[كتاب الطهارة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم يسر، وأعن يا كريم.
قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، المحقق المتقن، شيخ الإسلام والمسلمين، وحيد دهره، وفريد عصره، ناصر السنة، وقامع البدعة، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته [وأسكنه فسيح جنته] :
كتاب الطهارة «كتاب» خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا كتاب الطهارة. وهو مصدر سمي به المكتوب، كالخلق سمي به المخلوق، والكتب في اللغة الجمع، قال سالم بن دارة:
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار(1/111)
أي اجمعها بأسيار، والقلوص في الإبل بمنزلة الجارية في الناس، فكتاب الطهارة هو الجامع لأحكام الطهارة، من بيان ما يتطهر به، وما يتطهر له، وما يجب أن يتطهر منه إلى غير ذلك.
والطهارة في اللغة النظافة والنزاهة عن الأقذار، ومادة (نزه) ترجع إلى البعد:
1 - وفي الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل على مريض قال: «لا بأس طهور إن شاء الله» أي مطهر من الذنوب، والذنوب أقذار معنوية.
وفي اصطلاح الفقهاء - قال أبو محمد -: رفع ما يمنع الصلاة(1/112)
من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب. وأورد على عكسه الحجر وما في معناه في الاستنجاء، ودلك النعل، وذيل المرأة، على قول، فإن تقييده بالماء والتراب يخرج ذلك، وأيضا نجاسة تصح الصلاة معها فإن زوالها طهارة ولا تمنع الصلاة، وأيضا الأغسال المستحبة، والتجديد، والغسلة الثانية، والثالثة، فإنها طهارة ولا تمنع الصلاة، ثم يحتاج أن يقيد الماء والتراب بكونهما طهورين، وقد أجيب عن الأغسال المستحبة ونحوها بأن الطهارة في الأصل إنما هي لرفع شيء، إذ هي مصدر: طهر. وذلك يقتضي رفع شيء، فإطلاق الطهارة على الوضوء المجدد، والغسل المستحب مجاز لمشابهته الوضوء الرافع في الصورة، وابن أبي الفتح لما استشعر هذا زاد بعد «ما يمنع الصلاة» وما أشبهه. لتدخل الأغسال المستحبة ونحوها، وهو على ما فيه من الإجمال يوهم أن: من حدث أو نجاسة. بيان لما أشبهه، وليس كذلك وإنما هو لبيان ما يمنع الصلاة، وحدها بعض متأخري البغاددة بأنها: استعمال الطهور في محل التطهير على الوجه المشروع. ولا يخفى(1/113)
أن فيه زيادة، مع أنه حد للتطهير، لا للطهارة، فهو غير مطابق للمحدود، وقد حدت بحدود كثيرة يطول ذكرها والكلام عليها، والله أعلم.
قال:
[باب ما تكون به الطهارة من الماء]
ش: أي هذا باب. و «كان» هنا تامة، لأنها بمعنى الحصول والحدث، أي ما تحصل به الطهارة، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] على القراءة المشهورة، أي إن وجد ذو عسرة، أو حصل ذو عسرة، والباب ما يدخل منه إلى المقصود، ويتوصل به إلى الاطلاع عليه.
قال: والطهارة بالماء الطاهر المطلق، الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره، مثل ماء الباقلاء، وماء الحمص، وماء الورد، وماء الزعفران، وما أشبهها مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت
ش: الألف واللام للاستغراق، والجار والمجرور خبر الطهارة، وهو متعلق بمحذوف، وذلك المحذوف في الحقيقة هو الخبر، والتقدير: كل طهارة حاصلة أو كائنة بالماء. والطاهر «ما ليس بنجس» ، «والمطلق» غير المقيد، وقد بينه وأوضحه بقوله: الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره ثم مثل للذي يضاف إلى اسم شيء(1/114)
غيره بماء الباقلاء، وهو الفول، وماء الورد، وماء الحمص، وماء الزعفران، وما أشبه هذه الأشياء، كماء القرنفل، وماء العصفر، ونحو ذلك مما لا يفارق اسمه اسم الماء في وقت. واحترز بذلك عن إضافة مفارقة في وقت كماء النهر و [ماء] البحر ونحو ذلك، لأن إضافته تزول بمفارقته، فوجود هذه الإضافة كعدمها، هذا حل لفظه.
وأما الأحكام المستنبطة منه فقد (دل منطوقه) على أن كل طهارة - سواء كانت طهارة حدث أو خبث - تحصل بكل ماء هذه صفته سواء نزل من السماء، أو نبع من الأرض على أي صفة خلق عليها، من بياض وصفرة، وسواد، وحرارة وبرودة، إلى غير ذلك، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وهذا وإن كان نكرة في سياق الإثبات لكنه في سياق الامتنان، فيعم كل ماء.
2 - وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» رواه الخمسة وصححه غير واحد من الأئمة.(1/115)
3 - «وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في بئر بضاعة: «الماء طهور لا ينجسه شيء» قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح.
4 - «وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسماء بنت عميس أن تغسل دم الحيض بالماء» .
5 - وقال: «صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء» .
ودل مفهومه على مسائل:
(الأولى) أن جميع الطهارات لا تجوز بغير الماء، من دهن، وخل، ونبيذ، ونحو ذلك، أما في طهارة الأحداث فلقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] فنقلنا عند عدم الماء إلى التيمم.(1/116)
6 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» رواه أحمد والترمذي وصححه.
7 - وأما في طهارة الأنجاس فلما «روى أبو ثعلبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله إنا بأرض أهل كتاب، فنطبخ في قدورهم ونشرب بآنيتهم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء» . رواه الترمذي وصححه والرحض الغسل وأمر أسماء أن تغسل دم الحيض بالماء.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على زوال النجاسة بكل مائع طاهر مزيل، كالخل ونحوه، إذ المقصود زوال العين، (وعنه) زوالها بالطاهر غير المطهر، نظرا لإطلاق حديثي أبي ثعلبة وأسماء.
وعلى الأولى - وهي المذهب بلا ريب - يجوز استعماله في النجاسة تخفيفا لها، ويستثنى من هذا المفهوم ما يتيمم به، فإنه مطهر وليس بماء، وكذلك ما يستنجى به، وأسفل الخف إذا دلك، وذيل المرأة على قول في الثلاثة وقد يقال: لا يرد عليه التيمم، لأن كلامه في طهارة رافعة للحدث، وطهارة التيمم مبيحة، لا رافعة،(1/117)
والحجر في الاستنجاء ونحوه ليس بمطهر على المشهور، ويكون ذلك مأخوذا من كلام الخرقي وظاهر كلامه.
(المسألة الثانية) أن الطهارة لا تصح بماء نجس لتقييده الماء بالطاهر، وهو واضح.
(المسألة الثالثة) أن الطهارة لا تصح بغير الماء المطلق، فلا تصح بماء مضاف إضافة لازمة، ويأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في المسألة الآتية بعد، والله أعلم.
[حكم الماء إذا تغير أحد أوصافه]
قال: وما سقط فيه مما ذكرنا أو غيره، وكان يسيرا فلم يوجد له طعم، ولا لون ولا رائحة كثيرة حتى ينسب الماء إليه توضئ به
ش: ما سقط في الماء مما ذكره من الباقلاء، والزعفران، والورد، والحمص، أو غيره من الطاهرات كالعصفر، والملح الجبلي، وورق الشجر إذا وضع فيه قصدا، ونحو ذلك، وكان الواقع يسيرا، فلم يوجد للواقع في الماء طعم، ولا لون، ولا رائحة، حتى أنه بسبب ذلك يضاف الماء إليه، فيقال: ماء زعفران، ونحو ذلك، فهو باق على إطلاقه فيتوضأ به، لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ونحو ذلك.
8 - وقد ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل هو وزوجته من جفنة فيها أثر عجين» .
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى وجد للواقع لون، أو طعم أو رائحة كثيرة، بحيث صار الماء يضاف إليه، زالت طهوريته، ومنع التوضؤ به، وهو إحدى الروايات، اختارها أكثر(1/118)
الأصحاب لخروجه عن الماء المطلق، فلم يتناوله قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ودليل ذلك لو وكله أن يشتري له ماء، فاشترى له هذا الماء المتغير لم يكن ممتثلا.
(والرواية الثانية) - وهي الأشهر نقلا، وإليها ميل أبي محمد - هو باق على طهوريته، لأن (ماء) من قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] نكرة في سياق النفي، فيشمل كل ماء، إلا ما خصه الدليل، (والرواية الثالثة) أنه طهور بشرط أن لا يجد غيره، وحيث أثر التغيير فإنما هو إذا كان كثيرا، فإن كان يسيرا فثلاثة أوجه، ثالثها - وهو اختيار الخرقي - يعفى عن يسير الرائحة، لأن تأثيرها عن مجاورة، بخلاف غيرها، وإنما قيد الخرقي الواقع بكونه يسيرا إجراء على الغالب، إذ الغالب أن الواقع متى كان كثيرا أثر في الماء، وأزال طهوريته على مختاره، ومحل الخلاف مع بقاء اسم الماء، أما مع زوال الاسم - كما إذا صيره الواقع حبرا، أو خلا، أو طبيخا، ونحو ذلك - فإن طهوريته تزول بلا ريب.
ويدخل في عموم المفهوم التراب المطروح فيه عمدا، وهو أحد الوجهين (والثاني) - وبه قطع العامة - لا يؤثر شيئا، (نعم) إن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء أثر، لخروجه عن اسم الماء، وأجرى ابن حمدان الوجهين في الملح البحري أيضا.(1/119)
ويدخل فيه أيضا إذا كان الواقع لا يخالط الماء، كقطع العود، والكافور والخشب والدهن والشمع، ونحو ذلك، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي الخطاب في انتصاره وأبي البركات (والثاني) - وهو اختيار جمهور الأصحاب - لا يؤثر وقوعه ولو غير الماء، لأنه تغيير مجاورة لا مخالطة، أشبه ما لو تغير بجيفة إلى جنبه.
ويستثنى من مفهوم كلام الخرقي واقع يشق الاحتراز عنه، كورق الشجر، وما تلقيه الرياح والسيول من العيدان ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر وقوعه في الماء وإن غير جميع أوصافه، صرح به الشيرازي وكذلك الملح البحري، والله أعلم.
[الوضوء بالماء المستعمل]
قال: ولا يتوضأ بماء قد توضئ به
ش: هذا هو المشهور من المذهب، وعليه عامة الأصحاب.
9 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» فقال الراوي: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا. رواه مسلم والنسائي(1/120)
ولولا أن الغسل فيه لا يجزئ، وأن طهوريته تزول لم ينه عن ذلك، ولأنه أزال به مانعا من الصلاة، أشبه الماء المزال به النجاسة، أو استعمل في عبادة على وجه الإتلاف، أشبه الرقبة في الكفارة، وعلى هذه الرواية هو طاهر في نفسه، يجوز شربه والعجن به، والطبخ به.
10 - لأن في الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وصب على جابر من وضوئه» والأصل المساواة، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه نجس، نص عليها، وتأولها القاضي وبعد ابن عقيل تأويله، والحق امتناعه و (عنه) رواية ثالثة: أنه باق على طهوريته.
11 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «اغتسل بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جفنة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الماء لا يجنب» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي.(1/121)
وقال بعض المتأخرين: ظاهر كلام الخرقي أنه طهور في إزالة الخبث فقط لأنه إنما منع من الوضوء به. وليس بشيء، وحكم ما اغتسل به من الجنابة ونحوها حكم ما توضئ به.
وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما توضئ به في طهر مستحب، كتجديد ونحوه، وهو إحدى الروايتين، واختيار ابن عبدوس بناء(1/122)
على أن العلة ثم استعماله في عبادة، (والثانية) - واختارها أبو البركات - أنه باق على طهوريته، بناء على أن العلة ثم إزالة المانع، وعكس ذلك المنفصل من غسل الذمية، في حيض ونحوه، هل يخرجه عن طهوريته لإزالته المانع وهو الوطء، أو لا يخرجه، لعدم استعماله في عبادة؟ على روايتين.
واعلم أن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خرج على الغالب، إذ يندر أن الإنسان يتوضأ بقلتي ماء، فلو اتفق ذلك لم يخرجه عن طهوريته بلا نزاع، والله أعلم.
قال: وإذا كان الماء قلتين - وهو خمس قرب - فوقعت فيه نجاسة، فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة، فهو طاهر.
ش: القلة اسم لكل ما ارتفع وعلا، ومنه «قلة الجبل» وهي هنا الجرة الكبيرة، سميت قلة لعلوها وارتفاعها، وقيل: لأن الرجل العظيم يقلها بيده أي يرفعها، ثم المراد هنا القلال المنسوبة إلى هجر.
12 - لأن في بعض ألفاظ الحديث: «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر» ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده، والدارقطني مرسلا(1/123)
ولأنها كانت مشهورة معلومة، فالظاهر وقوع التحديد بها.
13 - ولهذا في حديث المعراج قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر» واختلف في مقدار القلة من ذلك، فقال الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو المشهور من الروايات، والمختار للأصحاب -: إنها قربتان ونصف.
14 - لأن ابن جريج قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين، أو قربتين وشيئا فالاحتياط إثبات الشيء، وجعله نصفا، لأنه أقصى ما ينطلق عليه اسم (شيء) منكرا.
(والرواية الثانية) أنها قربتان.
15 - لأن يحيى بن عقيل قال: رأيت قلال هجر، وأظن أن القلة(1/124)
تأخذ قربتين. رواه الجوزجاني ونحوه عن ابن جريج.
(والثالثة) قربتان وثلث، جعلا للشيء ثلثا، ومقدار القربة عند القائلين بتحديد الماء بالقرب - مائة رطل عراقية، والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهما، قاله في المغني القديم، وعزاه إلى أبي عبيد وقيل: وثلاثة أسباع درهم؛ ذكره في التلخيص(1/125)
وقيل: وأربعة أسباع. قاله في المغني الجديد، وهو المشهور وقيل: وثلاثون درهما.
إذا تقرر هذا فقد دل منطوق كلام الخرقي على أن النجاسة إذا وقعت في القلتين المذكورتين، ولم يتغير وصف من أوصاف الماء فهو طاهر، ولا نزاع عندنا في ذلك في غير البول والعذرة المائعة.
16 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني. وقال الحاكم: إنه على شرط الشيخين.(1/126)
17 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر - يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب - قال: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وأحمد وصححه.
ودل مفهومه على مسألتين (إحداهما) أن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه وإن كثر، ولا نزاع في ذلك، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا.(1/127)
18 - وقد روى أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» رواه ابن ماجه، والدارقطني، ولفظه: «إلا ما غير ريحه أو طعمه» إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: هذا الحديث لا يثبت أهل العلم مثله، إلا أنه قول العامة، لا أعرف بينهم فيه خلافا، وكذلك قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس فيه حديث، ولكن الله تعالى حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه، فذلك طعم الميتة أو ريحها، فلا تحل له. وقال أبو حاتم الرازي: الصحيح أنه مرسل قلت: وإذا يسهل الأمر.(1/128)
وظاهر كلام الخرقي (أنه) لا فرق بين يسير التغير وكثيره وشذ ابن البنا فحكى وجها في العفو عن يسير الرائحة.
(المسألة الثانية) ، أن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، وهو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لمفهوم خبر القلتين، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب ولم يعتبر التغير، (والثانية) : لا ينجس إلا بالتغير، اختارها ابن عقيل، وابن المثنى وأبو العباس، وابن الجوزي فيما أظن لخبر بئر بضاعة، ويرشحه(1/129)
حديث أبي أمامة، وخبر القلتين قد تكلم فيه ابن عبد البر وابن عدي وغيرهما، وعلى تقدير صحته فالتقدير بهما - والله أعلم - بناء على الغالب، إذ الغالب أن ما دون القلتين يظهر فيه الخبث، ويؤثر فيه فيغيره، بخلاف القلتين فإن الغالب عدم تأثرهما وتغيرهما بورود الدواب والسباع ونحو ذلك عليهما.
وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشمل الراكد والجاري، وهو إحدى الروايات، واختارها السامري وغيره، فعلى هذا إن بلغ مجموع الجاري قلتين لم ينجس إلا بالتغير، وإلا نجس، (والرواية الثانية) أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير، اختارها(1/130)
الشيخان (والثالثة) وهي اختيار الأكثرين، القاضي وأصحابه تعتبر كل جرية بنفسها، فإن كانت يسيرة نجست وإلا فلا، ثم الجرية عند الأكثرين ما أحاط بالنجاسة، فوقها وتحتها إلى قرار النهر، وعن يمينها وشمالها ما بين جانبي النهر، وزاد أبو محمد: ما قرب من النجاسة أمامها وخلفها. ولابن عقيل في فنونه أنها ما فيه النجاسة، وقدر مساحتها فوقها وتحتها، ويمينها ويسارها. انتهى.
وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فوقعت فيه نجاسة. يخرج به ما إذا كانت النجاسة إلى جنبه كميتة ونحوها، فإنها لا تؤثر فيه شيئا، إذ ذاك تغير مجاورة لا مخالطة، ويخرج بذلك أيضا ما إذا سخن بنجاسة، ولم يعلم وصول شيء من أجزاء النجاسة إليه، فإن طهوريته باقية بلا خلاف نعلمه، نعم في كراهيته روايتان (إحداهما) واختارها ابن حامد: لا يكره نظرا للأصل (والثانية) - واختارها الأكثرون - يكره، ولها(1/131)
مأخذان (أحدهما) احتمال وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء، وإذا يرتاب فيه.
19 - فيدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فعلى هذا إذا كان الحائل حصينا، وعلم عدم وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء لم يكره، وهذا اختيار أبي جعفر، وابن عقيل، (والثاني) استعمال الوقود النجس، لأن هذه الصفة التي حصلت فيه، حصلت بفعل محرم أو مكروه، على اختلاف الأصحاب في استعمال ذلك، فأثرت فيه منعا، وعلى هذا يكره وإن كان الحائل حصينا، وهو اختيار القاضي، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أومأ إلى التعليل بكل منهما.
(تنبيه) : قد تقدم بيان القلة و «لم يحمل الخبث» ، أي يدفعه عن نفسه، كما يقال: فلان لا يحمل الضيم. إذا كان يأباه ويدفعه عنه، (والريب) الشك، تقول: وابني فلان. إذا علمت منه الريبة، وأرابني. إذا أوهمني الريبة والله أعلم.
[حكم الطهارة بالماء الذي خالطه مائع]
قال: إلا أن تكون النجاسة بولا أو عذرة مائعة فإنه ينجس، إلا أن يكون الماء مثل المصانع التي بطريق مكة، وما أشبهها(1/132)
من المياه الكثيرة التي لا يمكن نزحها، فذلك الذي لا ينجسه شيء.
ش: هذا مستثنى من منطوق المسألة السابقة، وهو أن الماء إذا كان قلتين فوقعت فيه نجاسة لم ينجس إلا بالتغير، فاستثنى من ذلك إذا كانت النجاسة بولا أو عذرة مائعة، فإنه ينجس وإن لم يتغير، إن لم يبلغ الماء حدا يشق معه نزحه، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقلا، واختارها الأكثرون.
قال القاضي: اختارها الخرقي، وشيوخ أصحابنا. وقال أبو العباس: اختارها أكثر المتقدمين. قلت: وأكثر المتوسطين، كالقاضي، والشريف وابن البنا، وابن عبدوس، وغيرهم.
20 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» وفي رواية: «ثم يغتسل منه» متفق عليه، وهو شامل للقليل والكثير، خرج منه ما يشق نزحه اتفاقا، فما عداه يبقى على قضية العموم، ويحمل خبر القلتين على غير البول.
(والثانية) أن حكم البول والعذرة حكم غيرهما، اختارها ابن عقيل، وأبو الخطاب والشيخان، وقال أبو العباس: اختارها أكثر المتأخرين وقال السامري: وعليها التفريع، لحديثي القلتين،(1/133)
وبئر بضاعة، أما ما يشق نزحه فلا ينجس إلا بالتغير إجماعا.
(تنبيهان) : (أحدهما) قال أبو محمد: لم أجد عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا عن أحد من أصحابه تقدير ذلك بأكثر من المصانع التي بطريق مكة.
وقال الشيرازي: ذكر المحققون من أصحابنا أن ذلك يقدر ببئر بضاعة، وكان قدر الماء فيها ستة أشبار في ستة أشبار. انتهى.
قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي، فمددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع.
ومراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالبول بول الآدميين، بقرينة ذكره العذرة، فإنها خاصة بالآدميين، مع أن لنا وجها أن غير بول الآدمي كبوله، وحكم العذرة الرطبة حكم المائعة، لاشتراكهما في السريان.
(الثاني) : «الماء الدائم» الواقف، لأنه قد دام في مكانه وسكن، والله أعلم.(1/134)
قال: وإذا مات في الماء اليسير ما ليست له نفس سائلة - مثل الذباب، والعقرب، والخنفساء، وما أشبهها - فلا ينجسه.
ش: النفس السائلة الدم السائل، قال ابن أبي الفتح: سمي الدم نفسا لنفاسته في البدن.
وقال الزمخشري: النفس ذات الشيء وحقيقته، يقال: عندي كذا نفسا. ثم قيل للقلب نفسا لأن النفس به، ألا ترى إلى قولهم: المرء بأصغريه. وكذا الروح والدم نفس لأن قوامها بالدم انتهى.
والحيوانات على ضربين (أحدهما) ما ليس له نفس سائلة، كالذباب، والعقرب، والخنفساء، والزنبور، والنمل، والقمل، والسرطان، ونحو ذلك، وكذلك الوزغ، ودود القز في وجه فيهما، فلا ينجس الماء إذا مات فيه، ما لم يكن متولدا من النجاسات، لأنه لا ينجس بالموت على المشهور المعروف من الروايتين، وإذا لم ينجس بالموت لا ينجس الماء بالموت فيه.
21 - ودليل عدم نجاسته بالموت ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء» رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، ولأحمد، والنسائي، وابن(1/135)
ماجه، من حديث أبي سعيد نحوه والظاهر أنه يموت بغمسه لا سيما إذا كان الطعام حارا فإنه لا يكاد يعيش غالبا، ولو نجس الطعام لأفسده، فيكون أمرا بإفساد الطعام، وهو خلاف ما قصده الشارع، إذ قصد بغمسه دفع مضرة حصلت فيه، كما شهد به التعليل، لا إفساده بالكلية، ولأن الله تعالى إنما حرم الدم المسفوح، وهذا ليس بمسفوح (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى بنجاسة ذلك بالموت، فيكون حكمه إذا مات في الماء حكم غيره من النجاسات، وقيد ابن حمدان ذلك(1/136)
بما إذا أمكن التحرز منه غالبا، وفيه نظر، أما إن تولد من النجاسات - كصراصير الكنيف - فهو نجس حيا وميتا، بناء على المذهب من أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة، ولا يرد هذا على الخرقي، لأن موته لم يؤثر فيه شيئا، بل هو باق على ما كان عليه.
(الضرب الثاني) ، ما له نفس سائلة، وهو على ضربين أيضا (أحدهما) ما كان نجسا في حال الحياة، وهو واضح، إذ موته لا يزيده إلا خبثا (الثاني) ما كان طاهرا في الحياة، وهو على ثلاثة أنواع:
(أحدها) السمك وما في معناه مما لا يعيش إلا في الماء، فإن ميتته طاهرة، وإن كان طافيا على المعروف، وكذلك الجراد وإن لم يكبس ولم يطبخ، على المذهب.
22 - بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد، والكبد والطحال» .
(الثاني) الآدمي، وميتته طاهرة على الصحيح من الروايتين.(1/137)
23 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن المؤمن لا ينجس» .
24 - وفي حديث حذيفة: «إن «المسلم لا ينجس» وكلاهما في الصحيح وهما شاملان للحياة والموت.
25 - وقال البخاري: قال ابن عباس: المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا.
(والثانية) نجسة ما عدا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتنجس الماء اليسير، قياسا على غيرها مما له نفس سائلة، وقيل بتنجيس ميتة الكافر دون المؤمن، عملا بقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلم لا ينجس» وهذان النوعان يردان على مفهوم كلام الخرقي على المذهب، وقد يقول بنجاسة الآدمي بالموت، فيرد عليه النوع الأول فقط.
(النوع الثالث) ما عدا هذين من حيوانات البر الطاهرة، مأكولا كان أو غير مأكول، وحيوانات البحر الذي يعيش في البر، فإن ميتته نجسة، فينجس الماء اليسير، لعموم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173] .
وتقييد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الماء باليسير لأنه الذي ينجس بمجرد الملاقاة على المذهب، أما لو كان كثيرا فإنه لا ينجس إلا بالتغير، والغالب أن مجرد موت الحيوان في الماء الكثير لا يغيره.(1/138)
(تنبيه) : «الذباب» هذا الحيوان المعروف، مفرد، جمع القلة منه أذبة، والكثير ذباب، ولا يقال: ذبابة. قاله غير واحد، والله أعلم.
[الوضوء بسؤر غير مأكول اللحم]
قال: ولا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها، إلا السنور، وما دونها في الخلقة.
ش: السؤر - مهموز - بقية طعام الحيوان وشرابه، وسؤر الحيوان مبني عليه، فإن كان الحيوان طاهرا فهو طاهر، وإن كان نجسا فهو نجس، وإن لم يتغير، بناء على المذهب من تنجيس الماء القليل بمجرد الملاقاة، وهو الغالب على السؤر، ولهذا أطلق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما إذا كان السؤر كثيرا فإنه لا ينجس إلا بالتغير. إذا عرف هذا فالحيوان على ضربين (بهم) جمع بهيمة وهو ما عدا الآدمي (والآدمي) وهذا الضرب لم يتعرض الخرقي للحكم عليه بنفي ولا إثبات، وحكمه أنه طاهر في الجملة، مسلما كان أو كافرا، طاهرا أو محدثا، وكذلك سؤره، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن المؤمن لا ينجس» .
26 - وفي الصحيح «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تشرب من الإناء، فيضع فاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على موضع فيها.» ويستثنى من ذلك سؤر المجوسي والوثني ومن في معناهما من ذمي يتظاهر بشرب الخمر أو أكل الخنزير، أو من مسلم مدمن لشرب الخمر، أو لتناول النجاسات، فإن سؤر هؤلاء نجس، على رواية مشهورة، مختارة لكثير من الأصحاب تغليبا للظاهر على حكم الأصل.(1/139)
27 - وعليه يحمل حديث أبي ثعلبة المتقدم، وقد جاء ذلك مصرحا فيه وحكى في التلخيص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى بتنجيس سؤر الكافر مطلقا.
والضرب الأول الذي حكم عليه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ضربين أيضا، مأكول وغير مأكول، فالمأكول كله طاهر في الجملة إجماعا حكاه ابن المنذر وغيره، فيكون سؤره كذلك، كما اقتضاه مفهوم كلام الخرقي. وهل يستثنى من ذلك الجلالة - وهي التي تأكل العذرة - بناء على نجاستها إذا أولا - وهو مقتضى عموم مفهوم كلام الخرقي - نظرا لأصلها؟ على روايتين.
وغير المأكول على ثلاثة أضرب (أحدها) طاهر، وهو السنور - ويسمى الضيون - بضاد معجمة، وياء مثناة من تحتها، ونون - والهر والقط - وما دونه في الخلقة، كابن عرس والفأرة ونحو ذلك، فهو طاهر، وكذلك سؤره كما شهد بذلك النص.(1/140)
28 - «فعن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن أبا قتادة دخل عليها، فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» رواه الخمسة، وصححه الترمذي وهذا يدل على طهارة الهر بالنص والتعليل، ويدل على طهارة ما دونها بالتعليل وإذا لا عبرة بوجه ضعيف بنجاسة سؤر ما دون الهرة، نعم يكره سؤر ذلك على إحدى الروايتين بخلاف الهرة.
(تنبيه) : لو أكلت الهرة أو نحوها نجاسة، ثم شربت من ماء، فثلاثة أوجه مشهورات ثالثها: إن شربت بعد غيبتها - وقيل: قدر ما يطهر فمها بريقها - فسؤرها طاهر، وإلا فنجس.
(الضرب الثاني) نجس بلا نزاع عندنا، وكذلك سؤره، وهو الكلب والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما.
29 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا» ولمسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع(1/141)
مرات، أولاهن بالتراب» » . والخنزير شر منه، والمتولد من الخبيث خبيث، وحكى ابن حمدان رواية بطهارة سؤر الكلب والخنزير واستغربها واستبعدها وإنها لجديرة بذلك.
(الضرب الثالث) سباع البهائم، وجوارح الطير، والبغل، والحمار، وفيها روايتان (إحداهما) - وهي المشهورة عند الأصحاب، وظاهر كلام الخرقي - نجاستها، فكذلك سؤرها، لظاهر حديث القلتين وإلا لم يكن للتحديد بهما فائدة.
(والثانية) طهارتها، واختارها أبو محمد في البغل والحمار، لعموم البلوى بهما، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا يركبونها مع حرارة بلادهم، والظاهر أنهم لا يسلمون من ملاقاتها.
30 - ويدل على ذلك في السباع ما روى مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا، فقال عمرو: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع، وترد علينا. قال رزين: زاد بعض الرواة في قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي طهور(1/142)
وشراب» اهـ وإمامنا اعتمد على قول عمر، فالظاهر عدم صحة الزيادة عنده، وعلى هذه: سؤرها طاهر. (وعن أحمد) رواية ثالثة بالشك في سؤر البغل والحمار، فيتيمم معه إن لم يجد ماء طهورا، وينوي بتيممه الحدث والنجاسة احتياطا لاحتمالها، وقيل: يتيمم ويصلي، ثم يتوضأ به ويصلي.
واعلم أن المنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية الشك والنجاسة على ما ذكره القاضي في روايتيه، وأبو الخطاب في خلافه، أما رواية الطهارة فذكرها أبو الخطاب مخرجة، والطاهر من سباع البهائم والله أعلم.
[تطهير ما لاقته نجاسة الكلب والخنزير]
قال: وكل إناء حلت فيه نجاسة من ولوغ كلب، أو بول، أو غيره، فإنه يغسل سبع مرات، إحداهن بالتراب
ش: لا خلاف عن إمامنا فيما نعلمه أن الإناء يجب غسله من نجاسة الكلب والخنزير سبعا إحداهن بالتراب، فكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما.(1/143)
30 - م - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا» متفق عليه، ولمسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب» » وله في أخرى: «فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات» والخنزير شر منه، نص الشارع على تحريمه، وحرمة اقتنائه، فالحكم يثبت فيه من طريق التنبيه، وإنما لم ينص الشارع عليه - والله أعلم - لأن العرب لم يكونوا يعتادونه، بخلاف الكلب، فإنهم كانوا يعتادونه كثيرا، والمتولد من الخبيث خبيث. (وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب الغسل ثمانيا) .
31 - لما روى عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب» رواه مسلم وغيره وحمل على أنه عد التراب ثامنة، جمعا بين الأحاديث، وفي أي موضع جعل التراب أجزأه.
31 - م - لأن في مسلم من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أولاهن بالتراب» وفي أبي داود فيه: «السابعة» وفي الترمذي فيه:(1/144)
«أولاهن أو أخراهن» فدل على أن المقصود حصول التراب في الغسلات، إلا أن الأولى جعله في الأولى، ليأتي الماء عليه فينظفه، ويكفي هم التراب لو انتضح من الغسلات على شيء على الأشهر (وعنه) : أن غسل ثمانيا جعله في الآخرة، لحديث ابن مغفل (وعنه) بل في الآخرة مطلقا، (وعنه) : حيث شاء، وهل يقوم الأشنان [ونحوه، أو الغسلة الثامنة مقام التراب، أو لا يقومان، وهو ظاهر كلام الخرقي، أو يقوم الأشنان] ونحوه دون الماء، أو إن تعذر التراب أو تضرر المحل به أجزأ الأشنان وإلا فلا. أو إن فسد المحل به كثوب حرير ونحوه سقط اعتباره رأسا، على خمسة أوجه.
وحكم غير الإناء من الثياب والفرش ونحوها حكم الإناء، إلا أن في وجوب التراب فيه قولان، أصحهما يجب، وإنما نص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الإناء والله أعلم - لورود النص فيه، (أما الأرض) وما اتصل بها من الحيطان، والأحواض(1/145)
ونحو ذلك، فالواجب مكاثرتها بالماء حتى تزول عين النجاسة، أي نجاسة كانت، وإن كانت نجاسة كلب أو خنزير على المذهب، وقد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا في غير هذا الموضع.
واختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نجاسة غير الكلب والخنزير، وما تولد منهما في غير الأرض وما اتصل بها، فعنه ثلاث روايات مشهورات.
(إحداهن) - وهي اختيار الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور الأصحاب - أنها تغسل سبعا، كنجاسة الكلب قياسا عليها، لأنه إذا وجب السبع في ولوغ الكلب، مع الخلاف في طهارته وفي أكله ففي بول الآدمي ونحوه، مع الاتفاق على نجاسته أولى وأخرى.
32 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: «أمرنا بغسل الأنجاس سبعا» وعلى هذه الرواية وقيل: بل حيث(1/146)
اشترط العدد، وهو ظاهر ما في التلخيص والرعاية - هل يجب التراب - وهو اختيار الخرقي، إلحاقا له بنجاسة الكلب - أو لا يجب - وهو اختيار أبي البركات قصرا له على مورد النص، أو لأن ذلك للزوجة في ولغ الكلب، فيه وجهان.
(والثانية) يجب غسلها ثلاثا، اختارها أبو محمد في العمدة.
33 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا انتبه أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده» علل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوهم النجاسة، ولا يزيل وهمها [إلا ما يزيل] حقيقتها.
(والثالثة) تكاثر بالماء حتى تزال، من غير اعتبار عدد، لأن النبي أمر أسماء بغسل دم الحيض، ولم يأمرها بعدد، وأمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوبا من ماء ولم يأمر بعدد.
34 - وقد روى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات والغسل من البول سبع مرات فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل، حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة» . رواه أحمد(1/147)
وأبو داود، وهو نص لكن في إسناده ضعف وروي أن السبع لا تعتبر في [غير] محل الاستنجاء من البدن، وتعتبر في محل الاستنجاء [وسائر المحال، قال الخلال: وهي وهم، وروي الاجتزاء بثلاث في محل الاستنجاء] واعتبار السبع في غيره، وضعفت أيضا.
[تنبيهات]
(أحدها) قد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - محل الاستنجاء، فعلى المشهور عند الأصحاب: يغسل سبعا كغيره. وقد صرح بذلك القاضي في التعليق والشيرازي، وابن عقيل، وابن عبدوس ونص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية صالح، واختار أبو محمد في المغني أنه لا يجب العدد فيه، اعتمادا على أنه لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك عدد، لا من فعله، ولا من قوله وتمسكا بإطلاق أحمد في رواية أبي داود وقد سئل عن حد الاستنجاء بالماء فقال: ينقي. ويؤيد هذا أنه لا(1/148)
يشترط له تراب، كما نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: يجزئه الماء وحده، وقطع به أبو محمد، وابن تميم، وغيرهما.
(الثاني) : حيث اشترط التراب فهل من شرطه كونه طهورا يجوز التيمم به، أو يكتفى بكونه طاهرا، وهو ظاهر ما في التلخيص، قولان، ثم شرط ابن عقيل أن يكون بحيث تظهر صفته، ويغير صفة الماء.
(الثالث) : (ولغ يلغ) - بفتح اللام فيهما، وحكى ابن الأعرابي كسرها في الماضي - إذا شرب مما في الإناء بطرف لسانه، (والتعفير) التمريغ في العفر وهو التراب [والله أعلم] .
[اشتباه الماء الطاهر بالنجس]
قال: وإذا كان معه في السفر إناءان نجس وطاهر، واشتبها عليه] أراقهما وتيمم
ش: صورة هذه المسألة إذا لم يجد طهورا غيرهما، ولم يمكن تطهير أحدهما بالآخر، أما إذا كان ذلك فإنه يجب اعتماده، وإنما ترك الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيان ذلك لوضوحه، ولذلك قيد بالسفر، لأنه حال مظنة عدم الماء، ووجود إناء يسع قلتين، وإلا فالحكم لا يختص بالسفر، وبالجملة إذا اشتبه طاهر بنجس والحال ما تقدم واستويا، فإنه لا خلاف في المذهب أنه يعدل إلى التيمم، ولا يتحرى.(1/149)
35 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دع ما يريبك، إلى ما لا يريبك» ولأنه اشتبه المباح بالمحظور، فيما لا تبيحه الضرورة، أشبه اشتباه أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، وإن كثر عدد الطاهر على عدد النجس، فكذلك على المشهور، المختار للأكثرين، لما تقدم.
وأومأ الإمام في موضع إلى أنه يتحرى، فما يغلب على ظنه أنه طهور استعمله، وهو اختيار أبي بكر، وابن شاقلا، والنجاد ولأن إصابة الطهور والحال هذه أغلب، ثم هل يكتفى بمطلق الكثرة [أو لا بد من كثرة] عرفا - وحكي عن القاضي في التعليق - أو لا بد وأن يكون النجس عشر الطهور وهو المشهور، فيه أوجه.
وظاهر كلام الخرقي أن (صحة) تيممه موقوف على إراقتهما، وهو إحدى الروايتين، بشرط أن يأمن العطش، واختاره أبو البركات، ليصير عادما للماء بيقين فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] .
(والثانية) - واختارها أبو بكر وأبو محمد -: لا يشترط، لأنه ممنوع من(1/150)
استعمالهما شرعا، أشبه الجريح، وحكم الخلط حكم الإراقة.
وإطلاق الخرقي يقتضي أنه إذا صلى بالتيمم لا إعادة عليه بعد، ولو علم عين الطاهر، وهو المعروف من الوجهين، [والله سبحانه أعلم] .
[باب الآنية]
قال:
باب الآنية ش: (الآنية) جمع إناء، كسقاء وأسقية، وجمع الآنية أواني، والأصل: ءآني. أبدلت الهمزة الثانية واوا، كراهة اجتماع همزتين، ومثله: آدم وأوادم.
قال: وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس
ش: مراد الخرقي - والله أعلم - الميتة النجسة، وقد تقدم بيان الميتة النجسة من الطاهرة، وجلد الميتة قبل الدبغ نجس، أما بعد الدبغ ففيه روايتان: أشهرهما: - وهي اختيار الخرقي وعامة الأصحاب - أنه نجس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والجلد جزء منها، وهذا على القول بعمومها، كما هو ظاهر كلام إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه استدل بها على ذلك، وكثير من أصحابنا، منهم القاضي في الكفاية، وعلى هذا إما(1/151)
أن يمنع صحة الأحاديث الواردة في الدباغ، كما أشار إليه أحمد كما سيأتي، أو يلتزم صحتها ويمنع تخصيص عام القرآن بالسنة على أنا نلتزم أن الآية الكريمة ليست عامة، وإنما المحرم تحريم الفعل المقصود من كل جزء منها، والمقصود من الجلد الانتفاع به، كما أن المقصود من اللحم الأكل.
36 - ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن عكيم قال: كتب إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وفي رواية أبي داود: قبل موته بشهر: «أن لا تنتفعوا» وفي رواية للترمذي: بشهرين. رواه الخمسة وحسنه الترمذي، وقال أحمد: ما أصلح إسناده. وفي رواية ابنه صالح: قال: ليس عندي في الدباغ حديث صحيح، وحديث ابن عكيم أصحها. وفي لفظ للدارقطني: «كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وهو مشعر بنهي بعد رخصة، وأن ما ورد من(1/152)
الرخصة كان أولا. ولا يقال الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ. قاله النضر بن شميل وغيره، لأنا نمنع ذلك، كما قاله طائفة من أهل اللغة ويؤيد قولهم أنه لم يعلم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه قبل الدبغ رخصة، ولا عادة الناس الانتفاع به.
فعلى هذه - وقيل: وإن لم يدبغ - هل يجوز استعماله في اليابس ونحوه؟ على روايتين، أما في المائع فقال كثير من الأصحاب: لا ينتفع بها رواية واحدة، قال ابن عقيل: ولو لم ينجس الماء، بأن كانت تسع قلتين. قال: لأنها نجسة العين، أشبهت جلد الخنزير، وجوز أبو العباس في فتاويه الانتفاع بها في ذلك إن لم ينجس الماء، وقيل: يجوز الانتفاع بها في اليابس انتهى. فعلى رواية الجواز يجوز الدبغ، وعلى رواية المنع فيه (وجهان) .
(والثانية) أن الدباغ مطهر في الجملة، اختارها أبو العباس، وإليها ميل جده في المنتقى، وابن حمدان في الكبرى، وقيل: إنها آخر قولي أحمد، قال أحمد بن الحسن الترمذي كان أحمد يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر: قبل وفاته بشهرين. ويقول: هذا آخر الأمرين من(1/153)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم تركه للاضطراب في إسناده، حيث روى بعضهم: عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة.
37 - وذلك لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تصدق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» .
38 - (وعنه أيضا) قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» رواهما مسلم وغيره وفي رواية في الصحيح أيضا: «إنما حرم أكلها» » .
39 - – ولأحمد، وأبي داود، والنسائي، والدارقطني - وصححه - في حديث شاة ميمونة: «يطهرها الماء والقرظ» .
40 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جلد الميتة قال: «إن دباغة ذهب بخبثه أو رجسه أو نجسه» رواه البيهقي(1/154)
في سننه وصححه وإذاً يمنع العموم في الآية الكريمة، ويدعى فيها إما الإجمال كما قاله القاضي في العدة، أو أن المحرم تحريم الأكل، لأنه المقصود منها عرفا، أو يلتزم العموم ويدعى تخصيصه بما تقدم، وحديث ابن عكيم لا يقاوم حديث ابن عباس.
41 - ثم قد ورد نحوه من حديث عائشة، وعالية بنت سبيع، وسلمة بن المحبق، وكلها في السنن على أن حديث ابن عكيم يحمل على ما قبل الدبغ، جمعا بين الأحاديث.
وعلى هذه الرواية هل الدباغ يصيره كالحياة، بدليل رواية ابن عباس التي رواها البيهقي، وهو اختيار أبي محمد، وصاحب التلخيص فيه، فيطهر جلد كل ما حكم بطهارته في الحياة كالهر(1/155)
ونحوها، ما سوى الكلب والخنزير، والمتولد منهما على رواية، أو كالذكاة.
42 - لأن في رواية: «ذكاتها دباغها» وهو اختيار أبي البركات فلا يطهر إلا ما تطهره الذكاة، فيه وجهان، وقد يخرج عليهما جلد الآدمي، فإن في طهارته - إن قيل بنجاسته بالموت - بالدبغ وجهان، والله أعلم.
[آنية عظام الميتة]
قال: وكذلك آنية عظام الميتة.
ش: يعني أنها نجسة إذا كانت من ميتة نجسة؛ لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم.
43 - وفي بعض ألفاظه: «أن «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» رواه البيهقي في سننه، ولأن الحياة تحله فينجس بالموت كالجلد، ودليل الوصف قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78](1/156)
الآية، وحكى أبو الخطاب ومن تبعه قولا بالطهارة، وهو مختار أبي العباس.
44 - لما روى أبو داود عن ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اشتر لفاطمة سوارين من عاج» والعاج عظم الفيل، وحكم القرن، والظفر، والحافر، كالعظم، إن أخذ من مذكى فهو طاهر، ومن حي طاهر في الحياة ينجس بالموت فهو نجس، وكذلك ما سقط عادة من قرون الوعول ونحوها، ولأبي محمد (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فيه احتمال بالطهارة، والله أعلم.
[الوضوء في آنية الذهب والفضة]
قال: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة.
ش: أراد بالكراهة (كراهة) التحريم، كما هو دأب السلف كثيرا، وقد صرح بذلك في غير هذا الموضع، فقال: والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص، وفيها الزكاة وإذا حرم الاتخاذ(1/157)
فالاستعمال أولى، وقال: والشرب في آنية الذهب والفضة حرام.
45 - وذلك لما روى حذيفة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا» وفي رواية: «ولكم في الآخرة» متفق عليه.
46 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليه وفي رواية لمسلم: «الذي يأكل ويشرب» » وغير الأكل والشرب في معناهما.
وعموم كلام الخرقي يشمل الرجل والمرأة، وهو كذلك، لعموم الدليل، وتخصيصه المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما، وهو كذلك في الجملة.
47 - لأن في «حديث عبد الله بن زيد: أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخرجنا له ماء في تور (من صفر) فتوضأ» . رواه البخاري.
48 - وجاء «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ هو وأصحابه من مخضب من حجارة، ومن قدح من زجاج، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له قدح من خشب يشرب فيه ويتوضأ» . ويدخل في المفهوم الثمين، وهو ما(1/158)
كثر ثمنه، قال أبو البركات: هو ما كان جنسه أكثر قيمة من جنس النقدين، كالجوهر والبلور، ونحوهما وهو كذلك، لتخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي بالذهب والفضة، ومفهومه إباحة ما عداهما، فمفهوم اللقب حجة عندنا على الأشهر، ثم العلة فيهما الخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، وهي غير موجودة هنا، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس، ولا عبرة بكراهة الشيرازي الوضوء من الصفر والنحاس لما تقدم.
ويستثنى من العموم النجس، كآنية عظام الميتة ونحو ذلك، وقد(1/159)
يؤخذ من كلامه ثم، والمحرم، كالمغصوبة ونحوها، والمضبب والمطعم بالذهب أو الفضة.
49 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب من إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم» رواه البيهقي في سننه وقال: والمشهور عن ابن عمر في المضبب من قوله، وعن عمرة قالت: ما زلنا بعائشة حتى رخصت لنا في الحلي، ولم ترخص لنا في الإناء المفضض. رواه البيهقي أيضا.
ويستثنى من المضبب [المضبب] بضبة من الفضة، ويأتي الكلام على هذا - إن شاء الله - في كتاب الأشربة، أبسط من هذا.
[تنبيهان: (أحدهما) : «يجرجر في بطنه» أي يحدر، جعل الشرب جرجرة، وهو صوت وقوع الماء في الجوف] (الثاني) : «التور» شبه الطست، وقال ابن الأثير: إناء صغير(1/160)
«والمخضب» مثل الإجانة التي تغسل فيها الثياب. والله أعلم.
قال: فإن فعل أجزأه
ش: إذا خالف وتوضأ فيها أجزأه عند الخرقي، وأبي محمد، إذ استعمال الماء في الوضوء حصل بعد فعل المعصية، وبهذا فارق الصلاة في البقعة الغصب، ولم يجزه عند أبي بكر، وأبي الحسين، وأبي العباس لإتيانه بالعبادة على وجه المحرم، أشبه الصلاة في المحل الغصب، ودليل الوصف وصف الشارع الأكل والشرب بالتحريم، مع حصولهما بعد فعل الأكل والشرب، حيث توسل إليهما بالمحرم.
وقول الخرقي: يتوضأ في آنية الذهب والفضة. يحتمل أنه غطس فيها وكانت تسع قلتين، ووجد الترتيب، بأن أخرج وجهه أولا، ثم يديه، ثم مسح رأسه، أو غسله وقلنا: يجزئ عن المسح، ثم أخرج رجليه، وعلى هذا يصح فيما إذا توضأ منها، أو بها، أو جعلها مصبا للماء بطريق الأولى، ويحتمل أن يريد أنه جعلها مصبا للماء، وعلى هذا لا يلزم الصحة فيما إذا توضأ فيها، أو بها، أو منها، لأنا إذا قلنا بعدم الصحة في(1/161)
هذه الصور، ففي جعلها مصبا احتمالان، أصحهما الصحة، والله أعلم.
[صوف الميتة وشعرها]
قال: وصوف الميتة وشعرها طاهر
ش: يعني من الميتة الطاهرة في الحياة، وإلا فالنجسة في الحياة؛ الموت لا يزيدها إلا خبثا، وهذا هو المعروف المشهور من نص أحمد، وعليه أصحابه، لقول الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80] الآية. ساقه - سبحانه وتعالى - في سياق الامتنان، فالظاهر شموله لحالتي الحياة والموت، وفي الصحيح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد شاة ميتة فقال: «هلا انتفعتم بجلدها» ؟ فقالوا: إنها ميتة. فقال: «إنما حرم أكلها» (وعن أحمد) رواية أخرى أنها نجسة، أومأ إليها في شعر الآدمي الحي - ومن ثم يعلم أن حكاية صاحب التلخيص الخلاف في شعر غير الآدمي، والقطع فيه بالطهارة ليس بشيء - وذلك لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» ولعموم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3](1/162)
(وأجيب) : بأن المراد بالآية الحياة الحيوانية، ومن خاصيتها الحس والحركة الإرادية، وهما منتفيان في الشعر، وحكم الوبر والريش حكم الشعر.
وقد دخل في قولنا: من الميتة الطاهرة في الحياة شعر الهرة ونحوها، وهو اختيار أبي محمد وابن عقيل، وقيل بنجاسة شعر ذلك بعد الموت، إذ طهارته في الحياة لعلة مشقة الاحتراز منه، وقد زالت بالموت وجعل القاضي الخلاف في المنفصل في حياته أيضا، وألحق ابن البنا بذلك سباع البهائم ونحوها، على القول بطهارتها - والله أعلم -.
[باب السواك وسنة الوضوء]
ش: «السواك» والمسواك العود الذي يتسوك به، يذكر ويؤنث، سمي بذلك لكون الرجل يردده في فيه ويحركه، يقال: تساوكت الإبل إذا مشت مشيا في لين، «والسنة» الشريعة والطريقة.
50 - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» .(1/163)
51 - وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» وإذا أطلقت في مقابلة الواجب أريد بها المستحب.
52 - ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله فرض صيام رمضان، وسننت لكم قيامه» الحديث، ورسمت بأنها ما رسم للتحدي، وهو ما يكون المتأسي فيه مماثلا للأول لا مخالفا له، والله أعلم.
قال: والسواك سنة.
53 - ش: عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» رواه أحمد والنسائي، والبخاري تعليقا مجزوما به، وابن حبان ورواه أيضا من طريق أبي هريرة، ورواه أحمد من طريق أبي بكر، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(1/164)
54 - ولأحمد عن واثلة.. «لقد أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يكتب علي» .
55 - وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» .. وهو لأبي داود، والترمذي من حديث زيد بن خالد الجهني.
والحكم الذي حكم به الخرقي يشمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو اختيار ابن حامد، واختيار القاضي وابن عقيل الوجوب عليه، بخلاف أمته، والله أعلم.
[أوقات استحباب السواك]
قال: يستحب عند كل صلاة
ش: يتأكد استحباب السواك في مواضع (منها) عند الصلاة، لما تقدم من حديث أبي هريرة، «وعند المضمضة» في الوضوء.
56 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» رواه(1/165)
أحمد بإسناد صحيح. «وعند القيام» من نوم الليل.
57 - لأن في الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك» . «وعند دخول» المسجد والمنزل، وقراءة القرآن، وإطالة السكوت، وخلو المعدة من الطعام، واصفرار الأسنان، وتغير رائحة الفم، والله أعلم.
قال: إلا أن يكون صائما، فيمسك من وقت الزوال إلى أن تغرب الشمس
ش: هذا هو المشهور في المذهب، حتى أن ابن عقيل قال: لا يختلف المذهب في ذلك.
58 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» والخلوف إنما يظهر غالبا بعد الزوال، ولأنه أثر عبادة، مستطاب شرعا، أشبه دم الشهيد، وهذا الإمساك على سبيل الاستحباب، فلو خالف ففي الكراهة روايتان. وحكى القاضي وغيره رواية بالاستحباب، وهي أظهر.
59 - لما «روى عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه.(1/166)
60 - قال البخاري: وكان ابن عمر يستاك أول النهار وآخره ولأن مرضاة الرب أطيب من ريح المسك، والقياس نقول بموجبه، ونمنع أن الخلوف في محل السواك إنما هو من المعدة والخلو على أنه لو صح القياس للزم أن لا يزال بعد الغروب، وحيث سن السواك ففي كراهته بعود رطب خشية تحلل جزء روايتان، والله أعلم.
(تنبيه) : «يشوص» أي يغسل، قاله الهروي: وقيل: يدلك. قال ابن الأعرابي وقيل: ينقي وقيل: هو أن يستاك عرضا.
وعن ابن دريد. الشوص هو الاستياك من سفل إلى علو، ومنه الشوصة - ريح ترفع القلب عن موضعه اهـ. «والموص» بمعناه، وقيل لا، (والخلوف) : بضم الخاء، هكذا الرواية الصحيحة ورواه من لا يحقق بفتحها وخطأ ذلك الخطابي.. قال الهروي: خلف فوه، إذا تغير، يخلف خلوفا - والله(1/167)
أعلم - قال: وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل، قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا
ش: لا إشكال في مطلوبية الغسل والحال هذه.
60 - م - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده» متفق عليه.. هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» » .. وللترمذي وصححه: «إذا استيقظ أحدكم من الليل» » .
وهل تنهض المطلوبية للوجوب؟ فيه روايتان (إحداهما) نعم، واختارها أبو بكر، والقاضي، وعامة أصحابه، بل وأكثر الأصحاب، لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن عدمه، ومقتضى ذلك الوجوب، وعلى هذه: غسلهما شرط لصحة الصلاة، قاله ابن عبدوس وغيره، وهل هو تعبد، فيجب وإن(1/168)
شدت يده، أو جعلت في جراب ونحو ذلك، أو معلل بوهم النجاسة، فلا يجب من نحو ما تقدم، فيه وجهان. ويتعلق الحكم بالنوم الناقض على الأشهر، لا بنوم أكثر الليل، وهل تجب النية والتسمية لغسلهما؟ أوجه ثالثها: تجب (النية) دون التسمية.
(والرواية الثانية) : لا تنهض لذلك، اختارها الخرقي والشيخان، قال أبو العباس: اختارها الخرقي وجماعة، لأن قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] شمل القائم من النوم.
61 - لا سيما وقد فسره زيد بن أسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالقيام من الليل ولم يذكر سبحانه وتعالى غسل اليدين، والأمر السابق للندب، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل بوهم النجاسة، وذلك يقتضي الندبية لا الوجوب استصحابا للأصل.(1/169)
واعلم أن السنة لا تختص بنوم الليل بل يسن له أن يغسل يديه عند الوضوء وإن لم يقم من نوم أصلا، حتى لو تيقن طهارتهما، على المذهب المنصوص، لأن الواصفين لوضوئه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: وغسل كفيه ثلاثا. وإنما نص الخرقي على نوم الليل دون غيره لتأكده، ولينص على محل الخلاف، والغسل المطلوب إلى الكوع، والله أعلم.
[التسمية عند الوضوء]
قال: والتسمية عند الوضوء
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي محمد، وقال الخلال: إنه الذي استقرت عليه الروايات.
62 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «توضؤا بسم الله» ولم يجب، لقوله سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ولم يذكر التسمية، ولأنها طهارة، فلم تجب لها التسمية كطهارة الخبث. (والرواية الثانية) : تجب. واختارها أبو بكر، وابن شاقلا وأبو جعفر، وأبو الحسين، وأبو الخطاب. قال أبو العباس: اختارها القاضي وأصحابه، وكثير من أصحابنا بل أكثرهم.(1/170)
63 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه» رواه أحمد وأبو داود، ولأحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد [وأبي سعيد مثله قال البخاري: أحسن شيء(1/171)
في هذا الباب حديث سعيد بن زيد] وكذلك قال إسحاق: إنه أصحها، وعلى هذه تسقط بالسهو على رواية اختارها القاضي في التعليق، وابن عقيل، وأبو محمد، ولا تسقط في أخرى، اختارها ابن عبدوس، وأبو البركات، وقال الشيرازي، وابن عبدوس: متى سمى في أثناء الوضوء أجزأه على كل حال.
(تنبيه) : محل التسمية اللسان، وصفتها: بسم الله. فإن قال: بسم الرحمن: أو القدوس، لم يجزئه على الأشهر، كما لو قال: الله أكبر. ونحوه، على المحقق وتكفي الإشارة بها من الأخرس ونحوه، والله أعلم.
[المبالغة في الاستنشاق]
قال: والمبالغة في الاستنشاق، إلا أن يكون صائما.
64 - ش: أي تسن لما «روى لقيط بن صبرة قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: «أسبغ الوضوء، وخلل بين(1/172)
الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» رواه أبو داود، والنسائي وصححه الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم وإنما لم تجب على المشهور لسقوطها بصوم النفل، والواجب لا يسقط بالنفل، وقال ابن شاقلا - ويحكي رواية - تجب. لظاهر الأمر، وقيل: في الكبرى فقط.
واقتصر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الاستنشاق تبعا للحديث، ولنص أحمد: فإنه إنما نص على ذلك وصرح بذلك ابن الزاغوني فقال: يبالغ في الاستنشاق دون المضمضة، وعامة المتأخرين على أنه يبالغ فيهما، وقد روي في بعض ألفاظ لقيط: «وبالغ في المضمضة والاستنشاق» .
وظاهر كلام الخرقي أن المبالغة للصائم لا تسن، وصرح به أبو محمد، وأبو العباس، وقال الشيرازي: لا يجوز. وينبغي أن يقيد قوله بصوم الفرض.(1/173)
(تنبيه) : المبالغة في الاستنشاق اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف، ولا يصيره سعوطا، وفي المضمضة إدارة الماء في أقاصي الفم، ولا يصيره وجورا والله أعلم.
[تخليل اللحية]
قال: وتخليل اللحية
ش: تخليل اللحية من سنن الوضوء، على المذهب المعروف.
65 - لما «روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه توضأ وخلل لحيته، حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الذي رأيتموني فعلت» . رواه الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وحسنه البخاري وهذا إذا كانت كثيفة، أما إذا كانت خفيفة تصف البشرة، فإنه يجب غسلها، وحكم بقية الشعور كذلك كما سيأتي.
وصفة التخليل من تحتها بأصابعه، نص عليه، أو من جانبيها.
66 - وفي السنن عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فيدخله تحت حنكه، ويخلل به(1/174)
لحيته، ويقول: «بهذا أمرني ربي عز وجل» ومن ثم قيل بوجوب التخليل، كما ذكره ابن عبدوس وقيل أيضا: يخلل بماء جديد وقيل: بل بماء الوجه. ونص أحمد على أنه إن شاء خللها مع وجهه، وإن شاء إذا مسح رأسه، والله أعلم.
[تجديد الماء للأذنين ظاهرهما وباطنهما]
قال: وأخذ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار ابن أبي موسى، والقاضي في الجامع الصغير، وابن عقيل، وابن عبدوس , والشيرازي، وابن البنا، وصاحب التلخيص.
67 - لما «روي عن حبان بن واسع، أن أباه حدثه، أنه سمع عبد الله بن زيد، يذكر أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ، فأخذ لأذنيه ماء خلاف الذي أخذ لرأسه» . رواه البيهقي في سننه، وقال: إسناده صحيح.
(والثانية) : واختارها القاضي في تعليقه، وأبو الخطاب في خلافه الصغير، وأبو البركات: لا يسن. لأن غالب من وصف وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر أنه مسح رأسه وأذنيه بماء واحد.(1/175)
68 - وصفة مسحهما أنه يدخل سباحتيه في صماخي أذنيه، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، كذلك وصف ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه النسائي.
[تخليل الأصابع في الوضوء]
قال: وتخليل ما بين الأصابع
ش: لا إشكال في مسنونية تخليل أصابع الرجلين.
69 - وفي السنن عن «المستورد بن شداد، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره» . وفي أصابع اليدين (روايتان) أشهرهما - كما اقتضاه كلام الخرقي - يسن لعموم حديث لقيط.
70 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:(1/176)
«إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك» .
(والثانية) : لا يسن. إذ تفريجهما يغني عن تخليلهما، وتخليل أصابع رجليه بخنصره - كما في حديث المستورد - اليسرى، لأنها المعدة لإزالة الوسخ والدرن، ونحو ذلك، من باطن رجله، لأنه أبلغ في التخليل، يبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى، تأسيا بمحبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التيمن، وأصابع يديه إحداهما بالأخرى، والله أعلم.
[غسل الميامن قبل المياسر فى الوضوء]
قال: وغسل الميامن قبل المياسر
ش: أي يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى، وكذلك في الرجلين، وكذلك إذا بدأ بإحدى أذنيه، ونحو ذلك.
71 - لما في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله» ، ولا يجب. قال أحمد: لأن مخرجهما في الكتاب واحد. يعني أن الله تعالى قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] ولم يقل: واليد اليمنى، واليد اليسرى - وشذ(1/177)
الفخر الرازي فحكى في تفسيره عن أحمد الوجوب، وهو منكر، فقد قال ابن عبدوس: هما في حكم اليد الواحدة، حتى أنه يجوز غسل إحداهما بماء الأخرى.
(تنبيه) : ظاهر كلام الخرقي أنه لا يسن مسح العنق، لأنه لم يذكره، وهو الصحيح من الروايتين.
72 - لعدم ثبوت ذلك في الحديث.
وظاهر كلامه أيضا أنه لا يسن غسل داخل العينين، وهو اختيار القاضي في تعليقه والشيخين، نظرا إلى أن الضرر المتوقع كالمتحقق، واستسنه صاحب التلخيص وغيره، بشرط أمن الضرر، وغالي بعضهم فحكى رواية بالوجوب، مخرجة من وجوب ذلك في الغسل، فإن فيه عن أحمد روايتان منصوصتان، المختار منهما عند الشيخين، عدم الوجوب، بل(1/178)
وعدم الاستحباب أيضا، وعلى الروايتين خرج غسلهما من النجاسة، والله أعلم.
قال:
[باب فرض الطهارة]
ش: الفرض والشرط يشتركان في توقف الماهية عليهما، ويفترقان في أن الشرط يكون خارج الماهية، والفرض داخلها، وأيضا فالشرط يجب استصحابه في الماهية، من أولها إلى آخرها، والفرض ينقضي ويأتي غيره، واعتبر ذلك بالطهارة، وغسل الوجه، ونحو ذلك، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى المعنى الأول، فسمى الماء الطاهر، وإزالة الحدث، والنية فروضا، وهي بالمعنى الثاني شرائط.
ومراد الخرقي (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) هنا بالطهارة طهارة الحدث، لا طهارة الخبث والله أعلم.
قال: وفرض الطهارة ماء طاهر
ش: أراد بالماء الطاهر الطاهر غير المضاف، الذي صدر به كتاب الطهارة، وترك التنبيه على ذلك للاستغناء بما تقدم، ولعله دل عليه بقرينة التنكير، وأراد به التنويع، وقد تقدم أن الطهارة لا تكون إلا بالماء الطاهر، والله أعلم.(1/179)
[الاستنجاء بالماء]
قال: وإزالة الحدث
ش: أي الاستنجاء بالماء، أو الأحجار على ما نبين في موضعه - إن شاء الله تعالى - إن وجد منه ما يقتضي ذلك، وقد اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، فروي عنه - وهو اختيار الخرقي والجمهور - أن من شرط صحة الوضوء إزالة ذلك.
73 - لأن في حديث المذي: «يغسل فرجه ثم يتوضأ» و (ثم) للترتيب.
74 - ولأن المنقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن أصحابه الاستنجاء قبل الوضوء وروي عنه - وهو اختيار أبي محمد - لا يشترط ذلك، لأنها نجاسة، فصح الوضوء قبلها، كالنجاسة على سائر البدن، أو على المخرج غير خارجة منه، فإن ذلك محل وفاق، والقاضي في موضع جعل ذلك كالنجاسة على المخرج منه، فعلى هذه الرواية يستفيد مس المصحف، واللبث في المسجد إن كان(1/180)
جنبا، ولبس الخف، والصلاة إذا عجز عن الاستنجاء، أما مع القدرة فيستنجي بحائل، أو ينجيه غيره، بشرطه، أو هو بلا حائل إن قيل: مس الفرج لا ينقض، ثم يصلي.
وحكم التيمم حكم الوضوء، فيصح على هذه الرواية، والحال هذه، اختاره ابن حامد، واختار القاضي، وأبو البركات، وابن حمدان البطلان - بخلاف الوضوء - في التيمم، لأنه مبيح، ولا استباحة قبل الاستنجاء.
وحكم النجاسة على غير المخرج في التيمم، حكمها على المخرج، وعند ابن عقيل - والأشبه عند أبي محمد، وصححه ابن حمدان - الفرق، كما لو كانت على الثوب، والله أعلم.
[النية في الطهارة]
قال: والنية للطهارة
ش: أي لطهارة الأحداث، ولا خلاف عندنا في ذلك، لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] والإخلاص محض النية.
75 - وثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الأعمال بالنيات» وأكد ذلك(1/181)
بقوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» وقوله: «لا عمل إلا بنية» اهـ. والنية في اللغة القصد يقال: نواك الله بخير. أي قصدك به، وفي الشرع: قصد رفع الحدث، أو الطهارة، لما لا يباح إلا بالطهارة، كمس المصحف، والطواف، ونحو ذلك، فأما قصد ما تسن له الطهارة، كقراءة القرآن، والأذان - فقيل: يحصل به رفع الحدث، اختاره أبو حفص، والشيخان وقيل: لا، اختاره ابن حامد والشيرازي، وأبو الخطاب ومحل النية القلب، فالعبرة به دون اللسان، نعم: الأولى عند كثير من المتأخرين الجمع بين القصد والتلفظ والله أعلم.
[غسل الوجه فى الوضوء]
قال: وغسل الوجه
ش: هذا بالإجماع، وبنص كتاب الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] .(1/182)
قال: وهو من منابت شعر الرأس، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، وإلى أصول الأذنين، ويتعاهد المفصل، وهو ما بين اللحية والأذن
ش: حد الوجه طولا من منابت شعر الرأس غالبا - فلا عبرة بالأقرع، الذي ينبت شعره في بعض جبهته، ولا بالأجلح، الذي انحسر شعره عن مقدم رأسه - إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، وعرضا ما بين أصول الأذنين، لأن جميع ذلك تحصل به المواجهة، فدخل تحت الآية الكريمة، وقد دل كلام المصنف على [أن] الأذنين ليسا من الوجه، وسنصرح بذلك إن شاء الله، ودل أيضا على أن البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، وقد أكد ذلك بقوله: ويتعاهد المفصل. ونص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك، لأنه من الوجه في حق الصبي، فكذلك في حق غيره.
تنبيهان:
(أحدهما) : يدخل في الوجه (العذار) وهو الشعر الذي على العظم الناتئ المسامت صماخ الأذن، وما انحط عنه، إلى وتد الأذن (والعارض) وهو النازل عن حد العذار على اللحيين، قال الأصمعي ما جاوز وتد الأذن عارض. (والذقن) وهو مجمع(1/183)
اللحيين، والحاجبان، وأهداب العينين، والشارب، والعنفقة، وفي (الصدغ) - وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار، يحاذي رأس الأذن، وينزل عن رأسها قليلا - (والتحذيف) - وهو الشعر الخارج إلى طرفي اللحيين، في جانبي الوجه، بين النزعة ومنتهى العارض - ثلاثة أوجه: يدخلان، لا يدخلان، واختاره أبو محمد في الكافي وأبو البركات، زاعما أنه ظاهر كلام أحمد، (الثالث) : يدخل التحذيف دون الصدغ، واختاره ابن حامد، وأبو محمد في المغني، ولا يدخل فيه (النزعتان) ، وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس، متصاعدا من جانبي الرأس، عند أبي محمد، ويدخلان عند ابن عقيل، والشيرازي، وحكم ما دخل في الوجه من هذه الشعور وجوب غسلها إن كانت خفيفة، تظهر معها البشرة، مع ما ظهر من البشرة، ووجوب غسل الظاهر منها إن كانت كثيفة، لا تصف البشرة كلحية الرجل سواء، نص عليه أحمد، وقيل في لحية المرأة، وما عدا لحية الرجل: يجب غسل باطنه مطلقا، لندرة كثافة ذلك، فعلى المذهب: إن خف بعض، وكثف بعض فلكل حكمه.
(الثاني) : قد يقال: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب غسل المسترسل من اللحية، وهو إحدى الروايتين، فلا يجب غسل(1/184)
ما خرج منها عن محاذاة محل الفرض، كالنازل من الرأس عنه، (والرواية الثانية) - وهي المذهب عند الأصحاب بلا ريب - يجب غسل المسترسل مطلقا.
76 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم يغسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته، مع الماء» ولأن اللحية تشارك الوجه في معنى التوجه والمواجهة، وخرج ما نزل من الرأس عنه، لعدم مشاركته للرأس في الترأس، ونقل بكر بن محمد، عن أبيه، أنه سأل أحمد أيما أعجب إليك غسل اللحية، أو التخليل؟ فقال: غسلها ليس من السنة، وإن لم يخلل أجزأه، فأخذ من ذلك الخلال أنها لا تغسل مطلقا، فقال: الذي ثبت عن أبي عبد الله، أنه لا يغسلها، وليست من الوجه البتة، وامتنع من ذلك القاضي في تعليقه، والشيخان وغيرهم، فقالوا: معنى قوله: ليس من السنة أي غسل باطنها، [والله أعلم] .
[الفم والأنف من الوجه فى الوضوء]
قال: والفم والأنف من الوجه
ش: يعني فيجب غسلهما مع غسل الوجه، ويعبر عن ذلك(1/185)
بالمضمضة والاستنشاق، والمذهب المشهور الوجوب في الطهارتين الصغرى والكبرى، لأن الله سبحانه [وتعالى] أمر بغسل الوجه، وأطلق.
77 - وفسره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفعله وتعليمه، فمضمض واستنشق، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أخل بذلك، مع اقتصاره على المجزئ، وهو الوضوء مرة مرة، وقوله: «هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به» وفعله إذا خرج بيانا كان حكمه حكم ذلك المبين، وأيضا حديث لقيط بن صبرة المتقدم، وهو يدل من جهة اللازم، وفي رواية لأبي داود فيه: «إذا توضأت فمضمض» .
78 - وللدارقطني عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمضمضة والاستنشاق» . وقد روي مسندا ومرسلا ولأنها في حكم الظاهر، ألا ترى أن وضع الطعام، واللبن، والخمر فيهما لا يوجب فطرا، ولا ينشر حرمة، ولا يوجب حدا، وحصول النجاسة فيهما يوجب غسلهما، وينقض الوضوء بشرطه. (وعنه) الواجب الاستنشاق فقط فيهما.
79 - لأن في الصحيح: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم(1/186)
لينتثر» » وفي لفظ: «من توضأ فليستنشق» وإذا أمر بذلك في الوضوء ففي الغسل أولى. (وعنه) يجبان في الكبرى، لأنه يجب وصول الماء فيها إلى باطن الشعور، ونحو ذلك، ولا يجبان في الصغرى، لأن المأمور به فيها غسل الوجه، والوجه ما تحصل به المواجهة، وليسا كذلك، فأشبها باطن اللحية الكثة (وعنه) يجب الاستنشاق وحده في الوضوء فقط، جمودا على قوله: «من توضأ فليستنشق» (وحيث) قيل بالوجوب، فتركهما أو أحدهما ولو سهوا، لم يصح وضوءه، قاله الجمهور، وقال ابن الزاغوني: إن قيل: إن وجوبهما بالسنة صح مع السهو، وحكى عن أحمد في ذلك روايتين، إحداهما بالكتاب، والثانية بالسنة.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب تقديمهما على سائر الوجه، لأنهما منه، وأنه يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين سائر الأعضاء، كما يجب في الخد ونحوه وهو إحدى الروايتين، قال أبو البركات: - وهي أقيسهما، كبقية أجزائه، والرواية الثانية - واختارها أبو البركات -: لا يجب فلو تركهما ثم صلى أتى بهما، وأعاد الصلاة دون الوضوء، نص عليه أحمد، ومبناه (على) أن وجوبهما بالسنة، والترتيب إنما وجب بدلالة(1/187)
القرآن معتضدا بالسنة، ولم يوجد ذلك فيهما، بل قد وجد في السنة ما يقتضي عدم الوجوب.
80 - فعن المقدام بن معد يكرب قال: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا، ثم تمضمض واستنشق ثلاثا، ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما» . رواه أبو داود، وأحمد وزاد: «وغسل رجليه ثلاثا» والله أعلم.
(تنبيه) :: المضمضة دوران الماء بالفم، والاستنشاق إدخال الماء في الأنف، قال أبو محمد: ولا تجب الإدارة في جميع الفهم ولا الإيصال إلى جميع باطن الأنف، وهو مشعر بوجوب الإدارة والوصول في الجملة، وصرح بذلك الشيرازي، وقال ابن أبي الفتح: المضمضة في اللغة تحريك الماء في الفم، وفي الشرع وضع الماء في فيه، وإن لم يحركه. وليس بشيء، والله أعلم.
[غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء]
قال: وغسل اليدين إلى المرفقين]
ش: هذا بالإجماع، والآية الكريمة، وكلامه شامل لما إذا نبتت(1/188)
له يد أو أصبع زائدة في محل الفرض، فإنه يجب غسلها معه، وهو كذلك فلو كان النابت في العضد، أو المنكب ولم تتميز الأصلية، غسلا معا، وإن تميزت لم يجب غسل ما لم يحاذ محل الفرض، وفيما حاذاه وجهان، الوجوب اختيار القاضي، والشيرازي، وعدمه اختيار ابن حامد وابن عقيل، والشيخين، والله أعلم.
قال: ويدخل المرفقين في الغسل.
81 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه» . رواه الدارقطني وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بيانا للآية الكريمة، إذ (إلى) في الآية الكريمة يجوز أن تكون الغائية، كما هو الغالب فيها، ويجوز أن تكون بمعنى (مع) كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها للمعنى الثاني، أو يقال: اليد تطلق حقيقة إلى المنكب و (إلى) أخرجت ما عدا المرفق اهـ. ومن لا مرفق له يغسل إلى قدر المرفق، في غالب الناس.(1/189)
(تنبيه) : المرفق بكسر الميم وفتح الفاء والعكس لغة، والله أعلم.
[مسح الرأس في الوضوء]
قال: ومسح الرأس
ش: وجوب مسح الرأس في الجملة ثابت بالنص والإجماع، والخلاف في القدر الواجب من ذلك، وعن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك ثلاث روايات، إحداهن - وهي ظاهر كلام الخرقي، والمختار لعامة الأصحاب -: وجوب استيعاب جميع الرأس بالمسح، لأنه سبحانه أمر بمسح الرأس، وبمسح الوجه في التيمم، ثم في التيمم يجب الاستيعاب، فكذلك في مسح الرأس، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح جميع رأسه، وفعله وقع بيانا لكتاب ربه سبحانه.
82 - وما جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه مسح مقدم رأسه، فمحمول على أن ذلك مع العمامة، كما جاء مفسرا في الصحيح، في حديث المغيرة بن شعبة، وموقع الباء - والله أعلم - إلصاق الفعل بالمفعول، إذ المسح إلصاق ماسح بممسوح، فكأنه قيل: ألصقوا المسح برءوسكم أي المسح بالماء، وهذا بخلاف ما لو قيل: امسحوا رءوسكم. فإنه لا يدل على أنه ثم شيء(1/190)
ملصق، كما يقال: مسحت رأس اليتيم. وما قيل: إن الباء للتبعيض. فغير مسلم، دفعا للاشتراك، ولإنكار الأئمة قال أبو بكر عبد العزيز: سألت ابن دريد وابن عرفة عن الباء تبعض؟ فقالا: لا نعرف في اللغة أنها تبعض. وقال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه.
وأما قوله سبحانه وتعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] فمن باب التضمين، والله أعلم، فكأنه قيل: يروى بها عباد الله.
وكذلك قول الشاعر:
شربن بماء البحر
والثانية: الواجب مسح البعض، وقد فهم دليل ذلك مما تقدم، من أن الباء تبعض، ومما روي من أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح البعض.
(وعنه) بل في حق المرأة فقط، واختاره الخلال، وأبو(1/191)
محمد، دفعا للحرج والمشقة عنها، بوجوب مسح الكل.
والرواية الرابعة: الواجب الأكثر، إذ إيجاب الكل قد يفضي إلى الحرج والمشقة غالبا، وأنه منفي شرعا.
فعلى الأولى: يجب مسح الأذنين معه على رواية، واختارها الأكثرون، لأنهما من الرأس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يجب في أخرى، وهي أشهر نقلا: واختارها الخلال، وأبو محمد، وقال الشيرازي: لو مسح وتخلل مواضع يسيرة، عفي عنها للمشقة، وظاهر كلام الأكثرين بخلافه.
وعلى الثانية والثالثة: البعض مقدر بالناصية، قاله القاضي، وعامة من بعده، لكن لا تتعين على المعروف ولابن عقيل احتمال بتعينها، وصرح ابن أبي موسى بعدم تحديد الرواية فقال: وعنه يجب مسح البعض من غير تحديد.
واتفق الجمهور على أنه لا يجزئ مسح الأذنين عن ذلك البعض، وكذلك مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولو كان معقوصا على الرأس، وللقاضي في شرحه الصغير وجه بإجزاء مسح الأذنين عن البعض.
وعلى الرابعة حد الكثير الثلثان، واليسير الثلث، فما دون، قاله القاضي في تعليقه، وأبو الخطاب في خلافه الصغير، وأطلق ذلك جماعة.
وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومسح الرأس. يدخل فيه ولو مسح بأصبع أو بأصبعين وهو الصحيح من الروايتين، ويدخل أيضا ما لو مسح بخرقة أو خشبة، وهو أصح القولين عند أبي البركات، ويدخل أيضا ما إذا وقف تحت مطر ونحوه، قاصدا(1/192)
للطهارة، وأمر يده، لوجود المسح، أما إن لم يمرها، ولم يجر الماء، فإنه لا يجزئه على أشهر القولين، وإن جرى الماء خرج على روايتي غسله كما سيأتي، ولو لم يقصد الطهارة فأصابه ماء فمسح قاصدا لها فإنه يجزئه، على إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي، ومختار أبي البركات، (والثانية) - وبها قطع صاحب التلخيص، وابن عقيل زاعما بأنها تحقيق المذهب - لا يجزئه.
ويخرج من كلامه ما لو وضع يده على رأسه ولم يمرها، فإنه لا يجزئه، لعدم المسح، وبه قطع أبو البركات وغيره، ولأبي محمد فيه احتمال بالإجزاء، وما لو غسل رأسه بدل مسحه، وهو الصحيح من الروايتين، عند أبي البركات، وابن عقيل، نعم: إن أمر يده أجزأه، على المعروف المشهور، وقيد ابن حمدان إجزاء الغسل عن المسح بما إذا نواه به، والله أعلم.
تنبيهات (أحدها) : حد الرأس من المقدم، بحيث لا يسمى وجها، وقد تقدم حد الوجه، وبه يعرف حد الرأس، ومن المؤخر بحيث لا يسمى قفا، والناصية مقدم الرأس، قاله القاضي وغيره.
(الثاني) : الواجب مسح ظاهر الشعر، فلو مسح البشرة لم يجزئه، كما لو غسل باطن اللحية دون أعلاها، نعم لو حلق البعض، فنزل عليه شعر ما لم يحلق أجزأه المسح عليه.
(الثالث) : صفة المسح أن يضع أحد طرفي سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما على مقدم رأسه، ويضع الإبهامين(1/193)
على الصدغين، ثم يمرهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى مقدمه، نص عليه أحمد، وهو المشهور، والمختار.
83 - لحديث عبد الله بن زيد وغيره، وفيه خلاف كثير، أعرضنا عنه اختصارا، والله أعلم.
[غسل الرجلين في الوضوء]
قال: وغسل الرجلين.
84 - ش: للآية الكريمة، فإن جماعة منهم علي، وابن مسعود، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قرءوا: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالنصب، عطفا على المغسول، وهو قوله: {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وقراءة الخفض قيل: عطف على المغسول، والخفض للمجاورة، كما قالوا: جحر ضب خرب. فخرب. خفض بمجاورة(1/194)
الضب، مع أنه صفة للمرفوع، وهو الحجر. وقيل: منه قوله سبحانه وتعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156] (فعظيم) خفض بمجاورة اليوم وهو صفة للعذاب، ورد بأن الإعراب بالمجاورة شاذ، فلا ينبغي حمل الكتاب العزيز عليه.
وقيل: بل المعطوف على الممسوح، ثم قيل: المراد مسح الخفين. وعلى قراءة النصب غسل الرجلين، تكثيرا لمعنى الآية الكريمة، وقيل: بل أطلق المسح وأريد خفيف الغسل، فمعنى القراءتين واحد، وهو أولى، إذ الأصل توافق القراءتين، ويشهد لذلك ما قاله أبو علي الفارسي، فإنه قال: العرب تسمي خفيف الغسل مسحا، يقولون: تمسحت للصلاة، أي توضأت لها، ونحوه قال أبو زيد وغيره، وخصت الأرجل بذلك - والله أعلم - دون بقية الأعضاء لأنها تقصد بصب الماء كثيرا، فهي مظنة الإسراف المنهي عنه، فلذلك عطف على الممسوح، تنبيها على الاقتصاد في صب الماء، وقيل: (إلى الكعبين) ليزول وهم من يظنها ممسوحة، إذ المسح لم يحدد في كتاب الله عز وجل، بخلاف الغسل. ويؤيد أن المراد من الآية الغسل بيان من له البيان، وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/195)
85 - فإن الواصفين لوضوئه - كعثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد، وغيرهم - أخبروا أنه غسل رجليه.
86 - وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: «تخلف عنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأدركنا وقد أرهقنا العصر - ويروى: أرهقتنا العصر. فجعلنا نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين، أو ثلاثا» .
87 - وفي مسلم «عن عمرو بن عبسة قال: قلت يا نبي الله حدثني عن الوضوء. قال: «ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه، وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى: فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه» وفي رواية أحمد - رحمه(1/196)
الله - وابن خزيمة في صحيحه، كما أمر الله تعالى بعد غسل الرجلين.
88 - على أن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على غسل القدمين.
(تنبيه) : «أرهقنا العصر» أخرناها عن وقتها، حتى كدنا نغشها، ونلحقها بالصلاة التي بعدها، «وأرهقتنا العصر» أي قاربتنا العصر. والله أعلم.
قال: إلى الكعبين
ش: أي حد الغسل إلى الكعبين، وهذا يوهم أنه لا يجب إدخالهما في الغسل، وليس كذلك، بل حكمهما حكم اليدين، وقد قيل: إن الرجل من أصل الفخذ إلى القدم، وكأن الخرقي إنما ترك التنبيه على ذلك، اكتفاء بما تقدم له في اليد، والله أعلم.
قال: وهما العظمان الناتئان.
89 - ش: أي الكعبين هما العظمان الناتئان، إذ في الحديث أن الصحابة كان أحدهم يلصق كعبه بكعب من إلى جنبه في الصلاة، والله أعلم.(1/197)
قال: ويأتي بالطهارة عضوا بعد عضو، كما أمر الله تعالى
ش: أي يبدأ بغسل الوجه، ثم اليدين، ثم يمسح الرأس، ثم يغسل الرجلين، وهذا هو المذهب بلا ريب، للآية الكريمة، فإنه سبحانه وتعالى أدخل ممسوحا بين مغسولين، وقطع النظير عن نظيره، أما على قراءة النصب فواضح، وكذلك على قراءة الخفض، لأن مع تأخير الرجلين أدخلا في حيز المسح، وأريد به الغسل، ولا يقطع النظير عن نظيره، ويفصل بين الأمثال في الكلام العربي، إلا لفائدة، والفائدة هنا - والله أعلم - الترتيب.
90 - على أنه قد روى النسائي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دنا من الصفا قال: «ابدءوا بما بدأ الله به» » بصيغة الأمر، وظاهر الأمر البداءة بكل ما بدأ الله به، وأيضا فإن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بيانا للآية(1/198)
الكريمة، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه توضأ إلا مرتبا، ولو جاز عدم الترتيب لفعله ولو مرة، تبيينا للجواز، وقد توضأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة مرة، على عادة وضوئه، وقال: «هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به» وهذا كله على المذهب، من أن الواو ليست للترتيب، كما هو المذهب، أما إن قلنا إنها له - على رواية - فواضح، فعلى هذا لو بدأ بشيء من الأعضاء الأربعة قبل غسل وجهه لم يحسب له، نعم: إن توضأ منكسا أربع مرات، صح وضوءه إن قرب الزمن، لأنه حصل له من كل مرة غسل عضو اهـ.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية تقدمت باغتفار الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، وبين بقية أعضاء الوضوء، فأخذ منها أبو الخطاب - في انتصاره، وابن عقيل في فصوله - رواية بعدم وجوب الترتيب رأسا، وتبعهما بعض المتأخرين، منهم أبو البركات في محرره، وغيره، وأبي ذلك عامة الأصحاب، متقدمهم ومتأخرهم، ومنهم أبو محمد، وأبو البركات في شرحه.
واعلم أن الواجب عندنا الترتيب، لا عدم التنكيس، فلو(1/199)
وضأه أربعة في حالة واحدة لم يجزئه، ولو انغمس في ماء جار، ينوي رفع الحدث، فمرت عليه أربع جريات، أجزأه إن مسح رأسه، أو قيل بإجزاء الغسل عن المسح ولو لم يمر عليه إلا جرية واحدة لم يجزئه، ولو كان انغماسه في ماء كثير راكد فمنصوصه - وبه قطع ابن عقيل، وأبو محمد - أنه إن أخرج وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم خرج من الماء أجزأه، مراعاة للترتيب، إذ الحدث إنما يرتفع بارتفاع الماء، عن العضو، وقيل - وقواه أبو البركات -: إن مكث فيه قدرا يتسع للترتيب، وقلنا: يجزئ غسل الرأس عن مسحه، أو مسحه ثم مكث برجليه قدرا يسع غسلهما أجزأه.
(تنبيه) : لم ينص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الموالاة فقيل: ظاهر كلامه أنها لا تجب. وإلا لم يهملها، وهو رواية حنبل عن أحمد.
91 - اقتداء بابن عمر، فإنه روي عنه أنه توضأ في المسجد، أو في السوق، فأعوز الماء، فأكمله في البيت.
وقيل: بل ظاهره الوجوب، لقوله في مسح الخفين: فإن خلع قبل ذلك، أعاد الوضوء. ولو لم تجب لكفاه غسل القدمين، إذ قوة كلامه أن الخلع بعد مدة، وهذا رواية الجماعة عن أحمد، وعليها الأصحاب، لظاهر الآية الكريمة إذ قوله(1/200)
سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إلى آخرها يقتضي الفورية على قاعدتنا، ثم (إذ قمتم إلى الصلاة) شرط و (فاغسلوا) جوابه، [وإذا وجد الشرط، وهو القيام وجب أن لا يتأخر عنه جوابه] وهو غسل الأعضاء الأربعة.
92 - وعن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه رأى رجلا يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوضوء والصلاة» . رواه أبو داود، وأحمد وجود إسناده، ولم يستفصله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل فرط أم لا؟ ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه أنه توضأ إلا مرتبا متواليا، وفعله - كما تقدم - خرج بيانا للآية الكريمة.
وفي المذهب قول ثالث، اختاره أبو العباس، وزعم أنه الأشبه بأصول الشريعة. وأصول أحمد، اعتمادا على قوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .(1/201)
93 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والتارك لعذر قد فعل ما استطاع، ونظرا إلى أن التتابع في صوم شهري الكفارة واجب بالنص والإجماع ثم لو تركه لعذر لم ينقطع، وكذلك الموالاة في قراءة الفاتحة، ثم لو تركها (ولو) كثيرا - لاستماع قراءة [الإمام] ونحو ذلك أتمها، وكذلك الموالاة في الطواف والسعي، لا تبطل بفعل المكتوبة، وصلاة الجنازة، وطرد ذلك هنا أنه لو أنقذ غريقا، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك في أثناء الوضوء، لم يضره وإن طال، وكذلك الصلاة تجب الموالاة فيها، بحيث لا يفرق بين أبعاضها بما ينافيها، ثم لو فرق لضرورة لم يضره.
94 - كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر في صلاة الخوف: أن الطائفة الأولى تذهب بعد صلاة ركعة، وجاه العدو، ثم ترجع إلى صلاتها بعد أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية، وتذهب جهة العدو، وكذلك من سبقه الحدث، يتوضأ ويبني، على أحد القولين، ما لم يبطل صلاته بكلام عمد ونحوه.
95 - ثم ما وقع للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ذي اليدين، من الكلام، والقيام والمشي، إلى غير ذلك، ومثله يبطل الصلاة لولا العذر.(1/202)
وأجاب عن حديث خالد بن معدان بأن أمره بالإعادة كان لتفريطه، وهو عدم معاهدته الوضوء، ثم طرد ذلك في الترتيب، وقال: لو قيل بسقوطه للعذر، كما إذا ترك غسل وجهه فقط لمرض ونحوه، ثم زال قبل انتقاض وضوئه فغسله لتوجه اهـ.
فعلى الأولى: لا أثر للتفريق، لكن يحتاج إلى استئناف نية، قاله ابن عقيل، وأبو البركات، معللين بأن النية الحكمية تبطل بالفصل الطويل، كما تبطل به قبل الشروع.
وعلى الثانية: المؤثر تفريق يفحش عادة، في رواية حكاها ابن عقيل، إذ ما لا حد له في الشرع، المرجع فيه إلى ذلك، كالحرز، والقبض، والمشهور عند الأصحاب: المؤثر أن يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. زاد أبو البركات: أو أخر عضوا عن أوله إلى أن ينشف أوله اهـ في الزمن المعتدل شتاء وصيفا، وهواء أو قدر ذلك، ولعل هذا أضبط للعرف المتقدم، فيتحد القولان، وحكى ابن عقيل وجها أن المؤثر بنشاف عضو (ما) فلو نشف وجهه قبل غسل رجليه بطل وضوءه، (ويستثنى) مما تقدم ما إذا كان الجفاف لسنة، من تخليل أو إسباغ، أو إزالة شك، ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر،(1/203)
فلو كان لعبث، أو إسراف، أو زيادة على الثلاث أثر، وكذلك إن كان لإزالة وسخ لغير طهارة، وإن كان لوسوسة، أو إزالة نجاسة: فوجهان، وإن كان لعوز الماء، أو للاشتغال بتحصيله أثر، وعنه متى كان في علاج الوضوء فلا بأس والله أعلم.
[عدد مرات الوضوء]
قال: والوضوء مرة مرة يجزئ، والثلاث أفضل
ش: المرة هي التي عمت المحل بالغسل، ولا إشكال في الاجتزاء بها.
96 - لما صح أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثا ثلاثا.
97 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة مرة، ثم قال: «هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلا به» ، ثم(1/204)
توضأ مرتين مرتين، ثم قال: «هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرتين» ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» رواه البيهقي في السنن، وفي رواية: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» .
98 - ولابن ماجه نحوه عن أبي بن كعب.
والثلاث أفضل بلا ريب، لأنه الذي واظب عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه.
واقتصار المصنف على الثلاث يقتضي أنه لا يستحب الزيادة على ذلك ولا إشكال فيه، وقد صرح بعضهم بالكراهة.
99 - لأن في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء» رواه أبو داود، وهذا لفظه، ورواه أحمد , والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وفي(1/205)
رواية لأحمد، والنسائي مختصرا: «فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى، وظلم» وليس في رواية أحد منهم «أو نقص» غير أبي داود، وقد تكلم فيه مسلم وغيره، وأوله البيهقي على نقصان العضو، قال الذهبي: وكذلك ينبغي أن تفسر الزيادة والله أعلم.
[صلاة الفريضة بوضوء النافلة]
قال: وإذا توضأ لنافلة، صلى بها فريضة
ش: هذا يلتفت إلى ما تقدم من أن النية في الاصطلاح الشرعي هي قصد رفع الحدث، أو استباحة ما لا يباح إلا بالطهارة، والنافلة لا تباح إلا بالطهارة، والله أعلم.
[قراءة القرآن للجنب والحائض والنفساء]
قال: ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء.
100 - ش: لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي حاجته، ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم، ولا(1/206)
يحجبه. وربما قال: ولا يحجزه شيء من القرآن ليس الجنابة» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي.
101 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن» رواه أبو داود وحكم(1/207)
النفساء حكم الحائض إذ دم النفاس هو دم الحيض «حقيقة» .
102 - مع أنه قد روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئا» رواه الدارقطني.
وقول الخرقي: القرآن. الألف واللام للجنس، فيتناول القليل والكثير، وهو إحدى الروايات، واختارها أبو البركات، لظواهر النصوص المتقدمة، (وعنه) : يجوز لهم قراءة بعض آية، كما لو لم يقصد بذلك القرآن، (وعنه) : تجوز قراءة الآية ونحوها حكاها الخطابي وأشار إليها في التلخيص فقال: وقيل: يتخرج من تصحيح خطبة الجنب جواز قراءة الآية مع اشتراطها، ويستثنى من ذلك قول: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تبركا، وعلى الغسل والوضوء، والذبيحة، ونحو ذلك، و (الحمد لله رب العالمين) عند تجدد نعمة ونحوه، بشرط عدم قصد القراءة، نص عليه، وهذا يخرج من كلام الخرقي - رحمه(1/208)
الله - لانتفاء القراءة والحال هذه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الجنب والحائض، والنفساء، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب، ومن تبعه يقول: ومن لزمه الغسل. فيدخل في كلامهم الكافر إذا أسلم، على المذهب من: لزوم الغسل له. والله أعلم.
[لا يمس المصحف إلا طاهر]
قال: ولا يمس المصحف إلا طاهر (والله أعلم) .
103 - ش: لما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر - وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم - أن في الكتاب الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» وكذلك رواه أحمد، وأبو داود مرسلا، ورواه النسائي، والدارقطني، من رواية الزهري، عن أبي بكر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/209)
104 - وعن ابن عمر أنه قال: لا يمس المصحف إلا على طهارة. احتج به أحمد [واستدل] بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] على أن المراد بالكتاب المصحف بعينه وأن {لَا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] خبر بمعنى النهي، أو أنه نهي علي بابه، وحرك بالضم لالتقاء الساكنين، ورد بأن المشهور عن السلف، وأهل التفسير أن الكتاب اللوح المحفوظ، وأن {الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] الملائكة، ويؤيده الآية الأخرى: {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ - فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ - فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ - مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ - بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16] وأيضا الإخبار بأنه: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] أي مصون، لا تناله أيدي الضالين، وهذه صفة اللوح المحفوظ وأيضا: {الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] من طهرهم غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم لقيل: المتطهرون. كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ويمكن توجيه الاستدلال بالآية على وجه آخر، وهو أن يقال: القرآن الذي في اللوح المحفوظ هو الذي في المصحف، وإذا كان من حكم الذي في السماء أن {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فكذلك الذي في الأرض، لأنه هو هو.(1/210)
وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يمس. يشمل مسه بيده، وسائر جسده، ويقتضي أن له حمله بعلاقته، أو بحائل له، منفصل عنه، ولا يتبعه في البيع كعلاقة، أو بحائل تابع للحامل، كحمله في كمه، أو ثوبه، أو تصفحه بعود، ونحو ذلك، وهو المشهور من المذهب، قطع به أبو الخطاب، وابن عبدوس، وصاحب التلخيص، واختاره القاضي وأبو محمد، اعتمادا على مفهوم الحديث (وعنه) : المنع من تصفحه بكمه، وخرجه القاضي والمجد إلى بقية الحوائل، وأبى ذلك طائفة منهم أبو محمد في المغني مشيرا إلى الفرق، بأن كمه وثيابه متصلة به، أشبهت أعضاءه.
ويقتضي أيضا أن له الكتابة من غير مس، وبه جزم أبو محمد، وقيل: بل هو كالتقليب بالعود، وقيل: لا يجوز وإن جاز التقليب. ولأبي البركات احتمال بالجواز للمحدث دون الجنب، ومحل الخلاف إذا لم يحمله، على مقتضى ما في التلخيص، والرعاية.
وقوله: مصحف. المصحف معروف، مثلث الميم، وهو شامل لما يسمى مصحفا من الكتاب، والجلد، والحاشية، والورق الأبيض المتصل به، ويخرج منه: كتب الفقه والتفسير والإعراب، ورسالة فيها قرآن، ونحو ذلك، وهو المذهب، نظرا لمفهوم الحديث.(1/211)
105 - وفي الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى هرقل: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، وفيه و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية إلى {مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] » وحكى القاضي وغيره رواية بالمنع، ويخرج منه المنسوخ، وهو المشهور من الوجهين، وكذلك مس الأحاديث المأثورة عن الرب سبحانه وتعالى.
ويستثنى من مفهوم كلامه: إذا كتب بعض القرآن مفردا عن تفسير وغيره، فإنه لا يجوز مسه، وإن لم يسم مصحفا، نعم في مس الصبيان ألواحهم - قيل: والمصحف، ومس الدراهم المكتوب عليها القرآن، وثوب طرز به - قولان، ظاهر كلامه الجواز.
وقوله: إلا طاهر. يعني من الحدثين الأكبر والأصغر، أما طهارة الخبث فلا يشترط انتفاؤها، نعم العضو المتنجس يمنع من المس (به) على المذهب، وقد يدخل في كلامه طهارة التيمم، وقد يخرج، وبالجملة يجوز المس بها، وإن لم يكن (به) حاجة إلى ذلك، على المقدم.
ويخرج من كلامه الذمي، لانتفاء الطهارة منه، بل وعدم تصورها، وهو كذلك، نعم له نسخه بدون حمل ومس، على ما قاله القاضي في تعليقه وغيره، وقال أبو بكر (إنه) لا يختلف قوله في ذلك، وقد ذكر أحمد أن نصارى الحيرة كانوا يكتبون المصاحف، لقلة من كان يكتبها، قيل له:(1/212)
يعجبك هذا؟ قال: لا يعجبني. فأخذ من ذلك ابن حمدان - والله أعلم - رواية بالمنع، وقال القاضي في تعليقه: يمكن (حملها) على أنهم حملوا المصاحف في حال كتابتها.
ويخرج من كلامه أيضا إذا طهر بعض عضو، فإنه لا يجوز المس به، لأن الماس غير طاهر على المذهب، والله أعلم.
[باب الاستطابة والحدث]
قال:
باب الاستطابة والحدث
ش: أي (هذا) باب حكم الاستطابة، وحكم الحدث، فحكم الاستطابة: كيف يستطيب بالماء أو بالحجر؟ وأي حجر يستطيب به، ونحو ذلك، وحكم الحدث الذي يوجب الاستنجاء، والذي لا يوجبه.
(والاستطابة) تكون بالحجر وبالماء، سميت بذلك لأنه يطيب جسده بخروج ذلك. والله أعلم.
[ما يكون منه الاستنجاء]
قال: وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء
ش: المعروف في المذهب أنه لا يجب من الريح استنجاء.
106 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من استنجى من الريح فليس منا» رواه الطبراني، وإذا لم يجب من الريح، فمن النوم الذي هو مظنته أولى، [والله أعلم] .(1/213)
قال: والاستنجاء لما يخرج من السبيلين
ش: أي ما عدا الريح، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: والاستنجاء واجب أو ثابت، أو يثبت أو يجب، لما يخرج من السبيلين، وهما طريقا البول والغائط.
107 - والأصل في وجوب الاستنجاء [في الجملة] ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه» رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والدارقطني، وقال إسناد حسن صحيح. والإجزاء غالبا إنما يستعمل في الواجب.
108 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» رواه الجماعة، وفي رواية للبخاري: «وما يعذبان في كبير» ثم قال: «بلى، كان أحدهما» .
وقد شمل كلام الخرقي النادر، والمعتاد، والطاهر،(1/214)
والنجس، وهو ظاهر كلام الأصحاب، وخالفهم أبو البركات فقال: لا يجب من الطاهر، كالمنى على المذهب، والدواء الذي تحملت به المرأة، إن قيل بطهارة فرجها، والمذي على رواية، (وشمل) أيضا الرطب واليابس، حتى لو أدخل ميلا في ذكره، ثم أخرجه، وجب عليه الاستنجاء وهو المشهور، ربطا للحكم بالمظنة، وهي استصحاب الرطوبة، وقال في المغني: القياس أنه لا يجب من يابس لا يلوث المحل، وحكى ابن تميم ذلك وجها.
(تنبيه) : «لا يستنزه» أي لا يطلب البعد من البول، والمادة - كما تقدم - للبعد وهو معنى الرواية الأخرى: «لا يستبرئ» أي لا يتبرأ من البول، أي (لا) يتباعد منه، أما رواية: «لا يستتر» فمن الاستتار، أي لا يبالي بكشف عورته، ويحتمل أنه من المعنى الأول، أي لا يجعل بينه وبين بوله سترة، حتى يتحفظ منه، (والنميمة) من: نم الحديث ينمه وينمه، بكسر النون وضمها، نما. إذا نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض، على جهة الإفساد بينهم، وعرفها بعضهم بأنها المقالة التي ترفع عن قائلها، ليضربها قائلها في دينه، أو نفسه، أو ماله، وهذا التعريف أشمل، لدخول إفشاء السر فيه، ثم قوله: ترفع عن قائلها. يعم كل ما يحصل به الرفع، ولو بكتابة، أو رمز، ونحو ذلك.
وهي كبيرة عندنا على الأشهر، وكيف لا. وقد جعلها(1/215)
الله تعالى صفة لمن اعتدى وكذب، فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ - هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11] الآيات.
109 - وأخبر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن فاعلها لا ينظر الله تعالى إليه، ولا يدخله الجنة فقال: «لا ينظر الله إلى ذي الوجهين» .
110 - وفي الصحيحين: «لا يدخل الجنة قتات» » أي نمام، كما جاء في رواية أخرى.
111 - ولقد أجاد كعب الأحبار، وقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أي شيء في التوراة أعظم إثما؟ قال: النميمة. فقال عمر: هي أقبح من القتل؟ فقال: وهل يولد [القتل] وسائر الشرور إلا من النميمة؟ قلت: ومصداق ذلك في الكتاب العزيز(1/216)
قَوْله تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] وهذا كله إذا تضمنت مفسدة، أما إذا كان فيها مصلحة شرعية، فلا منع فيها، بل ربما وجبت، كما إذا عزم إنسان على قتل إنسان، ونحو ذلك، وعلم ذلك منه، بجور منه، فإنه ينم (عليه) والحال هذه، وكذلك من سعى في الأرض بالفساد، فإنه يخبر به من له ولاية، ونحو ذلك، قال بعضهم: يجوز إذا كان القائل للمقالة ظالما، وللمقول له فيها تحذيرا ونصحا، ولا ريب أن المرجع في ذلك (إلى) المقاصد، قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] والله أعلم.
[ما يكون به الاستنجاء]
قال: فإن لم يعد مخرجهما أجزأه ثلاثة أحجار، إذا أنقى بهن، فإن أنقى بدون الثلاثة لم يجزه حتى يأتي بالعدد، فإن لم ينق بثلاثة أحجار زاد حتى ينقي
ش: إذا لم يتجاوز الخارج مخرج البول - وهو ثقب الذكر - ومخرج الغائط - وهو ثقب الدبر - أجزأه الاستجمار بالحجر، ثم المشترط شيئان: (أحدهما) : العدد، وهو ثلاثة أحجار، لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.(1/217)
112 - «وقيل لسلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة. قال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أبو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم» . أخرجه مسلم وغيره.
113 - وما في سنن أبي داود عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» » محمول إن صح على ما زاد على الثلاثة، جمعا بين الأدلة، لأن رواية الصحيحين «من استجمر فليوتر» (والثاني) : الإنقاء إجماعا، وصفته أن يعود الحجر الآخر ولا شيء عليه، أو عليه شيء لا يزيله إلا الماء، فعلى(1/218)
هذا إن أنقى بثلاثة، فقد حصل الشرطان، وإن أنقى بدون الثلاثة أتى ببقيتها، تحصيلا لشرط العدد، وإن لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي، تحصيلا لشرط الإنقاء، ويستحب أن يقطع على وتر، لما تقدم من الحديث.
وقول الخرقي: فإن لم يعد مخرجهما. يحتمل أن يريد المخرج المعتاد وإذا لا يكون في كلامه تعرض لما [إذا] انسد المخرج، وانفتح غيره، ويحتمل أن يريد أعم من ذلك، فيدخل ذلك، وبالجملة ففي المسألة وجهان، الإجزاء، وهو قول القاضي، والشيرازي، وعدمه، وهو قول ابن حامد، واختيار أبي محمد وحينئذ يتعين الماء، وسواء انفتح فوق المعدة أو تحتها، صرح بذلك الشيرازي، وقيد أبو البركات، المسألة - تبعا لابن عقيل - بما إذا انفتح أسفل المعدة، قال ابن تميم: ظاهر كلام [بعض] الأصحاب إجزاء الوجهين مع بقاء المخرج أيضا، اهـ.
وقوة قوله: أجزأه ثلاثة أحجار. يفهم أن الماء أفضل، وهو المشهور، والمختار من الروايات، لزوال الجسم والأثر، ولهذا طهر المحل، والحجر لا يزيل الأثر ومن ثم لم يطهر على الأشهر، (والثانية) - واختارها ابن حامد -: الحجر أفضل لإجزائه إجماعا.
113 - م - وعمل السلف عليه، ولهذا أنكر الماء طائفة منهم،(1/219)
(والثالثة) : يكره الاقتصار على الماء، حذارا من مباشرة النجاسة، مع عدم الحاجة إلى ذلك، وبكل حال جمعهما أفضل.
114 - لما روت معاذة «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم منه، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله» . رواه الترمذي، والنسائي.
115 - وعن «عويم بن ساعدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاهم في مسجد قباء، فقال: «إن الله [تعالى قد] أحسن عليكم الثناء في الطهور، في قصة مسجد قباء، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟» قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، يغسلون أدبارهم، فنغسلها كما(1/220)
غسلوها» . رواه أحمد، وابن خزيمة في صحيحه، وظاهر كلام ابن أبي موسى أن الجمع في محل الغائط فقط، ويستثنى من قول الخرقي ما إذا خرجت أجزاء الحقنة فإن الحجر لا يجزئ في ذلك، قاله ابن عقيل.(1/221)
[تنبيهان حول الاستنجاء]
(تنبيهان) : «أحدهما» : قال الشيخان وغيرهما: كيفما حصل الإنقاء جاز، إلا أن المستحب في الدبر - كما قال القاضي وغيره - أن يمر الأول من صفحته اليمنى، إلى مؤخرها، ثم يديره على اليسرى، حتى يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم اليسرى كذلك، ثم يمر بالثالث على المسربة والصفحتين، فإن أفرد كل جهة بحجر فوجهان، (الاجزاء) ، وهو رواية، حكاها ابن الزاغوني.
116 - لما روى سهل بن سعد عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن الاستطابة، فقال: «أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحة، وحجرا للمسربة» رواه الدارقطني وحسن إسناده. (وعدمه) قاله أبو(1/222)
جعفر، وابن عقيل، لأنه تلفيق لا تكرار، أما في القبل فيأخذ ذكره بشماله، ويمسحه بالأرض، أو بالحجر ونحوهما، فإن كان الحجر صغيرا، ولم يمكنه أن يجعله بين عقبيه، أو بين أصابعه، فهل يمسكه بيمينه، ويمسح بشماله، أو بالعكس، فيه وجهان، أصحهما الأول.
117 - لئلا يدخل تحت: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه» والأفضل أن يبدأ الرجل بالقبل، وتخير المرأة، في وجه قطع به ابن عقيل، وأبو محمد، وتبدأ بالدبر في آخر، قطع به الشيرازي وابن عبدوس.
(الثاني) : الخراءة بكسر الخاء، ممدود مهموز، اسم فعل الحدث، وأما الحدث نفسه فبغير تاء، ممدود، مع فتح الخاء وكسرها، قاله القرطبي، وقال الجوهري:
خرئ خراءة مثل كره كراهة. فجعل الحدث بالفتح والمد، «والغائط» المكان المطمئن من الأرض، سمي الخارج به، تسمية للحال باسم المحل، لكثرة قصد ذلك «والرجيع» الروث والعذرة، سمي رجيعا لرجوعه عن حاله الأولى، بعد أن كان(1/223)
طعاما أو علفا، وكل شيء من قول أو فعل رد فهو رجيع، إذ معناه: مرجوع أي مردود وقيل: المراد بالرجيع هنا الحجر الذي قد استنجي به، و «أجل» أي نعم، قال الأخفش: إلا أنه أحسن من «نعم» في الخبر، و «نعم» أحسن منه في الاستفهام، و «المسربة» بفتح الراء وضمها - مجري الغائط، مأخوذ من: سرب الماء. والله أعلم.
[الاستنجاء بالخشب والخرق وكل ما أنقى]
قال: والخشب والخرق وكل ما أنقى به فهو كالأحجار
ش: هذا هو المشهور، والمختار من [الروايتين] .
118 - لما روى خزيمة بن ثابت قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاستطابة فقال: «بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع» فلولا أن اسم الأحجار يعم الجوامد لم يكن لاستثناء الرجيع معنى، وإنما خص الحجر - والله أعلم - بالذكر لأنه أعم الجامدات وجودا، وأسهلها تناولا.
119 - وقد روي عن طاوس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم البراز، فليذهب معه بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب، ثم ليقل: الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأمسك علي ما ينفعني» رواه الدارقطني، والبيهقي، موقوفا ومرفوعا، وقال: الموقوف أرجح.(1/224)
120 - وعن مولى عمر، قال: كان عمر إذا بال قال: ناولني شيئا أستنجي به. فأناوله العود، والحجر، أو يأتي حائطا يتمسح به، أو يمسه الأرض، ولم يكن يغسله. رواه البيهقي وقال: إنه أصح ما في الباب وأعلاه. (والثانية) واختارها أبو بكر: تتعين الأحجار، جمودا على ظواهر النص.
تنبيهان: (أحدهما) : إذا استجمر بجلد سمك أو مذكى، فحكى ابن عقيل عن الأصحاب أنهم خرجوه على الروايتين، قال: ويحتمل عندي المنع مطلقا، لأنه مطعوم، والأصحاب غفلوا عن هذه الخصيصة. قلت: لم يغفلوا عن ذلك، بل قد قطع ابن أبي موسى بالمنع، معللا بأنه طعام.(1/225)
121 - وروى أبو داود والنسائي، والترمذي واللفظ له، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن» » ، وإذا نهينا عن الاستنجاء بطعام الجن، فبطعامنا أولى.
(الثاني) : «البراز» بفتح الباء: موضع قضاء الحاجة، وفي الأصل: الفضاء الواسع من الأرض، وأكثر الرواة يروونه بكسر الباء، وهو غلط [والله أعلم] .
[الاستنجاء بالرجيع والعظم والطعام]
قال: إلا الروث، والعظام، والطعام.
ش: هذا استثناء من كل ما أنقى، وقد تقدم حديث سلمان في النهي عن الاستنجاء بالرجيع، والعظم.
واعلم أنه يشترط في المستجمر به شروط:
(أحدها) : أن يكون جامدا؛ لأن المائع إن كان ماء فهو استنجاء وليس باستجمار، وإن كان [غير] ماء لم يجز كما تقدم.
(الثاني) : أن يكون طاهرا، لما تقدم من حديث سلمان وغيره.(1/226)
122 - «وعن ابن مسعود قال: أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: «إنها ركس» رواه البخاري وغيره، والركس النجس.
(الثالث) : أن يكون منقيا، فلا يجوز بالفحم الرخو، ولا بالزجاج ونحوه، إذ المقصود الإنقاء، ولم يحصل.
(الرابع) : أن لا يكون محترما، فلا يجوز بطعامنا، ولا بطعام دوابنا، وكذلك طعام الجن ودوابهم، وكذلك كتب الفقه والحديث، وما فيه اسم الله تعالى، ونحو ذلك، وتجل الكتب المنزلة أن تذكر إذا، وما اتصل بحيوان، كذنبه وصوفه، ونحو ذلك.
(الخامس) : أن لا يكون محرما، فلا يجوز بمغصوب ونحوه، وهذا الشرط قد أهمله المصنف، (والأربعة) الباقية قد(1/227)
تؤخذ من كلامه، (أما) الجامد فلتمثيله بالخشب والخرق، (وأما) المنقي فلقوله: وكل ما أنقى [به] (وأما) الطاهر فلأنه استثنى الروث والعظام، وذلك شامل للطاهر منهما والنجس، فيلحق بالنجس منهما كل نجس، (وأما) المحترم فلأنه منع من الطعام، وغيره في معناه، ومتى خالف واستجمر بما نهي عنه، لم يجزئه على المذهب، لارتكابه النهي.
123 - وفي الدارقطني وصححه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: «إنهما لا يطهران» » وخرج بعضهم الإجزاء في الحجر المغصوب ونحوه من رواية صحة الصلاة في بقعة غصب ونحوها، ورد بأن الاستجمار رخصة، والرخص لا تستباح على وجه محرم.
واختار أبو العباس في قواعده الإجزاء في ذلك، وفي المطعوم ونحوه، ومن مذهبه زوال النجاسة بغير الماء من المزيلات، كماء الورد ونحوه، نظرا إلى أن إزالة النجاسة من باب التروك المطلوب عدمها، ولهذا لا يشترط لزوالها قصد، حتى لو زالت بالمطر ونحوه، أو بفعل مجنون، حصل المقصود، والنهي تأثيره في العبادات، إذ القصد المتقرب به إلى الله سبحانه [وتعالى] لا يكون على وجه محرم. (قلت) :(1/228)
وهذا جيد إن لم يصح ما رواه الدارقطني، أما مع صحته - وقد قال: إن إسناده صحيح. - فمردود.
وحيث قيل بعدم الإجزاء فإنه يتعين الماء في الشرط الأول، وهو ما إذا استجمر بمائع غير الماء، وكذلك في الثاني، على ما قطع به أبو البركات، وأبو محمد في الكافي، وفي المغني احتمال بإجزاء الحجر، وهو وهم، وفي الثالث: يعدل إلى حجر منق، وفي الرابع والخامس: هل يجزئه الحجر جعلا لوجود آلة النهي كعدمها، أو يعدل إلى الماء، لعدم فائدة الحجر إذا لنقاء المحل، وإذا يتعين الماء، نظرا «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الروث والعظم: «إنهما لا يطهران؟» فيه وجهان [والله أعلم] .
(تنبيه) : الروث للدواب - قاله أبو عبيد - كالعذرة للآدميين، والركس قال أبو عبيد: شبيه بالرجيع، يقال: ركسه وأركسه. إذا ردده، وقوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] أي ردهم إلى حكم الكفار. [والله أعلم] .(1/229)
قال: والحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام الثلاثة الأحجار.
ش: هذا هو المشهور، المعمول به من الروايتين، إذ الشعب الثلاثة يحصل بها ما يحصل بالأحجار، من كل وجه، فلا معنى للجمود على التعداد.
124 - وقد روى البيهقي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا» » ولأحمد عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات» » . (والرواية الثانية) - واختارها أبو بكر، والشيرازي - لا بد من تعداد الأحجار، جمودا على عامة النصوص الصحيحة، وعلى هذه: لو كسر ما تنجس من الحجر، أو غسله ثم استجمر به، أو استجمر بثلاثة أحجار ذي شعب، أو مسح بالأرض أو بالحائط [في] ثلاثة مواضع، فوجهان في الجميع، الصحيح منهما الإجزاء [والله أعلم] .(1/230)
قال: وما عدا المخرج فلا يجزئ فيه إلا الماء.
ش: قد تقدم أن من شرط الاستجمار بالحجر] أن لا يتجاوز الخارج المخرج، أما إن تجاوز الخارج المخرج فلا يجزئ فيه إلا الماء، لأن الأصل وجوب إزالة النجاسة بالماء، رخص في الاستجمار لتكرر النجاسة على المخرج، دفعا لمشقة تكرار الغسل، فإذا جاوزت المخرج، خرجت عن حد الرخصة، فغسلت كسائر المحال.
وإطلاق الخرقي يقتضي غسل ما جاوز المخرج مطلقا، وهو ظاهر كلام بعضهم، قال ابن عقيل والشيرازي: لا يستجمر في غير المخرج. قال في الفصول: وحد المخرج نفس الثقب، واغتفر الشيخان، وصاحب التلخيص، والسامري، وغيرهم ما تجاوزه تجاوزا جرت العادة به، وحده أبو العباس في شرح العمدة بأن ينتشر الغائط إلى نصف باطن الألية فأكثر، والبول إلى نصف الحشفة فأكثر، فإذا يتعين الماء، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية، وحكى الشيرازي وجها أنه يستجمر في المتعدي إلى الصفحتين.
وقول الخرقي: لا يجزئ فيه إلا الماء. أي: فيما جاوز المخرج إلا الماء، فظاهره أن الحجر يجزئ في نفس المخرج، وبه قطع ابن تميم وقال بعضهم: لا يجزئ في الجميع إلا الماء. وهو ظاهر كلام الشيخين، وفي الوجيز لابن الزاغوني روايتان(1/231)
كالقولين، وقد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط عدد - والحال هذه - ولا تراب، لعدم ذكره لذلك. وليس بشيء، إذ بساط هذه المسألة أن المتجاوز عن المخرج لا يجزئ فيه الحجر، أما ما يشترط لزوال النجاسة بالماء فله محل آخر قد تقدم. والله أعلم.
قال:
[باب ما ينقض الطهارة]
ش: نقضت الشيء إذا أفسدته، فنواقض الطهارة مفسدات الطهارة، والمراد [الطهارة] الصغرى.
قال: والذي ينقض الطهارة ما خرج من قبل أو دبر
ش: الذي ينقض الطهارة أشياء:
(أحدها) كل شيء خرج من قبل أو دبر، لقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] .
125 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» فقال رجل من أهل حضر موت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. متفق عليه.(1/232)
وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير، لعموم ما تقدم، ويشمل أيضا النادر، كالدود، والحصا والشعر، ونحو ذلك.
126 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في المذي الوضوء، وفي المني الغسل» رواه أحمد والترمذي وصححه وهو شامل للدائم، وهو نادر.
127 - وعن عروة، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان دم الحيض - فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك - فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر، فتوضئي وصلي، فإنما هو دم عرق» رواه أبو داود والنسائي، ودم الاستحاضة نادر.(1/233)
128 - ويشمل أيضا الطاهر كالمني، والريح، وإن خرجت من القبل، لعموم حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» رواه الترمذي وصححه، ولمسلم وأبي داود معناه، وهذا المنصوص المشهور، وقال أبو الحسين: قياس مذهبنا النقض بالريح من قبل المرأة دون الرجل، وكذلك قال ابن عقيل: إنه الأشبه، لأن قبل المرأة ينفذ إلى الجوف، دون قبل الرجل، وريح الدبر إنما نقض لاستصحابه جزءا لطيفا من النجاسة، بدليل نتنها، قال أبو البركات: ومن قال هذا من الأصحاب التزم نجاسة المني، وقال: إذا أحدث في مائع، أو ماء يسير نجسه، حذارا من النقض بطاهر.
ويشمل أيضا إذا قطر في إحليله دهنا ثم سال، أو احتشى قطنا ثم خرج منه ولا بلة معه، أو كان في وسط القطن ميل فسقط بلا بلة، وهو أحد الوجوه، إناطة بالمظنة، (والثاني) : لا ينقض، لانتفاء الخارج، فإن تيقن خروج بلة نقض على الأعرف، وأبعد من قال: لا نقض حتى يخرج بول.(1/234)
(والثالث) : ينقض الدهن خاصة، لاستصحابه بلة غالبا، بخلاف غيره.
وخرج من كلامه إذا استرخت مقعدته، فخرجت مع بلة لم ينفصل عنها، ثم عادت، وما إذا احتقن، ولم يخرج شيء من الحقنة، أو وطئ في الفرج أو دونه، فدب ماؤه فدخل فرجها ولم يخرج، وهو أحد الوجهين [في الجميع] .
ومراد الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -]- والله أعلم - بالقبل المتيقن، نظرا للغالب، لئلا يرد عليه خروج النجاسة من أحد فرجي الخنثى المشكل، إذا لم يكن بولا، ولا غائطا، فإنه لا ينقض إلا كثيرها على المذهب، [والله أعلم] .
[خروج الغائط والبول من غير مخرجهما]
قال: وخروج الغائط والبول من غير مخرجهما.
ش: الثاني من النواقض في الجملة خروج النجاسة من غير السبيلين المعتادين، ولا يخلو إما أن يكون بولا أو غائطا، أو غيرهما، فإن كان بولا أو غائطا، نقضت وإن قلت، لعموم [قَوْله تَعَالَى] : {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] .
129 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «ولكن من غائط وبول ونوم» وإن كانت (من) غيرهما فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.(1/235)
[زوال العقل من نواقض الوضوء]
قال: وزوال العقل، إلا أن يكون النوم اليسير جالسا أو قائما.
ش: الناقض الثالث: زوال العقل في الجملة، لأن الحس يذهب معه، وذلك مظنة خروج الخارج، والمظنة تقوم مقام الحقيقة، ولحديث صفوان المتقدم، والمزيل للعقل على ضربين، نوم وغيره، فغيره كالجنون والإغماء، ونحو ذلك، ينقض إجماعا، حكاه ابن المنذر في الإغماء وعممه أبو محمد، وأما النوم فينقض في الجملة على المذهب بلا ريب، لما تقدم.
130 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ» رواه أحمد، وأبو داود، ولأحمد عن معاوية نحوه، وقد(1/236)
سأله ابن سعيد عنهما فقال: حديث علي أثبت وأقوى. ونقل عنه الميموني: لا ينقض بحال لكن نفاها الخلال، ولا تفريع عليها، أما على المذهب فالكثير ينقض على أي حال(1/237)
كان، لما تقدم، ولتحقيق المظنة، وقيل عنه بعدم النقض في غير الاضطجاع، واليسير ينقض في حال الاضطجاع لما تقدم، ولا ينقض في حال القعود على الأعرف، وحكي عنه النقض.
131 - وهي مردودة بأن في الصحيحين أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا ينامون، ثم يصلون ولا يتوضئون. والجلوس منهم متيقن.
132 - ولأبي داود عن أنس: «كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينتظرون العشاء الآخرة، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون» .
وفي القائم، والراكع، والساجد روايات، (إحداهن) : النقض في الجميع، لعموم ما تقدم، خرجت منه حالة الجلوس بفعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لتيقنها، ففيما عداها يبقى على قضية العموم. (الثانية) : النقض إلا في القائم، وهو اختيار(1/238)
المصنف، وأبي محمد، والخلال إلحاقا للقائم بالقاعد، بل أولى، لاعتماد القاعد بخلاف القائم (الثالثة) : النقض إلا في القائم والراكع، لشبه الراكع بالقائم، (الرابعة) : عدم النقض في الجميع، وهو اختيار القاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل، وابن البنا، قال أبو العباس: اختارها القاضي وأصحابه، وكثير من أصحابنا.
133 - لما روى أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الزهد عن الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي، وهو ساجد لي» فسماه ساجدا مع نومه، ولأن(1/239)
الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك، وهل يلحق المستند، والمحتبي، والمتكئ، بالمضطجع أو بالقاعد؟ فيه قولان، أشهرهما الأول.
(تنبيهان) : «أحدهما» : المرجع في اليسير والكثير إلى العرف، لعدم حد الشارع له، قاله الشيخان وغيرهما، فإذا سقط الساجد عن هيئته، أو القائم عن قيامه، ونحو ذلك، بطلت طهارته، لأن أهل العرف يعدون ذلك كثيرا، وكذلك إن رأى حلما، نص عليه، وقطع به جماعة، والأشبه عند أبي البركات عدم تأثير ذلك، وحد أبو بكر اليسير بركعتين، وظاهر كلام أحمد خلافه، ولا بد في النوم الناقض من الغلبة على العقل، فمن سمع كلام غيره وفهمه فليس بنائم، فإن سمعه ولم يفهمه فيسير.
(الثاني) : «الوكاء» في الأصل الخيط الذي تشد به القربة ونحوها، جعلت اليقظة للاست كالوكاء للقربة، «والسه» حلقة الدبر، وكني بالعين عن اليقظة لأن النائم لا عين له تبصر، «وتخفق رؤوسهم» . من الخفوق وهو الاضطراب، وقيل: معناه ينامون وهم قعود، حتى تسقط ذقونهم في صدورهم [والله أعلم] .
[التقاء الختانين من نواقض الوضوء]
قال: والتقاء الختانين.
ش: هذا الناقض الرابع، وأكثر الأصحاب لا يعدونه ناقضا، لما استقر عندهم - والله أعلم - من أن ما أوجب الغسل نقض الطهارة الصغرى، وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد، من أن التقاء الختانين(1/240)
يوجب الغسل، وإن كان بحائل، كما هو [ظاهر] إطلاق الأكثرين، وممن صرح بأن موجبات الغسل ناقضات للطهارة - وإن لم يوجد خروج خارج، ولا ملامسة - السامري، وابن حمدان.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ذلك ليشعر بهذين الأصلين، وإنما قيل بالنقض بذلك قياما للمظنة مقام الحقيقة، وقد حكى ابن حمدان وجها في الكافر يسلم: لا يجب عليه الوضوء، وإن وجب عليه الغسل، وهذا غير ما تقدم، إذ الكلام ثم في أن ما أوجب الغسل نقض الطهارة، لأن ما أوجب الكبرى أوجب الصغرى والله أعلم.
[الردة من نواقض الوضوء]
قال: والارتداد عن الإسلام.
ش: الناقض الخامس: الارتداد عن الإسلام - والعياذ بالله - على المحقق المعروف.
134 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطهور شطر الإيمان» وإذا بطل الإيمان فكيف بشطره، نظرا إلى أن الإيمان تركب من طهارة الظاهر، وطهارة الباطن كما سيأتي.
135 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الحدث حدثان، حدث اللسان، وحدث الفرج، وحدث اللسان أشد من حدث الفرج. ورواه ابن شاهين مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/241)
واستدل بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] بناء على الإحباط بمجرد الردة، والموت في قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] شرط للخلود، وفيه نظر. إذ المشهور أن الإحباط مشروط بالموت على الردة، ولهذا صح الحج في الإسلام السابق، ولزمه قضاء ما تركه فيه من صلاة وزكاة، وصوم، على المشهور، ثم الإحباط إنما ينصرف للثواب، دون نفس العمل، بدليل [صحة صلاة] من صلى خلفه وهو مسلم، ولم يعد القاضي في جامعه، وخصاله - وأبو الخطاب في هدايته، وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص، والسامري - الردة في النواقض، فقيل: لأنها لا تنقض عندهم، وقيل: إنما تركوها لعدم فائدتها، لأنه إن لم يعد إلى الإسلام فظاهر، وإن عاد إلى الإسلام وجب عليه الغسل،(1/242)
ويدخل فيه الوضوء، وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير فقال: لا معنى لجعلها من النواقض، مع وجوب الطهارة الكبرى.
واستدل أبو العباس عليه [فقال] : إن فائدة ذلك تظهر فيما إذا عاد، فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل، فإن نواهما بالغسل أجزأه، ولو لم ينقض لم يجب عليه [إلا] الغسل.
(قلت) : ومثل هذا لا يخفى على القاضي، وإنما أراد القاضي - والله أعلم - أن وجوب الغسل ملازم لوجوب الطهارة الصغرى كما تقدم، وممن صرح بأن موجبات الغسل تنقض الوضوء، السامري، وابن حمدان حكى وجها بأن الوضوء لا يجب بالالتقاء بحائل، ولا بالإسلام، وإذا ينتفي الخلاف بين الأصحاب في المسألة.
وتخصيص المصنف للنقض بالردة مشعر بعدم النقض بغيرها من الكلام، وهو صحيح، نعم: يستحب من الكلام المحرم، وهل يستحب من القهقهة؟ فيه وجهان.
(تنبيه) : «الشطر» النصف، وجعل الطهور - والله أعلم - شطر الإيمان لأنه يطهر الظاهر، والإيمان يطهر الباطن، والله أعلم.
[مس الفرج من غير حائل من نواقض الوضوء]
قال: ومس الفرج [من غير حائل]
ش: السادس من النواقض مس الفرج، والفرج مأخوذ من(1/243)
الانفراج، وهو اسم لمخرج الحدث، ويتناول الذكر، والدبر وفرج المرأة، ومناط المسألة الذكر، وغيره مبني ومفرع عليه، فلنتكلم على الذكر أولا فنقول: المذهب المشهور الذي عليه عامة الأصحاب: أن مسه ينقض الوضوء في الجملة.
136 - لما روت بسرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» رواه الخمسة، وصححه أحمد والترمذي، وقال البخاري: إنه أصح ما في الباب.(1/244)
137 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، ليس دونها حجاب، فقد وجب عليه الوضوء» رواه أحمد، والطبراني وهذا لفظه، وابن حبان، والحاكم وصححه وللنسائي، من حديث بسرة نحوه، مع أن عمل الصحابة عليه.
138 - فقد رواه مالك في الموطأ، عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر وحكاه إمامنا عن عمر وابنه وابن عباس، وأنس،(1/245)
وابن عبد البر عن زيد بن خالد الجهني، والبراء، وجابر، والخطابي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: يستحب الوضوء من مسه ولا يجب. اختارها أبو العباس في فتاويه.
139 - لما «روى قيس بن طلق، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءه بدوي فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ؟ فقال: «وهل هو إلا مضغة منه، أو بضعة منه» رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. ويحمل ما تقدم على الاستحباب، جمعا بين(1/246)
الأدلة، ومن نصر الأول ضعف الحديث، ثم ادعى نسخه على تقدير صحته.
140 - بدليل أن وفادة طلق كانت في سنة الهجرة [وهم يؤسسون المسجد، وإسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة من الهجرة] وهذا إن لم يكن نصا في النسخ لكنه ظاهر فيه، ثم يؤيده أن حديث طلق موافق للأصل، ودعوى الاستحباب مردودة بقوله: «وجب عليه الوضوء» ومنهم من حمل حديث طلق على المس من وراء حائل، لأنه قد جاء أن السؤال عن المس في الصلاة، وتعليله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرده.(1/247)
ولا تفريع على هذه الرواية، أما على الأولى فقد شمل كلام الخرقي ذكر نفسه، وذكر غيره، وهو المعروف، لأن في حديث بسرة - في رواية لأحمد والنسائي - أنها سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ويتوضأ من مس الذكر» وحكى ابن الزاغوني رواية باختصاص النقض بذكر نفسه، جمودا على أنه المعروف من الرواية: «من مس ذكره» (وشمل) [أيضا] ذكر الصغير والكبير، وهو المذهب المنصوص عليه، نظرا لعموم ما سبق، وعنه: لا ينقض ذكر الطفل. حكاها الآمدي.
