفها قبل التسليم، أو بعده، وقبل مضي مدة لها أجر، فإن الإجارة تنفسخ، وإن كان بعد التسليم ومضي مدة لها أجر، انفسخ فيما بقي، واستقر ما مضى، وهذه الصورة مما يدل(4/230)
عليه كلام الخرقي، لكن ليس في كلامه - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعرض للفسخ ولا لعدمه، وظاهره الفسخ.
(الصورة الثانية) : أن يحدث للعين ما يمنع استيفاء معظم المعقود عليه مع بقائها، كدار انهدمت وأرض انقطع ماؤها، ونحو ذلك، فهل تنفسخ الإجارة - وهو مقتضى كلام الخرقي، وبه قطع ابن أبي موسى، والشيرازي، وابن البنا، ذكروه في الدار، واختاره أبو محمد، لأن المقصود بالعقد قد فات، أشبه ما لو تلف - (أو لا تنفسخ) ، بل يثبت للمستأجر خيار الفسخ - وهو قول القاضي في الدار، وصححه القاضي في التعليق، لإمكان الانتفاع بالعرصة، بنصب خيمة، أو جمع حطب، ونحو ذلك، أشبه نقص العين؟ فيه وجهان، أما لو زال نفعها بالكلية، أو الذي بقي فيها لا يباح استيفاؤه بالعقد، كدابة مؤجرة للركوب، صارت لا تصلح إلا للحمل، فإن الإجارة تنفسخ وجها واحدا.
(الصورة الثالثة) : إذا غصب العين غاصب، فيخير المستأجر بين الفسخ والرجوع بما يقابل ما بقي من المدة، وبين الإمضاء ومطالبة الغاصب بأجرة المثل، وخرج أبو الخطاب الانفساخ إن قيل بعدم تضمين منافع المغصوب، ويحتمله(4/231)
كلام الخرقي هنا.
(الصورة الرابعة) : إذا حدث خوف عام، منع المستأجر من استيفاء المنفعة، أو حصرت البلد، فامتنع المستأجر من الخروج إلى الأرض المؤجرة، أو اكترى للحج فلم يحج الناس ذلك العام، ونحو ذلك، فإن للمستأجر خيار الفسخ.
ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لو حدث أمر لا يمنع المستأجر من منفعة ما وقع عليه العقد، كأن تعيب المعقود عليه، فإن العقد لا ينفسخ، نعم للمستأجر الخيار بين الفسخ والإمساك بكل الأجرة، ذكره ابن عقيل، وتبعه أبو محمد وغيره، قاله أبو البركات، وقياس المذهب أن له الأرش، ولا يبطل الخيار بالتأخير.
(فائدة) : لو أتلف المستأجر العين المؤجرة، ثبت ما تقدم من الفسخ أو الانفساخ، مع تضمين المستأجر ما أتلف، ومثله جب المرأة زوجها تضمن ولها الفسخ، والله أعلم.(4/232)
قال: ومن استؤجر لعمل شيء بعينه فمرض أقيم مقامه من يعمله، والأجرة على المريض.
ش: هذا أحد نوعي الإجارة، وهو الإجارة على عمل شيء في الذمة، معين برؤية أو صفة، كخياطة هذا الثوب، وبناء حائط طوله كذا وعرضه كذا، وآلته كذا، فمتى مرض المؤجر والحال هذه لزمه أن يقيم مقامه من يعمل ذلك، ليخرج من الحق الواجب في ذمته إيفاؤه، أشبه المسلم فيه، والأجرة عليه، لأنها في مقابلة ما وجب عليه، ويستثنى من ذلك ما إذا شرط عينه، كأن تخيط لي أنت هذا الثوب، فها هنا لا يقيم غيره مقامه، بل يخير المستأجر بين الفسخ، والصبر حتى يتبين الحال، والله أعلم.
[موت المكري والمكتري أو أحدهما]
قال: وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها.
ش: ولا انفساخ، لأن الإجارة عقد لازم، فلا تنفسخ بتلف العاقد مع سلامة المعقود عليه، كما لو زوج أمته ثم مات، هذا المنصوص عن أحمد، وعليه الأصحاب.
وقال أبو محمد في المستأجر، إذا لم يكن وارث، أو تعذر استيفاء وارثه، كأن اكترى للحج، ومات في الطريق: إن الإجارة تنفسخ، وزعم أن هذا ظاهر كلام أحمد وشمل(4/233)
كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا مات الموقوف عليه، فانتقل الوقف إلى من بعده، فإن الإجارة لا تنفسخ، وهو أحد الوجهين، والوجه الآخر تنفسخ، وهو قول أبي إسحاق بن شاقلا، وأومأ إليه أحمد لا للموت، بل لأن ملكه قد زال، والله أعلم.
قال: ومن استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره، إذا كان يقوم مقامه.
ش: إذا استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره، لأنه ملك المنفعة، فله أن يتصرف فيها كيف شاء، كالمشتري إذا ملك المبيع، لكن شرط إسكان الغير أن يكون ذلك الغير يقوم مقامه، كما إذا اكترى دارا للسكنى، فله أن يدفعها لمن يسكنها، لا لحداد وقصار يعمل فيها ذلك، وإن اكترى ظهرا للحمل فله أن يركبه مثله، ومن هو أخف منه، لا من هو أثقل منه، وإن اكترى دابة لحمل الحديد، فليس له أن يدفعها لمن يحمل عليها القطن، ونحو ذلك، لأن ذلك غير المعقود عليه، أو زائد عليه، فلا يجوز.(4/234)
وقد شمل كلام المصنف إسكان الغير على وجه العارية، أو الهبة، أو الإجارة، وقد اختلف عن أحمد في الإجارة، فعنه - وهو المذهب عند الأصحاب، وظاهر كلام الخرقي -: الجواز مطلقا، لما تقدم من أنه ملك المنفعة، ومقتضى ملك المنفعة جواز التصرف فيها كالأعيان، ولأن من جاز له أن يستوفي المنفعة بنفسه جاز له أن يستوفيها بغيره، دليله مالك الرقبة.
(وعنه) : عدم الجواز مطلقا، لأنه تصرف فيما لم يدخل في ضمانه فلم يجز، كالتصرف في المكيل والموزون قبل قبضه.
(وعنه) : يجوز بمثل ما اكترى لا بأزيد، حذارا من أن يربح فيما لم يضمن، وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربح ما لم يضمن» ، فإن فعل تصدق بالزيادة نص عليه.
(وعنه) : إن عمل فيها عملا - كأن جدد عمارة ونحو ذلك - جازت الزيادة، جعلا لها في مقابلة العمل، وإلا لم تجز.
(وعنه) : إن أذن له المؤجر في الإجارة جازت، وإلا فلا، كذا الرواية فيما نقله حنبل، وكذلك حكاها(4/235)
القاضي وغيره، وحكى أبو محمد الرواية أنه إن أذن له المؤجر في الزيادة جازت وإلا فلا، ومحل الخلاف فيما بعد القبض، أما قبله فعلى القول بالجواز ثم، فها هنا أوجه؛ (الجواز) ، (وعدمه) ، والثالث: يجوز للمؤجر دون غيره، والله أعلم.
[استئجار الظئر والأجير بطعامه وكسوته]
قال: ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، واختيار القاضي في التعليق الكبير، وجماعة.
2121 - لما «روى عتبة بن الندر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ (طس) حتى بلغ قصة موسى، فقال: «إن موسى أجر نفسه ثماني سنين، أو عشر سنين، على عفة فرجه، وطعام بطنه» رواه أحمد، وابن ماجه، وشرع من قبلنا شرع لنا على المشهور، ولا سيما وقد ذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقررا له، ويعضده وجوب النفقة والكسوة للمرضعة، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ونقل(4/236)
عنه حنبل: أكرهه: معللا بالجهالة، وهو اختيار القاضي في بعض كتبه أظنه في المجرد، وحمل الكراهة هو وغيره على المنع، بقرينة ما علل به الإمام، والله أعلم.
قال: وكذلك الظئر.
ش: الظئر هي المرضعة غير ولدها، وقد ظأره على الشيء: إذا عطفه عليه، وحكمها في استئجارها على الرضاع بطعامها وكسوتها حكم الأجير، فيها الروايتان، إلا أن القاضي قال: لا يختلف قوله هنا في الجواز، ولهذا قيل محل الروايتين في الأجير أما الظئر فيجوز إجارتها بذلك رواية واحدة، لقضية النص.
(تنبيه) : إذا صحت الإجارة فهل قدر الطعام والكسوة ما يجب في الكفارة - حملا للمطلق من كلام الآدميين، على المقيد من كلام الشارع - أو يرجع إلى نفقة مثله وكسوته - حملا للمطلق على المتعارف، وهو الذي جزم به أبو البركات؟ فيه روايتان منصوصتان، وقال أبو محمد في المقنع والمغني، وصاحب التلخيص: يرجع في الإطعام إلى الكفارة، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله، وهو تحكم، ثم أبو محمد وغيره يخص المسألة بصورة الاختلاف، وأبو البركات لا يخصها بذلك، وكلام أحمد وقع تارة على(4/237)
هذا، وتارة على هذا، والله أعلم.
قال: ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو أمة كما جاء الخبر، إذا كان المسترضع موسرا.
2122 - ش: الخبر ما «روى حجاج بن حجاج الأسلمي، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: «الغرة، العبد أو الأمة» ، رواه أبو داود والترمذي وصححه، والمعنى في ذلك - والله أعلم - أن الرضاع سبب حياته، وحفظ رقبته، فجعل الجزاء من جنس.
2122 - م - الرقبة، ليناسب الشكر النعمة، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجزي ولده والده إلا أن يجده مملوكا فيعتقه» والله أعلم.(4/238)
قال: ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوزه، فعليه الأجرة المذكورة، وأجرة المثل لما جاوز.
ش: كما إذا اكترى إلى بلبيس مثلا، فجاوزه إلى الصالحية، فإن عليه الأجرة المسماة في العقد، لاستيفاء المعقود عليه متميزا عن غيره، وأجرة المثل للزائد، لأنه متعد في ذلك، فهو كالغاصب، وقد حكى ذلك أبو الزناد عن الفقهاء السبعة، وهذه الصورة متفق عليها، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في المقنع من وجوب أجرة المثل على قول، ولا ما اقتضاه كلام ابن حمدان من وجوب ما بين القيمتين على قول، وأجرة المثل على قول، فإن القاضي قال: لا يختلف أصحابنا في ذلك. وقد نص عليه أحمد، والله أعلم.(4/239)
[حكم هلاك العين المستأجرة]
قال: وإن تلفت فعليه أيضا قيمتها.
ش: يعني إذا تلفت في مدة المجاوزة، لأنه إذا متعد، فضمنها كالغاصب، هذا إذا لم تكن يد صاحبها عليها، أو كانت يده عليها واستكرهه على ذلك، أما لو كانت يد صاحبها عليها، ولم يرض بذلك، فظاهر كلام الخرقي أنه يضمنها أيضا، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا، والشيرازي، وأبي محمد في الكافي، وأبي البركات، إناطة بالتعدي، وسكوت صاحبها لا يدل على الرضى، كما لو باع ملك غيره بحضرته فلم يمنعه، وقيل: إنما يضمن نصف قيمتها فقط، لأنه اجتمع عليها يدان، يد صاحبها، ويد المستأجر، وما يقابل يد المستأجر يقابل النصف، فيختص بضمان النصف، وعن القاضي في الشرح الصغير: لا ضمان، لوجود يد المالك، وعنه أظنه في المجرد: إن تلفت وهو راكبها، أو حمله عليها ضمنها، وإن تلفت وقد نزل عنها، وسلمها إلى مالكها لسقيها ونحو ذلك فلا ضمان، ووافقه في المغني على ذلك، إلا أنه استثنى فيما إذا تلفت في(4/240)
يد مالكها بسبب تعبها من الحمل ونحو ذلك، والله أعلم.
قال: وكذلك إن اكترى لحمولة شيء فزاد عليه.
ش: مثل أن يكتريها لحمل مائة رطل، فيحمل مائة وعشرة ونحو ذلك، لأنه استوفى المعقود وزاد عليه، فيلزمه المسمى، وأجرة المثل للزائد، وضمان الدابة إن تلفت لتعديه، أو ضمان النصف، لتلفها بفعل مضمون وغير مضمون.
وحكى القاضي - وتبعه أبو محمد في المقنع - عن أبي بكر وجوب أجرة المثل في الجميع، اعتمادا على قوله فيمن استأجر أرضا لزرع شعير فزرع حنطة: إن عليه أجرة المثل للجميع، لعدوله عن المعقود عليه إلى غيره، قال في المغني: وبينهما فرق، فإن ما حصل التعدي فيه في الحمل متميز، وهو الرطل الزائد مثلا، بخلاف الزرع، فإلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى إلى موضع فجاوزه أسد، وهذا الذي قطع به في الكافي، وأبو البركات، مع أن أحمد نص في الزرع في رواية عبد الله أنه ينظر إلى ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير، فيعطى رب(4/241)
الأرض، بيان ذلك أن يقال: أجرة مثلها إذا زرعها حنطة أن تساوي مائة درهم، وأجرة مثلها إذا زرعها شعيرا أن تساوي ثمانين، فالواجب عليه ما بين ذلك، وهو عشرون، مع المسمى في العقد، ولو اكترى لحمل حديد، فحمل قطنا، وجب أجرة المثل هنا بلا نزاع، قاله أبو محمد، والله أعلم.
قال: ولا يجوز أن يكتري لمدة غزاته.
ش: لجهالة المدة المشترط عليها، والله أعلم.
قال: فإن سمى لكل يوم شيئا معلوما فجائز.
ش: هذا هو المنصوص عن أحمد، وهو قياس مسألة كل شهر بدرهم، وقد تقدمت نقلا ودليلا، والله أعلم.
قال: ومن اكترى إلى مكة فلم ير الجمال الراكبين، والمحامل، والأغطية، والأوطية، وجميع ما يحتاج إليه لم يجز الكراء.
ش: يشترط معرفة المعقود عليه كالبيع، فيحتاج الجمال إلى رؤية ما تقدم، لأن ذلك يختلف ويتباين، فاشترطت معرفته كقدر الطعام المحمول، وذكر الخرقي هذه الصورة لينبه على(4/242)
مذهب الغير، إذ مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدم اشتراط رؤية الراكبين، وكذلك أبو حنيفة في الأوطية في حال، وكذلك الشافعي في غطاء المحمل وتبعه القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم.
قال: فإن رأى الراكبين أو وصفا له، وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز.
ش: لأن ذلك مما ينضبط بالصفة، ولذلك يصح السلم فيه، وإذا تحصل معرفته، وقال الشريف وأبو الخطاب: لا تكفي الصفة في ذلك، لاختلاف الراكب في ثقله وخفته، وحركته وسكونه، وذلك لا ينضبط بالصفة، والله أعلم.
[الأجير الخاص والمشترك]
قال: وما حدث في السلعة من يد الصانع ضمن.
ش: الأجير على ضربين؛ (أجير خاص) : وهو من استؤجر إلى مدة، كمن استؤجر شهرا أو يوما، لخدمة، أو بناء، ونحو ذلك، فيستحق المستأجر نفعه في جميع المدة، [سمي خاصا؛ لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة] . (وأجير(4/243)
مشترك) : وهو الذي قدر نفعه بالعمل، كمن استؤجر لخياطة ثوب معين أو موصوف، ونحو ذلك، سمي مشتركا؛ للاشتراك في عمله، لأنه يتقبل لاثنين وأكثر.
إذا تقرر هذا فالأجير الخاص لا يضمن ما تلف بفعله، ولا بغير فعله، ما لم يوجد منه تفريط وقصد للخيانة، نص عليه أحمد في رواية جماعة، وعليه الأصحاب، لأن عمله غير مضمون عليه، فلم يضمن ما تلف به كالقصاص، ولأنه نائب عن المالك، في صرف منافعه فيما أمر به، فلم يضمن إذا لم يتعد، كالوكيل، وذهب ابن أبي موسى إلى أنه يضمن ما جنت يده، وحكى عن أحمد رواية بتضمينه ما تلف بأمر خفي لا يعلم إلا من جهته، كما سيأتي في الأجير المشترك، اللهم إلا أن يعمل في بيت المستأجر فلا يضمن ما تلف بغير فعله، وعنده أنه لا فرق [بين الأجير الخاص، والأجير المشترك، والمنصوص الفرق وعليه الأصحاب.
وأما الأجير المشترك - وهو الذي ذكره الخرقي هنا - فيضمن] ما تلف بفعله، كحائك أفسد حياكته، وقصار خرق الثوب بدقه أو عصره، وطباخ أفسد طبخه، وجمال أتلف المتاع بعثرته، أو بانقطاع الحبل الذي شد به، ونحو(4/244)
ذلك، نص على ذلك أحمد في رواية الجماعة، وعليه الأصحاب.
2123 - لما روى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك. ولأن عمله مضمون عليه، وما تولد من المضمون فهو مضمون، كجناية العمد، ودليل الوصف أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل، وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد علمه لم يكن له أجر.
وظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا فرق بين أن يعمل في بيته، أو في بيت المستأجر، ولا بين أن يكون المستأجر على(4/245)
المتاع أم لا، وصرح به القاضي في التعليق في أثناء المسألة، وابن عقيل، واختاره أبو محمد، إذ ضمانه كجنايته، وعن القاضي - أظنه في المجرد - قال في الكافي: وأصحابه، أنه إنما يضمن ما عمله في ملكه، أما ما عمله في ملك المستأجر من خياطة ونحوها، فلا ضمان عليه، ما لم يفرط، كأن يسرف في الوقود ونحوها، لأنه سلم نفسه إلى المستأجر، أشبه الأجير الخاص، وكذلك لو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة، أو راكبا على الدابة فوق حمله، لعدم زوال يد المالك، وكذلك لو كان الراكب على الدابة حرا، إذ الحر لا يضمن من جهة الإجارة، وخرج أبو الخطاب وجها بعدم الضمان رأسا، كسراية القود وإفضاء الزوجة، إذ التلف حصل من فعل مباح، والله أعلم.(4/246)
قال: وإن تلفت من حرزه فلا ضمان عليه.
ش: ما تلف عند الأجير المشترك لا يخلو من ثلاثة أحوال:
(أحدها) : أن يكون بتفريط منه أو تعد، فيضمن كما دل عليه كلام الخرقي بطريق التنبيه، وهو واضح.
(الثاني) : ما تلف بفعله بغير تفريط منه، وقد تقدم.
(الثالث) : ما تلف بغير فعله من غير تفريط منه، كأن سرق أو حرق ونحو ذلك، والمشهور المنصوص في رواية الجماعة – وهو اختيار الخرقي وأبي بكر والقاضي وأصحابه والشيخين -: أنه لا ضمان عليه؛ لأنها عين مقبوضة بعقد إجارة، لم يتلفها بفعله، أشبهت العين المستأجرة.
(وعن أحمد) رواية أخرى بالضمان مطلقا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . (وعنه) ثالثة إن كان التلف بأمر ظاهر - كالحريق، واللصوص الغالبين، ونحو ذلك - فلا ضمان، وإن كان بأمر خفي كالضياع، ونحو ذلك فعليه الضمان، إناطة بالتهمة، قال صاحب التلخيص: ومحل(4/247)
الروايات إذا لم تكن يد المالك على المال، أما إن كانت عليه فلا ضمان بحال، والله أعلم.
قال: ولا أجرة له فيما عمل فيها.
ش: قد تقدم أن ما تلف من حرز الأجير المشترك ونحو ذلك، فلا ضمان عليه فيه، وهو يشمل ما إذا تلف بعد فعله وقبله، فإذا تلف بعد فعله فهل يستحق أجرة لذلك؟ قال الخرقي: لا أجرة له، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه، كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه.
وظاهر كلام الخرقي - وتبعه أبو محمد -: أنه لا فرق بين أن يعمل في بيت المستأجر أو خارجا عنه، ولا بين أن يكون ذلك بناء أو غيره، وفصل أبو البركات ذلك، وملخص ما قاله: أنه إن كان العمل في بيت المستأجر، وكان بناء فله أجرته رواية واحدة؛ لأن تسليمه يحصل بمجرد فعله، وإن كان غير بناء فروايتان، مبناهما على أنه إذا كان في ملكه فهل العمل مسلم بمجرد عمله، أو لا بد من التسليم؟ وإن كان العمل خارج بيت المستأجر وكان غير بناء فلا أجرة له رواية(4/248)
واحدة، إذ التسليم إذا لا يحصل إلا بالقبض، وإن كان بناء فروايتان، مبناهما على أن العادة هل جرت في البناء بقبضه في موضعه، أو أنه لا بد من التسليم فيه كغيره، وقطع القاضي في التعليق في البناء بأن له أجرته، وفي غيره لا أجرة له، ونص أحمد على ذلك في رواية ابن منصور، والله أعلم.
[ضمان الحجام والختان والطبيب]
قال: ولا ضمان على حجام، ولا ختان، ولا متطبب، إذا عرف منهم حذق الصنعة، ولم تجن أيديهم.
ش: لا ضمان على من ذكر والحال هذه، لأنهم فعلوا فعلا مباحا مأذونا فيه، أشبه قطع الإمام يد السارق، أما إذا لم يكن لهم معرفة بذلك فيضمنون، لتحريم المباشرة عليهم إذا، وكذلك إن عرف منهم حذق لكن جنت أيديهم، كأن تجاوز الختان إلى بعض الحشفة، أو قطع الطبيب سلعة فتجاوزها، ونحو ذلك، لما تقدم في الأجير المشترك، وحكى ابن أبي موسى إذا ماتت طفلة من الختان فديتها على عاقلة خاتنها، قضى بذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم.(4/249)
[ضمان الراعي]
قال: ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد.
ش: لا ضمان على الراعي، لأنه مؤتمن على الحفظ، أشبه المودع، ولأنها عين قبضت بحكم الإجارة، أشبهت العين المستأجرة، أما إذا تعدى أو فرط - مثل أن تركها تغيب عن نظره، أو ضربها ضربا أسرف فيه، أو من غير حاجة إليه، أو سلك بها موضعا مخوفا، أو نام عنها أو غفل، ونحو ذلك - فيضمن، لأنه مفرط، أشبه المودع، ولو جاء بجلد الشاة مدعيا لموتها من غير بينة قبل قوله على أصح الروايتين.
وقد تضمن كلام الخرقي جواز إجارة الراعي، وهو واضح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حكاية عن صاحب موسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] الآية، وجواز إجارة الطبيب، لأنه فعل مباح مأذون فيه، أشبه سائر الأفعال المباحة، ويقدر ذلك بالمدة، لا بالعمل لعدم انضباطه، ويبين قدر ما يأتي له في كل يوم، هل هو مرة أو أكثر من ذلك، ولا يجوز التقدير بالبرء عند القاضي، وجوزه ابن أبي موسى، وكذلك أبو محمد، لكن جعله جعالة لجواز(4/250)
جهالة العمل فيها، ويجوز اشتراط الكحل من الطبيب على الأصح لا الدواء اعتمادا على العرف.
وتضمن أيضا جواز إجارة الختان، وهو واضح لما تقدم، وجواز إجارة الحجام، وهو اختيار أبي الخطاب، وتبعه الشيخان.
2124 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم، حجمه أبو طيبة فأعطاه صاعين من طعام، وكلم مواليه فخففوا عنه» [متفق عليه، وفي لفظ: «دعا غلاما منا فحجمه، فأعطاه أجره صاعا أو صاعين، وكلم مواليه أن يخففوا عنه» ] من ضريبته. رواه أحمد والبخاري.
2125 - وعن ابن عباس قال: «احتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه» . رواه أحمد، والبخاري، ولأن بالناس حاجة إلى ذلك، أشبه غيره من المنافع.(4/251)
وقال القاضي وجمهور أصحابه: لا يصح الاستئجار على الحجامة، وهو ظاهر كلام أحمد، وقال في التلخيص: إنه المنصوص. وذلك:
2126 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب» ، رواه أحمد.
2127 - وعن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي ولفظه: «شر المكاسب ثمن الكلب، وكسب الحجام، ومهر البغي» والنهي يقتضي التحريم، وكذلك الخبث، لا سيما وقد قارنه بما لا نزاع في تحريمه، وجعله شر المكاسب.(4/252)
2128 - وقد «روى محيصة بن مسعود أنه كان له غلام حجام، فزجره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ألا أطعمه أيتاما لي؟ قال: «لا» قال: أولا أتصدق به؟ فرخص له أن يعلفه ناضحه» . رواه أحمد، وفي لفظ: «أنه استأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إجارة الحجام، فنهاه عنها، ولم يزل يسأله فيها حتى قال: «أعلفه ناضحك، وأطعمه رقيقك» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وأما حديث ابن عباس فقال أحمد في رواية الأثرم: هذا تأويل من ابن عباس. وأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلى طريق الصلة والإحسان، لما فعل معه، جمعا بين الأحاديث، وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم: نحن نعطي كما أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقول له كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تأكله. قيل له: فيشارط في الحجامة؟ قال: لم أسمع في الشرط شيئا. وعلى هذا يجوز أن يعطى من غير شرط،(4/253)
ويطعمه رقيقه وناضحه لما تقدم، ويحرم عليه هو أكله في إحدى الروايتين، قال في رواية الأثرم: لا تأكله. وهذا اختيار القاضي، وطائفة من أصحابه.
(والرواية الثانية) : يكره. قال أبو النضر عنه: كان يذهب إلى أنه يكره، ويقول: هو شر كسب، ولا يقول: هو حرام، وإذا قيل بالتحريم في حقه، فهل يحرم في حق غيره من الأحرار؟ ظاهر كلام القاضي في التعليق، وصاحب التلخيص: التحريم، وصرح القاضي في الروايتين بالجواز اعتمادا على أن أحمد قال: أطعمه الرقيق. قال: والرقيق يحتاج أن يشتري له طعاما. وفيه نظر، وعلى القول بجواز الإجارة فيكره للحر أيضا أكله، لما تقدم من الأحاديث.
[استئجار الحجام لغير الحجامة من الفصد والختن]
(تنبيه) : يجوز استئجار الحجام لغير الحجامة، من الفصد، والختن ونحو ذلك، إذ نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كسب الحجام أي في الحجامة، كما أن نهيه عن مهر البغي أي في البغاء، والله أعلم.(4/254)
[كتاب إحياء الموات]
الموات، والميتة، والموتان بفتح الميم والواو: الأرض الدارسة، قاله أبو محمد في المغني، وقال الفراء: الأرض التي لم تحي بعد.
2129 - والأصل في جوازه ما روته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها» قال عروة: قضى به عمر في خلافته. رواه البخاري.
2130 - وعن سعيد بن زيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وقال: حسن.(4/255)
2131 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» رواه أحمد والترمذي وصححه. والله أعلم.
[تملك الأرض الموات بالإحياء]
قال: ومن أحيا أرضا لم تملك فهي له.
ش: من أحيا أرضا ميتة لا يعلم أنها ملكت فهي له إلا ما يستثنى، لما تقدم من الأحاديث.
وظاهر كلام المصنف: أنه لا يفتقر إلى إذن الإمام، وعليه الأصحاب، ونص عليه أحمد، مستدلا بعموم الحديث وهو مبني على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، (وظاهر كلامه) أيضا أن الذمي يملك بالإحياء كالمسلم، وهو المنصوص، وعليه الجمهور، لعموم ما(4/256)
تقدم، وقال ابن حامد: لا يملك الذمي بالإحياء. وحمل أبو الخطاب قوله على دار الإسلام، قال القاضي: وهو مذهب جماعة من أصحابنا.
2132 - لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «موتان الأرض لله ورسوله، ثم هي لكم مني» وأجيب بعد تسليم صحته أنها لكم أي لأهل داركم، جمعا بين الأدلة، والذمي من أهل دارنا، فعلى المنصوص، إن أحيا موات عنوة لزمه عنه الخراج، وإن أحيا غيره فلا شيء عليه، في أشهر الروايتين.
(وعنه) : عليه عشر ثمره وزرعه، (وظاهر كلامه) أيضا أن موات العنوة يملك بالإحياء، ولا شيء فيه كغيره، وهو إحدى الروايتين، واختاره القاضي، وأبو محمد، وغيرهما، لعموم ما تقدم.
(وعنه) : ليس في أرض السواد موات، معللا بأنها لجماعة المسلمين، فلا يختص بها أحدهم، وهذا اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى،(4/257)
والشيرازي، وعلى هذه الرواية قال أبو البركات: تقر في يده بالخراج، لاختصاصه بمزية، وهو السبق بالإحياء.
ومفهوم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ما ملك لا يملك بالإحياء، وهذا لا يخلو من ثلاثة أحوال:
(الأول) : أن يكون له مالك معصوم، وهذا لا إشكال أنه لا يملك بالإحياء، لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
(الثاني) : أن يكون له مالك لكن غير معصوم كالحربي، فقال أبو البركات وصاحب التلخيص، وهو ظاهر كلام القاضي: إنه يملك بالإحياء إذ لا حرمة لملكه أصلا، وإذا تستثنى هذه الصورة من مفهوم كلام الخرقي، وقال أبو محمد: حكم دار الحرب حكم دار الإسلام، حتى إنه جعل فيما عرف أنه ملك ولم يعرف له مالك معين روايتين، كالمسألة التي بعده، واستدل بعموم الخبر، وبأن عامرهم إنما يملك بالقهر والغلبة.
(الثالث) : أن يعرف أنه ملك، ولكن لا يعرف له مالك، كخراب باد أهله، ولم يعرف لهم وارث - فعنه - وهو المشهور عنه - لا يملك بالإحياء، وهو مقتضى كلام الخرقي، واختيار أبي بكر، والقاضي، وعامة أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، لظاهر حديث عائشة، إذ هذه لأحد، لأنه إن كان له وارث فهي له، وإن لم يكن له وارث فهي فيء(4/258)
للمسلمين، وبهذا علل أحمد في رواية أبي داود.
(وعنه) : تملك بالإحياء، عملا بعموم أكثر الأحاديث.
(وعنه) : وإن تيقنت عصمة من ملكها لم تملك بالإحياء لما تقدم، وإن شك في عصمته ملكت، لأن المقتضي قد وجد، وشك في المانع، وهذا اختيار صاحب التلخيص، واستثنى أبو محمد من هذا ما به آثار ملك قديم جاهلي، كمساكن ثمود ونحوهم، فإنها تملك بالإحياء.
2133 - لما يروى عن طاوس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي بعد لكم» رواه سعيد في سننه، وأبو عبيد في الأموال، ويحتاج كلام أبي محمد إلى بحث ليس هذا موضعه، والله أعلم.
قال: إلا أن تكون أرض ملح، أو ما للمسلمين فيه المنفعة، فلا يجوز أن ينفرد بها الإنسان.
ش: استثنى - رَحِمَهُ اللَّهُ - مما يملك بالإحياء صورتين:
(إحداهما) : أرض الملح، أي معدن الملح، فإنه لا يملك بالإحياء.(4/259)
2134 - لما روي «عن أبيض بن حمال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه وفد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقطعه الملح، فقطع له، فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد. قال: فانتزعه منه، قال: وسأله عما يحمي من الأراك، فقال: «ما لم تنله خفاف الإبل» رواه الترمذي وأبو داود وفي رواية له: أخفاف الإبل قال محمد بن الحسن المخزومي: يعني أن الإبل تأكل منتهى رؤوسها ويحمي ما(4/260)
فوقه. ولأن هذا مما يتعلق بمصالح المسلمين العامة، فلم يجز إحياؤه كطرق المسلمين ومواردهم، وفي معنى الملح جميع المعادن الظاهرة، لا تملك بالإحياء، وهي ما العمل في تحصيله لا في إظهاره، كالقار، والنفط، والبرام، والموميا، والكحل، والزرنيخ، والجص، ونحو ذلك، وكذلك الحكم في المعادن الباطنة، وهي ما كان ظهورها بالعمل عليها، كمعادن الذهب، والفضة، والحديد، والصفر، والفيروزج، ونحو ذلك مما هو مثبوت في طبقات الأرض، ذكره صاحب التلخيص، وأبو محمد، وحكى أبو محمد احتمالا فيما أظهره من المعادن الباطنة، أنه يملك بالإحياء، ويحتمله كلام أبي البركات، ولفظه: أو ما فيه معدن ظهر قبل إحيائه، ومقتضاه أنه يمنع من إحياء موات(4/261)
قد ظهر فيه معدن، ويستفاد منه بطريق التنبيه أنه يمنع من إحياء معدن قد ظهر، لا من إحياء معدن لم يظهر.
(الصورة الثانية) : ما فيه المنفعة للمسلمين، وهو ما قرب من العامر، وتعلق بمصالحه، من طرقه، ومسيل مائه، وطرح قمامته ونحو ذلك، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية، كمرعى ماشيتها، ومحتطبها، ونحو ذلك، وكذلك حريم البئر والنهر، ونحو ذلك، كل ذلك لا يجوز إحياؤه.
2135 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له» ومفهومه أن من أحيا أرضا ميتة في حق مسلم لم تكن له، ولأن ذلك من مصالح المملوك، فأعطي حكمه، فإن قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه ففيه روايتان، أنصهما وأشهرهما عند الأصحاب أنه يملك بالإحياء، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أحيا أرضا ميتة مع انتفاء المانع، وهو التعلق بمصالح العامر، (والثانية) : لا يملك بالإحياء، تنزيلا للضرر في المآل، منزلة الضرر في الحال،(4/262)
إذ هو بصدد أن يحتاج في المآل، واستثنى الأصحاب صورة ثالثة، وهي موات بلدة كفار صولحوا على أنها لهم، ولنا الخراج عنها، فلا يملك بالإحياء، لأن مقتضى الصلح أن لا يتعرض لهم في شيء مما صولحوا عليه، قال أبو محمد: ويحتمل أن تملك بالإحياء لعموم الخبر، والله أعلم.
[ما يكون به إحياء الموات]
قال: وإحياء الأرض أن يحوط عليها حائطا.
ش: ظاهر كلام الخرقي أن التحويط إحياء للأرض مطلقا، وحكاه القاضي وغيره رواية، بل وجزم به القاضي، والشريف، وأبو الخطاب.
2136 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطا على أرض فهي له» رواه أحمد وأبو داود، ولأحمد مثله من رواية سمرة، وعلى هذا يشترط كون الحائط منيعا، مما تجري العادة بمثله.(4/263)
وحكى القاضي وغيره رواية أخرى أن إحياء الأرض تعميرها العمارة العرفية لما تراد له، إذ الشارع أطلق الإحياء، فيحمل على ما يتعارفه الناس، وحديث الحائط يحمل على صورة تقتضي العرف فيها، وهذا اختيار ابن عقيل في التذكرة، فعلى هذا إن كان الإحياء للسكنى، فإحياؤها ببناء حيطانها وتسقيفها، وإن جعلها حظيرة كفى بناء حائط جرت العادة به، وإن كان للزرع فبأن يسوق إليها ماء، ويقلع أحجارها إن احتاجت إلى ذلك، أو يحبس الماء عنها، ونحو ذلك على ما جرت به العادة في مثلها، ولا يعتبر أن يزرعها ويسقيها، ولا أن يفصلها تفصيل الزرع، ويحوطها من التراب بحاجز، ولا أن يقسم البيوت إن كانت للسكنى، في أصح الروايتين وأشهرهما، والأخرى يشترط جميع ذلك، ذكرها القاضي في الخصال، وجمع أبو البركات الروايتين في أصل الإحياء، فجعلهما رواية واحدة، فقال: بأن يحوطها بحائط، أو يعمرها العمارة العرفية، وحكى في المقنع قولا آخر بأن ما يتكرر كل عام فليس بإحياء وما لا يتكرر فهو إحياء، والله أعلم.(4/264)
قال: أو يحفر فيها بئرا فيكون له خمس وعشرون ذراعا حواليها، وإن سبق إلى بئر عادية فحريمها خمسون ذراعا.
ش: إذا حفر في الموات بئرا للتملك، وأخرج ماءها، ملكها وملك حريمها، خمسا وعشرين ذراعا من كل جانب، وإن سبق إلى بئر عادية، ملكها بظهور يده عليها، وملك حريمها خمسين ذراعا، نص عليه أحمد، واختاره الخرقي، والقاضي في التعليق، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة، والشيخان وغيرهم.
2137 - لما روى الدارقطني وغيره، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعا» .
2138 - وروى أبو عبيد بإسناده عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعا، والبدي خمس وعشرون ذراعا. واختار أبو الخطاب في الهداية،(4/265)
والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد في المغني والكافي، أن حريم البئر قدر ما يحتاج إليه في ترقية مائها، فإن كان بدولاب فبقدر مدار الثور أو غيره، وإن كان بسانية فبقدر طول البئر، وإن كان يستقي منها بيده فبقدر ما يحتاج إليه الواقف، وعلى ذلك، إذ هذا ثبت للحاجة، فيقدر بقدرها، وقال القاضي فيما حكاه عنه في المقنع، وحكاه عنه وعن جماعة من الأصحاب صاحب التلخيص: حريم البئر قدر مد رشائها من كل جانب.
2139 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «حريم البئر مد رشائها» رواه ابن ماجه، وقال القاضي في الأحكام السلطانية: له أبعد الأمرين من الحاجة أو قدر الأذرع. وقد توقف أحمد عن التقدير في رواية حرب، والمذهب الأول.
(تنبيهان) : «أحدهما» قد تقدم أنه يملك حريم البئر بالحفر أو بالسبق، وهو ظاهر كلام أحمد، وصرح به الخرقي، والقاضي في التعليق، وغيرهما، وعلى قياسه أن ما(4/266)
قرب من العامر، وتعلق بمصالحه، يكون ملكا لأهل العامر، أو لجماعة المسلمين، وعن القاضي أن هذه المرافق لا يملكها المحيي بالإحياء، وإنما يكون أحق بها، (الثاني) : «العادية» بالتشديد القديمة، نسبة إلى عاد، إذ كل قديم ينسب إليهم لقدمهم، والله أعلم.
قال: وسواء في ذلك ما أحياه أو سبق إليه، بإذن الإمام أو غير إذنه.
ش: يعني أن الحريم المذكور يثبت له، سواء أحياه - كما إذا حفر بئرا في موات - أو سبق إليه، كما إذا سبق إلى بئر عادية، وكذا أطلق أحمد، والقاضي، وغيرهما، وعلل القاضي بأن البئر العادية مال من أموال الكفار، فتكون غنيمة بوضع اليد عليها، قلت: وينبغي على مقتضى هذا التعليل أن تكون لجماعة الغانمين، أو يكون السبق إليها لا بقوة المسلمين، فتكون له، وقال في المغني: يجب أن يحمل قول الخرقي - في ملك البئر العادية - على بئر انطمست، فجدد حفرها، أو ذهب ماؤها فاستخرجه، ليكون ذلك إحياء، أما بئر لها ماء ينتفع بها المسلمون فلا تحتجر، لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة، وقد تقدم أن الإحياء لا يفتقر إلى إذن الإمام، والله أعلم.(4/267)
[كتاب الوقوف والعطايا]
(الوقوف) جمع وقف كفلس وفلوس، يقال: وقف. على الأفصح وأوقف. على لغة، ويقال: أحبس، وحبس، وحبس. ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: «إن شئت حبست أصلها» .
(والعطايا) جمع «عطية» كخلايا وخلية، ومعنى الوقف قال أبو محمد، وصاحب التلخيص: إنه تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وأرادا: مع شروطه المعتبرة، وحده غيرهما فأدخل الشروط في الحد، ويحتاج إلى بسط.
2140 - والأصل في جوازه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم وغيره.(4/268)
2141 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها» فتصدق بها عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقا، غير متمول - وفي لفظ: غير متأثل - مالا» : رواه الجماعة.
2142 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذو مقدرة إلا وقف. وقال أحمد في رواية(4/269)
حنبل: قد وقف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوفهم بالمدينة ظاهرة، فمن رد الوقف فإنما رد السنة. وأما العطية فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
[حكم من وقف على قوم وأولادهم وعقبهم ثم آخره للمساكين]
قال: ومن وقف في صحة من عقله وبدنه على قوم، وأولادهم، وعقبهم، ثم آخره للمساكين، فقد زال ملكه عنه.
ش: إذا وقف في صحة من عقله - بأن لا يكون مغلوبا على عقله بجنون، أو إغماء أو غيرهما - وفي صحة من بدنه - بأن كان غير مريض - وقفا متصلا كما ذكر الخرقي، فإن ملك الواقف يزول عن العين الموقوفة، على المشهور المعروف، المختار من الروايتين؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، أشبه الهبة والبيع، (والرواية الثانية) : أنه باق على ملك الواقف، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» فعلى الأول ينتقل الوقف إلى الموقوف عليه،(4/270)
على المشهور المختار أيضا من الروايتين، كالهبة والبيع، إلا أن يكون الموقوف عليه مما لا يملك، كالمسجد ونحوه، فإن الملك في الوقف ينتقل إلى الله تعالى، (والرواية الثانية) : يكون ملكا لله تعالى، حكاها غير واحد؛ وهي ظاهر اختيار ابن أبي موسى، قياسا على العتق، بجامع زوال الملك على وجه القربة، وفرق بزوال المالية ثم، بخلاف هنا.
وتلخص أن في المسألة ثلاثة أقوال: (ملك) للموقوف عليه، وهي المذهب، (ملك) لله تعالى، (ملك) للواقف وبنيه، وللخلاف فوائد: (منها) لو كان الموقوف ماشية لم تجب زكاتها على الثانية، وكذلك على الثالثة، لضعف الملك، وهو انتقاء التصرف في الرقبة والمنفعة، ووجبت على الموقوف عليه على الأولى، على ظاهر كلام الإمام، واختيار القاضي في التعليق، وأبي البركات، وغيرهما، وقيل: لا تجب، لضعف الملك، اختاره صاحب التلخيص وغيره، (ومنها) : أرش جنايته، يلزم الموقوف عليه على الأولى، لانتفاء التعلق بالرقبة لامتناع البيع، وعلى الثانية(4/271)
هل يجب في بيت المال أو في الغلة؟ فيه وجهان، قلت: وعلى الثالثة يحتمل أن يجب على الواقف، ويحتمل أن يجب في الغلة، (ومنها) إذا كان أمة ملك الموقوف عليه تزويجها على الأولى، والحاكم على الثانية، لكن يشترط إذن الموقوف عليه، قاله في التلخيص، قلت: والواقف على الثالثة، لكن بإذن الموقوف عليه (ومنها) النظر حيث أطلق يكون للموقوف عليه، على الأولى، وللحاكم على الثانية، وبه جزم ابن أبي موسى، قلت: وللواقف على الثالثة (ومنها) الشفعة لا تستحق على الثانية، قلت: وكذا على الثالثة، وفي استحقاقها على الأولى وجهان (ومنها) نفقة الوقف، تجب حيث شرطت، ومع عدمه في الغلة، ومع عدمها على من الملك له، قاله في التلخيص، قلت: فعلى الثانية تجب في بيت المال، هذا في الحيوان لحرمته، أما العقار فلا تجب عمارته إلا على من يريد الانتفاع به (ومنها) إذا وطئها الموقوف عليه، فلا حد عليه للملك أو شبهه، وتصير أم ولد على الأولى، لا على الثانية والثالثة، والله أعلم.(4/272)
وظاهر كلام الخرقي أن ملك الواقف يزول عن الوقف وإن لم يخرجه عن يده، وهو المشهور المختار المعمول به من الروايتين، لعموم قوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عمر: «لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث» ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، أشبه العتق (وعنه) لا يلزم ويزول الملك عنه إلا بالإخراج عن يده، اختاره ابن أبي موسى؛ لأنه تبرع بشيء لم يخرج عن المالية أشبه الهبة، (وظاهر كلامه) أيضا أنه لا يفتقر إلى القبول من الموقوف عليه، ولا خلاف في ذلك إن كان على غير معين كالمساكين، أو على من لا يتصور القبول منه كالمساجد، أما ما كان على آدمي(4/273)
معين، ففي اشتراط القبول وجهان، قال ابن حمدان في الصغرى وابن المنجا: ثم إنهما مبنيان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه، إن قلنا: ينتقل. اشترط، وإن قلنا: لا. فلا، والظاهر أنهما على القول بالانتقال، إذ لا نزاع بين الأصحاب أن الانتقال إلى الموقوف عليه هو المذهب، مع اختلافهم في المختار هنا، وشبهة الخلاف تردده بين التمليك والتحرير، وقد تقدم ذلك، لكن الأصحاب مترددون في التعليل، وينبغي اتباع سنن واحد.
وقول الخرقي: في صحة من عقله وبدنه. احترز به عن الوقف في المرض، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وقوله على قوم. إلى آخره، يحترز به عن المنقطع، وسيأتي إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
[انتفاع الواقف بالوقف]
قال: ولا يجوز أن يرجع إليه شيء من منافعه.
ش: يعني أنه إذا صح الوقف كما تقدم فإن منافعه تنتقل إلى الموقوف عليه بلا نزاع لما تقدم، ولا يصير للواقف فيها حق، إذ هذا وضع الوقف، والأدلة تشعر بذلك، نعم(4/274)
إن وجدت فيه صفة الاستحقاق استحق كأحد المستحقين، كمن وقف مسجدا فإنه يستحق الصلاة فيه، أو مقبرة فإنه يملك الدفن فيها، أو سقاية فيملك الشرب منها، ونحو ذلك.
2143 - وفي النسائي والترمذي - وحسنه - عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: «من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟» «فاشتريتها بصلب مالي. والله أعلم.(4/275)
[الحكم فيمن وقف وقفا وشرط أن يأكل منه]
قال: إلا أن يشترط أن يأكل منه، فيكون له مقدار ما اشترط.
ش: إذا وقف وقفا وشرط أن يأكل منه، أو يسكنه مدة حياته، أو مدة معلومة صح، نص عليه.
2144 - محتجا بما روى أن في صدقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر.
2145 - ولأن في حديث عمر: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا، غير متمول» ، وكان عمر هو الوالي عليها إلى أن مات.(4/276)
2146 - ويروى عن ابن عمر وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما وقفا داريهما وسكناهما مدة حياتهما. والظاهر أن ذلك عن شرط، والله أعلم.
قال: والباقي على من وقف عليه وأولاده الذكور والإناث من أولاد البنين، بينهم بالسوية، إلا أن يكون الواقف فضل بعضهم.
ش: إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم كما تقدم، وشرط الأكل منه، فإن الفاضل بعد الأكل يكون بين القوم وأولادهم، وعقبهم يشارك الآخر الأول، إذ الواو للجمع المطلق لا للترتيب، ويكون بين الذكور والإناث بالسوية، إذ هذا قضية الاشتراك، كما لو أقر لهم بشيء، ولهذا لما شرك الله بين ولد الأم في الثلث كان بينهم بالسوية، نعم إذا فضل الواقف بأن جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، أو بالعكس اعتبر تفضيله، كما لو جعله على أحدهم دون الآخر.
وقول الخرقي: من أولاد البنين، نص منه على أنه إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم دخل فيه ولد البنين، ولا خلاف في هذا نعلمه، ومفهوم كلامه أنه لا يدخل فيه ولد(4/277)
البنات، وهو أشهر الروايات، نص عليها في: ولد ولدي لصلبي. واختاره القاضي في التعليق والجامع، والشيرازي، وأبو الخطاب في خلافه الصغير، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] الآية، ولم يدخل فيه ولد البنات وقال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ولأن ولد الهاشمية ليس بهاشمي، ولا ينتسب إلى أبيها شرعا ولا عرفا، وبهذا علل أحمد، فقال: لأنهم من رجل آخر، (والرواية الثانية) : يدخلون فيه، اختاره أبو الخطاب في الهداية، لأن البنات أولاده، فأولادهن أولاد أولاده حقيقة، وقد قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلى قوله: {وَعِيسَى} [الأنعام: 85] وهو من ولد بنته.(4/278)
2147 - وفي البخاري وغيره أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد المنبر فقال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» » يعني الحسن.
2148 - وعن أسامة بن زيد، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: «وأما أنت يا علي فختني، وأبو ولدي» (والثالثة) يدخلون إلا أن يقول: على ولد ولدي لصلبي. فلا يدخلون، وهذه الرواية اختيار أبي بكر، وابن حامد، حكاه عنهما أبو(4/279)
الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المقنع، والقاضي فيما حكاه عنه صاحب التلخيص، وفي الروايتين للقاضي، والمغني أنهما اختارا الرواية الثانية، وفي الخصال لابن البنا أن ابن حامد اختار الثانية، وأبا بكر الثالثة، وكذا في المغني القديم فيما أظن، ومحل الخلاف مع عدم القرينة أما مع القرينة فالعمل لها، ولهذا قيل في عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والحسن: إنهما إنما دخلا مع الذكر، والكلام مع الإطلاق، والله أعلم.
قال: وإذا لم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين.
ش: يرجع إلى شرط الواقف في الجمع والترتيب وغير ذلك، كما يرجع إليه في شرط الوقف، ففي المسألة السابقة جمع بين القوم وأولادهم وعقبهم بواو الجمع، فقلنا: يشترك فيه الجميع، وفي الثانية رتبه بثم، فقلنا بترتيبه بعد من تقدم، ويوقف استحقاقه على انقراضهم، ويدخل الفقراء في لفظ المساكين، وكذلك كل موضع اقتصر فيه على ذكر أحد(4/280)
اللفظين، فإنه يتناول القسمين، أما لو جمع بين اللفظين آتيا بما يقتضي التمييز بينهما، كأن قال: وقفت على الفقراء والمساكين نصفين. ونحو ذلك. فإنه يجب التمييز بينهما وقسم الوقف بينهما نصفين، ولو قال: على] الفقراء والمساكين. ولم يقل نصفين، فالحكم كالزكاة، يجوز الدفع إليهما، والاقتصار على أحدهما على المشهور، وعلى الرواية الأخرى لا بد وأن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف، والله أعلم.
قال: وإذا لم يجعل آخره للمساكين، ولم يبق ممن وقف عليه أحد، رجع إلى ورثة الواقف في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف.
ش: قد تضمن هذا الكلام صحة الوقف المعلوم الابتداء، المنقطع الانتهاء، وهذا مذهبنا، لأن مصرفه معلوم كما سيأتي، فصح كما لو صرح بالمصرف، إذ المطلق يحمل على العرف، وإذا صح وانقرض من وقف عليه - كما لو وقف على ولده وأولادهم [فانقرضوا]- فإنه يصرف إلى جميع ورثة الواقف، يقسم على قدر مواريثهم منه، على إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي الكافي أنها ظاهر المذهب،(4/281)
لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس ببره، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» .
2149 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» .
2150 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صدقتك على غير رحمك صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة» (والراوية الثانية) يختص به أقرب العصبة، لأنهم أحق أقاربه ببره.
2151 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بمن تعول، أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك» رواه النسائي. (والرواية الثالثة) : يجعل(4/282)
في بيت المال، يصرف في مصالحهم، وهي أنص الروايات عنه؛ لأنه مال لا مستحق له، أشبه مال من لا وارث له، (والرواية الرابعة) وبها قطع القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبو جعفر، وإليها ميل أبي محمد - يصرف في المساكين، لأنهم أعم جهات الخير، ومصرف الصدقات، وحقوق الله تعالى، من الكفارات ونحوها.
وإذا قلنا: يرجع إلى أقارب الواقف الجميع أو العصبة، فإنه يشمل غنيهم وفقيرهم، على ظاهر كلام الخرقي والإمام، وبه قطع أبو البركات وغيره، إذ مصرف الوقف كذلك، واختار القاضي في الروايتين أنه يختص الفقراء منهم، إذ القصد بالوقف البر والصلة، والفقراء أولى بهذا المعنى من غيرهم، ومن رجع إليه فإنه يرجع إليه وقفا، لأن الملك قد زال عنه بالوقف، فلا يعود، ملكا إلى الورثة، قطع بذلك القاضي، وأبو الخطاب، وأبو البركات، وغيرهم، وزعم في المغني أن أحمد نص عليه، وقال: ويحتمل كلام الخرقي أن يصرف إليهم إرثا، ويبطل الوقف، وقال ابن أبي موسى: إن دفع إلى جميع الورثة رجع إرثا، بخلاف الرجوع إلى العصبة، وهذا مقتضى ما في المقنع، وكلام الخرقي عكسه، وحيث قلنا، يصرف إلى الأقارب فانقرضوا، أو لم(4/283)
يوجد له قريب، فإنه يصرف إلى بيت المال؛ لأنه مال لا مستحق له، نص عليه أحمد في رواية ابن إبراهيم، وأبي طالب، وغيرهما، وقطع به [أبو الخطاب] وأبو البركات، وقال ابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص، وأبو محمد: يرجع إلى الفقراء، والمساكين، إذ القصد بالوقف الصدقة الدائمة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أو صدقة جارية وقال ابن أبي موسى: يباع ويجعل ثمنه للمساكين، - ثم قال ابن الزاغوني: الخلاف في الرجوع إلى الأقارب، - أو إلى بيت المال، أو إلى المساكين - مختص بما إذا مات الواقف، أما إن كان حيا فانقطعت الجهة فهل يعود الوقف إلى ملكه أو إلى عصبته وذريته؟ فيه روايتان.
[أحوال الوقف]
(تنبيه) : الوقف له أربعة أحوال (الأول) : متصل الابتداء والانتهاء، وهو الذي بدأ به الخرقي (الثاني) : منقطع الانتهاء، وهو الذي ثنى به الخرقي، ولا إشكال في صحة كليهما (الثالث، والرابع) منقطع الابتداء متصل الانتهاء،(4/284)
متصل الابتداء والانتهاء، منقطع الوسط، كأن وقف على من لا يجوز كعبد، ثم على من يجوز كالمساكين، أو وقف على ولده، ثم عبده، ثم على المساكين، والمذهب صحتهما، وقيل بالبطلان، بناء على تفريق الصفقة، وعلى الأول هل يجعل من لا يجوز الوقف عليه كالمعدوم، فيصرف إلى من يجوز الوقف عليه، أو يعتبر فيصرف مدة وجوده مصرف المنقطع، ثم إذا انقرض لمن يجوز الوقف عليه؟ فيه وجهان، وله تقاسيم أخر ليس هذا موضع بيانها، والله أعلم.
[وقف المريض مرض الموت]
قال: ومن وقف في مرضه الذي مات فيه، أو قال: هو وقف بعد موتي. ولم يخرج من الثلث، وقف منه بقدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة.
ش: الوقف تبرع بلا تردد، فيعتبر من الثلث، كالهبة، والعتق، فإذا وقف في مرضه المخوف المتصل بالموت، على غير وارث، نفذ منه الثلث فما دون بلا نزاع، ما لم يمنع من ذلك مانع كالدين، ووقف ما زاد على الثلث فما دون(4/285)
على إجازة الورثة، [كالوصية سواء، وكذلك إذا قال: هو وقف بعد موتي. ينفذ منه الثلث فما دون، ويقف الباقي على إجازة الورثة] كالتدبير.
وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوقف المعلق بالموت، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير، وأبي محمد، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد.
2152 - وأنه احتج بأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصى، فكان في وصيته: هذا ما وصى به عبد الله أمير المؤمنين، إن حدث به حدث أن ثمغا صدقة. رواه أبو داود، وقال القاضي - أظنه في المجرد - وأبو الخطاب في الهداية، وابن البنا في الخصال، لا يصح، إلحاقا له بالهبة. والأولون ألحقوه بالصدقة المطلقة، ثم على قولهم هل يصح الوقف المعلق على شرط في الحياة؟(4/286)
فيه وجهان، والمختار عند أبي محمد، وأبي الخطاب البطلان، وشبهة الخلاف تردد الوقف بين التحرير والتمليك كما تقدم، وقال ابن حمدان -: من قبله - إن قيل الملك لله تعالى صح التعليق، وإلا فلا.
وقد شمل كلام الخرقي صحة وقف الثلث في مرض الموت، أو بعد الموت، على الورثة أو بعضهم، وهو أشهر الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأنصهما، واختيار القاضي في التعليق وغيره، وأكثر الأصحاب.
2153 - والأصل في ذلك ما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقف على ورثته. وعلى هذا اعتمد أحمد، وعلى أنهم لا يبيعون ذلك، ولا يهبونه، وإنما ينتفعون به، قلت: فكأنه عتق الوارث (وعنه) ما يدل على منع ذلك، وإذا يقف على إجازة الورثة، كالوقف على غيرهم، وهذا اختيار أبي حفص العكبري، قال القاضي: فيما وجدته معلقا عنه، واختيار أبي(4/287)
محمد إلحاقا له بالهبة، وادعى أبو محمد أن وقف عمر كان على جميع الورثة، قال: والنزاع في الوقف على البعض، قال: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ذلك، قلت: ونص أحمد في رواية الحسن بن محمد الترمذي وغيره صريح بخلاف ذلك، والله أعلم.
[خراب الوقف]
قال: وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشتري بثمنه ما يرد على أهل الوقف، وجعل وقفا كالأول.
ش: إذا تعطل الوقف، وصار بحيث لا يرد شيئا، أو يرد شيئا لا عبرة به، ولم يوجد ما يعمر به، فإن الناظر فيه يبيعه، ويشتري بثمنه ما فيه منفعة، يرد على أهل الوقف، نص عليه أحمد، وعليه الأصحاب.
2154 - لما اشتهر عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال بالمسجد مصل. وهذا بمحضر من الصحابة، ولم يظهر(4/288)
خلافه، فيكون إجماعا، ولأنه تجب المحافظة على صورة الوقف ومعناه، فلما تعذر إبقاء صورته، وجبت المحافظة على معناه.
2155 - نظرا إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ويشهد له إذا عطب الهدي دون محله، فإنه يذبح تحصيلا لما أمكن. وحكى في التلخيص عن أبي الخطاب أنه لا يجوز بيع الوقف مطلقا، وهو غريب لا يعرف في كتبه.
وقول الخرقي: وجعل وقفا. مقتضاه [أنه] لا يصير وقفا بمجرد الشراء، بل لا بد من إيقاف الناظر له، ولم أر المسألة مصرحا بها، وقيل: إن فيها وجهين.
ومقتضى كلامه أنه لو بقي فيه نفع لم يجز بيع، وإن كان غيره أجود منه، وصرح به أبو محمد وغيره، إذ الأصل(4/289)
المنع، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يباع أصلها ترك ذلك حيث خيف من ضياعه وفواته رأسا، نعم إن كان النفع لا يعد نفعا فوجوده كالعدم.
وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يشتري من جنس الوقف، وهو كذلك، إذ القصد النفع، نعم يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها، ومن هنا الفرس الحبيس إذا بيع اشتري بثمنه ما يصلح للجهاد.
وقد علم من كلام الخرقي أنه لا يجوز بيع الوقف إذا لم يخرب، وهو كذلك بلا ريب.
2156 - قال ابن عمر: «إن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها «فتصدق بها عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها(4/290)
أن يأكل منها بالمعروف ويطعم، غير متمول» . رواه الجماعة، والله أعلم.
[الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو]
قال: وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو، بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد.
ش: حكم الفرس الحبيس إذا صار لا يصلح إلا للطحن ونحو ذلك أنه يباع ويشترى بثمنه ما يصلح للغزو، أو يعان به في فرس، نص عليه أحمد لما تقدم، (وعنه) أنه يصرف ثمنه في مثله أو يصرف على الدواب الحبيس، قال: لا يباع الفرس الحبيس إلا من علة، إذا عطب يصير للطحن، ويصير ثمنه في مثله، أو ينفق ثمنه على الدواب الحبيس. وظاهره التخيير بين الأمرين، وقد يحمل قوله: ينفق الثمن على الحبيس. على ما إذا تعذر شراء المثل، وكذلك رأيت صاحب التلخيص حكى النص فقال: إنه نص على أن الفرس الحبيس إذا هرم يباع، وإذا أمكن أن يشترى بثمنه فرس اشتري، وجعل حبيسا، وإلا جعله في ثمن دابة حبيس، والله أعلم.
قال: وإذا حصل في يد بعض أهل الوقف خمسة أوسق ففيه الزكاة، وإذا صار الوقف للمساكين فلا زكاة فيه.(4/291)
ش: إذا كان الوقف شجرا فأثمر، أو أرضا فزرعت. وكان الوقف على قوم بأعيانهم، فحصل لبعضهم من الثمرة أو الحب نصاب ففيه الزكاة، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فيما سقت السماء العشر» ونحوه، ولأن الملك تام في الثمرة والحب، وهو متعلق الزكاة، وإن حصل في يده دون نصاب فلا شيء عليه، نعم إن حصل في يد الجميع نصاب وجبت الزكاة. على رواية تأثير الخلطة في غير الماشية، وإن كان الوقف على قوم غير معينين كالمساكين فلا زكاة، إذ شرط وجوبها الملك حين الوجوب، والمسكين إنما يملك بالدفع، نعم على رواية تأثير الخلطة في نحو ذلك ينبغي أن تجب الزكاة والله أعلم.
[ما يجوز وقفه وما لا يجوز]
قال: وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف - مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب - فوقفه غير جائز.
ش: من شرط ما يوقف أن يكون عينا يجوز بيعها، ويدوم نفعها مع بقائها، فلا يصح الوقف في الذمة كعبد ودار، ولا ما لا يجوز بيعه، إذ الوقف يعتمد نقل الملك، فلا بد(4/292)
وأن يكون الموقوف مما يقبل النقل، فلا يجوز وقف الكلب، وأم الولد، ووقف الحر نفسه، وإن جازت إجارته، ولا وقف الموصى له بخدمة عبد ذلك العبد، لعدم الملك له في الرقبة، ولا وقف أحد هذين العبدين، وفيه احتمال كالعتق، ولا ما لا يدوم نفعه كالرياحين ونحوها، وبطريق الأولى ما لا منفعة فيه كالعين المستأجرة، إذ الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وفي الأول لا تحبيس، وفي الثاني [لا منفعة] ، نعم إن وقفها بعد مدة الإجارة [إذا انقضت] ، صح إن قيل يصح تعليق الوقف على شرط في الحياة، ولا ما يذهب بالانتفاع به، كالمأكول، والمشروب، والشموع، والدراهم، والدنانير للتصرف فيها، أو مطلقا، أما لو وقفها للوزن فقال في التلخيص:(4/293)
يصح كإجارتها لذلك. وقال أبو محمد: لا يصح، لأن ذلك ليس من المرافق العامة. ويصح وقف الحلي عند العامة؛ لأنه من المقاصد المهمة.
2157 - وقد روي أن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ابتاعت حليا بعشرين ألفا فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته. قال أبو الخطاب [في الهداية] : ونقل الأثرم وحنبل: لا يصح. قال في المغني: وأنكر حديث حفصة. قال في التلخيص: وهو محمول على رواية منع وقف المنقول. قلت: ذكر القاضي في التعليق رواية الأثرم وحنبل، ولفظها: لا أعرف الوقف في المال. فإن لم يكن في الرواية غير هذا ففي أخذ المنع منه نظر، والله أعلم.
قال: ويصح الوقف فيما عدا ذلك.
ش: يصح [الوقف] فيما عدا ما ذكرناه، من العقار، والحيوان، والأثاث، والسلاح، [ونحو ذلك] ، على المذهب المعروف، وقد تقدم حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وقف العقار.(4/294)
2158 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا، فإن شبعه، وروثه، وبوله، في ميزانه يوم القيامة حسنات» رواه أحمد والبخاري.
2159 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق خالد: «قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» «ونقل حنبل والأثرم عنه: إنما الوقف للدور والأرضين، على ما وقف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عقيل: وظاهر هذا حصره على العقار، إعمالا لمقتضى «إنما» وذلك هو الذي يتأبد حقيقة، بخلاف غيره، والله أعلم.
[وقف المشاع]
قال: ويصح وقف المشاع.(4/295)
2160 - ش: في النسائي وابن ماجه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قال عمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن المائة سهم التي بخيبر، لم أصب مالا قط أعجب إلي منها، قد أردت أن أتصدق بها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احبس أصلها وسبل ثمرتها» . والله أعلم.(4/296)
[الوقف على ما ليس بقربة]
قال: وإذا لم يكن الوقف على معروف أو بر فهو باطل.
ش: من شرط الموقوف إذا كان على جهة أن يكون معروفا، كالمساكين، والمساجد، والقناطر، والمارين بالكنائس ونحو ذلك، أو برا كالأقارب، مسلمين كانوا أو ذمة، نظرا لمعنى الوقف، إذ وضعه ليتقرب به إلى الله تعالى، وفي قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يشعر بذلك، فلا يصح فيما ليس بقربة، سواء كان مأثما كالكنائس، والبيع، وكتابة التوراة والإنجيل، وإن كان الواقف ذميا، والمغنين، ونحو ذلك، أو غير مأثم، كالأغنياء، ولهذا جعل الله الفيء مقسوما بين ذي القربى، واليتامى، ومن سماه الله سبحانه، حذارا من أن تتداوله الأغنياء، قال سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وقيل المشترط أن لا يكون معصية، ولا يشترط القربة، فيصح على الأغنياء.(4/297)
أما الوقف على أهل الذمة، كأن قال: وقفت على النصارى، أو على نصارى هذه البلدة، ونحو ذلك، فمقتضى كلام أبي البركات وصاحب التلخيص أنه لا يصح، لأن الجهة جهة معصية، بخلاف الوقف على أقاربه من أهل الذمة لأنها جهة بر، وفي المغني: يصح الوقف على أهل الذمة، لأنهم يملكون ملكا محترما، أشبهوا المسلمين.
2161 - ولأن صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقفت على أخ لها يهودي. وفيه نظر، إذ العلة ليست الملك المحترم، بل كون ذلك قربة وطاعة، ووقف صفية على قريبها المعين، ولا إشكال في صحة ذلك، لما فيه من البر، بل لو كان معينا وليس بقريب صح أيضا، لأن المعين يقصد نفعه، ومجازاته،(4/298)
ونحو ذلك، بخلاف جهة أهل الذمة، فإنها جهة معصية انتهى.
ومن شرط الموقوف عليه إذا كان غير جهة، أن يكون معينا يملك ملكا محترما، فلا يصح على مجهول كرجل، ولا على أحد هذين، كالهبة، قال في التلخيص: ويحتمل الصحة، بناء على أنه لا يفتقر إلى قبول، ولا على من لا يملك، كالحمل، والبهيمة، وكذلك العبد؛ لأنه وإن قيل إنه يملك لكن ملكه كالعدم، وفي المكاتب وجهان، لتردده بين الحر والعبد القن، ولا على مرتد، ولا حربي، لعدم احترام ملكهم، ويصح على الحر المعين، وإن كان ذميا أو فاسقا، والله أعلم.(4/299)
[شرط الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن]
قال: ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه.
ش: لما فرغ المصنف من الكلام على الوقوف شرع في الكلام على العطايا، وهي جمع عطية، كخلية وخلايا، والعطية الشيء المعطى، وحدها: تمليك عين في الحياة بلا عوض، وهي جنس، أنواعه الصدقة، والهبة، والهدية، فإن كان القصد بها التقرب إلى الله تعالى لمحتاج فهي صدقة، وإن حملت إلى المهدى إكراما وتوددا فهدية، وإلا فهبة، إذا تقرر هذا فإن هبة غير المعين - كقفيز من صبرة، ورطل من زبرة، ونحو ذلك - تفتقر إلى القبض بلا نزاع وفي المعين ثلاث روايات، (الافتقار) ، (وعدمه) - وهو مختار القاضي وعامة أصحابه - (والتفرقة) بين صبر المكيل والموزون فتفتقر إلى القبض دون غيرهما، وهو مختار الخرقي، وأبي محمد، ومدرك الخلاف أن من قصر الحكم على غير المعين قال: مقتضى العموم عدم الافتقار.(4/300)
2162 - بدليل قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العائد في هبته كالعائد في قيئه» خرج منه غير المعين.
2163 - بدليل ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان نحلها جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: يا بنية إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا، ولو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب الله. رواه مالك في الموطأ، وجداد عشرين وسقا غير معين، قال أحمد: حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في شيء مجهول وإذا يبقى في ما عداه على مقتضى العموم.
2164 - ويؤيد هذا ما روي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم(4/301)
تقبض. ومن ألحق صبر المكيل والموزون بذلك قال: فيها أيضا نوع شياع وإبهام فتلحق به.
2165 - ومن عمم الحكم في الجميع استدل بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما بال قوم ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالي، وفي يدي. وإذا مات هو قال: قد كنت نحلته ولدي. لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، فإن مات ورثه.
2166 - وأرى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الوالد يجوز لولده [إذا كانوا صغارا] .(4/302)
2167 - وقال بعض العلماء: اتفق أبو بكر وعمر، وعثمان، وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة.
(تنبيه) : حيث افتقرت الهبة إلى القبض فهل ذلك لصحتها، أو للزومها وملكها، أو للزومها فقط؟ ظاهر كلام الخرقي وطائفة من الأصحاب الأول، قال أبو الخطاب في الانتصار - في البيع بالصفة -: القبض ركن في غير المتعين، لا ينبرم العقد بدونه، وقال في موضع آخر: إن الزيادة قبل القبض للواهب. وهذا مقتضى كلام القاضي في المجرد أيضا، حيث جعلها تبطل بموت الواهب قبل القبض، قال في التلخيص: كان القاضي يجعل القبض كجزء من السبب مثل القبول، ومقتضى كلام أبي محمد في الكافي، وأبي البركات بل صريحه الثاني، ومقتضى كلام صاحب التلخيص الثالث؛ لأنه قال بعد كلام القاضي المتقدم في المجرد: والمذهب لا يقتضي ذلك، إذ الملك(4/303)
ينتقل في بيع الخيار على الصحيح، وقال أيضا: إن الزوائد الحاصلة بعد العقد وقبل القبض للمتهب بشرط اتصال القبض، لكن شرطه اتصال القبض يقتضي القول الثاني، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل أيضا القول الثاني والثالث، وكلام أحمد ظاهره الثاني، قال في رواية حنبل: إذا تصدق على رجل بصدقة - دار أو ما أشبه ذلك - فإذا قبضها الموهوب له صارت في ملكه. وكلام الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يحتمل القولين الأولين، أما القول الثالث: فضعيف، ولا يعرف مصرحا به، والله أعلم.
قال: وتصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما تصح في البيع.
ش: تصح الهبة في غير المكيل والموزون، وقد تقدم ذلك، وقوله: إذا قبل. تصريح بأنه لا بد في الهبة من القبول، ولا إشكال في ذلك، إذ هو أحد ركنيها، أشبه الإيجاب، ويقوم ما يدل عليهما مقامهما، اختاره ابن عقيل، وأبو محمد وغيرهما.(4/304)
2168 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قالوا: صدقة: قال لأصحابه: «كلوا» ولم يأكل، وإن قالوا: هدية. ضرب بيده، فأكل معهم» ، وعن القاضي، وأبي الخطاب: لا تصح بالمعاطاة. وقوله: كالبيع. أي أنه تتوقف صحته على القبول، ومراده كالبيع مطلقا، لا كالبيع في المكيل والموزون، إذ لا نزاع أن القبول في البيع ليس بشرط في الصحة إلا في التصرف، وقد يؤخذ من كلام الخرقي أن [من] شرط صحة القبول تأخره عن الإيجاب، كما أن ذلك بلا نزاع. رتبته، وهذا إحدى الروايتين، والله أعلم.
قال: يقبض للطفل أبوه أو وصيه بعده، أو الحاكم، أو أمينه بأمره.
ش: يقبض للطفل أبوه، لما تقدم عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أو وصيه بعده؛ لأنه يقوم مقامه، أو الحاكم إذا(4/305)
مات الأب من غير وصي، أو لم يكن أهلا كالفاسق [ونحوه] ، إذ الحاكم ولي من لا ولي له، أو أمين الحاكم بأمره؛ لأنه يقوم مقامه.
ومقتضى كلام الخرقي أنه ليس لغير هؤلاء القبض، وهو المشهور، وقيل: للأم وبقية أقاربه ممن يقوم على الطفل القبض إن عدموا هؤلاء.
وقد تضمن كلامه أنه ليس للطفل القبض، وهو صحيح، لفقد الأهلية، والطفل غالبا يطلق على غير المميز، وقد يطلق عليه، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] الآية، وكلام الخرقي محتمل للأمرين، وفي صحة قبض المميز وجهان طباقا للاحتمالين، لكن يصح بإذن وليه بلا ريب، والله أعلم.
[المفاضلة بين ولده في العطية]
قال: وإذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ش: المشروع في عطية الأولاد التسوية بينهم.(4/306)
2169 - لما روي عن النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعدلوا بين أبنائكم» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي ويسوي بينهم على قدر ميراثهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، اقتداء بقسمة الله تعالى، وقياسا لحال الحياة على حال الموت.
2170 - قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله فإن خالف ولم يسو بينهم أمر برد ذلك، أو إعطاء الآخر حتى يستووا.
2171 - لما «روى النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أباه أتى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. فقال: فارجعه. متفق عليه، ولفظ مسلم: تصدق علي أبي ببعض ماله، وفي رواية: لا تشهدني على جور، وإن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم» .
وظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يسوي بينهم، وإن اختص بعضهم بمعنى يقتضي الاختصاص كزمانة، أو(4/307)
عمى، أو اشتغال بعلم، ونحو ذلك، أو بمعنى يقتضي المنع كفسوق، ونحو ذلك، ونص عليه أحمد في رواية يوسف ابن موسى، وهو ظاهر كلام الأكثرين؛ لعموم حديث النعمان بن بشير، ولأنهم سواء بالإرث، فكذلك في عطيته في حياته، (وعنه) ما يدل على جواز تفضيل أحدهم أو اختصاصه لمعنى مما تقدم، لقوله في تخصيص أحدهم في الوقف: لا بأس به إذا كان للحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. وهذا اختيار أبي محمد، وعليه حمل حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وظاهر كلامه أن الذي يجب التعديل بينهم هم الأولاد فقط، وبه قطع أبو محمد في كتبه، إذ الأصل تصرف الإنسان في ماله كيف شاء، خرج منه الأولاد بالخبر، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل بشيرا: هل لك وارث غير ولدك أم لا؟ وقال أبو الخطاب، وأبو البركات، وصاحب التلخيص وغيرهم: حكمهم حكم الأولاد، يسوي بينهم على قدر مواريثهم، فإن لم يفعل رجع على ما تقدم، وفي التلخيص أن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليه، لأن المنع من ذلك كان خوف قطيعة الرحم والتباغض، وهذا موجود في الأقارب، والله أعلم.(4/308)
قال: فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له، إذا كان ذلك في صحته.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختارها الخلال، وأبو بكر، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن ظاهره أنه خصها بذلك، وأنها لو كانت حازته لم يكن لهم الرجوع، وكذلك عموم قول عمر: لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد.
(والثانية) : للورثة الرجوع، كما كان له الرجوع؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جورا.
2172 - وفي رواية لمسلم: «وإني لا أشهد إلا على حق» وغير الحق، والجور، لا يختلف بالحياة والموت، فلا يطيب أكله، ويجب رده.
2173 - وقد روى سعيد في سننه أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، وخرج إلى الشام فمات بها، ثم ولد له بعد ذلك ولد، فمشى أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى قيس بن(4/309)
سعد، فقالا: إن سعدا قسم ماله، ولم يدر ما يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة، فقال قيس: لم أكن لأغير شيئا صنعه سعد، ولكن نصيبي له.
وقول الخرقي: إذا كان في صحته، احترازا مما إذا كانت العطية في مرض موته، فإن ذلك لا ينفذ، ويكون كالوصية له، تقف على إجازة الورثة، نعم إن كانت العطية في المرض ليسوي بينهم فهل يجوز؟ فيه احتمالان، أولاهما الجواز؛ لأنه طريق لفعل الواجب، لا سيما إذا قلنا: للورثة الرجوع. والله أعلم.
[الرجوع في الهبة]
قال: ولا يحل لواحد أن يرجع في هبته، ولا لمهد أن يرجع في هديته، وإن لم يثب عليها.
2174 - ش: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه» متفق عليه، ولأحمد، والبخاري ليس لنا مثل السوء، وفي رواية لأحمد قال قتادة: ولا أعلم القيء إلا حراما.(4/310)
2175 - وعن طاوس أن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رفعاه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي عطية [ثم يرجع فيها] ، كمثل الكلب، أكل حتى إذا شبع قاء، ثم رجع في قيئه» رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
وعموم كلام الخرقي يشمل المرأة، فليس لها أن ترجع في ما وهبته لزوجها، وهو إحدى الروايات، واختيار أبي بكر، لعموم ما تقدم، ولقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] (والثانية) : للمرأة الرجوع مطلقا، نقلها الأثرم.
2176 - واحتج لها بأن في الحديث «إنما يرجع في المواهب النساء، وشرار الأقوام» (وعنه ثالثة) ، إن وهبته مخافة غضبه،(4/311)
أو إضرار بها، بأن يتزوج عليها، ونحو ذلك رده إليها؛ لأنها لم تطب نفسا به، وإن لم يكن سألها، فتبرعت به فهو جائز، حكى الروايات الثلاث أبو محمد، وعندي أن الثالثة لا تدل إلا على صحة هبتها وعدمها.
وكلام الخرقي أيضا يشمل الأب، فمقتضى كلامه أنه ليس له الرجوع، وهو إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقلها عنه المروذي في كتاب الزهد، لعموم حديث ابن عباس المتفق عليه، وقال أبو محمد: ظاهر كلامه الرجوع، وأخذه من قوله: وإذا فاضل بين ولده في العطية أنه يرد ذلك. وفيه نظر، وبالجملة فهذا هو المشهور، واختاره(4/312)
جماعة من الأصحاب لما تقدم من حديث ابن عباس الذي في السنن. وهو مخصص لحديثه الآخر، (وعنه رواية ثالثة) اختارها أبو محمد، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة، إن غرّ بها قوم، كأن رغب الناس بسببها في معاملته، أو مناكحته فلا رجوع، لما فيه من الضرر [بالغير] المنفي شرعا، وإلا فله الرجوع لما تقدم.
(وعنه رابعة) إن زادت العين زيادة متصلة فلا رجوع، لاتصالها بملك الولد، وإلا فله الرجوع، ونقل عنه حنبل: أرى أن من تصدق على ابنه بصدقة فقبضها الابن، أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن ينقض شيئا من ذلك؛ لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة. ونحو ذلك نقل المروذي، قال أبو حفص: تحصيل المذهب أنه لا يرجع فيما دفع لغير الولد، هبة كان أو صدقة، ويرجع فيما وهبه لابنه، ولا يرجع فيما كان على وجه الصدقة. وهذا اختيار ابن أبي موسى.
2177 - لعموم قوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: «لا تعد في صدقتك» وقد فهم عمر العموم.(4/313)
2178 - فروى مالك في الموطأ عنه قال: من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة، أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض منها. وأبو محمد صرح بأنه لا فرق بين الصدقة وغيرها، مستدلا بأن في الصحيح في حديث النعمان بن بشير: تصدق علي أبي ببعض ماله. . . القصة، وصرح بذلك [أيضا] القاضي في المجرد وهو ظاهر إطلاق جماعة.(4/314)
وشرط الرجوع حيث جوزناه (أن تكون العين) الموهوبة باقية في ملك الابن، فإن خرجت عن ملكه ثم عادت إليه بعقد، أو إرث فلا رجوع، وإن رجعت إليه بفسخ فثلاثة أوجه؛ ثالثها: إن كان كخيار المجلس أو الشرط رجع، وإلا فلا، (وأن لا يتعلق) بها حق يمنع تصرف الابن، كالرهن، وحجر الفلس، والكتابة إن لم يجز بيع المكاتب، ثم إن زالت هذه التعلقات جاز له الرجوع، لزوال المانع.
وقوله: وإن لم يثب عليها. تنصيص على مخالفة من قال: إن لم يثب عليها رجع. وهو مشعر بأن الهبة لا تقتضي ثوابا، وهو كذلك، وإن كانت من الأدنى للأعلى.
(تنبيه) : هذا الحكم يختص بالأب، فليس للأم الرجوع فيما وهبته لولدها، على المنصوص والمختار، وقيل: لها الرجوع كالأب. والله أعلم.
[العمرى نوع من الهبة]
قال: وإذا قال: داري لك عمري، أو هي لك عمرك. فهي له ولورثته من بعده.
ش: العمرى نوع من الهبة، تفتقر إلى ما تفتقر إليه الهبة من الإيجاب، والقبول، والقبض، وهي مأخوذة من العمر، ومعناها كما قال الخرقي أن يقول: داري - أو فرسي ونحو ذلك - لك عمري، أو مدة حياتي، أو لك عمرك،(4/315)
أو حياتك. ونحو ذلك، فتصح، وتكون للمعمر، ولورثته من بعده.
2179 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «العمرى ميراث لأهلها» وفي لفظ جائزة لأهلها متفق عليه.
2180 - وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعمر عمرى فهي لمعمره محياه ومماته، لا ترقبوا، من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث» ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
2181 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرى لمن وهبت له، متفق عليه، وفي لفظ: «أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا، ولعقبه» رواه مسلم.(4/316)
وظاهر كلام الخرقي في العمرى أنها تكون للمعمر ولورثته، وإن شرط المعمر رجوعها إليه، أو إلى ورثته عند موت المعمر، فيبطل الشرط، ويصح العقد، وهو إحدى الروايات عن أحد، لعموم ما تقدم، ولأن فيها «لا ترقبوا، من أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث» والرقبى معناها: الرجوع إلى المرقب إن مات المرقب.
2182 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخل حياتها، فماتت فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء قال جابر: فاختصموا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقسمها بينهم ميراثا.» رواه أحمد.
(والرواية الثانية) يصح العقد والشرط، فتكون للمعمر إذا مات المعمر.
2183 - إعمالا لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون على شروطهم» .(4/317)
2184 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما العمرى التي أجاز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت. فإنها ترجع إلى صاحبها. رواه أحمد ومسلم وأبو داود. (وعنه) يبطل العقد والشرط؛ لأنه شرط منهي عنه، إذ الجاهلية كانوا يفعلون ذلك.
2185 - فنهى الشارع عنه بقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تعمروا، ولا ترقبوا» والنهي يقتضي الفساد، وإذا يفسد العقد، لاختلاف الرضى بدونه، والله أعلم.
قال: وإذا قال: سكناها لك عمرك. كان له أخذها أي وقت أحب؛ لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى.
ش: هذه هبة منفعة، والمنافع إنما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه واستوفاه، وقوله: لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى قد تقدم بيان العمرى وأما الرقبى فهي هبة ترجع إلى المرقب إذا مات المرقب،(4/318)
ومعناها أنها لآخرهما موتا، وحكمها حكم العمرى المشروط رجوعها إلى المعمر، فيها الروايات، سواء أطلق فقال: أرقبتك هذه. أو صرح بموضوعها فقال: هي لآخرنا موتا، والله أعلم.(4/319)
[باب اللقطة]
ش: حكي عن الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (اللقطة) بضم اللام، وفتح القاف، الكثير الالتقاط، وبسكون القاف ما يلتقط. قال أبو منصور: وهو قياس اللغة. وقال الأصمعي، وابن الأعرابي والفراء: هي بفتح القاف اسم للمال الملقوط أيضا. ويقال فيه أيضا: «لقاطة» بضم اللام «ولقطة» بفتح اللام والقاف، وهي في الاصطلاح: المال الضائع عن ربه، يلتقطه غيره.
2186 - والأصل فيها ما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لقطة الذهب، فقال: «اعرف وكاءها، وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه» وسأله عن ضالة الإبل فقال: «ما لك ولها، دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها» وسأله عن الشاة فقال: «خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» متفق عليه في أحاديث أخر. والله أعلم.(4/320)
[مدة ومكان تعريف اللقطة]
قال: ومن وجد لقطة عرفها سنة، في الأسواق، وأبواب المساجد.
ش: من وجد لقطة وجب عليه تعريفها، وإن لم يرد تملكها، لما تقدم من حديث زيد بن خالد.
2187 - وفي رواية عنه «لا يؤوي الضالة إلا ضال ما لم يعرفها» رواه أحمد، ومسلم، وقدر التعريف سنة [للحديث] .
وظاهر كلام الخرقي أن السنة تلي الالتقاط، وتكون متوالية، وهو صحيح، لظاهر الأمر، إذ مقتضاه الفور على قاعدتنا، ولأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها، فإذا عرفت إذا كان أقرب إلى وصولها إليه، بخلاف ما لو تأخر ذلك، فلو ترك التعريف بعض الحول أثم، وعرف بقيته، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» [وإن تركه جميع الحول سقط على المنصوص، لسقوط حكمة التعريف، وهو تطلع المالك لها في الحول الأول، وقيل: لا يسقط.(4/321)
2188 - نظرا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ] وهنا قد استطاع التعريف على وجه ناقص، فوجب عليه. انتهى، (ومحل التعريف) محل وجدانها، إن أمكن، وفي الأسواق، وأبواب المساجد، في أدبار الصلوات، ونحو ذلك من مجامع الناس، لأن المقصود من التعريف إظهار ربها عليها، وهذه الأماكن مظنة ذلك، بخلاف غيرها.
2189 - ولا تعرف في المسجد، للنهي عن ذلك، ووقته النهار، وقد يفهم هذا من قوله: في الأسواق، وأبواب المساجد.(4/322)
وصفته أن يقول: من ضاع منه شيء، أو نفقة، أو ذهب، ونحو ذلك، ولا يذكر الصفة. وظاهر كلام الخرقي أنه يعرف القليل والكثير، وهو ظاهر إطلاق الحديث، ويستثنى من ذلك اليسير، الذي لا تتبعه النفس، كالتمرة، والكسرة، والسوط، ونحو ذلك، فإنه لا يجب تعريفه، ولواجده الانتفاع به.
2190 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العصا، والسوط، والحبل، وأشباهه، يلتقطه الرجل ينتفع به» . [رواه أبو داود] .
2191 - وفي الصحيحين أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة في الطريق، فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» ، والمعروف تقييد اليسير بما لا تتبعه نفوس أوساط الناس كما مثلنا، ونص(4/323)
أحمد - في رواية أبي بكر بن صدقة - على أنه يعرف الدرهم، وقال ابن عقيل في التذكرة: لا يجب تعريف الدانق ونحوه. وحمله في التلخيص على دانق الذهب، نظرا لعرف العراق، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن اليسير دون ثلاثة دراهم؛ لأنه تافه.
2192 - بدليل قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه. وعموم «من» يشمل الذمي، وصرح به غيره، لعموم من وجد لقطة ولأنه أهل للتكسب، فيصح التقاطه، كاحتطابه ونحو ذلك، ثم قال أبو محمد: إنه يضم إليه أمين في التعريف والحفظ، وأكثر الأصحاب لم يتعرضوا لذلك، وجعله ابن حمدان على القول بضم الأمين إلى الفاسق، (ويشمل) الفاسق أيضا، وهو صحيح لما تقدم، وهل يضم إليه أمين؟ فيه وجهان: (أحدهما) - وهو ظاهر كلام القاضي في الجامع، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي - لا، لأهليته للحفظ، بدليل إيداعه (والثاني) - واختاره القاضي في المجرد، وابن البنا، وبه قطع أبو البركات، وأبو محمد في كتابيه الكبيرين –(4/324)
نعم، حفظا لمال الغائب، ثم قال القاضي: يكون الأمين هو المباشر للتعريف، لاتهام الفاسق، فربما قصر. (ويشمل) أيضا الرقيق، وهو صحيح، فإن كان مكاتبا فحكمه حكم الحر، وإن كان قنا صح التقاطه على المذهب، (وعنه) لا يصح إلا بإذن سيده، فعلى المذهب يصح تعريفه، ثم إن تلفت في حول التعريف بلا تفريط فلا شيء عليه، وأن تلفت بتفريطه، أو أتلفها ضمنها في رقبته لجنايته، وإن مضى حول التعريف هل يملكها؟ قال في التلخيص: قال أصحابنا: يخرج على الروايتين في ملك العبد. وهذا مقتضى كلام أبي البركات، قال صاحب التلخيص: وعلى ما بينت أن الروايتين فيما إذا ملكه السيد، لا يملك هنا بحال. وقطع أبو محمد في الكافي والمغني أن السيد يملك بمضي الحول، فإما أنه نظر إلى ما قال صاحب التلخيص، وإما أنه فرع على المذهب، ثم إن صاحب المحرر قال: إن ملك وتلفت ضمنها في ذمته، وإن لم يملك ضمنها في رقبته، وقال في التلخيص: إنه يضمنها في ذمته، نص عليه. قال: لأنها للسيد، أو للعبد مضمونة في ذمته. وكذا قال طائفة من الأصحاب، منهم(4/325)
أبو محمد في المقنع، وهذا متوجه إن قلنا: إن العبد يملك، أما إن قلنا: إن الملك للسيد - كما صرح به أبو محمد، واقتضاه كلام صاحب التلخيص وغيره - فالجناية على مال السيد، فلا تتعلق لا بذمته، ولا برقبته، بل الذي ينبغي أن تتعلق بذمة السيد، وإن قيل: إن لعبد لم يملك ولا السيد، تعين التعلق برقبته كجناياته، وهذه تحتاج إلى زيادة تحقيق، ولها فروع أخر ليس هذا موضعها، وحكم أم الولد والمعلق عتقها بصفة حكم القن. والله أعلم.
قال: فإن جاء ربها وإلا كانت كسائر ماله.
ش: يعني إذا عرفها فإن جاء ربها في الحول فهي باقية على ملكه، وإن انقضى الحول ولم تعرف، صارت عند انقضاء الحول كسائر مال الملتقط، على المذهب بلا ريب، لما تقدم من حديث زيد.
2193 - وفي رواية فيه فاستمتع بها وفي رواية وإلا فهي لك قال في الانتصار: ونقل البغوي عنه ما يدل على(4/326)
أن اللقطة لا تملك. قلت: وهو غريب، لا تفريع ولا عمل عليه. وقد شمل كلام الخرقي الغني والفقير، وهو المشهور من المذهب لما تقدم من حديث زيد.
2194 - وفي حديث أبي بن كعب فاستمتع بها وشذ حنبل عن أصحابه، فنقل عن أحمد اختصاص التملك بالفقير، وأنكر ذلك الخلال.
2195 - لما روى عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها، ووكاءها، ثم لا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء» رواه الخمسة إلا الترمذي، قال بعض الحفاظ: ورجاله رجال الصحيح.(4/327)
وظاهره أن واجدها لا يختص بها، بل سبيلها سبيل الأموال المضافة إلى الرب سبحانه، من الخمس وغيره، وحديث زيد بن خالد قضية في عين لا عموم لها، إذ يجوز أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقيرا، فأباح له الأخذ، أو لمصلحة أخرى، لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائب الله في أمواله.
وشمل كلامه أيضا الأثمان، والعروض، والشاة، ونحوها، ولا خلاف في ملك الأثمان، لنص حديث زيد بن خالد، واختلف فيما عداها، (فعنه) لا تملك مطلقا.
2196 - أما في الشاة ونحوها فلما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» رواه أحمد، وأبو داود، والضالة اسم للحيوان، دون سائر اللقطة.
2197 - وأما في العروض فلأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يصح قياسها على(4/328)
الأثمان، فإن الغرض يتعلق بها، بخلاف الأثمان، (وعنه) تملك مطلقا، وهي ظاهر كلام الخرقي هنا، وسينص عليها في الشاة، واختيار ابن أبي موسى، وأبي محمد، لحديث زيد بن خالد في الشاة، وهو نص في جواز التقاطها، وهو خاص، فيقدم على لا يؤوي الضالة الحديث، ولحديث عياض بن حمار من وجد لقطة مع التزام أن عموم الأشخاص، يقتضي عموم الأحوال.
2198 - وروى الجوزجاني والأثرم قالا: حدثنا أبو نعيم، ثنا هشام بن سعد، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: «أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله: كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء، أو في قرية مسكونة؟ قال: «عرفه سنة، فإن جاء صاحبه وإلا فشأنك به» » .(4/329)
2199 - وروى الجوزجاني عن عمر وابنه ما يدل على أن العروض تملك، (وعنه) رواية ثالثة - وهي المشهورة في النقل(4/330)
والمذهب، عند عامة الأصحاب - أن الشاة ونحوها تملك دون العروض، وقد فهم دليلها مما تقدم. وحيث قلنا: لا تملك العروض. (فعنه) تعرف أبدا، اختارها أبو بكر في (زاد المسافر) وابن عقيل أظنه في (الفصول) ، (وعنه) - وهو المشهور عنه، واختيار الخلال، وزعم أن الأول قول أول - تباع ويتصدق بثمنها بشرط الضمان، وقال القاضي في الخصال: يخير بين تعريفها أبدا، وبين دفعها إلى الحاكم، ليرى رأيه فيها. وقال ابن عقيل في التذكرة: يدفعها إلى الحاكم. وشمل كلام الخرقي أيضا لقطة الحل والحرم، وهو إحدى الروايتين، واختيار الجمهور، لحديث زيد بن خالد، وعياض بن حمار، التزاما بأن عموم الأشخاص يتناول عموم الأحوال، إذ قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجد لقطة عام في كل واجد، وعموم الواجدين يستلزم عموم أحوالهم.(4/331)
[وكذلك سؤال زيد عن لقطة الذهب، اسم جنس مضاف، فيشمل كل لقطة ذهب، ويلزم منه عموم أحوالها] (والثانية) : لا تملك لقطة الحرم بحال، بل تعرف أبدا.
2200 - لقوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بلد مكة «ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» أي لمنشد على الدوام، وإلا غير لقطة الحرم لا تحل أيضا إلا لقاصد تعريفها، وحفظها.
2201 - ويؤيد هذا ما روى عبد الرحمن بن عثمان التيمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لقطة الحاج» ، رواه مسلم. وهذا أخص من تلك فيقيد، لا سيما ويمنع: أن عموم الأشخاص (لا) يستلزم عموم الأحوال. وقول الخرقي: وإلا فهي كسائر ماله. ظاهره أنها تدخل في ملكه من غير اختياره، وكذا نص أحمد في رواية الجماعة، وعليه الجمهور، لظواهر الأحاديث السابقة.(4/332)
2202 - وفي رواية لمسلم في حديث زيد بن خالد «فإن جاء صاحبها، فعرف عفاصها، ووكاءها وعددها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك» واختار أبو الخطاب في هدايته أنه لا يملكها حتى يختار ذلك، وحكاها ابن الزاغوني رواية. ومقتضى كلامه أنه لو لم يعرفها التعريف السابق - وهو السنة - أنه لا يملكها، وهو صحيح، وكذلك لو لم يعرفها الحول، نعم، إن أخر التعريف أو بعضه في الحول الأول لعذر، من مرض، أو حبس، أو صغر، ونحو ذلك، ملكها بالتعريف في ثاني الحول في وجه، وعلى المنصوص لا كالأول، والله أعلم.
قال: وحفظ وكاءها، وعفاصها، وحفظ عددها، وصفتها.
ش: هذا عطف على قوله: عرفها سنة. فيحتمل أنه واجب مطلقا كالتعريف، لظاهر حديث زيد، ويحتمل أنه مطلوب جملة، ثم عند الالتقاط مستحب، وعند تمام التعريف،(4/333)
وإرادة التصرف فيها أو خلطها بماله واجب، وهو ظاهر كلامه، وعليه شرح أبو محمد، وفاقا للأصحاب، لأن دفعها إلى ربها يجب بما ذكر، فلا بد من معرفته نظرا إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
2203 - وفي رواية «عن أبي بن كعب أنه قال: وجدت مائة دينار، فأتيت بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «عرفها حولا» فلم تعرف، فرجعت إليه فقال: اعرف عدتها ووعاءها ووكاءها واخلطها بمالك» » .
وظاهره أن الخلط مرتب على معرفة ما تقدم، وأنه قبل التعريف لم يأمره بذلك، وهذه القرينة الصارفة لحديث زيد وغيره عن الوجوب، «والوكاء» الخيط الذي تربط به، «والعفاص» الوعاء الذي تكون فيه، من خرقة أو غيرها، وفي معنى العدد الكيل والوزن، ويبالغ في معرفة صفتها، وكل شيء تعرف به. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب الإشهاد عليها، وهو المشهور، نظرا إلى حديث زيد وغيره، حيث لم يأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإشهاد، نعم، يستحب، لحديث عياض بن حمار، وأوجبه ابن أبي موسى، وأبو بكر في التنبيه، لظاهر الأمر، والشهود(4/334)
عدلان فصاعدا، ولا يشهد على الصفات، نص عليه، لاحتمال شياعه، فيعتمده المدعي الكاذب، والله أعلم.
قال: فإن جاء ربها فوصفها دفعت إليه بلا بينة.
ش: يعني إذا جاء ربها بعد الحول، وصيرورتها كسائر مال الملتقط، وهي باقية، فوصفها بالصفات السابقة، وجب دفعها إليه بلا بينة، وإن لم يغلب على ظنه صدقه.
2204 - لأن في حديث أبي بن كعب قال: «عرفها، فإن جاء أحد يخبرك بعدتها، ووعائها، فأعطها إياه، وإلا فاستمتع بها» رواه أحمد، ومسلم، والترمذي.
2205 - وفي حديث زيد «فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه» وفي رواية فيه «فإن جاء صاحبها، فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك» .
2206 - ولا ينافي هذا قوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على المدعي» واليمين على من أنكر» . إذ هذا مع وجود منكر، ولا منكر في صورة اللقطة، فهي غير داخلة في الحديث، ولو سلم دخولها،(4/335)
فالتخصيص - وقد قام دليله - يخرجها، مع أنا نقول البينة ما تبين الحق وتظهره، والصفة هنا بهذه المثابة، لتعذر إقامة البينة عليها غالبا، لأنها تسقط في حال الغفلة والسهو. وظاهر كلامه أنه لو ادعاها بلا صفة لم تدفع إليه، وهو ظاهر لما تقدم، وقوة كلامه يقتضي أنه لا يجب عليه دفع زيادتها معها والحال ما تقدم، وهو أحد الوجهين، أو الروايتين، على ما في التلخيص، واختيار أبي محمد، لحدوثها في ملكه، (والثاني) : [يأخذها ربها بها، كما يأخذها بالزيادة المتصلة، وكالبائع الراجع على المفلس، أما في حول التعريف فإنها ترد بزيادتها] مطلقا، لبقائها على ملك مالكها، والله أعلم.
قال: أو مثلها إن كانت قد استهلكت.
ش: اختيار أبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اللقطة بعد الحول تملك بغير عوض يثبت في ذمته، وإنما يتجدد العوض بمجيء صاحبها، وعند القاضي وكثير من أصحابه لا يملكها إلا بعوض يثبت في ذمته لصاحبها، وعلى القولين يزول ملك الملتقط عنها بوجوده إن كانت باقية، ويجب عليه إذا بدلها، وهو مثلها، أو قيمتها إن كانت تالفة، لحديث زيد، فإنه أمره بإنفاقها، ثم قال: «ولتكن وديعة عندك، فإن جاء(4/336)
طالبها يوما من الدهر فأدها إليه» فأمره – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدفعها إلى ربها، بعد [إباحة] إنفاقها» .
2207 - وقال الأثرم: قال أحمد: أذهب إلى حديث الضحاك بن عثمان، جوده ولم يروه أحد مثل ما رواه، إن جاء صاحبها بعد سنة، وقد أنفقها ردها إليه، وحكى عنه أنه لوح إلى عدم الضمان، لحديث عياض بن حمار، لأن فيه «فهو مال الله يؤتيه من يشاء» وظاهره أنه مباح، ولما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي لك وللأول أن يقول بموجبه، إذ جعلها له، وكون الله آتاه إياها، لا ينافي وجوب الضمان عليه بوجود ربها، وعلى هذا لو نقصت ضمن نقصها، وتعتبر القيمة حين التملك، قاله في التلخيص، وهو ظاهر على رأي القاضي ومتابعيه، أما على رأي أبي محمد فينبغي اعتبارها حين وجود ربها، وكذا صرح به أبو البركات، وهذا كله بعد الحول، أما قبله فهي أمانة، كبقية الأمانات، والله أعلم.(4/337)
قال: وإن كان الملتقط قد مات فصاحبها غريم بها.
ش: إذا مات الملتقط، بعد أن صارت اللقطة كمال الملتقط، ثم جاء ربها، فهو غريم بها، يرجع ببدلها إن اتسعت التركة، وإلا تحاص الغرماء، لما تقدم من أنه إنما يملكها مضمونة عليه، إما حين التملك، وإما حين وجود ربها، وكلام الخرقي يحتمل أن يريد ما إذا تلفت، بقرينة المسألة السابقة، وعليه شرح أبو محمد، ويحتمل أن يريد أنه غريم وإن كانت باقية، تنزيلا لانتقالها إلى الوارث منزلة الانتقال إلى الأجنبي، ولو انتقلت إلى أجنبي لم يلزم إلا بدلها، فكذلك إلى الوارث، ثم على الأول ظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا فرق بين أن يعلم تلفها بعد الحول أو لا، وفي المغني احتمال أنه لا يلزم عوضها إن لم يعلم تلفها بعد الحول، لاحتمال تلفها في الحول، وهي إذا أمانة، والله أعلم.
قال: وإن كان صاحبها جعل لمن وجدها شيئا معلوما فله أخذه، إن كان التقطها بعد أن بلغه الجعل.
ش: الجعالة جائزة في الجملة، لقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .(4/338)
2208 - «وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: انطلق نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء. فأتوهم فقالوا: أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من غنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذكر له الذي كان، فننظر الذي يأمرنا. فقدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا له ذلك، فقال: «وما يدريك أنها رقية؟» ثم قال: «قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهما» وضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. متفق عليه، واللفظ للبخاري، والحكمة تقتضي ذلك، فإن العمل قد يكون مجهولا كصورتنا، فتتعذر الإجارة فيه، والحاجة تدعو إلى(4/339)
رده، وقد لا يجد متبرعا فاقتضت حكمة الشارع جواز ذلك. إذا تقرر هذا فإذا جعل رب اللقطة لمن وجدها شيئا معلوما، فلمن وجدها أخذه، لما تقدم، ولقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون عند شروطهم» وكما لو استأجره على بناء حائط، ونحو ذلك، لكن بشرط أن يلتقطها بعد أن بلغه الجعل، ليكون عمله في مقابلة الجعل، أما إن وجدها قبل بلوغ الجعل فلا شيء له؛ لأنه متبرع بعمله. وقد تضمن كلام الخرقي أمورا (منها) أنه لا يشترط العلم بالعمل، ولا المدة، وهو صحيح، بخلاف الإجارة، والحكمة ما تقدم، (ومنها) أنه لو قدر المدة، كأن قال: إن وجدتها في شهر ونحو ذلك. صح نظرا لإطلاق كلامه، لاحتمال الغرر فيها، بخلاف الإجارة على الصحيح، (ومنها) أنه لا يشترط تعيين العامل، للحاجة الداعية إلى ذلك، بخلاف الإجارة، (ومنها) أن العمل قائم مقام القبول؛ لأنه يدل عليه، أشبه الوكالة، (ومنها) أن الجعل لا بد وأن يكون معلوما، كالإجارة وغيرها من العقود، وحمل البعير في الآية معلوم عندهم، والقياس على العمل لا يصح، للحاجة الداعية ثم، بخلاف هنا، وفي المغني تخريج بجواز جهالة الجعل، إن لم يمنع(4/340)
التسليم، كقوله: من رد ضالتي فله نصفها. بخلاف: فله شيء. من قول الإمام: إذا قال الأمير في الجهاد: من جاء بعشرة رؤوس فله رأس. جاز، ومن قوله: إذا جعل جعلا لمن يدله على قلعة أو طريق، من مال الكفار مجهولا، كجارية بعينها، وقد عرف من هذا ما توافق الجعالة الإجارة فيه، وما تخالفها، وتخالفها أيضا في أن الإجارة عقد لازم، والجعالة عقد جائز، وتوافقها في أن ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة جاز في الجعالة، وما لا فلا. وظاهر كلام الخرقي أن الجعل في مقابلة الوجدان، وهو ظاهر كلام أبي البركات وغيره، فعلى هذا هي بعد الوجدان كغيرها من اللقطات، لصاحبها أخذها، ولا يجب على الملتقط مئونة ردها، وقال في المغني: إذا قال: من وجد لقطتي فله دينار. فقرينة الحال تدل على اشتراط الرد، إذ هو المقصود، لا الوجدان المجرد، وإنما ذكر الوجدان لأنه سبب الرد، فكأنه قال: من وجد لقطتي فردها علي. قلت: ولعله يريد بالرد تسليم العين، أو التمكين منها، وكذلك يريد الخرقي بالوجدان الوجدان المقصود، لا(4/341)
مجرد الوجدان، حتى لو ضاعت بعد أو تلفت استحق الجعل، لأن هذا غير مقصود قطعا، وإذا يرتفع الخلاف. ومفهوم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما تقدم أنه لو وجد اللقطة قبل بلوغ الجعل أنه لا شيء له، وكذلك في كل عمل عمله لغيره بغير جعل، لئلا يلزم الإنسان ما لم يتلزمه، ولم تطب نفسه به، إلا في صورة واحدة وهي رد الآبق، فإن فيه مقدرا على المشهور المعروف، والمختار للأصحاب.
2209 - لأنه يروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفا.(4/342)
2210 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جعل في رد الآبق إذا جاء به خارجا من الحرم دينارا، ولأن
المصلحة
تقتضي ذلك، لئلا يلحقوا بدار الحرب ويرجعوا عن دينهم، وبذلك فارقوا غيرهم، وتوقف في رواية ابن منصور فقال: لا أدري، قد تكلم الناس فيه، لم يكن عنده فيه حديث صحيح، فأخذ من ذلك أبو محمد رواية بأنه لا شيء فيه، وقال: وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله: وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى ربه ما أنفق عليه، ولم يذكر جعلا، وأقرب إلى الصحة، قياسا على غيرهم، لأن الأصل عدم الوجوب، والحديث مرسل، وفيه مقال، ولهذا قال ابن منصور عن الإمام: لم يكن عنده فيه حديث صحيح. وفي أخذ رواية من هذا نظر، لأن الواقف لا ينسب له قول، وكونه ظاهر قول الخرقي ينازع فيه أيضا، لأن الخرقي ذكر هذا في النفقات،(4/343)
وهو بصدد بيانها، لا بيان الجعل، وعلى كل حال فالمذهب الأول. وعليه اختلف في قدر الجعل، واتفق الأصحاب فيما علمته أنه إن رده من خارج المصر ففيه روايتان (إحداهما) - واختارها الخلال - أن الواجب له أربعون درهما.
2211 - اعتمادا على أن ذلك قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (والثانية) أنه دينار أو اثنا عشر درهما.
2212 - نظرا إلى أنه يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - واختلف نقل الأصحاب فيما إذا رده من المصر، ففي الهداية، والمقنع، والمحرر، أن الواجب له دينار، أو اثنا عشر درهما، وفي الخصال لابن البنا، وكتاب الروايتين، أنه عشرة دراهم، وبالغ القاضي في ذلك فقال: إن الرواية لا تختلف في ذلك، وفي المغني أنه دينار أو عشرة دراهم، وفي الكافي أنه دينار، أو اثنا عشر درهما في رواية، وفي أخرى دينار، وفي خلاف الشريف، وأبي الخطاب، والجامع الصغير، أنه دينار أو اثنا عشر درهما في رواية، وفي أخرى عشرة دراهم، وجمع الطرق أنه دينار أو اثنا عشر درهما في رواية، وفي أخرى دينار أو عشرة دراهم، وفي ثالثة دينار، وفي رابعة عشرة دراهم، وقد نقل ابن هانئ عن(4/344)
أحمد فيمن عمر قناة قوم أنه يرجع عليهم، ذكر ذلك القاضي في الغصب، من كتاب التعليق، وذكره من رواية محمد بن أبي حرب الجرجاني، وعلله بأن الآثار بمنزلة الأعيان، فكما أن يرجع بالأعيان، كذلك يرجع بالآثار، قلت: وهذا التعليل إنما يقتضي الرجوع فيما عمله، بأن يزيله، كما يرجع في الأعيان، لا أنه يرجع ببدل ذلك على مالك العين، والله أعلم.
قال: وإن كان الذي وجد اللقطة سفيها أو طفلا قام وليه بتعريفها، فإن تمت السنة ضمها إلى مال واجدها.
ش: إذا وجد اللقطة سفيه أو طفل قام وليه بالتعريف، لأن واجدها ليس أهلا للتعريف، والولي قائم مقامه، ونائب منابه، فإذا تم التعريف ضمها الولي إلى مال واجدها، وصارت كسائر ماله، لأنها من أكسابه، أشبه(4/345)
اصطياده، ونحو ذلك، وقد تضمن كلام الخرقي صحة التقاط الصبي والسفيه، وهو صحيح. لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجد لقطة ونحو ذلك، وكما يصح احتطابه وغيره، والله أعلم.
[ما يجوز التقاطه وما لا يجوز]
قال: وإذا وجد الشاة بمصر أو بمهلكة فهي لقطة.