(وشمل) أيضا ذكر الحي والميت، وهو المذهب المنصوص أيضا، لما تقدم، وقيل: لا ينقض ذكر الميت. (وشمل) أيضا المتصل والمنقطع المنفصل، وهو أحد الوجهين، وبه قطع الشيرازي، تعليقا بالعموم، (والثاني) : لا ينقض المنقطع لعدم حرمته، وانتفاء مظنة خروج الخارج، (وشمل) أيضا أصل الذكر ورأسه، وهو المذهب لما تقدم، وعنه: تخصيص النقض بالحشفة، وعنه بالثقب. وكلاهما بعيدان.
وقول الخرقي: مس الفرج. المس اللمس باليد، فالنقض مختص بها وإن كان بزائدة منها، لحديث أبي هريرة المتقدم، والمراد باليد على المذهب: إلى الكوع، كما في آية التيمم، والسرقة، وعنه: [بل إلى] المرفق،(1/248)
كما في آية الوضوء. وعنه: بل يختص النقض ببطن الكف، وعليها في حرفها وجهان، وقال الأصحاب: النقض أيضا يحصل بمس الفرج، لأنه أدعى إلى الحدث، ومال أبو البركات إلى عدم النقض به، لأن النقض بمس الذكر تعبد عند المحققين.
وقد شمل كلام الخرقي المس سهوا، ولغير شهوة، وهو المشهور، لظواهر النصوص، (وعنه) : لا ينقض مسه سهوا.
141 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» الحديث،(1/249)
ولا لغير شهوة، نظرا إلى أنه معلل بخروج الخارج، كلمس النساء.
وشرط الخرقي أن يكون اللمس من غير حائل، وهو المذهب.
142 - لما تقدم من حديث أبي هريرة، ولأحمد فيه: «ليس دونه ستر» وحكى عنه القاضي في شرح المذهب النقض مع الحائل.
إذا عرف هذا ففي النقض بمس حلقة الدبر روايتان، (إحداهما) - وقال الخلال: إنها الأشيع في قوله وحجته، وقواها أبو البركات -: لا ينقض، لأن غالب الأحاديث مقيدة بالذكر، (والثانية) : - وهي ظاهر كلام الخرقي واختيار(1/250)
الأكثرين، الشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وابن عقيل، وابن البنا، وابن عبدوس -: ينقض.
143 - لما روت أم حبيبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» رواه ابن ماجه، والأثرم، وصححه أحمد، وأبو زرعة. والفرج اسم جنس مضاف، فيعم، وذكر الذكر لا يخصص، لأنه بعض أفراده، وفي مس المرأة فرجها، أيضا روايتان (إحداهما) : لا ينقض لما تقدم من أن أكثر الأحاديث مقيدة بالذكر، (والثانية) : وصححها أبو البركات - ينقض، لعموم «من مس فرجه فليتوضأ» وذكر الذكر لا يخصص، لما تقدم، والمفهوم غير مراد، لأن الخطاب كان جواب سؤال سائل للرجال.(1/251)
144 - وقد روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» ولا فرق بين مس فرجها وفرج غيرها، وفي التلخيص: ينقض مس فرج المرأة، وفي مسها فرج نفسها وجهان. وفيه نظر.
وظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط للنقض بذلك الشهوة، وهو مفرع على المذهب، وشرطها ابن أبي موسى، وهو جار على الرواية الضعيفة.
(تنبيه) : المضغة، قدر اللقمة من اللحم، «والبضعة» قطعة أكبر من المضغة. والله أعلم.
[القيء والدم والدود من نواقض الوضوء]
قال: والقيء الفاحش، والدم الفاحش، والدود الفاحش، يخرج من الجروح.
ش: قد تقدم في الثاني من النواقض أن النجاسة الخارجة من غير السبيلين تنقسم إلى بول وغائط وغيرهما [وقد تقدم الكلام على البول والغائط، والكلام هنا فيما عداه] ولا يخلو إما أن يكون فاحشا أو غير فاحش.
فإن كان غير فاحش لم ينقض على المشهور من الروايتين.(1/252)
145 - لأن عبد الله بن أبي أوفى بصق دما، فمضى في صلاته، وابن عمر عصر بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ، ذكرهما البخاري.
146 - وعن أبي هريرة أنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج عليها دم، فلم يتوضأ، ذكره أحمد وقال: قال ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشا أعاد الوضوء. وقال: الدم القليل لا أرى فيه الوضوء، لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخصوا فيه.
وغير ذلك ما عدا البول، والغائط في معناه، والرواية الثانية: ينقض لعموم ما يأتي.
وإن كان فاحشا نقض على المعروف - ولا عبرة برواية أثبتها(1/253)
بعضهم، ونفاها أبو البركات: أن القيح والصديد، والمدة لا ينقض مطلقا.
147 - لما روى معدان بن أبي طلحة، «عن أبي الدرداء، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاء فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت ذلك له فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه» . رواه أحمد والترمذي وقال: هو أصح شيء في الباب. وقال الأثرم لأحمد: اضطربوا في [هذا] الحديث. فقال: حسين المعلم يجوده. وقيل له: حديث ثوبان يثبت عندك؟ قال: نعم.(1/254)
148 - ولابن ماجه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أصابه قيء، أو رعاف، أو قلس، أو مذي، فلينصرف فليتوضأ» فيحمل هذا والذي قبله على الفاحش عملا بالدليلين، ويؤيد ذلك قول ابن عباس المتقدم، وقد اعترض على هذا الحديث بأنه مرسل ولا يضر على قاعدتنا، على أنه قد أيد بعمل الصحابة.(1/255)
149 - فحكى أحمد الوضوء من الرعاف عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبد البر عن عمر: ثم حديث معدان يوافقه.
إذا عرف هذا فاختلف عن إمامنا في الفاحش اختلافا كثيرا، نحو عشرة أقوال أو أكثر، والمشهور منها، المعمول عليه، أنه: ما يفحش في النفس، ولا عبرة بما قطع به ابن عبدوس، وحكى عن شيخه: أن اليسير قطرتان، لما تقدم عن ابن عباس، ولا يعرف عن صحابي خلافه، ثم المعتبر في حق كل إنسان بما يستفحشه في نفسه، نص عليه، وقال الخلال: إنه الذي استقر عليه قوله، ومال إليه أبو محمد، وقال أبو العباس في شرح العمدة، إنه ظاهر المذهب، وحده أنه الأولى، إلا أنه استثنى القطرة والقطرتين، فعفى عن ذلك مطلقا، إذ العفو لدفع المشقة، فإذا لم يستفحشه شق عليه غسله وإن استفحشه هان عليه غسله، وقال ابن عقيل في(1/256)
فصوله، وشيخه أظنه في المجرد: والمعتبر نفوس أوساط الناس، فلا عبرة بالقصابين، ولا المتوسوسين، كما رجع في يسير اللقطة إلى نفوس الأوساط، وفي الأحراز والقبوض إلى عادة الأكثر، وتبعهما على ذلك صاحب التلخيص وأبو البركات في محرره.
(تنبيه) : القلس بالتحريك - وقيل بالسكون - ما خرج من الجوف، ملء الفم أو دونه، وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء. والله أعلم.
[أكل لحم الجزور من نواقض الوضوء]
قال: وأكل لحم الجزور.
ش: السابع من النواقض أكل لحم الجزور، على المذهب، المختار لعامة الأصحاب.
150 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم توضئوا من لحوم الإبل» قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم» قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا» رواه أحمد ومسلم، وقال ابن خزيمة: لم نر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح، لعدالة ناقليه.(1/257)
151 - وعن البراء بن عازب قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: «توضئوا منها» وسئل عن لحوم الغنم، فقال: «لا تتوضئوا منها» وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: «لا تصلوا فيها، فإنها من الشياطين» وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: «صلوا فيها، فإنها بركة» رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، وصححه والذي قبله أحمد وإسحاق، وظاهر الأمر الوجوب، والوضوء إذا أطلقه الشارع حمل على الشرعي، لا سيما وقد قرنه بالصلاة، وفرق بينه وبين لحم الغنم، مع مطلوبية الوضوء اللغوي فيه، وهو غسل اليد والفم.(1/258)
152 - وكذا فهم جابر راوي الحديث وغيره الوضوء الشرعي فقال: كنا نتمضمض من ألبان الإبل، ولا نتمضمض من ألبان الغنم، وكنا نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم، ذكره البيهقي في السنن.
153 - وقال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم» ، رواه ابن ماجه، وله نحوه عن ابن عمر، وكذا لأحمد من حديث أسيد بن الحضير والمعنى في ذلك إن قيل: [إنه] معلل ما أشار إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنها من الشياطين، إذ كل عات متمرد شيطان، فالكلب الأسود شيطان الكلاب، والإبل شياطين الأنعام.(1/259)
154 - وفي الحديث «على ذروة كل بعير شيطان» والأكل منها يورث حالا شيطانية، والشيطان من نار والماء يطفئها.
155 - ودعوى النسخ بقول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[في الصحيح] : «كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الوضوء مما مست النار» ، ودعوى النسخ مردودة بأن هذه قضية عين، ولا عموم لها، ولو سلم عمومها - كما قاله أصحابنا، أو ورد لفظ عام - لم ينسخ العام الخاص، بل الخاص يقضي على العام، ثم لو سلم اندراج المطبوخ [منه] في العموم، فإنما يدل على نفي الوضوء بسبب مس النار، لا نفي الوضوء من جهة(1/260)
أخرى، وإذا نقول: الوضوء من المطبوخ كان لعلتين، مس النار، وكونه لحم إبل، فإذا زالت إحداهما لا يلزم زوال الأخرى.
وقد شمل كلام الخرقي النيء وهو كذلك، لما تقدم.
وعن أحمد (رواية أخرى) : لا ينقض مطلقا، وقد فهم دليلها [وجوابه] مما تقدم، وعنه (ثالثة) : إن طالت المدة وفحشت، كعشر سنين لم يعد، بخلاف ما إذا قصرت، وعنه (رابعة) - وقال الخلال: إن عليها استقر قوله -: يفرق بين الجاهل وغيره، لأنه خبر آحاد فيعذر بالجهل به - كما يعذر بالجهل بالزنا ونحوه - الحديث العهد بالإسلام، والجاهل هنا من لم يبلغه الحديث، قاله أبو العباس، أما من بلغه فلا يعذر، وعنه: بلى مع التأويل، وعنه: مع طول المدة.
وقد خرج من كلام الخرقي ما عدا اللحم من لبنها، وسنامها، وكرشها، وكبدها، ومرقها، ونحو ذلك، وهو إحدى الروايتين في اللبن، وأحد الوجهين، أو الروايتين المخرجتين في غيره، واختيار الأكثرين فيهما، لأن الصحيح من الأحاديث ليس فيه ذكر اللبن.(1/261)
156 - ثم في ابن ماجه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مضمضوا من اللبن، فإن له دسما» وظاهره الاكتفاء بالمضمضة في كل لبن، (والقول الثاني) : يجب في جميع ذلك.
157 - لأن في بعض الأحاديث: «توضئوا من لحوم الإبل وألبانها» رواه أحمد. وغير اللبن في معناه، من السنام ونحوه، والمعتمد أن الوضوء من لحوم الإبل هل هو معلل، فيلحق به ذلك، أو غير معلل، وهو المشهور؟ على قولين.
وخرج من كلامه أيضا ما عدا لحم الإبل من اللحوم، وهو المشهور من الروايتين في اللحوم المحرمة أما غير المحرمة فلا(1/262)
تنقض اتفاقا، نعم في استحباب الوضوء مما مست النار وجهان.
(تنبيه) : «مرابض الغنم» اسم لمواضع ربضها، أي إقامتها، «ومبارك» اسم لموضع البروك.
[غسل الميت من نواقض الوضوء]
قال: وغسل الميت.
ش: (الثامن) من النواقض غسل الميت مطلقا، على المنصوص، المختار للجمهور.
158 - لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء.
159 - وقال أبو هريرة: أقل ما فيه الوضوء، وقال التميمي، وأبو محمد: لا ينقض، كما لو يممه.
160 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس(1/263)
بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم» رواه الدارقطني، قال بعض الحفاظ: إسناده جيد.
وقد دخل في كلام الخرقي ما إذا غسله في قميصه، وهو ظاهر كلام غيره، وفيه احتمال، وخرج من كلامه ما إذا غسل بعضه، وهو أظهر الاحتمالين عند ابن حمدان، وخرج أيضا ما إذا يممه، وهو المعروف، وقيل: فيه احتمال.
(تنبيه) : قيد ابن حمدان المسألة بما إذا قيل: إن مس فرجه ينقض اهـ. والغاسل من يقلبه ويباشره، لا من يصب الماء ونحوه، و «حسبكم» . أي يكفيكم. والله أعلم.
قال: وملاقاة جسم المرأة لشهوة.
ش: هذا خاتمة النواقض، وهو ملاقاة جسم الرجل [جسم] المرأة لشهوة، على المشهور، المعمول به من الروايات، لقول الله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] الآية والمفهوم منه في العرف المس المقصود منهن، وهو المس للتلذذ، أما المس لغرض آخر فلا فرق بينهن وبين غيرهن في ذلك، ولأن اللمس بشهوة هو المظنة لخروج المني والمذي، فأقيم مقامه، كالنوم مع الريح.(1/264)
161 - وعلى هذا يحمل قول ابن مسعود: من قبلة الرجل امرأته الوضوء. ونحوه عن ابن عمر، أخرجهما مالك في الموطأ.
162 - وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن القبلة من اللمس، فتوضئوا منها. رواه البيهقي، فتخصيصه القبلة بذلك قرينة الشهوة.
163 - وعن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب [من] امرأة لا تحل له، فلم يدع شيئا يصيب الرجل من المرأة إلا قد أصاب منها، إلا أنه لم يجامعها؟ فقال: «توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصل» فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فقال معاذ: هي له خاصة، أم للمسلمين عامة؟ فقال: «بل هي للمسلمين(1/265)
عامة» رواه أحمد والدارقطني، مع أن فيه انقطاعا، فإن راويه عن معاذ عبد الرحمن بن أبي ليلى ولم يدركه.
164 - وما روي من أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل ولم يتوضأ، إن صح أيضا محمول على التقبيل ترحما ونحوه، ولو أريد بالآية الجماع(1/266)
لاكتفى بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} [المائدة: 6] .
(والثانية) : ينقض مطلقا لظاهر [إطلاق] الآية الكريمة، وما تقدم من حديث معاذ ونحوه، ويؤيد ذلك أنه قد ورد في لسان الشارع، وأريد به ذلك.
165 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ماعز «لعلك قبلت أو لمست» ؟
166 - ونهى عن بيع الملامسة وقد حكي عن أحمد أنه رجع عن هذه الرواية. (والثالثة) : لا ينقض مطلقا، وهو اختيار أبي العباس في فتاويه، وهو قول الحبر ابن عباس، حملا للآية على الجماع.
167 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن الله حيي كريم، يكني بما شاء عما شاء، وإن مما كنى به عن الجماع الملامسة. ويؤيد ذلك ما روي من تقبيله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما تقدم يحمل على الاستحباب، جمعا بين الأدلة اهـ.
وقد شمل كلام الخرقي الأجنبية، وذات المحرم، والعجوز، وهو كذلك، وشمل أيضا الحية والميتة، وهو اختيار القاضي(1/267)
وابن عبدوس، وابن البنا، وصاحب التلخيص وغيرهم نظرا للعموم، وقياسا على وجوب الغسل بوطئها، وخالفهم أبو جعفر، وابن عقيل، وأبو البركات، لأنها ليست محلا للشهوة، أشبهت البهيمة، وشمل أيضا مسها بعضو زائد، ومس عضو زائد منها، لأن جسمه لاقى جسمها، وصرح به غيره.
وقوله: المرأة. قد يخرج به الطفلة. وصرح به أبو البركات، مقيدا بالتي لا تشتهى، وصرح أبو محمد، وصاحب التلخيص، والسامري، وغيرهم بأنه لا فرق بين الصغيرة والكبيرة.
وقوله: المرأة. أي لجسم المرأة، فيحتمل أن يدخل تحته الشعر والسن، والظفر، وهو قويل، والمذهب عدم النقض بذلك.
وخرج من كلامه اللمس بحائل وهو المعروف المنصوص وحكي عنه النقض مع الحائل أيضا وبعدت.
وقوله: ملاقاة جسم الرجل للمرأة، قد يدخل فيه ما إذا مسته المرأة ووجدت منه الشهوة، أن وضوءه ينتقض، وهذا(1/268)
ينبني على أصلين:
(أحدهما) : أن المرأة هل حكمها حكم الرجل إذا مسته، وهو المشهور، أم لا؟ فيه روايتان.
(الثاني) : أن اللامس حيث انتقض وضوءه هل ينتقض وضوء الملموس، وهو اختيار ابن عبدوس، أو لا ينتقض، وهو اختيار أبي البركات؟ على روايتين أيضا، ثم محلها - وفاقا للشيخين - فيما إذا وجدت الشهوة من الملموس، فيكون كلام الخرقي ينبني على أن حكم المرأة حكم الرجل، وأن وضوء اللامس ينتقض إذا انتقض وضوء الملموس.
واعلم أن عامة الأصحاب يعد النواقض كما عدها الخرقي، عدا التقاء الختانين كما تقدم، وزاد بعض المتأخرين: زوال عذر المستحاضة ونحوها بشرطه، وخروج وقت صلاة تيمم لها، وبطلان المسح بفراغ مدته، أو خلع حائله، ونحو ذلك، وبرء محل الجبيرة، ورؤية الماء للمتيمم العادم له ونحو ذلك، وهذا وإن [كان] مناقشا فيه، لكن الحكم متفق عليه اهـ.
(تنبيه) : {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] أي ساعة بعد ساعة. واحدتها: زلفة [والله أعلم] .
قال: ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة، فهو على ما تيقن منهما.(1/269)
168 - ش: روى عبد الله بن زيد قال: «شكي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا» متفق عليه.
169 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا» رواه مسلم وغيره، والمعنى في ذلك أن الشيء إذا كان على حال، فانتقاله عنها يفتقر إلى زوالها، وحدوث غيرها، وبقائها، وبقاء الأولى لا يفتقر [إلا] إلى مجرد [بقائها] ويكون أولى.
واعلم أن كلام الخرقي يشمل صورا، منها ما تقدم، (ومنها) إذا تيقن الطهارة والحدث، وشك في السابق منهما، فإنه على ضد حاله قبلهما، مثاله: إذا تيقن بعد الزوال مثلا أنه كان متطهرا ومحدثا، فإنه ينظر إلى ما قبل الزوال فإن كان محدثا فهو الآن متطهر، لأنه قد تيقن زوال ذلك الحدث بطهارة بعد الزوال، والحدث الموجود بعد الزوال، يحتمل أن يكون ذلك الحدث واستمر، ويحتمل أنه حدث متجدد، فهو متيقن للطهارة، شاك في الحدث، وإن كان قبل الزوال متطهرا فهو الآن محدث، وبيانه مما تقدم (ومنها) إذا تيقن فعل الطهارة والحدث، وصورته أنه تيقن بعد الزوال أنه تطهر طهارة رفع بها حدثا، وأحدث(1/270)
حدثا نقض به طهارة، فيكون على مثل حاله قبل الزوال، فإن كان قبله متطهرا فهو الآن متطهر، لأن الطهارة التي قبل الزوال، قد تيقن زوالها بالحدث، وتيقن أيضا زوال الحدث بالطهارة التي بعد الزوال، والأصل بقاؤها، وإن كان قبل الزوال محدثا، فهو الآن محدث، وبيانه مما تقدم، والضابط كما قال الخرقي العمل بالأصل.
(تنبيه) : الشك في كلام الخرقي خلاف اليقين، وإن انتهى إلى غلبة الظن، وفاقا للفقهاء واللغويين كما قاله الجوهري، وابن فارس وغيرهما، وفي اصطلاح الأصوليين هو تساوي الاحتمالين والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال:
[باب ما يوجب الغسل]
ش: قال القاضي عياض: الغسل بالفتح الماء، وبالضم الفعل، وقال ابن مالك: [الغسل] بالضم الاغتسال،(1/271)
والماء الذي يغسل به. وقال الجوهري: غسلت الشيء غسلا. بالفتح، والاسم الغسل. بالضم، والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره، [والله أعلم] .
قال: والموجب للغسل خروج المني.
ش: خروج المني في الجملة موجب للغسل اتفاقا، وقد قال [الله] تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] .
170 - وثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الماء من الماء» .
171 - وفي الصحيحين «عن أم سلمة، أن أم سليم قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: «نعم إذا رأت الماء» فقالت أم سلمة: أو تحتلم المرأة؟ فقال: «تربت يداك، وبم يشبهها ولدها» ؟»
172 - وفي رواية لمسلم: «ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون الشبه منه» .(1/272)
والألف واللام في كلام الخرقي يجوز أن تكون لمعهود ذهني وهو المني المعتاد، وهو الخارج على وجه الدفق واللذة، فلا يجب الغسل لمني خرج بغير ذلك كالخارج لمرض أو إبردة أو كسر ظهر، أو نحو ذلك، وهو المشهور المعروف.
173 - لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت رجلا مذاء، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خذفت الماء فاغتسل، وإن لم تكن خاذفا فلا تغتسل» رواه أحمد. والخذف خروجه بسرعة، وفي رواية أبي داود: «إذا فضخت الماء فاغتسل» والفضخ قال إبراهيم الحربي: خروجه بالغلبة.(1/273)
174 - «وعنه أيضا قال: كنت رجلا مذاء، فلما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الماء قد آذاني، قال: «إنما الغسل من الماء الدافق» رواه البيهقي في سننه.
ويحتمل أن تكون للجنس، أي خروج كل مني، فعلي هذا يجب الغسل وإن خرج بلا دفق وشهوة، وهو تخريج كما سيأتي، وقيل: رواية حكاها ابن عبدوس، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الماء من الماء» وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نعم إذا رأت الماء» وقوله: «في المذي الوضوء، وفي المني الغسل» ويجاب بالقول بموجب هذه الأحاديث وأن الألف واللام لمعهوده ذهني، كما تقدم.
ومقتضى كلام الخرقي أن الغسل لا يجب بالانتقال، لتعليقه الحكم على الخروج، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، والشريف فيما حكاه عنه الشيرازي، لما تقدم في النصوص، إذ الحكم في الجميع مرتب على الرؤية، (والرواية الثانية) : وهي المنصوصة المشهورة عن أحمد،(1/274)
والمختارة لعامة أصحابه، حتى أن جمهورهم جزموا بها - يجب بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] والجنابة أصلها البعد، قال سبحانه: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] أي البعيد وسمي من جامع جنبا لبعده عن الصلاة وموضعها حتى يطهر، ومع الانتقال قد باعد الماء محله، فصدق عليه اسم الجنب، وإناطة للحكم [بالشهوة] وتعليقا له على المظنة، إذ بعد انتقاله يبعد عدم خروجه، كما قد أشار إليه أحمد، ومحل الروايتين - وفاقا لابن حمدان - فيما إذا لم يخرج إلى قلفة الأقلف، وفرج المرأة، فعلى الأولى إذا خرج بعد ذلك وجب الغسل، وإن خرج لغير شهوة، لأن انتقاله كان لشهوة، وتترتب الأحكام المتعلقة بخروج المني، من إفساد صوم ونحوه، ويعيد ما صلى من وقت انتقاله، قاله ابن حمدان، وعلى الثانية تترتب الأحكام بمجرد الانتقال، من إفساد صوم، ووجوب بدنة في الحج، حيث وجبت بخروج المني، قاله القاضي في تعليقه التزاما، وجعله ابن حمدان وجها وبعده.(1/275)
وهل يجب عليه - إن كان قد اغتسل - غسل ثان؟ حكمه حكم مني اغتسل له، ثم خرجت بقيته، وفيه روايات (إحداها) - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار الخلال، وابن أبي موسى، وأبي البركات وغيرهم - لا غسل عليه، حذارا من أن يلزمه بمني واحد غسلان، وتبعا لعلي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (والثانية) : عليه الغسل، إناطة بخروج المني، (والثالثة) - وهي اختيار القاضي في تعليقه - إن خرج قبل البول فعليه الغسل، لأنه بقية مني دافق بلذة، وإن خرج بعد البول فلا، لأن الظاهر أنه غير الأول، وقد تخلف عنه شرطه وهو الدفق واللذة، وهي اختيار القاضي في التعليق، (وعنه رابعة) : عكس الثالثة، حكاها القاضي في المجرد: إن خرج قبل البول لم يجب الغسل، لأنه بقية الأول، وقد اغتسل له، وإن خرج بعده وجب، لأنه مني جديد، ومنها خرج أبو البركات الوجوب فيما إذا خرج المني لغير شهوة.
أما إن انتقل ولم يغتسل له ثم خرج بعد فإنه يغتسل بلا نزاع نعلمه.
ومقتضى كلام الخرقي أيضا أن الغسل لا يجب بمجرد الاحتلام وهو المذهب بلا ريب، وقد حكاه ابن المنذر وغيره إجماعا، وأغرب ابن أبي موسى في حكايته رواية(1/276)
بالوجوب، فعلى المذهب إن خرج بعد شهوة اغتسل له، وإلا فروايتا الانتقال، قاله ابن، حمدان والمنصوص عن أحمد الوجوب، وهو أظهر لئلا يلزم انتقال مني وخروجه من غير اغتسال، ثم ينبغي أن يقول بروايات الانتقال.
ومقتضى كلام الخرقي أيضا أنه إذا وجد المني في النوم، ولم يذكر احتلاما، أن عليه الغسل، وهو كذلك.
175 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلاما؟ قال «يغتسل» : وعن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد البلل؟ قال: «لا غسل عليه» فقالت أم سلمة: يا رسول الله فالمرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال: «نعم، إنما النساء شقائق الرجال» رواه أبو داود والترمذي، أما إن وجد بللا، وشك هل هو مني أم لا؟ فإن وجد سبب المني - وهو الاحتلام أنيط الحكم عليه وعمل به، وإن وجد سبب المذي - وهو الملاعبة ونحوها، أو كانت به إبردة تعلق الحكم(1/277)
بذلك، وعمل عليه وإن لم يوجد واحد منهما فهل يحكم بأنه مني - وهو المشهور وبه قطع بعضهم، لظاهر حديث عائشة، ولانتفاء سبب صالح لغيره، أو للمذي لأن الأصل عدم وجوب الغسل، وإلى هذا ميل أبي محمد؟ فيه روايتان، فعلى الأول: يتوضأ مرتبا متواليا، ويغسل يديه وثوبه احتياطا، وعلى الثاني: يستحب [الغسل احتياطا] .
وقد شمل كلام الخرقي - إذا جعل الألف واللام للجنس - إذا وطئ دون الفرج، فدب منيه فدخل فرج المرأة ثم خرج، أو وطئ في الفرج، ثم خرج منيه من فرجها بعد غسلها، أو خرج ما استدخلته [من مني] بقطنة، ولم يخرج منيها، وهو وجيه في الكل، والمنصوص المقطوع به عدم الغسل على المرأة والحال هذه، ولا نزاع فيما نعلمه أن الغسل لا يجب بخروج المني من غير مخرجه، وإن وجد شرطه.
(تنبيه) : قد تقدم بيان الخذف والفضخ، «وتربت يداك» أي افتقرت، في الصحاح: ترب الشيء. بالكسر إذا أصاب التراب، ومنه ترب الرجل. إذا افتقر، كأنه لصق بالتراب، وأترب، إذا استغنى، كأنه صار ماله - من الكثرة - بقدر التراب، وتأول مالك، وعيسى بن دينار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الحديث على الاستغناء والمقام يأباه.(1/278)
وقال الأصمعي: معناه الحظ على تعلم مثل هذا، كما يقال: أنج ثكلتك أمك. وذهب أبو عبيد والمحققون إلى أن هذا اللفظ وشبهه يجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء، فينظر في القول وقائله، فإن كان وليا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن، ولقد أحسن بعضهم في قوله: قد يوحش اللفظ وكله ود، ويكره الشيء وما من فعله بد، هذه العرب تقول: لا أبا لك للشيء إذا أهم، وقاتلك الله. لا يريدون به الذم، وويل أمه. للأمر إذا تم.
176 - ثم على تقدير كونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد بذلك أصله من الدعاء عليها فهو لها قربة ورحمة، كما جاء في الحديث.
«والمني» مشدد، وفعله رباعي على الأشهر، وبهما جاء القرآن، قال سبحانه: {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58](1/279)
وحكي فيه التخفيف على وزن العمي، وفعله «منى» بالتخفيف، «ومنى» بالتشديد، وسمى بذلك لأنه يمنى أي يصب «والمذي» مخفف بمعجمة، على الأفصح فيهما، وحكي فيه التشديد والإهمال، ومن يحذف لامه كيد، وقالوا في فعله: مذي وأمذى ومذى. بالتشديد، «وشقائق» . جمع شقيقة، تأنيث: شقيق، وهو المثل والنظير، كأنه اشتق هو ونظيره من شيء واحد، فهذا شق وهذا شق، ومنه قيل للأخ شقيق، والله أعلم.
[التقاء الختانين من موجبات الغسل]
قال: والتقاء الختانين.
ش: الختانان واحدهما ختان، والختان في الأصل قطع جلدة حشفة الذكر، وفي المرأة: قطع بعض جلدة عالية مشرفة على محل الإيلاج، ثم عبر بذلك عن موضع الختن، والتقاؤهما تقابلهما وتحاذيهما، ولما كان الموجب هو التقاء الختانين لا المس، وكان ذلك لا ينفك عن تغييب الحشفة أو قدرها، جعل ذلك هو الضابط، فقال الفقهاء، تغييب الحشفة.
177 - إذا عرف هذا فالأصل في وجوب الغسل بذلك في الجملة ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها - وفي لفظ - ثم اجتهد - فقد وجب الغسل» متفق عليه.(1/280)
وفي لفظ لأحمد ومسلم: «وإن لم ينزل» .
178 - وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدافق، أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: فقلت أنا أشفيكم. فقمت فاستأذنت على عائشة فأذنت لي، فقلت لها: إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحييك. فقالت: لا تستحي أن تسألني عن ما كنت سائلا عنه أمك. فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل» رواه أحمد ومسلم.(1/281)
179 - «وعن رافع بن خديج قال: ناداني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت وخرجت، فأخبرته فقال: «لا عليك، الماء من الماء» قال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل» ، رواه أحمد، وبهذا يعلم نسخ ما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الماء من الماء» ونحوه، وقد صرح بذلك رافع بن خديج [كما تقدم] .
180 - وكذلك سهل بن سعد فقال: حدثني أبي أن الفتيا التي كانوا يفتون: «إن الماء من الماء» رخصة رخصها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد ذلك، رواه أبو داود، وفي لفظ: ثم أمرنا. وصرح بذلك جماعة من العلماء، ويعلم وهم من ظن أنها تخصيص عموم مفهوم «إنما الماء من الماء» حذارا من النسخ، إذ ذاك إنما يتمشى له قبل العمل، أما بعد العمل فيتعين النسخ، ورد قول من قال: إنه من باب تعليق(1/282)
الحكم على المظنة، بعد تعليقه على الجملة لخفائها، إذ لا ريب أن الإنزال ليس بخاف.
181 - ثم في سنن أبي داود من حديث أبي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمرنا بالغسل، ونهى عن ذلك. فذكر أن السبب قلة الثياب.
182 - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يؤول: «إنما الماء من الماء» على الحلم في المنام، من غير رؤية ماء، لكن عامة الصحابة على خلاف ذلك.
إذا تقرر هذا فاعلم أنا قد أنطنا الحكم بتغييب الحشفة في الفرج أو قدرها، ولا بد من كونهما أصليين، فلو أولج الخنثى المشكل حشفته، ولم ينزل في فرج أصلي، أو أولج غير الخنثى ذكره في قبل الخنثى، فلا غسل على واحد منهما، لاحتمال كون الحشفة أو القبل خلقة زائدة.
ثم بعد ذلك هو شامل لكل واطئ وموطوءة، ولو مع إكراه ونوم، أو كانت المرأة ميتة، نص عليه، أو كانا غير بالغين، نص عليه أيضا، واستدل على أنه لا يشترط البلوغ باغتسال عائشة.(1/283)
183 - وفي مسلم عنها «أن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل - وعائشة جالسة - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» وعن القاضي منع الوجوب مع الصغر، نظرا إلى عدم تكليف الصغير، وكأن الخلاف لفظي، إذ مراد القاضي - والله أعلم - بعدم الوجوب انتفاء تحتم الغسل على الصغير، وإلزامه بذلك، ومراد أحمد - والله أعلم - بالوجوب اشتراطه للصلاة ونحوها، لا التأثيم بالتأخير، وهذا متعين، إذ التكاليف الخطابية لا تتعلق بغير بالغ، والصلاة ونحوها لا تصح بلا طهارة، وقد أشار القاضي إلى ذلك في تعليقه فقال: إن الصبي والمجنون إذا أولجا في الفرج وجب الغسل عليهما بعد البلوغ والإفاقة، إذا أراد الصلاة، فإن ماتا قبل وجوب الصلاة عليهما وجب غسلهما، وكان عن الجنابة والموت.
إذا عرف هذا فشرط تعلق الغسل بغير البالغ أن تكون ممن يوطأ مثلها على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن إبراهيم، قال - وقد سئل عن الجارية متى يجب عليها الغسل؟ . قال -: إذا كان مثلها يوطأ. وأصرح منه ما حكي عنه أنه قال: إذا(1/284)
وطئ جارية لا يوطأ مثلها فلا غسل عليه، حذارا من أن تكون جنابة، وصرح بذلك ابن عقيل، وصاحب التلخيص فيه، أبو البركات في الشرح، والسامري مقيدا الجارية ببنت تسع سنين، والغلام بابن عشر، وظاهر إطلاق كثيرين عدم الاشتراط، ومن ثم أورده ابن حمدان مذهبا.
وشامل أيضا للوطء في كل فرج أصلي كما تقدم وإن كان دبرا، أو لميتة، وحيوان بهيم، حتى السمكة، ذكرها القاضي في التعليق.
(تنبيه) : «شعبها الأربع» بين رجليها وشفريها، الخطابي: أسكتيها وفخذيها. عياض: نواحي الفرج. وقيل: رجليها ويديها. «وجهدها» قيل: أتعبها. وقيل: بلغ جهده منها. وهو يوافق رواية: «ثم اجتهد» والجهد الطاقة والإشارة بذلك - والله أعلم - إلى الحركة، ويمكن صورة العمل، وهو قريب من قول الخطابي: حفرها. قال: والجهد اسم من أسماء النكاح، وعلى هذا معناه: ثم نكحها. و «على الخبير سقطت» . أي صادفت مخبرا يخبرك بحقيقة ما سألت عنه، حاذقا فيه و «يكسل» مضارع أكسل. إذا جامع ولم ينزل. والله أعلم.
[إسلام الكافر من موجبات الغسل]
قال: وإذا أسلم الكافر.
ش: هذا هو المنصوص المختار لعامة الأصحاب.(1/285)
184 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ثمامة بن أثال أسلم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل» رواه أحمد.
185 - وفي الصحيحين أنه اغتسل، وليس فيه أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وفي البخاري أنه اغتسل قبل الإسلام، وإذا الحديثان لم يتواردا على محل واحد، فاغتساله كان قبل إسلامه، وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك كان بعد الإسلام.
186 - «وعن قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغتسل بماء وسدر» . رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وحسنه الترمذي، ولأنه لا يسلم غالبا من جنابة، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة كالنوم، وتردد أبو بكر فوافق الأصحاب في التنبيه، وخالفهم في غيره فقال: يستحب، ولا يجب، وأغرب أبو محمد في الكافي، فحكى ذلك رواية.(1/286)
187 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به في حديث معاذ، ولو وجب لأمر به، إذ هو أول الواجبات بعد الإسلام، ولأن ذلك يقع كثيرا، وتتوفر الدواعي على نقله، فلو وقع لاستفاض، وحديث أبي هريرة في إسناده مقال [ما] ، على أنه قد يحمل على الاستحباب، وكذلك حديث قيس، وقرينته ذكر السدر فيه، جمعا بين الأدلة (ويجاب) بأنه إنما ذكر في حديث معاذ أصول العبادات لا شرائطها، ولا نسلم عدم استفاضة ذلك، بل قضية ثمامة تقتضي استفاضته، وظاهر(1/287)
الأمر الوجوب (فعلى الأول) إذا أجنب في حال كفره ثم أسلم تداخلا، وأنيط الحكم بغسل الإسلام، وعلى قول أبي بكر: يجب عليه الغسل للجنابة وإن اغتسل في كفره، لعدم صحة نيته.
وقد شمل كلام الخرقي المرتد، ومن لم يوجد منه جنابة، وهو الأعرف فيهما، ومن اغتسل في حال كفره، وهو كذلك، وقد قيد ابن حمدان المسألة بالبالغ، والأكثرون أطلقوا، لكن قد يؤخذ من تعليلهم ما قاله، وقد يوجه الإطلاق بأن المذهب صحة إسلام من لم يبلغ، ومقتضى كلامهم أن الغسل والحال هذه شرط لصحة الصلاة، كما صرح به أبو بكر في التنبيه، وإذا يصير بمنزلة وطء الصبي، والتحقيق تعلق الغسل به كما تقدم، والله أعلم.
[الطهر من الحيض والنفاس من موجبات الغسل]
قال: والطهر من الحيض والنفاس.
ش: لا خلاف في وجوب الاغتسال بذلك في الجملة، لإشارة النص وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] أي اغتسلن، أوقف سبحانه حق الزوج من الوطء على الاغتسال، فدل على وجوبه.
188 - وقد صرح بذلك المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لفاطمة بنت أبي حبيش وقد سألته عن استحاضتها، فقال: «ذلك عرق(1/288)
وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا ذهبت فاغتسلي وصلي» رواه البخاري.
189 - وقال لأم حبيبة - وسألته أيضا عن ذلك - فقال لها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا عرق، فاغتسلي وصلي» رواه مسلم، والبخاري ولفظه: «ثم اغتسلي وصلي» ودم النفاس هو دم حيض يجتمع ثم يخرج.
وظاهر كلام الخرقي أن الغسل إنما يجب بالانقطاع، وهو أحد الوجهين وظاهر الأحاديث، (والثاني) - وصححه أبو البركات وغيره - يجب بالخروج، إناطة للحكم بسببه، لكن الانقطاع شرط لصحته اتفاقا، وفائدة الوجهين إذا استشهدت الحائض، فعلى قول الخرقي لا تغسل، إذ الانقطاع الشرعي الموجب للغسل لم يوجد، وعلى قول غيره تغسل للوجوب بالخروج، وقد حصل الانقطاع حسا، فأشبه ما لو طهرت في أثناء عادتها، وقال أبو محمد: لا يجب على الوجهين، لأن الطهر شرط في صحة الغسل، أو في السبب الموجب له [ولم يوجد] .(1/289)
وقد ينبني أيضا على قول الخرقي [أنه لا يجب] ، بل ولا يصح غسل ميتة مع قيام حيض ونفاس، وإن لم تكن شهيدة، وهو قويل في المذهب، لكن لا بد أن يلحظ فيه أن غسلها للجنابة قبل انقطاع دمها لا يصح، لقيام الحدث، كما هو رأي ابن عقيل في التذكرة، وإذا لا يصح غسل الموت لقيام الحدث كالجنابة، وإذا لم يصح لم يجب، حذارا من تكليف ما لا يطاق، والمذهب صحة غسلها لها قبل ذلك، فينتفي هذا البناء.
واعلم أن ظاهر ترجمة الخرقي أولا يقتضي أنه لا يجب الغسل بغير تلك الخمسة المذكورة، لأنه قال: والموجب للغسل خروج المني. إلى آخره، وظاهره حصر الوجوب في هذه الخمسة دون غيرها.
فلا يجب بولادة عرية عن دم، وهو أحد الوجهين أو الروايتين، على ما في الكافي، واختيار الشيخين، لعدم المقتضي لذلك، وهو النفاس أو المني، (والثاني) - واختاره ابن أبي موسى، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، وغيرهم، يجب قياما للمظنة مقام الحقيقة، ولأنه مني منعقد، ورد بخروج العلقة، فإنها لا توجب الغسل بلا(1/290)
نزاع، وينبني على التعليلين الفطر بذلك، وتحريم الوطء قبل الاغتسال، فمن علل بالأول يلزمه ذلك، لا من علل بالثاني اهـ.
ولا يجب أيضا بغسل ميت، بل يستحب، (وعنه) : يجب من تغسيل الكافر.
190 - لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه لما مات أبو طالب أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: «اذهب فوار أباك، ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني» فواريته فجئته فأمرني فاغتسلت فدعا لي» . رواه أبو داود والنسائي، وقد يجب مطلقا.(1/291)
191 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتا فليغتسل» رواه أبو داود، والمذهب الأول بلا ريب، نظرا للأصل، وحملا لما تقدم على الاستحباب، لعموم «حديث صفوان: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة.
» 192 - وفي مالك في الموطأ أن أسماء غسلت أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين توفي، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إني صائمة، وإن هذا يوم شديد البرد، فهل علي من غسل؟ فقالوا: لا. على أنه ليس في حديث علي أنه غسله، مع أن الأحاديث لم تثبت، قاله أحمد وغيره،(1/292)
ومن ثم قال ابن عقيل: ظاهر كلام أحمد عدم الاستحباب رأسا. اهـ.
ولا يجب أيضا على من أفاق من إغماء أو جنون لم يتيقن معه حلم، وإن وجد بلة على المعروف من الروايتين، لأنه معنى يزيل العقل فلا يوجب الغسل كالنوم، ولأنه مع عدم البلة يبعد احتمال الجنابة، ومع وجودها يحتمل أن ذلك لغير شهوة، ويحتمل أنه [حصل] عن المرض المزيل للعقل، فلا يجب الغسل مع الشك، (والثانية) : يجب وإن لم يجد بلة.
193 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل من الإغماء، وفعله على وجه القربة دليل على الوجوب، وتوسط أبو الخطاب فأوجبه مع البلة كالنائم.
ولا يجب أيضا على من أراد الجمعة، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ويرد على حصر الخرقي [الموت] فإنه موجب في الجملة بلا نزاع. والله أعلم.(1/293)
[غمس الحائض والجنب والمشرك أيديهم في الماء]
قال: والحائض، والجنب، والمشرك إذا غمسوا أيديهم في الماء فهو طاهر
ش: لا إشكال أن مجرد غمس الحائض أو الجنب يده أو غيرها من أعضائه في الماء لا يزيل طهارته، لطهارة بدنيهما.
194 - لما في الصحيحين «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، قال: فانخنست منه. الحديث إلى قوله: «سبحان الله إن المؤمن لا ينجس» .
» 195 - ولمسلم من حديث حذيفة نحوه.
196 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع فيها» . رواه مسلم وغيره، أما لو غمس الجنب أو الحائض الذي انقطع حيضها يده في الإناء قاصدا رفع الحدث عنها والماء قليل، فإن طهوريته تزول على المذهب المنصوص، ولم يرتفع حدثه على المعروف، وهل زوالها بأول جزء لاقاه، أو بأول جزء انفصل عنه؟ فيه وجهان، أشهرهما الثاني، وإن نويا الاغتراف(1/294)
فهو باق على طهوريته، وإن غمسا بعد نية الاغتسال ذاهلين عن نية الاغتراف، وعن رفع الحدث عن اليد بالوضع فروايتان. أنصهما عن الإمام، وأصحهما عند عامة الأصحاب: زوال طهوريته، لحصول الغمس بعد نية رفع الحدث.
197 - وفي سنن سعيد عن ابن عمر: من اغترف من ماء وهو جنب فما بقي فهو نجس. (والثانية) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي البركات - بقاء طهوريته.
198 - لأن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إنه يتناوله تناولا ولأنه لما قصد بأخذه استعماله خارج الإناء فقد صرف عنه النية، هذا هو التحقيق في التقسيم، وظاهر ما في المغني عن بعض الأصحاب أنه قال بالمنع أيضا فيما إذا نويا الاغتراف، وفيه نظر، ولو وضع الجنب رجله بعد نية الغسل أثر على الأصح، قاله ابن تميم، وعاكسه ابن حمدان فقال: إنه طاهر في الأصح، ولأبي محمد في المغني في إلحاق الرجل باليد منعا وتسليما.(1/295)
وقد دخل في كلام الخرقي - بطريق التنبيه - المحدث إذا غمس يده في الإناء أنه لا يؤثر، وهو كذلك، [إلا إذا اغترف بعد نية الطهارة، وبعد غسل وجهه، قاصدا لرفع الحدث عنها بالغمس، فإن طهوريته تزول، كما في الجنب، وكذا إن] ذهل عن رفع الحدث عنها والحال ما تقدم، على قويل، والمذهب عدم تأثير ذلك، بخلاف الجنب على الأشهر كما تقدم، نظرا إلى أن الوضوء يتكرر، فلو أثر لشق، بخلاف الجنب.
199 - ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغترف في الوضوء بعد غسل وجهه، كما ثبت في الصحيح، ولم يثبت أنه في الجنابة اغترف إلا بعد غسل يديه، إذا عرف حكم الحائض والجنب، فحكم المشرك أنه إن كان ممن تحل ذبيحته، ولم يتظاهر بشرب الخمر، وأكل الخنزير، ونحو ذلك، فإن غمسه لا يؤثر شيئا.
200 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ من مزادة مشركة، وأضافه يهودي بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولأن الكفر في قلبه لا يؤثر في(1/296)
بدنه، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ليس المراد به - والله أعلم - النجاسة الحقيقية على الأشهر الأعرف، بل الاستقذار، وفاقا لأبي عبيدة والزجاج.
201 - وعن قتادة: قيل لهم ذلك لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضئون. ومن هذه حاله جدير بأن يوصف بالتنجيس، ويمنع من قربان مسجد له على غيره شرف وتعظيم.
وإن كان ممن لا تحل ذبيحته، أو ممن يتظاهر بأكل الخنزير، ونحو ذلك فيخرج في نجاسة الماء بغمسه روايتان، بناء على الروايتين فيما استعملوه هؤلاء من آنيتهم، هل تباح(1/297)
مطلقا، أو لا تباح إلا بعد غسل، وأصلهما يعارض الأصل والغالب.
(تنبيهات) : [أحدها] مراد الخرقي بالطاهر الطاهر غير المقيد، المذكور في صدر كتاب الطهارة. (الثاني) : «انخنست» [من] . انفعلت، مطاوع خنس، من (الخنوس) وهو التأخر والاختفاء، ومنه سميت الكواكب الخمسة - زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد - الخنس. في قوله سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15] على قول بعضهم، لأنها تتأخر في رجوعها، بينا تراها في مكان من السماء، حتى تراها راجعة إلى وراء جهتها التي كانت تسير إليها، وقيل: الخنس النجوم كلها، لاختفائها نهارا.
(الثالث) : المزادة بفتح الميم، التي يسميها الناس الراوية، والسطيحة أصغر منها، «وإهالة سنخة» شحم متغير. والله أعلم.
[وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة]
قال: ولا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت بالماء.(1/298)
ش: معنى الخلوة أن لا يستعمل الرجل الماء معها، في إحدى الروايتين، لعموم حديث الحكم الآتي، خرج منه حالة الاستعمال.
202 - لحديث «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه من الجنابة» . فما عداه على المنع. (والثانية) : - وهي المختارة – أن لا يشاهدها حال طهارتها رجل مسلم.
203 - لأن في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ بفضل وضوء ميمونة بعد فراغها» ، فيحمل على أنه كان شاهدها وقضية النهي على عدمها، جمعا بين الدليلين، وعلى هذه إن شاهدها صبي مميز، أو امرأة، أو كافر فهل يخرج عن أن تكون خالية به، كما في خلوة النكاح؟ وهو اختيار الشريف، والشيرازي، أو لا يخرج إلا بالرجل المسلم، لأن الحكم يختص به؟ وهو اختيار القاضي في المجرد، فيه وجهان، وألحق السامري المجنون بالصبي ونحوه.
إذا عرف [هذا] فحيث حكم بخلوتها بالماء فهو باق على طهوريته، يجوز لها الطهارة به، على المعروف المشهور، حتى(1/299)
قال أبو البركات: [إنه] لا خلاف في ذلك، وفي خصال ابن البنا، والمذهب لابن عبدوس: أنه طاهر غير مطهر. وحكى صاحب التلخيص، وابن حمدان المسألة على روايتين، ولقد أبعد السامري حيث اقتضى كلامه الجزم بطهارته، مع حكايته الخلاف في طهارة الرجل به: والعمل على القول بطهوريته، وإذا يجوز لها بلا ريب الطهارة به، وكذلك لامرأة أخرى على الأعرف.
وهل يجوز للرجل الوضوء به؟ فيه روايتان (أشهرهما) - وهي اختيار الخرقي، وجمهور الأصحاب -: لا يجوز نص عليه.
204 - لما روى الحكم بن عمرو الغفاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. وفي رواية: وضوء المرأة» . رواه الخمسة، وحسنه الترمذي.(1/300)
205 - وعن عبد الله بن سرجس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، رواه البيهقي في السنن.
206 - وقال أحمد: أكثر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه. وهو أمر لا يقتضيه القياس، فالظاهر أنهم قالوه عن توقيف، (والثانية) - واختارها أبو الخطاب، وابن عقيل وإليها ميل المجد في المنتقى -: يجوز مع الكراهة.(1/301)
207 - لما روى عمرو بن دينار قال: علمي، والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل بفضل ميمونة» . رواه مسلم.
208 - وعن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «اغتسل بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جفنة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الماء لا يجنب» رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه هو وابن خزيمة، والحاكم، وابن حبان، لكن أحمد قال: أتقيه لحال سماك، ليس أحد يرويه غيره، وحديث الحكم قيل عن البخاري أنه قال:(1/302)
ليس بصحيح. وعنه في حديث ابن سرجس أنه قال: قد أخطأ من رفعه.
ولمن نصر الأول أن يقول: حديث ابن عباس الأول لم يجزم عنه أبو الشعثاء، والثاني - وهو حديث سماك - قد تقدمت الإشارة من أحمد على تضعيفه، ويؤيد ذلك اختلاف ألفاظه، فرواه الثوري وقال فيه: «إن الماء لا ينجس» ثم لو صحا حملا على عدم الخلوة، جمعا بين الدليلين، ثم على تقدير التعارض يرجح الأول بأنه حاظر، ثم ناقل عن الأصل، إذ الأصل الحل اهـ.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خص المنع بالوضوء تبعا للحديث، وغيره ممن علمت من الأصحاب يسوي بين الحدثين بمعنى أن لا فارق، فهو في معنى المنصوص، ولهم في إلحاق طهارة الخبث(1/303)
بذلك وجهان، (الإلحاق) اختيار القاضي، وأبي البركات، وحكاه الشيرازي عن الأصحاب ما عدا ابن أبي موسى، إذ كل مائع لا يزيل الحدث لا يزيل النجاسة. (وعدمه) اختيار ابن أبي موسى، وأبي محمد، وأبي البركات في المحرر، اقتصارا على مورد النص، وقوله: لا يتوضأ الرجل. يخرجها وامرأة سواها وقد تقدم. وكذا الخنثى لعدم تحقق ذكوريته، وقد يخرج الصبي وهو مقتضى تعليل أبي البركات.
وقوله: بفضل. ربما أشعر بقلة الباقي، فلو كان ما خلت به كثيرا لم تؤثر خلوتها، وهذا هو المذهب، إذ النجاسة لا تؤثر في الكثير، فهذا أولى وأحرى. وطرد ابن عقيل الحكم في اليسير والكثير، نظرا للتعبد به.
وقوله: «بفضل» وهو يشمل المستحب، وهو أحد الوجهين، (ويخرج) منه ما خلت به لإزالة النجاسة، وهو أحد الوجهين أيضا، وبه قطع ابن عبدوس، إذ الطهارة تنصرف إلى طهارة الحدث، (والثاني) - وصححه أبو البركات -: حكمه حكم ما خلت به لطهارة حدث، نظرا لعموم: نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة.
(ويخرج) منه أيضا ما خلت به لرفع طهارة كبرى، والأصحاب على التسوية بينهما كما تقدم، ولفظ الحديث يشهد لذلك أيضا، (ويخرج) منه أيضا ما خلت به للتبريد(1/304)
والتنظيف، وهو واضح لأن ذلك ليس بطهارة، وكذلك ما خلت به للشرب، نعم هل يكره؟ .
209 - لأن في بعض ألفاظ الحكم بن عمرو: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن سؤر المرأة» ، أو لا يكره، وهو اختيار أبي البركات، لأن اللفظ المشتهر «وضوء المرأة، أو طهور المرأة» ؟ على روايتين، وظاهر كلام ابن تميم حكايتهما في الجواز وعدمه.
وقول الخرقي: المرأة. يشمل الكافرة، وهو أحد الوجهين، ويخرج الرجل وهو واضح، وكذلك الخنثى، إذ المانع الأنوثية [ولم تتحقق] ، وقد يخرج الصغيرة، ويحتمل: إن صحت طهارتها وجهان، (التأثير) لأنها من أهل الطهارة، والحديث خرج على الغالب (وعدمه) اعتمادا على الحديث.
(تنبيه) : لم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعكس هذه المسألة، وهو فضل ما خلى به الرجل للنساء، وقوة كلامه يعطي أن ذلك لا يؤثر منعا، ونص أحمد على ذلك في رواية الجماعة، لمفهوم حديث الحكم، وعن بعض الأصحاب أنه منعهن من ذلك.(1/305)
210 - لما روى حميد الحميري قال: لقيت رجلا صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع سنين، كما صحبه أبو هريرة، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعا» . رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه الحميدي، وقال البيهقي: رجاله كلهم ثقات. والرجل المبهم قيل: إنه الحكم، وقيل: إنه عبد الله بن سرجس، وقيل: ابن مغفل. والله أعلم.
قال:
[باب الغسل من الجنابة]
ش: الجنابة معروفة، وقد تقدم أن أصلها البعد، ويقال: أجنب الرجل - كما قال الخرقي -[يجنب] ، فهو جنب، وجنب يجنب، فهو مجنب، ويقال للواحد والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث، بلفظ واحد، [والله أعلم] .(1/306)
[كيفية الغسل من الجنابة]
قال: وإذا أجنب الرجل] غسل ما به من أذى، وتوضأ - وضوءه للصلاة، ثم أفرغ [الماء] على رأسه ثلاثا، يروي بهن أصول الشعر، ثم يفيض الماء على سائر جسده [ثلاثا] .
ش: هذا على نحو ما في الصحيحين وغيرهما.
211 - فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب الماء على رأسه بثلاث غرف، ثم يفيض الماء على جلده كله. وفي رواية: قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض [الماء] على سائر جسده، ثم غسل رجليه. وفي رواية للنسائي، بعد غسل الفرج: ثم يمضمض ويستنشق.
» 212 - «وعن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: وضع للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء يغتسل به، فأفرغ على يديه، فغسلهما مرتين أو ثلاثا، ثم(1/307)
أفرغ بيمينه على شماله، فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثا، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه، فناولته خرقة فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» .
واعلم أن مراد الخرقي بهذه الصفة صفة الكمال، كما يدل عليه كلامه بعد، وقد قال كثير من متأخري الأصحاب: إن الكمال بعشرة أشياء، النية، والتسمية، وغسل يديه ثلاثا، وغسل ما به من أذى، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاث حثيات، يروي بهن أصول الشعر، ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثا، ويبدأ بشقه الأيمن ويدلك بدنه بيديه، وينتقل من موضعه فيغسل قدميه.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص من ذلك على أربعة، وتقدم له غسل يديه إذا قام من نوم الليل، إدخالهما الإناء ثلاثا، وتقدم التنبيه على أنه لا فرق في أصل المسنونية بين نوم الليل ونوم النهار، وغير ذلك، وهذه الخمسة هي التي في الحديثين، ويأتي له النية والكلام عليها، وإنما لم تذكر في الحديثين لأن متعلقها القصد، وعائشة وميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنما حكيا ما شاهداه من أفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/308)
وقد يؤخذ من كلام الخرقي البداءة بشقه الأيمن قبل الأيسر من قوله ثم: وغسل الميامن قبل المياسر، وفي بعض روايات حديث عائشة المتقدم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه، وأما التسمية، والدلك فلم يتعرض الخرقي لهما نظرا للحديثين، وكذلك غسل قدميه أخيرا اعتمادا على حديث عائشة، وإنما استحب الأصحاب التسمية.
213 - لعموم «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أجذم» الحديث، وقياسا لإحدى الطهارتين على الأخرى، أو نقول: الكبرى صغرى وزيادة. اهـ.
والدلك لأنه أحوط، وأعون على إيصال الماء إلى جميع البشرة، وخروجا من الخلاف، إذ [قد] أوجبه بعض العلماء، مع أن كلام أحمد قد يحتمله، قال أبو داود: سأل رجل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن إمرار اليد، فقال: إذا اغتسل بماء بارد في الشتاء أمر يده، لأن الماء ينزلق عن البدن في الشتاء، لكن تعليله يقتضي المسنونية.(1/309)
214 - ويدل على المسنونية المبالغة في إيصال الماء إلى جميع البشرة في الجملة ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من ترك موضع [شعرة] من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار» قال علي: فمن ثم عاديت شعري. وكان يجزه، رواه أحمد، وأبو داود، ومن ثم قال الأصحاب: يتعاهد معاطف بدنه، وسرته، وتحت إبطه ونحو ذلك، وما ينبو عنه الماء. اهـ.
والانتقال لغسل قدميه لحديث ميمونة، وقد اختلف عن إمامنا في ذلك، فقال في رواية: أحب إلي أن يغسلهما بعد الوضوء، لحديث ميمونة، وفي أخرى قال: العمل على حديث عائشة. وفي ثالثة قال: يخير لورود الأمرين. وظاهر(1/310)
إحدى روايات حديث عائشة - وقد تقدمت - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بينهما، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب.
تنبيهات: (أحدها) مراد الخرقي هنا بالأذى والله أعلم.
ما يستقذر وإن لم يكن نجسا، كالمني ونحوه، بخلاف مراد أبي محمد بالأذى في المجزئ كما سيأتي، فإنه النجاسة. اهـ.
(الثاني) : ينوي بالوضوء المتقدم رفع الحدث، ذكره السامري، وقول الخرقي وغيره: يروي بهن أصول الشعر. ظاهره: بالغرفات الثلاث، وفي المستوعب: يروي بكل مرة. ثم ظاهر كلامه وكلام قليل من الأصحاب أن الإفاضة على سائر الجسد لا تثليث فيها، وهو ظاهر الأحاديث، واختيار أبي العباس، ولعل عامة الأصحاب استحبوا التثليث قياسا لإحدى الطهارتين على الأخرى، أو اطلاع على نص بذلك وقد استحب أبو محمد زيادة على ما تقدم،(1/311)
وهو أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته قبل إفاضة الماء، كما في حديث عائشة، ولا ريب أنه أعون على إصابة الماء البشرة، وقد تقدم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر، ثم جمع بينهما، فينبغي أن يعتمد [على] ذلك.
(الثالث) : قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: رأى أن قد استبرأ. أي: استقصى وخلص من عهدة الغسل، وبرئ منها كما يبرأ من الدين وغيره، و «حفن» أخذ وصب، والحفنات جمع حفنة، وهو ملء الكفين من طعام أو نحوه، أصلها من الشيء اليابس كالدقيق، والرمل ونحوه، «وغرف» جمع غرفة وهو ملء الكف، وغرفة بالفتح أي مرة، والله أعلم.
قال: وإن غسل مرة، وعم بالماء رأسه وجسده، ولم يتوضأ أجزأه، بعد أن يتمضمض ويستنشق، وينوي به الغسل والوضوء، وكان تاركا للاختيار.
ش: هذه صفة الغسل المجزئ، والأصل فيها في الجملة قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ظاهره الاجتزاء بالتطهير، وبالاغتسال من غير اشتراط وضوء ولا غيره.(1/312)
215 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن ناسا قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألوه عن غسل الجنابة، وقالوا: إنا بأرض باردة. فقال: «إنما يكفي أحدكم أن يحفن على رأسه ثلاث حفنات» وفي لفظ أنه قال: «أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا» رواهما مسلم، وظاهرهما الاجتزاء بذلك من غير وضوء. وإنما اشترطت النية المذكورة لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات» «لا عمل إلا بالنية» .
واشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المضمضة والاستنشاق، لما تقدم له من أن الفم والأنف من الوجه، وقد تقدم بيان ذلك والخلاف فيه، فلا حاجة إلى إعادته وهذا هو المذهب المعروف، أعني الاجتزاء بالغسل عن الوضوء، بالشرط المذكور، لظاهر ما تقدم، (وعنه) لا بد أن يأتي بالوضوء. قال أبو الخطاب في هدايته، والسامري، وصاحب التلخيص وغيرهم: وإن لم(1/313)
يوجد ما يقتضيه، كما إذا أوجبنا الغسل بالانتقال، وهو يلتفت لما تقدم في النواقض. تأسيا بفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجاب بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الكامل، بدليل الاتفاق على أنه لا يجب الوضوء قبل، وتوسط أبو بكر، والشيرازي فقالا: يتداخلان فيما يتفقان فيه، ولا يسقط ما ينفرد به الوضوء عن الغسل من الترتيب والموالاة والمسح وإن لم يقل بإجزاء الغسل عن المسح كما لا يسقط ما ينفرد به الغسل من تعميم البدن ونحوه.
(تنبيه) : في معنى نية الوضوء والغسل، إذا نوى استباحة الصلاة، أو أمرا لا يباح إلا بهما، كلمس المصحف، لا قراءة القرآن. اهـ.
وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يشترط للغسل (ترتيب) ، وهو كذلك، لظاهر ما تقدم، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولم يأمره بترتيب، ولا موالاة، وهو المعروف في المذهب، لظاهر ما تقدم أيضا.
216 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يغتسل من الجنابة، فيخطئ الماء بعض جسده؟(1/314)
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغسل ذلك المكان، ثم يصلي» رواه البيهقي في سننه، (ولا دلك) ، وهو كذلك، لظاهر ما تقدم أيضا، (ولا تسمية) ، وهو بناء على قاعدته من أن التسمية لا تجب في الوضوء، أما إن قلنا: تجب ثم. وجبت هنا، وجزم صاحب التلخيص، والسامري وغيرهما بالوجوب هنا، نظرا منهم إلى أن ذلك المذهب ثم.
ومقتضى كلام الخرقي أيضا أن المجزئ لا يتوقف على إزالة ما به من أذى، وإن كان نجاسة، وهو ظاهر كلام طائفة من الأصحاب، فعلى هذا يرتفع الحدث مع بقاء النجاسة، وصرح بذلك ابن عقيل، ومنصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحدث لا يرتفع إلا مع آخر غسلة طهرت المحل، وعلى هذا يتوقف صحة الغسل على الحكم بزوال النجاسة، وهو ظاهر كلام أبي محمد في المقنع، فقال في المجزئ: يغسل ما به من أذى. والله أعلم. أي من نجاسة وينوي، لكنه يوهم زوال ما به من أذى أولا، وهذا الإيهام ظاهر ما في المستوعب، فإنه قال في المجزئ: يزيل ما به من أذى، ثم ينوي. وتبعا في ذلك - والله أعلم - أبا الخطاب في الهداية لكن لفظه في ذلك أبين من لفظيهما، وأجرى على المذهب، فإنه قال: يغسل(1/315)
فرجه ثم ينوي. وكذلك قال ابن عبدوس في المجزئ: ينوي بعد كمال الاستنجاء، وزوال نجاسته إن كانت ثم، وقد يحمل كلام أبي محمد والسامري على ما قاله أبو الخطاب، ويكون المراد بذلك الاستنجاء بشرط تقدمه على الغسل، كالمذهب في الوضوء، لكن هذا [قد] يشكل على أبي محمد، فإن مختاره ثم أنه لا يجب تقديم الاستنجاء، وعلى الخرقي، فإن مذهبه تقديم الاستنجاء، فكان من حقه أن ينبه على ذلك.
ويتلخص لي أنه يشترط لصحة الغسل تقديم الاستنجاء على الغسل إن قلنا: يشترط تقديمه ثم. وإن لم نقل ذلك، أو كانت [النجاسة] على غير السبيلين، أو عليهما غير خارجة منهما، لم يشترط التقديم، ثم هل يرتفع الحدث مع بقاء النجاسة، أو لا يرتفع إلا مع الحكم بزوال النجاسة؟ فيه قولان، ثم محل الخلاف إذا لم تكن النجاسة كثيفة، تمنع وصول الماء، أما إن منعته فلا إشكال في توقف صحة الغسل على زوالها، وهذا واضح والله أعلم.
[مقدار ماء الوضوء والغسل]
قال: ويتوضأ بالمد، وهو رطل وثلث بالعراقي] ، ويغتسل بالصاع، وهو أربعة أمداد.
ش: لا نزاع فيما نعلمه في صحة الوضوء والغسل بذلك.(1/316)
217 - لما في مسلم وغيره عن سفينة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصاع، ويتطهر بالمد» . 218 - وفي الصحيحين عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد» . وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المد ربع الصاع، ولا نزاع في ذلك، ويقتضي أن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وهو المذهب المشهور، كصاع الفطرة والزكاة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى (وعنه) ما يدل - واختاره القاضي، وأبو البركات - أن الصاع هنا ثمانية أرطال.
219 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ بماء يكون رطلين ويغتسل بالصاع» . رواه أحمد وأبو داود.
220 - «وعن موسى الجهني قال: أتي مجاهد بقدح، حزرته ثمانية أرطال، فقال: حدثتني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله(1/317)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل بمثل هذا» . رواه النسائي و «كان» في مثل هذا المقام تقتضي المداومة، والله أعلم.
قال: وإن أسبغ بدونهما أجزأه.
ش: الإسباغ تعميم العضو بالماء، بحيث يجري عليه، ولا يكون مسحا، فإذا حصل ذلك بدون المد في الوضوء، وبدون الصاع في الغسل حصل الواجب، على المشهور، المعروف من الروايتين، لظاهر الآية.
221 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا» ونحو ذلك.
222 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها كانت تغتسل هي والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك» . رواه مسلم.(1/318)
223 - وعن أم عمارة بنت كعب، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ من إناء قدر ثلثي المد.» رواه أبو داود والنسائي، (والثانية) : لا يجزئ دون المد في الوضوء، ولا دون الصاع في الغسل.
224 - لظاهر ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجزئ من الغسل الصاع، ومن الوضوء المد» رواه أحمد، والله أعلم.(1/319)
قال: وتنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض، وليس عليها نقضه [لغسلها] من الجنابة، إذا روت أصوله. [والله أعلم] .
ش: هذا منصوص أحمد في الصورتين، ومختار كثير من الأصحاب.
225 - لما روي عن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها - وكانت حائضا - «انقضي شعرك واغتسلي» رواه ابن ماجه، قال صاحب المنتقى: بإسناد صحيح.
226 - وفي مسلم: «أن أم سلمة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: «أفأنقضه لغسل الجنابة» .(1/320)
227 - وأصرح من ذلك ما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها، واغتسلت بالخطمي والأشنان، [وإذا اغتسلت من الجنابة لم تنقضه، ولم تغتسل بالخطمي والأشنان] » رواه البيهقي في السنن، لكن في إسناده محمد بن يونس، قال: وليس بثقة. والمعنى في ذلك أن مدة الحيض تطول، فيتلبد الشعر، فشرع النقض، طريقا موصلا إلى وصول الماء إلى أصول الشعر، بخلاف غسل الجنابة، فإنه لا يطول غالبا، فلا حاجة إلى النقض، لوصول الماء بدونه غالبا، فلذلك لم يطلب النقض رفعا لكلفته.
وحكى ابن الزاغوني رواية أخرى في الحيض، أنه لا يجب النقض، وهو اختيار أبي محمد، وابن عبدوس، وابن عقيل في التذكرة.
228 - لأن في مسلم: «أن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ظفر رأسي، أفأنقضه للحيض والجنابة؟ قال: «لا، إنما يكفيك أن تفرغي عليك ثلاث حفنات، ثم قد طهرت»(1/321)
وحديث أنس لا يصح، وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قضية عين فيحتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى عليها ما يمنع وصول الماء، لكن ذكرها للحيض ظاهره أن العلة ذلك، والأولى حمل الحديثين على الاستحباب، جمعا بين الأدلة. وقرينة ذلك ذكر الخطمي والأشنان في حديث أنس.
ولنا قول آخر بالوجوب في الجنابة، قياسا على الحيض، والنص يرده، وابن الزاغوني قيده بما إذا طالت المدة، قال: بناء على أن العلة في النقض في الحيض طول المدة أما إن جعل المناط النص تعبدا فلا.
وقول الخرقي: إذا روت أصوله. فيه إشعار على أنه يشترط إيصال الماء إلى أصول الشعر والبشرة، وهو كذلك، وإن كانت كثيفة، بخلاف ما تقدم في الوضوء.
229 - وقد شهد لذلك قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة» وإذا أوجب الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تروية(1/322)
أصول الشعر، ويلزم من ذلك غسل البشرة، فما بالك بالشعور نفسها، فيؤخذ من ذلك وجوب غسلها وإن استرسل، وهو المذهب، وحكى أبو محمد وجها أنه لا يجب غسل المسترسل، وقال: إنه يحتمله كلام الخرقي. فلا يظهر لي وجه احتمال كلام الخرقي لذلك، والله أعلم.
قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
[باب التيمم]
ش: التيمم في اللغة القصد، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي قاصدين، وقال الشاعر [العذري] :
وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا مبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني(1/323)
يقال: يممت فلانا وتيممته وأممته. إذا قصدته، وقد قرئ بالثلاثة في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] أي لا تقصدوا الخبيث للإنفاق منه، فقرأ الجمهور (ولا تيمموا) بالفتح، وقرأ عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (ولا تأمموا) وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (ولا تيمموا: بضم التاء. وهو في العرف الشرعي عبارة عن: قصد شيء مخصوص - وهو التراب الطاهر - على وجه مخصوص - وهو مسح الوجه واليدين - من شخص مخصوص، وهو العادم للماء، أو من يتضرر باستعماله، وتحقيق ذلك كله له محل آخر، وقد يطلق ويراد به مسح الوجه واليدين وسمي المقصود بالتيمم تيمما.
وهو جائز بالإجماع، وقد شهد له قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] الآية، وحديث عمار وغيره كما سيأتي إن شاء الله(1/324)
تعالى، وهو من خصائص هذه الأمة ومما فضلت به على غيرها، توسعة عليها، وإحسانا إليها.
230 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» [والله أعلم] .
[التيمم في السفر]
قال: ويتيمم في قصير السفر وطويله.
ش: هذا هو المعروف في المذهب المقطوع به، اعتمادا على شمول الآية المتقدمة بإطلاقها لحالتي السفر، ثم شرع التيمم يقتضي ذلك، إذ السفر القصير يكثر، فيكثر عدم الماء فيه، فلو لم يجز التيمم إذا لأفضى إلي حرج ومشقة، وذلك ينافي أصل مشروعية التيمم، وقد بالغ الأصحاب في ذلك فقالوا: لو خرج من المصر إلى أرض من أعماله لحاجة: كالحراثة، والاحتطاب، والاحتشاش ونحو ذلك، ولا يمكنه حمل الماء منه، ولا الرجوع للوضوء إلا بتفويت حاجته، فله التيمم، ولا إعادة عليه على الأشهر، وقيل: بلى لأنه(1/325)
كالمقيم، إذ هو في عمل المصر، ومن ثم لو كانت الأرض التي يخرج إليها من عمل قرية أخرى فلا إعادة عليه.
وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سفر المعصية، وهو المعروف، لأنه عزيمة لا يجوز تركه، وعليه لا يعيد على المشهور.
ومفهوم كلامه أنه لا يجوز التيمم في الحضر، ولو خاف فوات الصلاة، وهو المذهب وعن أبي العباس جواز ذلك، ولأحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية بالجواز في الجواز في الجنازة خاصة.
وأنه لا يجوز التيمم في الحضر لعدم الماء، كما إذا حبس في المصر ولم يجد ماء، أو انقطع الماء عن أهل البلد، ونحو ذلك، وهو إحدى الروايتين، واختيار الخلال، لظاهر الآية الكريمة فإن ظاهرها اختصاص جواز التيمم بحالة [عدم] الماء في السفر، وإلا لم يكن للتقييد بالسفر فائدة، [والثانية] : - وهي المشهورة، وعليها جمهور الأصحاب -: يجب عليه التيمم - والحال هذه - والصلاة، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي ذر «إن الصعيد [الطيب] طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» ، رواه أحمد والترمذي وصححه، وحديث «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبل» وغير ذلك، والتقييد بالسفر في الآية خرج(1/326)
- والله أعلم - مخرج الغالب، إذ السفر محل العدم غالبا، وهذا كاختصاص الخلع بحال الخوف، وشهادة الرجل والمرأتين بحالة تعذر الرجلين، ومثل ذلك لا يكون مفهوم حجة اتفاقا.
فعلى هذا إذا صلى بالتيمم هل يعيد؟ فيه قولان، أشهرهما لا. لفعله المأمور به، وإذا يخرج عن العهدة لندرة ذلك، ولأبي محمد احتمال بالتفرقة بين عذر يزول عن قريب، كالضيف إذا أغلق عليه الباب، ونحو ذلك، فهذا يعيد لأنه بمنزلة المتشاغل بطلب الماء، وبين عذر يمتد، كالحبس، وانقطاع الماء عن القرية، فهذا لا إعادة عليه، قلت: وهذا التعليل منه إنما يبيح عدم التيمم والحال هذه، والله أعلم.
[شروط التيمم]
قال: إذا دخل وقت الصلاة، وطلب الماء فأعوزه.
ش: ذكر الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] لجواز التيمم [في السفر] ثلاثة شروط، (أحدها) دخول وقت الصلاة، فلا يجوز التيمم لصلاة قبل وقتها، وهذا هو المشهور، والمختار للأصحاب، لأن الله تعالى أمر بالوضوء أو التيمم عند إرادة القيام إلى الصلاة، وإنما يكون ذلك بعد دخول الوقت، وظاهر الخطاب: كلما أراد القيام إلى الصلاة.(1/327)
231 - خرج الوضوء، لصلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، وبقي التيمم على مقتضى ظاهرها.
232 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت» مختصر، رواه أحمد، وللبيهقي في سننه عن أبي أمامة نحوه، وظاهره تقييد طهورية التراب بحال إدراك الصلاة، وإنما يتحقق ذلك بدخول الوقت، وأيضا فالتيمم قبل الوقت لا حاجة إليه، فهو كالتيمم مع وجود الماء، وقد أشار الله سبحانه [وتعالى] إلى اشتراط الحاجة بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] . (وعن أحمد) [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ما يدل على جواز ذلك، وهو اختيار أبي العباس.
233 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وجعلت تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» وشمله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد(1/328)
الماء عشر سنين» ونظرا إلى أنه بدل فيساوي مبدله، إلا ما خرج بالدليل كالإطعام مع العتق في الكفارة، ونحو ذلك ولقد تخرج عبد العزيز في حكايته الإجماع على منع التيمم قبل الوقت.
(تنبيه) : وقت المكتوبة المؤداة زوال الشمس، أو غروبها ونحو ذلك، والفائتة كل وقت، وكذلك المنذورة على المذهب، وصلاة الاستسقاء باجتماع الناس في الصحراء، والصلاة على الميت بنجاز غسله، وصلاة الكسوف بالكسوف إن أجزنا ذين في وقت النهي، وإن لم نجزهما فيه(1/329)
فبذلك مع خروج وقت النهي، وكذلك جميع التطوعات وقتها وقت جواز فعلها اهـ.
(الشرط الثاني) : طلب الماء، على المشهور المختار من الروايتين لظاهر الآية، فإنه سبحانه [وتعالى] شرط لجواز التيمم عدم الوجدان، ولا يقال: ما وجد. إلا بعد الطلب، ولا يرد قوله سبحانه: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] مع انتفاء الطلب منهم.
234 - وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد لقطة» لأن كلامنا في جانب النفي، أما جانب الوجود فسلم أنه [لا] يقتضي الطلب، (فإن قيل) : فيرد قوله سبحانه: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] لاستحالة الطلب على الله سبحانه، (قيل) : الله سبحانه [وتعالى] طلب منهم الثبات على العهد، أي أمرهم بذلك، فهو سبحانه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهد، فلذلك قيل: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ} [الأعراف: 102] .
ولأنه بدل، شرط له عدم مبدله، فلم يجز إلا بعد طلب المبدل، كالصيام مع الرقبة في الكفارة، وكالقياس مع النص في الحادثة، يحقق ذلك أن البدل من شرطه الضرورة، وهي بعد الطلب متحققة حسب الإمكان، أما قبله فمشكوك فيها، فلا تثبت الرخصة.(1/330)
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى - واختارها أبو بكر -: يستحب الطلب ولا يجب. اعتمادا على ظاهر الحال، كالفقير لا يلزمه طلب الرقبة، ومحل الخلاف - وفاقا لأبي البركات، وصاحب التلخيص - إذا احتمل وجود الماء، ولم يكن ظاهرا، أما مع الجزم بعدم الماء فلا يجب بلا ريب، ومع ظن وجوده - إما في رحله، أو بأن رأى خضرة، ونحو ذلك -: يجب بالإجماع.
وصفة الطلب أن يفتش من رحله ما يحتمل أن الماء فيه، ويسعى يمنة ويسرة، وأماما ووراء، ما العادة أن المسافر يسعى إليه لطلب الماء، والمرعى والاحتطاب، ونحو ذلك، لا فرسخا ولا ميلا ولا ما يلحقه فيه الغوث على الأشهر، ويشترط للسعي الأمن على نفسه، وأهله، وماله، لسبب يقتضيه، لا جبنا، وأمن فوت الوقت، وفوت الرفقة، ولقد أبعد(1/331)
ابن عبدوس في اشتراط ذلك للقرب دون البعد، وابن أبي موسى في حكايته وجها بوجوب الإعادة [على المرأة] إذا خافت الفجور في القصد، فإن رأى خضرة أو موضعا يتساقط عليه الطير قصده، لأن ذلك مظنة الماء، بالشرط السابق، وكذلك إن كان بقربه مانع من انبساط [النظر]- كجبل ونحوه - قصده بالشرط السابق، فصعد عليه، وهل يلزمه المشي خلفه؟ على وجهين، ويسأل رفقته عن مظانه، فإن دله عليه ثقة قصده بالشرط السابق أيضا، (ومحل الطلب) عند دخول وقت كل صلاة، كما أشار إليه الخرقي بقوله: إذا دخل وقت الصلاة. فإن طلب قبل الوقت لم يعتد به.
(الشرط الثالث) : إعواز الماء، بأن يطلب الماء فلا يجد، كما نص الله تعالى عليه بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وحصل الاتفاق عليه، وفي معنى العادم إذا وجد الماء وتعذر عليه استعماله، لعدم قدرته على النزول إليه، أو الاستقاء منه، أو غلبة الواردين عليه، أو إحالة سبع ونحو دونه.
ثم الإعواز له حالتان (إحداهما) : ما تقدم، وهو أن يكون عادما للماء، إما حسا، وإما حكما، (الثانية) : وجد ماء ولكن لا يكفيه لطهره، والمعروف والحال هذه - حتى قال القاضي في روايتيه: إنه لا خلاف فيه في المذهب - أنه(1/332)
يلزمه استعماله إن كان جنبا، ثم يتيمم لما بقي، وكذلك إن كان محدثا، على أشهر الوجهين، أو الروايتين على ما في الرعاية، (والثاني) : - واختاره ابن أبي موسى، وأبو بكر، مع حكايته له عن بعض الأصحاب - لا يلزمه استعماله ويتيمم، وعلى هذا في إراقته قبله - قلت: إن لم يحتج إليه لعطش - روايتان، حكاهما ابن حمدان، ونظيرهما الروايتان في الطهور المشتبه بنجس، والله أعلم.
قال: والاختيار تأخير التيمم إلى [آخر الوقت] .
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار ابن عبدوس.
235 -[اعتمادا على] ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: إذا أجنب الرجل في السفر: تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى. رواه الدارقطني والبيهقي، لكنه من رواية الحارث عنه، وهو ضعيف، واحتياطا للخروج من الخلاف، إذ بعض العلماء - وهو رواية عن إمامنا،(1/333)
حكاها أبو الحسين - لا يجوز التيمم إلا عند ضيق الوقت، (والثانية) - وهي المختارة للجمهور - إن رجا وجود الماء فالأفضل التأخير، إذ طهارة [الماء] في نفسها فريضة، وأول الوقت فضيلة، ولا ريب أن انتظار الفريضة أولى، وإن علم أن ظن عدمه فالأفضل التقديم، وكذلك إن تردد، على أحد الوجهين، إذ فضيلة الوقت متيقنة، فلا تترك لأمر مأيوس أو مشكوك [فيه] والله أعلم.
قال: فإن تيمم في أول الوقت وصلى أجزأه، وإن أصاب الماء في الوقت.
ش: هذا هو المذهب المشهور، وإن تيقن وجود الماء في الوقت، ولا عبرة بالرواية التي حكاها أبو الحسين.
236 - لما روى عطاء بن يسار، عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد «أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك» وقال للآخر: «لك(1/334)
الأجر مرتين» رواه أبو داود وقال: ذكر أبي سعيد فيه وهم، وليس بمحفوظ، وهو مرسل، وللنسائي بمعناه.
237 - وعن نافع قال: تيمم ابن عمر على رأس ميل أو ميلين من المدينة، فصلى العصر، فقدم والشمس مرتفعة، ولم يعد [الصلاة] رواه البيهقي، وللموطأ معناه، واحتج به أحمد.
238 - وعن ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كل من أدركت من فقهائنا - فذكر الفقهاء السبعة - كانوا يقولون: من تيمم فصلى، ثم وجد الماء [وهو] في الوقت، أو [في] غير الوقت، فلا إعادة عليه، ويتوضأ لما يستقبل من الصلوات ويغتسل،(1/335)
والتيمم من الجنابة والوضوء سواء. رواه البيهقي والله أعلم.
[كيفية التيمم]
قال: والتيمم ضربة واحدة.
ش: أي التيمم المشروع، أو الواجب، أو المجزئ ضربة واحدة، لا نزاع عندنا فيما نعلمه أن الواجب في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.
239 - لما «روى عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أجنبت، فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد ثم صليت، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إنما يكفيك هذا» وضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بها وجهه وكفيه. متفق عليه، وفي لفظ: لم يجاوز الكوع وفي لفظ للدارقطني «إنما [كان] يكفيك أن تضرب بكفيك [في] التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين» .(1/336)
240 - وعن عمار أيضا، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في التيمم «ضربة للوجه والكفين» رواه أحمد، والترمذي بمعناه وصححه.
ولقد أنصف الشافعي (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) حيث قال في رواية الزعفراني [إن] ابن عمر تيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وبهذا رأيت أصحابنا يأخذون، وقد روي فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو علمته ثابتا لم أعده، ولم أشك فيه، وقد قال عمار: تيممنا مع [النبي]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المناكب، وروي عنه الوجه والكفين. فكأن قوله: تيممنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المناكب. لم يكن عن أمر الرسول [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فإن ثبت عن عمار، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوجه واليدين، ولم يثبت عنه: [إلى] «المرفقين» فالثابت أولى. اهـ ولا ريب في ثبوت ذلك عند أهل العلم بهذا الشأن، وأنه أثبت من «إلى المرفقين» بل لم يثبت في ذلك شيء، قال الإمام أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] :(1/337)
من قال ضربتين. إنما هو شيء زاده. اهـ.
وهل تسن زيادة على ضربة؟ المنصوص - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد وغيره - لا تسن، لما تقدم، إذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في التيمم: «ضربة للوجه والكفين» ظاهره أن التيمم ليس إلا هذا، وقال القاضي، والشيرازي، وابن الزاغوني، وأبو البركات: يسن ضربتان، ضربة للوجه، وأخرى لليدين إلى المرفقين احتياطا، للخروج من الخلاف، إذ بعض [العلماء] يوجبه، مع أنه قد ورد.(1/338)
241 - فعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه الدارقطني، وروى أيضا نحوه من حديث ابن عمر وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي وإن كان في أسانيدها مقال، لكن ورودها من طرق يفيد ظنا بصحتها، على أن الدارقطني - فيما أظن - صحح بعضها، ويحمل ما تقدم على الإجزاء، جمعا بين الكل، ولا نزاع فيما نعلمه أنه لا يسن زيادة على ضربتين إذا حصل الاستيعاب بهما. .
(تنبيه) : الرصغ والرسغ مفصل اليد، والله أعلم.
قال: يضرب بيديه على الصعيد الطيب وهو التراب.
ش: صفة الضربة في التيمم المشروع [أو الواجب] أن(1/339)
يضرب بيديه على ما أمر الله سبحانه [وتعالى به] وهو الصعيد الطيب، ثم فسر الصعيد بأنه التراب، وهذا أشهر الروايات عن أحمد، واختيار عامة أصحابه لظاهر قول الله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فدل على أنه شيء يمسح منه، والصخر ونحوه ليس بشيء يمسح به.
242 - ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: الصعيد تراب الحرث، والطيب الطاهر.
243 - (وعن حذيفة) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» رواه مسلم 8.
244 -[وعن علي]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، [وسميت أحمد] ، وجعل لي التراب(1/340)
طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم» رواه أحمد، فعم الأرض بحكم المسجدية، وخص ترابها بحكم الطهارة، وذلك يقتضي نفي الحكم عما عداه، (وقول الخليل) : إن الصعيد وجه الأرض. وكذلك الزجاج، مستدلا بقوله سبحانه: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] وقائلا: بأنه لا يعلم فيه خلافا بين أهل اللغة. يعارضه قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، على أن قولهما يرجع إلى التفسير اللغوي، وقول ابن عباس يحمل على التفسير الشرعي، ويؤيده بيان صاحب الشرع حيث قال: «وترابها لنا طهورا» (وقول من قال) : إن (منه) لابتداء الغاية، ليكن ابتداء الفعل بالأرض، وانتهاء المسح بالوجه. مردود بأن ابتداء المسح بإمرار اليد على الوجه [لا] بالأخذ من الأرض، وقد قال الزمخشري: إن هذا قول متعسف، وإن(1/341)
الإذعان للحق أحق من المراء، (والثانية) - أومأ إليها في رواية أبي داود وغيره - يجوز التيمم بالرمل، والأرض السبخة، لعموم الحديث الصحيح «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» .
245 - وقوله في الحديث الآخر: «أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره» وما تقدم بعض أفراد هذا، وذكر بعض الأفراد لا يخصص، وهذا وإن شمل كل الأرض لكن قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] خصصه بما في معنى التراب من الرمل ونحوه (ويجاب) : بأن التخصيص بالمفهوم، لا بذكر بعض الأفراد، وهو وإن كان مفهوم اللقب، فهو حجة عندنا على المذهب (والرواية الثالثة) : يجوز التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من الجص، والنورة، والرمل، ونحو ذلك، عند عدم التراب، حملا للنص المقيد بالتراب على حال وجدانه، والنص المطلق على حالة العدم، جمعا بينهما.(1/342)
إذا تقرر هذا (فعلى الأولى) يجوز [التيمم] بكل تراب، على أي لون كان، بشرط كونه له غبار يعلق باليد، ومن ثم لو ضرب بيده على لبد أو [على] شجرة، ونحو ذلك، فحصل على يده غبار تراب أجزأه، وكذلك لو سحق الطين وتيمم به أجزأه، وإن كان مأكولا كالطين الأرمني، نعم: إن كان بعد طبخه لم يجزه على أشهر الوجهين، فإن خالط ما يتيمم به ما لا يتيمم به، كالزعفران ونحوه، فهل هو كالماء إذا خالطه الطاهرات، وهو قول القاضي، وأبي الخطاب وغيرهما: إن غيره منع هنا قولا واحدا، وهو اختيار ابن عقيل، وأبي البركات، على طريقتين، ومحلهما فيما يعلق باليد كما مثلنا، أما ما لا يعلق باليد فلا يمنع، لنص(1/343)
أحمد على جواز التيمم (وعلى الرواية الثانية) فظاهر كلام أحمد الجواز مطلقا، والقاضي يحمل قوله بالجواز على ما إذا كان له غبار، وقوله بالمنع على عدم الغبار، فلا خلاف عنده [وعلى] الثالثة) هل يعيد إذا وجد الماء أو التراب؟ فيه روايتان.
وقول الخرقي: يضرب بيديه. ليست حقيقة الضرب شرطا، بل لو وضع يده على تراب ناعم أجزأه، إذ القصد إغبار الراحتين، وقد وجد، لكنه قد يحترز بذلك عما إذا وصل التراب إلى وجهه ويديه بغير ضرب، نحو أن سفت عليه الريح ترابا يعمه، وله حالتان (إحداهما) إذا نوى بعد حصول التراب عليه، فإنه لا يجزئه، لانتفاء قصد التراب رأسا، نعم لو مسح وجهه بما حصل على يديه أجزأه، (الثانية) : نوى وعمد للريح فحصل عليه تراب، فهنا ثلاثة أوجه (الإجزاء) وهو مختار أبي جعفر، وأبي البركات وصاحب التلخيص، والسامري (وعدمه) ، وهو ظاهر كلام الخرقي، (والثالث) إن مسح أجزأه، وإلا فلا، والله أعلم.
قال: وينوي به المكتوبة.
ش: لا نزاع عندنا في اشتراط النية في التيمم في الجملة، لقوله(1/344)
تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» «لا عمل إلا بنية» ونحو ذلك، ثم كيفية النية قد بناه جماعة على أصل، فلنتعرض له وهو: أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟ وفيه قولان للعلماء، أشهرهما أنه لا يرفع الحدث، وهو المختار لأصحابنا، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل عنه الفضل، وبكر بن محمد أنه يصلي [به] ما لم يحدث، فأخذ من ذلك أبو الخطاب وغيره أنه يرفع الحدث، ونقل عنه أنه لا يصح التيمم لفريضة قبل وقتها، وأنه يتيمم لوقت كل صلاة، بل وأنه لا يجمع به بين فرضين، فأخذ من ذلك أنه لا يرفع الحدث.
وبالجملة قد جاء في الباب حديثان مشهوران.
246 -[أحدهما] «حديث عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة، في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب» ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29](1/345)
فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا» . رواه أبو داود، وظاهره أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقره على أن صلى وهو جنب، وإلا لم يبين لهم أنه ليس بجنب.
247 - (والثاني) : حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير» رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وفي رواية «طهور» فدل على أنه عند عدم الماء طهور بمنزلة [الماء] ، وإذا يعطى حكم الماء، فيرفع الحدث، والحق أنه لا تعارض بين الحديثين، إذ (في الأول) غايته أنه لم يمنع من إطلاق الحدث عليه، لأن بزوال البرد، أو بوجود الماء ونحو ذلك يظهر حكم الحدث، ويبطل التيمم، فدل على أن المانع لم يزل رأسا، (وفي الثاني) جعل التراب طهورا عند عدم الماء، لأنه يستبيح به ما يستبيح بالماء والحال ما تقدم.(1/346)
وقد قال أبو العباس: إن ذلك ينبني على قاعدة أصولية، وهي أن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا؟ فإن المقتضي للحدث موجود، وقد عارضه عدم الماء، مع الحاجة إلى الصلاة، وقيام الشارع التراب مقام الماء، فهل يقال: استبيحت الصلاة والحال هذه، مع قيام السبب المانع منها وهو الحدث، أو أن السبب والحال هذه لم يبق حاضرا، فكأن لا حدث؟ ونظير ذلك الاختلاف في الميتة عند الضرورة، هل أبيحت مع قيام سبب الحظر، وهو ما فيها من [خبث] التغذية، أو [أن] عند الضرورة زال المقتضي للحظر، مع بقاء] قيام السبب وهو التحريم.
وكشف الغطاء من ذلك أنه إن أريد بالسبب الحاضر السبب التام، وهو مجموع ما يستلزم الحكم من العلة، والشرط، وعدم المانع، فلا ريب في ارتفاع هذا عند المخمصة، وعند الصلاة بالتيمم، لوجود الحل وإباحة الصلاة، وإن أريد بالسبب ما يقتضي الحكم وإن توقف على وجود شرط، أو انتفاء مانع، فلا ريب في وجود هذا هنا، لولا المعارض الراجح، وهو المخمصة، وعدم الماء، فالقائل الأول التفاته إلى هذا السبب، والقائل الثاني التفاته إلى السبب التام، وإذا فالفريقان مجمعان على إباحة الصلاة والحال ما(1/347)
تقدم، وعلى منع الصلاة عند وجود الماء حتى يتطهر، ومن ثم قال القاضي في تعليقه: الخلاف في عبارته، قال: إذ فائدة قولنا: إنه لا يرفع الحدث. أنه إذا وجد الماء لزمه استعماله في رفع الحدث، وهذا اتفاق.
ومن هنا يعرف خطأ ابن حمدان في قوله: وعنه يصلي به ما لم يحدث. وقيل: أو يجد ماء. فإنه يقتضي أنه على النص يصلي وإن وجد الماء، وهو خلاف الإجماع، والنصوص الصريحة، والذي أوقعه في ذلك - والله أعلم - أن النص عن أحمد مطلق، لكن نصوصه المتوافرة بالبطلان بوجود الماء حتى وهو في الصلاة، تقيد ذلك، لا سيما مع النصوص الصريحة فكيف يظن بأحمد مخالفتها.
وقول أبي البركات: وعنه: يصلي به ما لم يحدث كالماء. وكأن أبا البركات أراد [أن] على هذه الرواية أشبه الماء، فيعطى حكمه، من جواز التيمم قبل الوقت، ونحو ذلك، كما صرح به. اهـ وظاهر ما قاله القاضي من أن الخلاف في عبارته، أنه لم يبن على ذلك فائدة شرعية، وكذا صرح به أبو العباس في قواعده فقال: ليس بين القولين نزاع شرعي عملي، بل عليهما لم يبق الحدث مانعا مع(1/348)
وجود طهارة التيمم، فيكون طاهرا قبل الوقت وبعده وفيه، وبنى البطلان بخروج الوقت، [وكونه لا يجمع به بين فرضين، على القول بأنه لا يتيمم قبل الوقت] وبين كونه يصلي به ما يشاء، ولا يبطل بخروج الوقت على القول بجواز التيمم قبل الوقت، والقاضي خرج رواية جواز التيمم قبل الوقت من قوله: إنه يصلي به ما لم يحدث. فعلى هذا يكون أبو العباس قد جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا، أما أبو الخطاب، وجماعة فقالوا: إنا إذا قلنا: لا يرفع الحدث. اشترط أن ينوي استباحة الصلاة من الحدث الذي عليه ثم إذا نوى شيئا استباحه وما دونه، ولا يستبيح ما هو أعلى منه، كما يأتي بيانه، ولا يجوز إلا بعد الوقت، ويبطل بخروجه، وإن قلنا: يرفع. جاز أن ينوي رفع الحدث، وإذا نوى فعل الصلاة استباح فرضها، وجاز قبل الوقت، ولم يبطل بخروجه، كالماء سواء.
إذا تقرر هذا فقول الخرقي: ينوي به المكتوبة. ظاهره - والله أعلم -[أنه] لحظ ما تقدم، من أن التيمم مبيح لا رافع، فيحصل له إباحة ما نواه، ويدخل فيه بطريق الضمن ما دونه، ولا شيء أعلى من المكتوبة، فلذلك نص الخرقي عليها، وقد نص أحمد في رواية البرزاطي في من تيمم(1/349)
لسجود القرآن، أو للقراءة في المصحف، وصلى به فريضة أنه يعيد، وعلى هذه القاعدة: لو نوى صلاة الجنازة استباح النافلة، لا المكتوبة، ولا يستبيح الجنازة بنية النافلة، ويستبيح مس المصحف بنيتهما، ولا تباح هي بنيتهما، ويستبيح قراءة القرآن واللبث في المسجد، بنية الطواف، لأنه أعلى منهما، لشبهه بالصلاة، ولا يباح هو بنية أحدهما، ولو [نوى] قراءة القرآن، لكونه جنبا، أو اللبث في المسجد، أو مس المصحف، فقال أبو محمد: لا يستبيح غير ما نواه، وقال أبو البركات: إن نوى القراءة، أو اللبث استباح الآخر، دون ما يقتضي الطهارتين، [من صلاة، ومس مصحف، إذ تيممه هذا كالغسل وحده، ويستبيح بنية النافلة، ومس المصحف اللبث والقراءة، لأن تيممه والحال هذه بمنزلة الطهارتين] .
هذا كله على ما هو عندهم المذهب كما تقدم، أما على القول الآخر فالتيمم كالماء، فتباح الفريضة بنية النافلة، كما نص عليه الخرقي ثم، وتوسط ابن حامد فقال: يباح الفرض بنية مطلقة، [دون نية النفل] . والله أعلم.
قال: فيمسح بهما وجهه وكفيه.
ش: يمسح بالضربة التي ضربها بيديه وجهه وكفيه، لما تقدم من حديث(1/350)
عمار، والواجب في مسح الوجه ظاهره مما لا يشق، فلا يمسح باطن الفم والأنف، ولا باطن الشعور الخفيفة، وظاهر ما في المستوعب استثناء باطن الفم والأنف فقط، وفي مسح اليدين إلى الرسغين، كما في الحديث، وكما يقطع السارق، فلو قطع منهما، فهل يجب مسح موضع القطع؟ وهو المنصوص، ومختار ابن عقيل، وصاحب التلخيص، كما لو بقي من الكف بقية، أو لا يجب، وهو قول القاضي، بل يستحب، كما لو قطع من فوق الكوع على منصوصه، فيه قولان.
وقوله: يمسح بهما وجهه. يخرج به ما إذا معك وجهه في التراب، أو أوصله إليه بخرقة، أو خشبة، وهو أحد الوجهين.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط التسمية، ولا الموالاة، ولا الترتيب، وهو لم يشترط التسمية في الوضوء الذي فيه النص، فالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء أولى.
وكذلك ظاهر كلامه عدم اشتراط الموالاة ثم، كما سبق، فكذلك هنا، والأصحاب حكوا في المسألتين روايتين من الروايتين ثم، أما الترتيب فقال: ثم باشتراطه، وظاهر كلامه هنا عدم الاشتراط، وهو أحد الأقوال، وإن اشترطناه في الوضوء، نظرا لظواهر الأحاديث، والثاني: يجب حتى في الطهارة الكبرى، لأنه صفة واحدة، بخلاف الغسل والوضوء، فإن صفتيهما مختلفة، وهو قول أبي الحسين، والمذهب إعطاء حكم التيمم في ذا المحل حكم الماء، فيجب(1/351)
الترتيب في الوضوء على المذهب، ولا يجب في الغسل، [والله أعلم] .
قال: وإن كان ما ضرب بيديه غير طاهر لم يجزئه
ش: قد تقدم أنه يضرب بيديه على الصعيد الطيب، وأشار هنا إلى أن الطيب [هو] الطاهر، ويروى عن ابن عباس.
248 - وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» فعلى هذا لا يجوز بأرض نجسة، ولا مقبرة تكرر نبشها، لاختلاط ترابها بصديد الموتى، وإن لم يتكرر النبش فوجهان، (الأجزاء) ، وبه قطع أبو محمد، واختاره أبو البركات، نظرا للأصل، (وعدمه) ، لأنه رخصة في الأصل، فلا يستباح مع الشك.
وقول الخرقي: طاهر. يحتمل أن يحترز به عن النجس كما تقدم، فيدخل في عمومه ما يتيمم به، ويحتمل أن يريد به الطاهر المطلق، كما قال في الماء ثم، فيخرج المستعمل،(1/352)
وبالجملة في المستعمل هنا - إن قيل بخروج الماء عن طهوريته ثم، وأن التيمم لا يرفع الحدث، قولان (أحدهما) : بقاؤه على ما كان عليه، لأنه لم يرفع حدثا، (والثاني) : خروجه عن الطهورية، وبه قطع صاحب التلخيص، والسامري، لاستعماله في طهارة أباحته الصلاة ومحل الخلاف [في] المتناثر عن أعضاء المتيمم، أما ما ضرب بيديه عليه فهو كفضل الوضوء.
بقي: هل خلوة المرأة في التيمم كخلوتها في الوضوء؟ لم أر المسألة منقولة، والقياس ذلك، لكن المسألة المنع فيها تعبد، فليقتصر على مورد النص ثم، وبعض العلماء قال: المراد بالطيب هو الحلال. وهذا لا ريب في اشتراطه عنده على المذهب، كالوضوء بماء مغصوب بل أولى، إلا أن في أخذه من هنا نظرا، نعم الطيب يطلق ويراد به الحلال، كما في قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] ونحو ذلك، وبعضهم قال: المراد بالطيب المنبت. مستندا لقوله سبحانه وتعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] وهذا قول من لا يجوز التيمم بغير التراب، كما هو المشهور من مذهبنا، والله أعلم.
قال: وإن كان به قرح أو مرض مخوف، وأجنب فخشي(1/353)
على نفسه [إن أصابه] الماء، غسل الصحيح من جسده، وتيمم لما لم يصبه الماء.
ش: لما انتهى الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] من الكلام على التيمم لعدم الماء، طفق يتكلم على التيمم للمرض ونحوه، ولا إشكال في جواز ذلك في الجملة، وقد دل على ذلك قوله سبحانه [وتعالى] : {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وبها استدل أحد فقهاء الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص، لما تيمم في ليلة باردة، لجنابة أصابته، وأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك.
إذا عرف هذا فالمريض ونحوه إذا [كان] حاله ما تقدم، فإنه يغسل الصحيح ويتيمم للجريح ونحوه، سواء كان المتيمم له [هو] القليل أو بالعكس، لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
249 - «وعن جابر (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة؟ قالوا: ما نجد لك(1/354)
رخصة، وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بذلك، فقال: [قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال] ، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، والدارقطني، وهو نص، لكنه من رواية الزبير بن خريق قال البيهقي: وليس ممن يحتج به.
250 - وقد روي أيضا نحوه عن عطاء، أنه سمع ابن عباس يخبر «أن رجلا أصابه جرح في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال، فاغتسل فكز فمات، فبلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟» قال عطاء: فبلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو غسل جسده، وترك رأسه حيث أصابه الجرح» .(1/355)
إذا تقرر هذا فشرط جواز التيمم للمرض أو الجرح أن يخشى على نفسه من إصابة الماء، إذ لا ريب في أن الماء هو الأصل، والأصل لا يعدل عنه إلا لضرورة، كما في الإطعام مع الصيام، والصيام مع العتق في الكفارة، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية أي - والله أعلم - مرضنا يتضرر معه باستعمال الماء، وإلا يكون ذكر المرض لغوا.
251 - وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء» والحمى نوع من المرض، ثم هل الخشية المشترطة هي تلف النفس، أو العضو، أو يكتفي بخشية الضرر، من زيادة مرض، أو تباطؤ برء، ونحو ذلك؟ فيه روايتان، المذهب منهما الثاني. وصورة هذه المسألة إذا(1/356)
خشي على نفسه من إصابة الماء مسحا وغسلا، أما إن خشي غسلا لا مسحا فثلاث روايات (إحداهن) - واختارها القاضي - فرضه التيمم [كما تقدم، إذ الواجب الغسل، وقد تعذر عليه، فوجب الانتقال إلى التيمم] ، لعجزه عن الواجب، (والثانية) : فرضه المسح، لأنه أقرب إلى المعنى المأمور به وهو الغسل (والثالثة) : يجمع بين التيمم والمسح، فالتيمم للعجز عن الغسل، والمسح لقدرته على إيصال الماء إلى العضو في الجملة.
وكلام الخرقي محتمل للقولين الأولين، ومحل الروايات [إذا لم يكن] الجرح نجسا [أما إن كان نجسا] فإنه قال في التلخيص: لا يمسح ويتيمم. ثم إن كانت النجاسة معفوا عنها ألغيت، واكتفى بنية الحدث، وإلا نوى الحدث والنجاسة إن شرطنا فيها النية، وهل يكتفي بتيمم واحد؟ على وجهين، وفي البلغة احتمال أنه لا يجزئه إلا تيمم واحد، قال: لتحصل الإباحة المنوية.
وقد فهم من كلام الخرقي جواز التيمم للجنب، وهو قول العامة، لما تقدم من حديث عمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وصاحب الشجة، وأبي ذر.(1/357)
252 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا معتزلا، لم يصل في القوم، فقال: «يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم» ؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. قال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» متفق عليه.
واعلم أن الحكم المتقدم لا يختص بالجنابة، بل الوضوء كذلك وإنما نص الخرقي على الجنابة لينبه على مذهب الخصم.
(تنبيهان) : (أحدهما) : يخير الجنب الجريح ونحوه بين البداءة بالغسل أو بالتيمم، لوجود سببهما، وعدم اعتبار الترتيب لطهارته، وهذا بخلاف الجنب الواجد لماء يكفي بعض بدنه، فإنه لا يصح تيممه حتى يستعمل ما وجده، ليتحقق شرط التيمم وهو العدم، أما الجريح المتوضئ، فعند عامة الأصحاب يلزمه أن لا ينتقل إلى ما بعده حتى يتيمم للجرح، نظرا للترتيب، وأن يغسل الصحيح، مع التيمم لكل صلاة إن اعتبرت الموالاة، واختار أبو البركات - وإليه ميل أبي محمد - سقوط الترتيب والموالاة في ذلك، دفعا(1/358)
للحرج والمشقة، مع عدم النص في ذلك، وإذا كان الجرح في أعضاء التيمم أمر التراب عليه. (الثاني) : القرح بفتح القاف وضمها لغتان بمعنى الجراح وألمها، كالضعف والضعف، وقد قرئ بهما في قوله سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] ، وقيل: بالفتح الجراح، وبالضم ألمها، «والعي» قصور الفهم، وشفاء هذا المرض بالسؤال عما جهله ليعرف، والله أعلم.
[ما يباح به التيمم]
قال: وإذا تيمم صلى الصلاة التي [قد] حضر وقتها، وصلى به فوائت - إن كانت عليه - والتطوع، إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى.
ش: هذا هو المذهب المشهور، المعمول به - عند الأصحاب - من الروايات. مع أن القاضي في التعليق لم يحك [به] نصا، وإنما قال: أطلق أحمد القول في رواية الجماعة، أبى طالب، والمروذي، وأبي داود، ويوسف بن موسى، أنه يتيمم لكل صلاة، ومعناه: لوقت كل صلاة. قال: وقد ذكره(1/359)
الخرقي على هذا. اهـ. (والثانية) أنه يصلي به ما لم يحدث، نص عليها في رواية الفضل، وبكر بن محمد، (والثالثة) - وهي المشهورة في نصه - لا يجمع [به] بين فرضين، وقد تقدمت الإشارة إلى توجيه الخلاف، وأن أبا الخطاب وغيره بنو ذلك على أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟ وأبا العباس بنى على جواز التيمم قبل الوقت، وعدم جوازه، ونزيد هنا بأن المنقول عن الصحابة التيمم لكل صلاة.
253 - فعن ابن عمر بإسناد صحيح: يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث. وعن الحارث، عن علي قال: يتيمم لكل صلاة. وعن قتادة أن عمرو بن العاص كان يحدث لكل صلاة تيمما، وكان قتادة يأخذ به، رواهن ابن المنذر والبيهقي في سننه.
254 - وروي أيضا عن ابن عباس أنه قال: لا يصلي بالتيمم إلا صلاة(1/360)
واحدة ولهذا والله أعلم جاءت غالب نصوص أحمد على ذلك، تبعا للصحابة.
255 - وقد روى [أيضا] «عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للأخرى» ، وهذا أقوى في اشتراط التيمم لكل صلاة، لكنه من رواية الحسن بن عمارة، وهو ضعيف.
256 - مع أن حربا روى بإسناده عن ابن عباس أنه قال: التيمم بمنزلة الوضوء، يصلي به الصلوات كلها ما لم يحدث، وبالجملة لا تفريع على الرواية الوسطى، أما على الثالثة فيستبيح إذا تيمم لصلاة [الفرض] الطواف، ومس المصحف، واللبث في المسجد إن كان جنبا، والوطء إن كانت حائضا، وذكر ابن عقيل أن الوطء يحتاج إلى تيمم، والتنفل قبل الصلاة وبعدها، [على] مختار القاضي وغيره، وظاهر كلام أحمد(1/361)
في رواية علي بن سعيد: أنه لا يستبيح إلا السنة الراتبة قبل، وحكى أبو الخطاب وجها في الانتصار: أن كل نافلة تحتاج إلى تيمم، لظاهر قول الصحابة المتقدم، وهو ظاهر نصوص أحمد السابقة، وقد روى البرزاطي عنه فيما وجد بخط ابن بطة: رجل تيمم في السفر، وصلى على جنازة، ثم جيء بأخرى فصلى عليها بذلك التيمم، فقال: إن جيء بالأخرى حين سلم من الأولى صلى عليها بذلك التيمم، وإن كان بينها مقدار ما يمكنه التيمم لم يصل على الأخرى حتى يعيد التيمم. قال القاضي: وهذا يحتمل وجهين (أحدهما) أن وقت الأولى إلى تمام فعلها، فإذا جاء بعد ذلك فقد خرج الوقت.
(والثاني) [أن الثانية] إذا جاءت عقب الأولى لحقت المسبقة في التيمم، لتفاوت الزمن، بخلاف ما إذا تراخت. قلت: وهذا من القاضي يقتضي أن وقت صلاة الجنازة يخرج بفعلها، وقوة كلام الإمام يقتضي أنه لا يصلي بتيمم واحد نافلتين، لأنه أطلق، مع أن من الجائز أن صلاة الجنازة نافلة في حقه اهـ. وعلى المذهب: يصلي الصلاة التي تيمم لها، وما عليه من منذورة وفائتة، ويجمع بين الصلاتين،(1/362)
ويتطوع، ويصلي على الجنازة، إلى أن يدخل وقت التي تليها فيبطل، وهل يبطل الفجر بخروج وقتها، أو بدخول [وقت] التي تليها؟ فيه وجهان، ظاهر كلام الخرقي الثاني، وقال أبو محمد في المغني: [إن] المذهب الأول، وحمل كلام الخرقي عليه، وظاهر كلامه نفي الخلاف، ولو كان تيمم في غير وقت صلاة، كالمتيمم بعد طلوع الشمس يبطل بزوال الشمس، ولو نوى الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية من يباح له، فتيمم في وقت الأولى لها، أو لفائتة، لم يبطل تيممه بدخول وقت الثانية، لأن الوقتين قد صارا للصلاتين وقتا واحدا.
(تنبيهان) :
(أحدهما) : ظاهر كلام الأصحاب أن التيمم يبطل بخروج الوقت، ولو كان في صلاة، وصرح به في المغني، وعن ابن عقيل: لا يبطل وإن كان الوقت شرطا، كما قلنا في الجمعة، وخرجه السامري على روايتي وجود الماء في الصلاة.
(الثاني) : إذا خرج الوقت ولم يصل الحاضرة التي تيمم لها، فعند أبي البركات: له قضاؤها، وقضاء(1/363)
النوافل، والفوائت، ومس المصحف، والطواف، لاستباحة ذلك، وعند الأصحاب ليس له ذلك، وكذا لو تيمم لنافلة قبل الزوال، جاز فعلها [عنده دونهم، وعكس هذا لو تيمم لحاضرة، ثم نذر صلاة، لم يجز عنده فعلها] [بذلك] ، لعدم سبق وجوبها، وظاهر قول الأصحاب الجواز، وملخص الأمر أن الأصحاب أناطوا الحكم بالوقت، وأبا البركات بما استباحه.
ومما خالف فيه الأصحاب أيضا (لو) تيمم الجنب لقراءة، أو لبث في مسجد، أو الحائض لوطء، أو استباحوا ذلك بالتيمم لصلاة، لم يبطل تيممهم بدخول وقت الصلاة عنده، وعندهم يبطل، وأبطله أبو البركات بأن وقت الصلاة لا تعلق له بذلك والله أعلم.
قال: وإذا خاف العطش حبس الماء وتيمم وصلى، ولا إعادة عليه.
257 - ش: لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة، ومعه الماء القليل، يخاف أن يعطش،(1/364)
قال: يتيمم ولا يغتسل. رواه الدارقطني، وروى البيهقي أيضا عنه نحوه.
258 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا كنت مسافرا وأنت جنب أو محدث، فخفت إن توضأت تموت من العطش، فلا تتوضأ، واحبس لنفسك. رواه البيهقي في سننه وقال أحمد: عدة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتيممون ويحبسون الماء لشفاههم ولأنه يخشى الضرر على النفس، فأشبه المريض بل أولى، وحكم خشية العطش على رفيقه أو بهيمة محترمة له أو لرفيقه، حتى كلب صيد - لا خنزير ونحوه - حكم خشية العطش على نفسه.
(تنبيه) : هل دفع الماء إلى عطشان يخشى تلفه واجب أو(1/365)
مستحب؟ على وجهين، هذا نقل أبي محمد، وصاحب التلخيص، وفي الغاية - وهو أصوب - هل حبس الماء لعطش الغير المتوقع واجب أو مستحب؟ على وجهين، ويقرب من النقل الأول: إذا مات من له ماء، ورفقته عطاش، فهل ييمموه ويغرموا الثمن للورثة، أو يكون الميت أولى به؟ قال أبو بكر في التنبيه: على قولين، أظهرهما الأول، والله أعلم.
قال: وإذا نسي الجنابة، وتيمم للحدث لم يجزئه.
ش: وكذلك بالعكس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وكطهارة الماء بل أولى، لأن ثم رافع، وهذا مبيح على الأشهر، ومفهوم كلامه أنه لو نواهما أجزأه، وهو كذلك لما تقدم، وإذا أحدث إذا بطل تيممه عن الحدث دون الجنابة، والله أعلم.
[الحكم لو وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة]
قال: وإذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة خرج فتوضأ، أو اغتسل إن كان جنبا، واستقبل الصلاة.
ش: إذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة فإنه يلزمه الخروج منها، على المشهور المعمول عليه في المذهب، لقوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: «إن الصعيد الطيب وضوء المسلم - وفي رواية طهور المسلم - عشر سنين، ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه(1/366)
بشرته» فجعل طهوريته مقيدة بعدم وجدان الماء، فإذا وجد الماء فليس بوضوء ولا طهور، ولذلك أوجب عليه استعمال الماء إذا قدر [عليه] ، ولأن تيممه قد بطل، بدليل أنه لو لم يفرغ من الصلاة حتى عدم الماء لم يجز له التنفل حتى يجدد التيمم، صرح به ابن عقيل وغيره، وكذا لو كان في نافلة، ولم ينو عددا، لم يزد على ركعتين، بل ولا على ركعة إن صح التطوع بها، وأبو محمد يختار عدم البطلان إن لم يقل ببطلان الصلاة برؤية الماء، وإذا له التنفل بعد، إن عدم الماء قبل كمال الصلاة، ولأنه معنى يبطل به التيمم خارج الصلاة، وكذلك فيها، كانقطاع دم الاستحاضة.
وعن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية أخرى نص عليها في رواية الميموني وغيره: أنه يمضي فيها، حذارا من بطلان العمل المنهي عن إبطاله، واستدل بعضهم بعموم «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وليس بشيء، لأن معنى الحديث إذا خيل إليه بشيء فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا، فليس في الحديث تعرض لغير التخييل،(1/367)
وقد رجع أحمد عن هذه الرواية في رواية المروذي، فقال: كنت أقول: يمضي في صلاته، ثم تدبرت، فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج ويتوضأ. ومن ثم أسقطها ابن أبي [موسى] وطائفة من الأصحاب، ولم يعتبر ذلك ابن حامد، وطائفة معه، بل أثبتوها رواية، وكذلك القولان في كل رواية علم رجوع الإمام عنها. اهـ.
(فعلى رواية الميموني) : هل الخروج أفضل، للخروج من الخلاف - وهو رأي أبي جعفر - أو يمتنع الخروج - وهو ظاهر كلام الإمام - لقوله سبحانه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ؟ على قولين: (وعلى المذهب) يخرج ويتطهر، ويستأنف الصلاة كما قال الخرقي، ونص عليه أحمد، وخرج القاضي وطائفة من الأصحاب منهم المجد في المحرر - البناء من رواية البناء في من سبقه الحدث، وأبى ذلك أبو محمد، أبو البركات في الشرح، [مفرقين] بأن بوجود الماء ظهر حكم الحدث السابق على الصلاة، قبل كمال المقصود بالتيمم، فصار كافتتاح الصلاة مع الحدث، بخلاف من سبقه الحدث في الصلاة، فإنه لم يتقدم ذلك حدث.(1/368)
وقول الخرقي: وهو في الصلاة. يحترز به عما إذا وجد الماء بعد الصلاة، فإن صلاته ماضية، وإن أصابه في الوقت، وقد نص على ذلك فيما تقدم، نعم: هل تستحب له الإعادة والحال هذه؟ فيه وجهان، وفيه تنبيه على ما إذا وجده قبل الدخول في الصلاة، فإن تيممه يبطل بلا ريب، لحديث أبي ذر المتقدم، حتى لو وجده ثم عدم من ساعته، فإنه يلزمه استئناف التيمم.
وقول الخرقي: إذا وجد الماء. ظاهره أنه لا بد من وجود حقيقة الماء، وهو كذلك، فلو وجد ركبا وغلب على ظنه وجود الماء فيه لم يبطل تيممه، نعم إن تيقن وجود الماء فيه بطل، وهذا بخلاف ما لو كان خارج الصلاة، فإنه إذا وجد ركبا] أو نحوه مما يظن معه وجود الماء، فإن تيممه [يبطل على الصحيح] .
وهذا كله إذا كان تيممه لعدم الماء، وهو آمن [من] العطش، أما إن كان لمرض ونحوه، أو كان عطشان، فإن تيممه] لا يبطل بوجوده ولو داخل الصلاة، والله أعلم.
قال: وإذا شد الكسير الجبائر، وكان طاهرا، ولم يعد بها موضع الكسر، مسح عليها كلما أحدث، إلى أن يحلها.
ش: جواز المسح على الجبيرة إجماع في الجملة، وقد دل عليه حديث صاحب الشجة.(1/369)
259 - وروى البيهقي في سننه، وأحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم، بإسناديهما عن ابن عمر، أنه كان يقول: من كان به جرح معصوب عليه، توضأ ومسح على العصابة، ويغسل ما حول العصابة، وإن لم يكن عليه عصابة مسح ما حوله.
260 - وقد روي المسح على الجبائر عن علي، وابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكن بأسانيد ضعاف.
261 - ومن ثم قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «روي حديث عن علي أنه انكسر إحدى زندي يديه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يمسح على الجبائر ولو عرفت إسناده بالصحة قلت به» . اهـ.(1/370)
وظاهر كلام الخرقي وجوب المسح عليها، وهو كذلك، [لما تقدم، وظاهره أيضا أنه لا إعادة عليه مع المسح، وهو كذلك] لظاهر ما تقدم، ولأنها طهارة عذر، فأسقطت الفرض، كطهارة المستحاضة والتيمم، وقد حكى ابن أبي موسى، وابن عبدوس، وغيرهما رواية بوجوب الإعادة، لكنهم بنوها على ما إذا لم يتطهر لها، وقلنا بالاشتراط، والذي يظهر لي عند التحقيق أن هذا ليس بخلاف كما سيأتي.
وظاهر كلامه [أيضا] الاجتزاء بالمسح، وهو المشهور المقطوع به من الروايتين، لظاهر ما تقدم عن ابن عمر، ولأنه مسح على حائل، فأجزأ من غير تيمم، كمسح الخف بل أولى، إذ صاحب الضرورة أحق بالتخفيف، (والثانية) : لا بد من التيمم مع المسح، لظاهر حديث صاحب الشجة، وقد تقدم تضعيفه، مع أنه يحتمل أن الواو فيه بمعنى «أو» أي: إنما يكفيه أن يتيمم، أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها. ويحتمل أن [التيمم في] الحديث لشد العصابة على طهارة، واقتصر الشارع على ذكر التيمم، نظر لحال(1/371)
الشاج، لكن يلزم من هذا الاكتفاء بطهارة التيمم في شد الجبيرة ونحوها، والأصحاب على عدم الاكتفاء بذلك، بناء منهم على أن التيمم لا يرفع الحدث، فعلى هذه [الرواية] لا يمسح الجبيرة بالتراب، فلو استوعبت محل التيمم سقط. اهـ.
واشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجواز المسح على الجبيرة شرطين (أحدهما) : أن يشدها وهو طاهر، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي في روايتيه، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عبدوس، وابن البنا، لأنه مسح على حائل، فاشترط له تقدم الطهارة كالخف، ودليل الأصل الإجماع والنص كما سيأتي، (والثانية) : لا تعتبر الطهارة لها قبل الشد بحال، اختارها الخلال وصاحبه، وابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص فيه، وإليها ميل الشيخين لما تقدم عن ابن عمر وبه احتج أحمد، ولأن الجبيرة بمنزلة العضو، بدليل دخولها في الطهارتين، وعدم توقيتها، فهو كجلدة انكشطت، والتحمت على حدث، وتفارق الخف، إذ الكسر يقع بغتة، ويبادر إلى إصلاحه في الحال عادة، فلو اشترطت الطهارة والحال هذه لأفضى إلى حرج ومشقة، وهما منفيان شرعا (فعلى الأولى) حكمها حكم الخف في الطهارة،(1/372)
فلو غسل موضعها، ثم شدها، ثم كمل طهارته، لم يجز له المسح، على المذهب من اشتراط كمال الطهارة، ولو شد على غير طهارة خلع ما لم يضر به، ومع خوف الضرر يتيمم لها كالجرح، وقيل: ويمسحها أيضا ليخرج من الخلاف، فإن ترك الخلع مع أمن الضرر، أو التيمم مع الضرر أعاد، وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن أبي موسى وغيره من الإعادة إذا اشترطنا الطهارة.
(الشرط الثاني) : أن لا يعدو بها موضع الكسر، أي لا يتجاوز بها [موضع] ذلك، ومراده - والله أعلم - تجاوزا لم تجر العادة به، فإن الجبيرة إنما توضع على طرفي الصحيح، لينجبر الكسر، وفي معنى ذلك ما جرت العادة به من التجاوز لجرح، أو ورم، أو رجاء برء، أو سرعته، وإذا لم يجد إلا عظما كبيرا، أو لم يجد ما يصغره به، ونحو ذلك، أما إن تجاوز من غير حاجة ولا ضرورة، فهذا الذي يحمل عليه كلام الخرقي، ومقتضى كلامه أنه لا يجوز له المسح والحال هذه، وهو كذلك في الجملة، وبيانه بأنه إن لم يخف الضرر إذا لزمه النزع، وإلا يكون تاركا لغسل ما أمر بغسله من غير ضرر، وفي كلام أبي محمد عن الخلال ما يقتضي عدم اللزوم وليس بشيء، وإن خاف التلف بالنزع سقط عنه بلا ريب، وكذلك إن خاف الضرر على المذهب،(1/373)
وخرج من قول أبي بكر فيمن جبر كسره بعظم نجس عدم السقوط.
وحيث سقط النزع مسح قدر الحاجة، وتيمم للزائد، ولم يجزئه مسحه على المشهور من الوجهين، اختاره القاضي وابن عقيل، وأبو محمد وغيرهم، لعدم الحاجة إلى الزائد.
(والوجه الثاني) : يجزئه المسح على الزائد، اختاره الخلال وأبو البركات، لأنه قد صارت ضرورة إلى المسح عليه، أشبه موضع الكسر، ولأن المجاوزة إنما تقع غالبا لسهو أو غفلة، أو دهشة فمنع الرخصة مع ذلك، ومع الخوف من النزع فيه حرج ومشقة، وتعمد ذلك نادر، فلا يفرد بحكم، (وفي المذهب قول ثالث) : يجمع في الزائد بين المسح والتيمم.
وقول الخرقي: شد الكسير الجبائر. ذكره على سبيل المثال، إذ لا فرق بين الكسر والجرح في موضع الجبيرة، نص عليه أحمد، وقصة صاحب الشجة كانت في الجرح، وفي معنى ذلك لو وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه، فإنه يمسح عليه، وكذا لو ألقم إصبعه مرارة.(1/374)
262 - كما روى الأثرم والبيهقي بإسناديهما عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، وكان يتوضأ عليها، أما لو كان برجله شق، فجعل فيه قارا، وتضرر بنزعه، (فعنه) - واختاره أبو بكر -: لا يجزئه المسح، ولأنه في معنى الكي المنهي عنه، لأنه لا يستعمل إلا مغليا بالنار، (وعنه) - واختاره أبو البركات -؛ يجزئه، كالمرارة ونحوها، والكي المنهي عنه يحمل على ما فيه خطر، أو لم يغلب على الظن نفعه.
263 - لأنه [قد] صح عنه أنه كوى أبي بن كعب، وسعد ابن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.(1/375)
وكلام الخرقي يشمل المسافر وإن كان عاصيا، وهو كذلك، بخلاف ماسح الخف إذا كان عاصيا بسفره، فإنه يمتنع من المسح في وجه، وفي المشهور: يلغى حكم السفر، ويمسح مسح مقيم (ويشمل) الحدثين المسح، لأن مسحها للضرورة، والضرورة توجد معها، بخلاف الخف، (ويشعر) بأن مسحها لا يتأقت بمدة، وهو كذلك، لأنه مسح للضرورة، فيبقى ببقائها، بخلاف الخف، إذ مسحه رخصة، وعن ابن حامد: أنها تتوقت كالخف، (وبأنه) لا يشترط سترها لمحل الفرض، وهو كذلك، إذا لم تكن حاجة، لما تقدم، بخلاف الخف، (وبأن) شدها مختص بحال الضرورة، وهو كذلك، بخلاف الخف.
وإذا انتهينا إلى ذلك فقد عرفت أنها تفارق الخف فيما تقدم، وتفارقه أيضا في أنها تستوعب بالمسح كالتيمم، بخلاف الخف، إذ استيعابه يوهنه، ويضعفه، ويتلفه، فلذلك اجتزئ ببعضه، (وأنها) تجوز من خرق ونحوها، بخلاف الخف (وأنها) لو كانت من حرير ونحوه صح المسح عليها، على رواية صحة الصلاة في ذلك، بخلاف [الخف] على المحقق، (وأنها) لا تشترط لها الطهارة رأسا في رواية، بخلاف الخف (وأنه) لو لبس الخف على طهارة مسح فيها(1/376)
عليها جاز له أن يمسح عليه، ولو لبسه على طهارة مسح فيها على عمامة (أو عمامة) على طهارة مسح فيها على الخف، لم يجز المسح على وجه (فهذه عشرة) أشياء، ومرجعها أو معظمها على أن مسح الجبيرة عزيمة، ومسح الخف ونحوه رخصة، والله سبحانه أعلم.
قال:
[باب المسح على الخفين]
ش: جواز المسح على الخفين في الجملة ثابت بالسنة الصريحة الصحيحة.
264 - فعن جرير: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال ثم توضأ، ومسح على خفيه.» قال إبراهيم النخعي: وكان يعجبهم هذا، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. متفق عليه، وفي رواية النسائي: وكان أصحاب عبد الله يعجبهم قول جرير، وكان إسلام جرير قبل موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيسير. ولأحمد «عن جرير: ما أسلمت إلا بعد أن أنزلت المائدة، وأنا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح بعد ما أسلمت» .(1/377)
265 - «وعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك، ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم» . رواه أحمد وقال: هذا من أجود حديث في المسح، لأنه في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو آخر فعله. وقال في رواية الميموني: سبعة وثلاثون نفسا يروون المسح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال في رواية أخرى: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما رفعوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما وقفوا.(1/378)
266 - وروى ابن المنذر عن الحسن البصري أنه قال: حدثني سبعون من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مسح على الخفين.
267 - وقال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين عندنا خلاف أنه جائز، وإن الرجل ليسألني عن المسح، فأرتاب به أن يكون صاحب هوى.
وقد استنبط ذلك بعض العلماء من الكتاب العزيز، من قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] على قراءة الجر، وحمل قراءة النصب على الغسل، حذارا من أن تخلو إحدى القراءتين من فائدة.
268 - ويرشح ذلك ما روى «عن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقضى حاجته ثم توضأ، ومسح على خفيه، قلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: «بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي» رواه أحمد، وأبو داود.
ولقد بالغ إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اتباع السنة كما هو دأبه، فجعل المسح أفضل من الغسل في رواية، وإليها ميل الشيخين، أخذا بالرخصة، ومخالفة لأهل البدع المانعين من ذلك، وسوى(1/379)
بينهما في أخرى، لورود الشريعة بهما والله أعلم.
[شروط صحة المسح على الخفين]
قال: ومن لبس خفيه وهو كامل الطهارة، ثم أحدث مسح عليهما
ش: يشترط لجواز المسح على الخفين أن يلبسهما بعد كمال الطهارة، على المشهور، المعول عليه من الروايتين.
269 - لما روى صفوان بن عسال قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نمسح على الخفين، إذا نحن أدخلناهما على طهر، ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط، ولا بول، ولا نوم، ولا نخلعهما إلا من جنابة.» رواه أحمد، والدارقطني، وابن خزيمة والطهر المطلق ينصرف إلى الكامل.
270 - وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما.» رواه الدارقطني، وابن خزيمة، والطبراني والأثرم، وصحح الخطابي إسناديهما،(1/380)
ولأن ما اشترطت له الطهارة اشترط له كمالها، كمس المصحف.
(والثانية) : لا يشترط كمال الطهارة، فلو غسل رجلا وأدخلها الخف، ثم الأخرى وأدخلها الخف [الآخر] أو غسل رجليه وأدخلهما الخف، ثم تمم طهارته وصح ذلك، بأن يشترط الترتيب، جاز له المسح مع الكراهة.
271 - لما «روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين» فمسح عليهما» مختصر متفق عليه، ولأبي داود «دع الخفين، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان» .
272 - وعنه أيضا قال: «قلنا: يا رسول الله: أيمسح أحدنا على الخفين؟ قال: «نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان» رواه الدارقطني، والحميدي في مسنده [وقد وجد طهارتهما والحال هذه] وكونهما طاهرتين أعم من أن يوجد ذلك(1/381)
معا، أو واحدة بعد الأخرى، وحمل ذلك على طهارتهما بطهر كامل، توفيقا بين الأحاديث، على أنا نمنع الطهاة قبل كمالها حكما، بدليل المنع من مس المصحف.
وقد تضمن دليل الروايتين اشتراط تقدم الطهارة، وهو المعروف بلا ريب، وحكى الشيرازي رواية بعدم الاشتراط رأسا، فلو لبس محدثا، ثم توضأ وغسل رجليه جاز له المسح، وهو غريب بعيد.
وقد يحترز الخرقي بكمال الطهارة أيضا عما إذا لبس على طهارة تيمم، فإنه لا يجوز له المسح، لعدم كمال الطهارة، إذ التيمم لا يرفع الحدث على المذهب، ويتخرج الجواز بناء على أنه رافع، وقد أشار إليه أحمد [قال] أبو العباس، وهذا في من تيممه لعدم الماء، أما من تيممه لمرض كالجريح ونحوه فينبغي أن يكون كالمستحاضة، قال: وتعليل أصحابنا يقتضيه. اهـ.
ومما يلحظ فيه البناء على رفع الحدث وعدمه إذا لبس خفا على طهارة مسح فيها على عمامة، أو عمامة على طهارة مسح فيها على خف، أو ماسح أحدهما إذا شد جبيرة وشرطنا لها الطهارة، فإن في جواز المسح في جميع ذلك وجهان،(1/382)
أصحهما عند أبي البركات الجواز، جريا على قاعدته، من أن المسح يرفع الحدث، أما المستحاضة ومن به سلس البول، ونحوهما فلهم المسح، نص عليه أحمد، لأن طهارتهم كاملة في حقهم، ثم هل حكمهم حكم الصحيح في التوقيت، وهو منصوص الإمام، وظاهر كلام ابن أبي موسى وغيره يتوقت المسح في حقهم، أو بوقت كل صلاة، وهو قول القاضي في الجامع - فيه قولان.
وقول الخرقي: ثم أحدث. يريد الحدث الأصغر، إذ جواز المسح مختص به، بدليل حديث صفوان المتقدم، والله أعلم.
[مدة المسح على الخفين]
قال: يوما وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر.
ش: لما ذكر [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] جواز مسح الخف بشرطه، بين أن ذلك موقت بيوم وليلة للمقيم، وبثلاثة للمسافر، لما تقدم من حديث عوف بن مالك، وقد جوده أحمد، وصفوان.
273 - وعن «شريح بن هانئ: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن المسح على الخفين، فقالت: سل عليا فإنه أعلم بهذا مني، وكان يسافر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته فقال: قال رسول الله(1/383)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة» رواه مسلم والنسائي وأحمد.
274 - وعن خزيمة بن ثابت «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه وقال مثنى: سئل أحمد عن أجود الأحاديث في المسح فقال: حديث شريح(1/384)
بن هانئ، وخزيمة بن ثابت، وعوف بن مالك؛ وقال في رواية الأثرم: هو صحيح مرفوع، قال: نعم.
وقول الخرقي: للمسافر. أي المسافر سفرا يبيح القصر لأنه الذي تتعلق [به] الرخص، أما المسافر في معصية فكالمقيم، يمسح يوما وليلة، على أصح الوجهين، إلغاء للسفر، وقيل: لا يمسح أصلا عقوبة له. والله أعلم.
قال: فإن خلع قبل ذلك أعاد الوضوء
ش: يعني قبل اليوم والليلة، بعد (المسح) ، أو قبل الثلاثة أيام، وهذا أشهر الروايتين، وعليها العمل، (والثانية) : يجزئه غسل قدميه.
275 - وقد روى (ذلك) البيهقي في سننه عن أبي بكرة، ورجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تأول الخلال هذه الرواية، وخالفه العامة، وبنوها على أن الطهارة تتبعض، وأنه يجوز تفريقها كالغسل، وإذا إما [أن] نقول: الحدث لم يرتفع عن الرجلين، فيغسلان بحكم الحدث السابق، أو نقول: ارتفع وعاد إليهما فقط، أما المذهب فهو مبني - عند ابن الزاغوني، وأبي محمد - على المذهب في اشتراط الموالاة، وبنيا عليه أن(1/385)
الخلع إذا كان عقب المسح كفاه غسل رجليه، وارتفع الخلاف، وهو مفرع على أن طهارة المسح لا ترفع الحدث، وإنما تبيح الصلاة كالتيمم، فإذا ظهرت الرجلان ظهر حكم الحدث السابق، وقد وقع ذلك أيضا للقاضي في التعليق، في توقيت المسح، مصرحا بأن طهارة المسح ترفع الحدث إلا عن الرجلين، وبناه أبو البركات على شيئين (أحدهما) : أن المسح يرفع حدث الرجلين رفعا مؤقتا، وقد نص أحمد على ذلك في رواية أبي داود، وقاله القاضي في التعليق في هذه المسألة، وصاحب التلخيص فيه.
(والثاني) : أن الحدث لا يتبعض، وقد صرح بذلك القاضي أيضا وغيره، وإذا إذا خلع عاد الحدث إلى الرجلين، فيسري إلى بقية الأعضاء، وعلى هذا يستأنف وإن قرب الزمن، كما هو ظاهر كلام أحمد، لإطلاقه القول بالاستئناف، بل قيل: إنه منصوصه، وقد قال القاضي: لو سلمنا أن المسح لا يرفع الحدث عن الرجلين لا يضر، لأن نزعهما أبطل حكم المسح في الرجلين، وأوجب غسلهما، فيجب بطلانها في جميع الأعضاء، لأنها لا تتبعض، وحاصل هذا البناء على شيء واحد اهـ وهكذا الخلاف في انقضاء المدة وهو على طهارة.
وقوله: خلع. يشمل الخفين أو أحدهما، وهو كذلك، ويخرج منه ما إذا انكشطت ظهارة الخف، وبقيت بطانته،(1/386)
فإنه ليس كالخلع على المذهب، وقيل: بلى. وحكم ظهور بعض القدم حكم ظهور جميعه، أما إن خرج القدم إلى الساق فعنه - وهو المشهور - أنه كالخلع، وعنه - ويحتمله كلام الخرقي لترتيبه الحكم على الخلع -: لا أثر لذلك، (فعلى الأول) - وهو المذهب - إن خرج بعض القدم إلى الساق فروايتان، أصحهما أنه كما لو خرج القدم جميعه، هذا نقل القاضي في التعليق، وأبي الخطاب، تبعا لأبي حفص البرمكي، وقال أبو البركات: إن خرج البعض إلى الساق، خروجا لا يمكن المشي معه، فكالخلع، نص عليه، وعنه: إن جاوز العقب حد موضع الغسل فكالخلع، وما دونه لا يؤثر.
(تنبيه) : إذا حدث ما تقدم من الخلع أو انقضاء مدة المسح وهو في الصلاة، فظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب أنه كما لو كان خارجها، نظرا لإطلاقهم، وبناه ابن عقيل على وجود المتيمم الماء وهو في الصلاة، وكأنه لحظ أن المسح لا يرفع الحدث، والسامري على من سبقه(1/387)
الحدث وهو في الصلاة، وهو أقعد على المنصوص من أن المسح يرفع الحدث. والله أعلم.
قال: ولو أحدث وهو مقيم، فلم يمسح حتى سافر، أتم على مسح مسافر، منذ كان الحدث
ش: أما كونه يمسح [مسح] مسافر والحال ما تقدم فلظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمسح المسافر» وهذا مسافر فدخل في ذلك، ولأنه لم يمسح في الحضر، فأشبه من لبس فيه ولم يحدث.
وأما كون ابتداء مدة المسح من حين الحدث فلأن «قول صفوان [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، أمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثا، من بول، وغائط، ونوم.» مقتضاه أنها تنزع لثلاث يمضين من ذلك، وفيه بحث، إذ قد يقال: إن (من) للسببية، أي ننزع بعد الثلاث، بسبب حدث وجد قبل ذلك، ولأن المسح عبادة مؤقتة، فاعتبر وقتها بجواز فعلها، لا بفعلها كالصلاة، (وهذا) أشهر الروايتين، واختيار الأصحاب.
(والثانية) : ابتداء المدة من المسح بعد الحدث، لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمسح المسافر ثلاثا» ولو كان أوله الحدث لم يتصور ذلك، إذا الحدث لا بد أن يسبق المسح، وهو محمول على وقت جواز المسح، والله أعلم.(1/388)
قال: ولو أحدث مقيما، ثم مسح مقيما ثم سافر، أتم على مسح مقيم [ثم خلع]
ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار ابن أبي موسى، وأبي محمد، والقاضي، وجمهور أصحابه، منهم أبو الخطاب في خلافه الصغير، إذ المسح عبادة وجد أحد طرفيها في الحضر، والآخر في السفر، فغلب جانب الحضر كالصلاة، (والثانية) : يتم مسح مسافر. اختارها الخلال وصاحبه، وأبو الخطاب في الانتصار، لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمسح المسافر» وهذا مسافر، وكما لو أحدث وهو مقيم، فلم يمسح حتى سافر، ولقد غالى الخلال حيث جعل المسألة رواية واحدة، فقال: نقل عنه أحد عشر نفسا أنه يتم مسح مسافر، ورجع عن قوله: يتم مسح مقيم.
وظاهر كلام الخرقي والأصحاب أنه لا فرق بين أن يصلي في الحضر أو لا يصلي، وقال أبو بكر: يتوجه أن يقال: إن صلى بطهارة المسح في الحضر غلب جانبه، رواية واحدة. والله أعلم.(1/389)
قال: وإذا مسح مسافرا أقل من يوم وليلة، ثم أقام، أو قدم، أتم على مسح مقيم وخلع.
ش: لا خلاف في هذا نعلمه، لما تقدم من تغليب جانب الحضر، والله أعلم.
قال: [وإذا مسح مسافر يوما وليلة فصاعدا ثم أقام أو قدم خلع] .
ش: هذا المعروف في المذهب، حتى قال ابن تميم: رواية واحدة. لما تقدم من تغليب جانب الحضر، وقد تنقضي المدة فيلزمه الخلع، وشذ الشيرازي فقال: إذا مسح أكثر من يوم وليلة، ثم أقام أو قدم أتم على مسح مسافر. والله أعلم.
قال: ولا يمسح إلا على خفين، أو ما يقوم مقامهما، من مقطوع، أو ما أشبه مما يجاوز الكعبين.
ش: يمسح على الخفين لورود السنة بذلك كما تقدم، وعلى ما يقوم مقام الخفين مما يستر محل الفرض، ويثبت بنفسه، إذ ما يقوم مقام الشيء يعطى حكمه، وذلك كالخف المقطوع(1/390)
الساق، وما أشبه المقطوع. كالخف القصير الساق، ولعله يريد الجرموق.
276 - وقد روى بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه» ، رواه أحمد، وأبو داود، والموق هو الجرموق، فارسي معرب، قاله الجوهري، وهو خف واسع يلبس فوق الخف في البلاد الباردة، ولا يمسح على ما عدا ذلك، إذ الأصل [الغسل] ، خرج من ذلك ما وردت فيه السنة وما في معناه.
واعلم أنه يشترط لجواز المسح على الخف وما ألحق به - كما اقتضاه كلام الخرقي - من حوائل الرجل شروط (أحدها) : كونه ساترا لمحل الفرض، وإلا فحكم ما ظهر الغسل، وحكم ما استتر المسح، وإذا يغلب الغسل، لأنه الأصل، وسواء كان ظهور محل الفرض لقصر ذلك، أو لسعته، أو خفته، أو صفائه، كالزجاج الرقيق ونحوه،(1/391)
أو خرق فيه وإن صغر، ومال أبو البركات إلى العفو عن خرق لا يمنع متابعة المشي، نظرا إلى ظاهر خفاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
277 - وقال قال عبد الرزاق: سمعت الثوري يقول: يمسح على الخف ما تعلق بالقدم وإن تخرق؛ قال: وكذلك كانت خفاف المهاجرين والأنصار، مخرقة مشققة.
وبالغ أبو العباس فقال في قواعده بالجواز على المخرق، ما لم يظهر منه أكثر القدم، فإن ظهر أكثر القدم فهو عنده كالنعل، أو الزربول الذي لا يستر القدم مما في نزعه مشقة، بأن لا يخلع بمجرد خلع الرجل [بل] إنما يخلع بالرجل الأخرى، أو باليد، والذي يميل إليه في جميع ذلك أنه يغسل ما ظهر من القدم، ويمسح النعل، أو يمسح الجميع، وكلامه في ذلك فيه اضطراب، ثم ظاهر كلامه أن المسح والحال(1/392)
هذه لا يكون بدلا، بل أصلا مكملا بغيره فلا يتوقت، ومعتمده في ذلك على أحاديث وآثار.
278 - (منها) : ما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا ابن عباس ألا أتوضأ لك كما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ؟ قلت: بلى. وفيه: فأخذ حفنة من ماء فضرب بها رجله، وفيها النعل، فغسلها به، ثم الأخرى مثل ذلك.» رواه أحمد وأبو داود، والترمذي.
279 - (ومنها) : ما «روي عن ابن عباس أيضا قال: توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذ ملء كفه ماء، فرش به على قدميه وهو منتعل» .(1/393)
280 - «وعن ابن عمر أنه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه، ويقول: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع هكذا» وغير ذلك من أحاديث وآثار.
وغيره من العلماء أشار إلى ضعف ما ورد من ذلك، إذ أعلاها الحديث المصدر به، وقد سئل عنه البخاري فضعفه، وقال: ما أدري ما هذا. وكذلك البيهقي ضعف جملة من ذلك، ثم الحديث الأول لا حجة فيه، إذ(1/394)
فيه أنه غسلها في النعل، [والنعل لا يمنع الغسل] ، وعلى ذلك حمل البيهقي ما ورد من ذلك، والطحاوي حملها على أنها كانت تحتها جوربان، أو على أنه في الوقت الذي كان يجوز فيه المسح على القدمين، وأن ذلك كان هو الفرض، والمسح على النعلين فضلا، وادعى الإجماع على عدم جواز [مسح] ما تقدم، وأبو العباس يضعف هذه الأجوبة ويقول: إن هذا رد للآثار بإجماع لا نعلم حقيقته اهـ.
(الثاني) : [من الشروط] ثبوته بنفسه، إذ الرخصة وردت في الخف المعتاد، وهو ثابت بنفسه، وما لا يثبت بنفسه ليس في معناه، فلا يلحق به، وإذا لا يجوز المسح على ما يسقط من الرجل، أو لا يثبت إلا بالشد، وفي معنى ذلك اللفافة على المنصوص، والمجزوم به عند الأصحاب، حتى إن أبا البركات جعل ذلك إجماعا، لعدم ثبوتها بنفسها، وحكى ابن عبدوس رواية بالجواز بشرط قوتها وشدتها، وبعض الأصحاب تخريجا بشرط مشقة النزع، وابن تميم وجها(1/395)
مطلقا. اهـ.
أما إن ثبت الخف ونحوه بنفسه لكن لولا الشد أو الشرج لبدا بعضه، فوجهان (الجواز) اختيار ابن عبدوس، وأبي البركات، (والمنع) اختيار الآمدي، وفي معنى ذلك الزربول الذي له آذان.
(الشرط الثالث) : إمكان المشي فيه، فلو تعذر لضيقه، أو ثقل حديده، أو تكسيره كرقيق الزجاج ونحو ذلك، لم يجز المسح، إذ ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص.
(الشرط الرابع) : كونه مباحا، فلا يصح على حرير، ومغصوب، وخرج القاضي، وابن عبدوس، والشيرازي، والسامري الصحة على الصلاة في ذلك، وأبى ذلك الشيخان، وصاحب التلخيص، وقال: إنه وهم، إذ الرخص لا تستباح بمحرم، نعم من اضطر إلى ذلك، كمن كان في بلد ثلج، وخاف سقوط أصابعه، أجزأه المسح عليها، قاله السامري واختلف في شرطين آخرين (أحدهما) : هل من شرطه كونه معتادا فلا يجوز على الخشب، والزجاج، والنحاس؟ وهو اختيار الشيرازي، أو لا يشترط، وهو اختيار القاضي، وأبي الخطاب، وأبي البركات؟ على قولين، (الثاني) : هل يشترط طهارة عينه؟ فيه وجهان،(1/396)
يظهر أثرهما فيمن لبس جلد كلب أو ميتة في بلد ثلج، وخشي سقوط أصابعه، (أحدهما) - وهو ظاهر كلام أبي محمد - لا يشترط، للإذن فيه إذا، ونجاسة الماء حال المسح لا تضر، كالجنب إذا اغتسل وعليه نجاسة لا تمنع وصول الماء، على أحد القولين، (والثاني) - وهو اختيار ابن عقيل، وابن عبدوس، وأبي البركات - يشترط، لأنه منهي عنه في الأصل، وهذه ضرورة نادرة، وإذا يتيمم للرجلين، فإن كان طاهر العين، لكن بباطنه أو بقدمه نجاسة لا تزال إلا بنزعه، فقال كثيرون: يخرج على روايتي الوضوء قبل الاستنجاء، وفرق أبو البركات بأن نجاسة المحل ثم لما أوجبت الطهارتين جعلت إحداهما تابعة للأخرى، وهذا معدوم هنا، وهذه الشروط قد تؤخذ من كلام الخرقي، لخروج كلامه على خف معتاد، ماعدا شرطي الحل، وطهارة العين، والله أعلم.
قال: وهما العظمان الناتئان
ش: قد تقدم أن الكعبين هما العظمان النائتان] ، في «باب فرض الطهارة» وتقدم الدليل عليه، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم.
قال: وكذلك الجورب الصفيق، الذي لا يسقط إذا مشى فيه(1/397)
ش: لما كان الخف المعتاد من شأنه أن يكون صفيقا، لا يسقط إذا مشى فيه، لم يصرح بذكر هذين الشرطين فيه، ولما كان الجورب - وهو غشاء من صوف، يتخذ للدفء - يستعمل تارة وتارة كذا، صرح باشتراط ذلك فيه، وقد تقدم بيان هذين الشرطين عن قرب، والكلام الآن في جواز المسح على الجورب في الجملة.
281 - والأصل فيه ما روى المغيرة بن شعبة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، لكن الأكابر قد أشاروا إلى شذوذه ورده، فقال ابن المديني: رواه هزيل، وخالف الناس وقال ابن معين: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس ونحوه قال إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابنه عبد الله،(1/398)
وقال مسلم: أبوقيس، وهزيل - يعني راويا الحديث - لا يحتملان هذا مع مخالفتهما للأجلة الذين رووا عن المغيرة، فقالوا: مسح على الخفين. وقال أبو داود: وكان ابن مهدي لا يحدث به، لأن المعروف عن المغيرة الخفين.
(قلت) : وهذا كله لا ينبغي أن يرد به الحديث، إذ لا مانع من رواية المغيرة اللفظين معا، ولهذا قال به أحمد، وبنى عليه مذهبه، ثم قد عضده فعل الصحابة، فقال أحمد [في رواية(1/399)
الميموني] : قد فعله سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
282 - وقال ابن المنذر: يروى عن تسعة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي، وعمار، وابن مسعود، وأنس، وابن عمر، والبراء، وبلال، وابن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وقال أبو داود: روى عن [عمر و] ابن عباس. وقال البيهقي: روي عن أبي أمامة، وعمرو بن حريث، فهؤلاء ثلاثة عشر صحابيا، غالبهم من أكابر فقهاء الصحابة المعتبرين. اهـ.(1/400)
وقد شمل كلام الخرقي المجلد والمنعل [وغيرهما] ، وصرح به غيره، وشمل -أيضا - جورب الخرق، وهو المشهور من الروايتين، واختيار الشيخين، (والثانية) : - وجزم بها في التلخيص - ليس له ذلك في جورب الخرق، والله أعلم.
قال: فإن كان يثبت بالنعل مسح عليه، فإذا خلع النعل انتقضت الطهارة
ش: إذا كان الجورب لا يثبت إلا بالنعل جاز له المسح، لأن الشرط الثبوت وقد وجد، مع أن ذلك قد روى عن بعض الصحابة، وقد يتخرج المنع من قول الآمدي في الخف المشرج، وقد تقدم، ومتى خلع [النعل] انتقضت الطهارة، لزوال الشرط، والأولى أن يمسح على الجورب والنعل، كما هو ظاهر الحديث، ويمسح من النعل سيوره التي(1/401)
على ظهر القدم، دون أسفله وعقبه كالخف، فإن اقتصر على قدر الواجب من أحدهما فقال القاضي - وهو ظاهر كلام صاحب التلخيص فيه -: لا يجزئه، لمخالفته ظاهر الحديث، وظاهر كلام أحمد - على ما قال أبو البركات - الإجزاء لأنهما [قد] جعلا كالشيء الواحد، وقيل بالإجزاء على الجورب دون النعل، والله أعلم.
قال: وإذا كان في الخف خرق يبدو منه بعض القدم لم يجزه المسح عليهما
ش: قد تقدم هذا الشرط عن قرب، ونزيد هنا بأن مقتضى كلام الخرقي أن ظهور بعض القدم كظهور القدمين، ثم قوله: خرق يبدو منه بعض القدم. يخرج منه خرق لا يبدو شيء من القدم لانضمامه ونحو ذلك، فإنه لا يمنع من المسح، ونص عليه أحمد، والله أعلم.
[كيفية المسح على الخفين]
قال: ويمسح على ظاهر القدم.
283 - ش: لما «روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين، على ظاهرهما.» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه.(1/402)
284 - «وعن علي - كرم الله وجهه -: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خفيه.» رواه أبو داود، وقدر الواجب في المسح جميع ظاهر الخف، وهو مشط القدم، إلى ظهر العرقوب، قاله الشيرازي، وقدر ذلك ابن البنا بقدر الناصية، وظاهر كلام أحمد - وعليه الجمهور - أن الواجب أكثر ظهر القدم.
285 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل وهو يغسل خفيه، فقال بيديه، كأنه دفعه: «إنما أمرت بالمسح هكذا» من أعلى أطراف الأصابع، إلى أصل الساق، خططا بالأصابع، ورواه ابن ماجه، وقال: وفرق الأصابع وصفة المسح المسنون أن يضع يده مفرجة الأصابع، على أطراف أصابع رجليه ثم يجرهما إلى ساقه مرة واحدة، اليمين(1/403)
باليمين، واليسرى باليسرى، قال في البلغة: ويسن تقديم اليمين.
286 - وقد روى البيهقي في سننه بسنده، «عن المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على خفيه، وضع يده [اليمين] على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الخفين» . وظاهر هذا أنه لم يقدم إحداهما على الأخرى، وكيفما مسح أجزأه، كما في الرأس، نعم لو مسح بخرقة أو خشبة ففي الأجزاء احتمالان، والله أعلم.
قال: فإن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزئه
ش: لظاهر ما [تقدم] من الأحاديث قبل، وظاهر كلام الخرقي أنه لو مسح أسفله وأعلاه أجزأه، وهو كذلك، لإتيانه بالمقصود وزيادة، نعم هل يسن ذلك - وهو ظاهر قول ابن أبي موسى - أو لا يسن - وهو ظاهر كلام الخرقي، ومنصوص الإمام، وعليه العامة، [اتباعا] لظواهر الأحاديث؟ على قولين ومن ثم لا يسن استيعابه، ولا تكرار مسحه، وكره غسله، وبالغ القاضي فقال بعدم الأجزاء مع الغسل، لعدوله عن المأمور، وشيخه نظر إلى أنه أتى(1/404)
بالأبلغ، فاجتزى بذلك، وتوقف الإمام والحال هذه، والله أعلم.
قال: والرجل والمرأة في ذلك سواء
ش: أي فيما ذكر من المسح على الخف: والجورب، ونحوهما، وشرائطهما، لأن ذلك معتاد لها، فكان حكمها فيه حكم الرجل، وخرج بذلك العمامة، ولأنه مسح أقيم مقام الغسل، فاستويا فيه كالتيمم، والله أعلم.
[باب الحيض]
قال:
باب الحيض ش: الحيض مصدر: حاضت المرأة تحيض، حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة في [لغة] ، وتحيضت: قعدت أيام عادتها عن الصلاة.
وأصله [من] السيلان، يقال: حاض الوادي؛ إذا سال، والحيض دم يرخيه الرحم عند البلوغ، في أوقات معلومة، لحكمة تربية الولد، فعند الحمل ينصرف ذلك الدم بإذن الله تعالى إلى تغذية الولد، ولذلك لا تحيض الحامل، وعند الوضع يخرج ما فضل عن غذاء(1/405)
الولد من ذلك الدم، ثم يقلبه الله تعالى لبنا يتغذى به الولد، ولذلك قل ما تحيض المرضع، فإذا خلت من حمل ورضاع بقي ذلك الدم لا مصرف له في محلة، ثم يخرج غالبا في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك ويقل، ويطول ويقصر، على حسب ما ركبه الله في الطباع، والله أعلم.
[أقل الحيض]
قال: وأقل الحيض يوم وليلة ش: هذا [هو] المشهور من الروايتين، والمختار للعامة. قال ابن الزاغوني: اختارها عامة المشايخ. والثانية: أقله يوم. اختارها أبو بكر على ما حكاه [عنه] جماعة، والذي في التنبيه يوم وليلة، وقد قيل يوم، والأصل في ذلك عدم التقدير من الشرع، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغتسلي [وصلي] » ولم يقيد ذلك بقدر، بل وكله إلى ما تعرفه من عادتها، وما لا تقدير فيه من الشرع المرجع فيه إلى العرف، إذ الشارع إنما ترك تقديره لذلك، وإلا يكون أهمل حكمه، وأنه لا [يجوز] وأهل العرف قد ورد عنهم ذلك.(1/406)
287 - (فعن) [عطاء] : رأيت من النساء من كانت تحيض يوما، ومن كانت تحيض خمسة عشر يوما. (وعن: الشافعي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] : رأيت امرأة قالت: إنها لم تزل تحيض [يوما لا يزيد] ، وقال لي عن نساء: إنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام، (وعن) ابن مهدي، عن امرأة أنها قالت: حيضي يومان. وعن إسحاق: صح في زماننا عن غير واحدة أنها قالت: حيضي يومان فثبت بنقل هؤلاء الأئمة الأعلام أن في النساء جماعة يحضن يوما، ويومين، فمن قال باليوم دون ليلته أخذ بظاهر [إطلاق] اليوم، ويؤيده قول الأوزاعي: عندنا امرأة تحيض بكرة، وتطهر عشية. ومن اعتبر اليوم مع ليلته قال: إنه المفهوم من إطلاق اليوم، ومن ثم قال القاضي في الروايتين: يمكن حمل قول أحمد: أقله يوم. [أي] : بليلته، فتكون المسألة رواية واحدة، وهذه طريقة الخلال، وما حكاه الأوزاعي فعن امرأة واحدة، ومثله(1/407)
لا يثبت حكما شرعيا في حق سائر النساء، وما نقل من التقدير بثلاثة أيام، (فإما) صريح غير صحيح.
288 - كما روى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام» رواه الدارقطني وغيره من طرق وروي - أيضا - عن بعض الصحابة، لكن كلها ضعيفة، بل فيها ما قيل: إنه موضوع. قال أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] في رواية الميموني:) ما صح عن أحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في الحيض: عشرة أيام، أو خمسة عشرة. (وإما) صحيح(1/408)
غير صريح، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمستحاضة: «لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن» .
289 - وقوله لفاطمة بنت أبي حبيش: «اجتنبي الصلاة أيام حيضك» رواه أحمد وأقل الجمع ثلاثة، فهذا ونحوه مما خرج على الغالب، إذ الغالب أن حيض النساء أكثر من اليوم، بل ومن الثلاثة أيام، والله أعلم.
[أكثر الحيض]
قال: وأكثره خمسة عشر يوما ش: هذا هو المذهب - أيضا - والمشهور من الروايتين، لما تقدم عن عطاء، ونقل ذلك [أيضا] عن الشافعي، وإسحاق، ويحيى بن آدم، وشريك.(1/409)
290 - ويرشحه ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وأما نقصان دينها فإنها تمكث شطر عمرها لا تصلي» قال القاضي: رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه. والشطر النصف، والظاهر أنه أراد منتهى نقصانهن، وقول البيهقي: إنه لم يجده في شيء من كتب الحديث يرده ما حكاه القاضي، لكن قال ابن منده: لا يثبت هذا بوجه من الوجوه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (والثانية) : أكثره سبعة عشر يوما، لأن ذلك يحكى(1/410)
عن نساء الماجشون، وحكاه ابن مهدي عن غيرهن، اهـ.
ولم يذكر الخرقي أقل الطهر، فيحتمل أنه لا حد لأقل الطهر عنده، وهو إحدى الروايات عن أحمد، رواها عنه جماعة، قاله أبو البركات، واختاره بعض الأصحاب، ولا عبرة بحكاية ابن حمدان ذلك [قولا] ثم تخطئته، (والمختار) في المذهب أن أقله ثلاثة عشر يوما.(1/411)
291 - لما رواه أحمد واحتج به - عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة جاءت إليه قد طلقها زوجها، زعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، طهرت عند كل قرء وصلت، فقال علي لشريح: قل فيها. فقال شريح: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها، ممن يرضى دينه وأمانته، شهدت أنها حاضت في شهر ثلاثا، وإلا فهي كاذبة. فقال علي: قالون. أي جيد، بالرومية، وثلاث حيض في شهر دليل على أن الثلاثة عشر طهر صحيح يقينا أما على الاثني عشر وما دونها فمشكوك فيه.
(والرواية الثالثة) : أقله خمسة عشر يوما، لما تقدم من حديث «تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي» وزعم أبو بكر في روايتيه أن هاتين الروايتين مبنيتان على أكثر الحيض، [فإذا] قيل: أكثره خمسة عشر. فأقل الطهر خمسة عشر، وإن قيل: أكثره سبعة عشر. فأقل الطهر ثلاثة عشر. والمشهور عند الأصحاب خلاف هذا، إذ المشهور أن أكثر الحيض خمسة عشر وأقل الطهر ثلاثة عشر. ثم إنما يلزم هذا [أن] لو كانت المرأة تحيض في كل شهر حيضة، لا تزيد على ذلك ولا تنقص، وليس كذلك.(1/412)
(تنبيه) : غالب الطهر بقية الشهر، «واللب» العقل، والله أعلم.
[علامات إقبال الحيض وإدباره]
قال: فمن طبق بها الدم، وكانت ممن تميز، فتعلم إقباله، بأنه أسود ثخين منتن، وإدباره بأنه رقيق أحمر، تركت الصلاة في إقباله، فإذا أدبر اغتسلت، وتوضأت لكل صلاة وصلت، وإن لم يكن دمها منفصلا، وكانت لها أيام من الشهر تعرفها، أمسكت عن الصلاة فيها، واغتسلت إذا جاوزتها، وإن كانت لها أيام أنسيتها، فإنها تقعد ستا أو سبعا في كل شهر
ش: لما ذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أكثر الحيض، أراد أن يبين حكم المرأة إذا زاد دمها على ذلك، فقال: من طبق بها الدم. أي استمر بها، وجاوز الخمسة عشر يوما، وهذه هي المستحاضة، التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ذلك عرق، وليس بالحيضة» أي أن دمها يسيل من عرق، وليس هو دم الحيض، وهذا العرق يسمى «العاذل» بالمعجمة، ويقال بالمهملة، حكاهما ابن سيده، «والعاذر» لغة فيه.(1/413)
والمستحاضة على ضربين، مبتدأة [ومعتادة] وغيرهما لها أربعة أحوال، وهذه التي كلام الشيخ فيها (الحال الأولى) المميزة، وهي التي [لها] دمان، أحدهما أقوى من الآخر، كأن [يكون] أحدهما ثخين منتن، والآخر رقيق أحمر، أو أحدهما أحمر مشرق، والآخر دونه، ونحو ذلك.
(الثانية) أن تكون معتادة، وهي التي لها أيام من الشهر تعرفها، وشهر المرأة ما اجتمع لها فيه حيض وطهر، وأقل ذلك على المذهب أربعة عشر يوما.
(الحالة الثالثة) أن تكون معتادة ومميزة، بأن يكون لها أيام من الشهر تعرفها، ثم استحيضت، فصار لها دمان، أحدهما أقوى من الآخر.
(الحال الرابعة) عكسها، وهي من لا عادة لها ولا تمييز.
إذا عرف هذا فلا نزاع عندنا أنه متى انفرد التمييز عمل به، فتجلس زمن الدم الأقوى.
292 - لما في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: «لا، إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة(1/414)
، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» وظاهره إناطة الحكم بإقبال الحيضة وإدبارها، من غير نظر إلى عادة.
293 - وأصرح من ذلك ما روي عن عروة بن الزبير، «عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان دم الحيض، فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق» رواه أبو داود، والنسائي.
294 - وروى البيهقي في سننه عن مكحول، عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دم الحيض أسود خاثر، تعلوه حمرة، ودم المستحاضة أصفر رقيق» لكنه مرسل، إذ مكحول لم يسمع من أبي أمامة، قال الدارقطني: مع أن في سنده مجهولا وضعيفا، نعم ذكر ذلك أبو داود عن مكحول من قوله، وأيضا فإن مع الاشتباه يرجع إلى الصفات، كما لو اشتبه المني بالمذي، ونحو ذلك، (ويشترط) للعمل بالتمييز أن لا ينقص الأقوى عن أقل الحيض، ولا يزيد على(1/415)
أكثره، وأن يكون بين الدمين القويين أقل الطهر.
قلت: إن قلنا: لأقله حد. وهل يشترط كون مجموع الدمين الأقوى والأضعف لا يزيدان على أكثر من شهر؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يشترط، إذ أكثر الطهر لا حد له، والثاني: يشترط، نظرا لغالب عادات النساء، ومتى اختل شرط من ذلك فكأن لا تمييز. اهـ.
ولا نزاع أيضا أنه متى انفردت العادة عمل بها.
295 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدم، فقال لها: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي» فكانت تغتسل عند كل صلاة» ، رواه مسلم.
296 - «وعن أم سلمة أنها استفتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة تهراق الدم، فقال: «لتنظر قدر الأيام والليالي التي كانت تحيضهن، وقدرهن من الشهر، فتدع الصلاة، ثم لتغتسل، ولتستثفر ولتصل» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وقال(1/416)
أحمد في رواية المروذي، وإسحاق بن إبراهيم، وغيرهما: الحيض يدور عندي على ثلاثة أحاديث، حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وحديث حمنة بنت جحش، وحديث سليمان ابن يسار، وهو حديث أم سلمة. اهـ.
ولا تثبت العادة إلا بتكرار مرتين على رواية، لوجود المعاودة، وعلى أخرى - وهي المذهب، واختيار الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ، وقال ابن الزاغوني: إنها اختيار عامة المشايخ - لا بد من تكرار ثلاثا، لظاهر ما تقدم، إذ «كان» في مل هذا التركيب إنما تستعمل في ما دام وتكرر، وهل يعتبر التكرار في التمييز، حيث يعمل به؟ فيه وجهان (أحدهما) - وهو اختيار القاضي، والآمدي - نعم، كالعادة بل أولى، إن قلنا: تقدم عليه. لأنه إذا اعتبر في الأقوى، ففي الأضعف أولى (والثاني) : وهو ظاهر كلام الإمام والخرقي واختيار ابن عقيل - لا، لأن النص دل على الرجوع إلى صفة الدم مطلقا. اهـ.
وإن اجتمعت العادة والتمييز فروايتان (إحداهما) يقدم التمييز على العادة، فتعمل عليه وتتركها، وهي ظاهر كلام الخرقي، لقوله: وكانت ممن تميز. وهو شامل لما إذا كان لها عادة، ثم قال: وإن لم يكن دمها منفصلا. أي بعضه من بعض، بل كان كله شيئا واحدا، فلم ينقلها للعادة إلا عند عدم(1/417)
التمييز، وذلك لأن التمييز أمارة قائمة في نفس الدم، موجودة حال الاشتباه، فقدم على العادة لانقضائها، وتحمل أحاديث العادة على من لا تمييز لها (والثانية) تقدم العادة، وهو اختيار الجمهور، لورودها في غالب الأحاديث من غير تفصيل، وجعلهن كلهن غير مميزات فيه بعد، ولم يرد العمل بالتمييز إلا في حديث فاطمة المتقدم، وحديثها الذي في الصحيح ليس فيه تصريح بذلك.
297 - بل في الصحيح من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» فردها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى العادة، وقد نقل حرب عن أحمد أنها نسيت أيامها فالظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها للتمييز حين ذكرت أنها ناسية. اهـ.
وإن عدمت العادة والتمييز، وهي التي كانت لها أيام فأنسيتها ودمها غير متميز، وتلقب «بالمتحيرة» ، وهي التي قد تحيرت في حيضها، ولها ثلاثة أحوال (أحدها)(1/418)
أن تنسى وقتها وعددها، وهذه [التي] قال الخرقي: إنها تجلس ستا أو سبعا، نظرا لغالب عادات النساء.
298 - كما قد صرح بذلك في حديث حمنة بنت جحش، وسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن استحاضتها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام في علم الله تعالى، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أن قد طهرت، واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة، أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن، لميقات حيضهن [وطهرهن] » مختصر، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح (وهذا) إحدى الروايتين، وهو المختار للأصحاب (والثانية) : تجلس الأقل، لأنه المتيقن، وخرج القاضي فيها (رواية ثالثة) من المبتدأة أنها تجلس الأكثر (ورابعة) من المبتدأة - أيضا - تجلس عادة نسائها، وهي(1/419)
الرواية الثانية التي في الكافي، وجعل الأقل مخرجا، وهو سهو، وإنما الأقل منصوصا، وكذلك الأول.
وعلى كل حال ففي وقت إجلاسها وجهان (أحدهما) - وهو المشهور - أنها تجلس من أول [كل] شهر، لظاهر حديث حمنة [والثاني) - واختاره أبو بكر، وابن أبي موسى - تجلس بالتحري، لأنه أمارة مغلبة على الظن، ورؤوس الأهلة لا تأثير لها عقلا ولا عرفا، بل ولا شرعا في ابتداء الحيض، وفصل أبو البركات فقال: إن طال عهدها بزمن افتتاح الدم، ونسيته، جلست بالتحري، في أصح الوجهين، وإن ذكرت زمن افتتاح الدم، كمعتادة انقطع عنها الحيض، ثم جاءها الدم في خامس يوم من الشهر، واستمر، فهذه تحيض من خامس الشهر لا بالتحري على أصح الوجهين.
(الحال الثاني) : من أحوال الناسية أن تذكر العدد وتنسى الوقت، كأن قالت: حيضي خمسة أيام [من] النصف الأول، ولا أعلم هل هي الأولى أو الثانية، أو الثالثة، فهذه تجلس خمسة [أيام] بلا ريب، لكن هل تجلسها بالتحري، أو بالأولوية؟ وصححه أبو البركات، فيه وجهان، ومتى تعذر أحدهما عمل بالآخر. اهـ.
وكل موضع أجلسناها بالتحري، أو بالأولوية فإنها تحيض من كل(1/420)
شهر حيضة، لخبر حمنة، إلا أن تذكر لها وقتا من الطهر بين الحيضتين يخالفه، فإنها تبنى عليه.
(الحال الثالث) تذكر الوقت وتنسى العدد كأن تقول: كنت أحيض من خامس الشهر، لكن لا أعرف قدر ذلك. فإنها تحيض من الخامس الغالب أو الأقل، على الروايتين المنصوصتين، والأكثر أو عادة نسائها على المخرجتين، وحيث قلنا: تجلس الناسية ستا أو سبعا. فإن ذلك تخيير اجتهاد أو تحر، على أصح الوجهين، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وعلى الثاني تخيير مطلق، نظرا لظاهر (أو) كما في كفارة اليمين ونحوها.
إذا عرف هذا فالمستحاضة [في] الأيام المحكوم بحيضها فيها حكمها [فيها] حكم الحيض في جميع أحكامها، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» فإذا انقضى ما حكم بحيضها فيه فهي إذا في حكم الطاهرات فيلزمها الغسل، والعبادات وغير ذلك، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة أيضا: «فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي» وفي رواية «فاغتسلي وصلي» إلا أن في وطئها خلافا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(1/421)
ويلزمها أن تتوضأ لوقت كل صلاة، على المشهور من الروايتين والمختار لجمهور الأصحاب.
299 - لأن في «حديث حمنة: أنها كانت تهراق الدم، وأنها سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تتوضأ لوقت كل صلاة» . رواه ابن بطة بإسناده، وتصلي بوضوئها ما شاءت من فرائض ونوافل، ما لم يخرج الوقت، كما تجمع بين فرض ونفل اتفاقا، (والثانية) وهي ظاهر كلام الخرقي تتوضأ لكل فريضة.
300 - لأن في حديث فاطمة: «وتوضئي لكل صلاة» رواه البيهقي مرسلا ومتصلا، وقال: الصحيح أنه من قول عروة.(1/422)
301 - وعن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المستحاضة «تدع الصلاة أيام أقرائها. ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة» رواه الترمذي، وأبو داود وضعفه، ورواه البيهقي، وقال: «وتتوضأ لكل صلاة» .
302 - وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة» ، وقد جاء عن عائشة - أيضا - أنها قالت: «تتوضأ لكل صلاة» . وفي رواية عنها: «عند كل صلاة» . رواهما البيهقي (فعلى الأولى) يبطل وضوءها بخروج الوقت ودخوله، على ظاهر كلام أحمد، واختيار القاضي، وعلى اختيار أبي البركات لا يبطل إلا بالدخول وتنوي استباحة الصلاة، لا رفع الحدث، فإن نوته فقال في التلخيص: لا أعلم لأصحابنا فيه قولا، وقياس المذهب أنه لا يكفي، لتعذر رفعه للحدث الطارئ ولا يشترط تعيين النية للفرض، على ظاهر قول(1/423)
الأصحاب، قاله أبو البركات، إذ هذه الطهارة ترفع الحدث الذي أوجبها.
ويلزمها قبل الوضوء أن تغسل فرجها وتعصبه، وتسد محل الدم ما أمكن.
303 - لما تقدم من «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة في حق المستحاضة «لتستثفر بثوب» .
304 - «وقال لحمنة: «أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم» قالت: إنه أكثر من ذلك. قال: «فاتخذي ثوبا» قالت: هو أشد من ذلك. قال: «فتلجمي» فإن غلب الدم، وخرج بعد إحكام [الشد] والتلجم لم يضرها ذلك.
305 - لأن في حديث فاطمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، وصلي وإن قطر الدم على الحصير» رواه أحمد، وابن ماجه، وهل يلزمها إعادة الشد، وغسل الفرج لوقت كل صلاة كما في الوضوء؟ فيه وجهان، أصحهما لا يجب، والأولى أن تصلي عقب الطهارة، نعم لها التأخير لبعض مصالح الصلاة، من انتظار جماعة، وأخذ سترة ونحو ذلك، فإن أخرت لغير مصلحة فوجهان.(1/424)
(تنبيه) : قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما ذلك عرق» قد تقدم أن هذا العرق يسمى: «العاذل» «والعاذر» ، قال القرطبي: أي عرق انقطع.
وقوله: «خاثر» . أي ثخين. «وتهراق الدم» أي يجري دمها كما يجري الماء وقوله: «ركضة» من ركضات الشيطان، أي أن الشيطان قد حرك هذا الدم الذي ليس بدم حيض، و «الكرسف» القطن، «وتلجمي» ، التلجم كالاستثفار، وهو أن تشد المرأة فرجها بخرقة عريضة، توثق طرفيها في شيء آخر قد شدته على وسطها، بعد أن تحتشي قطنا، فتمنع بذلك الدم أن يجري أن يقطر، «والاستثفار] مأخوذ من ثفر الدابة، لأنه يكون تحت ذنب الدابة، قيل: وأصله للسباع، وإنما استعير، «وتحيضي» أي اقعدي أيام حيضتك، والله أعلم.
[أحكام المبتدأة في الحيض]
قال: والمبتدأ بها الدم تحتاط، فتجلس يوما وليلة [وتغتسل] وتتوضأ لكل صلاة وتصلي، فإن انقطع الدم في خمسة عشرة يوما اغتسلت عند انقطاعه، وتفعل مثل ذلك ثانية وثالثة، فإن كان بمعنى واحد عملت عليه، وأعادت الصوم إن كانت صامت - في هذه الثلاث مرات - لفرض
ش: الجارية إذا رأت الدم في زمن يصلح لكونه حيضا - وأقله استكمال تسع سنين على المذهب أو اثنتي عشرة سنة على رواية - فإنها تترك له الصوم والصلاة، وغيرهما مما تشترط له الطهارة، ويعطى حكم الحيض، لأن الحيض دم جبلة وعادة، وهو «شيء كتبه الله على بنات آدم» ، وقد وجد سببه(1/425)
فاعتمد ذلك، وكونه دم فساد الأصل عدمه، ثم إن انقطع لأقل من أقل الحيض، فقد تبين أنه دم فساد، فتعيد ما تركته من الصلاة، وإن انقطع لأقل الحيض - وهو يوم على رواية، ويوم وليلة على المذهب - فهو حيض جزما فتغتسل إذا، وتفعل ما تفعله الطاهرات بلا ريب، وإن جاوز الأقل فإنها تجلس يوما وليلة فقط، على المشهور والمنصوص في رواية صالح، وعبد الله، والمروذي، والمختار للأصحاب، احتياطا للعبادة، كما أشار إليه الخرقي، إذ الزائد على الأقل محتمل للحيض والاستحاضة، ولم يوجد تكرار يرجح أحدهما، فالأحوط أن لا يجعل حيضا.
(وعنه) : تجلس الزائد ما لم يجاوز [أكثر] الحيض، لصلاحيته لذلك، (وعنه) : تجلسه إلى تمام ست أو سبع، عملا بغالب عادة النساء، (وعنه) : تجلسه إلى تمام عادة نسائها، كأختها، وأمها، وعمتها، وخالتها، إذ الظاهر شبهها بهن، هذه طريقة أبي بكر، وابن أبي موسى، وابن الزاغوني، والشيخين في شرحيهما، وغير واحد من الأصحاب، وهي ظاهر كلام أحمد في رواية جماعة، وطريقة القاضي وابن عقيل في تذكرته، والشيخين في مختصريهما، وطائفة أن المبتدأة لا تجلس فوق الأقل بلا نزاع، وإنما محل الخلاف فيما إذا تبين أنها مستحاضة، (وشذ أبو محمد) في الكافي، فجعل [في] المبتدأة أول ما ترى الدم الروايات(1/426)
الأربع، وقال فيما إذا تبين أنها مستحاضة أنها تجلس غالب الحيض، ثم قال: وذكر أبو الخطاب فيها الروايات الأربع. (وهو سهو) فإنه لا نزاع نعلمه بين الأصحاب في جريان الروايات الأربع في المبتدأة المستحاضة، وإنما النزاع في جريانهن فيها أول ما ترى الدم.(1/427)
إذا عرف هذا، وقلنا على المذهب: إنها [إنما] تجلس الأقل. فإنها تغتسل عقبه، وتصوم، وتصلي، ولا يطؤها زوجها احتياطا، ثم إن انقطع لأكثر الحيض فما دون اغتسلت غسلا ثانيا عند انقطاعه، لجواز كون الجميع حيضا، وتفعل مثل ذلك في الشهر الثاني، والثالث، فإذا كان في الأشهر الثلاثة بمعنى واحد، أي على أسلوب واحد، وقدر واحد، تبينا أن الجميع عادة لها، وأنه حيض، وإذا تجلسه جميعه في الشهر الرابع، وهذا على المذهب كما تقدم [من] كون العادة لا تثبت إلا بثلاث، أما على الرواية الأخرى فتجلسه في الشهر الثالث، لوجود شرط العادة وهو التكرار، ثم قد تبينا أنها كانت حائضا في تلك الأيام، فلا تعتد بما فعلته فيها مما يشترط له الطهارة، من صلاة، وصوم، واعتكاف، وطواف، وإذا يلزمها قضاء الواجب من ذلك لتبين عدم(1/428)
صحته، وبقائه في ذمتها، عدا الصلاة فإنها لا تجب على حائض، والله أعلم.
قال: فإن استمر بها الدم، ولم يتميز قعدت من كل شهر ستا أو سبعا، لأن الغالب من النساء هكذا يحضن
ش: إذا استمر بالمبتدأة الدم، بأن جاوز أكثر الحيض، فهذه هي المستحاضة المبتدأة، ولها حالتان (إحداهما) : أن يكون لها تمييز معتبر، فتعمل عليه بلا ريب، لكن في اشتراط التكرار له - كما يشترط للعادة - (وجهان) تقدما، (الثانية) لا تمييز لها أصلا، أو لها تمييز غير معتبر، فهذا في قدر ما تجلسه الروايات الأربع السابقة، والمذهب منهن - الذي اختاره الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي، وجمهور أصحابه، والشيخان، وغير واحد - أنها تجلس غالب الحيض ستا أو سبعا كما تقدم، عملا بالغالب، وللاتفاق على أنها ترد إلى غالب الحيض وقتا، بأن تحيض من كل شهر حيضة، فلذلك ترد إلى الغالب قدرا، وتفارق المبتدأة أول ما ترى الدم في كونها تجلس الأقل، من حيث إنها أول ما ترى الدم ترجو انكشاف أمرها عن قرب، ولم يتيقن لها دم فاسد، وإذا(1/429)
تبين استحاضتها فقد اختلط الحيض بالفاسد يقينا، ولا حالة لها قريبة تنتظر، فلذلك ردت إلى الغالب، اعتمادا على الظاهر، واختار أبو بكر، وابن عقيل في تذكرته أنها تجلس الأقل، كقوليهما، وقول غيرهما من الأصحاب في حال الابتداء.
ثم هل تثبت استحاضتها بدون التكرار، فيه وجهان، (أحدهما) : وهو اختيار القاضي - لا تثبت، وإذا تجلس قبل التكرار [الأقل على المذهب، وعند القاضي بلا خلاف، (والثاني) - وهو اختيار أبي البركات - تثبت بمجرد مجاوزة الدم الأكثر، لظاهر حديث حمنة، وعلى هذا تجلس في الشهر الثاني غالب الحيض على المختار، وأما الشهر الأول فلا تجلس منه إلا] الأقل على المذهب بلا ريب، لأن استحاضتها فيه غير معلومة، والله أعلم.
[الصفرة والكدرة في أيام الحيض]
قال: والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض
ش: الصفرة والكدرة في أيام الحيض - وهو زمن العادة - من الحيض، لعموم قول الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ومن رأت صفرة أو كدرة في [أيام] العادة صدق عليها أنها لم تطهر.
306 - وعن مرجانة - مولاة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة، فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم(1/430)
الحيضة، يسألنها عن الصلاة. فتقول: لا تعجلن، حتى ترين القصة البيضاء. تريد بذلك الطهر من الحيض. رواه مالك في الموطأ.
ومفهوم كلام الخرقي أن الصفرة والكدرة بعد زمن العادة ليس بحيض، وهو كذلك.
307 - لقول أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا. رواه أبو داود، والنسائي.
308 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - – «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر قال: «إنما هو عرق، أو إنما هو عروق» رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقي في سننه.(1/431)
وعموم مفهوم كلام الخرقي يقتضي عدم الالتفات إلى الصفرة والكدرة بعد العادة وإن تكرر ذلك، وهو المنصوص، والمختار للشيخين، اعتمادا على العادة، وعنه ما يدل - وهو اختيار القاضي، وابن عقيل، وصاحب التلخيص [فيه]- على أنه إن تكرر بعد العادة فهو حيض، لأن التكرار يجعله كالموجود في العادة.
(تنبيهان) . (أحدهما) : إذا ابتدئت البكر بصفرة أو كدرة فهل تلتفت إليه - وهو اختيار القاضي، كما لو رأته في العادة - أو لا تلتفت إليه - وهو اختيار أبي البركات، وظاهر كلام الإمام - اعتمادا على أنه قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؟ قال الخطابي: على وجهين.
(الثاني) : «الدرجة» - بكسر الدال وفتح الراء والجيم - وعاء يحط فيه حق المرأة وطيبها، والجمع أدراج، وقيل: هي بضم الدال، وسكون الراء، وأصلها شيء يدرج أي يلف، «والقصة» معناه أن تخرج الخرقة أو القطنة التي(1/432)
تحتشي بها المرأة كأنها قصة، لا يخالطها صفرة ولا كدرة، وقيل: إن القصة شيء كالخيط [الأبيض] ، يخرج بعد انقطاع الدم كله، والله أعلم.
[الاستمتاع بالمرأة في مدة الحيض]
قال: ويستمتع من الحائض بدون الفرج.
ش: لقول الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] والمحيض اسم لمكان الحيض، كالمبيت، والمقيل، ومصدر: حاضت المرأة حيضا ومحيضا، والمراد هنا والله أعلم - الأول، بقرينة التعليل بكونه أذى، وذلك يختص بالفرج، وللإجماع على جواز القربان في حال الحيض في الجملة، وقد شهد لذلك النص.
309 - فعن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض» .
310 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في تفسير الآية: اعتزلوا نكاح فروج النساء، رواه عنه أبو بكر في تفسيره.(1/433)
311 - ولما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] الآية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ النسائي، وابن ماجه «إلا الجماع» واللام فيه لمعهود ذهني، وهو الوطء في الفرج، للإجماع على جواز القربان فيما عدا محل الإزار.
312 - وقد روى أبو داود عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد من الحائض شيئا، ألقى على فرجها ثوبا» .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يستمتع [بها] في الفرج] ولا ريب في ذلك لما تقدم، والله أعلم.
[وطء الحائض]
قال: فإن انقطع دمها فلا توطأ حتى تغتسل
ش: لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أي من الحيض {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أي اغتسلن.
313 - كذلك فسرها ابن عباس. رواه عنه البيهقي، وإبراهيم(1/434)
الحربي، وحملا لكل من التطهيرين على فائدة، على أن الإمام إسحاق بن راهويه قال: أجمع أهل العلم من التابعين أن لا يطأها حتى تغتسل. وإذا حصل الإجماع من التابعين فلا عبرة بمن بعد اهـ.
ويقوم مقام الاغتسال التيمم، لعدم الماء، ثم إذا وجد الماء حرم [عليه] الوطء، والله أعلم.
[وطء المستحاضة]
قال: ولا توطأ مستحاضة إلا أن يخاف على نفسه العنت، [وهو الزنا]
ش: أما مع خوف العنت وهو الزنا فلا نزاع في حل وطء المستحاضة، دفعا لأعلى المفسدتين بارتكاب، أدناهما، ولما فيه من الضرر المستدام، وألحق ابن حمدان بخوف العنت خوف الشبق. اهـ.
وأما مع أمن [ذلك] فروايتان (إحداهما) : يجوز.(1/435)
314 - لما روى عكرمة عن حمنة أنها كانت تستحاض، فكان زوجها يجامعها.
315 - وأن أم حبيبة كانت تستحاض، وكان زوجها يغشاها، رواهما أبو داود.
316 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أباح وطأها ثم إن أم حبيبة كانت تحت عبد الرحمن بن عوف - كذا في مسلم - وقد سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حكم الاستحاضة فبينها لها ولم يذكر لها تحريم الجماع، ولو كان حراما لبينه لها.
317 - وفي حديث مكحول الذي رواه البيهقي عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المستحاضة يغلبها الدم في الصلاة «فلا تقطع الصلاة وإن قطر، ويأتيها زوجها» إلا أنه مرسل وضعيف كما تقدم وعلى هذه هل يكره وطؤها لما فيه من الخلاف، أو لا يكره إذ الأصل عدم الكراهة، فيه روايتان.
(والثانية) : وهي المشهورة عند الأصحاب، اختارها الخرقي، وأبو حفص، وابن أبي موسى، وغير واحد - لا يجوز لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222](1/436)
فمنع سبحانه من الوطء معللا بكونه أذى وهذا أذى.
318 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: المستحاضة لا يغشاها زوجها. وما روى من وطء أم حبيبة ومن وطء حمنة ففعل لا عموم له، إذ يحتمل أن ذلك عند خوف العنت، وحديث أبي أمامة لا تقوم بمثله حجة، على أنه قد يحمل على ذلك، وتأخيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للبيان لعدم الحاجة إليه.
والذي يظهر الأول، إذ الآية الكريمة لا دليل فيها، إذ دم الاستحاضة غير دم الحيض، كما نص عليه صاحب الشريعة، ولا يلزم من كون دم الحيض أذى أن يكون غيره من الدماء أذى، وما روى عن عائشة فقد قال البيهقي: الصحيح أنه من قول الشعبي. والله سبحانه أعلم.
[ما له حكم الاستحاضة]
قال: والمبتلى بسلس البول أو كثرة المذي فلا ينقطع كالمستحاضة، يتوضأ لكل صلاة بعد أن يغسل فرجه
ش: قد تقدم أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل [صلاة] بعد أن تغسل فرجها وتحكم شده، وحكم المبتلى بسلس البول، أو كثرة المذي، أو الرعاف الدائم، والمجروح(1/437)
الذي لا يرقأ دمه ونحوهم، حكم المستحاضة في ذلك، لتساويهما معنى، وهو عدم التحرز من ذلك، فيتساويان حكما.
319 - وقد روى الإمام أحمد، والبيهقي، والدارقطني عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما طعن كان يصلي وجرحه يثعب دما.
320 - وقال إسحاق بن راهويه: كان بزيد بن ثابت سلس البول، وكان يداويه ما استطاع، فإذا غلبه صلى، ولا يبالي ما أصاب ثوبه.
وقوله: فلا ينقطع. هذا الشرط في المستحاضة ومن لحق بها، وهو أن لا ينقطع حدثها زمنا يسع الطهارة والصلاة، إذ ما دونه لا يفيد، فهو كالعدم، فإن كان من عادتهم انقطاعه زمنا يسع لذلك لزمهم تحريه والطهارة فيه، لتمكنهم بالإتيان بالعبادة بشرطها، ولو عرض هذا الانقطاع المتسع لمن عادته الاتصال، أبطل الطهارة، فإن حصل انقطاع قبل الشروع في الصلاة لم يجز الدخول فيها، لاحتمال دوامه، فإن خالف ودخل واستمر الانقطاع قدرا يسع(1/438)
الطهارة والصلاة فصلاته باطلة، وإن عاد الحدث قبل ذلك فطهارته صحيحة، وفي بطلان صلاته وجهان، أصحهما تبطل، لمخالفته الأمر، ولو وجد الانقطاع المتسع في الصلاة أبطلها وأبطل الوضوء، وخرج ابن حامد عدم البطلان من رواية مضي المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة، وفرق أبو البركات بأن الحدث هنا متجدد، ولم يوجد عنه بدل.
وإذا بطلت الصلاة استأنفها كالمتيمم، وينصرف من الصلاة بمجرد الانقطاع عند الأصحاب، إذ الظاهر الدوام، فلو خالف فعاد الحدث قبل مدة الاتساع فالوجهان في الانقطاع قبل الشروع، واختار المجد أنه لا ينصرف ما لم تمض مدة الاتساع حذارا من إبطال متيقن بموهوم، ولو توضأ من له عادة من هؤلاء بانقطاع غير متسع فاتصل حتى اتسع أو برأت بطلت طهارته إن وجد منه حدث معه أو بعده، وإلا فلا، ولو كثر الانقطاع واختلف فتقدم وتأخر، ووجد مرة وعدم أخرى فهذه كمن عادتها الاتصال عند الأصحاب، في بطلان وضوئها بالانقطاع المتسع دون ما دونه، وفي الأحكام إلا في شيء واحد، وهو أنها لا تمنع من الدخول في الصلاة والمضي فيها بمجرد الانقطاع، قبل تبين اتساعه، واختار أبو البركات - مدعيا أنه ظاهر كلام الإمام - أنه لا عبرة ها هنا بهذا الانقطاع، بل يكفي وجود الدم(1/439)
في شيء من الوقت، دفعا للحرج والمشقة. والله أعلم.
[أكثر النفاس]
قال: وأكثر النفاس أربعون يوما
ش: هذا هو المذهب المختار والمعروف من الروايات.
321 - لما روى عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين يوما، وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال الخطابي: أثنى محمد بن إسماعيل على هذا الحديث ومعناه: كانت تؤمر أن تجلس، وإلا كان الخبر كذبا، إذ محال - عادة - اتفاق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض، مع أن هذا إجماع سابق أو كالإجماع.(1/440)
322 - وقد حكاه إمامنا، وابن المنذر عن عمر، وابن عباس، وأنس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم، ومن ثم قال الطحاوي: لم يقل بالستين أحد من الصحابة، وإنما قاله من بعدهم وقال أبو عبيد: وعلى هذا جماعة الناس. وقال إسحاق: هو السنة المجتمع عليها.
(والثانية) أن أكثره ستون اتباعا للوجود.
وأول المدة من [حين] الوضع، لأن في رواية أبي داود في حديث أم سلمة: تجلس بعد نفاسها وإن خرج بعض(1/441)
الولد فالدم قبل انفصاله نفاس، يحسب من المدة وخرج أنه كدم الطلق، بناء على عدم إرثه إذا استهل والحال هذه، أما إن ولدت توأمين فأول النفاس من الأول وآخره منه، على المشهور والمختار لجمهور الأصحاب من الروايات، فعلى هذا لو كان بين الولدين أربعون يوما فلا نفاس بعد الثاني (وعنه) : أوله من الأول وآخره من الثاني، فعلى هذه فقد يجيء جلوسها ستين يوما وأكثر (وعنه) : هما - الأول والآخر - من الثاني فعلى هذا ما بين الولدين ليس بنفاس، وإن بلغ أربعين يوما إلا أن يكون يومين أو ثلاثة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(تنبيه) : الورس نبت أصفر يصبغ به، ويتخذ منه غمرة للوجه، يحسن اللون «والكلف» لون يعلو الوجه، يخالف لونه، يضرب إلى السواد والحمرة، والله أعلم.
[أقل النفاس]
قال: وليس لأقله حد، أي وقت رأت الطهر اغتسلت وهي طاهر.
323 - ش: لما روى «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كم تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال: «أربعين يوما لا أن ترى الطهر قبل ذلك» .(1/442)
324 - وعن معاذ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مضى للنفساء سبع ثم رأت الطهر فلتغتسل ولتصل» رواهما الدارقطني وقد حكى ذلك الترمذي إجماعا فقال: أجمع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك.
325 - وحكى البخاري في تأريخه أن امرأة ولدت بمكة، فلم تر دما، فلقيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - – فقالت: أنت امرأة طهرك الله. اهـ فعلى هذا أي وقت رأت الطهر اغتسلت للنفاس وهي طاهر، والله أعلم.
[وطء النفساء]
قال: ولا يقربها زوجها في الفرج حتى تتم الأربعين استحبابا
ش: إذا رأت المرأة الطهر قبل تمام الأربعين واغتسلت جاز وطؤها على المشهور من الروايتين، لظاهر ما تقدم، ولأن المانع من الوطء الدم ولا دم (والثانية) لا يجوز.
326 - لما روي عن علي، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو أنهم قالوا: لا توطأ نفساء. وعلى المذهب لا(1/443)
يستحب لاحتمال عود الدم، وهل يكره؟ فيه روايتان، أشهرهما نعم، يكره حملا لما روي عن الصحابة على ذلك (والثانية) لا يكره نظرا للأصل.
وقوله: لا يقربها في الفرج. مفهومه أن له أن يقربها في غير الفرج، وهو كذلك كالحائض، إذ دم النفاس في الحقيقة دم حيض كما تقدم، يجتمع لغذاء الولد، ثم يخرج بقيته عند الولادة.
(تنبيه) : الولد الذي يتعلق به أحكام النفاس الولد الذي تصير به المستولدة أم ولد والله أعلم.
[حكم من كانت لها أيام حيض فزادت على ما كانت تعرف]
قال: ومن كانت لها أيام حيض فزادت على ما كانت تعرف، لم تلتفت إلى الزيادة إلا أن تراه ثلاث مرات، فتعلم حينئذ أن حيضها قد انتقل، فتصير إليه وتترك الأول، وإن كانت صامت في هذه الثلاث مرات أعادته إذا كان صوما واجبا
ش: إذا زادت عادة المرأة بأن كانت تحيض مثلا خمسة(1/444)
أيام من كل شهر أو من كل عشرين يوما، فحاضت ستة أو سبعة، فإنها لا تلتفت إلى الزيادة على المذهب المعروف والمنصوص من الروايتين، لما تقدم من حديث عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر «إنما هو عرق» أو قال: «عروق» وقول أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا.
(والثانية) : أومأ إليها في رواية ابن منصور - تلتفت إليه، فتجلسه من أول مرة، وهو اختيار أبي محمد، اعتمادا على عادات النساء في ذلك، ولما تقدم من قول عائشة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
327 - ولأن عائشة لما حاضت في حجة الوداع لم يسألها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل ذلك في زمن عادتك أم لا؟ وما تقدم إنما يدل على ما بعد الطهر لا على ما إذا استمر وهي مسألتنا، فعلى المذهب متى تكرر ثلاثا على المذهب أو مرتين على رواية - علمنا إذا أن عادتها قد تغيرت فتجلس في الشهر الرابع أو الثالث، وتقضي ما صامته أو اعتكفته أو طافته من واجب في مدة التبين، لتبين حيضها فيه، فإن يئست قبل التبين أو ارتفع حيضها لمرض ونحوه ولم يعد [إليها] لم يلزمها(1/445)
القضاء على الأصح، لعدم تحقق الفساد، ولا يحل لزوجها وطؤها في مدة التبين، والله أعلم.
قال: وإذا رأت الدم قبل أيامها التي كانت تعرف فلا تلتفت إليه حتى يعاودها ثلاث مرات
ش: المسألة السابقة فيما إذا زادت العادة، وهذه فيما إذا تقدمت، وتحتها صورتان (إحداهما) : تتقدم جملة بأن تكون تحيض الخمسة الثانية من الشهر، فتصير تحيض الخمسة الأول (الثانية) : أن يتقدم بعضها بأن تكون تحيض اليوم السادس، فتحيض اليوم الخامس أو الرابع ونحو ذلك، وبالجملة هذه المسألة والتي قبلها من مسلك واحد، والكلام على إحداهما كالكلام على الأخرى، والله أعلم.
قال: ومن كانت لها أيام حيض، فرأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، تغتسل وتصلي
ش: إذا كانت للمرأة عادة كأن كانت تحيض عشرة أيام [مثلا] من كل شهر، فرأت الطهر قبل انقضائها، فإن رأته بعد مضي ستة أيام ونحو ذلك فهي طاهر، لظاهر ما تقدم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - للنسوة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. وهذه قد رأت القصة البيضاء.
328 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أما ما رأت الدم البحراني فإنها(1/446)
لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصل. رواه أبو داود.
وظاهر قول الخرقي والأصحاب أنه لا فرق بين قليل الطهر وكثيره، لما تقدم عن ابن عباس، واختار أبو محمد أنها لا تعتد بما دون اليوم، من رواية في النفاس أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم، ولم يعتبر ابن أبي موسى النقاء الموجود بين الدمين، وأوجب عليها فيه قضاء ما صامته فيه من واجب ونحوه، قال: لأن الطهر الكامل لا يكون أقل من ثلاثة عشر يوما. إذا تقرر هذا فتغتسل وتصلي للحكم بطهارتها.
(تنبيه) : «البحراني» قال أبو السعادات) الشديد الحمرة، كأنه قد نسب إلى قعر الرحم وهو البحر، وزادوه في النسبة ألفا ونونا للمبالغة. وقال الخطابي: يريد الدم الغليظ الواسع، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته والله أعلم.
قال: فإن عاودها الدم فلا تلتفت إليه حتى تجيء أيامها.
ش: إذا طهرت المرأة قبل تمام عادتها ثم عاودها الدم، فلا يخلو إما أن يعاودها في العادة أو بعدها ثم إذا عاودها في العادة فلا يخلو إما أن يجاوزها أو لا يجاوزها، فإن عاودها في العادة ولم يجاوزها فهل تلتفت إليه بمعنى أنها تجلسه من غير تكرار(1/447)
- وهو اختيار القاضي في روايته، وأبى محمد في الكافي، لمصادفته زمن العادة أشبه ما لو لم ينقطع - أو لا تلتفت إلهي حتى يتكرر - وهو اختيار الخرقي، وابن أبي موسى، وقال أبو بكر: إنه الأغلب عنه، لعوده بعد طهر صحيح، فأشبه ما لو عاد بعد العادة -؟ على روايتين فعلى الثانية تصلي وتصوم وتقضي الصوم احتياطا، قاله ابن أبي موسى، ونص عليه أحمد.
وإن عاد في العادة وجاوزها لم يخل من أن يجاوز أكثر الحيض أم لا، فإن جاوز الأكثر فليس بحيض إذ بعضه ليس بحيض يقينا، والبعض الآخر متصل به، فأعطي حكمه لقربه منه وإن انقطع لأكثر الحيض فما دون فمن قال: إنما لم يعبر العادة ليس بحيض. فهذا أولى، ومن قال: إنه حيض.
ففي هذا إذا ثلاثة أوجه (أحدها) : جميعه حيض، بناء على مختار أبي محمد في أن الزائد على العادة حيض ما لم يعبر الأكثر (والثاني) : ما وافق العادة حيض، لموافقته العادة، وما زاد عليها ليس بحيض، لخروجه عنها (والثالث) : الجميع ليس بحيض لاختلاطه - على المذهب - بما ليس بحيض.
وإن عاودها بعد العادة فلا يخلو إما أن يمكن جعله حيضا، بأن يكون تضمه مع الأول لا يكون بين طرف فيهما أكثر من أكثر الحيض، فيلفقا ويجعلا حيضة واحدة، ويكون(1/448)
بينهما أقل الطهر ثلاثة عشر يوما على المذهب، وكل من الدمين يصلح أن يكون حيضا، فيكونان حيضتين، أو لا يمكن جعل الثاني حيضا، لمجاوزته مع الأول أكثر الحيض، وليس بينه وبين الأول أقل الطهر، ويظهر ذلك بالمثال فنقول: إذا كانت العادة عشرة أيام مثلا، فرأت منها خمسة دما، ثم طهرت الخمسة الباقية، ثم رأت خمسة دما، فإن الخمسة الأولى والثالثة حيضة واحدة بالتلفيق، ولو كانت رأت يوما دما، ثم ثلاثة عشر طهرا، ثم يوما دما، فهما حيضتان، لوجود طهر صحيح بينهما، ولو كانت رأت يومين دما، ثم اثني عشر يوما طهرا، ثم يومين دما، فهنا لا يمكن جعلهما حيضة واحدة، لزيادة الدمين مع ما بينهما من الطهر على أكثر الحيض، ولا جعلهما حيضتين على المذهب، لانتفاء طهر صحيح بينهما، وإذا الحيض منهما ما وافق العادة، والآخر استحاضة، وعلى هذا، وشرط الالتفات إلى ما رأته بعد الطهر فيما خرج عن العادة التكرار المعتبر بلا نزاع.
(تنبيه) : اختلف الأصحاب في مراد الخرقي بقوله: فإن عاودها الدم. فقال التميمي، والقاضي، وابن عقيل: مراده إذا عاود بعد العادة، وعبر أكثر الحيض، بدليل أنه منعها أن تلتفت إليه مطلقا، ولو أراد غير ذلك لقال: حتى يتكرر. وقال أبو حفص: مراده المعاودة في كل حال، في العادة وبعدها، وهذا اختيار أبي محمد، وهو الظاهر اعتمادا على الإطلاق، وسكت عن التكرار، لتقدمه له فيما إذا زادت العادة أو تقدمت، وعلى هذا إذا عبر أكثر الحيض فإنه لا يكون(1/449)
حيضا، وإن تكرر، لما تقدم له من أن الدم إذا جاوز أكثر الحيض لا يكون حيضا، والله أعلم.
[الحامل إذا رأت الدم]
قال: والحامل إذا رأت الدم فلا تلتفت إليه، لأن الحامل لا تحيض.
329 - ش: الأصل في كون الحامل لا تحيض ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في سبايا أوطاس «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجود الحيض علما عرى براءة الرحم من الحبل، ولو اجتمعا لم يكن علما على انتفائه.(1/450)
330 - واستدل إمامنا [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» مع منعه لطلاقه لها في حال الحيض [فعلم أن الحيض] لا يجامع الحمل.
331 - وقد روى ابن شاهين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم رزقا للولد.
332 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: الحامل لا تحيض. رواه الدارقطني.
333 - وما روي عنها من أنها لا تصلي إذا رأت الدم فمحمول على ما قبل الولادة، وعلى هذا إذا رأت دما لم تلتفت إليه، ويكون حكمها فيه حكم دم الاستحاضة على ما تقدم، والله أعلم. .
قال: إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس(1/451)
ش: لما ذكر أن ما تراه الحامل من الدم يكون دم فساد، استثنى من ذلك ما تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة، فإنه يكون دم نفاس، لأنه خارج بسبب الولادة، أشبه ما بعد الولادة، ولا يحسب من مدة النفاس، لما تقدم في حديث أم سلمة: أن النفساء كانت تقعد بعد نفاسها.
(تنبيه) : يعلم ذلك بأماراته من المخاض ونحوه، أما مجرد رؤية الدم من غير علامة فلا تترك له العبادة، عملا بالأصل من غير معارضة ظاهر له، ثم إن تبين قربه من الوضع بالمدة المذكورة أعادت ما صامته فيه من صوم واجب [ونحوه ولو رأته مع العلامة فتركت العبادة ثم تبين بعده عن الوضع أعادت ما تركت فيه من واجب] ونحوه والله أعلم.
قال: وإذا رأت الدم ولها خمسون سنة فلا تدع الصوم ولا الصلاة وتقضي الصوم احتياطا، وإذا رأته بعد الستين فقد زال الإشكال، وتيقن أنه ليس بحيض، فتصوم وتصلي ولا تقضي
ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه - أن ما تراه المرأة من الدم بعد الستين دم فساد، وليس بدم حيض، وأن ما رأته قبل(1/452)
الخمسين دم حيض بشرطه، واختلف فيما بينهما (فعنه) - وهو اختيار الشيرازي، وقال ابن الزاغوني: إنه اختيار عامة المشايخ أنه دم فساد مطلقا.
334 - لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد الخمسين سنة؛ ومن لا تحبل لا تحيض. رواه الدارقطني وفي لفظ - ذكره أحمد عنها في رواية حنبل - إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض. (وعنه) أنه حيض مطلقا، اختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير، وأبو محمد، لأنه [قد] وجد بنقل نساء ثقات، فرجع إليهن فيه، كما رجع إليهن في أقل الحيض [وأكثره] (وعنه) أنه حيض في حق العربيات، لأنهن أشد جبلة دون العجميات.
335 - وقد روى الزبير بن بكار في كتاب النسب عن بعضهم أنه قال: لا تلد لخمسين إلا عجمية، ولا تلد لستين إلا قرشية وكأن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعارضت عنده هذه الأقوال(1/453)
فأعرض عنها وقال: إن ما بينهما مشكوك فيه، فتصوم وتصلي، لاحتمال كونه دم فساد، وتقضي الصوم لاحتمال كونه دم حيض، وأداء الصلاة لا يلزمها، والصوم الواجب ونحوه تقضيه لعدم صحته منها على هذا التقدير، والله أعلم.
[أحكام المستحاضة]
قال: والمستحاضة إن اغتسلت لكل صلاة فهو أشد ما قيل فيها، وإن توضأت لكل صلاة أجزأها، [والله أعلم] .
ش: قد تقدم حكم المستحاضة في أنها هل تتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، والكلام الآن في اغتسالها، ولا ريب أنه يجب عليها الاغتسال عقب الأيام التي حكم بحيضها فيها [ثم] عندنا وعند الجمهور يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة. ولا يجب.
336 - ولأن «أم حبيبة استحيضت فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل [لكل صلاة] » . متفق عليه. ففهمت من الأمر بالاغتسال الاغتسال لكل صلاة. وفي رواية في غير الصحيح: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بالاغتسال لكل صلاة» .(1/454)
337 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن زينب بنت جحش استحيضت، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغتسلي لكل صلاة» . رواه أبو داود. وإنما لم يجب ذلك لأن الروايات الصحيحة في حديث أم حبيبة، وفاطمة، وزينب وغيرهم ليس فيها أمر من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاغتسال لكل صلاة، ولو وجب ذلك لبينه.
338 - مع أن في أبي داود، والترمذي في «حديث حمنة: وقالت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أستحاض؛ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم، تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أن قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت عليه أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر، فافعلي وصومي إن قدرت على(1/455)
ذلك» . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وهذا أعجب الأمرين إلي» . اهـ.
ثم أشد ما قيل في المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، تمسكا بما تقدم من الأمر بذلك لأم حبيبة، وأختها زينب. ويحكى هذا رواية عن أحمد، وهو قول طائفة من الصحابة، والتابعين، وإحدى الروايتين عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (ثم) الاغتسال لوقت كل صلاة، (ثم) لكل(1/456)
صلاتي جمع في وقت الثانية و [للصبح] قاله بعض التابعين.
339 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل» ، رواه أحمد، وأبو داود (ثم) لكل يوم مرة. روي ذلك عن ابن عمر، وأنس، وهو إحدى الروايتين عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقول بعض التابعين.(1/457)
340 - وقد جاء في حديث رواه البيهقي «في قصة المستحاضة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثم تغتسل في كل يوم عند كل طهر وتصلي» . والجمهور على ما تقدم [أولا] نعم يستحب ذلك لا أنه واجب. والله أعلم.(1/458)
[كتاب الصلاة]
«كتاب الصلاة» ش: قد اشتهر في لسان الفقهاء وغيرهم أن أصل الصلاة في اللغة الدعاء، مستدلين بقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وإنما عدي بعلى لتضمنه - والله أعلم - (معنى) الإنزال أي: أنزل عليهم رحمتك.
341 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليصل» وقول الشاعر:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا(1/459)
ولهم في اشتقاقها أقوال كثيرة، أشهرها: أنها مشتقة من الصلوين واحدهما (صلى) «كعصى، وهما عرقان من جانبي الذنب، وقيل: عظمان ينحنيان في الركوع والسجود.
والصلاة في الشرع: عبارة عن هيئة مخصوصة، مشتملة على ركوع، وسجود، وذكر، وسميت بذلك لاشتمالها على الدعاء، وقال الزمخشري: حقيقة «صلى» حركة الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده.
قال: وقيل للداعي مصل تشبيها في تخشعه بالراكع والساجد، فعكس ما يقوله الجماعة، ونحو هذا قول السهيلي قال: معنى اللفظة حيث تصرفت ترجع إلى الحنو والعطف، من قولهم: صليت. أي حنيت صلاك وعطفته.
وهي مما علم وجوبه من دين الله بالضرورة. وقد تظافرت الأدلة: من الكتاب، والسنة، والإجماع على ذلك. قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] .
342 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» » .(1/460)
343 - وقال (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة» .
وأجمع المسلمون إجماعا قطعيا على ذلك، وجوبها في ليلة المعراج.
344 - ففي الصحيحين في قصة المعراج قال: «وفرضت علي خمسون صلاة في كل يوم، قال: فجئت حتى أتيت على موسى، فقال لي: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة كل يوم، قال: إني قد بلوت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. فرجعت، فحط عني خمس صلوات، فما زلت أختلف بين ربي وبين موسى، كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته، حتى رجعت بخمس صلوات كل يوم، فلما أتيت على موسى قال لي: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إني قد بلوت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قلت: لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم، قال: فنوديت. أو نادى مناد - الشك من بعض الرواة -: أن قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وجعلت بكل حسنة عشر أمثالها» . اهـ.(1/461)
واختلف في زمن الإسراء: فعن الزهري: أنه بعد مبعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخمس سنين. وعن الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة. وقيل: بعد مبعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخمسة عشر شهرا. وبين هذين القولين تباين كثير، وأوسطها قول الزهري. والله سبحانه أعلم.
[باب المواقيت]
ش: لما كانت الصلوات إنما تجب بدخول الوقت، بدأ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ببيان ذلك، وقد أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بأوقات معلومة، والسند في ذلك قول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] الآية، فعن ابن(1/462)
عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: دلوك الشمس: إذا فاء الفيء، وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمته.
345 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] إنه الصبح.
346 - وما اشتهر من «حديث جبريل، حيث أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلوات الخمس، ثم قال له: «يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك» . وغير ذلك من الأحاديث، والله أعلم.
[وقت صلاة الظهر]
قال: وإذا زالت الشمس وجبت الظهر.
ش: سميت الظهر ظهرا؛ اشتقاقا لها من الظهور، إذ هي ظاهرة في وسط النهار، وتسمى أيضا: «الهجير» ؛ لفعلها في وقت الهاجرة " والأولى " لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلما له في اليومين [بدأ بها] ، ولهذا بدأ الخرقي(1/463)
وكثير من الأصحاب بها، وبدأ ابن أبي موسى، والشيرازي، وأبو الخطاب بالصبح؛ لأنها أول النهار.
347 - ولبداءة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها حين سئل عن وقت الصلاة، وكان ذلك بالمدينة، وكأنه أشار بذلك إلى أن العمل عليه لتأخره، لا على الأول.
وأول وقتها: إذا زالت الشمس، إجماعا، وقد فسر ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دلوك الشمس بزوالها، ولما أم جبريل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلما له، صلى به الظهر حين زالت الشمس.
348 - وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وقت الصلاة، فقال: «وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول، ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، وسقط قرنها الأول، ووقت المغرب إذا غابت الشمس، ما لم يسقط الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل» .(1/464)
وآخره، إذا صار ظل كل شيء مثله، لأن في حديث جبريل أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني، حين صار ظل كل شيء قدر ظله، وقال: «الوقت فيما بين هذين» ، وكأن المعنى - والله أعلم - أنه فرغ من صلاة الظهر في المرة الثانية حين صار ظل كل شيء مثله.
[وأنه أحرم بالعصر في المرة الثانية، حين صار ظل كل شيء مثليه] .
349 - بدليل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر» . رواه أحمد وأبو داود.
350 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله،(1/465)
ما لم يحضر وقت العصر» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
ولا بد أن يلحظ في قوله: إن آخر الوقت إذا صار ظل كل شيء مثله. بعد فيء الزوال، وذلك أن الشمس إذا زالت؛ يكون للشيء ظل في غالب البلاد، فيعتبر مثل ذلك الشيء سوى ذلك الظل.
وقوله: إذا زالت الشمس وجبت الظهر. ظاهره وجوب الصلاة بأول الوقت وجوبا مستقرا موسعا، وهو المذهب، لظاهر قول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] .
351 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفق: الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» رواه الدارقطني، وشرط أبو عبد الله بن بطة وابن أبي موسى لاستقرارها مضي زمن يسع لأدائها، حذارا من تكليف ما لا يطاق، وأجيب بأنه لا يكلف بالفعل قبل الإمكان، حتى يلزم [تكليف] ما لا يطاق، وإنما يثبت في ذمته بفعله إذا قدر كالمغمى عليه.(1/466)
(تنبيه) : معنى زوال الشمس: ميلها عن كبد السماء، ويعرف ذلك بظل الشمس [من كل] شاخص، فما دام يتناقض فالشمس لم تزل، فإذا وقف نقصه فهو الاستواء، فإذا زاد الظل أدنى زيادة فهو الزوال، والله أعلم.
[وقت صلاة العصر]
قال: [فإذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقتها] ، فإذا زاد شيئا وجبت [صلاة] العصر.
ش: إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال، فهو آخر وقت الظهر، وبصيرورة ظل كل شيء مثله يزيد أدنى زيادة، وذلك أول وقت العصر، فلا فاضل بين الوقتين، هذا هو المعروف، وأن بخروج وقت [الظهر] يدخل وقت العصر.
ويحتمل ظاهر كلام الخرقي، وصاحب التلخيص أن بينهما فاصلا، إذ ظاهر كلامهما أن العصر لا تجب إلا بعد الزيادة، وكذا فهم ابن حمدان، فحكى ذلك قولا، وبالجملة الأصل في أول وقت العصر حديث جبريل المشهور: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، وفي اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم قال: «ما بين هذين وقت» والله أعلم.
قال: فإذا صار ظل [كل] شيء مثليه خرج وقت الاختيار.(1/467)
ش: الصلوات على ضربين، [منها] ما ليس له إلا وقت واحد، وهي الظهر، والمغرب والصبح على المختار، ومنها ما له وقتان، وهي العصر والعشاء، والفجر على قول. اهـ.
فالعصر آخر وقتها المختار - وهو الذي يجوز تأخير الصلاة إليه من غير عذر - صيرورة ظل كل شيء مثليه، على إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي، وكثير من أصحابه، نظرا لحديث جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه ورد بيانا لتعلم أوقات الصلوات، ثم قوله: «ما بين هذين وقت» ، ظاهره أن جميع هذا الوقت الصلاة فيه جائزة دون غيره.
(والرواية الثانية) - واختارها الشيخان -: آخر الوقت المختار اصفرار الشمس.
352 - لما في مسلم وسنن أبي داود، والنسائي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» » .
353 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «آخر وقت العصر حين تصفر الشمس» . رواه أبو داود والترمذي، وهذا يتضمن زيادة، مع أنه قول، فيقدم على الفعل.
354 - وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه سائل فسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئا، قال: وأمر(1/468)
بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف [النهار] ، وهو [كان] أعلم منهم، [ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة] ، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق [الأحمر] ، ثم أخر الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت. ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس؛ ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل فقال: «الوقت بين هذين» . رواه أبو داود، والنسائي، ومسلم، وهذا لفظه. وهو أيضا متضمن لزيادة ومتأخر، إذ حديث جبريل كان بمكة، وهذا بالمدينة، والعمل بالمتأخر متعين، وقطع صاحب التلخيص بأن الوقت المختار إلى صيرورة ظل كل شيء مثليه، وجعل من ذلك [إلى] الاصفرار وقت جواز، فكأنه جمع بين الأحاديث، فحمل حديث جبريل على الوقت المطلوب المرغوب فيه، وغيره على الوقت الجائز، الذي يجوز التأخير إليه من غير عذر بلا إثم، والله أعلم.(1/469)
قال: ومن أدرك منها ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدركها.
355 - ش: لما في الصحيحين عن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فقد [أدرك] الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر» » .
وظاهر كلام الخرقي، وكذلك ابن أبي موسى، وابن عبدوس: أن الإدراك لا يحصل بأقل من ركعة، وهو إحدى الروايتين، وظاهر الحديث المتقدم (والثانية) - وعليها العمل عند القاضي، وكثير من أصحابه - أنه يحصل بتكبيرة.
356 - لأن في الصحيح من حديث أبي هريرة أيضا: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فليتم صلاته» . وفي النسائي: «فقد أدركها» ، لا يقال: عبر عن الركعة بالسجدة، لأنا نتمسك بالحقيقة.
ومعنى الإدراك بركعة أو بتكبيرة أنه متى أدرك ذلك؛ كان مؤديا للصلاة، لا قاضيا على المشهور من الوجهين، والثاني:(1/470)
ما وقع في الوقت يكون أداء، وما وقع بعده يكون قضاء، والله أعلم.
قال: [وهذا] مع الضرورة.
ش: ظاهر هذا، وكذلك ظاهر كلام ابن أبي موسى: أن إدراك العصر بما تقدم مختص بمن له ضرورة؛ كحائض طهرت، وصبي بلغ، ومجنون أفاق، ونائم استيقظ، ومريض برأ، وذمي أسلم، وكذلك خباز، أو طباخ، أو طبيب فصد، وخشوا تلف ذلك، قاله ابن عبدوس، وعلى هذا من لا عذر له لا يدركها بذلك، بل تفوت بفوات وقتها المختار، وتقع منه بعد ذلك قضاء، وهذا قول بعض العلماء، وأحد احتمالي ابن عبدوس، وهو متوجه، إذ قول جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وكذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوقت ما بين هذين» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» يقتضي أن ما بعد ذلك ليس بوقت لها، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر» يحمل على من له عذر، ولذلك جعل الصلاة في ذلك الوقت - ممن لا عذر له - صلاة المنافق.
357 - فقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» . رواه مسلم(1/471)
وغيره، لأن فعله فعل المنافق، لتهاونه بها، وتضييعها.
والمعروف عند الأصحاب وعند عامة العلماء: أن وقت العصر مبقى إلى الغروب، في حق المعذور وغيره، حملا لحديث جبريل ونحوه، على أن المراد بذلك وقت الاختيار، أو وقت الجواز، وحديث أبي هريرة على وقت الإدراك، ويسمون هذا الوقت - أعني من وقت الاختيار، أو وقت الجواز، إلى غروب الشمس - وقت إدراك، ووقت ضرورة، ولا يفترق المعذور عندهم وغيره إلا في الإثم وعدمه؛ فالمعذور له التأخير، وغيره ليس له ذلك، ويأثم إذا أخر، وقد يحمل كلام الخرقي على هذا، على أن في الكلام حذفا، والإشارة إليه تقديره: و [هذا]- أي جواز التأخير - مع الضرورة، أما من لا ضرورة له فلا يجوز له التأخير وإن أدرك الوقت بركعة. [والله أعلم] .
[وقت صلاة المغرب]
قال: فإذا غابت الشمس؛ فقد وجبت [صلاة] المغرب.
ش: أول وقت المغرب إذا غابت الشمس إجماعا، والأحاديث قد استفاضت أو تواترت بذلك، وغيبوبة الشمس: سقوط قرصها. والله أعلم.(1/472)
قال: إلى أن يغيب الشفق.
ش: يعني أن وقتها يمتد إلى غيبوبة الشفق، لما تقدم في حديث أبي موسى، «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق» ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وأحمد، وقال في رواية مهنا: حديث عبد الله بن عمرو حديث معروف.
ولا يرد حديث جبريل [- عَلَيْهِ السَّلَامُ -] أنه صلاها في اليومين في وقت واحد، لتضمنها زيادة، مع تأخر حديث أبي موسى، وكون حديث ابن عمرو [قولا] ، على أن يحتمل أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما فعلها في وقت واحد؛ ليبين أن ذلك هو الأولى بها، ولذلك اتفقت الأئمة [على] أفضلية تقديمها، بخلاف غيرها، وكره تأخيرها، والله أعلم.(1/473)
قال: ولا يستحب تأخيرها.
ش: بل يكره، قاله القاضي في التعليق.
358 - لما روى عقبة بن عامر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تزال أمتي بخير - أو على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» . رواه أحمد وأبو داود.
359 - وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس، وتوارت بالحجاب» .
وفي أبي داود: ساعة تغرب الشمس، إذا غاب حاجبها. ولأن التأخير محظور عند البعض، فالتقديم أحوط، وهذا في غير ليلة جمع، أما في ليلة جمع، فالمستحب التأخير للمحرم إن قصدها، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن الفعل قبل المزدلفة في طريقها لا يجزئه عند بعض، فالتأخير [أحوط] عكس ما(1/474)
تقدم، ويستحب التأخير أيضا مع الغيم على المنصوص، وسيأتي [ذلك] إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
[وقت صلاة العشاء]
قال: فإذا غاب الشفق - وهو الحمرة في السفر، وفي الحضر البياض؛ لأن في الحضر قد تنزل الحمرة، فتواريها الجدران، فيظن أنها قد غابت، فإذا غاب البياض فقد تيقن، ووجبت عشاء الآخرة.
ش: قد تقدم أن آخر وقت المغرب غيبوبة الشفق، والشفق يطلق على الحمرة، و [على] البياض، بالاشتراك اللفظي، واختلف في المراد هنا، والمعروف المشهور عندنا - حتى إن الشيخين وغيرهما لم يذكروا خلافا - أن المراد بالشفق هنا هو الحمرة، لما روى عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق» . رواه مسلم، وأبو داود، ولفظه: «فور الشفق» وفور الشفق: فورته وسطوعه، وثوره: ثوران حمرته، قالهما الخطابي وغيره، مع أنه قد ورد ذلك صريحا.(1/475)
360 - أ - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» . رواه الدارقطني والبيهقي، وقال: الصحيح أنه موقوف، ثم هو قول جماعة من الصحابة.
360 - ب - روي عن ابن عمر، وابن عباس، وعبادة بن الصامت، وشداد، رواه البيهقي عنهم، قال: ورويناه عن عمر، وعلي، وأبي هريرة. وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك، في قَوْله تَعَالَى: {فلا أقسم بالشفق} [الانشقاق: 16] على أنه قد حكي عن الخليل بن أحمد وغيره أنهم قالوا: إن البياض لا يغيب إلا عند طلوع الفجر.
وحكي عن أحمد أن المراد بالشفق هنا هو البياض.
360 - ج - لما روي «عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة - يعني العشاء - كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها(1/476)
لسقوط القمر لثالثة» . رواه أحمد، والنسائي والترمذي، ولا دليل فيه إذ ليس فيه: أن ذلك أول وقتها، فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخر العشاء، بل هو دليل لنا، (إذ) سقوط القمر لثالثة يكون عند تمكن البياض على ما قيل، (وعنه) رواية ثالثة كما قاله الخرقي في الشفق: في السفر الحمرة، وفي الحضر البياض الذي يعقب الحمرة، نظرا للمعنى الذي ذكره الخرقي، ولما كان عند أبي محمد أنه لا خلاف أن الشفق [الحمرة] قال: إنه يعتبر غيبة البياض للدلالة على غيبوبة الأحمر، لا لنفسه.
(إذا عرف هذا) فإذا غاب الشفق خرج وقت المغرب، وعقبه وقت العشاء بالإجماع، والأحاديث متظافرة على ذلك، والله أعلم.
قال: إلى ثلث الليل، فإذا ذهب ثلث الليل ذهب [وقت] الاختيار.(1/477)
ش: أي أن وقت العشاء المختار يمتد إلى ثلث الليل، وهذا إحدى الروايتين واختيار أبي بكر في التنبيه، والقاضي في الجامع، لما تقدم من حديث أبي موسى وحديث جبريل كذلك أيضا، والثانية، واختارها القاضي في روايتيه، وابن عقيل في تذكرته، والشيخان - يمتد إلى نصفه، لحديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وقت العشاء إلى نصف الليل» رواه مسلم وغيره، ونحوه من حديث أبي هريرة، رواه أبو داود، والترمذي.
361 - «وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أخر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال: «قد صلى الناس وناموا، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها» . رواه البخاري وغيره، وقول صاحب التلخيص: إن من الثلث إلى النصف من الليل وقت جواز، لا وقت اختيار. ولا ضرورة. .
وقول الخرقي: وجبت عشاء الآخرة. يقتضي جواز تسمية المغرب بالعشاء. وهو كذلك بلا كراهة، نعم: الأولى تسميتها بالمغرب، وكذلك العشاء الأولى أن لا تسمى(1/478)
العتمة، ويجوز ذلك بلا كراهة على الأصح، وظاهر كلام ابن عبدوس المنع [من ذلك] ، والله أعلم.
قال: ووقت الضرورة [مبقى] إلى أن يطلع الفجر الثاني، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق فينتشر، ولا ظلمة بعده.
ش: قد تقدم أن آخر وقت العشاء المختار ثلث الليل أو نصفه، ثم من ذلك إلى طلوع الفجر الثاني وقت ضرورة، ووقت إدراك على ما تقدم.
362 - لظاهر ما روى أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى» . رواه مسلم، قال البيهقي: وروينا عن ابن عباس: وقت العشاء إلى الفجر.(1/479)
363 - أ - وعنه، وعن عبد الرحمن بن عوف أنهما قالا في الحائض: إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء. رواه أحمد.
363 - ب - وعن أبي هريرة مثل ذلك، رواه حرب.
363 - ج - وعنه أيضا [وسئل] : ما إفراط صلاة العشاء؟ قال: طلوع الفجر، وهذا كله يدل على أن ذلك وقت العشاء.
364 - قال البيهقي: وروينا «عن عائشة قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ذهبت عامة الليل» . اهـ.
والفجر الثاني هو البياض الذي يبدو من قبل المشرق فينتشر، ولا ظلمة بعده، ويسمى: «الفجر الصادق» ؛ لأنه صدق عن الصبح وبينه، «والمستطير» ؛ لأنه طار في الأفق وانتشر فيه، والفجر الأول هو الفجر المستطيل، الذي يبدو معترضا كذنب السرحان، ثم تعقبه الظلمة، ومن ثم سمي الفجر الكاذب والفجر الثاني هو الذي تتعلق به الأحكام.(1/480)
365 - وقد روي عن جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الفجر فجران، فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة، ولا يحرم الطعام، [وأما الذي يذهب مستطيلا في الأفق فإنه يحل الصلاة، ويحرم الطعام] » رواه البيهقي وقال: الأصح إرساله.
(تنبيه) : السرحان الذئب، والله أعلم.
[وقت صلاة الصبح]
قال: فإذا طلع الفجر الثاني وجبت [صلاة] الصبح.
ش: هذا إجماع ولله الحمد، والنصوص شاهدة بذلك.
(تنبيه) : الفجر هو انصداع البياض من المشرق، سمي بذلك لانفجاره، أي لظهوره وخروجه كما ينفجر النهر، والله أعلم.
قال: وآخره إذا طلعت الشمس.
ش: قد حكى ابن المنذر ما يدل على أن هذا إجماع أيضا، وفي حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه مسلم وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «وقت الفجر ما لم تطلع الشمس» .
ومقتضى كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] أن جميع وقتها وقت اختيار، كما في المغرب، والظهر، وهو المذهب، وجعل(1/481)
القاضي في المجرد، وابن عقيل في التذكرة وابن عبدوس لها وقتين، اختيار وهو الإسفار، وضرورة وإدراك، وهو إلى طلوع الشمس.
(تنبيه) : وتسمى بالفجر أيضا، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] روي عن أبي هريرة أن المراد به صلاة الفجر، وفي حديث جبريل: «وصلى بي الفجر حين حرم الطعام» ولا يكره تسميتها بالغداة على الأصح، والله أعلم.
قال: ومن أدرك منها ركعة قبل أن تطلع [الشمس] فقد أدركها.
ش: لما تقدم من حديث أبي هريرة، وظاهر كلام الخرقي أن الإدراك لا يحصل إلا بركعة، والمشهور عند الأصحاب خلافه، كما تقدم في العصر، وهذا الحكم - أعني الإدراك [بركعة] أو بما دونها - لا يختص بالعصر والصبح، بل الحكم كذلك في جميع الصلوات.(1/482)
366 - لما في مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها كلها» .
ومقتضى كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] أن صلاة الصبح لا تبطل بطلوع الشمس وهو فيها، وهو كذلك، لما تقدم، وفي البخاري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أدرك أحدكم [أول سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإن أدرك] أول سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فليتم صلاته» .
367 - وعنه أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فطلعت؛ فليصل إليها أخرى» رواه أحمد، والبيهقي، والله أعلم.
قال: [وهذا] مع الضرورة.
ش: ظاهر هذا أن هذا الإدراك أيضا مختص بمن له ضرورة، كما تقدم في العصر، وكذلك قال ابن أبي موسى. ولا يتمشى التأويل الذي تأولناه في العصر بأن جواز التأخير مختص بوقت(1/483)
الضرورة، إذ جميع وقت الصبح وقت اختيار على المذهب. نعم على قول القاضي يجيء التأويل، ومن هنا أخذ القاضي أن للصبح وقتين، والله أعلم.
[أداء الصلاة في أول الوقت]
قال: والصلاة في أول الوقت أفضل، إلا عشاء الآخرة، وفي شدة الحر الظهر.
ش: هذا منصوص أحمد في رواية الأثرم، والأصل [فيه] في الجملة [عموم] قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] والصلاة من الخيرات، ومن أسباب المغفرة، وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المحافظة على الشيء تعجيله.
368 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة لوقتها الأخير مرتين، حتى قبضه الله» . رواه أحمد، والترمذي، والدارقطني، وفي لفظ: إلا مرتين.(1/484)
369 - وعن أم فروة - وكانت ممن بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لأول وقتها» رواه أحمد والترمذي، وأبو داود.
370 - «وعن ابن مسعود قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة في أول وقتها» مختصر، رواه ابن خزيمة في مختصر المختصر.
371 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والآخر عفو الله» رواه الترمذي، لكن قال الإمام أحمد: من يروي هذا؟ ليس [هذا] يثبت. وكذلك ضعفه غيره.(1/485)
إذا عرف هذا فلنشر إلى صلاة صلاة على الانفراد. فأما الظهر فالمستحب تقديمها، لما تقدم.
372 - وفي الصحيح عن أبي برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر إذا زالت الشمس» .
373 - «وعن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] : ما رأيت إنسانا كان أشد تعجيلا بالظهر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ما استثنت أباها. ولا عمر» ، رواه البيهقي والترمذي ولفظه: ولا من أبي بكر، ولا من عمر. ويستثنى من ذلك الوقت الشديد الحر، فإن المستحب التأخير فيه.
374 - لما في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» .
375 - وفي الصحيحين أيضا عن أبي ذر نحوه، وفي لفظ: «أبردوا بالظهر» .(1/486)
376 - «وعن المغيرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالهاجرة، فقال لنا: «أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» رواه أحمد، والترمذي وقال: سألت محمدا عن هذا فعده محفوظا. ثم هل ذلك مطلقا، وهو ظاهر كلام أحمد، والقاضي في الجامع، والخرقي، وابن أبي موسى، وابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص، وإليه ميل أبي محمد، نظرا لظواهر الأحاديث. أو مختص بمن أراد الخروج إلى الجماعة، وهو قول أبي الخطاب، وطائفة تعليلا بالمشقة، [والمشقة] إنما تحصل بذلك. وشرط القاضي في موضع مع الخروج إلى الجماعة [كونه في البلدان الحارة] . وابن الزاغوني كونه في مساجد الدروب.
هذا كله في الظهر، أما الجمعة فيسن تقديمها مطلقا.
377 - قال سهل بن سعد: ما كنا نقيل، ولا نتغدى إلا بعد الجمعة.
378 - أ - وقال سلمة بن الأكوع: «كنا نجمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نرجع نتتبع الفيء» . متفق عليهما.(1/487)
ويستثنى أيضا من أفضلية تقديم الظهر - مع تيقن دخول وقتها حال الغيم، فإنه يستحب تأخيرها فيه، وتقديم العصر، وتأخير المغرب، وتقديم العشاء، نص على ذلك أحمد.
378 - ب - لما روى ابن منصور في سننه، عن إبراهيم قال: كانوا يؤخرون الظهر ويعجلون العصر، ويؤخرون المغرب في اليوم المتغيم، ولأن ذلك مظنة عارض من مطر ونحوه، فاستحب تأخير الأولى من المجموعتين لتقرب من الثانية، لكي يخرج لهما خروجا واحدا، طلبا للأسهل المطلوب شرعا.
وظاهر كلام الخرقي، وأحمد في رواية الأثرم - وإليه ميل أبي محمد - عدم استحباب ذلك، إذ مطلوبية التأخير في عامة الأحاديث إنما وردت في الحر، وظاهر كلام أبي الخطاب استحباب تأخير الظهر لا المغرب، وحيث استحب التأخير فهل ذلك مطلقا، أو لمن يريد الجماعة؟ فيه خلاف.
(تنبيه) : التأخير في الحر قال أبو محمد: حتى تنكسر، ولا يؤخر إلى آخر الوقت. قال ابن الزاغوني: حتى ينكسر الفيء ذراعا، أو نحو ذلك، وفي التلخيص: إلى رجوع الظل(1/488)
الذي يمشي فيه الساعي إلى الجماعة؛ وفي الغيم قال ابن الزاغوني: يؤخر إلى قريب من وسط الوقت. اهـ.
أما العصر فالمستحب تقديمها على المذهب بلا ريب، لما تقدم، [وفي الصحيح] من «حديث أبي برزة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية» .
379 - وفي الصحيح أيضا «عن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة حية، ويذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة حية» ، وحكي عنه أن الأفضل مع الصحو التأخير احتياطا للخروج من الخلاف، إذ عند البعض لا يدخل وقتها إلا بصيرورة كل شيء مثليه.(1/489)
وأما المغرب، فقد تقدم الكلام عليها.
وأما العشاء، فإن الأفضل تأخيرها لما تقدم، وفي «حديث أبي برزة: وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة» .
380 - وفي الصحيح من حديث ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: «أعتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعشاء، فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان. فخرج ورأسه يقطر يقول: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة» .
381 - وفيه أيضا من حديث «ابن عمر: مكثنا ليلة ننتظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعشاء الآخرة، فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو نحوه» . مختصر.
382 - وعن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتموا بهذا الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم» مختصر، رواه أبو داود، ثم هل يستحب التأخير مطلقا، وهو ظاهر كلام الخرقي، وأبي(1/490)
الخطاب، وصاحب [التلخيص] ، لظاهر حديث أبي برزة، ومعاذ، وغيرهما، أو أن ذلك معتبر بحال المأمومين، بحيث لا يشق عليهم غالبا، وهو اختيار أبي محمد، لحديث ابن عباس.
383 - وفي حديث جابر الصحيح: «إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر» . فيه روايتان.
وأما الصبح فالأفضل تقديمها مطلقا على إحدى الروايات، واختيار الخرقي وأبي محمد وطائفة، لما تقدم، وفي حديث جابر: «والصبح كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بغلس» .
384 - وفي الصحيحين من حديث عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] : «لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفجر فيشهد [معه] نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن، لا يعرفهن أحد من الغلس» . وعلى هذا يكره التأخير إلى الإسفار بلا عذر.
(والثانية) : الإسفار بها أفضل مطلقا.
385 - لما روى رافع بن خديج [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» رواه(1/491)
أبو داود والترمذي وصححه، والنسائي، وحمل على أن المراد مطلوبية إطالة القراءة [فيها] ، بحيث يفرغ منها مسفرا، كما جاء عنه في الصحيح أنه كان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه، لا أنه يفتتحها مسفرا. وقيل: المراد التأخير حتى يتبين طلوع الفجر ويمضي زمن الوضوء ونحوه؛ ويعين تأويل الحديث مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التغليس كما تقدم، وفي حديث ابن عباس لما وصف صلاة جبريل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثم كانت صلاته بعد التغليس، لم يعد إلى أن يسفر بها.
(والثالثة) - واختارها الشيرازي -: الاعتبار بحال أكثر المأمومين، فإن غلسوا غلس، وإن أسفروا أسفر، توقيرا [للجميع] إذ ما كثر فهو أحب إلى الله [تعالى] كما ورد في الحديث، وقياسا على ما فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشاء، فإنه(1/492)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر.
386 - «وعن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فقال: «يا معاذ إذا كان في الشتاء فغلس بالفجر، وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس، ولا تملهم، وإذا كان في الصيف فأسفر بالفجر، فإن الليل قصير، والناس ينامون، فأمهلهم حتى يدركوا» رواه الحسين بن مسعود الفراء في سننه.
ومحل الخلاف فيما إذا كان الأرفق على المأمومين الإسفار مع حضورهم، أو حضور بعضهم، أما لو تأخر الجيران كلهم فالأولى هنا التأخير بلا خلاف، على مقتضى ما قال القاضي في التعليق، وقال: نص عليه في رواية الجماعة.
واعلم أنا وإن شركنا بين الفجر والعشاء في مراعاة حال الجيران، إلا أن بينهما فرقا [لطيفا] ، وهو أن التقديم في الفجر أفضل إلا إذا تأخروا، والتأخير في العشاء أفضل إلا إذا تقدموا(1/493)
وتظهر فائدة ذلك في المصلي وحده، وفي جماعة تقدموا ولم يشق عليهم التأخير، فإن الأفضل إذا تقديم الفجر، وتأخير العشاء.
(تنبيهان) : (أحدهما) : تحصل فضيلة [أول] الوقت بأن يشتغل بأسباب الصلاة إذا دخل الوقت، قال في التلخيص، ويقرب منه قول المجد: قدر الطهارة، والسعي إلى الجماعة، ونحو ذلك.
(الثاني) : «أبردوا بالصلاة» أي: أخروها عن ذلك الوقت، وأدخلوها في وقت البرد، وهو الزمن الذي ينكسر فيه الحر، فيوجد فيه برود [ما] ، يقال: أبرد الرجل أي صار في برد النهار «فيح جهنم» شدة حرها، وشدة غليانها، يقال: فاحت القدر تفيح إذا هاجت وغلت.
وقوله: والشمس حية. قال الخطابي: حياتها ضياء لونها قبل أن تصفر أو تتغير، وقال غيره: حياتها بقاء حرها (والعوالي) فسرها مالك بثلاثة أميال من المدينة، وقال غيره: هي مفترقة، فأدناها ميلان، وأبعدها ثمانية أميال، والله أعلم.(1/494)
[حكم طهارة الحائض وإسلام الكافر وبلوغ الصبي قبل غروب الشمس]
قال: وإذا طهرت الحائض، وأسلم الكافر، وبلغ الصبي، قبل أن تغرب الشمس صلوا الظهر والعصر، وإن بلغ الصبي، وأسلم الكافر وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر؛ صلوا المغرب وعشاء الآخرة.
ش: إذا أدرك واحد من هؤلاء من وقت صلاة قدر تكبيرة وجبت تلك الصلاة، لما تقدم من حديث أبي هريرة: «من أدرك ركعة من الصلاة؛ فقد أدرك الصلاة» ، «ومن أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس» الحديث. والصلاة التي قبلها إن كانت تجمع إليها.
387 - لما روي عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، وعبد الرحمن بن عوف [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنهما قالا: إذا طهرت الحائض قبل مغيب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا رأت الطهر قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب والعشاء. رواه أحمد وغيره. وعن أبي هريرة: إذا طهرت قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب والعشاء. رواه حرب، وكذلك رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن عوف، ولم يعرف لهم مخالف، وقد روى البيهقي في سننه عن أبي الزناد [قال] : كان من أدركت(1/495)
من فقهائنا يقولون - فذكر أحكاما وفيها -: والذي يغمى عليه فيفيق قبل الغروب، يصلي الظهر والعصر، فإن أفاق قبل طلوع الفجر صلى المغرب والعشاء، قالوا: وكذلك تفعل الحائض إذا طهرت قبل الغروب، أو قبل طلوع الفجر، ولأن الشارع نزل وقتي المجموعتين حال العذر - وهو الجمع - منزلة الوقت الواحد، وما نحن فيه أقوى الأعذار، وحكم المجنون يفيق حكم من تقدم، ويحصل الوجوب بإدراك قدر تكبيرة كما تقدم، ولا يشترط ركعة، ولا زمن يتسع للطهارة، نص عليه.
ومقتضى كلام الخرقي أن الصلاة لا تجب (على حائض) ، وهو إجماع، ولا (على كافر) أصلي أو غيره؛ أما الأصلي فواضح، إذ لا يجب عليه الأداء في حال كفره، ولا يجوز له إلا إن أتى بالشرط، و [لا] القضاء إذا أسلم اتفاقا، ومعنى خطابه بالفروع: زيادة العقاب على ذلك في الآخرة، أو كون ذلك وسيلة إلى إسلامه، إذا كان ممن يصح منه فعله في حال كفره، كما لو أعتق ونحو ذلك، أو حصول الثواب له إذا أسلم.
وأما غيره فهل تجب عليه العبادات في حال ردته فيقضيها إذا أسلم؟ فيه روايتان:
إحداهما: نعم، فتنتفي هذه المسألة، لأنه إذا لم يتجدد عليه وجوب بالإدراك، بل الوجوب موجود من أول الوقت.(1/496)
(والثانية) - وهي ظاهر كلام الخرقي -: لا، وعليها تجيء هذه المسألة. اهـ. (ولا على) صبي مطلقا، وهو المذهب.
(وعنه) : تجب على من بلغ عشرا، وسيأتي [ذلك] إن شاء الله تعالى.
وعلى هذا أيضا تنتفي هذه المسألة، والله أعلم.
[ما يقضي المغمى عليه من الصلوات]
قال: والمغمى عليه يقضي جميع الصلوات التي كانت [عليه] في إغمائه. [والله أعلم] .
ش: لأن الصلاة عبادة، فلا تسقط بالإغماء كسائر العبادات، وذلك لأن الإغماء لا ينقطع التكليف به، بدليل جوازه على الأنبياء.
387 - م - وقد روي أن عمارا [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] غشي عليه أياما لا يصلي، ثم استفاق بعد ثلاث فقال: هل صليت؟ فقالوا: ما صليت منذ ثلاث. فقال: أعطوني وضوءا فتوضأ ثم صلى تلك الليلة.
388 - وعن سمرة بن جندب [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: المغمى عليه يترك الصلاة، يصلي مع كل صلاة مثلها. قال: قال عمران: ولكن يصليهن جميعا. رواهما الأثرم ورواه البيهقي عن عمار، ولفظه: أنه أغمي عليه في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، فأفاق نصف الليل، فصلى الأربع.(1/497)
389 - وما روي «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرجل يغمى عليه، فيترك الصلاة اليومين والثلاثة، قال: «ليس لشيء من ذلك قضاء إلا أن يغمى عليه في صلاته فيفيق وهو فيها فيصليها» .
ويدخل في كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] الإغماء بتناول المباح، وهو الصحيح من الوجوه.
«والثاني» : لا قضاء عليه بذلك؛ لاحتمال امتناعه منه، خوفا من مشقة القضاء فتفوت مصلحته.
«والثالث» إن تطاول الإغماء والحال ما تقدم؛ أسقط القضاء قياسا على الجنون، وإلا لم يسقط، ولا إشكال أن زوال العقل بمرض أو سكر لا يسقط القضاء. نعم قيل بسقوط القضاء مع سكر بشرط الإكراه.
وهذا كله على المذهب المقطوع به، من أن المجنون لا قضاء عليه.
390 - اعتمادا على قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» الحديث، أما إن قيل بوجوب القضاء عليه - على رواية حنبل الضعيفة - فإن من تقدم يجب عليه القضاء بلا ريب، والله أعلم.(1/498)
[باب الأذان]
ش: الأذان في اللغة: هو الإعلام، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أي: وإعلام، وأصله من الأذن، وهو الاستماع، فإنه يلقي في آذان الناس بصوته، ما إذا سمعوه علموا أنهم ندبوا لذلك.
و [هو] في الشرع: إعلام بدخول وقت الصلاة، بذكر مخصوص، [في وقت مخصوص] ، من شخص مخصوص، ويحصل به أيضا: الإعلام بالدعاء إلى الجماعة، [و] بإظهار شعائر الإسلام، ويطلق على الإقامة أيضا؛ لأنها إعلام بإقامة الصلاة.
391 - والأصل فيه ما روى محمد بن إسحاق، من حديث محمد بن إبراهيم التيمي، «عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، حدثني أبي، قال: لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس، يعمل ليضرب به للناس في الجمع للصلاة، أطاف [بي]- وأنا نائم - رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت له: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى. قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله،(1/499)
أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم استأخر غير بعيد، قال: ثم تقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته ما رأيت، فقال: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك» . فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه وهو يؤذن به، فسمع ذلك عمر وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلله الحمد» . رواه أحمد، وأبو داود.
وفي رواية كرر التكبير أربعا، قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا - يعني حديث محمد بن إبراهيم التيمي - فقال: هو عندي صحيح. وقال محمد بن يحيى الذهلي: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في الأذان خبر أصح من هذا.(1/500)
392 - وفي الصحيحين، «عن ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحينون الصلاة، وليس ينادي لها أحد، فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: نتخذ ناقوسا، مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أفلا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بلال، قم فناد بالصلاة» . متفق عليه.
393 - وروى البيهقي في سننه عن أنس، قال: «كانت الصلاة إذا حضرت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى رجل في الطريق، فنادى: الصلاة، الصلاة. فاشتد ذلك على الناس، فقالوا: لو اتخذنا ناقوسا يا رسول الله، فقال: «ذلك للنصارى» ، فقالوا: لو اتخذنا بوقا. قال: «ذلك لليهود» ، قال: فأمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» . اهـ.
وبهذا يحصل الجمع بين حديثي ابن زيد، وابن عمر، بأن يكون النداء الأول: الصلاة الصلاة. ثم رأى عبد الله بن زيد الأذان، فأمر بلالا أن يؤذن به، واستقر العمل عليه.(1/501)
(تنبيه) : «يتحينون» يعني: يقدرون أحيانا، ليأتوا إليها فيها، والحين: الوقت والزمان، والله أعلم.
[ألفاظ الأذان]
قال: ويذهب أبو عبد الله [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إلى أذان بلال [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] وهو: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
ش: هذا هو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين لما تقدم، إذا هو الذي كان يفعل بحضرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضرا وسفرا، وعليه عمل أهل المدينة. قال الأمام أحمد: [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] هو آخر الأمرين، وكان بالمدينة، وقيل [له] : إن أذان أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد، لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة. فقال: أليس قد رجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد؟ .
ونقل عنه حنبل: أذان أبي محذورة أعجب إلي، وعليه عمل أهل مكة إلى اليوم، وأذان أبي محذورة يرجع فيعيد الشهادتين بعد ذكرهما، بصوت أرفع من الصوت الأول.
394 - «قال أبو محذورة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشر كلمة» ، رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفي لفظ: ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله(1/502)
[أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله] والخلاف في الاختيار، ولا خلاف في جواز الأمرين من غير كراهة، على المذهب المعروف، وحكي عنه: كراهة الترجيع، والله أعلم.
[ألفاظ الإقامة]
قال: والإقامة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.
ش: لما تقدم من حديث عبد الله بن زيد، وقد تقدم ما يقتضي ترجيحه.
395 - وفي الصحيحين «عن أنس بن مالك [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أُمِر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» ، وإن ثنى الإقامة فلا بأس، لما تقدم من حديث أبي محذورة، والله أعلم.
[يترسل في الأذان ويحدر الإقامة]
قال: ويترسل في الأذان، ويحدر الإقامة.
ش: الترسل: التمهل والتبين، والإحدار: الإسراع.(1/503)
396 - وقد جاء ذلك من حديث جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» مختصر، رواه الترمذي، وقال: إسناده مجهول. والبيهقي من رواية أبي هريرة، وقال: إسناده مظلم.
397 - وعن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نرتل الأذان، ونحذف الإقامة» . رواه الدارقطني.
398 - وروى أيضا هو والبيهقي عن أبي الزبير مؤذن بيت المقدس قال: جاء عمر بن الخطاب فقال: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر. وفي رواية: فاحذم، قال الأصمعي: الحذم قطع التطويل. وقد استنبط الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من مطلوبية رفع الصوت في الأذان - كما قد ثبت في الصحيح - ترتيل(1/504)
الأذان. والله أعلم.
[التثويب في أذان الفجر]
قال: ويقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم. مرتين.
399 - ش: في رواية لأحمد وأبي داود في حديث عبد الله بن زيد: قال: ثم أمر بالتأذين، فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك، ويدعو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إلى الصلاة] . قال: فجاء فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائم.
[قال] : فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم. قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر.(1/505)
400 - وعن أنس قال: «من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حي على الفلاح. قال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.» رواه البيهقي في سننه، وقال: إسناده صحيح. وموضع ذلك بعد: حي على الفلاح. كما في حديث أنس، ولما يأتي في حديث أبي محذورة، وهذا والذي قبله على سبيل الاستحباب، ولهذا قال الخرقي [بعد] : وإن أذن لغير الفجر قبل دخول الوقت أعاد. وقيل: بالوجوب في التثويب.
401 - لأن في حديث أبي محذورة: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان، وفيه [إن] كان في الصبح فقل - بعد حي على الفلاح -: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، وهذا أمر. اهـ.
وتخصيص الخرقي ذلك بالصبح يقتضي أنه لا يطلب في غيره، وهو كذلك.(1/506)
402 - لما روي «عن بلال قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أثوب إلا في الفجر» . رواه أحمد وابن ماجه، وفيه إرسال، قاله البيهقي.
403 - وعن مجاهد: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر أو العصر، قال: اخرج بنا فإنها بدعة. رواه أبو داود، والله أعلم.
[الأذان قبل دخول الوقت]
قال: وإن أذن لغيره الفجر قبل دخول الوقت أعاد [إذا دخل الوقت] .(1/507)
ش: لا يعتد بالأذان قبل دخول الوقت لغير الفجر، على المذهب المعروف، لفوات المقصود منه، وهو الإعلام بدخول الوقت، ولما في ذلك من التغرير الممنوع منه شرعا، ومخالفته الأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما كان عليه.
404 - ففي الصحيحين «عن مالك بن الحويرث، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان بنا [برا] رحيما رفيقا، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال: «ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» .
405 - وفي صحيح مسلم، «عن جابر بن سمرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت، ثم لا يقيم حتى يرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا رآه أقام حين يراه» .
وفي الرعاية حكاية رواية بالكراهة، وظاهرها مع الاعتداد [به] وليست بشيء، لإطباق الناس على خلافها. اهـ.
ويعتد بالأذان للفجر قبل دخول وقتها على المذهب.
406 - لما في الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر وعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» .(1/508)
407 - وعن ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن - أو قال: ينادي - بليل، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم» متفق عليه أيضا. وفيه إشارة إلى علة اختصاص الفجر بذلك، وهو قيام النائم ليقضي حاجته، فيأتي الصلاة في أول الوقت، ورجوع القائم ليأتي بالعبادة على وجه النشاط.
وقاس الشيرازي على الصبح الجمعة، فأجاز الأذان لها قبل وقتها ليدركها من منزله فيه بعد ونحو ذلك، وهو أجود من قول [ابن] حمدان: وقيل: وللجمعة قبل الزوال. لعموم الأول. واستثنى ابن عبدوس مع الفجر الصلاة المجموعة، وليس بشيء لأن الوقتين صارا وقتا واحدا.
(وعنه) : رواية بالمنع في التأذين قبل الوقت بالفجر أيضا، فغيرها أحرى.
408 - لما روي «عن ابن عمر، أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرجع فينادي: «ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام» ثلاثا، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام» . رواه أبو داود، لكن قال ابن المديني: إنه غير محفوظ، أخطأ فيه(1/509)
حماد.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: خبر حماد شاذ، غير واقع على القلب، [هو] خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر.
فعلى المذهب شرط الاعتداد بالأذان للفجر قبل وقتها أن يكون بعد منتصف [الليل] ، قاله طائفة من الأصحاب، لأن قبل النصف وقت يختص بالعشاء اختصاصا كليا، لكونه وقتها المختار، وما بعده بخلافه، والخرقي وجماعة من الأصحاب لم يقيدوا على ذلك، فيحتمل أنهم أحالوا على العادة. ولا إشكال أنه لا يستحب تقدم ذلك على الوقت كثيرا، قاله الشيخان وغيرهما.(1/510)
409 - لأنه في الصحيح من حديث عائشة: قال القاسم الراوي عنها: لم [يكن] بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا.
410 - وفي حديث رواه الطيالسي وغيره قال: «فكنا نحتبس ابن أم مكتوم عن الأذان، ونقول: كما أنت حتى نتسحر، كما أنت حتى نتسحر. ولم يكن بين أذانهم إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا» . ومن ثم قال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [مجموع] ما روي في تقديم الأذان قبل الفجر إنما هو بزمن يسير، لعله لا [يبلغ] مقدار قراءة الواقعة، بل أقل منها، ففضيلة التقديم بهذا، لا بأكثر، وأما ما يفعل في زماننا من الأذان للفجر من الثلث الأخير، فخلاف السنة، إن سلم جوازه، ويستحب لمن أذن قبل الفجر أن يكون معه من يؤذن في الوقت، لقضية النص، وأن يتخذ ذلك عادة، لئلا يغر الناس، وفي الكافي ما يقتضي اشتراط ذلك. اهـ.
إذا تقرر أنه يعتد بالأذان للفجر قبل وقتها، ولا يعتد بالأذان لغيرها قبل الوقت على المذهب فيهما، فهل يجوز ذلك أم لا؟(1/511)
أما لغير الفجر فلا يجوز ذلك، على المعروف من الروايات، وقد تقدم حكاية رواية بالكراهة، وظاهرها مع الجواز. وحكي رواية ثالثة بالكراهة، إلا أن يعيده بعد الوقت، وأما للفجر فهل يباح ذلك أو يسن؟ على قولين، ثم هل ذلك في جميع السنة، أو يستثنى من ذلك رمضان، فيكره الأذان فيه قبل الفجر، حذارا من منع كثير من الناس من السحور، ولعدم معرفتهم بالوقت، واعتمادهم على الأذان، فيه روايتان:
أشهرهما: عند الأصحاب الثاني، وعليه: هل ذلك مطلقا، أو إذا لم تجر عادة بذلك، نظرا للمعنى المتقدم، وحذارا من تعطيل السنة الصريحة، لورودها بذلك، وهو قول أبي البركات؟ فيه قولان.
(تنبيه) : الوقت منوط بنظر المؤذن، والإقامة وقتها منوط بنظر الإمام، والله أعلم.
[ما يستحب في المؤذن]
قال: ولا يستحب أبو عبد الله أن يؤذن إلا طاهرا، فإن أذن جنبا أعاد.
ش: المستحب أن يؤذن ويقيم وهو طاهر من الحدثين.
411 - لما روي عن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» رواه الترمذي، والبيهقي،(1/512)
مرفوعا وموقوفا على أبي هريرة، وصححا الموقوف، ولأنه ذكر، فاستحبت له الطهارة، كبقية الأذكار، فإن أذن أو أقام محدثا أجزأ.
412 - قال النخعي: كانوا لا يرون بأسا أن يؤذن الرجل على غير وضوء. ذكره البيهقي، لكن يكره ذلك في الإقامة دون الأذان، نص عليه، وكرهه صاحب التلخيص، والسامري فيهما لكن الكراهة في الإقامة أشد.
وإن أذن جنبا (فعنه) - كما حكاه جماعة من الأصحاب، واختاره الخرقي، وابن عبدوس - لا يعتد به فيعاد، لأنه ذكر يختص فاعله أن يكون من أهل القرب، فلم يعتد به من الجنب كالقراءة.
(وعنه) - وهو اختيار الأكثرين، ومنصوصه في رواية حرب -: يعتد به، إذ العمومات الواردة في الأذان لم يرد في شيء منها اعتبار الطهارة من الجنابة، ولأنه أحد الحدثين فأشبه الآخر. فعلى هذا إن كان أذانه في مسجد، فإن كان مع جواز اللبث فيه، إما بوضوء على المذهب، أو بحبس، ونحو ذلك صح، ومع(1/513)
تحريم اللبث فيه هو كالأذان والزكاة في موضع غصب، وفي ذلك قولان، المذهب منهما عند أبي البركات وطائفة: صحته لعدم اشتراطه البقعة له. والمذهب عند ابن عقيل في التذكرة: البطلان. وهو مقتضى قول ابن عبدوس، وغالى فقطع باشتراط الطهارة له، كمكان الصلاة، والله [سبحانه] أعلم.
[الصلاة بلا أذان ولا إقامة]
قال: ومن صلى [صلاة] بلا أذان ولا إقامة؛ كرهنا له ذلك، ولا يعيد.
ش: أما كراهة ذلك، فلأنه خلاف فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وأما عدم إعادة الصلاة.
413 - فلما روي عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل سها عن الأذان والإقامة قال: «إن الله يتجاوز لأمتي [عن] الخطأ والنسيان» .
414 - وعن معاذ بن جبل أنه قيل له: رجل نسي الإقامة والأذان؟ قال: مضت صلاته، ليس الإقامة والأذان من فروض الصلاة، إنما هو من فضل يوجد به، وشيء يدعى إليه. رواهما حرب بإسناده.(1/514)
415 - وفي مسلم [عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنه صلى بعلقمة والأسود في داره، بغير أذان ولا إقامة.
416 - وقد استنبط الشافعي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ذلك من الحديث الصحيح: «إذا أقيمت الصلاة فامشوا وعليكم السكينة، فصلوا ما أدركتم، واقضوا ما فاتكم» قال: فمن أدرك آخر الصلاة فقد فاته أن يحضر أذانا وإقامة، مع أنه لم يؤذن لنفسه، ولم يقم، قال: ولم أعلم مخالفا أنه إذا جاء المسجد [وقد خرج الإمام من الصلاة] كان له أن يصلي بلا أذان ولا إقامة.
هذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فقول الخرقي: «ومن» عام أريد به خاص، وهو الرجال، لعدم مشروعية الأذان والإقامة للنساء، على المشهور من الروايات فضلا عن كراهة تركهما منهن.
417 - لما روي عن أسماء [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على النساء أذان، ولا إقامة، ولا جمعة، ولا اغتسال جمعة، ولا تتقدمهن امرأة، ولكن تقوم في وسطهن» .(1/515)
رواه البيهقي في سننه وضعفه، [قال: ورويناه أيضا في الأذان والإقامة عن أنس مرفوعا ولم يصح، بل الأشبه موقوف على أنس] . اهـ.
418 - كذلك يروى عن ابن عمر [وابن عباس] وعن علي: المرأة لا تؤم، ولا تؤذن، ولا تنكح، ولا تشهد النكاح.(1/516)
وقال حرب: قال إسحاق: مضت السنة من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ليس على النساء أذان، ولا إقامة في حضر ولا سفر.
(والثانية) : إن أذن وأقمن فلا بأس، وإن لم يفعلن فجائز.
419 - لما روى الشافعي في مسنده عن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] أنها كانت تؤذن، وتقيم وتؤم النساء، وتقوم وسطهن.
(والثالثة) : يستحب لهن الإقامة، ويروى عن جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] وحيث شرع ذلك للمرأة فإنها تخفض صوتها، وحكم الخنثى مثلها. اهـ.
وقوله: ومن صلى صلاة. يريد [به] نوعا من الصلاة، وهي صلاة الخمس، لأن الأذان لا يشرع لغيرهن، نعم كلام ابن حمدان، كما سيأتي يقتضي مشروعيته للمنذورة، تشبيها لها بالواجب بأصل الشرع، وصرح الشيرازي - وهو ظاهر كلام غيره - أنه لا يشرع لها.
ويسن أن ينادى للعيد، والكسوف، والاستسقاء: «الصلاة جامعة» على المذهب المعروف.(1/517)
420 - لثبوت ذلك في الكسوف، ووروده مرسلا في العيد والاستسقاء، في معناهما. وألحق القاضي بهن التراويح، والمنصوص: أنه لا ينادى لها أصلا، كصلاة الجنازة [على المعروف] . اهـ.
وقوله: كرهنا له ذلك. قد يؤخذ منه أن الأذان والإقامة سنتان؛ سنة في السفر، والحضر، لإطلاقه الكراهة على تاركها، والظاهر: أن مراده كراهة تنزيه، [وذلك] لما تقدم من أن تاركهما لا يعيد الصلاة، ولأنه دعاء إلى الصلاة فلم يجب، كقوله: «الصلاة جامعة» وهذا إحدى الروايات.
(والثانية) - وهي المشهورة وعليها أكثر الأصحاب -: أنهما سنتان للمسافرين.
421 - لما ذكره ابن المنذر، والبيهقي عن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] في المسافر: إن شاء أذن وأقام، وإن شاء أقام.(1/518)
422 - وعن ابن عمر أنه كان لا يزيد على الإقامة في السفر في صلاة، إلا في صلاة الصبح، ويقول: إنما الأذان للأمام الذي يجتمع إليه الناس. رواه مالك في موطئه، وسعيد في سننه، فرضا كفاية على المقيمين، لما تقدم من حديث [مالك] بن الحويرث: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم» .