ش: يعني فله أخذها، وهذا (إحدى الروايتين) وأشهرهما، لما تقدم من «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث زيد بن خالد فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» (والرواية الثانية) لا يلتقطها إلا الإمام، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يأوي الضالة إلا ضال» وعلى الأولى - وهي المذهب - هل يملكها بالتعريف؟ فيه روايتان قد تقدمتا، وحكم كل ما لا يمتنع من صغار السباع - الثعلب، وابن آوى، والذئب، ونحو ذلك - كفصلان الإبل، وعجول البقر، وأفلاء الخيل، والأوز، والدجاج، ونحوها - حكم الشاة فيما ذكرنا. وقد دل مفهوم كلام الخرقي على ذلك فيما بعد.(4/346)
وظاهر كلام الخرقي أنها تعرف كغيرها من اللقطات، وهو مقتضى كلام صاحب التلخيص وأبي البركات، وغيرهما، وزعم أبو محمد أن الأصحاب لم يذكروا لها تعريفا، ثم قال أبو محمد: إن واجدها يخير بين ثلاثة أشياء: (أكلها) وعليه قيمتها، (وبيعها) وحفظ ثمنها، (وحفظها) والإنفاق عليها من ماله، وهل يرجع به إن لم ينو التبرع؟ فيه روايتان، وظاهر كلام صاحب التلخيص يخالفه في الأخير؛ لأنه قال: لا يبيع بعض الحيوان للنفقة عليه؛ لأنه يفضي إلى بيع كله.
ونبه الخرقي بقوله: بمصر أو بمهلكة. على قول مالك ومن وافقه، من أنه إن وجدها بمصر أخذها وذبحها، وبمهلكة يحفظها إلى أن يجيء ربها.
(واعلم) أنها إنما تكون لقطة بالمهلكة إذا لم يعلم أن صاحبها تركها، أما لو تركها صاحبها بالمهلكة ترك الإياس منها، فليست بلقطة، وهي لمن أحياها، نص عليه، والله أعلم.(4/347)
قال: ولا يتعرض لبعير، ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه.
ش: لا يتعرض لبعير، لنص حديث زيد، ولا لما فيه قوة يمنع نفسه عن صغار السباع، كالخيل، والبغال، والبقر، لما علل به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها» «وقال في الشاة: خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» فعلل جواز أخذ الشاة بكونها معرضة للذئب، ومنع من أخذ البعير؛ لكونه معه حذاؤه فيرعى، «وسقاؤه» وهو ما يوعي في بطنه من الماء، وهو لكبر جثته لا يقدر عليه الذئب ونحوه، فيؤمن من تلفه غالبا.
2213 - وقد روى منذر بن جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: كنت مع أبي جرير، بالبوازيج في السواد، فراحت البقر، فرأى بقرة أنكرها فقال: ما هذه البقرة؟ قالوا: بقرة لحقت بالبقر.(4/348)
فأمر بها فطردت حتى توارت، ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وألحق الأصحاب بذلك الحمر، نظرا إلى صورتها، وألحقها أبو محمد بالشاة، نظرا إلى مشاركتها في علتها، وهو تعرضها للذئب، ومفارقتها للإبل في عدم صبرها على الماء، وحكم ما يمتنع من صغار السباع بطيرانه كالطيور كلها، أو بسرعته، كالظباء ونحوها، أو بنابه، كالفهد والكلب - على وجه - حكم الإبل ونحوها، نعم إن كانت الصيود متوحشة، إذا تركت ذهبت إلى الصحراء، وعجز عنها صاحبها جاز التقاطها، قاله أبو محمد، ويلحق بالإبل من غير الحيوان ما يتحفظ بنفسه كأحجار الطواحين وكبير الخشب، ونحو ذلك بطريق الأولى؛ لأن الإبل متعرضة للتلف في الجملة، بخلاف هذه.(4/349)
وقوله: ولا يتعرض لبعير. هذا في غير الإمام أو نائبه، أما الإمام أو نائبه فله أخذها ليحفظها لمالكها، لا ليتملكها.
2214 - لما روى مالك في موطئه عن ابن شهاب قال: كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إبلا مؤبلة تتناتج، ولا يمسها أحد، حتى إذا كان عثمان أمر بمعرفتها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها. والله أعلم.(4/350)
[كتاب اللقيط]
ش: اللقيط فعيل بمعنى مفعول، كجريح، وطريح وقتيل، ونحو ذلك، وهو الذي يوجد مرميا على الطرق، لا يعرف أبوه، ولا أمه، بشرط أن لا يبلغ سن التميز، أو بلغها ولم يبلغ على المذهب، وهو من فروض الكفايات، لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولأن فيه إحياء نسمة، أشبه إنجاءه من الغرق، والله أعلم.
[حرية اللقيط]
قال: واللقيط حر.
ش: نظرا إلى الأصل، لأن الله خلق آدم وذريته أحرارا، والرق عارض.
2215 - وعن سنين أبي جميلة أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: فجئت به إلى عمر فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها. فقال عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح.(4/351)
فقال: كذلك؟ قال: نعم. قال عمر: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته. رواه مالك. والله أعلم.
[النفقة على اللقيط]
قال: وينفق عليه من بيت المال، إن لم يوجد معه شيء ينفق عليه منه.
ش: ينفق على اللقيط من بيت المال، إن لم يوجد معه ما ينفق عليه، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن بيت المال وارثه، فكان نفقته عليه كقرابته، فإن تعذر ذلك،(4/352)
فعلى من علم حاله من المسلمين الإنفاق عليه، حذارا من هلاكه، كإنجائه من الغرق، أما إن وجد معه شيء فإنه ينفق عليه منه؛ لأنه محكوم له به؛ لأنه يملك، وله يد صحيحة، بدليل أنه يرث، ويورث، ويملك أن يشتري له وليه، ونحو ذلك، أشبه البالغ وإذا ينفق عليه من ماله كغيره، ويتولى الإنفاق عليه من يحضنه على المشهور، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختاره ابن حامد، وابن الزاغوني، وابن البنا، وصاحب النهاية، وغيرهم، لأن له ولاية عليه، أشبه وصي اليتيم، ولأن هذا من الأمر بالمعروف، فلا يفتقر إلى حاكم، كإراقة الخمر، وقيل عنه ما يدل على وجوب استئذانه، ونازع أبو محمد في دلالة ذلك، وعليها إن أنفق بدون إذنه ضمن. وقد أشعر كلام الخرقي بأن ما وجد مع اللقيط يكون له، وهو صحيح، كالذي يوجد في يده من نقد وغيره، أو عليه من ثياب ونحوها، أو تحته من فراش ونحوه، أو مشدودا بثيابه، قال أبو محمد: أو ما جعل فيه كخيمة أو دار، وظاهر كلام أبي البركات مخالفته، أو ما طرح قريبا منه، في وجه قطع به أبو البركات، وأبو محمد في الكافي،(4/353)
وصححه في المغني، عملا بالظاهر، وفي آخر - وأورده أبو الخطاب مذهبا - لا يكون له كالبعيد، أو دفن تحته، على احتمال في الهداية، كالطرح بقربه، وعلى ما أورده فيها مذهبا، وقطع به ابن البنا لا يكون له، كالبالغ فإنه لو كان تحته دفين لم يكن له، وتوسط أبو البركات، متابعة لابن عقيل، فجعله له بشرط طراوة الدفن، اعتمادا على القرينة، والله أعلم.
[ولاء اللقيط]
قال: وولاؤه لسائر المسلمين.
ش: يعني ميراثه، شبهه بالرقيق لعدم معرفة نسبه، وأراد «بسائر» جميع، جريا على قاعدته، وإنما كان كذلك لأنهم يرثون مال من مات ولا وارث له، واللقيط كذلك، وقد دل كلام الخرقي على أن ولاءه لا يكون لملتقطه، وهو صحيح.
2216 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الولاء لمن أعتق» وحديث عمر قيل: أراد بالولاء الولاية عليه، جمعا بين الأدلة.
2217 - وحديث «تحوز المرأة ثلاثة مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه. قال ابن المنذر: لا يثبت. والله أعلم.(4/354)
قال: وإن لم يكن من وجد اللقيط أمينا منع من السفر به.
ش: إذا لم يكن الذي وجد اللقيط أمينا - كأن كان فاسقا - منع من السفر به، حذارا من ادعاء رقه أو بيعه، ونحو ذلك، وكذلك إن كان مستور الحال، في وجه اختاره في الكافي، احتياطا ونظرا لجانب اللقيط، لأنا لا نأمن خيانته، وفي آخر يجوز أن يسافر به كما يقر في يده، إذ الظاهر من حال المسلم الأمانة، وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يقر في يد الفاسق في الحضر، وهو أحد الوجهين؛ لأنه قد سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فيكون أحق به، ولأنه أهل للحفظ في الجملة، بدليل صحة إيصائه، (والثاني) - واختاره القاضي، وأبو البركات وغيرهما - لا يقر في يده؛ لأنه نوع ولاية، وليس من أهلها، وعلى الأول قال أبو محمد: يضم إليه أمين يشارفه، ويشهد عليه، ويشيع(4/355)
أمره، ليؤمن التفريط فيه، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط شيء من ذلك، وكذلك أجراه صاحب التلخيص وغيره على ظاهره.
ومفهوم كلامه أنه إذا كان من التقطه أمينا أقر في يده، وسافر به، أما الإقرار في يده، فلا نزاع فيه، لحديث عمر، لكن يشترط كونه حرا، مكلفا، مسلما، رشيدا، فلا يقر في يد عبد، وإن كان مكاتبا، لعدم تفرغه للحضانة، ولا في يد صبي، ولا مجنون، لأنهم مولى عليهم، لا أن لهم ولاية، ولا في يد كافر وإن أقر في يد الفاسق، لأن خطر الدين عظيم. نعم حيث حكم بكفر اللقيط أقر في يده، لزوال المانع، ولا في يد مبذر، وإن لم يكن فاسقا، قاله في التلخيص؛ لأنه ليس بأهل للأمانات الشرعية، وأما السفر به فيجوز للأمن عليه، لكن إن أراد السفر للنقلى، فإن كان من بدو إلى حضر جاز؛ لأنه أرفه له، وأومن عليه، وإن كان من حضر إلى بدو منع، حذارا من المشقة، والخوف عليه، وإن كان من حضر إلى حضر فوجهان، الجواز للاستواء، والمنع لأن ظهور نسبه في محل التقاطه أغلب، ولم يعارض ذلك ما يرجح عليه من رفاهيته، والأمن عليه، والله أعلم.(4/356)
[ادعى اللقيط مسلم وكافر]
قال: وإذا ادعى اللقيط مسلم وكافر، أري القافة، فبأيهما ألحقوه لحق.
ش: إذا ادعى اللقيط مسلم وكافر، أو حر وعبد، أي ادعوا نسبه، فهما سواء في الدعوى، كما تضمنه كلام الخرقي، ونص عليه أحمد، وعليه الجمهور، لأن كل واحد منهما لو انفرد صحت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا بالدعوى، كالأحرار المسلمين، وحكى ابن أبي موسى وجها أن الكافر والحال هذه لا يلتفت إلى دعواه إلا ببينة، ثم إن كان لأحدهما بينة حكم له، وإن تساووا في البينة أو عدمها أري القافة معهما، فأيهما ألحقته به لحق.
2218 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: «ألم تريْ أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» رواه الجماعة، وفي رواية لمسلم وغيره «قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما» وفي لفظ: قالت «دخل قائف والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهد، وأسامة بن زيد، وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: إن هذه الأقدام(4/357)
بعضها من بعض. فسر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعجبه، وأخبر به عائشة» ، متفق عليه.
2219 - قال أبو داود: وكان أسامة أسود، وكان زيد أبيض. فسروره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وإخباره به، دليل الاعتماد عليه، ولأنه يحصل غلبة الظن، أشبه البينة، ويؤيد ذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم بذلك في خلافته كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولم ينكره منكر.
وقد نبه الخرقي بذكر هذه المسألة على تساوي المسلم والكافر في الدعوى، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تقديمه المسلم، وعلى أن القافة تعتبر، خلافا للشافعي، واقتصاره على الاثنين يحتمل لأنه يجوز أن يلحق بهما، ولا يلحق بأكثر منهما، وهو قول ابن حامد، قصرا على مورد النص.(4/358)
2220 - وهو ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما.
2221 - وعن علي: هو ابنهما، وهما أبواه، يرثهما ويرثانه. رواهما سعيد، وقال أحمد: حديث قتادة، عن سعيد، عن(4/359)
عمر: جعله بينهما وقابوس، عن أبيه، عن علي: جعله بينهما. ونص أحمد في رواية مهنا أنه يلحق بثلاثة، فاقتصر القاضي على ذلك، ومال الشيخان إلى إلحاقه بما زاد على الثلاثة؛ لأنه إذا جاز أن يخلق من اثنين، كما شهد به قضاء الصحابة، جاز أن يخلق من ثلاثة وأكثر.
(تنبيه) : يعتبر للقائف الذكورية، والعدالة لأنه إما بمنزلة الشاهد، أو الحاكم والمعنيان معتبران فيهما، وأن يكون مجربا في الإصابة، ليحصل الظن بقوله، وهل يكفي قائف واحد، ومجرد خبره، تنزيلا له منزلة الحاكم، أو لا بد من(4/360)
اثنين، ولفظ الشهادة، تنزيلا لهما منزلة الشاهدين؟ فيه روايتان، وفي اعتبار الحرية وجهان، بناء على الأصلين، والله أعلم.(4/361)
[كتاب الوصايا]
ش: الوصايا جمع وصية، كالعطايا جمع عطية، قال الأزهري: سميت الوصية وصية لأن الميت لما أوصى وصل ما كان فيه من أيام حياته، بما بعده من أيام مماته، والأصل فيها قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] .
2222 - وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» رواه الجماعة.
2223 - وعن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم، عند وفاتكم زيادة في حسناتكم، ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم» رواه الدارقطني.(4/362)
[الوصية للوارث]
قال: ولا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة.
2224 - ش: عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» رواه الخمسة إلا النسائي، وحسنه الترمذي.(4/363)
2225 - وعن عمرو بن خارجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، رواه الخمسة إلا أبا داود، وصححه الترمذي.
2226 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة» .
2227 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» رواهما الدارقطني.(4/364)
وقول الخرقي: ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة. ظاهره أن الوصية صحيحة، موقوفة على إجازة الورثة، فتكون إجازتهم تنفيذا، وهذا هو المشهور المنصور في المذهب، حتى إن القاضي في التعليق، وأبا الخطاب في خلافه الصغير، وأبا البركات، وجماعة لم يذكروا في المسألة خلافا، اعتمادا على حديثي ابن عباس وعبد الله بن عمرو، فإن مقتضاهما أن الوصية للوارث صحيحة، إذا أجازت الورثة، (وعنه) ما يدل على أن الوصية باطلة، أخذا من إطلاقه في رواية حنبل: لا وصية لوارث. وفيه نظر، فإذا إجازة الورثة ابتداء عطية، اعتمادا على أن(4/365)
الصحيح في الرواية كما تقدم «لا وصية لوارث» وظاهره نفي الوصية مطلقا، وللخلاف فوائد، (منها) إذا قلنا: إنها تنفيذ. لزمت بدون القبول والقبض، وإن اعتبرنا القبض في الهبة، وتصح مع جهالة المجاز، ومع كون المجاز وقفا على المجيز، وإن قلنا: وقف الإنسان على نفسه لا يصح. ولو كان المجاز عتقا، كما لو تأخر العتق عن وصايا استغرقت الثلث، وقلنا: يبدأ بالأول فالأول على المذهب. فإن ولاءه للموصي؛ لأنه المعتق، فتختص به عصبته، ولو كان المجيز والد المجاز له، كما لو وهب ثلث ماله، ثم وصى لأخيه بماله، فأجاز ذلك الأب، لم يكن له الرجوع في المجاز به؛ لأنه ليس بهبة منه، وهو إنما يرجع فيما وهبه لولده، ولو جاوز المجاز الثلث زاحم ما لم يجاوزه، كما لو كان ثلثه مثلا خمسين، فأوصى لرجل بمائة درهم، ولآخر بخمسين، ولآخر بخمسين، وأجاز الورثة الجميع، فإن المال - وهو المائة وخمسون - يقسم بينهم أرباعا، لأن الوصية صحت في الجميع. وعلى الرواية الأخرى تنعكس هذه الأحكام، فلا بد من القبول والقبض في المجاز، حيث اعتبرنا القبض في الهبة،(4/366)
لافتقارها إليهما، ويشترط كون المجاز معلوما، إذ العلم شرط في صحة الهبة، ولو كان المجاز وقفا على المجيز، كما لو وقف داره على ورثته، وهما ابناه، فأجازا ذلك، لم يصح إن لم يصح وقف الإنسان على نفسه، لأن الوقف حصل منهما، ولو كان المجاز عتقا كان ولاؤه للمجيز؛ لأنه المعتق حقيقة لا للموصي، ولو كان المجيز والد المجاز له، جاز له الرجوع فيما أجازه له؛ لأنه هبة منه، ولو جاوز المجاز الثلث لم يزاحم ما لم يجاوزه، ففي الصورة التي ذكرناها ثم، يقسم المال بين المجاز لهم أثلاثا، لأن لصاحب المائة منها خمسون، والخمسون الزائدة على الثلث هبة مبتدأة من المجيزين، ولم يحصل لهم شيء يهبونه، وقد يقال: إن عدم المزاحمة إنما هو في الثلثين، لأن الهبة تختص بهما، والمجيز يشرك بينهما فيهما، أما الثلث فيقسم بينهم على قدر أنصابهم.
وعلى الروايتين يعتبر إجازة المجيز في مرضه من ثلثه، أما على الرواية الثانية فواضح، وأما على الأولى فلأنه تمكن من أخذ المال، وقد وجد سببه في حقه، فتسببه في إسقاطه بمنزلة(4/367)
تلفه، أشبه ما لو حاباه في بيع له فيه خيار، ثم أجازه في مرضه، فإن محاباته تعتبر من الثلث.
واعلم أنه يستثنى من كلام الخرقي الوصية بالوقف على الوارث، فإنه يلزم في الثلث فما دون، على رواية وقد تقدمت، والله أعلم.
[الوصية لغير الوارث بأكثر من الثلث]
قال: ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز، وإن لم يجيزوا رد إلى الثلث.
ش: لا تجوز الوصية لوارث مطلقا، [لما تقدم] ، ولا لأجنبي بزائد على الثلث.
2228 - لما روي «عن سعد بن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني من وجع اشتد به، فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: «لا» قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» رواه الجماعة، فإن خالف ووصى للأجنبي بأكثر من الثلث، وأجاز ذلك الورثة نفذ، لأن(4/368)
الحق لهم لا يعدوهم، وهل إجازتهم تنفيذ - بناء على أن الوصية صحيحة - أو ابتداء عطية - بناء على أنها باطلة؟ على ما تقدم من الخلاف في التي قبلها، وإن لم يجيزوا صح الثلث فقط، لما تقدم من حديث سعد، وحديث أبي الدرداء: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، وشرط نفوذ إجازتهم وردهم أن يكون بعد موت الموصي، لأن الحق إنما يثبت لهم إذا، أما قبل ذلك فلا عبرة بذلك؛ لأنه تصرف في الحق قبل ثبوته.
قال: ومن أوصي له وهو في الظاهر وارث، فلم يمت الموصي حتى صار الموصى له غير وارث فالوصية له ثابتة، لأن اعتبار الوصية بالموت.
ش: إذا أوصى لشخص في الظاهر أنه وارث - كما إذا أوصى لأحد أخويه من أبويه ثم تجدد له ولد - فإن الوصية والحال هذه صحيحة ثابتة، لأن الأخ عند الموت غير وارث، والاعتبار في الوصية بالموت؛ لأنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث، والموصى له، وقد فهم من تعليل الخرقي عكس هذه الصورة وهو ما إذا أوصى لغير وارث، فصار عند الموت وارثا، كما إذا أوصى لأحد أخويه وله ابن، ثم مات الابن قبل أبيه، فإنا تبينا أن الوصية(4/369)
لوارث، فلا تكون ثابتة، بل تقف على الإجازة لما تقدم.
[ما تبطل به الوصية]
قال: وإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية.
ش: لأن الوصية عطية بعد الموت، وقد صادفت المعطى ميتا فلم تصح، كما لو وهب لميت، وقد فهم من هذا أن الوصية لا تصح لميت، [وهو صحيح] لأنه ليس بأهل للملك، أشبه البهيمة.
قال: وإن رد الموصى له الوصية بعد موت الموصي بطلت الوصية.
ش: لأنه أسقط ما له أخذه فيسقط، كما لو عفى عن شفعته بعد البيع، ومراد الخرقي - والله أعلم - إذا كان الرد(4/370)
قبل القبول، أما لو كان بعد القبول والقبض فإن الرد لا يصح، والوصية بحالها، لاستقرار ملكه عليها، وكذلك لو كان بعد القبول وقبل القبض، على ظاهر كلام جماعة من الأصحاب وأورده أبو البركات مذهبا، وقال أبو محمد في المغني: إن كان الموصى به مكيلا، أو موزونا صح الرد وبطلت الوصية، لعدم استقرار الملك، وإن كان غيرهما ففي صحة الرد وعدمه قولان، بناء على اعتبار القبض في ذلك وعدمه، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو وجد الرد قبل الموت لم يصح ولم يعتبر، وهو صحيح، إذ الحق إنما يثبت له بالموت، والله أعلم.
قال: وإن مات قبل أن يقبل [أو يرد] قام وارثه في ذلك مقامه، إذا كان موته بعد موت الموصي.
ش: إذا مات الموصى له قبل أن يقبل أو يرد قام وارثه في الرد والقبول مقامه، في إحدى الروايتين، نقله عنه صالح، واختاره الخرقي، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ترك حقا فلورثته» والقبول حق للمورث، فثبت للوارث، كبقية الحقوق، (والرواية الثانية) لا يقوم الوارث مقامه، ويبطل(4/371)
حقه من القبول عليها، نقلها عبد الله، وابن منصور، واختارها ابن حامد، والقاضي، والشريف، وأبو الخطاب، والشيرازي، وغيرهم؛ لأنه عقد يفتقر إلى القبول، فإذا مات من له القبول قبله بطل العقد كالهبة، ولأنه خيار لا يعتاض عنه، أشبه خيار الشفعة، وخياري الشرط والمجلس على المذهب، ولهذا قال القاضي: إن هذا قياس المذهب. وحكى الشريف، وأبو الخطاب وجها أنها تنتقل والحال هذه إلى الوارث بلا قبول، نظرا - والله أعلم - بأن القبول لما تعذر ممن له الإيجاب سقط اعتباره، لمكان العذر، كما لو كانت الوصية للمساكين.
وقول الخرقي: إذا كان موته بعد موت الموصي. احترازا مما إذا كان موته قبل موت الموصي وقد تقدم، وقد أشعر كلامه بأن الوصية والحال هذه لا تملك إلا بالقبول، ولا خلاف نعلمه عندنا في ذلك، إذا كانت لآدمي معين، [إلا الوجه المحكي قبل، وذلك لأنها هبة بعد الموت، فافتقرت إلى القبول كالهبة في الحياة، قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الهبة والوصية واحد. ولو كانت الوصية لآدمي غير معين] كالمساكين، أو لغير آدمي كالمساجد، فلا قبول إناطة بالعذر.(4/372)
وربما أشعر كلامه أيضا بأن القبول لا تشترط الفورية فيه، بل يصح وإن تراخى، وهو صحيح، والله أعلم.
[حكم من أوصى له بسهم من ماله]
قال: وإذا أوصى له بسهم من ماله أعطي السدس، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: يعطى سهما مما تصح منه الفريضة.
ش: الرواية الأولى اختيار القاضي، وأصحابه الشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي وغيرهم.
2229 - لأن ذلك يروى عن علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة.
2230 - ويروى عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أوصى لرجل بسهم من المال، فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس» .(4/373)
2231 - وعن إياس بن معاوية: السهم في كلام العرب السدس. فعلى هذا يعطى سدسا كاملا، إن لم تكمل فروض المسألة، وإن كملت أعيلت به، وإن عالت أعيل معها، قال أحمد في رواية حرب، وابن منصور: له السدس إلا أن تعول الفريضة، فيعطى سهما من العول. والرواية الثانية ظاهر كلام الإمام في رواية الأثرم، وأبي طالب، لأن «سهما» ينصرف إلى سهام فريضته، أشبه ما لو قال: فريضتي كذا وكذا سهما، لك منها سهم. وعلى هذا يعطى سهما مما تصح منه الفريضة، مضافا إليها، وعن أحمد (رواية ثالثة) اختارها الخلال وصاحبه: له مثل(4/374)
ما لأقل الورثة، والأقل منها هو اليقين، ثم إن أبا البركات وجماعة من أصحابه على إطلاق هاتين الروايتين، نظرا لإطلاق الإمام، وقيدهما أبو محمد - متابعة للقاضي - بأن لا يزيد السهم أو النصيب على السدس، فإن زاد عليه ردا إليه. ولنذكر أمثلة تتضح بها المسألة، فلو مات رجل وخلف أما وبنتين، وأوصى بسهم من ماله، فعلى الرواية الأولى تكمل به المسألة، إذ مسألتهم أصلها من ستة، ترجع بالرد إلى خمسة، فيزاد إليها السهم الموصى به وهو السدس، فتصير من ستة، وكذلك على الثانية والثالثة، ولو كانت المسألة أما وأختا، فهي من خمسة، للأم الثلث سهمان،(4/375)
وللأخت النصف ثلاثة، فيضاف إليها السدس على الأولى، فتكمل المسألة، وكذا على الثانية، وعلى الثالثة يضاف إليها مثل نصيب الأم؛ لأنه أقل نصيب وارث له إذا فتصير من سبعة، وعلى رأي القاضي يكون له السدس، لأن النصيب زاد عليه، ولو كانت المسألة ابنتان وأبوان، فهي من ستة، وتعول بالسهم الموصى به إلى سبعة، على الروايات الثلاث [ولو كانت المسألة أختان لأبوين، وأختان لأم، وأم، فأصلها من ستة، وتعول إلى سبعة، وتعول بالسهم الموصى به إلى ثمانية، على الروايات الثلاث] أيضا، ولو كانت المسألة ثلاث أخوات لأبوين، وأخوان وأختان لأم، وأم، فهي من ستة، وتعول إلى سبعة أيضا، فعلى الرواية الأولى تعول بالسهم الموصى به وهو السدس إلى ثمانية، وتصح من ثمانية وأربعين، للأخوات للأبوين أربعة وعشرون، وللأخوة والأخوات للأم اثنا عشر، وللأم ستة، وللموصى له ستة، وعلى الثانية تصح المسألة من اثنين وأربعين، يزاد إليها السهم، فتصير من ثلاثة وأربعين،(4/376)
وعلى الثالثة تصح أيضا من اثنين وأربعين، يزاد إليها أقل أنصباء الورثة، وهو سهمان، فتصير من أربعة وأربعين، ولو كانت المسألة زوجا وابنا، فعلى الرواية الأولى تصح من اثني عشر، للزوج ثلاثة، وللموصى له بالسهم اثنان، والباقي للابن، وكذلك على رأي القاضي على الروايتين الأخيرتين، وعلى رأي المطلقين تصح من خمسة، والله أعلم.
[الحكم لو أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه]
قال: وإذا أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه، كان له مثل ما لأقلهم نصيبا.
ش: لأن الأقل هو المتيقن، وما زاد مشكوك فيه.
قال: كأن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته، وهم ابن، وأربع زوجات، فتكون صحيحة من اثنين وثلاثين سهما، للزوجات الثمن، وهو أربعة، وما بقي فللابن، فزد في سهمان الفريضة مثل حظ امرأة من نسائه، فتصير الفريضة من ثلاثة وثلاثين سهما، للموصى له سهم، ولكل امرأة سهم، وما بقي فللابن.
ش: هذا مثال للمسألة، وهو واف بالمقصود، وإنما صحت المسألة من اثنين وثلاثين، لأن أصلها من ثمانية، للزوجات(4/377)
الثمن، وهو واحد، غير صحيح عليهن، فتضرب أربعة في ثمانية، فتصير من اثنين وثلاثين، ثم تعمل كما ذكره الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو كانت المسألة زوجا وأبوين وابنا، صحت من اثني عشر، للزوج الربع، ولكل واحد من الأبوين السدس اثنان، والباقي للابن، فتزيد عليها مثل نصيب أقل الورثة، وهو أحد الأبوين، فتصير من أربعة عشر، هذا إن اختلفت أنصباء الورثة، فإن اتفقت كان له مثل نصيب أحدهم، فإذا خلف ثلاثة بنين، فمسألتهم من ثلاثة، فتزيد عليها مثل نصيب أحدهم، فتصير من أربعة، ولو سمى الوارث فسيأتي إن شاء الله تعالى، ولو قال: مثل نصيب أكثر ورثتي. كان له مثل نصيب ذلك الوارث، مضافا إلى المسألة، ففي مثال الخرقي يكون له ثمانية وعشرون سهما، لأنها أكثر نصيب وارث وهو الابن، فتضاف إلى المسألة، فتصير من ستين، وفي الثانية يكون له خمسة، فتصير المسألة من سبعة عشر، ولو كانت الوصية بنصيب وارث معين له كابنه مثلا، ولم يقل: بمثل نصيبه. فهل يصح ويجعل كما لو صرح بالمثلية؟ وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، ومال إليه الشيخان، محافظة على تصحيح كلام المكلف بحمله على حذف مضاف، وهو المثل، أو لا يصح؟ وعزاه أبو(4/378)
محمد إلى القاضي، وأظنه قاله في المجرد، نظرا إلى الحقيقة، وإذا لا يصح لأن نصيب الوارث ليس له التصرف فيه، والله أعلم.
قال: وإذا خلف ثلاثة بنين، وأوصى لآخر بمثل نصيب أحدهم، كان للموصى له الربع.
ش: لأن له مثل نصيب أحدهم مضافا إلى المسألة؛ لأنه جعل الوارث أصلا، وجعل للموصى له مثله، فاقتضى أن يساويه ولا يزيد عليه، ولو كان البنون أربعة، كان للموصى له الخمس، وعلى هذا، فلو خلف ابنين وأوصى لاثنين بمثل نصيبهما كانت المسألة من أربعة، والله أعلم.
[الحكم فيمن أوصى بعدة وصايا والمال لا يكفي]
قال: وإذا أوصى لزيد بنصف ماله، ولعمرو بربع ماله، ولم تجز الورثة، فالثلث بينهما على ثلاثة أسهم، لعمرو سهم، ولزيد سهمان.
ش: قد تقدم أن للإنسان أن يوصي بالثلث لغير الوارث، وما زاد على ذلك يقف على إجازة الورثة، فإذا أوصى لزيد بنصف ماله، ولعمرو بربعه، وخلف ابنين فأجازا، فأصل المسألة من أربعة، وتصح من ثمانية، لزيد النصف أربعة،(4/379)
ولعمرو الربع اثنان. ولكل ابن واحد، وإن ردا أخذت النصف والربع ثلاثة، من مخرجهما وهو أربعة، وتجعل الثلاثة ثلث المال، فتصير المسألة من تسعة، وإنما قسم الثلث بينهما على قدر نصيبهما لأن الموصي فاضل بينهما فلم يسو بينهما، كالوصية بثلث وربع، وهذا لأن على قاعدتنا أن الوصية صحيحة، فالمتبع فيها لفظ الموصي، ويخرج على قول لنا - أن الوصية بما زاد على الثلث باطلة - أن الموصى له بالنصف لا يضرب بأكثر من الثلث، لبطلان الزائد على ذلك، وهو قول الحنفية، وإذا يؤخذ الثلث والربع من مخرجهما اثني عشر، وذلك سبعة، فيجعل ثلث المال، فتكون المسألة من أحد وعشرين، وعلى هذا فقس، والله أعلم.
قال: وإذا أوصى لولد فلان فهو للذكر والأنثى بالسوية.
ش: قد حكي الاتفاق على ذلك، إذ الاسم يشمل الجميع، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] نفى الذكر والأنثى جميعا، ويدخل الخنثى أيضا في ذلك؛ لأنه ولد، ولا يدخل ولد بناته اتفاقا، وهل يدخل فيه ولد بنيه؟ فيه روايتان.(4/380)
قال: وإن قال لبنيه. كان للذكور دون الإناث.
ش: أي لبني فلان أو لبني، لاختصاص الاسم بهم دون الإناث، قال سبحانه: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153] وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16] وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] وهذا إذا لم يكونوا قبيلة، فإن كانوا قبيلة - كما إذا أوصى لولد هاشم، أو بني تميم - دخل فيه الذكر والأنثى، والخنثى، لأن ذلك اسم للقبيلة ذكرها وأنثاها، قال تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] وقال: {يَابَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] ولا يدخل فيه ولد بناتهم من غيرهم، لأنهم لا ينسبون إليهم.
[الوصية بالحمل وللحمل]
قال: والوصية بالحمل وللحمل جائزة، إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالوصية.
ش: أما الوصية بالحمل فجائزة إذا كان مملوكا وعلم وجوده، أو حكم به حال الوصية، كما سيأتي بيانه إن شاء(4/381)
الله تعالى، إذ غايته أنه غرر، وذلك لا يمنع صحة الوصية كعتقه، وذلك لأن نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغرر مختص بالبيع، وما في معناه، حذارا من أكل مال الغير بالباطل. واشترط كونه مملوكا لأن الوصية بملك الغير باطلة، واشترط العلم أو الحكم بوجوده، وإلا لاحتمل حدوثه، فلا تتعلق الوصية به، نعم لو وصى بما تحمل جاريته ونحوها صحت، لأن لفظه مستقبل. وأما الوصية للحمل فجائزة أيضا، قياسا على إرثه، بجامع انتقال المال من الإنسان بعد موته بغير عوض، بل أولى، لصحتها للمخالف في الدين والعبد، بخلاف الإرث، وشرط صحتها أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حين الوصية، ليعلم وجوده حال الوصية، إذ التمليك لا يصح لمعدوم، كذا قال الجمهور، ومنهم أبو محمد في الكافي، وفي المغني قيده بأن تضعه لستة أشهر فما دون، وليس بجيد، لأنها إذا وضعته لستة أشهر احتمل حدوثه حال الوصية، فلم تصادف الوصية موجودا يقينا، وقد انعكس ذلك على ابن المنجا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى فقال: لا بد من ذكر ستة أشهر، معتمدا على ما في المغني، ومعللا بأنها إذا(4/382)
وضعته لستة أشهر علم وجوده حال الوصية، وقد تقدم رده. انتهى، أما إن وضعته لأكثر من ذلك لم تصح الوصية له على مقتضى كلام الخرقي، وأورده أبو البركات مذهبا؛ لأنه لا يعلم وجوده حال الوصية، وسبب الانتقال إلى الورثة قد وجد يقينا، فلا يزول عنهم بالشك والاحتمال، وقيل: إن وضعته لزوج أو سيد ولم يلحقهما نسبه إلا بتقدير وطء قبل الوصية صحت؛ لأنه والحال هذه قد حكم بوجوده ظاهرا حال الوصية، إذ حال المسلم إنما يحمل على الصلاح، وإلا فلا لما تقدم، وهذا الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني، لكنه لم يفصح بتنقيح الحكم. واعلم أن من شرط الوصية بالحمل وللحمل أن تضعه حيا، إذ الميت لا يصح تملكه ولا تمليكه، والله أعلم.
قال: وإذا أوصى بجارية لبشر، ثم أوصى بها لبكر، فهي بينهما.
ش: لأن الأصل بقاء وصية الأول، فالظاهر أنه يسوي بينهما في الاستحقاق، فإذا تقسم العين بينهما مع وجودهما،(4/383)
لاستوائهما في سبب الحق، ويختص بها أحدهما مع موت الآخر، لزوال المزاحمة، والله أعلم.
قال: وإن قال: ما أوصيت به لبشر فهو لبكر. كانت لبكر.
ش: لأن هذا دليل على الرجوع في وصية الأول، والوصية بها للثاني، فعمل على مقتضاه، بخلاف التي قبلها، فإنه يحتمل الرجوع والاشتراك في الاستحقاق، والأصل عدم الرجوع. وقد تضمن هذا صحة الرجوع في الوصية، وهو إجماع إلا في الرجوع بالوصية بالعتق، فإن في الرجوع فيه خلافا ومذهبنا جوازه، والله أعلم.
قال: ومن كتب وصيته ولم يشهد فيها حكم بها، ما لم يعلم رجوعه عنها.
ش: إذا كتب وصيته ولم يشهد فيها، وعرف خطه، فإنه ينفذ ما فيها، ما لم يعلم رجوعه عنها، نص عليه أحمد، واعتمده الأصحاب، لما تقدم من حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا(4/384)
ووصيته مكتوبة عند رأسه» وظاهره إفادة الكتابة وإن لم يشهد بما فيها، ولأن ذلك طريق يغلب على الظن صحة الوصية، أشبه الشهادة بها، وخرج ابن عقيل، وأبو البركات رواية بعدم الصحة، أخذا من قوله فيمن كتب وصيته وختمها وقال: اشهدوا بما فهيا. أنه لا يصح، وقد يفرق بأن الشهادة شرطها أن تقع على العلم، وما في الوصية والحال هذه غير معلوم، فلا تصح الوصية به، أما لو وقعت الوصية على أنه وصى فليس في نص الإمام ما يمنعه، ثم بعد ذلك يعمل بالخط بشرطه، ولهذا قال ابن حمدان: ومن وجدت وصيته بخطه صحت، نص عليه، وقيل: لا. فلو ختمها وأشهد بما فيها لم يصح، نص عليه، وقيل: بلى. انتهى، أما إن عين للشاهد ما فيها فلا إشكال في صحة ذلك، والعمل عليه، ما لم يعلم الرجوع عنها. والله أعلم.
[الوصية في مرض الموت]
قال: وما أعطى في مرضه الذي مات فيه فهو من الثلث.
ش: ما أعطى في مرضه الذي مات فيه - من عتق، وهبة مقبوضة، ومحاباة، وصدقة، ووقف، وإبراء - فهو من(4/385)
الثلث، لما تقدم في حديث أبي الدرداء «إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، مفهومه المنع مما زاد على الثلث.
2232 - وفي مسلم وغيره عن عمران بن حصين «أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» وشرط المرض أن يكون مخوفا، قاطعا بصاحبه، كذات الجنب، والرعاف الدائم، والقيام المتدارك ونحوها، فإن كان غير مخوف كالرمد، ووجع ضرس، والصداع، ونحوه، فحكمه حكم الصحيح، عطيته من رأس المال، وإن اتصل به الموت، وكذلك إن كان مخوفا، لكنه لم يقطع بصاحبه، كالجذام، والسل في ابتدائه، ونحوهما على الصحيح من(4/386)
الروايتين وقد تضمن كلام الخرقي أن عطية الصحيح من رأس ماله، ولا نزاع في ذلك، والله أعلم.
قال: وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر.
ش: يعني تكون عطيتها من الثلث لدخولها في شهور ولادتها، ووجود الخوف عليها، والمشهور من الروايتين أنها لا تصير عطيتها من الثلث إلا إذا ضربها المخاض، لأنها إذا يتحقق الخوف عليها، بخلاف ما قبل ذلك، والله أعلم.
[وصية الصبي المميز]
قال: ومن جاوز العشر سنين فوصيته جائزة إذا وافق الحق.
ش: تصح وصية من لم يبلغ على المذهب المنصوص.
2233 - لما روي أن صبيا من غسان، له عشر سنين، أوصى لأخوال له، فرفع ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأجاز وصيته. رواه سعيد.(4/387)
2234 - وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، أن عمرو بن سليم أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن هاهنا غلاما يفاعا، لم يحتلم، وورثته بالشام، وهو ذو مال، وليس له هاهنا إلا ابنة عم له، فقال عمر: فليوص لها. فأوصى لها بمال يقال له: «بئر جشم» ، قال عمرو بن سليم فبعت ذلك بثلاثين ألفا، وابنة عمه التي أوصى هي أم عمرو بن سليم، قال أبو بكر: وكان الغلام ابن عشر، أو اثنتي عشرة سنة، وهذه قضية في مظنة(4/388)
الشهرة، ولأنه تصرف تمحض نفعا للصبي، من غير ضرر يلحقه عاجلا ولا آجلا، أشبه صلاته وإسلامه، وبهذا فارق الهبة لأن الضرر قد يلحق بها في الآجل. وفي المذهب وجه آخر: لا تصح وصيته حتى يبلغ؛ لأنه تبرع بالمال، أشبه هبته، وعلى المذهب، فلا بد أن يكون مميزا، إذ غير المميز في معنى المجنون، فلا عبرة بكلامه، ثم من الأصحاب من لم يقيد ذلك بسن، كالقاضي وأبي الخطاب، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني، ومنهم من قيده بعشر، كالخرقي، وابن أبي موسى، وأبي بكر فيما حكاه عنه الشريف، نظرا لمنصوص أحمد في رواية حنبل وصالح، فإنه قيد الغلام بعشر، والجارية بتسع، اعتمادا على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال الشريف، ومن الأصحاب من قيده بسبع وهو رواية أخرى عن أحمد، وحكى ابن المنذر عن الإمام التقييد باثنتي عشرة سنة.(4/389)
وقول الخرقي: إذا وافق الحق. قيد في جميع الوصايا، وإن كانت من بالغ، وإنما نص على ذلك هنا اتباعا لمنصوصات الإمام، وذلك لأنه في مظنة مخالفة الحق، بخلاف البالغ، والله أعلم.
قال: ومن أوصى لأهل قرية، لم يعط من فيها من الكفار إلا أن يذكرهم.
ش: يعني والله أعلم من المسلمين، نظرا إلى أن حال المسلم يقتضي بر المسلم، ومنع الكافر، والعام كثيرا ما يطلق ويراد به الخصوص، وقد قام دليل ذلك وهو قرينة الحال، فعلى هذا لا يعطى من فيها من الكفار، وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنهم لا يعطون وإن لم يكن فيها إلا مسلم واحد، لجواز إطلاق العام، وإرادة الواحد، قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] أريد به واحد، ومال أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنهم يعطون، نظرا إلى أن إطلاق العام وإرادة واحد قليل، مع ما انضم إلى ذلك من مخالفة العموم.(4/390)
ولا نزاع في دخول الكفار، إذا صرح بذلك، إذ لا اعتبار لمقتضى الحال مع التصريح بخلافه، وكذلك لو تعذر الحمل على الخصوص، كما إذا لم يكن في القرية مسلم أصلا، وحكم الكافر إذا أوصى لأهل قريته كذلك، في أنه يدخل كافرها الموافق له في دينه، وفي دخول كافرها المخالف له في دينه احتمالان، ولا يدخل مسلمها لما تقدم، وقيل: يدخل، حذارا من كون الإسلام سببا للمنع من غير نص يمنعه، والله أعلم.
[الوصية بجميع المال]
قال: ومن أوصى بكل ماله - ولا عصبة له ولا مولى - فجائز، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: لا يجوز إلا الثلث.
ش: الرواية الأولى نص عليها في رواية المروذي [وحرب] ، واختارها القاضي، والشريف، وأبو الخطاب، والشيرازي، وأبو محمد، وغيرهم، لظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» علل المنع بخشية فقر الوارث، وهذا لا وارث له يخشى فقره.(4/391)
2235 - واعتمد أحمد على أن ذلك يروى عن ابن مسعود. (والثانية) : نص عليها في رواية ابن منصور.
2236 - معتمدا على أن ذلك قول زيد، ومعللا بأن بيت المال له عصبة، وهو مفهوم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، قال أبو الخطاب في الانتصار: وهي صريحة في منع الرد، وتوريث ذوي الأرحام. وقول الخرقي: ولا عصبة له ولا مولى. تبع فيه لفظ أحمد في رواية المروذي: فإنه قال: إذا لم يكن له عصبة أو مولى فله أن يضع ماله حيث شاء. وغيرهما يترجم المسألة: إذا(4/392)
أوصى من لا وارث له. لأن ذا الفرض يأخذ البعض بالفرض، والباقي بالرد، فهو كالعاصب، ولهذا منع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدا أن يوصي بأكثر من الثلث، نعم، إن كان ذو الفرض لا يرد عليه، - كالزوجين - جازت الوصية فيما زاد عن نصيبه على المذهب، والله أعلم.
قال: ومن أوصى لعبده بثلث ماله، فإن كان العبد يخرج من الثلث عتق، وما فضل من الثلث بعد عتقه فهو له، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة.
ش: إذا أوصى لعبده بثلث ماله صح، لأنها وصية تضمنت العتق بثلث ماله، فصحت كما لو صرح بذلك، ثم إن كان العبد يخرج من الثلث - كما إذا كان ثلثه مائة، وقيمة العبد مائة أو دونها - عتق، لأنه يملك من كل جزء من(4/393)
المال ثلثا مشاعا، ومن جملة المال نفسه، فيملك ثلثها، وإذا يعتق ذلك الجزء، لتعذر ملك نفسه، ويسري إلى بقيته، كما لو أعتق بعض عبده؛ بل أولى، فإن فضل من الثلث بعد عتقه شيء فهو له، لأنه قد صار حرا وإن لم يخرج من الثلث، عتق منه بقدر الثلث، والباقي موقوف على إجازة الورثة، لما تقدم. قيل: ومفهوم كلام الخرقي أنه لو أوصى له بمعين كمائة درهم، أو ثوب أنه لا يصح، وهو المشهور من الروايتين، ثم قال أبو محمد في الكافي: على رواية الصحة يشترى العبد من الوصية فيعتق، وما بقي فهو له، قلت: محافظة على تصحيح كلام المكلف ما أمكن، إذ تصحيح الوصية يستلزم ذلك، وإلا فكأنه وصى للورثة ببعض مالهم، ولا فائدة في ذلك، وبنى الشيرازي الروايتين على تمليك العبد إذا ملك، ثم قال: وعلى رواية الصحة تدفع المائة إليه، فإن باعه الورثة بعد ذلك فالمائة لهم، وتعليل أبي محمد في المغني يقرب من ذلك، والله أعلم.
قال: وإذا قال: أحد عبدي حر. أقرع بينهما، فمن تقع عليه القرعة فهو حر إذا خرج من الثلث.
ش: القرعة لها مدخل في العتق، لما تقدم من حديث عمران(4/394)
بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإذا قال: أحد عبدي أو عبيدي حر. ولم يعينه، أقرعنا بينهم، إذ تعيين أحدهم ترجيح بلا مرجح، ثم من خرجت عليه القرعة فهو حر، إذ هذا فائدة القرعة، وشرط نفوذ عتقه أن يخرج من الثلث، لما تقدم من أن الإنسان ليس له أن يوصي بأكثر من ثلثه، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، والباقي موقوف على إجازة الورثة والله أعلم.
قال: وإذا أوصى أن يشتري عبد زيد بخمسمائة فيعتق، فلم يبعه سيده، فالخمسمائة للورثة.
ش: لأنه قد تعذر إعمال الوصية فبطلت، كما لو مات الموصى له قبل موت الموصي، أورد الوصية، وإذا بطلت كان المال للورثة، وقول الخرقي: فلم يبعه سيده. يشمل إذا لم يبعه مطلقا، أو لم يبعه بالخمسمائة، وفي معنى ذلك حيث تعذر شراؤه، إما بموته أو غير ذلك، والله أعلم.
قال: وإن اشتروه بأقل، فما فضل فهو للورثة.
ش: لأن مقصود الموصي العتق وقد حصل، وكما لو وكل في شرائه في حياته بثمن معين، فاشترى بدونه، فإن الفاضل له، كذلك هنا، وحكى في المغني احتمالا بأن الخمسمائة تكون لزيد، وفرق في المغني فقال: إن كان ثم قرينة تقتضي إرفاق سيده بالثمن - كما إذا كان صديقا له،(4/395)
أو ذا حاجة، أو كان يعلم أن العبد يحصل بدون ذلك - فإن الثمن جميعه يدفع إلى السيد، كما لو صرح بذلك، وإن عدمت القرائن كان كما تقدم، والله أعلم.
قال: وإذا أوصى لرجل بعبد لا يملك غيره، وقيمته مائة ولآخر بثلث ماله، وملكه غير العبد مائتا درهم، فأجاز الورثة ذلك، فلمن أوصى له بالثلث ثلث المائتين، وربع العبد، ولمن أوصى له بالعبد ثلاثة أرباعه.
ش: إنما كان للموصى له بالثلث ثلث المائتين، لأن المائتين من ماله، وقد أوصى له بثلثه، فلا معارض له، فيستحق ثلثها، وإنما كان له ربع العبد، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه، لأن مقتضى وصية صاحب الثلث أن يكون له ثلث العبد، ومقتضى وصية صاحب العبد أن يكون له جميعه، فقد تضمنت الوصية قسمة العبد على أربعة أثلاث، وهو أربعة أرباع، وليس طرح وصية أحدهما بأولى من الأخرى، فيجعل الثلث ربعا كمسائل العول.(4/396)
قال: وإن لم يجز ذلك الورثة فلمن أوصى له بالثلث سدس المائتين، وسدس العبد، لأن وصيته في الجميع، ولمن أوصى له بالعبد نصفه، لأن وصيته في العبد.
ش: إذا لم يجز الورثة ما تقدم، فقال الخرقي وجمهور الأصحاب: للموصى له بالثلث سدس المائتين، وسدس العبد، وللموصى له بالعبد نصفه، لأن الوصية ترجع في الرد إلى الثلث، وثلث المال - والحال هذه - مائة، والوصية مائتان، ثلث المال قدره مائة، والعبد قيمته مائة، نسبة الثلث الذي هو مائة، إلى الوصية التي هي مائتان بالنصف، فمن أوصى له بشيء رجع إلى نصفه، نظرا إلى مقتضى المسمى في الوصية، فللموصى له بالثلث سدس المائتين، لأنه نصف ثلثها، وسدس العبد، لأنه نصف ثلثه، واستحقاقه(4/397)
الربع في الإجازة كان للمزاحمة العارضة، وقد زالت، وللموصي له بالعبد نصفه، لأن الوصية له بكله. واختار أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن لصاحب الثلث خمس المائتين، وعشر العبد، ونصف عشره، ولصاحب العبد ربعه وخمسه، وخرجه أبو البركات وجها، لأن الموصى له بالعبد في الحقيقة إنما أوصى له بثلاثة أرباعه، لأنه أوصى لآخر بثلثه، والموصى له بثلثه، إنما أوصى له حقيقة بربعه، لأنه أوصى لآخر بكله، وإذا يقسم الثلث بينهما على ذلك، نظرا إلى مقتضى الوصية لو أمكن إعمالها بالإجازة، وعلى هذا يقسم الثلث بينهما على حسب مالهما في الإجازة، والذي لهما العبد وثلثا المائتين، مجموع ذلك مائة وستة وستون درهما، وثلثا درهم، نسبة الثلث إلى ذلك ثلاثة أخماسه، فمن له شيء في الإجازة، له ثلاثة أخماسه في الرد، فالموصى له بالثلث له ثلث المائتين، وهو ستة وستون درهما، وثلثا درهم، فيعطى ثلاثة أخماس ذلك، وهو أربعون درهما، وقدر ذلك خمس المائتين، وله من العبد ربعه، وقيمة ذلك خمسة وعشرون درهما، فله ثلاثة أخماسه، وهو خمسة عشر درهما، قدر ذلك من العبد عشره، ونصف عشره، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه،(4/398)
وقيمة ذلك خمسة وسبعون درهما، ثلاثة أخماس ذلك خمسة وأربعون درهما، قدر ذلك من العبد ربعه وخمسه. وطريقة العمل في ذلك على قول الأصحاب أن يجعل لكل واحد من أصل وصيته بقدر نسبة الثلث إلى مجموع الوصيتين، وعلى قول أبي محمد يجعل لكل واحد من الذي حصل له في حال الإجازة بقدر نسبة الثلث إلى مجموع ما حصل لهما فيها، وعلى هذا لو كانت الوصية بالنصف مكان الثلث، ففي حال الإجازة لصاحب النصف نصف المائتين، وثلث العبد، ولصاحب العبد ثلثاه، وفي حال الرد على قول الأصحاب مجموع الوصيتين مائتان وخمسون درهما، نسبة الثلث إلى ذلك خمسه فلكل واحد من أصل وصيته خمساها، فللموصى له بالنصف خمسا المائة، وهو أربعون درهما وخمس العبد، وقدره عشرون درهما، وللموصى له بالعبد خمساه، وهو أربعون درهما، وعلى قول أبي محمد إذا نسبت الثلث إلى مجموع ما يحصل لهما في الإجازة وهو مائتا درهم، كان النصف، فيكون لكل واحد نصف الذي يحصل له في الإجازة، فصاحب النصف يحصل له من المال المائة، فله نصفها، ويحصل له من العبد ثلثه، فله نصفه وهو السدس، وصاحب العبد يحصل له في الإجازة ثلثاه، فله نصف ذلك وهو الثلث، وعلى هذا فقس، والله أعلم.(4/399)
قال: ومن أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى بالسوية، ولا يجاوز به أربعة آباء «، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى» .
ش: إذا أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى، لأن كليهما من قرابته، ويكون بينهما بالسوية، لأنه شرك بينهما فيه، أشبه ما لو أقر لهما، ويعطى الغني كالفقير، لدخوله في لفظ القرابة، ثم قيل - وهو احتمال لأبي محمد، وكلام ابن الزاغوني في الوجيز يقتضي أنه رواية - يشمل كل قريب له من جهة أبيه وأمه، نظرا لمقتضى اللفظ، إذ قرابته اسم جنس مضاف، فيشمل كل قريب له، والمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما يتناول أقاربه من جهة أمه بشرط أن يصلهم في حال حياته، إذ صلته لهم في حياته قرينة بره لهم بعد مماته، والمشهور عنه اختصاص هذا اللفظ بقرابته من جهة أبيه، لأن العرف في القرابة إذا أطلق إنما ينصرف لذلك، ولهذا - والله أعلم - لم يعط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقاربه من جهة أمه من سهم ذوي القربى. ثم على هذا (هل يشمل) ولده وولد أبيه وإن علا، اعتمادا على العموم.(4/400)
2237 - ولما روى مسلم وغيره عن أنس قال: «لما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] الآية قال أبو طلحة: يا رسول الله، أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك أني قد جعلت بيرحاء لله. قال: «فاجعلها في قرابتك» فجعلها في حسان بن ثابت، وأبي بن كعب وبين حسان وأبي طلحة ثلاثة آباء، وبين أبي طلحة وأبي بن كعب ستة آباء» ، والظاهر أن جعله كان بحضرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بعلمه، وأيضا فقد دل على أن عرفهم ذلك. (ولا يتجاوز) بها أربعة آباء، فإذا أوصى لقرابة زيد مثلا، أو وقف عليه تناول ولده، فزيد أب، وتناول أباه،(4/401)
وجده، وجد أبيه، وأولادهم، ولا يزاد على ذلك، وهو اختيار الخرقي، والقاضي، وعامة أصحابه، لما استدل به الخرقي، من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى، لأن الله سبحانه لما قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] يعني قرابته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين قرابته، ولم يجاوز بني هاشم.