423 - وعن أبي الدرداء [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن، ولا تقام فيها الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان» . رواه أحمد.
(والثالثة) - وهو ظاهر إطلاق طائفة من الأصحاب -: أنهما فرض كفاية مطلقا، لأنهما من أعلام الدين الظاهر، فأشبها الجهاد.
424 - وفي الصحيح «عن مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وابن عم لي، فقال: «إذا سافرتما فأذنا، وأقيما، وليؤمكما أكبركما» . ولا نزاع فيما نعلمه في وجوبهما للجمعة، لاشتراط الجماعة لها، فكذلك النداء لها، ولا في(1/519)
أنهما ليسا بشرط لصحة الصلاة كما تقدم.
(واختلف) - إذا قيل بفرضيتهما - هل يجري ذلك في القضاء والمنفرد، والمنذورة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن حمدان. ثم إذا قيل بالفرضية فاتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الأمام، وإذا قام بهما من يحصل به الإعلام غالبا أجزأ عن الكل، وإن كان واحدا، قلت: وينبغي أن يأثم أهل البلد كلهم إن تركوهما. اهـ. .
وقول الخرقي: ومن صلى صلاة بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك. يشمل حالتي الحضر والسفر، والجماعة والانفراد، والمؤداة والمقضية، وغير ذلك وقد استثنى من ذلك أبو محمد ما إذا دخل مسجدا قد صلي فيه، فإنه يخير؛ إن شاء أذن وأقام، وإن شاء تركهما من غير كراهة، وحكى ابن حمدان ذلك قولا.
ثم إن الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إنما حكم بالكراهة على من تركهما، فلو أتى بأحدهما فهو مسكوت عنه في كلامه، وقد صرح أبو البركات بأن المنفرد والمسافر إذا اقتصرا على الإقامة من غير أذان، فإنه يجوز من غير كراهة، نص عليه أحمد. اهـ.
وكذلك الثانية من المجموعتين، وما عدا الأولى من المقضيات، إن شاء أذن لها، وإن شاء لم يؤذن، بل صرح ابن عقيل، والشيرازي بأنه: لا يشرع أذان والحال هذه، ويقتصر على الإقامة، والله أعلم.(1/520)
قال: ويجعل أصابعه مضمومة على أذنيه.
ش: نقل ابن بطة أنه سأل الخرقي عن صفة ذلك، فضم أصابعه على راحتيه، ثم جعلهما على أذنيه، وهذا إحدى الروايات واختيار ابن عبدوس، وابن البنا، وصاحب البلغة فيها.
425 - لأن ذلك يروى عن ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] .
(والثانية) : يجعل أصابعه مضمومة، مبسوطة على أذنيه.
426 - لأن ذلك يروى عن أبي محذورة، حكاه عنه أحمد.
(والثالثة) - وهي اختيار ابن عقيل والشيخين -: يجعلهما في أذنيه.
427 - لما روى «أبو جحيفة قال: رأيت بلالا يؤذن، وإصبعاه في أذنيه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبة له حمراء» . رواه [أحمد] ، والترمذي وصححه.(1/521)
428 - وعن عبد الرحمن بن سعد، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالا أن يدخل أصبعيه في أذنيه» . رواه البيهقي في سننه، والله أعلم.
قال: ويدير وجهه عن يمينه إذا قال: حي على الصلاة. وعن يساره إذا قال: حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه.
429 - ش - «روى أبو جحيفة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في قبة له حمراء من أدم، فخرج وتوضأ، فأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا، يقول يمينا وشمالا: حي على الصلاة، حي على الفلاح» . متفق عليه.
وفي رواية أبي داود: لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر، وكلام الخرقي يشمل الأذان في المنارة وغيرها، وهو إحدى الروايتين.
(والثانية) : له أن يدور في المنارة الواسعة، والصومعة الكبيرة ونحو ذلك، لأنه أبلغ في سماع الصوت، وهو المقصود الأصلي بالأذان.
430 - وقد روى البيهقي في سننه، بسنده في حديث أبي جحيفة، أن بلالا استدار، لكنه من رواية الحجاج بن أرطأة، ولا يحتج(1/522)
به، على أنه يحمل على أنه أراد بالاستدارة التفاته، توفيقا بين ألفاظ الحديث، والله أعلم.
[ما يستحب لمن سمع الأذان]
قال: ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول.
431 - ش: في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: قال رسول لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول» [المؤذن] ، ويجعل موضع الحيعلة الحولقة: «لا حول ولا قوة إلا بالله» قاله غير واحد من الأصحاب.
432 - لما روى عمر بن الخطاب [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: أشهد أن لا إله إلا الله. [ثم] قال: أشهد أن محمدا رسول الله. قال: أشهد أن محمدا رسول الله. ثم قال: حي على الصلاة. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله(1/523)
أكبر، [الله أكبر] . قال: الله أكبر [الله أكبر] . ثم قال: لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا الله. من قبله؛ دخل الجنة» رواه أحمد، ومسلم وأبو داود.
433 - ونحوه روي من حديث معاذ، ورافع بن خديج [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] وقال بعض الأصحاب يجمع [بين] الحولقة والحيعلة، ليأتي بمجموع الأحاديث، والأول المذهب.
(تنبيه) : يقول في الإقامة: أقامها الله وأدامها، اتباعا.
434 - لما في سنن أبي داود، «أن بلالا أخذ في الإقامة، فلما قال: قد قامت الصلاة. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أقامها الله وأدامها» . قال بعض الأصحاب: ويقول في التثويب:(1/524)
صدقت وبررت. قياسا على ما تقدم، ويسن جميع ذلك للمؤذن خفية، وكذلك غير المؤذن يخفيه. والله سبحانه أعلم.
[باب استقبال القبلة في الصلاة]
باب استقبال القبلة ش: استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة في الجملة، لقول الله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ} [البقرة: 144] أي: نحوه.
435 - وعن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» . رواه البخاري، والله أعلم.
[استقبال القبلة في صلاة الخوف]
قال: وإذا اشتد الخوف وهو مطلوب ابتدأ الصلاة إلى القبلة، وصلى إلى غيرها راجلا أو راكبا، يومئ إيماء على قدر الطاقة، [ويجعل سجوده أخفض من ركوعه] .(1/525)
ش: استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة كما تقدم، إلا في موضعين:
(أحدهما) : حال المسايفة، وهو حال اشتداد الخوف، وما في معناه؛ كالخوف من سبع، أو سيل، أو هرب مباح من عدو، ونحو ذلك، فله أن يصلي على قدر طاقته؛ راجلا، أو راكبا، إلى القبلة إن أمكن، وإلى غيرها إن عجز، بركوع وسجود مع القدرة، وبالإيماء مع عدمها، على قدر الطاقة، ليأتي بما استطاع، وإن عجز عن الإيماء سقط، وإن احتاج إلى الكر والفر والضرب والطعن؛ فعل، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] .
436 - «وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف [هو] أشد من ذلك صلوا رجالا، قياما على أقدامهم، مستقبلي القبلة وغير مستقبلها» .
قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه البخاري، وعن أحمد رواية أخرى بالتخيير بين الفعل والتأخير إلى الأمن وإن خرج الوقت.
437 - لما في الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» . فصلى قوم في الطريق، وقالوا: لم يرد بنا تفويت الصلاة، وأخر قوم الصلاة، حتى وصلوا إلى بني قريظة وقد فاتتهم الصلاة، فلم(1/526)
يعب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدة من الطائفتين، وجه ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرهم على التأخير، لمصلحة الجهاد» . وأظن عن أحمد رواية أخرى بالتأخير.
استدلالا بتأخير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق، والمذهب الأول، وما تقدم قيل: منسوخ بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ونحوه، (وعلى الأول) ظاهر كلام الخرقي أنه يلزمه افتتاح الصلاة إلى القبلة إن أمكنه ذلك، وهو إحدى الروايتين.
439 - لما روى أنس بن مالك [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا، استقبل القبلة، فكبر للصلاة، ثم خلى عن راحلته، فيصلي حيث [ما] توجهت به» . رواه أحمد، وأبو داود.
(والثانية) : لا يلزمه، اختارها أبو بكر، لأنه جزء من أجزاء الصلاة، أشبه بقية أجزائها، والله أعلم.(1/527)
قال: وسواء كان مطلوبا أو طالبا يخشى فوات العدو، وعن أبي عبد الله [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية أخرى، أنه إذا كان طالبا فلا يجزئه أن يصلي إلا صلاة أمن.
ش: حكم الطالب لعدو يخشى فواته حكم المطلوب في إحدى الروايتين، لأن فوات الكافر ربما أدى إلى ضرر عظيم، فأشبه المطلوب.
440 - «وعن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرفة أو عرفات، قال: «اذهب فاقتله» فرأيته وحضرت الصلاة، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء، فلما دنوت منه قال [لي] : من أنت؟ قلت: رجل من العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك لذلك، [فقال] : إني لعلى ذلك. فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد» .
والظاهر أنه أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو علم جواز ذلك.
والرواية (الثانية) - واختارها القاضي -: لا يجوز له أن(1/528)
يصلي إلا صلاة أمن، لأن الله تعالى شرط لهذه الصلاة الخوف، وهذا ليس بخائف. والله أعلم.
[صلاة التطوع في السفر على الراحلة]
قال: وله أن يتطوع في السفر على الراحلة، على ما وصفنا من صلاة الخوف.
ش: هذه الحال الثانية [التي] لا يشترط لها الاستقبال، وهي التطوع في السفر [في الجملة] بالإجماع.
441 - وسنده ما روى ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح على [ظهر] راحلته، حيث كان وجهه، يومئ برأسه» ، وكان ابن عمر يفعله. وفي رواية: وكان يوتر على بعيره. ولمسلم: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. متفق عليه، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] .
442 - قال ابن عمر: نزلت في التطوع في السفر. رواه مسلم وغيره.
إذا تقرر هذا فكلام الخرقي يشمل قصير السفر وطويله، وهو صحيح، لعموم ما تقدم.
وظاهر كلامه اختصاص الحكم بالمسافر، وهو المذهب من الروايتين، لما تقدم من الآية الكريمة. و (قد) قال ابن عمر: إنها في السفر.(1/529)
443 - وعن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث كان وجهة ركابه» . رواه أحمد، وأبو داود، فقيد ذلك بالسفر.
(والرواية الثانية) : يجوز ذلك للمقيم السائر في مصره، لأنها رخصة تجوز في قصر السفر، فشرعت في المصر، كالتيمم، وأكل الميتة.
وظاهر كلام الخرقي [أيضا] أن الحكم يختص بمن هو على الراحلة، فلا يجوز ذلك للماشي، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، ونصبها أبو محمد للخلاف، لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعل ذلك إلا في حال الركوب، وليس الماشي في معناه، لاحتياجه إلى عمل كثير، ويعضده عموم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] .
(والرواية الثانية) : يجوز ذلك للماشي كالراكب، وبها قطع أبو الخطاب في الهداية، ونصبها أبو البركات، لعموم {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية، ولأنه مسافر سائر، أشبه الراكب، وعلى هذا يستقبل القبلة في الافتتاح، وفي الركوع، وفي السجود، ويسجد بالأرض لتيسر ذلك عليه، ويفعل ما عدا ذلك إلى جهة مسيره، اختاره القاضي، واختار أبو البركات(1/530)
والآمدي: جواز الإيماء بالكوع والسجود إلى جهة سيره، دفعا لمشقة التوجه، يكررها في كل ركعة.
وحكم الصلاة في السفر حكم صلاة الخوف، في أنه إن شق عليه استقبال القبلة كمن جمله مقطور، أو من يعسر عليه الاستدارة بنفسه، أو الركوع والسجود، سقط ذلك عنه، وأومأ كما تقدم.
444 - «قال جابر: بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو الشرق، السجود أخفض من الركوع» . رواه أبو داود.
وإن تيسر عليه الاستقبال لزمه في ظاهر كلام الخرقي، وبه قطع أبو الخطاب، وقال أبو البركات: إنه ظاهر المذهب، لما سبق من حديث أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، وخرج أبو محمد رواية بعدم اللزوم، من المسألة السابقة، واختاره أبو بكر، لما تقدم من أنه جزء من أجزائها، أشبه بقيتها، ثم يتم إلى جهة سيره، لأنها قبلته، وكذلك إن تيسر عليه الركوع والسجود على ظهر المركوب لزمه ذلك، كما إذا(1/531)
تمكن من الاستقبال في جميع الصلاة، كالراكب في المحفة الواسعة ونحو ذلك، قال الآمدي: ويحتمل أن لا يلزم شيء في ذلك [لأن] الرخصة تعم، والله أعلم.
قال: ولا يصلي في غير هاتين الحالتين فرضا ولا نافلة إلا متوجها إلى الكعبة، فإن كان يعاينها فبالصواب، وإن كان غائبا عنها فبالاجتهاد بالصواب إلى جهتها.
ش: قد تقدم أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إلا في الحالين السابقين، ثم إن كان يعاينها ففرضه إصابة عينها، لقدرته على ذلك، فيحاذيها بجميع بدنه، بحيث لا يخرج شيء منه عنها، وحكم من كان بمسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم من كان بمكة، لأن قبلته [متيقنة] الصحة، وإن كان غائبا عن الكعبة [أو عن مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففرضه الاجتهاد إلى جهة الكعبة] على المشهور من الروايتين، واختاره الخرقي، والشيخان وغيرهما.(1/532)
445 - لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
446 - وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا» وهذا يدل على أن ما بينهما قبلة.
(والرواية الثانية) : يجب الاجتهاد إلى عين الكعبة. اختاره أبو الخطاب في الهداية.
447 - لما روي عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل البيت ثم خرج، فركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: «هذه القبلة» متفق [عليه] .
فعلى هذه الرواية من تيامن أو تياسر عن سو اجتهاده بطلت صلاته.
وعلى الثانية: لا يضر ذلك ما لم يخرج عنها.
ويستثنى من قوله: وإن كان غائبا [عنها] إذا كان بالقرب(1/533)
منها، كمن بمكة أو قريب منها، والحائل بينهما [حادث] ، كالدور ونحوها، فإن فرضه [تيقن] إصابة عينها إما بنفسه، كمن نشأ بمكة، أو بخبر عالم بذلك كغيره، والله أعلم.
[الاختلاف في تحديد القبلة]
قال: وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه.
ش: لأن كلا منهما يعتقد خطأ الآخر، أشبها العالمين المجتهدين في الحادثة إذا اختلفا، ولذلك لا يجوز لمن يجتهد منهما اتباع من اجتهد، نعم: إن ضاق الوقت ففيه وجهان. والله أعلم.
[تقليد الأعمى والعامي في استقبال القبلة]
قال: ويتبع الأعمى [والعامي] أوثقهما في نفسه.
ش: هذا المذهب المشهور، لأن الأوثق أقرب وأظهر إصابة في نظره، ولا مشقة عليه في اتباعه، وقد كلف الإنسان في ذلك بغلبة ظنه، وخرج [بعض] الأصحاب [رواية] بتقليد أيهما شاء، بناء على تخيير العامي بين أحد المجتهدين، وفرق أبو البركات بأن لزوم تقليد الأعلم يفضي إلى كلفة ومشقة، بخلاف ما تقدم، ومتى أمكن [الأعمى] الاجتهاد - كأن يعرف مهب الرياح، أو بالشمس ونحو ذلك - فإنه يجتهد ولا يقلد. وحكم البصير [وهو] جاهل بأدلة القبلة -(1/534)
وإن شرحت له - حكم أعمى البصر. أما إن أمكن الجاهل التعلم والوقت متسع، فإنه يلزمه ذلك، ولا يجوز له التقليد ما لم يضق الوقت، والله أعلم.
[الحكم لو صلى إلى جهة ثم تبين خطؤها]
قال: وإذا صلى بالاجتهاد إلى جهة، ثم [علم] أنه قد أخطأ القبلة، لم يكن عليه إعادة.
ش: لأنه تعذر عليه الوصول إلى جهة الكعبة، أشبه حال المسايفة.
448 - وأهل قباء، [فإنهم] لما بلغهم النسخ في صلاة الصبح استداروا إلى الكعبة، وبنوا على فعلهم، لانتفاء علمهم بالنسخ.
449 - وقد روى «عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » رواه ابن ماجه، والترمذي وحسنه، والله أعلم.(1/535)
قال: وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ، أو الأعمى بلا دليل أعادا.
ش: أما إذا صلى البصير ولو بدليل فأخطأ، فإن كان بمكة، أو بمدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعاد، لتركه النص المقطوع به، وكذلك إن كان بغيرهما، على المشهور من الروايتين لتفريطه، إذ يمكنه علم ذلك؛ إما بخبر مخبر [عن يقين] ، أو بمحاريب المسلمين، فهو كتارك النص للاجتهاد.
(والرواية الثانية) : لا يجوز له العمل بمحاريب المسلمين ونحو ذلك، بل يلزمه الاجتهاد، حكاها ابن الزاغوني في الوجيز.
وأما الأعمى إذا صلى بلا دليل فإن كان مع القدرة على [الدليل] فواضح، وإن أصاب، لأنه ترك فرضه وهو التقليد، وإن عجز عن الدليل فقيل: يعيد لندرة تعذر الدليل، وقيل: لا؛ لأنه لم يترك فرضا مقدورا عليه، [أشبه الغازي، وقيل: إن أخطأ أعاد لما تقدم، وإن أصاب فلا. إذ المقصود الإصابة وقد حصلت، والله أعلم] .(1/536)
قال: ولا يتبع دلالة مشرك بحال.
ش: أي وإن كان عالما في دينه، لأنه غير مأمون في ديننا.
450 - ولهذا قال عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : لا تأمنوهم بعد أن خونهم الله. وكذلك الفاسق المسلم، ويقبل خبر الأنثى، ومستور الحال، وفي الصبي المميز وجهان [والله أعلم] .
[باب صفة الصلاة]
قال: وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر.
451 - ش: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «إذا قمت [إلى] الصلاة [فكبر» ] .(1/537)
452 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريمها التكبير» وهو ينصرف إلى التكبير المعهود، وهو: الله أكبر.
453 - وقد روى الترمذي، وابن ماجه عن أبي حميد الساعدي قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه وقال: «الله أكبر» وهذا إخبار عن دوام فعله.
454 - وروى أحمد في مسنده، عن أبي سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «إذا قمتم إلى الصلاة فاعدلوا صفوفكم، وأقيموها، وسدوا الفرج، وإذا قال إمامكم: الله [أكبر] فقولوا: الله أكبر» والتكبير ركن، لما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريمها التكبير» ولا يصح بغير هذا اللفظ، بألله الأكبر، أو: الكبير أو أكبر الله. ونحو ذلك [والله أعلم] .
[اشتراط النية في الصلاة]
قال: وينوي بها المكتوبة.(1/538)
ش: أما اشتراط [أصل] نية الصلاة فمجمع عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] والإخلاص محض النية، وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه] قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ولا بد من تعيين الصلاة [فتعين] أنها ظهر، أو عصر، أو غير ذلك لتتميز عن غيرها، هذا منصوص أحمد، وعليه الأصحاب، وإذا، الألف واللام في كلام الخرقي للعهد، أي ينوي بالتكبيرة المكتوبة [أي] المفروضة الحاضرة، ويجوز أن يريد جنس المكتوبة، أي المفروضة، فيكون ظاهره أنه لا يشترط نية التعيين، بل متى نوى فرض الوقت، وكانت عليه صلاة، لا يدري هل هي ظهر أو عصر، فصلى أربعا ينوي بها ما عليه أجزأه، وقد روي عن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ما يدل على ذلك، لكن المذهب الأول. وهل يفتقر مع نية التعيين إلى نية الفرضية، ونية القضاء أو الأداء؟ فيه وجهان: أشهرهما: لا.
قال: فإن تقدمت النية قبل التكبير، وبعد دخول الوقت - ما لم يفسخها - أجزأه.
ش: لما كان كلامه السابق يقتضي أن النية تقارن التكبير،(1/539)
أردف ذلك ما يدل على أن ذلك على سبيل الاستحباب، وأن النية إذا تقدمت على التكبير أجزأه، وذلك لأن الصلاة عبادة يشترط لها النية، فجاز تقديمها عليها كالصوم، ولأن التكبير جزء من الصلاة، فكفى فيه استصحاب النية حكما لا ذكرا كالصلاة.
وشرط الخرقي لذلك شرطين:
(أحدهما) : أن يكون ذلك بعد دخول الوقت، وعلى هذا شرح ابن الزاغوني، معللا بأنها ركن، فلا يفعل قبل الوقت كبقية الأركان، وأكثر الأصحاب لا يشترطون هذا الشرط، فإما لإهمالهم له، أو اعتمادا منهم على الغالب.
(الشرط الثاني) : أن يستصحب النية حكما، فلو فسخها، أي: قطعها لم يجزئه، لخلو التكبير بل الصلاة عن نية، قال ابن الزاغوني: وكذلك لو اشتغل بفعل يعرض به عن السعي إلى الصلاة. وحكم فسخ النية بعد التكبير حكم الفسخ قبله، ولو تردد في الفسخ فوجهان.
ومقتضى كلام الخرقي: أنه لا يشترط كون التقدم بزمن يسير، وعامة الأصحاب على اشتراط ذلك، والله أعلم.
[رفع اليدين عند افتتاح الصلاة]
قال: ويرفع يديه إلى فروع أذنيه، أو إلى حذو منكبيه.
ش: لا خلاف في رفع اليدين [عند افتتاح الصلاة، لما سيأتي من الأحاديث، واختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في منتهى(1/540)
الرفع، فروي عنه - وهو المشهور - أن الأفضل الرفع إلى حذو المنكبين] .
455 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» وكان لا يفعل ذلك في السجود» . متفق عليه.
456 - «وعن أبي حميد الساعدي أنه قال في عشرة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنا أعلمكم بصلاته، كان إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. قالوا: [صدقت] .» رواه أبو داود [والترمذي وصححه] .
(وعنه) : الأفضل الرفع إلى فروع أذنيه، أي يبلغ بأطراف أصابعه أعلى أذنيه.
457 - لما روى مالك بن الحويرث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، [وإذا ركع رفع يده حتى يحاذي بهما أذنيه] وإذا رفع رأسه من الركوع رفع وقال: «سمع الله لمن حمده» فعل مثل ذلك» . رواه مسلم وغيره(1/541)
وهذا يشتمل على زيادة، فالأخذ به أولى.
(والثالثة) : أنه يخير بين هاتين الصفتين، اختارها الخرقي، لصحة الرواية بهما، فدل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مرة يفعل هذا، وتارة يفعل هذا، والله أعلم.
[وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة]
قال: ثم يضع يده، اليمنى على كوعه [اليسرى] .
458 - ش: لما «روى وائل بن حجر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حين دخل في الصلاة، ثم التحف بثوبه، ثم وضع اليمنى على اليسرى» ، رواه أحمد ومسلم وفي لفظ لأحمد وأبي داود: وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، والرسغ والساعد.
قال: ويجعلهما تحت سرته.
ش: هذا إحدى الروايات عن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] .(1/542)
459 - لما روى أحمد، وأبو داود، «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة وضع الأكف في الصلاة تحت السرة» . والسنة المطلقة تنصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(والرواية الثانية) : الأفضل جعلهما تحت صدره.
460 - لما «روى قبيصة بن هلب، عن أبيه قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع يده على صدره» - ووصف يحيى بن سعيد - اليمنى على اليسرى، فوق المفصل، رواه أحمد.
(والثالثة) : التخيير بين الصفتين، اختارها ابن أبي موسى، وأبو البركات، لورود الأمر بهما. قال أبو البركات: وعلى الروايات فالأمر [في الأمرين] واسع، لا كراهة لواحد منهما، [والله أعلم] .
[دعاء الاستفتاح في الصلاة]
قال: ويقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» .(1/543)
461 - ش: لما روى أبو سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» . رواه الخمسة.
462 - وروي من حديث عمر، وأنس، وعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] .
463 - واحتج أحمد بأن عمر كان إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. ويسمع ذلك.(1/544)
464 - وروي عن أبي بكر، وعثمان، وابن مسعود ولو استفتح بغير هذا مما روي وصح؛ جاز، نص عليه، [والله أعلم] .
[الاستعاذة في الصلاة]
قال: ثم يستعيذ.
ش: لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة.
465 - يبينه ما روى أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة استفتح، ثم يقول: «أعوذ بالله [السميع العليم] ، من الشيطان الرجيم، [من] همزه، ونفخه، ونفثه» .
وصفة الاستعاذة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (في رواية) اختارها القاضي في الجامع الصغير، وأبو محمد في المقنع، لظاهر الآية، وقال ابن المنذر: جاء عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول قبل القراءة: «أعوذ بالله من الشيطان(1/545)
الرجيم» .
(وفي أخرى) : «أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم» لحديث أبي سعيد.
(وفي ثالثة) : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم» . واختارها أبو بكر في التنبيه، والقاضي في المجرد، وابن عقيل، جمعا بين قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] .
وفي رواية [رابعة] : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ لأن قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] لا بد أن يقدر فيه: من الشيطان. ويجوز أن يقدر قبل، وأن يقدر بعد، فجمعنا بينهما، عملا بما قال الشيخان، والأمر في هذا واسع، ومهما استعاذ به جاز بلا كراهة.
(تنبيه) : والاستفتاح والاستعاذة مسنونان، نص عليه، محتجا بأن ابن مسعود وأصحابه كانوا لا يعرفون الافتتاح،(1/546)
يكبرون ويقرءون، وذهب ابن بطة إلى وجوبهما. [والله أعلم] .
[القراءة في الصلاة]
قال: ثم يقرأ: " الحمد لله رب العالمين ".
466 - ش: في الصحيحين عن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين» .
ولا خلاف في أن القراءة ركن في الصلاة، واختلف في تعيين الفاتحة، فالمعروف المشهور، وعليه الأصحاب تعيينها.(1/547)
467 - لما روى عبادة بن الصامت [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . رواه الجماعة.
وفي لفظ: «لا يجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . رواه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح.
468 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب؛ فهي خداج، هي خداج غير تمام» رواه الجماعة إلا البخاري. والخداج: النقصان في الذات، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي.
(وعنه) : لا تتعين، بل يجزئ قراءة آية، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» . وتتعين القراءة في كل ركعة(1/548)
على المذهب بلا ريب، وعنه: تجب في ركعتين لا غير، [والله أعلم] .
قال: يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم.
469 - ش: لما روى «نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين. وقال الناس: آمين. ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس من الثنتين: الله أكبر. ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه النسائي، ورواه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والخطيب، وصححوه.
470 - «وعن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» . رواه أحمد، والنسائي، وابن خزيمة والدارقطني، وفي لفظ لابن خزيمة، والطبراني: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأبو بكر، وعمر» ، زاد ابن خزيمة في الصلاة.(1/549)
(تنبيه) : الإجماع على أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بعض آية في سورة النمل واختلف هل هي آية مفردة في أول كل سورة، وفيه روايتان، المنصوص عنه - وعليه عامة أصحابه - نعم، ولا خلاف عنه نعلمه أنها ليست آية من أول كل سورة إلا في الفاتحة، على رواية اختارها ابن بطة، وصاحبه أبو حفص، والمشهور خلافها، والله أعلم.
[الجهر بالبسملة في الصلاة]
قال: ولا يجهر بها.
ش: لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن قلنا: إنها من الفاتحة، لما تقدم من حديث أنس.
471 - وفي لفظ البخاري عنه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» . وفي رواية مسلم: لا يذكرون (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) في أول قراءة ولا في آخرها. وعن الدارقطني: لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجهر حديث، أما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف.
وزعم بعض الأصحاب أنا إذا قلنا: إنها من(1/550)
الفاتحة [جهر بها كما يجهر بالفاتحة] (ونص أحمد) على [أن] من صلى بالمدينة جهر بها، ليبين أنها سنة، لأن أهل المدينة ينكرونها.
472 - كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، والله أعلم.
[التأمين بعد قراءة الفاتحة في الصلاة]
قال: فإذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين.
ش: إذا قال المصلي: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين؛ سواء كان منفردا، أو إماما، أو مأموما، قالها إمامه أو لم يقلها.
473 - لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، والمنفرد في معناهما، ويجهر بها فيما يجهر به.
474 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تلا: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: «آمين» حتى يسمع من يليه من الصف الأول» . رواه أبو داود، وابن ماجه، وقال: حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتج [بها] المسجد.(1/551)
والسنة أن يؤمن المأموم والإمام معا، ليوافقا تأمين الملائكة.
475 - وفي النسائي والمسند من حديث أبي هريرة: «إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين. فإن الملائكة تقول: آمين. وإن الإمام يقول: آمين. فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» .
(وقوله) : إذا أمن الإمام فأمنوا. أي: إذا شرع، أو إذا أراد، جمعا بين الحديثين والمعنى، والله أعلم.
[قراءة السورة بعد الفاتحة في الصلاة]
قال: ثم يقرأ سورة في ابتدائها (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
ش: أما قراءة السورة بعد الفاتحة فسنة مجمع عليها.
476 - لما روى أبو قتادة الأنصاري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، يسمع الآية أحيانا، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية، وفي الركعتين الأخيرتين(1/552)
بأم الكتاب» . متفق عليه، في أحاديث أخر، وأما كونه يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم، فقد نص عليه أحمد.
477 - محتجا بأن ابن عمر كان لا يدع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لأم القرآن، وللسورة التي بعدها. والله أعلم.
قال: فإذا فرغ كبر للركوع.
478 - ش: لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: «سمع الله لمن حمده» حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: «ربنا ولك الحمد» ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس» . متفق عليه.
وهذا التكبير واجب في رواية مشهورة، وفي أخرى فرض، وفي ثالثة فرض إلا في حق المأموم فواجب، وفي رابعة سنة، أما الركوع فركن بالإجماع، قال سبحانه:(1/553)
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] الآية.
[رفع اليدين عند الركوع]
قال: ويرفع يديه كرفعة الأول.
ش: يعني إلى حذو منكبيه، أو إلى فروع أذنيه، وقد تقدم ذلك والخلاف فيه، والأصل في الرفع (هنا) حديث ابن عمر، ووائل بن حجر وقد تقدما.
479 - «وعن أبي حميد الساعدي أنه قال في عشرة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدهما أبو قتادة: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالوا: ما كنت أقدمنا له صحبة، ولا أكثرنا له إتيانا. قال: بلى. قالوا: فاعرض. فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما، ورفع يديه حتى يحاذي منكبيه، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: " الله أكبر " وركع، ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنعه، ووضع يديه على ركبتيه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» ورفع يديه واعتدل، حتى يرجع كل عظم موضعه معتدلا، ثم هوى إلى الأرض ساجدا، ثم قال: «الله أكبر» ، ثم ثنى رجليه وقعد عليها، واعتدل، حتى يرجع كل عظم موضعه، ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين كبر، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع ذلك، حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخر رجله(1/554)
اليسرى، وقعد على شقه متوركا، ثم سلم. قالوا: صدقت، هكذا صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وسمى أبو داود في رواية من العشرة أبا هريرة، وأبا أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة.
[صفة الركوع]
قال: ثم يضع يديه على ركبتيه، ويفرج أصابعه.
ش: لحديث أبي حميد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] .
480 - وعن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: إن الركب سنت لكم، فخذوا بالركب. رواه النسائي والترمذي وصححه.
قال: ويمد ظهره، ولا يرفع رأسه ولا يخفضه.
ش: لحديث أبي حميد.
481 - وفي الصحيح عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك» .(1/555)
482 - وعن وابصة بن معبد، قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وكان إذا ركع سوى ظهره، حتى لو صب عليه الماء لاستقر» . رواه ابن ماجه. وقدر الإجزاء الانحناء، بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه، لأنه لا يسمى راكعا [بدونه] ، والاعتبار بمتوسطي الناس، لا بطويل اليدين، ولا بقصيرها، قال أبو البركات: وضابط الإجزاء الذي لا يختلف أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل، والله أعلم.
[التسبيح في الركوع]
قال: ويقول [في ركوعه] : سبحان ربي العظيم. ثلاثا، وهو أدنى الكمال، وإن قال مرة أجزأه.
483 - ش: عن «حذيفة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم» ، وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى» رواه الجماعة إلا البخاري.
484 - وعن عقبة بن عامر قال: «لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعلوها في ركوعكم» ، فلما نزلت:(1/556)
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعلوها في سجودكم» رواه أحمد، وأبو داود.
485 - وعن ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم. ثلاث مرات، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى. ثلاث [مرات] ، فقد تم سجوده، وذلك أدناه» . رواه أبو داود، والترمذي، وهو مرسل، وإنما أجزأت المرة لظاهر حديث عقبة.
وقد تضمن كلام الخرقي وجوب التسبيح [في الرجوع] وسيصرح به، وهو المشهور لما تقدم. (وعنه) : أنه فرض، (وعنه) : أنه سنة.
(تنبيه) : غاية الكمال لا حد لها عند القاضي، ما لم يطل ما يخاف عليه منه السهو، وقال بعض الأصحاب: غايته أن(1/557)
يسبح قدر قيامه، لصحة ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: الكمال عشر تسبيحات. هذا كله في المنفرد. أما الإمام فظاهر كلام أحمد واختاره أبو البركات: [أن يستحب] أن يزيد على [أدنى] الكمال قليلا، فيسبح ما بين الخمس إلى العشر، وقال القاضي: لا يستحب الزيادة على الثلاث، حذارا من المشقة على المأمومين. والله أعلم.
[رفع الرأس من الركوع وقول سمع الله لمن حمده]
قال: [ثم يرفع رأسه] ، ثم يقول: سمع الله لمن حمده. [ويرفع يديه كرفعه الأول] .
ش: أي ثم يقول: سمع الله لمن حمده. حين يرفع رأسه من الركوع، أما قوله: سمع الله لمن حمده. فقد تقدم في حديث أبي هريرة، وأبي حميد، وابن عمر، وأما الرفع إذا فتقدم أيضا في حديث ابن عمر، وأبي حميد، ومالك بن الحويرث، وقوله: سمع الله لمن حمده. واجب في المشهور، (وعنه) : سنة، أما الرفع من الركوع والاعتدال عنه ففرضان، لحديث المسيء في صلاته.
قال: ثم يقول: ربنا ولك الحمد.
ش: يعني إذا اعتدل قائما، لما تقدم من حديث أبي هريرة،(1/558)
وابن عمر، وحكم التحميد في الوجوب حكم التسميع، ويخير بين إثبات الواو وحذفها، والأفضل إثباتها نص عليه.
486 - للاتفاق عليه من رواية أنس، وأبي هريرة، وابن عمر. والأفضل مع تركها: اللهم ربنا لك الحمد. نص عليه.
487 - لأنه متفق عليه من حديث أبي هريرة، ويجوز: ربنا لك الحمد.
488 - لما روى مسلم من حديث أبي سعيد.(1/559)
489 - و «اللهم ربنا ولك [الحمد] » كما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه، [والله أعلم] .
قال: ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد. فإن كان مأموما لم يزد على قوله: ربنا ولك الحمد.
ش: هذا الذكر مشروع في هذه الحال في الجملة.
490 - لما روى علي بن أبي طالب [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما(1/560)
بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد» رواه مسلم وغيره.
491 - وعن ابن أبي أوفى مثل ذلك، رواه مسلم.
واختلف عن أحمد لمن شرع هذا الذكر، ولا خلاف عنه أن الإمام يقوله، وكذلك ما قبله.
492 - لحديث علي، وابن أبي أوفي وغيرهما (واختلف عنه) في المنفرد، فالمشهور عنه - وهو اختيار الأصحاب -: أنه يقول الجميع كالإمام، إذ الأصل التأسي بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/561)
493 - لا سيما وقد عضده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
(وعنه) : يقتصر على التسميع والتحميد، ولا يقول: ملء السماء. إلى آخره، حطا له عن رتبة الأمام، ورفعا له عن رتبة المؤتم، لأنه أكمل منه، لعدم تبعيته.
(وعنه) : يقتصر على التحميد فقط، وفيها ضعف.
أما المؤتم فالمشهور عنه - وعليه جمهور الأصحاب الخرقي وغيره -: أنه يقتصر على التحميد، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد» وظاهره أن التحميد وظيفة المؤتم.
(وعنه) - واختاره أبو البركات -: أنه يأتي بالتحميد، وملء السماء، إلى آخره، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . خرج منه التسميع لأنه أمره بالتحميد عقب تسميع إمامه، ولو شرع له التسميع لأمر به عقب تسميع إمامه، كما أمر بالتكبير عقب تسميع إمامه، وهذا اختيار أبي الخطاب، وكلامه محتمل لأنه يسمع أيضا، وعليه اعتمد أبو البركات فقال: ظاهر كلامه أنه يأتي بالتسميع وما بعده، ونفى ذلك أبو محمد فقال: لا أعلم خلافا في المذهب أن المؤتم لا يسمع. والله أعلم.(1/562)
[التكبير للسجود]
قال: ثم يكبر للسجود، ولا يرفع يديه.
ش: أما التكبير [للسجود] فقد تقدم في حديث أبي هريرة وغيره، وأما عدم الرفع في السجود فلحديث ابن عمر وغيره، وعنه يسن الرفع، والمذهب الأول، وحكم التكبير في السجود والرفع منه حكم التكبير في الركوع، وقد تقدم، [والله أعلم] .
[صفة السجود]
قال: ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه.
ش: هذا المشهور عن أحمد، وعليه عامة أصحابه.
494 - لما «روى وائل بن حجر قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه» . رواه الخمسة إلا أحمد، وقال الحاكم:(1/563)
على شرط مسلم. (وعن أحمد) : يضع يديه قبل ركبتيه.(1/564)
495 - لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» . رواه الخمسة إلا ابن ماجه وقد ضعف. والسجود على(1/565)
هذه الأعضاء فرض، لا يكون ساجدا بدونها، أعني الركبتين واليدين، والجبهة، وكذلك القدمين.
496 - لما روى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين وأطراف القدمين» متفق عليه، ولمسلم «أمرت أن أسجد على سبع؛ الجبهة، والأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين» وقيل عنه: لا(1/567)
يجب السجود على غير الجبهة، لأنه يسمى ساجدا بوضعها، وإن أخل بغيرها، أما الأنف ففيه روايتان مشهورتان: إحداهما: فرضيته كالجبهة، قال القاضي: اختاره أبو بكر، وجماعة من أصحابنا، لما تقدم من عد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له في المأمور به.
497 - وعن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض» رواه الدارقطني.
(والثانية) : ليس بفرض. اختارها القاضي، لأنه صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أعضاء السجود سبعة، وعدها في الصحيح بدونه، وقال: «سبعة أعظم» . وطرف الأنف الذي يسجد عليه ليس بعظم، فعلم أن الإشارة إليه أو عده تنبيه على تبعيته، واستحباب السجود عليه جمعا بين الأدلة، وإلا فيلزم كونها ثمانية، وهو خلاف النص، واستيعاب العضو الواحد بذلك، وهو خلاف الإجماع، فإنه لو سجد على بعض يده - حتى على بعض أطراف أصابعها، أو ظهرها، أو ظهر قدميه - أجزأه.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يجب عليه مباشرة المصلى بشيء من أعضاء سجوده، وهو إجماع في القدمين، والركبتين، وقول الجمهور في اليدين.(1/568)
498 - ويدل عليه ما روى أحمد، وابن ماجه «، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: جاءنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل، فرأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد» .
أما الجبهة ففي المباشرة بها قولان مشهوران، هما روايتان عن أحمد، أصحهما عند أبي البركات - واختارها أبو بكر والقاضي - لا يجب.
499 - لما روى «أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شدة الحر، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود» . رواه البخاري.
(والثانية) : تجب المباشرة إلا من عذر.
500 - لما روى «خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا» .(1/569)
(ومحل الروايتين) فيما إذا سجد على كور عمامته أو ذؤابتها، أو ذيله، ونحو ذلك مما هو حامل له منفصل عنه، وأصل السجود فرض بالإجماع، وبنص الكتاب، والله أعلم.
قال: ويكون في سجوده معتدلا.
501 - ش: في الصحيحين عن أنس [رضي لله عنه] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» .
قال: ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويكون على أطراف أصابعه.
502 - ش: لما روى أبو حميد الساعدي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، من الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه» ، رواه الترمذي وصححه، ولأبي داود: كان إذا سجد فرج بين فخذيه، غير حامل بطنه على شيء من فخذيه، [والله أعلم] .
[التسبيح في السجود]
قال: ثم يقول: سبحان ربي الأعلى. ثلاثا، وإن قال مرة أجزأه.
ش: حكم التسبيح في السجود حكم التسبيح في الركوع، وقد تقدم [ذلك] ودليله.(1/570)
[رفع الرأس من السجود]
قال: ثم يرفع رأسه مكبرا.
ش: أما التكبير فلما تقدم من حديث أبي هريرة وغيره، وأما الرفع والاعتدال عنه، فلحديث الأعرابي: «ثم ارفع حتى تطمئن جالسا» ، وهما فرضان كذلك، والله أعلم.
قال: فإذا جلس واعتدل يكون جلوسه على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى.
ش: لما تقدم من حديث أبي حميد الساعدي، في عشرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي الصحيح عن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] ، «وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى» . والله أعلم.
[الدعاء بين السجدتين]
قال: ويقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي.
ش: ظاهر كلام الخرقي أن السنة أن يقول رب اغفر لي، مرتين فقط، وهو قول ابن أبي موسى.
503 - لما روى حذيفة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي، رب اغفر لي» رواه الخمسة، إلا الترمذي، والمشهور أن حكم: رب اغفر لي، حكم(1/571)
التسبيح، في أن المرة تجزئه، وأن أدنى الكمال ثلاث، وأن كماله نحو قيامه، أو ما لم يخف منه السهو، أو عشرا على ما تقدم، وحديث حذيفة أراد به التكرار في الجملة لأن في أوله من رواية أبي داود: كان يقعد بين السجدتين نحوا من سجوده.
(وهل) سؤال المغفرة والحال هذه واجب أو مسنون؟ فيه روايتان؛ المشهور الأول. والله أعلم.
قال: ثم يكبر ويخر ساجدا.
ش: أما السجدة الثانية ففرض مجمع عليه، وأما التكبير فلما سبق، ويقول فيها ما يقول في السجدة الأولى من التسبيح. [ولله أعلم] .
قال: ثم يرفع رأسه مكبرا، ويقوم على صدور قدميه، معتمدا على ركبتيه.
ش: أما التكبير حال الرفع فلما تقدم.
504 - وأما القيام على هذه الصفة؛ فلأن في «حديث وائل بن حجر في(1/572)
لفظ لأبي داود: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه» .
505 - وعن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة» . رواه أبو داود. [والله أعلم] .
قال: إلا إن يشق ذلك عليه فيعتمد بالأرض.
506 - ش: لأن في حديث مالك بن الحويرث «في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، ثم قام واعتمد بالأرض» . رواه النسائي، والبخاري بمعناه، فحملناه على حال العذر لكبر ونحوه، جمعا بينه وبين ما تقدم.(1/573)
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه لا يجلس جلسة الاستراحة، وهو المختار من الروايتين عند ابن أبي موسى، [والقاضي] ، وابنه أبي الحسين، قاله ابن الزاغوني، وجماعة من المشايخ.
507 - لأنه قول عمر، وعلي، وابن مسعود، حكاه أحمد عنهم، وذكره ابن المنذر عن ابن عباس، قال أحمد: وأكثر الأحاديث على هذا. وقال أبو الزناد: تلك السنة. وقال(1/574)
الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم.
(والرواية الثانية) : أنه يجلس للاستراحة، اختارها أبو بكر عبد العزيز وشيخه أبو بكر الخلال، وزعم أن أحمد رجع عن الأولى لما تقدم(1/575)
من حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث، وحملا على(1/576)
أنه فعله لما بدن وكبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك نقول جمعا بين الأدلة، وإلا فمثل هذا لا [يخفى عن] عمر، وعلي، وغيرهما. وعلى هذه الرواية يجلس على قدميه وإليتيه، ويمس بهما الأرض، نص عليه في رواية المروذي، لتفارق الجلسة بين السجدتين.(1/577)
508 - وعليه يحمل قول ابن عباس في الإقعاء على القدمين: هو سنة نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاتفاق على أنه لا يستحب في غير هذه الصورة، وقال الآمدي: يجلس على قدميه ولا يلصق إليتيه بالأرض، وزعم أن الأصحاب لا تختلف في ذلك، قال القاضي: ويحتمل أنه يجلس مفترشا، لحديث أبي حميد المتقدم، والله أعلم.
قال: ويفعل في الثانية مثل ما فعل في الأولى.
ش: لأن في حديث الأعرابي: «وافعل ذلك في صلاتك كلها، حتى تقضيها» ويستثنى من ذلك الافتتاح بالتكبير، لأنه وضع للدخول في الصلاة، وكذلك الاستفتاح.
509 - وفي مسلم من حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض إلى الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله(1/578)
رب العالمين، ولم يسكت» . واختلف في الاستعاذة، فعنه: لا تستثنى، فيستعيذ في كل ركعة، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]
(وعنه) : استثناؤها، اكتفاء بالاستعاذة في أول مرة، جعلا لقراءة الصلاة وإن تفرقت كالقراءة الواحدة، ولظاهر خبر أبي هريرة، نعم لو نسي التعوذ في الأولى أتى به في الثانية، على كلتا الروايتين. واستثنى أبو الحطاب تجديد النية، لاستصحابها حكما، قال أبو البركات: وترك استثنائها أحسن، لأنها شرط لا ركن، ويجوز أن تتقدم الصلاة اكتفاء بالدوام الحكمي، والله أعلم.
[كيفية الجلوس للتشهد]
قال: فإذا جلس فيها للتشهد يكون كجلوسه بين السجدتين.
ش: يعني إذا صلى الركعة الثانية، وجلس فيها للتشهد، جلس كما جلس بين السجدتين، لما تقدم في حديث أبي حميد الساعدي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] والله أعلم.(1/579)
قال: ثم يبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى.
510 - ش: لما روى ابن عمر، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه التي تلي الإبهام، فدعا بها ويده اليسرى على ركبته، باسطها عليها» . رواه مسلم وغيره، وقوله: على فخذه اليسرى. أي لا يخرج بها عنها، بل يجعل أطراف أصابعه [مسامتة] للركبة [والله أعلم] .
قال: ويده اليمنى على فخذه اليمنى، ويحلق الإبهام مع الوسطى.
ش: أي ويضع يديه اليمنى بقرينة: ويحلق.
511 - لما «روى وائل بن حجر في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد من أصابعه الخنصر والذي يليها، وحلق حلقة بإصبعه الوسطى على الإبهام، ورفع السبابة يشير بها» . رواه أحمد، وأبو داود. (وعن أحمد) أنه يقبض الثلاث، ويعقد الإبهام كعقد الخمسين، واختارها أبو البركات، والأول اختيار أبي محمد.(1/580)
512 - لما روى ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في التشهد وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة» . رواه أحمد ومسلم.
(وعنه) رواية ثالثة أنه يبسط الجميع، ليستقبل بهن القبلة كما في حال السجود. [والله أعلم] .
قال: ويشير بالسباحة.
ش: سميت مسبحة لأنه يشار بها للتوحيد، فهي منزهة مسبحة، وتسمى سبابة لأنهم كانوا يشيرون بها إلى السب، والأصل في الإشارة بها ما تقدم، وموضع الإشارة بها عند ذكر الله تعالى، للتنبيه على الوحدانية.
513 - وقد روى أبو هريرة أنه رجلا كان يدعو بأصبعيه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحد أحد» . رواه النسائي. [والله أعلم] .
[ألفاظ التشهد]
قال: ويتشهد فيقول: «التحيات لله، والصلوات،(1/581)
والطيبات، والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» . وهو التشهد الذي علمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] .
514 - ش: في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كنا إذا جلسنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[في الصلاة] قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان. فسمعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو» .
وفي لفظ: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن» ، وهذا التشهد هو المختار عند أحمد.
515 - ولو تشهد بغيره مما ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كتشهد ابن عباس، وابن عمر، وأبي موسى الأشعري وغيرهم جاز، نص عليه،(1/582)
وإنما اختار ما تقدم لاتفاق الشيخين عليه، واتفاق ألفاظه، وكون أكثر أهل العلم عليه، وكون الأمر بخلاف ذلك في غيره، ولأنه اختص بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتعليمه، ففي مسند أحمد أنه أمر ابن مسعود أن يعلمه الناس وهذا التشهد، والجلوس لو واجبان لا سنة على المشهور من الروايتين.
(تنبيه) : قال جماعة من الأصحاب - منهم ابن حامد وغيره -: إنه لو ترك حرفا من تشهد ابن مسعود أعاد الصلاة.
واختار القاضي والشيخان أنه متى ترك شيئا ثابتا في جميع التشهدات أعاد، وإن ترك شيئا ساقطا في بعضها أجزأه(1/583)
فعلى هذا المجزئ [التحيات] لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، أو عبده ورسوله» .
ومعنى «التحيات» : الملك لله، قاله أبو عمرو وجماعة من أئمة اللغة، وقيل: البقاء. وقيل غير ذلك. والله أعلم.
قال: ثم ينهض مكبرا كنهوضه من السجود.
ش: يعني قائما على صدور قدميه، معتمدا على ركبتيه مكبرا، وقد تقدم التكبير في حديث أبي هريرة وغيره، والله أعلم.
[التورك في الجلوس للتشهد الأخير]
قال: فإذا جلس للتشهد الأخير تورك.
ش: مذهبنا أنه يجلس مفترشا في جميع جلسات الصلاة إلا(1/584)
في التشهد الأخير من صلاة فيها تشهدان أصليان، فإنه يتورك، والعمدة في ذلك حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فإنه وصف جلسته بين السجدتين، وفي التشهد الأول مفترشا، وفي الثاني متوركا. [والله علم] .
قال: فينصب رجله اليمنى، وجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمين، وجعل إليتيه على الأرض.
ش: هذا اختيار القاضي وأبي البركات.
516 - لأن في حديث ابن الزبير: «كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه» . ونقل عنه الأثرم أنه يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما من تحته إلى جانب يمينه، واختاره أبو الخطاب لأن في حديث أبي حميد الساعدي: فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة. قال أبو محمد: وأيهما فعل فحسن. وهذا التشهد والجلوس من أركان(1/585)
الصلاة، أما الأول وجلسته فمن الواجبات، لا من السنن على الصحيح، والله أعلم.
قال: ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، في الأخير منهما.
ش: قد تقدم ذلك، والله أعلم.
قال: ويتشهد بالتشهد الأول.
517 - ش: روى أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله» . وذكره، والتشهد الأخير والجلوس له ركنان، لهذا الحديث، ولما تقدم أيضا من حديث ابن مسعود.
518 - وقد روى الدارقطني - وقال: إسناده صحيح. «عن ابن مسعود قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقولوا هكذا، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا التحيات لله» .(1/586)
519 - وروى سعيد عن عمر أنه لا تجزئ صلاة إلا بتشهد، ولا يعرف له مخالف، والله أعلم.
[الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير]
قال: ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ش: لا إشكال في مطلوبية الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأخير، واختلف في حكمها، فعنه أنها فرض، وعنه أنه سنة، وعنه أنها واجبة، وهي اختيار الخرقي، وأبي البركات، ونقل عنه أبو زرعة رجوعه عن الثانية. [والله أعلم] .
قال: فيقول: «اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد»
ش؛ هذا هو المشهور من الروايتين، واختيار أكثر الأصحاب.
520 - لما روى كعب بن عجرة قال: قلنا: «يا رسول الله قد علمنا، أو عرفنا، كيف السلام عليك؛ فكيف الصلاة؟ قال: «قولوا(1/587)
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وآل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» ، متفق عليه، وفي لفظ لمسلم «وبارك» .
(والثانية) يقول: «كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم» ، وكذلك: «كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم» ، اختارها ابن عقيل.
521 - وكذلك روي في حديث كعب، رواه النسائي وأحمد.
وقدر المجزئ من ذلك، الصلاة عليه وعلى آله وآل إبراهيم، وذكر البركة كذلك، إلى «حميد مجيد» اختاره ابن حامد، وأبو الخطاب، لظاهر الأمر بذلك في حديث كعب، واختار القاضي والشيخان أن المجزئ الصلاة عليه فقط، لأنه الذي اتفقت عليه أحاديث الأمر بها، وما عداه سقط في بعضها.
522 - وفي الترمذي - وصححه - عن فضالة بن عبيد قال: «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، ولم يصل عليه، فقال النبي(1/588)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عجل هذا» ، ثم دعاه فقال له، أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ليدع بعد بما شاء» . والسنة تقديمه على الصلاة، وترتيبه فإن لم يفعل، بل نكس من غير تغيير ولا إخلال ففي الإجزاء وجهان، وكذلك في إبدال لفظة الآل بالأهل وجهان، والله أعلم.
[الدعاء في التشهد الأخير]
قال: ويستحب أن يتعوذ من أربع فيقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، وأعوذ بالله من عذاب القبر، وأعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بالله من فتنة المحيا والممات.
523 - ش: في صحيح مسلم وغيره، من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال» .(1/589)
524 - وفي الصحيح أيضا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بذلك.
قال: فإن دعا في تشهده بما ذكر في الأخبار فلا بأس.
525 - ش: نحو ما روي «عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» ، متفق عليه.
526 - (وعن علي) [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» ، رواه الترمذي وصححه.
527 - «وعن معاذ) بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة، اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك» ، رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود.(1/590)
528 - «وعن عاصم) بن كليب، عن أبيه، عن جده قال: دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي وقد قبض أصابعه وبسط السبابة، وهو يقول: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك» ، رواه الترمذي.
529 - (وعن شداد) بن أوس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في صلاته: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفر لما تعلم» ، رواه النسائي.
ولا يتعين [غير] ما ورد به الخبر، بل ما في معناه، مما يعود إلى أمر الآخرة، ويتضمن قربة وطاعة، كالدعاء(1/591)
بالرزق الحلال، ونحو ذلك، نص عليه، واختاره وذكره القاضي، واختاره الشيخان، لتضمنه معنى ما ورد به الأثر.
530 - وفي أبي داود أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «كيف تقول في الصلاة» ؟ قال: أتشهد ثم أقول: اللهم إن أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حولها ندندن» . وقال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي وجماعة من الأصحاب أنه لا يجوز الدعاء بغير مأثور، ولا إشكال أنه لا يجوز على المذهب الدعاء بما يرجع إلى محض طلب الدنيا وشهواتها، نحو: اللهم ارزقني جارية حسناء، وحلة خضراء.
531 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التكبير، والتسبيح وقراءة القرآن» ، رواه مسلم وغيره، خرج منه ما ورد، وما في معناه، فيبقى فيما عدا ذلك على مقتضى العموم. (وعن أحمد) جواز(1/592)
ذلك، قال: إذا دعا في صلاته بحوائجه أرجو أن لا يضره. وذلك لما تقدم من حديث ابن مسعود، والله أعلم.
[السلام من أركان الصلاة]
قال: ثم يسلم عن يمينه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك.
ش: لا نزاع عندنا في تعيين السلام للخروج من الصلاة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» ، وظاهره أن لا تحليل لها سواه.
532 - وفي الصحيحين من حديث عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان يختم الصلاة بالتسليم» . وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، إذا تقرر هذا فالمشروع أن يسلم كما ذكر الخرقي، تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن يساره.
533 - لما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه، وعن يساره: «السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» ، حتى يرى بياض خده. ورواه الخمسة ومسلم بمعناه.(1/593)
534 - «وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت أرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى يرى بياض خده» . رواه مسلم وأحمد والنسائي. والسلام ركن في الجملة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» ، فإن كان في فريضة وفيت التسليمتان، في رواية اختارها أبو بكر، والقاضي. وفي أخرى: الثانية سنة. اختارها أبو محمد. أما صلاة الجنازة، والنافلة، فإن الثانية لا تجب فيهما، قال القاضي: رواية واحدة. وهل يكفي (السلام عليكم) - اختاره القاضي وأبو البركات - أو لا بد مع ذلك من (ورحمة الله) - اختاره أبو الخطاب، وابن عقيل - فيه وجهان، ونص أحمد على الاستجزاء بالسلام في صلاة الجنازة وفيه احتمال، ولا يجزئ: «سلام عليكم» ، منكرا، ولا: «عليكم السلام» ، منكسا، على أصح الوجهين.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط أن ينوي بسلامه الخروج في الصلاة، وهو المنصوص، المشهور، إذ هو بعض الصلاة، فشملته نية الصلاة كبقية الأجزاء، واشترطه ابن حامد، قياسا لأحد الطرفين على الآخر، وعلى قوله لو أتى(1/594)
بنية الخروج مضيفا إليه نية السلام على الحفظة والمصلين جاز، ولم يستحب، نص عليه، وحكى ابن حامد وجها بالبطلان، وعلى الأول لو ترك نية الخروج، ونوى الحاضرين، بطلت صلاته، وجها واحدا عند ابن حامد، والصحيح عند أبي البركات - وزعم أنه المنصوص -: عدم البطلان، والله أعلم.
قال: والمرأة والرجل في ذلك سواء.
ش: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وغيره من العمومات. [والله أعلم] .
قال: إلا أن المرأة تجمع نفسها في الركوع والسجود، وتجلس متربعة، أو تسدل رجليها، فتجعلهما في جانب يمينها.
535 - ش: روى يزيد بن أبي حبيب، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على امرأتين تصليان فقال: «إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى بعض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل» ، رواه أبو داود في مراسيله.
536 - وقال ابن عمر: تقعد المرأة في الصلاة متربعة.(1/595)
537 - وعن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : إذا سجدت المرأة فلتحتفز، ولتضم فخذيها. والسدل أفضل من التربع، نص عليه، واختاره الخلال، لأنه يروي عن عائشة، وظاهر كلامه أنه يسن لها رفع اليدين كالرجل، وهو إحدى الروايات.
538 - لما روى سعيد، عن أم الدرداء، أنها كانت ترفع يديها في الصلاة حذو منكبيها. (والثانية) : لا يسن. لإخلاله بالانضمام اللائق بها. (والثالثة) : ترفع دون رفع الرجل قال أبو البركات: وهو أوسط الأقوال. [والله أعلم] .
قال: والمأموم إذا سمع قراءة الإمام فلا يقرأ بالحمد ولا بغيرها، لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ، ولما روى أبو هريرة [رضي(1/596)
الله عنه] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما لي أنازع القرآن» ، فانتهى الناس أن يقرءوا فيما جهر فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ش: إذا سمع المأموم قراءة الإمام لم يقرأ مطلقا، لما استدل به الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] من الآية والحديث.
539 - (أما الآية) فقال أبو العالية، وزيد بن أسلم: كانوا يقرءون خلف الإمام، فنزلت هذه الآية فتركوا.
540 - ويروى نحوه عن أبي هريرة، وابن المسيب، والحسن، والزهري، والنخعي والقرظي وغيرهم، وقال أحمد في(1/597)
رواية أبي داود: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة.
541 - (وأما الحديث) فلما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟» فقال رجل: نعم يا رسول الله. فقال: «ما لي أنازع القرآن؟» قال: فانتهى الناس عن القراءة معه، فيما جهر فيه من الصلوات، حين سمعوا ذلك منه» . رواه مالك في الموطأ، والخمسة إلا ابن ماجه، ولأبي داود: وقال أبو هريرة: فانتهى الناس.
وظاهر المنع في كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - التحريم، وبه جزم القاضي في التعليق، وهو ظاهر كلام أحمد، وجعل أبو الخطاب في الهداية - والشيخان - المنع للكراهة.(1/598)
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يقرأ وإن لم يمكنه القراءة في حال، وعليه الأصحاب، واختار أبو البركات قراءة الفاتحة لمن تعذرت عليه القراءة في السكتات.
542 - لما روى عبادة بن الصامت قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: «إني أراكم تقرءون وراء إمامكم» ، قلنا: إي والله. قال: «فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» ، رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، ولأبي داود والنسائي: «فلا يقرأ بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن» ، ورواه الدارقطني وقال: كلهم ثقات.
ومفهوم كلام الخرقي أن المأموم يقرأ إذا لم يسمع قراءة الإمام، ولا يخلو من أن يكون ذلك لبعده أو لطرشه، فإن كان لبعده قرأ على المنصوص، والمختار للأصحاب، لظاهر الآية الكريمة (وعن أحمد) : لا يقرأ. لما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقرؤوا بشيء في القرآن إذا جهرت به» ، فعلى الأولى هل يقرأ من سمع الهمهمة من غير فهم؟ على روايتين. وإن كان عدم سماعه لطرشه فقد توقف، فيخرج على وجهين،(1/599)
ولعل مبناهما على أن علة المنع الاستماع أو التشويش [على الإمام] والذي ينبغي أن يكونا كلاهما، لورود المنع منهما، وإذا يقرأ إن لم يشوش على الإمام، بل والمأمومين، والله أعلم.
قال: والاستحباب أن يقرأ في سكتات الإمام، وفيما لا يجهر فيه.
ش: لظاهر ما تقدم من حديث أبي هريرة، وعبادة [بن الصامت] (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) .
543 - وعن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : «اقرءوا في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر خلف الإمام بفاتحة الكتاب وسورة» ، رواه الدارقطني وصححه.
ومقتضى كلام الخرقي أن للإمام سكتات، قال أبو البركات: وهما سكتتان على سبيل الاستحباب، إحداهما تختص بأول ركعة للاستفتاح، والثانية سكتة يسيرة بعد القراءة كلها، ليرد إليه نفسه، لا لقراءة الفاتحة خلفه، على ظاهر كلام أحمد.
544 - وقد روى الحسن عن سمرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت له سكتتان، سكتة حين يفتتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من(1/600)
السورة الثانية، قبل أن يركع، فكتب ذلك لعمران بن حصين فأنكره، فكتب ذلك إلى أبي بن كعب فقال: صدق سمرة، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وفي رواية لهم: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] قال أبو البركات: والصحيح في الرواية الأولى، وعلى تقدير ثبوت الثانية فيحمل على سكتة يسيرة لقدر البسملة، وتصوير ما يقرأ من السورة، ونحو ذلك [والله أعلم] .
قال: فإن لم يفعل فصلاته تامة، لأن من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة.
ش: هذا تصريح منه بأن القراءة لا تجب على المأموم مطلقا، وهو المنصوص، المعروف عند الأصحاب، لما تقدم من الآية وحديث أبي هريرة.
545 - (وعنه) أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما جعل الإمام(1/601)
ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» ، رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه أحمد ومسلم، فأمر بالقراءة والاستماع، وهو شامل، وإن لم يسكت الإمام.
546 - وروى عبد الله بن شداد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ، رواه سعيد، وأحمد في مسائل ابنه عبد الله، والدارقطني، وروي مسندا من طرق [ضعاف] والصحيح أنه مرسل، وذلك لا يضر عندنا.(1/602)
وحكى ابن الزاغوني رواية بوجوب القراءة على المأموم، لما تقدم من حديث عبادة في الصحيحين عنه: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وحملا على الاستحباب، مع أن الأول قال أحمد: لا يصح عندنا. وقال: لم يرفعه إلا ابن إسحاق، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وجوب القراءة حال السر فقط، قال: إذا جهر الإمام فأنصت، وإذا لم يجهر فاقرأ الحمد وسورة؛ وهو نص حديث عبادة، وبه تجتمع الأدلة، والله أعلم.
[الجهر والإسرار في مواضعه في الصلاة]
قال: ويسر القراءة في الظهر والعصر، ويجهر بها في الأوليين من المغرب والعشاء، وفي الصبح كلها.
ش: هذا مجمع عليه، وقد ثبت ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنقل الخلف عن السلف، وهل الجهر والإخفات في محليهما سنة أو واجب؟ فيه وجهان، المذهب الأول، ومراد الخرقي(1/603)
- والله أعلم - الإمام، فلا يسن الجهر للمنفرد، وهو المذهب، إذ المقصود إسماع نفسه، نعم يباح له ذلك، وعنه: يسن له.
وقوة كلامه يقتضي أن هذا في الصلاة المؤداة، أما المقضية فإن قضى صلاة سر أسر وإن قضاها ليلا، وإن قضى صلاة جهر؛ جهر إن قضى ليلا، وأسر إن قضى نهارا، على ما قطع به أبو البركات، وفي المغني احتمال بالجهر [إذا] ، وقال: إن ظاهر كلام أحمد التخيير، والله أعلم.
[القراءة في صلاة الصبح]
قال: ويقرأ في الصبح بطوال المفصل.
ش: المفصل أوله قيل: القتال. وقيل: الفتح، وقيل: الحجرات. وقيل: (ق) وهو الصحيح.
547 - لما روى أبو داود عن أوس بن حذيفة، قال: سألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل، ورواه أحمد، والطبراني، وفي آخره: وحزب المفصل من (ق) . والأصل في استحباب قراءة طواله في الصبح.(1/604)
548 - لما «روى جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الفجر بـ (قاف والقرآن المجيد) ونحوها، وكانت صلاته بعد إلى التخفيف» ، رواه مسلم وغيره.
549 - وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة، وفي الظهر بنحو الثلاثين آية، وفي العصر على النصف من ذلك. [والله أعلم] .
[القراءة في صلاة الظهر]
قال: وفي الظهر [في الركعة الأولى] بنحو من الثلاثين آية، وفي الثانية بأيسر من ذلك، وفي العصر على النصف من ذلك.
550 - ش: اتباعا لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما استحب أن يقرأ في الثانية بأيسر من الأولى.(1/605)
551 - لما ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يطول الأولى، ويقصر الثانية، ولا اختصاص للظهر بهذا، بل المستحب في جميع الصلوات تطويل الأولى، وتقصير الثانية.
[القراءة في صلاة المغرب]
قال: وفي المغرب بسور آخر المفصل.
552 - ش: روي عن (ابن) عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب بـ (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) » ، رواه ابن ماجه.
[القراءة في صلاة العشاء]
قال: وفي العشاء الآخرة نحو «الشمس وضحاها» ، وما أشبهها.
553 - ش: عن بريدة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في العشاء بـ (الشمس وضحاها) ، وأشباهها من السور» ، رواه أحمد، والترمذي.
554 - و «في الصحيح أنه قال لمعاذ - لما طول في العشاء - «فلولا(1/606)
صليت بـ سبح اسم ربك الأعلى» و «الشمس وضحاها» .
قال: ومهما قرأ به بعد أم الكتاب في ذلك كله أجرأه.
ش: يعني أن التفصيل المتقدم على سبيل الاستحباب، ولو زاد على ذلك أو نقص فلا بأس.
555 - فقد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ في المغرب بالطور، وبالمرسلات، وبالأعراف، وقرأ في الصبح بالمعوذتين، وفي العشاء وهو مسافر بـ (التين والزيتون) ومقتضى كلامه أن قراءة(1/607)
الفاتحة واجبة، وقد تقدم ذلك، وكلامه موهم - ويدفع (هذا) الوهم ما يذكره بعد في الأركان - لا بد له من قراءة شيء بعد الفاتحة.
قال: ولا يزيد على قراءة أم الكتاب في الأخريين من الظهر، والعصر، وعشاء الآخر، والركعة الأخيرة من المغرب.
556 - ش: في الصحيحين عن أبي قتادة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر والعصر، في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين [الأخريين] بفاتحة الكتاب» ، وعن علي أنه كان يأمر بذلك، وقال ابن(1/608)
سيرين: لا أعلمهم يختلفون في ذلك. ثم هل النفي لعدم الاستحباب، أو للكراهة؟ فيه روايتان، أصحهما عند أبي البركات الأول، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد جاء عنه أنه زاد أحيانا على قراءة الفاتحة في الأخريين، والله أعلم.
[ستر العورة في الصلاة]
[عورة الرجل]
قال: ومن كان من الرجال، وعليه ما يستره ما بين سرته وركبته، أجزأه ذلك.
ش: هذا يتضمن أن عورة الرجل ما بين سرته وركبته، وهذا المشهورة، من الروايات، وعليه العامة.
557 - لما روي عن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» ، رواه أبو داود وابن ماجه.(1/609)
558 - «وعن جرهد الأسلمي قال: مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلي بردة، وقد انكشف فخذي فقال: «غط فخذك، فإن الفخذ عورة» ، رواه أحمد، ومالك في الموطأ، وأبو داود، والترمذي وحسنه.
559 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بين السرة إلى الركبة عورة» ، رواه الدارقطني.
(والرواية الثانية) : أن السرة والركبة عورة أيضا.
(والثالثة) : - وإليها ميل أبي البركات - أن العورة الفرجان فقط.(1/610)
560 - لما روت عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان جالسا كاشفا عن فخذه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو وعلى حاله، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان، فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر، فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك. فقال: «يا عائشة ألا أستحيي من رجل والله إن الملائكة تستحيي منه؟» ، رواه أحمد، ومسلم، لكن قال: كاشفا [عن] فخذيه أو ساقيه.
561 - «وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر انحسر الإزار عن فخذه، وقال: حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أحمد والبخاري، وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط.
وقد تضمن كلام الخرقي أن ستر العورة شرط لصحة الصلاة.(1/611)
562 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يطوفن بالبيت عريان» ، متفق عليه، مع تشبيه الطواف بالصلاة.
563 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» .
564 - «وقوله (عليه [الصلاة] والسلام لما سأل: أتصلي المرأة في درع وخمار؟ فقال: «إذا كان واسعا يغطي ظهور قدميها» . ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يعفى عن يسير شيء من العورة، وكلامه بعد في عورة المرأة، أصرح من هذا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والمشهور والمختار للأصحاب أنه يعفى عن اليسير في جميع الصلاة، كما يعفى عن جميعها في الزمن اليسير.
565 - «لما صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للنساء: «لا ترفعن(1/612)
رؤوسكن حتى يستوي الرجال [جلوسا]- لا ترين عورات الرجال - من ضيق الأزر» ، والمرجع في اليسير إلى العرف، لأنه لم يرد فيه تقدير، والعرف أن المغلظة يفحش منها ما لا يفحش من غير المغلظة، والله أعلم.
قال: إذا كان على عاتقه شيء من اللباس.
ش: يعني [أنه] لا بد للرجل مع ستر عورته من أن يضع على عاتقه شيئا من اللباس فإجزاء الصلاة متوقف على كليهما.
566 - لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» ، رواه البخاري، ومسلم [وقال: عاتقيه] وهذا نهي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو ستر أحد المنكبين وأعرى الآخر أجزأه، ونص عليه أحمد في رواية مثنى بن جامع،(1/613)
وزعم القاضي وجماعة أنه لا يكفي ستر أحدهما، وخرج القاضي ومن وافقه من رواية مثنى صحة الصلاة مع كشف المنكبين، وأبى ذلك الشيخان، إجراء لنص أحمد على ظاهره، موافقة للدليل.
ومقتضى كلام الخرقي أن المشترط أن يضع شيئا من اللبس، ولا يشترط ستر جميعه، ولا يكفي وضع حبل ونحوه، وهذا اختيار الشيخين لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على عاقته منه شيء» ، وهذا على عاتقه منه شيء، واختار القاضي وجوب ستر جميعه، وعاكسه بعضهم فقال: يجزئ ولو حبل أو خيط.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين الفرض والنفل، وهو إحدى الروايتين، لعموم ما تقدم، والرواية الثانية يختص ذلك بالفرض، وهو المشهور، واختاره القاضي وغيره.
567 - «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد بعضه على عاتقه. رواه أبو داود»(1/614)
والغالب أن الثوب الواحد لا يسع لذلك مع ستر المنكب، ولأن النفل سومح [فيه] ما لم يسامح في الفرض، والله أعلم.
قال: ومن كان عليه ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه ذلك.
ش: لا إشكال في صحة الصلاة في الثوب الواحد إذا ستر العورة، وكان على العاتق منه شيء.
568 - وقد «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الثوب الواحد فقال: «أولكم ثوبان؟» متفق عليه.
569 - وفي الصحيح أيضا عن جابر بن عبد الله [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعا فالتحف به، وإذا كان ضيقا فاتزر به» .
570 - وفي الصحيح عنه أيضا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد متشحا به» .
وأشعر كلام الخرقي بأن الثوبين أفضل، وهو واضح، لأن سؤال الرجل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الثوب الواحد يدل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان من عادته الصلاة في ثوبين.(1/615)
571 - وفي بقية الحديث من [رواية] البخاري: ثم سأل رجل عمر فقال: إذا وسع الله فأوسعوا. والأفضل من الثوبين ما كان أسبغ، والله أعلم.
قال: ومن لم يقدر على ستر العورة صلى جالسا [يومئ إيماء] .
572 - ش: لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن نافع عن ابن عمر - في قوم انكسرت بهم مراكبهم في البحر، فخرجوا عراة - قال يصلون جلوسا، يومئون إيمان. ولم ينقل عن صحابي خلافه.
وظاهر كلام الخرقي أن الجلوس على طريق الوجوب، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب، قال: لا يصلون قياما، إذا ركعوا أو سجدوا بدت عوراتهم. لكن عامة الأصحاب على أن الجلوس على سبيل الاستحباب، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم، إذ الستر آكد من القيام والركوع والسجود،(1/616)
بدليل وجوبه على الراحلة، وفي النافلة، وخارج الصلاة، واشتراط دوامه في جميعها، وهذه الأركان آكد، للإجماع عليها، ولأن الركن من ذات العبادة، والشرط خارج عنها ولأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط، وإذا تقرر أن كل واحد منهما آكد من وجه، خيرناه بينهما، واستحببنا الستر، لأنه أحسن وأليق [بالأدب] وحمل الشيرازي وجها في المنفرد أنه يصلي قائما، قال: بناء على أن الستر كان لمعنى في غير العورة، وهو عن أعين الناس، وأما ما حكاه في المقنع من وجوب القيام، على رواية، فمنكر لا نعرفه، والله أعلم.
[كيفية صلاة العراة]
قال: فإن صلى جماعة عراة كان الإمام معهم في الصف. [وسطا] .
ش: الجماعة مشروعة للعراة كغيرهم، للعمومات، والسنة(1/617)
أن يقفوا صفا واحدا، والإمام وسطهم، لأنه أستر لهم، ولذلك كانت إمامة النساء في وسطهن.
قال: يومئون إيماء، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم، و [قد روي] عن أبي عبد الله [- رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى] أنهم يسجدون بالأرض.
ش: المختار لمن عدم السترة أن يومئ بالركوع والسجود لما تقدم، ويكون السجود أخفض من الركوع، محاكاة للبدل بالمبدل، ولو ركعوا وسجدوا جاز، كما تقدم في القيام، وعن أحمد، [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] أنه يلزمهم الركوع والسجود بالأرض، اختارها ابن عقيل، لئلا يسقط فرضين بتحصيل واحد، والله أعلم.
قال: ومن كان في ماء وطين أومأ إيماء.
ش: هذا [المشهور] المعروف من الروايتين، لأنه إن سجد على الماء فالماء لا قرار له، وإن سجد على الطين لحقته مشقة وضرر، وذلك منفي شرعا، وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته بالإيماء كذلك كما سيأتي إن شاء الله (والرواية الثانية) أن يسجد على متن الماء، محافظة على ما أمكن من(1/618)
السجود، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
وقد شمل كلام الخرقي الراكب، فإنه يصلي على مركوبه - إذا خشي الأذى بالمطر أو الوحل - بالإيماء، إن تعذر عليه الركوع والسجود على ظهر المركوب.
573 - «لما روى يعلى بن مرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق، ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته، وأصحابه على [ظهور] دوابهم، يومئون إيماء، يجعلون السجود أخفض من الركوع» . رواه الترمذي وغيره (وعنه) المنع.(1/619)
574 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صل قائما» ، وغيره وعلى هذا ينزل بالأرض ويصلي كما تقدم.
(تنبيه) : زعم أبو محمد أن المومئ للمطر لا يترك الاستقبال، وفيه نظر، بل ينبغي أنه إذا صلى على الراحلة فحكمه حكم المتطوع عليها، والله أعلم.
[عورة المرأة]
قال: وإذا انكشف من المرأة الحرة شيء سوى وجهها أعادت [الصلاة]
ش: لا خلاف أن للمرأة كشف وجهها في الصلاة لما سيأتي، وقد أطلق أحمد [رحمة الله] القول بأن جميعها عورة وهو محمول على ما عدا الوجه، أو على غير الصلاة، أما ما عدا الوجه، (فعنه) عورة إلا يديها، اختارها أبو البركات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] .(1/620)
575 - قال ابن عباس: وجهها وكفاها.
576 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغت المرأة المحيض فلا تكشف إلا وجهها ويدها» ، ذكره أحمد في رواية عبد الله، ورواه أبو داود، ولفظه: «إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا [وهذا» ] ، وأشار إلى وجهه وكفيه» .
577 - «وعن أم سلمة أنها سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتصلي المرأة في درع وخمار، [ليس] عليها إزار؟ قال: «إذا كان الدرع سابغا، يغطي ظهور قدميها» ، رواه أبو داود، (وعنه) : ويديها(1/621)
أيضا، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في التعليق، لأنه لا يلزم كشفها في الإحرام، أشبها سائر بدنها. هذا كله في الحرة البالغة، أما المراهقة فكالأمة على ما سيأتي إن شاء الله [تعالى] لمفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» ، والله أعلم.
[صلاة الأمة مكشوفة الرأس]
قال: وصلاة الأمة مكشوفة الرأس جائزة.
578 - ش: قال ابن المنذر: ثبت أن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال لأمة رآها مقنعة: اكشفي رأسك لا تتشبهي بالحرائر. ولقد بالغ بعض الأصحاب فقال: لو صلت مغطاة الرأس لم تصح صلاتها. أما ما عدا الرأس فقال ابن حامد وابن عقيل، وأبو الخطاب، والشيرازي، وغيرهم: عورتها كعورة الرجل. وظاهره إجراء روايتي الرجل فيها، وصرح بذلك ابن البنا في الخصال في النكاح، والحلواني، وزعم أبو البركات(1/622)
أن ما بين السرة والركبة منها عورة إجماعا، وكأنه حمل إطلاق الأصحاب على أنهم فرعوا على المذهب عندهم.
579 - وذلك لما روى أبو داود، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زوج أحدكم خادمه [عبده أو] أجيره، فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة» ، والمراد بالخادم الأمة، وقال القاضي في [الجامع] : ما عدا رأسها، وساقها، وما يظهر غالبا عورة، وحكاه أبو الحسين نصًّا عن أحمد، إذ الأصل كونها كالحرة لعموم «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» ، ونحوه، لكن ترك ذلك فيما يظهر غالبا، لمشقة احترازها عنه، وشهد له قصة عمر.
580 - وعن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : تصلي الأمة كما تخرج. رواه الأثرم.
581 - وفي الصحيحين أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أَوْلَمَ على صفية قال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو ما ملكت يمينه؟ فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي ما(1/623)
ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب. وقد انتضم من هذا أن [ظاهر] كلام الخرقي في أن ما عدا رأسها عورة لا قائل به فالظاهر أن الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إنما نص على الرأس لقصة عمر. وقد شمل كلام الخرقي المدبرة، والمعلق عتقها بصفة، والمكاتبة، وخرج من كلامه المعتق بعضها، فإنها كالحرة على الصحيح من الروايتين، والله أعلم.
قال: ويستحب لأم الولد أن تغطي رأسها في الصلاة.
ش: للخروج من الخلاف، إذ قد نقل عن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] فيها روايتان، (إحداهما) أن حكمها حكم الحرة اختاره أبو بكر، فيما نقله عنه أبو الحسين، احتياطا للعبادة، إذ قد وجد [فيها] سبب الحرية وجودا لازما، (والثانية) أن حكمها حكم الأمة، وهي اختيار الأكثرين؛ الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي وغيرهم، لأنها رقيقة لم يعتق منها شيء، أشبهت المكاتبة، والله أعلم.
[حكم من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى]
قال: ومن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، أتمها وقضى(1/624)
المذكورة، وأعاد [الصلاة] التي كان فيها إذا كان الوقت مبقى.
ش: قضاء الصلوات يجب عندنا على الفور حسب الإمكان، ما لم تلحقه مشقة.
582 - لما روى أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» ، متفق عليه.
583 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » ، رواه مسلم وغيره، وفي لفظ «فوقتها إذا ذكرها» .
584 - ويجب مرتبا لما «روي عن ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن المشركين شغلوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن،(1/625)
ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» . رواه أحمد، والنسائي، وفعله ورد مبينا للصلاة المؤداة وغيرها، ويعضده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
إذا تقرر هذا فإذا نسي أن عليه صلاة فلم يذكرها [مثلا] حتى شرع في أخرى - كأن ترك صلاة الظهر مثلا، ولم يذكرها حتى شرع في صلاة العصر - فالمشهور الذي عليه الخرقي وجمهور الأصحاب أن الترتيب لا يسقط، لإمكان اعتباره. (وعن) أحمد يسقط في المأموم خاصة، لئلا تفوت الجماعة في الفريضة المؤداة. واختار أبو البركات سقوطه رأسا.(1/626)
585 - لما روى ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نسي أحدكم صلاة، فذكرها وهو في صلاة مكتوبة، فليبدأ بالتي هو فيها، فإذا فرغ منها صلى التي نسي» ، [رواه الدارقطني] ولأن الحاضرة بالشروع فيها صارت كالمضيقة للوقت، بدليل تحريم الخروج منها لغير غرض. (فعلى هذا) يتم التي هو فيها وتجزئه، ثم يقضي الفائتة، (وعلى المذهب) ظاهر كلام الخرقي أنه يتمها، إماما كان أو مأموما، أو منفردا، والمنصوص عن أحمد أن الإمام يقطعها، معللا بأنهم مفترضون خلف متنفل، وإذا إن صحت صلاة المفترض خلف المتنفل أتمها إمام كغيره. (وعنه في المأموم والمنفرد روايات (أشهرها) : أنهما يتمونها نفلا إما ركعتين وإما أربعا، حذارا من بطلان العمل، وجمعا بين المصلحتين.
(والثانية) : يتمها المأموم دون المنفرد.
586 - لما روى الدارقطني عن ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نسي أحدكم صلاة، فذكرها وهو مع الإمام فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته فليصل [الصلاة](1/627)
التي نسي، ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإمام» . (والثالثة) : عكس الثانية: يتمها المنفرد دون المأموم، حكاها أبو محمد.
هذا كله بشرط سعة الوقت، كما صرح به الخرقي، أما إن ضاق الوقت فإن الترتيب يسقط كما سيأتي إن شاء الله [تعالى] ثم الأصحاب يشترطون بقاء قدر يسع الإتمام التي هو فيها، وقضاء الفائتة، ثم إعادة الحاضرة، وأبو البركات يقول: إنما يشترط ما يسع عقب الذكر للقضاء، ثم لفعل الحاضرة، إذ إتمام الأولى نفل، فلا يسقط بضيق الوقت عنه ترتيب واجب.(1/628)
ومقتضى كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] أنه لو لم يذكر حتى فرغ من الصلاة التي صلاها فإنها تصح وتجزئه، وهو المشهور من الروايتين.
587 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» الحديث (والثانية) : لا تجزئه، مراعاة للترتيب مطلقا، حكاها ابن عقيل.
588 - لما روي عن أبي جمعة حبيب بن سباع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال: «هل علم أحد منكم(1/629)
أني صليت العصر؟» قالوا: يا رسول الله ما صليتها. فأمر المؤذن فأقام فصلى العصر، ثم أعاد المغرب» . رواه أحمد، وقد ضعف، والله أعلم.
قال: فإن خشي فوات الوقت اعتقد وهو فيها أن لا يعيدها، وقد أجزأته، ويقضي التي عليه.
ش: كأن اعتقاد صيرورتها نفلا إذا ذكر وهو فيها صار لازما، فقال: إذا ضاق الوقت يعتقد أن لا يعيدها، وإلا فالشرط بقاء نيته، والأصل في سقوط الترتيب مع ضيق الوقت، سواء كان في صلاة، أو لم يكن.
589 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما التفريط في اليقظة، أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى» ، ولأن في الترتيب تفويتا(1/630)
للصلاتين، وفي تركه تحصيلا لإحداهما، فكان أولى، ولأن فعل الصلاة في وقتها فريضة، وتأخيرها عنه محرم إجماعا وأصل الترتيب في القضاء على الفور مختلف في وجوبهما، وإذا عند التزاحم مراعاة المجمع عليه أولى، وعلى هذا يقضي [إلى] أن يبقى من وقت الحاضرة بقد فعلها، فإذا يأتي بها، ولا تصح منه قبل ذلك. (وعن أحمد) رواية أخرى: لا يسقط الترتيب، بل تلزمه الموالاة في الفوائت قدر الطاقة، ولا تحسب له حاضرة ما دام عليه فائتة، اختارها الخلال وصاحبه، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نسي صلاة فليصليها إذا ذكرها» .
590 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا صلاة لمن عليه صلاة» إلا أن أحمد قال: لا أعرفه؛ وقد أنكر القاضي هذه الرواية، وحكى عن أحمد ما يدل على رجوعه عنها، وكذلك أبو حفص قال: إما أن يكون قولا قديما أو غلطا، (وعنه) رواية(1/631)
ثالثة: إن ضاق وقت الحاضرة عن قضاء كل الفوائت سقط ترتيبهن عليها، وكان له فعلها في أول الوقت. حكاها أبو حفص إذا التأخير عن أول الوقت لا تحصل به براءة الذمة بما فيها، فاغتنام التقديم أولى. والأول هو المشهور، اختاره القاضي وغيره، وعليه: لو خالف وصلى الفائتة إذا فهل يصح؟ فيه وجهان.
(تنبيه) : خشية خروج الوقت الاختياري كخشية خروج الوقت بالكلية، فإذا خشي الاصفرار فعل الحاضرة، والله أعلم.
[تأديب الولد على الطهارة والصلاة]
قال: ويؤدب الغلام على الطهارة والصلاة إذا تمت له عشر سنين.
591 - ش: لما روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» ، رواه أحمد، وأبو داود، وأمره بذلك واجب على الولي، نص عليه لظاهر الأمر.(1/632)
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الصلاة لا تجب عليه، وهو المشهور، المختار من الروايتين.
592 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ، الحديث.
والثانية: تجب على من بلغ عشرا. اختارها أبو بكر، لأنه معاقب إذًا. وهو دليل الوجوب، والله أعلم.
[سجود التلاوة]
[عدد سجدات التلاوة في القرآن]
قال: وسجود القرآن أربع عشرة [سجدة] .
ش: سجدة [في] الأعراف آخرها، وفي الرعد عند: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] (15) ، وفي النحل: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] (50) ، وفي سبحان: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] (109) ، وفي مريم: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] (58) ، وفي [أول] الحج: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] (18) ، وفي الفرقان: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] (60) ، وفي النمل: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] (26) ، وفي [الم] (تنزيل) السجدة: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] (15) ، وفي حم فصلت: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] (37) ،(1/633)
اختاره ابن أبي موسى، وقيل عند: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] (38) ، اختاره الأكثرون، فظاهر كلام أحمد التخيير بينهما، وفي آخر الحج: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] (77) ، وفي النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ، وفي الانشقاق: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] (21) ، وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] آخرها. فأما العشر الأول فبالإجماع، وأما ثانية الحج.
593 - فلما «روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: «نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» ، رواه أحمد وأبو داود، واحتج به أحمد في رواية عبد الله. وأما سجدة النجم.
594 - فلما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس» . رواه البخاري وغيره.
595 - «وعن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] فسجد فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخا أخذ كفا من حصباء أو(1/634)
تراب، فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا» . متفق عليه. وأما سجدة الانشقاق، و (اقرأ باسم ربك) .
596 - فلما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سجدنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] » . رواه مسلم وغيره.
وظاهر كلام الخرقي أن سجدة (ص) وهي عند: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] ، ليست من عزائم السجود، وهو المشهور، المختار من الروايتين.
597 - لما «روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ليست (ص) من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد فيها» . رواه البخاري وغيره.
598 - وعنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد في (ص) وقال: «سجدها داود توبة، وسجدناها شكرا» ، رواه النسائي، وعلى هذا إن(1/635)
سجد خارج الصلاة سجد تأسيا، وإن سجد في الصلاة ففي الجواز وجهان.
(والرواية الثانية) هي من عزائم السجود، يسجد لها في الصلاة وغيرها.
599 - لما «روى عمرو بن العاص أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان» . رواه أبو داود، وفيه ضعف، مع أنا نقول بموجبه لأنا نسميها سجدة، والله أعلم.
قال: في الحج منها اثنتان.
ش: قد تقدم هذا [والله أعلم] .
[شروط صحة سجود التلاوة]
قال: ولا يسجد إلا وهو طاهر.
ش: لأنه صلاة، فيدخل في عموم الأدلة المقتضية لذلك، ولأنه سجود(1/636)
أشبه سجود السهو، وحكمه في بقية [شرائط] الصلاة - من الستارة، واستقبال القبلة - حكم صلاة التطوع، والله أعلم.
[كيفية سجود التلاوة]
قال: ويكبر إذا سجد.
ش: يكبر إذا سجد، في صلاة كان أو غيرها، لعموم، «تحريمها التكبير» .
600 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه» ؛ رواه أبو داود.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يزيد على ذلك، لظاهر حديث ابن عمر، وقال غيره: يكبر إذا رفع، قياسا على سجود السهو والصلب، وغالى أبو الخطاب فقال: يكبر للإحرام أيضا.
قال: ويسلم إذا رفع.
ش: يجلس ويسلم على المشهور، المختار من الروايتين، لعموم: «تحليلها التسليم» ، (والثانية) : لا يسلم فيه، لأنه لم(1/637)
يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويكتفي بتسليمة واحدة عن يمينه، نص عليه، وعنه: بل اثنتان.
601 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان. قال: ولا [يجوز أن] يسجد في الأوقات التي لا يجوز أن يصلي فيها تطوعا.
ش: هذا فرع أن ذات السبب لا تفعل في وقت النهي، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
قال: ومن سجد فحسن، ومن ترك فلا شيء عليه.
ش: السجود للتلاوة سنة، لا يأثم تاركه على المشهور.
602 - لما «روى زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (والنجم) فلم يسجد فيها. رواه الجماعة» ، وفي لفظ للدارقطني: فلم يسجد منا أحد.(1/638)
603 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه البخاري، ومالك في الموطأ، وقال فيه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وهذا الذي قاله بمحضر من الصحابة، ولم ينكره أحد، فصار إجماعا، وعن أحمد ما يدل على وجوبه في الصلاة، والله أعلم.
[الحكم لو حضرت الصلاة والعشاء]
قال: وإذا حضرت الصلاة والعشاء بدئ بالعشاء.
604 - ش: لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء» متفق عليه.
605 - وعنها أيضا قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان» والمنع على سبيل الكراهة عند الأصحاب، فلو خالف وصلى صحت صلاته إجماعا، ولا بد في الكراهة أن تطلبه نفسه، أما إن لم تطلبه فلا كراهة، والله أعلم.(1/639)
[الحكم لو حضرت الصلاة وهو محتاج إلى الخلاء]
قال: وإذا حضرت الصلاة وهو محتاج إلى الخلاء بدأ بالخلاء [والله أعلم] .
ش: لحديث عائشة المتقدم.
606 - وعن عبد الله بن الأرقم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه، فإن خالف وصلى صحت صلاته، على المنصوص، والمختار للأكثرين، [إذ غايته] اشتغال سره، وهذا لا يمنع الصحة، كما لو كان له مال خشي تلفه، ونحو ذلك، وحملا للنص على الكراهة، ونقل عنه حرب يعيد، عملا بظاهر النص، وقال ابن أبي موسى: إن أشغل عن الصلاة، أو عن إتمامها أعاد في الظاهر من قوله، وظاهر كلام الخرقي أنه يبدأ بالعشاء والخلاء وإن خشي فوات الجماعة، وهو صحيح، لعموم ما تقدم، والله أعلم.(1/640)
[باب ما يبطل الصلاة إذا ترك عامدا أو ساهيا]
قال: باب ما يبطل الصلاة إذا ترك عامدا أو ساهيا
ش: يعرف من هذا الباب أركان الصلاة، وواجباتها، وسننها. [والله أعلم] .
قال: ومن ترك تكبيرة الإحرام، أو قراءة الفاتحة، وهو إمام أو منفرد، أو الركوع، أو الاعتدال بعد الركوع، أو السجود، أو الاعتدال بعد السجود، أو التشهد الأخير، أو السلام، بطلت صلاته، عامدا كان أو ساهيا.
ش: الصلاة تشتمل على ثلاثة أشياء: أركان، وواجبات، وسنن. وبدأ الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] بذكر الأركان لأنها أهم، وعدها ثمانية: تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع والاعتدال بعده، والسجود والاعتدال بعده، والتشهد الأخير، والسلام، وقد تقدم ذكر ذلك والدليل عليه.
607 - ويدل على أكثرها حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلم على النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] فقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل» فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] فقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل»(2/3)
ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق نبيا لا أحسن غيره فعلمني. قال: «إذا قمت [إلى] الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، وافعل ذلك في صلاتك كلها» متفق عليه.
وبقي على الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] القيام في الفريضة مع عدم العذر، فإنه ركن، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: «صل قائما» ، الحديث رواه البخاري وغيره، وقد يؤخذ من كلامه في صلاة المريض. (وبقي عليه) أيضا الجلوس للتشهد الأخير، (وبقي عليه) أيضا الطمأنينة في هذه الأفعال، الركوع، والاعتدال عنه، والسجود، والاعتدال عنه، فإنها فرض بلا نزاع، لحديث الأعرابي وقد تقدم، وقدر الطمأنينة أدنى سكون بين الخفض والرفع في وجه، وفي آخر - وقواه أبو البركات - بقدر الذكر الواجب فيه، وفائدة الخلاف لو نسي تسبيح الركوع والسجود، ونحو ذلك، واطمأن قدرا لا يتسع له، صحت صلاته على الأول دون الثاني، ولا بد من مراعاة ترتيب الأركان، بأن يأتي بالقيام، ثم الركوع، على ما تقدم، فبعضهم يعده ركنا،(2/4)
وبعضهم يقول: هو مقوم للأركان، لا تعتبر إلا به، كما أن قراءة الفاتحة ركن، ولا يعتبر إلا بترتيبها، والسجود ولا يعتبر إلا على الأعضاء السبعة، كما تقدم.
وقول الخرقي: أو قراءة الفاتحة وهو إمام أو منفرد. احترازا من المؤتم، فإن القراءة لا تجب عليه كما تقدم، وقوله: بطلت صلاته عامدا كان أو ساهيا. أما إذا ترك ذلك عمدا فواضح، وأما سهوا فإن ذكره في الصلاة قبل أن يشرع في قراءة ركعة أخرى أتي به وبما بعده، لأنه مرتب عليه، وبعد الأخذ في قراءة أخرى تصير عوضا عن الفائت ركنها، وتبطل تلك، وإن ذكره وقد سلم بطلت الصلاة على رأي أبي الخطاب، ومن كلام ابن أبي موسى: والمذهب - وهو المنصوص في رواية الجماعة - اختصاص البطلان بطول الفصل، ثم إن كان المتروك سلاما أتى به فحسب، وإن كان تشهدا أتى [به] وسلم، وإن كان غيرهما أتى بركعة تامة، والله أعلم.
قال: ومن ترك شيئا من التكبير غير تكبيرة الإحرام، أو التسبيح في الركوع، أو التسبيح في السجود، أو قول: سمع الله لمن حمده، أو قول: ربنا ولك الحمد. أو قول: رب اغفر لي، أو التشهد الأول، أو الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(2/5)
في التشهد الأخير، عامدا بطلت صلاته، ومن ترك شيئا منها ساهيا أتى بسجدتي السهو قد صحت صلاته [والله أعلم] .
ش: هذا النوع الثاني مما اشتملت الصلاة عليه، وهو الواجبات، وهو عبارة هنا عما أبطل الصلاة عمده دون سهوه، وهذا لدليل خاص دال عليه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى وإلا [فلا] فرق [بينا] عندنا بين الفرض والواجب على الصحيح، وقد تقدم ذكر هذه الواجبات، والخلاف فيها، ونشير هنا إلى دليل المذهب، أما التكبير غير التحريم.
608 - فلما روى أبو موسى الأشعري، في حديث له عن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: «فإذا كبر الإمام وركع فكبروا واركعوا، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا» رواه مسلم وغيره، وظاهر الأمر الوجوب.
609 - وروى رفاعة بن رافع، أن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال في قصة الرجل الذي أمره بإعادة الصلاة: «إنها لن تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، ثم يكبر الله، ويحمده ويمجده، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يكبر ويركع، حتى تطمئن مفاصله(2/6)
وتسترخي، ثم يقول: سمع الله لمن حمده. ثم يستوي قائما، حتى يقيم صلبه، ثم يكبر ويسجد، حتى يمكن وجهه، أو قال: جبهته، حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ويكبر فيرفع، حتى يستوي قاعدا على مقعدته، ويقيم صلبه، ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه، ويسترخي ويطمئن، فإذا لم يفعل هكذا لم تتم صلاته» ، رواه النسائي وأبو داود. والظاهر أن المراد بنفي التمام نفي الصحة، لأنه ذكره بيان لما تعاد منه الصلاة، وإنما سقط بالسهو.
610 - لما احتج به أحمد من أنه [صح] عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قام إلى ثالثة ناسيا، وسجد للسهو ولم يعد، وقد ترك بسهوه تكبيرة، مع التشهد، وجلسته.
وأما التسبيح في الركوع والسجود فللأمر به في حديث عقبة بن عامر المتقدم، ولقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة: 15](2/7)
فأخبر أنه لا يؤمن إلا من سجد إذا ذكر بالآيات، وسبح بحمد ربه، واستدل لذلك أيضا بقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] والمراد الصلاة، وذلك يدل على لزوم التسبيح فيها، كما في قَوْله تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2] فإنه يدل على وجوب القيام، وقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] يدل على وجوب القراءة، وفيه نظر، وإنما سقط بالسهو قياسا على تكبيرات الخفض. (وأما) قول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي. فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك، وواظب عليه، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد» ، وسقط بالسهو قياسا على التكبيرات. (وأما) التشهد الأول فلما تقدم في التشهد الأخير، وإنما قلنا بسقوطه هنا لأنه ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تركه، ولم يعد له، وحكم جلسته حكمه.
وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما تقدم من حديث كعب ابن عجرة، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] .
611 - وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ] رواه ابن ماجه والدارقطني.(2/8)
612 - وإنما سقط بالسهو لما روى فضالة بن عبيد، قال: «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، ولم يصل عليه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عجل هذا» ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم ليدع بعد بما شاء» رواه الترمذي وصححه، ولم يأمره بالإعادة، وكان جاهلا، والجاهل والناسي فيه سواء.
قال أبو البركات: وعد غير الخرقي مع ذلك نية الخروج، وبعضهم التعوذ والاستفتاح، وقد تقدم ذلك، وعد أبو(2/9)
محمد في المقنع والمغني التسليمة الثانية، في إحدى الروايتين، وفي الأخرى أنها سنة، وأبو الخطاب، وأبو البركات وغيرهما على الخلاف هل الثانية ركن أو سنة، بل المذهب عند أبي بكر، والقاضي والأكثرين أنها ركن، وقد أشعر كلام الخرقي بأن ما عدا ذلك سنة، والله سبحانه أعلم.
[باب سجود السهو]
قال:
باب سجدتي السهو
ش: لا إشكال في مشروعية ذلك في الجملة، والأحاديث مستفيضة بذلك.
قال: ومن سلم وقد بقي عليه شيء من صلاته أتى بما بقي عليه من صلاته وسلم، ثم [كبر و] سجد سجدتي السهو، ثم تشهد وسلم، لما روى أبو هريرة، وعمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعل ذلك.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم ودليله، وهو حديث أبي هريرة، وحديث عمران بن حصين.(2/10)
613 - أما حديث أبي هريرة ففي الصحيحين، «عن ابن سيرين، عنه، قال: صلى بنا رسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إحدى صلاتي العشي، فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي القوم رجل يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال «لم أنس، ولم تقصر» فقال: «أكما يقول ذو اليدين؟» فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم.»
614 - وأما حديث عمران فرواه مسلم وغيره، ولفظه: «أن رسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى العصر، فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله - وفي لفظ - فدخل الحجرة، فقام إليه رجل يقال له: «الخرباق» وكان في يده طول، فقال: يا رسول الله. فذكر له صنيعه، فخرج غضبان، يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال: «أصدق هذا؟» قالوا: نعم. فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم» .(2/11)
615 - وعن عمران بن حصين أيضا «، أن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى بهم فسهى، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم» . رواه أبو داود والترمذي.
وقول الخرقي: ومن سلم. أي ساهيا، إذ كلامه في السهو، لأنه لو فعل ذلك عامدا بطلت صلاته، وقوله: وقد بقي عليه شيء. يشمل القليل والكثير، وكذا أطلق أبو الخطاب، وأبو محمد، وغيرهما، وشرط أبو البركات أن يكون ذلك من نقص ركعة تامة فأكثر، أما لو كان النقص سجدة ونحوها فإنه يسجد له قبل السلام، وقد نص أحمد على ذلك، في رواية حرب، وهو موجب الدليل، لأن قاعدة أحمد أن السجود كله قبل السلام، إلا في هذين الموضعين(2/12)
لورود النص بهما، والنص إنما ورد في نقص ركعة تامة أو ركعتين، فإن كان الخرقي أراد الإطلاق فلعله يقول: لا فرق بين نقص ركعة وسجدة، فهو من باب لا فارق.
وقوله: أتى بما بقي عليه. مشعر بأن صلاته لا تبطل بالسلام، وهو صحيح إن كان سلامه ظنا منه أن صلاته قد انقضت، أما لو كان السلام من العشاء [يظن] أنها التراويح، أو من الظهر يظن أنها جمعة، أو فجر فائتة، فإن الأولى تبطل، ولا بناء، نص عليه، لاشتراط دوام النية ذكرا أو حكمه، وقد زالت باعتقاد صلاة أخرى.
وقوله: أتى بما بقي عليه. شرطه أن لا يطول الفصل، ولا يشترط البقاء في المسجد، نص أحمد على ذلك في رواية ابن منصور، محتجا بحديث عمران بن حصين المتقدم، وشرط أبو محمد أيضا أن لا ينتقض وضوءه، والذي ينبغي أن يكون حكم الحدث هنا حكم الحدث في الصلاة هل يبني معه، أو يستأنف، أو يفرق بين حدث البول والغائط، وغيرهما؟ على الخلاف، وقول الخرقي يشمل وإن دخل في صلاة أخرى،(2/13)
وهو المشهور عنه، فعلى هذا يبني ما لم يطل الفصل، وعنه: يستأنفها، كذا أطلق الرواية أبو البركات، وفي المغني اختصاص الرواية بما إذا كانت الثانية تطوعا، وقال الشيرازي: يجعل ما عمل في الثانية تماما للأولى.
(تنبيه) : يتشهد كالتشهد الأخير، قاله السامري، والله أعلم.
قال: ومن كان إماما فشك فلم يدر كم صلى، تحرى، فبنى على أكثر وهمه، ثم سجد [أيضا] بعد السلام، كما روى عبد الله بن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ش: إذا شك الإمام أو المنفرد في عدد الركعات، بنيا على اليقين، على إحدى الروايات، اختارها أبو بكر، والقاضي، وأبو الخطاب، وأبو البركات.
616 - لما روى عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقول: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر: واحدة صلى أم اثنتين؟ فليجعلها واحدة، وإن لم يدر: ثنتين صلى أو(2/14)
ثلاثا. فليجعلها اثنتين، وإن لم يدر: ثلاثا صلى أم أربعا. فليجعلها ثلاثا، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس، قبل أن يسلم سجدتين» رواه أحمد والترمذي وصححه. وروى ذلك من حديث أبي سعيد، رواه مسلم وغيره، ويحمل تحري الصواب في خبر عبد الله بن مسعود على استعمال اليقين، لأنه أحوط، فهو أقرب إلى الصواب (والرواية الثانية) يبنيان على غلبة ظنهما.
617 - لما روى ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين» متفق عليه، ويحمل ما تقدم على استواء الأمرين، فإنه لا خلاف إذا في البناء على اليقين.(2/15)
(والرواية الثالثة) يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالتحري لما جرى عليه السهو في حال إمامته، فحملناه على من كان مثل حاله، وحملنا النص باليقين على المنفرد، جمعا بين الأحاديث، والمعنى في ذلك أن الإمام يبعد غلطه، إذ وراءه من ينبهه، فمتى سكتوا عنه علم أنه على الصواب، بخلاف المنفرد، وهذه الرواية اختيار الخرقي، وأبي محمد، وقال: إنها المشهورة. أما المأموم فإنه يرجع إلى فعل الإمام والمأمومين، بناء على [أن] الإمام إذا سبح به المأمومون أنه يرجع إليهم، كذلك المأموم، وحيث قلنا بالبناء على غلبة الظن، فإن السجود له بعد السلام، لنص حديث عبد الله بن مسعود، والله أعلم.
قال: وما عدا ذلك من السهو فسجوده قبل السلام، مثل المنفرد إذا شك في صلاته فلم يدر كم صلى فبنى على اليقين، أو قام في موضع جلوس، أو جلس في موضع قيام، أو جهر في موضع تخافت، أو خافت في موضع جهر، أو صلى خمسا، أو ما عداه من السهو فكل ذلك يسجد له قبل السلام.
ش: ما عدا الصورتين المتقدمتين - وهو ما إذا سلم وقد بقي عليه شيء من صلاته، وما إذا كان إماما فبنى على غلبة(2/16)
ظنه، وقد تقدما مع دليلهما من صور سجود السهو، فإن السجود له قبل السلام، لما تقدم من حديث عبد الرحمن بن عوف، وعن أبي سعيد نحوه.
618 - وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما ترك التشهد الأول سجد له قبل أن يسلم.
619 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «إذا صلى أحدكم فلم يدر أزاد أم نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس، قبل أن يسلم» » وهذا يشمل كل سهو، وهو مقتضى القياس، خرج منه الصورتان المتقدمتان، لحديث أبي هريرة، وعمران بن حصين، قال أحمد: لولا ما جاء عنه - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكان السجود كله قبل السلام، لأنه من تمام الصلاة (وعن أحمد) رواية أخرى أن السجود كله قبل السلام، لما تقدم من حديث أبي هريرة، (وعنه) : ما(2/17)
كان من زيادة فهو بعد السلام، وما كان من نقص فهو قبله، والأول هو المذهب، وعلى رواية أن الإمام يبني على اليقين، فالسجود كله قبل السلام إلا في صورة، فيكون في المسألة أربع روايات.
وقول الخرقي: مثل المنفرد إذا شك فبنى على اليقين. قد تقدم ذلك، وأن المنفرد يبني على اليقين، على الصحيح بلا نزاع.
وقوله: أو قام في موضع جلوس. كما إذا قام عن التشهد الأول، أو عن الأخير، أو عن جلسة الفصل بين السجدتين، وقوله: أو جلس في موضع قيام. كما إذا جلس عقب الأولى أو الثالثة في الرباعية، نعم إن كان جلوسه يسيرا فلا [سجود عليه] . وقوله: أو جهر في موضع تخافت. كالجهر في الظهر ونحوها، أو خافت في موضع جهر، كأن خافت في الصبح وهو إمام، ونحو ذلك، وقد اختلف عن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] هل يسن السجود لهاتين الصورتين وما في معناهما من السنن.
620 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» أم الأولى تركه.(2/18)
621 - لأن أنسا [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] جهر في موضع تخافت فلم يسجد، ثم أبو محمد يخص الروايتين بالسنن القولية دون الفعلية، وأبو الخطاب وأبو البركات يجريانهما في جميع السنن.
وقوله: أو صلى خمسا. يعني إذا كان في رباعية، وكذا أربعا إذا كان في ثلاثية، وثلاثا إذا كان في ثنائية، ولهذه الصور التي ذكره الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] تفاريع وتقاسيم تحتاج إلى بسط وتطويل.
(تنبيه) قال أبو البركات: الخلاف في محل السجود، وهل هو قبل السلام أو بعده في الاستحباب، أما الجواز فإنه لا خلاف فيه، ذكره القاضي، وأبو الخطاب في خلافيهما، وظاهر كلام أبي محمد وأكثر الأصحاب خلاف هذا، وفي المستوعب فيما أظن أو غيره: وكل السهو يوجب السجود قبل السلام، إلا في موضعين، وقد حكى ابن تميم المسألة على وجهين، والله أعلم.(2/19)
كلام الخرقي، لما تقدم من حديث عمران بن حصين، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد للسهو بعد أن دخل الحجرة، وتلخص أربعة أقوال، اشتراط المسجدية، وقرب الفصل، وإلغاؤهما، واشتراط الأول دون الثاني، وعكسه.
وقول الخرقي: كبر. وكذلك يكبر في الرفع من السجدتين، لأن في حديث أبي هريرة: كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، [ثم رفع رأسه ثم سجد مثل سجوده أو أطول] .
وقوله: وتشهد وسلم. قد تقدم التشهد في حديث عمران بن الحصين، وتقدم السلام في ما تقدم من الأحاديث، ويسلم تسليمتين، والله أعلم.
قال: وإذا نسي أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد، سجد سجدة تصح له ركعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله، والرواية الأخرى، قال: كأن هذا يلعب، يبتدئ الصلاة من أولها.
ش: الرواية الأولى هي المشهورة، وهي مبنية على أصل لنا،(2/20)
[نسي أن عليه سجود سهو وسلم]
قال: وإذا نسي أن عليه سجود سهو وسلم، كبر وسجد سجدتي السهو وتشهد وسلم، ما كان في المسجد وإن تكلم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام.
ش: إذا نسي سجود السهو، فلم يذكر حتى سلم فإنه يسجد لذلك بعد السلام، لما سيأتي من الأحاديث، لكن بشرط بقائه في المسجد، إذ حكم المسجد حكم البقعة الواحدة، فكأنه باق في مصلاه، ولهذا لو اقتدى بالإمام في المسجد جاز، وإن لم تتصل الصفوف، والخارج عنه بخلافه، ولا يشترط ترك الكلام.
622 - لما استدل به الخرقي، وهو لفظ رواية ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام» . رواه أحمد ومسلم.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط عدم طول الفصل، والمذهب اشتراطه، لأن سجود السهو تكملة للصلاة، فلم يجز بناؤه عليها مع طول الفصل، كسائر أفعالها بعضها على بعض، وكما لو سلم من نقص ركعة، ولم يذكر حتى طال الزمان، فإنه لا يبني، كذلك هنا، (وعن أحمد) أنه يسجد وإن خرج وبعد، لأنه جبران بعد التحلل من العبادة، فجاز وإن طال الزمان كجبران الحج، واختار أبو البركات اعتبار قرب الفصل، وإلغاء البقاء في المسجد، عكس ظاهر(2/21)
وهو أن من ترك ركنا من ركعة، فلم يذكره حتى شرع في قراءة ركعة أخرى، فإن المنسي ركنها تلغو، وتصير التي شرع في قراءتها أولاه، ففي هذه الصورة إذا ترك سجدة من الأولى، فبشروعه في قراءة الثانية بطلت، وصارت الثانية أولاه، ثم لما ترك من الثانية سجدة، وشرع في قراءة الثالثة، بطلت الثانية أيضا، وصارت الثالثة أولاه، ثم لما ترك من الثالثة سجدة، وشرع في قراءة الرابعة بطلت الثالثة أيضا، وصارت الرابعة أولاه، ثم لما ترك من الرابعة سجدة وذكر [وهو] في التشهد، فإنه يسجد سجدة، لعدم المقتضي لبطلان الرابعة، وإذا تصح له ركعة، ويأتي بثلاث (والرواية الثانية) تبطل الصلاة رأسا، وقد علله أحمد بأن هذا كان يلعب، لحصول عمل كثير ملغى في صلاته.
وقول الخرقي: وذكر وهو في التشهد. يخرج ما إذا ذكر بعد السلام، فإن ابن عقيل قال: تبطل صلاته. وكذلك قال أبو محمد، زاعما أن أحمد نص على ذلك، في رواية الأثرم. وقال أبو البركات: إنما يستقيم قول ابن عقيل على قول أبي الخطاب في من ترك ركنا فلم يذكره حتى سلم، أن صلاته تبطل، فأما على منصوص أحمد في البناء إذا ذكر قبل أن يطول الفصل، فإنه يصنع كما يصنع إذا ذكر [وهو] في التشهد. (قلت) : وقياس المذهب قول ابن عقيل، لأن من(2/22)
أصلنا أن من ترك ركنا من ركعة فلم يذكره حتى سلم، أنه كمن ترك ركعة، وهنا الفرض أنه لم يذكر إلا بعد السلام، وإذا كان كمن ترك ركعة، والحاصل له من الصلاة ركعة، فتبطل الصلاة رأسا، والله أعلم.
[ليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه]
قال: وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه.
ش: هذا إجماع حكاه إسحاق بن راهويه.
623 - ويشهد له قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا» ، وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما سجد لترك التشهد الأول سجد الناس معه.
624 - ولما تكلم معاوية بن الحكم خلفه جاهلا لم يأمره بسجود.(2/23)
625 - وقد روى الدارقطني، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سهى فعليه وعلى من خلفه السهو» ، إلا أن إسناده ضعيف.
وظاهر كلام الخرقي أن المسبوق يسجد لسهو إمامه، وإن كان سهوه في غير ما أدركه فيه، وهو صحيح، لعموم ما تقدم، ولأن صلاته تنقص بمتابعة إمام في صلاة ناقصة.
ومقتضى كلام الخرقي أن الإمام سهى ولم يسجد أن المأموم لا يسجد، وهو إحدى الروايتين واختاره أبو بكر وأبو البركات، لأن المأموم إنما سجد تبعا للإمام، فإذا لم يسجد الإمام لم يسجد المأموم، لعدم المقتضي. (والرواية الثانية) : يسجد إن يئس ظاهرا من سجود إمامه، اختارها القاضي في التعليق، وفي الروايتين، وابن عقيل، إذ(2/24)
صلاته نقصت بنقص صلاة إمامه، فلزمه جبرانها، كما لو انفرد عن إمامه لعذر، قال أبو البركات: ومحل الروايتين إذا ترك الإمام السجود سهوا، أما إن تركه عمدا، وهو مما محله قبل السلام، فإن صلاته تبطل، على ظاهر المذهب، وهل تبطل صلاة من خلفه على روايتين، نعم إن تركه عمدا لاعتقاده عدم وجوبه، فهو كتركه سهوا عند أبي محمد، والظاهر أنه يخرج على ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه، [والله أعلم] .
قال: ومن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته، إلا الإمام خاصة، فإنه إذا تكلم لمصلحة الصلاة لم تبطل صلاته [والله أعلم] .
ش: إذا تكلم عمدا - وهو من يعلم أنه في صلاة، وأن الكلام محرم لغير مصلحة الصلاة - بطلت صلاته بالإجماع، قاله ابن المنذر، وإن تكلم عمدا لمصلحتها فروايات، أشهرها - واختارها الخلال، وصاحبه، والقاضي، وأبو الحسين، والأكثرون - البطلان مطلقا.(2/25)
626 - لما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.» متفق عليه، وللترمذي فيه [قال] : «كنا نتكلم خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة» . وزيد مدني، وهو يدل على أن نسخ الكلام كان بالمدينة، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» . (والثانية) : عدم البطلان مطلقا، لما تقدم في حديث أبي هريرة من قصة ذي اليدين، وفيها [في] رواية متفق عليها، لما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لم أنس، ولم تقصر» قال: بلى قد نسيت يا رسول الله. فتكلم ذو اليدين بعد ما علم النسخ، بكلام ليس بجواب سؤال، وفي رواية لمسلم، قال: بينما أنا أصلي. وهذا يدل على أن القصة كانت بحضرته، بعد إسلامه، [وإسلامه] كان(2/26)
عام فتح خيبر، وتحريم الكلام كان قريبا من الهجرة قبلها، في قول أبي حاتم بن حبان أو بعدها بقليل، وأيما كان فإسلام أبي هريرة بعد ذلك بسنين. (والثالثة) تبطل إلا صلاة الإمام خاصة، اختارها الخرقي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكلم وكان إماما، فتأسينا به، وبقينا في المأموم على عمومات النهي، إذ إلحاقه بذي اليدين متعذر، لظنه النسخ في وقت يحتمله، وغيره تكلم مجيبا له [- عَلَيْهِ السَّلَامُ -] وإجابته واجبة حتى في الصلاة.
627 - وروى البخاري «عن أبي سعيد بن المعلى، قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم أجبه، ثم أتيته، وقلت: يا رسول الله، كنت أصلي. فقال: «ألم يقل الله [سبحانه] : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] » ثم بعض الأصحاب يخص البطلان بمن ظن تمام صلاته، كمن(2/27)
سلم عن نقصان، ثم تكلم في شأن الصلاة، لمورد النص، وهو اختيار أبي محمد، والقاضي يجعل الخلاف مطلقا، وهو اختيار أبي البركات، لأن الحاجة إلى الكلام هنا قد تكون أشد، كإمام نسي القراءة ونحوها، فإنه يحتاج أن يأتي بركعة، فلا بد له من إعلام المأمومين.
وإن تكلم [سهوا] فروايات أيضا، أشهرها - وهو اختيار ابن أبي موسى، والقاضي وغيرهما - البطلان لعمومات النهي، وكما في العقود المنهي عنها، الملامسة، والمنابذة، ونكاح المرأة على عمتها، ونحو ذلك، (والثانية) : عدم البطلان، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكلم معتقدا أنه ليس في صلاة، وكذلك أصحابه، لظنهم النسخ، فكان كلامهم اعتقادا منهم لإباحته وإلا لما أقرهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك (والثالثة) : إن كان لمصلحة الصلاة لم تبطل، وإلا بطلت، اختاره [أبو البركات] لأن كلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكلام أصحابه جمع الأمرين، فيبقى فيما(2/28)
سواه على قضية عموم التحريم والفساد، ثم هل شرط مالا يبطل كونه يسيرا، وهو اختيار الشيخين، والقاضي في المجرد، زاعما أنه رواية واحدة، أو لا يشترط، وهو اختيار القاضي في الجامع الكبير، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد؟ وجهان، [والله أعلم] .
[باب الصلاة بالنجاسة وغير ذلك]
قال: وإذا لم تكن ثيابه طاهرة، وموضع صلاته طاهرا أعاد.
ش: اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة في الجملة.
628 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنزهوا من البول» وقوله في حديث أسماء: «ثم اغسليه ثم صلي فيه» .
629 - وفي حديث النعلين: «فإن رأى فيهما خبثا فليمسحه، ثم ليصل فيهما» .(2/29)
630 - وعن جابر بن سمرة قال: «سمعت رجلا يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ فقال: «نعم، إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله» رواه أحمد، وابن ماجه. وقال ابن المنذر: «ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» والطيبة الطاهرة، والتقييد يقتضي(2/30)
الاختصاص، وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أي اغسل.
إذا تقرر هذا فيجب اجتناب النجاسة في ثوبه، وموضع صلاته، وكذلك بدنه بطريق الأولى، وكذلك يجتنب حملها، أو حمل ما يلاقيها، وقال ابن عقيل - فيمن [ألصق ثوبه إلى نجاسة يابسة، على ثوب إنسان بجنبه -: لا تبطل صلاته، وإن] لاقاها ثوبه إذا سجد فاحتمالان، قال أبو البركات: والصحيح البطلان، على ظاهر كلام القاضي، وأبي الخطاب، والله أعلم.
[الصلاة بالمقبرة أو الحش أو الحمام أو أعطان الإبل ونحوها]
قال: وكذلك إن صلى بالمقبرة، أو الحش، أو الحمام، أو أعطان الإبل أعاد.
ش: المشهور من المذهب أن الصلاة في هذه المواضع محرمة، فلا تجزئه.
631 - لما روى أبو سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة، والحمام» رواه الخمسة إلا النسائي.(2/31)
632 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل» رواه أحمد، والترمذي، وصححه.
633 - وعن عبد الله بن المغفل، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين» رواه أحمد وغيره، وإذا منع من الصلاة في المقبرة فالحش أولى، لأن كونه مظنة للنجاسة أظهر.
634 - وقد صح عن الصحابة كراهة الصلاة إليه، فالصلاة فيه أولى بالمنع. (وعن أحمد) : تكره وتصح.(2/32)
635 - لما روى جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته» متفق عليه.
636 - ورأى عمر أنسا يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر. ولم يأمره بالإعادة، ذكره البخاري في صحيحه، (وعنه) إن علم النهي لم تصح، وإلا صحت، إناطة بالعذر، وألحق عامة الأصحاب بهذه المواضع المجزرة والمزبلة، ومحجة الطريق.
637 - لما روي عن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها: ظاهر بيت الله، [والمقبرة] ، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق» رواه ابن ماجه، وروي أيضا عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(2/33)
وقال الترمذي: إنه أشبه وأصح.
وظاهر كلام الخرقي صحة الصلاة في هذه المواضع، وهو اختيار أبي محمد.
«تنبيه» : لا فرق في المقبرة بين الحديثة والعتيقة، وبين المنبوشة وغيرها، وشرط أبو محمد أن يكون فيها ثلاثة قبور وأزيد، أما لو كان فيها قبر أو قبران فإن الصلاة تصح فيها، (والحش) المرحاض، ولا فرق فيه بين موضع التغوط وغيره، (وأعطان الإبل) هي التي تقيم فيها، وتأوي إليها، نص عليه أحمد.(2/34)
638 - لأن في بعض ألفاظ الحديث: أنصلي في مبارك الإبل؟ وقيل: مواضع اجتماعها عند المصدر من المنهل، ولا فرق في الحمام بين مسلخه وجوانبه، لشمول الاسم لذلك، أما الأتون فلا يصلى فيه، لكونه مزبلة. (والمجزرة) الموضع المعد للذبح، ولا فرق بين البقعة الطاهرة منه والنجسة، وكذلك لا فرق في المزبلة أن يرمي [فيها] زبالة طاهرة أو نجسة. (ومحجة الطريق) هو الطريق الذي تسلكه المارة،(2/35)
نعم إن كثر الجمع، واتصلت الصفوف، صحت الصلاة فيه للحاجة، أما الصلاة على ما علا عن جادة المسافر يمنة أو يسرة، فتصح الصلاة فيه [للحاجة] ولا تكره، لأنه ليس بمحجة.
والنهي عن الصلاة في هذه المواضع تعبدي عند الأكثرين، وقيل: بل معلل بكونها مظنة للنجاسات والقاذورات، لعدم صيانتها عن ذلك غالبا، فعلى الأول لا تصح الصلاة في أسطحة هذه المواضع، إذ الهواء يتبع القرار، بدليل تبعه له في مطلق البيع، وتصح على الثاني، والله أعلم.
[حكم من صلى وفي ثوبه نجاسة]
قال: وإن صلى وفي ثوبه نجاسة وإن قلت أعاد.
ش: لعموم ما تقدم، وإنما نص الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] على هذه المسألة، لينبه على مخالفة مذهب الغير، ولما يستثنى منه، وهو قوله:
إلا أن يكون ذلك دما أو قيحا يسيرا، مما لا يفحش في القلب.
639 - ش: لأن ذلك يروى عن جماعة من الصحابة، قال أحمد: جماعة من الصحابة تكلموا فيه.(2/36)
640 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قد كان يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض، فإن أصابها شيء من دمها بلته بريقها، ثم قصعته بريقها. رواه أبو داود، والريق لا يطهره، ومثل هذا لا يخفى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والقيح ونحوه بمنزلة الدم، قال أحمد: هو أسهل من الدم.
واختلف في حد اليسير اختلافا كثيرا، والمشهور أنه ما يفحش في القلب، والظاهر من قول الخرقي [أنه] ما يفحش في قلب كل إنسان بحسبه، وهو اختيار الخلال، وقال: إنه الذي استقر عليه قوله، وإليه ميل الشيخين في كتابيهما الكبيرين، وقال ابن عقيل وأبو البركات في محرره: إنه ما يفحش في نفوس متوسطي الناس، فلا عبرة بالقصابين، ولا(2/37)
المتوسوسين.
وكلام الخرقي يشمل كل دم، والعفو مختص بدم الطاهر، وهو واضح، وكلامه شامل لدم الحيض، وهو أحد الوجهين، وبه قطع أبو محمد، (والثاني) : لا يعفى عن دم الحيض مطلقا، اختاره أبو البركات، وكذلك الوجهان في الدم الخارج من السبيل، والله أعلم.
قال: وإذا خفي عليه] موضع النجاسة من الثوب استطهر، حتى يتيقن أن الغسل قد أتى على النجاسة.
ش: لأنه قد تيقن نجاسة الثوب، فلا بد من غسل ما يتيقن معه طهارته، إذ اليقين لا يزيله إلا يقين مثله، وصار هذا كمن تيقن الطهارة، وشك في الحدث، أو بالعكس، فلو وقعت النجاسة في أحد الكمين، أو أحد الثوبين، ونحو ذلك، ولم يعلم عينه، لم يحكم بطهارتهما إلا بغسلهما.
وتقييد الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] بالثوب احترازا مما إذا خفي موضع النجاسة بفضاء واسع، ونحو ذلك، فإنه يتحرى،(2/38)
ويصلي حيث شاء، دفعا للحرج والمشقة، [والله أعلم] .
[بول الآدمي وبول الحيوان غير مأكول اللحم]
قال: وما خرج من الإنسان أو البهيمة التي لا يؤكل لحمها، من بول أو غيره فهو نجس.
ش: الخارج من الإنسان ثلاثة [أقسام] :
(طاهر) بلا نزاع، وهو الدمع، والعرق والريق والمخاط، والبصاق.
641 - وفي الصحيح «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس فقال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخع [أمامه؟ أيحب أن يستقبل فيتنخع] في وجهه، فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، أو تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا» ووصف القاسم، فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه ببعض.
(ونجس) بلا نزاع، وهو البول [والغائط] والودي والدم وما في معناه، والقيء، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنزهوا من البول» . وقال: «صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء» ، وقال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه(2/39)
القاذورات» وقد حكى بعضهم الإجماع على نجاسة البول. (ومختلف فيه) وهو المني، وسيأتي إن شاء الله تعالى، والمذي لتردده بين البول - لكونه لا يخلق منه آدمي - والمني [لكونه ناشئا عن الشهوة، وبلغم المعدة، لتردده بين القيء ونخامة الرأس] .
وما عدا الآدمي على ضربين: مأكول، وغيره. (فالمأكول) بوله وروثه طاهر، على الصحيح المشهور من الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي.
642 - لأنه أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل ولم يأمرهم بغسل أفواههم، وأباح الصلاة في مرابض الغنم. (وعنه) نجس، لعموم «تنزهوا من البول» ونحوه، وحكم منيه،(2/40)
وقيئه حكم بوله، أما عرقه، ودمعه، وريقه، ولبنه فطاهر بلا نزاع، وعكسه دمه، وما تولد منه نجس بلا نزاع. (وغير المأكول) على ثلاثة أضرب: (نجس) بلا نزاع، وهو الكلب، والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، فجميع فضلاته نجسة بلا ريب. (ومختلف فيه) وهو البغل، والحمار، وسباع البهائم وجوارح الطير، فإن حكم بنجاستها فهي كالكلب والخنزير، وإن حكم بطهارتها فكالآدمي. (وطاهر) بلا نزاع، وهو الهر وما دونها في الخلقة. وما لا نفس له سائلة، فالهر وما دونها في الخلقة حكم الخارج [منها حكم الخارج] من الآدمي، إلا منيه فإنه نحبس، وما لا نفس له سائلة الخارج منه طاهر.
وإذ قد علمت هذا فكلام الخرقي إن حمل على عمومه في أن كل خارج من الإنسان أو البهيمة التي لا يؤكل لحمها نجس، وردت عليه صور كثيرة قد تقدمت، وإن حمل على أنه عنى بالخارج: الخارج من السبيلين - كما فسره أبو محمد -(2/41)
فاتته أحكام كثيرة مع أنه يرد عليه الخارج من سبيل ما لا نفس له سائلة، وقد يقال: مراده العموم، وسلم له في الكلب والخنزير، وما تولد منهما، والبغل والحمار، وسباع البهائم والطير، على المذهب. وأما الهرة فهو قد استثنى سؤرها، ولا شك أن عرقها في معناه، أما لبنها فأظن في نجاسته خلاف، فلعله اختار النجاسة، وأما الآدمي فيرد عليه سؤره، وعرقه، ولبنه، ومخاطه ولعله ترك التنبيه على طهارة ذلك لوضوحه، والله أعلم.
[بول الغلام]
قال: إلا بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، فإنه يرش عليه الماء.
ش: ظاهر هذا أن بول الغلام طاهر، وأنه يرش عليه الماء تعبدا [للأثر] ، وحكي هذا عن أبي إسحاق بن شاقلا، والمشهور المعروف في المذهب نجاسته لعموم الأدلة الدالة على نجاسة البول، وإنما اكتفي برشه وهو نضحه، بحيث يغمر، ولا يشترط انفصال الماء عنه، ولا تجفيفه.(2/42)
643 - لما روت عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] ، قالت: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه بوله» - ولمسلم - «فأتبعه بوله، ولم يغسله» .
والاستثناء [في كلام الخرقي] ، قال أبو محمد: [قيل] بمعنى «لكن» والأحسن أنه استثناء من مقدر، والتقدير: وما خرج من الإنسان يجب غسله إلا بول الغلام، [فالاستثناء من قوله: يجب غسله. وقرينة هذا التقدير قوله بالرش في بول الغلام] .
وتقييد الخرقي بالغلام ليخرج الخنثى والأنثى، إذ الرخصة إنما وردت في الغلام، والحكمة فيه أن العرب كانوا يكثرون حمل الذكر، فلو كلفوا بالغسل لأفضى ذلك إلى حرج ومشقة، بخلاف الأنثى فإنهم لم يكونوا يعتادون حملها، أو أن بول الغلام يظهر بقوة فينتشر ويعم الحاضرين، بخلاف بول الأنثى، فإنه لا يتجاوز محله.
644 - وفي المسند، والترمذي وحسنه، عن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بول الغلام الرضيع ينضح، وبول الجارية يغسل» ، قال قتادة: هذا ما لم يطعما، فإذا طعما غسل بولهما.(2/43)
وقوله: لم يأكل الطعام. احترازا مما إذا أكل الطعام، والطعام الذي يترتب عليه الغسل الذي يأكله تغذيا واشتهاء، فلا عبرة بلعقة العسل، ونحو ذلك، والله أعلم.