2238 - ففي البخاري وغيره «عن جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: مشيت أنا وعثمان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، قال: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» قال جبير: ولم يقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل شيئا، وفي رواية في السنن: لما قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى من خيبر، وذكر القصة» ، وهذا خرج مخرج البيان للمسمى في الآية الكريمة، وإذا يحمل المطلق من كلام الناس على المطلق من كلام الشارع، ويختص بما اختص به و «هاشم» هو(4/402)
الأب الرابع، والأب الثالث عبد المطلب، والأب الثاني عبد الله، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الأب الأول. (أو لا يتجاوز) بها ثلاثة آباء. نظرا إلى أن الولد لا يدخل في ذلك، ولهذا لم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى لولده شيئا؟ فيه ثلاث روايات، وشذ ابن الزاغوني في وجيزه، فجعل الأب الرابع عبد مناف، فعلى هذا لا يدفع للولد، وهو مخالف للفظ الخرقي وغيره.
(تنبيهان) «أحدهما» قد تقدم أن الولد والوالد يدخلان في لفظ القرابة، وصرح بذلك القاضي، والشيرازي، وابن عبدوس، وأبو الخطاب في خلافه، وهو ظاهر كلام الخرقي وغيره، وعبارة الشيخين توهم خلاف ذلك، قال في المغني: الوصية لأولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، وقال في المحرر: اختص بولده وقرابة أبيه وإن علا.(4/403)
«الثاني» قال أبو محمد في المغني والكافي: إذا أوصى لأقرب قرابته، وله أب وأم إنهما سواء، وفيه نظر، إذ الأم لا تدخل في لفظ القرابة على المذهب، فكيف تكون من أقربهم، وقد نبه على هذا أبو البركات حيث قال: والأخ من الأب والأخ من الأم إن أدخلناه في القرابة سواء، والله أعلم.
قال: وإن قال: لأهل بيتي. أعطي من قبل أبيه وأمه.
ش: المنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن لفظة «أهل بيته»(4/404)
بمنزلة لفظة «قرابته» قال في رواية عبد الله: إذا أوصى بثلث ماله لأهل بيته، هو بمثابة قوله: لقرابتي.
2239 - واستدل على ذلك فيما حكاه عنه ابن المنذر بأن قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لي، ولا لأهل بيتي» فجعل سهم ذوي القربى لهم، عوضا عن الصدقة التي حرمت عليهم، فكان ذوو القربى الذين سماهم الله تعالى، أهل بيته الذين حرمت عليهم الصدقة.
2240 - وذكر حديث زيد بن أرقم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أذكركم الله في أهل بيتي» قال: قلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، أهله وعشيرته الذين حرمت عليهم الصدقة بعده، آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس. وفرق(4/405)
الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين لفظ: القرابة، وأهل البيت، فجعل الأول مختصا بأقاربه من جهة أبيه على ما تقدم، وجعل الثاني يشمل القريب من جهة الأب والأم، نظرا إلى أن اللفظ يشملهم، عرفا، يقال: بيت فلان كذا. يريدون أقاربه من جهة أبيه وأمه، وأناط الشيرازي الحكم هنا بمن كان يصله في حياته، فقال: يعطى من كان يصله في حياته من قبل أبيه وأمه. والله أعلم.
قال: وإذا أوصى أن يحج عنه بخمسمائة فما فضل رد في الحج.
ش: إذا أوصى أن يحج عنه بخمسمائة مثلا حج عنه، لأن الحج جهة قربة، فإن فضل من الخمسمائة شيء، رد في(4/406)
الحج إلى أن ينفد، على المذهب المعروف، إعمالا لمقتضى اللفظ، وحكى الشيرازي رواية أن الباقي للورثة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يدفع إلى من يحج إلى قدر ما يحج به، لقوله: فما فضل. وصرح به غيره، لأنه تصرف بمقتضى النظر، فلا يزاد فيه على ذلك، ولو كانت الخمسمائة لا تكفي للحج، فهل يعان بها فيه، أو يحج بها من حيث تبلغ، أو يخير؟ ثلاثة أقوال، وشرط نفوذ هذه الوصية أن تخرج الخمسمائة من الثلث، فإن لم تخرج نفذ منها قدر الثلث، ووقف الباقي على إجازة الورثة، هذا إن كان الحج تطوعا، وإن كان واجبا فالذي يحتسب من الثلث ما زاد على نفقة المثل للفرض، والله أعلم.
قال: وإن قال: حجة بخمسمائة. فما فضل فهو لمن يحج.
ش: اعتمادا على مقتضى لفظه، إذ مقتضاه دفع جميع الخمسمائة إلى من يحج حجة واحدة، كأنه قصد إرفاق من يحج، والله أعلم.
قال: وإن قال: حجوا عني حجة. فما فضل رد إلى الورثة.(4/407)
ش: لأن الذي أوصى به حجة فقط، فما فضل عنها فهو للورثة، وقوله: فما فضل: يجوز أن يريد ما فضل [من الثلث، ويجوز أن يريد ما فضل] من المدفوع إليه، أي عن النفقة التي أنفقها، بناء على المشهور، من أنه لا يجوز الاستئجار على الحج، والله أعلم.
قال: ومن أوصى بثلث ماله لرجل، فقتل عمدا أو خطأ، وأخذت الدية، فلمن أوصى له بالثلث ثلث الدية، في إحدى الروايتين، والأخرى ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء.
ش: الرواية الأولى اختيار القاضي وغيره، بناء على أن الدية تحدث على ملكه، تنزيلا لسبب الوجوب، منزلة مسببه وهو الوجوب، ولا شك أن السبب وجد في حياته وصار هذا كما لو نصب شبكة، فوقع فيها صيد بعد موته، فإنه يكون له، يحقق ذلك أن تجهيزه يخرج منها بلا نزاع، وعلى هذا يكون لمن أوصى له بالثلث ثلثها، كما لو ورث مالا قبل موته، (والثانية) ليس لمن أوصى له بالثلث شيء منها،(4/408)
بل تكون للورثة، يقتسمونها على قدر مواريثهم، بناء على أن الدية تحدث على ملكهم.
(تنبيه) بنى أبو البركات الدين على الروايتين، [إن قلنا له، قضيت منها ديونه، وإن قلنا للورثة فلا، وظاهر كلام أبي محمد في المغني يقتضي أن ديونه تقضى منها على الروايتين] كتجهيزه، نظرا إلى أن الوجوب إنما وجد بالموت، والميت ليس أهلا للملك، ولذلك زالت أملاكه بموته، والله أعلم.
قال: وإذا أوصى لرجل، ثم أوصى بعده إلى آخر، فهما وصيان، إلا أن يقول: قد أخرجت الأول.
ش: أما إذا أخرج الأول من الإيصاء إليه فقد انعزل، وصار الثاني هو الوصي وحده، وأما إذا لم يخرجه فهما وصيان، لما تقدم فيما إذا أوصى لبكر بجارية، ثم أوصى بها لبشر، وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للموصي عزل الموصى إليه، وهو واضح، لأنه نائب عنه، أشبه وكيله. قال: وإذا كان الوصي خائنا جعل معه أمين.
ش: هذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى، جمعا بين نظر الموصي وحفظ المال، (والثانية) لا تصح(4/409)
الوصية إلى فاسق أصلا، وهي اختيار القاضي، وعامة أصحابه، الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، لأنه ليس بأهل للشهادة، أشبه المجنون، (والرواية الثالثة) تصح الوصية إليه مطلقا، ولا يفتقر إلى أمين، حكاها أبو الخطاب في خلافه. لأنه أهل للائتمان في الجملة، بدليل جواز إيداعه، فلو طرأ فسقه بعد موت الموصي، فعند أبي محمد أنه على الروايتين في الوصية إليه ابتداء، ثم مختار القاضي [أيضا] وغيره البطلان، وعند أبي البركات أنه يبدل بأمين بلا نزاع، نظرا إلى أن الموصي في الابتداء قد رضيه واختاره، والظاهر أنه إنما فعل ذلك لمعنى رآه فيه، إما لزيادة حفظه، أو إحكام تصرفه، ونحو ذلك، مما يربو على ما فيه من الخيانة، بخلاف ما لو طرأ فسقه، فإن حال الموصي يقتضي أنه إنما رضي بعدل ولا عدل، وعكس ذلك القاضي في روايتيه، فإنه حمل رواية ضم الأمين إليه على ما إذا طرأ الفسق. وقال: ولا يختلف المذهب أنه لا يصح إليه ابتداء، فكأنه نظر إلى أن الدوام يغتفر فيه ما لا يغتفر في الابتداء.(4/410)
ولنشر إلى شروط الموصى إليه فنقول: من شرطه أن يكون «عاقلا» بلا نزاع، «مسلما» إن كان الموصي مسلما، وكذلك إن كان كافرا في وجه، وفي آخر: يصح إلى كافر إن كان الموصي كافرا، لكن يشترط عدالة الموصى إليه في دينه عند أبي محمد، وظاهر كلام أبي البركات أنه على الروايتين، «بالغا» في رواية، وفي أخرى - وقال القاضي: إنها قياس المذهب: - لا، وعليها قال أبو البركات: إذا كان مراهقا. وقال أبو محمد: إذا جاوز العشر. «مستور الحال» على المذهب وقد تقدم، ولا تعتبر الذكورية، ولا الحرية، ولا البصر، ولا المعرفة بالتصرف، نعم، إذا كان عاجزا ضم الحاكم إليه أمينا، ويعتبر وجود الشروط عند العقد والموت في وجه، وفي آخر عند الموت فقط، والله أعلم.
قال: وإن كانا وصيين فمات أحدهما، أقيم مقام الميت أمين.(4/411)
ش: إذا أوصى لرجلين، فليس لأحدهما الانفراد بالتصرف، لحصول التشريك بينهما، إلا أن يجعل لكل واحد منهما التصرف منفردا، فعلى هذا لو مات أحدهما أو جن أقام الحاكم مقامه أمينا، لأن الميت لم يرض بتصرف الآخر وحده، وكذلك إن ماتا في وجه، لأنه لم يرض بتصرف واحد، وفي آخر يجوز أن يقيم واحدا، لأن الأمر رجع إليه، أشبه ما لو لم يوص، ولو كان قد جعل لكل واحد التصرف منفردا، فمات أحدهما لم يبدل، لاستقلال الآخر بالتصرف، والله أعلم.
قال: ومن أعتق في مرضه أو بعد موته عبدين لا يملك غيرهما، وقيمة أحدهما مائتان، والآخر ثلاثمائة، فلم تجز الورثة، أقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان عتق منه خمسة أسداسه، وهو ثلث الجميع، وإن وقعت على الآخر عتق منه خمسة أتساعه.
ش: قوله: ومن أعتق في مرضه. أي منجزا، أو بعد موته. أي مدبرا. وقوله: أقرع بينهما، «إشارة» إلى أن العتق في المرض يعتبر من الثلث، وكذلك التدبير على المذهب بلا ريب، كبقية الوصاية، وشذ حنبل فنقل عنه نفوذه من رأس المال إن وجد في الصحة، نظرا إلى الحال الراهنة، «وإشارة» بأن العتق والحال هذه يكمن في واحد(4/412)
«وتصريح» بدخول القرعة، والأصل في ذلك كله حديث عمران بن حصين المتقدم، وإذا أقرعنا فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، عتق منه خمسة أسداسه، وهو ثلث الجميع، إذ ثلث الجميع مائة وستة وستون وثلثا درهم، وذلك قدر خمسة أسداسه، وإن وقعت على الآخر الذي قيمته ثلاثمائة، عتق منه خمسة أتساعه، وهي الثلث، مائة وستة وستون درهما وثلثا درهم، إذ كل تسع منه ثلاثة وثلاثون درهما، وثلث درهم.
قال: لأن جميع ملك الميت خمسمائة، وهي قيمة العبدين، فتضرب في ثلاثة، فأخذ ثلثه خمسمائة، فلما أن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، ضربناه أيضا في ثلاثة، فصيرناه ستمائة، فصار العتق فيه خمسة أسداسه، وكذلك يفعل بالآخر إذا وقعت عليه القرعة.
ش: هذا بيان لعمل المسألة، ولأن العتق في الأول خمسة أسداسه، وفي الثاني خمسة أتساعه، وذلك لأن صورة المسألة أن جميع ملك الميت خمسمائة، فتضرب في ثلاثة، ترتفع إلى ألف وخمسمائة، لأنها لو لم تضرب ربما وقع فيها(4/413)
كسر فتشق النسبة إليه أو تتعذر، فإذا بلغت ألفا وخمسمائة، أخذ ثلثها وهو خمسمائة، ثم إن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، ضربناه في ثلاثة، كما ضربنا المجموع، فترتفع إلى ستمائة، ثم تنسب الثلث إليه وهو الخمسمائة، تجد العتق فيه خمسة أسداسه، إذ كل سدس مائة درهم، وإن وقعت القرعة على الذي قيمته ثلاثمائة، فعلنا به أيضا كذلك، ضربناه في ثلاثة فارتفع إلى تسعمائة، ثم نسبنا منه الثلث، وهو الخمسمائة، تجدها خمسة أتساعه.
قال: وكل شيء يأتي من هذا الباب فسبيله أن يضرب في ثلاثة، ليخرج بلا كسر.
ش: فلو كانت قيمة أحد العبدين ثلاثمائة، والآخر أربعمائة، جمعتهما، وذلك سبعمائة، فجعلتها ثلث المال، ثم إن وقعت القرعة على الذي قيمته ثلاثمائة، ضربت في ثلاثة، ترتفع إلى تسعمائة، ثم تنسب إليه السبعمائة يكن العتق منه سبعة أتساعه، وإن وقعت على الذي قيمته أربعمائة، ضربته في ثلاثة، ترتفع إلى ألف ومائتين، وإذا نسبت إليه السبعمائة، كان العتق فيه ثلثه وربعه، وعلى هذا فقس، والله أعلم.(4/414)
قال: وإذا أوصى بعبد من عبيده لرجل، ولم يسم العبد، كان له أحدهم بالقرعة، إذا كان يخرج من الثلث، وإلا ملك منه بقدر الثلث.
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار ابن أبي موسى، لأن الجميع سواء بالنسبة إلى الاستحقاق، فكان له أحدهم بالقرعة، كما لو كان ذلك عتقا، (والثانية) - واختارها أبو الخطاب، والشريف في خلافيهما، والشيرازي - يعطيه الورثة ما أحبوا، لأن لفظه تناول عبدا، والأقل هو اليقين، فيكون هو الواجب، وما زاد فهو مشكوك فيه، وإذا ما تدفعه الورثة هو الواجب أو أزيد، فيلزم قبوله، وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوصية بالمجهول، وهو واضح، لما تقدم من أن الغرر لا ينافيها. وقول: من عبيده. يخرج ما إذا قال: بعبد. وأطلق، فإنه يصح ويعطى أي عبد كان، لكن يشترط كونه ذكرا، هذا عند أبي محمد، نظرا للعرف، وعند(4/415)
القاضي لا يشترط، نظرا للحقيقة، وقوله: ولم يسمه. يخرج ما إذا سماه، فإنه يستحقه بشرطه بلا نزاع، واشتراط الخروج من الثلث واضح وقد تقدم.
قال: وإذا أوصى له بشيء بعينه - فتلف بعد موت الموصي لم يكن للموصى له شيء.
ش: إذا أوصى له بشيء بعينه - كهذا العبد ونحوه - فتلف بعد موته، وقبل القبول، لم يكن للموصى له شيء، حكاه ابن المنذر إجماعا، وذلك لأن الموصى له إنما يستحق بالوصية وهي في معين، فتذهب بذهابه، وبطريق التنبيه إذا تلف قبل موت الموصي.
قال: وإن تلف المال كله إلا الموصى به فهو للموصى له.
ش: نص على هذا أحمد، لأن حق الورثة تعلق بما عدا المعين، وقد تلف، فيتلف على ملكهم، أما المعين فلم يتعلق حقهم به، ولذلك كان للموصى له أخذه بغير رضاهم.
قال: ومن أوصي له بشيء فلم يأخذه زمانا، قوم وقت الموت، لا وقت الأخذ.
ش: اعلم أنا نذكر أولا أصلا، ثم نذكر هذه المسألة، لأن(4/416)
بعضهم بناها عليه، فنقول: اتفق أصحابنا فيما علمت على أن شرط ثبوت الملك للموصى له القبول بعد الموت، ثم اختلفوا متى يثبت الملك له، فالمذهب عند أبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الملك لا يثبت له إلا عقب القبول، وهو مقتضى قول القاضي، وعامة أصحابه، قال أبو الخطاب في الهداية: وأومأ إليه أحمد فقال: الوصية والهبة واحد. واختار أبو بكر في الشافي أن الملك مراعى، فإذا قبل تبينا أن الملك ثبت له من حين الموت، وحكى الشريف عن شيخه أنه قال: إنه ظاهر كلام الخرقي. ولعله أخذه من هذه المسألة، قال في التعليق: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، فيمن أوصي له بشيء فلم يأخذه زمانا، قال سفيان: يحسب على الموصى له بقيمته يوم يأخذه، قال أحمد: له يوم أوصى. قال: فظاهر هذا أن الملك حصل بالسبب السابق. وقوله: يوم أوصى. معناه يوم تعتبر قيمته حين الموت، لأنه حين الوصية باق على ملك الموصي، فلا تعتبر قيمته إذا، ثم على الأول هل يبقى الملك بعد موت الموصى له، فيتوفر بنمائه ثلثه - وهو مقتضى قول الشريف، وأبي الخطاب في(4/417)
خلافيهما - أو يكون الملك للورثة ثم ينتقل إلى الموصى له إذا قبل - وهو اختيار أبي محمد، وابن البنا، والشيرازي؟ فيه وجهان وتلخص أن في الملك بين الموت والقبول ثلاثة أوجه، للميت، للورثة، للموصى له.
إذا تقرر هذا فقول الخرقي: إن التقويم يعتبر بحال الموت، لا بحال الأخذ، وكذلك نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، فيحتمل أنه بناء منهما على أن الملك يكون مراعى، وأن الموصى له إذا قبل ثبت ملكه من حين الموت، أما إن قلنا: إن الملك لا يثبت إلا حين القبول، فيعتبر التقويم إذا، وإلى هذا جنح أبو البركات، مع زيادة تحقيق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويحتمل أن هذا الحكم جار على جميع الوجوه، وهو مقتضى كلام أبي محمد، فإنه حكى الخلاف في الأصل، ثم ذكر هذه المسألة، وقال: لا أعلم فيها خلافا. وقال أبو العباس: إن قول الخرقي هو قول(4/418)
قدماء الأصحاب، وإنه أوجه من قول جده، يعني بالبناء، فعلى هذا الاعتبار في التقويم بحال الموت سعرا وصفة، فعلى هذا إذا قوم الموصى به حال الموت، فخرج من الثلث، كان للموصى له، وإن زاد حين القبول، حتى لم يخرج من الثلث، ولو لم يخرج من الثلث حال الموت، كان له منه بقدر الثلث، وإن زاد سعره أو صفته، حتى خرج من الثلث حال القبول، وذلك لأن تأخير القبول حصل بتفريط من الموصى له، فهو كتأخير المشتري قبض المبيع المعين، [بعد التمكن من قبضه، والمذهب أن مجرد التمكن من القبض في المبيع المعين] ونحوه ينقل الضمان، فكذلك التمكن من القبول في الوصية، إذ القبول فيها بمنزلة القبض في غيرها، وإن قلنا بالرواية الأخرى في البيع ونحوه، وأن الضمان لا ينتقل إلا بالقبض، فهذا في المعاوضات على ضعف، أما الشركة ونحوها فنفس التمييز كاف، ولأن الموصى به مباح للموصى له، وقد امتنعت الورثة من التصرف فيه - وإن قلنا الملك لهم أو للميت - لأجل حق الموصى به، فأشبه العبد الجاني، والتركة المستغرقة بالدين، وإن قلنا: انتقلت إلى الورثة، فإنه لو أخر استيفاء حقه حتى(4/419)
نقص العبد أو التركة كان النقص عليه، ولم يكن له حق في غير ذلك، كذلك هاهنا، وقد قال أبو الخطاب في الانتصار وطائفة من الأصحاب: إن تعلق حق الغرماء بالتركة لتعلق الموصى له بالموصى به هل يمنع من الانتقال؟ على روايتين، ولأن الموصى له وإن لم يملك، لكن له حق التملك، فأشبه ربح المضاربة قبل القسمة، إن قلنا: لا يملك إلا بها. على رواية، ونصف الصداق بعد الطلاق، إن قلنا: لا يدخل في ملك الزوج إلا باختياره على وجه، والمغانم قبل القسمة إن قلنا: لا تملك إلا بها. على وجه أيضا، فإن جميع هذه الصور الضمان على من له حق التملك، كذلك هاهنا، ولا يقال: القبول هاهنا بمنزلة القبول في الهبة والبيع، لأن التملك في الوصية حق ثابت، لا يمكن أحدا فسخه بعد الموت، فهو كربح المضاربة، وقبول البيع والهبة حق غير ثابت، لإمكان إبطاله، ولهذا قال الخرقي: إن خيار القبول في الوصية ينتقل إلى الورثة وإن كان خيار قبول البيع والهبة لا ينتقل اتفاقا.(4/420)
وأيضا فإن العدل الشرعي أن لا تفضل الوصايا على الورثة بزيادة على الثلث، لا في الملك، ولا في القبض، فإذا أوصى بعبد، وله عبدان آخران، فالعدل أن نقص العبدين كما هو على الورثة، كذلك نقص العبد على الموصى له لا يقال: يلزم على هذا أن الملك مع الزيادة يكون للورثة والضمان على الموصى له، لأنا نقول: ليس هذا ببدع. كما نقول: ضمان الثمر على الشجر على البائع، والزيادة للمشتري، والعين المؤجرة ضمانها على المؤجر، والربح للمستأجر. انتهى، وقال أبو البركات: إن قلنا: إن الملك يتبين ثبوته للموصى له من حين الموت، فإن الموصى به يقوم بسعره يوم الموت، على أدنى صفاته من حين الموت، إلى حين القبول، وإن قلنا: إن الملك لا يثبت إلا عقب القبول، وأنه قبل للورثة أو للميت. اعتبر التقويم وقت القبول سعرا وصفة، وبيان ذلك أما السعر فلأنه إنما اعتبر حال الموت على الأول، لأنا تبينا بالقبول دخوله في ملكه حين الموت، وإذا تكون زيادة السعر ونقصها عليه، لأن زيادة السعر ونقصه لا تضمن مع بقاء العين المستحقة، وإن ضمنت العين، كما في الغصب وغيره على المشهور، وأما على الوجهين الآخرين، فلأن الملك إنما حصل له بالقبول، فقبل القبول لا يقوم(4/421)
عليه، كما قبل الموت اتفاقا، وأما نقص الصفة أما على الوجهين الآخرين فواضح، لأن الملك للورثة أو للميت، والزيادة لهما، فكذلك النقص عليهما، إذ الخراج بالضمان، وأما على الوجه الأول فلأن الموصى له لا يضمن إلا بالقبول، كما أن غيره لا يضمن إلا بالتمكين من القبض أو بحقيقة القبض على الخلاف، وذلك لأن القبول لا يرد إلا على عين موجودة، لأنه وإن أثبت الملك من حين الموت، فلا بد من بقائه إلى حينه، إذ ثبوت الملك قبله تبع لثبوته في حينه فما ليس بموجود لا يقبل، لتعذر الملك فيه، ولهذا لو تلفت العين الموصى بها قبل القبول، امتنع القبول فيها، فكذلك إذا تلف بعضها، ولا ضمان أيضا على الورثة، بحيث يحسب من الثلثين، لأن الورثة لم يملكوا ذلك، فأشبه ما لم يمكنهم قبضه وأولى. فإن قيل: يلزم على هذا أن تكون الزيادة للموصى له، والنقص ليس عليه. قلنا: كذا ما اشترى بصفة أو رؤية متقدمة، هو مضمون على البائع، حتى يتبين أنه على ما رئي أو وصف، فلو زاد في هذه المدة كانت الزيادة للمشتري، وقد ذكر أبو البركات نحو هذا في الصداق(4/422)
أيضا، فقال: إذا تعذر الرجوع في نصف عينه، فإنه يرجع بنصف قيمته يوم الفرقة، على أدنى صفاته من يوم العقد، إلى يوم القبض، إلا المتميز إذا قلنا: يضمنه بالعقد، فتعتبر صفته وقت العقد، وذلك لأن مع التعذر إنما يستحق نصف القيمة يوم الفرقة، فيعتبر السعر إذا، وأما صفة المقوم فإن كان قد زاد بعد العقد وقبل القبض لم يستحق نصف قيمة الزيادة، لحدوثها على ملك الزوج، وإن كان قد نقص فهو مضمون عليها، لعدم التمكن من القبض، المقتضي لضمان الزوج. قال أبو العباس: واعلم أن تحرير هذه العبارة هنا، وفي الصداق، له دون غيره، وإن كان قد ذكره غير واحد متفرقا في الصداق، ويؤخذ من تعليل بعضهم هنا، قال: وهو متوجه في الصداق، أما هنا ففيه نظر، لأن المملوك بالوصية، كالمملوك بالإرث، لا يتوقف تمام الملك فيهما على قبض، وإن تلف تلف من ضمانهما، بخلاف المملوك بالعقود، كالبيع ونحوه، لا يتم الملك فيها إلا بالتمكن من القبض، وإذا تلفت تلفت من ضمان الذي خرجت من ملكه، وأيضا فإن بالقبول يتبين أن الملك كان للموصى،(4/423)
له، وإذا يكون التالف قبل القبول من ملكه، إذ لم يفت فيه إلا بالقبض، والقبض غير مؤثر، بدليل ما لو قبل وأخر القبض. والله أعلم.
[حكم من أوصى بوصايا وفيها عتاق فلم يف الثلث بالكل]
قال: وإذا أوصى بوصايا وفيها عتاق، فلم يف الثلث بالكل، تحاصوا في الثلث، وأدخل النقص على كل واحد بقدر ما له في الوصية.
ش: هذا هو المشهور، المختار للأصحاب من الروايتين، للاشتراك في سبب الاستحقاق، ولا مزية لأحدهم على الآخر، فعلى هذا لو وصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمعين قيمته مائة، وبعتق عبد قيمته خمسون، وثلثه مائة درهم، فإنك إذا نسبت الثلث إلى مجموع الوصايا، وجدته خمسيها، فكل من له شيء له خمساه، (والرواية الثانية) يقدم العتق، لترجحه بما فيه من حق الله تعالى، وحق الآدمي وتشوف الشارع إليه، ولو لم يكن في الوصايا عتاقة تحاصوا فيها بلا نزاع. والله أعلم.
قال: وإذا أوصى بفرس في سبيل الله، وألف درهم تنفق عليه، فمات الفرس، كانت الألف للورثة، وإن أنفق بعضها رد الباقي إلى الورثة.(4/424)
ش: لتعذر العمل بالوصية في الجميع أو في البعض، وإذا يرجع إلى الورثة، لأن سبب استحقاقهم قائم، وإنما منعوا لمعارض وقد زال، ويحتمل أن تنفق الألف على فرس آخر في السبيل، إذ المقصود من مثل هذه الوصية الجهة، لا ذات الفرس، وصار كما لو وصى بألف في الحج، فإنه يصرف في حجة بعد أخرى حتى ينفد، والله سبحانه أعلم.(4/425)
[كتاب الفرائض]
ش: الفرائض جمع فريضة، وهي في الأصل مصدر من: فرض وافترض. وحدها في الاصطلاح: العلم بقسمة المواريث.
2241 - والأصل فيها ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي» رواه ابن ماجه والدارقطني.(4/426)
2242 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل، آية محكمة، أو(4/427)
سنة قائمة، أو فريضة عادلة» رواه أبو داود وابن ماجه.
قال: ولا يرث أخ ولا أخت لأب وأم، أو لأب مع ابن، ولا مع ابن ابن وإن سفل، ولا مع أب.
ش: يسقط ولد الأبوين أو الأب ذكرهم وأنثاهم بثلاثة، الابن، وابنه، والأب بالإجماع، حكاه ابن المنذر، وقد قال سبحانه {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وهو يقتضي أن الأخ والأخت لا يرثان مع وجود الولد، وهو شامل للولد وولد الابن، «والكلالة» من لا ولد له ولا والد، والمراد الأخ والأخت من الأبوين أو الأب بلا نزاع، وإنما خص الحجب بالولد الذكر، وإن كانت الآية الكريمة(4/428)
تشمل الأنثى - لما سيأتي من أن الأخوات مع البنات عصبة، وإذا فالآية الكريمة مخصوصة بالذكر، ويزيد ولد الأب على حجبه، بالثلاثة أنه يحجب بالأخ من الأبوين، وقد أشعر كلام الخرقي بهذا في قوله: والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم، إذا لم يكن أخوات لأب وأم.
2243 - وذلك لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه، دون أخيه لأبيه» . رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه.
قال: ولا يرث أخ ولا أخت لأم مع ولد، ذكرا كان(4/429)
أو أنثى، ولا مع ولد ابن، ولا مع أب، ولا مع جد.
ش: ولد الأم ذكرهم وأنثاهم يسقط بأربعة: الولد، وولد الابن، والأب، والجد أبي الأب، في قول العامة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] والمراد بالأخ والأخت من الأم بالإجماع، والكلالة في قول الجمهور من ليس له ولد ولا والد، والولد يشمل الولد، وولد الابن، والوالد يشمل الأب، والجد. والله أعلم.
[ميراث الأخوات مع البنات]
قال: والأخوات مع البنات عصبة، لهن ما فضل، وليست لهن معهن فريضة مسماة.
ش: العصبة في الاصطلاح: وحكمه أنه يرث بلا تقدير، ثم تارة ينفرد فيحوز جميع المال، وتارة تستغرق الفروض المال فيسقط، وتارة لا تستغرق فيأخذ الفاضل، إذا تقرر هذا فالأخوات مع البنات عصبة، لهن الفاضل عن فروض البنات، وليست لهن مع البنات فريضة مسماة.
2244 - لما روي «أن أبا موسى الأشعري سئل عن ابنة، وابنة ابن، وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف. فسئل(4/430)
ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد (ضللت إذا وما أنا من المهتدين) أقضي فيها بما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للبنت النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.» رواه البخاري وغيره، والمراد بالأخوات: الأخوات لأبوين، أو لأب، لأنه قد تقدم له أن الأخوات للأم لا يرثن مع الولد.
[ميراث بنات الابن]
قال: وبنات الابن بمنزلة البنات إذا لم يكن بنات.
ش: هذا إجماع، ويشهد له عموم قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]- الآية، وولد البنين أولاد، قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا
[أي: بنو أبنائنا بنونا] ، وقوله: بمنزلتهن. أي عند(4/431)
عدمهن، في إرثهن، وحجبهن لمن تحجبه البنات، وفي كون الأخوات معهن عصبة، وغير ذلك.
قال: فإن كن بنات وبنات ابن، فللبنات الثلثان، وليس لبنات الابن شيء إلا أن يكون معهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ش: البنات لهن الثلثان بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وكذلك البنتان لهما الثلثان بالإجماع.
2245 - ولا عبرة برواية شذت عن ابن عباس، وفوق في الآية الكريمة قيل: زائدة للتوكيد.
2246 - ويؤيد ذلك ويوضحه ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا بمال. فقال: «يقضي الله في ذلك» فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى(4/432)
عمهما، فقال: «اعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك» رواه الخمسة. وهذا بيان الآية الكريمة، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: 176] وهذا يدل بطريق التنبيه على أن للبنتين الثلثين، لأنهما أقرب من الأختين، ولا شك أن دلالة التنبيه أقوى من دلالة مفهوم الشرط، بل قد قال بعض العلماء: إنها أقوى من دلالة النص، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وإذا(4/433)
كان معنا ذكر وأنثى، فللأنثى الثلث، وللذكر الثلثان مثل حظ الأنثيين. إذا تقرر هذا فإذا كان في المسألة بنتان فصاعدا، وبنات ابن، فللبنتين فصاعدا الثلثان، وتسقط بنات الابن بالإجماع، ولأن الثلثين لجهة البنات، وقد استوعبه بنات الصلب، فسقط بنات الابن، لأنهن دونهن في الدرجة، اللهم إلا أن يكون معهن في درجتهن ذكر من بني الابن كأخيهن، أو ابن عمهن، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] الآية، وهؤلاء أولاد، وكذلك لو كان الذكر من ولد الابن أنزل منهن، كابن أخيهن، أو ابن عمهن، أو ابن ابن ابن عمهن، لما تقدم، والله أعلم.
قال: فإن كانت ابنة واحدة وبنات ابن، فلابنة الصلب النصف، ولبنات الابن - واحدة كانت أو أكثر من ذلك - السدس تكملة الثلثين، إلا أن يكون معهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.(4/434)
ش: لا نزاع بين العلماء أن للبنت الواحدة النصف، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] ولا نزاع أيضا بينهم أنه إذا كان بنت وبنت ابن، أو بنات ابن، أو بنت ابن وبنات ابن ابن أن للبنت النصف ولبنات الابن - واحدة كانت أو أكثر - السدس تكملة الثلثين، لما تقدم من قصة أبي موسى، وحديث ابن مسعود، فإن كان مع بنات الابن ذكر، عصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، لما تقدم من الآية الكريمة. وقول الخرقي في هذه المسألة والتي قبلها: إلا أن يكون معهن ذكر. يشمل ما إذا كان في درجتهن، أو أسفل منهن، وصرح بذلك أبو البركات، وقال في المغني في الأولى: إذا كان معهن أو أنزل منهن. وقال في الثانية: إذا كان معهن في درجتهن. وظاهره أن من أنزل منهن لا يعصبهن.(4/435)
[ميراث الأخوات من الأب]
قال: والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم، إذا لم يكن أخوات لأب وأم، فإن كان أخوات لأب وأم وأخوات لأب، فللأخوات من الأب والأم الثلثان، وليس للأخوات من الأب شيء إلا أن يكون معهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ش: فرض الأخت من الأب والأم النصف، وفرض الأختين فصاعدا الثلثان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: 176] الآية.
2247 - «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال قلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي، ولي أخوات؟ قال: فنزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 176] الآية» . . . رواه أبو داود.(4/436)
2248 - ويروى أنه كان له سبع أخوات، والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم، لدخولهن في الآية الكريمة، لكن بشرط عدم الأخوات لأب وأم، فالأخوات لأب يسقطن بالأخوات لأبوين، وقد تقدم ذلك، ويتفرع على هذا إذا كان له أخوات لأب وأم، وأخوات لأب، فإن للأخوات للأب والأم الثلثين، وتسقط الأخوات للأب، ويستثنى من ذلك صورة واحدة، وهو ما إذا كان مع الأخوات للأب ذكر، فإنه يعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] .(4/437)
قال: وإن كانت أخت واحدة لأب وأم، وأخوات لأب، فللأخت من الأب والأم النصف، وللأخوات من الأب - واحدة كانت أو أكثر من ذلك - السدس تكملة الثلثين، إلا أن يكون معهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ش: أما كون النصف للأخت من الأبوين فبنص الكتاب، وقدمت على الأخوات للأب لأنها أقوى منهن، وأما كون باقي الثلثين للأخوات من الأب، فلأن فرض الأخوات الثلثان، وقد أخذت الأخت للأبوين النصف، فيكون الباقي منهما - وهو السدس - للأخوات للأب، إلا أن يكون معهن - والحال هذه - ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وشرط من يعصبهن هنا، وفي التي قبلها أن يكون أخاهن، فلا يعصبهن ابنه، بخلاف بنات الابن، كما تقدم، لأن ابن الأخ ليس بأخ، وابن الابن ابن. والله أعلم.
[ميراث الأم]
قال: وللأم - إذا لم يكن إلا أخ واحد، أو أخت واحدة، ولم يكن ولد، ولا ولد ابن - الثلث، فإن كان(4/438)
له ولد، أو ولد ابن، أو أخوان، أو أختان، فليس لها إلا السدس.
ش: ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى هنا للأم حالتين (إحداهما) لها الثلث، وهي مع عدم الولد، أو ولد الابن، والاثنين من الإخوة والأخوات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] فجعل لها الثلث مع عدم الولد، وهو شامل للولد وولد الابن، ولم ينقلها إلى السدس إلا مع وجود الإخوة، وليس الإخوة بأخ، (الحال الثاني) لها السدس، وهو مع وجود الولد، ذكرا كان أو أنثى، [أو ولد ابن] ، أو اثنين من الإخوة والأخوات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] وهو شامل للولد وولد الابن، وللذكر والأنثى، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] .(4/439)
2249 - وإنما صرف عن ظاهره، ولم يعتبر في حجبها ثلاثة إخوة، لما روي أن ابن عباس قال لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس الأخوان إخوة في لسان قومك، فلم تحجب بهما الأم؟ فقال: لا أستطيع أن أرد شيئا كان قبلي، ومضى في البلدان، وتوارث الناس به. وهذا من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يدل على أن الذي منعه من إعمال ظاهر الآية الإجماع السابق، ثم إن هذا عرف القرآن في الإخوة قال سبحانه: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وهذا ثابت بلا نزاع في الاثنين فصاعدا، وبقي للأم (حال ثالث) يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
[ميراث الأب]
قال: وليس للأب مع الولد الذكر أو ولد الابن إلا السدس.
ش: هذا إجماع، وقد قال الله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] والولد كما تقدم(4/440)
يشمل الولد وولد الابن.
قال: فإن كن بنات كان له ما فضل.
ش: أي فإن كن الأولاد بنات، كان له ما فضل، يعني بعد فرض السدس، لأن الأب والحال هذه يرث بالفرض السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] والولد يشمل الذكر والأنثى، وما بقي بعد أخذ ذي الفرض فرضه يأخذه بالتعصيب.
2250 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» . وإلا لو حمل كلام الخرقي على إطلاقه اقتضى أن يسقط فيما إذا كان معنا بنتان، وزوج، وأبوان، فإن البنتين إذا لهما الثلثان، والزوج له الربع، والأم لها السدس، ولا يفضل للأب شيء، وليس كذلك، بل له السدس، فأصل المسألة من اثني عشر، وتعول إلى خمسة عشر، وإذا يبقى له حال ثالث، وهو إذا لم يكن ولد أصلا، فإنه يأخذ الفاضل بالتعصيب ليس إلا للحديث. والله أعلم.(4/441)
[ميراث الزوج]
قال: وللزوج النصف إذا لم يكن ولد، فإن كان لها ولد فله الربع.
ش: هذا مما لا خلاف فيه بحمد الله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] الآية، وهو شامل للولد ذكرا أو أنثى، ولولدها وولد ابنها. والله أعلم.
[ميراث الزوجة]
قال: وللمرأة الربع واحدة كانت أو أربعا، إذا لم يكن ولد، فإن كان له ولد فلهن الثمن.
ش: هذا أيضا إجماع لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] إلى قوله: {تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وهو أيضا شامل للولد وولد الابن.
[ميراث العصبة]
قال: وابن الأخ للأب والأم أولى من ابن الأخ للأب، وابن الأخ من الأب أولى من ابن ابن الأخ للأب والأم، وابن الأخ وإن سفل إذا كان لأب أولى من العم، وابن العم للأب والأم، أولى من ابن العم للأب، وابن العم للأب أولى من ابن ابن العم للأب والأم، وابن العم وإن سفل أولى من عم الأب.(4/442)
ش: هذا إشارة إلى ميراث العصبة، وتنبيه بذكر حكم بعضهم على البقية، والعصبة قد تقدم بيانهم، وحكمهم، والكلام الآن في أولاهم بالميراث، وأولاهم به أقربهم إلى الميت، ويسقط به من بعده، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» متفق عليه، وأقربهم الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب ثم أبوه وإن علا، ثم بنوا الأب وهم الإخوة للأبوين، أو للأب، يقدم الأخ للأبوين على الأخ للأب، وإن كانوا في درجة واحدة، لقوة قرابته بالأم، ثم بنوهم وإن سفلوا الأقرب منهم فالأقرب على ما تقدم، فيقدم ابن الأخ للأب والأم، على ابن الأخ للأب، وابن الأخ للأب، على ابن ابن الأخ للأب والأم، لأن ابن الأخ لأب أعلى درجة من ابن ابن الأخ للأبوين، وعلى هذا أبدا، ثم بعد بني الإخوة العم، ثم ابنه وإن سفل على ما تقدم، إن استوت درجتهم قدم من هو لأبوين، وإن اختلفت قدم الأعلى وإن كان لأب، ثم عم الأب، ثم بنوه. ثم عم الجد، ثم بنوه على ما تقدم بيانه.
قال: وإذا كان زوج وأبوان، أعطي الزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وإن كانت زوجة(4/443)
وأبوان، أعطيت الزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب.
ش: هاتان المسألتان تسميان العمريتين.
2251 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى فيهما بذلك، وتبعه على ذلك عثمان، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، ويروى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فاعتمد أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعامة العلماء على ذلك.(4/444)
2252 - اتباعا لسنة الخلفاء الراشدين، المأمور باتباعهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قال: وإذا كان زوج، وأم، وإخوة من أم، وإخوة لأب وأم، فللزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث، وسقط الإخوة من الأب والأم، وهذه المسألة تسمى الحمارية.
ش: لا نزاع في أن للزوج النصف، وللأم السدس، واختلف في أن الثلث الباقي، هل هو للإخوة من الأم، وتسقط الإخوة من الأبوين، أو يشرك فيه بين الجميع، والمشهور المعروف من مذهبنا هو الأول.
2253 - وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لأن(4/445)
الإخوة من الأم أصحاب فرض، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] والإجماع على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة من الأم، والقاعدة أن يبدأ بصاحب الفرض، فإن استوعبت المال سقط العاصب، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» وأيضا فإن ظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] يقتضي أن الإخوة من الأم(4/446)
يشتركون في جميع الثلث، ومن شرك بين الجميع أنقصهم من الثلث، ولم يعمل بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] .
2254 - وعن أحمد أنه يشرك بين الجميع، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. لأنهم ساووا ولد الأم في القرابة التي يرثون بها، لأنهم جميعا من ولد(4/447)
الأم، فيجب أن يساووهم في الميراث، وقرابة الأب إن لم تزدهم قربا، لم تزدهم بعدا.
2255 - ولهذا قال بعض الصحابة أو بعض ولد الأبوين لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هب أن أباهم كان حمارا، فما زادهم إلا قربا. فشرك بينهم، ولهذا سميت هذه المسألة المشركة والحمارية، والله أعلم.
قال: وإذا كان زوج، وأم، وإخوة وأخوات لأم، وأخت لأب وأم، وأخوات لأب، فللزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة والأخوات من الأم الثلث بينهم بالسوية، وللأخت من الأب والأم النصف، وللأخوات من الأب السدس.(4/448)
ش: أما كون للزوج النصف، فلما تقدم من الآية الكريمة، إذ ليس في المسألة ولد، وأما كون الأم لها السدس، فلقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وأما كون الإخوة والأخوات من الأم لهم الثلث بينهم بالسوية، فلما تقدم من قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وأما كون الأخت من الأبوين لها النصف، فلقوله سبحانه: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وأما كون الأخوات من الأب لهن السدس فلأنهن مع الأخت بمنزلة بنات الابن مع البنت، وقد تقدم ذلك، وإنما مراد الخرقي والله أعلم بذكر هذه المسألة بيان دخول العول في الفرائض. ومعنى العول أن تزيد الفروض على المال كهذه المسألة، فإن فيها نصفا، ونصفا، وثلثا، وسدسا، وسدسا، فيدخل النقص على الجميع، ويقسم المال بينهم على قدر فروضهم، كما يقسم مال المفلس بين غرمائه بالحصص، لضيق ماله عن وفائهم، فأصل هذه المسألة من ستة، وتعول إلى عشرة، وليس في الفرائض ما يعول مثلها سواها، ولهذا لقبت بذات الفروخ تشبيها للأصل بالأم، وعولها بفروخها، وتسمى(4/449)
أيضا ذات الفروج بالجيم، لكثرة الفروج فيها، والله أعلم.
قال: وإذا كان ابنا عم أحدهما أخ لأم، فللأخ من الأم السدس، وما بقي بينهما نصفين.
ش: لأن الأخ للأم له السدس إذا لم يكن ابن عم، فكذلك إذا كان ابن عم، اعتمادا على الأصل، وإذا أخذ السدس كان الباقي بينهما بالسوية، لاستوائهما في التعصيب. والله أعلم.(4/450)
[باب أصول سهام الفرائض التي تعول]
ش: معنى «أصول سهام الفرائض» المخارج التي تخرج منها فروضها، وقد تقدم معنى العول، وعكسه الرد، وهو أن يفضل المال عن الفروض والعدل تساوي المال والفروض.
قال: وما فيه نصف وسدس، أو نصف وثلث، أو نصف وثلثان، فأصله من ستة، وتعول إلى سبعة، وإلى ثمانية، وإلى تسعة، وإلى عشرة، ولا تعول أكثر من ذلك.
ش: أي والذي فيه من المسائل نصف وسدس، إلى آخره، وإنما كان أصل ذلك من ستة، لأن مخرج السدس من ستة، ومخرج النصف من اثنين، وهما داخلان في الستة، ومخرج الثلث والثلثين من ثلاثة ومخرج النصف من اثنين وإذا ضربت اثنين في ثلاثة بلغ ستة، وأمثلة ذلك بنت، وأم، وعم، أصلها من ستة، ومنها تصح، للبنت النصف، وللأم السدس، والباقي(4/451)
للعم، زوج، وأم وأخ، أصلها من ستة أيضا، ومنها تصح، للزوج النصف وللأم الثلث، وما بقي للأخ، زوج، وأختان من أبوين، أو من أب، أو إحداهما لأبوين، والأخرى لأب، أصلها [من ستة، وتعول إلى سبعة، أو زوج، وأخت لأبوين أو لأب، وجدة، زوج، وأخت، وأم، أصلها] من ستة، وتعول إلى ثمانية، زوج، وأم وثلاث أخوات متفرقات، تعول إلى تسعة، عول عشرة أم الفروخ وقد تقدمت، وطريق العمل في العول، أن تأخذ الفروض من أصل المسألة، وتضم بعضها إلى بعض، فما بلغت السهام فإليه انتهت المسألة، فتقول في: زوج وأخت، وأم. أصلها من ستة، للزوج النصف ثلاثة وللأخت كذلك، وللأم الثلث اثنان، المجموع ثمانية. قال: وما فيه ربع وسدس، أو ربع وثلث، أو ربع وثلثان، فأصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، وإلى خمسة عشر، وإلى سبعة عشر، ولا تعول إلى أكثر من ذلك.(4/452)
ش: إنما كان أصل ذلك من اثني عشر، لأن مخرج الربع من أربعة، ومخرج السدس من ستة، وبينهما موافقة بالأنصاف، فإذا تضرب نصف أحدهما في كامل الآخر، فيبلغ اثني عشر، وكذلك تضرب مخرج الربع في مخرج الثلث والثلثين وهو ثلاثة، لعدم الموافقة بينهما، فيصير اثني عشر، مثال ذلك زوج، وأبوان، وخمسة بنين، للزوج الربع ثلاثة، وللأبوين السدسان أربعة، والباقي للبنين، وهو خمسة أسهم، لكل ابن سهم، امرأة وأختان لأبوين أو لأب، وعصبة، أمثلة عول ذلك: زوج، وابنتان وأم، أصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، زوج، وأبوان، وابنتان، تعول إلى خمسة عشر، ثلاث نسوة، وجدتان، وأربع أخوات لأم، وثمان لأب، تعول إلى سبعة عشر، ولا يعول هذا الأصل إلى أكثر من هذا. والله أعلم.
قال: وما فيه ثمن وسدس، أو ثمن وسدسان، أو ثمن وثلثان، فأصلها من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر من ذلك.(4/453)
ش: لأن مخرج الثمن من ثمانية، ومخرج السدس من ستة، وبينهما موافقة بالأنصاف، فإذا ضربت وفق أحدهما في كامل الآخر انتهى إلى أربعة وعشرين، وكذلك إذا ضربت مخرج الثمن، في مخرج الثلثين وهو ثلاثة، يبلغ أربعة وعشرين، ولم يقل: ثلث وثمن. لعدم اجتماعهما، إذ الثمن لا يكون إلا للزوجة مع الولد، وإذا ينتفي الثلث، إذ هو فرض الإخوة من الأم، والولد يسقطهم، وفرض الأم، والولد يحجبها عنه إلى السدس، ومثال المسألة امرأة وأبوان، وابن، للمرأة الثمن، وللأبوين السدسان، والباقي - وهو ثلاثة عشر سهما - للابن، امرأة، وابنتان، وأم، وعصبة، للمرأة الثمن، وللبنتين الثلثان، وللأم السدس، والباقي - وهو سهم - للعصبة، مثال عولها: امرأة، وأبوان، وابنتان، تعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر من ذلك، ولهذا سميت البخيلة، لأنها أقل الأصول عولا، وتسمى المنبرية.
2256 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عنها على المنبر فقال: صار ثمنها تسعا. ومضى في خطبته، يعني أن المرأة كان لها الثمن(4/454)
ثلاثة من أربعة وعشرين، صار لها بالعول ثلاثة من سبعة وعشرين، وهي التسع، والله أعلم.
قال: ويرد على كل أهل الفرائض على قدر ميراثهم، إلا الزوج والزوجة.
ش: قد تقدم معنى الرد، وهو أن يفضل المال عن الفروض، كما إذا لم يخلف الميت إلا بنات، أو جدات، ونحو ذلك، ولا نزاع بين أهل العلم أنه لا يرد على الزوج والزوجة.
2257 - إلا ما روي عن عثمان أنه رد على زوج، وأول على أنه كان عصبة، أو ذا رحم، إذ العمدة في الرد قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] والزوجة ليس سببها ذا رحم، واختلف هل يرد على غيرهما من ذوي الفروض؟ ومشهور مذهبنا الذي عليه الأصحاب القول بالرد مطلقا، للآية الكريمة، إذ هؤلاء من ذوي الأرحام، فيكونون أولى من غيرهم بنص الكتاب.
2258 - وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلي» وهو عام في جميع المال، (وعن(4/455)
أحمد) : لا رد مطلقا. والفاضل عن ذوي الفروض لبيت المال، وقد تقدم الكلام على ذلك، والإشارة إلى دليله، فيما إذا أوصى بجميع ماله.
2259 - ونقل عنه ابن منصور: لا يرد على ولد الأم مع الأم، ولا على الجدة مع ذي سهم، ولعله تبع في ذلك أثرا، والله أعلم.
قال: وإذا كانت أخت لأب وأم، وأخت لأب، وأخت لأم فللأخت للأب والأم النصف، وللأخت للأب السدس، وللأخت للأم السدس، وما بقي يرد عليهم على قدر سهامهن، فصار المال بينهن على خمسة أسهم، للأخت للأب والأم ثلاثة أخماس المال، وللأخت للأب الخمس، وللأخت للأم الخمس.(4/456)
ش: هذا مثال للرد، وهو واضح وطريق العمل فيه أنك تأخذ سهام أهل الرد من أصل مسألتهم، وهي أبدا تخرج من ستة، إذ ليس في الفروض مالا يخرج منها إلا الربع والثمن، وليسا لغير الزوجين، وليسا من أهل الرد، ثم تجعل عدد سهامهم أصل مسألتهم، كما صارت السهام في المسألة العائلة، هي المسألة التي تضرب فيها العدد الذي انكسرت عليه سهامه، وكذلك هنا إذا انكسرت على فريق منهم ضربته في عدد سهامهم، لأن ذلك صار أصل مسألتهم، ومن أمثلة المسألة، جدة، وأخ من أم، لكل واحد منهما السدس، أصلها اثنان، فتقسم المال عليهما، لكل واحد منهما نصف المال، فإن كانت الجدات ثلاثا فلهن السهم، لا ينقسم عليهن، فتضرب عددهن في أصل المسألة، وهي اثنان، تصير ستة، للأخ من الأم النصف ثلاثة، ولكل جدة سهم، وفي مثال الخرقي لو كن الأخوات من الأب أربعا، فإنك تضرب عددهن في أصل مسألتهم وهو خمسة، تصير عشرين، للأخت للأب والأم ثلاثة أخماسها اثنا عشر، وللأخت من الأم الخمس أربعة، وللأخوات للأب كذلك، لكل واحدة سهم، بنت وأربع بنات ابن، وثلاث جدات، أصلها أيضا من خمسة وتصح من ستين، إذ سهم الجدات لا ينقسم عليهن، وكذلك سهم(4/457)
بنات الابن، والرءوس متباينة، فإذا ضربت عدد أحدهما في الآخر كان اثني عشر، ثم إذا ضربت ذلك في خمسة بلغ ستين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب ميراث الجدات]
باب الجدات
قال: وللجدة إذا لم تكن أم السدس.
ش: ترث الجدة السدس بالإجماع.
2260 - وقد شهد له ما روى قبيصة بن ذؤيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر، فسألته عن ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاها السدس. فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال: مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر، قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب، فسألته ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيكما خلت به فهو لها» . رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي،(4/458)
وتحجبها الأم من أية جهة كانت، كما اقتضاه كلام الخرقي، وهو إجماع أيضا.
2261 - لما روى بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أم» ، رواه أو داود، والله أعلم.
قال: وكذلك إن كثرن لم يزدن على السدس فرضا.
ش: الجمع من الجدات لهن السدس كما للواحدة، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(4/459)
2262 - وعن أبي بكر نحوه، فروى سعيد: ثنا سفيان وهشيم، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: جاءت الجدتان إلى أبي بكر، فأعطى أم الأم الميراث دون أم الأب، فقال له: عبد الرحمن بن سهل بن حارثة - وكان شهد بدرا -: يا خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطيت التي إن ماتت لم يرثها، ومنعت التي لو ماتت ورثها، فجعل أبو بكر السدس بينهما. مع أن هذا أيضا قد حكي إجماعا، وقول الخرقي: لم يزدن(4/460)
على السدس فرضا. يحترز به مما تقدم له من الرد، فإنهن يأخذن في الرد زيادة على السدس، والله أعلم.
قال: وإن كان بعضهن أقرب من بعض كان الميراث لأقربهن.
ش: أما إن كانتا من جهة واحدة، - كما إذا كانت إحداهما أم الأخرى - فالإجماع على أن الميراث للقربى، وتسقط البعدى، وأما إن كانتا من جهتين، والقربى من جهة الأم، فبالاتفاق أيضا، - لكن عندنا - على أن الميراث لها دون البعدى، لأن الأقرب يحجب الأبعد، دليله الآباء والأبناء، أما إن كانت القربى من جهة الأب فهل تحجب البعدى من جهة الأم؟ فيه روايتان، (إحداهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي، ونصره أبو محمد - تحجبها لما تقدم، (والثانية) - وبها قطع القاضي في جامعه، وصححها ابن عقيل في التذكرة، وهي المنصوصة عنه، حتى إن القاضي في الروايتين لم يذكر الرواية الأولى إلا عن الخرقي، ولم يستشهد لها بنص - لا تحجبها، لأن الأب الذي تدلى به الجدة، لا يحجب الجدة من قبل الأم، فالتي تدلي به أولى(4/461)
أن لا تحجبها، وبهذا فارقت القربى من قبل الأم، فإنها تدلي بالأم، وهي تحجب جميع الجدات، ومثال ذلك أم أم، وأم أم الأب، المال للأولى بلا نزاع عندنا، أم أب، وأم أم أم، المال للأولى في قول الخرقي، ولهما على المنصوص، والله أعلم.
قال: والجدة ترث وابنها حي.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي، وابن عقيل، وأبي محمد وغيرهم.
2263 - لما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أول جدة أطعمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس أم أب مع ابنها، وابنها حي» . رواه الترمذي. ولأن الجدات أمهات، يرثن ميراث الأم، لا ميراث الأب، فلا يحجبن به كأمهات الأم (والرواية الثانية) لا ترث مع حياته، بل يحجبها.
2264 - وهو قول زيد بن ثابت، لأنها تدلي به، فلا ترث معه، كأم الأم مع الأم، ومحل الخلاف إذا كان الابن أبا للميت(4/462)
أو جده، أما لو كان عما للميت فإنه لا يحجبها رواية واحدة، بل قال ابن عقيل: بالإجماع. ومثال المسألة أم أب وأب، فعلى الأولى لها السدس والباقي له، وعلى الثانية الكل له، أم أب، وأم أم، وأب، فعلى الأولى السدس بينهما، وعلى الثانية السدس لأم الأم على الصحيح، وقيل: بل نصفه والباقي للأب، والله أعلم.
قال: والجدات المتحاذيات أن تكون أم أم أم، وأم أم أب، وأم أبي أب، وإن كثرن فعلى ذلك.
ش: لما تقدم له - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الجدات يرثن السدس وإن كثرن، وأن القربى تسقط البعدى، أراد أن يبين الجدات المتحاذيات، أي المتساويات في الدرجة، وإلا مع عدم التساوي ترث القربى دون البعدى، والجدات المتحاذيات كما ذكر الخرقي، لأن الجميع استووا في أن بينهن وبين الميت درجتين، ولا يتصور التحاذي في الثلاث إلا على ما ذكر،(4/463)
فأما في الأربع فأم أم أم أم، وأم أم أم أب، وأم أم أبي أب، وأم أبي أبي أب. وقول الخرقي: وإن كثرن فعلى ذلك. يحتمل أن يريد أنه يرث أكثر من ثلاث جدات مع تحاذيهن، فعلى هذا يرث في الدرجة الخامسة خمس: أم أم أم أم أم وأم أم أم أم أب، وأم أم أم أبي أب، وأم أم أبي أبي أب، وأم أبي أبي أبي أب، وفي السادسة ست، وعلى هذا أبدا، ويحتمل هذا أيضا إطلاق الخرقي المتقدم في قوله: وكذلك إن كثرن لم يزدن على السدس. وأظنه رواية محكية، وذلك لأن الزائدة على الثلاث جدة أدلت بوارث، فوجب أن ترث كإحدى الثلاث، والمعروف والمشهور في قول أحمد ومذهبه أنه لا يرث أكثر من ثلاث جدات، وهن اللاتي ذكرهن الخرقي، أم الأم وإن علت درجتها، وأم الأب وإن علت درجتها، وأم الجد وأمهاتها، ولا ترث أم أب الأم بالإجماع، لإدلائها بغير وارث، ولا أم أبي الجد عندنا.
2265 - والأصل في حصر الإرث في الثلاث السابقات ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث جدات السدس، ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم» ، رواه الدارقطني [هكذا] مرسلا،(4/464)
والأصل عدم توريث ما زاد على ذلك، ما لم يقم عليه دليل.
2266 - وقد روى سعيد، عن إبراهيم، قال: كانوا يورثون من الجدات ثلاثا، ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم. والله أعلم.
باب من يرث من الرجال والنساء
قال: ويرث من الرجال عشرة: الابن، ثم ابن الابن، وإن سفل، والأب، والجد وإن علا، والأخ، وابن الأخ، والعم، ثم ابن العم، والزوج، ومولى النعمة، ومن النساء سبع، البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة، والأخت، والزوجة ومولاة النعمة.(4/465)
ش: هؤلاء مجمع على توريثهم، وقد شهد لغالبهم الكتاب والسنة، فالابن في قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] وابنه ولد، فيدخل في ذلك، والأب في قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] والجد يدخل في ذلك أيضا، والأخ من الأم في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] والأخ للأبوين أو للأب في قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وابن الأخ، والعم، وابنه في قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فهو لأولى رجل ذكر» وشرط ابن الأخ والعم، وابنه أن لا يكونوا من الأم، لأنهم إذا ليسوا بعصبة، والزوج في قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] ومولى النعمة في قوله - عليه(4/466)
السلام -: «الولاء لمن أعتق» والبنت، وبنت الابن، والأم، والأخت، والزوجة ومولاة النعمة فيما تقدم من الكتاب والسنة، والجدة فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعمها السدس. والله أعلم.
[باب ميراث الجد]
قال: ومذهب أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجد قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ش: يعني في توريث الإخوة مع الجد، وفي كيفية توريثهم معه، أما الأول - وهو توريث الإخوة مع الجد - فهو المذهب المعروف، المشهور عند عامة الأصحاب.
2267 - وهو قول علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لأن توريث الإخوة ثبت بنص الكتاب، فلا يمنعون(4/467)
إلا بنص، أو إجماع، أو قياس، ولم يرد شيء من ذلك، ولأن الأخوة والجدودة في درجة واحدة، إذ الجد أب الأب، والأخ ابنه، وقرابة البنوة لا تنقص عن قرابة الأبوة، بل تعصيب البنوة أقوى.(4/468)
2268 - ولهذا مثله زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بواد خرج منه نهر، تفرق منه جدولان، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي، ونحو ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(4/469)
وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية أخرى، اختارها أبو حفص - أظنه البرمكي - أن الجد يسقط الإخوة كما يسقطهم الأب.
2269 - وهو مذهب أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
2270 - ويروى عن ثلاثة عشر صحابيا، منهم عثمان، وعائشة، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، ولأنه والد، بدليل(4/470)
قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 38] .
2271 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا» والوالد لا ترث الإخوة معه شيئا، قال الله تعالى:(4/471)
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] والكلالة من لا ولد له ولا والد.
2272 - ولهذا قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ألا يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أبا الأب أبا. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» والجد أولى من الأخ، لأن له إيلادا، ولو ازدحمت الفروض سقط الأخ دونه، ولأنه كالأب في أنه لا يقتل بابن ابنه، ولا يحد بقذفه، ولا يقطع بسرقة ماله، وتجب عليه نفقته، ويمنع من دفع زكاته إليه، فكذلك هنا، ثم نقول: لا شك أن أمر الجد قد اشتبه على أكابر الصحابة.
2273 - وقد روى الإمام أحمد عن الحسن، «أن عمر سأل عن فريضة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجد، فقام معقل بن يسار المزني فقال: قضى فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ماذا؟ قال: السدس.(4/472)
قال: مع من؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، قال: فما تغني إذا» ، وإذا اشتبه الأمر كان المرجع إلى أكثر الصحابة وأقدمهم وأعلمهم أولى. ولا تفريع على هذا القول، أما على الأول فاختلفوا في كيفية توريثهم معه، ومذهبنا في ذلك بلا نزاع مذهب زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كما يذكره الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
2274 - وإنما اعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك على قول زيد، لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله عز وجل أبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» رواه أحمد والنسائي، والترمذي وصححه، وابن ماجه، والحاكم، وقال: إنه على شرط الشيخين، وقال كثير من أهل العلم بالحديث: إن الصحيح أنه مرسل عن أبي قلابة،(4/473)
عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا قال الدارقطني، والخطيب، وقال ابن عبد البر: إن أكثر الرواة على هذا. واتفق الكل أن المسند منه «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» وكذلك أخرجه الشيخان، دون بقية الحديث.
2275 - وقد روي هذا الحديث من رواية جابر، أخرجه الطبراني، ومن رواية أبي سعيد الخدري، رواه قاسم بن أصبغ، ومن رواية ابن عمر، أخرجه أبو يعلى الموصلي، لكن في أسانيدها كلام، وأقربها، وأحسنها حديث أنس، وبها وإن كان مرسلا يتقوى، ويصير حجة عند العامة، والله أعلم.(4/474)
قال: وإذا كان إخوة، وأخوات، وجد، قاسمهم الجد بمنزلة أخ، حتى يكون الثلث خيرا له، فإذا كان الثلث خيرا له، أعطي ثلث جميع المال.
ش: الكلام في الإخوة والأخوات للأبوين أو للأب، أما للأم فإن الجد يسقطهم بلا نزاع، فإذا كان إخوة، وأخوات، وجد، ولم يكن في المسألة ذو فرض، فإن للجد الأحظ من شيئين، المقاسمة كأخ، أو ثلث جميع المال، فمع أخ، أو أختين المقاسمة أحظ له، ومع ثلاثة إخوة أو ست أخوات، الثلث أحظ له، ومع أخوين، أو أربع أخوات يستوي الأمران، والله أعلم.
قال: وإذا كان مع الجد والإخوة والأخوات أصحاب فرائض، أعطي أصحاب الفرائض فرائضهم، ثم ينظر فيما(4/475)
بقي، فإن كانت المقاسمة خيرا للجد من ثلث ما بقي، ومن سدس جميع المال، أعطي المقاسمة، وإن كان ثلث ما بقي خيرا له من المقاسمة، ومن سدس جميع المال أعطي ثلث ما بقي وإن كان سدس جميع المال أحظ له من المقاسمة، ومن ثلث ما بقي أعطي سدس جميع المال.
ش: إذا كان مع الجد والإخوة ذو فرض، فللجد بعد أخذ ذي الفرض فرضه الأحظ من ثلاثة أشياء. (المقاسمة) كأخ، كما لو لم يكن ذو فرض، (أو ثلث ما بقي) كما مع عدم ذي الفرض، إذ ما أخذ بالفرض كأنه ذهب من المال، فثلث الباقي بمنزلة ثلث جميع المال، (أو سدس جميع المال) لأن غاية الإخوة أن يكونوا بمنزلة الولد، وهو لا ينقص عن السدس مع الولد، فعلى هذا متى زادت الفروض عن النصف، فلا حظ له في ثلث الباقي، وإن نقصت عن النصف فلا حظ له في سدس جميع المال، ثم تارة تكون المقاسمة خيرا له، كما إذا اجتمع والحال هذه مع أخ، وتارة يكون ثلث الباقي خيرا له، كما إذا كانت الإخوة ثلاثة، والله أعلم.
قال: ولا ينقص الجد أبدا عن سدس جميع المال أو تسميته إذا زادت السهام.(4/476)
ش: قد تقدمت الإشارة إلى أن الجد لا ينقص عن السدس، لأنه لا ينقص عن السدس مع البنين، فمع الإخوة أولى.
2276 - وعن عمران بن حصين أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ قال: «لك السدس» فلما أدبر دعاه فقال: «لك سدس آخر» فلما أدبر دعاه فقال: «إن السدس الآخر طعمة» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه. وقوله: أو تسميته إذا زادت السهام. يعني إذا كانت المسألة عائلة، فإنه يسمى له السدس، وإن نقص عن سدس جميع المال، مثاله زوج، وأم وابنتان، وجد، للزوج الربع، وللأم السدس، وللابنتين الثلثان، وللجد السدس،(4/477)
أصل المسألة من اثني عشر، وتعول إلى خمسة عشر، للجد منها [السدس] سهمان، وهما ثلثا الخمس، وهما أربعة أخماس ما [كان] يحصل له، إذ الخمسة عشر إذا قسمت على الاثني عشر، خص كل سهم واحد وربع، فالسهمان من الاثني عشر، سهمان ونصف من الخمسة عشر، وقد حصل له منها سهمان، فنقص عليه الخمس. قال - وإذا كان أخ لأب وأم، وأخ لأب، وجد، قاسم الجد الأخ للأب والأم، والأخ للأب على ثلاثة أسهم، ثم رجع الأخ للأب والأم على ما في يد أخيه لأبيه فأخذه.
ش: هذه قاعدة في الجد، وهو أنه إذا اجتمع معه ولد أبوين، وولد أب، فإن ولد الأبوين يعادون الجد بولد الأب، ثم ما حصل لولد الأب أخذه منهم ولد الأبوين، ففي الصورة التي ذكرها الخرقي تستوي للجد المقاسمة وثلث جميع المال، فيكون المال بينهم على ثلاثة أسهم، للجد سهم، ولكل أخ سهم، ثم يرجع الأخ للأبوين على الأخ للأب، فيأخذ ما في يده، إذ لا ميراث لولد الأب مع ولد الأبوين.(4/478)
قال: وإذا كان أخ وأخت لأب وأم أو لأب، وجد، كان المال بين الجد والأخ والأخت على خمسة أسهم، للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم.
ش: المقاسمة هنا أحظ للجد من الثلث فتتعين.
قال: وإذا كانت أخت لأب وأم، وأخت لأب، وجد، كانت الفريضة بين الجد والأختين على أربعة أسهم للجد سهمان، ولكل أخت سهم، ثم رجعت الأخت للأب والأم على أختها لأبيها فأخذت ما في يدها لتستكمل النصف.
ش: قد تقدم أصل هذا، وأن المقاسمة إذا كانت أحظ للجد أخذها، وأن ولد الأبوين يعادون الجد بولد الأب، ثم يأخذون منهم ما حصل لهم، فتأخذ الأخت للأبوين ما في يد الأخت من الأب ليكمل لها النصف، لأن الأخت للأب لا تأخذ شيئا إلا إذا أخذت الأخت للأبوين النصف.
قال: فإن كان مع التي من قبل الأب أخوها، كان المال بين الجد والأخ والأختين على ستة أسهم، للجد سهمان، وللأخ سهمان، ولكل أخت سهم، ثم رجعت الأخت من الأب والأم، على الأخ والأخت من الأب، فأخذت مما في(4/479)
أيديهما، لتستكمل النصف، فتصح الفريضة من ثمانية عشر سهما، للجد ستة أسهم، وللأخت للأب والأم تسعة أسهم، وللأخ سهمان، وللأخت سهم.
ش: المقاسمة والثلث هنا سيان، فيكون كما ذكره الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى، ثم تأخذ الأخت تمام النصف، وهذه القاعدة فيها، وهو أن ولد الأبوين يأخذ ما في يد ولد الأب، إلا أن يكون ولد الأبوين أختا [واحدة] ، فتأخذ تمام النصف، وما فضل يكون لولد الأب، ففي هذه المسألة الفاضل عن النصف سهم، بين الأخ وأخته على ثلاثة، فتضرب ثلاثة في أصل المسألة وهو ستة، تبلغ ثمانية عشر، ثم يكون كما ذكر الخرقي، والله أعلم.
قال: وإذا كان زوج، وأم، وأخت، وجد، فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، ثم يقسم نصف الأخت، وسدس الجد، بينهما على ثلاثة أسهم، للجد سهمان، وللأخت سهم، فتصح الفريضة من سبعة وعشرين سهما، للزوج تسعة أسهم، وللأم ستة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة.(4/480)
ش: هذا مذهب زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقيل: إنه لم يصرح بذلك، وإنما أصحابه قاسوها على أصوله، وأصل هذه المسألة من ستة، وتعول إلى تسعة، ثم يقسم نصف الأخت، وسدس الجد بينهما، وذلك أربعة على ثلاثة، لا تصح ولا توافق، فتضرب ثلاثة في تسعة، تصير سبعة وعشرين، ثم كل من له شيء مضروب في ثلاثة، فللزوج ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وللأم اثنان في ثلاثة بستة، وللجد والأخت أربعة في ثلاثة باثني عشر، مقسومة بينهما، للذكر مثل حظ الأنثيين فللجد ثمانية، وللأخت أربعة.(4/481)
قال: وتسمى هذه الأكدرية، ولا يفرض للجد مع الأخوات إلا في هذه المسألة.
ش: قيل: سميت بذلك لأنها كدرت على زيد أصوله، فإنه أعالها، ولا عول عنده في مسائل الجد مع الإخوة، وفرض للأخت معه، ولا يفرض للأخت في غير هذه الصورة، وجمع سهامه وسهامها فقسمهما بينهما، ولا نظير لذلك.
2277 - وقيل: سميت بذلك لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلا اسمه أكدر، فأفتى فيها على مذهب زيد وأخطأ فيها، فنسبت إليه، وإنما فرض للأخت مع الجد، وأعيلت المسألة لأنه لو لم يفرض لها لسقطت، وليس في الفريضة من يسقطها، وهذا كله على المذهب المعروف، ولنا قويل آخر أنها تسقط، ويكون الباقي بعد نصف الزوج، وثلث الأم، وهو السدس للجد بالفرض، كسائر المسائل التي لا يفضل فيها إلا السدس، وإنما ضم نصفها إلى سدسه، وقسم بينهما، لأنها لا تستحق معه إلا بحكم المقاسمة، والله أعلم.(4/482)
قال: وإذا كانت أم، وأخت، وجد، فللأم الثلث، وما بقي بين الجد والأخت على ثلاثة أسهم، للجد سهمان، وللأخت سهم.
ش: الباقي بعد الثلث سهمان، بين الجد، والأخت على ثلاثة، فتضرب ثلاثة في ثلاثة، تصح من تسعة، للأم ثلاثة أسهم، وللجد أربعة، وللأخت سهمان، وتسمى هذه المسألة الخرقاء، لكثرة اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيها، كأن الأقوال خرقتها، قيل: اختلف الصحابة فيها على سبعة أقوال، ولهذا أيضا سميت المسبعة، وتسمى المسدسة، لأن معنى السبعة ترجع إلى ستة.
2278 - وسأل الحجاج الشعبي عنها، فقال: اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر له عثمان، وعليا، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس.(4/483)
قال: وإذا كانت بنت، وأخت، وجد، فللبنت النصف، وما بقي فبين الجد والأخت على ثلاثة أسهم، للجد سهمان، وللأخت سهم.
ش: المقاسمة هنا أحظ للجد من ثلث الباقي ومن سدس جميع المال، فيأخذها، وأصل المسألة من اثنين، للبنت(4/484)
سهم، ويبقى سهم على ثلاثة، لا تصح، فتضرب ثلاثة في اثنين، تصير ستة، للبنت نصفها ثلاثة، وللجد سهمان، وللأخت سهم.
[باب ميراث ذوي الأرحام]
ذوو الأرحام في أصل الوضع الشرعي واللغوي كل من انتسب إلى الميت بقرابة، سواء كانت القرابة من قبل الأب أو من قبل الأم.
2279 - ولهذا كان أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يستدل على ميراث العصبة بقوله سبحانه: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ولا نزاع أن الآية الكريمة تتناول العصبة وأصحاب الفروض، وإنما النزاع في تناولها للرد، ولذوي الأرحام، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] تتناول كل(4/485)
قريب، ولهذا قال إمامنا وأصحابنا وغيرهم: إذا أوصى لذوي رحمه، أو وقف عليهم، تناول كل قرابة له، من جهة الأب والأم. وذوو الأرحام في العرف الاصطلاحي هنا: كل قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة، لأن الوارث لما كانوا ثلاثة أقسام، (منهم) من له شيء مقدر، فسمي صاحب فرض، لأن الفرض في اللغة التقدير، (ومنهم) من يأخذ المال إذا انفرد، ويأخذ ما بقي مع ذي الفرض، وهو العصبة، ولما اختص هذان القسمان الشريفان باسمين، بقي (القسم الثالث) وهو أدنى الأقسام، وهو من لا فرض له ولا تعصيب، فخص بالاسم العام، طلبا للتمييز بين الأقسام، وهذا كما أن الحيوان يشمل الناطق والبهيم، [فلما امتاز الناطق باسمه الخاص وهو الإنسان، اختص الاسم العام وهو الحيوان بأدنى نوعيه، وهو البهيم] . وإذا تقرر أن ذوي الأرحام في الاصطلاح الطارئ اسم لمن يرث بلا فرض ولا تعصيب، فهم أحد عشر صنفا، ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، وبنو الإخوة من الأم، والعم من الأم، والعمات، والأخوال، والخالات، وأبو الأم، وكل(4/486)
جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد. والله أعلم.
قال: ويورث ذوو الأرحام.
ش: هذا المذهب المعروف، المشهور في نص أحمد، وقول أصحابه، وهو مذهب جمهور الصحابة، لقول الله سبحانه: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] هؤلاء من أولي الأرحام، فيكونون أولى بنص الكتاب.
2280 - وفي الدارقطني [عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين أصحابه، فكانوا يتوارثون، [حتى نزلت: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 75] فكانوا يتوارثون] بالنسب.»
2281 - وعن المقدام بن معد يكرب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك مالا فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وحسنه أبو زرعة.(4/487)
2282 - «وعن أبي أمامة بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رجلا رمى رجلا بسهم فقتله، وليس له وارث إلا خال، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح، إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الله ورسوله مولى من لا مولى له،(4/488)
والخال وارث من لا وارث له» رواه أحمد، وابن ماجه، وللترمذي منه المرفوع وحسنه.
2283 - وعن بريدة قال: «مات رجل من خزاعة، فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بميراثه، فقال: «التمسوا له وارثا، أو ذا رحم» فلم يجدوا له وارثا، ولا ذا رحم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوه الكبر من خزاعة» رواه أبو داود.(4/489)
2284 - وعن زيد بن أسلم، عن عطاء، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب إلى قباء، يستخير الله في العمة والخالة، فأنزل الله عليه: لا ميراث لهما، ولكن يرثان للرحم» . رواه أبو داود هكذا مرسلا، ولأن ذا الرحم امتاز على سائر المسلمين بالقرابة التي بينه وبين الميت، فكان أولى بماله كالعصبة.(4/490)
وما يقال - من أن المراد: أن من ليس له إلا خال فلا وارث له، كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له. والجوع ليس بزاد، كذلك الخال - مردود بأن في الحديث يرثه ويعقل عنه وبأن الصحابة رووا الحديث، وفهموا منه إثبات الإرث، وفهمهم موافق للحديث، فهو حجة بلا ريب، وقوله في الحديث وارث من لا وارث له أي من لا وارث له معروف، وهم أصحاب الفروض والعصبة، ويؤيد هذا الحديث المرسل لا ميراث لهما يعني مقدرا، ولكن يورثون للرحم. وعن أحمد رواية أخرى: لا يرثون مع بيت المال، بل يقدم بيت المال عليهم، بناء على أنه عاصب، وقد تقدم نصه على ذلك في الوصية بجميع المال، وأنه تبع في ذلك زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(4/491)
2285 - واستدل بعضهم لها بما روى عطاء بن يسار، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب إلى قباء يستخير الله في العمة والخالة، فأنزل الله عليه أن لا ميراث لهما» ، رواه سعيد بن منصور في سننه، وهو مردود بالزيادة التي رواها أبو داود، والله أعلم.
قال: فيجعل من لم تسم له فريضة بمنزلة من سميت له ممن هو نحوه، فيجعل الخال بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب، وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه جعلها بمنزلة العم، وبنت الأخ بمنزلة الأخ، وكل ذي رحم لم تسم له فريضة فهو على هذا النحو.
ش: لما ذكر – - رَحِمَهُ اللَّهُ - – أن ذوي الأرحام يرثون أراد أن يبين كيفية توريثهم، وأشار أولا إلى تعريفهم وبيانهم فقال: إنهم من لم تسم له فريضة. وفيه قصور، لأن ذوي الأرحام(4/492)
- كما تقدم - من لا فريضة له ولا تعصيب، ثم بين كيفية توريثهم، بأنهم يرثون بالتنزيل، وهو المذهب المشهور المعروف، حتى إن عامة الأصحاب لم يحكوا فيه خلافا.
2286 - وروي نحو ذلك عن عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وناهيك بهم، وذلك لأنهم إنما ورثوا فرعا على غيرهم، فوجب إلحاقهم بذلك الغير. وحكى الشيرازي والسامري رواية أنهم يرثون بالقرب، وهذا مذهب الحنفية، فعلى هذا أولاهم من كان من ولد(4/493)
الميت، وإن سفلوا ثم ولد أبويه أو أحدهما، وإن سفلوا، ثم ولد أبوي أبويه وإن سفلوا كذلك أبدا، لا يرث بنو أب أعلى وهناك بنو أب أقرب منهم، وإن نزلت درجتهم. ولا تفريع على هذا القول عندنا، إنما التفريع على الأول، وبيانه كما ذكر الخرقي: أن يجعل من لم تسم له فريضة على منزلة من سميت له ممن هو نحوه. فقوله: على منزلة. أي بمنزلة، أو استقر وعلا على منزلة من سميت له الفريضة، وقوله: ممن هو نحوه. «من» لبيان الجنس، أي بيان من سميت له فريضة، و «من» موصول، راجع إلى المسمى له فريضة، وهو راجع إلى من لم تسم له فريضة، والنحو الجهة أي تجعل الذي لم تسم له فريضة بمنزلة الذي سميت له فريضة، أي فريضة قال: من الذي لم تسم له جهته والضمير في جهته راجع إلى الموصول الراجع إلى من سميت له فريضة، وإيضاح ذلك فقال: فتجعل الخالة بمنزلة الأم، والعمة - أي مطلقا، سواء كانت لأبوين، أو لأب أو لأم - بمنزلة الأب.
2287 - وقد روي هذا عن عمر، وعلي، وعبد الله في العمة، ونحوه عنهم في الخال، وهذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار القاضي في التعليق، وأبي محمد وغيرهما.(4/494)
2288 - لما روى الزهري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمة بمنزلة الأب، إذا لم يكن بينهما أب، والخالة بمنزلة الأم، إذا لم تكن بينهما أم» ولأن الأب أقوى جهات العمة، فوجب تنزيلها منزلته، كبنت الأخ، وبنت العم تنزلان منزلة أبويهما، لا أخويهما (وعن أحمد) رواية أخرى أن العمة بمنزلة العم، لأنه أخوها، فنزلت منزلته.
2289 - وهو إحدى الروايتين عن علي، واختيار أبي بكر عبد العزيز، قال القاضي في تعليقه - بعد أن حكى الرواية(4/495)
مطلقة -: وينبغي أن تكون بمنزلة العم من الأبوين، لأنا لو نزلناها منزلة العم من الأب سقطت مع بنت العم من الأبوين، ولو نزلت منزلة العم من الأم نزلت بغير وارث، وتبعه على ذلك أبو الخطاب، وأبو البركات وغيرهما، (وعنه) رواية ثالثة أن العمة لأبوين أو لأب كالجد، لأنه أبوهما، والفرع يتبع أصله، قال أبو البركات: فعلى هذه العمة لأم، والعم لأم كالجدة أمهما. واعلم أن الرواية - والله أعلم - إنما وردت في العمة، كما ذكر الخرقي، كذا حكاها القاضي وغيره، وكذلك خص أبو محمد الخلاف بها في الكافي، وقطع في العم للأم أنه كالأب، وكذلك الشيرازي، لكنه قطع في العم للأم أنه كالعم، وحكى أبو البركات الخلاف فيهما. انتهى.(4/496)
وتنزل بنت الأخ بمنزلة أبيها وهو الأخ، وعلى هذا كل من كان من ذوي الأرحام، ينزل منزلة من يدلي به، وهو معنى قول الخرقي: وكل ذي رحم لم تسم له فريضة، فهو على هذا النحو. أي المثل، مثال ذلك بنت بنت، وبنت بنت ابن، بنت البنت بمنزلة البنت، وبنت بنت الابن بمنزلة بنت الابن، فيكون المال بينهما على أربعة بالفرض والرد، كأصلهما، فلو كان معهما بنت أخ كانت بمنزلة أبيها، فالباقي لها، والمسألة من ستة، فلو كان معهم خالة فهي بمنزلة الأم، فيكون لها السدس، ولبنت البنت النصف، ولبنت بنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي - وهو السدس - لبنت الأخ، فإن كان مكان الخالة عمة فمن نزلها منزلة الأب أسقط بها بنت الأخ، كما يسقط الأخ بالأب، ومن نزلها منزلة العم أسقطها، كما يسقط العم بالأب، ومن نزلها جدا، قاسم الباقي بينها وبين بنت الأخ، كما يقاسم بين الأخ في هذه المسألة.
قال: وإذا كان وارث غير الزوج والزوجة ممن قد سميت له فريضة، أو مولى نعمة، فهو أحق بالمال من ذوي الأرحام.(4/497)
ش: لما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ذوي الأرحام يرثون، أراد أن يبين شرط توريثهم فقال: شرط توريثهم أن لا يكون معهم وارث سميت له فريضة، أو مولى نعمة وأراد أن يبين بهذا أن الرد والولاء يقدمان بالميراث على الرحم، ولا نزاع عندنا - فيما أعلم - أن الرد يقدم على ذي الرحم، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخال وارث من لا وارث له» وهذا له وارث.
2290 - قال ابن مسعود: ذو السهم أولى ممن لا سهم له. ولأن الرحم التي في ذي الفرض أولى من الرحم التي لا فرض لها، أما الولاء فالمعمول عليه عندنا أيضا أنه يقدم على الرحم للحديث.
2291 - وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» (وعنه) : تقدم الرحم عليه، لانتفاء الرحم فيه.(4/498)
واستثنى الخرقي من أصحاب الفرائض الزوج والزوجة، فإن ذوي الأرحام يرثون معهما، لما تقدم من أنه لا حظ للزوجين في الرد، ولا نزاع أن الزوجين يأخذان فرضهما من غير حجب ولا عول، ثم يقسم الباقي بين ذوي الأرحام كما لو انفردوا، نص عليه، وعليه جمهور الأصحاب،(4/499)
وقيل: يقسم بينهم كما يقسم بين من أدلوا به، وهو الذي جزم به القاضي في التعليق، فعلى هذا لو خلف زوجا، وبنت بنت، وبنت أخ، فللزوج النصف، والباقي بينهما نصفين على المنصوص، وتصح من أربعة، وعلى الثاني: الباقي بينهما بعد النصف على ثلاثة أسهم. كما يقسم بين من أدلوا به، إذ الزوج يرث مع البنت الربع، ويبقى الباقي بينهما - وهو النصف والربع - على ثلاثة، فلما أخذ الزوج هنا النصف، كان الباقي بينهما على ثلاثة، وتصح من ستة، للزوج ثلاثة، ولبنت البنت سهمان، ولبنت الأخ سهم، ولو كان مكان الزوج زوجة، فعلى الأول تصح من ثمانية، للزوجة الربع اثنان، ولكل واحد منهما ثلاثة، وعلى الثاني تصح من ثمانية وعشرين، للزوجة الربع سبعة، والباقي بينهما على سبعة، لبنت البنت أربعة أسباع باثني عشر، ولبنت الأخ ثلاثة أسباع بتسعة. والله أعلم.
قال: ويورث الذكور والإناث من ذوي الأرحام بالسوية، إذا كان أبوهم واحدا، وأمهم واحدة، إلا الخال والخالة، فإن للخال الثلثين، وللخالة الثلث.
ش: ضابط هذا إذا أدلى جماعة بوارث واحد واستوت منازلهم منه، وهو الذي احترز عنه الخرقي بقوله: إذا كان(4/500)
أبوهم واحدا وأمهم واحدة، فنصيبه بينهم بالسوية ذكرهم وأنثاهم، على المشهور من الروايات، والمختار لجمهور الأصحاب، قال أبو الخطاب: عليها عامة شيوخنا. لأنهم يرثون بالرحم المجردة، فاستوى ذكرهم وأنثاهم [كولد الأم] (والرواية الثانية) للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا ولد ولد الأم، لأنهم فرع على ذوي الفروض والعصبات، فثبت فيهم حكمهم، وخرج ولد ولد الأم، لأنهم فرع على من ذكره وأنثاه سواء، فغايته أن يثبت للفرع ما للأصل، (والرواية الثالثة) يسوى بينهم إلا الخال والخالة، وهو اختيار الخرقي، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وقال: استحسانا. يعني أن مقتضى الدليل التسوية، خرج منه الخال والخالة على سبيل الاستحسان، ولم يذكر دليله، لكن إن كان لهذا أصل فيعكر على تنزيل الخال بمنزلة الأم.
2292 - وذكر بعضهم أنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الخال والد إذا لم يكن دونه أم، والخالة أم إن لم يكن دونها أم»(4/501)
وقد أشار أبو محمد إلى ضعف هذا القول، وقال: لا أعلم له وجها. قال القاضي: لم أجد هذا بعينه عن أحمد. ومثال المسألة ابن أخت مع أخته، أو ابن بنت مع أخته، المال بينهما نصفين على الأول، وأثلاثا على الثاني.
واحترز بقوله: إذا كان أبوهم واحدا، وأمهم واحدة. عما لو اختلف أبوهم وأمهم، كابن بنت، وبنت بنت أخرى، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، واحترزنا بقولنا: ولم يتفاضلوا بالسبق. عما لو خلف بنت بنت، وبنت بنت بنت، فإن المال لبنت البنت، ولهذه المسألة مزيد تحقيق، ليس هذا موضعه، والله أعلم.
قال: وإذا كان ابن أخت، وبنت أخت أخرى، أعطي ابن الأخت حق أمه النصف، وبنت الأخت حق أمها النصف.(4/502)
ش: هذا الذي احترز عنه الخرقي فيما تقدم بقوله: إذا كان أبوهم واحدا وأمهم واحدة. وهذا هو القاعدة، وهو أن الجماعة إذا أدلوا بجماعة، جعلت كل واحد منهم بمنزلة أقرب وارث إليه أدلى به، في إرثه، وحجبه، والحجب به، ففي مسألتنا ابن الأخت يدلي بأمه، وبنت الأخت الأخرى تدلي بأمها، فيكون المال بينهما نصفين كأميهما بغير خلاف. .
قال: وإذا كان ابن وبنت أخت، وبنت أخت أخرى، فللابن وابنة الأخت النصف بينهما نصفين، ولبنت الأخت الأخرى النصف.
ش: هذا أيضا مما تقدم، فللابن وأخته النصف، حق أمهما، بينهما نصفين، على مختاره ومختار الجمهور، وعلى الرواية الأخرى: يكون بينهما على ثلاثة، ولبنت الأخت الأخرى النصف حق أمها وتصح المسألة من أربعة على رأي الجمهور، وعلى الرواية الأخرى من ستة، والله أعلم.
قال: وإذا كن ثلاث بنات أخوات متفرقات، كان لبنت الأخت من الأب والأم ثلاثة أخماس المال، ولبنت الأخت من الأم الخمس، ولبنت الأخت من الأب الخمس، جعلن مكان أمهاتهن.(4/503)
ش: هذا أيضا مما تقدم، وقد صرح الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنهن جعلن مكان أمهاتهن، فبنت الأخت من الأبوين مكان أمها فلها النصف، وبنت الأخت من الأب مكان أمها، لها السدس تكملة الثلثين، وبنت الأخت من الأم مكان أمها، لها السدس، فأصل المسألة من ستة، وترجع بالرد إلى خمسة فيقسم المال بينهم على ذلك، والله أعلم.
قال: وكذلك إن كن ثلاث عمات متفرقات.
ش: هذا مبني على قاعدة، وهو أن الجماعة إذا أدلوا بواحد، واختلفت منازلهم منه، فإن نصيبه يقسم بينهم، على حسب ميراثهم منه لو ورثوه، ففي مسألتنا العمات يدلين بالأب على المذهب، ومنازلهم منه مختلفة، فإحداهن أخته لأبويه، والأخرى لأبيه، والأخرى لأمه، فتقسم نصيبه بينهن على حسب ميراثهن منه، وميراثهن منه لأخته لأبيه وأمه النصف، ولأخته لأبيه السدس تكملة الثلثين، ولأخته لأمه السدس، فتقسم نصيبه بينهن على خمسة، ونصيبه والحال هذه جميع المال، إذ لا وارث له معنا غيرهن، والله أعلم.
قال: فإن كن ثلاث بنات إخوة متفرقين، فلبنت الأخ من الأم السدس، وما بقي فلبنت الأخ من الأب والأم.(4/504)
ش: هذا أيضا مبني على ما تقدم قبل، ولو ذكره - رَحِمَهُ اللَّهُ - قبل مسألة العمات لكان أولى، إذ بنات الإخوة ينزلن منزلة الإخوة، ولو مات رجل وخلف ثلاثة إخوة متفرقين، سقط الأخ من الأب بالأخ من الأبوين، وكان للأخ من الأم السدس، والباقي للأخ من الأبوين، فكذلك هنا، لبنت الأخ من الأم السدس، والباقي لبنت الأخ من الأبوين، والله أعلم.
قال: وإذا كن ثلاث بنات عمومة متفرقين، فالمال لبنت العم من الأب والأم، لأنهن أقمن مقام آبائهن.
ش: هذا أيضا مبني على ما تقدم، وقد نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك، وقد علله الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنهن أقمن مقام آبائهن، فبنت العم من الأبوين بمنزلة أبيها، وبنت العم من الأب بمنزلة أبيها، وبنت العم من الأم بمنزلة أبيها، ولو مات شخص وخلف ثلاثة أعمام، متفرقين، كان الميراث للعم للأبوين، إذ لا ميراث للعم للأب مع العم للأبوين، والعم للأم من ذوي الأرحام.(4/505)
واعلم أن المنصوص وكلام الخرقي في هذه المسألة يلتفت إلى أن العمومة ليست جهة، وبيانه أنا إذا لم نجعلها جهة فالعمومة من جهة الأبوة، والقاعدة أن الوارث من ذوي الأرحام إذا اجتمعوا من جهة واحدة، فمن سبق إلى الوارث ورث وأسقط غيره، وبنت العم للأبوين، وبنت العم للأب قد سبقتا بنت العم للأم إلى الوارث، فتسقط بهما، ثم بنت العم للأب تسقط ببنت العم للأبوين، وأثبت أبو الخطاب العمومة جهة، فلزم على قوله أن المال يكون لبنت العم من الأم إذا نزلناها أبا، على المشهور، وبيانه أن ذوي الأرحام إذا اجتمعوا من جهتين، فإنك تنزل البعيد حتى يلحق بمن جعل بمنزلته، وإن سقط به القريب، ففي صورتنا إذا جعلنا العمومة جهة، فبنت العم من الأبوين بمنزلة أبيها، وكذلك بنت العم للأب، وجهتهما واحدة، وبنت العم للأم بمنزلة الأب، فكأن الميت مات وخلف أباه(4/506)
وعمه، ولا عبرة بالسبق إلى الوارث لاختلاف الجهة، وإذا خلف الميت أباه وعمه، كان المال للأب دون العم، فلزم أن المال لبنت العم من الأم، لتنزيلها أبا، دون بنت الأبوين، لتنزيلها عما، وقد بعد هذا القول، والله أعلم.
قال: فإن كن ثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمات متفرقات، فالثلث بين الثلاث خالات على خمسة أسهم، والثلثان بين العمات على خمسة أسهم، فتصح من خمسة عشر سهما، للخالة التي من قبل الأب والأم ثلاثة أسهم، وللخالة التي من قبل الأب سهم، وللخالة التي من قبل الأم سهم، وللعمة التي من قبل الأب والأم ستة أسهم، وللعمة التي من قبل الأب سهمان، وللعمة التي من قبل الأم سهمان.
ش: إنما كان كذلك لأن الخالات بمنزلة الأم، والعمات بمنزلة الأب، ولو خلف الشخص أباه وأمه، كان لأمه الثلث، والباقي لأبيه، ثم القاعدة أن الجماعة إذا أدلوا(4/507)
بواحد، فنصيبه بينهم على حسب ميراثهم منه، والخالات يدلين بالأم، فنصيبها بينهن على حسب ميراثهن منها، وميراثهن منها أن لأختها لأبويها النصف، ولأختها لأبيها السدس تكملة الثلثين، ولأختها لأمها السدس، أصل مسألتهن من ستة، وترجع بالرد إلى خمسة، فتقسم الثلث بينهم على خمسة، والقول في العمات كالقول في الخالات سواء، وإذا أردت تصحح المسألة قلت: أصل المسألة من ثلاثة، للأم الثلث واحد على خمسة، لا يصح ولا يوافق، وللأب الثلثان اثنان على خمسة، لا يصح أيضا ولا يوافق، والأعداد متماثلة، إذ هي خمسة وخمسة، فتجتزئ بأحد العددين، وتضربه في أصل المسألة يصير المجموع خمسة عشر، للخالات الثلاث خمسة أسهم، بينهن على خمسة، للتي من قبل الأبوين ثلاثة، وللتي من قبل الأب سهم، وللتي من قبل الأم سهم، وللعمات الثلثان، عشرة أسهم على خمسة، للتي من قبل الأبوين ستة، وللتي من قبل الأب سهمان، وللتي من قبل الأم سهمان، والله أعلم.(4/508)
[باب مسائل شتى في الفرائض] [ميراث الخنثى]
ش: يعني متفرقة، لأنه جمع في هذا الباب مسائل مختلفة، قال الله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] أي مفترقين وقال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] أي مختلفا.
قال: والخنثى المشكل يرث نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى.
ش: الخنثى: الذي له ذكر وفرج امرأة، ثم إن لم يتبين هل هو رجل أو امرأة، وأشكل علينا فهو مشكل، يرث نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى، إعمالا لحالتيه، وحذارا من ترجيح إحداهما بلا مرجح، وصار هذا كما لو ادعي نفسان دارا بأيديهما، ولا بينة لهما، فإنها تقسم بينهما، كذلك هنا.(4/509)
2293 - وأيضا فإن هذا قول ابن عباس، ولا يعرف له مخالف في الصحابة، وطريق العمل في ذلك أن تعمل المسألة على أنه ذكر، ثم على أنه أنثى، ثم تضرب إحداهما في الأخرى إن تباينتا، أو وفقها إن توافقتا، وتجتزئ بإحداهما إن تماثلتا، ثم كل من له شيء من إحدى المسألتين مضروب في الأخرى أو في وفقها، أو يجمع ما له منهما إن تماثلتا، فتقول في رجل خلف ابنا، وبنتا، وولدا خنثى، مسألة الذكورية من خمسة، ومسألة الأنوثية من أربعة، وهما متباينتان،(4/510)
فتضرب إحداهما في الأخرى، تبلغ عشرين، ثم تضربها في اثنين، تبلغ أربعين، ثم تقول: الابن له من مسألة الذكورية سهمان، وتضرب في مسألة الأنوثية أربعة بثمانية، وله من مسألة الأنوثية سهمان، تضرب في مسألة الذكورية خمسة بعشرة، مجموع ذلك ثمانية عشر، وللأنثى من مسألة الذكورية سهم، يضرب في أربعة بأربعة، ومن مسألة الأنوثية سهم، في خمسة بخمسة، المجموع تسعة، وللخنثى من مسألة الذكورية سهمان في أربعة بثمانية، ومن مسألة الأنوثية سهم، في خمسة بخمسة، المجموع ثلاثة عشر سهما، والله أعلم.
قال: فإن بال فسبق البول من حيث يبول الرجل فليس بمشكل، وحكمه في الميراث وغيره حكم رجل، وإن كان(4/511)
من حيث تبول المرأة فله حكم المرأة.
ش: قد تقدم أن الخنثى الذي له ذكر رجل وفرج امرأة، فيعتبر بمباله، فإن بال من ذكره فهو رجل، حكمه حكم الرجال في جميع الأحكام، وإن بال من فرجه فهو امرأة، حكمه حكم النساء في جميع الأحكام، وقد حكى ابن المنذر هذا إجماعا.
2294 - وروي عن علي ومعاوية.
2295 - وروي أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن بال من ذكره وفرجه اعتبر أسبقهما، فإن سبق البول من ذكره فهو رجل، وإن(4/512)
سبق من فرجه فهو امرأة، وهذه الصورة التي ذكرها الخرقي، وهي تدل على الأولى بطريق التنبيه، لأن السبق له مزية، فتترجح إحدى العلامتين به، وقول الخرقي: وإن كان من حيث. أي وإن كان السبق، وإن خرج منهما معا اعتبرنا أكثرهما، فجعلنا الحكم له، إذ الكثرة لها مزية، وإن استويا وقف أمره حتى يبلغ، فإن ظهرت فيه علامات الرجال - من نبات لحيته، وخروج المني من ذكره - فهو رجل، وإن ظهرت فيه علامات النساء - من الحيض والحمل ونحوه - فهو امرأة، فإن لم يظهر شيء. من ذلك فهو المشكل، حكمه ما تقدم، والله أعلم.
[ميراث ابن الملاعنة]
قال: وابن الملاعنة ترثه أمه وعصبتها، فإن خلف أما وخالا، فلأمه الثلث وما بقي فللخال.
ش: إذا رمى رجل امرأته بالزنا، وانتفى من ولدها، ولاعنها، فإن الولد ينتفي عنه بشرطه، فلا يرثه هو ولا أحد من عصباته، وترث أمه وذوو الفرض منه فروضهم، بلا نزاع، ثم اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد ذلك، فروى عنه أبو الحارث ومهنا أنها هي عصبته، فإن لم تكن فعصبتها عصبته.(4/513)
2296 - لما روى واثلة بن الأسقع أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» رواه أبو داود، والترمذي.
2297 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه، ثم لورثتها من بعدها.» رواه أبو داود. (وروى عنه الأثرم وحنبل) أن عصبتها عصبته، وهو اختيار الخرقي، والقاضي، وغيرهما، لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر» متفق عليه، وعصبة الأم هم أولى رجل ذكر.(4/514)
2298 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ألحق ولد الملاعنة بعصبة أمه.
2299 - ولا شك أن الصحابة عنهم قولان، فلذلك عن أحمد روايتان، (وعنه رواية ثالثة) حكاها القاضي: إن كان له(4/515)
ذو فرض رد عليهم، وإن لم يكن ذو فرض بحال فعصبته عصبة أمه، والذي حكاه أبو محمد عن القاضي أنه فسر الرواية بهذا، ويتفرع على الخلاف إذا خلف أمه وخاله، فلأمه الثلث، وما بقي للخال على الرواية الثانية، وعلى الأولى والثالثة الكل للأم، لكن على الأولى تأخذ الباقي بعد فرضها بالتعصيب، وعلى الثالثة تأخذه بالرد، ولو خلف أخته وابن أخيه، فلأخته النصف، والباقي لابن أخيه على الرواية الأولى والثانية، وعلى الثالثة الباقي للأخت بالرد.
[حكم ميراث ولد الزنا]
(تنبيه) حكم ولد الزنا حكم الولد المنفي باللعان على ما تقدم، وقولنا: إن الأم عصبة الملاعن، أو إن عصبتها عصبته. هذا في الميراث خاصة، فلا يتعدى إلى غيره من ولاية النكاح، والعقل، وغير ذلك، والله أعلم.
[ميراث العبد]
قال: والعبد لا يرث، ولا له مال فيورث عنه.
ش: العبد لا يورث بالإجماع، إذ لا مال له فيورث عنه، لأنه لا يملك، وإن قلنا يملك، فملكه ملك ناقص، يزول إلى سيده بزوال ملكه إلى رقبته.(4/516)
2300 - بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للذي باعه، إلا أن يشترطه المبتاع» وكما أنه لا يورث لا يرث - كالمرتد، بجامع النقص الذي فيه، وحكم المدبر، والمعلق عتقه بصفة، وأم الولد حكم القن، أما المكاتب فحيث حكم بحريته بأداء الجميع، أو بأداء الثلاثة الأرباع، أو بملك الوفاء، فحكمه حكم الأحرار، وإلا فحكمه حكم الأرقاء، والله أعلم.
[ميراث من كان بعضه حرا]
قال: ومن كان بعضه حرا، يرث ويورث ويحجب على مقدار ما فيه من الحرية.
ش: المعتق بعضه يرث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية، ويورث عنه ما كسب بجزئه الحر.(4/517)
2301 - والأصل في ذلك ما روى عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا، ورث بحسب ما عتق منه، وأقيم عليه الحد بحسب ما عتق منه» رواه الدارقطني، وأبو داود ولفظه « «إذا أصاب المكاتب حدا، أو ورث ميراثا، يرث على قدر ما عتق منه» ورواه النسائي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب يعتق بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه، ويرث بقدر ما عتق منه» ورواه الترمذي وحسنه، قال أبو العباس: وهو إسناد جيد، يجب العمل به. وهذا الحديث دل على شيئين (أحدهما) أن المكاتب يعتق(4/518)
منه بقدر ما أدى (والثاني) أن المعتق بعضه يحد، ويودي، ويرث بقدر ما عتق منه.
2302 - (فالحكم الأول) عارضه حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» فصار الجمهور من العلماء إليه،(4/519)
وكأنهم رأوا أنه ناسخ لما تقدم، أما (الحكم الثاني) فلم يعارضه معارض فوجب العمل به، ولا يلزم من نسخ عتقه بأداء البعض، نسخ حكم آخر في المعتق بعضه، لأن هذا حكم مستقل، يكون في المكاتب وفي غيره، واتفق أنه إذ ذاك كان في المكاتب، وأكثر ما في هذا ارتفاع بعض أنواع المعتق بعضه، لا ارتفاع حكم المعتق بعضه.
2303 - ثم يؤيد هذا أن عليا وابن عباس فيما أظن أفتيا بهذا، وهما راويا الحديث، فدل على تقرر ذلك عندهما، وأنهما فهما منه ما قلناه، وأيضا فإنه يجب أن يثبت لكل بعض حكمه، كما لو كان الآخر مثله، وإلا لا ترجيح لأحد البعضين على الآخر. إذا تقرر هذا فقال: إنه يرث، ويحجب على مقدار ما فيه من الحرية. ومثال ذلك إذا قلنا مات شخص وخلف أما، وبنتا نصفهما حر، وأبا، فإنك تقول: للبنت(4/520)
بنصف حريتها نصف ميراثها، وهو الربع، وللأم مع حريتها ورق البنت الثلث، فقد حجبتها بحريتها عن السدس، فبنصف حريتها تحجبها عن نصف السدس، يبقى لها الربع، لو كانت حرة فلها بنصف حريتها نصفه وهو الثمن، والباقي للأب، وتصح المسألة من ثمانية، للبنت الربع سهمان، وللأم الثمن سهم، والباقي للأب، ولو كانت بنت نصفها حر، وأم، وعم، فللبنت بنصف حريتها نصف النصف وهو الربع، وبنصف حريتها حجبت الأم عن نصف السدس، فبقي للأم الربع، والباقي للعم، وتصح من أربعة، وعلى هذا.
(تنبيه) : قال بعض أصحابنا: إن ما يرثه المعتق بعضه مثل كسبه، إن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة كان بينهما، وإن كانت مهايأة فهل هو لمن الموت في نوبته، أو بينهما؟ على وجهي الأكساب النادرة، قال أبو العباس: والصواب الذي عليه جمهور الأصحاب أن ميراثه له، لا حق للسيد فيه مطلقا، والله أعلم.
قال: وإذا خلف ابنين، فأقر أحدهما بأخ، فللمقر له ثلث ما في يد المقر، وإن كان أقر بأخت فلها خمس ما في يده.(4/521)
ش: إذا أقر بعض الورثة بوارث للميت، لزمه من إرثه بقدر حصته، لإقراره له به، فإذا خلف ابنين فأقر أحدهما بأخ، فله ثلث ما في يده، لأنهم إذا كانوا ثلاثة كان المال بينهم أثلاثا، فالمقر في يده النصف، والذي يستحقه بمقتضى إقراره الثلث، فالفاضل عنه السدس، وهو ثلث ما في يده، يدفعه إلى المقر له، كما تضمنه إقراره، وإن أقر بأخت فلها خمس ما في يده، لأنه والحال هذه، المال بينهم أخماسا، وفي يد المقر النصف خمسان ونصف، والذي يستحقه الخمسان، فالفاضل عنهما نصف خمس جميع المال، وهو خمس النصف الذي في يده، فيدفعه لها.
ونبه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذكر هذه المسألة على مذهبي أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله - ومن وافقهما، فإن أبا حنيفة يقول: يدفع الابن المقر إلى الابن المقر به نصف ما في يده، لأنه يقر أنهما سواء. والشافعي يقول: لا يدفع إليه شيء، إذ شرط الإرث ثبوت النسب ولم يوجد.
[ميراث القاتل]
قال: والقاتل لا يرث المقتول، عمدا كان القتل أو خطأ.
ش: القاتل لا يرث المقتول في الجملة.(4/522)
2304 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال: «لا يرث القاتل شيئا» .
2305 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «القاتل لا يرث» رواه الترمذي.
2306 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليس للقاتل ميراث» رواه مالك في الموطأ، وأحمد، وابن ماجه.(4/523)
2307 - وقد عمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك، فأعطى دية ابن قتادة المدلجي لأخيه دون أبيه، وقد كان حذفه بسيف فقتله، ومثل هذا يشتهر، ولم ينكر، فكان إجماعا، ولأن(4/524)
التوريث يفضي إلى تكثير القتل المطلوب عدمه، لأنه ربما استعجل قتل مورثه ليرثه.
إذا تقرر هذا، فكلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عام في كل قتل، سواء تعلق به مأثم، كقتل العامد، والباغي العادل، أو لم يتعلق به، كقتل الخطأ ونحو ذلك، وسواء كان القتل مضمونا بقصاص، أو دية، أو كفارة، أو لم يكن، كالقتل قصاصا، أو حدا، أو دفعا، وقتل العادل الباغي، والباغي العادل، إن لم يضمن الباغي، وهو الصحيح، والمتفق عليه عندنا في ذلك، القتل المضمون، وإن كان خطأ لا إثم فيه، سدا للذريعة، وطلبا للتحرز عنه، أما غير المضمون كما تقدم ففيه ثلاث روايات:
(إحداها) : لا إرث مطلقا، وهو مقتضى عموم كلام الخرقي، وعموم الأحاديث، وهو أمشى على سد الذريعة.
(والثانية) : لا يمنع مطلقا، صححه أبو الخطاب في الهداية، لأن مضمونيته تدل على المؤاخذة به، [وذلك يناسب عدم الإرث عقوبة له، وعدم مضمونيته تدل على نفي الحرج عنه] ، وذلك يناسب الإرث.