[طهارة المني]
قال: والمني طاهر، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه كالدم.
ش: المشهور المعروف في المذهب أن المني طاهر.
645 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فركا] فيصلي فيه» ، ولو كان نجسا لما أجزأ فركه، كالودي، والمذي.(2/44)
646 - ولأحمد عنها، «قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه» .
647 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المني يصيب الثوب، فقال: «إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة» رواه الدارقطني، وروي موقوفا على ابن عباس، (وعن أحمد) رواية أخرى أنه نجس، لأنه يشترك مع البول في مخرجه، وعلى هذا فيجزئ فرك يابسه لمكان النص.
648 - وفي الدارقطني، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يابسا، وأغسله إذا كان رطبا» ، لكن قال أحمد: إنما يجزئ الفرك في الرجل دون(2/45)
المرأة، لأن النص إنما ورد فيه، ولا يحسن إلحاق المرأة به، إذ مني الرجل يذهب غالبه بالفرك لغلظه، بخلاف مني المرأة لرقته، وهل يعفى عن يسيره؟ فيه روايتان، والعفو اختيار الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجعله كالدم، وهو ظاهر النص، والله أعلم.
[كيفية تطهير الأرض المتنجسة]
قال: والبولة على الأرض يطهرها دلو من الماء.
ش: المذهب المشهور - المختار للشيخين وغيرهما - أن الأرض تطهر إذا عمت بالماء، ولم يبق للنجاسة أثر، وإن لم ينفصل الماء.
649 - لما «روى أنس [بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: بينما نحن في المسجد، مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مه مه. قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزرموه [دعوه] » فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعاه، ثم قال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه» ، متفق عليه، واللفظ لمسلم. (وعن أحمد) رواية(2/46)
أخرى أن النجاسة إذا كانت قائمة، لم تنشفها الأرض لم تطهر إلا بشرط الانفصال، ويكون المنفصل نجسا، اختاره أبو بكر، والقاضي، وظاهر الخبر خلاف ذلك.
وقول الخرقي: دلو من ماء. اتبع فيه الحديث، وإلا فالمقصود ذهاب النجاسة، وكذلك تقييده بالبول، وخرج بذكر الماء الشمس والريح، والاستحالة، فإنها لا تطهر، والله أعلم.
قال: وإذا نسي فصلى بهم أعاد وحده. [والله أعلم] .
650 - ش: لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بالناس الصبح، ثم خرج إلى الجرف، فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلاما، فأعاد ولم يعد الناس، رواه مالك في الموطأ وغيره.
651 - وكذلك [روي] عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.(2/47)
652 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: إذا صلى الجنب بالقوم فأتم بهم الصلاة آمره أن يغتسل ويعيد، ولا آمرهم أن يعيدوا. وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر فتنزل منزلة الإجماع، والمعنى في ذلك أن الجنابة مما يخفى على المأمومين، ويتعذر عليهم معرفتها، ويقع كثيرا فصح الاقتداء معها، بخلاف الستارة ونحوها لظهورها، وبخلاف ترك القراءة ونحوها سهوا لندرة ذلك، وحكى أبو الخطاب في الانتصار رواية [أخرى] بإعادة المأمومين كالإمام، قياسا على بقية الشروط، والأول المذهب. وشرط المسألة أن لا يعلم الإمام ولا المأمومون [بالحدث] إلا بعد الفراغ، فإن علم الإمام والمأمومون في الصلاة بطلت وفسدت صلاتهم، واستأنفوا، نص عليه، وقيل عنه فيما إذا علم المأمومون أنهم يبنون، ولو علم بعض المأمومين دون بعض، اختص البطلان بالعالم عند أبي محمد، والمنصوص [أن] البطلان يعم الجميع.
وتقييد الخرقي الحكم بالجنب [يحتمل لاختصاص الحكم(2/48)
به، ويحتمل لأن قضاء الصحابة ورد به، وقد ألحق الأصحاب بالجنب] المحدث الحدث الأصغر.
653 - وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وألحق أبو محمد النجاسة بذلك، إن قيل ببطلان الصلاة بها مع السهو، نظرا إلى أن جميع ذلك يخفى على المأمومين، والله أعلم.
[باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها]
قال: ويقضي الفوائت من الصلوات الفرض، ويركع للطواف، ويصلي على الجنائز، ويصلي إذا كان في المسجد وأقيمت الصلاة وقد كان صلى، في كل وقت نهى عن الصلاة فيه، وهو ما بعده الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس.
ش: المعروف المشهور في المذهب أن أوقات النهي خمسة، بعد طلوع الفجر، حتى تطلع الشمس، وبعد الطلوع، حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تزول، وبعد العصر حتى تشرع في الغروب، وإذا شرعت [في الغروب] ، حتى تتكامل.(2/49)
654 - لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد الفجر، حتى تطلع الشمس، وبعد العصر، حتى تغرب الشمس» .
655 - وعن أبي هريرة مثله.
656 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد [صلاة] الصبح حتى تطلع الشمس] » متفق عليهن.
657 - «وعن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة. قال: «صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء [فصل] فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار» رواه أحمد ومسلم.
658 - ولأحمد من «حديث كعب بن مرة، أو مرة بن كعب السلمي،(2/50)
قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الليل أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر، ثم الصلاة مقبولة حتى يصبح الصبح، ثم لا صلاة حتى تطلع الشمس، وترتفع قيد رمح أو رمحين» مختصر.
659 - «وعن عقبة بن عامر، قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس بازغة، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف للغروب حتى تغرب» ، رواه مسلم وغيره.(2/51)
وظاهر كلام الخرقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أوقات النهي ثلاثة، بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب [الشمس] ، وهذا الوقت يشتمل على وقتين كما تقدم، ولعله اعتمد في ذلك على أحاديث عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد المتفق عليهن، فإن المذكور فيهن ذلك، لكن قد صح النهي - من رواية مسلم وغيره - عن الصلاة بعد الطلوع حتى ترتفع، ومن رواية عمرو بن عبسة، وعقبة بن عامر، ويحتمل أنه عبر عن الارتفاع بالطلوع لاتصاله به، فإذا أسقط وقت الزوال لحديث ابن عمر.
660 - لأن ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون. لا أنهى أحدا يصلي بليل أو نهار ما شاء، غير أن لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها. رواه البخاري.(2/52)
والمذهب المعمول عليه الأول، لحديث عقبة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] .
إذا تقرر هذا فيستثنى من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات أمور. (منها) قضاء ما عليه من الفوائت المفروضات [بلا نزاع] .
661 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» ثم تلا: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » وهذا وإن كان عاما من وجه، خاصا [من وجه] ، كما أن أحاديث النهي كذلك، لكن يرجح عليها، لما فيه من الاحتياط لأداء الواجب، وبراءة الذمة، ويلحق بذلك المنذورات، على أشهر الروايتين لاشتراكهما في الوجوب، (ومنها) ركعتا الطواف.
662 - لما روي «عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بني عبد المطلب - أو يا بني عبد مناف - لا تمنعوا أحدا يطوف بالبيت أو يصلي، فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلا عند هذا البيت، يطوفون ويصلون» رواه الدارقطني، ولأن الطواف(2/53)
جائز في كل وقت، مع كونه صلاة [كما] ورد فكذلك ركعتاه، لأنهما تبع له. (ومنها) الصلاة على الجنائز، بالإجماع فيما بعد الفجر والعصر، قاله ابن المنذر، ولأنها فرض في الجملة أشبهت قضاء الفوائت.
663 - «وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث يا علي لا تؤخرهن، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها(2/54)
كفؤا» . (ومنها) إعادة الجماعة، إذا أقيمت، وهو في المسجد.
664 - لما «روى يزيد بن الأسود العامري، قال: شهدت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجته، فصليت معه صلاة الفجر في أول مسجد الخيف، فلما قضى صلاته، إذا هو برجلين في آخر المسجد لم يصليا [معنا] ، فقال: «علي بهما» فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا» ؟ قالا: يا رسول الله إنا قد صلينا في رحالنا. فقال: «فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه.
وشرط الخرقي وكذلك غيره لإعادة الجماعة في وقت النهي أن يكون في المسجد، وشرط القاضي، وأبو البركات وغيرهما أن يكون المقيم إمام الحي، إذ قضية النص وردت في ذلك، ولم يشترط ذلك أبو محمد، وزعم أنه ظاهر كلام أحمد، وكلام الخرقي محتمل، قال أبو البركات: وهذا إذا منعنا التنفل بما له سبب في وقت النهي، أما إن جوزناه فإنه يجوز إعادة(2/55)
الفجر والعصر، مع إمام الحي وغيره، ولا يكره له الدخول إذا كان خارج المسجد، لأنه نفل له سبب، أشبه تحية المسجد.
واعلم أن الموضع الذي يجوز فيه صلاتا الطواف، والجنازة، وإعادة الجماعة - بلا نزاع - هو ما بعد الفجر والعصر، أما عند طلوع الشمس وقيامها، وغروبها، ففيه روايتان.
(تنبيه) : أول وقت النهي المتعلق بالفجر طلوعه، على المشهور من الروايتين.
665 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر» احتج به في رواية صالح، ورواه [هو و] أبو داود من حديث ابن عمر. (والرواية الثانية) - واختارها أبو محمد التميمي -(2/56)
نفس الصلاة، لأن النهي ورد مقيدا بذلك في حديث أبي سعيد وعمر وغيرهما وهي أصح إسنادا، فعلى الأولى تستثنى ركعتا الفجر بلا خلاف [للحديث] (وآخره) ما لم يبد شيء من الشمس. (وأول الوقت الثاني) بدو شيء من قرص الشمس، إذا ارتفعت قيد رمح، أي قدر رمح. (وأول [الوقت] الثالث) إذا وقف الظل عن التناقص في أعيننا، إلى أن يأخذ في الزيادة.
وأما الوقت الرابع فيتعلق في حق كل إنسان بفراغه من العصر الحاضرة، لا بفعل غيره ولا بفعله عصرا فائتة، ولا بشروعه، ولو صلاها في وقت الظهر جمعا دخل وقت النهي في حقه، وفي المذهب قول آخر فيما أظن أنه بدخول وقت العصر، كما في الفجر، وهو ظاهر كلام الخرقي،(2/57)
(وآخره) يعرف بأول الوقت الخامس، وهو إذا أخذت الشمس في الغروب عند العامة، وعند الشيخين: إذا اصفرت، (وآخره) كمال غروبها، والله أعلم.
قال: ولا يبتدئ في هذه الأوقات صلاة يتطوع بها.
ش: ما عدا ما تقدم من التطوع على ضربين. (أحدهما) النفل المطلق، ولا خلاف أنه لا يجوز ابتداؤه في أوقات النهي، لما تقدم من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمره بالإمساك عن ذلك في هذه الأوقات. (الثاني) النفل المقيد، وهو ما له سبب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وقضاء السنن الراتبة، ونحو ذلك، فهل يجوز ابتداؤه في هذه الأوقات؟ فيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) : [الجواز] ، اختارها أبو الخطاب.
666 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» .(2/58)
667 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن وتره أو نسيه، فليصله إذا ذكره» .
668 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها فصلوا» وهذا وإن كان عاما من وجه، خاصا من وجه، فيترجح على أحاديث النهي.
669 - بما «روت أم سلمة، قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت صلاة لم أكن أراك تصليها؟ فقال: «إني كنت أصلي ركعتين(2/59)
بعد الظهر، وإنه قدم وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فهما هاتان الركعتان» متفق عليه.
670 - وعن «قيس بن عمرو، قال: رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال له: «أصلاة الصبح مرتين؟» فقال له الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين قبلهما، فصليتهما الآن. فسكت عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الخمسة إلا النسائي، وإذا ثبت(2/60)
ذلك في قضاء السنة، مع أنها لا تفوت بالتأخير، فما له سبب مما يفوت بالتأخير أحرى. (والثانية) المنع، واختارها القاضي، والخرقي، لقوله: [ولا يجوز أن يصلي في الأوقات التي لا يجوز أن يصلي فيها تطوعا. وقوله] : وإذا كان الكسوف في غير وقت صلاة، جعل [مكان] الصلاة تسبيحا. وهو ظاهر إطلاقه هنا، وتقييده الفوائت بالفرائض، إذ مفهومه أنه لا يقضي الفوائت النوافل، والأصل في ذلك أحاديث النهي، فإنها عامة في كل صلاة، وإنما يرجح عمومها على أحاديث التحية ونحوها لأنها حاضرة، وتلك مبيحة أو بادئة، وكم بينهما.
671 - وأيضا فروى أبو تميمة الهجيمي، قال: كنت أقص بعد صلاة الصبح فأسجد، فنهاني ابن عمر ثلاثا فلم أنته، ثم عاد فقال: [إني] صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يسجدوا حتى تطلع الشمس. رواه أبو داود.(2/61)
(وأما) صلاته [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بعد العصر فمن خصائصه، بدليل ما روى أحمد فيه، «أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: «لا» . (وأما) حديث قيس بن عمرو ففي إسناده سعد بن سعيد، وقد ضعفه أحمد، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. مع أن الترمذي قال: ليس بمتصل.
واستثنى ابن أبي موسى من الروايتين قضاء، ورده ووتره بعد طلوع الفجر، حتى يصلي الصبح، وهو حسن، وتابعه أبو محمد، وزاد عليه ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح، وقضاء الراتبة بعد العصر، لحديثي قيس وأم سلمة، وفيه جمود.(2/62)
وقول الخرقي: ولا يبتدئ مفهومه أنه لو كان في صلاة تطوع أتمها ولم يقطعها، وهو صحيح، لكنه يخففها، وحيث منع من الصلاة فخالف وصلى، لم تنعقد لمكان النهي، إلا أن يكون جاهلا ففيه روايتان، [والله أعلم] .
[كيفية صلاة التطوع]
قال: وصلاة التطوع مثنى مثنى، وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس.
ش: الأولى في تطوع الليل والنهار كونه مثنى مثنى، أي يسلم من كل ركعتين.
672 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قائم على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: «مثنى مثنى» وفي لفظ «صلاة الليل مثنى مثنى» متفق عليه.
673 - وعنه أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» رواه [الخمسة واحتج به] أحمد وجود إسناده في رواية الميموني، وعن البخاري أنه صححه، وليس بمعارض لما قبله لوقوعه جواب سؤال، ولا مفهوم له اتفاقا. وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس.(2/63)
674 - لما روى أبو أيوب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل الظهر أربعا، لا يفصل بينهن بتسليم» . رواه أبو داود. فلو زاد على أربع(2/64)
بالنهار، وركعتين بالليل لم يجز عند أبي محمد، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار بعض الأصحاب، مصرحا بالبطلان، لظاهر ما تقدم. مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يثبت عنه في التطوع المطلق خلاف ذلك، ولو جاز لبينه ولو مرة، والمشهور جواز ذلك مع الكراهة، اختاره القاضي، وأبو الخطاب، وأبو البركات.
675 - لما ثبت من صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوتر خمسا، وسبعا، وتسعا، بسلام واحد، وهو تطوع، فيلحق به غيره من التطوعات.
676 - وقد روي في حديث أم هانئ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الضحى يوم الفتح ثمان ركعات، لم يفصل بينهن، إلا أنه مخالف لروايتها(2/65)
المشهورة أنه سلم بين كل ركعتين، إذ القصة واحدة، مع أن أحمد أنكر هذا، وذكر قول أبي حنيفة: لو أن رجلا صلى ثماني ركعات، لم يسلم إلا في آخرها كان مصيبا، لحديث أم هانئ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثمان ركعات لم يسلم إلا في آخرهن» ، قيل لأبي حنيفة: ليس في الحديث لم يسلم.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز التطوع بركعة، وهو إحدى الروايتين، ونصبها أبو محمد، لظاهر حديث ابن عمر المتقدم، (والثانية) يجوز، ونصبها أبو البركات.
677 - لأن عمر دخل المسجد فصلى ركعة، فتبعه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة، قال: هو تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص.(2/66)
678 - وصح عن اثني عشر من الصحابة نقض الوتر بركعة، وهي تطوع، وكذلك الخلاف في التطوع بالأفراد كالثلاث ونحوها، والله أعلم.
قال: ويباح له أن يتطوع جالسا.
679 - ش: لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لما بدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثقل كان أكثر صلاته جالسا» . متفق عليه.
680 - «وعن عمران بن حصين، أنه سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الرجل قاعدا، قال: «إن صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله(2/67)
نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد» رواه البخاري وغيره.
ومفهوم كلامه شيئان: (أحدهما) : أن الفرض لا يباح جالسا، وهو الركن الذي أهمله، [ثم] (الثاني) : [أنه] لا يباح التطوع مضطجعا، وهو أحد الوجهين، حكاهما في التلخيص، وظاهر كلام الأصحاب، لعموم أدلة فرضية الركوع، والاعتدال [عنه] ، والثاني يباح، وحسنه أبو البركات، لحديث عمران، والله أعلم.
قال: ويكون في حال القيام متربعا، ويثني رجليه في الركوع والسجود.
ش: الأولى لمن صلى جالسا التربع.
681 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(2/68)
يصلي متربعا» . رواه الدارقطني. وثني رجليه إذا سجد بلا نزاع، لمخالفة هيئة الساجد لهيئة القائم، وكذلك إذا ركع في الأشهر عنه، اعتمادا على [أن] أنسا فعل ذلك [واختاره] الأكثرون، وعنه - واختاره أبو محمد، وحكاه عن أبي الخطاب - لا، لاتفاق حالتي القيام والركوع، والله أعلم.
قال: والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى قاعدا.
ش: من عجز عن القيام صلى جالسا بالإجماع.
682 - «وعن عمران بن حصين]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة، فقال: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك» رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وزاد «فإن لم(2/69)
تستطع فمستلقيا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» وكذلك إن قدر على القيام، لكن مع ضرر يلحقه، إما بزيادة مرضه، أو بتباطئ برئه، ونحو ذلك، دفعا للحرج والضرر المنفيين شرعا، [والله أعلم] .
قال: فإن لم يطق جالسا] فنائما.
ش: أي مضطجعا، شبهه بالنائم [لأنه] على هيئته، وكأنه اقتدى بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عمران المتقدم «ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد» والأصل في ذلك ما تقدم من حديث عمران، والأولى أن يصلي على جنبه الأيمن، ووجهه إلى القبلة، ولو صلى على الأيسر كذلك صح، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعين جنبا، وكذلك إن صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة على الأشهر، لأن المقصود التوجه، واختار أبو محمد المنع.(2/70)
683 - لما روى الدارقطني، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «يصلي المريض قائما إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيا، رجلاه [مما] يلي القبلة» ويومئ بالركوع والسجود إن عجز عنهما [لما تقدم، والله أعلم] .
[صلاة الوتر]
قال: والوتر ركعة، يقنت فيها، مفصولة مما قبلها.
ش: لا إشكال [عندنا] في جواز كون الوتر بركعة.
684 - لما روى أبو أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.(2/71)
685 - «وعن ابن عمر أن رجلا من أهل البادية سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل، فقال بأصبعيه: [هكذا] «مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل» رواه مسلم وغيره. لكن هل يكره إن لم يكن قبلها شفع، وتسمى البتيراء، لحديث ورد بذلك.
686 - أو لا يكره لأنه قد روى عن عشرة من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، [وعلي] ، وعائشة، وغيرهم: الوتر بركعة.(2/72)
687 - وحديث البتيراء ضعيف؟ فيه روايتان.
وقوله: والوتر ركعة. يحتمل أن يريد: وأقل الوتر ركعة. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويحتمل أن يريد أنه حاصل بركعة، أو جائز بركعة، وهذا أظهر، وهذا إذا أوتر بثلاث، أو بإحدى عشرة، أما لو أوتر بخمس، أو بسبع، أو بتسع، فإن الجميع وتر كما ثبت في الأحاديث، وكما نص عليه أحمد، لكن في الخمس يسردها، وفي التسع يجلس عقب الثامنة، فيتشهد، ثم يأتي بالتاسعة ويسلم، وكذلك حكم السبع عند أبي محمد، وعند(2/73)
أبي البركات، وهو المنصوص حكمها حكم الخمس.
وقوله: مفصولة مما قبلها. هذا كما تقدم فيما إذا أوتر بثلاث، أو بإحدى عشرة.
688 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ثنتين، ويوتر بواحدة، ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية. مختصرة» رواه الشيخان.
689 - وروى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس، أو سبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب» رواه الدارقطني، وقال: إسناده ثقات. وإذا كان لم يفصل أشبه المغرب.
690 - «وعن ابن عمر، أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «افصل بين الواحدة والثنتين بالسلام» رواه الدارقطني أيضا، ولو لم(2/74)
يفصل بين الثلاث بسلام جاز، لأنه ورد أيضا إلا أنه يسردها من غير تشهد لتخالف المغرب، فإن جلس في الثانية ففي البطلان وجهان، وله سرد الإحدى عشرة أيضا كالتسع، حتى إن ابن عقيل حكى وجها، أن ذلك هو الأفضل، وليس بشيء.
ويقنت في آخر وتره، على المذهب المشهور.
691 - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه الخمسة.
692 - «وعن ابنه الحسن [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في قنوت الوتر «اللهم اهدني في من هديت، وعافني في من عافيت، وتولني في من توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت [ولا يعز من عاديت](2/75)
تباركت ربنا وتعاليت» رواه الخمسة، وقال الترمذي: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القنوت شيئا أحسن من هذا. وفي النسائي «وصلى الله على النبي» ، (وعن أحمد) يختص القنوت بالنصف الأخير من رمضان، ومحل القنوت بعد الركوع، ويجوز قبله وقد وردا، والأشهر الأول، ودعاؤه ما تقدم.
وتخصيصه القنوت بالوتر يدل على أنه لا يقنت في غيره من الصلوات، وهو صحيح.(2/76)
693 - لما «روى أبو مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: قد صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ها هنا قريب خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني محدث» . رواه أحمد، والترمذي وصححه. نعم يقنت في النوازل.
694 - لما «روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرا ثم تركه» ، رواه أحمد، وأبو داود.
695 - وعنه: «بعث النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سبعين رجلا لحاجة، يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم: رعل وذكوان، فقتلوهم، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذلك بدو القنوت» ، رواه البخاري. ويختص القنوت بالإمام الأعظم، وبأمير الجيش، لا بكل إمام [على المشهور] وهل محل القنوت الفجر خاصة، أو الفجر والمغرب، أو جميع الصلوات؟ ثلاث روايات، [والله أعلم] .(2/77)
[قيام شهر رمضان]
قال: وقيام [شهر] رمضان عشرون ركعة، [والله أعلم] .
ش: قيام رمضان - والمراد هنا التراويح - سنة.
696 - لما روى عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله عز وجل فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه [وقامه] إيمانا، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه أحمد والنسائي.
697 - وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الثانية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج(2/78)
إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» وذلك في رمضان. وقدر ذلك عشرون ركعة.
698 - لما روى يزيد بن رومان، قال: كان الناس في زمن عمر بن الخطاب [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وهذا بحضرة الصحابة، ولم ينقل إنكاره، فكان ذلك إجماعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/79)
[باب الإمامة]
قال: ويصلي بهم أقرؤهم، فإن استووا فأفقههم، فإن استووا فأسنهم [فإن استووا فأشرفهم، فإن استووا فأقدمهم هجرة] .
ش: المعروف المشهور عندنا أن القارئ إذا عرف ما يعتبر للصلاة مقدم على الفقيه.
699 - لما روى أبو مسعود البدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا، ولا يؤمن [الرجل] الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» .
700 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» رواهما مسلم وغيره.(2/80)
701 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم أقرؤكم» رواه أبو داود.
702 - وعن عمرو بن سلمة، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا» [مختصر] رواه البخاري [وغيره] ، وحكى ابن الزاغوني عن بعض الأصحاب أنه رأى تقديم الفقيه على القارئ. وعلى المذهب لو كان القارئ جاهلا بما يحتاج إليه [في الصلاة] بأن لا يميز بين مفروضها ومسنونها، ونحو ذلك، ففيه وجهان: (أحدهما) : - وهو ظاهر كلام أحمد، والخرقي، والأكثرين - يقدم على الفقيه [أيضا] نظرا لظواهر النصوص، ولأن القراءة ركن في الصلاة، بخلاف الفقه، فكان اعتبارها أولى. [والثاني] : - وهو اختيار ابن عقيل، وبه قطع أبو البركات في محرره، وحسنه في شرحه - أن الفقيه إذا أقام الفاتحة - والحال هذه - مقدم لامتيازه بما لا يستغنى عنه(2/81)
في الصلاة إذ الجاهل قد يترك الفرض لظنه سنيته.
ثم لا نزاع أنه يقدم بعد الأقرأ الأفقه، لحديث أبي مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، واختلف في من يقدم بعد الفقيه، فقال الخرقي، وتبعه أبو الخطاب: يقدم بعده الأسن، ثم الأشرف، ثم الأقدم [هجرة] ، لأن الأسن مظنة الخشوع، وهو مقصود في الصلاة قطعا، قال سبحانه: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فقدم به على الشرف والهجرة، إذ لا تعلق لهما بمعنى في الصلاة، وقدم الشرف على الهجرة إلحاقا للإمامة الصغرى بالعظمى، إذ للشرف تأثير في التقديم في العظمى بخلاف الهجرة، وقال ابن حامد: يقدم الأشرف، ثم الأقدم هجرة، ثم الأسن، لما تقدم من اعتبار الشرف في الإمامة العظمى، بخلاف الهجرة.
703 - يعضده ما روى الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسنده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قدموا قريشا ولا تقدموا عليها» وقدم الأقدم(2/82)
هجرة على الأسن لحديث أبي مسعود المتقدم، وظاهر كلام أحمد في رواية ابنه عبد الله أنه يقدم الأقدم هجرة، ثم الأسن، ثم الأشرف، وهو اختيار الشيخين، لحديث أبي مسعود، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم فيه بعد القراءة والفقه الأقدم هجرة، ثم الأسن، فعلم تأخير الأشرف وغيره عنهما، وقال أبو محمد في المقنع: يقدم الأسن، ثم الأشرف، ثم الأقدم هجرة، وهو وجه حكاه في التلخيص، ووجهه يعرف مما تقدم، فإن استووا في جميع ما تقدم قدم أتقاهم وأورعهم.
704 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم» رواه الدارقطني، ولأبي محمد احتمال(2/83)
بتقديم هذا على الأشرف، لقوله سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد، وما رضي به الجيران أو أكثرهم، لأن رضاهم [به] مظنة امتيازه بمرجح، فإن استووا فالقرعة كالأذان، ولا يرجح بحسن الوجه، ولا بنظافة الثوب.
(تنبيهان) : «أحدهما» [هذا] التقديم تقديم أولوية لا إيجاب، فلو تقدم الأفقه على الأقرأ جاز، قاله أبو محمد، وقال: لا أعلم فيه خلافا، إذ الأمر فيه أمر إرشاد. (الثاني) : الأقرأ الأكثر قرآنا، كما في حديث عمرو بن سلمة، أو الأجود، وإن كان غير أحفظ منه، قال الشيخان، والأقدم هجرة أن يهاجر مسلمان من دار الحرب ويسبق أحدهما بالهجرة، أو يكونا من أولاد المهاجرين، فيقدم من سبق أبوه، وفي معنى ذلك الأقدم إسلاما، لسبقه إلى الطاعة، وفي حديث أبي مسعود في رواية(2/84)
لمسلم «فأقدمهم سلما» يعني إسلاما، ومعنى الأشرف أن يكون قرشيا، قاله أبو البركات، وقال أبو محمد: أشرفهم أعلاهم نسبا، وأفضلهم في نفسه، وأعلاهم قدرا (والتكرمة) الفراش، كذلك فسره بعض الرواة في رواية أبي داود، والله أعلم.
[الصلاة خلف المبتدع]
قال: ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر أعاد.
ش: لا إشكال في فسق المعلن بالبدعة ومن يسكر، وإذا في صحة إمامتهما روايتان:
(إحداهما) : تصح إمامته، قال أحمد في رواية حرب: يصلي خلف كل بر وفاجر. وسئل: هل يصلي خلف من يغتاب الناس؟ فقال: لو كان كل من عصى الله لا يصلي خلفه، من يؤم الناس؟
705 - وذلك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها «صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا» .(2/85)
706 - وعن مكحول، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر» .
707 - وعن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم» رواهما أبو داود.(2/86)
708 - وعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان وهو محصور، فقال: إنك إمام العامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج من الصلاة معه، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل لناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم. رواه البخاري، ولأن العدالة لو كانت شرطا لاعتبر العلم بها كالإمامة العظمى، ولا يعتبر.
(والثانية) : - وهي المشهورة، واختيار ابن أبي موسى، والقاضي، والشيرازي، وجماعة - لا يصح.(2/87)
709 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «لا يؤمن فاجر مؤمنا، إلا أن يقهره بسلطانه، أو يخاف سوطه وسيفه» رواه ابن ماجه.
710 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل. رواه الدارقطني، ولأنها إحدى الإمامتين، فنافاها الفسق كالكبرى، ولأن الفاسق لا يؤمن أن يترك شرطا أو ركنا، وحديث الأمراء قال القاضي: تأوله أحمد على حضور الجمعة في رواية المروذي، ومكحول لم يلق أبا هريرة، فالحديث منقطع، وقد سئل [عنه] أحمد في رواية يعقوب بن بختان، فقال: ما سمعنا بهذا. ثم يحمل إن صح على الجمعة أو على(2/88)
غيرها عند البقية لحديث جابر، جمعا بين الأدلة، وعلى هذا لا تصح إمامته وإن لم يعلم بحاله، نص عليه في رواية صالح والأثرم [حتى] إذا صلى خلف من لا يعرف، ثم تبين أنه صاحب بدعة يعيد، وقال ابن عقيل: لا يعيد من [لم] يعلم بحاله، كما قلنا في من نسي فصلى بهم محدثا، وأومأ أحمد في مواضع أنه إن كان متظاهرا بالفسق والبدعة أعاد المقتدي به لتفريطه، وإن كان جاهلا مستورا لا يعيد، وهذا اختيار الشيخين.
وكلام الخرقي يشمل الفرض والنفل، وكذا إطلاق جماعة من الأصحاب. وزعم أبو البركات في شرحه أن الخلاف إنما هو في الفرض، [فقال في حديث الأمراء: إنما يدل على إمامته في النفل، ونحن نقول بذلك، وإنما الروايتان في الفرض] (ويشمل) أيضا الجمعة وغيرهما، وهو صحيح فتعاد على المذهب ظهرا، إلا أنها لا تترك خلف الفاسق على الروايتين، بخلاف غيرها، لئلا يؤدي ذلك إلى فتنة.
711 - وفي ابن ماجه [عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] «إن الله افترض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي، أو بعد موتي، وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في عمره» نعم: لو أقيمت في موضعين، والإمام في أحدهما(2/89)
عدل، وفي الآخر فاسق لزم فعلها وراء العدل. (ويشمل) أيضا الفاسق إذا ائتم بفاسق أنه يعيد، وهو ظاهر إطلاق غيره، وقد أورد هذا على القاضي في التعليق، فأجاب: لا نعرف الرواية فيه، قال: ولا يمنع أن نقول لا يصح، بخلاف الأمي، لأن الأمي لا يمكنه رفع ما هو عليه من النقص، بخلاف الفاسق، لإمكانه زوال فسقه بالتوبة.
وخرج من كلام الخرقي إذا كان المباشر [له] عدلا، والمولي له فاسقا، فإن صلاته تصح على [الصحيح من] الروايتين.
(تنبيه) : الإعلان الإظهار، ضد الإسرار، هذا تفسير أبي محمد، [فعلى] هذا يختص البطلان - على قول الخرقي - بمن يظهر بدعته ويدعو إليها، ويناظر عليها، وقد نص أحمد في الرافضي الذي يتكلم ببدعته أن الصلاة خلفه تعاد، بخلاف من سكت، وإذا يكون قول الخرقي موافقا لاختيار الشيخين في أن البطلان مختص بظاهر الفسق دون خفيه.
وعلى هذا قول الخرقي: أو يسكر. يجوز أن يكون بالباء الموحدة، عطفا على: ببدعة. ويجوز أن يكون بالياء(2/90)
المثناة، ويكون من باب قولهم: الخطيب يشرب ويطرب. أي: هذا دأبه وسجيته، وظاهر كلام أبي محمد أنه بالمثناة، وقال: إنما نص الخرقي عليه من بين الفساق لنص أحمد عليه. قلت: وقد نص أحمد على غيره من الفساق. كما نص عليه، ويحتمل أن الخرقي إنما قال ذلك ليخرج من شرب من النبيذ ما لا يسكره، معتقدا لحله، فإن الصلاة خلفه تصح. انتهى، وقال القاضي: المعلن بالبدعة من يعتقدها بدليل، وضده من يعتقدها تقليدا، وقال: إن المقلد لا يكفر ولا يفسق، وعلى هذا فالخرقي إنما خص المعلن بالبدعة، لأنه الذي يفسق أو يكفر، وإذا يتعين قراءة: أو يسكر بالياء المثناة.
واعلم أن المظهر للبدعة، المناظر عليها، (تارة) تكفره، كالقائل بخلق القرآن، أو بأن علم الله مخلوق، أو بأنه لا يرى في الآخرة، أو بأن الإيمان مجرد الاعتقاد من غير قول ولا عمل، أو يسب الصحابة تدينا، ونحو ذلك، نص أحمد على ذلك، حتى لو وقف رجل إلى جنبه خلف الصف، ولم يعلم حتى فرغ أعاد الصلاة، وهل تفعل الجمعة خلف هؤلاء؟ فيه روايتان، (وتارة) تفسقه، كمن يفضل عليا على غيره من(2/91)
الصحابة، أو يقف عن تكفير من كفر ببدعة ونحو ذلك، والمقلد لهذا القسم لا يفسق، والأول فيه قولان، واستقصاء ذلك موضعه الكتب الأصولية، والله أعلم.
[إمامة العبد والأعمى]
قال: وإمامة العبد والأعمى جائزة.
ش: لدخولهما في عموم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» ونحو ذلك.
712 - وفي البخاري أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كان يؤمها عبدها ذكوان من المصحف.
713 - وعن أنس، قال: «استخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن أم مكتوم، يؤم الناس وهو أعمى» . رواه أحمد، وأبو داود، وكان ابن عباس يؤم وهو أعمى، (نعم) الحر أولى من العبد، لأنه أكمل منه، والبصير أولى من الأعمى، اختاره أبو الخطاب، وأبو البركات، لأنه أقرب لاجتناب النجاسة، وإصابة القبلة، وسوى القاضي بينهما، لأنه يقابل ذلك أمنه من النظر(2/92)
إلى محرم، وما يلهيه، فيكون أتقى وأخشع، والله أعلم.
[إمامة الأمي]
قال: وإن أم أمي أميا وقارئا أعاد القارئ وحده.
ش: الأمي في عرف الفقهاء [هو] من لا يحسن فرض الفاتحة إن قيل بركنيتها، وإن [قيل] : الفرض آية. فالأمي [من] لا يحسن آية، والمعروف من مذهبنا أن إمامته تصح بمثله، لأنه أهل لتحمل ما يلزم مأمومه لو انفرد، فصار كالقارئ مع القارئ، وعن بعض الأصحاب: لا تصح إمامته بمثله، لعدم أهليته لتحمل القراءة، ولا تصح بقارئ بلا نزاع، لعموم «ليؤمكم أقرؤكم» رواه أبو داود.
714 - وروى النجاد بإسناده، عن الزهري، قال: مضت السنة أن لا يؤم الناس من ليس معه من القرآن شيء.
وقد دل كلام الخرقي من طريق الإشارة على ما قلناه من أن الأمي يؤم بمثله، ولا يؤم قارئا، ومن طريق الدلالة على أن الأمي إذا أم قارئا وأميا أن الفساد يختص القارئ، وعند أبي حنيفة [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] يعمهما، وهذا الذي ألجأ الخرقي(2/93)
إلى ذكر هذه الصورة، وبهذا يعرف أنه ليس مراده أن الأمي تصح صلاته مطلقا، إذ ذلك مشروط بأن يكون عن يمين الإمام، أو يكون معه أمي آخر، أما لو كان هو والقارئ فقط خلف الإمام فإن صلاتهما تفسد، لأن الأمي - وإن انعقد إحرامه فذا - لكن فسدت صلاته بدوام فذوذيته، وهل تبطل صلاة الإمام والحال هذه؟ فيه احتمالان، أشهرهما البطلان، وفي المذهب وجه آخر حكاه ابن الزاغوني أن الفاسد يختص بالقارئ، ولا تبطل صلاة الأمي، قال ابن الزاغوني: واختلف القائلون به في تعليله، فقال بعضهم: إن القارئ تكون صلاته نافلة، فما خرج من الصلاة فلم يصر الأمي بذلك فذا. وقال بعضهم: صلاة القارئ باطلة على الإطلاق، لكن اعتبار معرفة هذا على الناس أمر يشق، ولا يمكن الوقوف عليه، فعفي عنه للمشقة، اهـ. ويحتمل أن الخرقي اختار هذا الوجه، فيكون كلامه على إطلاقه، والله أعلم.
[إمامة المشرك والمرأة والخنثى المشكل]
قال: وإن صلى خلف مشرك، أو امرأة، أو خنثى مشكل أعاد الصلاة.
ش: أما المشرك فلا يجوز أن يؤتم به، ومن ائتم به أعاد الصلاة، وإن لم يعلم حاله [غالبا] لأن صلاته لا تصح لنفسه، فلا تصح لغيره، ولعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن فاجر مؤمنا» والكفر لا يخفى غالبا، فالجاهل به مفرط، هذا(2/94)
هو المعروف في النقل، وفي المذهب، وحكى ابن الزاغوني [رواية] بصحة صلاته، بناء على صحة إسلامه بها، وبنى على صحة صلاته صحة إمامته، على احتمال، وهو بعيد. (وأما المرأة) فلا يجوز أن تؤم رجلا، ولا خنثى مشكلا، لما روى جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «لا تؤمن امرأة رجلا» رواه ابن ماجه، والخنثى يحتمل أن يكون رجلا، ويصح أن يؤم المرأة، كما نص عليه الخرقي بعد.
وكلامه يشمل الفرض والنفل، ولا نزاع في الفرض، أما في النفل فظاهر كلام الخرقي أيضا المنع، وهو رواية حكاها ابن أبي موسى [وهو اختيار أبي الخطاب] وأبي محمد، عملا بإطلاق الحديث، ومنصوص أحمد - في رواية المروذي، وهو اختيار عامة الأصحاب - أنها يجوز أن تؤمهم في صلاة التراويح، وتكون وراءهم.
715 - لما «روي أن أم ورقة سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إني أصلي ويصلي بصلاتي أهل داري وموالي، وفيهم رجال ونساء، يصلون بقراءتي، ليس معهم قرآن. فقال: «قدمي الرجال أمامك وقومي مع النساء، ويصلون بصلاتك» رواه المروذي بإسناده، ورواه أبو داود، ولفظه: وكانت قرأت القرآن، واستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتخذ في دارها مؤذنا [فأذن لها](2/95)
وأمرها أن تؤم أهل دارها. مختصر. (وشرط هذه المسألة) أن تكون قارئة وهم أميون، أو يحسنون الفاتحة أو شيئا يسيرا معها. وقال القاضي في الخلاف: إنما تجوز إمامتها في القراءة خاصة، دون بقية الصلاة. معتمدا على ما رواه أبو طالب عنه، قال: تؤم المرأة الرجل، والمرأة تقرأ، فإذا قرأت ركع وركعت، يكون هذا في التطوع ولا يكون في الفرض. قال القاضي: فقدم ركوعه على ركوعها، فعلم أنه الإمام فيه، وذلك لأن هذا مقصود الرخصة [انتهى] . وهل حكمي غير التراويح من النفل حكمها، قياسا عليها، وهو ظاهر رواية أبي طالب، أو يختص ذلك بالتراويح، وهو ظاهر رواية المروذي، واختيار القاضي في المجرد، للحاجة إلى استماع القرآن في الصلاة؟ فيه قولان.(2/96)
وأما الخنثى المشكل فلا يصح أن يؤم رجلا، لاحتمال كونه امرأة، ولا خنثى مشكلا لاحتمال كون المؤتم رجلا والخنثى امرأة، والفرض لا يسقط بالشك، وحكى ابن الزاغوني احتمالا بصحة إمامته بمثله للتساوي. انتهى، ويجوز أن يؤمهما فيما يجوز للمرأة أن تؤم فيه الرجل على ما تقدم، ويجوز أن يؤم النساء، لأن للرجل أن يؤمهن، وكذلك للمرأة أن تؤمهن، وهو لا يخلو من إحداهما، ويقفن خلفه، حذارا من أن يكون رجلا واقفا إلى جنب امرأة، وقال القاضي: رأيت لأبي حفص البرمكي أن الخنثى لا تصح صلاته في جماعة، لأنه إن قام مع الرجال احتمل أن يكون امرأة، وإن قام مع النساء، [أو] وحده، أو ائتم بامرأة، احتمل أن يكون رجلا، وإن أم الرجال احتمل أن يكون امرأة [وإن أم النساء فقام وسطهن احتمل أنه رجل، وإن قام بين أيديهن احتمل أن يكون امرأة] قلت: وهذا ظاهر إطلاق الخرقي، ولعله يبني على أن المرأة إذا خالفت موقفها فوقفت بين يدي النسوة أن صلاتها تبطل، وهو احتمال، أو وجه(2/97)
حكاه ابن عبدوس فيما أظن، والمشهور خلافه، والله أعلم.
[إمامة المرأة للنساء]
قال: وإن صلت امرأة بالنساء قامت معهن في الصف وسطا.
716 - ش: كذا فعلت أم سلمة، وعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] .
717 - وعن أسماء بنت يزيد، قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليس على النساء أذان ولا إقامة، وتصلي معهن في الصف، ولا تقدمهن» رواه النجاد.
وقد دل كلام الشيخ [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] على أن للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة، ولا نزاع في ذلك، لكن هل يستحب لهن ذلك؟ فيه روايتان.(2/98)
718 - أشهرهما نعم، لأن عائشة وأم سلمة فعلتا ذلك، رواه الدارقطني، ولما تقدم من حديث أم ورقة، ولذلك حكاه إمامنا عن الثلاثة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] ، (والثانية) لا.
719 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: المرأة لا تؤم، ولا تؤذن، ولا تنكح، ولا تشهد النكاح. رواه النجاد [والله أعلم] .
[الأحق بالإمامة]
قال: وصاحب البيت أحق بالإمامة، إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان.
ش: صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره، وإن فضله الغير بقراءة أو فقه أو غير ذلك، بشرط أو تصح إمامته بهم.
720 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل في بيته، ولا [في] سلطانه] » رواه أحمد ومسلم.(2/99)
721 - «وعن مالك بن الحويرث «من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، فإن كان الغير ذا سلطان فإنه يقدم على صاحب البيت، في اختيار الخرقي، وأبي محمد، لعموم «ولا يؤمن الرجل في سلطانه» واختار ابن حامد أن صاحب البيت يقدم عليه، لعموم «من زار قوما فلا يؤمهم» ويقدم صاحب البيت تارة بملك العين، وتارة بملك المنفعة، فإن اجتمع المؤجر والمستأجر فالمستأجر أولى، لأنه المتصرف المنتفع، ولو اجتمع المعير والمستعير فالمعير أولى، [قلت] : ويتخرج العكس إن قلنا: العارية هبة منفعة.
(تنبيه) : وحكم إمام المسجد حكم إمام البيت فيما تقدم، [والله أعلم] .
[موقف المأموم من الإمام]
قال: ويأتم بالإمام من في أعلى المسجد وغير المسجد إذا اتصلت الصفوف.
ش: يجوز أن يأتم بالإمام من [في] أعلى المسجد، كمن على سطحه، ونحو ذلك، من غير كراهة.
722 - لأن أبا هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] كان يصلي في ظهر المسجد(2/100)
بصلاة الإمام. حكاه أحمد وابن المنذر. وعن أنس نحوه، رواه سعيد.
723 - ويروى أيضا عن ابن عباس [وابن عمر]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن المتابعة حاصلة، أشبهت العلو اليسير، (وعن أحمد) اختصاص الجواز بالضرورة، قال في رواية صالح - في الرجل صلى فوق البيت بصلاة الإمام - إن كان في موضع ضيق يوم الجمعة كما فعل أنس، والأول المذهب.
ويجوز أن يأتم بالإمام من في غير المسجد، بشرط أن تتصل الصفوف، على ظاهر كلام الخرقي، وتبعه أبو محمد.
724 - لظاهر أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدنو من الإمام. خولف ذلك فيما(2/101)
إذا كانا في المسجد، أو اتصلت الصفوف للإجماع، فيبقى فيما سواهما على العموم، وظاهر [كلام] غير الخرقي من الأصحاب أنه لا يشترط اتصال الصفوف إلا أن يكون بينهما طريق، لأن المتابعة حاصلة، أشبه ما لو كانا في المسجد، أما إن كان بينهما طريق فيشترط لصحة الاقتداء اتصال الصفوف على المذهب.
725 - لما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: من صلى وبينه وبين الإمام نهر، أو جدار، أو طريق فلا يصلي مع الإمام.
726 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى قوما في الرحبة، فقال: من هؤلاء؟ فقالوا: ضعفة الناس. فقال: لا صلاة إلا في المسجد.
727 -[وعن أبي هريرة: لا جمعة لمن صلى في رحبة المسجد» .
728 - وعن أبي بكرة أنه رأى قوما يصلون في رحبة المسجد، فقال: لا جمعة لهم. رواهن أبو بكر من أصحابنا. وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة، وهذه الآثار وإن كانت عامة، لكن خرج منه صورة الاتصال بالإجماع، ولقوة الحاجة إليه.(2/102)
729 - وما يروى عن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنه كان يصلي في غرفة له يوم الجمعة، بصلاة الإمام، فحمله أحمد - في رواية أبي طالب - على أن الصفوف اتصلت.
وعن أحمد: يصح الاقتداء، وإن [كان] ثم طريق لم تتصل فيه الصفوف، محتجا بأن أنسا فعل ذلك، وهو اختيار أبي محمد، لإمكان المتابعة، (وعنه) : يصح مع الضرورة، محتجا أيضا بفعل أنس، وهو اختيار أبي حفص، (وعنه) : يصح في النفل تسهيلا فيه، دون الفرض.
ومعنى اتصال الصفوف تقاربها المسنون، أو ما زاد عليه يسيرا، فإن فحش، بأن [كان] بينهما ما يصلي فيه صف آخر فلا اتصال، كذا قال أبو البركات، وقيده صاحب التلخيص بثلاثة أذرع [ونحوها] . انتهى، وهذا فيما إذا تواصلت الصفوف للحاجة، لأن البلوى تعم بذلك في الجمع والأعياد ونحوهما، أما لغير حاجة - بأن وقف قوم في طريق وراء المسجد، وبين أيديهم من المسجد أو غيره ما يمكنهم فيه الاقتداء - فإن صلاتهم لا تصح، على المشهور [في الصلاة] في قارعة الطريق، وحكم من وراءهم حكم من اقتدى بالإمام وبينهما طريق خال، وإن قلنا بالصحة ثم، صحت صلاتهم هنا، إن امتلأ بهم الطريق، أو وقفوا فيما قرب منهم إلى المسجد، أما إن تركوا منه بينهم وبين المسجد ما يسع صفا(2/103)
فأكثر، فهم كمن صلى وبينه وبين الإمام طريق، وكل موضع حكم فيه بصحة الصلاة في الطريق، وملأته الصفوف، فإن صلاة من وراءهم تصح، وإن بعدوا عنهم على المذهب، إن وجدت المشاهدة المعتبرة، وعلى قول الخرقي لا تصح إلا باتصالهم به الاتصال المعتاد، ولو وقف في بيت عن يمين الإمام، فاتصال الصفوف بتواصل المناكب، ولو كان في علو والإمام في سفل، فالاتصال موازاة رأس أحدهما [ركبة] الآخر، قال ذلك صاحب التلخيص. وحكم النهر الذي تجري فيه السفن حكم الطريق فيما تقدم، إن اقترنت سفينة الإمام والمأموم صح الاقتداء، وإلا فلا يصح، لأن الماء طريق، وكذلك حكم ما يمنع الاستطراق من نار، أو سبع، قاله الشيرازي، وقال صاحب التلخيص: لا يمنع الشباك على الأظهر.
(تنبيهات) : (أحدها) : قد علم مما شرحناه أن قول الخرقي: إذا اتصلت الصفوف. إنما يرجع لما إذا كان المقتدي في غير المسجد على ما فيه، أما إن كان المؤتم في المسجد والإمام فيه، فإنه لا يشترط اتصال الصفوف، بلا خلاف في المذهب، قاله الآمدي، وحكاه أبو البركات إجماعا، لأنه(2/104)
في حكم البقعة الواحدة. (الثاني) : إطلاق الخرقي بصحة الاقتداء في المسجد و [في] غير المسجد بشرطه ظاهره: ولو وجد ما يمنع مشاهدة من وراء الإمام، وهو إحدى الروايات عن أحمد، لأن الاقتداء حاصل، أشبه ما لو شاهده، وعلى هذه الرواية لا بد من سماع التكبير لتحصل المتابعة بلا نزاع [واختارها القاضي] (والثانية) لا يصح مطلقا.
730 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في الحجاب. رواه ابن حامد، فعللت منع الاقتداء بالحجاب، (والرواية الثالثة) [اختارها القاضي] تصح في المسجد، لأنه في حكم البقعة الواحدة، لأنه مبني كله للجماعة، ولا تصح في غيره، لما تقدم، (والرواية الرابعة) يصح ذلك في التطوع، دون الفريضة، حكاها ابن حامد.
731 - وقال علي بن سعيد: سألت أحمد عن حديث عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في الحجرة، والناس يأتمون به من وراء الحجرة» . قال: كأنه على صلاة الليل أو تطوع، وهذا الحديث رواه أبو داود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «صلى(2/105)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجرته، والناس يأتمون به من وراء الحجرة» ، ورواه البخاري مطولا، ذكر ذلك في صلاة الليل، وبه استدل أيضا للرواية الأولى، إذ الأصل مساواة الفرض والنفل. وقد نص أحمد على أن المنبر إذا قطع الصف يوم الجمعة لا يضر، فمن الأصحاب من قال: هذا على رواية عدم اعتبار المشاهدة، ومنهم من خص الجمعة ونحوها، فقال: يجوز [فيها] ذلك على الروايتين، نظرا للحاجة، ومنهم من ألحق بذلك كل بناء لمصلحة المسجد، والمشاهدة المعتبرة أن يشاهد الإمام أو من وراءه، فإن حصلت المشاهدة في بعض أحوال الصلاة فقال أبو محمد: الظاهر الصحة.
(الثالث) : الطريق ما العادة استطراقه، فلو كان الإمام والمأموم في صحراء، ليس فيها قارعة [طريق] ، وبعدوا عنه، أو تباعدت صفوفهم جاز ذلك مع سماع التكبير، ووجود المشاهدة إن اعتبرت، [والله أعلم] .
قال: ولا يكون الإمام أعلى من المأموم.
732 - ش: لما روى الدارقطني، عن أبي مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال:(2/106)
«نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه» ، يعني أسفل منه.
733 - وروي «أن عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أم الناس بالمدائن وهو على دكان، والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة إليه فأخذه بيده، فاتبعه عمار، حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا أم الرجل القوم فلا يقوم في مكان أرفع من مقامهم» أو نحو ذلك؟ قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» .
734 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه أم الناس بالمدائن [على دكان] ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين مددتني، رواهما أبو داود.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يكون أعلى وإن أراد تعليمهم،(2/107)
وصرح به أبو الخطاب والشيخان، وقال ابن الزاغوني: إن أراد تعليمهم لم يكره.
735 - لما روى سهل بن سعد الساعدي، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه [ثم ركع] ثم نزل القهقري فسجد، وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: «يا أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه، وحكى أبو محمد، عن أحمد رواية بعدم الكراهة مطلقا، أخذا لها من قول علي بن المديني: سألني أحمد عن حديث سهل بن سعد، وقال: إنما أردت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعلى من الناس، فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث. انتهى، وأجاب الأولون عن حديث سهل بأن الظاهر أنه كان في الدرجة السفلى، لئلا يكثر عمله في صعوده ونزوله، وذلك علو يسير، يعفى عنه وعما يكون نحوه بلا نزاع.
وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وهو ظاهر النهي، ومقتضى قول ابن حامد، وابن أبي موسى فإنهما أبطلا الصلاة بذلك، وصرح أبو الخطاب(2/108)
وغيره بالكراهة، وهو مقتضى قول شيخه، فإنه قال بعدم البطلان، وصححه أبو البركات، مستمسكا بأن عمارا صلى وأقره على ذلك حذيفة، وكذلك حذيفة وأقره أبو مسعود، وبأن النهي عن ذلك لإفضائه إلى رفع البصر، بدليل عدم كراهة اليسير، ورفع البصر لا يبطل فما كره لأجله أولى.
(تنبيه) : يشترك الإمام والمأموم في النهي إن انفرد الإمام بالعلو، فإن كان معه أحد صحت صلاته وصلاة من معه، واختص من أسفل منه بالنهي، على ما جزم به أبو البركات، وحكى أبو محمد احتمالا بأن النهي يتناول الإمام أيضا، فتبطل صلاة الجميع إن قيل بالبطلان، والله أعلم.
[صلاة المنفرد خلف الصف]
قال: ومن صلى خلف الصف وحده، أو قام بجنب الإمام عن يساره أعاد الصلاة.
ش: أما [كون] من صلى خلف الإمام وحده يعيد الصلاة.(2/109)
736 - فلما «روى وابصة بن معبد، أن رجلا صلى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعيد الصلاة» ، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي. وقال ابن المنذر: ثبت أحمد وإسحاق هذا الحديث.
737 - «وعن علي بن شيبان، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يصلي خلف الصف [وحده] فوقف حيث انصرف الرجل، فقال له: «استقبل صلاتك، فلا صلاة لفذ خلف الصف» رواه ابن ماجه وأحمد، وقال: هذا حديث حسن. (ولا فرق) بين(2/110)
الفرض والنفل على ظاهر كلام الخرقي، وهو المشهور، لعموم النص، وقال القاضي في تعليقه: يحتمل أن تصح صلاة الفذ في النفل، لأن أحمد نص [على] أنه يجوز أن يقف مع الصبي في النفل دون الفرض، وليس من أهل الموقف، ورد بأن إمامته لما صحت في النفل فكذلك موقفه (ولا فرق) أيضا بين صلاة الجنازة وغيرها، واستثنى ابن عقيل صلاة الجنازة إذا كانوا خمسة، نظرا لتحصيل ثلاثة صفوف، ومراد الخرقي بهذه المسألة إذا صلى جميع الصلاة خلف الصف [أما لو أحرم خلف الصف] ثم دخل في الصف، فتأتي المسألة إن شاء الله تعالى.
وأما كون من صلى بجنب الإمام عن يساره يعيد الصلاة.
738 - فلما روى جابر بن عبد الله، قال: «قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب، فجئت فقمت عن يساره، فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصففنا خلفه» . رواه أحمد وغيره، والنهي دليل الفساد.(2/111)
739 - وثبت «أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما قام عن يسار النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي] أخذ برأسه فجعله عن يمينه» . وهو بيان لمجمل {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] ونحوه فيحمل على الوجوب، لا سيما وقد لزم منه مشيا وعملا لغير حاجة، ومثل هذا [لا] يرتكب لمخالفة فضيلة. (وعن بعض) الأصحاب صحة الصلاة، استدلالا بقصة ابن عباس، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبطل تحريمته، وأجيب بأنه لم يكن ركع، ومثل ذلك يعفى عنه، كما في إحرام الفذ، ولأبي محمد احتمال بأنه تجوز الصلاة عن يساره إذا كان وراءه صف، اعتمادا على « [أن] النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في مرضه عن يسار أبي بكر، وكان أبو بكر [وهو] الإمام» ، وأجيب بالمنع، بل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الإمام.
ومراد الخرقي إذا لم يكن عن يمين الإمام أحد، أما إن كان عن يمينه أحد فتصح الصلاة على يساره بلا نزاع.
740 - لما «روى عن علقمة والأسود أنهما استأذنا على ابن مسعود، قال الأسود: وقد كنا أطلنا القعود على بابه، فخرجت الجارية(2/112)
فاستأذنت لهما، ثم قام فصلى بيني وبينه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» . رواه أبو داود وغيره، والله أعلم.
قال: وإذا صلى إمام الحي جالسا صلى من وراءه جلوسا، فإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياما.
ش: أما إذا ابتدأ إمام الحي [الصلاة] جالسا - يعني لمرض به - فإن من وراءه يصلون جلوسا.
741 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته وهو شاك، فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا» متفق عليه.
742 - وروى نحو ذلك جابر، وأنس، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأحاديثهم في الصحيح. وصورة المسألة أن يكون الإمام إمام الحي كما ذكر الخرقي، وأن يكون المرض مرجو الزوال،(2/113)
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان [هو] إمام الحي، وكان مرضه مرجو الزوال، أما لو لم يكن كذلك فإنه لا تصح إمامته عندنا بالقادر على القيام على المذهب، كما لو كان [عاجزا] عن الركوع والسجود فإنه لا تصح إمامته بقادر عليه، (وعن أحمد) أن إمامته تصح، وإن لم يكن إمام حي، أو كان آيسا من زوال مرضه، لكن والحال هذه يصلون وراءه قياما.
وظاهر كلام الخرقي أن جلوس المأمومين - والحال ما تقدم - على سبيل الوجوب، فلو صلوا قياما لم تصح صلاتهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، قال ابن الزاغوني: واختارها أكثر المشايخ، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجلوس، فإذا قام فقد خالف الأمر، بل وارتكب النهي.
743 - فإن في مسلم وغيره [عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «اشتكى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: «إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهو قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا» .
(والرواية الثانية) : أن الجلوس على سبيل الرخصة، فلو أتوا(2/114)
بالعزيمة، وصلوا قياما صحت صلاتهم، اختارها عمر بن بدر المغازلي، وهو الذي أورده أبو الخطاب مذهبا، وصححه أبو البركات، وجزم به القاضي في التعليق فيما أظن، لأن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لم يأمر من صلى خلفه وهو قائم بالاستئناف.
744 - ففي البخاري، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرع من فرسه، فجحش شقه أو كتفه، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا» ولأن سقوط القيام عن إمامهم رخصة [له] فليكن عنهم مثله، وحكى أبو محمد احتمالا بالصحة مع الجهل [دون العلم] .
وأما إذا ابتدأ [بهم] الصلاة قائما ثم اعتل فإنهم يصلون وراءه قياما.
745 - لما في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مروا أبا بكر أن يصلي بالناس» فلما(2/115)
دخل في الصلاة وجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه، فجاء فجلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما، ورسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يصلي جالسا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، والناس بصلاة أبي بكر. فلما ابتدؤا الصلاة قياما وراء إمام قائم أتموا قياما» ، بخلاف ما تقدم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتدأ بهم الصلاة جالسا، فلذلك أمرهم بالجلوس، فالنصان وردا على حالين مختلفين، فيستعملان على ما وردا عليه.
ونظير ذلك لو افتتح مسافر الصلاة خلف مسافر، فإنه يقصر، ولو افتتحها خلف مقيم ثم استخلف المقيم مسافرا لم يدخل معه، فدخل في الصلاة بنية القصر، فإنه لا يجوز للمأموم القصر وإن جاز لإمامه، حيث افتتحها خلف مقيم، وهذا أولى من دعوى النسخ، لأنه خلاف الأصل، ويعضد ذلك ويعينه أن الصحابة فعلت ما قلناه من صلاتهم جلوسا خلف إمام جالس حيث ابتدأ بهم [الصلاة] كذلك.
746 - قال أحمد وإسحاق: فعل ذلك أربعة من الصحابة. والأربعة أبو هريرة، وجابر، وأسيد بن حضير، وقيس بن قهد،(2/116)
وفعلهم ذلك يدل على ثبوت الحكم، لا سيما وفيهم [اثنان] من رواة الحديث.
(فائدة) قال أبو البركات: لا تختلف الرواية عن أحمد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج من مرض موته بعد دخول أبي بكر في الصلاة أنه صار إماما لأبي بكر، وأبو بكر بقي على إمامته لجماعة المسلمين، [والله أعلم.
قال: ومن أدرك الإمام راكعا فركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل في الصف، وهو لا يعلم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكرة «زادك الله حرصا ولا تعد» قيل له: لا تعد. وقد أجزأته صلاته [فإن عاد بعد النهي لم تجزئه صلاته] .(2/117)
ش: إذا أدرك الإمام راكعا، فخشي إن دخل مع الإمام في الصف أن تفوته الركعة، فركع دونه، أو لم يجد فرجة في الصف فأحرم دونه ونحو ذلك، ثم دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع، أو وقف معه آخر، فإن صلاته تصح على المنصوص المشهور، المجزوم به.
747 - لما يروى «عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه» . رواه أحمد. ولحديث أبي بكرة فإنه أحرم خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذاد، ولم يأمره بالإعادة.
748 -[وكان ابن مسعود إذا أعجل] يدب إلى الصف راكعا، وزيد ابن ثابت مثله، أخرجه مالك في الموطأ، وعن ابن الزبير أنه قال: ذلك من السنة. ولإدراكه في الصف ما تدرك به(2/118)
الركعة، وحصوله فذا في القيام لا أثر له، بدليل إحرام الإمام وحده، أو المأموم الواحد خلفه، ومن عادة الجماعة التلاحق.
وظاهر كلام الخرقي أنه متى أخذ في الركوع فذا وهو عالم بالنهي أن صلاته لا تصح، لظاهر حديث أبي بكرة الآتي إن شاء الله تعالى، وحكى ذلك أبو البركات في محرره رواية، وهو ظاهر نقل أبي حفص ولم يذكر أبو البركات في شرحه بذلك نصا، وإنما حكى الظاهر من كلام الخرقي، وأما أبو محمد فصرف كلام الخرقي عن ظاهره، وحمله على ما بعد الركوع، ليوافق المنصوص، وجمهور الأصحاب.
وإن لم يدخل مع الإمام في الصف حتى رفع من الركوع ففيه ثلاث روايات (إحداها) يصح مطلقا، لأنه [زمن] يسير، فعفي عن الفذوذية فيه [كما قبل الركوع] .
749 - وروى سعيد في سننه، عن زيد بن ثابت، أنه كان يركع قبل أن يدخل في الصف [ثم] يمشي راكعا ويعتد بها، وصل إلى الصف أو لم يصل. (والثانية) : إن علم بالنهي عن ذلك لم يصح.(2/119)
750 - لما «روى أبو بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، قال: فركعت دون الصف ومشيت إلى الصف، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «أيكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف؟» قلت: أنا. قال: «زادك الله حرصا ولا تعد» رواه أحمد، والبخاري، والنسائي، وأبو داود، وهذا لفظه، وهذا نهي فيقتضي الفساد، لكن ترك في الجهل لمكان العذر، ولذلك لم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة. (والرواية الثالثة) لا يصح مطلقا، نص عليه أحمد، مفرقا بينه وبين ما إذا أدرك الركوع في الصف، واختارها أبو البركات، لأنه [لم يدرك] في [الصف] ما يدرك به الركعة، أشبه ما لو أدركه في السجود، وحديث أبي بكرة واقعة عين، والظاهر منها أنه أدرك الركوع مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصف، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[له](2/120)
«لا تعد] نهي تنزيه عن العجلة، كذا حمله أبو حفص، وأبو البركات.
751 - ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود وزيد من فعل ذلك، وقول ابن الزبير: إنه من السنة.
752 - وروى البخاري في كتاب القراءة خلف الإمام «عن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح فسمع نفسا شديدا من خلفه أو بهرا. فلما قضى الصلاة قال لأبي بكرة: «أنت صاحب النفس؟» قال: نعم، خشيت أن تفوتني ركعة معك، فأسرعت المشي. فقال [له] : «زادك الله حرصا ولا تعد، صل ما أدركت، واقض ما سبقت» قلت: وعلى هذا فالرواية «ولا تعد» بسكون العين، وضم الدال، من العدو، وعلى الأولى الرواية «ولا تعد» بضم(2/121)
العين وسكون الدال، من العود، ورأيت في بعض كتب الحنفية - أظنه النسفي - أن فيه رواية ثالثة «ولا تعد» بضم التاء وكسر العين وسكون الدال، من الإعادة، أي لا تعد الصلاة انتهى.
وإن لم يدخل مع الإمام في الصف حتى سجد لم تصح تلك الركعة بلا نزاع، لكن [هل] يختص البطلان بها حتى أنه لو دخل في الصف بعد الركوع أو انضاف إليه آخر فإنه يصح له ما بقي من صلاته، ويقضي [تلك] الركعة، أو لا تصح الصلاة رأسا؟ فيه روايتان منصوصتان، حكاهما أبو حفص، واختار هو أنه يعيد ما صلى خلف الصف فقط، لأنه صلى [بعض] الصلاة منفردا فلم تبطل جميعها، كالتكبيرة، والركوع من غير سجود، والمشهور بطلان جميع الصلاة، لأن القياس البطلان مطلقا، كالمتقدم في الصف(2/122)
وإنما عفي عن التحريمة ونحوها لقصة أبي بكرة.
وقد تبين لك بهذا أن صور المسألة أربع (إحداها) إذا أحرم فذا ثم زالت فذوذيته قبل الركوع، فإن الصلاة تصح بلا نزاع. (الثانية) : زالت بعد الركوع، فكذلك على المعروف، خلافا لظاهر قول الخرقي.
(والثالثة) : زالت بعد الرفع، ففيها الخلاف المشهور. (والرابعة) : زالت بعد السجود، لم تصح تلك الركعة، وفي البقية الخلاف السابق.
هذا كله إذا [كان] قد فعل ذلك لغرض كما تقدم، أما إن فعله لغير غرض، كما إذا أدرك الإمام في أول الصلاة، ووجد فرجة ونحو ذلك، وركع فذا، فإن تحريمته لا تنعقد على المختار من الوجهين لأبي الخطاب والشيخين، لأنه بمثابة من أحرم قدام الإمام [ثم صافه] ، وإنما ترك هذا حال الفرض نظرا للنص.
(والثاني) : تنعقد، لأنه حصل فذا في زمن يسير، فأشبه ما لو فعله لغرض، وقيل: تنعقد صلاته وتصح إن زالت فذوذيته قبل الركوع [وإلا فلا] .
753 - لما يروى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف» ذكره الطحاوي، وابن عبد البر، وذكره إمامنا عن أبي هريرة موقوفا، والله أعلم.(2/123)
[حكم السترة في الصلاة]
قال: وسترة الإمام سترة لمن خلفه.
ش: قال الترمذي: قال العلماء: سترة الإمام سترة لمن خلفه، ومعنى ذلك أن المأمومين لا يستحب لهم اتخاذ سترة مع سترة الإمام، ومتى مر بينهم وبين الإمام ما يقطع الصلاة لم تبطل صلاتهم، ولو مر بين يدي الإمام بطلت صلاة الكل.
754 - وذلك لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [كان] يصلي إلى العنزة، والبعير وغيرهما مما جاء في الأخبار، ولم يأمر من يصلي خلفه باتخاذ سترة، ولما أرادت البهمة أن تمر بين يديه دارأها حتى مرت من خلفه، أمام أصحابه.(2/124)
755 - وكذلك [مر] ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين يدي بعض الصف بالأتان، فلم يعب عليه. وفي كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إشارة إلى مطلوبية السترة، ولا إشكال في ذلك.
756 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد فليخط خطا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود، وأحمد وصححه هو وابن المديني.(2/125)
757 - وعن سبرة الجهني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم» رواه أحمد.
758 - وفي الصحيحين عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعرض راحلته، ويصلي إليها» . وقدر السترة مثل مؤخرة الرحل.
759 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: «كمؤخرة الرحل» رواه مسلم. فإن لم يجد فعصا أو خطا كما في الحديث، وصفة الخط مثل الهلال نص عليه، والعصا ينصبها، فإن لم يمكنه ألقاها عرضا لا طولا، نص عليه، والله أعلم.
قال: ومن مر بين يدي المصلي فليردده.
760 - ش: لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، [فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين» رواه أحمد ومسلم.
761 - ولمسلم أيضا وغيره عن أبي سعيد، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه] ، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان» » ويرد(2/126)
المار وإن لم يكن آدميا، و «من» يتناول ما لا يعقل بالتغليب.
762 - وذلك لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى جدار، فجاءت بهيمة تمر بين يديه، فما زال يداريها حتى ألصق بطنه بالجدار، ومرت من ورائه» ، أو كما قال مسدد؛ [مختصر] رواه أبو داود.
وظاهر كلام الخرقي أنه يرد من مر بين يديه وإن لم يكن سترة، وهو كذلك، لما تقدم من حديث ابن عمر، وأبي سعيد، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يمر من بين يديه فليدفعه» بعض أفراد ما تقدم فلا يقتضي التخصيص.
وقد أشعر كلام الخرقي بأنه ليس لأحد أن يمر بين يدي(2/127)
المصلي، ولا إشكال في ذلك مع نصب سترة، فليس لأحد أن يمر دونها، ويعصي بذلك.
763 - لما روى أبو جهيم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه» قال أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة. وفي مسند البزار «أربعين خريفا» .
764 -[قال الترمذي] : وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لأن يقف أحدكم مائة عام خير له [من] من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي» وهذا اللفظ لأحمد، وابن ماجه من حديث أبي هريرة [والذي قاله أبو البركات أنه يعصي إدا مر دون السترة وجه] [ومع عدم السترة] هو أهون، فيكره، كذا قال أبو البركات ولا يختص ذلك بمحل السجود، بل(2/128)
وبما قرب منه، وفي قدر القريب وجهان (أحدهما) تحديده بما لو مشى إليه لدفع مار، أو فتح باب، ونحو ذلك لم تبطل صلاته، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار مطلقا، خرج منه بالإجماع بعيد، تبطل الصلاة بالمشي إليه، فيبقى ما عداه على الظاهر، وهو اختيار أبي محمد.
(والثاني) : أنه محدود بثلاثة أذرع، وهو الأقوى عند أبي البركات، نظرا إلى أن ذلك منتهى المسنون في وضع السترة والله أعلم.
[ما يقطع الصلاة]
قال: ولا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم [والله أعلم] .
ش: هذا [إحدى] الروايتين عن أحمد، وأشهرها على ما قال أبو محمد.
765 - لما «روى عبد الله بن الصامت قال: سمعت أبا ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: [سمعت] رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا صلى الرجل وليس بين يديه كآخرة الرحل، قطع صلاته الكلب الأسود، والحمار، والمرأة» فقلت لأبي ذر: ما بال الكلب الأسود، من الأحمر، من الأبيض؟ فقال: يابن أخي سألتني عما سألت عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «الكلب الأسود شيطان» رواه الجماعة إلا البخاري.(2/129)
766 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل» رواه مسلم.
767 - وعن عبد الله بن مغفل مثله، رواه أحمد، وابن ماجه، وهذا نص في القطع بالثلاث ترك [العمل به] في المرأة والحمار.
768 - لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لما قيل لها ذلك قالت: بئس ما عدلتمونا بالكلاب والحمر، ولقد رأيتني معه مضطجعة على سرير، فيجيء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيتوسط السرير فيصلي.
وفي لفظ: «كان يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة» .
769 - «وعن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: أقبلت راكبا على حمار أتان، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، [فنزلت] وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد» . متفق عليهما. وهذان يعارضان ما روي [من] القطع(2/130)
بالمرأة والحمار، فيجب التوقف فيهما. أما القطع بالكلب فلا معارض له، فيجب العمل به.
770 - وما روى الفضل بن عباس قال: «زار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عباسا في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[العصر] وهما بين يديه، فلم يؤخرا ولم يزجرا» . رواه أحمد، والنسائي. ليس فيه بيان الكليبة ما هي، فيحمل على أنها لم تكن سوداء، جمعا بين الأحاديث.
والرواية الثانية - وهي اختيار أبي البركات - يقطع الكلب، والمرأة، والحمار لما تقدم أولا، إذ كون المرأة والحمار يقطعان لا بد فيه من إضمار، والمرور فيه مضمر بيقين، فلا إيراد علينا، إذ الأصل عدم الإضمار، وإذا ثبت أن المرور فيه مضمر، فعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] لم تمر بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كانت لابثة، فالحديث لم يتناولها.
771 - يؤيد هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، ولو كان حيوانا، وجوز جعل البعير، وظهر الرجل سترة، وأقر [عائشة(2/131)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] على اضطجاعها أمامه، فبان بهذا أن المرور مفارق للبث، وحديث ابن عباس فيه أنه مر بين يدي بعض الصف، ولم يذكر أنه مر بين يدي الإمام.
772 - وما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان» رواه أبو داود، وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف، ثم لو ثبت فهو عام فيخص بما تقدم.
وقول الخرقي: الأسود البهيم. ليس في الحديث ذكر البهيم، لكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل القطع بكونه شيطانا.(2/132)
773 - وقد قال [النبي]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها [كل] أسود بهيم، فإنه شيطان» فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشيطان منها هو الأسود البهيم، فعلم أنه المراد في نص القطع، والبهيم هو الذي لا يخالط سواده شيء من البياض، في إحدى الروايتين، حتى لو كان بين عينيه بياض فليس ببهيم، كذا قال ثعلب. (والرواية الأخرى) - وهي الصحيحة عند أبي البركات - أنه بهيم وإن كان بين عينيه بياض.
774 - لما «روى جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم، ذي الطفيتين، فإنه شيطان» مختصر رواه مسلم والطفية(2/133)
خوص المقل، شبه الخطين الأبيضين منه بالخوصتين. ولو كان البياض في غير هذا الموضع فليس ببهيم رواية واحدة، اعتمادا على قول أهل اللغة، من غير تعارض.
وكلام الخرقي يشمل الفرض والنفل، وهو المشهور والمعمول به، وعنه [ما يدل على] أن النفل لا يبطل بذلك، اعتمادا على حديث عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] [فإنه ورد فيه، وحملا لأحاديث القطع على الفرض، ومن قال بالأول أخذ بالعموم] وقال: حديث عائشة لا يعارض ذلك لما تقدم، وقول: [الخرقي] لا بد فيه أيضا من إضمار المرور كما تقدم في الحديث، وقد يحمل على إطلاقه، وقد اختلف عن أحمد فيما يقطع الصلاة مروره، هل يقطع إذا كان واقفا؟ (فعنه) : يقطع، لعموم الحديث، نظرا إلى أن المضمر له عموم، ولأن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] فهمت التسوية بينهما، وإلا لم تعارض ذلك باضطجاعها بين يديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذا فقضية عائشة كانت خاصة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو واردة على الإباحة الأصلية، وحديث أبي ذر ونحوه ناقل. (وعنه) لا يقطع. تفرقة بين اللبث والمرور، كما فرق بينهما بالدفع كما(2/134)
تقدم، وقد تبين لك أن لأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجمع بين الأحاديث ثلاث طرق فتارة جمع بالفرق بين الفرض والنفل، وتارة بالفرق بين اللابث والجالس، [وتارة بدعوى التخصيص بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله سبحانه وتعالى أعلم] .
[باب صلاة المسافر]
ش: فعل الرباعية في السفر ركعتين في الجملة أمر مجمع عليه، لا نزاع فيه، حتى إن من العلماء من يوجبه، ومستند الإجماع قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] الآية، وما تواتر من الأخبار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر حاجا، ومعتمرا، وغازيا، وكذلك أصحابه من بعده.
775 - وقد «قال عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: صحبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين» ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كذلك، متفق عليه. (فإن قيل) : فظاهر الآية الكريمة التقييد بالخوف من الكفار؟ (قيل) : قد قال أبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن القصر قصران، قصر مطلق، وقصر مقيد، فالمطلق ما اجتمع فيه قصر الأفعال، وقصر العدد، كصلاة الخوف، حيث كان(2/135)
مسافرا، فإنه يجتمع فيه القصران، قصر العدد، وقصر العمل، فإنه يرتكب فيها أمور لا تجوز في صلاة الأمن، والآية وردت على هذا، وما عدا هذا فهو قصر مقيد، كالمسافر فقط، يقصر العدد، والخائف فقط، يقصر العمل، وهذا توجيه حسن في الآية الكريمة.
776 - لكن يرد عليه ما روي «عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» رواه الجماعة إلا البخاري. فظاهر ما فهمه عمر ويعلى تقييد قصر العدد بالخوف، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرهما على ذلك، وبين لهما أن جواز القصر من غير شرط الخوف صدقة من الله عليهم، والله أعلم.(2/136)
[المسافة التي يقصر فيها المسافر]
قال: وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا، ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي، فله القصر إذا جاوز بيوت قريته، إذا كان سفره واجبا، أو مباحا.
ش: إنما يجوز القصر بشروط.
(أحدها) أن يقصد سفرا تبلغ مدته ستة عشر فرسخا، بلا خلاف نعلمه عن إمامنا، وهو اختيار عامة أصحابنا.
777 - لما روى ابن خزيمة في مختصر المختصر عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان» » .
778 - ونقله أحمد عن ابن عباس، وابن عمر قولا وفعلا، وعليه(2/137)
اعتمد، وقال أبو محمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، نظرا لظاهر الآية الكريمة.
779 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة» رواه أحمد.
780 - «وسئل أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قصر الصلاة، فقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين» . رواه مسلم. وأقوال الصحابة قد اختلفت في ذلك.
781 - فعن ابن مسعود ما يدل على أنه لا يقصر إلا إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام.(2/138)
782 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خرج من قصره بالكوفة، حتى أتى النخيلة، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه، وقال: أردت أن أعلمكم سنتكم. رواه سعيد.
783 - وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يقصر الصلاة إذا خرج إلى أرض اشتراها من بني لجينة، وهي ثلاثون ميلا.
784 - قال: وكان الأوزاعي يقول: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فيما بينه وبين خمسة فراسخ.
785 - وقال الخطابي: روي عن ابن عمر أنه قال: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى ظاهر الكتاب والسنة اهـ والفرسخ ثلاثة أميال، والميل اثنا عشر ألف قدم، وتعتبر المسافة في سفر البحر بالفراسخ المعتبرة(2/139)
في سفر البر، والمعتبر بنية المسافة المقدرة، لا تحقيقها، فلو نواها ثم بدا له في أثنائها مضى ما صلاه، وفي العود هو كالمستأنف للسفر.
وقول الخرقي: وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا. ظاهره أنه لا بد من تحقق ذلك، فلو سافر لبلد وشك هل مسافته المسافة المعتبرة لم يقصر، [لعدم الجزم بالنية، ولو خرج لطلب آبق ونحوه، على أنه متى وجده رجع لم يقصر] على مقتضى قول الخرقي، ونص عليه أحمد، لعدم نيته مسافة القصر، وقال ابن عقيل: إذا بلغ مسافة القصر قصر، وكذلك لو سمع به في بلد بعيد، ونوى أنه إن وجده دونه رجع، لعدم الجزم بالنية، ولو قصد البلد البعيد، ثم نوى في أثناء السفر أنه متى ما وجده رجع، قصر في قياس المذهب، قاله أبو البركات، لانعقاد سبب الرخصة، وقد يتخرج الإتمام، بناء على ما إذا انتقل من سفر مباح إلى محرم. ودخل في كلام الخرقي من لا تلزمه الصلاة ممن له قصد صحيح، كالكافر، والحائض، والصبي المميز، إذا قصد المسافة المعتبرة، ثم وجبت عليه الصلاة في أثناء السفر، فإنه يقصر وإن لم يبق من السفر المسافة المعتبرة. (الشرط(2/140)
الثاني) أن يجاوز بيوت قريته، لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101] الآية، ومن لم يفارق البيوت لم يضرب في الأرض، وحكم خيام قومه حكم بيوت قريته.
ومقتضى قول الخرقي أنه يقصر إذا فارق البيوت، وإن كان بين المقابر والبساتين، وهو كذلك.
وقوله: بيوت قريته. يحتمل أن مراده المعدة للسكنى، فعلى هذا لو خرب بعض البلد، وحيطانه قائمة، جاز له القصر فيه، وهو أحد الوجهين، كما لو صار فضاء، ويحتمل أن مراده مطلقا، فلا يقصر، وهو اختيار القاضي، اعتبارا بما كان. (الشرط الثالث) : أن يكون سفره واجبا، كالحج، والجهاد، ونحوهما، أو مباحا، كالتجارة، وزيارة صديق، ونحو ذلك، لعموم {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101] ولما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة» .
786 - «وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صلاة المسافر ركعتان، تمام من غير قصر، على لسان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أحمد، والنسائي.
787 - وعن النخعي قال: «أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: إني أريد البحرين في تجارة، فكيف تأمرني في الصلاة؟ فقال: «صل ركعتين» رواه سعيد، (والظاهر) أن مراد الخرقي بالمباح(2/141)
الجائز، فيدخل فيه سفر النزهة والفرجة، لعموم ما تقدم، وعن أحمد رواية [أخرى] لا يقصر في هذا، لأنه مجرد لهو، لا مصلحة فيه. (وخرج) من كلامه سفر المعصية، كالآبق، وقاطع الطريق، والتاجر في الخمر، ونحو ذلك، فإنهم لا يقصرون، إذ الرخص شرعت تخفيفا وإعانة على المقصد، فشرعها في سفر المعصية إعانة عليه وأنه لا يجوز، قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولأنه إذا لم يبح له أكل الميتة والحال هذه، مع كونه مضطرا، فلأن لا تخفف [عنه] بعض العبادة أولى، ودليل الأصل قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] .
788 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (غير باغ) على المسلمين، مخيفا لسبيلهم، (ولا عاد) بالسيف عليهم شاقا لهم.
وقول الخرقي: إذا كان سفره واجبا [أو مباحا] . يحتمل ابتداءه، فلو قصد سفرا مباحا، ثم صار محرما قصر، وهو أحد الوجهين، كمن وجدت منه معصية في سفره، ويحتمل أن مراده جميع سفره، فلا يقصر والحال ما تقدم، وهو مختار أبي البركات، وقال القاضي في تعليقه: إنه ظاهر كلام أحمد. إذ المعصية تناسب قطع التخفيف، ولهذا لو نقل(2/142)
سفر المعصية إلى مباح، وبقي من المدة مسافة القصر قصر، [والله أعلم] .
قال: ومن لم ينو القصر في وقت دخوله إلى الصلاة لم يقصر.
ش: هذا المجزوم به عند ابن أبي موسى، والمذهب عند القاضي، والشيخين وغيرهما، لأن القصر كما سيأتي رخصة، فإذا لم ينوها لم يأخذ بها، فيتعين الإتمام لأنه الأصل، وصار كالمنفرد، لا يحتاج أن ينوي الانفراد لأنه الأصل، والإمامة والائتمام لما تضمنتا تغييرا عن الأصل افتقرتا إلى النية، وقال أبو بكر: لا يحتاج القصر إلى نية، فيقصر وإن نوى الإتمام. قال أبو البركات: ووجه ذلك على أصلنا أنها رخصة، خير فيها قبل الدخول في العبادة، فكذلك بعده كالصوم (قلت) : وقد ينبني على ذلك هل الأصل في صلاة المسافر الأربع، وجوز له أن يترك ركعتين منها تخفيفا عليه، فإذا لم ينو القصر لزمه الأصل، ووقعت الأربع(2/143)
فرضا، أو أن الأصل في حقه ركعتان، وجوز له أن يزيد ركعتين تطوعا، فإذا لم ينو القصر فله فعل الأصل، وهو الركعتان؟ فيه روايتان، المشهور منهما الأول، والثاني أظنه اختيار أبي بكر، وينبني على ذلك إذا ائتم به مقيم، هل يصح بلا خلاف، أو هو كالمفترض خلف المتنفل، [والله أعلم] .
[الصلاة التي تقصر]
قال: والصبح والمغرب لا يقصران.
ش: إذ قصر الصبح يجحف بها، وقصر المغرب «يزيل وتريتها، مع أن هذا إجماع [والله أعلم] .
قال: وللمسافر أن يتم ويقصر، [كما له أن يصوم ويفطر] .
ش: لا خلاف عندنا فيما أعلمه أن للمسافر أن يتم ويقصر، لظاهر قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ورفع الجناح [ظاهره] يقتضي الإسقاط والتخفيف، دون الإيجاب.(2/144)
789 - وقوله سبحانه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ورد على سبب، وهو تحرجهم الطواف بهما.
790 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت. قال: «أحسنت يا عائشة» .
» 791 - (وعنها) أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم» . رواهما الدارقطني، وحسن إسناد الأول وصحح الثاني. (وأيضا) ما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –(2/145)
«إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة» وقوله: «تلك صدقة تصدق الله بها عليكم» وهذا ظاهر في أن القصر رخصة لا عزيمة.
792 - (وقد ثبت) أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتم بمنى، بمحضر من الصحابة وغيرهم، وفي رواية لأبي داود أنه أتم لأن الأعراب كثروا عامئذ، فصلى بالناس أربعا، ليعلمهم أن الصلاة أربع، وثبت أن ابن مسعود وابن عمر صليا خلفه أربعا، وفي أبي داود أنه قيل لابن مسعود: عبت على عثمان ثم صليت أربعا؟ قال: الخلاف شر. وهذا يدل على جواز ذلك وإنكارهما على عثمان كان على ترك الفضيلة، لأنهم كانوا ينكرون في(2/146)
السنن، قال أبو البركات: ومن تأول إتمام عثمان على أنه أجمع الإقامة في الحج فقد أخطأ، لأن عثمان مهاجري، لا يحل له أن يقيم بمكة، والمعروف عنه أنه كان لا يطوف للإفاضة والوداع إلا وراحلته قد رحلت. انتهى.
793 - وقد روى ابن عبد البر عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسافر، فيتم بعضنا، ويقصر بعضنا، ويصوم بعضنا، ويفطر بعضنا، ولا يعيب أحد على أحد. (وقول) عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر. أي في الأجر والثواب.
794 - (وقول) عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أول ما فرضت الصلاة ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.(2/147)
أي: أقرت في حكم الاجتزاء بها، لا في منع الزيادة، بدليل ظاهر القرآن، وما تقدم عنها وعن غيرها من الإتمام.
وأما الأصل الذي قاس عليه الخرقي فلا نزاع فيه أيضا، لما تقدم.
795 - ولما في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحمزة بن عمرو الأسلمي: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» » .
796 - وقول أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الصحيح: «فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» [والله أعلم] .
[القصر والفطر في السفر]
قال: والقصر والفطر أعجب إلى أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» وهذا أمر.
797 - وعن [ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن] النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله يحب أن تؤخذ رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» رواه أحمد.(2/148)
798 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من البر الصوم في السفر» .
799 - وقال: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله» ولأن هذا هو الغالب على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ولهذا أنكره أكابر الصحابة على عثمان لما أتم مع أنه إنما أتم والله أعلم لمعنى كما تقدم.
800 - قال ابن مسعود لما قيل له عن إتمام عثمان: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، فيا ليت حظي من أربع [ركعات] ركعتان متقبلتان. متفق عليه [والله أعلم] .
قال: وإذا دخل وقت الظهر على مسافر وهو يريد أن يرتحل صلى الظهر وارتحل، فإذا دخل وقت العصر صلاها، وكذلك المغرب وعشاء الآخرة، وإن كان سائرا فأحب أن يؤخر الأولى فيصليها في وقت الثانية فجائز.(2/149)
ش: قوله: دخل وقت الظهر على مسافر. أي مسافر له القصر، واعلم أن الصلوات التي تجمع هي الأربع التي مثل بها الخرقي، الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء.
ثم الجمع على ضربين [جمع] تقديم، وهو أن يقدم الثانية إلى وقت الأولى، كأن يقدم العصر إلى وقت الظهر، والعشاء إلى وقت المغرب، وكل منهما على ضربين، تارة يكون نازلا، وتارة يكون سائرا، فالصور أربعة والمشهور المعمول به في المذهب جواز جميعها، وظاهر قول الخرقي اختصاص الجواز بصورة منها، وهو جمع التأخير إذا كان سائرا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
801 - لما روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وفي رواية: كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء» .
802 - (وعن) ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين صلاتي الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء» .(2/150)
803 - ( «وعن) ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. قال سالم: وكان عبد الله يفعله إذا أعجله السير» . متفق عليهن. وظاهرها اختصاص الجمع بجمع التأخير، وبحالة السير.
804 - ووجه المذهب - أنه يجوز في التقديم، وفي حال النزول - ما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» . رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن غريب.
805 - وروى أبو الزبير المكي، «عن أبي الطفيل، أن معاذا أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل(2/151)
ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا.» رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن عبد البر. وقد اشتمل هذا الحديث على جواز [جمع] التقديم، وعلى جوازه في المنزل.
806 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر؟ قالوا: بلى. قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر [قبل أن يركب، وإذا لم تزغ سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر] ، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا حانت العشاء نزل فجمع بينهما» . رواه أحمد فهذا يبين أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين، وإن كان فعله للأول أكثر وأغلب، ولهذا كان منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي عليه أصحابه أن جمع التأخير أفضل.
واعلم أن للجمع في وقت الأولى شروطا، (أحدها) تقديم(2/152)
الأولى لتكون الثانية تابعة لها، لأنها لم يدخل وقتها.
(الثاني) : نية الجمع على الصحيح، ليتميز التقديم المشروع على غيره، ثم هل يكتفى بالنية عند الفراغ، أو لا بد من وجودها عند الإحرام؟ فيه وجهان، أصحهما الثاني.
(الثالث) : أن يوالي بينهما اتباعا لمورد النص، فإن فرق تفريقا كثيرا بطل الجمع، ومرده العرف، لأن الشرع لم يحده، وقد قرب تحديده بالإقامة والوضوء، لأنهما من مصالح الصلاة، فإن صلى سنة الصلاة بينهما ففي بطلان جمعه روايتان، أصحهما البطلان، ومحل الخلاف إذا لم يطل الصلاة، فإن أطالها بطل الجمع رواية واحدة، وكذلك لو أطال الوضوء، كأن كان الماء على بعد منه. (ويخرج) لجمع السفر شرط رابع وهو بقاء السفر إلى أن يفرغ من الثانية.
أما الجمع في وقت الثانية فيشترط له شرطان. (أحدهما) نية الجمع في وقت الأولى، ما لم يضق الوقت عن فعلها، لأنه إذا لم ينوها عصى، لأنه لم يأت بالعزيمة في وقتها ولم يلتزم الرخصة، لأن قبولها بالعزم، فيكون إذًا مؤخرا، ووقت النية ما لم يضق الوقت عن فعل الأولى، لزوال فائدة الجمع، إذ فائدته التخفيف بالمقاربة بينهما، وهو حاصل هنا، لأنه(2/153)
إذا فعل الأولى دخل وقت الثانية في الحال. (الشرط الثاني) الترتيب، وشرطه الذكر، كترتيب الفوائت، لأن الصلاتين قد استقرتا في ذمته واجبتين، فيسقط ترتيبهما بالنسيان كالفائتتين، بخلاف الجمع بينهما في وقت الأولى، فإن الترتيب لا يسقط بالنسيان، وهل يسقط الترتيب هنا بضيق الوقت، بأن لا يبقى من وقت الثانية ما لا يتسع إلا لواحدة؟ أسقطه القاضي في المجرد، ولم يسقطه في تعليقه، وهو مختار أبي البركات، وهل يشترط للجمع في وقت الثانية الموالاة؟ على وجهين أصحهما: لا يشترط.
وقد أشعر كلام الخرقي بأن الجمع جائز، وليس بمندوب إليه، بخلاف القصر والفطر على ما تقدم، وهو المنصوص والمختار للأصحاب، خروجا من الخلاف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يداوم عليه.
807 - ولهذا خفي على بعض الأكابر كابن مسعود، وعنه: الجمع أولى. نظرا للسهولة والتخفيف، والله أعلم.
[حكم من نسي صلاة في الحضر فذكرها في السفر]
قال: وإذا نسي صلاة حضر، فذكرها في السفر، أو(2/154)
صلاة سفر، فذكرها في الحضر، صلى في الحالتين صلاة حضر.
ش: أما إذا نسي صلاة حضر، فذكرها في سفر فصلاتها صلاة حضر بالإجماع، حكاه، أحمد، وابن المنذر، واعتبارا بما استقر في ذمته، وأما إذا نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، صلاها صلاة حضر، قال أحمد: احتياطا. وذلك لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والإتمام، فغلب جانب الإتمام، كما لو أقام المسافر، ولأن القصر رخصة فبزوال سببها يعود إلى الأصل كالمريض.
وقد يفهم من كلام الخرقي بأنه إذا نسي صلاة سفر، فذكرها في السفر أيضا أنه يقصر، وهو كذلك، لشمول النصوص للمؤداة والفائتة، نعم لو ذكرها في سفر آخر فوجهان، أصحهما يقصر أيضا، والله أعلم.
قال: وإذا دخل مع مقيم وهو مسافر أتم.
ش: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» الحديث.
808 - وعن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا دخل المسافر في صلاة المقيم صلى بصلاته. حكاه أحمد، وابن المنذر، ولا يعرف لهما مخالف.(2/155)
809 - وعن نافع، أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يصلي وراء الإمام أربعا، فإذا صلى بنفسه صلى ركعتين. رواه مالك في الموطأ، وللصحيحين معناه.
وكلام الخرقي يشمل الإدراك القليل، حتى لو أدركه في التشهد أتم، وهذا إحدى الروايتين وأصحهما لما تقدم (والثانية) : أنه إذا لم يدرك معه ركعة قصر، جعلا له كالمنفرد، حيث لم يدرك ما يعتد به، كما في الجمعة، فعلى هذا لو أدرك المسافر تشهد الجمعة قصر، وعلى المذهب يتم، نص عليه أحمد [والله أعلم] .
[صلاة المسافر والمقيم خلف المسافر]
قال: وإذا صلى مسافر ومقيم خلف مسافر، أتم المقيم إذا سلم إمامه.
ش: هذا إجماع من أهل العلم.
810 - «وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة،(2/156)
لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: «يا أهل البلد صلوا ركعتين فإنا سفر» رواه أبو داود.
قال: وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم.
ش: هذه إحدى الروايات، واختيار الخرقي، وأبي بكر، وأبي محمد.
811 - لما احتج به أحمد من حديث جابر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها» .
812 - ( «وعن) أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة إلى مكة، فصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قال: وأقمنا بها عشرا» . متفق عليه، قال أحمد: إنما وجه حديث أنس عندي أنه حسب مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا، وإذا حسبت هذه المدة(2/157)
كانت إحدى وعشرين صلاة، فمن أقام مثل هذه الإقامة قصر، وإن زاد أتم، لأن القياس الإتمام في الحضر مطلقا، لأنه الأصل، وقد زال بسبب الرخصة. (والرواية الثانية) إن نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة أتم، وإلا قصر، اختارها القاضي في تعليقه، لأن الذي تحقق أنه نواه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو إقامة أربعة أيام، لأنه كان حاجا، والحاج لا يخرج من مكة قبل يوم التروية، فثبت أنه نوى إقامة الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وأما أول الثامن فيحتمل أنه لم ينوه ابتداء، فلا يعتبر مع الشك. (والرواية الثالثة) : إن نوى إقامة أربعة أيام أتم، وإلا قصر.
813 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا» وقد كان حرم على المهاجر المقام بمكة، فلما رخص له في هذه المدة علم أنها ليست في حكم الإقامة.
814 - وما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع عشرة يقصر الصلاة، فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا، وإن زدنا أتممنا» . رواه البخاري وغيره. محمول(2/158)
على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينو المقام، قال أحمد: أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنينا، ولم يكن ثم إجماع على المقام، [قال: وأقام بتبوك عشرين يوما يقصر، ولم يكن ثم إجماع على المقام] .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن ينوي الإقامة ببلد مسلمين أو كفار، وهو كذلك.
(تنبيه) : يحتسب عندنا بيوم الدخول والخروج، والله أعلم.
قال: وإن قال: اليوم أخرج، أو غدا أخرج. قصر وإن أقام شهرا [والله أعلم] .
ش: لما تقدم في حديث عمران «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في الفتح ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين» .
815 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة» . رواه أحمد، وأبو داود.
816 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يقصر الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا. شهرا.
817 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أقام في بعض قرى(2/159)
الشام أربعين يوما يقصر الصلاة. رواهما سعيد. ولا فرق إذا لم ينو الإقامة، أو نواها مدة لا تمنع القصر بين أن يكون البلد منتهى قصده أو لم يكن، على ظاهر كلام الخرقي، وهو المنصوص، واختيار الأكثرين، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في حجه مدة إقامته بمكة، وكانت منتهى قصده، وكذلك خلفاؤه بعده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقال بعض أصحابنا: إذا كان منتهى قصده لم يقصر حتى يخرج منه، لانتهاء سفره. وهذا كله إذا كان البلد غير وطنه أما وطنه فيمنع القصر بمجرد دخوله إليه، وكذلك إذا كانت له فيه زوجة، أو تزوج فيه، ونقل عنه ابن المنذر: أو مر ببلد ماشية كانت له فيه، وعنه رواية أخرى يتم إلا أن يكون مارا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/160)
[باب صلاة الجمعة]
ش: الجمعة مثلثة الميم حكاه ابن سيده، والأصل الضم، واشتقاقها قيل: من اجتماع الناس للصلاة. قاله ابن دريد، وقيل: بل لاجتماع الخليقة فيه وكمالها.
818 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها سميت بذلك لاجتماع آدم فيه مع حواء في الأرض.
819 - وروى الدارقطني بإسناده عن سلمان الفارسي، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما سميت الجمعة لأن آدم جمع فيها خلقه» .
820 - ولأحمد في مسنده معناه من رواية أبي هريرة. وقيل: إن(2/161)
أول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي، واسمه القديم يوم العروبة، قيل: سمي بذلك لأن العرب كانت تعظمه، قال الله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] .
والأصل في فرضية الجمعة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية.
821 - (وعن) أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه» رواه الخمسة.
822 - وفي الموطأ عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال مالك: لا أدري أعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم لا - نحوه.(2/162)
823 - (وعن) الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر، وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» .
824 - (وعن) صفوان بن سليم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة «لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» رواهما مسلم، والنصوص في الباب كثيرة، سيأتي منها إن شاء الله تعالى جملة [والله أعلم] .(2/163)
[وقت صلاة الجمعة]
قال: وإذا زالت الشمس يوم الجمعة صعد الإمام على المنبر.
ش: لما كان المقصود بالذات هو بيان صفة الصلاة بدأ به الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى فقال: وإذا زالت الشمس، والمراد بهذا على طريق الأولوية، أما الجواز فسيأتي له أنه في السادسة أو الخامسة، وإنما كان الأولى فعلها إذا زالت الشمس.
825 - لما «روى سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا نجمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء. متفق عليه، وفي رواية: نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به» .
826 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» ، رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، ولأن فيه خروجا من الخلاف، فإن الإجماع على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة.
وفي كلام الخرقي إشعار بأنها تفعل عقب الزوال صيفا وشتاء، وذلك لما تقدم.(2/164)
827 - وقد «قال سهل بن سعد: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم تكون القائلة، وفي رواية: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة» . متفق عليه، ولأن الجمعة يجتمع لها الناس، فلو انتظر لها الإبراد شق عليهم.
وقول الخرقي: صعد الإمام على المنبر. فيه استحباب المنبر، ولا نزاع في ذلك.
828 - وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ منبرا، وخطب عليه ولذلك توارثته الأمة بعده، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام، وهو حكمة مشروعية المنبر.
829 - قال أبي بن كعب: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هل لك أن نجعل لك شيئا تقوم عليه يوم الجمعة، حتى يراك الناس، وتسمعهم خطبتك؟ قال: «نعم» فصنع له ثلاث درجات، فلما صنع المنبر وضع في موضعه الذي وضعه فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما(2/165)
أراد أن يأتي المنبر مر عليه، فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق، فرجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر» . رواه أحمد.
قال: فإذا استقبل الناس سلم عليهم.
830 - ش: لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم» . رواه ابن ماجه.
831 - وعن أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وابن الزبير كذلك، رواه عنهم الأثرم، وكذلك روى النجاد عن عثمان، ولا نزاع فيما نعلمه أن يسلم عليهم إذا خرج عليهم كغيره.
وقول الخرقي: إذا استقبل [الناس] فيه إشارة إلى استحباب استقبال الخطيب: الناس، وهو كالإجماع قاله ابن المنذر، وينحرف الناس إليه.(2/166)
832 - «قال ابن مسعود: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا» . رواه الترمذي، ومنصوص أحمد أن الاستقبال وقت الخطبة، وقال أبو بكر في التنبيه: يستقبل إذا خرج. [والله أعلم] .
قال: وردوا عليه [السلام] .
ش: الرد عليه واجب كما في غيره، ويجزئ رد البعض.
833 - قال زيد بن أسلم: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يسلم الراكب على الماشي، وإذا سلم أحد من القوم أجزأ عنهم» رواه مالك في الموطأ.
قال: وجلس.
ش: لما سيأتي إن شاء الله تعالى من حديث السائب.
قال: وأخذ المؤذنون في الأذان.
834 - ش: لما روى السائب بن يزيد قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وعمر، فلما كان في خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان(2/167)
يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك» . رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي.
[البيع وقت أذان الجمعة]
قال: وهذا الأذان الذي يمنع البيع، ويلزم السعي، إلا لمن منزله في بعد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون فيه مدركا للجمعة.
ش: الأذان للجمعة في الجملة يمنع البيع، ويلزم السعي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية.
والمؤثر في ذلك هو الأذان الذي بين يدي الإمام على المنبر، لأنه هو الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالآية وردت عليه، فيتعلق الحكم به. (وعن أحمد) رواية أخرى أن المنع من البيع ولزوم السعي يتعلق بالأذان الأول، الذي أحدثه عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لعموم الآية.
835 - مع الأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين من بعده، رضي الله(2/168)
عنهم. (وعنه) رواية ثالثة أن المنع يتعلق بالزوال، لأنه أمر منضبط، لا يختلف، بخلاف الأذان، ولدخول وقت الوجوب، قال أبو البركات: وقياس هذا وجوب السعي إذا للتمكن، والأول المذهب.
ووجوب السعي بالأذان في حق من منزله قريب، يدرك بذلك، أما من منزله بعيد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب، والجمعة واجبة، ولا تتم إلا بالسعي إليها قبل النداء، فيجب السعي إذ ذاك، وهذا في السعي الواجب، أما المسنون فمن طلوع الفجر عندنا.
836 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه، ولمالك في الموطأ «ثم راح(2/169)
في الساعة الأولى» » وذكر الساعات بالألف واللام ينصرف إلى المعهودات.
837 - ولقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنى من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها» رواه الخمسة. وما قيل: من أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال مؤول بأن المراد بالرواح القصد إليها، كما يقال للخارج للحج حاج، والله أعلم.
وقول الخرقي: وهذا الأذان الذي يمنع البيع [أي] في حق من تلزمه الجمعة، لأنه هو المأمور بالسعي، فلا يحرم على امرأة، وعبد، ونحوهما، نعم يكره ذلك [منهما] في الأسواق ونحوها، حذارا من الاستخفاف بحرمة الأذان، ولما فيه من تغرير من لا علم عنده بذلك، وحكى ابن أبي موسى(2/170)
رواية في بيع من لا تلزمه الجمعة من المقيمين أنه لا يصح، والأول المذهب.
وقوله: يمنع البيع. أي يمنعه بالكلية، فلا يصح، نظرا لقاعدة النهي في اقتضائه الفساد، وقيل: يصح مع التحريم. وقد شمل كلام الخرقي جميع أنواع البيع، من الصرف، والسلم، والتولية، والإقالة إن قيل: إنها بيع، ونحو ذلك، وكذلك الإجارة، قاله ابن عقيل، وشمل بيع القليل والكثير، وهو كذلك، حتى شرب الماء ونحوه، [وقوله لشخص: أعتق عبدك عني. قاله ابن عقيل] .
واستثني من كلام الخرقي إذا اضطر إلى البيع في ذلك الوقت، لجوع، أو عطش شديد، يخاف منه الهلاك، أو التضرر في نفسه تضررا يباح [في] مثله استعمال الأبدال، فإنه يجوز له الشراء، ويجوز للمالك البيع. وكذلك يستثنى شراء كفن، وحنوط لميت يخشى عليه الفساد، وكذلك شراء أبيه ليعتق [عليه] وشراء ما يستعين به على حضور الجمعة، كشراء أعمى عبدا يأخذ بيده، ونحو ذلك، على احتمال فيهما ذكره ابن عقيل.
[ومقتضى كلامه أنه لو جاء وقت النداء ولم يناد - لعذر(2/171)
للإمام، أو لفتنة، ونحو ذلك - لم يمنع البيع، وهو كذلك، وأن النداء لغيرها من الصلوات لا يمنع. وهو أحد احتمالي ابن عقيل، وظاهر كلام الأصحاب. والثاني: يمنع النداء لغيرها، كما يمنع لها، وينبغي أن يكون المراد بهذا النداء الإقامة] .
وخرج منه غير البيع، من النكاح ونحوه، وهو أصح [الوجهين أو] الروايتين، وقيل: الصحيح العكس. وكذلك خرج فسخ العقد، وإمضاؤه، وهو كذلك، إذ ليس ببيع [قال ابن عقيل، وقد يتخرج فيه ما يخرج في الرجعة في حق المحرم، وأن فيها روايتين، وأشار بأن الخيار [قد] يفضي إلى المنع من الجمعة، كما أن الرجعة قد تفضي إلى النكاح، ثم أشار أيضا إلى أنا إذا جعلنا الرجعة كالعقد، فأولى أن نجعل الارتجاع كالبيع، لأن الرجعية ملكه، بخلاف المبيع، ثم قال: والصحيح الأول] .
(تنبيه) : لو وجد أحد شقي العقد قبل النداء، والآخر بعده، أو كان أحد العاقدين لا جمعة عليه، لم يصح العقد، لأن بعض المنهي ككله، قاله صاحب التلخيص، وابن عقيل، وبالغ فقال: لو نودي بالصلاة بعد ما شرع في(2/172)
القبول لم يتمه، وأورد أبو محمد المذهب أنه يحرم في حق من تلزمه الجمعة، [ويكره في حق غيره، ولو كان للبلد جامعان يصح إقامة الجمعة] فيهما، فسبق النداء في أحدهما، فهل يحرم البيع مطلقا، أو لا يحرم إلا إذا كان الجامع الذي نودي فيه من جنب داره، أما لو كان من الجانب الذي داره ليس فيه فلا يحرم؟ فيه احتمالان، ذكرهما ابن عقيل، والله سبحانه أعلم.
[الخطبة من شروط صحة الجمعة]
قال: فإذا فرغوا من الأذان خطبهم قائما.
ش: لا إشكال في مشروعية الخطبة، إذ ذاك مما استفاضت به السنة الصحيحة، ومذهبنا ومذهب الجمهور أن الخطبة شرط لصحة الجمعة، لأن الله أمر بالسعي إلى ذلك بقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] والمراد به - على ما قال المفسرون - الخطبة، وظاهر الأمر الوجوب، والسعي الواجب لا يكون إلا إلى واجب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم على ذلك، مع قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
838 - ولأن الخطبتين بدل عن الركعتين، كذا روي عن عمر، وابنه، وعائشة، وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(2/173)
وقول الخرقي: قائما. ظاهره الوجوب، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.
839 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن قال: إنه كان يخطب جالسا. فقد كذب، فلقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة» . رواه مسلم وغيره.
840 - ودخل كعب بن عجرة، وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا، فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] رواه مسلم والنسائي، وبهذا استدل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (والرواية الثانية) - وهي المشهورة عند الأصحاب - يجوز أن يخطب جالسا، والقيام سنة، لظاهر الآية الكريمة، فإن الذكر قد أطلق ولم يقيد، والمقصود حاصل بدونه، وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل على الفضيلة، والله أعلم.(2/174)
قال: فحمد الله [عز وجل] وأثنى عليه، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وقرأ شيئا من القرآن ووعظ] .
841 - ش: أما الحمد والثناء على الله تعالى، فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» رواه أبو داود.
842 - وعن جابر بن عبد الله قال: «كانت خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله» . وذكر الحديث رواه مسلم، (وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فلأن الخطبة اشترط فيها ذكر الله تعالى، فيشترط فيها ذكر رسوله كالأذان.
843 - «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذكر إسراء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر فيه قول الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قال: «فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي» رواه الخلال في كتاب العلم، وكتاب السنة.(2/175)
844 - (وأما قراءة شيء من القرآن) فلما روى جابر بن سمرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائما، ويجلس بين الخطبتين، ويقرأ آيات، ويذكر الناس» . رواه أحمد ومسلم.
قال: ثم جلس.
ش: [لا إشكال] في سنية هذا الجلوس بين الخطبتين، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تقدم في حديث جابر بن سمرة.
845 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس» ، ولا يجب على المذهب المشهور، لحصول المقصود بدونه.
846 - وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لم يجلس بين الخطبتين. ذكره أحمد، وابن المنذر.(2/176)
847 - وروى النجاد عن أبي إسحاق قال: رأيت عليا يخطب على المنبر، فلم يجلس حتى فرغ، والظاهر أنه قد حضرهما جماعة من الصحابة، ولم ينقل إنكار، وذهب أبو بكر النجاد من أصحابنا إلى وجوبه، لمداومته على ذلك، والله أعلم.
قال: وقام فأتى أيضا بالحمد لله، والثناء عليه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرأ ووعظ.
ش: قوله: قام. يعني يخطب خطبة ثانية، ولا إشكال أن المذهب وجوب الثانية كالأولى، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين، وفعله وقع بيانا لمجمل الذكر المأمور به في الآية الكريمة، ولأن الخطبتين بدل الركعتين، فليكونا واجبتين كهما. (وقيل) : عن أحمد ما يدل على أن الواجب خطبة واحدة، ولا عمل عليه. (ثم) الثانية تشتمل على ما اشتملت عليه الأولى من الحمد، والصلاة، والقراءة، لما تقدم، وزاد الخرقي في الثانية الموعظة، لحديث جابر بن سمرة: ويذكر الناس. ولأنه المقصود من الخطبة، والمهتم به.(2/177)
واعلم أن هذه الأربع من الحمد، والصلاة، والقراءة، والموعظة، أركان للخطبتين، لا تصح واحدة من الخطبتين إلا بهن، [إلا أن القراءة لا تجب إلا في خطبة واحدة، ومن الأصحاب من يشترط الإتيان بلفظ الحمد] ، وقد تقدمت الإشارة إلى دليل ذلك، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يجب إلا الحمد والموعظة. وظاهر كلام الخرقي أن الموعظة لا تجيء إلا في الثانية، وفي المذهب قويل: أن القراءة لا تجب إلا في خطبة، ومن الأصحاب من يعين الأولى.
848 - لما روي عن الشعبي أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس، وقال: «السلام عليكم» ويحمد الله ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس» ، ثم يقول: فيخطب، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه. رواه الأثرم. وظاهره أن القراءة في الأولى، والموعظة في الثانية، والأول المذهب (ولا يشترط) الإتيان بلفظ الوصية، بل إذا قال: أطيعوا الله. ونحو ذلك أجزأه، ولهذا قال الخرقي: ووعظ. (ويتشرط) الإتيان بلفظ الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند العامة، وعند أبي البركات، يكتفي بنحو: وأن محمدا عبده ورسوله. فالواجب عنده ذكر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا لفظ الصلاة، اعتمادا(2/178)
على ظاهر حديث أبي هريرة في {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] .
والواجب في القراءة قراءة آية على المشهور، وعنه يكتفى بقراءة بعض آية، وهو ظاهر كلام الخرقي، ونظر أبو البركات إلى المعنى، فاكتفى ببعض آية يحصل المقصود، نحو {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] ولم يكتف بآية لا تحصله، نحو {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] و {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] ولا يعبر عن القراءة بغيرها كـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] في الصلاة، نعم من لا يحسنها، ولم يوجد غيره، فهل يبدلها بفضل ذكر، كما في الصلاة، وكما يأتي ببقية الأركان بلغته، أو تسقط عنه القراءة رأسا، لحصول معناها من بقية الأركان؟ فيه احتمالان. ويبدأ بالحمد، ثم بذكر الرسول ثم بالموعظة، ثم بالقراءة، فإن نكس فوجهان (ويشترط) للخطبتين أيضا تقديمهما على الصلاة، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحضور العدد المعتبر للجمعة، لسماع أركانهما، لأنهما بدل الركعتين، فإن فات السماع لنوم، أو ضجة، أو غفلة لم يؤثر، وإن فات لبعدهم عنه، أو لخفض صوته أثر، وكان كما لو خطب وحده، وإن فات لصمم بهم وهم بقربه، ووراءه من لا(2/179)
يسمعه للبعد، ولا صمم به فوجهان، ويشترط لهما أيضا الوقت، لأنهما كبعض الصلاة، ويشترط أيضا الموالاة في الخطبة، وبين الخطبتين، وبينهما وبين الصلاة، على الأصح، بأن لا يفرق بينهما تفريقا فاحشا.
وهل يشترط النطق للخطبة؟ فيه قولان، أصحهما نعم، فلو كانوا كلهم خرسا صلوا ظهرا، والثاني: لا. فيخطب أحدهم بالإشارة. (وهل) يشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة؟ فيه ثلاث روايات: أصحها عند أبي البركات عدم الاشتراط، وأشهرها عند صاحب التلخيص الاشتراط، والثالثة يجوز للعذر كالحدث والحصر والعزل دون غيره فحيث جاز فهل يشترط أن يكون المستخلف ممن شهد الخطبة؟ فيه روايتان أصحهما لا؛ هذا إن كان العدد تاما بدون المستخلف الذي لم يشهد الخطبة، أما إن لم يتم إلا به فإن التجميع لا يجوز لهم بحال.
وهل يشترط لهما الطهارة؟ أما الطهارة الصغرى فلا تشترط، على ما جزم به الأكثرون، القاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وأبو البركات وغيرهم، وحكى أبو محمد رواية بالاشتراط، وأخذها من قول أبي الخطاب في الهداية: ومن سننهما الطهارة، وأن يتولاهما من يتولى الصلاة، وعنه أن ذلك من شرائطهما، فرجع بالإشارة إلى المسألتين وأما أبو البركات فرجع(2/180)
بالإشارة إلى الثانية، وجعل الأولى محل وفاق، وهذا أولى، توفيقا بين كلام الأصحاب، إذ لم نر أحدا حكى الخلاف في ذلك إلا صاحب التلخيص، فإن كلامه ظاهر في حكاية قول بالاشتراط. (وأما الطهارة الكبرى) فمنصوص أحمد أيضا في رواية صالح صحة الخطبة مع فقدها، قال: إذا خطب بهم جنبا، ثم اغتسل وصلى بهم، أرجو أن تجزئه. وتبع إطلاق المنصوص الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وقيده القاضي في جامعه، وفي تعليقه، وصاحب التلخيص فيه: بأن يكون المنبر خارج المسجد، لأن لبثه فيه معصية تنافي العبادة، وقال صاحب التلخيص، وأبو محمد: لا تصح خطبته مطلقا، بناء على الصحيح في اعتبار الآية للخطبة، ومنع الجنب منها، وقال الشريف: إنه [قياس] قول الخرقي، وكأنه أخذ ذلك من عدم اعتداده بأذان الجنب، وأبو البركات خرج المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، حيث حرمت القراءة، أما لو اغتسل ثم قرأ الآية، أو نسي الجنابة، فإن الخطبة تصح، لعدم تحريم القراءة، ولا أثر عنده للبث، لأنه قد يتوضأ فيباح له، وقد ينسى جنابته، وحيث حرم عليه لا أثر له في شيء من واجبات العبادة، فهو كما لو أذن جنبا في المسجد. والله أعلم.(2/181)
قال: وإن أراد أن يدعو لإنسان دعا.
ش: أي للسلطان ونحوه، لأن صلاحه صلاح المسلمين، ولأن الدعاء للمعين يجوز في الصلاة على الصحيح، فكيف بالخطبة، ولا يستحب ذلك، لما فيه من مخالفة السبب، نعم دعاؤه للمسلمين مستحب.
849 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا في خطبة الجمعة مستسقيا. ويستحب رفع اليد في الدعاء عند ابن عقيل، لعموم مطلوبية رفع الأيدي في الدعاء، وهو بدعة عند أبي البركات.
850 - لما «روى عمارة بن رؤيبة، أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال: قبح الله تينك اليدين، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة» ، رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
قال: [ثم تقام الصلاة] وينزل.
ش: كذلك توارثه الخلف، عن السلف، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمراد بثم هنا الترتيب، وأن الصلاة تتأخر عن الخطبة، وليس المراد التراخي، بل الموالاة شرط كما تقدم، وهل ينزل عند قول المؤذن: قد قامت(2/182)
الصلاة. أو يبادر بحيث يصل إلى المحراب عند قولها؟ فيه احتمالان، حكاهما في التلخيص.
[عدد ركعات الجمعة والقراءة فيها]
قال: فيصلي بهم الجمعة ركعتين.
ش: هذا إجماع معلوم بالضرورة، وقد قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر.
قال: يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد، وسورة.
ش: لا نزاع في ذلك، وقد استفاضت السنة بذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمستحب أن تكون السورة في الأولى الجمعة، وفي الثانية المنافقين، على المشهور من الروايتين.
851 - لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الفجر [يوم الجمعة] {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] في الأولى، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
852 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بهما. مختصر، رواه مسلم أيضا وغيره. (والرواية(2/183)
الثانية) : يقرأ في الثانية بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] اختارها أبو بكر في التنبيه.
853 - لما روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرت «عن ابن مسعود قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الجمعة يقرأ بسورة الجمعة، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي صلاة الصبح يوم الجمعة {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] .»
854 - وقد جاء في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالغاشية» .
855 - «وأنه قرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية» .
856 - وجاء في سنن سعيد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ مع سورة الجمعة {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] » والله أعلم.
قال: ويجهر بالقراءة.(2/184)
ش: هذا أمر متوارث من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى زماننا هذا، والله أعلم.
[ما تدرك به الجمعة]
قال: ومن أدرك معه منها ركعة يسجد فيها أضاف إليها أخرى، وكانت له جمعة.
857 - ش: لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة» .
858 - ويؤيده ما روى النسائي عن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت صلاته» .
859 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك» رواه النسائي أيضا.(2/185)
قال: ومن أدرك معه أقل من ذلك بنى على ظهر، إذا كان قد دخل بنية الظهر.
ش: إذا أدرك مع الإمام أقل من ركعة بسجدتيها فله صورتان (إحداهما) أن يدرك معه ما لا يعتد له به، كما إذا أدركهم في التشهد، أو بعد الركوع في الثانية، والمذهب المعروف هنا أن الجمعة لا تحصل له.
860 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: « «من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى، ومن أدركهم جلوسا صلى الظهر أربعا» ، رواه الدارقطني وغيره من طرق فيها مقال، إلا أن أحمد، قال: لولا الحديث الذي يروى في الجمعة، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوسا. وظاهر هذا أنه يعتمد عليه.(2/186)
861 - ولأن هذا قول الصحابة، حكاه أبو بكر عنهم في التنبيه إجماعا، وقال مهنا: قلت لأحمد: إذا أدركت التشهد مع الإمام يوم الجمعة كم أصلي؟ قال: أربعا، كذلك قال ابن مسعود، وكذلك فعل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وحكى بعضهم رواية عن أحمد أن الجمعة تدرك ولو بتكبيرة، كبقية الصلوات.
862 - ولعموم «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» ومنع بعض الأصحاب من صحة الصلاة مع الإمام والحال هذه رأسا، لأن الجمعة فاتته، والظهر لا تصح خلف من يؤدي الجمعة لاختلاف النيتين، والمذهب الأول، وعليه إذا لم تصح له جمعة فتصح له ظهرا، ولكن بشرط أن ينويه بإحرامه،(2/187)
على قول الخرقي، فلو نوى جمعة لم تصح، وهو ظاهر كلام أحمد، لأنه قال: يصلي الظهر أربعا، واختيار أبي البركات، وذلك لظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ومن أدركهم جلوسا صلى الظهر أربعا» ولأنه إن نوى جمعة فما هي فرضه، فقد ترك فرضه، ونوى غيره، فأشبه من عليه الظهر فنوى العصر، وقال أبو إسحاق ابن شاقلا - وزعم القاضي في التعليق في موضع أنه المذهب - ينوي جمعة، ويبني على ظهر لئلا تخالف نيته نية إمامه، وقيل: إن مبنى الوجهين أن الجمعة هل هي ظهر مقصورة، أم صلاة على حيالها؟ فيه وجهان ذكرهما ابن شاقلا، وعلى الوجهين شرط صحة الظهر إحرامه بعد الزوال، فإن كانت قبله كانت نفلا، ولم يجزئه جمعة لفواتها، ولا ظهرا لفوات شرطها وهو الوقت.
والصورة الثانية أن يدرك معه ما يعتد به، كمن أدرك الركوع في الثانية، وزحم عن السجود، أو أدرك القيام، وزحم عن الركوع والسجود، أو سبقه الحدث ففاته ذلك(2/188)
بالوضوء - وقلنا: يبني - حتى سلم الإمام. ففيه روايات (إحداها) يتمها جمعة، (اختارها) الخلال، لأنه أدرك ما يعتد به، أشبه مدرك الجمعة (والثانية) : لا يدرك الجمعة. وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، [والقاضي، وظاهر قول ابن أبي موسى] وأبي الخطاب، لما تقدم في الصورة الأولى من النص والإجماع. (والرواية الثالثة) : إن أدرك الركوع، وزحم عن السجود، أو نسيه أتمها جمعة، وإن فاته الركوع والسجود لم يصل جمعة، لأنه فاته معظم الركعة.
وحيث قيل: لا يصلي جمعة. فهل يصلي ظهرا، أو يستأنف؟ يبنى على الخلاف، واختيار [الخرقي] وأبي البركات عدم البناء، لأن شرط البناء الدخول بنية الظهر، وقد فات ذلك، وعلى قول بأنه لا يدرك الجمعة لو أدرك السجدتين في التشهد قبل سلام الإمام فقد تمت ركعته، وأدرك بها الجمعة على رواية صححها أبو البركات، وعلى أخرى لا، ومبناهما أن الإدراك الفعلي هل هو كالحكمي؟ والله أعلم.(2/189)
قال: ومتى دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أتموا بركعة أخرى، وأجزأتهم جمعة.
ش: آخر وقت الجمعة آخر وقت الظهر بالاتفاق فإذا خرج وقت الظهر وقد أحرموا بالجمعة أتموها جمعة، وأجزأتهم عند جمهور الأصحاب، أبي بكر، وابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي وأصحابه، حتى إن أبا البركات حكاه عن ما عدا الخرقي، لأنها صلاة مؤقتة، فلا يمنع خروج وقتها إتمامها، كبقية الصلوات.
وظاهر كلام الخرقي أنهم إن أدركوا ركعة أتموها جمعة، وإن أدركوا أقل من ذلك فلا، وبه قطع أبو محمد في المقنع، لمفهوم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك» «ومن أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت جمعته» وعلى هذا إذا لم يصلوا ركعة فهل يتمون ظهرا، أو يستأنفون ظهرا؟ على وجهين سبقا.
وليس عن أحمد في المسألة نص إلا فيما قبل السلام، فإنه قال في رواية صالح وعبد الله: إذا صلى الإمام الجمعة فلما تشهد قبل أن يسلم دخل وقت العصر، فإنه تجزئه صلاته.(2/190)
فأخذ أبو محمد من هذا أن ظاهر كلام أحمد أن الوقت يشترط لجميع الصلاة لا السلام وأن الوقت إن خرج قبل ذلك صلوا أو استأنفوا، ولم يعرج أحد من الأصحاب فيما علمت على ذلك، ودعوى أبي محمد أن هذا ظاهر النص يتنازع فيه، فإن ظاهره أنه وقع جواب سؤال كما هو دأب أحمد، وإذا فلا مفهوم له اتفاقا، وإن لم يكن جواب سؤال فقد يسلم الظاهر بناء على المفهوم، وقد ينازع فيه، والله أعلم.
[حكم من دخل والإمام يخطب]
قال: ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما.
863 - ش: في الصحيحين عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: «صليت يا فلان» ؟ قال: لا. قال: «قم فاركع ركعتين» وفي رواية أبي داود قال له: «يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما» ثم قال: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما» » ويقتصر من عليه فائتة عليها، وكذلك من لم يصل سنة الجمعة، إن قيل لها سنة، لأن الصلاة تحصل بكل صلاة يصليها، ولو كانت الجمعة في غير مسجد كدار وصحراء لم يصل شيئا، على ظاهر كلام الأصحاب، لأن الركعتين تحية المسجد، وقد عدم سببهما.(2/191)
وقد أشعر كلام الخرقي بمنع الصلاة في حال الخطبة، وهو كذلك، ينقطع النفل المبتدأ بجلوس الإمام على المنبر.
864 - لما روى نبيشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة، ثم أقبل إلى المسجد، لا يؤذي أحدا، فإن لم يجد الإمام قد خرج [صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج] جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها» رواه أحمد.
865 - وعن عمر: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. ويستوي في المنع من النفل من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها على الصحيح لما تقدم.(2/192)
866 - وعن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر، وأذن المؤذنون، جلسنا نتحدث، حتى إذا سكت المؤذن، وقام عمر سكتوا، فلم يتكلم أحد. رواه مالك في الموطأ. وقال ابن عقيل: يتطوع الذي لا يسمع بما شاء، معللا بأن المنع كان لأجل السماع وقد انتفى. والله أعلم.
[العدد الذي تصح به الجمعة]
قال: وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة، وإن صلوا أعادوها ظهرا.
ش: يشترط لصحة الجمعة وانعقادها حضور أربعين رجلا، حرا [مكلفا] ، مستوطنا، مقيما، في المشهور من الروايات، قال ابن الزاغوني: اختاره عامة المشايخ.
867 - لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك - وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره - عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، قال: فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أول من جمع بنا، في هزم النبيت من حرة بني بياضة، في بقيع يقال له بقيع الخضمات. قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا رواه أبو داود.(2/193)
868 - وقال أحمد في رواية الأثرم: «بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين» وكانت أول جمعة جمعت، ويقال: إن هذه(2/194)
الجمعة هي المنسوبة إلى أسعد بن زرارة، وهذا صريح في انعقاد الجمعة بأربعين، فاقتصرنا عليه، إذ التجميع تغيير فرض، فلا يصار إليه إلا بنص أو اتفاق، ولم يثبت ذلك.
869 - وقد روي عن جابر قال: «مضت السنة أن في كل [أربعين] فما فوق [ذلك] جمعة، وأضحى، وفطرا» . رواه الدارقطني لكنه ضعيف (والرواية الثانية) لا تنعقد إلا بخمسين.
870 - لما روي عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على الخمسين جمعة، وليس فيما دون ذلك» رواه الدارقطني.
(والرواية الثالثة) : تنعقد بثلاثة. لإطلاق {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وهذا جمع، وأقله ثلاثة. (والرواية الرابعة) تنعقد بسبعة، حكاها ابن حامد، وعلى جميع الروايات هل يشترط كون الإمام زائدا على العدد المعتبر؟ فيه روايتان، أصحهما: لا.(2/195)
إذا تقرر هذا فمتى كان في القرية دون العدد المعتبر فإن الجمعة لا تجب عليهم، لفقد الشرط، ومتى صلوا جمعة أعادوا ظهرا، لأنه الواجب عليهم، لا ما فعلوه.
وقد أشعر كلام الخرقي بجواز إقامة الجمعة في القرى، وأنه لا يشترط لها المصر، وهو كذلك لما تقدم من حديث أسعد بن زرارة، ولأجل هذا الحديث جوز أصحابنا إقامتها فيما قارب البنيان من الصحراء، [والله أعلم] .
[تعدد الجمعة في البلد الواحد]
قال: وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع، فصلاة الجمعة في جميعها جائزة.
ش: لا خلاف في المذهب أنه لا يجوز إقامة جمعتين في بلد من غير حاجة، لأنه خلاف فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من بعده، واختلف هل يجوز مع الحاجة، كما إذا كان البلد كبيرا، يشق على أهله التجميع في مكان واحد، أو لا يسعهم جامع واحد، أو يخشى من الإقامة بمكان واحد فتنة ونحو ذلك، فعنه: لا يجوز لما تقدم، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: هل علمت أن أحدا جمع جمعتين في مصر واحد؟ قال: لا أعلم أحدا فعله. (وعنه) - وهو المشهور، واختيار الأصحاب - يجوز قياسا على العيد، بجامع مشروعية الاجتماع لهما، والخطبة.
871 - ودليل الأصل ما حكاه الإمام أحمد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان يأمر رجلا يصلي بضعفة الناس في المسجد صلاة العيد، ويخرج هو إلى الجبانة ولأن منع ذلك يفضي إلى(2/196)
منع خلق كثير من التجميع، وهو خلاف مقصود الشارع.
872 - ولأن صلاة الجمعة في الخوف جائزة على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذات الرقاع، إذا كمل العدد في كل طائفة، والطائفة الثانية قد استفتحت الصلاة بعدما صلاها غيرهم، وجواز ذلك كان لحاجة عارضة، فمع الحاجة الدائمة أولى، [والله أعلم] .
[صلاة الجمعة للمسافر]
قال: ولا تجب الجمعة على مسافر، ولا امرأة، ولا عبد، وإن حضروها أجزأتهم، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العبد روايتان، إحداهما أن الجمعة واجبة عليه، والأخرى ليست بواجبة عليه.
ش: اعلم أن لوجوب الجمعة شروطا، ثم من تجب عليه تارة [تجب عليه] بنفسه وتارة تجب عليه بغيره، فمن تجب عليه بنفسه يشترط له شروط. (أحدها) أن يكون ممن يكلف بالمكتوبة، وهو المسلم، العاقل، البالغ، فلا تجب على كافر، ولا مجنون، ولا صبي، وفي كلام الخرقي ما يدل على ذلك حيث قال: وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة. ذلك لأنها صلاة مكتوبة، أشبهت بقية(2/197)
المكتوبات. وهل تلزم الجمعة ابن عشر إن قلنا: تجب عليه المكتوبة؟ فيه وجهان، أصحهما: لا.
873 - لأن في النسائي عن حفصة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رواح الجمعة واجب على كل محتلم» » (الشرط الثاني) الذكورية فلا تجب على امرأة، وقد صرح به الخرقي هنا.
874 - لما روى طارق بن شهاب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة، عبد مملوك، أو امرأة أو صبي أو مريض» رواه أبو داود، وقال: طارق رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمع منه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن لا جمعة على النساء، ولا تجب على خنثى مشكل، لأن ذكوريته لم تتحقق.
الشرط الثالث: الحرية فلا تجب على عبد، في أشهر الروايات وأصحها عند الأصحاب.
875 - لما تقدم من حديث طارق، وروي نحوه من حديث جابر، رواه الدارقطني (والرواية الثانية) تجب عليه، لدخوله في(2/198)
الآية الكريمة، لأنه من الذين آمنوا، (والرواية الثالثة) إن أذن له سيده وجبت عليه، وإلا فلا تجب عليه، لأن المنع ملحوظ فيه كونه لحق السيد، لاشتغاله بالخدمة، فإذا أذن له زال المانع، والمكاتب والمدبر كالقن، وكذلك المعتق بعضه، لتعلق حق المالك بباقيه، وقيل: تلزمه الجمعة في يوم نوبته إن كان ثم مهايأة، تغليبا لجانب العبادة، ويحتمل هذا كلام الخرقي، لأنه إنما نفى الوجوب عن العبد.
(الشرط الرابع) : الإقامة، فلا تجب على مسافر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وافى عرفة يوم جمعة، فجمع بين الظهر والعصر، ولم يجمع، ومعه الخلق الكثير، ولم يزل هو وخلفاؤه يسافرون للنسك والجهاد، ولم يصلوا في أسفارهم جمعة، وكما لا يلزم المسافر جمعة بنفسه، فكذلك بغيره، نص عليه.
876 - لما روي عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريض أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك» رواه الدارقطني.
(الشرط الخامس) : الاستيطان. فلا جمعة على أهل قرية يسكنونها شتاء، ويظعنون عنها صيفا، وكذلك بالعكس، وكذلك المقيم إقامة تمنع القصر، لتجارة، أو علم، لا جمعة عليه إن لم يكن أهل البلد ممن تلزمهم الجمعة، لعدم(2/199)
الاستيطان، وكذلك المسافر إلى بلد دون مسافة القصر، وأهله ليسوا من أهل الجمعة.
877 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بعرفة يوم الجمعة ومعه خلق كثير من أهل مكة، ولم يأمرهم بجمعة، وهذا الشرط أهمله الخرقي. (الشرط السادس) الوطن وهي القرية المبنية مما جرت العادة به، من حجر، أو قصب، أو خشب، فلا جمعة على أهل الحلل والخيام، لأن المدينة كان حولها حلل [وخيام] وأبيات من العرب، ولم ينقل أنهم أقاموا جمعة، ولا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بذلك.
(الشرط السابع) إذا بلغوا أربعين، وقد تقدم هذا الشرط والكلام عليه (فالتكليف) شرط للوجوب [والصحة، إلا البلوغ فإنه شرط للوجوب] والانعقاد، [ (والذكورية) شرط للوجوب والانعقاد] وكذلك الحرية والإقامة، فالمسافر والعبد والمرأة لا تجب عليهم الجمعة، ولا تنعقد بهم، ولا تصح إمامتهم فيها، وتصح منهم إجماعا، لأن السقوط عنهم رخصة، وأما الاستيطان، والوطن والعدد فشروط أيضا للانعقاد والوجوب [على المكلف] بنفسه.
وقد تجب عليه بغيره، وهو ما إذا سمع النداء كأهل الحلل، والخيام، والقرية التي فيها دون العدد المعتبر، أو التي(2/200)
يرتحل عنها أهلها بعض السنة، فهؤلاء إذا كانوا من البلد الذي يجمع فيه بحيث يسمعون النداء لزمهم السعي إلى الجمعة، نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا تنعقد بهم الجمعة، وهل تصح إمامتهم؟ فيه احتمالان، فالصحة للزوم الجمعة له، وعدمها لعدم انعقادها به، وحكم فاقد الاستيطان - كالمقيم في مصر لعلم، أو شغل ونحو ذلك - كذلك على أصح الوجهين، وقيل: لا تجب [عليه] أصلا، لأنه عن وطنه على مسافة تمنع النداء، أشبه المسافر، وإنما اعتبرنا سماع النداء لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] الآية.
878 - مع ما روى عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود والدارقطني، وفي لفظ للدارقطني «إنما الجمعة على من سمع النداء» » وإذا عدم سماع النداء انتفى وجوب الجمعة بنفسه وبغيره، لكنهم إذا حضروها صحت منهم، أما إن أقاموها بأنفسهم فلا تصح(2/201)
منهم، وقد تقدم ذلك للخرقي في دون الأربعين، والمعتبر في حق من تلزمه بسماع النداء أن يكون بمكان يسمع منه النداء غالبا إذا كان المؤذن صيتا، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة والموانع زائلة، إذ اعتبار حقيقة السماع لا تمكن، لاختلافه باختلاف حال المنادي، والسامع، ومكانهما، ثم إن أحمد في رواية الأثرم اعتبر سماع النداء وأطلق، وفي رواية صالح، وإسحاق بن إبراهيم قيده بالفرسخ، فاختلف أصحابه فمنهم من لم يقدر النداء بحد على ظاهر رواية الأثرم، وجعل التحديد بالفرسخ رواية أخرى، فتكون [المسألة] على روايتين، ومنهم من حده بالفرسخ قال: لأنه الذي ينتهي إليه النداء غالبا، وهو ظاهر كلام الإمام [أحمد] في رواية صالح، قال: تجب الجمعة على من يبلغه الصوت، والصوت يبلغ الفرسخ، فعلى هذا تكون المسألة رواية واحدة، وأبو الخطاب جعل كل واحدة من سماع النداء ومسافة الفرسخ فما دونهما موجبا، فقال: يسمع النداء أو بينه وبين موضع تقام فيه الجمعة فرسخ، فجعل أيضا المسألة رواية واحدة، إعمالا لنصيه جميعا.
واعلم أن الجمعة إذا وجبت قد تسقط بأعذار، كالمرض(2/202)
الشديد، والمطر الذي يبل الثياب وغير ذلك مما يبلغ نحو عشرة أشياء، وليس هذا محل بيانها، فيسقط الوجوب إذا، ومتى حضرت والحال هذه وجبت، وانعقدت بمن حضر، وصحت إمامته فيها، والله أعلم.
قال: ومن صلى الظهر يوم الجمعة ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام، أعادها بعد صلاته ظهرا.
ش: لأنه صلى الظهر قبل وجوبها عليه، أشبه من صلاها قبل الزوال، ودليل الوصف أن فرض الوقت عندنا هو الجمعة، وإنما الظهر بدل عنه عند التعذر، بدليل الأمر بالسعي في الآية الكريمة.
879 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله افترض عليكم الجمعة» .
وقوله: «الجمعة حق واجب على كل مسلم» ولأنه بفعل الجمعة يكون طائعا مثابا، فدل على أنها الأصل، وبتركها إلى الظهر من غير عذر يكون عاصيا بالإجماع.
وقول الخرقي: قبل صلاة الإمام. أي قبل فراغ الإمام من صلاته، كذا صرح به غيره. وقوله: أعادها بعد صلاته ظهرا. هذا إذا تعذر عليه التجميع، أما إن أمكنه فيلزمه، لأن ذلك فرضه.(2/203)
وقد أفهم كلام الخرقي شيئين. (أحدهما) أن من صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة بعد صلاة الإمام أن صلاته تصح، ولا إشكال في ذلك، لتعذر التجميع، وهذا بشرطه وهو أن يدخل وقت الظهر.
(الثاني) : أن من لا حضور عليه كالمسافر، والعبد والمرأة، ومن له عذر، ونحوهم من لا حضور عليه، إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام أن صلاتهم تصح، ولا تلزمهم الإعادة، وهذا هو المذهب المنصوص، المختار للأصحاب، لأنه لا يلزمه الجمعة، أشبه الخارج من المصر، حيث لا يسمع النداء، ودليل الوصف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة» الحديث، وذهب أبو بكر [إلى] أن صلاتهم لا تصح قبل الإمام بحال، كمن تجب عليه الجمعة، لاحتمال زوال العذر، وحكى ذلك ابن عقيل، وابن الزاغوني رواية، وينتقض التعليل [بالمرأة] وعلله ابن عقيل بخشية اعتقاد افتياتهم على الإمام، أو كونهم لا يرون صلاة الجمعة، وهو أيضا منتف غالبا في حق المرأة، ثم إن مثل ذلك لا يعطي المنع الجازم، والله أعلم.
[آداب صلاة الجمعة]
قال: ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل.
ش: لا إشكال في مطلوبية غسل الجمعة واستحبابه.(2/204)
880 - لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه» .
881 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده» متفق عليهما.
882 - وعن حفصة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل» رواه أبو داود وهل يجب؟ فيه روايتان (إحداهما) يجب. اختارها أبو بكر، لهذه الأحاديث، لكن لا يشترط لصحة الصلاة اتفاقا.
(والثانية) : لا يجب. وهي اختيار الخرقي، وجمهور الأصحاب.
883 - لما روى سمرة بن جندب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
884 - وعن ابن عمر أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين، فناداه عمر: أية ساعة(2/205)
هذه؟ فقال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت. قال: والوضوء أيضا، وقد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالغسل. متفق عليه.
885 - وهذا الرجل هو عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كذا في مسلم وهذا كالإجماع من الصحابة على أن الغسل غير واجب، لأن عثمان تركه، ولم يعدله، وقد أقره عمر وغيره من الصحابة على ذلك، وإنكار عمر على ترك السنة، كما أنكر عليه عدم التبكير، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غسل الجمعة واجب» محمول على تأكيد الاستحباب، كما يقال: حقك علي واجب. جمعا بين الأدلة، ويرشحه اقترانه بالسواك والطيب، وهما غير واجبين إجماعا.
وقول الخرقي: يستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل. يخرج منه من لم يأتها ممن لا تجب عليه كالمسافر، والعبد، وغيرهما، فإنه لا يستحب له الاغتسال، ونص عليه أحمد، لحديث حفصة.
886 - وفي الصحيح «إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل» » .
ويدخل في كلامه من أتى الجمعة [وإن] لم تجب عليه، كالمسافر ونحوه، فإن الغسل مستحب [له] لما تقدم، إلا المرأة على ظاهر كلام أحمد.(2/206)
887 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وليخرجن تفلات» .
ومقتضى كلام الخرقي أن الغسل لأجل الجمعة، فيختص الغسل بما قبلها، ولا نزاع عندنا في ذلك، وأول الوقت من طلوع الفجر يومئذ، والمستحب عند الرواح، والله أعلم.
قال: ويلبس ثوبين نظيفين.
888 - ش: لما روى عبد الله بن سلام أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر في يوم الجمعة «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مهنته» رواه أبو داود وابن ماجه.
889 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم ويلبس برده الأحمر في العيدين، والجمعة» ، رواه أحمد في مسائل ابنه صالح.(2/207)
قال: ويتطيب.
ش: لما تقدم من حديث أبي سعيد وغيره، والله أعلم.
[صلاة الجمعة قبل الزوال]
قال: وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم.
ش: المذهب المعروف [والمشهور] المنصوص أنه يجوز فعل الجمعة قبل الزوال.
890 - لما روى جابر بن عبد الله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس، يعني النواضح» .
891 - «وعن سهل بن سعد الساعدي قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواهما أحمد(2/208)
ومسلم» قال ابن قتيبة: لا يسمى قائلة ولا غداء إلا ما كان قبل الزوال. لإجماع الصحابة.
892 - فروى عبد الله بن سيدان السلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان بن عفان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار. فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره. رواه الدارقطني وأحمد محتجا به.
893 - وعن ابن مسعود أنه كان يصلي الجمعة ضحى ويقول: إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم. رواه أحمد.(2/209)
894 - وعن معاوية نحوه، رواه سعيد، وقال أحمد: روي عن ابن مسعود، وجابر، وسعد، ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال، وإذا صلى هؤلاء مع من يحضرهم من الصحابة ولم ينكر فهو إجماع، وما روي من الفعل بعد الزوال لا ينافي هذا، لأن سائر المسلمين لا يمنعون ذلك بعد الزوال. (وعن أحمد) - رواية أخرى حكاها أبو الحسين عن والده: لا يجوز قبل الزوال.
895 - لما «روى سلمة بن الأكوع قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبع الفيء» . متفق عليه.
896 - «وعن أنس: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة حين تميل الشمس» . رواه البخاري وغيره، ولأنها ظهر مقصورة، فكان وقتها كالمقصورة في السفر. والأول المذهب،(2/210)
والأحاديث قد تقدم الجواب عنها، وكونها ظهرا مقصورة لنا فيه منع، وإن سلم لا يمنع افتراقهما هنا كما افترقا في كثير من الشروط.
وعلى هذا فهل يختص فعلها بما يقارب الزوال، أو يجوز فعلها في وقت صلاة العيد؟ فيه قولان، (والأول) : اختيار الخرقي وأبي محمد، لأن الثابت من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة قبل الزوال قريبا [منه] ، فاقتصرنا عليه، واختلفت نسخ الخرقي، ففي بعضها: الخامسة، وكذا حكاه عنه أبو إسحاق بن شاقلا، وأبو الخطاب، وفي أكثرها «السادسة» وهو الذي صححه القاضي، وأبو البركات، لأنه المتيقن، وغيره مشكوك فيه.
(والثاني) : منصوص أحمد، واختيار عامة الأصحاب، لأن ابن مسعود، ومعاوية صلياها ضحى كما تقدم.
897 - وفعلها ابن الزبير في وقت العيد، وصوبه ابن عباس وأبو هريرة، ولأنها صلاة عيد، فجازت قبل الزوال كبقية الأعياد.(2/211)
898 - ويدل على الوصف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان» الحديث انتهى، وهل من قبل الزوال وقت لوجوبها؟ فيه روايتان إحداهما: نعم، والثانية: لا، وإنما وقت الوجوب الزوال، وهذا اختيار الأصحاب لعموم {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] والتقديم [ثم] ثبت رخصة بالسنة والآثار، والله أعلم.
قال: وتجب الجمعة على من بينه وبين الجامع فرسخ والله أعلم.
ش: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف في تحديد الوجوب هل هو بالفرسخ، أو بسماع النداء، وأن هؤلاء هم الذين تجب الجمعة عليهم بغيرهم، لا بأنفسهم، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أن الفرسخ أو سماع النداء يعتبر من الجامع، لأن السعي الذي تختلف المشقة باختلافه إليه ينتهي، وظاهر كلام أحمد - وهو الذي صححه أبو البركات - أنه معتبر من طرف البلد.
899 - لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «هل عسى أحدكم أن يتخذ الغنم على رأس ميل، أو ميلين، أو ثلاثة من المدينة، فتأتي(2/212)
الجمعة فلا يجمع، فيطبع الله على قلبه، فيكون من الغافلين» رواه أبو بكر النجاد، وفي ابن ماجه نحوه ولأن طرف البلد قد يكون عن الجامع أكثر من فرسخ، أو بحيث لا يسمع النداء، فيفضي اعتبارهما إلى سقوط الجمعة عن من قرب من المصر، وهو ممتنع، والله أعلم.
[باب صلاة العيدين]
ش: سمي العيد عيدا لأنه يعود ويتكرر لأوقاته، وقيل: لأنه يعود بالفرح والسرور، وقيل: تفاؤلا بعوده، كما سميت القافلة قافلة في ابتداء خروجها، تفاؤلا بقفولها سالمة أي رجوعها، والأصل في مشروعيتها، الإجماع، وما تواتر من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه صلوها.
900 - وقد قيل في قول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أن المراد صلاة العيد، واختلف عن أحمد في حكمها، فعنه أنها فرض عين، (وعنه) سنة، (وعنه) وهي المذهب: فرض كفاية، كصلاة الجنازة، والجهاد.(2/213)
[التكبير في العيدين]
قال: ويظهرون التكبير في ليالي العيدين، وهو في الفطر آكد، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] .
ش: يسن التكبير في ليالي العيدين، لأن ابن عمر كبر فيهما.
901 - قال أحمد: كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعا، ويعجبنا ذلك، وهو في الفطر آكد، للآية الكريمة.
902 - وقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيره: هو تكبيرات ليلة الفطر ويسن إظهار التكبير، أي رفع الصوت به، إظهارا للشعار وتنبيها للغافل.
903 - وكان عمر يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيرا.(2/214)
وظاهر كلام الخرقي أن التكبير لا يتقيد بأوقات الصلوات، بل يكبرون في ليالي العيدين مطلقا، وهو كذلك والله أعلم.
[آداب صلاة العيدين]
قال: فإذا أصبحوا تطهروا.
ش: دل هذا على شيئين (أحدهما) : أنه يسن التطهير أي الاغتسال للعيدين، لأنه يوم عيد يجتمع الناس فيه، فسن الغسل فيه كيوم الجمعة.
904 - وقد روى الفاكه بن سعد - وكانت له صحبة - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر» وكان الفاكه بن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام، رواه عبد الله بن أحمد في المسند، وابن ماجه، ولم يذكر الجمعة، (الثاني) : أن وقت الغسل بعد الفجر، وهو قول القاضي وغيره، وظاهر الحديث، إذ اليوم إنما يدخل بذلك، وجوزه ابن عقيل بعد نصف ليلته، نظرا إلى [أن] المقصود التنظيف وهو حاصل بذلك، ولأنه وقت ضيق، فلو(2/215)
تقيد الاغتسال بالفجر لفات غالبا، بخلاف الجمعة فإن وقتها متسع.
قال: وأكلوا إن كان فطرا.
ش: قد تضمن منطوق كلام المصنف الأكل في الفطر، ومفهومه الإمساك في الأضحى.
905 - والأصل في ذلك ما روى بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع» . رواه الترمذي، وابن ماجه والإمام أحمد وزاد: «فيأكل من أضحيته» .
906 - وعن أنس قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا» . رواه البخاري وليأت بالمأمور به في عيد الفطر [حسا] ، وإن وجد شرعا، وليفطر على أضحيته في الأضحى، وقد اقتضى ما تقدم أنه لا يسن له(2/216)
التأخير في الأضحى إلا إذا كانت له أضحية، ونص عليه أحمد، والله أعلم.
قال: ثم غدوا إلى المصلى، مظهرين التكبير.
ش: السنة فعل العيد في المصلى.
907 - لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى» . ولم ينقل عنه أنه صلاهما في المسجد لغير عذر، وكذلك خلفاؤه، من بعده، وقد اشتهر عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه استخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد.
908 - وفي أبي داود وغيره «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العيد في المسجد» .
909 - وقد ذكر أحمد في رواية أبي طالب عن مخنف بن سليم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الخروج إلى المصلى يوم الأضحى يعدل حجة، ويوم الفطر يعدل عمرة.
ويسن التكبير وإظهاره في الرواح إلى المصلى.(2/217)
910 - لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى» ، رواه الدراقطني.
911 - وعن ابن عمر أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير، حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام، رواه الدارقطني.
912 - وروي التكبير في العيد عن علي، وأبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وينتهي التكبير بالوصول إلى المصلى في رواية، وفي أخرى بخروج الإمام إلى الصلاة، وفي ثالثة - وهي اختيار القاضي وأصحابه - بفراغ الخطبة، والله أعلم.
[وقت صلاة العيدين وكيفيتها]
قال: وإذا حلت الصلاة تقدم الإمام فصلى بهم ركعتين.
ش: يحتمل أن اللام في الصلاة للعهد، و «حلت» من الحلول أي إذا حلت صلاة العيد، أي جاء ودخل وقتها.(2/218)
ويحتمل أن اللام [في الصلاة] للجنس، أي جنس الصلاة النافلة، و «حل» من الحل وهو الإباحة، كقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] أي إذا أبيحت صلاة النافلة، وهو إذا ارتفعت الشمس قيد رمح كما تقدم، وهذا أجود، لتضمنه معرفة أول وقت الصلاة، وهو - كما قلنا - إذا خرج وقت [النهي] .
913 - لما روى يزيد بن خمير الرحبي قال: خرج عبد الله بن بشر صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح، رواه أبو داود، وابن ماجه أي وقت صلاة النافلة، وآخر وقتها إذا قام قائم الظهيرة، وهي ركعتان بالإجماع، والسنة المستفيضة، والله أعلم.
قال: بلا أذان ولا إقامة.
914 - ش: في الصحيحين «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: شهدت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيدين، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بلا أذان ولا إقامة» .(2/219)
915 - وصح ذلك [أيضا] من حديث ابن عباس وغيره والله أعلم.
قال: ويقرأ في كل ركعة منهما بالحمد الله وسورة.
ش: أما قراءة الحمد فلما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وأما قراءة السورة فلا نزاع في استحبابها لما سيأتي، والمستحب أن يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية، على أشهر الروايات.
916 - لما روي عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواه الإمام أحمد، وهو لابن ماجه من حديث النعمان بن بشير، وابن عباس، ويرشح هذا عمل الصحابة.
917 - فروى النجاد عن أنس وعمر أنهما كانا يقرآن بهما.(2/220)
(والثانية) : يقرأ في الأولى بقاف، وفي الثانية باقتربت.
918 - لما في مسلم والسنن عن أبي واقد الليثي، «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ بقاف واقتربت» .
(والثالثة) : ليس فيهما سورة يتعين استحبابها، وهو ظاهر كلام الخرقي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تارة قرأ بتين وتارة قرأ بتين، كما تقدم، فدل على أنه لا يتعين.
قال: ويجهر بالقراءة.
ش: هذا إجماع توارثه الخلف عن السلف، وفي قولهم: إنه كان يقرأ في الأولى بكذا، وفي الثانية بكذا، دليل على ذلك، والله أعلم.
قال: ويكبر في الأولى سبع تكبيرات، منها تكبير الافتتاح.
919 - ش: روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر ثنتي عشرة تكبيرة، سبعا في الأولى، وخمسا في الأخرى، ولم يصل قبلها ولا بعدها» ، رواه أحمد وابن(2/221)
ماجه. قال أحمد: أنا أذهب إلى هذا، وكذلك ذهب إليه ابن المديني وصحح الحديث، نقله عنه حرب، ورواه أبو داود ولفظه: أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الأخرى، والقراءة بعد كليهما» ولحديث عمرو بن عوف المزني وسيأتي.
920 - مع أنه روي عن جماعة من الصحابة، وإنما عدت تكبيرة الافتتاح من السبع لأنها تفعل في القيام، بخلاف تكبيرة القيام(2/222)
في الثانية، فإنها لم تعد من الخمس، لأنها تفعل مع القيام. قال: ويرفع يديه مع كل تكبيرة، [كتكبيرة الإحرام] .
ش: يرفع [يديه] مع جميع التكبيرات يبتديه مع ابتدائه، وينهيه مع انتهائه، اتباعا.
921 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة، في الجنازة، وفي العيد، وعن زيد بن ثابت مثله رواهما الأثرم.
قال: ويستفتح في أولها.
ش: هذا المشهور من الروايتين، لأن الاستفتاح يراد للدخول في الصلاة، والرواية الثانية: يؤخره إلى أن يفرغ من جميع(2/223)
التكبيرات، اختارها الخلال وصاحبه، لتليه الاستعاذة، كبقية الصلوات، ولتوالي التكبيرات والله أعلم.
قال: ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيرا، والحمد الله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلوات الله على محمد النبي الأمي، وعليه السلام وإن أحب قال غير ذلك.
922 - ش: [ذكر ابن المنذر - واحتج به أحمد - عن ابن مسعود أنه [قال] : بين كل تكبيرتين يحمد الله [ويثني عليه] ، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو وهذا الذي ذكره الخرقي يشتمل على هذا، وإن أحب قال نحو ذلك] كسبحان الله، والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، وصلى الله على محمد، أو ما شاء من الذكر، قال أحمد في رواية حرب: ليس بين التكبيرتين شيء مؤقت.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يقول ذلك بعد الأخيرة، وقاله القاضيان، أبو يعلى وأبو الحسين، وظاهر كلام أبي الخطاب(2/224)
أنه يقوله بعد الأخيرة، وهو الذي صححه أبو البركات، وقد اختلف النقل في ذلك عن ابن مسعود والله أعلم.
قال: ويكبر في الثانية خمس تكبيرات، سوى التكبيرة التي يقوم بها من السجود، ويرفع يديه مع كل تكبيرة.
ش: قد تقدم هذا فلا حاجة إلى إعادته، وظاهر كلام الخرقي [أن القراءة تكون] بعد التكبير في الركعتين، وهو المشهور من الروايتين، واختيار القاضي وعامة أصحابه، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب.
923 - وعن عمرو بن عوف المزني «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة» ، رواه الترمذي [وحسنه] قال: هو أحسن شيء في الباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصححه البخاري هو وحديث عمر بن شعيب.(2/225)
(والرواية الثانية) : يوالي بين القراءتين، ويكون التكبير في الثانية بعد القراءة، اختارها أبو بكر.
924 - لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التكبير في العيدين سبعا قبل القراءة، وخمسا بعد القراءة» رواه أحمد (وعن أحمد) رواية ثالثة بالتخيير، قال في رواية الميموني: اختلف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التكبير، وكل جائز. والله أعلم.
[الخطبة في صلاة العيدين]
قال: وإذا سلم خطب بهم خطبتين، يجلس بينهما.
ش: قد تضمن هذا الكلام أن خطبة العيد [تكون] بعد الصلاة، وهذا كالإجماع، وقد استفاضت به الأحاديث عن صاحب الشرع، وعن خلفائه الراشدين.
925 - ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر، وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة» .
926 -[ «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة] بلا أذان ولا إقامة» .(2/226)
927 - وتقديم عثمان لهما في أواخر خلافته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكثرة الناس، ليدرك عامتهم الصلاة، فإنها أهم من الخطبة المتفق على كونها سنة، والسنة أن يخطب خطبتين، يجلس بنيهما.
928 - لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: «السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس» ؛ رواه الشافعي في مسنده.(2/227)
929 - وقال جابر: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر أو أضحى، فخطب قائما، ثم قعد قعدة، ثم قام» . رواه ابن ماجه [وصفة هذه الخطبة كخطبة الجمعة، إلا أنه يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، وفي الثانية بسبع] وهل يجلس عند صعوده المنبر كالجمعة، وهو ظاهر كلام أحمد، أو لا يجلس، لأن الجلوس ثم للأذان ولا أذان هنا؟ وجهان. والقيام فيها مستحب وإن وجب في الجمعة في رواية فلو خطب قاعدا، أو على راحلته فلا بأس، لأنها أشبهت صلاة التطوع.
930 - وقد روي عن عثمان، وعلي والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم خطبوا على رواحلهم، وتفارق الجمعة [أيضا في(2/228)
الطهارة و] في كونها يليها من يلي الصلاة، وفي الجلسة بين الخطبتين، فإن ذلك وإن وجب للجمعة لا يجب لها، ولا يعتبر لها العدد، وإن اعتبرناه للجمعة والله أعلم.
قال: فإن كان فطرا حظهم على الصدقة، وبين لهم ما يخرجون، وإن كان أضحى رغبهم في الأضحية، وبين لهم ما يضحى به.
ش: يذكر في كل خطبة ما يليق بها، ففي عيد الفطر يرغبهم في الصدقة، ويبين لهم حكمها، وما اشتملت عليه من الثواب، وقدر المخرج، وجنسه وعلى من تجب، ونحو ذلك وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم حكمها، والمجزئ فيها، ووقت ذبحها، ونحو ذلك.
931 - وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر في خطبة الأضحى كثيرا من أحكام الأضحية من رواية أبي سعيد، والبراء وغيرهما، والله أعلم.(2/229)
[التنفل قبل صلاة العيدين وبعدها]
قال: ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها.
ش: لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب.
932 - وفي الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر، فصلى ركعتين، لم يصل قبلها، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها» .
933 - وللبخاري [عنه] أنه كره الصلاة قبلها.(2/230)
934 - واستخلف علي أبا مسعود على الناس، فخرج يوم عيد فقال: يا أيها الناس إنه ليس من السنة أن يصلي قبل الإمام. رواه النسائي.
935 - وعن ابن سيرين، أن ابن مسعود وحذيفة قاما، أو قاما أحدهما، فنهيا أو نهى الناس أن يصلوا يوم العيد قبل خروج الإمام، رواه سعيد.
936 - وقال الزهري: لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر أن أحدا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة، ولا بعدها. رواه الأثرم.
937 - وعن مطر الوراق قال: ما صلى في العيد قبل الإمام بدري. رواه سعيد.(2/231)
وكلام الخرقي يشمل المسجد وغيره، وصرح به القاضي وغيره، لكن كلام الخرقي مقيد بمصلى العيد، وأما لو صلى في غيره فلا بأس، فعله أحمد، وذكره الأصحاب.
938 -[وقد روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] «أنه كان لا يصلي قبل العيد شيئا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين.» رواه ابن ماجه، وأحمد بمعناه، والله أعلم.
قال: وإذا غدا من طريق رجع في غيرها.
939 - ش: قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق» . رواه البخاري.
940 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج(2/232)
إلى العيد يرجع من غير الطريق الذي خرج فيه» . رواه مسلم وغيره.
واختلف لأي شيء فعل ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل: لتشهد له الطريقان، وقيل: ليتصدق على أهلهما. وقيل: ليغيظ المنافقين، ويريهم كثرة المسلمين، وقيل ليساوي بينهما في التبرك به، والمسرة بمشاهدته والانتفاع بمساءلته.
وقيل: لأن الطريق الذي كان يغدو فيه أطول، والثواب [يكثر] بكثرة الخطا إلى الطاعة. وقيل غير ذلك، وبالجملة يقتدى به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لاحتمال وجود المعنى في حقنا، وتستحب المخالفة في الجمعة أيضا نص عليه، والله أعلم.
[حكم من فاتته صلاة العيدين]
قال: ومن فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات كصلاة التطوع [يسلم في آخرها] وإن أحب فصل بسلام بين كل ركعتين.
ش: من فاتته صلاة العيد استحب له قضاؤها.(2/233)
941 - لأن ابن مسعود وأنسا قضياها. ويقضيها أربعا، على المشهور من الروايات واختارها الخرقي، والقاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافاتهم، وأبو بكر فيما حكاه عنه القاضي والشريف.
942 - لأن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من فاته العيد فليصل أربعا. رواه سعيد.
943 - قال أحمد: يقوي ذلك حديث علي أنه أمر رجلا يصلي بضعفه الناس أربعا، ولا يخطب، وعلى هذه الرواية يصلي بلا تكبير، وقد أشار إليه الخرقي بقوله: كصلاة التطوع. ثم إن أحب صلى الأربع بسلام واحد، وإن شاء بسلامين، على(2/234)
إحدى الروايتين، والرواية الأخرى بسلام واحد. (والرواية الثانية) : يقضيها ركعتين لا غير، اختارها الجوزجاني، وأبو محمد في العمدة، وأبو بكر في التنبيه، فيما حكاه عنه أبو الحسين.
944 - لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا لم يحضر العيد مع الناس جمع أهله وولده وصلى ركعتين، يكبر فيهما، وعلى هذه الرواية يكبر فيها.
(والثالثة) يخير بين ركعتين بتكبير، وأربع بلا تكبير، لأن كليهما ثبت عن الصحابة فخيرناه بينهما.
وقول الخرقي: ومن فاتته الصلاة. ظاهره أنه فاتته جميع الصلاة، فلو أدركهم بعد الركوع في الثانية فإنه يقضيهما ركعتين بلا نزاع، وهذه طريقة الشيخين وغيرهما، وفي التعليق الكبير أنه على الخلاف في القضاء، وقاسه على الجمعة وقد نص أحمد على الفرق في رواية حنبل، وقال: إذا أدرك التشهد في العيد يصلي ركعتين، وإن أدرك مثله في الجمعة صلى أربعا، ومع تصريح الإمام بالفرق يمتنع الإلحاق.
قال: ويبتدئ التكبير يوم عرفة من صلاة الفجر، ثم لا(2/235)
يزال يكبر [في] دبر كل صلاة مكتوبة صلاها في جماعة، وعن أبي عبد الله - رحمة الله عليه - رواية أخرى أنه يكبر لصلاة الفرض وإن كان وحده، حتى يكبر لصلاة العصر من آخر أيام التشريق ثم يقطع. والله أعلم.
ش: قد تضمن هذا الكلام مشروعية التكبير عقب الصلوات في عيد النحر ولا نزاع في ذلك في الجملة، وقد قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] .
945 - وقد فسرت بأيام التشريق مع يوم النحر، ثم الكلام في وقته، ومحله، وصفته.
أما وقته ففي حق المحل من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى العصر من آخر أيام التشريق، لما تقدم من الآية الكريمة [إذا ظاهرها الذكر في جميع الأيام] .
946 - ويؤيده ما في صحيح مسلم وغيره عن نبيشة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل» » .(2/236)
947 - وقد روى الدارقطني من طرق عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله [ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. وفي بعض الطرق أنه لا إله إلا الله] والله أكبر، الله أكبر والله الحمد» » .
948 - وقيل للإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق؟ [قال: بإجماع عمر وعلي، وابن عباس، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وفي حق المحرم من صلاة الظهر يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق] العصر، لأنه قبل ذلك مشتغل بالتلبية، وعن أحمد: ينتهي بصلاة الفجر من آخر أيام التشريق، والأول المذهب.(2/237)
وأما محله فعقب الصلوات المفروضات في جماعة، بالإجماع الثابت بنقل الخلف عن السلف، لا النوافل، وإن صليت في جماعة، وفي الفريضة إذا صلاها وحده روايتان، المشهور منهما - وهو اختيار أبي حفص، والقاضي، وعامة الأصحاب - لا يكبر.
949 - لأن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: التكبير على من صلى في جماعة. رواه حرب وغيره.
950 - وقال أحمد: أعلى شيء في الباب حديث ابن عمر أنه صلى وحده ولم يكبر، [وإليه نذهب، (والثانية) : - وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى - يكبر] نظرا لإطلاق الآية الكريمة والحديث، وفي التكبير عقيب صلاة عيد الأضحى قولان، [أحدهما] : - وهو اختيار أبي بكر، وظاهر كلام الخرقي - يكبر، لشبهها بفرض العين في اشتراك الجميع في الخطاب، والثاني: لا، لشبهها بالنافلة في سقوطها عن المكلفين في ثاني الحال.
وكلام الخرقي يشمل المقيم والمسافر، والرجل والمرأة، وهو المشهور، وعن أحمد: لا تكبر المرأة كالأذان، نعم إن صلت مع الرجال كبرت معهم تبعا، ويشمل المسبوق ببعض الصلاة فإنه صلى في جماعة.(2/238)
وأما صفته فالله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، [ولله الحمد.
لما تقدم في حديث جابر.
951 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر] ولله الحمد، وعليه اعتمد أحمد، وروي ذلك أيضا عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والله سبحانه أعلم.(2/239)
[كتاب صلاة الخوف]
ش: الإضافة بمعنى اللام، أي الصلاة للخوف، أو بمعنى «في» أي الصلاة في الخوف، وهي ثابتة بنص الكتاب وبالسنة قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الآية واستفاضت السنة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي صلاة الخوف، وأجمع العلماء على ذلك، وعامتهم على ثبوت ذلك بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن ما ثبت في حقه ثبت في حقنا.
952 - مع أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -[قد] فعلوها بعد موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم علي، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة، وهو دليل على بقاء الحكم.(2/240)
[كيفية صلاة الخوف]
قال: وصلاة الخوف إذا كانت بإزاء العدو، وهو في سفر، صلى بطائفة ركعة [وثبت قائما] وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ثم ذهبت تحرس وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فصلت معه ركعة، وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد الله [وسورة] ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد ويسلم بهم.
ش: ورد في صفة صلاة الخوف أحاديث صحاح جياد، قال أحمد: ستة أو سبعة وقيل: أكثر من ذلك. وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على قاعدته، يجوز جميع ما ورد، إلا أن المختار عنده إذا كان العدو في غير جهة القبلة هذه الصفة التي ذكرها الخرقي واقتصر عليها.(2/241)
953 - وهو ما «روى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع، أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم» . رواه الجماعة إلا ابن ماجه، وفي رواية أخرى للجماعة: عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل هذه الصفة، وإنما اختار أحمد هذه الصفة على غيرها قال: لأنها أنكأ للعدو، إذ الطائفة التي تقف تجاه العدو تقف مستيقظة للعدو، إذ ليست في صلاة لا حسا ولا حكما، ولموافقتها لظاهر القرآن، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] فجعل سبحانه السجود لهم خاصة، فعلم أنهم يفعلونه منفردين، وقال سبحانه: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] [وظاهره أن جميع صلاتهم تكون معه] وكذا في هذه الصفة، لأن(2/242)
الطائفة الأولى تصلي معه ركعة، ثم تفارقه فتصلي الركعة الثانية وحدها، والثانية تصلي معه الركعة الثانية، ثم ينتظرها في التشهد حتى تأتي بالركعة الأخرى فيسلم بها فإتمامها به لم يزل إلا بالسلام.
وقول الخرقي: وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو، أي بحضرة العدو، يعني أن الصلاة للخوف لا يكون إلا بحضرة العدو، فلا تفعل في غير ذلك، وهو شامل لما إذا كان العدو في جهة القبلة، أو في غير جهتها، ونص عليه أحمد، إلا أن هذه الصفة تختار إذا كان العدو في [غير] جهة القبلة، وجعله القاضي، وأبو الخطاب شرطا.
954 - لأنه إذا كان في جهتها فيستغني عن هذه الصلاة بصلاة عسفان، التي هي أقل مخالفة للأصل من هذه الصلاة، وأبو البركات في الحقيقة يختار هذا القول، لأنه قال: عندي أن كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - محمول على ما إذا لم تمكن صلاة عسفان، لاستتار العدو، أو خوف كمين له، وكلام القاضي(2/243)
وأبي الخطاب على ما إذا أمكنت صلاة عسفان، وهو ظاهر كلام طائفة من الأصحاب.
وقوله: وهو في سفر. يحترز به عن الحضر كما سيأتي. وقوله: صلى بطائفة ركعة. ظاهره إطلاق الطائفة، وهو اختيار أبي محمد، نظرا إلى [أن] الطائفة تقع على القليل والكثير، وقال أبو الخطاب - وتبعه صاحب التلخيص، وأبو البركات - شرط الطائفة أن تكون ثلاثة فصاعدا لقوله سبحانه: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} [النساء: 102] وهذا جمع، وأقل الجمع ثلاثة، لكن على القولين لا بد وأن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها.
وقوله: وأتمت لأنفسها [أخرى. يعني إذا قام إلى الثانية نوت مفارقته، وأتمت لأنفسها] ركعة أخرى ويقف الإمام ينتظر الطائفة الثانية وهو يقرأ، فإذا جاءت الطائفة الثانية دخلت(2/244)
معه في الركعة الثانية، فإذا جلس للتشهد قامت فأتت بركعة أخرى، وهم في حكم الائتمام به، ويكرر هو التشهد حتى تدركه فيه فيسلم بهم.
واعلم أن من شرط صلاة الخوف بلا نزاع عندنا أن يكون العدو يحل قتاله، ويخاف هجومه، والله أعلم.
قال: وإن خاف وهو مقيم صلى بكل طائفة ركعتين، وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة.
ش: قد دل هذا على أن صلاة الخوف تفعل في الحضر، كما تفعل في السفر، وذلك لعموم {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] الآية، ودل مع ما تقدم على أن الخوف لا أثر له في قصر الصلاة، وإنما له تأثير في قصر الصفة، أي نقصها، والسفر له تأثير في قصر العدد، ولهذا قيل: إذا اجتمعا وجد القصر المطلق، ولهذا قيدت الآية الكريمة بالخوف، لأنه مع الضرب في الأرض يجتمع الأمران، فالمراد بالآية الكريمة - والله أعلم - القصر المطلق، لا المقيد، وقيل: عن أحمد ما يدل [على] جواز فعلها ركعة، والأول المشهور.
ودل كلامه أيضا على أن ما يدركه المسبوق آخر صلاته، وما يقضيه أولها، لأنه جعل الطائفة الأولى تتم بالحمد لله(2/245)
فقط، لأنها أدركت أول الصلاة بلا ريب، والطائفة الثانية تتم بالحمد لله وسورة، لأن ما أدركته آخر صلاتها، فالذي تقضيه أولها، وهذا هو المشهور من الروايتين، وعليه الأصحاب.
955 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» رواه أحمد، والنسائي، ولمسلم «فصل ما أدركت، واقض ما سبقك» والحجة فيه من ثلاثة أوجه (أحدهما) : قوله: «ما أدركتم فصلوا» والذي أدركه مع الإمام آخر صلاته، فوجب أن يصليه معه، (والثاني) : قوله: «وما فاتكم» و «ما(2/246)
سبقك» والذي فاته وسبقه به أول الصلاة، فعلم أنه الذي يفعله بعد مفارقته، (والثالث) : قوله: «فاقضوا» والقضاء إنما يكون لما فات وقته، وانقضى محله، لأن المأموم تابع، فلا يشتغل بغير ما يفعله إمامه.
(والرواية الثانية) : أن ما يدركه المسبوق أول صلاته، وما يقضيه آخرها.
956 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» والإتمام إنما يكون لما فعل أوله، فيتم آخره، وأجيب بأن الإتمام إنما يستدعي النقصان، أولا كان أو آخرا، فإذًا يحمل قوله: «فأتموا» أي فأتموا قضاء، جمعا بين الروايتين.(2/247)
وللخلاف فوائد (منها) الاستفتاح، لا يستفتح على المذهب إلا في أول ركعة يقضيها، لحكمنا أنها أول صلاته، وعلى الثانية إذا افتتح الصلاة (ومنها) التعوذ، إذا قلنا: يختص بأول ركعة لا يتعوذ إلا إذا قام يقضي، على المختار، وعلى الثانية مع التحريمة. (ومنها) الجهر والإسرار، إذا فاته الأولتان من المغرب جهر في قضائهما إن شاء، وعلى الثانية لا يجهر. (ومنها) [قدر] القراءة، إذا فاتته الركعتان، من الرباعية قرأ في قضائها بالحمد وسورة على المذهب، وعلى الرواية الأخرى يقرأ بالحمد فقط، وهذه مسألة الخرقي. (ومنها) قنوت الوتر إذا أدركه المسبوق خلف من يصلي الثلاث بسلام واحد، فإنه إذا قضى لم يعد القنوت إلا على الرواية الضعيفة.
(ومنها) تكبيرات العيد الزوائد، إذا أدرك منها ركعة فإنه يكبر مع إمامه [فيها] فإذا قام يقضي الركعة التي فاتته فإنه يكبر فيها التكبير المشروع في الأولى، نص عليه، وقياس الرواية الثانية أنه لا يكبر إلا المشروع في الثانية، (ومنها) محل التشهد الأول، فإذا أدرك ركعة من المغرب، ثم قام يقضي، فإنه يتشهد عقب ركعة، على الرواية المرجوحة، وعلى المشهور، وفيه عن أحمد روايتان (إحداهما) أنه يأتي بركعتين متواليتين، ثم يتشهد عقيبهما، لأن الذي فاته كذلك، (والثانية) يتشهد عقيب ركعة منه، وإن كانت أول صلاته.(2/248)
957 - لأن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ذلك. ولا يعرف له مخالف من علماء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وإذا يكون ما أدركه أول صلاته حكما لا فعلا، والله علم.
(تنبيه) : هل تفارقه الطائفة الأولى إذا أنهى تشهده وينتظر الثانية وهو جالس، أو تكون المفارقة والانتظار في الثالثة؟ فيه وجهان، والله أعلم.
قال: وإن كانت الصلاة مغربا صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وأتمت لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ويصلي بالطائفة الأخرى ركعة، وأتمت لأنفسها ركعتين، تقرأ فيهما بالحمد لله، وسورة.
ش: لأنه إذا لم يكن بد من [أن] إحدى الطائفتين تصلي ركعة، فالحمل لنا على الطائفة الثانية أولى، لأن الأولى تميزت بالسبق، والله أعلم.(2/249)
قال: وإذا كان الخوف شديدا، وهو في [حال] المسايفة. صلوا رجالا وركبانا، إلى القبلة - أو إلى غيرها [يومئون إيماء] يبتدئون بتكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، [وإلا إلى غيرها] .
ش: قد تضمن هذا الكلام أن الصلاة حال المسايفة والتحام الحرب لا تسقط، ولا نزاع في ذلك، وأنه لا يجوز تأخيرها إن لم تكن الأولى من المجموعتين، على المشهور من الروايتين، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] أي: فصلوا رجالا أو ركبانا. وظاهره الأمر بالصلاة على هذه الصفة والحال هذه، والأمر للوجوب والفور عندنا.
958 - (وعن) ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف صلاة الخوف، وقال: «فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا» رواه ابن ماجه.(2/250)
(والرواية الثانية) : - حكاها ابن أبي موسى - يجوز التأخير حال الالتحام.
959 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر الصلاة يوم الخندق.
960 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نادى فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم انصرف عن الأحزاب «أن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة» فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا من الفريقين» . رواه مسلم وغيره.(2/251)
961 - (وأجيب) بأن تأخير الصلاة يوم الأحزاب كان قبل أن ينزل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] كذا رواه أحمد والنسائي، من رواية أبي سعيد وقال ابن عبد البر: هو حديث ثابت، ويجوز أن يكون لعذر من نسيان أو غيره.
962 - يؤيد ذلك ما رواه أحمد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: «هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟» قالوا: لا. فصلاها» . وفي ادعاء النسخ نظر، لأن الجمع بينهما ممكن، بأن تحمل الآية والحديث على الجواز، وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وإذا يحصل الجمع، وهو أولى مع النسخ. وبالجملة الأول المذهب، وعليه: يصلون كيف ما أمكنهم، رجالا وركبانا، إلى القبلة وغيرها، يومئون إيماء على قدر طاقتهم، ويكون إيماؤهم بالسجود أخفض من إيمائهم بالركوع، يضربون، ويكرون ويفرون على حسب المصلحة، ولا يشترط الاضطرار إلى ذلك، ولا يلزمهم الافتتاح إلى القبلة إن عجزوا عنه، وإن أمكنهم فروايتان، المشهور - وهو الذي قاله الخرقي - اللزوم.(2/252)
وظاهر كلام الخرقي - وقاله الأصحاب - أن لهم أن يصلوا جماعة، ومال أبو محمد إلى المنع، حذارا من تقدم الإمام والله أعلم.
قال: ومن أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن، وكذلك إن كان آمنا فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف. والله أعلم.
ش: الحكم يوجد بوجود علته، وينتفي بانتفائها، والمقتضي لهذه الصلاة هو الخوف، فإذا أمن زال الخوف، فيصلي صلاة آمن، بواجباتها وصفتها المعروفة، وما صلاه وهو خائف على صفته محكوم بصحته، وإن كان آمنا فخاف فقد وجدت العلة فيوجد الحكم، والله أعلم.(2/253)
[كتاب صلاة الكسوف]
ش: الكسوف والخسوف واحد، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، قال المنذري: روى حديث الكسوف تسعة عشر نفسا، بعضهم بالكاف، وبعضهم بالخاء، وبعضهم باللفظين جميعا. انتهى، وقيل: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وقيل: الخسوف في الكل، والكسوف في البعض، وقيل: الكسوف تغيرهما، والخسوف تغيبهما في السواد.
والأصل في سنيتها ومطلوبيتها السنة المستفيضة الصحيحة، ففي الصحيح في غير حديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها وأمر بها.
963 - قال أبو مسعود البدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا، وادعوا حتى ينكشف ما بكم» متفق عليه، ومتفق على نحوه من حديث ابن عمر، وعائشة وابن عباس، وأبي موسى، وغيرهم، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.(2/254)
[كيفية صلاة الكسوف]
قال: وإذا خسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة، إن أحبوا جماعة، وإن أحبوا فرادى [بلا أذان، ولا إقامة] .
ش: أي فزع الناس مما وقع، ومضوا إلى الصلاة.
964 - وفي الصحيح قال: «خسفت الشمس في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة، حتى أتى المسجد، فقام فصلى بأطول قيام، وركوع، وسجود، ما رأيته يفعل في صلاة قط، ثم قال: «إن هذه الآيات التي يرسلها الله، لا تكون لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره، ودعائه واستغفاره» .
ثم إن شاءوا صلوا جماعة، وإن شاءوا فرادى، لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فصلوا وادعوا» الحديث، وهو مطلق يصدق على ما إذا صلوا جماعة أو فرادى والأفضل فعلها في جماعة، اقتداء بفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكلام الخرقي شامل للرجل والمرأة والمسافر والمقيم.
وظاهر كلامه أنه لا يشترط لها إذن الإمام، وهو المذهب قال أبو بكر: في إذن الأمام روايتان، والله أعلم.
قال: ويقرأ في الأولى بأم الكتاب وسورة طويلة،(2/255)
ويجهر بالقراءة، ثم يركع فيطيل الركوع، ثم يرفع فيقرأ ويطيل القيام، وهو دون القيام الأول ثم يركع فيطيل الركوع وهو دون الركوع الأول ثم يسجد سجدتين طويلتين، فإذا قام فعل مثل ذلك، فيكون أربع ركعات وأربع سجدات، ثم يتشهد ويسلم.
ش: المستحب والمختار في صلاة الكسوف - كما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يصلي ركعتين، تشتمل كل ركعة منهما على ركوعين وسجدتين، على الصفة المذكورة.
965 - لما في الصحيحين «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خسفت الشمس على حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المسجد، [فقام] فكبر وصف الناس وراءه، فاقترأ قراءة طويلة، ثم كبر، فركع ركوعا طويلا، هو أدنى من القراءة الأولى، ثم رفع رأسه فقال: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك [الحمد» ثم قام فاقترأ قراءة طويلة، هو أدنى من القراءة الأولى، ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد] » ثم سجد، ثم فعل في الركعة [الأخرى] مثل ذلك، حتى استكمل أربع ركعات، وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب [الناس] فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز(2/256)
وجل، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة» .
966 - وفي الصحيحين أيضا عنها «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات، في ركعتين وأربع سجدات» وقد تبين من الحديث السابق أنه إذا قام من الركوع أنه يسمع ويحمد، ثم يقرأ، ونص على ذلك الأصحاب، والخرقي أهمل ذكر ذلك.
967 - واعلم أنه قد جاء في صحيح مسلم وغيره أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات، وأربع ركوعات.(2/257)
968 - وفي السنن بخمس وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على قاعدته يجوز الجميع، وإن كان مختاره الصفة الأولى.(2/258)
969 - بل وجاء أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها بركوع واحد، ولهذا عندنا أن الركوع الثاني سنة، يجوز تركه.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا خطبة لها، وهو المشهور من الروايتين، وعليه الأصحاب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر لها بخطبة، وخطبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ليعلمهم حكمها.
ولم يعين الخرقي قدر القراءة، ولا قدر الركوع، ذلك على [نحو] ما تقدم من حديث عائشة وغيرها، وقال أبو الخطاب وغيره: يقرأ في الأولى بقدر سورة البقرة، ثم في كل قيام كمعظم قراءة الذي قبله.
970 - وذلك لأن في الصحيح من حديث ابن عباس قال: «خسفت الشمس، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام قياما طويلا، نحوا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول» . الحديث.
971 - وفي حديث «لعائشة قالت: وأطال القيام في صلاته، قالت:(2/259)
فأحسبه قرأ بسورة البقرة. رواه أحمد، والنسائي» ، ولو قرأ بدون ذلك جاز.
972 - فقد «جاء أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الركوع الأول بالعنكبوت، وفي الثانية بالروم» ، رواه الدارقطني، وقال القاضي، وأبو الخطاب، وغيرهما: يسبح في الركوع الأول بقدر مائة آية ثم بعده في كل ركوع كمعظم الذي قبله. وقال ابن أبي موسى: يسبح في كل ركوع بقدر معظم القراءة في القيام الذي قبله. وهذا اختيار أبي البركات، لما تقدم من حديث عائشة، وليس لأحمد في ذلك نص، وظاهر كلام كثير من الأصحاب أن الجلسة بين السجدتين وقيام الرفع من الركوع لا يطيلهما، وهو ظاهر حديث عائشة المتقدم، وقال صاحب التلخيص: يطيل الجلسة. والله أعلم.(2/260)
قال: وإذا كان الكسوف في غير وقت صلاة جعل مكان الصلاة تسبيحا والله أعلم.
ش: إذا وجد الكسوف في غير وقت صلاة - وهو الوقت المنهي عن الصلاة فيها وقد تقدمت - جعل مكان الصلاة تسبيحا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالصلاة والذكر، وإذا تعذرت الصلاة تعين الذكر، وهذا بناء من الخرقي على أن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي، وقد تقدم الكلام على ذلك.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يصلي [لغير] الكسوفين، وهو صحيح، إلا أن الأصحاب استثنوا الزلزلة الدائمة، فإنه يصلي [لها] .
973 - لأن ابن عباس رضي لله عنهما صلى لها، وقال ابن أبي موسى: يصلى لجمع الآيات. وهو ظاهر كلام أحمد، والله أعلم.(2/261)
[كتاب صلاة الاستسقاء]
ش: الاستسقاء طلب السقي، والصلاة لذلك سنة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلها، وكذلك خلفاؤه من بعده.
[سبب صلاة الاستسقاء]
قال: وإذا أجدبت الأرض، واحتبس القطر، خرجوا مع الإمام.
ش: سبب صلاة الاستسقاء الجدب الذي [هو] ضد الخصب، وقلة المطر.
974 - وقد «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: شكى الناس إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت: فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله عز وجل، ثم قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم» ، ثم قال: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت قوة وبلاغا إلى حين» ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض أبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه وهو رافع(2/262)
يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين فأنشأ الله سبحانه سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطر بإذن الله تعالى، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: «أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله» رواه أبو داود.
قال: وكانوا في خروجهم كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان إذا أراد الاستسقاء خرج متواضعا، متبذلا، متخشعا، متذللا، متضرعا.
ش: لا شك أن المقام يناسب الخروج على هذه الصفة.
975 - وفي المسند وسنني النسائي وابن ماجه أن ابن عباس سئل عن الصلاة في الاستسقاء فقال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متواضعا متبذلا، متخشعا، متضرعا، فصلى ركعتين كما يصلي العيد، لم يخطب خطبكم هذه» .(2/263)
[كيفية صلاة الاستسقاء]
قال: فيصلي بهم ركعتين.
ش: لا نزاع في أن الصلاة للاستسقاء ركعتان، والأحاديث صريحة في ذلك.
وظاهر كلام الخرقي [أنه] يصلي بلا تكبير ولا جهر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن كثيرا من الأحاديث ليس فيها ذكر التكبير (والرواية الثانية) - وهي المشهورة عند الأصحاب - يكبر فيها كصلاة العيد ويجهر، لما تقدم من حديث ابن عباس.
976 - وفي البخاري وغيره من حديث عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي، فحول رداءه، وصلى ركعتين، جهر فيهما بالقراءة» .
قال: ثم يخطب.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار أبي البركات، والقاضي، في الروايتين، وأبي بكر، وزعم أن الرواة اتفقوا عن أحمد على ذلك [وكذلك] قال في المغني(2/264)
إنه المشهور، لما تقدم من حديث عائشة.
977 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين، بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله عز وجل، وحول وجهه نحو القبلة، رافعا يديه، ثم قلب رداءه، فحول الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» . رواه أحمد وابن ماجه (والرواية الثانية) لا يخطب للاستسقاء، وهي الأشهر عن أحمد نقلا، واختيار القاضي في التعليق، وغالى فحمل الرواية الأولى، وقول الخرقي على الدعاء، لما تقدم من حديث ابن عباس.
(فعلى الأولى) يخطب بعد الصلاة، كما ذكره الخرقي، وهو المشهور، واختيار القاضي في روايتيه وأبي محمد في المغني، لحديث أبي هريرة. (وعنه) بل قبلها، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، (وعنه) يخير بين الأمرين، وهو(2/265)
اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى، وأبي البركات، لورود الأمرين عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وظاهر كلام الخرقي أنه يخطب خطبة واحدة، وهو المنصوص، لحديث ابن عباس المتقدم: لم يخطب خطبكم. [الحديث] وقيل: بل ثنتين، ويفتتحها بالتكبير كخطبة [العيد على المشهور، وقال القاضي في الخصال بالحمد كخطبة] الجمعة، وقال أبو بكر في الشافي: بالاستغفار، لأنه في الاستسقاء أهم، والله أعلم.
قال: ويستقبل القبلة ويحول رداءه ويجعل اليمين يسارا، واليسار يمينا.
ش: لما تقدم من حديثي عائشة [وعبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك قيل: تفاؤلا ليتحول الجدب خصبا، وقيل: بل أمارة بينه وبين ربه عز وجل لا تفاؤلا، إذ شرط التفاؤل أن لا يكون بقصد، وإنما قيل له: حول رداءك، ليتحول حالك. والله أعلم.
قال: ويفعل الناس كذلك.
ش: أي يحولون أرديتهم، كما يحول الإمام رداءه.(2/266)
978 - لأن في حديث عبد الله بن زيد: وتحول الناس معه. رواه أحمد.
قال: فيدعو ويدعون، ويكثرون في دعائهم الاستغفار.
ش: قد تقدم حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الدعاء.
979 - وفي الصحيحين من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» مختصر ويكثرون في دعائهم الاستغفار، لأنه سبب نزول المطر، قال الله سبحانه وتعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا - يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10 - 11] .
980 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عجبت ممن يبطئ عنه الرزق ومعه مفاتيحه. قيل [له] : وما مفاتيحه؟ قال: استغفار.
قال: فإن سقوا وإلا عادوا في اليوم الثاني والثالث.
ش: لأن الحاجة داعية إلى ذلك، وقد جاء «إن الله يحب الملحين في الدعاء» .(2/267)
[خروج أهل الذمة مع المسلمين لصلاة الاستسقاء]
قال: وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا، وأمروا أن يكونوا منفردين عن المسلمين والله أعلم.
ش: أما كون أهل الذمة لا يمنعون من الخروج، لأنهم يطلبون رزقهم والله ضمن لهم ذلك، قال الله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] الآية وقال ابن أبي موسى: لا يمنعون، ولكن خروجهم في يوم مفرد أجود، وأما انفرادهم عن المسلمين فلاحتمال أن ينزل عليهم عذاب فيصيب المسلمين، قال الله سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] .
وظاهر كلام الخرقي أن الإمام لا يخرجهم، وهو كذلك، بل يكره إخراجهم على المشهور، وظاهر كلام أبي بكر أنه لا بأس به، والله أعلم.(2/268)
[باب الحكم فيمن ترك الصلاة]
قال: ومن ترك الصلاة وهو بالغ عاقل، جاحدا لها، أو غير جاحد، دعي إليها في وقت كل صلاة، ثلاثة أيام، فإن صلى وإلا قتل والله أعلم.
ش: التارك للصلاة قسمان: (جاحد) لها، كمن قال: الصلاة غير واجبة، أو غير واجبة علي، (وغير جاحد) ، فالجاحد [لها] لا إشكال في كفره، ووجوب قتله، لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله، وحكمه حكم غيره من المرتدين، في أنه يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب بأن أقر بالوجوب وإلا قتل.
وأما التارك لها غير جاحد - بأن يتركها تهاونا أو كسلا - فإنه يقتل عندنا بلا نزاع، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فأباح سبحانه القتل إلى غاية، فما لم توجد الغاية فهو باق على الإباحة.
981 - وفي الحديث: «نهيت عن قتل المصلين» .(2/269)
982 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث علي وهو باليمن إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذهيبة، فقسمها بين أربعة، فقال رجل: يا رسول الله اتق الله. فقال: «ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله» ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: «لا، لعله أن يكون يصلي» فقال خالد: فكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم» فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العلة في منع القتل الصلاة.
983 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» متفق عليهما.(2/270)
984 - وأما قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل دم امرئ مسلم» الحديث فمخصوص بما تقدم، على أنا نقول بموجبه، إذ هذا تارك لدينه، ولا يقتل حتى يدعى إليها، لاحتمال أن يتركها [لعذر] أو لما يظنه عذرا. واختلف بماذا يحكم بقتله، فروي: بترك صلاة واحدة، وبضيق وقت الثانية، وهو المشهور، وظاهر كلام الخرقي.
985 - لما [روى] معاذ بن جبل، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك صلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله» رواه أحمد، ولأنه إذا دعي إليها في وقتها فقال: لا أصلي. ولا عذر له فقد ظهر إصراره، فإذا تعين إهدار دمه، زجرا له، وإنما اعتبر ضيق وقت الثانية لأن القتل لها دون الأولى، لأنه لما خرج وقت الأولى، ودعي إليها صارت فائتة والفائتة وقتها موسع(2/271)
عند جماعة من العلماء، والقتل لا يجب بمختلف في إباحته وحظره، وعلى هذا لو دعي إلى صلاة في وقتها فامتنع حتى فاتت، قتل وإن لم يضق وقت الثانية، نص عليه.
وروي: بترك ثلاث صلوات، وبضيق وقت الرابعة، ليتحقق الإصرار، لأن الصلاة والصلاتين ربما تركا كسلا وضجرا، وقال ابن شاقلا: يقتل بترك الواحدة، إلا إذا كانت الأولى [من المجموعتين، فلا يقتل حتى يخرج وقت الثانية، لأن وقتها وقت الأولى] في حال الجمع، فأورث شبهة هاهنا، وتغالى بعض الأصحاب فقال: يقتل لترك الأولى، ولترك كل فائتة، إذا أمكنه من غير عذر، بناء على أن القضاء عندنا على الفور.
وإذا حكم بقتله فلا بد وأن يستتاب بعد ذلك ثلاثة أيام ويضيق عليه، كي يرجع على المذهب (وعنه) تستحب الاستتابة ولا تجب.
وإذا قتل قتل بالسيف في عنقه. وهل يقتل حدا أو لكفره؟ فيه روايتان (إحداهما) : - وهي اختيار أبي عبد الله بن بطة، وابن عبدوس، وأبي محمد - يقتل حدا.(2/272)
986 - لما روي عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد، من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» رواه أحمد.
987 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة، فإن أتمها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه. (والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار الأكثرين - يقتل كفرا -.(2/273)
988 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» رواه أحمد، [ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصححه.
989 - وعن بريدة الأسلمي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» رواه أحمد» ] والنسائي، والترمذي وصححه.
990 - وقال عمر: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. ذكره أحمد في رسالته.(2/274)
991 - وقال علي: من لم يصل فهو كافر. رواه البخاري في تأريخه. وعلى هذه الرواية هو كالمرتد، لا يغسل، ولا يصلى عليه ولا يرثه ورثته من المسلمين، إلى غير ذلك من أحكام المرتد. وعلى الأولى كالزاني والقاتل، فتنعكس هذه الأحكام، ويحكم بكفره حيث يحكم بقتله، ذكره القاضي والشيرازي، وهو مقتضى نص أحمد، وإنما يحكم بالكفر والقتل إذا دعي إليها في وقتها، وخوف وهدد، فامتنع مصرا، من غير عذر، أما من تركها في وقتها ولم يدع إليها، وقضاها فيما بعد، أو كان في نفسه قضاؤها، فلا نزاع في عدم تكفيره وقتله، والله أعلم.(2/275)
[كتاب الجنائز]
ش: الجنائز جمع جنازة، بفتح الجيم وكسرها، وقيل: بالفتح الميت، وبالكسر الأعواد التي يحمل عليها، وقيل عكسه، وحكاه صاحب المطالع، مشتق من: جنز يجنز إذا ستر، قاله ابن فارس.
[ما يفعل بالمحتضر قبل موته]
قال: وإذا تيقن الموت وجه إلى القبلة.
992 - ش: «روى عبيد بن عمير [عن أبيه] وكانت له صحبة أن رجلا قال: يا رسول الله ما الكبائر؟ [قال: سبع] فذكر منها «استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» رواه أبو داود.
993 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: وجهوني.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستحب توجيهه قبل تيقن موته.(2/276)
994 - وقد أنكر ذلك سعيد بن المسيب. والمشهور في المذهب أن الأولى التوجيه.
995 - لأن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فعلت ذلك ولأنه الذي عليه الناس(2/277)
سلفا وخلفا والأفضل فيه الاستلقاء على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، في رواية اختارها أبو الخطاب، لأنه أسهل في خروج روحه.
وعنه - وهو المشهور وصححه أبو البركات - أن الأفضل أن يكون على جنبه الأيمن، لأن فاطمة كذلك فعلت. وعنه يخير بينهما، وبه قطع أبو البركات في محرره والله أعلم.
قال: وغمضت عيناه.
ش: إذا تيقن موته استحب تغميض عينيه، لئلا يقبح منظره.
996 - وعن شداد بن أوس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا، فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت» رواه ابن ماجه وأحمد، قال أحمد: يقول إذا غمضه: بسم الله، وعلى وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قال: وشد لحياه، لئلا يسترخي فكه.(2/278)
997 - ش: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما حضرته الوفاة قال لابنه عبد الله: إذا رأيت روحي بلغت لهاتي، فضع كفك اليمنى على جبهتي، واليسرى تحت ذقني. ولأنه إذا ترك قد تدخل الهوام في فيه.
قال: وجعل على بطنه مرآة أو غيرها، لئلا يعلو بطنه.
998 - ش: وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه مات مولى له فقال: ضعوا على بطنه شيئا من حديد. انتهى، وإذا لم يكن حديد فطين مبلول والله أعلم.
[غسل الميت]
قال: وإذا أخذ في غسله ستر من سرته إلى ركبته.
ش: إذا [أريد] غسله وجب ستر عورته، وهو ما بين سرته وركبتيه على المذهب، أو السوأتان فقط على رواية، حذارا من النظر إليها.
999 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي: «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» واستحب تجريده على ظاهر كلام الخرقي وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار ابن أبي موسى، والشيرازي، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد، لأنه(2/279)
أمكن في غسله، وأبلغ في تطهيره، إذ يحتمل أن يخرج منه شيء فينجس الثوب به، ثم قد ينجس الميت.
1000 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تقول: لما أرادوا غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا أوقع الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثيابه. فقاموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص. رواه أحمد وأبو داود. وهذا يدل على أن عادتهم في الموتى كان هو التجريد، ومعلوم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم ذلك، وغسله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثوب من خصائصه، ثم المفسدة وهي احتمال تنجس الثوب منتفية في حقه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لأنه طيب حيا وميتا (والرواية الثانية) الأفضل أن يغسل في ثوب، مستدلا بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل وعليه ثوب، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، وفي التعليق، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن البنا، ونصره أبو البركات، لأنه هو الذي اختاره الله لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان أولى.(2/280)
قال: والاستحباب أن] لا يغسل تحت السماء.
ش: حذارا من أن يستقبل السماء بعورته.
1001 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: غسلنا بعض بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرنا أن نجعل بينها وبين السقف ثوبا» .
قال: ولا يحضره إلا من يعين في أمره ما دام يغسل.
ش: أي والاستحباب أن لا يغسل بحضرة أحد إلا معاون في أمره، بأن يصب الماء، أو يناول حاجة، ونحو ذلك، لأن الحاجة داعية إلى المعاون دون غيره، ولاحتمال عيب كان به وهو يستره، أو يظهر منه ما يستنكر في الظاهر.
قال: ويلين مفاصله إن سهلت عليه وإلا تركها.
ش: ليسهل غسله وتكفينه ونحو ذلك، ويفعل ذلك عقب موته، قبل أن يبرد، هذا إن سهل ذلك، أما إن عسر التليين فإنه يترك، لاحتمال كسر بعض أعضائه.
1002 - وقد روى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» .(2/281)
قال: ويلف على يده خرقة فينقي ما به من نجاسة.
ش: يلف على يده خرقة لئلا يمس عورته الممنوع من مسها، كما منع من النظر إليها بطريق الأولى، ودليل الأصل حديث علي المتقدم.
1003 - وذكر المروذي عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن علي بن أبي طالب حين غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لف على يده خرقة، حين غسل فرجه. وصفة ذلك أن يلف على يده خرقة، فيغسل بها أحد الفرجين، ثم ينحيها ويأخذ أخرى للفرج الآخر، وفي المجرد أنه يكفي خرقة واحدة للفرجين، وحمل على أنها غسلت وأعيدت، لأن الأصحاب قالوا: إن كان خرقة خرج عليها شيء لا يعيدها.(2/282)
قال: ويعصر بطنه عصرا رفيقا.
ش: يعصر بطنه ليخرج ما في بطنه من فضلة، مخافة أن يخرج بعد الغسل والتكفين.
قال: ويوضئه وضوءه للصلاة.
ش: قياسا على غسل الحي.
1004 - وفي الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأم عطية في غسل ابنته «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها» .
قال: ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه فإن كان فيهما، أذى أزاله بخرقة.
ش: لما قال: إنه يوضئه [وضوءه] للصلاة اقتضى أن يمضمضه وينشقه، فاستثنى ذلك، فقال: لا يدخل الماء في فيه ولا أنفه، وذلك لاحتمال دخوله بطنه، ثم يخرج فيفسد وضوءه، وربما حصل منه انفجار، وبهذا علل أحمد، واستحب أحمد وعامة الأصحاب أن يدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما، لأمن ما تقدم، مع قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر» وأوجب ذلك أبو الخطاب في خلافه للحديث، والأولى أن يكون ذلك بخرقة نص عليه، صيانة لليد عن الأذى، وإكراما للميت.(2/283)
قال: ويصب عليه الماء، فيبدأ بميامنه، ويقلبه على جنبيه، ليعم الماء سائر جسده.
ش: يصب عليه الماء بعد الوضوء، فيبدأ برأسه، ثم بسائر جسده، ويبدأ بميامنه، كما يفعل بالحي، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأن بميامنها» الحديث، ويقلبه على جنبيه ليعم بقية بدنه، المطلوب تعميمه شرعا، وصفة ذلك أن يغسل رأسه ولحيته أولا، ثم يده اليمنى من منكبه إلى كفه، وصفحة عنقه اليمنى، وشق صدره، وفخذه، وساقه يغسل الظاهر من ذلك وهو مستلق، ثم يغسل الأيسر كذلك، ثم يرفعه من جانبه الأيمن ولا يكبه لوجهه، فيغسل الظهر، وما هناك من وركه، وفخذه، وساقه، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك، ذكره أبو محمد تبعا للقاضي، وإذا يفرغ من غسله مرة في أربع دفعات، قال أبو البركات: وظاهر كلام أحمد - في رواية حرب، وابن منصور، وأبي الخطاب -[أنه] يفعل ذلك [في] دفعتين، فيحرفه أولا على جنبه الأيسر، فيغسل شقه الأيمن من جهتي ظهره وصدره كما وصفنا. ثم يحرفه على جنبه الأيمن، ويغسل الأيسر كذلك، قال أبو البركات: وهو أقرب إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأن بميامنها» وأشبه بغسل الجنابة، وما ذكره القاضي أبلغ في النظافة، وكيفما فعل أجزأه، والله أعلم.
قال: ويكون في كل المياه شيء من السدر، ويضرب [السدر] فيغسل برغوته رأسه ولحيته.(2/284)
1005 - ش: في الصحيحين «في حديث أم عطية، في غسل ابنته، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا» .
1006 - وفي «حديث ابن عباس في المحرم اغسلوه بماء وسدر» .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط كون السدر يسيرا، ولا يجب الماء القراح بعد ذلك، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في الأول، ونصه في الثاني، قال في رواية صالح: يغسل بماء وسدر الثلاث غسلات. وقال [له] أبو داود: أفلا يصبون ماء قراحا ينظفه؟ قال: إن صبوا فلا بأس. واحتج بحديث أم عطية، وشرط ابن حامد كون السدر يسيرا، وقيل عنه: يكون درهما ونحوه، لئلا يخرجه عن الطهورية، وقال القاضي، وأبو الخطاب، وطائفة ممن تبعهما: يغسل أولا بثفل السدر، ثم عقب ذلك بالماء القراح، فيكون الجميع غسلة واحدة، والاعتداد بالآخر دون الأول، سواء زال السدر أو بقي منه شيء، لأن أحمد شبه غسله بغسل الجنابة، والجنب كذا يفعل، وحذارا من زوال طهورية الماء بكثير السدر، وعدم تأثيره بقليله، وهذا من الأصحاب بناء على المذهب عندهم، من أن الماء تزول طهوريته بتغيره بالطاهرات، وأبو محمد لما كان يميل إلى عدم زوال الطهورية والحال هذه احتج لظاهر كلام أحمد(2/285)
لكن قد يغلب على أجزائه، فيسلبه الطهورية بلا خلاف، فلهذا حمل أبو البركات كلام الخرقي على قول القاضي وغيره.
ومنصوص أحمد والخرقي أن السدر يكون في الغسلات الثلاث، وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يختص بالأولى، والثانية، لتكون الثالثة للكافور، وجعله أبو الخطاب مختصا بالأولى، لئلا يبقى من جرمه شيء، والله أعلم.
قال: ويستعمل في كل أموره الرفق به.
ش: من تقليبه وتليين مفاصله، وعصر بطنه، ونحو ذلك، لأن حرمته كحرمة الحي، وحذارا من أن ينفصل بعض أعضائه، فيفضي إلى المثلة [به] وعنه: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» .
قال: والماء الحار، والأشنان، والخلال، يستعمل إن احتيج إليه.
ش: إذا احتيج إلى الماء الحار لبرد، أو لإزالة وسخ، أو إلى الأشنان للوسخ، [أو إلى الخلال، لإزالة شيء من بين الأسنان] ونحو ذلك استعمل نظرا للحاجة، وإلا فالأولى ترك(2/286)
ذلك، لأن الماء الحار يرخي الميت، والأشنان لم يرد، والخلال ربما حصل به تأذية الميت، ولهذا استحب أن يكون من شجرة لينة، والله أعلم.
قال: ويغسل الثالثة بماء فيه كافور وسدر، ولا يكون فيه سدر صحيح.
ش: يجعل في الغسلة الثالثة مع السدر كافورا، لحديث أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «واجعلن في الأخيرة كافورا» والحكمة فيه أنه يصلب الجسد ويبرده، ويمنع الهوام برائحته، ولا يكون في الماء سدر صحيح، لعدم الفائدة في ذلك، إذ الحكمة في السدر التنظيف، والتنظيف، إنما هو بالمطحون، قال القاضي: ويجعل الكافور في الماء، لأنه لا يسلبه الطهورية، واختار أبو البركات أنه يجعل مع سدر الأخيرة على ما تقدم، لحصول المقصود، وفرارا من أن يتغير الماء، فيزول على وجه.
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يغسل ثلاثا وهذا هو المسنون بلا ريب، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته «اغسلنها ثلاثا» الحديث.(2/287)
قال: فإن خرج منه شيء غسله إلى خمس، فإن زاد فإلى سبع.
ش: يعني إذا خرج منه شيء بعد تغسيله، وقبل تكفينه فإنه يغسل إلى خمس، ثم إن خرج بعد غسل إلى سبع، نص عليه أحمد، وعليه جمهور الأصحاب، لإطلاق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك» وفي رواية «أو سبعا» وليكون آخر أمره الطهارة الكاملة، واختيار أبي الخطاب في الهداية أنه لا يعاد غسله، بل يغسل موضع النجاسة ويوضأ، كالجنب إذا أحدث بعد غسله، والخارج من غير السبيل كالخارج منه في إعادة الغسل له، نص عليه في رواية الأثرم، وقال في رواية أبي داود: هو أسهل. فيحتمل أن لا يعاد له الغسل مطلقا، ويحتمل أن لا يعاد إذا كان يسيرا، كما لا ينقض الوضوء يسيره.
وقد اقتضى كلام الخرقي - والمسألة التي تأتي بعد - أنه لا يعاد غسله بعد السبع، ونص عليه أحمد والأصحاب، لما في الإعادة من الحرج والمشقة، ولئلا يفسد باسترخائه.(2/288)
قال: فإن زاد حشاه بالقطن.
ش: أي إذا زاد الخارج بعد السبع فإنه لا يعاد غسله كما تقدم، وإنما يحشى محل الخارج بالقطن ليمتنع الخارج، وكالمستحاضة، وقال أبو الخطاب في الهداية، وصاحب النهاية فيها: يلجم المحل بالقطن، فإن لم يمنع حشاه به، إذ الحشو فيه توسيع للمحل ومباشرة له، فلا يفعل إلا عند الحاجة إليه.
ولم يذكر الخرقي الوضوء حذارا من الحرج والمشقة، وقال جماعة من الأصحاب: إنه يوضأ كالجنب إذا أحدث بعد الغسل، وهما روايتان منصوصتان.
قال: فإن لم يستمسك فبالطين الحر.
ش: إن لم يستمسك الخارج بالقطن حشاه بالطين الحر أي الخالص، لأنه له قوة تمنع الخارج.
قال: وينشفه بثوب.
ش: لئلا يبتل الكفن فيسرع تلفه، وربما أسرع إلى إفساد الميت.
1007 - ويروى أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما غسل جفف» . رواه أحمد.(2/289)
«تنبيه» الفرض في الغسل غسل مرة واحدة، بالماء القراح، كغسل الجنابة، والنية على الصحيح، لأنه تطهير أشبه تطهير الحي، وقيل: لا تشترط، لأن المقصود التنظيف، أشبه غسل النجاسة، ويظهر أو يتعين إن قيل: غسله لتنجيسه بالموت. وفي التسمية وجهان، وقيل: روايتان، وهل يشترط الفعل؟ فيه وجهان، فلو وضعه تحت ميزاب، ونوى غسله حتى غمره الماء انبنى على الخلاف، أما الغريق فإن لم يشترط الفعل ولا النية لم يحتج إلى غسل، وإن اشترطا احتيج إلى إخراجه وغسله، وإن اشترط أحدهما عمل على ذلك، كغسل الجنابة، وشرط غاسله أن يكون ممن تصح طهارته، فلا يصح من كافر، لأنه عبادة وليس من أهلها، وخرج الصحة بناء على عدم اشتراط النية، وعلى الأول هل يصح إن حضر المسلم وأمر الكافر؟ فيه قولان، ولا من مجنون بل من مميز، وخرج عدم الصحة كأذانه، لأنه فرض وليس من أهله، والله أعلم.
قال: وتجمر أكفانه.
ش: أي تبخر.
1008 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جمرتم الميت فأجمروه ثلاثا» رواه أحمد.(2/290)
1009 - وعن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنها قالت لأهلها: أجمروا ثيابي إذا مت، ثم حنطوني، ولا تذروا في كفني حنوطا، ولا تتبعوني بنار. رواه مالك في الموطأ.
[تكفين الميت]
قال: ويكفن من ثلاثة أثواب، يدرج فيها إدراجا.
1010 - ش: قالت عائشة رضي لله عنها: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية، من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة» . متفق عليه، وقال أحمد: إنه أثبت الأحاديث وأصحها، لأنها أعلم من غيرها. وفي رواية: أدرج فيها إدراجا.
«تنبيه» سحولية نسبة إلى سحول - بفتح السين - قرية باليمن، وقيل: السحولية المقصورة، كأنها نسبت إلى السحول وهو القصار، لأنه يسحلها أي يغسلها.
قال: ويجعل الحنوط فيها بينها.(2/291)
ش: يحنط كفن الميت، لأن الحنوط مشروع، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم «ولا تحنطوه» والمستحب في التحنيط أن يذر بين اللفائف، حتى على اللفافة [التي تلي جسد الميت، قال في المجرد: التي تفرش أولا لا يذر فوقها حنوط. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجعل الحنوط فوق اللفافة] . ونص عليه أحمد والأصحاب، لما تقدم عن أسماء.
1011 - وعن عمر، وابنه وأبي هريرة أنهم كرهوا ذلك.
1012 - وعن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا تجعلوا على أكفاني حنوطا.
«تنبيه» الحنوط ما تطيب به أكفان الميت خاصة.
قال: وإن كفن في قميص، ومئزر، ولفافة، جعل المئزر مما يلي جلده، ولم يزر.
ش: الأولى التكفين في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص كما تقدم، ويجوز التكفين في قميص ومئزر، ولفافة، بالإجماع.
1013 - وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: الميت يقمص(2/292)
ويؤزر، ويلف بالثوب الثالث، فإن لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه. رواه مالك في الموطأ.
1014 - وثبت «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى قميصه لعبد الله بن أبي ليكفن فيه» .
1015 - وعن ابن عباس «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في قميص وحلة نجرانية، الحلة ثوبان» ، رواه أحمد وأبو داود، لكن الثابت في تكفينه هو الأول، ويجعل المئزر مما يلي جلده كما يفعل بالحي، وهل يزر القميص؟ فيه [روايتان] : إحداهما - وهي اختيار الخرقي -: لا يزر عليه القميص، نظرا لحال الحي في نومه، بل وهو الأفضل له مطلقا إلا لحاجة.
1016 - لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قميصه مطلقا، (والثانية) : يزر عليه نظرا لحال الحي في زينته. والله أعلم.(2/293)
قال: ويجعل الذريرة في مفاصله، ويجعل الطيب في مواضع السجود والمغابن، ويفعل به كما يفعل بالعروس.
ش: يجعل الطيب في مفاصل الميت ومغابنه، وما ينثني من الإنسان، كطي الركبتين وتحت الإبطين، وأصول الفخذين.
1017 - لأن أحمد روى في مسائل صالح أن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك. وفي مواضع سجوده تكريما لها.
1018 - ويفعل به كما يفعل بالعروس، كذا يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1019 - ويروى أن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ما طلي بالمسك، من قرنه إلى قدميه.(2/294)
1020 - وعن ابن عمر أنه طلا ميتا [بالذريرة] .
قال: ولا يجعل في عينيه كافورا.
ش: لأن الكافور يفسدهما.
قال: وإن أحب أهله أن يروه لم يمنعوا.
1021 - ش: «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل عثمان بن مظعون وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيل» .
1022 - وقبل الصديق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم بكى، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لن يجمع الله عليك موتتين.
قال: وإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه لم يعد إلى الغسل. وحمل.
ش: [إذا خرج من الميت شيء يسير بعد وضعه في أكفانه لم(2/295)
يعد إلى الغسل] بلا خلاف نعلمه بين أصحابنا، لما في ذلك من الحرج والمشقة، والتأخير المخالف للسنة، مع أن الخارج لا يبطل الغسل، إنما ينقض الوضوء.
وفي الكثير روايتان، أشهرهما - وهي المختارة عند الأكثرين - أن حكمه حكم اليسير لما تقدم، قال الخلال: روى جماعة أنه لا يعاد، وما رواه ابن منصور يمكن أن يكون. قاله مرة (والثانية) : - وهي أنصهما، وظاهر كلام الخرقي - أنه يعاد، بخلاف اليسير، لفحشه، ولأن مثله يؤمن في المرة الثانية، لتحفظهم، واحترازهم بالتلجم، قال ابن الزاغواني: قال بعض الأصحاب: إنما يعاد إذا كان قبل السبع، أما بعدها فلا، وهو حسن. وإذا قلنا: لا يعاد. ففي غسل الكفن وجهان، الغسل لعدم المشقة في ذلك، وعدمه تبعا للميت.
[كفن المرأة]
قال: والمرأة تكفن في خمسة أثواب، قميص ومئزر، ولفافة، ومقنعة، وخامسة تشد بها فخذاها.
ش: لأن الكمال في حق الحية كذلك.(2/296)
1023 - وقد روي «عن ليلى [بنت قانف] الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقو ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر. قالت: ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الباب، معه كفنها يناولنا ثوبا [ثوبا] » . رواه أحمد وأبو داود.
ولأنها تزيد على الرجل في اللباس في الحياة، فكذلك بعد الموت، وتلبس المخيط في الإحرام، فكذلك بعد الموت.
واعلم أن ظاهر الحديث أنها تكفن في «مئزر» [وهو الحقو] «وقميص» وهو الدرع «وخمار» وهو المقنعة، «ولفافتين» وهذا اختيار القاضي، وأبي محمد وجمهور الأصحاب، والخرقي جعل الخامسة تشد بها فخذاها، يعني تحت المئزر، وهو منصوص أحمد، واختيار أبي بكر.
1024 - لحديث يروى في ذلك رواه حرب، لتنضم بذلك، وحكى ابن الزاغوني وجها آخر أنها تستثفر بها، وهو أن تشد في(2/297)
وسطها خرقة، ثم يؤخذ أخرى فيشد أحد طرفيها مما يلي ظهرها، والآخر مما يلي السرة، ويكون لجاما على الفرجين، ليؤمن بذلك خروج خارج، وقال: إنه الأشهر عند الأصحاب، وشذ ابن حمدان، في الصغرى فزاد على الخمسة ما يشد فخذيها، واختيار أبي البركات أنه يشد فخذيها بالإزار تحت الدرع، وتلف فوق الدرع والخمار باللفافتين.
ومفهوم كلام الخرقي أن الصغيرة تخالف المرأة، ونص أحمد على أن الصبي يكفن في خرقة، والجارية التي لم تبلغ في لفافتين وقميص، ثم اختلف في حد البلوغ، فقيل عنه: إنه البلوغ المعتاد، وقيل - وهو الأكثر عنه - إنه بلوغ تسع سنين، وإذا تساوي المرأة. والله أعلم.
قال: ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل من خلفها.
ش: لأن في حديث أم عطية في غسل ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: وضفرنا شعرها ثلاثة قرون، فألقيناها خلفها.
[حمل الجنازة]
قال: والمشي بالجنازة الإسراع.
ش: المشي بالجنازة المسنون فيه الإسراع.
1025 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(2/298)
«أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه.
1026 - وقال أبو بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لقد رأيتنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنا نكاد نرمل بالجنازة رملا. قال القاضي: والمستحب لا يخرج عن المشي المعتاد. قال أبو البركات: يمشي أعلى درجات المشي المعتاد، وقد منع أحمد من شدة السير، وأمر بالرفق، بل ونقل عنه أنه يسار مع الجنازة كيف سارت.
1027 - «وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: [مرت] برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جنازة تمخض مخض الزق، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم القصد» رواه أحمد.
قال: والمشي أمامها أفضل.
1028 - ش: لما روى الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر يمشون أمام الجنازة. رواه الخمسة، واحتج به أحمد في رواية أبي طالب ومهنا، لكن(2/299)
قال في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: ما أراه محفوظا، عدة أرسلوه، وما أراه إلا من كلام الزهري. قيل له: فتذهب إلى المشي أمام الجنازة؟ فقال: نعم.
1029 - ابن المنكدر سمع ربيعة [يقول] : رأيت عمر يقدم الناس أمام الجنازة؟ . وكذا قال الترمذي: إن أهل الحديث يرون أن(2/300)
المرسل أصح. وهذا لا يخرج الحديث عن الحجية على قاعدة أحمد في المرسل، [وقد] قال ابن المنذر: [ثبت] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة ولأن المصلين شفعاء للميت.
1030 - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه» رواه مسلم وغيره. والشفيع يتقدم المشفوع له.
ومفهوم كلام الخرقي أن الراكب يخالف الماشي، وهو صحيح، فإنه السنة له أن يكون خلفها، قال الخطابي: لا أعلمهم اختلفوا في أن الراكب خلفها.
1031 - وقد روى المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي كيف شاء منها، والطفل يصلى عليه» رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وكذلك أحمد في(2/301)
رواية أحمد بن أبي عبدة.
قال: والتربيع أن توضع على كتفه اليمنى إلى الرجل، ثم الكتف اليسرى إلى الرجل.
ش: يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم، أي والمشي أمامها أفضل، والتربيع أفضل، ثم بين صفته فقال: أن توضع أي وصفته أن توضع، وهذا هو المقصود، وإن كان ظاهر كلامه بيان صفة التربيع فقط، أما أفضلية التربيع.
1032 - فلما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من اتبع جنازة فليحمل من جوانب السرير كلها، فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع، وإن شاء فليدع. رواه ابن ماجه. ولا بأس بالحمل بين العمودين، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور.
1033 - لأنه «يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» .(2/302)
1034 - وأن سعد بن أبي وقاص حمل عبد الرحمن بن عوف بين العمودين.
1035 - وأن عثمان حمل سرير أمه بين العمودين، فلم يفارقه حتى وضع، وسأل أبو طالب أحمد عن الحمل بين العمودين فقال: لا. قال القاضي: معناه لا أختاره. وحمل ابن الزاغوني النص على ظاهره فجعل في [الكراهة روايتين، و [قد] قال [أحمد] : إن عمر كرهه.
وأما صفته فأن يأخذ بجوانب] السرير الأربع، كما ذكر الخرقي، فيضع قائمة النعش اليسرى - وهي التي تلي يمين الميت - على الكتف اليمنى، ثم ينتقل إلى المؤخرة، ثم يضع قائمة النعش اليمنى على الكتف اليسرى، ثم ينتقل إلى المؤخرة، هذا اختيار الخرقي وغيره، وهو المشهور عن أحمد، كما في الغسل يبدأ بشقه الأيمن إلى رجله، ثم بالأيسر كذلك، ونقل عنه حنبل: يبدأ بالرأس، ويختم بالرأس.
1036 - معتمدا على أن ابن عمر فعله والله أعلم.(2/303)
[أحق الناس بالصلاة على الميت]
قال: وأحق الناس بالصلاة عليه من أوصى أن يصلي عليه.
ش: هذا إجماع أو كالإجماع.
1037 - فعن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أوصى أن يصلي عليه عمر، قال أحمد. قال: وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأبو بكرة أوصى أن يصلي عليه أبو برزة، وقال غير أحمد: وعائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وابن مسعود أوصى أن يصلي عليه الزبير.
1038 - وأوصى أبو سريحة أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث - وهو أمير الكوفة - ليتقدم فيصلي عليه، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم. فقدم زيدا. وهذه قضايا اشتهرت من غير إنكار ولا مخالف، فكانت إجماعا.(2/304)
وشرط الوصي أن يكون مستور الحال، فلا تصح لفاسق، لأنه غير مؤتمن، ولأن ذلك نوع ولاية، والفاسق ليس أهلا للولاية.
قال: ثم الأمير.
ش: أحق الناس بالصلاة عليه] بعد الوصي غير الفاسق الأمير، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يؤمن الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» رواه مسلم وغيره، وخرج منه الوصي لما تقدم، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه من بعده كانوا يصلون على الموتى، ولم ينقل أنهم استأذنوا العصبة.
1039 - وعن أبي حازم قال: شهدت حسينا حين مات الحسن، وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص، أمير المدينة، وهو يقول: لولا السنة ما قدمتك.(2/305)
1040 - وقال الحسن البصري أدركت الناس وأحقهم بالصلاة على جنائزهم، من رضوه لفرائضهم. ذكره البخاري في صحيحه.
قال: ثم الأب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة.
ش: يقدم بعد الأمير في الصلاة على الميت الأب، ثم الجد وإن علا على الابن، لأنه شارك [الابن] في العصوبة، وزاد عليه بالحنو والشفقة، وبهما يحصل كمال الدعاء، الذي هو مقصود صلاة الجنازة، فقدم كالنكاح، ثم الابن وإن سفل، لتقدمه في النكاح والإرث جميعا على الأخ ومن بعده، ثم أقرب العصبة، على ترتيب الميراث، هذا اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي في التعليق، وأبي محمد وغيرهم، وقال صاحب التلخيص فيه، وأبو البركات: يقدم بعد الأمير أقرب العصبة. فيحتمل أنهما أرادا أن الابن يقدم على الأب، لأنه أقرب العصبة بدليل الميراث، ويحتمل أنهما أرادا ما أراد الأصحاب، وغايته أن الأقرب يختلف باختلاف الأبواب، وهذا أولى، توفيقا(2/306)
بين كلام الأصحاب، يؤيده أن أبا البركات في شرحه لم يحك خلافا في تقديم الأب على الابن، إنما حكى رواية بتقديم الابن على الجد، والأخ وابنه أيضا عليه، كما في النكاح. انتهى، وفي تقديم الأخ للأبوين على الأخ للأب أو التسوية بينهما قولان، من الروايتين في النكاح.
وظاهر كلام الخرقي أن العصبة [يقدم] على الزوج، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخلال وأبي محمد.
1041 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لقرابة امرأته: أنتم أحق بها. ذكره أحمد في رواية حنبل، ومحمد بن جعفر، محتجا به، ولأن النكاح يزول بالموت، والقرابة باقية، وعلى هذا إن لم يكن عصبة فالزوج أولى نص عليه، (وعن أحمد) رواية أخرى - اختارها القاضي في التعليق، وأبو الخطاب في الخلاف، وأبو البركات - يقدم الزوج على العصبة.
1042 - لأن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: الرجل أحق بغسل امرأته، وبالصلاة عليها. إلا أن أحمد قال: هذا منكر.
1043 - واحتج أحمد بقضية رويت عن أبي بكرة، تدل على أن الزوج أحق. والله أعلم.(2/307)
[كيفية الصلاة على الميت]
قال: والصلاة عليه يكبر الأولى، ثم يقرأ الحمد لله، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يصلي عليه في التشهد، ويكبر الثالثة ويدعو لنفسه، ولوالديه، ويدعو للمسلمين، ويدعو للميت، وإن أحب أن يقول: اللهم اغفر لحينا، وميتنا، وشاهدنا، وغائبنا، وصغيرنا، وكبيرنا، وذكرنا، وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، إنك على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم إنه عبدك، وابن أمتك، نزل بك، وأنت خير منزول به، ولا نعلم إلا خيرا، اللهم إن كان محسنا فجازه بإحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. ويكبر الرابعة.
ش: أما كونه يكبر أربع تكبيرات - كما تضمنه كلامه -:
1044 - فلما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعا» .
1045 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد ما دفن، فكبر أربعا» . وأما كونه يقرأ الحمد في الأولى فلعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .(2/308)
1046 - وعن ابن عباس أنه صلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنه من السنة. رواه البخاري وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي ولفظه: قرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر، فلما فرغ قال: سنة وحق.
1047 - وقال مجاهد: سألت ثمانية عشر رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القراءة على الجنازة، فكلهم قال: يقرأ. رواه الأثرم، ونقل عنه [البرزاطي] : إذا صلى على القبر يقرأ، كما يقرأ [إذا صلى] على الجنازة؟ قال: لا يقرأ على القبر شيئا من القرآن. قال القاضي: المذهب الصحيح وجوبها على القبر، لأن الجماعة رووا عنه جواز الصلاة على القبر، من غير منع القراءة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستفتح، ولا يتعوذ، وهو إحدى الروايات، لبناء هذه الصلاة على التخفيف، والثانية: يستفتح،(2/309)
ويتعوذ كغيرها، والثالثة: يتعوذ ولا يستفتح، وبها قطع أبو البركات في محرره، وصححها في شرحه، للأمر بالتعوذ، والاستفتاح لم يرد فيها.
«تنبيه» يسر بالقراءة، نص عليه وقال: إنما جهر ابن عباس ليعلمهم. وأما كونه يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثانية:
1048 - فلما روي عن أبي أمامة بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبره أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويخلص الدعاء للجنازة، والتكبيرات لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سرا في نفسه. رواه الشافعي في مسنده.
1049 - وقال أبو هريرة: إذا وضعت - يعني الجنازة - كبرت، وحمدت الله، وصليت على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مختصر، رواه مالك في الموطأ، [وصفة الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في التشهد،(2/310)
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لما سألوه: كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك، قال أبو محمد: وإن أتى بالصلاة على غير ذلك فلا بأس، لأن القصد مطلق الصلاة، وقال أحمد في رواية عبد الله: يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى الملائكة المقربين. وقال القاضي: يدعو عقيب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمؤمنين والمؤمنات فيقول: اللهم صل على ملائكتك المقربين، وأنبيائك والمرسلين، وأهل طاعتك أجمعين، من أهل السماوات وأهل الأرضين، إنك على كل شيء قدير.
وأما كونه يدعو في الثالثة لنفسه، ولوالديه، وللمسلمين، وللميت.
1050 - فلما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى على جنازة قال: «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه وزاد «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده» .(2/311)
1051 - وعن عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى على جنازة يقول: «اللهم اغفر له، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار» قال عوف: فتمنيت لو كنت أنا الميت، لدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك الميت. رواه مسلم والنسائي، والترمذي وصححه.(2/312)
1052 - وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود، وابن ماجه. وقوله: لا نعلم إلا خيرا. إنما يقوله لمن لا يعلم منه شرا، لئلا يكون كاذبا.
1053 - وقد ذكر القاضي حديثا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال فيه: «ولا نعلم إلا خيرا» فقال بعض الصحابة: يا رسول الله وإن لم أعلم خيرا؟ قال: «لا تقل إلا ما تعلم» .
1054 - وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «ما من مسلم يموت فيشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدنين، إلا قال الله تعالى: قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا، وغفرت له ما أعلم» رواه أحمد.(2/313)
قال: ويرفع يديه مع كل تكبيرة.
1055 - ش: لأنه يروى عن ابن عمر، رواه الشافعي، وعن ابن عباس، رواه سعيد، وعن عمر، وزيد بن ثابت، رواه الأثرم.
قال: ويقف قليلا.
ش: يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلا من غير دعاء، على ظاهر كلام الخرقي، وهو إحدى الروايتين، قال أحمد: لا أعلم فيه شيئا، والثانية: يدعو فيها كالثالثة، اختارها أبو البركات في شرحه.
1056 - لما روي «عن عبد الله بن أبي أوفى أنه ماتت ابنة له فكبر عليها أربعا، وقام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو، ثم قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع في الجنازة هكذا» . رواه أحمد، واحتج(2/314)
به في رواية الأثرم، وقال: لا أعلم شيئا يخالفه. وفي صفة ما يدعو به وجهان (أحدهما) أنه يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] اختاره ابن أبي موسى، وأبو الخطاب، وحكاه ابن الزاغوني عن الأكثرين.
1057 - لأنه [قد] صح عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان لا يدعو بدعاء إلا ختمه بهذا الدعاء. (والثاني) : يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. اختاره أبو بكر، والمنصوص عن أحمد أنه يخلص الدعاء في الرابعة للميت، بل قد نص في رواية جماعة أنه يدعو في الثالثة للمسلمين والمسلمات، وفي الرابعة للميت، ومن هنا قال الأصحاب: لا تتعين الثالثة للدعاء، بل لو أخر الدعاء للميت إلى الرابعة جاز. والله أعلم.
قال: ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه.
ش: المشهور المختار المنصوص أنه يسلم تسليمة واحدة.
1058 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة(2/315)
فكبر أربعا، وسلم تسليمة واحدة» ، رواه الدارقطني، إلا أن أحمد قال: هذا عندي موضوع. والعمدة لأحمد فعل الصحابة.
1059 - وقال أحمد: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن يمينك عن ستة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم.
وفيه رواية أخرى أنه يسلم ثنتين كبقية الصلوات، وجعل القاضي الثنتين للاستحباب، والواحدة للجواز، وصفة التسليم أن يكون عن يمينه على المذهب، ولو سلم تلقاء وجهه جاز، نص عليه، وجعله بعض الأصحاب الأولى، وكماله: السلام عليكم ورحمة الله [وإن لم يقل: ورحمة الله. أجزأه] على المنصوص وفيه احتمال.
«تنبيه» الواجب مما ذكره الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - القيام في فرضها، فلا تصح من القاعد، ولا على الراحلة إلا لعذر، والتكبيرات،(2/316)
وقراءة الحمد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إن أوجبناها في التشهد] ، وأدنى دعاء للميت، ويسقط بعض واجباتها عن المسبوق كما سيأتي، وتجب لها أيضا النية، ولا يشترط معرفة عين الميت، ولا ذكوريته وأنوثيته، بل تكفي نية الصلاة على الميت الحاضر، ومن شرطها تطهير الميت بالغسل، أو بالتيمم عند تعذره، مع بقية شروط الصلاة. والله أعلم.
قال: ومن فاته شيء من التكبير قضاه متتابعا.
ش: من فاته شيء من التكبير حتى سلم الإمام، قضاه بعد سلام إمامه متتابعا، على منصوص أحمد، واختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، وأورده أبو البركات مذهبا، لأنه بصدد أن ترفع الجنازة، فتحصل صلاة بلا جنازة، وقال أبو الخطاب في الهداية متابعة للقاضي، وتبعهما أبو محمد في المقنع -: يقضيه على صفته، إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متواليا، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» والقضاء يحكي الأداء، قال أبو البركات: ومحل الخلاف فيما إذا خشي رفع الجنازة، أما إن علم بعادة أو قرينة - أنها تترك حتى يقضي فلا تردد أنه يقضي التكبيرات بذكرها، على مقتضى تعليل أصحابنا، والمراد بالقضاء على الصفة أن يأتي بالتكبير والذكر المشروع في محله، فإذا أدرك الإمام في الدعاء تابعه فيه، ثم قام فأتى بالحمد، ثم أتى بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المذهب في أن ما أدركه مع(2/317)
الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها، وعلى القول بالعكس إذا دخل المسبوق قرأ الفاتحة، ثم بني على ذلك، والله أعلم.
قال: فإن سلم مع الإمام ولم يقض فلا بأس.
ش: المنصوص عن أحمد - وهو اختيار الخرقي، والقاضي وأصحابه، والشيخين - أن قضاء ما فات المأموم من التكبير على سبيل الاستحباب، فلو سلم مع الإمام ولم يقض فلا بأس.
1060 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: يا رسول الله إني أصلي على الجنازة، ويخفى علي بعض التكبير. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك» .
1061 - واعتمد أحمد على ما رواه العمري، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا يقضي. وفي المذهب رواية أخرى، اختارها أبو بكر، أن القضاء على سبيل الوجوب، فلو سلم ولم يقض بطلت صلاته، قياسا على بقية الصلوات، إذ التكبيرات بمنزلة الركعات، ولعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» .(2/318)
[كيفية دفن الميت]
قال: ويدخل القبر من عند رجليه، إن كان أسهل عليهم.
1062 - ش: لما روى أبو إسحاق قال: أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه، ثم أدخله القبر من عند رجلي القبر، وقال: هذا من السنة. رواه أبو داود.
1063 - وعن أنس أنه كان في جنازة، فأمر بالميت فسل من عند رجلي القبر، رواه أحمد.
1064 - وعنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «يدخل [الميت] من قبل رجليه ويسل سلا» رواه ابن شاهين.(2/319)
وقوله: إن سهل عليهم. احترازا مما إذا شق ذلك، فإنه يفعل ما هو الأسهل إذ المقصود الرفق بالميت. والله أعلم.
قال: والمرأة يخمر قبرها بثوب.
ش: التخمير التغطية، أي: يغطى قبرها بثوب.
1065 - لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يغطي قبر المرأة.
1066 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه مر بقوم قد دفنوا ميتا، وبسطوا على قبره الثوب، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، ولأنها عورة، فربما ظهر منها شيء.
وخرج من كلام الرجل، لما تقدم، وليخرج عن مشابهة النساء.
قال: ويدخلها محرمها.
ش: يدخل المرأة القبر محرمها، وهو من كان يحل له النظر إليها، والسفر بها، وهذا مما لا خلاف فيه والحمد لله، ولأن امرأة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما توفيت قال لأهلها: أنتم أحق بها.
وظاهر كلام الخرقي [أن] المحرم يقدم على الزوج، وهو بناء على قاعدته في تقديمه عليه في الصلاة، وإذا قلنا ثم: إن الزوج يقدم، قدم هنا. والله أعلم.(2/320)
قال: فإن لم يكن فالنساء.
ش: إذا عدمت المحارم فإن النساء يدخلنها القبر، لأنهن أحق بغسلها، ولهن النظر إليها، فكن أحق من غيرهن، وعلى هذا يقدم الأقرب منهن فالأقرب، وحملها أبو البركات على ما إذا لم يكن في دفنهن محذور، من اتباع الجنازة، أو التكشف بحضرة الرجال، لأن منصوص أحمد كذلك، قال حرب: قيل لأحمد: امرأة ماتت في طريق مكة، فغسلها النساء، وليس معها إلا محرم واحد، يدفنها الرجال؟ قال: إن دفنها النساء أعجب إلي، وإن اضطروا إلى ذلك دفنوها. وعن أحمد: النساء لا يستطعن أن يدخلن القبر، ولا يدفن. قال أبو محمد: وهذا أصح وأحسن.
1067 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين ماتت ابنته أمر أبا طلحة فنزل في قبرها» .
1068 - «ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسوة في جنازة فقال: «هل تحملن؟» قلن: لا. قال: «هل تدلين فيمن يدلي؟» قلن: لا. قال: «فارجعن مأزورات غير مأجورات» رواه ابن ماجه. وهو استفهام إنكار،(2/321)
فيدل على أنه غير مشروع لهن بحال، وعلى كلا الروايتين لا يكره للرجال دفنها، وإن كان محرمها حاضرا، والله أعلم.
قال: فإن لم يكن فالمشايخ.
ش: إذا لم يكن محارم ولا نساء، فالمشايخ والخصيان، لأنهم أقل شهوة، وأبعد من الفتنة، وكذلك يليهم أهل الستر والصلاح.
«تنبيه» أولى الناس بدفن الرجل أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه.
قال: ولا يشق الكفن في القبر، وتحل العقد حلا.
ش: لا يجوز شق الكفن [في القبر] لأنه إتلاف مستغنى عنه، ولم يرد الشرع به.
1069 - بل ورد بتحسين الكفن، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه» وتخريفه يذهب بحسنه، ويستحب حل العقد [إذ عقده كان] للخوف من انتشاره، وقد أمن ذلك بدفنه.
قال: ولا يدخل القبر آجرا، ولا خشبا، ولا شيئا مسته النار.
ش: لا يدخل القبر شيئا مسته النار، تفاؤلا بأن لا تمسه النار.
1070 - وقد روي عن أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أوصى أبو موسى حين(2/322)
حضره الموت فقال: لا تتبعوني بجمر. فقالوا له: أوسمعت فيه شيئا؟ قال: نعم من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه ابن ماجه، ولا آجرا، لأنه مما مسته النار.
1071 - وعن النخعي: أنهم كانوا يكرهون الآجر، والبناء بالآجر. رواه الأثرم.
1072 - وعن زيد بن ثابت أنه منع منه، وهذان الأثران - والله أعلم -[هما] اللذان حديا الخرقي على ذكر الآجر، وإلا فهو مما مسته النار. ولا يدخله خشبا، لأنه معد لمس النار.
1073 - وعن عمرو بن العاص: لا تجعلوا في قبري خشبا ولا حجرا. رواه أحمد. ويستحب أن ينصب على اللحد اللبن.
1074 - قال سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الحدوا لي لحدا، وانصبوا عليه اللبن(2/323)
نصبا، كما صنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، ويلحق باللبن القصب، واختلف عن أحمد أيهما أفضل، قال الخلال: كان أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يميل إلى اللبن، ثم مال إلى القصب، وهذا اختيار أبي بكر، والأول اختيار أبي البركات، والله أعلم.
[حكم من فاتته صلاة الجنازة]
قال: ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر.
1075 - ش: في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد ما دفن، فكبر عليه أربعا» .
1076 - وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا، ففقدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات. فقال: «أفلا كنتم آذنتموني؟» قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: «دلوني على قبره» فدلوه فصلى عليه، ثم قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليها» .
1077 - وقال أحمد: يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ستة أوجه، أنه صلى على قبر [بعد] ما دفن.(2/324)
وقد دل كلام الخرقي على أن الميت وإن صلي عليه، يجوز لمن لم يصل عليه أن يصلي عليه، وهو كذلك، لما تقدم، بل قد قال ابن حامد - واختاره أبو البركات -: إن من صلى عليه أيضا [يجوز] أن يصلي عليه تبعا لمن لم يصل عليه، كما في إعادة الجماعة تعاد مع الغير، ولا تستحب ابتداء، والمنصوص - وعليه الأكثرون - أن من صلى عليه مرة لا يصلي عليه مرة أخرى، كما أن من سلم مرة، لا يسلم ثانية، نعم الأفضل أنها إذا صلى عليها ورفعت لا توضع لأحد، ويصلي من فاتته على القبر، طلبا للمبادرة إلى دفنه، وإن وضعت وصلى عليها ولم يطل الزمان جاز، والله أعلم.
قال: وإن كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره.
ش: نص كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإمام إذا كبر خمسا تابعه المأمون في الخامسة، وظاهر كلامه أنه لا يتابعه فيما زاد على ذلك، وهذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بل أشهرها.
1078 - لما «روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: [كان] زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا، وأنه كبر على جنازة خمسا، فسألته فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبرها» ، رواه الجماعة إلا البخاري.(2/325)
1079 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة فكبر خمسا» . مختصر رواه أحمد. (والرواية الثانية) : يتابع [يعني] إلى سبع ولا يزيد على ذلك، اختارها عامة الأصحاب، الخلال، وصاحبه أبو بكر وابن بطة وصاحبه أبو حفص، والقاضي، وجمهور أصحابه، الشريف، وأبو الخطاب، وولده أبو الحسين، وأبو البركات.
1080 - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كبر على [سهل بن حنيف يعني ستا رواه البخاري.(2/326)
1081 - وعنه أيضا أنه كبر على] أبي قتادة سبعا، وقال: إنه شهد بدرا. ذكره أحمد محتجا به.
1082 - وعن الحكم بن عتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا، وستا، وسبعا. رواه سعيد في سننه. واعتمد أحمد على عموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
1083 - وعلى قول ابن مسعود: كبروا ما كبر إمامكم. هذا اللفظ رواه(2/327)
سعيد والأثرم وفيه: لا وقت، ولا عدد، (والرواية الثالثة) : لا يتابع في الزيادة على أربع. اختارها ابن عقيل، لأن هذا هو الأكثر من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالظاهر أنه آخر الأمرين.
1084 - يؤيده ما روى الأثرم بسنده عن ابن عباس قال: «آخر جنازة صلى عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا» .
1085 - وعن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على الميت أربع تكبيرات بالليل والنهار سواء» رواه أحمد. وهذا أمر فيتعين، إلا أن في السند ابن لهيعة وفيه ضعف.
وعلى جميع الروايات فالمختار أربع، نص عليه أحمد في رواية الأثرم لأنه الغالب على فعله، ولهذا اتفق الشيخان على إخراجه، والزائد فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبين الجواز، وقصة زيد بن أرقم(2/328)
تدل على ذلك، ولا خلاف أنه لا يتابع في الزائد على سبع، قال أحمد: هو أكثر ما جاء فيه، فلا يزاد عليه.
«تنبيه» كل تكبيرة قلنا: يتابع الإمام فيها. فله وللمنفرد فعلها، وهل يدعو فيها؟ قولان، وكل تكبيرة قلنا: لا يتابع فيها [الإمام] . فليس له ولا للمنفرد فعلها، ومن خالف فزادها عمدا بطلت صلاته على وجه، إذ التكبيرة هنا بمنزلة الركعة، ولم تبطل على المنصوص، لأنه ذكر مشروع، أشبه تكرار الفاتحة، وعلى هذا فالمأموم لا يسلم قبله، بل ينتظره حتى يسلم معه، نص عليه والله أعلم.
[موقف الإمام في صلاة الجنازة]
قال: والإمام يقوم عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة.
ش: نص أحمد على هذا في رواية عشرة من أصحابه، وعليه عامة أصحابه، حتى أن أبا محمد في المغني قال: لا يختلف المذهب أنه يقف عند صدر الرجل أو عند منكبيه.
1086 - لما «روي عن أبي غالب الخياط - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة فصلى عليها، فقام وسطها، وفينا العلاء بن زياد العدوي، فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة فقال: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وفي لفظ(2/329)
رواه أحمد: قال أبو غالب: صليت خلف أنس على جنازة، فقام حيال صدره. وذكر الحديث.
1087 - «- وفي الصحيحين عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها» . ونقل عنه حرب: رأيته قام عند صدر المرأة. إلا أن الخلال قال: سهى فيما حكى عنه. والعمل على ما رواه الجماعة، وروي عنه أنه يقف عند رأس الرجل، وهو الذي قاله أبو محمد في المقنع، والكافي، وهو المشهور في حديث أنس، قال أبو البركات: والقولان متقاربان، فإن الواقف عند أحدهما يمكن أن يكون عند الآخر لتقاربهما، فالظاهر أنه وقف بينهما، وقد قال أحمد في رواية الأثرم وذكر الحديث: يقف من الرجل عند منكبيه، ونحو هذا قال أبو محمد في المغني.(2/330)
وظاهر كلام الخرقي [أنهما] إذا اجتمعا وقف منهما كذلك، وهو إحدى الروايات عنه، واختيار أبي الخطاب في خلافه، والشيرازي قياسا على حال الانفراد. (والثانية) : - وهي المنصوصة عنه، وبها قطع القاضي في التعليق، وفي الجامع، والشريف أبو جعفر - يسوى بين رأسيهما، ويقف حذاء صدريهما.
1088 - لما روي عن الشعبي أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر توفيا جميعا، فأخرجنا جنازتهما، فصلى عليهما أمير المؤمنين، فسوى بين رؤوسهما وأرجلهما حين صلى عليهما.
رواه سعيد في سننه، وقيل: إن هذه الجنازة حضرها ثمانون صحابيا، وفعله ابن عمر، وعليه اعتمد أحمد. (والثالثة) : التخيير، مع اختيار التسوية. والله أعلم.
قال: ولا يصلى على القبر بعد شهر.
ش: هذا هو المشهور في المذهب، لأنه لا يعلم بقاء الميت أكثر من ذلك، والذي ورد في الصحيح كان قرب(2/331)
الدفن، وجعل أبو محمد ما قارب الشهر في حكم الشهر، وكذلك قال القاضي، وحده باليوم واليومين.
1089 - لما «روى سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر» ، رواه الترمذي واحتج به أحمد.
1090 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد شهر» ، رواه الدارقطني، وأول أبو بكر هذا على الشهر، قال: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] يريد حينا.
وقيل: يجوز ما لم يبل الميت. وعن ابن عقيل الجواز مطلقا، لقيام الدليل على الجواز، وما وقع من الشهر فاتفاق.
1091 - ويؤيده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، رواه البخاري وغيره.
وابتداء الشهر من الدفن على المشهور، لأنه إذا يصير مقبورا، وقال ابن عقيل: من الموت. وهو ظاهر حديث أم سعد. والله أعلم.(2/332)
قال: وإن تشاح الورثة في الكفن جعل بثلاثين درهما، فإن كان موسرا. فبخمسين.
ش: - الكفن معتبر بحال الميت، فإن كان موسرا كان كفنه رفيعا حسنا، على حسب ما يلبس في الحياة، وإن لم يكن موسرا [فعلى حسب حاله] قال أبو محمد: وقول الخرقي ليس على سبيل التحديد، إذ لا نص في ذلك ولا إجماع، ولعل الجيد والمتوسط كان يحصل في زمنه بما ذكره، والكفن يجب في رأس المال، مقدما على الدين وغيره.
ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هل الواجب ثوب واحد أو أكثر من ذلك؟ والمشهور أن الواجب [ثوب] ساتر لجميع الميت، رجلا كان أو امرأة، اختاره ابن عقيل، وأبو محمد، وقيل - وعزي إلى القاضي -: يجب في حقهما ثلاثة، وجعل صاحب التلخيص محل الوجهين في نفوذ وصية الميت بإسقاط الثوبين، قال: وعلى كليهما لا يملك الغرماء ولا الورثة المضايقة فيهما، وقيل: تجب الثلاثة: إلا مع الدين المستغرق، وهذا اختيار أبي البركات في الشرح، وقيل: بل ثلاثة في حق الرجل، وخمسة في حق المرأة، ويتلخص(2/333)
خمسة أوجه، واعلم أن أبا البركات جوز وصية الميت بالثوب الواحد بالإجماع، والله أعلم.
[الصلاة على السقط]
قال: والسقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه.
ش: لأنه ميت فيه روح، أشبه المولود، ودليل الوصف يأتي إن شاء الله تعالى.
1092 - وقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي كيف شاء منها، والسقط يصلى عليه» رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه [وكذلك أحمد في رواية أحمد بن أبي عبدة] .
وشرط الخرقي الموت بعد أربعة أشهر، وهو منصوص أحمد في رواية حرب وصالح، وعليه الشيخان وغيرهما، لأن من لم يستكملها فليس بميت، [لعدم نفخ الروح فيه، والغسل والصلاة إنما شرعا لميت] .(2/334)
1093 - والدليل على ذلك قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وهو] الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح» متفق عليه، وعليه اعتمد أحمد، وظاهر كلام أحمد - في رواية صالح، في موضع آخر - تعليق الحكم بكونه تبين فيه خلق الإنسان، من غير نظر إلى الأربعة أشهر، وكذلك ذكره ابن أبي موسى، وأبو بكر في التنبيه، وأبو الخطاب في الهداية، وابن حمدان، والله أعلم.
قال: وإن لم يتبين أذكر هو أم أثنى سمي اسما يصلح للذكر والأنثى.
ش: يستحب تسمية السقط باسم الذكر إن تبين أنه ذكر، وباسم الأنثى إن تبين [أنه أنثى، وبما يصلح لهما - كقتادة، وطلحة، ونحوهما - إن لم يتبين] حاله.
1094 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه] قال: «سموا أسقاطكم فإنهم أفراطكم» رواه أبو بكر، وقيل: الحكمة في ذلك ليدعوا بأسمائهم يوم القيامة.(2/335)
[تغسيل أحد الزوجين للآخر]
قال: وتغسل المرأة زوجها.
ش: هذا هو المشهور المنصوص، الذي قطع به جمهور الأصحاب، وقد حكاه الإمام أحمد، وابن المنذر، وابن عبد البر إجماعا.
1095 - ويشهد له قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا نساؤه. رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه.
1096 - وأوصى الصديق أن تغسله زوجته أسماء فغسلته، وحكى أبو(2/336)
الخطاب في الهادية - وتبعه صاحب التلخيص فيه، وأبو محمد في المقنع - رواية بالمنع، إذ البينونة حصلت بالموت، فتزول عصمة النكاح، المبيحة للنظر واللمس، وإذا لا يجوز لها غسله كالأجنبية، وقد حكى أبو البركات أن الرواية أثبتها ابن حامد وغيره، آخذين لها من رواية صالح الآتية وغيرها، ولم يثبتها هو رواية، [قال] : لأن منطوق أحمد لا يدل على المنع، ومفهومه كما يحتمل التحريم يحتمل الكراهة، فيحمل عليه، موافقة للإجماع.
وقول الخرقي: وتغسل المرأة زوجها. يدخل فيه وإن لم تكن في عدة حال غسله، كما إذا وضعت عقب موته، وهو كذلك، ويدخل فيه [أيضا] المطلقة الرجعية، لأنها امرأته، وخرج المنع، بناء على تحريمها، ويخرج من كلامه المبتوتة في مرض موته، لا تغسله، لأنها ليست زوجته، وفيه احتمال، بناء على الإرث.
قال: وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس.
ش: كذلك قال ابن أبي موسى، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية صالح، وقد سئل: هل يغسل الرجل زوجته، والمرأة زوجها؟ قال: كلاهما واحد، إذا لم يكن من يغسلها، فأرجو(2/337)
أن لا يكون به بأس. وذلك لما تقدم من أن البينونة حصلت بالموت، وإنما جاز مع الضرورة، لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأنه ورد فيه نوع رخصة [فحمل على الضرورة، جمعا بين الأدلة، والفرق بين المرأة تغسل زوجها، والرجل لا يغسل زوجته إلا عند الضرورة، أن المرأة لها نوع رخصة] في النظر للأجنبي، بخلاف الرجل، إذ محذور الشهوة فيها أخف من الرجل، (وعنه) [يجوز مطلقا] وهو المشهور عند الأصحاب، حتى أن القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبا الخطاب، في خلافيهما، [والشيرازي] لم يذكروا خلافا، قياسا له عليها.
1097 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا في رأسي، وأقول: وارأساه. فقال: «بل أنا وارأساه، ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك، وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك» رواه أحمد، وابن ماجه.
1098 - وعن علي أنه غسل فاطمة، إلا أن أحمد قال: ليس له إسناد.(2/338)
ومرة قال: روي من طريق ضعيف. واحتج به في رواية حنبل.
1099 - وقال في قول ابن عباس: الرجل أحق بغسل امرأته: إنه منكر. وقيل عنه رواية بالمنع مطلقا، وتلخص أن في المسألة ثلاث روايات، الجواز مطلقا وهو المشهور، والمنع مطلقا والجواز عند الضرورة، واعلم أن أبا محمد قد نفى هذا القول، وحمل كلام الخرقي على التنزيه، وحمله ابن حامد والقاضي على ظاهره، وهو أوفق لنص أحمد. والله أعلم.
[تغسيل الشهيد والصلاة عليه]
قال: والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل، ولم يصل عليه، ودفن في ثيابه.
ش: أما كون الشهيد لا يغسل:
1100 - فلما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثواب الواحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن» ؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم» ، رواه البخاري، والنسائي، والترمذي وصححه.(2/339)
1101 - ولأحمد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في قتلى أحد «لا تغسلوهم، فإن كل جرح، أو كل دم، يفوح مسكا يوم القيامة» ولم يصل عليهم» .
وقول الخرقي: لا يغسل. [يعني] للموت، فلو كان به ما يقتضي الغسل من جنابة أو غير ذلك، فإنه يغسل.
1102 - لما روى ابن إسحاق في المغازي، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة» يعني حنظلة «فاسألوا أهله ما شأنه؟» فسئلت صاحبته [عنه] فقالت: خرج وهو جنب، حين سمع الهائعة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لذلك غسلته الملائكة» » .(2/340)
وأما كونه لا يصلى عليه - وهو المشهور من الروايات، واختيار القاضي، وعامة أصحابه - فلما تقدم.
1103 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. والرواية الثانية: يصلى عليهم. اختارها الخلال، وعبد العزيز في التنبيه، وأبو الخطاب.
1104 - لما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوما فصلى على قتلى أحد، صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر(2/341)
إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» متفق عليه واللفظ للبخاري.
1105 - وله أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد، بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات.
1106 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد» .
1107 - «وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى على حمزة» ، وقد ضعف حديث ابن عباس من قبل رواته، وأنكر أحمد قضية حمزة، في رواية مهنا، وقال: ليس له إسناد. وأما حديث عقبة(2/342)
فقيل: خاص بقتلى أحد، توديعا للأحياء والأموات، وفيه شيء، فإن الذي ورد أنه لم يصل عليهم هم قتلى أحد، فإما أن يكون آخر الأمرين من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الصلاة، أو فعل ذلك ليبين الجواز، وهذا هو (الرواية الثالثة) : أنه يخير في الصلاة وتركها، لورود الأمرين بهما، لكن الفعل أفضل، وعنه: الترك أفضل.
وأما كونه يدفن في ثيابه التي استشهد فيها - أي يكفن فيها - فلما تقدم.
1108 - وعن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زملوهم بدمائهم، فإنه ليس أحد يكلم في سبيل الله إلا أتى يوم القيامة جرحه يدمأ، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك» رواه النسائي، وأحمد ولفظه «زملوهم في ثيابهم» .
وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل الوجوب، وهو المنصوص، وعليه جمهور الأصحاب، منهم القاضي في الخلاف، وشذ في المجرد، فجعل ذلك مستحبا، وتبعه على ذلك أبو محمد.(2/343)
1109 - محتجا «بأن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوبين، ليكفن فيهما حمزة، فكفنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحدهما، وكفن في الآخر رجلا» . قال يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد. وأجاب القاضي في الخلاف بأنه يحتمل أن ثيابه سلبت، أو أنهما ضما إلى ما كان عليه.
1110 - قلت: وقد روي في المسند ما يدل على ذلك.
(تنبيهان) (أحدهما) : المراد بالشهيد هنا الذي قتل بأيدي الكفار، في معركتهم، أما المقتول ظلما - كقتيل اللصوص(2/344)
ونحوه - فهل يلحق بالشهيد، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، وهو اختيار القاضي وعامة أصحابه، لأنه شهيد، أشبه شهيد المعركة، أو لا يحلق به، فيغسل، ويصلى عليه، وهو اختيار الخلال، لأن عمر، وعليا، والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قتلوا ظلما، وغسلوا، وصلي عليهم؟ فيه روايتان. واختلف في العادل إذا قتله الباغي، فقيل: حكمه حكم قتيل اللصوص، وهو اختيار أبي بكر، والقاضي، وقيل: بل حكم قتيل الكفار، وهو المنصوص، واختيار الشيخين.
1111 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يغسل من قتل معه، وعمار أوصى أن لا يغسل. أما الشهيد غير القتيل، كالمبطون، والمطعون، والنفساء، ونحوهم، فحكمهم حكم بقية الموتى بلا نزاع، «وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها» .
(الثاني) : عدم غسل الشهيد قيل: دفعا للحرج والمشقة، لكثرة الشهداء في المعترك، وقيل: لأنه لما لم يصل عليه لم يغسل، وقيل - وهو الصحيح -: لئلا يزول أثر العبادة المطلوب بقاؤها، كما دل عليه حديث عبد الله بن ثعلبة، وعدم الصلاة عليه قيل: لأنهم أحياء عند ربهم، والصلاة إنما شرعت على الأموات، وقيل: لغناهم عن الشفاعة.(2/345)
1112 - فإن الشهيد شفيع في سبعين من أهله. (وفرط القوم) المتقدم عليهم في السير، السابق إلى الماء، أي أني متقدم بين أيديكم، فإذا قدمتم علي تروني وتجدوني لكم منتظرا (والمنافسة) المغالبة على تحصيل الشيء، والانفراد به، «وزملوهم» لفوهم. والله أعلم.
قال: وإن كان عليه شيء من الجلود أو السلاح [نحي عنه.
ش: قد تقدم أن الشهيد يدفن في ثيابه، فلو كان عليه شيء من الجلود والسلاح] فإنه يزال عنه.
1113 - لما روى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد بالشهداء أن تنزع عنهم الحديد، والجلود، وقال: «ادفنوهم بدمائهم وثيابهم» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه.(2/346)
قال: وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه.
ش: هذا الذي احترز عنه الخرقي في قوله: الشهيد إذا مات في موضعه. فلو حمل وبه رمق، أي حياة مستقرة، ثم مات، فإنه يغسل، ويصلى عليه.
1114 - «لأن سعد بن معاذ أصابه سهم يوم الخندق، فحمل إلى المسجد، ثم مات بعد ذلك، فغسله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى عليه» .
وظاهر كلام الخرقي [أنه] لا يشترط لغسله والصلاة عليه طول الفصل، بل [لو] مات عقب الحمل، وقد كانت فيه حياة مستقرة، فإنه يغسل، ويصلى عليه، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا. وقيل: يشترط طول الفصل، وهو مختار أبي محمد، فلو لم يطل الفصل لم يغسل، والله أعلم.
[تغسيل المحرم وتكفينه]
قال: والمحرم يغسل بماء وسدر، ولا يقرب طيبا، ويكفن في ثوبيه، ولا يغطى رأسه ولا رجلاه.
1115 - ش: في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «بينما رجل واقف مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ وقع عن راحلته فأوقصته، وفي لفظ - فوقصته، فذكر ذلك لرسول الله -(2/347)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا» وفي رواية «في ثوبيه» وفي أخرى «لا تغطوا وجهه، ولا تقربوه طيبا» » وفي رواية لأبي داود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اغسلوا المحرم في ثوبيه اللذين أحرم فيهما، واغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيبا، [ولا تخمروا رأسه] فإنه يبعث يوم القيامة محرما» » وهذا يبين أن المراد ليس ذلك المحرم بعينه، وأن حكم الإحرام باق بعد موته.
وقول الخرقي: لا تغطى رجلاه. هو رواية حنبل عن أحمد، [وقد] أنكره الخلال، وقال: لا أعرف هذا في الأحاديث، ولا رواه أحمد عن أبي عبد الله غير حنبل. قال: وهو عندي وهم من حنبل، والعمل على أن يغطى جميع المحرم، إلا رأسه، لأن الإحرام لا يتعلق بالرجلين، ولهذا لا يمنع من تغطيتهما في حياته، فكذلك بعد مماته. قلت: قد يقال: كلام الخرقي وأحمد خرج على المعتاد، إذ في الحديث أنه يكفن في ثوبيه، أي الرداء، والإزار [والإزار] العادة أنه لا يغطى من سرته إلى رجليه، فخرج كلامهما على ذلك.
وظاهر كلام الخرقي أنه يغطى وجهه. وهو المشهور من الروايتين بناء على المشهور [من] أنه يجوز تغطيته في حال(2/348)
الحياة، ونظرا إلى أن الأكثر والأشهر في الروايات ذكر الرأس فقط، وهذا إذا كان المحرم رجلا، أما إن كان امرأة فحكمها بعد الموت حكمها في الحياة، لا تمنع من لبس المخيط، وتغطي رأسها لا وجهها، والله أعلم.
قال: وإن سقط من الميت شيء غسل وجعل معه في أكفانه.
ش: إذا سقط من الميت شيء أو كان ساقطا - كبعض أعضائه - فإنه يغسل، ويجعل في أكفانه، لأن بعضه جزء من أجزائه، [فأعطي حكم كله، ولما فيه من جمع أجزاء الميت] في موضع واحد، وأنه أولى، والله أعلم.
قال: وإن كان شاربه طويلا أخذ وجعل معه في أكفانه.
ش: أما أخذه فلأن ذلك يراد للتنظيف، ويسن في حياته، من غير ضرر فيه، فكذلك بعد وفاته، وأما جعله معه فلما تقدم، وفي معنى أخذ الشارب قلم الظفر، لأنه في معناه، وعنه يكره قلم الظفر، لأنه من الجملة، ولهذا ينجس بالموت، بخلاف الشعر.
واقتصار الخرقي على ذكر أخذ الشارب يقتضي أنه لا يختن، ونص عليه أحمد، وحذارا من إزالة بعض أعضائه، ولأن المقصود من الختان التطهير من النجاسة، وقد زال ذلك، والجنة لا بول فيها ولا تغوط.(2/349)
ويقتضي كلامه أيضا أن عانته لا تؤخذ، وهي اختيار أبي محمد، حذارا من كشف العورة ومسها، وهتك حرمة الميت، ونص أحمد - في رواية صالح - على أخذها.