(والثالثة) : لا يرث الباغي العادل، ويرث من عداه ممن لم يضمن قتله، جزم به القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وأبو محمد في المغني، في قتال أهل البغي، لأن الباغي آثم ظالم،(4/525)
فناسب أن لا يرث، مع دخوله في عموم النص والمعنى، والعادل، والقاتل قصاصا أو حدا، ونحوهم، مأذون لهم في الفعل، مثابون عليه، وذلك لا يناسب نفي الإرث، بل الإرث طلبا لإقامة الحدود ونحوها، المطلوب إقامتها شرعا، فمنع الإرث ثم سد لوقوع القتل المطلوب عدمه، ومنع الإرث هنا مفض إلى سد المطلوب وقوعه شرعا، فهو عكسه، والله أعلم.
[التوارث بين المسلم والكافر]
قال: ولا يرث مسلم كافرا، ولا كافر مسلما، إلا أن يكون معتقا فيأخذ ماله بالولاء.
ش: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم.
2308 - لما في الصحيحين وغيرهما عن أسامة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» .
2309 - وفي الصحيحين أيضا «عن أسامة، أنه قال: يا رسول الله، أين تنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» وكان عقيل ورث أبا طالب، ولم يرثه جعفر، ولا علي شيئا، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين.(4/526)
2310 - وكان عمر يقول: لا يرث المؤمن الكافر.
2311 - وعن محمد بن الأشعث، أن عمة له يهودية أو نصرانية توفيت، فذكر محمد ذلك لعمر بن الخطاب، وقال: من يرثها؟ فقال له عمر: يرثها أهل دينها. ثم أتى عثمان بن عفان فسأله عن ذلك، فقال له عثمان: أتراني نسيت ما قال لك عمر بن الخطاب؟ يرثها أهل دينها. رواه مالك في الموطأ، مع أن هذا قد حكي إجماعا، أما في إرث(4/527)
الكافر من المسلم فبلا نزاع، وأما في المسلم من الكافر فقال أحمد: ليس فيه بين الناس اختلاف. وحكي فيه خلاف ضعيف.
واستثنى الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما إذا أعتق المسلم كافرا، أو الكافر مسلما، فإنه يرثه بالولاء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
2312 - واحتج بأن عليا قال: الولاء شعبة من الرق. انتهى.
فكما أن الرق يثبت مع اختلاف الدين، كذلك الولاء يثبت مع اختلاف الدين، وفي هذا الاستدلال نظر، فإنه لا نزاع في ثبوت الولاء، إنما النزاع في ثبوت الإرث به، ولعل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فهم أن المراد بقول علي الإرث.
2313 - وكذا حكي عن علي الإرث.(4/528)
2314 - وقد استدل لذلك بما روي عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته» رواه الدارقطني، وروي موقوفا عن جابر، ويكون المراد [بالعبد] من كان عبده مجازا، وإلا فالعبد لا يورث بالإجماع.
(وبالجملة) هذه الرواية اختيار عامة الأصحاب، حتى إن القاضي في الجامع الصغير، والشريف في خلافه، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا في الخصال، لم يذكروا غيرها، وقال أبو الخطاب في هدايته: إنها الأظهر.
(والرواية الثانية) : لا يتوارثان، لما(4/529)
تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث الكافر المسلم» وغير ذلك.
2315 - ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شبه الولاء بالنسب، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . وإذا لم يثبت الإرث مع اختلاف الدين في النسب، ففي الولاء أجدر، وهذه الرواية اختيار أبي محمد، وعليها إن كان للمعتق عصبة على دين المعتق ورثوه، لأن وجود المعتق في نظر الشارع - والحال هذه - كالعدم، وإن أسلم الكافر من المعتق، أو المعتق ورث المعتق، رواية واحدة لزوال المانع. انتهى.
ومفهوم كلام الخرقي: أن المسلم يرث المسلم، وهو واضح، وأن الكافر يرث الكافر، ولا نزاع في ذلك إذا اتفق الدين والدار، وهو مقتضى ما تقدم من الحديث، وقصة عقيل وطالب، وقصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
2316 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وللترمذي مثله من حديث جابر، ولم يقل: شتى، ومفهومه: أن أهل الملة الواحدة يتوارثون، أما إن(4/530)
اختلفت مللهم فهل يتوارثون؟ فيه روايتان:
(إحداهما) : يتوارثون، اختارها الخلال، وهي مقتضى كلام الخرقي، لأن الله تعالى ذكر ميراث الآباء من الأبناء، والأبناء من الآباء، وغيرهم من الأقارب ذكرا عاما، فلا يترك ذلك إلا فيما تيقن خروجه، والذي تيقن خروجه بالنص أن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر، إذ قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يتوارث أهل ملتين» يحتمل أن يحمل على ذلك، إذ هو المتيقن، ويعضد هذا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] .
(والثانية) : لا يتوارثون، اختارها أبو بكر، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما،(4/531)
لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يتوارث أهل ملتين» . ومثله يصلح للتخصيص.
وأما إن اختلفت الدار واتفق الدين، كالذمي مع الحربي وعكسه، فالمنصوص - وهو واختيار أبي محمد -: التوارث، عملا بظاهر الحديث، ومنع القاضي وكثير من الأصحاب التوارث، لانتفاء الموالاة بينهما، وعكس ذلك لو اتفقت الدار واختلف الدين، كحربيين اختلف دينهما، فإن القاضي قال: يتوارثان. وخالفه أبو محمد، وهو أوفق للمنصوص، والله أعلم.
(تنبيه) : قال القاضي وعامة الأصحاب: إن الكفر ثلاث ملل؛ اليهودية، والنصرانية، ومن عداهم، لأن من عداهم يشملهم أنه لا كتاب لهم.
قال أبو محمد: ويحتمل كلام أحمد أن يكون الكفر مللا كثيرة، فيكون المجوس ملة، وعبدة الأوثان ملة، وعباد الشمس ملة، قال: وهذا أصح إن شاء الله تعالى؛ لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» قال: ولم نسمع عن أحمد تصريحا بتقسيم الملل، قلت: وظاهر نقل أبي البركات أن أحمد نص على أنهم ثلاث ملل، والله أعلم.
[ميراث المرتد]
قال: والمرتد لا يرث أحدا إلا أن يرجع قبل قسمة الميراث.(4/532)
ش: المرتد لا يرث أحدا لا من المسلمين ولا من الكفار، أما من المسلمين فلما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر» الحديث، وأما من الكفار فلأنه لم يثبت له حكم ملتهم، بدليل أنه لا يقر على كفره، ولا تحل ذبيحته، ولا نكاحه، إن كان امرأة، فإن مات له موروث فرجع قبل أن يقسم الميراث، وكان ممن يقبل رجوعه، فحكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم قبل الميراث، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
[حكم من أسلم على ميراث قبل أن يقسم]
قال: وكذلك من أسلم على ميراث قبل أن يقسم قسم له.
ش: هذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما.
2317 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه قسم الإسلام فإنه على قسم الإسلام» رواه أبو داود وابن ماجه.(4/533)
2318 - وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة وابن أبي مليكة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أسلم على شيء فهو له» » .
2319 - ويروى أن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قضيا بذلك مختصر، رواه ابن عبد البر في التمهيد، والحكمة في ذلك - والله(4/534)
أعلم - الترغيب له، والحث على الإسلام، فعلى هذا إن أسلم قبل قسم البعض ورث ما بقي، فإن كان الوارث واحدا فتصرفه في التركة وحيازتها بمنزلة قسمها، ذكر ذلك أبو محمد.
(والرواية الثانية) : لا شيء له، لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» وهذا حين الموت كان كافرا، فلا يرث بمقتضى ظاهر الحديث.
ولو زال مانع الرق قبل القسمة فقال التميمي: يخرج إرثه على الإسلام قبل القسمة، وليس بشيء، فإن أحمد نص على التفرقة في رواية محمد بن الحكم، فامتنع الإلحاق، ثم إن الأصل هو المنع، لقيام المانع حال الموت، خرج منه الإسلام ترغيبا فيه، فبقي ما عداه على الأصل، إذ لا أثر فيه، ولا هو في معنى ما فيه الأثر، إذ لا شيء من الطاعات يقاوم الإسلام، ثم العتق ليس من فعل العبد فلا يرغب فيه، والله أعلم.
قال: ومن قتل على ردته فماله فيء.
ش: هذا المشهور من الروايات، والمختار عند القاضي(4/535)
وأصحابه وعامة الأصحاب، لأنه لا يرث أقاربه المسلمون، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر» ، وقوله: «لا يتوارث أهل ملتين» ولا أقاربه الذين اختار دينهم، لأنه لا يرثهم، فلا يرثونه، لما تقدم من أنه لم يثبت له حكم ملتهم، وإذا امتنع إرث الفئتين منه، تعين كون ماله فيئا، لعدم الوارث له شرعا.
(والرواية الثانية) : يرثه ورثته من المسلمين، جعلا للردة بمنزلة الموت، لأنها إما أن تزيل أملاكه، وإما أن تزلزلها، وتصيره كالمريض المخوف عليه، فيتعلق حق ورثته إذا، ولا يزول حقهم إلا بنص، ولا نص.
2320 - وقد روي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثني أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند رجوعه - إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين. قال الخلال: وهذه الرواية(4/536)
أشبه بقوله.
(والرواية الثالثة) : يكون لقرابته الذين اختار دينهم، بشرط أن لا يكونوا مرتدين، لمفهوم: «لا يرث الكافر المسلم» مفهومه أن الكافرين يتوارثان، وقد رجع أحمد عن هذا القول في رواية ابن منصور وقال: كنت أقول: يرثه أهل ملته، ثم جبنت عنه، والله أعلم.
قال: وإذا غرق المتوارثان، أو كانا تحت هدم، فجهل أولهما موتا، ورث بعضهم من بعض.
2321 - ش: نص أحمد على ذلك، معتمدا على أنه قول عمر، وعلي، وشريح، وإبراهيم، والشعبي، انتهى.(4/537)
2322 - قال الشعبي: وقع الطاعون بالشام عام عمواس، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر: أن ورثوا بعضهم من بعض.
ومعنى توريث(4/538)
بعضهم من بعض، أن يقدر أحدهما مات أولا، ويورث الآخر من تركته، ثم يقسم إرثه منها على ورثته الأحياء، ثم تصنع بالآخر وتركته كذلك، فعلى هذا لو غرق أخوان؛ أحدهما مولى زيد، والآخر مولى عمرو، صار مال كل واحد منهما لمولى الآخر، ولو غرق أخ وأخت، وخلفا أما، وعما، وزوجا، فيقدر الأخ مات أولا، وقد خلف زوجته، وأمه، وأخته، وعمه، فللزوجة الربع وللأم الثلث، وللأخت النصف، ولا شيء للعم، أصل مسألتهم من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، للزوجة ثلاثة، وللأم أربعة، وللأخت ستة، مقسومة على الأحياء من ورثتها، وهم زوجها، وأمها، وعمها، مسألتهم من ستة، وسهامها ستة، فتصح المسألتان من ثلاثة عشر، للزوجة ثلاثة، وللأم ستة، أربعة من ابنها واثنان من ابنتها، وللزوج ثلاثة، وللعم سهم.
ثم تقدر الأخت ماتت أولا، وقد خلفت أخاها، وزوجها، وأمها، وعمها، للزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي للأخ وهو سهم، ولا شيء للعم، المسألة من ستة، والحاصل للأخ سهم، مقسوم على ورثته(4/539)
الأحياء، وهم زوجته، وأمه، وعمه، مسألتهم من اثني عشر، وسهم عليها لا يصح، ولا يوافق، فاضرب اثني عشر في ستة، تبلغ اثنين وسبعين، للزوج ثلاثة في اثني عشر، بستة وثلاثين، وللأم سهمان في اثني عشر، بأربعة وعشرين، المجموع ستون، والباقي اثنا عشر بين زوجة الأخ، والأم، والعم؛ للزوجة ثلاثة، وللأم أربعة، وللعم خمسة، وعلى هذا.
وخرج أبو الخطاب ومن تبعه: منع توارث بعضهم من بعض، وإليه ميل أبي محمد.
2323 - لما روى سعيد في سننه عن يحيى بن سعيد، أن قتلى اليمامة، وقتلى صفين، والحرة، لم يورثوا بعضهم من بعض، وورثوا عصبتهم الأحياء. ولأن شرط التوريث حياة الوارث بعد(4/540)
موت الموروث، وهو غير معلوم، فامتنع التوارث للشك في شرطه، ولأن توريثهما مع الجهل خطأ يقينا، لأنه لا يخلو إما أن يسبق أحدهما، أو يموتا معا، وتوريث السابق بالموت، والميت معه خطأ يقينا بالإجماع، فكيف يعمل به، فإن قيل: ففي قطع التوريث قطع توريث المسبوق بالموت، وهو خطأ أيضا. قلنا: هذا غير متيقن، لأنه يحتمل موتهما جميعا.
وعلى هذا يكون مال كل واحد من المعتقين لمولاه في المسألة الأولى، وفي الثانية تكون مسألة الأخ من اثني عشر، للأم الثلث أربعة، وللزوجة الربع ثلاثة، والباقي للعم، ومسألة الأخت من ستة، للأم الثلث اثنان، وللزوج النصف ثلاثة، والباقي للعم. انتهى.
ولو تحقق الورثة السابق، وجهلوا عينه، فالحكم كما تقدم، قاله القاضي، وأبو البركات، وقال أبو محمد: يعطى كل وارث اليقين، ويقف الباقي حتى يتبين الأمر، أو يصطلحوا عليه، ولو علموا السابق ثم أنسوه، فالحكم كما لو جهلوه أولا، وقال القاضي في خلافه: لا يمتنع أن نقول هنا بالقرعة. ولو علم موتهما معا فلا توارث، ولو ادعى ورثة كل ميت سبق الآخر، وتعارضت بينتاهما، أو لم تكن بينة، تحالف الورثة، لإسقاط الدعوى، ولم يتوارثا، نص عليه، وقاله الخرقي وغيره، وقال ابن أبي موسى: يعين(4/541)
السابق بالقرعة.
وقال أبو الخطاب وغيره: يتوارثان، كما لو جهل الورثة حالهما. ومن هذه المسألة خرج أبو الخطاب منع التوارث مع الجهل. والله أعلم.
قال: ومن لم يرث لم يحجب.
ش: يعني من لم يرث لانتفاء أهليته - كالرقيق، والكافر، والقاتل - لم يحجب، لأنه معدوم شرعا، أشبه المعدوم حسا، أما من لم يرث لحجب غيره، فإنه يحجب ولا يرث، كالإخوة مع الأب، يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، ولا يرثون، لحجبهم بالأب، لا لانتفاء أهليتهم، واختلف في المحجوب حجب مزاحمة، لا حجب منع، من أهل الفرض، هل يحجب غيره؟ على وجهين، كالجدة أم الأب مع ابنها، وأم الأم إذا قلنا يحجبها ابنها، ويستثنى من ذلك المحجوب حجب مزاحمة من العصبات، فإنه(4/542)
يحجب غيره، وإن لم يرث، كولد الأب في باب الجد، فإن ولد الأبوين يعادونه بهم، وهم مع ذلك محجوبون بولد الأبوين. والله أعلم.(4/543)
[كتاب الولاء]
«الولاء» بفتح الواو ممدودا: ولاء العتق، ومعناه إذا أعتق نسمة صار لها عصبة في جميع أحكام التعصيب، عند عدم العصبة من النسب، في الميراث، وولاية النكاح، وغير ذلك، وثبوته في الجملة بالإجماع، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» » .
2324 - وعن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب» . رواه أبو يعلى الموصلي، وأبو حاتم البستي، وتكلم فيه البيهقي وغيره، ورواه الطبراني من رواية نافع عن ابن عمر، ورواه الخلال عن عبد الله بن أبي أوفى.(4/544)
[من له الولاء]
قال: والولاء لمن أعتق، وإن اختلف دينهما.
2325 - ش: صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لمن أعتق» وفي رواية مسلم وغيره: «إنما الولاء لمن أعتق» وللبخاري في رواية: «الولاء لمن أعطى الورق، وولي النعمة» » . وعموم هذه الألفاظ يقتضي بأن الولاء لكل معتق، وإن اختلف الدين، ولا نزاع في ذلك، ويرشحه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الولاء شعبة من الرق، والله أعلم.
قال: ومن أعتق سائبة لم يكن له الولاء.
ش: لما كان كلام الخرقي أولا عاما في كل عتق، استثنى من ذلك العتق سائبة، ومعنى العتق سائبة أن يعتقه ولا ولاء له عليه، وأصله من: تسييب الدواب. ولا نزاع في صحة العتق، وإنما النزاع في ثبوت الولاء للمعتق، وفيه(4/545)
روايتان، حكاهما الشيخان، المشهور منهما - والمختار للأصحاب، حتى إن القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبا الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا وغيرهم، لم يذكروا خلافا - أنه لا ولاء له.
2326 - لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعتق سائبة، فمات، فاشترى ابن عمر بماله رقابا فأعتقهم، وعلله أحمد بأنه جعله لله، فلا يجوز له أن يرجع إليه منه شيء.
(والرواية الثانية) : له عليه الولاء، اختاره أبو محمد، للعمومات المتقدمة.
2327 - وعن هزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني أعتقت عبدا، وجعلته سائبة، ومات وترك مالا، ولم يدع وارثا. فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون، وأنت ولي نعمته، ولك ميراثه، وإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقبله ونجعله في بيت المال. رواه البرقاني على شرط الصحيح، وللبخاري منه: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون.(4/546)
2328 - وقال سعيد: حدثنا هشيم، عن منصور، أن ابن عمر وابن مسعود قالا في ميراث السائبة: هو للذي أعتقه. والله أعلم.
قال: وإن أخذ من ميراثه شيئا جعله في مثله.
ش: لما قال: إن المعتق سائبة لا ولاء له عليه. بين حكم ميراثه، والمعروف المشهور أنه يصرف في مثله من الرقاب، اتباعا لما تقدم عن ابن عمر، ونظرا إلى أنه جعله محضا لله تعالى، فتختص به هذه الجهة، وعلى هذا: هل ولاية الإعتاق(4/547)
للسيد - لأنه المعتق - أو للإمام لأنه النائب عن الله؟ فيه روايتان.
وظاهر كلام الخرقي: أنه خير السيد بين أخذ المال وصرفه في مثله، وبين تركه.
(وعن أحمد) رواية أخرى أن ماله لبيت المال، لأنه لا وارث له، فيكون ماله لبيت المال، ويتفرع على هذا إذا مات السائبة، وخلفه بنته، ومعتقه، فعلى القول بأن له عليه الولاء، المال بينهما نصفين، لها النصف بالفرض، وللمعتق النصف بالولاء، وعلى القول بأن ماله لبيت المال، الجميع للبنت بالفرض والرد، إذ الرد مقدم على بيت المال، وعلى القول بأن ميراثه يصرف في [مثله للبنت النصف، والباقي يصرف في] العتق، إذ جهة العتق هي المستحقة للولاء، والله أعلم.
[حكم من ملك ذا رحم محرم]
قال: ومن ملك ذا رحم محرم عتق عليه.
2329 - ش: روى الحسن عن سمرة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» رواه الخمسة إلا النسائي، وفي لفظ لأحمد: فهو عتيق ولأبي داود عن عمر بن الخطاب موقوفا مثل حديث سمرة.
(وعن أحمد) رواية أخرى لا يعتق(4/548)
إلا عمود النسب، ولا عمل عليها، (وقول الخرقي) : ومن ملك ذا رحم. أي: ذا قرابة، فيخرج غير القريب وإن كان(4/549)
محرما عليه، كالأم ونحوها من الرضاعة، والربيبة، وأم الزوجة، فإنهم لا يعتقون للحديث.
2330 - وقد روي عن الزهري أنه قال: «جرت السنة أن يباع الأخ والأخت من الرضاع» .
وقوله: محرم. يخرج ذا الرحم غير المحرم، كابن العم ونحوه، فإنه لا يعتق إذا ملكه للحديث، وضابط ذلك أن تقدر أحدهما رجلا، والآخر امرأة، ثم تنظر، فإن حرم النكاح فإنه من الرحم المحرم، وإلا فلا.
ومقتضى كلام الخرقي: أنه لو ملك ولده من الزنا لم يعتق عليه، لانقطاع نسبه عنه، فليس برحم له شرعا، وهو المنصوص، وعليه الأصحاب، وحكى أبو الخطاب في الهداية احتمالا بالعتق، على قياس قوله: في تحريم نكاحها، وفرق ابن عقيل بأن التحريم يثبت مع الشبهة الواقعة بين الأشخاص، والعتق بخلافه، فلو اشترى عبدا من بين أعبد فيهم أخوه، لم يعتق، حتى يتيقن أنه أخوه، ولو اشترى أمة من إماء فيهن أخته، لم يجز له وطؤها، لجواز أن تكون أخته. والله أعلم.(4/550)
قال: وكان له ولاؤه.
ش: إذا ملك ذا الرحم المحرم عتق عليه، وكان له ولاؤه، لأنه عتق من ماله بتسبب فعله، أشبه ما لو باشر عتقه.
[ولاء المكاتب والمدبر إذا عتقا]
قال: وولاء المكاتب والمدبر إذا عتقا لسيدهما.
ش: ولاء المدبر لمدبره، لأنه معتقه، فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لمن أعتق» ، وولاء المكاتب لمكاتبه، بدليل «قصة بريرة، فإن مواليها أبوا أن يبيعوها إلا أن يكون لهم الولاء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: «اشتريها، واشترطي لهم الولاء» وهذا يدل على أن الولاء لهم لو لم تشترها منهم(4/551)
عائشة، وذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه الصورة إشارة إلى خلاف بعض العلماء، والله أعلم.
قال: ومن أعتق عبده عن رجل حي بلا أمره، أو عن ميت، فولاؤه للمعتق.
ش: أما إذا أعتقه عن حي بلا أمره، فإن العتق والولاء يقعان للمعتق، بلا خلاف نعلمه عندنا، لأن شرط صحة العتق الملك، ولا ملك للمعتق عنه، فالولاء تابع للملك.
وأما إن أعتقه عن ميت؛ فلا يخلو إما أن يكون عن واجب عليه، أم لا، (فإن كان) في واجب عليه؛ فإن العتق يقع عنه، لمكان الحاجة إلى ذلك، وهي الاحتياج إلى براءة ذمته، أما الولاء فقال أبو البركات تبعا للقاضي: يثبت الولاء أيضا له. قال أبو العباس: بناء على أن الكفارة ونحوها ليس من شرطها الدخول في ملك المكفر عنه.
وأطلق الخرقي وأكثر الأصحاب: أن الولاء للمعتق. قال أبو العباس: بناء على أنه يشترط دخول الكفارة ونحوها في ملك من ذلك عليه.(4/552)
(وإن كان) في غير واجب كانا للمعتق لانتفاء ما تقدم إذا، والله أعلم.
قال: وإن أعتقه عنه بأمره فالولاء للمعتق عنه بأمره.
ش: إذا أعتق عبده عن غيره بأمره، فله ثلاث حالات قد شملها كلام الخرقي:
(إحداها) : إذا قال: أعتقه عني وعلي ثمنه؛ فهذا يكون العتق والولاء له بلا نزاع، كأنه استدعى منه بيعه له بثمن مثله، ووكله في عتقه، وسيصرح الخرقي بذلك.
(الثاني) : إذا قال: أعتقه عني. وأطلق، فهل يلزمه العوض كما لو صرح بذلك - إذ الغالب في انتقالات الأملاك أن يكون بعوض - أو لا يلزمه ذلك - لأنه إلزام ما لا يلزمه، وغايته أن طلب العتق عنه يستدعي الملك، والملك قد يكون بغير عوض كالهبة؟ فإن قلنا: يلزمه العوض؛ فحكمه حكم ما لو صرح بلزومه على ما تقدم، وإن قلنا: لا يلزمه، فحكمه حكم ما لو صرح بنفيه على ما سيأتي.
(الثالث) : إذا قال: أعتقه عني مجانا. فهنا لا يلزمه العوض بلا نزاع، ثم هل يكون العتق والولاء للسائل - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في التعليق، نظرا إلى(4/553)
أن العتق عنه يستدعي الملك، وذلك كما يحصل بالبيع يحصل بالهبة، فكأنه طلبها منه فأجابه إلى ذلك، أو نقول: العتق عنه لا تتوقف صحته منه على الملك، بل على الإذن في ذلك - أو يكونان للمسؤول، نظرا إلى أنه لا بد من الملك، وأن الملك لا يحصل بذلك؟ والله أعلم.
قال: ومن قال: أعتق عبدك عني وعلي ثمنه؛ فالثمن عليه، والولاء للمعتق عنه.
ش: قد تقدمت هذه المسألة، قال أبو محمد: ولا نعلم فيه خلافا.
قال: ولو قال: أعتقه والثمن علي؛ كان الثمن عليه، والولاء للمعتق.(4/554)
ش: إنما لزم الثمن للقائل لأنه جعل جعلا لمن عمل عملا وهو العتق، وقد عمل ذلك العمل، فيلزمه الجعل، وإنما كان الولاء للمعتق لدخوله تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لمن أعتق» ، والمسؤول هو المعتق، لا السائل، لأنه لم يطلب العتق عنه، والله أعلم.
قال: ومن أعتق عبدا له أولاد من مولاة لقوم، جر معتق العبد ولاء أولاده.
ش: صورة هذه المسألة إذا أعتق أمته، وزوجها بعبد، فولدت منه أولادا، فإنهم يكونون أحرارا، ويكون ولاؤهم لمولى أمهم، لأنه المنعم عليهم، حيث عتقوا بعتق أمهم، ثم إن أعتق العبد سيده بعد ذلك فله ولاؤه، وجر ولاء أولاده عن مولى أمهم.
2331 - في قول الجمهور من الصحابة وغيرهم، لأن الولاء مشبه بالنسب، والأنساب إلى الأب، فكذلك الولاء، بدليل ما(4/555)
لو كانا حرين، وإنما ثبت الولاء لموالي الأم لضرورة عدم ثبوته لموالي الأب، وقد زال المانع، فيعمل المقتضي عمله، وصار هذا كولد الملاعن، لما تعذر انتسابه إلى الأب لانقطاع نسبه عنه باللعان، انتسب إلى الأم وعصباتها، فكانوا عصبته، ولو استلحقه الأب بعد ذلك لحقه، وصار عصبته له، وزال التعصيب عن الأم وعصباتها.
2332 - وقد روي عن الزبير، أنه لما قدم خيبر رأى فتية لعسا، فأعجبه ظرفهم وجمالهم، فسأل عنهم، فقيل له: موالي رافع بن خديج، وأبوهم رقيق لآل الحرقة، فاشترى الزبير أباهم فأعتقه، وقال لأولاده: انتسبوا إلي، فإن ولاءكم لي. فقال رافع بن خديج: الولاء لي، فإنهم عتقوا بعتقي أمهم. فاحتكموا إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بالولاء للزبير(4/556)
ولم ينقل إنكار ذلك، فيكون بمنزلة الإجماع، واللعس سواد في الشفتين تستحسنه العرب.
وقد خص الخرقي الجر بعتق الأب، فظاهر كلامه: لا يحصل بعتق الجد، وهو المشهور والمختار للأصحاب من الروايات، إذ الأصل بقاء الولاء لموالي الأم، خولف ذلك لقضاء الصحابة، فيبقى فيما عداه على الأصل.
(والثانية) : يجره، ثم إن عتق الأب بعد أن جر الولاء إليه منه، وإلا بقي له، لأن الجد كالأب في التعصيب، وأحكام النسب، فكذلك في الولاء.
(والرواية الثالثة) : إن عتق والأب ميت جر الولاء، وإن عتق والأب حي لم يجره بحال، حكاها الخلال، لأن الجد - والحال ما تقدم - تحقق قيامه مقام الأب في الإرث، وولاية النكاح، وغيرهما، فكذلك في الولاء، بخلاف ما لو كان حيا.
(وعنه رواية رابعة) : يجر الولاء إن عتق والأب ميت، وإن عتق والأب حي لم(4/557)
يجره حتى يموت الأب قنا، فيجره من حين موته، حكاها أبو بكر في الشافي، انتهى.
وحيث قيل بالجر فلا فرق بين الجد القريب والبعيد، قال أبو محمد: ومقتضى هذا أن البعيد إذا جر الولاء، ثم عتق من هو أقرب منه جر الولاء إليه، ثم إن عتق الأب جر الولاء، لأن كل واحد يحجب من فوقه، ولو لم يعتق الجد، [بل كان حرا] وولده مملوك، فتزوج مولاة لقوم، فولاء أولاده لمولى أمهم. وعلى القول بجر الجد الولاء يكون لمولى الجد، فلو كان الجد حر الأصل لا مولى، فلا ولاء على ولد ابنه، فإن عتق ابنه بعد لم يعد على ولده ولاء، لأن الحرية تثبت له من غير ولاء. والله تعالى أعلم.(4/558)
[باب ميراث الولاء]
ش: أي باب الميراث بالولاء، إذ من قاعدة الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - أن الولاء لا يورث، وإنما يورث به، فيكون من باب إضافة الشيء إلى سببه، لأن سبب الميراث الولاء كما يقال: دية قتل العمد. وقد يجري لفظه على ظاهره، إذ أصل كلامه: باب حكم ميراث الولاء، وهو سيبين أن حكمه عنده أنه لا يورث. انتهى.
ولا نزاع في ثبوت الميراث بالولاء في الجملة، وقد استفاضت السنة بذلك، والله أعلم.
قال: ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن، أو أعتق من أعتقن، أو كاتبن، أو كاتب من كاتبن، وقد روي عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بنت المعتق خاصة أنها ترث، لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ورث ابنة حمزة من الذي أعتقه حمزة» .
ش: الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد، واختيار أبي بكر، وأبي محمد، وغيرهما، وغالى أبو بكر فوهم أبا طالب في الرواية الثانية.(4/559)
2333 - وذلك لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ميراث الولاء للأكبر من الذكور، ولا يرث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن، أو أعتق من أعتقن» ولأن هذا قول عامة العلماء من الصحابة، والتابعين، والأئمة إلا شريحا.
2334 - وقد روي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد، وابن عمر، وأبي مسعود البدري، وأسامة بن زيد، وأبي بن كعب، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، فكان(4/560)
إجماعا أو حجة، ولأن الولاء مشبه بالنسب، فالمولى المعتق من المولى المنعم بمنزلة أخيه أو عمه، فأولاد المولى المنعم بمنزلة أولاد أخي المعتق، أو أولاد عمه، وأولاد الأخ، وأولاد العم لا يرث منهم إلا الذكور [خاصة] .
(والرواية الثانية) : اختارها أبو الخطاب في خلافه، وإليها ميل أبي البركات في المنتقى، ونص عليها أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أبي طالب.
2335 - محتجا بحديث بنت حمزة، [وهو ما روى جابر بن زيد، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، «أن مولى لحمزة] مات وترك ابنته وابنة حمزة، فأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته النصف، وابنة حمزة النصف» . رواه الدارقطني، وقد اعترض على هذا؛ بأن المولى إنما كان لبنت حمزة، كذا قال أحمد في رواية ابن القاسم، وسأله: هل كان المولى لحمزة أو لابنته؟ فقال: لابنته.(4/561)
2336 - وقد روى ابن ماجه، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد، عن بنت حمزة - وهي أخت ابن شداد لأمه - «قالت: مات مولى لي وترك ابنته، فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماله بيني وبين ابنته، فجعل لي النصف، ولها النصف» ، وأجيب بأن ابن أبي ليلى فيه(4/562)
ضعف، وإن صح فمن المحتمل تعدد الواقعة، فلا تعارض، ولو سلم الاتحاد فيحتمل أنه أضيف مولى الوالد إلى الولد، بناء على أن الولاء ينتقل إليه، أو أنه يرث به.
إذا تقرر هذا، فمحل الخلاف في غير ما أعتقنه، أو أعتقه من أعتقنه، أو كاتبنه، أو كاتبه من كاتبنه، أما في هذه الأشياء فيرثن بلا نزاع، كما تضمنه الدليل السابق، وقصة بريرة مع عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «فإن عائشة اشترطت الولاء، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك: «إنما الولاء لمن أعتق» ، والسبب مراد من العموم بلا ريب، ويستثنى أيضا عتقاء ابنها إذا كانت ملاعنة، على القول بأنها عصبته، ولنذكر أمثلة لمحل الخلاف؛ فمنها: إذا مات المعتق، وخلف ابن معتقه، وبنت معتقه؛ فالمال لابن معتقه، دون أخته على الرواية الأولى. وعلى الثانية: بينهما أثلاثا. ولو خلف بنت معتقه، وابن عم معتقه، فلا شيء للبنت، وجميع المال لابن عم المعتق على الأولى. وعلى الثانية: للبنت النصف، والباقي لابن العم. ولو خلف المعتق بنته، وبنت معتقه، فالمال جميعه لابنته على الأولى بالفرض والرد، وعلى الثانية لابنته(4/563)
النصف، ولابنة معتقه النصف، لقضية النص في بنت حمزة، ولو كان بدل بنت معتقه أخت معتقه، فلا شيء لها، رواية واحدة، والله أعلم.
قال: والولاء لأقرب عصبة المعتق.
ش: الميراث بالولاء ثابت ومستقر للمعتق، ثم لأقرب عصبته من بعده.
2337 - لما روى الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المولى أخ في الدين، ومولى نعمة، يرثه أولى الناس بالمعتق» ؛ ولأن عصبات الميت يرث منهم الأقرب فالأقرب، فكذلك عصبات المولى، فعلى هذا لو مات المعتق وخلف ابنه وأخاه، كان الولاء لابنه، ولو خلف أخاه وعمه، كان الولاء لأخيه، وعلى هذا، يرث الأقرب فالأقرب من العصبات، ولا يرث منه ذو فرض إلا ما يستثنى، ولا ذو رحم، والله أعلم.
قال: وإذا مات المعتق وخلف أبا معتقه، وابن معتقه، فلأبي معتقه السدس، وما بقي فللابن.(4/564)
ش: هذا كالاستثناء مما تقدم، وقد نص عليه أحمد، وهو المشهور، تشبيها لهما في إرث المعتق بإرث معتقه، وقيل: لا يفرض للأب والحال هذه شيء، بل الجميع للابن، لما تقدم من أن الولاء لأقرب العصبة. انتهى.
وحكم الجد حكم الأب، وحكم ابن الابن حكم الابن، وقد يدخل ذلك في كلام الخرقي، والله أعلم.
قال: وإن خلف أخا معتقه، وجد معتقه، فالولاء بينهما نصفين.
ش: لأنهما يرثان المعتق كذلك، فيرثان مولاه كذلك، ولو كثرت الإخوة - كما لو كانوا ثلاثة فأكثر - فإنه يفرض للجد السدس، لأنه أحظ له، والباقي لهم، بناء على ما تقدم في قاعدة الجد مع الإخوة، هذا هو المشهور، وعلى القول الثاني في التي قبلها: لا يفرض له معهم أصلا، بل يكون كأحدهم وإن كثروا، ويعادونه بولد الأب، لأنه يرث منفردا، ولا يعادونه بالأخوات، لأنهن لا يرثن منفردات. وهذا مقتضى قول أبي محمد في الكافي والمغني، وهذا كله إذا ورثنا الإخوة مع الجد، أما إذا لم نورثهم معه - وجعلنا الجد كالأب - فالولاء للجد دون الأخ. والله أعلم.(4/565)
قال: وإذا هلك رجل عن ابنين ومولى، فمات أحد الابنين بعده عن ابن، ثم مات المولى، فالولاء لابن معتقه، لأن الولاء للكبر، ولو هلك الابنان بعده وقبل مولاه، وخلف أحدهما ابنا، وخلف الآخر تسعة، كان الولاء بينهم على عددهم، لكل واحد منهم عشره.
ش: هذا مبني على أصل قد أشار إليه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن الولاء يورث به ولا يورث، وهذا معنى كونه للكبر، يعني أنه يرث به أقرب عصبة السيد إليه يوم مات عتيقه، لا يوم مات السيد، وهذا المختار للأصحاب، والمشهور من الروايتين، حتى إن أبا بكر غلط من روى الثانية، وقد قال أحمد في رواية ابنه صالح: حديث عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان» هكذا يرويه عمرو بن شعيب.
2338 - وقد روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن مسعود، أنهم قالوا: الولاء للكبر. فهذا الذي يذهب إليه، وهو قول أكثر الناس. انتهى. وقد أبان أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه حجته في ذلك، وهو قول هؤلاء الذين هم أكابر الصحابة،(4/566)
وقد رواه مالك في الموطأ عن عثمان، ورواه سعيد عن الأربعة الباقين.
2339 - وحكي أيضا عن ابن عمر، وأبي بن كعب، وأبي مسعود البدري، وأسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، ولما(4/567)
تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المولى أخ في الدين، ومولى نعمة، يرثه أولى الناس بالمعتق» ولأن الولاء مشبه بالنسب، والنسب يورث به ولا يورث، فكذلك الولاء.
2340 - وعن أحمد رواية أخرى: يورث الولاء كما يورث المال، وهو قول شريح، ويحكى عن عمر، وعلي، وابن عباس، والمشهور عن عمر وعلي خلاف ذلك.
2341 - ومعتمد هذه الرواية ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: تزوج رياب بن حذيفة بن سعد بن سهم أم وائل بنت معمر الجمحية، فولدت له ثلاثة، فتوفيت(4/568)
أمهم، فورثها بنوها رباعها، وولاء مواليها، فخرج بهم عمرو بن العاص معه إلى الشام، فماتوا في طاعون عمواس، فورثهم عمرو، وكان عصبتهم، فلما رجع عمرو جاء بنو معمر بن حبيب، يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب، فقال: أقضي بينكم بما سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان» فقضى لنا به، وكتب لنا كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، رواه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وابن المديني، وقال: هو من صحيح ما يروي عن عمر. وقد ينازع في الاستدلال بهذا الحديث، فإن(4/569)
الحجة في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته» وهذا صحيح، فإن ما أحرزه من المال فهو لعصبته، أما الولاء فإنه لم يحرزه، بل هو باق للميت، والعاصب يرث به.
2342 - وما فهمه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد نقل عنه خلافه، كما حكى ذلك الإمام أحمد والشعبي، ويعضد هذا التأويل أو يعينه قول عامة الصحابة والعلماء، وقول العامة: إن لم يكن إجماعا على الأشهر، فهو حجة على الأظهر.
إذا تقرر هذا الأصل وهو: أن الولاء يورث به ولا يورث، انبنى عليه المسألتان اللتان ذكرهما الخرقي:
(إحداهما) : إذا مات رجل عن ابنين ومولى، فمات أحد الابنين بعده عن ابن، ثم مات المولى، فالولاء لابن معتقه؛ لأن ابن المعتق هو أقرب الناس إليه يوم مات العتيق، وقد نص أحمد على ذلك في رواية أبي طالب.
وعلى الرواية الأخرى: يكون الولاء بين ابن المعتق وبين ابن ابنه الآخر نصفين، نص عليه في رواية حنبل، لأنه لما مات المولى المنعم ورث ابناه الولاء(4/570)
بينهما نصفين، فإذا مات أحدهما انتقل نصيبه لابنه.
(المسألة الثانية) : إذا هلك الابنان بعد أبيهما، وقبل موت العتيق، وخلف أحدهما ابنا، وخلف الآخر تسعة، فعلى المذهب - ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور -: الولاء بينهم على عددهم، لكل واحد عشرة، لأن الجميع في القرب إلى السيد يوم مات العتيق على حد سواء.
وعلى الرواية الأخرى - ونص عليه أحمد هنا في رواية بكر بن محمد -: لابن الابن النصف إرثا عن أبيه، والنصف الآخر بين بني الابن الآخر على تسعة، وتصح من ثمانية عشر، والله أعلم.
قال: ومن أعتق عبدا فولاؤه لابنه، وعقله على عصبته.
ش: يعني: إذا أعتق عبدا ثم مات المعتق، فإن ولاءه لابن سيده، إذا لم يكن له وارث سواه من النسب، وعقله على عصبة سيده، لأن العقل على العصبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان هؤلاء العصبة، والولاء لأقرب العصبة، والابن أقربهم.(4/571)
2343 - وقد روى إبراهيم قال: اختصم علي والزبير في مولى صفية، فقال علي: مولى عمتي، وأنا أعقل عنه، وقال الزبير: مولى أمي، وأنا أرثه، فقضى عمر للزبير بالميراث، وقضى على علي بالعقل، رواه سعيد في سننه، وذكره الإمام أحمد.
(وقول الخرقي) : إن الولاء للابن، والعقل على العصبة، مبني على أن الابن ليس من العاقلة، وهو مقتضى كلام الخرقي ثم، ومن جعل الابن من العاقلة - كالرواية الأخرى - يقول: الولاء له، والعقل عليه، ومن يجعل الابن عاقلة للأب دون الأم - كمختار أبي البركات - يقيد هذه(4/572)
المسألة بما إذا كان المعتق امرأة، كما قيدها أبو محمد. والله أعلم.(4/573)
[كتاب الوديعة]
«الوديعة» : فعيلة بمعنى مفعولة، من الودع، وهو الترك، أي: متروكة عن المودع.
2344 - وفي مسلم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات» » [أي: عن تركهم الجمعات] .
2345 - وفي النسائي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة ما ودعوكم» . (وهي جائزة) بالإجماع، وسند ذلك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [النساء: 58] الآية.(4/574)
2346 - وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه.
[ضمان الوديعة]
قال: وليس على المودع ضمان إذا لم يتعد.(4/575)
ش: ليس على المودع ضمان إذا لم يتعد، لأنه محسن، فيدخل في قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] .
2347 - وأمين، فيدخل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضمان على مؤتمن» رواه الدارقطني، ثم لو قيل بالضمان لانتفى هذا المرفق العظيم، لامتناع العاقل من الدخول فيما يتمحض ضررا، ولا فرق بين أن تتلف مع ماله، أو دون ماله على المذهب.
(وعنه) : إن تلفت دون ماله؛ ضمنها.
2348 - لأنه يروى أن عمر رضي لله عنه ضمن أنسا وديعة تلفت دون ماله، وينبغي أن يكون محل هذه الرواية فيما إذا ادعى التلف(4/576)
والحال هذه، فإنه لا يقبل منه، لمكان التهمة، أما إن ثبت التلف؛ فإنه ينبغي انتفاء الضمان رواية واحدة، أما إن تعدى فإنه خرج من حيز الأمانة، إلى حيز الخيانة، فيضمن بلا نزاع، والله أعلم.
قال: فإن خلطها بماله وهي لا تتميز، أو لم يحفظها كما يحفظ ماله، أو أودعها غيره؛ فهو ضامن.
ش: لما ذكر أنه إذا تعدى فيها ضمن، ذكر ثلاث صور من صور التعدي:
(إحداها) : إذا خلط الوديعة بماله والحال أنها لا تتميز مع ما خلطت به، كما لو خلط زيتا بزيت أو بشيرج، أو برا ببر، أو دراهم بدراهم، ونحو ذلك، لأنه صيرها في حكم التالف، وفوت على نفسه ردها، فضمنها كما لو ألقاها في لجة بحر، وعن أحمد في رجل أعطى رجلا درهما يشتري له به شيئا، فخلطه مع درهمه فضاعا، قال: ليس عليه شيء. ذكرها القاضي في ما انتقاه من رواية عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، وحكم خلطها بمال غيره حكم(4/577)
خلطها بمال نفسه، وإنما ذكر الخرقي ماله اعتمادا على الغالب.
(الصورة الثانية) : إذا لم يحفظها كما يحفظ ماله [فإنه يضمن، لأن حقيقة المودع أنه وكيل في الحفظ، فإذا لم يحفظ؛ فقد فرط، وإذا فرط ضمن، وحفظها كما يحفظ ماله] أن يحرزها في حرز مثلها، أو أعلى منه، ويذكر ذلك إن شاء الله تعالى في القطع في السرقة، وهذا إذا لم يعين له المالك حرزا، أما إن عين له حرزا فإنه يمتثل وإن كان دون حرزها، فإن خالف فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.
(الصورة الثالثة) : إذا أودعها عند غيره، وله حالتان:
(إحداهما) : أن يفعل ذلك لغير عذر، ولا إشكال في تضمينه إذا؛ لأنه متعد، إذ لفظ مالكها إنما تضمن أن يحفظها بنفسه لا بغيره، قلت: ويخرج عدم الضمان إذا لم ينهه، بناء على رواية جواز توكيل الوكيل، وليس من إيداعها لغيره دفعها لمن جرت عادته بدفعها إليه، كزوجته وعبده، لأن ذلك مما يحفظ به ماله، فهو داخل فيما تقدم، وهذا منصوص أحمد، وعليه الأصحاب، وفيه وجه آخر: بلى فيضمن. ذكره ابن أبي موسى.
(الحالة الثانية) : إذا أودعها عند غيره لعذر، كما إذا أراد سفرا غير مأمون، أو كان الترك أحرز لها، أو استوى الأمران في وجه، أو خاف عليها من حريق أو ظالم ونحو(4/578)
ذلك، ولم يجد ربها ولا وكيله، فيجوز، ولا ضمان عليه لمكان العذر، ثم هل يتعين الحاكم مع القدرة عليه - وهو المذهب المقطوع به للأصحاب - أو لا يتعين، ويكفي إيداعها ثقة؛ وهو احتمال لأبي محمد في المغني؟ فيه قولان: قال القاضي: وقد أطلق أحمد القول - في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث -: لا يودعها لغيره إذا خاف عليها. قال: وهذا محمول على المقيم في البلد، والمسافر إذا وجد حاكما فعدل عنه. والله أعلم.
قال: وإذا كانت علة فخلطها في صحاح، أو صحاحا فخلطها في علة، فلا ضمان عليه.
ش: العلة: هي المكسرة، فإذا خلطها في صحاح أو بالعكس فلا ضمان عليه، لأنها تتميز، فلا يتعذر ردها، وهذا هو المذهب، والمنصوص في رواية أبي طالب، ونقل عنه ابن منصور فيمن خلط دراهم بيضا بسود يضمنها، فأجر ذلك صاحب التلخيص وغيره في كل ما يتميز، وخصها أو محمد بصورة النص، لاحتمال كسبها سوادا فيتغير لونها فتنقص.(4/579)
قال: ولو أمره أن يجعلها في منزله، فأخرجها عن المنزل لغشيان نار، أو سيل، أو شيء، الغالب منه التوى؛ فلا ضمان عليه.
ش: إذا أمره أن يجعل الوديعة في محل فجعلها فيه فلا ضمان عليه، وإن كان دون حرز مثلها، لأنه ممتثل غير مفرط، وإن أخرجها عن ذلك المحل لشيء نزل بها - من نار، أو سيل، ونحو ذلك مما الغالب منه الهلاك - فلا ضمان عليه، لأنه مأمور بحفظها، وحفظها في إخراجها إذا فلا تفريط، وهل يتعين الإخراج بحيث إذا تركه ضمن؟ لا يخلو من ثلاثة أحوال:
(أحدها) : أن يعين له الحرز ولا ينهاه عن الإخراج كصورة الكتاب، فهنا يتعين عليه الإخراج والحال ما تقدم، بحيث لو تركه ضمن، وإن تلفت بغير ذلك الحادث، لأنه يعد إذا مفرطا، فيضمن لتفريطه.
(الثانية) : عين له الحرز، وقال له: لا تخرجها وإن خفت عليها. فأخرجها والحال ما تقدم، أو تركها، فلا شيء عليه، لأنه إن أخرجها فقد زاده خيرا بحفظها، إذ المقصود من هذا الكلام: المبالغة في حفظها، وإن تركها فلا شيء عليه، لأن ربها صرح له بتركها مع الخوف، فكأنه رضي بإتلافها.
(الثالثة) : عين له الحرز، ونهاه عن الإخراج، ولم يقل: وإن خفت عليها. فيجوز له الإخراج مع الخوف بلا ريب، وهل يضمن إذ ترك؟ فيه وجهان:
(أحدهما) : لا ضمان عليه، لامتثاله أمر صاحبها.
(الثاني) :(4/580)
وهو مقتضى ما جزم به صاحب التلخيص، وأورده في الكافي مذهبا: عليه الضمان، لأن النهي للاحتياط عليها، والاحتياط إذا نقلها، فإذا تركها فقط فرط فيضمن. انتهى.
ومفهوم كلام الخرقي: أنه متى أخرجها بلا خوف عليها، مع تعيين المالك الحرز لها ضمنها، ولا نزاع في ذلك إن أخرجها لحرز دون الذي عينه مالكها، وفيما إذا أخرجها لمثله أو أعلى منه ثلاثة أوجه:
(أحدهما) : يضمن مطلقا، كما هو ظاهر كلام الخرقي، وظاهر كلام أحمد أيضا، قال في رواية حرب وغيره: إذا خالف في الوديعة فهو ضامن، وذلك لأنه خالف أمر صاحبها من غير حاجة، أشبه ما لو نهاه.
(والثاني) : لا يضمن مطلقا، قاله القاضي، وابن عقيل، لأن مثل الشيء يساوي ذلك الشيء، فيعطى حكمه.
(والثالث) : إن نقلها إلى أعلى لمن يضمن، لأنه زاده خيرا، وإن نقلها إلى المساوي ضمن؛ لعدم الفائدة في ذلك.
قال في التلخيص: وأصحابنا لم يفرقوا بين تلفها بسبب النقل، وبين تلفها بغيره، وعندي أنه(4/581)
إذا حصل التلف بسبب النقل - كانهدام البيت المنقول إليه - ضمن.
(تنبيه) : «الغشيان» مصدر: غشي الشيء غشيانا، نزل به. «والتوى» مقصورا الهلاك.
قال: وإذا أودعه شيئا، ثم سأله دفعه إليه في وقت أمكنه ذلك، فلم يفعل حتى تلف؛ فهو ضامن.
ش: إذا أودعه شيئا ثم سأله دفعه إليه؛ لزمه ذلك، لأمر الله سبحانه ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فإن لم يفعل حتى تلف مع إمكان الرد ضمن، لمخالفة الأمر، وانتفاء عذر المودع في الامتثال، فأشبه الغاصب، أما إن لم يمكن ردها لبعدها، أو لمخافة في طريقها، ونحو ذلك فلا ضمان عليه، لأنه لا يتوجه الأمر إليه والحال هذه، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وإذا لم يتوجه الأمر إليه فلا ضمان، لانتفاء تعديه، أما إن أخر لحاجة له مع إمكان الرد - كما إذا كان في الحمام، أو على طعام فأخر إلى الفراغ - فظاهر كلام الخرقي: وجوب الضمان، وصرح به في التلخيص، إناطة للحكم بإمكان الرد، وفي لحوق المأثم له والحال هذه وجهان؛ وظاهر كلام أبي محمد في المغني انتفاء الضمان، لأنه قال: إذا قال:(4/582)
أمهلوني حتى أقضي صلاتي، أو آكل فإني جائع، أو أنام فإني ناعس، أو ينهضم الطعام عني فإني ممتلئ؛ أمهل بقدر ذلك. والله أعلم.
قال: وإذا مات وعنده وديعة لا تتميز من ماله؛ فصاحبها غريم بها.
ش: إذا مات إنسان وقد ثبت أن عنده وديعة، بإقراره أو ببينة، ولم تتميز من ماله، فصاحبها غريم بها، لأنه قد ثبت بإقراره أو بالبينة استحقاق ردها، وقد تعذر، فيجب بدلها، وإذا وجب بدلها كان غريما بها، كسائر الحقوق، أما إن ثبت أنه كان عنده وديعة في حياته، ثم مات ولم توجد بعينها، ولم يعلم بقاؤها ولا تلفها، فوجهان:
(أحدهما) وقال في المغني إنه المذهب: وجوب الضمان، [اعتمادا على أصل وجوب الرد ما لم يعلم ما يزيله.
(والثاني) : لا ضمان، نظرا إلى أن الأصل عدم إتلافها والتعدي فيها، فينتفي الضمان] ولا فرق فيما تقدم بين أن يوجد جنس الوديعة، في ماله أو لم يوجد، قاله أبو محمد.
وقال في التلخيص: إذا أوصى وأجمل ولم يعرف ضمن نص عليه، وإن ذكر جنسها بأن قال: عندي وديعة عمامة، أو سراويل، أو نحو ذلك، ولم يوجد ذلك في تركته؛ فلا ضمان، لاحتمال التلف قبل الموت، والله أعلم.(4/583)
قال: ولو طالبه بالوديعة فقال: ما أودعتني. ثم قال: ضاعت من حرز. كان ضامنا، لأنه خرج من حال الأمانة.
ش: إذا طالبه بالوديعة فأنكر أصل الإيداع، بأن قال: ما أودعتني. فثبت الإيداع ببينة أو إقرار، فادعى ما يسقط وجوب الضمان عنه - من ضياعها، أو تلفها، أو ردها - لم يسمع منه، ووجب عليه الضمان، وإن أتى ببينة، لأنه إن ادعى ذلك قبل الجحود، فهو بدعواه الأولى مكذب لدعواه الثانية أو لبينته، فينتفيان، وقيل: يسمع منه ذلك بالبينة. وإن ادعى ذلك بعد الجحود، فقد خرج عن حال الأمانة، فصارت يده يدا ضامنة لا يد أمانة، فثبوت التلف أو الضياع لا ينفي عنه الضمان. نعم إن ادعى الرد بعد الجحود سمع منه كالغاصب، فيثبت بالبينة، ويحلف خصمه مع عدمها، والله أعلم.
قال: ولو قال: ما لك عندي شيء. ثم قال: ضاعت من حرز. كان القول قوله، ولا ضمان عليه.
ش: أي ولو طالبه بالوديعة، فلم ينكر أصل الإيداع، وإنما قال: ما لك عند شيء. ثم ثبت أنه أودعه، فادعى الضياع، أو التلف، ونحو ذلك سمع منه، لعدم تنافي دعواه الأولى والثانية، إذ مع الضياع أو التلف ليس له عنده شيء،(4/584)
فهو صادق في قوله، فأمانته باقية، ودعواه مقبولة، ولا فرق بين قبل الجحود وبعده، على ظاهر إطلاق جماعة.
وقال القاضي في المجرد: وقد قيل: إن شهدت البينة بالتلف بعد الجحود فعليه الضمان، لأنه قد كذبها بالجحود، وإن شهدت بالتلف قبل الجحود سمعت، ولا ضمان عليه، والله أعلم.
قال: ولو كانت في يده وديعة فادعاها نفسان، فقال: أودعني أحدهما ولا أعرفه عينا، أقرع بينهما، فمن تقع له القرعة حلف أنها له وأعطي.