1116 - محتجا بأن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل ميتا، فدعى بموسى. ولأنه من الفطرة، أشبه قلم الظفر، وهذا مختار الجمهور، والقاضي في التعليق، وأبي الخطاب وصاحب التلخيص، وغيرهم، ثم قال القاضي في شرح المذهب: تزال بنورة، نظرا إلى الأسهل، وحذارا من المس، وقال أحمد: تأخذ بموسى أو بمقراض، نظرا لقصة سعد، والنورة ربما أتلفت الجسد، وخير أبو الخطاب في الهداية بينهما. والله أعلم.
[حكم التعزية]
قال: ويستحب تعزية أهل الميت.
1117 - ش: عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى مصابا فله مثل أجره» .
1118 - وعن أبي برزة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى ثكلى كسي بردافي الجنة» رواهما الترمذي.(2/350)
«تنبيه» «ثكلى» المرأة تفقد ولدها ومن يعز عليها، والله أعلم.
[البكاء على الميت]
قال: والبكاء عليه] غير مكروه، إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة.
ش: إذا تجرد البكاء عن الندب والنياحة لم يكره.
1119 - لما «روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: شهدنا بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا. فقال: «انزل في قبرها» رواه البخاري.(2/351)
1120 - «وعن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى، فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخلوا عليه، وجده في غشية، فقال: «قد قضى؟» فقالوا: لا يا رسول الله. فبكى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال: «ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم» .
1121 - «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أبكي، فجعلوا ينهوني ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه» متفق عليهما.
1122 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن سعد بن معاذ لما مات، حضره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر، قالت: فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر، من بكاء عمر، وأنا في حجرتي» رواه أحمد.
أما إن كان مع البكاء ندب - وهو تعداد محاسن الميت،(2/352)
نحو: واسيداه، وارجلاه، ونحو ذلك، أو نوح - فإنه يحرم، لما اشتمل عليه من ذلك.
1123 - ففي الترمذي وغيره عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه، واسيداه، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه، ويقولان: أهكذا كنت؟» .
1124 - «وعن أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أخذ علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع البيعة أن لا ننوح» . مختصر، متفق عليه.
1125 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النائحة، والمستمعة» . رواه أبو داود، وقال أحمد - في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] إنه النياحة، وقد ورد ذلك مرفوعا.
1126 - «فعن أسماء بنت يزيد قالت: قالت امرأة من النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: «لا تنحن» مختصر، رواه الترمذي.(2/353)
وقيل: إذا تجرد الندب والنياحة عن اللطم، ونتف الشعر، وذكر الميت بما ليس فيه، ونحو ذلك، كره ولم يحرم، وهو ظاهر كلام الخرقي، وقيل عن أحمد ما يحتمل الإباحة، واختاره الخلال وصاحبه.
1127 - لأنه روي عن واثلة بن الأسقع، وأبي وائل أنهما كانا يستمعان النوح ويبكيان، رواه حرب، والمذهب الأول.
1128 - وعليه حمل أبو محمد ما في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» وفي رواية «ليعذب ببكاء الحي عليه» وفي رواية «بما نيح عليه» فحمله على بكاء معه ندب أو نياحة، وقيل: بل ما ورد محمول على من أوصى(2/354)
بذلك، وهو قول الخطابي، وابن حامد من أصحابنا كقول طرفة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
وقيل: بل يحمل على من أوصى بذلك، وقيل: محمول على من عادتهم وسنتهم النوح، ولم يوصهم بترك ذلك. اختاره أبو البركات [لتفريطه، أما مع الوصية باجتناب ذلك فلا، وهذا قول صاحب التلخيص] وقد حمل ذلك على ظاهره راويا الحديث عمر وابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأنكرت ذلك عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.(2/355)
1129 - ففي الصحيحين عنها أنها قالت: يرحم الله عمر وابنه، ما حدث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ولكن قال: «إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه» وقالت: حسبكم القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قال ابن أبي مليكة: فما قال ابن عمر شيئا.
1130 - وقالت أيضا: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكن نسي أو أخطأ. وفي رواية وهم - إنما مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على يهودية [يبكي عليها] فقال: «إنه ليبكى عليها لتعذب في قبرها» .
1131 - وعن ابن عباس نحو هذا، وقال: والله أضحك وأبكى. انتهى.
ولا بأس باليسير من الكلام في صفة الميت، إذا كان صدقا، ولم يخرجه مخرج النوح، قال أحمد: إذا ذكرت المرأة مثل ما حكي عن فاطمة، في مثل الدعاء لا يكون مثل النوح.(2/356)
1132 - والذي «حكي عن فاطمة ما رواه أنس قال: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه» . رواه البخاري.
«تنبيه» «يقارف» .
1133 - «في مسند أحمد أن رقية لما ماتت، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله» فلم يدخل عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - القبر» ، «والوزر» الإثم والذنب المثقل للظهر، والمراد: لا يحمل أحد من المذنبين ذنب أحد، «واللهز» الدفع في الصدر بجميع الكف، والله أعلم.
[صنع طعام لأهل الميت]
قال: ولا بأس أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم، ولا يصلحون هم طعاما للناس.
ش: أما إباحة ذلك لغير أهل الميت:
1134 - فلما روي «عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم(2/357)
ما يشغلهم» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه.
وأما عدم إباحته لهم فلما علل به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من أنهم في شغل بمصابهم.
1135 - وعن جرير بن عبد الله البجلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. رواه أحمد.
وظاهر كلام الخرقي أنه يباح لغير أهل الميت صنيع الطعام، ولا يباح لأهل الميت، وقال غيره: ويسن لغير أهل الميت، ويكره لأهله، والله أعلم.
[موت المرأة وفي بطنها جنين]
قال: والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك، فلا يشق بطنها، وتسطو القوابل عليه فيخرجنه.
ش: المذهب المنصوص - والذي عليه الأصحاب - أن المرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك، أن بطنها لا يشق، لأن في الشق هتك حرمة متيقنة لإبقاء حياة موهومة، إذ الغالب(2/358)
والظاهر أن الولد لا يعيش، واحتج أحمد - في رواية أبي داود - بما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» رواه أبو داود، وابن ماجه، ورواه ابن ماجه من رواية أم سلمة، وزاد «في الإثم» وتوقف أحمد عن ذلك في رواية الأثرم، ولم يجزم بحجية [الحديث] بل قال: قيل: كسر عظم الميت ككسر عظم الحي. وحكى أبو الخطاب في الهداية ومن بعده احتمالا بالشق، إذا غلب على الظن أن الولد يعيش لأن حفظ حرمة الحي أولى، وكما لو خرج بعضه حيا، وتعذر إخراج باقيه من غير شق، [فإنه يشق] .
فعلى الأول تسطو عليه القوابل، أي يدخلن أيديهن في فرجها. فيخرجنه إن غلب على ظنهن حياته، بحركته مع قرب ولادتها، ونحو ذلك.
فإن لم تقدر عليه النساء، أو لم يوجدن فهل يسطو عليه الرجال؟ فيه روايتان (إحداهما) : لا يسطون ويترك حتى يموت، اختاره القاضي،(2/359)
وصاحب التلخيص، وأبو محمد، وغيرهم، ويحتمله كلام الخرقي، لما فيه من هتك حرمتها مع الرجال، مع بعد احتمال الحياة (والثانية) : - وهي المنصوصة عنه، واختيار أبي بكر، وأبي البركات - يسطون، لأن ذلك يحتمل في حق الأحياء، فالأموات أولى، ولم يقيد أحمد الرجل بالمحرم، وقيده ابن حمدان بذلك، وحيث تعذر إخراجه فإنها تترك حتى يتيقن موته، قال أحمد: ينتظرنها ما دام حيا، والله أعلم.
[حضور صلاة الجنازة مع صلاة أخرى]
قال: وإذا حضرت الجنازة، وصلاة الفجر، بدئ بالجنازة.
ش: لأنا إذا قدمنا الجنازة فعلناها في غير وقت نهي، أو في وقت اختلف فيه، أما إن أخرناها، فإننا نفعلها في وقت نهي بلا نزاع، فكانت البداءة بها أولى، وكذلك إذا حضرت [الجنازة] وصلاة العصر، بدئ بالجنازة بطريق الأولى، إذ وقت النهي إنما يدخل بفعل الصلاة على المذهب، بخلاف الفجر، فإن وقت النهي فيها يدخل بطلوع الفجر على المذهب، والله أعلم.
قال: وإن حضرت وصلاة المغرب بدئ بالمغرب.
ش: إذا حضرت الجنازة وصلاة المغرب، بدئ بالمغرب، لتأكد المغرب، ولكراهة تأخيرها، ولا محذور في تأخير الجنازة، إذ لا نهي بعد الغروب، وكذا إذا حضرت وصلاة الظهر أو العشاء، بدئ بالعشاء والظهر، لتأكدهما. والله أعلم.(2/360)
[صلاة الجنازة على مرتكب الكبيرة]
قال: ولا يصلي الإمام على الغال، ولا على من قتل نفسه.
ش: الغال هو الذي يكتم الغنيمة أو بعضها، فلا يصلي الإمام عليه، ولا على من قتل نفسه عمدا. على المنصوص، والمذهب بلا ريب.
1136 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءوه برجل قد قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه» . رواه مسلم وغيره.
1137 - وفي السنن عن زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «توفي رجل من جهينة يوم خبير، فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «صلوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه القوم، فلما رأى ما بهم قال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله» ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود، ما يساوي درهمين» . رواه الخمسة إلا الترمذي واحتج به أحمد، فامتنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه، وهو الإمام، وأمر غيره بالصلاة عليه، وكذلك روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –(2/361)
فيمن قتل نفسه، قال أحمد وسئل: من قتل نفسه يصلى عليه؟ - قال: - أما الإمام فلا يصلي عليه، وأما الناس فيصلون عليه، «هكذا فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي قتل نفسه، لم يصل عليه، وأمرهم أن يصلوا عليه» ، وإذًا يلحق به غيره من الأئمة، إذ ما ثبت في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثبت في حق غيره، ما لم يقم دليل يخصه، وجعل أبو البركات ترك صلاة الإمام استحبابا، من باب الردع والزجر، وعدى ذلك إلى كل معصية ظاهرة، مات عنها صاحبها من غير توبة.
(تنبيه) الإمام هنا هو أمير المؤمنين خاصة، قاله الخلال وغيره، ونقل عنه حرب أن الإمام هو الوالي، وأن إمام كل قرية واليهم، وخطأ الخلال حربا، وقال: إن الذي عليه العمل من قوله هو الأول. قاله أبو البركات: وهذا تحكم، والصحيح تصويبه، وجعل ذلك رواية.
قال: وإذا حضرت جنازة رجل وامرأة، وصبي، جعل الرجل مما يلي الإمام، والمرأة خلفه، والصبي خلفهما.
ش: لا خلاف في المذهب أن الرجل الحر يلي الإمام، لشرفه بالذكورية، والحرية، والتكليف، ثم بعده هل يقدم الصبي لشرفه بالحرية، وهو اختيار الخلال، أو العبد البالغ، لشرفه بالتكليف، وهو اختيار القاضي في التعليق، وأبي محمد، وظاهر كلام الخرقي؟ فيه روايتان منصوصتان، ثم [من] بعد الصبي المرأة، لشرفه بالذكورية، فيقدم عليها،(2/362)
نص عليه أحمد في رواية صالح، وأبي الحارث.
1138 - ويشهد له ما «روى عمار مولى بني هاشم، قال: شهدت جنازة صبي وامرأة، فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه، وفي القوم أبو سعيد الخدري، وابن عباس، وأبو قتادة، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقلنا لهم: فقالوا: السنة» . وقال الخرقي: يؤخر الصبي عن المرأة، لشرف المرأة بالتكليف، وهذا الذي نصبه القاضي في التعليق، ولم يذكر به نصا، والخنثى يقدم على المرأة لاحتمال ذكوريته، والله أعلم.
قال: وإن دفنوا في قبر واحد جعل الرجل مما يلي القبلة، والمرأة خلفه، والصبي خلفهما، ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب.
ش: لا إشكال أن جهة القبلة في الدفن هي الجهة الفاضلة، فيقدم الأفضل ثم الذي يليه إليها، على ما تقدم في تقديمهم إلى الإمام، ويشهد لذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى.(2/363)
وقد تضمن كلام الخرقي أنه يجوز دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وهو صحيح، نص عليه أحمد والأصحاب.
1139 - لما روى هشام بن عامر قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد، فقلنا، يا رسول الله، الحفر علينا لكل إنسان شديد. فقال: «احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد» قالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: «قدموا أكثرهم قرآنا» وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد» . رواه النسائي، والترمذي بنحوه وصححه.
فإن اختلفت أنواعهم - كرجال ونساء - قدم إلى القبلة من [يقدم] إلى الإمام عند الصلاة عليه، هذا كله مع الضرورة، لكثرة الموتى ونحو ذلك، أما مع [عدم] الضرورة فالذي عليه عامة الأصحاب أنه لا يدفن في القبر إلا واحد، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن كل واحد في قبر» ، وعلى ذلك استمر فعل الصحابة، ومن بعدهم من السلف والخلف، ونقل عنه أبو طالب إذا ماتت امرأة وقد ولدت ولدا ميتا، فدفن معها، جعل بينها وبينه حاجز من تراب، أو يحفر له في ناحية منها، وإن لم يدفن معها فلا بأس، فظاهر هذا جواز(2/364)
دفن الاثنين في قبر من غير ضرورة بلا كراهة، وهو ظاهر إطلاق الخرقي، ويحتمل أن يختص كلام أحمد [بما] إذا كانا أو أحدهما ممن لا حكم لعورته لصغره، كحالة النص.
وحيث دفن في القبر اثنان فأكثر جعل بين كل اثنين حاجز من تراب، ليجعل كأن كل واحد منهما منفرد بقبر، والله أعلم.
قال وإذا ماتت نصرانية وهي حامل من مسلم، دفنت بين مقبرة المسلمين والنصارى.
ش: لأنها إن دفنت في مقبرة المسلمين تأذوا بعذابها، وإن دفنت في مقبرة النصارى تأذى الولد بعذابهم، فتدفن وحدها، وقد حكى هذا أحمد عن واثلة بن الأسقع.
فإن قيل: فالولد على كل حال يتأذى بعذابها؟ (قيل) : هذا محل ضرورة، وهو أخف من عذاب المجموع. انتهى، ويجعل ظهرها إلى القبلة، على جنبها الأيسر، لأن الولد إذًا يكون إلى القبلة، على جنبه الأيمن، لأن وجهه إلى ظهرها. والله أعلم.(2/365)
قال: ويخلع النعال إذا دخل المقابر.
ش: يستحب خلع النعال في المقبرة، ويكره المشي فيها إذًا.
1140 - لما «روى بشير مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال: (بينما أنا أماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] مر بقبور المشركين، فقال: «لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا» ثلاثا، ثم مر بقبور المسلمين فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا» ثم حانت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظرة، فإذا رجل يمشي عليه نعلان، فقال له: «يا صاحب السبتيتين ألقهما» فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلعهما، فرمى بهما) » . رواه أبو داود، والنسائي، واحتج به أحمد في رواية حنبل وغيره، وقال: هذا أمر من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصححه في رواية محمد بن الحكم، ونقل عنه ما يدل على جواز ذلك من غير كراهة.(2/366)
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يخلع ما عدا النعال من الخفاف، والتمشكات، وغيرهما، ولذلك قال القاضي: لا تتعدى الكراهة إلى التمشكات، ولا إلى غيرها، قصرا للنص على موضعه، وقيل بتعديه إلى التمشكات، لأنه في معنى النعل، لا إلى الخف؛ لأن في الخلع مشقة، ولهذا كان أحمد يلبس الخفاف في المقابر.
(تنبيه) السبتية نسبة إلى السبت، جلود مدبوغة بالقرض، يتخذ منها النعال، والله أعلم.
[زيارة القبور]
قال: ولا بأس أن يزور الرجال المقابر.
ش: تستحب للرجال زيارة القبور، على المنصوص، والمشهور عند الأصحاب.
1141 - لما روى بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا» رواه مسلم وغيره.(2/367)
وقيل: يباح ولا يستحب، وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأن في رواية أحمد والنسائي عن بريدة «ونهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا» وهو الغالب في الأمر بعد الحظر، لا سيما وقد قرنه بما هو مباح، وهو ادخار لحوم الأضاحي، والانتباذ في كل سقاء.
قال: ويكره للنساء. والله أعلم.
ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا تخرج المرأة إلى المقابر، ولا [إلى] غيرها.
1142 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن زوارات القبور» رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وصححه.
1143 - وروي أيضا من حديث حسان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -(2/368)
وهذا النهي خاص بالنساء، وذلك النهي والأمر يحتمل أنهما خاصان بالرجال، ويحتمل أنهما لهما، ويحتمل أن هذا الحديث بعد الإذن في الزيارة، وإذا دار الأمر بين الحظر والإباحة، فأقل الأحوال الكراهة، بل لو قيل بالحظر لم يكن بعيدا، لا سيما والمرأة قليلة الصبر، فالظاهر تهييج حزنها، برؤية قبور أحبتها، فقد يقع منها ما لا ينبغي.
1144 - وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال: «بينما نحن نسير مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف، حتى انتهت إليه، فإذا هي فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لها: «ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟» فقالت: أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم، وعزيتهم بميتهم. قال: «لعلك بلغت معهم الكدى؟» قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر. فقال: «لو بلغتها معهم، ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك» رواه أحمد، والنسائي، وهذا لفظه، وقد صحح وضعف. وحسن.(2/369)
والرواية الثانية: يباح لها ذلك، قال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، وذلك لعموم حديث بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
1145 - وعن عبد الله بن أبي مليكة «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن. فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها» . رواه الأثرم في سننه، واحتج به أحمد في رواية إبراهيم بن الحارث، ففهمت دخولهن في العموم.
واعلم أن الخلاف السابق حكاه أبو الخطاب في الهداية، والشيخان وغيرهم في الكراهة، وحكاه صاحب التلخيص في التحريم، ولعله أوفق لنص أحمد، وجمع ابن حمدان الطريقتين، فحكى ثلاث روايات، الإباحة، والكراهة، والتحريم.
وعلى جميع الروايات متى علمت من نفسها أنها متى زارت بدا منها ما لا يجوز، لم تجز لها الزيارة قولا واحدا.(2/370)
[آداب زيارة القبور]
«تنبيهان» (أحدهما) يقول الزائر لها، والمار عليها:
1146 - ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما كان ليلتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من آخر ليلتها إلى البقيع، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» .
1147 - وعن بريدة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر وكان قائلهم يقول: «السلام على أهل الديار - وفي لفظ - السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» رواهما مسلم. ويخير في السلام بين التنكير والتعريف، للأحياء والأموات؛ لأن السنة وردت بذلك، وقال ابن عقيل: في الأحياء التنكير، وفي الأموات التعريف. ورد بالسنة، وبأن أحمد نص في رواية أبي طالب في السلام على الأحياء معرفا، ونص في السلام على الأموات على التعريف والتنكير.
(الثاني) : «الهجر» بالفتح الهذيان، وهو النطق بما لا يفهم، «والكدى» جمع كدية وهي الأرض الصلبة، لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة، والله أعلم.(2/371)
[كتاب الزكاة]
ش: الزكاة في اللغة النماء، والزيادة، والتطهير، قال الواحدي: الأظهر أنها مشتقة من: زكى الزرع يزكو زكاء بالمد إذا زاد. قال: والزكاة أيضا الصلاح يقال: رجل زكي - أي زائد الخير - من قوم أزكياء: وزكى القاضي الشهود. إذا بين زيادتهم في الخير، فسمي المال المخرج زكاة؛ لأنه يزيد في المخرج منه، ويقيه الآفات. وفي عرف الشرع اسم لإخراج شيء مخصوص، من مال مخصوص، على وجه مخصوص.
وهي مما علم وجوبها من دين الله بالضرورة، وقد قال عز من قائل {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] .
1148 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» مختصر متفق عليه.(2/372)
[في آي وأخبار سوى هذين] ، وأجمع الصحابة على وجوبها، وعلى قتال مانعيها، والله أعلم.
[زكاة الإبل]
قال: وليس فيما دون خمس من الإبل سائمة صدقة.
ش: اعلم أن الذي تجب فيه الزكاة في الجملة أربعة أنواع (بهيمة الأنعام) ، وهي الإبل والبقر، والغنم (والخارج) من الأرض، (والأثمان) ، (وعروض التجارة) ، وأكثر هذه، وأعمها عند العرب، بهيمة الأنعام، وأنفس بهيمة الأنعام عندهم الإبل، فلذلك بدأ بها الخرقي، وقد انعقد الإجماع على وجوب الزكاة في الإبل في الجملة، وأن أقل نصاب الإبل خمس، فما دون الخمس لا شيء فيها، وقد جاءت السنة مصرحة بذلك.
1149 - ففي الصحيحين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» مع ما يأتي إن شاء الله تعالى، والذود: ما بين الثلاث إلى العشر من الإبل، وقيل: ما بين الثنتين إلى التسع، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والله أعلم.
قال: فإذا ملك خمسا من الإبل، فأسامها أكثر السنة ففيها شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه.
ش: هذا أيضا مجمع عليه بحمد الله تعالى.(2/373)
1150 - والأصل في الباب ما «روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، [أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] لما استخلف كتب له، حين وجهه إلى البحرين هذا الكتاب، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر «محمد» سطر، «ورسول» سطر، «والله» سطر، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة، التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين، إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض، فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة، وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، إلى عشرين ومائة شاة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان(2/374)
بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليس عنده جذعة، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا ابنة لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين، أو عشرين درهما، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين [درهما] أو شاتين فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن البون فإنه يقبل منه وليس معه شيء، وفي رواية «ابن لبون ذكر» رواه البخاري. قال الحميدي: في عشرة مواضع من كتابه، بإسناد واحد مقطعا، والنسائي، وأبو داود، وأحمد، وقال في رواية ابن مشيش - وسئل أي الأحاديث أثبت عندك في الصدقات؟ فقال -: ما أصح حديث ثمامة بن أنس يرويه حماد بن سلمة وقال في رواية الميموني: لا أعلم في الصدقة أحسن(2/375)
منه. انتهى، وهو أصل عظيم يعتمد، وقد قال فيه: «إن في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم، في كل خمس شاة» .
«تنبيه» وهذا الشاة. .
وقول الخرقي: فأسامها. نص في أن من شرط وجوب الزكاة في الإبل أن تكون سائمة، فلا تجب الزكاة في المعلوفة، وهو صحيح، لا إشكال فيه، لأن في الحديث السابق «وصدقة الغنم في سائمتها» أي يجب في سائمتها، أو الواجب في سائمتها، فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوجوب مختصا بالسائمة، والإبل في معنى الغنم.
1151 - مع أن في السنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في كل سائمة إبل في كل أربعين بنت لبون» ولأن المعلوفة مال غير معد للنماء، أشبه ثياب البذلة،(2/377)
والمشترط السوم في أكثر السنة، إقامة للأكثر مقام الكل، إذ اعتباره في جميع الحول يمنع الوجوب إلا نادرا.
ويستثنى من كلام الخرقي العوامل، فإن الزكاة لا تجب فيهن وإن كن سائمة، نص عليه أحمد في رواية جماعة، وقال: أهل المدينة يرون فيها الصدقة، وليس عندهم في هذا أصل.
1152 - وقد روى الحارث الأعور عن علي، قال زهير - وهو ابن(2/378)
معاوية -: أحسبه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر حديثا وفيه «وليس على العوامل شيء» رواه أبو داود، لكن الحارث فيه كلام.(2/379)
1153 - وقد روي أيضا من حديث ابن عباس، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواهما الدارقطني.
والمعنى في ذلك أن القصد منها الانتفاع بظهرها، لا الدر والنسل، أشبهت البغال والحمير.
وقوله: فأسامها. ظاهره أنه وجد منه فعل السوم، فيكون من مذهبه اشتراط نية السوم، وهو أحد الوجهين، والوجه الآخر: لا يشترط، فلو سامت بنفسها، أو أسامها غاصب، وقلنا بوجوب الزكاة في المغصوب، وجبت الزكاة.
«تنبيه» السائمة عبارة عمن رعت المباح، والله أعلم.
قال: فإذا صارت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين، ففيها ابنة لبون، إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل، إلى ستين، [فإذا(2/380)
بلغت إحدى وستين ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون، إلى تسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين] ففيها حقتان، طروقتا الفحل، إلى عشرين ومائة.
ش: هذا كله مجمع عليه بحمد الله، وما تقدم من كتاب أبي بكر نص فيه.
وقول الخرقي: فإن لم يكن فيها بنت مخاض - يعني في إبله - فابن لبون. يعني إن وجده في إبله، فشرط إجزاء ابن اللبون عدم بنت المخاض في إبله، ووجود ابن اللبون، أما إن عدمه فإنه يلزمه شراء بنت مخاض، وهذا ظاهر ما تقدم «فإن لم تكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه» ولأن العدول عن بنت المخاض كان للرفق به، ومع الشراء قد زال الرفق، فيرجع إلى الأصل، وحكم وجودها معيبة في إبله حكم ما لو عدمها، إذ الممنوع منه شرعا كالمعدوم حسا، ولهذا قال في الحديث «على وجهها» أي على الوجه الشرعي، أما إن وجدها أعلى من الواجب عليه، فإنه لا يجزئه إخراج ابن اللبون، بل يخير بين إخراجها، وبين شراء بنت مخاض، على صفة الواجب، كما هو ظاهر الخبر وكلام الخرقي.(2/381)
«تنبيه» : بنت المخاض من الإبل وابن المخاض ما استكمل سنة، ثم هو كذلك إلى آخر الثانية، سمي بذلك لأن أمه من المخاض أي الحوامل، والمخاض اسم الحوامل، لا واحد له من لفظه، وليس [كون] أمها من المخاض شرطا فيها، وإنما ذكر ذلك اعتبارا بغالب حالها، وكذلك بنت اللبون، إذ الغالب أن من بلغت سنة تكون أمها حاملا، ومن بلغت سنتين تكون أمها ذات لبن.
«وبنت اللبون» وابن اللبون ما استكمل الثانية، ثم هو كذلك إلى تمام الثالثة سمي بذلك لأن أمه ذات لبن.
«والحقة» والحق ما استكمل الثالثة، ثم هو كذلك إلى آخر الرابعة، سمي بذلك لاستحقاقه أن يحمل، أو يركبه الفحل، ولهذا قال: «طروقة الفحل» أي يطرقها ويركبها «والجذعة» والجذع ما استكمل الرابعة، ثم هو كذلك إلى آخر الخامسة، سمي بذلك لأنه يجذع إذا سقط سنه.
وقول الخرقي: فابن لبون ذكر. تبع فيه لفظ الحديث، وإلا فابن لبون هو ذكر، وهو تأكيد، كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] .
1154 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان»(2/382)
وهو كثير، وتنبيه لرب المال والمصدق، ليطيب رب المال نفسا بالزيادة المأخوذة منه، إذا علم أنه كان قد أسقط عنه ما كان بإزائه من فضل الأنوثة، وليعلم المصدق أن هذا مقبول من رب المال. والله أعلم.
قال: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة.
ش: ظاهر هذا أنها إذا زادت واحدة على العشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، وهو المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لظاهر كتاب أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون» وبالواحدة قد حصلت الزيادة.
1155 - وفي كتاب الصدقات الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عند آل عمر وفيه «فإذا زادت واحدة - أي على التسعين - ففيها حقتان، إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، ورواه أبو داود عن سالم [مرسلا] ،(2/383)
وفيه «فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون» .
(والرواية الثانية) : لا يتغير الفرض إلى مائة وثلاثين، فيجب حقة وبنتا لبون. نقلها عنه القاضي البرثي، واحتج له بحديث ثمامة بن أنس.(2/384)
1156 - وبحديث عمرو بن حزم، وقال: هو عن كتاب وهو صحيح، وفي هذا النقل عنه نظر، لأن حديث أنس المشهور ليس فيه ذلك، بل أحمد قد احتج به في رواية النيسابوري على الرواية الأولى، وأما حديث عمرو بن حزم فلعل فيه ذلك، لكن لم أرهم نقلوا ذلك، وقد يستدل لهذه الرواية(2/385)
بأن في بعض ألفاظ حديث ابن عمر رواه أحمد «فإذا كثرت(2/386)
الإبل ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون» والواحدة لا تكثر بها الإبل.
1157 - وفي سنن ابن بطة عن الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي كتب في الصدقة، وهي عند آل عمر وقال فيه: «فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان، طروقتا الفحل، حتى تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة، ففيها حقة وبنتا لبون» ويجاب بأن هاتين الروايتين فيهما إجمال وما تقدم يفسرهما.
وعلى كلتا الروايتين متى بلغت الفريضة مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون، وفي مائتين أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، لأن المائتين أربع خمسينات، وخمس أربعينات هذا ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي بكر، وابن حامد، وأبي محمد، والقاضي، قال في الروايتين: [إنه] الأشبه. وقال الآمدي: إنه ظاهر المذهب. ويحتمله كلام أحمد في(2/387)
رواية صالح وابن منصور وذلك لظاهر حديث أبي بكر، إذ فيه «في كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة» وعن الزهري قال: نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كتبه في الصدقة، أقرأنيه سالم بن عبد الله بن عمر. وفيه «فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، أي السنين وجدت أخذت» .
ونقل علي بن سعيد عن أحمد: يأخذ من المائتين أربع حقاق. فمن الأصحاب من فسر ذلك بأن فيها أربع حقاق بصفة التخيير، ويكون القصد أن تسعين ومائة [فيها] ثلاث حقاق وبنت لبون، فإذا بلغت مائتين ففيها أربع حقاق، ومنهم من أقره على ظاهره، وقال: تتعين الحقاق، إلا أن لا يكون فيها إلا بنات لبون فتجزئ بنات اللبون وهذا قول ابن عقيل.
وظاهر كلام أحمد تتعين الحقاق مطلقا، نظرا لحظ الفقراء، إذ هي أنفع لهم، لكثرة درها ونسلها.
هذا كله إذا لم يكن المال ليتيم، فإن كان ليتيم أو مجنون تعين على الولي إخراج الأدون المجزئ من الفرضين اعتمادا(2/388)
على أن ذلك هو الأحظ، وإنما يتصرف في ماله بذلك، والله أعلم.
قال: ومن وجبت عليه حقة وليست عنده، وعنده ابنة لبون أخذت منه ومعها شاتان أو عشرون درهما، ومن وجبت عليه ابنة لبون، وليست عنده، وعنده حقة، أخذت منه وأعطي الجبر من شاتين أو عشرين درهما والله أعلم.
ش: قد تقدم هذا مصرحا به في حديث أبي بكر [الصديق]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذلك إذا وجبت عليه ابنة مخاض، فعدمها ووجد ابنة لبون، [فإنه] يدفعها ويأخذ شاتين أو عشرين درهما، [وكذلك إن وجب عليه حقة وليست عنده، وعنده جذعة، فإنها تؤخذ منه ومعها شاتان أو عشرون درهما] ، وكل هذا في حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وليس له أن ينزل عن بنت مخاض أصلا، إذا هي أدنى أسنان الإبل المجزئة في الزكاة، وللمالك أن يصعد إلى [الثنية] بلا جبران؛ لأنها أعلى.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجبر بشاة وعشرة دراهم، وهو أحد الوجهين(2/389)
حذارا من تخيير ثالث، والثاني يجوز؛ لأن الشارع جعل العشرة في مقابلة الشاة.
وقد يقال: إن ظاهر كلامه أيضًا أنه إذا عدم السن التي تلي الواجب أنه ليس له أن ينتقل إلى ما هو أدنى منها، أو إلى ما هو أعلى منها، وذلك كما لو وجبت عليه ابنة لبون، فعدمها وعدم الحقة، فليس له أن ينتقل إلى الجذعة، ويأخذ أربع شياه، أو أربعين درهما، [أو وجبت عليه حقة فعدمها، وعدم بنت اللبون، لم يخرج بنت مخاض، ويدفع أربع شياه، أو أربعين درهما] ، إذ النص لم يرد به، والزكاة فيها شائبة التعبد، وهذا اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وقال صاحب النهاية فيها: إنه ظاهر المذهب.
وأومأ أحمد إلى جواز ذلك، وهو اختيار القاضي، وأورده الشيخان مذهبا، لأن الشارع جوز الانتقال إلى الذي يليه مع الجبران، [وجوز العدول عن ذلك أيضا إذا عدم مع الجبران] ، إذا كان هو الفرض، فهاهنا لو كان موجودا أجزأ، فإذا عدمه جاز العدول عنه إلى ما يليه كما لو كان هو الفرض، والله أعلم.(2/390)
[باب زكاة البقر]
1158 - ش: الأصل في وجوب زكاة البقر ما في الصحيح عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم، لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها جماء ولا مكسورة القرن» قلنا: يا رسول الله وما حقها؟ قال: «إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله» مختصر، رواه مسلم، والنسائي، وإذا ثبت هذا الوعيد العظيم في هذا الحق، فالزكاة أولى، ونسخ الأصل لا يلزم منه نسخ الفحوى على الأشهر.
1159 - وعن مسروق «عن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا، أو عدله معافر» . رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وإنما لم يذكر زكاة البقر في حديث أبي بكر الصديق، وفي(2/391)
الكتاب الذي كان عند آل عمر لقلة البقر في الحجاز، إذ يندر ملك نصاب منه، بل لا يوجد، فلما بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –(2/392)
معاذا إلى اليمن، ذكر له حكم البقر، لوجودها عندهم، مع أن وجوب الزكاة في البقر قد حكي إجماعا.
«تنبيه» «القاع» [المكان] المستوي من الأرض الواسع، وجمعه قيعة وقيعان، كجيرة وجيران، و «قرقر» بفتح القافين الأملس، قاله أبو السعادات، «والظلف» للبقر، والغنم، والظباء، «والقدم» للآدمي «والحافر» للفرس، والبغل، والحمار «وتنطحه» بفتح الطاء وكسرها وهو أفصح «والجماء» الشاة التي لا قرن لها، «وإطراق الفحل» إعارته للضراب: طرق الفحل الناقة. إذا ضربها «والمنحة» العطية، والمنيحة الشاة أو الناقة تعار لينتفع بلبنها ثم ترد، «وحلبها على الماء» بفتح اللام، لا بسكونها على الأشهر، وهذا كان - والله أعلم - قبل وجوب الزكاة، أو في موضع تتعين فيه المواساة، «والحالم» البالغ، «وعدل الشيء» بفتح العين - مثله في القيمة، وهو المراد هنا، وبكسرها مثله في الصورة «والمعافري» منسوب إلى ثياب باليمن، ينسب إلى معافر، حي من همدان، لا ينصرف كدراهم والله أعلم.(2/393)
قال: وليس فيما دون ثلاثين من البقر سائمة صدقة.
ش: أقل نصاب البقر ثلاثون، لحديث معاذ، «فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب في الثلاثين» ، والأصل عدم الوجوب فيما دون ذلك، فليس فيما دون ثلاثين شيء.
قال: فإذا ملك ثلاثين من البقر فأسامها أكثر السنة ففيها تبيع أو تبيعة، إلى تسع وثلاثين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، إلى تسع وخمسين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، إلى تسع وستين، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، فإذا زادت ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة.
ش: [الأصل في هذا كله خبر معاذ، فإنه جعل في كل ثلاثين تبيعا، وفي كل أربعين مسنة] ، واعتبار السوم فيها قياسا على الإبل والغنم، وإذا بلغت مائة وعشرين اتفق الفرضان، فإن شاء أخرج ثلاث مسنات أو أربع تبائع، وقد تقدم منصوص أحمد على ذلك. والله أعلم.
قال: والجواميس كغيرها من البقر والله أعلم.
ش: الجواميس أحد نوعي البقر فحكمها حكمها. والله أعلم.(2/394)
[باب صدقة الغنم]
ش: الأصل في وجوبها الإجماع، وسنده ما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره، والله أعلم.
قال: وليس فيما دون أربعين من الغنم سائمة صدقة.
ش: أقل نصاب الغنم أربعون، فليس فيما دونها صدقة، لحديث أبي بكر: «فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فلا شيء فيها، إلا أن يشاء ربها» والله أعلم.
قال: فإذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان، إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة.
ش: الأصل في هذه الجملة ما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو نص في ذلك، والله أعلم.
قال: فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة.
ش: ظاهر هذا أنه بعد الثلاثمائة يستأنف الفريضة، فيجب في كل مائة شاة شاة، فعلى هذا لا يجب شيء إلى أربع مائة، فيجب أربع شياه، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي وجمهور الأصحاب، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي الكتاب الذي كان عند آل عمر نحو ذلك.(2/395)
(والرواية الثانية) : في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ خمسمائة، فتكون خمس شياه، اختارها أبو بكر، كذا حكى الرواية أبو محمد، وأبو العباس، وغيرهما، وقال القاضي في الروايتين بعد أن حكى الرواية الأولى: ونقل حرب: لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت عليها شاة ففيها أربع شياه، وعلى هذا كلما زادت على مائة شاة ففيها شاة، قال: وهو اختيار أبي بكر. وظاهر هذا أن في أربع مائة وواحدة خمس شياه، وفي خمس مائة وواحدة ست شياه، وعلى هذا، وحكى ابن حمدان هذا رواية ثالثة. والله أعلم.
قال: ولا يؤخذ في الصدقة تيس، ولا هرمة، ولا ذات عوار، ولا الربى، ولا الماخض، ولا الأكولة.(2/396)
ش: قد جمع الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا بين (ما لا يؤخذ) لدناءته وهو التيس، والهرمة وذات العوار، وذلك لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إذ فيه «لا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس، إلا أن يشاء المصدق» وقال سبحانه: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] (وما لا يؤخذ) لشرفه وهو الربى، والماخض والأكولة، وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث معاذ المتفق عليه «وإياك وكرائم أموالهم» .
1160 - وفي حديث لأبي داود فيه طول، عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه] قال: «ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره» .
1161 - وعن سفيان بن عبد الله أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعثه مصدقا، فكان يعد على الناس بالسخل، فقالوا: أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه؟ فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر ذلك له فقال: نعم تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي، ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل(2/397)
الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء المال وخياره، رواه مالك في الموطأ.
«تنبيهان» (أحدهما) ما لا يؤخذ لدناءته لا يدفع في الزكاة مطلقا، وما لا يؤخذ لشرفه إن رضي رب المال بإخراجه جاز، لأن الحق له، وإلا فلا.
(الثاني) : (الهرمة) الكبيرة الطاعنة في السن، (والعوار) بفتح العين على الأفصح العيب، ويجوز الضم، (والمصدق) بتخفيف الصاد، وتشديد الدال - عامل الصدقة، وهو الساعي أيضا، وكان أبو عبيد يرويه «المصدق» بفتح الدال، يريد صاحب الماشية، وخالفه عامة الرواة، فقالوا: بكسرها.
يريدون العامل فعلى قول أبي عبيد المراد بالتيس فحل الغنم، فهو من كرائم الأموال، فلا يؤخذ إلا أن يشاء رب المال، فالاستثناء راجع إليه فقط. وعلى قول الجمهور التيس هو الكبير، فلا يؤخذ لدناءته، وهذا هو المشهور عند أصحابنا(2/398)
فيما أظن، وعلى هذا يخير الساعي. قيل: إما لأن الجميع على صفته، فله أخذ ذلك، لأن الجميع على صفة النقص، وفيه نظر؛ لأن الساعي يجب عليه إذًا الأخذ من غير تخيير. وقيل: لأنه اجتمع فيه صفتان، صفة الإطراق، وهي صفة شرف، وصفة الكبر وهي صفة دنيئة، فخير الساعي، لأنه إنما يختار الأصلح، فمهما ترجح عنده فعله، وهذا أجود من الذي قبله. والاستثناء أيضا راجع إلى التيس فقط، وجوز كثير من العلماء رجوع الاستثناء إلى الثلاثة، ويخير الساعي، فإن رأى الخير للفقراء أخذ، وإلا فلا. «والكرائم» جمع كريمة وهي النفيسة. «والأكولة» المعدة للأكل، أو التي تأكل كثيرا فتكون سمينة، «والربى» قال أحمد: التي وضعت وهي تربي ولدها، وقيل: هي التي في البيت لأجل اللبن. «وغذاء المال» جمع غذي وهو الحمل أو الجدي. أي لا يأخذ الساعي خيار المال ولا رديئه، وإنما يأخذ عدلا بين الكبير والصغير، [والله أعلم] .
قال: وتعد عليهم السخلة، ولا تؤخذ منهم.
ش: يعني أن النصاب إذا نتج في أثناء الحول فإن حوله حول الأمهات، وإذًا يعد الساعي السخال [فيأخذ عن الجميع] ، لكن لا يأخذ من السخال، وكذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
وظاهر كلام الخرقي أن هذا إنما هو في نصاب فيه صغار(2/399)
وكبار، أما لو كان النصاب كله صغارا كما لو أبدل الكبار بصغار في أثناء الحول، أو ماتت الأمهات وقد كانت نتجت نصابا فحال الحول عليها وهي صغار، فإن المنصوص والمختار عند القاضي وأصحابه، والشيخين جواز أخذ الصغيرة.
1162 - لقول الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليه. وبالإجماع لا تؤخذ العناق في الكبار، فيتعين حمله على كون النصاب كله عناقا، ولأن الزكاة مواساة، والمواساة، إنما تكون مما أنعم الله عليه. وقال أبو بكر في الخلاف: لا يؤخذ [من] المراض مريضة، ولا يؤخذ إلا ما يجوز في الأضاحي، [معتمدا على قول أحمد في رواية أحمد بن سعيد: لا يأخذ إلا ما يجوز في الأضاحي] قال القاضي: ويجيء على قوله لا يؤخذ من الصغار صغيرة. فعلى قوله تجب كبيرة صحيحة على قدر المال.(2/400)
«تنبيه» : (السخلة) من ولد المعز بفتح السين على الأشهر، ويجوز كسرها. (والعناق) الجذعة من المعز التي قاربت الحمل، وقيل: [هي] ما لم يتم سنة من الإناث خاصة، وقيل: ليس المراد في الحديث حقيقة العناق، إنما المراد بالتنكير التقليل، أي: لو منعوني شيئا ما من الزكاة بدليل أن في الرواية الأخرى: لو منعوني عقالا. والعقال على أحد الأقوال الحبل الذي يعقل به البعير، وهو غير واجب في الزكاة على قول، [والله أعلم] .
قال: ويؤخذ من المعز الثني، ومن الضأن الجذع.
ش: يعني إذا كان النصاب كله كبارا، أو فيه كبار وصغار، والأصل في هذا ما تقدم من قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
1163 - «وعن سعر بن ديسم قال: جاءنا رجلان على بعير، فقالا: إنا رسولا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليك، لتؤدي صدقة غنمك. فقلت: ما علي فيها؟ قالا: شاة. فأعمد إلى شاة قد عرفت مكانها، ممتلئة مخضا وشحما، فأخرجتها إليهما، فقالا: هذه شاة الشافع. وقد نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نأخذ شافعا، فقلت:(2/401)
فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناقا جذعة أو ثنية» . مختصر، رواه أبو داود، والنسائي.
«تنبيه» : «الجزع» من الضأن ما له ستة أشهر، «والثني» من المعز ما له سنة، قاله أصحابنا، وقال ابن الأثير: الجذع من المعز ما له سنة، والثني منه ما له سنتان، ولنا وجه آخر أن الجذع من الضأن ما له ثمانية أشهر. انتهى. «والمخض»(2/402)
اللبن، أي ممتلئة لبنا وشحما. (والشافع) قال ابن الأثير: التي معها ولدها. وفي رواية لأبي داود: التي في بطنها ولدها. وشاة الشافع من إضافة الموصوف إلى الصفة، كصلاة الأولى، والله أعلم.
قال: فإن كانت عشرين ضأنا، وعشرين معزا أخذ من أحدهما ما يكون قيمته نصف شاة ضأن، ونصف [شاة] معز.
ش: قوله أخذ. أي الساعي، وذلك لأنه يأخذ الوسط، وهذا هو الوسط، وقال أبو بكر: لا تعتبر القيمة كما لو كانا نوعا واحدا، فإنه لا تعتبر القيمة، كذلك هنا، فعلى هذا يخرج وسطا من أيهما شاء، وعلى الأول [ينظر] فإذا كانت الشاة الوسط من الضأن تساوي عشرين درهما، والشاة الوسط من المعز تساوي عشرة دراهم، أخرج من أحدهما ما قيمته خمسة عشر درهما، وكذلك الحكم في البقر والإبل.
وقد تضمن كلام الخرقي أنه يضم نوعا الغنم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا، وتضمن أيضا أنه(2/403)
يخرج من أيهما شاء، وأنه لا يخرج من كل [واحد، ولكل] ما لحقه، والله أعلم.
[زكاة الخليطين]
قال: وإن اختلط جماعة في خمس من الإبل أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم، وكان مرعاهم، ومسرحهم، ومبيتهم، ومحلبهم، وفحلهم واحدا أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص.
ش: الخلطة تؤثر في بهيمة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم، فتجعل المالين كالمال الواحد في الزكاة، وفي أخذ الساعي الفرض من مال أي الخليطين شاء، والأصل في ذلك ما تقدم في حديث أبي بكر [الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» .
وعن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر، قال: كتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [كتاب الصدقة] فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، ثم عمل به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، فذكره وفيه «ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع ين متفرق، مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية» رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وحسنه، وقال البخاري: أرجو أن يكون محفوظا.(2/404)
(وفيه دليلان) أحدهما: - قوله «ولا يجمع بين متفرق» أي لا يجمع الرجلان النصابين من الغنم، ليجب عليهما في الثمانين شاة واحدة، ولا يجمع الساعي مالي الرجلين ليوجب عليهما الزكاة، كما إذا كان لكل واحد عشرون من الغنم، وقوله: «ولا يفرق بين مجتمع» أي لا يفرق الرجلان ماليهما، لتقل عليهما الزكاة، كما إذا كان لكل واحد [منهما مثلا] مائة [و] شاة، وخلطه فإنه يجب عليهما ثلاث شياه، فإذا فرقاه وجب على كل واحد [منهما] شاة، أو لا يفرق الساعي الثمانين مثلا ليوجب على كل واحد شاة. ومقتضى هذا كله أن للخلطة تأثيرا.
(الدليل الثاني) : - قوله: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان [فيما] بينهما بالسوية» والتراجع إنما هو في خلطة الأوصاف.
إذا تقرر هذا، فقول الخرقي: وإن اختلط جماعة. أراد بالجماعة الاثنين فصاعدا، من الجمع وهو الضم.(2/405)
وشرط الخليطين أن يكونا من أهل الزكاة، [فلو كان أحدهما من غير أهل الزكاة] فوجوده كعدمه.
وقوله: [في] خمس من الإبل، أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم إشارة إلى أن الخلطة [إنما تؤثر في نصاب، وهو واضح، وتنبيه على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن وافقه، من أن الخلطة إنما] تؤثر إذا كان لكل واحد نصابا، وعندنا لا يشترط، بل كما يؤثر إذا كان لكل واحد نصابا، يؤثر فيما دونه.
وقوله: وكان مرعاهم، ومسرحهم، ومبيتهم، ومحلبهم، وفحلهم واحدا. تنصيص على شروط الخلطة، وأنها إنما تصير المالين بمنزلة المال الواحد بهذه الشروط.
1164 - والأصل في هذه الشروط ما روي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يقول] : «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، والخليطان ما اجتمعا في الحوض، والفحل، والراعي» . رواه الدراقطني.(2/406)
وبقية الشروط في معنى هذه الثلاثة، ولأن هذه الشروط تؤثر في الرفق بالخلطاء، فوجب اعتبارها، كالراعي، والفحل، (والمرعي) معروف: الشيء الذي يرعى ويلزم من اتحاده اتحاد موضعه، (والمسرح) فسره أبو محمد بالموضع الذي ترعى فيه الماشية، ويلزم من اتحاده اتحاد المرعى، فلذلك قال أبو محمد وسبقه إلى ذلك ابن حامد: إنهما شيء واحد، وفسره صاحب التلخيص بموضع جمعها عند خروجها للمرعى وهذا أولى، دفعا للتكرار. «والمبيت» موضع مبيتها، «والمحلب» - بفتح الميم -[الموضع] الذي تحلب فيه، قال صاحب التلخيص: مع تمييز [لبن] كل واحد منهما، فإن الشركة فيه ربا، «والفحل» معروف، ومعنى اتحاده أن لا يكون فحولة أحد المالين لا تطرق الآخر.
وهذه الشروط لا نزاع في المذهب في اشتراطها فيما أعلمه، وعليها اقتصر أبو البركات، وزاد أبو الخطاب، وصاحب التلخيص، وأبو محمد، وغيرهم: اتحاد المشرب، يعني أن يكون موضع مشربها واحدا وزاد أبو الخطاب، وأبو محمد(2/407)
وغيرهما: اتحاد الراعي، «وهو منصوص أحمد والحديث. قال أبو محمد: ويحتمل أن يفسر المرعى] في كلام الخرقي بذلك، ليوافق للنص، ويندفع [به] التكرار.
ثم بعد هذا هل يشترط فيه الخلطة؟ فيه وجهان مشهوران.
وقوله: أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص. يقتضي بعمومه أن للساعي أن يأخذ من مال [أي] الخليطين شاء، مع الحاجة [وعدمها] وهو صحيح، نص عليه أحمد والأصحاب، وإطلاق الحديث يقتضيه، فعلى هذا لو اختلط من له ثلاثون تبيعا، مع شخص له أربعون مسنة، فأخذ الساعي مسنة من الثلاثين وتبيعا من الأربعين، فإن له ذلك، ويرجع صاحب الثلاثين على صاحب الأربعين [بقيمة أربعة أسباع مسنة، وصاحب الأربعين على صاحب الثلاثين] بقيمة ثلاثة أسباع مسنة.
وقوله: أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص. يعني [في] الصدقة المأخوذة، وقد تقدم مثاله، فلو أخذ الساعي شيئا ظلما لم يرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته، إذ من ظلم لا يظلم غيره، نعم لو أخذ غير الفرض بتأويل - كما لو أخذ القيمة، أو أخذ(2/408)
الصحاح، أو الكبار عن المراض أو الصغار - فإنه يرجع على خليطه بحصته، لأن الساعي فعل ما له فعله، إذ مستنده الاجتهاد، أو تقليد من يسوغ تقليده، وإذًا يصير المأخوذ هو الواجب.
واعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نبه بالتأثير في خلطة الأوصاف - وهو أن يكون مال كل واحد [منهما] متميزا بصفة، فخلطاه واشتركا فيما تقدم - على التأثير في خلطة الأعيان، وهو أن يكون أعيان أموالهما مختلطة، كأن ورثا نصاب، أو اشترياه ونحو ذلك بطريق الأولى، نعم الشروط المذكورة مختصة بشركة الأوصاف، والله أعلم.
قال: فإن اختلطوا في غير هذا أخذ من كل واحد [منهم] على انفراده، إذا كان ما يخصه [تجب] فيه الزكاة.
ش: يعني [أن] الخلطة لا تؤثر في غير بهيمة الأنعام وإذا لم تؤثر فإن الساعي يأخذ من كل واحد منهم على انفراده، بشرط أن يكون ما يخص كل واحد منهم نصابا، وهذا هو المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، مخافة الصدقة» وأرباب الأموال مرادون منه بلا نزاع، وإنما يفرقون أو يجمعون حذارا [من الصدقة] في الماشية، إذ غيرها لا وقص فيه. ثم ما روي من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد «والخليطان ما اجتمعا في الحوض، والفحل،(2/409)
والراعي» ظاهره حصر الخليطين فيمن هذه صفتهم، وأيضا فالخلطة في الماشية تارة يحصل الرفق فيها لأرباب الأموال، كرجلين لكل واحد منهما أربعون فخلطاها، وتارة للفقراء [كرجلين لكل واحد منهما عشرون، أما غير الماشية فتأثير الخلطة نفع للفقراء] دائما، وضرر على أرباب الأموال، والضرر منفي شرعا، ولهذا قلنا: لا تخرج الصحيحة عن المراض.
(والرواية الثانية) تؤثر الخلطة. قال أبو الخطاب في خلافه الصغير: وهو أقيس.
1165 - لمفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» مفهومه أنه إذا بلغهما [أن] فيه صدقة، ولم يفرق بين أن يكون المال لواحد أو لاثنين. وقد يستدل له بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجمع بين متفرق» بناء على أن الخطاب للساعي أيضا، فلا يجمع مائة ومائة ليأخذ زكاتهما، وعلى هذه تؤثر [الخلطة] في شركة الأعيان. وهل تؤثر في شركة الأوصاف؟ فيه وجهان، حكاهما ابن عبدوس وغيره (أحدهما) : لا، اختاره أبو محمد، وابن حمدان (والثاني) : نعم، وهو ظاهر كلام الأكثرين، لإطلاقهم الرواية، وعليه:(2/410)
يشترط في الدراهم ونحوها اتحاد الخازن والمخزن، وفي الزروع والشجر اتحاد المشرب والفلاح، والله أعلم.
[شروط وجوب الزكاة]
قال: والزكاة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين.
ش: من شرط وجوب] الزكاة الحرية، فلا تجب الزكاة على عبد، على المذهب المعروف المقطوع به، لأنه لا يملك، وإن قلنا يملك فملكه غير تام، أشبه المكاتب، ودليل الأصل يأتي إن شاء الله تعالى. (وعنه) تجب عليه، لدخوله في عموم الخطاب، (وعنه) : بإذن السيد، ونظير هذا الخلاف في وجوب الجمعة عليه، وهو ثم أشهر.
ومن شرط الوجوب الإسلام أيضا، بلا نزاع أي وجوب الأداء، إذ الزكاة قربة وطاعة، والكافر ليس من أهلها، ولافتقارها إلى نية، وهي ممتنعة من الكافر، أما الوجوب في الذمة بمعنى العقاب في الآخرة فنعم، بناء على أن الكافر مخاطب بالفروع ويسقط عنه ذلك بإسلامه.(2/411)
1166 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» (وعنه) لا تسقط عن المرتد، لالتزامه ذلك بإسلامه] نعم إن زال ملكه بردته سقطت لذلك، والله أعلم.
قال: والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما.
ش: قد تضمن هذا أن الزكاة تجب في ماليهما، وعموم المسألة السابقة يقتضيه.
1167 - والأصل في ذلك ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس فقال: «من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» رواه الترمذي مرفوعا وموقوفا على عمر، ورواه الدراقطني عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرق لكنها ضعيفة، قال أحمد في رواية مهنا وسئل عن هذا(2/412)
الحديث فقال: ليس بصحيح، يرويه المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال له: فرواه غير المثنى؟ قال: نعم. ابن جريج يقول: قال عمرو بن شعيب. مرسلا كذا، ولم يسمعه من عمرو بن شعيب. انتهى.
وهذا لا يقدح على قاعدة أحمد، إذ المرسل عنده حجة.(2/413)
واعتمد أحمد على أقوال الصحابة، فقال في رواية الأثرم: خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزكون مال اليتيم.
1168 - وفي الموطأ: بلغه أن عمر بن الخطاب قال: اتجروا في مال اليتيم لا تأكله الصدقة.
1169 - وفيه أيضا عن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تليني أنا وأخا لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة.
1170 - وروى الأثرم نحو ذلك عن علي، وابن عمر، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة.(2/414)
1171 - إلا رواية عن ابن عباس، وهي معارضة بروايته الأخرى، ولأن الزكاة من حقوق المال، فوجبت على الصبي والمجنون، كنفقة قريبهما وزوجتيهما، وبهذا فارقت الصلاة والحج، لتعلقهما بالبدن، ونية الصبي تضعف عنها.
1172 - «ورفع القلم عن ثلاثة» لا يرد، إذ المخاطب بالإخراج الولي، وتعلق الوجوب [إن قيل] بالعين فلا كلام، وإن قيل بالذمة فكثبوت الصلاة في ذمة النائم. إذا ثبت هذا فالمخاطب هو الولي، لأنه المخاطب بالحقوق [المتعلقة] بهما، بدليل أنه ينفق على قريبهما وزوجتيهما، ويؤدي ما لزمهما من إتلاف ونحو ذلك، والله أعلم.(2/415)
قال: والسيد يزكي عما في يد عبده، لأنه مالكه.
ش: قد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العبد لا يملك، وأن ما في يد العبد ملك للسيد، فإذا كان ملكا له وجبت عليه الزكاة، لدخوله في العمومات المقتضية لذلك، أما إن قلنا [أن] العبد يملك فإن الزكاة لا تجب على السيد، لانتفاء الملك، ولا على العبد لضعف الملك، وقد تقدم ذلك، [والله أعلم] .
قال: ولا زكاة على مكاتب.
ش: [هذا المذهب بلا ريب] .
1173 - لما روي عن أبي الزبير، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق» رواه الدارقطني، ورواه أبو بكر موقوفا على جابر.
1174 - وعن ابن عمر: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وليس في ماله زكاة. (وعنه) يزكي بإذن سيده.(2/416)
وقد دخل في كلام الخرقي. وجوب العشر عليه، وصرح [به] الأصحاب، لأنه عندنا زكاة، فيدخل فيما تقدم.
قال: فإن عجز استقبل سيده بما في يده من المال حولا وزكاه إن كان نصابا] .
ش: إذا عجز المكاتب فقد استقر ملك سيده على ما في يده، فيستقبل به حولا [كالذي] ورثه، أو اتهبه، ونحو ذلك والله أعلم.
قال: وإن أدى وبقي في يده منصب للزكاة استقبل به حولا.
ش: إذا أدى المكاتب فقد عتق، فإن فضل في يده نصاب فإن الحول ينعقد عليه حينئذ، لاستقرار ملكه عليه، والله أعلم.(2/417)
قال: ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول.
1175 - ش: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» رواه ابن ماجه.
1176 - وعن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك في الذهب شيء حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» قال الحارث: فلا أدري أعلي يقول ذلك أو رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ «وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول» رواه أبو داود.(2/418)
1177 - وعن القاسم أن أبا بكر [الصديق]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن [يأخذ] من مال زكاة حتى يحول عليه الحول. مختصر رواه مالك في الموطأ.
واعلم أن كلام الخرقي عام في جميع الأموال، وكذلك الحديث، ويستثنى من ذلك الخارج من الأرض، وما في معناه من حب، وثمر، ومعدن، وركاز، وعسل، أما في الحب والثمر فلقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وإيجاب(2/419)
الحق يوم الحصاد ينافي اشتراط الحول، ولأن نماءه يتناهى بجعله في الجرين، فوجب أن تستقر الزكاة إذًا، إذ الحكمة في اشتراط الحول [تكامل النماء، وهذا قد تكامل نماؤه، ولهذا قلنا: لا يشترط الحول] للمعدن، والركاز، والعسل؛ لأن بوجودها حصل النماء. وقد نص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من ذلك على المعدن، والبقية كلامه فيه محتمل.
ويستثنى أيضا نتاج السائمة، وربح التجارة، فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصابا، وإلا فمن كمال النصاب، وقد نبه الخرقي على النتاج بقوله: وتعد عليهم السخلة. وقد تقدم ذلك، والدليل عليه، ولأن الماشية تختلف وقت ولادتها فإفراد كل واحدة بحول يؤدي إلى حرج ومشقة [وهما منتفيان شرعا، وربح التجارة في معنى النتاج، لعدم ضبط حولها] ، وقد نص عليه الخرقي فيما بعد، وشرط النتاج السوم في بقية السنة، فإن كان بشرب اللبن فوجهان.
وقد دخل في كلام الخرقي المستفاد بإرث أو عقد، في اشتراط الحول له، [من غير ضم إلى ما معه] وهو صحيح، لعموم ما تقدم.(2/420)
1178 - وفي الترمذي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول» زاد في رواية «عند ربه» .
قال الترمذي: وقد روي موقوفا على ابن عمر. وقال أحمد - في رواية أبي طالب: - الحديث «ليس على مال [استفيد] زكاة حتى يحول [عليه الحول] » فإن قيل: «اللام للعهد» ، أي حول المال الذي كان معه. قيل: [بل] للعهد العام الذي هو اثنا عشر شهرا.
«تنبيه» : قد يقال: [ظاهر] كلام الخرقي أن مضي الحول على جميع النصاب شرط [فلو نقص] الحول نقصا يسيرا أثر، وهذا ظاهر كلام القاضي، لكنه ذكر ذلك فيما إذا وجد النقص في أثناء الحول، وقال أبو بكر: ثبت أن نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه، وكذلك قال أبو البركات: لا يؤثر نقصه دون اليوم. قال أبو محمد: ويحتمل أن أبا بكر أراد النقص في طرف الحول، والقاضي قال ذلك في أثنائه، فيرتفع الخلاف، والله أعلم.
[تعجيل الزكاة]
قال: ويجوز تقدمة الزكاة.
ش: يجوز تقدمة الزكاة في الجملة.(2/421)
1179 - لما روى حجية عن علي «أن العباس سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك» ، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وفي رواية أخرى للترمذي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر: «إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» لكن حجية قال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه شبيه بالمجهول.
وقال البيهقي: اختلف في هذا الحديث، والمرسل فيه أصح، واختلف عن أحمد فيه، فضعفه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث، ونقل عنه أيضا إبراهيم بن الحارث، أنه احتج به، وهو يدل على أن الضعف الذي فيه لم يزل الاحتجاج به.(2/422)
1180 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر بن الخطاب على الصدقة، فمنع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدا، وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي علي ومثلها» ثم قال: «يا عمر، أما شعرت أن [عم] الرجل صنو أبيه؟» رواه الشيخان وغيرهما. والحجة في قوله: «فهي علي ومثلها معها» وهذا لفظ مسلم وأبي داود، ومعناه أنه قد تسلف منه صدقة سنتين، فصارت دينا عليه، وقيل: قبض منه صدقة عامين،(2/423)
العام الذي شكا فيه العامل، وتعجيل صدقة عام ثان، وقيل: بل ضمن أداءها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه سنتين، وعلى هذا لا حجة فيه. ولفظ البخاري والنسائي في هذا الحديث: «هي عليه صدقة له ومثلها معها» قال البيهقي: يبعد أن يكون محفوظا، لأن العباس هاشمي، تحرم عليه الصدقة. وقال غيره: إلا أن يكون [قبل] تحريم الصدقة عليهم، ورأى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إسقاط الزكاة عنه عامين. وقال أبو عبيد: أرى والله أعلم أنه أخر عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس. إذا تقرر هذا فشرط تقدمة الزكاة عن الحول تمام النصاب، ليوجد سبب الزكاة فتصير في سلك تقديم الحكم بعد وجود سببه، وقبل وجود شرطه،(2/424)
كالكفارة تقدم بعد اليمين، وقبل الحنث، وكفارة القتل، تقدم بعد الجرح وقبل الزهوق، وفدية الأذى تقدم بعد الأذى وقبل الحلق، ونحو ذلك. ويشترط أيضا وجود الحرية والإسلام. والفرق على ما قاله القاضي وغيره أن الحرية والإسلام لا يختصان بالزكاة، بل هما شرطان للحج وغيره، أما الحول فيختص بها، ويرد على هذا الفرق السوم في الماشية، فإن وجوده شرط للإخراج، وهو مختص بالزكاة. وقد يقال: [في الفرق] بين الحول وهذه الشروط: أن الأصل بقاء الحياة، والظاهر مضي الحول، فأقمنا الظاهر مقام الحقيقة أما في هذه الشروط فإن الأصل عدمها، فبقينا على الأصل، ومن جهة النص أن الشارع إنما رخص في هذا الشرط، ولم يرد الترخيص في غيره.
ثم اعلم أنه يجوز تقدمة زكاة عام واحد، بلا خلاف عندنا، وفي تعجيلها لأكثر من ذلك روايتان، كذا في كتب أبي محمد، تبعا لأبي الخطاب في الهداية، وقيدهما أبو البركات، وابن الزاغوني [بعامين] ونص أحمد ورد على ذلك، والله أعلم.(2/425)
«تنبيه» : نقم ينقم، ونقم ينقم، «وأعتده» جمع «عتد» بفتح العين والتاء القوس الصلب، وقيل: المعد للركوب، وقيل: السريع الوثب ورواه جماعة «وأعبده» بالباء الموحدة جمع قلة للعبد، وروى «عقاره» بالقاف والعقار الأرض، والضياع والنخل، ومتاع البيت، وروي «أعتاده» والعتاد ما أعد من سلاح وآلة ومركوب للجهاد «والصنو» المثل أي مثل أبيه، وأن أصله وأصل أبيه واحد، وأصل الصنو [أن] تطلع النخلتان والثلاث من عرق واحد، والله أعلم.
قال: ومن قدم زكاة ماله، فأعطاها لمستحقيها فمات المعطى قبل الحول أو بلغ الحول وهو غني منها أو من غيرها، أجزأت [عنه] .
ش: المعتبر عندنا حال الإخراج، فإذا دفع الزكاة المعجلة إلى مستحقها فمات قبل الحول أو ارتد، أو وصل الحول وهو غني، أجزأت عنه، ولو دفعها إلى غني أو عبد، فصار عند الحول فقيرا أو حرا لم تجزئه، كما اقتضاه مفهوم(2/426)
[كلام] الخرقي، وصرح به غيره، لأن الله سبحانه جعل الصدقة للأصناف المذكورة، فمن دفعها إليهم فقد خرج عن العهدة لظاهر الآية، ومن دفعها إلى غيرهم لم يخرج عن العهدة، إذ المدفوع لم يخرج عن كونه صدقة، ولأن ما جاز تقديمه على وقت وجوبه فالمراعى فيه حال التعجيل، دون حال الوجوب، أصله الرقبة في الكفارة، إذا أعتقها قبل الموت، أو قبل الحنث، ثم عمي العبد، أو حدث به ما يمنع الإجزاء، فإنه لا يؤثر، كذلك [ها] هنا، [والله أعلم] .
[اشتراط النية في الزكاة]
قال: ولا يجزئ إخراج الزكاة إلا بنية، إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا.
ش: الزكاة عبادة، فلا بد لها من النية كالصلاة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . وقال: «لا عمل إلا بنية» ولا نزاع عندنا في هذا إذا كان المخرج هو المالك، أو النائب عنه، كولي الصبي والمجنون، أما إن أخذها الإمام من غير نية رب المال فإنها(2/427)
تجزئه في الظاهر بلا نزاع، بمعنى أنه لا يؤمر بأدائها ثانيا. وهل تجزئه في الباطن؟ فيه ثلاثة أوجه:
(أحدها) : تجزئه مطلقا، وهو قول القاضي أظنه في المجرد، لأن للإمام ولاية عامة، ولذلك يأخذها من الممتنع، فأشبه ولي الصبي والمجنون، ولأن أخذه يجري مجرى القسم بين الشركاء.
(والثاني) : لا تجزئه مطلقا، وهو اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وأبي العباس في فتاويه إذ الزكاة عبادة، فلا تجزئ بغير نية من وجبت عليه كالصلاة.
(والثالث) : يجتزئ بنية الإمام إن أخذها قهرا، لأن له [إذًا] ولاية على الممتنع، فقامت نيته مقام نيته، كولي الصبي والمجنون، ولا يجتزئ بنيته إن أخذها طوعا، لعدم ولايته، وهذا اختيار الخرقي، والله أعلم.
[من لا يجوز إعطاؤه من الزكاة]
قال: ولا يعطي الصدقة المفروضة للوالدين وإن علوا، ولا للولد وإن سفل.
ش: لا يعطي من الصدقة المفروضة للوالدين وإن علت درجتهم، وكانوا من ذوي الأرحام، كأبي أبي أمه، ولا للولد وإن سفل، وكان من ذوي الأرحام، كبنت بنت بنت بنته، نص عليه أحمد والأصحاب، لأن ملك أحدهما في حكم ملك الآخر، بدليل أنه لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر، ولا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه، وإذا كان في حكم ملكه فكأنه(2/428)
لم يزل ملكه عنه، ومن شرط الزكاة زوال الملك، ولأن الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى والديه في الحال التي تجب عليه نفقتهما فنقول: قرابة أثرت [في] منع الزكاة، فوجب أن تؤثر مطلقا، دليله قرابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تؤثر في المنع وإن كان الخمس معدوما.
ومفهوم كلامه أن يجوز دفع صدقة التطوع إليهم، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، ومفهومه أن يجوز دفع الصدقة المفروضة إلى سائر الأقارب، ولا يخلو القريب [من غير عمودي النسب] إما أن تجب نفقته على الدافع أو لا، فإن لم تجب نفقته [عليه] جاز الدفع إليه بلا نزاع، وإن وجبت نفقته ففيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي، ذكره في باب قسم الفيء والغنيمة، والقاضي في التعليق، وصاحب التلخيص - المنع، قال القاضي: وهي أشهرهما. قلت: وأنصهما. نظرا إلى أن من تلزمه نفقته غني بوجوب النفقة له، فأشبه الغني، ولأن نفع الزكاة والحال هذه يعود إلى الدافع، لأنه يسقط عنه [النفقة] لغنى المدفوع إليه بها، فأشبه ما لو دفعها لعبده.
1181 - وقد روى الأثرم في سننه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا كان ذو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك، وإن كنت(2/429)
تعولهم فلا تعطهم، ولا تجعلها لمن تعول. (والثانية) - وقال أبو محمد في المغني: إنها الظاهرة عنه - الجواز:
1182 - لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصدقة على المسكين صدقة، وهي لذي الرحم ثنتان، صدقة وصلة» . رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه، والصدقة والرحم عامان.
1183 - وعن أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» رواه أحمد.
«تنبيه» : اعلم أن عامة الأصحاب على حكاية الروايتين، وقال القاضي في التعليق في النفقات: وهاهنا يمكن حملها على(2/430)
اختلاف حالين، فالموضع الذي منع إذا كانت النفقة واجبة، والموضع الذي أجاز إذا لم تجب [كما] إذا لم يفضل عنه ما ينفق عليهم، والله أعلم.
قال: ولا للزوج ولا للزوجة.
ش: عطف على الوالدين، أما الزوجة فبالإجماع، قاله ابن المنذر، ولأن نفقتها واجبة عليه، وبها تستغني عن الزكاة، وأما الزوج ففيه روايتان منصوصتان:
(إحداهما) - وهي اختيار القاضي في التعليق - الجواز، لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية.
1184 - «وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن» قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزئ عني، وإلا صرفتها إلى غيركم. قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت. قالت: فانطلقت فإذا امرأة [من الأنصار] بباب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجتها حاجتي، قالت:(2/431)
وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما، ولا تخبر من نحن. قالت: فدخل [بلال] فسأله، فقال له: «من هما» ؟ قال: امرأة من الأنصار، وزينب. قال: «أي الزيانب؟» قال: امرأة عبد الله. فقال: «لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة» متفق عليه، وللبخاري: أتجزئ عني أن أنفق على زوجي، وأيتام لي في حجري، انتهى. لا يقال: السياق يقتضي التطوع، لأنا نقول الاعتبار باللفظ لا بالسبب.
(والثانية) : - وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر - المنع، قياسا لأحد الزوجين على الآخر، ولأن النفع يعود لها، لأنها تتمكن إذًا من أخذ نفقة الموسرين منه أو من أصل النفقة مع العجز(2/432)
الكلي. وحديث زينب تأوله أحمد في رواية ابن مشيش على غير الزكاة، والله أعلم.
قال: ولا الكافر.
ش: عطف أيضا على ما تقدم، وهذا إجماع حكاه ابن المنذر.
1185 - وفي الصحيحين في حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أخبرهم أن [الله قد فرض] عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» والصدقة إنما تؤخذ من أغنياء المسلمين، والذمي ليس من فقرائهم، والله أعلم.
قال: ولا المملوك.
ش: لأن العبد يجب على سيده نفقته، فهو غني بغناه، وقد قال أبو محمد: لا أعلم فيه خلافا.
قال: إلا أن يكونوا من العاملين [عليها] ، فيعطون بحق ما عملوا.(2/433)
ش: هذا الاستثناء راجع إلى الوالدين، والمولودين، والزوجة، والزوج، والكافر والمملوك، وبه يتم الكلام على ما تقدم، وإنما جاز لمن تقدم أن يأخذ من الزكاة إذا كان عاملا لأن الذي يأخذه أجرة عمله، لا زكاة، فلذلك يقدر ما يأخذه بقدر عمله، قال أحمد: يأخذ على قدر عمالته.
واعلم أن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تضمن أمورا: (أحدها) : أن قوله: الصدقة المفروضة. يدخل فيه الزكاة، والكفارة، والنذر، وقد يخرج منه النذر بالنظر إلى أصله. وقد نص الخرقي على الكفارة في بابها، مصرحا بأن حكمها حكم الزكاة. ونص أبو الخطاب في الهداية أيضا على ذلك. وخرج بقوله: المفروضة. التطوع، فإنه يجوز لمن تقدم الأخذ منه، ولا ريب في ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] والأسير يومئذ هو الكافر.
1186 - «وعن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: قدمت علي أمي [وهي مشركة] فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك» .
(الثاني) : أن ظاهر كلامه أن العامل يجوز أن يكون كافرا أو عبدا، أو أبا، وهو مبني على ما تقدم من [أن] الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة، لكن اختلف عن أحمد هل من شرطه الإسلام؟ على روايتين: (إحداهما) : لا، وهي اختيار(2/434)
الخرقي، والقاضي في الجامع الصغير، وفي التعليق الكبير، وابن البنا وجماعة، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] . ولما تقدم من أن الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة، وتجوز إجارة الكافر. (والثانية) : نعم، اختاره القاضي فيما حكاه عنه أبو الخطاب، وكأنه في المجرد، نظرا إلى أن من شرط العامل الأمانة بالاتفاق والكافر ليس بأمين. وأجاب القاضي في التعليق بأنا نشترط أمانته، كما نشترط عدالته في الوصية في السفر. (الأمر الثالث) أن الخرقي إنما جوز دفع الزكاة [لمن تقدم] إذا كانوا عمالا فقط، لأنه إنما استثنى العامل [لا غير] وقال: [أبو الخطاب] وصاحب التلخيص، وأبو البركات: يجوز دفع الزكاة لمن تقدم إذا كانوا عمالا، أو غزاة، أو مؤلفة، أو غارمين لإصلاح ذات البين، وهو مقتضى كلام القاضي في التعليق، لأنهم إنما يأخذون لمصلحتنا، لا لحاجتهم.
1187 - وفي سنن أبي داود، والموطأ عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا [لخمسة] ، لغاز في سبيل(2/435)
الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني» . ولأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه، قاله أبو داود، ورواه أحمد، والحاكم، وقال: على شرطهما وحكى أبو محمد في المغني عن الأصحاب أنهم جوزوا الدفع إلى الغارم لمصلحة نفسه، وإن كان من ذوي القربى، وحكى هو احتمالا بالمنع، والله أعلم.
قال: ولا لبني هاشم ولا لمواليهم.
ش: أي ولا يدفع من الصدقة المفروضة لبني هاشم، ولا لمواليهم.
1188 -[أما بنو هاشم] فلما «روى المطلب بن ربيعة بن الحارث بن [عبد] المطلب، أنه و [الفضل] بن العباس انطلقا إلى رسول الله(2/436)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله، جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس. فقال: «إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» مختصر، رواه أحمد ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
1189 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال رسول الله: «كخ كخ [ارم بها] أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟» وفي رواية: «أنا لا تحل لنا الصدقة» متفق عليه.
1190 - وأما مواليهم فلما «روى أبو رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا على الصدقة من بني مخزوم، قال أبو رافع: فقال [له] : اصحبني فإنك تصيب منها معي، قلت: حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانطلق إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «مولى(2/437)
القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.
ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز دفع صدقة التطوع إليهم، وهو المشهور والمختار من الروايتين.
1191 - نظرا إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المعروف كله صدقة» متفق عليه، ولا خلاف في إباحة المعروف إلى الهاشمي.
1192 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقلت له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما(2/438)
حرمت علينا الصدقة المفروضة. «والرواية الثانية» لا يجوز، لعموم ما تقدم، ورد بأن التعريف للعهد لا للعموم.
(فعلى الأولى) : يجوز لهم الأخذ من الوصايا والنذور، قال أبو محمد: لأنهما تطوع وفي الكفارة قولان.
ومقتضى كلامه أيضا [أنه لا يجوز أن يأخذوا لعمالتهم، وظاهر كلامه] في قسم الفيء والغنيمة - بل نصه - إباحة ذلك، وهي مسألة: هل من شرط العامل كونه من [غير] ذوي القربى؟ وفيها قولان، المشهور منهما، والمختار لجمهور الأصحاب عدم الاشتراط، نظرا إلى إطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وبأن ما يأخذه أجرة لا زكاة، وحديث أبي رافع محمول على التنزيه. (والقول الثاني) : وهو اختيار أبي محمد يشترط، لما تقدم من حديث أبي رافع.
ويجوز أن يعطوا [أيضا لكونهم] غزاة، أو غارمين لإصلاح ذات البين. قال القاضي: في قياس المذهب، لأنهم يأخذون لمصلحتنا، لا لحاجتهم [وفقرهم] وكذلك قال صاحب التلخيص، وأبو البركات، وزاد: أو مؤلفة.(2/439)
ومقتضى كلامه أيضا أن لبني المطلب الأخذ من الصدقة المفروضة، لأنه خص المنع ببني هاشم، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لدخولهم تحت قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] خرج [منه] يقينا - بنو هاشم، فما عداه يبقى على مقتضى الأصل، ولأن بني المطلب في درجة بني أمية، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلتقي في النسب مع بني أمية وبني المطلب.
1193 - ولهذا قال عثمان وجبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وإنما بنو المطلب [ونحن في القرابة سواء.؟ وبنو أمية لا(2/440)
تحرم عليهم الصدقة، فكذلك بنو المطلب] . (والرواية الثانية) : يمنعون كبني هاشم، اختارها القاضي في التعليق، نظرا إلى أنهم يأخذون من الخمس، فمنعوا كبني هاشم.
1194 - يؤيده ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للعباس: «أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أخذ أوساخ الناس» ؟ فعلل المنع من الأخذ بالخمس، وبنو المطلب يأخذون من الخمس فعلى هذا ما حكم مواليهم؟ قال القاضي: لا نعرف فيه رواية، ولا يمتنع أن نقول فيهم ما نقول في موالي بني هاشم.
«تنبيه» : «كخ كخ» زجر للصبيان، وردع عما يلابسونه من الأفعال [قال في اللباب: كخ كخ. ليس بعربي] والله تعالى أعلم.
قال: ولا لغني.
ش: لا تحل صدقة الفرض لغني في الجملة، لأن الله سبحانه(2/441)
وتعالى حصرها في الفقراء بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية.
1195 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «لا تحل الصدقة لغني، [ولا لذي مرة سوي» رواه أبو داود، والترمذي وفي رواية لأبي داود: «ولا لذي مرة قوي» . وللنسائي عن أبي هريرة نحوه.
1196 - «وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا حظ فيها لغني] ، ولا لقوي مكتسب» ويستثنى من ذلك العامل، والمؤلف [والغازي] ، والغارم لإصلاح ذات البين، فإن الغنى لا يمنع من الدفع إليهم، لما(2/442)
تقدم من أن الدفع لمصلحتنا، لا لحاجتهم، ويجوز للغني أن يأخذ من صدقة التطوع لما تقدم.
«تنبيه» : «المرة» القوة والشدة، و «السوي» المستوي الخلق، التام الأعضاء، والله أعلم.
قال: وهو الذي يملك خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حد الغنى، فنقل عنه منها أن يكون له كفاية على الدوام، إما من تجارة، أو من صناعة، أو أجرة عقار، أو غير ذلك، فالحكم على هذه الرواية منوط بالحاجة وعدمها، فمن كان محتاجا حلت له الزكاة وإن ملك نصبا، ومن لم يكن محتاجا لم تحل له وإن لم يملك شيئا، وهذه الرواية اختيار أبي الخطاب، وابن شهاب العكبري.
1197 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة بن مخارق: «يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة» وذكر الحديث إلى أن قال: «ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو سدادا من عيش» رواه مسلم وغيره. فأباح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –(2/443)
المسألة حتى يصيب القوام أو السداد، فمن ملك خمسين درهما ولم يصب القوام ولا السداد حل له بمقتضى النص الأخذ، ولأن في العرف أن من كان محتاجا فهو فقير، فيدخل في عموم النص.
ونقل عنه جماعة أن من ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب وإن كان حليا فهو غني وإن لم تحصل له الكفاية، وإن ملك عقارا قيمته عشرة آلاف درهم أو يحصل له من غلته مثل ذلك، أو أقل، أو أكثر، ولا يقوم بكفايته يأخذ من الزكاة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب، حتى إن عامة متقدميهم لم يحكوا خلافا.
1198 - وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه» قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: «خمسون درهما أو حسابها من الذهب» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وأحمد في رواية الأثرم، فقال: حسن بين وإليه نذهب. انتهى.(2/444)
1199 - وقال في رواية عبد الله: روي عن سعد، وابن مسعود، وعلي. يعني اعتبار الخمسين، وهذا نص في أن من ملك خمسين درهما أو حسابها من الذهب أنه غني، وما عداه يبقى فيه على قصة قبيصة، وعلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» .(2/445)
«تنبيه» : «الحجى» العقل، والله أعلم.
[مصارف الزكاة]
قال: ولا تعطى إلا في الثمانية الأصناف التي سمى الله عز وجل.
ش: لأن الله سبحانه وتعالى حصرها في الثمانية بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] الآية.
1200 - «وعن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعته. فذكر حديثا طويلا، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال [له] رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت منهم أعطيتك» رواه أبو داود.
وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يعطى منها لبناء قنطرة ولا سقاية، ونحو ذلك، وهو صحيح لما تقدم.(2/446)
وتضمن أيضا أن حكم المؤلفة باق، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الأصحاب، لأن الله تعالى ذكرهم، وكذلك المبين لكتابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعطاهم، فالأصل بقاؤهم، إلا أن يدل دليل على النسخ ولا دليل عليه، واحتماله غير كاف.
(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حكمهم انقطع للاستغناء عنهم.
1201 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) .
«تنبيه» : مقتضى كلام الشيخين جريان الخلاف على الإطلاق، ومقتضى كلام [صاحب] التلخيص تبعا لأبي الخطاب في الهداية أن الخلاف مختص بالكافر منهم، أما المسلم فالحكم باق في حقه بلا نزاع، وكلام القاضي في التعليق يحتمل ذلك، والله أعلم.
قال: إلا أن يتولى الرجل إخراجها بنفسه، فيسقط العامل.(2/447)
ش: لما دل كلامه السابق على أنه يجوز دفعها في الثمانية، استثنى من ذلك [ما] إذا تولى الرجل إخراجها بنفسه، فإن العامل يسقط للاستغناء عنه إذًا، إذ هو إنما يأخذ أجر عمله ولا عمل، والله أعلم.
قال: وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه إذا لم يخرجه إلى الغنى.
ش: المشهور والمختار عند جمهور الأصحاب من الروايتين أنه يجوز لرجل دفع زكاته إلى صنف واحد من الأصناف بشرطه، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للاختصاص، ولبيان جهة المصرف، ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] [فاقتصر سبحانه على الفقراء بعد ذكر الصدقات وهو عام] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] فجعل الحق - والظاهر أنه الزكاة - لصنفين فقط.
1202 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم» فلم يذكر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صنفا واحدا.(2/448)
1203 - ويروى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لسلمة بن صخر: «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك» .
1204 - «وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» مختصر، رواه مسلم وغيره.
(وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية أخرى: يجب أن يستوعب الأصناف إلا أن يخرجها بنفسه فيسقط العامل، اختارها أبو بكر في تعاليق أبي حفص، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للملك، ولحديث زياد بن الحارث الصدائي فإنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَزَّأَها ثمانية أجزاء» وحمل على بيان وجه المصرف.(2/449)
وقول الخرقي: ما لم يخرجه إلى الغنى. بيان لشرط الدفع، وهو أنه إذا دفع إلى صنف أو أكثر إنما يدفع ما تحصل به الكفاية والاستغناء، وتزول به الحاجة، إلا أن قول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا لم يخرجه إلى الغنى. ظاهره أن شرط الإعطاء أن لا يوصله إلى الغنى، [بل لا بد أن ينقص عنه، ونص أحمد والأصحاب يقتضي أنه يوصله إلى الغنى] لكن لا يزيد عليه، وإذًا فلنتعرض إلى ما يدفع إلى كل واحد من الأصناف، على سبيل الاختصار.
فيدفع إلى الفقير والمسكين أدنى ما يغنيهما، فإن كان المدفوع إليهم غير الذهب والفضة دفع إليهما [تمام] كفايتهما لسنة، قاله القاضي، وأبو البركات، وغيرهما، نظرا إلى أن ظاهر كلام أحمد اعتبار كفاية العمر [وكفاية العمر] تحصل بذلك، إذ في كل سنة يدفع إليهما، [فتحصل لهما] الكفاية الأبدية، فإن كان المدفوع إليه ذا حرفة، واحتاج إلى ما يعمل به من عدة ونحو ذلك، دفع إليه ما يحصل ذلك، وكذلك الحكم إن كان المدفوع إليهما ذهبا أو فضة، وقلنا: المعتبر في الغنى الكفاية، من غير نظر إلى قدر من المال. وإن قلنا: الغنى يحصل بخمسين درهما، أو قيمتها من الذهب. لم يدفع إليهما أكثر من ذلك، نص عليه أحمد في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث، ومحمد بن الحكم، وينبغي(2/450)
أنه إذا كان معهما قدر من ذلك أنه يكمل لهما تمام الخمسين، أو قيمتها من الذهب.
ويدفع إلى العامل أجرة مثله، ويدفع إلى المؤلف ما يحصل به التأليف، قاله أبو محمد، وقال صاحب التلخيص فيه: يدفع إليه ما يراه الإمام، وهو قريب من الأول، ويدفع في الرقاب بأن يعطى المكاتب ما عليه إن لم يجد وفاءه، أو يفتدي أسيرا، ونحو ذلك، على ما سيأتي [بيانه] إن شاء الله تعالى، ويدفع إلى الغارم قدر دينه. وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه. وإلى الفقير ما يحج به في رواية، ويدفع إلى ابن السبيل ما يوصله بلده، ولا يزاد أحد منهم على ذلك، والله أعلم.
[نقل الزكاة]
قال: ولا تخرج الصدقة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة.
ش: المذهب أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة، مع القدرة على دفعها في بلدها، هذا المعروف في النقل، وظاهر كلام أحمد [والخرقي] وإن كان القاضي في روايتيه، وجامعه الصغير، وتعليقه الكبير، ترجم المسألة بلفظ الكراهة، واحتج أحمد بحديث معاذ المتفق عليه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» .(2/451)
لا يقال: المراد فقراء المسلمين. لأنا نقول: الضمير راجع إلى أهل اليمن، إذ هم المبعوث إليهم، أي صدقة تؤخذ من أغنياء مسلمي اليمن، فترد في فقراء مسلمي اليمن، (فإن قيل) : اليمن بلاد كثيرة، فعموم الحديث يقتضي الدفع إلى جميع فقرائها؟ (قيل) : لكنه ظاهر في منع الدفع في إقليم آخر، وإذًا فيتعارض ظاهران، والحمل على جانب العموم أولى، لتطرق التخصيص إليه غالبا، ثم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فترد في فقرائهم» في معنى الأمر، فلو حمل على جميع [بلاد] اليمن لحمل على المكروه، وحمل الأمر على المكروه ممتنع.
1205 - واحتج أحمد أيضا بما روى الأثرم في سننه، عن طاوس [قال: في كتاب] معاذ بن جبل: «من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته» انتهى.
1206 - وعن عمران بن حصين، أنه استعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناه من حيث(2/452)
كنا نأخذه على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووضعناه حيث كنا نضعه.
1207 - ولما بعث معاذ الصدقة إلى عمر من اليمن، أنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابيا، ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فترد في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني. رواه أبو عبيد في الأموال ولأن في النقل ضياع فقراء تلك البلد، وهو عكس مشروعية الزكاة.
(وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية [أخرى] : يجوز النقل مطلقا، لظاهر قوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية، ولم يفرق سبحانه بين فقراء وفقراء، «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» فدل على أن الصدقة كانت تنقل.
(وأجيب) عن الآية بأن المراد منها بيان المصرف، وعن الحديث بأنه محمول على الفاضل من الصدقات.(2/453)
1208 - وبهذا أجاب أحمد عما روي من نقل الصدقات إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى أبي بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
(وعنه) رواية ثالثة - نص عليها في رواية جماعة - أنه يجوز نقلها إلى الثغور خاصة، وقال في هذا غير شيء، وذلك لأن المرابط قد لا يمكنه الخروج [من] الثغر، فالحاجة داعية إلى البعث إليه، لا سيما وما هم عليه فإنه من أعظم أمور الدين، بل هو أصلها.
فعلى الأولى إن خالف ونقل فهل يجزئه؟ فيه روايتان، حكاهما أبو الخطاب وأتباعه، وعن القاضي أنه قال: لم أجد عنه نصا في المسألة. واختار هو وشيخه المنع لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه، أشبه ما لو دفعها إلى غير الأصناف. واختار أبو الخطاب الجواز؛ لأن الأدلة في المسألة متقاربة، وقد وصلت إلى الفقراء، فدخلت في عموم الآية، ولعل قصة عمر المتقدمة تشهد لذلك.(2/454)
وقول الخرقي: ولا تخرج الصدقة. اللام في الصدقة للعهد المتقدم، وهو الزكاة، ويشمل زكاة المال والبدن، أما صدقة التطوع فيجوز نقلها بلا كراهة، وأما الكفارات، والنذور، والوصايا، فيجوز نقلها، قاله في التلخيص، [قال] : وخرج القاضي وجها في الكفارات بالمنع، فيخرج في النذور والوصية مثله. (قلت) : ومراد صاحب التلخيص بالوصية؛ الوصية المطلقة، كالوصية للفقراء [مثلا] أما الوصية لفقراء بلد فإنه يتعين صرفها في فقرائه، نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم. وقوله: من بلدها. أي [من] البلد الذي وجبت فيه، أو الذي المال فيه، فلو كان ماله غائبا عنه زكاه في بلده، نص عليه في رواية بكر بن محمد، فقال: أحب إلي أن تؤدي حيث يكون المال، فإن كان بعضه حيث(2/455)
هو، وبعضه في بلد آخر، يؤدي زكاة كل مال حيث هو. وظاهر كلامه أنه ولو في نصاب من السائمة، وفيه وجه آخر أنه في السائمة - والحال هذه - يجزئ الإخراج في بعضها، حذارا من التشقيص، ولو كان ماله تجارة يسافر به، فقال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يزكيه في الموضع الذي مقامه فيه أكثر. (وعنه) أنه سهل في إعطاء البعض في بلد، والبعض في البلد الآخر. وعن القاضي: يخرج زكاته حيث حال [عليه] حوله. أما زكاة البدن فيزكي حيث البدن.
وقوله: إلى بلد تقصر في مثله الصلاة. [مفهومه أنها تنقل إلى بلد لا تقصر في مثله الصلاة] ، ونص عليه أحمد والأصحاب، لأن ما قارب البلد في حكمه.
وكلام الخرقي [وغيره] شامل للساعي، ولرب المال، وهو ظاهر كلام أحمد، وشامل لما إذا كان في البلد البعيد أقارب محاويج أو لم يكن، وصرح به غيره، ويستثنى مما تقدم ما إذا(2/456)
استغنى فقراء بلده، فإنه يفرقها في أقرب البلاد إليه وكذلك إن كان ماله ببادية فرق زكاته في أقرب البلاد إليه.
«تنبيه» : «المخلاف» والله أعلم.
قال: وإذا باع ماشية قبل الحول بمثلها زكاها إذا تم حوله من وقت ملكه الأول.
ش: إذا باع ماشية - وهي الإبل، والبقر، والغنم - في أثناء الحول بمثلها، بأن باع إبلا بإبل، أو بقرا ببقر، أو غنما بغنم، فإن حوله لا ينقطع، فيزكيه إذا تم الحول، نظرا إلى أنه لم يزل في ملكه نصاب من الجنس، أشبه ما لو نتج النصاب نصابا، ثم ماتت الأمات فإن الحول لا ينقطع، كذلك هاهنا، وخرج أبو الخطاب قولا بالانقطاع، ولم يلتفت لذلك أبو محمد في المغني، والله أعلم.(2/457)
قال: وكذلك إن باع مائتي درهم بعشرين دينارا، أو عشرين دينارا بمائتي درهم، فلا تبطل الزكاة بانتقالها.
ش: لما كان قياس ما تقدم أنه لو باع نصابا بجنسه أن الحول لا ينقطع، وأنه لو باعه بغير جنسه [أن الحول ينقطع، أراد أن ينبه على أن الدراهم والذهب يخالفان ذلك، فلو باع نصابا من الفضة بنصاب] من الذهب [أو نصابا من الذهب] بنصاب من الدراهم، لم ينقطع الحول، لأنهما في حكم الجنس الواحد، إذ هما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، والنفع بأحدهما كالنفع بالآخر. وفي معنى ما ذكره الخرقي إذا باع عرضا للتجارة [بأحدهما] أو اشتراهما به، فإن الحول لا ينقطع، إذ الزكاة في قيمتها، وهي أحدهما.
واعلم أن الذي ذكره الخرقي - من أن الحول لا ينقطع ببيع أحد النقدين بالآخر - يحتمل أنه بناء منه على ما سيأتي له إن شاء الله تعالى من ضم أحد النقدين للآخر، وهي طريقة أبي محمد، وطائفة من الأصحاب، وصححها أبو العباس.(2/458)
وطريقة القاضي وجماعة منهم أبو البركات أن الحول لا ينقطع [مطلقا] وإن لم نقل بالضم، والله أعلم.
قال: ومن كانت عنده ماشية، فباعها قبل حلول] الحول بدراهم، فرارا من الزكاة، لم تبطل الزكاة عنه.
ش: إذا باع ماشية قبل الحول بدراهم، فلا يخلو إما أن يفعل ذلك فرارا من الزكاة أو لا، فإن فعله فرارا من الزكاة، لم تسقط [الزكاة] عنه، لأن سبب الوجوب - وهو انعقاد الحول، مع ملك النصاب - قد وجد، فلا تسقط [عنه] بفعل محرم، وهذه قاعدة لنا: أن الحيل كلها - لإسقاط واجب، أو لارتكاب محرم - باطلة. ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليها في غير هذا الموضع. وقد عاقب الله سبحانه من فر من الصدقة وقصد منع المسكين، قال الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] إلى قوله: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 23] {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24] الآية.
وإن لم يفعل ذلك فرارا من الزكاة فقد انقطع الحول، ولا زكاة عليه، لأن الحول لم يحل على مال، ولا على ما [هو] في معناه.(2/459)
واعلم أن الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال، والضابط على سبيل التقريب والاختصار أنه إن باع نصابا بجنسه لم ينقطع الحول، وبغير جنسه فارا فكذلك، وغير فار ينقطع، إلا في بيع العرض بأحد النقدين، وبيع أحد النقدين بالآخر على ما تقدم.
«تنبيه» : ظاهر كلام الخرقي أنه يشترط أن يكون البيع فرارا في آخر الحول، وهو الغالب على كلام كثير من المتقدمين، واختيار طائفة من المتأخرين، كابن عقيل، وأبي البركات، وغيرهما، وكان القاضي قديما، وأبو الخطاب، وطائفة من الأصحاب، ومنهم أبو محمد، يخصصون ذلك بما إذا [كان البيع] فعله في آخر الحول، كالنصف الثاني من الحول، أما لو كان في أوله، أو وسطه، فإن الحول ينقطع، والله أعلم.
[هلاك المال الزكوي]
قال: والزكاة تجب في الذمة بحلول الحول] ، وإن تلف المال، فرط أو لم يفرط.
ش: هذا الكلام دل على أحكام: (أحدها) أن الزكاة تجب في الذمة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار صاحب(2/460)
التلخيص، وأبي الخطاب في الانتصار، وغالى فزعم أن المسألة رواية واحدة، ورد مأخذ شيخه في التعليق بالعين، لأنها زكاة واجبة فكان محلها الذمة كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت في المال لامتنع ربه من التصرف فيه بالبيع والهبة كالمرهون، ولامتنع من الأداء من غيره، ولملك الفقراء جزءا منه مشاعا، بحيث يختصون بنمائه، واللوازم باطلة، وإذا بطلت بطل الملزوم.
والرواية الثانية - وهي المشهورة، حتى إن القاضي في التعليق وفي الجامع لم يذكر غيرها، واختارها أبو الخطاب في خلافه الصغير، والشيرازي وصححها أبو البركات في الشرح.
1209 - لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في أربعين شاة شاة، وفيما سقت السماء العشر، فإذا كان لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، فإذا كانت لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار» فأثبت الزكاة في المال.(2/461)
وفائدة الخلاف - على ما قاله القاضي في التعليق، وأبو الخطاب، والشيخان، وغير واحد - لو مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاته (فإن قلنا) : الزكاة تتعلق بالعين. لم يجب إلا زكاة واحدة، لأن النصاب قد تعلق للفقراء به حق، فنقص الملك في ذلك القدر، ومن شرط وجوب الزكاة استقرار الملك في جميع النصاب وتمامه، وهذا الملك غير تام في جميعه. (وإن قلنا) : الزكاة تتعلق بالذمة. وجبت زكاته لأن النصاب لم يتعلق به شيء، فالملك في جميعه تام، اللهم إلا إذا قلنا: إن دين الله يمنع كدين الآدمي. فإنه لا تجب إلا زكاة واحدة، قاله القاضي وغيره، ومنع ذلك صاحب التلخيص، متابعة لابن عقيل، وقال هنا: لا يمنع، لأن الشيء لا يمنع مساويه. ثم منع أصل البناء وقال: إنه مناقض لما فسروا به الوجوب في العين، [إذ قد فسروه بأنه كتعلق الجناية بالمجني لا كتعلق المرتهن بالرهن، ولا كتعلق الشريك بالعين] المشتركة، ولهذا صح البيع قبل الأداء، نص عليه، وتبقى الزكاة على البائع، لاختياره الإخراج من غيره، نعم للبائع فسخ البيع في قدر الزكاة، مع إعسار البائع، ثم لو كان كتعلق الجناية بالعبد المجني، لسقط [بتلف] المال، كما تسقط الجناية بتلف العبد المجني [عليه] قال: وإذًا تتكرر الزكاة(2/462)
بتكرار الأحوال على كلتا الروايتين، وتكون فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال، بخلاف الوجوب في الذمة، وتقديم الزكاة على الرهن - قلت: وما تقدم من التعليل لا يرد عليه شيء إن شاء الله تعالى، وقول القاضي وغيره: إنه كتعليق الجناية بالعبد المجني. هو معنى ما قلناه، إذ لا شك أن تعلق الجناية بالمجني ينقص الملك فيه [ويزلزله] مع أن الملك باق، لا يمتنع بيعه، ولا هبته، ونحو ذلك.
وقوله: إنه يلزم سقوط الزكاة بتلف المال، كما تسقط الجناية بموت المجني. قلنا: الغرض من التشبيه بالعبد الجاني نقصان الملك مع بقائه لا التشبيه به في جميع أحكامه، والزكاة وإن تعلقت بالعين، فهي مع ذلك لها تعلق بالذمة قطعا، فإذا وجبت لا تسقط، كما لا تسقط الصلاة إذا دخل الوقت، وإن لم يتمكن المكلف من الأداء، ثم قوله: إن فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال، وهو معنى ما قالوه، فالذي فر منه وقع فيه.
واعلم أن محل الخلاف والتردد فيما عدا شياه الإبل، أما في شياه الإبل فإنها تجب في الذمة بلا تردد، ولأن الواجب من غير الجنس، وشذ السامري فقال بالتعليق بالعين على روايتها، قال: لأن التعليق حكمي.(2/463)
(الحكم الثاني) : مما دل عليه كلام الخرقي أن الزكاة لا تسقط بتلف المال وإن لم يفرط في الإخراج، وهذا المذهب المعروف المشهور، إذ الزكاة حق آدمي، أو مشتملة عليه، فلا تسقط بعد وجوبها كدين الآدمي، أو زكاة واجبة، فلا تسقط بتلف المال، كزكاة الفطر (وحكى) الشيخان رواية بالسقوط قبل إمكان الأداء، وذكرها في المغني نصا من رواية الميموني، واختارها، لأن الزكاة في يده أمانة كالوديعة، والذي في التعليق من رواية الميموني وجوب الزكاة فرط أو لم يفرط. (وحكي) من رواية النيسابوري ما يدل على أنه في الماشية تسقط الزكاة، وفي الدراهم لا تسقط، قال أبو حفص: وهو خلاف ما روى الجماعة، ولعل مدرك هذه الرواية أن السعاة كانوا يعتبرون ما وجدوا [لا غير] ولهذا لم يمنع الدين في الأموال الظاهرة، وقد منع القاضي أنها أمانة، وفرق بأن [في] الأمانة لا يلزمه مؤنة التسليم، وهنا يلزمه.(2/464)
ويستثنى المعشرات، فإنها إذا تلفت بآفة سماوية بعد الوجوب تسقط، إذ استقراره منوط بالوضع في الجرين.
(الحكم الثالث) : أن الزكاة تجب بحلول الحول، ولا يشترط في الوجوب إمكان الأداء وهو صحيح، لمفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ولأنه لو اشترط إمكان الأداء لم ينعقد الحول الثاني حتى يتمكن من الأداء، وليس كذلك، والله أعلم.
قال: ومن رهن ماشية فحال عليها الحول أدى منها إذا لم [يكن] له مال يؤدي عنها، والباقي رهن.
ش: قد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحكام (أحدها) : أن الزكاة تجب في العين المرهونة، وهو واضح، لأن الملك فيها تام.
(الثاني) : أنه إذا كان معه ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن لزمه الإخراج، إذ الزكاة بمنزلة مؤونة الرهن، [ومؤونة الرهن] على الراهن، ولا يجوز له الإخراج من الرهن، لتعلق حق المرتهن به.
(الثالث) : إذا لم يكن له ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن، فإنه(2/465)
يخرج منه، بناء على ما تقدم من أن تعلق الزكاة بالنصاب، كتعلق الجناية بالعبد المجني، وحق الجناية مقدم على حق المرتهن، فكذلك حق الزكاة، وهذا واضح على القول بتعلق الزكاة بالنصاب، أما على القول بتعلقها بالذمة ففيه نظر، لأن حق الراهن يتعلق بالرهن والذمة، وحق الفقراء - والحال هذه - لا يتعلق إلا بالذمة، وما له تعلق بالعين، آكد مما لا تعلق له بها.
[وقد يقال: إن المرتهن دخل على ذلك، لأنه دخل على حكم الشرع، ومن حكم الشرع وجوب الزكاة] .
واعلم أن عموم كلام الخرقي هنا يقتضي أن الدين لا يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة لأن كلامه يشمل ما [إذا] كان الفاضل عن الدين نصابا، وما إذا نقص عن النصاب، وسيأتي ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى.
[باب زكاة الزروع والثمار]
ش: الأصل في وجوب الزكاة في ذلك في الجملة قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
1210 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال [في] حقه: الزكاة المفروضة. وقَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267](2/466)
وقد استفاضت السنة بذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأجمع المسلمون عليه في البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والله أعلم.
قال: وكل ما أخرج الله عز وجل من الأرض مما ييبس ويبقى، مما يكال ويدخر، ويبلغ خمسة أوسق فصاعدا، ففيه العشر، إن كان سقيه من السماء والسيوح، وإن كان يسقى بالدوالي والنواضح وما فيه الكلف فنصف العشر.
ش: يشترط [في] وجوب الزكاة في الخارج من الأرض شروط: (أحدها) : أن يكون مما ييبس، فلا تجب في الخضراوات كالقثاء، والخيار، ونحو ذلك.
1211 - لما «روي أن معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخضراوات، [فكتب] : «ليس فيها شيء» رواه الترمذي وضعفه.(2/467)
1212 - وعن عطاء بن السائب قال: «أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى [بن طلحة] : ليس لك ذلك إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «ليس في ذلك صدقة» رواه الأثرم في سننه، وهو قوي في المراسيل، لاحتجاج من أرسله به.
(الشرط الثاني) : أن(2/468)
يكون مما يبقى، أي يدخر عادة، فلا تجب في التين ونحوه، لعدم ادخاره، لأن غير المدخر لم تكمل ماليته، لعدم التمكن من الانتفاع به في المآل، أشبه الخضر.
1213 - وقد روى الأثرم بإسناده أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك ما هو أكثر من الكرم أضعافا مضاعفة، فكتب إليه عمر: ليس عليها عشر، هي من العضاه.
(الشرط الثالث) : أن يكون مما يكال، فلا تجب في الجوز، والأجاص، والتين، ونحوها، لانتفاء كيلها.(2/469)
1214 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدر ذلك بالكيل فقال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» متفق عليه. وفي لفظ لمسلم وأحمد: «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» والتقدير بالكيل يدل على إناطة الحكم به.
(الشرط الرابع) : أن يبلغ ذلك خمسة أوسق لما تقدم، ثم لا بد مع ذلك أن يكون أنبتته أرض مملوكة له.
وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما كان من القوت كالحنطة، والشعير، والقطنيات كالباقلا، والعدس، والماش، ونحو ذلك، ومن البزور كبزر القثاء، والخيار [ونحوهما] ومن الأبازير، كالكزبرة، والكمون، ونحوهما [ومن الحبوب كحب البقول، وحب الفجل، وسائر الحبوب بالشروط السابقة] وخالف في ذلك ابن حامد، فلم يوجب(2/470)
الزكاة في الأبازير وحب البقول [انتهى] . وكذلك جميع الثمار كالتمر، واللوز، والفستق ونحوها.
وشمل أيضا ما أنبته الآدميون كما تقدم، وما نبت بنفسه كبزر قطونا [ونحوه] وهو اختيار القاضي، وصاحب التلخيص، وغيرهما، بشرط أن يكون قد نبت في أرضه كما تقدم. وشرط ابن حامد أن يكون مما أنبته الآدمي، فلو نبت بنفسه فلا زكاة، وهو اختيار أبي محمد.
وشمل أيضا ما كان حبا أو ثمرا كما تقدم، وما ليس كذلك كالأشنان، والصعتر ونحوهما، وهو اختيار العامة. وشرط أبو محمد أن يكون حبا أو ثمرا، تمسكا بما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» .
ويتلخص الخلاف في ثلاثة شروط:
(أحدها) : هل من شرطه أن لا يكون أبازير؟(2/471)
(الثاني) : هل من شرطه أن يكون مما أنبته الآدمي؟
(الثالث) : هل من شرطه أن يكون حبا أو ثمرا؟
إذا تقرر هذا فالواجب فيما سقي بغير كلفة - كالسيوح، والسماء، ونحو ذلك - العشر، وفيما سقي بكلفة - كالدوالي، والنواضح - نصف العشر.
1215 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فيما سقت الأنهار والغيم العشر، وفيما سقي بالسانية نصف العشر» رواه مسلم وغيره.
1216 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر» رواه البخاري وغيره.(2/472)
1217 - «وقال معاذ: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالي نصف العشر» . رواه النسائي.
ثم اعلم أنه قد خرج من كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الزيتون، لأنه لا ييبس، ولا يدخر على حاله، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي بكر، والقاضي في التعليق، لفوات الشروط السابقة. (والرواية الثانية) : تجب فيه الزكاة. اختارها الشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، نظرا إلى أنه مكيل ولهذا اعتبر نصابه بالأوسق نص عليه، ولأن ما يخرج منه يدخر، ولأن الله تعالى قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] بعد ذكر الزيتون.
1218 - والمراد بالحق الزكاة، كذا روي عن ابن عباس وغيره، والصحيح أن هذه الآية مكية، نزلت قبل فرض الزكاة.(2/473)
وخرج من كلامه القطن أيضا والزعفران، لعدم كيلهما، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر والقاضي في التعليق، وأبي محمد، لفوات الشرط. (والرواية الثانية) : يجب فيها الزكاة. وهو اختيار الشيرازي، وابن عقيل، قياسا على الأشنان ونحوه. وفي العصفر، والورس وجهان، بناء على الروايتين، ونصاب هذه - حيث أوجبنا الزكاة فيهما - أما الزيتون فبالكيل، نص عليه، وأما القطن، والزعفران، وما لحق بهما، فاختلف كلام القاضي، فقال في المجرد: يعتبر نصاب ذلك بالوزن، فلا بد وأن يبلغ الواحد منها ألفا وستمائة رطل. وتبعه على ذلك أبو محمد. وقال في التعليق: لم يقع لي عن أحمد مقدار النصاب. قال: ويتوجه أن يقدر بما تكون قيمته خمسة أوسق، من أدنى نبات يزكى، وتبعه على ذلك أبو البركات، وجعل القاضي في التعليق العصفر تبعا للقرطم، فإن بلغ القرطم خمسة أوسق وجبت الزكاة، وإلا فلا.(2/474)
«تنبيه» : «الفرسك» هو الخوخ، و «العضاه» . و «الأوسق» والأوساق جمع وسق بفتح الواو وكسرها. و «السواني» جمع سانية، وهي الناقلة التي يستقى عليها.
1219 - ومنه حديث البعير الذي يشكي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أهله: كنا نسنو عليه. أي نسقي.
و «العثري» . . . و «الدوالي» جمع دالية، وهي الدولاب تديره البقر، والناعورة يديرها الماء و «النواضح» جمع ناضح وناضحة، وهما البعير والناقة، ويستقى عليها و «السيوح» جمع سيح، قال الجوهري: هو الماء الجاري على وجه الأرض، والمراد الأنهار ونحوها، والله أعلم.
قال: والوسق ستون صاعا.
ش: «الوسق» بفتح الواو وكسرها، والأشهر في اللغة [أنه] كما قال الخرقي، وأطبق علماء الشريعة على ذلك.(2/475)
1220 - وفي المسند، وسنن ابن ماجه، عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الوسق ستون صاعا. والله أعلم.
قال: والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي.
ش: قد تقدم قدر الرطل العراقي، وتقدم صاع الماء هل هو خمسة أرطال أو ثمانية؟ أما ما عداه فلا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه خمسة أرطال وثلث.
1221 - لما روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي، قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله كم قدر صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته. فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت: أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ثمانية أرطال. فغضب غضبا شديدا، ثم قال لجلسائه: يا فلان هات صاع جدك، ويا فلان هات صاع جدك، ويا فلان هات صاع جدك. قال إسحاق: فاجتمعت آصع، فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي(2/476)
عن أبيه، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال هذا: حدثني أبي، عن أخيه، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال الآخر: حدثني أبي، عن أمه، أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال مالك: أنا حزرت هذه، فوجدتها خمسة أرطال وثلثا.
1222 - وروي أن أبا يوسف سأل مالك بن أنس بحضرة الرشيد عن مقدار صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستمهله إلى الغد، ثم جاء من الغد، ومعه أولاد المهاجرين والأنصار، ومع كل واحد منهم صاعه الذي ورثه عن مورثه، الذي كان يؤدي به الزكاة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
«تنبيهات» : «أحدها» : ظاهر كلام الخرقي هنا أن النصاب هنا تحديد، فلو نقص يسيرا فلا زكاة فيه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» وهو قول القاضي، قال: إلا أن يكون نقصا يدخل [في] المكاييل، كالأوقية ونحوها فلا(2/477)
تؤثر، وهذا إحدى الروايتين، (والثانية) : أنه تقريب، وعليها قال في التلخيص: لا تسقط إلا بمقدار لو وزع على الخمسة أوسق لظهر النقصان.
(الثاني) : النصاب معتبر بالكيل، [وإنما ذكر الوزن ليضبط ويحفظ، ولذلك تعلقت الزكاة بالمكيل] دون الموزون، والمكيل يختلف [فيه] وزنه، ونص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة. قال في التلخيص: لا تعويل على الوزن إلا في البر، ثم مكيل ذلك من جميع الحبوب. انتهى. (وعنه) أنه قدر ذلك بالعدس.
(الثالث) : تعتبر الخمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب بلا نزاع، وبعد الجفاف في الثمار على المذهب، عند أبي محمد، وصاحب التلخيص، وابن عقيل في التذكرة، وصححه القاضي [في التعليق] ، وأبو الخطاب في الهداية. وقال في الروايتين: إنها الأشبه في المذهب.
1223 - لأن في حديث أبي سعيد المتقدم «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» رواه مسلم وأحمد، والنسائي، لكن في رواية أخرى لمسلم «ثمر» بالثاء ذات(2/478)
النقط الثلاث.
1224 - وفي الدارقطني في «حديث عتاب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يخرص العنب زبيبا، كما تخرص التمر» . (وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية أخرى: أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطبا وعنبا، ويؤخذ منه مثل عشر الرطب، أو نصف عشره، تمرا أو زبيبا، وهذا نص عنه، واختيار الخلال، وصاحبه أبي بكر في الخلاف ونصبها الشريف، وأبو الخطاب، وشيخهم في خلافاتهم، مع أن شيخهم صحح الأولى وذلك لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» مفهومه [أنه] إذا بلغها وجبت، ولم يعتبر الجفاف.
1225 - وعن عتاب بن أسيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرص العنب كما يخرص النخل، فتؤخذ زكاته زبيبا، كما تؤخذ صدقة النخل تمرا» . رواه أبو داود، والترمذي. فأمر(2/479)
بخرص العنب ولم يشترط الجفاف، (وحمل أبو محمد) هذه الرواية على أنه [أراد أن] يؤخذ عشر ما يجيء منه من التمر إذا بلغ رطبا خمسة أوسق. قال: لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر، إيجاب لأكثر من العشر، وذلك يخالف النص والإجماع. (وهذا) التأويل لا يصح، فإن أحمد قال في رواية الأثرم: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخرص ما يؤول إليه، وإنما هو على ظاهر الحديث، قيل له: فإن خرص عليه مائة وسق رطبا، يعطي عشرة أوسق تمرا؟ فقال: نعم هو على ظاهر الحديث، وهذا نص صريح في مخالفة التأويل، وقوله: إنه يخالف النص والإجماع مردود إذ لا نص صريح، وأحمد قد خالف، فأين الإجماع، والله أعلم.
قال: والأرض أرضان، صلح وعنوة، فما كان من صلح ففيه الصدقة.(2/480)
ش: يعني إذا صالحنا الكفار على أرض كانت بأيديهم، فيقع ذلك تارة على أن الأرض لنا، ونقرها معهم بالخراج، وتارة على أن الأرض لهم، ولنا الخراج عنها، فالخراج والحال هذه في حكم الجزية، متى أسلموا سقط عنهم، وإن انتقلت إلى مسلم فلا خراج عليه، وإن زرعها المسلم فعليه الزكاة بشرطها، بالإجماع، قاله ابن المنذر.
والغرض من ذكر هذه [المسألة] أن أرض الصلح، ليس فيها إلا العشر، بخلاف أرض العنوة، على ما سيأتي إن شاء الله، والله أعلم.
قال: وما كان عنوة أدى عنها الخراج، وزكى ما بقي إذا بلغ خمسة أوسق، وكان لمسلم.
ش: العنوة هي ما أجلي عنها أهلها بالسيف، وهي أرض كثيرة فتحها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ووقفها على المسلمين، وضرب عليها خراجا معلوما، يؤخذ ممن هي في يده في كل عام، فهذه إذا زرعت اجتمع الخراج والعشر بشرطه، وهذا الغرض من ذكر هذه المسألة، أن العشر والخراج يجتمعان، لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267](2/481)
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء العشر» ولأن الخراج بمنزلة الأجرة، فجاز اجتماعه مع العشر، كالأرض المؤجرة، ولأنهما حقان يجبان عن عين، فلم ينف أحدهما الآخر، دليله قيمة الصيد والجزاء، وأجرة الدكان وزكاة التجارة.
1226 - وما يروى عن أبي حنيفة عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجتمع العشر والخراج على مسلم في أرضه» فيرويه عن أبي حنيفة يحيى بن عنبسة وهو هالك. قال ابن حبان: ليس هذا الحديث من كلام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث، وهو كذب على أبي حنيفة ومن بعده، إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن عدي: لم يصل هذا الحديث غير يحيى، وهو مكشوف الأمر، ورواياته عن الثقات الموضوعات.(2/482)
وقول الخرقي: وكان لمسلم؛ لأن الزكاة لا تجب إلا على مسلم، ونبه على هذا وإن كان فهم من قوله السابق: الأحرار المسلمين؛ لئلا يتوهم [متوهم] أن اختصاص هذه المسألة بالذكر لاختصاصها بحكم غير ما تقدم.
وقوله: أدى عنها [الخراج] وزكى ما بقي إن كان خمسة أوسق؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في هذا القدر، وهو صريح في أن الخراج مقدم على الزكاة، فتمتنع الزكاة في قدره.
وأصل هذا أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة، كالنقدين، والعروض، على المذهب بلا ريب. وهل يمنع في الأموال الظاهرة، كالزروع، والماشية؟ (فيه روايتان) ، أشهرهما - وهي اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي، وأكثر الأصحاب، يمنع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث معاذ:(2/483)
«أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم» والمدين ليس بغني.
1227 - يرشحه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» ولأن الزكاة مواساة، ولا مواساة مع الدين.
1228 - واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب الناس فقال: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه، ثم ليزك ما بقي. فلم يأمر بإخراج الزكاة عن المؤدى في الدين، وهذا قاله بمحضر من الصحابة، ولم ينقل مخالفته، فيكون إجماعا (والثانية) : لا يمنع لعموم «في خمس من الإبل شاة، وفيما سقت السماء العشر» ؛ ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث [السعاة] إلى أرباب الأموال الظاهرة، وكذلك خلفاؤه بعده، ولم ينقل [عنهم] أنهم سألوا أربابها: هل عليكم دين؟ ولأن أنفس(2/484)
[الفقراء] تتشوف إليها، بخلاف الباطنة، وعلى هذه الرواية ما لزمه لمؤنة الزرع، من أجرة كحصاد، وكراء أرض، ونحو ذلك يمنع، نص عليه أحمد، وذكره ابن أبي موسى، وقال: رواية واحدة، وتبعه صاحب التلخيص، وحكى أبو البركات رواية أخرى: أن الدين لا يمنع في الظاهرة مطلقا. قال أبو العباس: ولم أجد بها نصا عن أحمد.
إذا تقرر هذا فقول الخرقي في الخراج: إنه يؤديه، ويزكي الباقي إن بلغ خمسة أوسق. يحتمل أن يتعدى هذا إلى كل دين، فيكون من مذهبه أن الدين يمنع مطلقا، كما هو المشهور، ويكون غرضه من المسألة السابقة فيما إذا رهن ماشية، أن الزكاة تؤدى من عين الرهن، إذا لم يكن له ما يؤدي [عنه] ، وهذا أوفق للمذهب ويحتمل أن يريد أن الدين لا(2/485)
يمنع في الظاهرة، بناء على [ظاهر] إطلاقه ثم، وعلى مقتضى كلامه في باب زكاة الدين، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، لكن يستثنى من ذلك ما لزمه من مؤنة الزرع، كما نص عليه أحمد، وقال ابن أبي موسى: إنه رواية واحدة، والله أعلم.
قال: وتضم الحنطة إلى الشعير، وتزكى إذا كانت خمسة أوسق، وكذلك القطنيات.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد: هل تضم الحبوب بعضها إلى بعض؟ . (فعنه) : لا تضم مطلقا، وإليها ميل أبي محمد، لأنهما جنسان، فلا يضم أحدهما إلى الآخر، كالتمر، والزبيب، لكن قد نقل إسحاق بن إبراهيم أن أحمد رجع عن هذا، فقال بعد أن نقل عنه القول بعدم الضم: قد رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة، وقال: يضم الذهب إلى الفضة ويزكى، وكذلك الحنطة إلى الشعير، يضم بعضه إلى بعض، وضم القليل إلى الكثير هو أحوط. قال القاضي: وظاهر هذا الرجوع عن منع الضم.
(وعنه) : يضم بعضها إلى بعض مطلقا، اختارها أبو بكر، والقاضي في التعليق على ما رأيت في النسخة المنقول منها، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة فيما دون خمسة أوساق من حب ولا تمر» مفهومه أنه إذا بلغ خمسة أوساق من حب(2/486)
ففيه الصدقة، وهو شامل بظاهره كل حب، [وكذا] علل أحمد بأنه يطلق عليها اسم حبوب، واسم طعام.
(وعنه) : تضم الحنطة إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض. اختارها الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وحكيت عن القاضي، وهي ظاهر كلام الخرقي، لأن الحنطة والشعير في حكم الجنس الواحد، لاتفاقهما في المنبت، والمحصد، والاقتيات، فجرى ذلك مجرى أنواع الحنطة، كالبر، والعلس، وكذلك القطاني تتفق في المنبت، والمحصد وكونها تؤكل أدما وطبخا.
«تنبيه» : القطنيات بكسر القاف وفتحها، مع تخفيف الياء وتشديدها، فيهما، جمع قطنية، ويجمع أيضا [على] قطاني، فعليه من: قطن يقطن في البيت. أي يمكث فيه، وهي حبوب كثيرة، فمنها الحمص، والعدس، والماش، والجلبان، واللوبيا، والدخن والأرز، والباقلا، فهذه وما يطلق عليه هذا الاسم يضم بعضه إلى بعض، أما البزور فلا تضم إليها، لكن يضم بعضها إلى بعض على هذه الرواية، كالكزبرة والكراويا ونحو ذلك، وحبوب البقول لا تضم إلى القطاني،(2/487)
ولا البزور، وما تقارب منها ضم بعضه إلى بعض، وما شككنا فيه فلا يضم، وحيث قيل بالضم فإنه يؤخذ من كل جنس ما يخصه، ولا يؤخذ من جنس عن غيره إلا في الذهب والفضة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: وكذلك الذهب والفضة، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه لا يضم، ويخرج من كل صنف [على انفراده] إذا كان منصبا للزكاة، والله أعلم.
ش: أي وكذلك الذهب والفضة يضم بعضها إلى بعض، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه لا يضم، ويخرج من كل صنف إذا كان منصبا للزكاة، أي محلا للزكاة، بأن يبلغ نصابا بانفراده، وقد تقدمت هذه الرواية في الحبوب، أما الذهب والفضة ففي ضم أحدها إلى الآخر -[إذا لم يبلغ كل منهما نصابا، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر] روايتان مشهورتان: (إحداهما) : يضمان. اختارها الخلال، والقاضي، وولده، وعامة أصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، لأنهما في حكم الجنس الواحد، إذ هما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ويجمعهما لفظ الأثمان، واستدل القاضي بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية قال: فظاهرها وجوب الزكاة فيهما في(2/488)
عموم الأحوال، وأجاب عن إفراد الضمير بأن العرب تذكر المذكر، وتعطف عليه المؤنث، ثم تكني عن المؤنث وتريدهما، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] (والثانية) : لا يضمان. اختارها أبو بكر في التنبيه، مع اختياره في الحبوب الضم، وهو ظاهر رواية الميموني، وقال لأحمد: إذا كنا نذهب في الذهب والفضة إلى أن لا نجمعهما [لم لا نشبه الحبوب بهما؟ قال: هذه يقع عليها - إذا لم يبلغ كل منهما نصابا، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر - اسم طعام، واسم حبوب. قال: ورأيت أبا عبد الله في الحبوب يحب جمعها] ، وفي الذهب، والبقر، والغنم، والفضة لا يجمع، وذلك لأنهما جنسان فلا يجمعان، كالتمر، والزبيب، ولظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما [دون] خمس أواق صدقة» .(2/489)
1229 - وفي حديث عمرو بن شعيب: «ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء» انتهى. وحيث قلنا بالضم فإنه بالأجزاء لا بالقيمة، على ظاهر رواية الأثرم، وسأله عن رجل عنده ثمانية دنانير، ومائة درهم، فقال: [إنما قال] : من قال فيها الزكاة إذا كانت عشرة دنانير، ومائة درهم. وهذا اختيار القاضي في جامعه وفي تعليقه، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما وأبي محمد، نظرا إلى أنه لو وجب التقويم في حال الانفراد لوجب في حال الاجتماع، دليله العبد في التجارة، يقوم منفردا، ومع غيره من العروض، وعن القاضي - أظنه في المجرد - أنه قال: قياس المذهب أنه يعتبر الأحظ للمساكين [من الأجزاء والقيمة، قال في التعليق: وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي، فقال: أذهب إلى الضم، هو أحظ للمساكين] ، فاعتبر الاحتياط قياسا على الثوبين في التجارة.
«تنبيه» : مما يتعلق بالضم: هل يخرج أحد النقدين عن الآخر؟ فيه روايتان مشهورتان، اختار أبو بكر منهما المنع، كما اختار عدم الضم، ووافقه أبو الخطاب هنا، وخالفه(2/490)
ثم، فاختار الضم، وأبو محمد صحح [هنا] الجواز. ولم يصحح [ثم] شيئا، والله سبحانه أعلم.
[باب زكاة الذهب والفضة]
ش: الأصل في زكاة الذهب والفضة قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية، فظاهر هذا الوعيد أنه عن واجب، وفي البخاري في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وفي الرقة ربع العشر» .
وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» » .
1230 - وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى به جنبه، وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» مع أن هذا إجماع في الجملة.(2/491)
«تنبيه» : «الرقة» : الهاء فيها بدل من الواو في الورق؛ والورق بكسر الراء وإسكانها الفضة المضروبة، وقيل: وغيرها، كما هو المراد بالحديث. «والأواقي» : بتشديد الياء [وتخفيفها، جمع أوقية بضم الهمزة، وتشديد الياء] ، وأنكر الجمهور «وقية» وحكى اللحياني الجواز. وجمعها وقايا.
والأوقية الشرعية أربعون درهما بلا نزاع، وخص «الجنب، [والجبين] والظهر» بالذكر دون بقية الأعضاء، نظرا لحال البخيل المسؤول لأنه إذا سئل قطب وجهه، وجمع أساريره، فيتجعد جبينه، ثم إن تكرر الطلب ناء بجنبه، ثم إن ألح عليه في الطلب ولى بظهره، وهي النهاية في الرد.
و «فيرى» يروى على البناء للفاعل والمفعول، والله أعلم.(2/492)
قال: ولا زكاة فيما دون المائتي درهم، إلا أن يكون في ملكه ذهب أو عروض للتجارة، فيتم به.
ش: نصاب الفضة مائتا درهم، بلا نزاع بين أهل العلم، وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففي الصحيحين [ما تقدم] من حديث أبي سعيد: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» .
1231 - وفي البخاري من حديث أنس: «فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها» ، فإذا كان عنده دون المائتي درهم، فلا زكاة [عليه] ، إلا أن يكون عنده ذهب فيتم به [لما تقدم - على المذهب - من أن كل واحد من النقدين يضم إلى الآخر، أو يكون عنده عروض للتجارة فيتم به] إذ عرض التجارة يضم إلى كل واحد من النقدين، ويكمل به نصابه بلا نزاع، لأن الزكاة تجب في قيمتها، وهي تقوم بكل واحد منهما، فتضم إلى كل واحد منهما، والله أعلم.
قال: وكذلك دون العشرين مثقالا.
ش: يعني من الذهب، لا زكاة فيها إلا أن تكون عنده فضة أو عروض، فيتم به، وإنما قلنا: نصاب الذهب عشرون مثقالا.
1232 - لما تقدم في حديث علي: «وليس عليك شيء -[يعني] في(2/493)
الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا، [فإذا كانت لك عشرون دينارا] وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» قال الحارث: فلا أدري أعلي يقول: بحساب ذلك، أم رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود.
1233 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة» رواه أبو عبيد.
وظاهر كلام الخرقي أن النصاب [في النقدين] تحديد، فلو نقص يسيرا لم تجب الزكاة، وهو اختيار أبي الفرج والشيرازي، وأبي محمد، اعتمادا على الأصل واستصحابا [للبراءة] الأصلية، حتى يتحقق [الموجب] ، وتمسكا بظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» . والمشهور عند الأصحاب أنه لا يعتبر النقص [اليسير] كالحبة والحبتين، لاختلاف الموازين بذلك، ثم بعد ذلك يؤثر نقص ثمن، في رواية اختارها أبو بكر، وفي أخرى في الفضة ثلث درهم، وفي أخرى في الذهب نصف مثقال، ولا يؤثر الثلث.
«تنبيه» : لا فرق بين التبر والمضروب، كما اقتضاه كلام الخرقي، وشرط النصاب أن يكون خالصا، فلو كان مغشوشا فلا زكاة حتى يبلغ النقد الخالص فيه نصابا، لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –(2/494)
: «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة» إنما ينصرف للخالص، والدراهم المعتبرة هنا، وفي نصاب السرقة، وغير ذلك، هي التي كل عشرة فيها سبعة مثاقيل بمثقال الذهب، وكانت الدراهم في الصدر الأول صنفين (طبرية) ، وهي أربعة دوانيق (وسوداء) وهي ثمانية دوانيق، فجمعا وجعلا درهمين متساويين، كل درهم ستة دوانيق، فعل ذلك بنو أمية، فصارت عدلا بين الصغير والكبير، ووافقت سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية، أما المثقال فلم يختلف في جاهلية ولا إسلام، والله أعلم.
قال: فإذا تمت ففيها ربع العشر.
ش: أي إذا تمت الفضة مائتي درهم ففيها ربع العشر، وإذا تمت العشرون دينارا ففيها ربع العشر، لما تقدم من حديثي أبي سعيد وعلي، قال أبو محمد: ولا نعلم فيه خلافا؛ والله أعلم.
قال: وفي زيادتها وإن قلت.
ش: أي في زيادة المائتي درهم وإن قلت ربع العشر، وفي زيادة العشرين دينارا وإن قلت ربع العشر، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الرقة ربع العشر» خرج منه ما دون المائتي درهم بالنص،(2/495)
فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم، وما تقدم من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم.
[زكاة الحلي وآنية الذهب والفضة]
قال: وليس في حلي المرأة زكاة إذا كان مما تلبسه أو تعيره.
ش: المذهب المنصوص، المختار للأصحاب أنه لا زكاة في الحلي في الجملة، قال أحمد في رواية الأثرم: فيه عن خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1234 - وقد رواه مالك في الموطأ عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وابن عمر.