ش: إذا كانت في يده وديعة فادعاها نفسان، كل واحد منهما يدعي أنه الذي أودعها ولا بينة، فلا يخلو من خمسة أحوال:
(أحدها) : أن يقر بها لأحدهما دون الآخر، فهي له مع يمينه، لأن اليد كانت للمودع، وقد نقلها إلى المدعي، فصارت اليد له، ومن اليد له القول قوله مع يمينه، وعلى المدعي اليمين للمدعي الآخر؛ لأنه منكر لما ادعاه عليه، فإن حلف؛ برئ، وإن نكل قضي عليه بغرمها.
(الثاني) : أن(4/585)
يقر بها لهما، فهي بينهما يقتسمانها، مع تحالفهما، كما لو كانت بأيديهما وتداعياها، وعليه اليمين لكل واحد منهما في نصفها، فإن نكل لزمه عوضها يقتسمانه أيضا.
(الثالث) : أن يقر بها لواحد منهما غير معين، وهذه مسألة الخرقي، فإن صدقاه في عدم العلم فلا يمين عليه، ويقرع بينهما، لتساويهما في الحق، أشبها العبدين إذا أعتقهما في مرضه، وإن أكذباه أو أحدهما، لزمه يمين واحدة بأنه لا يعلم عين صاحبها، لأن المدعي يدعي عليه العلم بعين صاحبها، وهو ينكره، فإن حلف أقرع بينهما كما تقدم، وإن نكل لزمه غرمها.
قال في التلخيص: ثم إن اتفقا على أن العين وقيمتها يشتركان فيها فلا كلام، وإن تشاحاها أقرع بينهما،(4/586)
فدفعت العين للقارع، ومقتضى كلام أبي البركات أنه مع نكوله يقرع بينهما، فيأخذ القارع العين، ويطلب الآخر البدل.
(الرابع) : جحدهما فالقول قوله، لأن اليد له، وعليه لكل واحد يمين، فإن نكل لزمه لهما العين وعوضها، يقترعان عليهما، قال أبو البركات: ويحتمل أن يقتسماهما.
(الخامس) : أقر بها لغيرهما، وله تقاسيم ليس هذا موضعها، والله أعلم.
قال: ومن أودع شيئا فأخذ بعضه، ثم رده أو مثله فضاع الكل، لزمه مقدار ما أخذ.(4/587)
ش: إذا أودع إنسان إنسانا شيئا، فأخذ بعضه ثم رده، فضاع الجميع أو تلف، لزمه مقدار ما أخذ فقط، لأنه القدر الذي تعدى فيه، هذا هو المشهور من الروايتين، حتى إن القاضي في تعليقه، وأبا البركات وأبا محمد في الكافي والمغني، لم يذكروا غيرها.
(والرواية الثانية) : يضمن الجميع، حكاها صاحب التلخيص وغيره، لأنها وديعة، قد تعدى فيها فضمنها، كما لو أخذ الجميع انتهى.
وإن لم يرد ما أخذ بل رد بدله، فللأصحاب في ذلك طرق:
(إحداها) : أنه لا يلزمه إلا مقدار ما أخذ، سواء كان البدل متميزا أو غير متميز، وهذا مقتضى كلام الخرقي، وبه قطع القاضي في التعليق، وذكر نص أحمد على ذلك من رواية الجماعة، وحكي عنه من رواية الأثرم أنه أنكر القول بتضمين الجميع، وأنه قال: إنه قول سوء. وذلك لأنه الضمان منوط بالتعدي، والتعدي إنما حصل في المأخوذ، فيختص الضمان به.
(الطريقة الثانية) : أنه إن تميز البدل ضمن قدر ما أخذ فقط، وإن لم يتميز فعلى روايتين، وهذه طريقة أبي محمد في المغني والكافي، وأبي البركات.
(الطريقة الثالثة) : أن المسألة على روايتين فيهما، وهي ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية.
(الطريقة الرابعة) أنه إن تميز البدل فعلى روايتين،(4/588)
وإن لم يتميز ضمن الجميع رواية واحدة، قالها صاحب التلخيص، ويقرب من هذه الطريقة قول أبي محمد في المقنع، وكلام القاضي على ما حكى عنه أبو محمد في المغني، ومبنى هذه الطريقة على أن المردود باق على ملكه، فقد خلط ملكه بالوديعة، فيجري فيه ما تقدم، وقد فرق أبو محمد بأن المردود يجب رده مع الوديعة، فلم يفوت على نفسه إمكان الرد، بخلاف ثم، فإنه فوت على نفسه، إمكان رد الوديعة، وقد يقال: مسلم أنه يجب عليه الرد، لكن لا يجب عليه رد هذا المخلوط بعينه، فهو باق على ملكه، فإذا خلطه بالوديعة، ولم يتميز فقد فوت على نفسه إمكان رد باقيها، وبالجملة هذه الطريقة وإن كانت حسنة لكنها مخالفة لنصوص أحمد، وقد يقال: إن نصوصه هنا مقوية لرواية البغوي ثم.
واعلم أن شرط هذه المسألة عند أبي محمد، وأبي البركات، أن تكون الدراهم ونحوها غير مختومة ولا مشدودة،(4/589)
أما إن كانت مختومة أو مشدودة فحل الشد، أو فك الختم، فإنه يضمن الجميع بلا نزاع، لهتك الحرز، وهذا الصحيح عند القاضي، وقال: إنه قياس قول الأصحاب فيما إذا فتح قفصا عن طائر فطار. ولم يذكر عن أحمد بذلك نصا، ونقل مهنا عن أحمد ما يقتضي أنه لا يضمن إلا ما أخذ، فقال - في رجل استودع رجلا عشرة دنانير في صرة، فأخذ منها المستودع دينارا فأنفذه، ثم رد مكانه دينارا، فضاعت العشرة -: يغرم الدينار، وليس عليه التسعة، وفي التلخيص أيضا أن البغوي روى عن أحمد ما يدل على ذلك.
وينبني على ذلك: لو خرق الكيس، فإن كان من فوق الشد لم يضمن إلا أرش الخرق فقط، وإن كان من تحت الشد ضمن الجميع، على المشهور عند الأصحاب.
وقوة كلام الخرقي تقتضي أنه لا يضمن بمجرد نية التعدي، وهو المذهب المجزوم به، لرفع المؤاخذة عن ذلك ما لم يتكلم أو يعمل، ولهذا لو أخرجه إلى السوق بنية الإنفاق ثم ردها، ضمنها على أصح الوجهين، لوجود العمل، قال القاضي: وقد قيل: إنه يضمن بالنية، لاقترانها بالإمساك، وهو فعل، وقد ينبني هذا الوجه على أن الذي لا يؤاخذ به هو الهم، أما العزم فيؤاخذ به على أحد القولين، والله أعلم.(4/590)
[باب قسم الفيء والغنيمة والصدقة]
ش: «الفيء» في الأصل مصدر: فاء يفيء فيئة وفيئا: إذا رجع، ثم أطلق على ما أخذ من الجهات الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى؛ لأن الله تعالى أفاءه على المسلمين، أي: رده عليهم من الكفار، فإن الأصل: أن الله إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، والكافر ليس من أهل عبادته، فرجوع المال عنه رده إلى أصله. والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الآية.
«والغنيمة» : أصلها من الربح والفضل، والأصل فيها قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية، أضاف الغنيمة لهم، ثم جعل خمسها لغيرهم، فدل على أن الأربعة الأخماس الباقية لهم، وقيل: إنها كانت أولا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وهي من خصائص هذه الأمة.
2349 - قال: «وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي» متفق عليه.(4/591)
2350 - وفي الصحيح: «أن النار كانت تنزل من السماء فتأكلها» .
«والصدقة» هنا المراد بها: الصدقة المفروضة، وهي الزكاة.
قال: والأموال ثلاثة: فيء، وغنيمة، وصدقة.
ش: أي الأموال التي مرجعها للإمام، التي يتولى أخذها وتفريقها، والله أعلم.
[تعريف الفيء والغنيمة]
قال: فالفيء ما أخذ من مال مشرك، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، والغنيمة ما أوجف عليه.
ش: هذان تعريفان شرعيان للفيء والغنيمة، والركاب: الإبل، والإيجاف أصله التحريك، والمراد هنا: الحركة في السير إليه.
2351 - قال قتادة في قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ما قطعتم واديا، ولا(4/592)
سيرتم إليها دابة، إنما كانت حوائط بني النضير، أطعمها الله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحظ الآية الكريمة، كما هو دأبه، فأتى بألفاظها، فكل ما أخذ من مال مشرك بغير إيجاف، كالذي تركه فزعا من المسلمين، وكالجزية، والعشر من تاجر أهل الحرب، ونصفه من تاجر أهل الذمة، ومال من مات منهم ولا وارث له، وخراج أرض صالحناهم عليها.
وما أجاف عليه المسلمون فساروا إليه، وقاتلوا عليه، فهو غنيمة، سواء أخذ بالسيف، أو بالحصر والاستنزال بأمان.
2352 - فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح حصون خيبر بعضها عنوة، وبعضها استنزل أهله بأمان، وكلها كانت غنيمة.(4/593)
[تقسيم خمس الفيء والغنيمة]
قال: فخمس الفيء والغنيمة مقسوم على خمسة أسهم.
ش: قد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جهة إشارة النص على أن الفيء والغنيمة يخمسان؛ «أما الغنيمة» : فلا نزاع في تخميسها بحمد الله في الجملة، وقد دل عليها قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية.
2353 - وفي الترمذي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لوفد عبد القيس: «آمركم أن تؤدوا خمس ما غنمتم» .
وقد اختلف في أشياء من الغنيمة: هل تخمس كالسلب، والنفل، وأشياء أخر، ونذكر ذلك إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع.
«وأما الفيء» : فالمنصوص عن أحمد في رواية أبي طالب أنه لا يخمس، لأن الله سبحانه قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] الآيات، فدل على أنه كله لهؤلاء، ولم يذكر خمسا.
2354 - وفي النسائي من حديث مالك بن أوس، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث طويل، فيه أنه قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال: 41] هذا لهؤلاء {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] هذه(4/594)
لهؤلاء {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة وكذا {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] و {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق رجل ممن المسلمين إلا وله من هذا المال حق - أو قال حظ - إلا بعض من تملكون من أرقائكم، ولئن عشت ليأتين على كل مسلم حقه أو قال حظه.
ورواه أبو داود عن الزهري قال: قال عمر: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] وذكر مثل رواية النسائي، وهذا من عمر تفسير للآية الكريمة(4/595)
وهو كالنص في عدم التخميس، وتفسير الصحابي إذا وافق ظاهر النص [كان] حجة بلا ريب.
وقال الخرقي: إنه يخمس.
قال القاضي: لم أجد بما قال نصا. ووجهه أنه مال مشرك مظهور عليه، فوجب أن يخمس كالركاز، والغنيمة، ودل كلامه - من جهة دلالة النص - على أن خمس الفيء والغنيمة يقسمان على خمسة أسهم، وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية.
2355 - وسهم الله والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحد، كذا قال عطاء، والشعبي.
2356 - وعن بعضهم أن ذكر الله تعالى لافتتاح الكلام تبركا به.
2357 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «سمعت عليا يقول: ولاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خمس الخمس فوضعته مواضعه حياته،(4/596)
وحياة أبي بكر، وحياة عمر، فأتي عمر بمال آخر حياته، فدعاني فقال: خذه. فقلت: لا أريده. فقال: خذه فأنتم أحق به. قلت: قد استغنينا عنه. فجعله في بيت المال. رواه أبو داود. وفي رواية: إن رأيت أو تولينا حقنا من هذا الخمس في كتاب الله» . وهذا يدل على أن الخمس كان يخمس خمسة أسهم، لا أقل منها ولا أكثر.
(تنبيه) : الغنيمة التي تخمس هي: ما وجد بعد دفع السلب لمستحقه، وبعد دفع ما وجد فيها لمسلم أو معاهد(4/597)
له، وبعد إعطاء أجرة من حفظها أو نقلها، وجعل من دل على حصن أو ماء، ونحو ذلك، ولهذه تفاصيل ليس هذا موضع بيانها، وبعد ما أكل منها من طعام، أو علف، على ما يذكر في موضعه.
واختلف في ما إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب فغنموا، هل يخمس ما غنموه؟ على روايتين.
واختلف أيضا في النفل، كقول الإمام: من جاء بعشرة أرؤس فله منها رأس ونحو ذلك، فقال أبو البركات: يخمس، وقال أبو محمد: الظاهر أنه لا يخمس. والله أعلم.
قال: سهم للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصروف في الكراع، والسلاح، ومصالح المسلمين.
ش: سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باق بعد موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسقط، اعتمادا على الأصل، وهو ثبوته.
2358 - وفي حديث جبير بن مطعم أنه قال: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عمر يعطيهم، ومن كان بعده منه مختصرا، رواه البخاري.(4/598)
2359 - وعن عمرو بن عبسة قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بعير من المغنم، فلما صلى أخذ وبرة من المغنم ثم قال: «لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم» . رواه أبو داود، وروى نحوه النسائي عن عبادة بن الصامت، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهو شامل لحال حياته، وحال وفاته، ومصرفه مصالح المسلمين، كالفيء على المشهور، ولما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وهو مردود فيكم.
(وعن أحمد) رواية أخرى: يصرف في السلاح والكراع والمقاتلة خاصة.
2360 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان ينفق على أهله نفقة سنة -(4/599)
وفي لفظ: يحبس لأهله قوت سنتهم - ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سيبل الله» . متفق عليه.
(تنبيه) : «الوبرة» : واحدة الوبر للإبل، كالصوف للضأن، والشعر للمعز، قال الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] .
«والكراع» : الخيل.
قال: وخمس مقسوم في صلبية بني هاشم، وبني المطلب، ابني عبد مناف، حيث كانوا، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ش: قوله: في صلبية بني هاشم. يعني: أولاد هاشم، دون من يعد منهم من مواليهم، وحلفائهم، وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على خمس مسائل:
(إحداها) : أن سهم ذوي القربى ثابت بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا مذهبنا؛ لأنه سبحانه ذكرهم في كتابه من ذوي السهام، والأصل: البقاء ما لم يعارضه معارض.(4/600)
2361 - «وعن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله أعطيت بني المطلب، وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» . وفي رواية: فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا. وزاد: قال جبير: ولم يقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل شيئا» .
وقال ابن إسحاق: عبد شمس، وهاشم، والمطلب أخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مرة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. هذه رواية البخاري.
2362 - وفي رواية أبي داود: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يقسم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل من الخمس شيئا، كما قسم لبني هاشم وبني المطلب» ، قال: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عمر يعطيهم ومن بعده.
وفي رواية: وعثمان بعده.(4/601)
فهذان عمر وعثمان أعطيا بعد موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنع أبي بكر لعله لمانع قام عنده، والنسخ لا يثبت بالاحتمال.
2363 - وعن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى لمن هو؟ قال يزيد بن هرمز: فأنا كتبت كتاب ابن عباس إلى نجدة، كتب إليه: كتبت تسألني عن سهم ذوي القربى لمن هو؟ وهو لنا أهل البيت، وقد كان عمر دعانا إلى أن ينكح منه أيمنا، ويجدي منه عاملنا، ويقضي منه عن غارمنا، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا فتركناه عليه. رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، واحتج به، وهذا لفظه.(4/602)
(الثانية) : أن ذا القربى بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف، دون مواليهم، وغير مواليهم، لما تقدم من حديث جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والمعتبر الأب، لأن النسب له، فإن الهاشمي، وإن لم تكن أمه هاشمية، يستحق، وابن الهاشمية لا يستحق إذا كان أبوه غير هاشمي.
(الثالثة) : أنه يجب تعميمهم، وتفرقته بينهم حيث كانوا حسب الإمكان، لأنه سهم مستحق بالقرابة، أشبه الميراث، فعلى هذا يبعث الإمام إلى عماله في الأقاليم، وينظر ما حصل من ذلك، فإن استوت الأخماس فرق كل خمس فيمن قاربه، وإن اختلفت أمر بحمل الفضل ليدفع إلى مستحقه، قال أبو محمد: والصحيح إن شاء الله تعالى أنه لا يجب التعميم، لأنه يتعذر أو يشق، فلم(4/603)
يجب كالمساكين، والإمام ليس له حكم إلا في قليل من بلاد الإسلام، فعلى هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده. قلت: ولا أظن الأصحاب يخالفون أبا محمد في هذا.
(الرابعة) : أن القسم بينهم يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو إحدى الروايتين، وبه جزم أبو محمد في المقنع، لأنه سهم استحق بقرابة الأب شرعا، ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث، وخرج ولد الأم والوصية.
(والرواية الثانية) : يسوى بين ذكرهم وأنثاهم، لأنهم أعطوا باسم القرابة، والذكر والأنثى فيها سواء، أشبه ما لو وصى لقرابة فلان، يحققه أن الجد يأخذ مع الأب، وابن الابن يأخذ مع الابن، وهذا خلاف الميراث.
(الخامسة) : أن غنيهم وفقيرهم فيه سواء، على عموم كلام الخرقي، وهو المشهور المعروف، لعموم قَوْله تَعَالَى: {ولذي القربى} [الأنفال: 41] .
2364 - وفي الصحيحين في حديث طويل أن العباس وعليا جاءا يطلبان أن عمر يقضي بينهما، فقال عمر: إن الله كان خص رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] قال: فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عنكم، ولا أخذها دونكم. انتهى. والعباس كان من الأغنياء، وقال(4/604)
أبو إسحاق بن شاقلا: يختص به فقراؤهم، لما تقدم عن عمر.
(تنبيه) : «الحرورية» : طائفة من الخوارج، نسبوا إلى «حروراء» اسم بلدة، تمد وتقصر، كان أول مجتمعهم بها، وتحكيمهم فيها.
«ويحذي» : يعطي.
«والغارم» : المديون.
والاستئثار: الاستبداد بالشيء، والانفراد به، والله أعلم.
قال: والخمس الثالث في اليتامى.
ش: قد شهد النص بذلك، واليتيم من لا أب له، وإن كان له أم، ولم يبلغ الحلم.
2365 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد البلوغ، ولا صمات يوم إلى الليل» .(4/605)
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط فقرهم، وإليه ميل أبي محمد، نظرا لإطلاق الآية الكريمة، واشترطه جمهور الأصحاب، لأن ذا الأب لا يدفع إليه، والمال أنفع من الأب، قال أبو محمد: قال الأصحاب: ويفرق على جميع أيتام البلاد، قال: والقول فيه كالقول في سهم ذي القربى، والله أعلم.
قال: والخمس الرابع في المساكين.
ش: للنص، ويدخل فيهم الفقراء، إذ كل موضع ذكر فيه أحد الصنفين دخل الآخر، وحيث أريدا ذكرا كما في الزكاة.(4/606)
قال أبو محمد: قال أصحابنا: ويعم جميعهم في جميع البلاد. قال: وقد تقدم قولنا في ذلك، والله أعلم.
قال: والخمس الخامس لابن السبيل.
ش: للنص، وسيأتي بيان ابن السبيل إن شاء الله تعالى، فإن اجتمع في واحد أسباب، كمسكين هو ابن سبيل، يتيم، فإنه يعطى بكل منها، فإن أعطي فزال فقره؛ لم يعط له شيئا، والله أعلم.
قال: وأربعة أخماس الفيء لجميع المسلمين، بالسوية بينهم، غنيهم وفقيرهم فيه سواء، إلا العبد.
ش: لما قال: إن الفيء يخمس. قال: إن أربعة أخماسه للمسلمين. وعلى المنصوص جميعه للمسلمين، ولا نزاع أن العبيد لا حق لهم في الفيء، وقد تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لم يبق رجل من المسلمين إلا وله في هذا المال حق، إلا بعض من تملكون من أرقائكم، ومن عدا العبيد من المسلمين لهم حق في الفيء في الجملة، فيصرف في مصالح المسلمين، إذ نفعها يعود على جميعهم، ويبدأ بالأهم فالأهم، من سد الثغور، وكفاية أهلها وغيرهم من جند(4/607)
المسلمين، ثم الأهم فالأهم، من سد البثوق، وعمل القناطر، وأرزاق القضاة، والمفتين، والمؤذنين، ونحوهم، من كل ذي نفع عام، وما فضل منه قسم بين المسلمين غنيهم وفقيرهم، على قول الخرقي.
والمشهور، لما تقدم عن عمر أنه قال: لم يبق رجل من المسلمين إلا وله في هذا المال حق، وقرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وعن أحمد يقدم ذووا الحاجات.
2366 - لما روى مالك بن أوس قال: [ذكر عمر يوما الفيء، فقال] : ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما منا من أحد بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل، وقسمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته، رواه أبو داود.
وقال القاضي: أهل الفيء هم أهل الجهاد، ومن يقوم بمصالحهم، ومن لا يعد نفسه للجهاد، فلا حق له فيه.
وهل يلتفت إلى أن الفيء كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحصول النصرة والمصلحة به، فلما مات صارت المصلحة للجند، وما(4/608)
يحتاج إليه المسلمون، فصار ذلك لهم دون غيرهم.
2367 - ويشهد لذلك قصة عمر المتقدمة: أن الله تعالى كان خص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره، فقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] قال: فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عليكم، ولا أخذها دونكم، حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال. وفي رواية: ثم يجعل ما بقي بجعل مال الله. والأول يلتفت إلى أن الفيء لم يكن ملكا له، وإنما كان يتصرف فيه بالأمر، فهو لجميع المسلمين.
2368 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت» رواه البخاري. انتهى. يبدأ عند العطاء بالمهاجرين، ثم بالأنصار، ثم(4/609)
بسائر المسلمين، ويبدأ بالأقرب فالأقرب من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهل يفاضل بينهم؟ حكى أبو محمد فيه روايتين، واختار أن ذلك موكول إلى رأي الإمام واجتهاده، وقال أبو البركات: وفي جواز التفضيل بينهم بالسابقة روايتان. فخص الخلاف.
2369 - وقد روي عن أبي بكر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما سويا، فيروى أن أبا بكر سوى، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهجروا ديارهم كمن إنما دخلوا في الإسلام كرها؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ.(4/610)
2370 - وعن عمر وعثمان أنهما فضلا.
2371 - وعن نافع أن عمر كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبوه، يقول: ليس هو ممن هاجر بنفسه.(4/611)
2372 - وعن قيس بن أبي حازم قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، خمسة آلاف وقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم. رواهما البخاري.
2373 - وعن عوف بن مالك قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى الأعزب حظا. زاد في رواية: فدعينا، وكنت أدعى قبل عمار، فدعيت فأعطاني حظين، وكان لي أهل، ثم دعي بعدي عمار بن ياسر فأعطي حظا واحدا» . رواه أبو داود، وأحمد وحسنه، والله أعلم.
قال: وأربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة.
2374 - ش: كذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو إجماع في الجملة، وقد دل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41](4/612)
الآية، كما تقدم تقريره، وقوله: لمن شهد الوقعة، يشمل من قاتل، ومن لم يقاتل، ممن قصده الجهاد، كالتجار، والصناع، ويستثنى من الشاهدين صور ليس هذا موضع استثنائها.
[سهم الراجل والفارس من الغنيمة]
قال: وللراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، إلا أن يكون الفارس على هجين، فيكون له سهمان، سهم له وسهم لهجينه.
ش: لما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الغنيمة تخمس، ذكر أن أربعة أخماسها لشاهدي الوقعة، وذكر بطريق التبع بيان قسمة ذلك، وذكر ذلك في كتاب الجهاد مستوفى، وهو محله واللائق به، فلنؤخره إلى هناك إن شاء الله تعالى.
[مصارف الصدقة]
قال: والصدقة لا يتجاوز بها الثمانية الأصناف التي سمى الله تعالى.
ش: أي الصدقة المفروضة، وقد تقدمت هذه المسألة في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادتها.
قال: (الفقراء) وهم الزمنى، والمكافيف، الذين لا حرفة لهم، والحرفة الصنعة، ولا يملكون خمسين درهما، أو قيمتها(4/613)
من الذهب، (والمساكين) وهم السؤّال وغير السؤّال، ومن لهم الحرفة إلا أنهم لا يملكون خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب.
ش: لما ذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصدقة لا يجاوز بها الثمانية الأصناف التي ذكرها الله تعالى طفق يبينها، وقد تقدم أن الفقراء والمساكين صنف واحد في غير الزكاة، وأنهما في الزكاة صنفان، وقد أشعر كلام الخرقي - بل نصه - على أن الفقر أشد من المسكنة، لأنه جعل الفقراء هم الزمنى، والمكافيف أي العميان، الذين لا حرفة لهم، احترازا ممن له منهم حرفة، كمن ينفخ في الكير، ونحو ذلك، وجعل المساكين السؤال وهو حرفة، أو من له منهم حرفة غير السؤال، وقد أومأ أحمد إلى ذلك، وعليه الأصحاب، وينقل عن الأصمعي، وابن الأنباري، وذلك لأن الله سبحانه بدأ بالفقراء، والعادة البداءة بالأهم، لا يقال: فالغارم أسوأ حالا من الفقير، لأنه(4/614)
اجتمع عليه الدين مع الفقر، لأنا نقول: الغارم قد يكون غنيا، كالغارم لإصلاح ذات البين، فلذلك أخر، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فسماهم مساكين، مع أن لهم سفينة، لا يقال: سماهم مساكين لضعفهم عن الدفع عن سفينتهم، بدليل {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] لأنا نقول: إطلاق المساكين يقتضي الحاجة دون الدفع، فيكون هذا هو الظاهر، والحمل على الظاهر متعين، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه.
2375 - ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعاذ من الفقر.
2376 - وسأل المسكنة فقال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» .(4/615)
2377 - وما يقال: إنه إنما استعاذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فقر القلب، بدليل «ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس» ويجاب عنه بما تقدم، والحق أن الظاهر أنه إنما استعاذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فقر القلب، لأنه هو المذموم، المطلوب عدمه، إذ من افتقر قلبه لا يزال حزينا ذليلا، وإن حصل له من الدنيا ما عسى أن يحصل، أما من افتقر في المال، وحصل له غنى النفس، فهو راض بما أعطاه ربه، محب له، صابر، فهو الفقير الصابر، [وهذا أمر في الحقيقة مطلوب، فكيف يستعاذ منه، والظاهر أن سؤاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسكنة إنما هي الصفة التي يخرج بها عن هيئة المتكبرين، والمتطاولين، فيكون] خاضعا لربه، ذليلا له، وهو مقام العبودية.(4/616)
2378 - وفي الأثر أنه سبحانه أوحى إلى موسى: إذا قمت بين يدي فقم مقام الذليل الحقير. وكذلك أوحى إلى عيسى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. انتهى.
وأيضا فالاشتقاق يناسب ما قلناه، إذ «الفقير» مشتق من: فقر الظهر. فعيل بمعنى مفعول، أي مفقور، وهو الذي نزعت فقرة ظهره، فانقطع صلبه، «والمسكين» مفعيل من السكون، وهو الذي أسكنته الحاجة، ومن كسر صلبه أشد حالا من الساكن، ذكر ذلك ابن الأنباري، وأما قوله سبحانه: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي: الملتصق بالتراب، المطروح عليه، فقال ابن الأنباري: لما نعته الله بهذا علمنا أنه ليس كل مسكين بهذه الصفة، بل الأغلب عليه أن يكون له شيء، فنعته بذلك أخرجه عن بقية المساكين. انتهى.
أو يقال: المراد بالمسكين هنا الفقير، إذ كل منهما يسمى فقيرا ومسكينا نظرا للحاجة.
إذ تقرر هذا فضابط «الفقير» من لا شيء له أصلا، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، كمن كفايته درهمان، ويحصل له نصف درهم، ونحو ذلك، «والمسكين» من يحصل له ما يقع موقعا من كفايته، كمن يحصل درهما في صورتنا، أو درهما ونصفا، وشرط جواز الدفع إليهما عند الخرقي أن لا يملكا خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب، بناء على ما(4/617)
تقدم له من أن من ملك [ذلك فهو غني، والغني لا تحل له الصدقة، لكن قد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من له حرفة ولا يملك خمسين درهما، أو من يملك، دون الخمسين درهما ولا حرفة له، أن له أخذ الزكاة، وإن كان ذلك يقوم بكفايته، وليس كذلك، إذ من حصلت له الكفاية بصناعة أو غيرها، ليس له أخذ الزكاة بلا ريب، وإن لم يملك شيئا، وكلام الخرقي فيه إيماء لذلك، إذ لفظ «الفقير والمسكين» يشعران بالحاجة، ومن له كفاية فليس بمحتاج. والله أعلم.
قال: والعاملين عليها وهم الجباة والحافظون لها.
ش: العمال على الزكاة هم الذين يبعثهم الإمام لجباية الصدقة، وحفظها، وكتابتها، وحسبها، ونقلها، ومن في معناهم، وهم السعاة.
2379 - وقد بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جماعة، فبعث عمر، ومعاذا، وأبا موسى، ورجلا من بني مخزوم، وغيرهم، وذكر أبو محمد(4/618)
من العمال الكيال، والوزان، والعداد، وقال في التلخيص: إن أجرة الكيال والوزان على المالك، وهو حسن، لأن ذلك من تمام التسليم الواجب على المالك، وقد يقال: مراد أبي محمد إذا احتيج إلى الكيال والوزان بعد ذلك، ويشترط للعامل البلوغ والعقل، والأمانة، لأنها ضرب من الولاية، والولاية يشترط فيها ذلك، ولعدم صحة قبض الصبي، والمجنون، وخوف ذهاب المال في يد الخائن، وفي اشتراط إسلامه، وكونه من غير ذوي القربى روايتان تقدمتا، ولا يشترط حريته، ولا فقره، ولا فقهه، والله أعلم.
قال: والمؤلفة قلوبهم وهم المشركون المتألفون على الإسلام.
ش: قد تقدم الكلام في المؤلفة، وأن حكمهم باق، وهم(4/619)
السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم، وهم ضربان؛ مسلمون ومشركون، وهم قسمان؛ (قسم) يرجى إسلامه، وهو الذي ذكره الخرقي، فيعطى لتقوى نيته في الإسلام، ويميل إليه.
2380 - فعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثيرة بين جبلين، من شاء الصدقة، فرجع إلى قومه، وقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة» . رواه أحمد. (وقسم) يخشى شره، فيعطى لكف شره وشر غيره معه.
2381 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن قوما كانوا يأتون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن أعطاهم مدحوا الإسلام، وقالوا: هذا دين حسن. وإن منعهم ذموا وعابوا» .
وأما المسلمون فعلى أربعة أضرب:
(الأول) :(4/620)
قوم من سادات المسلمين، لهم نظراء من الكفار، إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم فيعطون.
2382 - لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى عدي بن حاتم والزبرقان مع حسن نياتهما.
(الثاني) : سادات يرجى بعطيتهم قوة إيمانهم، فيعطون.
2383 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وغيرهما.(4/621)
2384 - وعن عمرو بن تغلب، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى أناسا، وترك أناسا، فبلغه عن الذين ترك أنهم عتبوا، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إني أعطي ناسا، وأدع ناسا، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي أناسا لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أناسا لما في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب» .
2385 - وعن أنس قال: «حين أفاء الله على رسوله أموال هوازن، طفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي رجالا من قريش مائة من الإبل، فقال أناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي قريشا ويمنعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أتألفهم» متفق عليه.
(الثالث) : قوم في طرف بلاد الإسلام إذا أعطوا دفعوا عن من يليهم من المسلمين.
(الرابع) : قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف.
(تنبيهان) : «أحدهما» : يقبل قوله في ضعف نيته في الإسلام، ولا يقبل قوله في أنه مطاع في قومه إلا ببينة.(4/622)
(الثاني) : «الشاء» جمع شاة «والهلع» تفسيره في قوله سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] .
2386 - يروى عن الأصمعي أنه سئل عن تفسير الهلوع، فقال للسائل: اقرأ الآية.
«والحديث العهد» بالشيء القريب منه.
قال: وفي الرقاب، وهم المكاتبون، وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه يعتق منها.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المراد بالرقاب، (فروي عنه) - واختاره الخلال - أنهم المكاتبون فقط، ورجع عن القول بالعتق، قال في رواية صالح: كنت أذهب إلى أن يعتق ثم جبنت عنه؛ لأنه يجر ولاءه، ويكون له منفعته، وقال في رواية محمد بن موسى: كنت أقوله ثم هبته.
وقال في رواية ابن القاسم وسندي: قد جبنت. وذلك لأن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونهم على صفة يوضع(4/623)
سهمهم فيها، وهذا في المكاتبين، لأن سهمهم يدفع إليهم، وما يقال من أن تقدير الآية: وفي حرية الرقاب. يقال: هذا فيه إضمار والأصل عدمه، (وروى عنه) أنه العتق فقط، لأن الظاهر من إطلاق الرقبة الرقبة الكاملة، وحقيقة ذلك في العتق، لأن المكاتب وجد فيه سبب الحرية، (وروي عنه) - واختاره القاضي في التعليق وغيره - أن المراد من الرقاب المكاتبون، وافتداء الأسرى، والعتق، لأن قوله: {وفي الرقاب} [التوبة: 60] يدخل تحته المكاتبون، والعبد القن.
2387 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس أن يعتق من زكاة ماله، ذكره عنه أحمد والبخاري.
2388 - وعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة، ويباعدني من(4/624)
النار، فقال: «أعتق النسمة، وفك الرقبة» فقال: يا رسول الله أوليسا واحدا؟ قال: «لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها» رواه أحمد، والدارقطني، وإذا ثبت الحكم في المكاتب، والعبد القن، ففي افتداء الأسير بطريق الأولى، لأنه تخليص رقبته من يد كافر، وهو أولى من تخليص الرقبة من يد مسلم.
وشرط المكاتب أن يكون مسلما، وأن لا يجد وفاء، ويجوز الدفع إليه قبل حلول النجم، على أشهر القولين، وشرط المعتق أن لا يعتق بالشراء، نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم.
قال: فما رجع من الولاء رد في مثله.
ش: يعني يعتق به أيضا، وقد تقدم حكم هذه المسألة فيما إذا أعتق عبدا سائبة، إذ المسألتان حكمهما واحد، والله أعلم.
قال: والغارمين وهم المدينون، العاجزون عن وفاء دينهم.(4/625)
ش: المدين العاجز عن وفاء دينه غارم بلا ريب، وشرط الدفع إليه أن يكون غرمه في مباح، أما إذا كان في محرم، فلا يجوز الدفع إليه قبل التوبة بلا ريب، حذارا من الإعانة على المعصية، وفيما بعد التوبة وجهان: (الجواز) : وهو المذهب، اختاره القاضي، وابن عقيل، وأبو البركات، وصاحب التلخيص، وغيرهم، نظرا إلى زوال أثر الذنب بالتوبة، إذ التوبة تجب ما قبلها.
(والمنع) : حسما للمادة، لاحتمال العود ثقة بالوفاء.
ومن الغارمين ضرب غرم لإصلاح ذات البين، وهو أن يقع بين الحيين أو أهل القريتين عداوة، يتلف فيها نفس أو مال، ويتوقف صلحهم على من يتحمل ذلك، فيتحملها إنسان، فيجوز الدفع إليه وإن قدر على الوفاء، لأن إعطاءه لمصلحتنا.
2389 - وفي مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي «عن قبيصة بن مخارق الهلالي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما عن عيش - أو قال -: سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة؛ فحلت له المسألة حتى(4/626)
يصيب قواما من عيش - أو قال: سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا» . انتهى.
أما من تحمل لضمان أو كفالة، فحكمه حكم من غرم لمصلحة نفسه، فلا يعطى مع الغنى، وقيل: بل حكمه حكم من غرم لإصلاح ذات البين، فيعطى وإن كان غنيا، بشرط أن يكون الأصل معسرا.
(تنبيهان) : «أحدهما» : إذا أراد الدفع إلى الغارم فهل يجب الدفع إليه ليقضي دينه، أو يجوز الدفع إلى غريمه وفاء عن الدين؟ فيه روايتان؛ أنصهما الجواز.
«الثاني» : «الحمالة» بفتح الحاء، والله أعلم.
قال: وسهم في سبيل الله، وهم الغزاة، يعطون ما يشترون به الدواب والسلاح وما يتقوون به على العدو، وإن كانوا أغنياء.
ش: لا خلاف أن الغزاة من السبيل، اعتمادا على العرف في ذلك، ونظرا إلى أن عامة ما ورد في القرآن كذلك، ويجوز الدفع إليهم وإن كانوا أغنياء كما تقدم، ويشترط كونهم من غير أهل الديوان، ويقبل قوله في إرادة الغزو، وهل يجوز للمزكي أن يشتري الدواب، والسلاح، ونحوهما، ويدفعها إليه، أو يجب أن يدفع إليه المال، ليشتري هو بنفسه؟ فيه روايتان، أشهرهما الثانية، والله أعلم.(4/627)
قال: ويعطى أيضا في الحج، وهو من سبيل الله تعالى.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية الميموني، والمروذي، وعبد الله، واختاره القاضي في التعليق وجماعة.
2390 - لما روي «عن أم معقل الأسدية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة، فسألت زوجها البكر، فأبى، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحج والعمرة في سبيل الله» رواه أحمد.(4/628)
2391 - وعن أبي لاس الخزاعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «حملنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إبل الصدقة إلى الحج» . رواه أحمد، وذكره البخاري تعليقا.
2392 - وعن ابن عمر أنه قال: الحج من سبيل الله. وعن ابن عباس نحوه. (وعن أحمد) رواية أخرى: أن الحج ليس من السبيل، اختارها أبو محمد، اعتمادا على أن العرف في إطلاق السبيل إرادة الغزو، ونظرا إلى أن المعطى من الأصناف إما لمصلحته؛ كالفقير، والمسكين، والمكاتب والغارم لقضاء دينه، أو لمصلحتنا؛ كالعامل، والغازي، والمؤلف، والغارم(4/629)
لإصلاح ذات البين، والحج لا نفع للمسلمين فيه، ولا للفقير، لعدم وجوب الحج عليه، وأجاب القاضي بأن له فيه مصلحة، لأنه يسقط به فرضا ماضيا أو مستقبلا. انتهى.
وقد يقال: إنه من مصلحتنا، لما فيه من الاهتمام بهذا الشعار العظيم.
(تنبيه) : إذا قلنا: يعطى في الحج؛ فشرط المدفوع إليه الفقر، على ما جزم به الشيخان وغيرهما، وهو أحد احتمالي صاحب التلخيص، وهل يشترط كون الحج فرضا؟ شرطه أبو الخطاب، وتبعه عليه أبو محمد في المقنع، وهو مقتضى جواب القاضي المتقدم، ولم يشترطه الأكثرون؛ الخرقي، والقاضي، وصاحب التلخيص، وأبو البركات، وغيرهم، والله أعلم.
قال: (وابن السبيل) وهو المنقطع به، وله اليسار في بلده، فيعطى من الصدقة ما يبلغه.
ش: ابن السبيل: المسافر الذي ليس معه ما يوصله إلى بلده، وإن كان له اليسار في بلده، هـ ذا هو المذهب المنصوص المعروف، اعتمادا على حقيقة اللفظ، إذ حقيقة اللفظ أن ابن السبيل هو المسافر، لملازمته للسبيل، دون منشئ السفر من بلده، فإنه إنما يصير ابن السبيل في المآل.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على جواز الدفع لمن أراد إنشاء السفر(4/630)
نظرا إلى أنه إنما يأخذ لسفر مستقبل، إذ الماضي قد انقضى حكمه، فإن كان ابن السبيل مجتازا، يريد بلدا غير بلده، فظاهر كلام الخرقي - وهو قول عامة الأصحاب -: أنه يجوز أن يدفع إليه ما يكفيه في مضيه إلى مقصده، ورجوعه إلى بلده، بشرط كون السفر جائزا، إما قربة كالحج ونحوه، وإما مباحا كالتجارة ونحوها، ولا يجوز الدفع في سفر المعصية، وفي سفر النزهة وجهان: (الجواز) ؛ لعدم المعصية، (والمنع) ؛ لعدم الحاجة إليه، واختار أبو محمد: منع الإعطاء لمن أراد غير بلده، لأن احتياجه إلى بلده آكد، فلا يلحق به غيره، والله أعلم.
قال: وليس عليه أن يعطي لكل هؤلاء الأصناف، وإن كانوا موجودين، وإنما عليه أن لا يجاوزهم.
ش: قد تقدمت هذه المسألة، وحكمها في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادته، ونزيد هنا أنه إذا اجتمع في واحد سببان، جاز له الأخذ بكل منها، كغارم وفقير، يعطى لغرمه، ثم ما يغنيه، والله أعلم.
قال: ولا يعطى من الصدقة المفروضة لبني هاشم، ولا لمواليهم، ولا للوالدين وإن علوا، ولا للولد وإن سفل، ولا(4/631)
للزوج، ولا للزوجة، ولا لمن تلزمه مؤنته، ولا لكافر، ولا للمملوك، إلا أن يكونوا من العاملين، فيعطون بحق ما عملوا، ولا لغني، وهو الذي يملك خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب.
ش: قد تقدمت هذه المسائل مستوفاة في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم.
قال: وإذا تولى الرجل إخراج زكاته سقط العاملون.
ش: قد تقدمت هذه المسألة أيضا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(4/632)
[كتاب النكاح]
ش: النكاح في كلام العرب الوطء، قاله الأزهري، وسمي التزويج نكاحا لأنه سبب الوطء، قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين، أن النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين. قال الشاعر:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يجتمعان(5/3)
وقال الجوهري: النكاح الوطء، وقد يكون العقد. وعن الزجاجي: النكاح في كلام العرب بمعنى الوطء والعقد جميعا، وقال ابن جني عن شيخه الفارسي: فرقت العرب فرقا لطيفا يعرف به موضع العقد من الوطء، فإذا قالوا: نكح فلانة أو ابنة فلان. أرادوا تزوجها، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته. لم يريدوا إلا المجامعة.
(قلت) : وظاهر هذا الاشتراك كالذي قبله، وأن القرينة تعين.
وأما في الشرع فقيل: العقد، فعند الإطلاق ينصرف إليه، اختاره ابن عقيل، وابن البنا، وأبو محمد، والقاضي في التعليق، في كون المحرم لا ينكح، لما قيل له: إن النكاح حقيقة في الوطء(5/4)
قال: إن كان في اللغة حقيقة في الوطء، فهو في عرف الشرع للعقد، وذلك لأنه الأشهر في الكتاب والسنة، ولهذا ليس في الكتاب لفظ النكاح بمعنى الوطء إلا قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] على المشهور، ولصحة نفيه عن الوطء، فيقال: هذا سفاح وليس بنكاح. وصحة النفي دليل المجاز، قال القاضي في المجرد: الأشبه بأصلنا أنه حقيقة في العقد والوطء جميعا، لقولنا بتحريم موطوءة الأب من غير تزويج، لدخولها في قوله سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] الآية، وذلك لورودهما في الكتاب العزيز، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وقال القاضي في العدة، وأبو الخطاب، وأبو يعلى الصغير: هو حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، وذلك لما تقدم عن الأزهري، وعن غلام ثعلب، والأصل عدم النقل، قال أبو الخطاب: وتحريم من عقد عليها الأب استفدناه بالإجماع والسنة.
وهو مشروع بالإجماع القطعي في الجملة، وسنده قول الله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقوله:(5/5)
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] .
2393 - وفي الصحيحين وغيرهما عن علقمة، قال: كنت أمشي مع عبد الله بمنى، فلقيه عثمان فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك جارية شابة، تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ قال فقال عبد الله: لئن قلت ذلك، لقد قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» » وغير ذلك مما لا يحصى من كثرة.
ثم النكاح على الطريقة المشهورة تارة يجب، كما إذا خاف الزنا بتركه، وتارة يسن على المشهور من الروايتين، كالأمن من(5/6)
السابق، والثانية: - واختارها أبو بكر، والبرمكي - يجب، وتارة يباح على رواية، اختارها القاضي في النكاح من المجرد، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، ويستحب على أخرى، واختاره القاضي في الطلاق من المجرد، وهو إذا لم يتق إليه لكبر، أو مرض أو غير ذلك، وللأصحاب طرق غير ذلك، ومن أحسنها قول القاضي أبي يعلى الصغير أنه فرض كفاية، وحيث قيل بالوجوب هل يندفع بالتسري؟ فيه وجهان.
(تنبيه) في الباءة أربع لغات، «باءة» بالمد، مثال «باعة» «وباء» بالمد أيضا بلا هاء، «وباهة» بلا مد، وبالهاء والتاء، و «باه» بلا مد مقصورا أيضا، وأصل الباه في اللغة المنزل، ثم قيل لعقد النكاح، لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا، وقد يسمى النكاح نفسه باه، والمراد في الحديث، والله أعلم، الأول وإلا فلا حاجة إلى الصوم، «والوجاء» - بكسر الواو(5/7)
ممدودا - رض الأنثيين، أي أن الصوم قاطع لشهوة النكاح كالوجاء، والله أعلم.
[اشتراط الولي في النكاح]
قال: ولا ينعقد النكاح إلا بولي.
ش: هذا هو المذهب المنصوص، والمعروف عند الأصحاب، لا يختلفون في ذلك.
2394 - وذلك لما روى أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي» رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن المديني وغيره، وهو نفي للحقيقة الشرعية، أي لا نكاح شرعي، أو موجود في الشرع، إلا بولي.(5/8)
2395 - وعن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وقال المروذي: سألت أحمد ويحيى عن حديث سليمان بن موسى: «لا نكاح إلا بولي» فقالا: صحيح، ولأن ذلك قول جمهور الصحابة.(5/9)
2396 - روي معنى ذلك عن علي، وأبي هريرة رواه الدارقطني، وعن عمر، وابن عباس، وحفصة، رواه الشالنجي، وعن أبي سعيد الخدري، رواه أبو بكر، وعن ابن مسعود، وابن عمر، وادعى القاضي أنه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(5/10)
وحكى طائفة من الأصحاب عن أحمد رواية بعدم اشتراط الولي مطلقا، وأبو محمد خص الرواية بحال العذر، كما إذا عدم الولي والسلطان، واختلف في مأخذ الرواية، فابن عقيل أخذها من قول أحمد في دهقان القرية: يزوج من لا ولي لها، إذا احتاط لها في المهر والكفؤ، وغلطة أبو العباس في ذلك، قلت لأن دهقان القرية هو كبيرها، فهو بمنزلة حاكمها، والقائم بأمرها، وأخذها ابن أبي موسى من رواية أن المرأة تزوج أمتها ومعتقتها.
وبالجملة استدل لعدم الاشتراط بقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] فأضاف النكاح إليهن، ونهى عن منعهن منه، وظاهره أن المرأة يصح أن تنكح نفسها، ونحوه قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230](5/11)
وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] فأباح سبحانه فعلها في نفسها من غير شرط الولي.
2397 - يؤيده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للولي مع الثيب أمر» .
2398 - وأيضا روي أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خطب أم سلمة قالت: ليس أحد من أوليائي حاضرا. فقال: «ليس من أوليائك حاضر ولا غائب إلا ويرضاني» فقالت لابنها عمر بن أبي سلمة - وكان صغيرا -: قم فزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فتزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير(5/12)
ولي» ، وإنما أمرت ابنها بالتزويج على وجه الملاعبة، إذ قد نقل أهل العلم بالتأريخ أنه كان صغيرا قبل ست سنين، وبالإجماع لا تصح ولاية مثل ذلك، ولهذا قالت: ليس أحد من أوليائي حاضرا.
2399 - وأيضا قصة صاحب الإزار فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: زوجتكها ولم يسأل هل لها ولي أم لا.
واعترض على حديث أبي موسى بأن محمد بن الحسن روى عن أحمد أنه سئل عن النكاح بغير ولي يثبت فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: ليس يثبت عندي فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم هو محمول على نفي الكمال، ثم يقال بموجبه، وأن نكاح المرأة نفسها نكاح بولي، والنكاح بغير ولي نكاح المجنونة(5/13)
والصغيرة، إذ لا ولاية لهم على أنفسهم، وعن حديث عائشة بأن راويه سليمان بن موسى وقد ضعفه البخاري، وقال النسائي: في حديثه شيء، وقال أحمد في رواية أبي طالب: حديث عائشة: «لا نكاح إلا بولي» ليس بالقوي، وقال في رواية المروذي: ما أراه صحيحا، لأن عائشة فعلت بخلافه، قيل له: فلم تذهب إليه؟ قال: أكثر الناس عليه. ثم إن ابن جريج نقل عن الزهري أنه أنكر الحديث، قال أحمد - في رواية أبي الحارث -: لا أحسبه صحيحا، لأن إسماعيل قال: قال ابن جريج: لقيت الزهري فسألته فقال: لا أعرفه. ويقوي الإنكار أن الزهري قال بخلاف ذلك، قاله أحمد وغيره. ثم مفهوم الحديث أنه يصح نكاحها بإذن وليها، واعترض على إجماع الصحابة بفعل عائشة، كما تقدم عن أحمد، وقال في رواية(5/14)
أخرى: لا يصح الحديث عن عائشة، لأنها زوجت بنات أخيها.
2400 - وقد روى الشالنجي بإسناده عن القاسم، قال: زوجت عائشة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من ابن الزبير، فقدم عبد الرحمن فأنكر ذلك، وقال: مثلي يفتات عليه؟ فقالت عائشة: أوترغب عن ابن الحواري.
وأجيب عن الآية الأولى بأنها حجة لنا، لأنه سبحانه خاطب الأولياء، ونهاهم عن العضل وهو المنع، وهو شامل للعضل الحسي والشرعي، لأنه اسم جنس مضاف، وهذا يدل على أن العضل يصح منهم دون الأجانب.
2401 - ثم الآية نزلت في معقل بن يسار، حين امتنع من تزويج أخته، فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فزوجها، ولو لم يكن لمعقل ولاية، وأن الحكم(5/15)
متوقف عليه، لما عوتب في ذلك، وإضافة النكاح إليها لتعلقه بها، وكذلك الجواب عن الآية الثانية، ثم سياقها في أنها لا تحل للزوج الأول إلا بعد نكاح، وعن الثالثة بأن الفعل بالمعروف أن يكون بولي، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للولي مع الثيب أمر» نقول به، إذ لا أمر له معها، إذ حقيقة الأمر ما وجب على المأمور امتثاله، والثيب لا تجبر على النكاح، وافتقار نكاحها إلى الولي لا يقتضي أن يكون له عليها أمر، وأما تزوجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأم سلمة فمن خصائصه، قال أحمد - في رواية الميموني، وقد سئل: من زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال -: يقولون: النجاشي. فقيل له: يقولون: النجاشي أمهرها؟ وأراد الذي سأله بهذا حجة على من قال بالولي، فتغير وجه أبي عبد الله، وقال: يقوم مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا أحد؟ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6] وهو في النكاح ليس كغيره، وقضية صاحب الإزار قضية عين، محتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(5/16)
علم أنه لا ولي لها.
واعتراضاتهم أما على حديث أبي موسى فالصحيح المشهور عن أحمد تثبيته وتصحيحه، والحمل على نفي الكمال خلاف الظاهر، إذ الأصل والظاهر في النفي إنما هو لنفي الحقيقة، وهي هنا الشرعية، أي لا نكاح موجود في الشرع، وإطلاق الولي ينصرف إلى الذكر، يقال: ولي وولية إذ هو فعيل بمعنى فاعل، فيفرق بين مذكره ومؤنثه.
2402 - مع أن الخلال روى في كتاب العلل «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها» وهذا يبين أن المراد بالولي غير المنكوحة، وأما حديث عائشة - رضي الله - عنها فسليمان بن موسى ثقة كبير، قال الترمذي: لم يتكلم فيه أحد من المتقدمين إلا البخاري وحده،(5/17)
لأحاديث انفرد بها، ومثل هذا لا يرد به الحديث، ولهذا كان المشهور عن أئمة الحديث تصحيحه، وما نقل من إنكار الزهري فقد قال أحمد، ويحيى: لم ينقل هذا عن ابن جريج غير ابن علية، قال ابن عبد البر: وقد أنكر أهل العلم ذلك من روايته، ولم يعرجوا عليها، ولو ثبت ذلك لم يقدح في الحديث، إذا رواه(5/18)
عنه ثقة، على المشهور من قولي العلماء، إذ النسيان لم يعصم منه إنسان.
2403 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نسي آدم فنسيت ذريته» ورد أحمد له كذلك هو على الرواية غير المشهورة عنه من أن نسيان الراوي قادح، ولهذا كان المشهور عنه تصحيحه والأخذ به، ثم قد قيل: إنه كان في الحديث زيادة ذكرها سليمان بن موسى، فسئل الزهري عنها، فقال: لا أحفظها، ولم يرد به أصل الحديث، ذكر ذلك ابن المنذر والأثرم في العلل، وكون الزهري وعائشة قالا بخلافه لا يضر، لجواز النسيان أو التأويل، إذ الاعتبار بما روى لا بما رأى، وتضعيف أحمد له كذلك هو أيضا على خلاف المشهور عنه، والمعروف عن علماء الحديث.
2404 - ثم قد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت إذا أرادت أن تزوج أرسلت سترا وقعدت وراءه وتشهدت، فإذا لم يبق إلا(5/19)
النكاح قالت: يا فلان أنكح، فإن النساء لا ينكحن، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله هذا الحديث؟ فقال: روى ابن جريج، قال: أخبرت عن عبد الرحمن مرسلا كذا، وابن إدريس يقول عن ابن جريج، عن عبد الرحمن، عن القاسم، لا يقول: أخبرت. وقول الراوي: إذا أرادت أن تزوج، أي تشهد النكاح، لأجل المشاورة، وقوله: قالت: يا فلان أنكح. أي في إمائها، ونحو ذلك.
(تنبيه) اشتجروا التشاجر الخصومة، والمراد به - والله أعلم - المنع من العقد، دون المشاحة في العقد، إذ مع المشاحة فيه يقدم الأقرب فالأقرب، ومع الاستواء العقد لمن سبق، وتقديم أحدهم بالقرعة، تقديم أولوية على الصحيح، والله أعلم.
[اشتراط الشهود في النكاح]
قال: وشاهدين من المسلمين.
ش: أي لا ينعقد إلا بشاهدين من المسلمين، وهذا هو المشهور(5/20)
عن أحمد، رواه الجماعة، واختاره الأصحاب.
2405 - لأن في بعض طرق حديث عائشة «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها وشاهدي عدل فنكاحها باطل» ذكره الدارقطني، عن عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
2406 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة» رواه الترمذي، وقال: لم يرفعه غير عبد الأعلى، ووقفه مرة، قال والوقف أصح. قال بعض الحفاظ: وعبد الأعلى ثقة، فيقبل رفعه وزيادته.(5/21)
2407 - وروى مالك في الموطأ، عن أبي الزبير المكي، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة، فقال: هذا نكاح السر، ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمته، وخص النكاح - والله أعلم - باشتراط الشهادة، دون غيره من العقود، لما فيه من تعلق حق غير المتعاقدين، وهو الولد.
وعن أحمد رواية أخرى: ينعقد بدون شهادة، ذكرها أبو بكر في المقنع، وجماعة.
2408 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية، وتزوجها بغير شهود» ، «وقال للذي(5/22)
تزوج الموهوبة: «زوجتكها بما معك من القرآن» ولم ينقل أنه أشهد.
2409 - واحتج أحمد بأن ابن عمر زوج بلا شهود، ويروى ذلك أيضا عن ابن الزبير، والحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأنه عقد معاوضة، أشبه البيع، وما تقدم من الحديث، قال أحمد - في رواية الميموني -: لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشاهدين شيء، وكذا قال ابن المنذر.
ويجاب بأن تزويجه بلا شهود من خصائصه كما تقدم في الولي، وقضية الموهوبة قضية عين، والأحاديث يتقوى بعضها ببعض، واعلم أن النص في هذه الرواية عن أحمد مطلق، ولذلك أطلقه الجمهور، وقيده أبو البركات بما إذا لم يكتموه، فإذا مع الكتم تشترط الشهادة رواية واحدة، وهو - والله أعلم - من تصرفه، وكذلك جعله ابن حمدان قولا.(5/23)
وقول الخرقي: من المسلمين. يقتضي اشتراط الإسلام في الشاهدين، وذلك لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وخرج بذلك شهادة أهل الذمة وإن كانت المرأة ذمية وهو المنصوص والمشهور عند الأكثرين، وقيل: إن قبلنا شهادة بعضهم على بعض صح بشهادة أهل الذمة، وقد يخرج أيضا بقوله شهادة النساء، وليس بالبين، وبالجملة المذهب أن شهادتهن لا تعتبر في النكاح.
2410 - قال الزهري: «مضت السنة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق.» رواه أبو عبيد في كتاب أدب القضاة، قاله القاضي ونقل عنه حرب إذا تزوج بشهادة نسوة لم يجز، فإن كان معهن رجل فهو أهون. فأثبت ذلك القاضي وجماعة من أصحابه رواية، ومنع ذلك أبو حفص العكبري، وقال: قوله: هو أهون. يعني في اختلاف الناس، (ودخل) في كلام الخرقي العبد، والأعمى، وهو كذلك، وكذلك الأخرس، وهو صحيح إن قبل الأداء منه بالخط وإلا(5/24)
فلا، لعدم إمكان الأداء، (ودخل) أيضا مستور الحال، وهو المشهور من الوجهين، وإن لم نقبله في الأموال، قطع به القاضي في المجرد، وفي التعليق في الرجعة، وابن عقيل حاكيا له عن الأصحاب، والشيرازي، وابن البنا، وأبو محمد وغيرهم لتعذر البحث عن عدالة الشهود في الباطن غالبا، لوقوع النكاح في البوادي، وبين عوام الناس. «والوجه الثاني) : لا بد من العدالة الباطنة كغيره، وهو احتمال للقاضي في التعليق بعد أن أقر أنه لا يعرف الرواية عن الأصحاب، (ودخل) أيضا الفاسق لأنه مسلم، وهو رواية عن أحمد، والمنصوص عنه أنه لا ينعقد(5/25)
بفاسقين، وتعجب من قول أبي حنيفة في ذلك (ودخل) أيضا في كلامه عدو الزوج أو المرأة أو الولي أو متهم لرحم من أحدهم، وهو أحد الوجهين في الجميع، (وقد يدخل) في كلامه المراهق وهو إحدى الروايتين، والمذهب اشتراط البلوغ، ولا يرد عليه الطفل والمجنون والأصم، لخروجهم عقلا وعرفا، وقد يقال: قول الخرقي: شاهدين. أحال فيه على الشهادات وأنه لا بد من شروط الشهادة المعتبرة أيضا، لكن يبقى قوله: من المسلمين. ضائعا.
(تنبيه) : البغايا الزواني، والله أعلم.
[أحق الناس بنكاح المرأة الحرة]
قال: وأحق الناس بنكاح المرأة الحرة أبوها.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لأنه أكمل نظرا، وأشد شفقة، ولهذا اختص بولاية المال، وجاز شراؤه من مال ولده وبيعه له من ماله بشرطه، ولأن الولد موهوب لأبيه، قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90] وقال إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] .(5/26)
2411 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» وإذا تقديم الأب الموهوب له على الابن الموهوب أولى من العكس، وحكى ابن المنى(5/27)
في تعليقه قولا بتقديم الابن على الأب كما في الميراث، والله أعلم.
قال: ثم أبوه وإن علا.
ش: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند العامة، الخرقي، وأبي بكر، والقاضي، وجمهور أصحابه وغيرهم، لأن له إيلادا وتعصيبا أشبه الأب، (والرواية الثانية) تقديم الابن عليه، اختارها ابن أبي موسى، والشيرازي، كما في الميراث، وعلى هذه هل يقدم الجد على الأخ لامتيازه بالإيلاد، أو الأخ على الجد لإدلائه بالبنوة، وهي - والحال هذه - مقدمة على الأبوة في الجملة، أو هما سواء، لامتياز كل واحد منهما بمرجح؟ فيه ثلاث روايات، أما على الأولى فالجد مقدم على الأخ بلا ريب، والله أعلم.
قال: ثم ابنها وابنه وإن سفل.
ش: وذلك لأنه يقدم على الأخ ومن بعده في الميراث، فكذلك هنا، وقد فهم من كلام الخرقي أن للابن ولاية، وقد نص عليه أحمد في رواية الجماعة.(5/28)
2412 - «لحديث أم سلمة لما بعث إليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطبها قالت: ليس أحد من أوليائي شاهدا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك» رواه أحمد والنسائي، فقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس أحد من أوليائك شاهد» يدل على أن لها وليا شاهدا، أي حاضرا في الجملة، وقول أم سلمة: ليس أحد من أوليائي شاهدا. يحتمل أنها ظنت أن ابنها عمر لا ولاية له، ويحتمل أنها قالت ذلك لأن وجوده كالعدم لعدم مباشرته للعقد، لأنه كان صغيرا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها سنة أربع، وقال ابن الأثير: كان عُمْرُ عُمَرَ حين مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع سنين. وأنه ولد سنة اثنين من الهجرة. وعلى هذا يكون عمره حين التزويج سنتين، أو ثلاث سنين، وقول أحمد في رواية الأثرم - وقد سأله: أليس كان صغيرا - قال: ومن يقول كان صغيرا؟ ليس فيه بيان، يحتمل أنه إنما أنكر أن يكون في(5/29)
الحديث بيان، والبيان قد يكون في حديث آخر، والله أعلم.
قال: ثم أخوها لأبيها وأمها.
ش: قياسا على الميراث، والله أعلم.
قال: والأخ للأب مثله.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية صالح وحرب وأبي الحارث، وهو المذهب عند الجمهور الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي، وابن البنا وغيرهم، لأنهما استويا في الجهة التي تستفاد منها الولاية، وهي العصوبة التي من جهة الأب، فاستويا في النكاح، كما لو كانا من أب، وقرابة الأم لا ترجح، لأنها لا مدخل لها في النكاح.
وعن أحمد رواية أخرى حكاها طائفة من الأصحاب وصححها أبو محمد أن الأخ للأبوين يقدم على الأخ للأب، قياسا على الميراث، وعلى استحقاق الميراث بالولاء، فإنه يقدم فيه الأخ من الأبوين على الأخ من الأب، وإن كان النساء لا(5/30)
مدخل لهن فيه، واعلم أن القاضي وكثيرا من أصحابه حكوا ذلك عن أبي بكر، ولم يذكروا عن أحمد نصا.
(تنبيه) هذا الخلاف جار في بني الإخوة والأعمام، فإن ابن الأخ للأبوين مقدم على ابن الأخ للأب على الثاني، مساو له على الأول، أما إذا كانا ابني عم أحدهما أخ لأم فقال القاضي وطائفة من أصحابه هما على ما تقدم من الخلاف في ابن عم من أبوين وابن عم من أب، وقال أبو محمد هما سواء، لأنهما استويا في التعصيب، والإرث به، وجهة الأم والحال هذه يورث بها منفردة، وما ورث به منفردا لا يرجح به، والله أعلم.
قال: ثم أولادهم وإن سفلوا، ثم العمومة، ثم أولادهم، ثم عمومة الأب.
ش: ملخصه أنه يقدم بعد الإخوة الأقرب فالأقرب من العصبات، على ترتيب الميراث، قياسا عليه، إذ الولاية مبناها على النظر والشفقة، ومظنة ذلك القرابة، والأحق بالميراث هو الأقرب، فيكون أحق بالولاية. والله أعلم.(5/31)
قال: ثم المولى المنعم، ثم أقرب عصبته.
ش: وذلك لأنهم عصبات يرثون ويعقلون، فكذلك يزوجون، وقدم عليهم المناسبون كما في الميراث، والأقرب هنا هو الأقرب في الميراث، فيقدم ابن المعتق على أبيه، وإنما قدم الأب المناسب ثم على الابن لزيادة شفقته، وكمال نظره، وهنا النظر لأقوى العصبة، والله أعلم.
قال: ثم السلطان.
ش: لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» ، والسلطان هو الإمام أو من فوض إليه ذلك كالحاكم ونوابه، واختلف في والي البلد (فعنه) لا يزوج، وهو الأشهر (وعنه) يزوج عند عدم القاضي إلا أن القاضي حمل الرواية على أنه أذن له في التزويج، وأبو العباس حملها على ظاهرها نظرا للضرورة.
وقد دل كلام الشيخ وعامة الأصحاب أنه لا ولاية لغير من ذكر، فيدخل في ذلك من أسلمت المرأة على يديه لا يلي نكاحها، وهو المشهور من الروايتين، (والثانية) يليه بناء على أنه يرثها.
(تنبيه) إذا لم يكن للمرأة ولي (فعنه) - وهو ظاهر كلام الأصحاب - أنه لا بد من الولي مطلقا حتى أن القاضي أبا يعلى(5/32)
الصغير قال في رجل وامرأة في سفر ليس معهما ولي ولا شهود: لا يجوز أن يتزوج بها وإن خاف الزنا بها، قال أبو محمد: (وعنه) ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل، وأخذ ذلك من نصه في دهقان القرية وقد تقدم.
(قلت) : وهو إنما يدل على أنه يزوج كبير البلدة، وهو شبيه بقوله: يزوج والي البلد إذا لم يكن قاض، لكن ينبغي أن يكون الوالي مقدما على هذا، لأنه ذو سلطان، والله أعلم.
قال: ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه وإن كان حاضرا.
ش: لأنه نائبه وقائم مقامه، فعلى هذا يقوم مقامه في الإجبار وعدمه، وقد تضمن هذا صحة التوكيل في النكاح ولا إشكال في ذلك، فقد وكل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا رافع في تزويج ميمونة، ووكل عمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة وظاهر إطلاق(5/33)
الخرقي يقتضي أن لا يشترط إذن المرأة في التوكيل، ولا نزاع في ذلك إن كان الولي مجبرا، وكذا إن لم يكن مجبرا على اختيار الشيخين وغيرهما، وخرجه ابن عقيل في الفصول تبعا لشيخه في المجرد على روايتي توكيل الوكيل من غير إذن الموكل، والله أعلم.
قال: وإذا كان الأقرب من عصبتها طفلا أو عبدا أو كافرا زوجها الأبعد من عصبتها.
ش: إذا كان الأقرب من عصبتها طفلا زوج الأبعد، لأن الولاية تثبت نظرا للمولي عليه، عند عجزه عن النظر لنفسه، ومن لا(5/34)
عقل له لا يمكنه النظر، ولا يلي لنفسه، فغيره أولى، وفي معنى ذلك من لا عقل له لكبر كالشيخ إذا أفند، أو لجنون مطبق، أما من يخنق في الأحيان فلا تزول ولايته، لزوال ذلك عن قرب، وكذلك المغمى عليه بطريق الأولى، وهو الذي قطع به أبو محمد، لأن مدته يسيرة، أشبه النوم، ولذلك لا تثبت الولاية عليه، ويجوز على الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وحكى ابن حمدان وجها بزوالها، انتهى.
وقول الخرقي: طفلا، يحتمل أن يريد به غير المميز، وهو ظاهر العرف، فعلى هذا تصح ولاية المميز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، مقيدا له بابن عشر، لأنه تصح وصيته وعتقه وطلاقه، على الصحيح في الجميع، فأشبه البالغ، ويحتمل أن يريد الخرقي غير البالغ، وهو ظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] وهو الرواية الثانية، وهي المشهورة نقلا واختيارا، لأن الولاية يعتبر لها الكمال، ومن لم يبلغ قاصر، لثبوت الولاية عليه، انتهى.
وإذا كان الأقرب من العصبة عبدا - وإن كان مدبرا أو مكاتبا - زوج الأبعد أيضا بلا خلاف نعلمه، لأنه لا تثبت له الولاية على نفسه، فعلى غيره أولى، ولا يرد المكاتب يزوج أرقاءه(5/35)
في وجه، لأن ذلك ولاية بالملك، وهذه بالشرع، وولايات الشرع يعتبر لها الكمال، (وكذلك) إن كان كافرا زوج الأبعد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] مفهومه أن الكافر لا يكون وليا لمسلمة، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، وكذلك الحكم في العكس.
وبالجملة يشترط في الولي أن يتفق دينه ودين موليته في الجملة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى وخرج أبو العباس في اليهودي هل يكون وليا لنصرانية وبالعكس روايتين من الروايتين في توارثهما.
وقول الخرقي: من عصبتها، فيه إشعار بأن الولي لا يكون إلا من العصبة، وهو صحيح نص عليه أحمد في رواية الجماعة.
2413 - لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا بلغ النساء نص الحقائق فالعصبة أولى. يعني إذا أدركن رواه أبو عبيد في الغريب. (وعن(5/36)
أحمد) أن المرأة تلي بالعتق فقط، لأنها والحال هذه عصبة ترث بالتعصيب، فأشبهت الرجل المعتق، قلت: ويخرج في الملاعنة ونحوها كذلك، انتهى.
وقد علم من كلام الخرقي أنه يشترط للولي شروط: (أحدها) : العصوبة، (والثاني) : البلوغ، (والثالث) : الحرية، (والرابع) : اتفاق الدين. وفي البلوغ من كلامه تردد، ويشترط له أيضا الرشد في العقد، بأن يعرف مصالح العقد ومضاره، فلا يضعها عند من لا يحفظها ولا يكافئها، إذ المقصود من الولاية ذلك، (وهل) تشترط له العدالة؟ فيه روايتان: (إحداهما) : لا، فيلي الفاسق، وهو ظاهر إطلاق الخرقي، لأنه يلي نكاح نفسه، فكذلك غيره. (والثانية) : - وهي أنصهما، واختيار ابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي، وأصحابه وغيرهم - نعم.
2414 - لما روى الشالنجي بإسناده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لا نكاح إلا بإذن ولي مرشد، أو سلطان. وروي معناه مرفوعا من رواية جابر، رواه البرقاني، ولأنها إحدى الولايتين،(5/37)
فنافاها الفسق كولاية المال، وعلى هذه يكتفى بمستور الحال، على ما جزم به أبو البركات، وأبو محمد في الكافي، وكثير من الأصحاب أطلق العدالة، فجعل ابن حمدان ذلك طريقتين، ثم حكى رواية ثالثة أن الفاسق يلي نكاح عتيقته فقط، قلت: كما قبل العتق، وقال أبو العباس: إذا قلنا: إن الولاية الشرطية تبقى مع الفسق ويضم إليه أمين فالولاية الشرعية أولى، وفيه نظر، إذ الولاية الشرطية يلحظ فيها حظ الموصي ونظره، فلنا حاجة إلى بقاء الموصى إليه، بخلاف هنا، فإنه لا حاجة بنا إلى بقاء الولاية، وكأن أبا العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى أنا إذا أبقينا وصية الأجنبي مع فسقه فالقريب أولى، لما انطوى عليه من الشفقة، لكن لا يطرد له هذا في الحاكم ونحوه.(5/38)
وظاهر إطلاق المصنف أنه لا يشترط للولي النطق، وهو صحيح بشرط أن يفهم ويفهم، ولا البصر، وهو أصح الوجهين، لأن شعيبا زوج ابنته وهو أعمى، والله أعلم.
قال: ويزوج أمة المرأة بإذنها من يزوجها.
ش: هذا المذهب المختار من الروايات، صححه القاضي، وقطع به أبو الخطاب في الهداية، لأن الأصل كون الولاية لها، لأنها مالها، وإنما امتنعت في حقها لانتفاء عبارتها في النكاح، وإذا تثبت لأوليائها كولاية نفسها، وإنما قلنا: لا عبارة لها في النكاح، وهو المذهب بلا ريب.
2415 - لما احتج به أحمد عن أبي هريرة، قال: لا تنكح المرأة نفسها، ولا تنكح من سواها.
2416 - وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي(5/39)
تزوج نفسها» رواه ابن ماجه والدارقطني، وقال: حديث حسن صحيح. والنهي دليل الفساد.
2417 - ويعضده أنه قول جمهور علماء الصحابة حكي عن ابن عمر , وابن عباس , وأبي موسى، وأبي هريرة، وحفصة، واختلف عن عائشة. ولأن مباشرتها لعقد النكاح يشعر برعونتها ووقاحتها وذلك ينافي حال أهل المروءة، انتهى.
وإنما اشترط إذنها لوليها(5/40)
لأن الأمة مالها، ولا يجوز التصرف في مال الفرد بغير إذنه، فلو لم تكن رشيدة زوجها من يلي مالها إن رأى الحظ لها في ذلك.
(تنبيه) يعتبر في الإذن هنا النطق وإن كانت بكرا، قاله أبو محمد وغيره، إذ الصمات إنما اكتفي به في تزويجها نفسها لحيائها، وهي لا تستحيي في تزويج أمتها، انتهى.
(والرواية الثانية) يزوج أمة المرأة أي رجل أذنت له سيدتها، ولا تباشر هي العقد لأن سبب الولاية الملك، وإنما امتنعت المباشرة لنقص الأنوثية، فملكت التوكيل كالرجل المريض والغائب.
(والرواية الثالثة) يجوز مباشرتها للعقد، لما تقدم في صدر المسألة، ويلتزم أن لها عبارة في النكاح من قول أحمد في المعتقة: إن زوجتها - أي عتيقتها - لم يفسخ النكاح، فتكون الأمة أولى، لما تقدم في صدر المسألة، ويلتزم أن لها عبارة في النكاح، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها» الحديث، وهذه الرواية أخذت من قول أحمد في رواية محمد ابن الحكم: إذا كان للمرأة جارية فأعتقتها كان من أحبت أن تزوجها جعلت أمرها إلى رجل يزوجها، لأن النساء لا يلين العقد، فإن زوجتها لم يفسخ النكاح. قال القاضي: وظاهر هذا عدم(5/41)
الاستحباب وصحة العقد، وفي أخذ رواية من هذا نظر، فإنه منع من المباشرة، ومنعه من الفسخ يحتمل أنه لوقوع الخلاف فيه وتعلق حق الغير، مع عدم دليل قاطع في المسألة، لكن عامة المتأخرين على إثباتها رواية، وعليها فرع أبو الخطاب، وأبو البركات ومن تبعهما أن للمرأة عبارة في النكاح، فتزوج نفسها وغيرها بإذن الولي، ويكون تزويجها بدون إذنه كالفضولي، قال أبو العباس: وفرق القاضي وعامة الأصحاب على هذه الرواية بين تزويج أمتها وتزويج نفسها وغيرها بأن التزويج على الملك لا يحتاج إلى أهلية الولاية، بدليل تزويج الفاسق مملوكته، وتبعهم هو أيضا، وجعل التخريج غلطا.
قلت: النص عن أحمد كما تقدم في المعتقة، ولا ملك لها إذا إلا أن يقال: استصحب فيها حكم الملك كما تقدم في الرواية التي حكاها ابن حمدان، ووافق أبو محمد على التخريج في تزويج نفسها وغيرها، ومنعه في تزويجها بدون إذن الولي لأنه يكون كتزويج الفضولي، وليس بشيء، والله أعلم.(5/42)
قال: ويزوج مولاتها من يزوج أمتها.
ش: يزوج معتقة المرأة من يزوج أمتها، وهو على ما قال الخرقي ولي السيدة، وظاهره أنه يقدم فيه الأب على الابن، وقد تقدم في الولاء بالعتق أنه يقدم الابن على الأب، وصرح به أبو محمد، وقال أبو البركات: إن قلنا: يلي عليها. اشترط إذنها، وجرت فيها الروايات الثلاث في مولاتها الرقيقة، وإن قلنا لا يلي للملك، كما تقدم في الرواية التي حكاها ابن حمدان زوج بدون إذنها أقرب عصبتها، وذلك لأن التزويج هنا مستفاد بالتعصيب بالإرث، وهو مناف لظاهر كلام الخرقي، لأنه إن حمل كلامه على أن لها ولاية أشكل عدم اشتراط إذن المعتقة، وإن حمل على أنها لا ولاية لها - وهو ظاهر كلامه المتقدم - أشكل تقديم الأب على الابن.
قلت: ويمكن توجيه كلام الخرقي على أن لها ولاية، حيث قال: ويزوج مولاتها من(5/43)
يزوج أمتها، فدل على أن هنا قدر مشترك، وأما اشتراط الإذن فيكون تركه له لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله: ويزوج أمة المرأة بإذنها من يزوجها. فيصير التقدير: ويزوج مولاتها بإذنها من يزوج أمتها، والله أعلم.
وقد تبع أبو الخطاب في الهداية الخرقي على ذلك، وقد اضطرب كلام الأصحاب في هذه المسألة اضطرابا كثيرا، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، وعلى كل حال فلا بد من عدم العصبة المناسب بلا نزاع ومن رضى المعتقة على الصحيح المقطوع به عند الشيخين وغيرهما، وقيل: يملك إجبارها من يملك إجبار سيدتها التي أعتقتها، وهو بعيد، والله أعلم.
[تولي طرفي العقد في النكاح]
قال: ومن أراد أن يتزوج امرأة هو وليها جعل أمرها إلى رجل يزوجها منه بإذنها.
ش: هذه مسألة تولي طرفي العقد في النكاح، ولها ثلاث صور: (إحداها) : الجواز بلا نزاع، وهو ما إذا كان الولي مجبرا من الطرفين، كما إذا زوج أمته بعبده الصغير، أو زوج الوصي في النكاح صغيرة بصغير كلاهما في حجره، ونحو ذلك، إذ لا إذن فيشترط، وقيل: يختص الجواز بما إذا زوج عبده أمته، لأنه(5/44)
يتصرف بحكم الملك، وجود أبو العباس هذا، وقد حكي الإجماع عليه.
(الصورة الثانية) : عدمه بلا نزاع، وهو ما إذا كان وليا لامرأة مجبرة كعتيقته وبنت عمه المجنونتين، فإنه لا يجوز أن يتزوجهما، لشدة التهمة في ذلك، لتعذر الإذن منهما، فهو كوصي اليتيم يشتري من ماله، فعلى هذا لا يملك أن يتزوجهما إلا بولي غيره من العصبة إن كان، وإلا فبولاية الحاكم، ولا يملك ذلك بوكيله على الأصح، لأنه قائم مقامه، ونائب منابه.
(الصورة الثالثة) : ما عدا ذلك وهو ما إذا كانت المرأة لها إذن معتبرة، فهل لوليها أن يتزوجها بإذنها وولايته، أو لا بد أن يوكل في أحد طرفي العقد؟ فيه روايتان، (أشهرهما) وأنصهما - وهي التي اختارها الخرقي، وابن أبي موسى، وأبو حفص البرمكي، والقاضي في تعليقه، والشريف، وأبو الخطاب، في خلافيهما، ونص عليها أحمد في رواية ثمانية من أصحابه - لا يجوز.
2418 - لما روى أبو داود بإسناده عن عبد الملك بن عمير أن المغيرة بن شعبة أمر رجلا أن يزوجه امرأة المغيرة أولى بها منه.(5/45)
2419 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بد في النكاح من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدين» رواه الدارقطني، ومع تولي الطرفين لم يحضره إلا ثلاثة، (والثانية) : يجوز ذلك أومأ إليها في رواية طائفة من أصحابه، واختارها القاضي في الجامع الصغير، وفي المجرد، وأبو محمد لظاهر قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] الآية، مفهومه إذا لم يخف يجوز له أن يتزوجها، وإن لم يول غيره.(5/46)
2420 - وروى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «أترضى أن أزوجك فلانة؟» قال: نعم. وقال للمرأة: «أترضين أن أزوجك فلانا؟» قالت: نعم. فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر. فأخذت سهما فباعته بمائة ألف درهم.» رواه أبو داود.
2421 - وقال عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم. فقال: قد تزوجتك. ذكره البخاري في صحيحه. ولعموم «لا نكاح إلا بولي» وهذا ولي، أما حديث «لا بد في النكاح من أربعة» فضعيف، وعلى(5/47)
تقدير صحته فالواحد يقوم مقام الاثنين، وقصة المغيرة بن شعبة لا إشكال في جواز مثلها إنما النزاع هل يتحتم ذلك، وكذلك الخلاف فيمن اجتمع له تولي الطرفين بغير ذلك، كزوج وكله الولي، أو ولي وكله الزوج، أو وكيل من الطرفين، أو ولي فيهما، كمن زوج ابنه الصغير، ببنت أخيه ونحو ذلك، وقيل: يجوز تولي الطرفين إلا للزوج خاصة، لتنافى الغرضين، إذ من طبع الإنسان طلب الحظ لنفسه، والواجب عليه طلبه لموليه، وقيل: لا يجوز ذلك إلا إذا كان الولي هو الإمام فقط، ذكره أبو حفص البرمكي، لأنه لا أحد أكفأ منه، ولأنه كالأب بالنسبة إلى الرعية.
وحيث جاز تولي الطرفين فيكفي أن يقول: زوجت فلانة فلانا، أو تزوجتها، فيما إذا كان هو الزوج، على المشهور من الوجهين، لأن ذلك قائم مقام إيجاب وقبول، (والوجه الثاني) لا بد من تصريح بإيجاب وقبول، فيقول: زوجت فلانا فلانة، وقبلت له النكاح. وزوجت نفسي فلانة، وقبلت هذا النكاح.
(تنبيه) إذا قيل بجواز تولي الطرفين للزوج بإذن موليته فلا بد أن تأذن في تزويجها من نفسه، أما لو أذنت في النكاح وأطلقت فإنه لا يجوز له أن يتزوجها من نفسه على الصحيح، وقيل: يجوز، بناء على الوكيل في البيع يبيع من نفسه بشرطه، فعلى الأول(5/48)
- وهو المذهب - هل له أن يزوجها لولده أو والده أو مكاتبه؟ فيه وجهان، والله أعلم.
[ولاية الكافر عقد نكاح المسلمة]
قال: ولا يزوج كافر مسلمة بحال.
ش: قد تقدمت هذه المسألة، وأن الكافر القريب لا ولاية له ويزوج البعيد، ونزيد هنا بأن قوله: بحال. ليدخل من ولايته بالملك، كمن أسلمت أم ولده أو مكاتبته ونحو ذلك، وهذا أحد الوجهين، واختيار أبي محمد، لعموم ما تقدم من الآية والإجماع.
(والوجه الثاني) وبه قطع أبو الخطاب في خلافه، وابن البنا في خصاله، أنه يلي والحال هذه، إذ ولاية الملك لا يشترط لها الأهلية، بدليل الفاسق يزوج أمته.
ومفهوم كلام الخرقي أن الكافر يزوج الكافرة، وهو صحيح، للآية الكريمة، وتعتبر فيه الشروط المعتبرة في المسلم، حتى في عدالته إن اشترطت في المسلم، والعدل منهم من لم يرتكب محظورا في دينه، وعموم المفهوم يقتضي أن الكافر يلي على موليته الكافرة وإن أرادت التزويج بمسلم، وهو اختيار أبي الخطاب في(5/49)
الهداية، والشيخين، وقال ابن أبي موسى، والقاضي في التعليق، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي: لا يليه على مسلم، بل تثبت الولاية للحاكم، وزعم القاضي أنه ظاهر كلام الإمام، معتمدا على قوله في رواية حنبل: لا يعقد يهودي ولا نصراني عقد نكاح لمسلم ولا لمسلمة. وهو إنما يدل على أنه يمنع من المباشرة، ولهذا جعل أبو البركات الخلاف في مباشرته العقد، هل يباشره أو يباشره بإذنه مسلم، أو الحاكم خاصة، ثلاثة أوجه، وجزم بأن له الولاية، والله أعلم.
[ولاية المسلم عقد نكاح الكافرة]
قال: ولا مسلم كافرة إلا أن يكون المسلم سلطانا، أو سيد أمته.
ش: لا يزوج المسلم الكافرة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] نعم إن كان المسلم سلطانا زوج، لأن له ولاية عامة على أهل دار الإسلام، والكافر والحال هذه من أهل الدار، والحاجة داعية إلى ذلك، وكذلك إن كان(5/50)
سيد أمته، لأنه عقد على منافعها، أشبه إجارتها، والله أعلم.
قال: وإذا زوجها من غيره أولى منه وهو حاضر ولم يعضلها فالنكاح فاسد.
ش: قد تقدم بيان الأولى بالتقديم من الأولياء، فإذا زوج غير الأولى كالأخ مع وجود الأب، أو العم مع حضور الأخ، والحال أنه لا عضل من الأب ولا من الأخ، فالنكاح فاسد، على المشهور المختار للأصحاب من الروايتين.
2422 - لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل» رواه أبو داود وهذه نكحت بغير إذن وليها، إذ هذا لا ولاية له والحال هذه.
2423 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل» رواه أبو داود، لكن قال: إنه ضعيف، وإنه موقوف على ابن عمر ولأن أحكام النكاح(5/51)
المختصة به من الحل والنفقة والطلاق والتوارث لا تثبت فيه بمجرده، أشبه نكاح المعتدة، (والرواية الثانية) يقف النكاح والحال هذه على الإجازة، ولا يحكم بفساده.
2424 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن جارية بكرا أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - رواه أبو داود، وابن ماجه ولو فسد لما كان للتخيير فائدة، وقد(5/52)
اعترض عليه بأن أبا داود رواه أيضا مرسلا عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وكذا رواه الناس مرسلا. وكذا قال البيهقي: الصواب أنه مرسل. قال البيهقي: ولو صح فكأنه كان وضعها في غير كفؤ، فلذلك خيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قلت: ودعوى الإرسال إن سلم لا تضر على قاعدتنا، وأما الحمل على أنه وضعها في غير كفؤ فبعيد، إذ يقتضي أن يترك من الحديث ما الحكم منوط به، ويذكر فيه ما لا إناطة به، مع أنه غير منوط به، هذا تجهيل وعلى هذه الرواية الحكم في الإجازة منوط(5/53)
بالولي الأقرب، إن أجازه جاز، وإن رده بطل، ولا نظر للحاكم على الصحيح، وقيل: إن كان الزوج كفوا أمر الحاكم الولي بالإجازة، فإن أجازه وإلا صار عاضلا فيجبره الحاكم، كذا أجاب أبو محمد، وفيه نظر إن كان لها ولي غير الحاكم وإذا ينبغي أن ينتقل الحق في الإجازة إليه كما في العضل في النكاح على المذهب، انتهى.
ولو كانت المزوجة بغير إذن وليها أمة فخرجت عن ملكه قبل الإجازة إلى من تحل له انفسخ النكاح، لطريان إباحة صحيحة على موقوفة، أشبه طريان الملك على النكاح، وفيه شيء، إذ الإباحة التي حصلت للثاني كالإباحة التي كانت للأول سواء، انتهى.
أما إن انتقلت إلى من لا تحل له كامرأة أو جماعة فقيل: إن الحكم كذلك، وقيل: بل الإجازة والحال هذه إلى المالك الثاني، ولو أعتق من له الإجازة الأمة فهل يبطل حقه منها ويمضي النكاح، أم يبقى حقه فيها قبل العتق؟ فيه احتمالان، وتعتبر الشهادة حين العقد، لا حين الإجازة، لاستناد الملك إلى حال العقد، ومن ثم لو وطئ قبل الإجازة ثم أجيز لم يجب إلا مهر واحد، ولا تثبت فيه قبل الإجازة الأحكام(5/54)
المختصة بالنكاح الصحيح، من الحل والنفقة، ونفوذ الطلاق، والتوارث وغير ذلك، قاله ابن عقيل وغيره، وقيل: يثبت التوارث إن كان مما لو رفع إلى الحاكم أجازه انتهى.
وكذلك الروايتان في تزويج الأجنبي، وفي تزويج المرأة المعتبر إذنها بدونه على رواية الوقف، فإجازة الثيب بالنطق، أو ما يدل على الرضى من وطء ونحوه، وإجازة البكر بالسكوت، كإذنها قبل العقد.
وقد دل مفهوم كلام الخرقي أن الولي الأقرب لو لم يكن حاضرا لم يفسد النكاح، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، (ودل أيضا) على أن الأقرب إذا عضل فزوج الأبعد أن النكاح لا يفسد، وهذا (إحدى الروايتين) عن أحمد، أعني أن الولاية تنتقل عند عضل الأقرب إلى الأبعد، وهو المذهب، اختاره القاضي، وابن عقيل، وأبو محمد وغيرهم، لأن الولاية قد تعذرت من الأقرب، فانتقلت إلى الأبعد، كما لو جن الأقرب أو فسق، (والثانية) تنتقل الولاية إلى الحاكم وهي اختيار أبي بكر، لظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» ولأنه حق عليه امتنع من أدائه، فقام الحاكم مقامه فيه كالدين، ويجاب بالقول بموجب الحديث، فإنه قال: من لا ولي له وهذه لها ولي، ثم ظاهره أن الكل اختلفوا وامتنعوا، لقوله: فإن اشتجروا وإذا يتعين الحاكم، والتزويج حق له، بخلاف الدين فإنه حق عليه، على أنه قد قيل: إنه يفسق بالعضل، فتزول ولايته، كما لو فسق بغيره.(5/55)
(تنبيه) العضل في الأصل المنع، وهو هنا منع المرأة من تزويجها بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل من الزوجين في صاحبه.
2425 - قال معقل بن يسار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت لي أخت تخطب إلي فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه، ثم طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها، قلت: لا والله لا أنكحكها أبدا. قال: ففي نزلت هذه الآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا} [البقرة: 232] الآية، قال: فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وسواء رضيت بمهر مثلها أو دونه إن كانت رشيدة، إذ المهر خالص حقها، ولو رضيت بغير كفو كان للولي الامتناع ولا عضل، أما إن عينت كفوا وعين الولي كفوا غيره فإن تعيينها يقدم عليه، حتى أنه يعضل بالمنع، ثم حيث يكون عاضلا، فظاهر كلام أبي محمد أنه يفسق بمجرد ذلك، ونظير ذلك ما قاله ابن أبي موسى أن الولي إذا زوج بغير كفؤ يفسق وتفسق المرأة بذلك إن رضيت، وقال ابن عقيل في العضل: لا يفسق إلا أن يتكرر الخطاب وهو يمنع، أو يعضل جماعة من مولياته دفعة واحدة فإذا تصير الصغيرة في حكم الكبيرة، وينبغي أن يقال في التزويج بغير كفؤ كذلك، ثم لا بد من تقييد ذلك في الموضعين بالعلم،(5/56)
وقد ذكر أبو العباس من صور العضل إذا امتنع الخطاب من خطبتها لشدة الولي، والله أعلم.
[الأولى بزواج المرأة عند غياب الولي]
قال: وإذا كان الولي غائبا في موضع لا يصل إليه الكتاب أو يصل فلا يجيب عنه زوجها من هو أبعد منه من عصبتها، فإن لم يكن فالسلطان.
ش: إذا غاب الولي الأقرب الغيبة المعتبرة زوج الأبعد من العصبة، فإن لم يكن فالسلطان على المنصوص، وعليه الأصحاب، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» وهذه لها ولي مناسب، فيزوج بحكم الحديث، ولأن البعيد يرجح بقرب نسبه والقريب بقرب محله فتساويا، ومن ثم قال ابن عقيل: ليس معنى قولنا تنتقل الولاية إلى الأبعد سلب لولاية القريب، لكن اشتراك بينهما، بدليل أنه لو زوج القريب الغائب في مكانه أو وكل صح، وكذا لو وكل ثم غاب، بخلاف ما لو وكل ثم جن فإن وكالته تنفسخ، وأما شيخه في التعليق فقال: إذا زوج أو وكل في الغيبة فالولاية باقية، لانتفاء الضرر وإلا سقطت، ثم قال: وقد قيل. . . وحكى كقول تلميذه، انتهى.
وخرج أبو الخطاب ومن تبعه كأبي البركات رواية أن الحاكم(5/57)
يزوج كما في العضل، إذ الأبعد محجوب بالأقرب، والولاية باقية، فقام الحاكم مقامه فيها، ولم يعرج أبو محمد على التخريج، وقد ذكر ابن المنى في إلحاق الغيبة بالعضل تسليما ومنعا، وقد يقال في وجه المنع أنه لو سلم أن التزويج حق على الولي حتى يقوم الحاكم مقامه فيه، فذلك إذا امتنع، وفي الغيبة لا امتناع، وفي معنى الغائب لو كان الولي مأسورا، ولا يمكن مراجعته، أو محبوسا يتعذر استئذانه، قاله أبو محمد، وزاد أبو العباس: لو كان الولي مجهولا لا يعرف أنه عصبة ثم عرف بعد العقد.
والغيبة المعتبرة التي معها يزوج الأبعد، قال الخرقي: أن لا يصل إليه الكتاب، كمن هو في أقصى بلاد الهند، أو يصل فلا يجيب عنه، وهذا يحتمل لبعده، وهو الظاهر، ويحتمل وإن كان قريبا، فيكون في معنى العاضل، وبالجملة قد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الأثرم، قال: المنقطع الذي لا تصل إليه الأخبار، وذلك لأن مثل ذلك يتعذر مراجعته، فيلحق الضرر بانتظاره، ومنصوص أحمد في رواية عبد الله أنه ما لا يقطع إلا بكلفة(5/58)
ومشقة، وهو اختيار أبي بكر , والشيخين، لأن أهل العرف يعدون ذلك مضرا، وقال القاضي في تعليقه - وتبعه أبو الخطاب في خلافه الصغير -: هو ما لا تقطعه القافلة في السنة إلا مرة، كسفر الحجاز، وعن ابن عقيل: ما تستضر به المرأة من فوات الكفو الراغب، وقيل: يكتفى بمسافة القصر، لأن أحمد اعتبر البعد في رواية ابن الحارث وأطلق، انتهى.
وكل موضع لا توجد الغيبة المعتبرة فإن الولي ينتظر ويراسل، حتى يقدم أو يوكل.
وظاهر كلام الخرقي أن الشرط لتزويج الأبعد الغيبة المذكورة، فلو لم يعلم أقريب أم بعيد لم يزوج الأبعد، وهو ظاهر إطلاق غيره، وقال أبو محمد في المغني: يزوج الأبعد والحال هذه، قال: وكذلك إذا علم أنه قريب ولم يعلم مكانه وهو حسن، مع أن كلام الخرقي لا يأباه، وفي قول الخرقي: زوج من هو أبعد من عصبتها. إشعار بأن هذا الحكم في الحرة، وهو صحيح، إذ لو غاب سيد الأمة فطلبت النكاح في حال غيبته فإن الحاكم يزوجها، قاله القاضي في تعليقه مدعيا أنه قياس المذهب، والله أعلم.
[اشتراط الكفاءة في النكاح]
قال: وإذا زوجت من غير كفو فالنكاح باطل.
ش: الكفاءة شرط لصحة النكاح، على المنصوص والمشهور، والمختار لعامة الأصحاب (من الروايتين) .(5/59)
2426 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خطب المسلم ممن ترضون دينه وخلقه، فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» رواه الترمذي، وروي مرسلا، قال بعضهم: وهو أصح، ومفهومه أنه إذا لم يرض دينه ولا خلقه لا يزوج.
2427 - وروى الدارقطني بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء.(5/60)
2428 - وعن أبي إسحاق الهمداني، قال: خرج سلمان، وجرير في سفر، فأقيمت الصلاة، فقال جرير لسلمان: تقدم. فقال سلمان: بل أنت تقدم، فإنكم معشر العرب لا نتقدم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم، لأن الله تعالى فضلكم علينا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتج بهما أحمد في رواية أبي طالب.(5/61)
2429 - وفي مراسيل أبي داود عن الحسن قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتزوج الأعرابي المهاجرة» . ولأنه تصرف في حق من يحدث من الأولياء بغير إذنه فلم يصح، كما لو زوجت بغير رضاها، (والرواية الثانية) الكفاءة شرط للزوم النكاح دون صحته، اختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير، وأبو محمد، وابن حمدان، لظاهر قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
2430 - وقد «زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنتيه من عثمان ومن أبي العاص» ، ونسبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فوق نسبهما.(5/62)
2431 - وفي الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهي قرشية» .
2432 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أبا هند حجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليافوخ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه» وقال: «إن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة» رواه أبو داود. وبنو بياضة من الأنصار، وأبو هند حجام من مواليهم. وزاد أبو داود في المراسيل عن الزهري(5/63)
فقالوا: يا رسول الله نزوج بناتنا من موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] الآية، قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة. قال عبد الحق الإشبيلي: وقد أسند هذا والمرسل أصح.
2433 - وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: «جاءت فتاة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته. قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.» رواه ابن ماجه، ورواه أحمد، والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة.
2434 - وقد روي الجواز أيضا، عن عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وحديث أبي هريرة إن صح نقول بموجبه، إذ مقتضاه أنه لا يجب(5/64)
علينا تزويجه، وكذا نقول، ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل، وقصة عمر، وسلمان إن ثبتتا يحتمل أن ذلك منهما على سبيل الاختيار، يدل على ذلك أن عمر قال: لأمنعن. ولو كان هذا أمرا متحتما لمنع قطعا.
ومن نصر الأولى أجاب عن تزويجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنتيه لعثمان ولأبي العاص بأنهما من العرب، والعرب لا تتفاضل على رواية، وكذلك قال أحمد في رواية أبي طالب وغيره في الجواب عن حديث أسامة، وأسامة عربي جرى عليه الرق، وعلى رواية(5/65)
التفاضل هم من قبيلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنهما من قريش، وعن قصة أبي هند بأن أحمد ضعفه وأنكره في رواية أبي طالب وغيره، وكذلك بقية الآثار، قال المروذي: قلت لأبي عبد الله قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني بياضة أنكحوا أبا هند» فأنكره إنكارا شديدا، وأنكر الأحاديث الذي فيها نكاح غير الأكفاء، وقال مهنا: سألته عن هذه الأحاديث أن عمر أراد أن يزوج سلمان، والأحاديث التي جاءت: فلان تزوج فلانة، وفلانة تزوجت فلانا. قال: ليس لها إسناد، وأما حديث بريدة فالتزم القاضي في التعليق في الجواب عنه بأن المبطل عدم الكفاءة في النسب فقط، قال: والذي فقد هنا يحتمل أنه الدين، أو الصناعة، وقال ابن أبي موسى: هذا الرجل كان كفؤا لأنه ابن عمها وهو مسلم، ويحتمل أنه كان أعور أو أعرج، أو فقيرا، وذلك ليس بنقص في الكفء.
قلت: إذا لم يكن نقصا في الكفء فلم خيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انتهى.(5/66)
فعلى (الرواية الأولى) الكفاءة حق لله تعالى وللمرأة والأولياء حتى من يحدث، ولا يتصور العلم برضى الجميع، فيبطل النكاح، (وعلى الثانية) حق للمرأة والأولياء فقط، فعليها يمكن العلم بالرضا، ويتوقف على من هو له، فإذا رضيت المرأة والأولياء بغير كفؤ صح النكاح، لأن الحق لهم، وإن عقده بعضهم ولم يرض الباقون، فهل يقع العقد باطلا من أصله، أو صحيحا؟ على روايتين، حكاهما القاضي في الجامع الكبير، أشهرهما الصحة، لحديث الفتاة التي جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذه لمن لم يرض من المرأة والأولياء المستوين الفسخ، وهل للأبعد الفسخ مع رضى الأقرب، لما يلحقه من العار بفقد الكفاءة، أو لا فسخ له، لأنه كالمعدوم ولحجبه بالأقرب؟ فيه روايتان، أشهرهما الأولى، حتى أن القاضي في الجامع الكبير، قال: لا تختلف الرواية في ذلك.
(تنبيهان) : أحدهما: إذا حدثت الكفاءة وقت العقد، كما إذا أوجب النكاح لعبد، فقال السيد: قبلت النكاح له وأعتقته. فقال أبو العباس: قياس المذهب الصحة، قال: ويتخرج عدمها من رواية إذا أعتقا معا، (الثاني) حسب الإنسان ما يعده(5/67)
من مفاخر آبائه، وقيل: شرف النفس وفضلها، (والكفؤ) المثل، (واليافوخ) وسط الرأس، والله أعلم.
قال: والكفؤ ذو الدين والمنصب.
ش: لما قال: إن الكفاءة شرط لصحة النكاح. أراد أن يبين الكفاءة ما هي، فقال: إنها الدين والمنصب، وهذا (إحدى الروايتين) عن أحمد، وإليها ميل أبي محمد، (أما في الدين) فلقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ويلتزم أن نفي الاستواء يقتضي نفي الاستواء من كل وجه، كما قد صرح به القاضي وغيره من أصحابنا، ولأن الفاسق مردود الشهادة والرواية، غير مأمون، مسلوب الولاية، ناقص عند الله وعند خلقه، فلا يكون كفؤا لعفيفة.
2435 - (وأما في المنصب) وهو النسب فلأن في حديث عمر المتقدم، قال: قلت: وما الأكفاء؟ قال: في الحسب. رواه أبو بكر بإسناده، ولأن العرب يعدون الكفاءة في النسب، ويأنفون من(5/68)
نكاح الموالي، ويرون ذلك نقصا وعارا (والرواية الثانية) تعتبر الكفاءة في خمسة أشياء، الشيئين المذكورين، والحرية، والصناعة، واليسار، اختارها القاضي في تعليقه، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وأبو البركات، وصححها أبو محمد في الحرية، والشيرازي في اليسار.
2436 - وذلك (أما في الحرية) فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير بريرة حين عتقت، وإذا ثبت الخيار في الاستدامة ففي الابتداء أولى، (وأما في(5/69)
الصناعة) فلأن ذلك نقص في عرف الناس، أشبه نقص النسب.
2437 - وقد روي «العرب بعضهم لبعض أكفاء، قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل لرجل، إلا حائك أو حجام» ذكره ابن عبد البر في التمهيد، وهو ضعيف، وقد بالغ ابن عبد البر، فقال: إنه منكر موضوع. لكن أحمد قال: العمل عليه. لما قال له مهنا - وقد قال: الناس أكفاء إلا الحائك والحجام -: تأخذ بالحديث وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه. (وأما في اليسار) فلأن في عرف الناس التفاضل بذلك.(5/70)
2438 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس حين أخبرته أن معاوية خطبها «أما معاوية فصعلوك لا مال له» .
تنبيهات: (أحدها) : قد تقدم أن الكفاءة هل هي شرط للصحة أو للزوم؟ على روايتين، وأن الكفاءة هل تعتبر في اثنين أو في خمسة؟ على روايتين أيضا، واختلف طرق الأصحاب هل روايتا الصحة واللزوم في الخمسة أو في بعضها، فقال القاضي في الجامع الكبير - وهو ظاهر كلامه في التعليق، وأبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد وطائفة -: هما في الشرائط الخمسة، وقال في المجرد: محلهما في الدين والمنصب فقط، أما الثلاثة الباقية فلا تبطل، رواية واحدة، وجمع أبو البركات الطريقتين،(5/71)
فجعل في المسألة ثلاث روايات، الثالثة: يختص البطلان بالمنصب والدين فقط، وقال القاضي في المجرد: يتوجه اختصاص البطلان بالنسب فقط، وهذه طريقته في الروايتين وفي التعليق، التزاما كما تقدم، وقال أبو العباس: لم أجد عن أحمد نصا ببطلان النكاح لفقر أو رق، ولم أجد عنه نصا بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب، ونص على التفريق بالحياكة في رواية حنبل وعلي بن سعيد، وهذه طريقة خامسة.
(الثاني) : الكفاءة في الدين) أن لا يزوج العفيفة عن المحرم المفسق بفاسق من جهة فعل أو اعتقاد، وفي كون من شرب مسكرا ولم يسكر كفوا لمن تقدم روايتان، حكاهما ابن أبي موسى (والمنصب) هو النسب، فلا تزوج عربية بعجمي، والعرب بعضهم لبعض أكفاء، وسائر الناس بعضهم لبعض أكفاء، على إحدى الروايتين أو الروايات عن أحمد - رحمة الله -، واختيار أبي محمد في العمدة، لما تقدم من أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج ابنتيه عثمان وأبا العاص، وهما من بني عبد شمس، وزوج أسامة فاطمة بنت قيس وهي من قريش» .(5/72)
2439 - وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وهذا يدل على أن العرب كلهم في رتبة واحدة.
2440 - وفي مسند البزار عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العرب بعضهم لبعض أكفاء، والموالي بعضهم لبعض أكفاء» إلا أن خالدا لم يسمع من معاذ، وحكى القاضي في الجامع الكبير، وأبو الخطاب والشيخان وغيرهم عن أحمد رواية أخرى أن القرشية لا تزوج لغير قرشي، والهاشمية لا تزوج لغير هاشمي، إذ العرب فضلت بقية الناس برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقريش أخص به من سائر العرب، وبنو هاشم أخص به من قريش.
2441 - وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» ورد أبو العباس هذه الرواية،(5/73)
وقال: ليس في كلام أحمد ما يدل عليها، وإنما المنصوص عنه في رواية الجماعة أن قريشا بعضهم لبعض أكفاء، قال: وكذلك ذكر ابن أبي موسى، والقاضي في خلافه، وحكى رواية مهنا: قريش أكفاء بعضهم لبعض، والعرب أكفاء بعضهم لبعض، وموالي القوم منهم، قال أبو العباس: ومن قال: إن الهاشمية لا تتزوج بغير هاشمي، بمعنى أنه لا يجوز فهو مارق من دين الإسلام، إذ قصة تزويج الهاشميات من بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهن بغير الهاشميين ثابت في السنة ثبوتا لا يخفى، فلا يجوز أن يحكى هذا خلافا في مذهب أحمد، وليس في لفظه ما يدل عليه، انتهى.
(قلت) : وكذلك حكى القاضي الرواية في الروايتين على نحو ما في الخلاف، وصححها، وحكى ابن عقيل في التذكرة المسألة على ثلاث روايات، فجمع طريقتي شيخه في الجامع وفي الخلاف.
(تنبيه) : يجوز للعجمي تزوج موالي بني هاشم، نص عليه في رواية أبي طالب.(5/74)
2442 - وقال: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مولى القوم من أنفسهم» هو في الصدقة، ويحتمل رواية مهنا المتقدمة «مولى القوم منهم» المنع.
أما ولد الزنا فلا يكون كفوا لعربية، لأنه أدنى من المولى، قاله أبو محمد، ومن أسلم كفو لمن له أبوان في الإسلام، نص عليه، وكيف لا والصحابة أفضل الأمة وأكفاء للتابعين، بلا تردد، (أما السلامة) من العيوب فلا يبطل عدمها قولا واحدا، نعم للمرأة الفسخ للعيب، لا لفوات الكفاءة انتهى.
(والكفاءة في الحرية) أن لا تزوج حرة بعبد.
قلت: ولا بمن بعضه رقيق، واختلف فيمن مسه أو مس أباه الرق، هل يكون كفوا لحرة الأصل؟ كلام أحمد يدل على روايتين، والجواز اختيار ابن أبي موسى، وأبي محمد، وظاهر كلام أبي الخطاب في الانتصار، والمنع اختيار ابن عقيل، واختلف أيضا في موالي القوم هل هم أكفاء لهم؟ فعنه أنهم أكفاء لهم.
2443 - لما روي أبو رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: أصحبنا كيما تصيب منها. قال: لا حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله. فانطلق فسأله، فقال: إن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم من(5/75)
أنفسهم» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه، قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنفسهم يشمل في الصدقة وفي غيرها، (وعنه) - واختاره القاضي في الروايتين وأبو محمد - ليسوا بأكفاء لهم، قصرا على السبب وهو الصدقة، ولأنه إذا كافى سيدته كافى من تكافيه سيدته، فيبطل اعتبار المنصب.
(وأما الكفاءة) في الصناعة فتعتبر في الحجامة بلا خلاف نعلمه في المذهب، فلا تزوج بنت بزاز بحجام، وكذلك في الكساحة نص عليه، فلا تزوج بنت باني - وهو صاحب العقار، وقيل: الكثير المال - بكساح، وهل تعتبر في الحياكة؟ فيه روايتان، وما عدا هذه الثلاثة من الصنائع الرديئة كالحارس والمكاري والمزين والكباش والحمامي ونحوهم فلا نص فيه عن أحمد، قاله ابن عقيل، ثم من الأصحاب من قصر الحكم على الثلاثة مدعيا بأن الشرع لم يرد بغيرها، وأن القياس لا مدخل له هنا، ومنهم - وهو القاضي في الجامع، وأبو محمد -(5/76)
من عدى ذلك إلى كل صناعة رديئة، قياسا على الحجامة.
(قلت) والظاهر أن الشرع لم يرد في الكساحة بشيء، فنص أحمد عليها دليل على لحظ المعنى.
ومعنى الكفاءة بالمال أن يكون بقدر المهر والنفقة، قاله القاضي، وأبو محمد في المغني، ولأن هذا الذي يحتاج إليه في النكاح، ولم يعتبر أبو محمد في الكافي إلا النفقة فقط، واعتبر ابن عقيل أن يكون بحيث لا يغير عليها عادة كانت عند أبيها في بيته.
(الثالث) : الكفاءة المعتبرة في الرجل دون المرأة، إذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا مكافئ له، وقد تزوج من أحياء العرب وتسرى.
2444 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت عنده جارية فعلمها وأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» متفق عليه، والمعنى في ذلك أن الولد يشرف بشرف أبيه لا بأمه.
(الرابع) : قال أبو العباس: ينبغي أن يكون الخيار في الفسخ على التراخي، في ظاهر المذهب، لأنه لنقص في المعقود(5/77)