1235 - ورواه الدارقطني عن أسماء بنت أبي بكر، وأنس بن مالك.(2/496)
1236 - وقال أبو يعلى: أنبأنا القاضي أبو الطيب الطبري، قال: ثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي، قال: ثنا أبو الحسين أحمد بن المظفر الحافظ، قال: ثنا أحمد بن عمير بن جوصا، قال: ثنا إبراهيم بن أيوب [قال: ثنا عافية بن أيوب] عن ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الحلي زكاة» وهذا نص، إلا أنه ضعيف من قبل عافية» .(2/497)
ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل مباح، أشبه ثياب البذلة، وعبيد الخدمة، ودور السكنى، أو نقول: معد لاستعمال مباح، أشبه ما ذكرنا.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى حكاها ابن أبي موسى: تجب فيه الزكاة، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» ولعموم مفهوم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» .
1237 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن [جده] قال: «إن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان(2/498)
من ذهب، فقال: «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا. قال: «أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟» [فخلعتهما] ، فألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: هما لله ولرسوله» . رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وهذا لفظه.
1238 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: «ما هذا يا عائشة» ؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. قال: «أتؤدين زكاتهن؟» فقلت: لا. أو ما شاء الله. قال: «هو حسبك من النار» . رواه أبو داود. وقد أجيب عن عموم الآية،(2/499)
والحديثين الأولين بدعوى تخصيصهما بما تقدم. وعن الحديثين الآخرين بأن فيهما كلاما، وقد قال الترمذي بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب: لا يصح في هذا الباب شيء وعلى تسليم الصحة بأن ذلك حين كان الحلي بالذهب حراما على النساء، فلما أبيح لهن سقطت منه الزكاة، قاله القاضي وغيره.
1239 -[أو] بأن المراد بالزكاة عاريته، هكذا روي عن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وغيرهما، ويجوز التوعد على المندوبات، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] أو بأن المراد ما صنع بعد وجوب الزكاة فيه.
إذا تقرر هذا فقد تقدمت الإشارة بأن الأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة، إلا حيث عدل به عن جهة النماء، إلى فعل مباح مطلوب، كما إذا صيره للبس، أو للعارية.(2/500)
أما الحلي المحرم - قال أبو العباس: وكذلك المكروه، وما أعد للكراء، أو التجارة أو النفقة عند الحاجة [إليه]- فهو باق على أصله في وجوب الزكاة.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين قليل الحلي وكثيره، وهو المذهب. نعم يقيد ذلك بما جرت عادتهن بلبسه، كالسوار، والتاج، والخلخال، بخلاف ما لم تجر عادتهن به، كمنطقة الرجل، واتخاذ قبقاب [من ذهب] ونحو ذلك، فإنه يحرم، وتجب فيه الزكاة. وجعل ابن حامد ما بلغ ألف مثقال يحرم [في حقها مطلقا، وحكاه في التلخيص رواية، وتوسط ابن عقيل فقال: إن بلغ الحلي الواحد ألف مثقال حرم] وإن زاد المجموع على ألف فلا.
«تنبيه» : «المسكة» بالتحريك السوار من الذبل، وقيل: هي من قرن الأوعال، وإذا كانت من غير ذلك أضيف إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب، أو من فضة. أو غير ذلك «والفتخة» بالتحريك، وجمعها فتخات بفتحتين، حلقة من فضة لا فص لها، فإذا كان فيها فص فهي خاتم. وقال(2/501)
عبد الرزاق: هي الخواتم، وتجعل في الأرجل، وقيل في الأيدي، والله أعلم.
قال: وليس في حلية سيف الرجل، ومنطقته، وخاتمه زكاة.
ش: إنما سقطت [الزكاة] من ذلك لإباحتها للرجال، فهي كحلية النساء، [إذ قد صرفت عن جهة النماء إلى فعل مباح، أشبهت ثياب البذلة] والدليل على إباحة ذلك.
1240 - أما السيف فلأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت قبيعة سيف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضة» .(2/502)
1241 - وقال هشام بن عروة: كان سيف الزبير محلى بالفضة. رواهما الأثرم. وأما المنطقة فلأن ذلك معتاد للرجل، أشبه الخاتم، وهذا المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كرهها، لما فيها من الفخر، والخيلاء.
1242 - وأما الخاتم فلأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتما من ورق؛» متفق عليه.
«تنبيهات» : «أحدها» : قول الخرقي يشمل التحلية بالذهب والفضة، وينبغي أن يحمل كلامه على الفضة، لأن الذهب لا يباح منه إلا حلية السيف، على المشهور [من الروايتين] ولا يلحق به كل سلاح على قول العامة، خلافا للآمدي، وما دعت إليه الضرورة كشد الأسنان به، ولا يباح اليسير منه مفردا كالخاتم، بلا خلاف أعلمه ولا تبعا لغيره على المذهب، فلو حمل كلامه على الذهب لزم فساده في الخاتم قطعا، وفي المنطقة على المذهب.
(الثاني) : قول الخرقي: حلية السيف. يشمل القبيعة، وهي ما على طرف مقبضه وغيرها، وأكثر الأصحاب يخص ذلك بالقبيعة، وكان أبو العباس كتب في شرح العمدة فيما يباح من(2/503)
الذهب قبيعة السيف، ثم ضرب عليه، وكتب: حلية السيف. وهذا مقتضى كلام أحمد.
1243 - لأنه قال: روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب. وقال: إنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب. [والمنطقة] تجعل في الوسط، وتسميها العامة الحياصة.
(الثالث) : ظاهر كلام الخرقي [أنه] لا يباح للرجل تحلية غير هذه الثلاثة. وقد خرج القاضي في الجوشن، والدرع، والخوذة، والمغفر وجهين. (أحدهما) : أنها كالمنطقة، وهو قول الأكثرين، أبي الخطاب، وابن عقيل، والمتأخرين؛ (الثاني) : المنع رواية واحدة، كما هو ظاهر كلام الخرقي، والخف، والران، عند القاضي، والآمدي، وأبي الخطاب، والأكثرين كالجوشن، وعند ابن عقيل لا يباح، ففيه الزكاة، وكذلك الحكم عنده في الكمران، والخريطة قال أبو العباس: وعلى قول غيره هما كالخف. وقال التميمي: يكره عمل خفين(2/504)
من فضة كالنعلين، ولا يحرم، وألحق أبو الخطاب وجماعة حمائل السيف - وهي علائقه -[بالمنطقة] وجزم القاضي بالمنع، وحكاه عن أحمد. والله أعلم.
قال: والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص، وفيها الزكاة.
ش: هذا المشهور المعروف، المنصوص [عليه] من الروايتين، حتى أن القاضي في التعليق، وجمهور الأصحاب لم يحكوا خلافا، إذ الاتخاذ يراد للاستعمال، والاستعمال محرم، فكذلك الاتخاذ، دليله آلات اللهو، كالطنبور، والعود. (والرواية الثانية) : يباح الاتخاذ، نظرا [إلى] أن المحرم الاستعمال، أما الاتخاذ فإنه تغيير المال من صفة إلى صفة، فلا يؤثر والله أعلم.
[زكاة الركاز]
قال: وما كان من الركاز - وهو دفن الجاهلية، قل أو كثر - ففيه الخمس لأهل الصدقات، وباقيه فله.
ش: عرف الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الركاز بأنه دفن الجاهلية، ويعرف ذلك بأن توجد عليه أسماء ملوكهم، أو صلبانهم، ونحو ذلك. قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الموطأ: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمعت أهل العلم يقولون، أن الركاز إنما هو(2/505)
دفن يوجد من دفن الجاهلية، ما لم يطلب بمال، ولم يتكلف فيه بنفقة، ولا كبير عمل ولا مؤنة. انتهى أما ما وجد عليه علامة المسلمين كأسماء ملوكهم، وأنبيائهم، أو آية من القرآن، أو نحو ذلك، أو على بعضه، فليس بركاز، لأن ذلك قرينة صيرورته إلى مسلم، وكذلك لو لم يوجد عليه علامة، لانتفاء الشرط، وهو علامة الكفار.
إذا تقرر [ذلك] فما حكم بأنه ركاز ففيه الخمس.
1244 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» رواه الجماعة، ولا فرق بين القليل والكثير، لعموم الحديث، ولأنه مال مخمس من مال الكفار، أشبه الغنيمة، ومصرف الخمس لأهل الزكاة، في إحدى الروايتين، اختارها الخرقي، نظرا إلى أنه مستفاد من الأرض، أشبه المعدن.
1245 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين، حكاه الإمام أحمد. (والرواية الثانية) –(2/506)
وهي اختيار ابن أبي موسى، والقاضي في تعليقه وجامعه وابن عقيل، وأبي محمد - أن مصرفه مصرف الفيء، لأنه مال كافر مخموس، أشبه الغنيمة.
1246 - ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والباقي بعد الخمس لواجده، وله صور: (إحداها) : إذا وجده في موات، أو في أرض لا يعلم مالكها، أو في ملكه الذي ملكه بالإحياء، ونحو ذلك، فهذا يكون له بلا نزاع. (الثانية) : وجده في ملك انتقل إليه بهبة أو بيع، أو غير ذلك، [فهو] لواجده أيضا، في أنص الروايتين، واختيار القاضي في التعليق، نظرا إلى أنه يملك بالظهور عليه، أشبه الغنيمة.
(والرواية الثانية) : يكون لمن انتقل عنه إن اعترف به، وإلا فلأول مالك، قال أبو محمد: فإن لم يعرف أول مالك فكالمال الضائع، نظرا إلى أنه يملك بملك الأرض كأجزائها(2/507)
ولهذه المسألة التفات إلى مسألة المباح من الكلأ ونحوه، هل يملك بملك الأرض، أو لا يملك إلا بالأخذ؟ فيه روايتان، كذا أشار إليه القاضي وغيره.
(الثالثة) : وجده في ملك آدمي معصوم، كأن دخل دار إنسان فحفر فوجد ركازا، فحكمه حكم الذي قبله، فيه الروايتان عند أبي البركات، وأبي محمد في المقنع وقطع صاحب التلخيص هنا تبعا لأبي الخطاب في الهداية أنه لمالك الأرض، وقد أورد على القاضي هذه المسألة، فقال: لا يمتنع أن يقول: [إنه] لواجده، كما لو وجد طائرا أو ظبيا. انتهى. وقد نص أحمد فيمن استأجر إنسانا ليحفر له بئرا، فوجد ركازا، أنه لصاحب الدار، ونص في رواية الكحال في الساكن إذا وجد كنزا أنه له، ومن مسألة الأجير أخذ القاضي وغيره الرواية في الملك المنتقل إليه [أنه يكون لمن انتقل إليه] قالوا: لأنه لم يجعله للأجير بالظهور، بل جعله لمالك الأرض، ثم إن القاضي في التعليق كلامه يقتضي أنه سلم مسألة الأجير، فقال لما أورد عليه الأجير: عمله لغيره. وهذا التسليم يمنع من جريان الخلاف، ويشعر بتقرير النصوص على ظواهرها.(2/508)
(الرابعة) : وجده في أرض الحرب بنفسه، فهو ركاز، وإن وجده بجماعة لهم منعة فهو غنيمة.
واعلم أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق [بين] أن يكون الركاز ذهبا، أو عروضا، أو غير ذلك، ونص عليه أحمد. وظاهر كلامه أيضا أن هذا الخمس لا يجب إلا على مسلم، فإنه قال: يصرف لأهل الصدقات. فيكون صدقة، وقد قال: إن الصدقة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين. وكذا قال في التلخيص، إن قلنا: إنه زكاة. لم تجب على الذمي، [وإن قلنا: إنه فيء. وجب عليه، وقدم في المغني أنه يجب على الذمي] ثم قال: ويتخرج أن لا يجب عليه بناء على أنه زكاة، قال: والأول أصح.
«تنبيه» : العجماء: الدابة، والجبار: الهدر، يعني أن الدابة إذا أتلفت شيئا فلا شيء فيه، وهذا له موضع يذكر فيه إن شاء الله تعالى، وكذا المعدن والبئر إذا تلف بهما أجير فلا شيء فيه، والله أعلم.
قال: وإذا أخرج من المعادن [من الذهب] عشرين مثقالا، أو من الورق مائتي درهم، أو قيمة ذلك من الرصاص، أو الزئبق أو الصفر، أو غير ذلك مما يستخرج من الأرض، فعليه الزكاة من وقته والله أعلم.(2/509)
ش: المعادن جمع معدن بكسر الدال، قال الأزهري: سمي معدنا لعدون ما أنبته الله سبحانه وتعالى فيه، أي لإقامته يقال: عدن بالمكان، يعدن عدونا، والمعدن المكان الذي عدن فيه الجوهر من جواهر الأرض، أي ذلك كان. انتهى، وصفة المعدن الذي تتعلق به الزكاة ما يخرج من الأرض، مما يخلق [فيها] من غيرها، سواء كان أثمانا أو غيرها، ينطبع أو لا ينطبع، لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] والأصل في وجوب الزكاة فيه في الجملة هذه الآية الكريمة.
1247 - وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد، أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية» ، وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها [إلا] الزكاة إلى اليوم. رواه أبو داود، ومالك في الموطأ. قال أبو عبيد:(2/510)
القبلية بلاد معروفة في الحجاز.
وإنما تجب الزكاة إذا أخرج نصابا من الذهب، أو الفضة، أو ما يبلغ أحدهما من غيرهما، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ليس عليك شيء [يعني] في الذهب، حتى يكون لك عشرون دينارا وإنما لم يلحق بالركاز لأن الركاز مال كافر، أشبه الغنيمة، وهذا وجب مواساة، وشكرا لنعمة الغنى، فاعتبر له النصاب كسائر الأموال، ولا يعتبر له الحول كما تقدم، ولأنه مستفاد من الأرض، أشبه الزروع والثمار، وقدر الواجب فيه ربع العشر، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» ولأن الواجب زكاة، بدليل قصة بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإذا كان زكاة كان الواجب فيه ربع العشر بلا ريب، وإنما ترك(2/511)
الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم - التنبيه على ذلك اكتفاء بذكر نصاب الذهب والفضة، إذ بذلك ينتبه الناظر، على أن الواجب فيه كالواجب فيهما.
وقد شمل كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ - ما أخرجه من أرض مباحة، أو مملوكة، وهو صحيح، وشمل أيضا] الإخراج على أي صفة كان، وقد شرط الأصحاب في الإخراج أن يخرجه في دفعة أو دفعات، لم يترك العمل بينهما ترك إهمال، والله سبحانه أعلم.
[باب زكاة التجارة]
ش: الأصل في وجوب زكاة التجارة عموم قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] الآية وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] .
1248 - وروى سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أما بعد «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع» . رواه أبو داود.(2/512)
1249 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة. رواه البيهقي. مع أن ذلك قد حكاه ابن المنذر إجماعا، وإن كان قد حكي فيه خلاف شاذ عن داود ونحوه، والله أعلم.
قال: والعروض إذا كانت للتجارة قومها إذا حال [عليها] الحول وزكاها.
ش: العروض جمع عرض بسكون الراء، ما عدا الأثمان، كأنه سمي بذلك لأنه يعرض ليباع ويشترى، تسمية للمفعول باسم المصدر، كتسمية المعلوم علما. والحكم الذي حكم به الخرقي، وجوب الزكاة في عروض التجارة، وقد تقدم [دليل] ذلك، واشترط لذلك حولان الحول.
1250 - وذلك لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» [وظاهر] إطلاق الخرقي يقتضي [وجوب] الزكاة لكل حول، وهو كذلك، خلافا لمالك في اقتصاره على وجوب الزكاة في الحول الأول.(2/513)
وقوله: قومها، إشعار بأنه لا يعتبر ما اشتريت به، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وفيه إشارة بأن الزكاة تجب في القيمة لا في العين، وأن الإخراج يكون منها.
وقوله: إذا كانت للتجارة. صيرورتها للتجارة بأن يملكها بفعله، بنية التجارة بها، ولا يشترط أن يملكها بعوض على الأصح، فلو ملكها بغير فعله - كأن ملكها بإرث - أو بفعله لكن لم ينو التجارة بها لم تصر للتجارة، وكذا إن ملكها بفعله لكن بلا عوض كأن اتهبها، أو غنمها على وجه، نعم لو نواها للتجارة بعد ففيه روايتان يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
«تنبيه» : وقدر الواجب ربع العشر بلا نزاع، والله أعلم.
قال: ومن كانت له سلعة للتجارة، ولا يملك غيرها، وقيمتها دون المائتي درهم، فلا زكاة عليه حتى يحول [عليه] الحول من يوم ساوت مائتي درهم.
ش: يشترط لوجوب الزكاة فيما أعد للتجارة أن تبلغ قيمته نصابا [بلا نزاع، ويعتبر وجود النصاب في جميع الحول كالأثمان، فعلى هذا لو كانت عنده سلعة للتجارة لا تبلغ قيمتها نصابا] فلا زكاة فيها حتى تبلغ قيمتها نصابا، فينعقد عليها الحول إذا على المذهب، حتى جعله [جماعة] رواية(2/514)
واحدة، وقيل عنه إذا كمل النصاب بالربح، فحوله [من] حين ملك الأصل كالماشية في رواية.
وقوله: ومن كانت له سلعة للتجارة ولا يملك غيرها، احترازا مما إذا ملك غيرها من الدراهم أو الدنانير، فإنه يضم إليها، فإن بلغا نصابا انعقد الحول عليهما، وإلا فلا.
وقوله: ساوت مائتي درهم؛ وكذا إذا ساوت عشرين مثقالا، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: وتقوم السلع إذا حال عليها الحول بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق، ولا يعتبر ما اشتريت به.
ش: لأنه قد وجب تقويمه لحق المساكين شرعا، فاعتبر الأحظ لهم، كما لو اشترى سلعة بعرض فحال عليها الحول ولها نقدان مستعملان، فإنها تقوم بما هو أحظ للمساكين، [فكذلك ههنا] فعلى هذا إذا بلغت قيمتها نصابا بالدراهم دون الدنانير قومت به، وإن كان اشتراها بالدنانير، وكذلك بالعكس، فإن بلغت بكل منهما نصابا، قومت بالأحظ منهما أيضا للفقراء عند القاضي، وأبي محمد في الكافي، وصاحب التلخيص وغيرهم.
وقال في المغني: تقوم بأيهما شاء، لكن الأولى أن تقوم بنقد البلد، والله أعلم.(2/515)
قال: وإذا اشتراها للتجارة، ثم نواها للاقتناء، ثم نواها للتجارة، فلا زكاة فيها حتى يبيعها، فيستقبل بثمنها حولا.
ش: أما إذا اشتراها للتجارة ثم نواها للاقتناء، فلا إشكال في انقطاع الحول، وسقوط الزكاة، لأنه نوى ما هو الأصل وهو القنية، فوجب اعتباره، كما لو نوى المسافر الإقامة، فإذا عاد فنواها للتجارة لم تصر للتجارة، على أنص الروايتين، [وأشهرهما] واختارها الخرقي، والقاضي، وأكثر الأصحاب، لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله، لا يصير محلا لها بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى فيها السوم.
(والثانية) : تصير للتجارة اختارها أبو بكر، وابن أبي موسى، وابن عقيل، وأبو محمد في العمدة، لعموم حديث سمرة المتقدم، ولأنها تصير للقنية بمجرد النية، فكذا للتجارة بل أولى، تغليبا للإيجاب، وفرق بأن القنية هي الأصل، فالنية ترد إليها، بخلاف التجارة، فعلى الأولى لا زكاة حتى يبيع العرض فيستقبل بثمنه حولا، والله أعلم.(2/516)
قال: وإذا كان في ملكه منصب للزكاة، فاتجر فيه، أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال [عليه] الحول، والله أعلم.
ش: حول النماء في التجارة حول الأصل، إذ لو اعتبر لكل جزء حول لأفضى ذلك إلى حرج ومشقة، وهما منتفيان شرعا، ولأنه نماء جار في الحول، تابع لأصله في الملك، فضم إليه في الحول كالنتاج، ودليل الأصل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم. والله سبحانه أعلم.
[باب زكاة الدين والصدقة]
ش: الصدقة بفتح الصاد وضم الدال، لغة في الصداق بفتح الصاد وكسرها، وفيه لغتان أخريان، صدقة بسكون الدال، مع فتح الصاد وضمها، والله أعلم.
قال: وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه.
ش: قد تقدمت هذه المسألة مبسوطة في باب زكاة الزروع(2/517)
[والثمار] ، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون الدين لآدمي أو لله تعالى كالكفارة ونحوها، وفي دين الله تعالى حيث منع دين الآدمي [روايتان أصحهما أنه كدين الآدمي. (والثانية) : لا يمنع وإن منع دين الآدمي] ، ومبنى ذلك عند القاضي وأتباعه على أن الدين هل يمنع وجوب الكفارة؟ وفيه روايتان، فإن قيل: [يمنع. لم تمنع الكفارة ونحوها الزكاة، لضعفها عن الدين، وإن قيل] : لا يمنع. منعت الكفارة الزكاة، لأنها إذا أقوى من الدين، وإذا منع الضعيف فالقوي [من باب] أولى. واختلف في الخراج، فقال القاضي وغيره هو من ديون الله تعالى وقال أبو العباس: بل من ديون [الآدميين] ، كديون بيت المال، والزكاة دين الله تعالى، فيمنع الزكاة عند الأكثرين، كالكفارة، وعند ابن عقيل، وصاحب التلخيص: لا يمنع. قالا: لأن الشيء لا يمنع مساويه، والله أعلم.
قال: وإذا كان له دين على مليء فليس عليه زكاة حتى يقبضه، فيؤدي لما مضى.
ش: دل كلام الخرقي على مسائل: (إحداها) : أن الزكاة(2/518)
تجب في الدين على المليء، وهذا مقتضى ما روي عن علي، وعائشة، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما سيأتي، وذلك لعموم النصوص «في الرقة ربع العشر» «فإذا كان لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار» ونحو ذلك، ولأنه مال ممكن الاستيفاء، تام الملك، فوجبت فيه الزكاة، كبقية الأموال. (المسألة الثانية) : أنه لا يجب أداء الزكاة حتى يقبض، فيؤدي عنه إذا، على المذهب المعروف المنصوص، إذ الزكاة مواساة، وليس من المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه.
1251 - وقد روى أحمد بسنده عن عائشة وعلي [وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] أنهم كانوا لا يرون في الدين زكاة حتى يقبض. ذكر ذلك أبو بكر. وحكى الشيرازي رواية أخرى أن الأداء يجب قبل القبض، لأنه نصاب مقدور على أخذه بالطلب، أشبه الوديعة. (المسألة الثالثة) : أنه إذا قبض زكي لما مضى من الأحوال، على المذهب المشهور أيضا، لأنه في جميع الأحوال على حال [واحد] فترجيح بعضها بالوجوب [ترجيح] بلا(2/519)
مرجح، وقيل عنه (رواية أخرى) أن الزكاة تجب لحول واحد فقط.
وقوله: على مليء. أي بماله وقوله وبدنه. فيخرج منه المعسر، والجاحد، والمماطل، والحكم في ذلك كالحكم في المال المغصوب على ما سيأتي.
وشمل كلام الخرقي المؤجل، وبه قطع صاحب التلخيص، وأبو محمد في كتابيه، معتمدا على أنه ظاهر كلام أحمد، وفي بعض نسخ المقنع إجراء روايتي الدين على المعسر فيه، وهي طريقة القاضي والآمدي، وفرق بأن الأجل ثابت باختياره، وله في التأخير فائدة، فأشبه ما لو دفعه إلى آخر مضاربة.
وقوله: حتى يقبضه. لا مفهوم له، بل لو قبض البعض زكى بحسابه على المذهب، وقيل: إن قبض دون نصاب فلا شيء عليه إلا أن يكون بيده ما يتمه به، والله أعلم.
[زكاة المال المغصوب]
قال: وإذا غصب مالا زكاه إذا قبضه لما مضى، في إحدى الروايتين [عن أبي عبد الله] والرواية الأخرى قال: ليس هو كالدين الذي [متى] قبضه زكاه لما مضى، وأحب [إلي] أن يزكيه.(2/520)
ش: الرواية الأولى نقلها مهنا، و [أبو] الحارث، واختارها القاضي، وأبو بكر وأبو الخطاب، وابن عقيل، وابن عبدوس، وأكثر الأصحاب، لعموم ما تقدم في التي قبلها، والمنع [من] التصرف لا أثر له، بدليل المال المرهون. (والرواية الثانية) : نقلها إبراهيم بن الحارث وغيره، واختارها أبو محمد في العمدة، إذ الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، بدليل أنها لا تجب إلا في مال نام، فلا تجب في العقار ونحوه، وحقيقة النماء ومظنته منتفية ههنا، لعدم القدرة على التصرف.
1252 - وقد روي عن عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: لا زكاة في مال الضمار. وهو المال الذي لا يعرف مالكه(2/521)
موضعه. (وفي المذهب رواية ثالثة) : أن ما لا يؤمل رجوعه - كالمسروق، والمغصوب، والمجحود - لا زكاة فيه، وما يؤمل رجوعه - كالدين على المفلس، أو الغائب المنقطع خبره - فيه الزكاة. قال أبو العباس: وهذه أقرب إن شاء الله تعالى، (وفيه رواية رابعة) : أن الذي عليه الدين إن كان يؤدي زكاته فلا زكاة على ربه، وإلا فعليه الزكاة؛ [نص عليه في المجحود] حذارا من وجوب زكاتين في مال واحد.
«تنبيه» : وكذا الخلاف في المال المسروق، والضال، والدين على معسر [أو جاحد] أو مماطل ونحو ذلك، والله أعلم.
[زكاة المال الملتقط]
قال: واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولا ثم زكاها.
ش: إنما تصير اللقطة كسائر مال الملتقط إذا كانت مما يملك بعد الحول، على ما سيأتي [إن شاء الله تعالى] وإذا يستقبل بها حولا، فإذا مضى الحول زكاها، ولا يحتسب بحول التعريف، لعدم الملك إذا، وهذا منصوص أحمد، لأنه ملكها ملكا تاما، فوجبت فيها الزكاة كبقية أمواله، وكون لمالكها انتزاعها إذا عرفها لا يضر، بدليل ما وهبه الأب لابنه، وعن القاضي: لا زكاة فيها، نظرا إلى أنه ملكها مضمونة عليه(2/522)
بمثلها أو قيمتها، فهي دين عليه في الحقيقة، وكذلك عن ابن عقيل، [لكن] نظر إلى عدم استقرار الملك فيها، ورد الأول بأن البدل إنما يثبت بظهور المالك، والثاني بما وهبه الأب لابنه، والله أعلم.
قال: فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها.
ش: هذه صورة من صور المال الضال، وقد تقدم الخلاف فيه، وأن المذهب وجوب الزكاة، ولو لم يملكها الملتقط بعد الحول زكاها مالكها لجميع الأحوال على المذهب، والله أعلم.
[زكاة صداق المرأة]
قال: والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى.
ش: ينعقد الحول على الصداق على المذهب المشهور المعروف، حتى أن القاضي جعله في التعليق رواية واحدة [وذلك لعموم ما تقدم في غيره من الديون] (وقيل عنه) : لا ينعقد، لأن الملك فيه غير تام، إذ هو بصدد أن يسقط أو يتنصف، وقيل: محل الخلاف فيما قبل الدخول، فعلى المذهب إن كان الصداق على مليء زكي عند القبض لما مضى، وإن كان على غير مليء جرى فيه الخلاف السابق، هذا كله إن كان الصداق في الذمة، أما إن كان معينا - كأن أصدقها هذه الخمس من الإبل ونحو ذلك - فإن الحول(2/523)
ينعقد عليها من حين الملك بلا ريب، نص عليه أحمد، وقال القاضي: رواية واحدة، ولو لم تقبض الصداق فإن كان لجحد [الزوج] أو فلسه ونحو ذلك فلا شيء على المرأة، إذ لا مواساة مع انتفاء القبض، وكذلك ما سقط لطلاق الزوج، إذ لا صنع لها في ذلك، أما إن سقط لفسخها فاحتمالان (الوجوب) ، لأنه سبب من جهتها (وعدمه) لعدم تصرفها، ومن هنا اختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا وهبت المرأة [زوجها] صداقها، (فعنه) - وهو الصحيح عند القاضي - عليها زكاته، وعلله أحمد بأنه كان في ملكها، يعني وقد تصرفت فيه بالهبة، فأشبه ما لو أحالت به أو قبضته، (وعنه) : الزكاة على الزوج، لأنه ملك ما ملك عليه قبل قبضه منه، فكأنه لم يزل [ملكه] عنه، ولأبي محمد في الكافي احتمال بنفي الزكاة عنهما، المبرئ لعدم قبضه، والمدين لأن ذلك سقط عنه فلم يملكه، والله أعلم.
قال: والماشية إذا بيعت بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل البائع بها حولا، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، لأنه تجديد ملك، والله أعلم.(2/524)
ش: هذا مبني على أصل، وقد أشار إليه الخرقي، وهو أن البيع ينقل الملك إلى المشتري بمجرد العقد، إن لم ينقض الخيار، على المشهور من الروايتين.
1253 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» جعله للبائع بمجرد البيع. (والرواية الثانية) لا ينتقل الملك إلا بانقضاء مدة الخيار، فعلى الأولى إذا كان المبيع مما تجب فيه الزكاة فقد انتقل الملك فيه بمجرد العقد، فينقطع حول البائع، فإذا رد عليه فقد تجدد له الملك بعد زواله، فيستقبل به حولا، وعلى الرواية الأخرى الملك باق له، فكذلك الحول، وقول الخرقي: إذا بيعت بالخيار، وكذلك لو ردت في مدة خيار المجلس، والله أعلم.
[باب زكاة الفطر]
ش: [هذا] من باب إضافة الشيء إلى سببه، إذ سبب وجوبها الفطر من رمضان، أما «الفطرة» فكلمة مولدة، وقد عدها بعضهم مما يلحن فيه العامة، وإن كان قد استعمل كثيرا من كلام الفقهاء وغيرهم.
والأصل في وجوبها قيل: قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] .
1254 - فعن سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز أنها زكاة الفطر.(2/525)
1255 - والمعتمد في الوجوب على ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة» . متفق عليه واللفظ للبخاري.
ودعوى أن: فرض. بمعنى: قدر. مردود بأن كلام الراوي - لا سيما الفقيه - محمول على الموضوعات الشرعية.
1256 - وبأن في الصحيح أيضا في حديثه: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير» . قال عبد الله: فجعل الناس مكانه مدين من حنطة، واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في زكاة الفطر هل تسمى فرضا؟ على روايتين، مبناهما على أنه لا يسمى فرضا إلا ما ثبت في الكتاب، وما ثبت بالسنة يسمى واجبا، أو أن كل ثابت وإن كان بالسنة يسمى فرضا، والله أعلم.
[حكم زكاة الفطر]
قال: وزكاة الفطر واجبة على كل حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين.(2/526)
ش: هذا نص رواية ابن عمر المتقدم، فاعتمد الخرقي عليها، وكفى بذلك معتمدا، وقد دخل في الحديث - وفي كلام الخرقي - اليتيم، فتجب في ماله، وخرج الكافر، وإن كان عبدا، أو صغيرا [وفي المذهب وجه أنها لا تجب على من لم يكلف بالصوم، نظرا إلى أنها طهرة للصائم كما ورد، ومن لا يكلف بصوم، لا حاجة إلى تطهير صومه] .
«تنبيه» : لو هل هلال شوال على عبد مسلم ملكا لكافر فهل تجب على سيده الكافر فطرته؟ فيه وجهان، مبناهما على أن السيد هل هو متحمل أو أصيل؟ فيه قولان، إن قلنا: إنه متحمل وجبت عليه، وإن قلنا: أصيل، لم تجب عليه، والله أعلم.
[مقدار زكاة الفطر]
قال: صاع بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي، من كل حبة وثمرة تقتات.
ش: الواجب في الفطرة صاع، لما تقدم من حديث ابن عمر.
1257 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من أقط، فلم نزل نخرجه حتى كان معاوية، فرأى أن مدين من بر تعدل صاعا من تمر. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه(2/527)
ما عشت. متفق عليه، (وخرج) إجزاء نصف صاع بر كما في الكفارات، ويشهد له فعل معاذ.
1258 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث مناديا في فجاج مكة «ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه صاع من طعام» رواه الترمذي انتهى. والصاع(2/528)
بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسة أرطال وثلث، لما تقدم في باب زكاة الزروع.
وصفة المخرج أن يكون من كل حبة وثمرة تقتات على قول الخرقي، وأبي بكر، إذ المتفق عليه في الحديث بلا ريب البر، والشعير، والتمر، والزبيب، [وذلك حب أو ثمرة تقتات] فاعتبر ما شابهها في الوصفين، ولم يعتبر ابن حامد، وصاحب التلخيص إلا القوتية فقط.
1259 - نظرا إلى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» وبالقوت يحصل الغنى لا بغيره، ولأن الشارع قد نص على الأقط، وليس بحب، ولا ثمر، فعلى هذا يجزئ اللحم وإن كان سمكا، واللبن ونحو ذلك لمن كان قوته، وعلى الأول لا يجزئ ولأبي الحسن ابن عبدوس [احتمال] أنه لا يجزئ غير الخمسة المنصوص عليها، وتبقى الفطرة عند عدمها في ذمته، والله أعلم.
قال: وإن أعطى أهل البادية الأقط صاعا أجزأ إذا كان قوتهم.(2/529)
[ش: نقل بكر بن محمد، وحنبل عن أحمد ما] يدل على أن الأقط أصل بنفسه، فقال: - وقد سئل عن صدقة الفطر - صاع من شعير، أو تمر، أو أقط، أو زبيب، أو حنطة. فعلى هذا يجزئ مع وجود الأربعة المذكورة وإن لم يكن قوته، وهذا اختيار أبي بكر، وجزم به ابن أبي موسى، والقاضي وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل، وابن عبدوس، وابن البنا، والشيرازي وغيرهم.
1260 - لأن في رواية النسائي - في حديث أبي سعيد المتقدم - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط» . مع أن اقترانه بالأربعة في الروايات الصحيحة، مشعر بأنه كهي.
ونقل عنه ابن مشيش [ما يدل على أنه بدل، فقال في رواية ابن مشيش] : إذا لم يجد التمر فأقط، هذا نقل القاضي في روايتيه، ولفظه في تعليقه عن ابن مشيش: إذا أعطى الأعرابي صاعا من البر أجزأ عنه، والأقط أعجب إلي، على حديث أبي سعيد؛ ونحو هذا اللفظ نقل حنبل، وبكر بن محمد، وهذا لا يعطي رواية، إنما يدل على أن الأقط لأهل البادية أفضل، لكن أبا الخطاب في الهداية، وصاحب التلخيص والشيخين، وغيرهم، على حكاية رواية البدلية، وذلك لأنه [لا] يجزئ في الكفارة، أشبه اللحم، والمشهور من رواية أبي سعيد: كنا(2/530)
نخرج. وقد يكون ذلك لكونه قوتهم، واختلف الحاكون لهذه الرواية، فقال صاحب التلخيص، وأبو محمد، تبعا لأبي الخطاب: لا يجزئ إلا عند عدم الأربعة. وقال أبو البركات: لا يجزئ إلا لمن هو قوته. وظاهره: وإن وجدت، وهذا مقتضى قول الخرقي، وإنما ذكر أهل البادية نظرا إلى الغالب. انتهى، فعلى الأول - وهو المذهب - في إجزاء اللبن والجبن وجهان.
«تنبيه» : الأقط فيه أربع لغات، تثليث الهمزة مع سكون القاف، وفتح الهمزة مع كسر القاف، وهو شيء يعمل من اللبن المخيض، وزعم ابن الأعرابي أنه يعمل من ألبان الإبل [خاصة، والله أعلم.
قال: واختيار أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - إخراج التمر.(2/531)
ش: أفضل الخمسة المنصوص عليها التمر، وإن كان قوت] البلد غيره، نص عليه أحمد في رواية أبي داود، وظاهر إطلاقه: وإن كان غيره أعلى [منه] قيمة، وصرح به القاضي، لما تقدم من حديث ابن عمر، فإنه لم يذكر البر فيما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ذكر التمر والشعير، ثم هو راوي الحديث، وقد كان يواظب على إخراج التمر.
1261 - ففي النسائي، والموطأ، وغيرهما أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا، وفي لفظ: فأعوز أهل المدينة التمر عاما، فأعطى الشعير.
1262 - وقد روى الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقا، وأنا أحب أن أسلكه. وظاهر هذا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يداومون على إخراجه، ولأنه ساوى غيره في القوتية، وزاد عليه بالحلاوة، وقرب التناول. وحكى ابن حمدان [رواية] أن الأقط أفضل لمن هو قوته، ولعل(2/532)
يعتمدها رواية ابن مشيش ونحوها المتقدمة، وهي إنما تعطي أنه أفضل من البر.
واختلف في الأفضل بعد التمر، فعند الأكثرين الزبيب، ثم البر، ثم الشعير، لأنه يساوي التمر في القوتية، والحلاوة، وقرب التناول، فألحق به، وإنما قدم التمر عليه لاتفاق الأحاديث [عليه] ولمداومة الصحابة [عليه] ولأنه أقوى في القوتية، وعند أبي محمد في كتابيه: الأفضل بعد التمر البر، لأنه أبلغ في الاقتيات، فيكون أوفق لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» وأفضل، ولهذا جعل معاوية مدا منه يعدل مدين، وإنما عدل عنه إلى التمر لفعل الصحابة، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل، وله احتمال في المغني أن الأفضل بعد البر ما كان أغلى قيمة، وأكثر نفعا، وهو ظاهر قوله في المقنع، وقد تقدم نص أحمد أن الأقط لمن هو قوته أفضل من البر، والله أعلم.
قال: ومن قدر على البر أو التمر، أو الشعير أو الزبيب أو الأقط فأخرج غيره لم يجزئه.(2/533)
ش: هذا هو المذهب المعروف المشهور لظاهر حديث ابن عمر وأبي سعيد، إذ ظاهرهما أنه لم يفرض غير ذلك، فالعدول عن ذلك عدول عن المنصوص عليه، أشبه ما لو عدل إلى القيمة، وخرج أبو بكر قولا آخر أنه يعطي ما قام مقام الخمسة على ظاهر الحديث «صاعا من طعام» ، والطعام قد يكون برا أو شعيرا، أو ما دخل فيه الكيل، ويجاب بأنه قد جاء «صاعا من بر» مكان «طعام» ، فدل على أن المراد بالطعام البر.
وقد دل كلام الخرقي على أنه متى أخرج التمر ونحوه أجزأه، وإن كان القوت في غيره، ودل على أن ما تقدم من قوله: (من كل حبة وثمرة تقتات) أنه مع عدم الخمسة.
وقد يقال: إن ظاهر كلامه أنه لا يجزئ الدقيق ولا السويق مع وجود أصليهما، لأن الروايات الصحيحة ليسا فيها والمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إجزاؤهما.
1263 - لأن سفيان بن عيينة ذكر في حديث أبي سعيد «أو صاعا من(2/534)
دقيق» وهو ثقة فتقبل زيادته، وقد اعتمد أحمد على ذلك في رواية مهنا، فقال: سفيان بن عيينة يقول: عن محمد بن عجلان، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد [يقول: دقيقا. قلت له: أي شيء مذهبك في هذا؟ فقال: حديث عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» ولا ريب أن الغنى يحصل بالدقيق أكثر من الزبيب ونحوه، وقال ابن أبي موسى: لا يجزئ السويق، لأنه خرج عن الاقتيات لعموم الناس، بخلاف الدقيق.
«تنبيه» يعتبر صاع الدقيق [والسويق] بوزن حبهما، ولا يشترط نخل الدقيق، والله أعلم.
[إخراج القيمة في زكاة الفطر]
[قال: ومن أعطى القيمة لم تجزئه] .
ش: نص على هذا أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - معتمدا على قول ابن(2/535)
عمر: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الحديث، ومن دفع القيمة لم يعط ما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1264 - وعن معاذ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له حين بعثه إلى اليمن: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر» رواه أبو داود، وظاهره وجوب ذلك، والله أعلم] .
[وقت إخراج زكاة الفطر]
قال: ويخرجها إذا خرج إلى المصلى.
ش: لا إشكال في مطلوبية إخراج زكاة الفطر عند الخروج إلى صلاة العيد تحقيقا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» .
1265 - لأن في البخاري في حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر. الحديث وقال فيه: وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» ، ولمسلم: «أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» ، ولأبي داود: وكان ابن عمر يؤديها قبل خروج الناس إلى الصلاة. أما إن قدمها على ذلك فسيأتي [بيان ذلك] إن شاء الله تعالى، فإن أخرها عن الصلاة ففي بقية اليوم تجوز، وتقع إذا، لحصول الغنى في ذلك اليوم، لكن(2/536)
يكره ذلك عند أبي محمد، لعدم حصول الغنى في جميع اليوم، ولم يكرهه القاضي، وشدد بعض الأصحاب فجعلها بعد الصلاة قضاء لظاهر ما تقدم.
1266 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» . رواه أبو داود، وبعد يوم العيد يأثم، وهي قضاء بلا ريب. والله أعلم.
قال: وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه.
ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أصحابه، لا أعلمهم يختلفون في ذلك.
1267 - لأن [في] حديث ابن عمر في الصحيح: «وكانوا يعطون قبل العيد بيوم أو يومين» .(2/537)
وهذا إشارة إلى جماعتهم، فيكون كالإجماع، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» لا يدفع ذلك، إذ ما قارب الشيء أعطي حكمه.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز تقديمها أكثر من ذلك وهو المذهب بلا ريب، إذ ظاهر الأمر بأدائها قبل الصلاة، والإغناء عن السؤال في يوم العيد، ونحو ذلك [يقتضي] أن لا يجوز التقديم مطلقا، خرج منه التقديم باليوم واليومين لما تقدم فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل، (وقيل عنه) : يجوز تقديمها بثلاث.
1268 - لأن في رواية الموطأ أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. (وقيل عن أحمد) : رواية ثالثة: يجوز تقديمها بعد نصف الشهر، كما يجوز تقديم أذان الفجر بعد نصف الليل. (وفي المذهب قول رابع) : تجوز من أول الشهر، لدخول سبب الوجوب، أشبه تقديم زكاة المال بعد النصاب، وقبل تمام الحول الذي به الوجوب، والدليل على أن الصيام سبب الوجوب قول ابن عباس المتقدم: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرة للصائم» الحديث.(2/538)
1269 - وفي الصحيح في حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر من رمضان» . فأضافها إلى الفطر من رمضان.
1270 - وفي سنن أبي داود، والنسائي عن الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خطب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في آخر رمضان، على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم. انتهى وفرق بين هذا وبين صدقة المال، بأنه إذا خرج هنا من أول الشهر لم يحصل المقصود الذي قصده الشارع بالإغناء عن السؤال في يوم العيد، بخلاف ثم.
«تنبيه» : وقت الوجوب [على الصحيح المنصوص] يدخل بغروب شمس آخر يوم من رمضان، على الصحيح [المنصوص] المشهور من الروايتين، لما تقدم من حديث ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[صدقة الفطر من رمضان» ، «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر،(2/539)
طهرة للصائم» والفطر من رمضان في الحقيقة يحصل بغروب الشمس من آخر] يوم من رمضان، فوجب أن يتعلق الوجوب به « [والرواية] الثانية» تجب بطلوع فجر يوم العيد، لأن الفطر من رمضان على الإطلاق [يقع] على يوم الفطر.
1271 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فطركم يوم تفطرون» فأضاف الفطر على الإطلاق إلى اليوم.
1272 - «ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يومين «يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» ، ورد بأن الفطر في الحقيقة إنما هو بخروج وقت الصوم كما تقدم، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطر يوم تفطرون» أي الفطر بالنهار يوم تفطرون.
وينبني على ذلك أنه لو ملك عبدا، أو ولد له ولد، أو تزوج(2/540)
أو أسلم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وجب عليه له ولهم وبعد طلوع فجر يوم العيد لا تجب، وفيما بينهما الروايتان، ولو كان معسرا فأيسر قبل الغروب وجبت، [وبعد طلوع الفجر لا تجب، وفيما بينهما الخلاف.
(وعنه) رواية أخرى: إن أيسر يوم العيد وجبت] : اختارها أبو العباس، لحصول اليسار في وقت الوجوب، فهو كالمتمتع إذا قدر على الهدي يوم النحر، (وعنه) إن أيسر في أيام العيد وجبت، وإلا فلا، فيحتمل أن يريد أيام النحر، ويحتمل أن يريد الستة من شوال، لأنه قد نص في رواية أخرى أنه إذا قدر بعد خمسة أيام يخرج (وعن أحمد) رواية أخرى: تبقى في ذمته ككفارة الظهار ونحوها، والأول اختيار الأكثرين، والله سبحانه أعلم.
قال: ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله، إذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته.
ش: يلزمه أن يخرج عن نفسه بلا ريب، والأحاديث صريحة بذلك، وعن عياله وهم من يمونه.
1273 - لأنه يروى في بعض طرق حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفطر عن كل صغير، وكبير، حر وعبد، ممن تمونون» . رواه الدارقطني.(2/541)
1274 - ولإطلاق قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» ويشترط في وجوبها أن يكون عنده فضل عن قوت يوم العيد وليلته، لأن صاحب الشرع أمر بإغناء السؤال في يوم العيد، ومن لم يكن عنده فضل عن قوت يوم العيد هو أحق بإغناء نفسه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك» أما إن فضل عنده فضل فيلزمه الإخراج، وإن لم يملك نصابا، لأنه قد حصل له غناء هذا اليوم، فاحتمل ماله المواساة.
1275 - ولعموم حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[زكاة الفطر] صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين» .(2/542)
1276 - وعن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زكاة الفطر صاع من بر، أو قمح، عن كل صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه» رواه أبو داود، وقال أحمد في رواية حنبل: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [صدقة الفطر] على الغني والفقير» . وظاهر هذا صحة هذا الحديث [عنده] (وقد دخل) في كلام الخرقي زوجته، وعبده ووالداه وولده، وكل من تلزمه نفقته، لأنهم في عياله، وحكمهم في التقديم يأتي في النفقات إن شاء الله تعالى، (ودخل) في كلامه [كل] من تبرع بمؤنته في شهر رمضان،(2/543)
فإنه تلزمه فطرته، لأنه قد مانه حقيقة فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ممن تمونون» وهذا منصوص أحمد، وقول عامة أصحابه، وخالفهم أبو الخطاب في الهداية، وتبعه أبو محمد، فقالا: فطرته على نفسه. وجعلا الاعتبار بلزوم المؤنة، وحكى ذلك ابن حمدان رواية، (فعلى الأولى) تعتبر المؤنة في جميع الشهر على المشهور، وقال ابن عقيل: قياس المذهب أنه إذا مانه آخر ليلة وجبت فطرته، كما لو ملك عبدا عند الغروب، فلو مانه جماعة فعلى قول ابن عقيل فطرته على من مانه آخر ليلة، وعلى المشهور هل تجب على جميعهم بالحصص، لاشتراكهم في سبب الوجوب، أو لا تجب عليهم، لأن الوجوب على كل واحد منوط بمؤنة جميع الشهر ولم يوجد؟ فيه احتمالان.
«تنبيه» : يعتبر مع كفاف يوم العيد وليلته سد حوائجه(2/544)
الأصلية، من دار يسكنها، ودابة يحتاج إلى ركوبها، وثياب يتجمل بها ونحو ذلك، على ما قاله صاحب التلخيص، وأبو محمد وغيرهما، وأورد ابن حمدان المذهب بعدم اعتبار ذلك، ولعله ظاهر كلام الخرقي، والله أعلم.
قال: وليس عليه في مكاتبه زكاة.
ش: لأنه لا يمونه، فلا يدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ممن تمونون» ولأنه لا يلزمه مؤنته، فأشبه الأجنبي.
قال: وعلى المكاتب أن يخرج عن نفسه زكاة الفطر.
ش: لأنه تلزمه نفقة نفسه، فلزمه فطرتها كالحر، والله أعلم.
قال: وإذا ملك جماعة عبدا أخرج كل واحد منهم صاعا، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى صاعا عن الجميع.
ش: تجب فطرة العبد المشترك على مواليه، نص عليه أحمد، لعموم ما تقدم من الأحاديث (ثم هل على الجميع صاع) يقسم بينهم على قدر حصصهم، وهو الظاهر عن أحمد، بل قيل: إنه الذي رجع إليه آخرا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب على كل واحد صاعا، ولم يفرق بين مشترك وغيره، ولأن الفطرة تتبع النفقة، والنفقة تقسم عليهم بالحصص، فكذلك(2/545)
الفطرة (أو على كل [واحد] صاع) وهو اختيار أبي بكر. قال القاضي والخرقي: لأنها طهرة، فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء، ككفارة القتل؟ فيه روايتان، والله أعلم.
[مصارف زكاة الفطر]
قال: ويعطي صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطي صدقة الأموال.
ش: لأنها صدقة، فتدخل تحت قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . الآية، وتحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمعاذ: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» إلى غير ذلك. ويمنع منها من يمنع من صدقة الأموال كالذمي، والعبد، والزوجة، والولد ونحوهم، لأنها صدقة واجبة، فحكم عليها بما يحكم على بقية الصدقات، والله أعلم.
قال: ويجوز أن تعطى الجماعة، ما يلزم الواحد.
ش: لإطلاق {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية، مع أن أبا محمد قال: لا أعلم فيه خلافا والله أعلم.(2/546)
قال: ويعطي الواحد ما يلزم الجماعة.
ش: لأنها صدقة واجبة، فجاز أن يدفع للواحد فيها ما يلزم الجماعة كصدقة المال، وقد تقدم الدليل على الأصل، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم.
قال: ومن أخرج عن الجنين فحسن، وكان عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخرج عن الجنين.
1276 - م ش: المشهور المعروف من الروايتين أن إخراج زكاة الفطر عن الجنين مستحب، لفعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يجب، لأن هذا حكم من أحكام الدنيا، فلم يتعلق به كبقية الأحكام. ونقل عنه يعقوب بن بختان وجوبها اتباعا لفعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه آدمي تصح الوصية له وبه، ويرث، أشبه المولود، والله أعلم.
قال: ومن كان في يده ما يخرج صدقة الفطر، وعليه دين مثله، لزمه أن يخرج، إلا أن يكون مطالبا به فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه، والله أعلم.(2/547)
ش: أما مع عدم المطالبة فلتغاير التعلق إذ هذه زكاة بدن، وتلك زكاة مال، ومع الدين قد نقص المال، فلذلك أثر ثم بخلاف هنا، ولأن زكاة الفطر آكد وجوبا من زكاة المال، بدليل وجوبها على الفقير، فلا يلزم من المنع ثم المنع هنا، وأما مع المطالبة فقد وجب الصرف إلى الغريم، فصار وجود المال كعدمه، فيكون معسرا، هذا هو المذهب المجزوم به عند الشيخين وغيرهما، وقيل: لا يمنع الدين مطلقا لما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(2/548)
[كتاب الصيام]
ش: الصيام والصوم مصدر «صام» وفي اللغة: عبارة عن الإمساك، قال الله سبحانه: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] وقال الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي ممسكة عن الصهيل. وفي الشرع: إمساك مخصوص، في وقت مخصوص، [على وجه مخصوص] وهو من أركان الإسلام المعلومة من دين الله تعالى بالضرورة، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] الآية.
1277 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» الحديث إلى غير ذلك من الأحاديث، والله أعلم.
[ما يثبت به هلال رمضان]
قال: وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما طلبوا الهلال.(2/549)
ش: يستحب للناس أن يتراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، احتياطا لصومهم، وحذارا من الاختلاف.
1278 - وقد روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام» . رواه أحمد وأبو داود، والدارقطني وقال: هذا إسناد صحيح. والله أعلم.
قال: فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم.
ش: أي طلب الناس الهلال، فإن رأوه وجب صيامه، وهذا إجماع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وإن لم يروه فإن كانت السماء مصحية [لم يصوموا ذلك اليوم] لأنه (إما يوم شك) وهو منهي عن صيامه.
1279 - قال صلة بن زفر: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه، فأتي بشاة، فتنحى بعض القوم، فقال عمار: من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود، والنسائي،(2/550)
وابن ماجه [والترمذي] وصححه. (أو غير شك) وقد نهي عنه أيضا.
1280 - فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل، فليصم ذلك اليوم» رواه الجماعة.
1281 - وعن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقدموا الشهر، حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ثم تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة» رواه النسائي وأبو داود. وهذا المنع على طريق [الكراهة] عند القاضي وأبي الخطاب، والأكثرين.(2/551)
ولأبي محمد في الكافي احتمال بالتحريم، وهو ظاهر كلام الخرقي، وكلام صاحب التلخيص في يوم الشك [قال: صيام يوم الشك] منهي عنه، وفي صحته مع النهي ما في الصلاة في أوقات النهي. انتهى وهو مقتضى نصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في رواية أبي داود: الشك على ضربين، فالذي لا يصام إذا لم يحل دون منظره سحاب ولا قتر، والذي يصام إذا حال دون منظره سحاب أو قتر، وفي رواية المروذي: سئل عن نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام [يوم] الشك، فقال: هذا إذا كان صحوا لم يصم، وأما إن كان في السماء غيم [صام] . وفي رواية الأثرم: ليس ينبغي أن يصبح صائما إذا لم يحل دون منظر الهلال شيء من سحاب ولا غيره. انتهى وذلك لظواهر النصوص.(2/552)
ويستثنى من المنع النذر، والورد، كمن عادته صوم يوم الخميس فوافق آخر الشهر، أو صوم يوم وفطر يوم للحديث.
«تنبيه» : يوم الشك [قال بعض المتأخرين] : اليوم الذي يتحدث الناس برؤيته ولا يثبت، وحرر القاضي ذلك في تعليقه بأن يكون في الصحو، وزاد عليه: إذا لم يتراء الناس الهلال [حتى جاوز وقت الرؤية أو لم تكن السماء مصحية، وقلنا: لا يجب الصوم] أما إن قلنا بوجوبه فليس بشك [عند القاضي، وهو شك] عند الخلال فيما أظن، وهما روايتان عن أحمد، والله أعلم.
قال: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه، وقد أجزأ إن كان من شهر رمضان.
ش: هذا هو المذهب المشهور، المختار لعامة الأصحاب، الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي وأكثر أصحابه.
1282 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا رأيتموه فصوموا، وإن رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له» متفق عليه. أي فضيقوا له العدد، من(2/553)
قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] الآية أي ضيق عليه رزقه {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] أي يضيق عليه {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] أي ضيق {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] أي لن نضيق عليه. وتضييق العدد، بأن يجعل شعبان تسعة وعشرين.
1283 - ويدل على هذا ما في سنن أبي داود وغيره عن نافع قال: وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له، فإن رؤي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر، أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما، قال: وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب وهو راوي الحديث وأعلم بمعناه فيرجع إلى تفسيره، كما رجع إلى(2/554)
تفسيره في «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» فكان إذا بايع رجلا بشيء مشى خطوات لا سيما وهو من أتبع الناس [للسنة] ، ويجوز أن يكون معنى «فاقدروا له» أي اقدروا طلوعه.
1284 - يدل عليه أن في مسلم وسنن أبي داود في الحديث: «إنما الشهر تسع وعشرون، فإذا رأيتموه فصوموا» ، فقوله: «الشهر تسع وعشرون» كالتوطئة [لقوله] : «فاقدروا له» . أي لا تظنوا أن الشهر ثلاثون، إنما هو تسع وعشرون، فإذا مضى تسع وعشرون وغم عليكم، فاقدروا طلوعه، وهذا معنى الذي قبله، لأنا إذا قدرنا طلوعه، فقد ضيقنا شعبان.
1285 - (فإن قيل) : ففي هذا الحديث في مسلم: «فإن أغمي عليكم فاقدروا ثلاثين» ؛ وفي البخاري: «فأكملوا العدة ثلاثين» .(2/555)
(قيل) : يحمل الأول [على] فضيقوا عدة شعبان، أو قدروا طلوع الهلال، لتصوموا ثلاثين. والثاني [على] فأكملوا عدة رمضان ثلاثين، لأنه أقرب مذكور، فالألف واللام بدل من المضاف إليه، جمعا بين الأدلة.
1286 - ويؤيده أن في الصحيح كما سيأتي إن شاء الله تعالى: «فصوموا ثلاثين» .
1287 - وعلى هذا ما في الصحيحين وغيرهما عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟» قال: لا. قال: «فإذا أفطرت فصم يوما» ، وفي رواية: «يومين» ؛ وسرار الشهر: آخره. سمي بذلك لاستسرار القمر فيه فلا يظهر، محمول على حال الغيم ونحوه. وحديث أبي هريرة: «لا تقدموا رمضان» على الصحو. ليتوافقا [إذ] في حال الغيم لا يعلم أنه تقدم رمضان بيوم ولا يومين، فلا يدخل تحت النهي، ولأن هذا قول جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
1288 - فعن مكحول: أن عمر كان يصوم يوم الشك إذا كانت السماء(2/556)
في تلك الليلة متغيمة، ويقول: ليس هذا بالتقدم، ولكنه بالتحري. رواه أبو حفص بسنده.
1289 - وكانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول إذا غم: لأن أصوم يوما من شعبان، أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان. وقد تقدم عن ابن عمر أنه كان يصوم يوم [الغيم.
1290 - وعلى هذا يحمل ما روي عن أسماء، وأبي هريرة، وعمرو بن العاص، ومعاوية، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من صوم يوم] الشك على وجود الغيم ونحوه، وهؤلاء من أكابر الصحابة، وعلمائهم، وهم رواة أحاديث الباب، فلا يظن بهم مخالفتها، ولا مخالفة ظاهرها، ولأن الصوم في ذمته بيقين، ولا يبرأ منه بيقين إلا بصوم ذلك، كما لو كانت عليه صلاة من يوم لا يعلم عينها، وجب عليه أن يصلي خمس صلوات.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - (رواية ثانية) : لا يصام هذا اليوم، بل(2/557)
ينهى عنه، لأنه يوم شك، وقيل: إن هذا اختيار ابن عقيل، وأبي الخطاب، في خلافيهما، والذي نصره أبو الخطاب في الخلاف الصغير هو الأول، فلعل هذا في الكبير وذلك لما تقدم [من] أنه يوم شك، ويوم الشك منهي عنه لما تقدم، ولما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فإن فيه: عد ثلاثين يوما ثم صام. وحديثي أبي هريرة، وحذيفة، في النهي عن التقدم.
1291 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» رواه البخاري. ولمسلم: «فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» . وقوله في حديث ابن عمر: «فاقدروا له» أي قدروا له عدد ثلاثين حتى تكملوها. يدل عليه بقية الروايات، وكون [التقدير] التضييق ممنوع، إنما هو غير التضييق والتوسيع.
1292 - كما قيل في قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] لا توسع الحلقة ولا تضيقها، ولا ترقق المسامير ولا تغلظها، وفي {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي جعل بقدر لا ينقص، ولا يفضل عن حاجته. وفي(2/558)
{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] أي نضيق عليه. وفعل الصحابة لعله عن اجتهاد وظن، كما ظنه غيرهم.
1293 - ثم قد روي عن بعضهم [وعن غيرهم] خلاف ذلك، والاحتياط في الوجوب إنما يكون فيما علم وجوبه، أما ما شك فيه فلا يجب، وإلا يلزم الوجوب بالشك، وعلى هذا فهل النهي نهي تحريم أو تنزيه على قولين.
ومن نصر الأول قال: لا نسلم أن هذا يوم شك، مع أن عمارا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم ينقل لنا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفظا، فيجوز أن يكون قاله عن اجتهاد، بناء على النهي عن التقدم، وأما حديثا أبي هريرة وحذيفة في التقدم فتقدم الجواب عنهما، وهو غلط من الراوي، وأن سائر الرواة لم يذكروا ذلك، مع أن في المسند ومسلم والنسائي في هذا الحديث: «فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين» ، وفي لفظ لأحمد والترمذي وصححه، «فعدوا(2/559)
ثلاثين ثم أفطروا» ؛ والحديث واحد فتتعارض الروايتان ويتساقطان. ثم على تقدير صحة الأول فيحمل على ما إذا غم رمضان، بعد أن غم شعبان، فإنا لا نفطر، ونعد شعبان إذا ثلاثين يوما ورمضان ثلاثين يوما، ويكون الصوم أحدا وثلاثين.
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية ثالثة: الناس تبع للإمام في الصوم والفطر.
1294 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» رواه الترمذي وصححه.
قال أحمد: السلطان أحوط في هذا، وأنظر للمسلمين، وأشد تفقدا، ويد الله على الجماعة.
وقيل عن أحمد رواية أخرى باستحباب الصوم، لا بإيجابه، ولا بالمنع منه، وهذا اختيار أبي العباس، وقال: إن المنقول(2/560)
عن أحمد أنه كان يصومه، أو يستحب صيامه، اتباعا لابن عمر، قال: ولم أقف من كلام أحمد على ما يقتضي الوجوب، وحملا للأوامر بإتمام شعبان، ونحو ذلك على بيان الواجب، وما ورد من صيام ذلك على الاستحباب، لا سيما وفيه احتياط لعبادة، وأصول الشريعة لا تمنع من ذلك.
وقيل عنه رواية بالإباحة، قال بعضهم: تحكى فيه الأحكام الخمسة. وقول سادس وهو التبعية.
فعلى الأولى: يشترط له النية من الليل، على أنه من رمضان حكما، فإن تبين أنه من رمضان أجزأه، وإلا فهو نفل، وهل تصلى التراويح ليلته؟ فيه وجهان: قال صاحب التلخيص: أظهرهما لا. وحكي عن أحمد وعن التميمي أنه ينويه جزما، وإذا تصلى التراويح. ولو نوى: إن كان غدا من رمضان فهو فرض، وإلا فهو نفل، لم يجزئه إن قيل باشتراط التعيين في النية لفواته، وإلا أجزأه بطريق الأولى، لمكان العذر هنا، وهل تثبت بقية الأحكام من الأجل المعلق برمضان، والطلاق المعلق به، ونحو ذلك؟ فيه احتمالان، ذكرهما القاضي في التعليق، فالثبوت للحكم برمضانيته، والمنع لأنه حق لآدمي.(2/561)
«تنبيه» : «الغيم» قال ابن سيده: الغيم السحاب. وقيل: أن لا ترى شمسا من شدة الدجى. وجمعه غيوم وغيام. و «القتر» جمع قترة وهي الغبار، ومنه قَوْله تَعَالَى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 41] .
1295 - قال ابن زيد: الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض. و «فاقدروا له» قد تقدم معناه والصواب عند أهل اللغة والتفسير المعنى الثاني، وهو بالوصل، وكسر الدال وضمها، و «سرر الشهر» و «سراره» وسراره ثلاث لغات، قال الفراء: والفتح أجود. ويقال فيه أيضا: سر الشهر. وجاءت به السنة، وقد تقدم معناه، وقيل: سره وسطه، وسر كل شيء جوفه ويدل عليه أن في بعض الروايات «أصمت من سرة هذا الشهر؟» وفسر ذلك بأيام البيض والله أعلم.(2/562)
[النية في الصوم]
قال: ولا يجوز صيام فرض حتى ينويه أي وقت كان من الليل.
ش: أما أصل النية في الصوم وإن كان تطوعا فمجمع عليها، لأنه عبادة فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وعمل فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، ثم إن كان [الصوم] فرضا كرمضان وصوم الكفارة والنذر اشترط أن ينويه من الليل.
1296 - لما روي عن ابن عمر عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له» رواه الخمسة، وفي لفظ: «من لم يجمع الصيام» ، وروي موقوفا على ابن عمر.(2/563)
1297 - وعن عمرة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له.» رواه الدارقطني وقال: إسناده كلهم ثقات. وما يورد من صوم عاشوراء فوجوبه كان في النهار فلذلك أجزأت فيه النية.
1298 - – [على أن أبا حفص قد قال] : إنه لم يكن واجبا، بدليل حديث معاوية سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وإني صائم فمن شاء فليصم» ورد بأن معاوية إنما أسلم عام الفتح.
1299 - ووجوب عاشوراء كان في الثانية من الهجرة، يوما واحدا ثم(2/564)
نسخ بصوم رمضان في ذلك العام فهو إنما سمع ذلك بعد النسخ، ولا شك أنه إذ ذاك غير مكتوب. انتهى.
وفي أي وقت نوى من الليل أجزأه، لإطلاق الحديث، وسواء وجد بعد النية مناف للصوم، كالجماع والأكل، أو لم يوجد [على المذهب] عملا بإطلاق الحديث، وقيل: يبطله المنافي من الأكل، ونحوه، كما لو فسخ النية، ولا بد مع النية من تعيين ما يصومه، فينوي الصوم عن كفارته، أو نذره، أو فرض رمضان، على ظاهر كلام الخرقي هنا، لقوله: ولا يجوز صيام فرض حتى ينويه. أي ينوي ذلك الفرض، وهو إحدى الروايتين، وأنصهما عن أحمد، وهي اختيار أبي بكر، وأبي حفص، والقاضي، وابن عقيل، والأكثرين، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ومن أطلق لم ينو صوم رمضان، وكذلك من نوى تطوعا بطريق الأولى (والرواية الثانية) : لا يشترط تعيين النية لرمضان، حكاها أبو حفص عن بعض الأصحاب، وهي اختيار الخرقي في شرح المختصر، قال في صوم يوم الشك: إن قيل: كيف يجوز أن ينويه [من رمضان] وهو غير متحقق؟ قيل: ليس يحتاج أن ينوي من رمضان ولا غيره، لأن(2/565)
من أصلنا: لو نوى أن يصوم تطوعا فوافق رمضان أجزأه، لأنه يحتاج أن يفرق بين الفرض والتطوع، لما يصلح لها، وشهر رمضان لا يصلح أن يصام فيه تطوع. انتهى.
وذلك لما أشار إليه الخرقي بأن هذا الزمن متعين لصوم رمضان، لا يتأتى فيه غيره، فلا حاجة إلى النية، وصار هذا كمن عليه حجة الإسلام فنوى تطوعا، وفرق بأن الحج آكد حكما، بدليل المضي في فاسده، وانعقاده مع الفساد، فلذلك لم يعتبر له تعيين النية، بخلاف الصوم ثم نص الرواية إنما هو في من نوى وأطلق، والقاضي وجماعة يحكون الرواية في من أطلق، أو نوى تطوعا.
وفي المسألة قول ثالث اختاره أبو العباس: أنه مع العلم يجب عليه تعيين النية، وألا يكون عاصيا لله بقصد ما لا يحل له، ومع عدم العلم كمن لم يعلم أن غدا من رمضان، ونوى صوما ما مطلقا أو مقيدا، فتبين أنه من رمضان، لا يجب التعيين، بل يجزئ الإطلاق [ونية غير رمضان عنه] لمكان العذر، ونص الخرقي في شرحه، وكذلك كلام أحمد [في] رواية: الإجزاء إنما هو في مثل هذا. انتهى.
وهل يكفي نية من أول الشهر عن جميعه؟ فيه روايتان: أشهرهما عن أحمد - وأصحهما عند الأصحاب - لا، والله أعلم.(2/566)
قال: ومن نوى من الليل، فأغمي عليه قبل طلوع الفجر، فلم يفق حتى غربت الشمس، لم يجزه صيام ذلك اليوم.
ش: لأن الصوم الشرعي مركب من إمساك مع النية.
1300 - بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه، وشرابه من أجلي» متفق عليه؛ فأضاف ترك الطعام والشراب إليه، ومن أغمي عليه جميع النهار لم يضف إليه إمساك النية، فلم يصح صومه، إذ المركب ينتفي بانتفاء جزئه.
وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو أفاق قبل غروب الشمس أجزأه، وهو صحيح، لوجود الإمساك في الجملة.
ودل كلامه على أن المغمى عليه يجب عليه الصوم، ولا نزاع في ذلك، لأن الولاية لا تثبت عليه، فلم يزل به التكليف كالنوم، ولهذا جاز على الأنبياء، والله أعلم.
قال: ومن نوى صيام التطوع من النهار - ولم يكن طعم - أجزأه.
1301 - ش: لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟» قلنا: لا. قال: «فإني إذا صائم» ؛ مختصر رواه مسلم. وفيه دليلان (أحدهما)(2/567)
طلبه الأكل، والظاهر أنه كان مفطرا، وإلا يلزم إبطال العمل المطلوب إتمامه. (والثاني) : قوله: «إني إذا» ؛ و (إذا) للاستقبال، وبهذا يتخصص قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر. . .» الحديث، وشرط هذا أن لا يوجد مناف غير نية الإفطار، اقتصارا على مقتضى الدليل، ونظرا إلى أن الإمساك هو المقصود الأعظم، فلا يعفى عنه أصلا.
وظاهر كلام الخرقي والإمام أحمد أنه لا فرق بين [قبل] الزوال وبعده، وهو اختيار ابن أبي موسى، والقاضي في الجامع الصغير، وأبي محمد، لأن ما صحت النية في أوله، صحت في آخره كالليل، وعن أحمد: لا يجزئه بعد الزوال، واختاره القاضي في المجرد، وابن البنا في الخصال، لأنه قد مضى معظم اليوم، ومعظم الشيء في حكم كله في كثير من الأحكام، فكذلك ها هنا.
«تنبيه» : يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية، على المنصوص والمختار لأبي محمد وغيره، إذ «ليس لامرئ إلا ما نوى» بنص الرسول، وعند أبي الخطاب يحكم له بالصوم من أول النهار نظرا إلى أن الصوم لا يتبعض، وهو ممنوع، والله أعلم.(2/568)
[صوم المسافر]
قال: وإذا سافر إلى ما تقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره.
ش: يجوز الفطر في السفر بنص الكتاب، قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من البر الصوم في السفر» . ومن شرط الفطر أن يكون [سفره] تقصر في مثله الصلاة، وهو ستة عشر فرسخا فأزيد، إذ ما دون ذلك في حكم المقيم لما تقدم في قصر الصلاة، وأن يترك البيوت وراء ظهره، أي يتجاوزها [لأنه ما لم يتجاوزها] فهو حاضر غير مسافر، فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والله أعلم.
[ما يوجب القضاء ولا يوجب الكفارة في الصيام]
قال: ومن أكل، أو شرب، أو احتجم، أو استعط، أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان، أو قبل فأمنى أو(2/569)
أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أي ذلك فعل [عامدا] وهو ذاكر لصومه، فعليه القضاء بلا كفارة، إذا كان صومه واجبا، وإن فعل ذلك ناسيا فهو على صومه، ولا قضاء عليه.
ش: أما الفطر بالأكل والشرب فبدلالة قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] أباح سبحانه الأكل إلى غاية هي تبين الخيط الأبيض، من الخيط الأسود ثم أمر سبحانه بالإمساك عنهما إلى الليل، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي» ، فدل على أن الصوم حالته هذه، ولا فرق بين مغذ وغيره، لظاهر إطلاق الكتاب.
1302 - وأما الفطر بالاحتجام فلما «روى شداد بن أوس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى على رجل وهو بالبقيع، وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي، لثمان عشرة خلت من رمضان فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه والحاكم وصححه، وصححه أيضا الإمام أحمد وإسحاق، وابن المديني، والدارمي وغيرهم.(2/570)
1303 - وعن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه أحمد، والترمذي، وقال أحمد: إنه أصح حديث في الباب. وفي رواية: إسناده جيد.(2/571)
1304 - ولأحمد وأبي داود من حديث ثوبان مثله. وقال ابن المديني: إنه وحديث شداد أصح شيء في الباب. وقال الأثرم: ذكرت لأبي عبد الله حديث ثوبان وشداد بن أوس صحيحان هما عندك؟ [قال: نعم] .
1305 - ولأحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مثله.(2/572)
1306 - ولأحمد من حديث عائشة، وأسامة بن زيد مثله.
1307 - «وعن الحسن عن معقل بن يسار الأشجعي، أنه قال: مر علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أحتجم في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» .(2/573)
1308 - وروى أحمد بسنده مثل ذلك من حديث مصعب بن سعد، عن أبيه.
1309 - ومن حديث بلال، ومن حديث صفية، ومن حديث أبي موسى الأشعري، ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده ذكر ذلك ابنه عبد الله في مسائله [عنه] فهؤلاء اثنا عشر صحابيا رووا هذا الحديث، وهذا يزيد على رتبة المستفيض، قال الإمام ابن خزيمة: ثبتت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه(2/574)
قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . انتهى. وما يذكر من أنهما كانا يغتابان، بعيد، لأنهما من الصحابة، إذ الظاهر تنزيههما عن ذلك، وقد ذكر هذا لأحمد فقال: لو كان للغيبة ما كان لنا صوم. أي أنا لا نسلم من ذلك، فكيف يحمل الحديث على أمر يغلب وقوعه، ثم إن هذه الأحاديث كلها ليس فيها ذكر الغيبة، فكيف يجوز أن يترك من الحديث ما الحكم [منوط] به، ثم لو قدر وجودها في الحديث فالاعتبار بعموم اللفظ.
1310 - ثم قد روى أحمد في مسائل ابنه عبد الله الإفتاء بهذا اللفظ عن علي، وعائشة، وأبي هريرة، وصفية، وابن عمر.(2/575)
1311 - وعن الحسن عن عدة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا يدل على تثبته والأخذ بعمومه عندهم.
1312 - وما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم» رواه البخاري، وفي لفظ: «احتجم وهو محرم صائم» رواه أبو داود والترمذي وصححه،(2/576)
وقد طعن فيه أحمد في رواية الأثرم فقال: هو ضعيف، لأن [راويه محمد بن عبد الله] الأنصاري ذهبت كتبه [في الفتنة] فكان يحدث من كتب غلامه أبي حكيم، ثم لو صح فلا(2/577)
حجة فيه، لأنه كان محرما، فهو مسافر، إذ لم يثبت أنه كان محرما مقيما قط، والمسافر يجوز له الفطر، ويجوز أن يكون صومه تطوعا، ويجوز أن يكون به عذر، وكلاهما مبيح للإفطار.
1313 - وقد روى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس قال: «احتجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شيء كان وجده» .
1314 - وروى أيضا بسنده عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إلى أبي طيبة أن يأتيه ليحجمه عند فطر الصائم، وأمره أن يضع محاجمه عند غيبوبة الشمس» . وهذا يدل على أنه وضع المحاجم نهارا وحجمه ليلا، وبدون هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال، ثم على تقدير انتفاء الاحتمالات فتلك الأحاديث أكثر رواة، وقد عضدها عمل الصحابة، فتقدم على الفذ الواحد، ثم لو سلم التساوي فحديث ابن عباس فعل، وتلك قول، والقول مقدم بلا ريب، لعدم عموم الفعل، واحتمال خصوصيته به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ثم] على تقدير عمومه لنا بدليل دعوى النسخ، نسخ حديث ابن عباس(2/578)
أولى، لأنه موافق لحكم الأصل، فنسخه يلزم منه مخالفة الأصل [مرة واحدة، ونسخ «أفطر الحاجم والمحجوم» يلزم منه مخالفة الأصل] مرتين، لأن هذا القول خلاف الأصل، ونسخه خلاف الأصل. انتهى.
ويفطر الحاجم كما يفطر المحجوم بنص الحديث، وكان حق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ينبه على ذلك، والحجم في الساق كالحجم في القفا، نص عليه أحمد، ولا يشترط خروج الدم، بل يناط الحكم بالشرط، وفي الفصد وجهان. أصحهما - وبه قطع القاضي في التعليق - لا يفطر. وعلى الوجه الآخر في الشرط احتمالان. والله أعلم.
وأما الفطر بالاستعاط - وهو أن يجعل في أنفه سعوطا، وهو دواء يجعل في الأنف، والمراد هنا ما يدخل في الأنف من دواء وغيره:
1315 - فلقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق [إلا أن تكون صائما» فلولا أن المبالغة في الاستنشاق] تؤثر في الصوم لم ينه عنه.
وأما الفطر بكل ما دخل إلى الجوف من أي موضع كان، سواء وصل من الفم على العادة أو على غير العادة كالوجور، أو من الأنف كالسعوط، أو دخل من الأذن إلى الدماغ، أو(2/579)
دخل من العين إلى الحلق كالكحل الحاد، أو دخل إلى الجوف من الدبر كالحقنة، أو وصل من مداواة جائفة أو مأمومة إلى جوفه، أو [إلى] دماغه ونحو ذلك، وسواء كان ذلك [الداخل] مغذيا أو غير مغذ، حتى لو أوصل إلى جوفه سكينا أفطر، لأنه [في الجميع] أوصل إلى جوفه ما هو ممنوع من إيصاله إليه، أشبه ما لو أوصل إليه مأكولا.
1316 - وقد روي في حديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر بالإثمد عند النوم، وقال: «ليتقه الصائم» رواه أبو داود وغيره.
وقول الخرقي: [أو أدخل إلى جوفه شيئا] من أي موضع كان. من عطف العام على الخاص، لاختصاص الخاص - وهو الأكل والشرب، والاستعاط - بمعنى لم يوجد في العام وهو النص.
1317 - وأما الفطر بالقبلة مع الإمناء والإمذاء فلما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه» . متفق عليه واللفظ لمسلم، وفي لفظ له: «يقبل في رمضان وهو صائم» . وفيه إشارة إلى أن من لا يملك إربه يضره ذلك.(2/580)
1318 - «وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هششت فقبلت وأنا صائم [فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم] قال: «أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟» قلت: لا بأس به. قال: «فمه» رواه أبو داود. شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها مقدمة للشهوة بالمضمضة، والمضمضة إذا لم يكن معها نزول ماء لم يفطر، ومع النزول يفطر، كذلك القبلة، إلا أن أحمد ضعف هذا الخبر ولأنه إنزال بمباشرة، أشبه الإنزال بالجماع.
ومفهوم كلام الخرقي أن القبلة إذا خلت عن [إنزال لم يفطر، ولا ريب في ذلك، لما تقدم من الحديثين، وحكم الاستمناء باليد حكم القبلة.
وأما الفطر بتكرار النظر مع] الإنزال - أي إنزال المني، إذ هذا العرف في الإنزال - فلأنه عمل يمكن التحرز منه، ويتلذذ به، أشبه الإنزال باللمس، وخرج بذلك إنزال المذي، فلا يفطر به على الصحيح، لأنه إنزال لا عن مباشرة فلم يلتحق المذي بالمني لضعفه [عنه] وعن أبي بكر: يفطر. وخرج أيضا بطريق التنبيه إذا لم ينزل.(2/581)
ومفهوم كلام الخرقي: أنه لو أنزل بنظره لم يفطر، ولا يخلو إما أن يقصد النظر أو لا، فإن لم يقصد لم يفطر بلا ريب، وإن قصده فكذلك، على ظاهر كلام أبي محمد، وأبي الخطاب وغيرهما، وظاهر كلام أبي البركات أن في المذي في النظر وجهان فالإمناء أولى، وقطع القاضي بالفطر.
ومقتضى كلام الخرقي أن الفكر لا أثر له، وهو كذلك إن غلبه، وكذلك إن استدعاه على أصح الوجهين.
1319 - لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» .
وشرط الإفطار في جميع ما تقدم أن يكون عامدا أي قاصدا للفعل، فلو لم يقصد - بأن طار إلى حلقه ذباب، أو غبار، أو ألقي في ماء فوصل إلى جوفه، أو صب في حلقه، أو أنفه شيء كرها، أو حجم كرها، أو قبلته امرأة بغير اختياره، ونحو ذلك - لم يفطر.
1320 - لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء» رواه الخمسة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، والدارقطني وقال: رواته كلهم(2/582)
[ثقات] . نفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القضاء لسبق القيء لانتفاء الاختيار، فيلحق به ما في معناه.
1321 - ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عفي لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» ولأن من لم يقصد غافل، والغافل غير مكلف، وإلا يلزم تكليف ما لا يطاق.(2/583)
وأن يكون ذاكرا لصومه، فلو كان ناسيا لم يفطر في شيء مما تقدم.
1322 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» متفق عليه. وفيه دليلان: أحدهما أنه قال: «فليتم صومه» فاقتضى أن ثم صوم يتم. والثاني قوله: «فإنما أطعمه الله وسقاه» فأضاف الفعل إلى الرب سبحانه وتعالى، فدل على أنه لا أثر لذلك الفعل بالنسبة [إليه] .
1323 - مع أن الدارقطني قد روى في الحديث من طرق قيل إنه صحح بعضها «فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه» وفي لفظ له: «ولا قضاء عليه، لأن الله أطعمه وسقاه» » . وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب قسنا عليه ما عداه، لأنه في معناه.
1324 - مع أن الدارقطني والحاكم رويا: «من أفطر من شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة» وصحح ذلك الحاكم ويؤيد ذلك(2/584)
عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» الحديث (وعن أحمد) رواية أخرى أن الحجامة تفطر مع النسيان، لإطلاق الحديث، ولعدم استفصاله من معقل بن يسار وغيره، وفي الاستمناء وجه، إلحاقا له بالجماع.
ومقتضى كلام الخرقي أن الجهل بالتحريم لا أثر له، وهو اختيار الشيخين، لظاهر حديث معقل بن يسار، لأنه كان جاهلا بالتحريم وجعله صاحب التلخيص تبعا لأبي الخطاب كالمكره والناسي.
«تنبيه» : النائم كالناسي، لعدم قصده، أما المكره بالوعيد فقال القاضي في تعليقه: ليس عن أصحابنا فيه رواية. ثم حكى [فيه] احتمالين، وحكى ابن عقيل عن الأصحاب أنه كالملجأ [لعموم الحديث قال] : ويحتمل عندي أن يفطر، لأنه لدفع ضرر عنه، أشبه من شرب لدفع عطش. انتهى.
ومن حكم بفطره ممن تقدم فعليه القضاء إن كان صومه واجبا، لأن الصوم ثابت في ذمته، فلا تبرأ إلا بأدائه ولم يؤد، فيجب(2/585)
قضاؤه، والواجب في القضاء عن كل يوم؛ يوم، إذ القضاء يحكي الأداء.
1325 - وفي حديث المجامع في رمضان «صم يوما مكانه» رواه أبو داود. ولا كفارة في شيء مما تقدم.(2/586)
1326 - أما في الأكل والشرب فلعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» ، ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يثبت الشغل إلا بدليل من نص، أو إجماع، أو قياس، ولم يوجد [واحد] منها، والقياس على الجماع ممنوع، لأنه أفحش، فالحاجة إلى الزجر عنه أبلغ، وقيل: تجب الكفارة على من أكل أو شرب عمدا كالجماع، (وأما) في الاحتجام فلما تقدم، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[لم يلزمه بالكفارة و] لو كانت واجبة لبينها (وعنه) إن كان عالما بالنهي وجبت وإلا(2/587)
فلا، وعلى هذه هل هي كفارة وطء أو مرضع؟ فيه روايتان، (وأما) في الاستعاط، ومن أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان، فلما تقدم في الأكل والشرب. (وأما) في القبلة وتكرار النظر فلأنه إفطار بغير مباشرة، أشبه الإفطار بالأكل والشرب، واعتمادا على الأصل، وهذا إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى. (والرواية الثانية) : تجب الكفارة، واختارها القاضي في تعليقه، لأنه إفطار باستمتاع، أشبه الفطر بالجماع. وحكم الاستمناء حكم القبلة، قاله في التلخيص، وجزم القاضي في التعليق بعدم الكفارة فيه، معتمدا على نص الإمام في رواية ابن منصور، وفرق بينه وبين ما تقدم، بأن الاستمناء ليس بإنزال عن مباشرة، إذ المباشرة لا تكون إلا بين شخصين.
ومفهوم كلام الخرقي في قوله: إذا كان صوما واجبا؛ أن الصوم لو لم يكن واجبا لا قضاء فيه، وهو المذهب بلا ريب، وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى.
وقوله: وإن فعل كل ذلك ناسيا فهو على صومه، ولا قضاء عليه. [هو] مفهوم «ذاكرا» وقد تقدم الكلام عليه.(2/588)
«تنبيه» : «الأرب» بفتح الهمزة والراء الحاجة، وكذلك بكسر الهمزة وسكون الراء، وقيل: بل العضو أي الذكر، والله أعلم.
قال: ومن استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه.
ش: لحديث أبي هريرة المتقدم والاستقاء: طلب القيء، والذرع خروجه. بغير اختياره. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا فرق بين قليل القيء وكثيره، وهو المذهب بلا ريب، وعنه: لا يفطر إلا بملء الفم. وعنه: بل بملء نصفه. والله أعلم.
قال: ومن ارتد عن الإسلام فقد أفطر.
ش: لأن الصوم عبادة محضة، فنافاها الكفر كالصلاة، مع أن أبا محمد قال: لا أعلم في هذا خلافا والله أعلم.
قال: ومن نوى الإفطار فقد أفطر.
ش: هذا هو المذهب المعروف المشهور، لأنها عبادة من شرطها النية، فبطلت بنية الخروج منها كالصلاة، ولأنه قد خلي جزء من العبادة عن النية المشترطة لجميع العبادة، والمركب يفوت بفوات جزئه فيبطل. وعن ابن حامد: لا يفطر، لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها، فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج. فعلى الأول: إذا تردد في قطعه، أو(2/589)
نوى أن سيقطعها، أو علقها على شرط [فنوى الإفطار] كوجود الفداء ونحوه فوجهان، هذا كله إذا كان الصوم فرضا، أما إن كان نفلا فنوى الإفطار فقد أفطر، ثم الذي وجد من صومه في حكم العدم، فإذا عاد فنوى الصوم أجزأه وإن كان بعد الزوال على الصحيح، والله أعلم.
[ما يوجب القضاء والكفارة في الصيام]
قال: ومن جامع في الفرج، فأنزل أو لم ينزل، أو دون الفرج فأنزل، عامدا أو ساهيا، فعليه القضاء والكفارة، إذا كان في شهر رمضان.
1327 - ش: الأصل في الجماع في رمضان ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هلكت يا رسول الله. قال: «وما أهلكك» ؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟» قال: لا. ثم جلس فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر، فقال: «تصدق بهذا» ، فقال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا. فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت نواجذه ثم قال: «اذهب فأطعمه أهلك» ، رواه الجماعة، وفي لفظ لابن ماجه وأبي داود: «وصم يوما مكانه» ؛ قال بعض الحفاظ: روي الأمر بالقضاء من غير وجه.(2/590)
إذا تقرر هذا فمتى جامع في نهار رمضان في الفرج عامدا فقد فسد صومه، وعليه القضاء والكفارة [نظرا] لهذا الحديث، إذ هو العمدة في الباب، ولا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل، لعدم الاستفصال في الحديث، ولا بين كون الفرج قبلا أو دبرا، من آدمي أو بهيمة، على المذهب المختار للقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وأبي البركات وغيرهم، وقيل عنه: لا تجب الكفارة بوطء البهيمة. ومبنى الروايتين عند الشريف، وأبي الخطاب [على] وجوب [الحد] بوطئها وعدمه، ولا بين كون الموطوءة زوجته أو أجنبية.
وإن جامع دون الفرج [فأنزل] عامدا فكذلك، عليه القضاء والكفارة، على المشهور من الروايتين، حتى أن القاضي لم يذكر في التعليق غيرها، وخص الروايتين بالقبلة واللمس، وكذلك الخرقي، وابن أبي موسى، وأبو بكر، قالوا هنا بالكفارة، مع قولهم ثم بعدمها، وذلك لأنها مباشرة اقترن بها الإنزال، أشبهت المباشرة في الفرج، ولشمول: وقعت.(2/591)
لها مع عدم استفصال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وعنه) : لا كفارة. لأن قوة النص تقتضي أنه جامع في الفرج وكنى عن ذلك بالمواقعة، وإذا فالأصل براءة الذمة من الكفارة.
وإن لم ينزل فلا قضاء ولا كفارة إذ مع عدم الإنزال ضعفت المباشرة، فصارت بمنزلة اللمس ونحوه.
واختلف في وطء الساهي، هل حكمه حكم وطء العامد فيما تقدم؟ فعنه - وهو المشهور عنه، والمختار لعامة أصحابه [الخرقي] والقاضي وغيرهما -: نعم يجب القضاء والكفارة، لما تقدم من حديث الأعرابي، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصله بين أن يكون ناسيا أو عامدا، ولو اختلف الحكم لاستفصله وبينه [له] بذلك استدل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وما يورد من قول الأعرابي: هلكت. يحتمل أنه قال ذلك لعلمه أن النسيان هنا لا يؤثر] . (وعن أحمد) رواية أخرى: يجب القضاء ولا تجب الكفارة. نص عليها في رواية أبي طالب، واختارها ابن بطة، ولعله مبني على أن الكفارة ماحية، ومع النسيان لا إثم يمحى. ونقل أحمد بن القاسم عن الإمام أحمد: كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره. فأخذ من هذا أبو الخطاب [ومن تبعه] رواية بانتفاء القضاء والكفارة والحال(2/592)
ما تقدم، وهو ظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. .» الحديث، وقياسه الأكل [ناسيا] ونحوه، وليست هذه الرواية عند القاضي، بل قال في تعليقه: يجب القضاء رواية واحدة. وكذلك قال الشيرازي، وهو مقتضى قول الشريف، وأبي الخطاب، وابن الزاغوني، وأبي البركات [لجزمهم بذلك، ونقل أبو داود عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - التوقف.
وحكم المخطئ - كمن جامع يظن] أن الفجر لم يطلع وقد طلع أو أن الشمس قد غربت ولم تغرب - حكم الناسي عند أبي البركات، وجزم أبو محمد بوجوب القضاء والكفارة [عليه] ، وكذلك نص أحمد في رواية حنبل وعبد الله، وكلام القاضي في التعليق محتمل. وكذلك حكم المكره حكم الناسي عند أبي الخطاب، والشيخين في مختصريهما، وعن القاضي: الجزم بوجوب الكفارة [به] بناء عنده على أن الإكراه على الوطء لا يتصور. واستثنى ابن عقيل الملجأ الذي غلبته نفسه فلم يجعل عليه قضاء ولا كفارة، والظاهر أن رواية ابن القاسم المتقدمة [تدل] على ذلك، وقال أبو محمد: ظاهر كلام أحمد [وجوب القضاء] لقوله في المرأة إذا غصبها رجل فجامعها: عليها [القضاء] .(2/593)
فالرجل أولى، وكذلك جزم القاضي في تعليقه فقال: إذا جامع امرأة مكرهة أو نائمة فعليها القضاء، واستشهد بنص أحمد. وحكم النائم [حكم] الملجأ عند ابن عقيل: لا قضاء عليه ولا كفارة، والقاضي يجعل عليه القضاء.
وقول الخرقي فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان. الشرط راجع إلى الكفارة فقط، فلا تجب الكفارة بالجماع في غير رمضان، اتباعا [للنص] ويعضده أن الأصل براءة الذمة، أما [القضاء] فهو في كل صوم واجب.
«تنبيه» : العرق بفتح [العين و] الراء مكتل، والله أعلم.
قال: والكفارة عتق رقبة، فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير] .
ش: لحديث أبي هريرة المتقدم، فإنه نص فيه على الثلاثة، وهو ظاهر في الترتيب.
وأنص منه ما روى ابن ماجه في الحديث أنه قال: «أعتق رقبة» ، قال: لا أجدها. قال: «صم شهرين متتابعين» . قال: لا أطيق. قال: «أطعم ستين مسكينا» . أمره بالعتق وظاهر الأمر(2/594)
الوجوب، ولم ينقله عنه إلا عند العجز، وهذا هو المذهب والمختار من الروايتين بلا ريب.
(وعنه) [رواية أخرى: أن] الكفارة على التخيير فيخير بين الثلاثة، لأنه قد ورد بلفظ [أو] [في بعض الروايات] .
1328 - وقال أحمد: حدثنا روح، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة «أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا» . [وذكر الحديث] رواه مسلم.
والأصح والأشهر في الرواية ما تقدم، ثم هو لفظ الرسول؛ والثاني لفظ الراوي، لكن [قد يقال] : ليس في الرواية الصحيحة دلالة على الترتيب، وتقديم العتق يحتمل [أن يكون] لشرفه، ورواية ابن ماجه الأمر فيها يحتمل أنه(2/595)
للإرشاد، لتتوافق الروايات، إذ القصة واحدة، والأصل عدم خطأ الراوي بالمعنى، وصفة الرقبة تذكر إن شاء الله تعالى في الظهار، (وصوم الشهرين) يكون متتابعا لنص الحديث، (وصفة الإطعام) لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع [من] تمر أو شعير، إذ حكم الإطعام هنا حكم الإطعام في كفارة الظهار، حملا للمطلق على المقيد، والواجب في كفارة الظهار كذلك.
1329 - بدليل ما روي «عن أبي سلمة، عن سلمة بن صخر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا فقال: «أطعمه ستين مسكينا، وذلك لكل مسكين مد بر» رواه الدارقطني، وللترمذي معناه.(2/596)
1330 - وفي «حديث خويلة بنت مالك قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه، ويقول: «اتقي الله، فإنه ابن عمك» فما برح حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى الفرض، فقال: «يعتق رقبة» فقلت: لا يجد. قال: «فيصوم شهرين متتابعين» ، قلت: يا رسول الله إنه شيخ كبير، ما به من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكينا» ، قلت: ما عنده من شيء يتصدق به. قال: «فإني سأعينه بعرق من تمر» ، قلت: يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر. قال: «قد أحسنت، فاذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك» ؛ والعرق ستون صاعا، رواه أبو داود؛ وفي رواية: والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعا. وقال: هذا أصح» .
1331 - وروى أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد المدني، قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: «أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر» . وبهذا الحديث يحصل الجمع بين(2/597)
الأحاديث، وبين أن الواجب من التمر والشعير نصف صاع، ومن البر مد.
واقتصر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذكر التمر والبر والشعير، لورود النص بها، وإلا فالواجب في الكفارة ما يجزئ في الفطرة، وفي الخبز، وقوت البلد خلاف، يأتي إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم.
قال: وإذا جامع فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة.
ش: إذا جامع في يوم في رمضان، ثم لم يكفر حتى جامع في ذلك اليوم ثانيا، فكفارة واحدة بلا نزاع، لأن الكفارات زواجر، بمنزلة الحدود، فتتداخل كالحدود، وإن جامع في يوم ثم لم يكفر حتى جامع في يوم آخر فوجهان: (أحدهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي بكر في التنبيه، وابن أبي موسى - لا يجب إلا كفارة واحدة، كما لو كانا في يوم، وقياسا على الحدود، ولأن حرمة الشهر كله(2/598)
حرمة واحدة، فهو كاليوم الواحد، ولهذا أجزأ بنية واحدة على رواية. (والثاني) : يجب عليه كفارتان، أو كفارات بعدد الأيام، اختاره ابن حامد، والقاضي في خلافه، وفي جامعه، وروايتيه، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وصاحب التلخيص، لأنهما يومان لو انفرد كل منهما بالفساد تعلقت به الكفارة، فإذا عمهما الفساد وجب أن يتعلق بكل منهما كفارة، كاليومين من رمضانين، ولأن كل يوم بمنزلة عبادة منفردة، بدليل أن فساد بعضها لا يسري إلى بقيتها، واحتياج كل يوم إلى نية على المذهب، والله أعلم.
قال: وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية.
ش: نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في رواية حنبل والميموني، لأنه وطء محرم لحرمة رمضان، فوجب أن تتعلق به الكفارة كالوطء الأول، أو عبادة يجب بالجماع فيها كفارة، فجاز أن تتكرر الكفارة مع الفساد، دليله الحج، والله أعلم.
[الحكم فيمن أكل أو شرب ظانا عدم طلوع الفجر أو غروب الشمس]
قال: وإن أكل وظن أن الفجر لم يطلع، وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء.
ش: لأنه أكل مختارا ذاكرا، أشبه ما لو أكل يوم الشك فتبين(2/599)
أنه من رمضان، ولأنه كان يمكنه التحرز، أشبه العامد.
1332 - وقد روي عن هشام بن عروة، عن فاطمة امرأته، عن أسماء، «قالت: أفطرنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم [غيم] ثم طلعت الشمس. قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: لا بد من القضاء» . أخرجه البخاري. أما إن أكل ظانا أن الفجر لم يطلع، وأن الشمس قد غربت، ولم يتبين له شيء، فلا قضاء(2/600)
عليه، ولو تردد بعد، قاله أبو محمد، إذا لم يوجد يقين أزال ذلك الظن، فالأصل بقاؤه وأوجب عليه صاحب التلخيص القضاء في ظن الغروب، إذ الأصل بقاء النهار، ومن هنا قال: يجوز الأكل بالاجتهاد [في أول اليوم فلا يجوز في آخره إلا بيقين؛ وأبو محمد يجوز الأكل بالاجتهاد] فيهما. واتفقوا على وجوب القضاء فيما إذا أكل شاكا في غروب الشمس، لا في طلوع الفجر، نظرا للأصل فيهما، والله أعلم.
قال: ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر، وهو على صومه.
ش: قد دل على ذلك إشارة النص في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية، وهو يشمل جميع الليلة، ومن ضرورة حل الرفث في جميع الليلة أن يصبح جنبا صائما، وقد شهدت السنة [لذلك] .
1333 - فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رجلا قال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم» ، فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد(2/601)
غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى وأعلمكم بما أتقي» . رواه أحمد ومسلم، وأبو داود.
1334 - وفي الصحيحين عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصبح جنبا من جماع لا حلم [ثم] لا يفطر ولا يقضي.
1335 - وحديث أبي هريرة: «من أصبح جنبا فلا صوم له» ؛ قال الخطابي: أحسن ما سمعت فيه أنه منسوخ. والله أعلم.
قال: وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها قبل الفجر، فهي صائمة إذا نوت الصوم قبل طلوع الفجر، وتغتسل إذا أصبحت.
ش: لأنه حدث يوجب الغسل، أشبه [حدث] الجنابة ويشترط لصحة صومها انقطاع الحيض من الليل، وإلا لو انقطع في أول جزء من اليوم أفسده، ونية الصوم قبل طلوع الفجر، لما تقدم من وجوب النية من الليل في الفرض، والله أعلم.
[صوم الحامل والمرضع والشيخ الكبير]
قال: والحامل إذا خافت على جنينها، والمرضع على ولدها، أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا.(2/602)
ش: أما إفطارهما فأمر مطلوب، بحيث يكره تركه، لأن خوفهما على ولديهما خوف على آدمي، أشبه خوفهما على أنفسهما، ولو خافتا على أنفسهما أفطرتا، لأنهما بمنزلة المريض [فكذلك إذا خافتا على ولديهما.
وأما القضاء فلما تقدم من أنهما بمنزلة المريض] والمريض عليه القضاء بنص الكتاب، قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] فكذلك هما.
وأما وجوب إطعامهما عن كل يوم مسكينا فلقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أي إذا أفطروا، والحامل والمرضع يطيقان الصوم، فدخلا في الآية الكريمة، ولا يقال:
1336 - هذه الآية منسوخة بما بعدها من قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] كذا في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
1337 - لأنا نقول: قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أثبتت للحبلى والمرضع. وعنه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قال: كانت رخصة للشيخ(2/603)
الكبير، والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام، أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا. رواه أبو داود، وقال: إذا خافتا يعني على أولادهما. فظاهر قوله الأول نسخ الحكم في حق غير الحامل والمرضع، وبقاء الحكم فيهما. وظاهر قوله الثاني أن الآية [الكريمة] محكمة غير منسوخة، وأنها إنما أريد بها هؤلاء من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، وهذا أولى من ادعاء النسخ، فإنه خلاف الأصل، فالواجب عدمه أو تقليله ما أمكن، وما يقال من أن قوله: بعد {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ينافي الحمل على ما تقدم، إذ الصوم ليس بخير لها ولا يجاب عنه بأن تخصيص آخر الآية لا يدل على تخصيص أولها على الصحيح، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] بعد {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] ونحوه. بقي أن يقال:(2/604)
فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنه لا يجب إلا الفدية فقط، فإيجاب القضاء يخالف ظاهر الآية؟ فيقال: القضاء من دليل آخر، وهو القياس على المريض.
وقول الخرقي: والمرضع. يشمل الأم وغيرها [وهو كذلك] وإطعام المسكين مد بر، أو نصف صاع تمر أو شعير على ما تقدم.
ولو كان خوف الحامل أو المرضع على نفسها لم يجب إلا القضاء فقط، على ظاهر كلام الخرقي، وقول العامة، لتحقق شبهها بالمريض، بل هي فرد من أفراده، وظاهر كلام أحمد بل نصه: وجوب القضاء والفدية. قال في رواية الميموني: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما يفطران، ويطعمان، ويصومان إذا أطاقتا. وقال في رواية صالح: [تخاف على نفسها] تفطر وتقضي وتطعم؛ وهذا ظاهر [إطلاق] ما نقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وحمل القاضي كلام أحمد على أنها خافت على ولدها أيضا مع خوفها على نفسها [وهو] بعيد من اللفظ. والله أعلم.
قال: وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينا.
ش: نص على هذا أحمد في رواية الميموني وحرب، وذلك(2/605)
لما تقدم من الآية الكريمة، وقول ابن عباس في تفسيرها، ولأنه صوم واجب، فجاز أن ينوب عنه المال، كالصوم في كفارة الظهار والجماع، وفي معنى العجز عن الصوم لكبر العجز عنه لمرض لا يرجى برؤه، وقد ذكر ذلك الخرقي في أول الحج، والله أعلم.
[حكم الحائض والنفساء في رمضان]
قال: وإذا حاضت المرأة أو نفست] أفطرت وقضت وإن صامت لم يجزئها.
ش: هذا إجماع و (الحمد لله رب العالمين) .
1338 - وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنا نحيض فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» .
1339 - وفي البخاري: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليست إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم، فذلك من نقصان دينها» ، وهذا إخبار عن شأنها الشرعية وحالها، ودم النفاس هو دم حيض في الحقيقة، فحكمه حكمه، وتأثم بالفعل لارتكابها المنهي عنه، والله أعلم.(2/606)
قال: فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها عن كل يوم مسكين.
ش: القضاء واجب على الحائض والنفساء بالإجماع، وقد شهد له حديث عائشة، ثم لا يخلو [إما] أن يمكنها القضاء أو لا، فإن لم يمكنها لمرض أو سفر، أو ضيق وقت، ونحو ذلك، حتى ماتت فلا فدية عليها ولو مضى عليها أحوال، في ظاهر كلام الخرقي، وهو الصحيح المعروف من الروايتين، لأنه حق لله تعالى، وجب بالشرع، مات من وجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل كالحج. (والرواية الثانية) : تجب الفدية، لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه، فوجب الإطعام عنه، كالشيخ العاجز عن الصيام.
وإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت فلا يخلو إما أن يكون قبل أن يدركها رمضان آخر، أو بعد أن أدركها رمضان آخر، فإن كان قبل أن أدركها رمضان آخر وجب أن يطعم عنها من تركتها لكل يوم مسكين.
1340 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه [مكان] كل يوم مسكين» رواه الترمذي [وقال] : الصحيح أنه عن ابن عمر موقوف.(2/607)
1341 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن نذر قضى عنه وليه. رواه أبو داود.
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز أن يصام [عنه] والحال ما تقدم، لما تقدم، ولأنه نوع عبادة لا تصح النيابة عنه في حال الحياة عند العجز عنه، فلا تصح النيابة عنه بعد الموت كالصلاة.
1342 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» محمول على النذر جمعا بين الأدلة، ويؤيده أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هي راوية الحديث.(2/608)
1343 - وقد روي عنها أنها قالت: يطعم في قضاء رمضان ولا يصام. رواه الأثرم في سننه والظاهر من حالها فهم التخصيص، وهو أولى من ذهولها عما روت.
وإن ماتت بعد أن أدركها رمضان آخر فوجهان، وقيل: روايتان: (إحداهما) وهو ظاهر إطلاق أحمد في رواية المروذي والخرقي، والقاضي، والشيرازي. وغيرهم: يطعم عنه لكل يوم مسكين [إذ بذلك يزول التفريط بالتأخير، فيصير كما لو مات من غير تفريط. (والثاني) : يطعم عنه لكل يوم مسكينان] جزم به أبو الخطاب في الهداية وصاحب التلخيص، وأبو البركات، لأن الموت مع التفريط بدون التأخير(2/609)
عن رمضان آخر يوجب كفارة، والتأخير بدون الموت يوجب كفارة، فإذا اجتمعا وجب أن يجب كفارتان، والله أعلم.
قال: ولو لم تمت المفرطة حتى أظلها شهر] رمضان آخر صامته ثم قضت ما كان عليها، وأطعمت عن كل يوم مسكينا.
ش: قد تقدم [له] حكم التفريط مع الموت، بقي حكم التفريط مع الحياة، فقال: إنه إذا أظلها [مع التفريط] شهر رمضان آخر، فإنها تصومه، لما تقدم من أن زمنه متعين له، لا يمكن أن يقع فيه غيره، ثم تقضي ما كان عليها نذرا كالواجب، ثم تطعم لكل يوم مسكينا، نص على ذلك.
1344 - معتمدا على قول الصحابة [منهم] ابن عمر وابن عباس، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد روى ذلك عنهم الدارقطني بسنده.(2/610)
1345 - ورواه مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث أبي هريرة، لكن فيه ضعف وكلام الخرقي يقتضي أنه لا يجب أكثر من إطعام مسكين وإن حصل التأخير رمضانات، وأشعر كلامه بأنها لو أخرت مفرطة ثم فعلت قبل أن يدخل [عليها] رمضان فلا شيء عليها، لأنها قد فعلت الواجب في وقته، أشبه ما لو لم تؤخره، وهذا يتضمن أن وقت أداء قضاء رمضان جميع السنة.
1346 - وذلك «لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كان يكون علي الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، وذلك لمكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. [رواه الجماعة] وفي الدلالة منه نظر لتصريحها بالعذر، والله أعلم.
قال: وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة إذا فرطا في القضاء.(2/611)
ش: يعني ما تقدم في الحائض والنفساء - من أنهما إذا فرطا وماتا وجب الإطعام عنهما لكل يوم مسكينا، ومن أنهما إذا أخرتا مفرطتين حتى أظلهما رمضان أنهما يقضيان ويطعمان - يجري مثله في المريض والمسافر، لاشتراك الكل في المعنى المقتضي للاشتراك في الحكم.
وقوله: إذا فرطا في القضاء. لأنهما إذا لم يفرطا فلا شيء عليهما مع الموت، ومع الحياة يلزمها الفعل ليس إلا، والله أعلم.
[حكم المريض والمسافر في الصيام]
قال: وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه.
ش: للمريض أن يفطر في الجملة بالإجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 185] أي: فأفطر فعليه عدة، أو فالواجب عدة، ومن قرأ (عدة) بالنصب فالتقدير: فليصم عدة، ومن شرط جواز الفطر عندنا التضرر بالصوم، بأن يزيد بالصوم مرضه أو يتباطأ [برؤه] ونحو ذلك، لأن ذلك وقع رخصة لنا، ودفعا للحرج [والمشقة] عنا، ولذلك قرنه بالسفر، فإذا لم يوجد الضرر فلا معنى للفطر، والله أعلم.
قال: فإن تحمل وصام كره له ذلك وأجزأه.(2/612)
ش: إذا تحمل من جاز له الفطر بالمرض وصام كره له ذلك، لإضراره بنفسه، وتركه تخفيف الله تعالى، ورخصته المطلوب إتيانها.
1347 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» ولأن بعض العلماء لا يصحح صومه، ويمنع [من] التقدير في الآية. انتهى، فإن فعل أجزأه لإتيانه بالأصل الذي هو العزيمة، وصار هذا بمنزلة من أبيح له ترك القيام في الصلاة فتكلف وقام، والله أعلم.
قال: وكذلك المسافر.
ش: أي حكم المسافر المتقدم في أول الباب الذي يجوز له الفطر حكم المريض في أن الفطر أولى له، وأنه إن صام أجزأه لما تقدم.(2/613)
1348 - وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس من البر الصوم في السفر» .
1349 - وقال: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم» .
1350 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمزة بن عمرو الأسلمي - وكان كثير الصوم، وقد سأله عن الصوم في السفر فقال: - «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» ، فهذا لبيان الجواز، وتلك للأفضلية، والله أعلم.(2/614)
[قضاء رمضان]
قال: وقضاء شهر رمضان متفرقا يجزئ.
ش: لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وبذلك استدل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
1351 - قال البخاري: قال ابن عباس: لا بأس أن يفرق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
1352 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قضاء رمضان إن شاء فرق، وإن شاء تابع» رواه الدارقطني.(2/615)
1353 - «وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن تقطيع قضاء رمضان، فقال «ذاك إليك، أرأيت لو كان على أحد دين فقضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن قضاء؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر» ، رواه الدارقطني وحسن إسناده وهو مرسل.
1354 - وما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات) فسقطت متتابعات. رواه الدارقطني إن صح فهو محمول على أنه سقط حكمها بالنسخ، لا أنه ضاع لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والله أعلم.
قال: والمتتابع أحسن.(2/616)
ش: إذ القضاء يحكي الأداء، وخروجا من خلاف العلماء، والله أعلم.
[صيام التطوع]
[قضاء صيام التطوع]
قال: ومن دخل في صيام تطوع فخرج منه فلا قضاء عليه.
ش: من دخل في صوم تطوع جاز له الخروج منه وإن لم يكن له عذر، ولا قضاء عليه على المذهب المنصوص المعروف.
1355 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟» فقلنا: لا. فقال: «إني إذا صائم» ثم أتانا يوما آخر، فقلنا: يا رسول الله قد أهدي لنا حيس. فقال: «أرينيه فلقد أصبحت صائما» فأكل» . وفي لفظ: قال طلحة - هو ابن يحيى - فحدثت مجاهدا بهذا الحديث فقال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها. رواه مسلم.(2/617)
1356 - «وعن أم هانئ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها بشراب فشرب، ثم ناولها فشربت، وقالت: يا رسول الله أما إني كنت صائمة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» [رواه أحمد والترمذي] . وفي رواية «قالت: إني صائمة، ولكني كرهت أن أرد سؤرك. فقال: «يعني إن كان قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه، وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي، وإن شئت فلا تقضي» رواه أحمد، وأبو داود بمعناه. وهذا نص.(2/618)
ونقل حنبل عن أحمد: إذا أجمع على الصيام من الليل، فأوجبه على نفسه، فأفطر من غير عذر، أعاد يوما مكانه. فظاهر إطلاق هذا وجوب القضاء على من خرج من صوم التطوع لغير عذر.
1357 - وذلك لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أهدي لحفصة طعام، وكنا صائمتين فأفطرنا، ثم دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية واشتهيناها فأفطرنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عليكما، صوما مكانه يوما آخر» رواه أبو داود. ومنع القاضي وغيره رواية حنبل، وحملوها على(2/619)
النذر، توفيقا بين نصوصه، وأما الحديث فقد أنكره أحمد في رواية الأثرم، وقال أبو داود: لا يثبت. وقال الترمذي: فيه مقال، ثم هو محمول على الندب جمعا بين الأدلة، وبقرينة «لا عليكما» أي لا بأس أو لا حرج، ومن لا بأس عليه لا قضاء عليه حتما.
- (تنبيه) : «الحيس» تمر وأقط وسمن يطبخ، والله أعلم.
قال: وإن قضاه فحسن.
ش: لا يجب عليه قضاء صوم التطوع إذا أفسده، وإن(2/620)
قضاه فحسن. لما تقدم من حديث عائشة، وللخروج من الخلاف.
«تنبيه» : وحكم سائر التطوعات حكم الصوم فيما تقدم، عدا الحج والعمرة، فإنهما يلزمان بالشروع، وعنه أنه قال: الصلاة أشد، فلا يقطعها، يعني من الصوم. قيل له: فإن قطعها قضاها؟ قال: إن قضاها فليس فيه اختلاف؛ فمال الجوزجاني [من هذا] إلى أنها تلزم بالشروع، لأنها ذات إحلال وإحرام، فأشبهت الحج، وعامة الأصحاب على خلافه، وكلام أحمد لا دلالة فيه على وجوب القضاء، بل [على] تأكد استحبابه، والله أعلم.
قال: وإذا كان للغلام عشر سنين وأطاق الصوم أخذ به.
ش: أي ألزم به، ليتمرن على ذلك ويعتاده، كما يؤمر بالصلاة إذا بلغ عشرا، ثم هل هذا الأخذ على سبيل الوجوب عليه أم لا؟ فيه روايتان. (إحداهما) نعم.
1358 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام رمضان» (والثانية) : وهي(2/621)
المذهب - لا. لرفع القلم عنه كما في الحديث، ثم الخرقي قيده بعشر سنين. وغيره ينيطه بالتمييز مع الإطاقة، والله أعلم.
[حكم إسلام الكافر في شهر رمضان]
قال: وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبل من بقية الشهر.
ش: لا نزاع في ذلك، لصيرورته أهلا لأداء العبادة الواجبة على كل مكلف.
1359 - وقد روى ابن ماجه عن سفيان بن عبد الله بن ربيعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «حدثنا وفدنا الذين قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسلام ثقيف قال: وقدموا عليه في رمضان، وضرب عليهم قبة في المسجد، فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر» .(2/622)
- ومقتضى كلامه أنه لا يجب عليه قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه، ولا نزاع في ذلك أيضا عندنا، إذ الإسلام يجب ما قبله، وكرمضان الماضي، واختلف عن أحمد في اليوم الذي أسلم فيه هل يلزمه إمساكه وقضاؤه؟ فيه روايتان (إحداهما) - وهي المنصوصة عن الإمام و [المذهب] عند القاضي وغيره - يلزمانه، لإدراكه جزءا من [وقت] العبادة، أشبه من أدرك ركعة من وقت الصلاة.
1360 - وفي الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم عاشوراء: «من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه» .
1361 - وفي أبي داود عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن أسلم أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «صمتم يومكم هذا؟» قالوا: لا. قال: «فأتموا يومكم واقضوا» » وهذا صريح في وجوب الإتمام والقضاء.(2/623)
(والثانية) : لا يجبان، وهو ظاهر كلام الخرقي، لعدم تمكنه من [التلبس] بالعبادة أشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم، وحكى أبو العباس رواية ثالثة فيما أظن واختارها: يجب الإمساك ولا يجب القضاء، نظرا إلى أن الحديث الصحيح إنما فيه الأمر بذلك، والله أعلم.
[حكم من رأى هلال رمضان وحده]
قال: ومن رأى هلال رمضان وحده صام.
ش: هذه إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: أعجب(2/624)
إلي أن يصوم وهو المذهب [عند الأصحاب] لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته» وهذا قد رآه، ولأنه قد تيقنه من رمضان، فلزمه صومه كاليوم الذي بعده. (والرواية الثانية) - وهي أنصهما - لا يصوم إلا في جماعة الناس، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن شهد ذوا عدل فصوموا» فعلق الرؤية على ذوي عدل، ولأنه يوم محكوم به من شعبان، أشبه الذي قبله، والله أعلم.
قال: فإن كان عدلا صوم الناس بقوله.
ش: إذا كان الرائي عدلا صوم الإمام أو نائبه الناس بقوله، هذا هو المذهب المنصوص، المختار للأصحاب.
1362 - لما روي عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني رأيت الهلال. قال بعض الرواة: يعني رمضان. فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم. قال: «أتشهد أني رسول الله؟» قال: نعم. قال: يا بلال أذن في الناس أن يصوموا» رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وروي عن عكرمة مرسلا.(2/625)
1363 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه» رواه أحمد وأبو داود. وهذا ظاهر في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتب صومه وصوم الناس على إخباره، ولأنه خبر يلزم به عبادة يستوي فيه المخبر والمخبر، لا يتعلق به حق آدمي، فقبل منه [قول] واحد، كالإخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يلزمه هلال شوال، لأنه يتعلق به حق آدمي وهو الإفطار، ولا الشهادة في سائر الحقوق، لعدم استواء المخبر والمخبر فيهما وعدم لزوم(2/626)
العبادة [فيها] (وعن أحمد) ما يدل [على] أنه لا يقبل فيه إلا قول اثنين كبقية الشهود.
1364 - لما روي عن أمير مكة الحارث بن حاطب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «عهد إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدان عدلان نسكنا لشهادتهما» ، رواه أبو داود والدارقطني، وقال: هذا إسناد متصل صحيح. وأجيب بأنا نقول بمنطوقه، ومفهومه قد عارضه منطوق ما تقدم، ولا ريب أن المنطوق يقدم على المفهوم. وتوسط أبو بكر فقال: إن كان الواحد بين جماعة الناس، وتفرد بالرؤية لم يقبل، لأنهم يعاينون ما عاين، فالظاهر خطؤه، وإن كان منفردا قبل كالأعرابي الجائي من الحرة، لما شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورد بحديث ابن عمر المتقدم.
(تنبيه) : [هذا] الخلاف السابق مبني على أن هذا هل يجري مجرى الإخبار أو مجرى الشهادة؟ والمذهب إجراؤه(2/627)
مجرى الإخبار، وعليه فلو أخبره من يثق بقوله قبل قوله، وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم، وتقبل فيه المرأة، وعلى الثاني لا تقبل، والله أعلم.
[ما يثبت به انتهاء شهر رمضان]
قال: ولا يفطر إلا بشهادة عدلين.
ش: حكم هلال شوال حكم بقية الشهور لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين.
1365 - لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب «، أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: إني جالست أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وسألتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا [لرؤيته، وأنسكوا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين، وإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا» » ] رواه النسائي.
1366 - وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه أجاز شهادة رجل واحد على رؤية الهلال، وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا [شهادة] رجلين» وفارق هلال رمضان، لما فيه من الاحتياط للعبادة.(2/628)
وظاهر قول الخرقي أن شرطهما أن يكونا رجلين وهو كذلك إذ هذا ليس بمال، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال. وقوله: بشهادة [اثنين] . يحتمل عند الحاكم، ويحتمل مطلقا، وبه قطع أبو محمد، فجوز الفطر بقول عدلين لمن يعرف حالهما، ولو ردهما الحاكم لجهله بهما، قال: ولكل واحد من العدلين [أيضا] الفطر، والله أعلم.
[حكم من رأى هلال شوال وحده]
قال: ولا يفطر إذا رآه وحده.
ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية جماعة، وقال: يتهم نفسه.(2/629)
1367 - وذلك لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون» .
1368 - وعن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال - يعني شوال - وقد أصبح الناس صياما، فأتيا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكرا ذلك له، فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال للآخر. قال: أنا صائم. قال: ما حملك على هذا؟ . قال: لم أكن لأفطر والناس صيام. فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك. ثم نودي في الناس أن اخرجوا. رواه سعيد. وهذا ظاهر في أنه أراد ضربه لإفطاره برؤيته، ورفع عنه الضرب لشهادة صاحبه. وقيل: يفطر سرا، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» [الحديث] ولأنه يوم تيقن أنه من شوال، أشبه الذي بعده، والله أعلم.
[حكم صيام الأسير الذي اشتبهت عليه الأشهر]
قال: وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام] .(2/630)
ش: قياسا على من اشتبهت عليه أدلة القبلة، فإن صلى [مع القدرة عليه] بغير اجتهاد لم يجزه لأنه ترك فرضه، وبدونها كما إذا خفيت عليه الأدلة وجهان، أصلهما إذا صلى على حسب حاله، لخفاء أدلة القبلة، والله أعلم.
قال: فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه، وإن وافق ما قبله لم يجزئه.
ش: إذا تحرى وصام شهرا يريد به شهر رمضان، فإن لم ينكشف له الحال فلا ريب عندنا في الإجزاء، وإن تبين له الحال فإن وافق شهر رمضان فبها ونعمت، ولا يضره التردد في النية، لمكان الضرورة، وإن وافق بعده أجزأه أيضا، ولا يضره عدم نية القضاء وإن اشترطت، لمحل العذر، وإن وافق [ذلك] قبله لم يجزئه لعدم تعلق الخطاب به إذا.
وظاهر إطلاق الخرقي أنه متى وافق شهرا بعده أجزأه، وإن كان ناقصا ورمضان تام، وصرح بذلك القاضي، وصاحب التلخيص، وأورده أبو البركات مذهبا، كما لو نذر شهرا، واختار أبو محمد أنه يلزمه بعدة أيام رمضان، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، والله أعلم.
[الأيام التي يحرم صيامها]
قال: ولا يصام يوما العيدين، ولا أيام التشريق، لا عن فرض، ولا عن تطوع، فإن قصد لصيامهما كان عاصيا،(2/631)
ولم يجزئه عن فرض، وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أنه يصومها للفرض.
ش: لا يجوز أن يصام يوم العيد لا الفطر ولا الأضحى عن فرض ولا عن تطوع.
1369 - لما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يومين، يوم الفطر ويوم النحر، وفي لفظ للبخاري: «لا صوم في يومين» ؛ ولمسلم: «لا يصح الصوم في يومين» .
1370 - وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: «شهدت العيد مع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فصلى، ثم انصرف فخطب الناس، فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهما، يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» . متفق عليه. فإن قصد صيامهما كان عاصيا، لقصده ارتكاب ما نهى الشارع عنه، ولم يجزئه عن فرض، لارتكابه النهي المقتضي لفساد المنهي عنه، هذا هو المشهور، وهو قياس المذهب فيمن صلى في ثوب غصب، أو [في] بقعة(2/632)
غصب، أو حج بمال غصب، أن باع وقت النداء ونحو ذلك، والمنصوص عن أحمد - في رواية مهنا - الصحة مع التحريم. وهو قياس القول الآخر في هذه المسائل.
وقول الخرقي: ولم يجزئه عن فرض. ربما أوهم أنه يجزئه عن التطوع، وليس كذلك، وإنما المحتاج إليه في البيان [هو الفرض] ، أما التطوع فقد اقتضى كلامه أنه يعصي بقصد صومه، والحكم على صحته وفساده لا حاجة إليه. انتهى.
أما أيام التشريق فلا يجوز صيامها عن تطوع.
1371 - لما روى نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر الله تعالى» رواه مسلم.
1372 - «وعن سعد بن أبي وقاص قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنادي أيام منى «إنها أيام أكل وشرب، ولا صوم فيها» يعني أيام التشريق» . رواه أحمد.(2/633)
و [في] جواز صومها عن الفرض روايتان: (إحداهما) - وهي التي رجع إليها [أحمد] أخيرا قال: كنت أذهب إليه، - يعني [عن] صوم المتمتع لأيام التشريق - فأما اليوم فإني أهابه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هي أيام أكل وشرب» واختيار الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي، والشيرازي وغيرهم - لا يجوز لما تقدم.
1373 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صوم خمسة أيام في السنة، يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة [أيام التشريق» . رواه الدارقطني] . (والثانية) : يجوز إذ يوم النحر أحد العيدين، فوجب أن يختص بحظر الصوم فيه دون ما بعده، دليله يوم الفطر، وابن أبي موسى خص الخلاف بالصوم عن دم المتعة، ونص أحمد بالجواز إنما هو في ذلك، نعم أومأ إلى الجواز في النذر.
1374 - وذلك لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عمر رضي الله(2/634)
عنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري وأجاب القاضي عن هذا بأنه خاص مختلف فيه، والأول عام متفق عليه، فتقدم على المختلف فيه. انتهى، وفيه نظر، فعلى الأول إن صامها فهو كصيام يوم العيد على ما مر.
«تنبيه» : أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من ذي الحجة، سميت بذلك لأنهم يشرقون فيها لحوم الأضاحي، أي يقطعونها تقديدا وقيل: بل لأجل صلاة العيد وقت شروق الشمس. وقيل: بل لأن الذبح بعد الشروق، والله أعلم.
قال: وإذا رؤي الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة.
ش: أما بعد الزوال فللمقبلة بلا نزاع نعلمه، لقربه منها.
1375 - ولقصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأما قبله فعنه للماضية لقربه منها. وعنه للمقبلة، وهي المذهب.(2/635)
1376 - لما روى أبو وائل قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا، إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية. وهذا يشمل ما قبل الزوال وبعده، (وعنه) إن كان في أول الشهر فللماضية، وفي آخره للمقبلة، احتياطا للعبادة.
«تنبيه» : هذا التعليل وكلام أبي محمد [وغيره] يقتضي أن هذا مختص برمضان، فاللام في كلام الخرقي للعهد، والله أعلم.(2/636)
[السحور وتعجيل الإفطار للصائم]
قال: والاختيار تأخير السحور.
ش: لا نزاع في مطلوبية السحور.
1377 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تسحروا فإن في السحور بركة» . متفق عليه.
1378 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور» رواه مسلم وغيره. والمستحب تأخيره.
1379 - لما روي عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «لا «تزال أمتي بخير ما [أخروا] السحور، وعجلوا الفطر» ، رواه أحمد.
«تنبيه» : السحور بفتح السين اسم لما يؤكل في السحر، وبالضم اسم الفعل على الأشهر، وقيل: يجوز في اسم الفعل [الفتح] أيضا، والمراد في كلام الخرقي الفعل، فيكون بالضم على الصحيح و «الأكلة» بفتح(2/637)
الهمزة، ورواه بعضهم بضمها، قال الحافظ زكي الدين: والوجه الفتح، فإن الأكلة بالفتح بمعنى المرة الواحدة. مع الاستيفاء، وبالضم اللقمة إذا لم يكن معها ماء، والله أعلم.
قال: وتعجيل الإفطار.
ش: أي [والاختيار تعجيل الإفطار] لما تقدم.
1380 - وفي الصحيحين عن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» .
1381 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقول الله عز وجل: إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا» رواه أحمد والترمذي، والله أعلم.
[الصيام المستحب]
[صيام ستة أيام من شوال]
قال: ومن صام شهر] رمضان، وأتبعه بست من شوال، وإن فرقها فكأنما صام الدهر.
1382 - ش: لما روي عن أبي أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر» رواه مسلم وغيره.(2/638)
1383 - وعن ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر، كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» رواه ابن ماجه.
وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أن الأولى متابعتها، مبادرة للمندوب إليه، ومحافظة على «وأتبعه» [إذ المتابعة] ظاهرها التوالي، والله أعلم.
[صيام يوم عاشوراء]
قال: وصيام يوم عاشوراء، كفارة سنة، ويوم عرفة كفارة سنتين.
1384 - ش: لما روي عن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية» رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.(2/639)
«تنبيه» : عاشوراء بالمد على الأشهر، وقيل: وبالقصر وفيه [لغة] ثالثة عاشورا. وهو اليوم العاشر من المحرم.
1385 - وعن ابن عباس: أنه التاسع ونص أحمد على استحباب صومهما، وعلى صيام ثلاثة أيام مع اشتباه أول الشهر، ويوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة بلا ريب، سمي بذلك قيل: [لأن الوقوف بعرفة فيه. وقيل] : لأن إبراهيم الخليل صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه عرف فيه أن رؤياه حق، والله أعلم.(2/640)
[صيام يوم عرفة]
قال: ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم، ليتقوى على الدعاء.
1386 - ش: عن أم الفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أنهم شكوا في صوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، فأرسلت إليه بلبن، فشرب وهو يخطب الناس بعرفة» متفق عليه.
وجعل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[المعنى] في الإفطار التقوي على الدعاء المطلوب في هذا اليوم، وهو حسن، وعن أبي العباس. لأنه يوم عيد.
1387 - ويشهد له ما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي، والله أعلم.
[صيام أيام البيض]
قال: وأيام البيض التي حض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صيامها هي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر [من كل شهر] ، والله أعلم.(2/641)
1388 - ش: «ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصى أبا هريرة بصيام ثلاثة أيام من كل شهر» .
1389 - وعن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر» فأنزل الله تعالى: [تصديق ذلك في كتابه] : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] اليوم بعشرة» رواه ابن ماجه والترمذي. والأيام البيض هي اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر.
1390 - لما روي عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا: قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة» رواه أحمد والنسائي والترمذي.(2/642)
وعن بعض العلماء: الثاني عشر بدل الخامس [عشر] وسميت بيضا لابيضاض ليلها كله بالقمر [أي] أيام الليالي البيض، وقيل: لأن الله تعالى تاب على آدم فيها وبيض صحيفته ذكره التميمي، والله سبحانه أعلم.(2/643)
[كتاب الاعتكاف]
ش: الاعتكاف في اللغة لزوم الشيء والإقبال عليه. قال سبحانه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وقال: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] وفي الشرع: لزوم المسجد للطاعة من مسلم عاقل، طاهر مما يوجب غسلا، وأقله أدنى لبث إن لم يشترط الصوم، مع الكف عن مفسداته، ولا يكفي العبور بكل حال، ذكره في التلخيص.
1391 - وهو مشروع، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان. حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده» .
1392 - وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاما، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين» . رواه أحمد، والترمذي وصححه. وقد أمر الله سبحانه نبيه [إبراهيم] بتطهير بيته(3/3)
[حكم الاعتكاف]
{لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] .
قال: والاعتكاف سنة، إلا أن يكون نذرا فيلزم الوفاء به.
ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له ما تقدم.
1393 - وإنما لم يجب لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به أصحابه، بل في الصحيحين أنه قال لهم «من أحب منكم أن يعتكف فليعتكف» .
1394 - وإنما وجب بالنذر لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن عمر سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك» متفق عليه وللبخاري «فاعتكف ليلة» أمره وظاهر الأمر للوجوب.
1395 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من نذر أن يطيع الله فليطعه» رواه البخاري، والله أعلم.(3/4)
قال: ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره: بصوم.
ش: يجوز الاعتكاف بلا صوم، على المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لحديث عمر المتقدم، وفيه نظر، لأن في رواية في الصحيح أيضا «أن اعتكف يوما» فدل على أنه أطلق الليلة وأراد بها اليوم، إذ الواقعة واحدة.
1396 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» رواه الدارقطني، والحاكم، وقال بعض الحفاظ: والصحيح أنه موقوف ولأنها عبادة تصح بالليل، فلا يشترط لها الصوم كالصلاة، (والثانية) : لا يجوز إلا بصوم.
1397 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» . رواه أبو داود،(3/5)
ويجاب عنه إن صح بنفي الكمال، جمعا بين الأدلة.
فعلى الأولى يصح اعتكاف ليلة مفردة، وبعض يوم مطلقا. وعلى الثانية: لا يصح اعتكاف ليلة [مفردة] ولا بعض يوم من مفطر، أما من صائم فقطع أبو البركات بصحته، لوجود الشرط وهو الصوم، وهو احتمال لأبي محمد في المغني، والذي أورده مذهبا البطلان، نظرا إلى أن الصوم لم يقصد له، والله أعلم.
[مكان الاعتكاف]
قال: ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه.(3/6)
ش: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد في الجملة بلا ريب، لقول الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وصف سبحانه المعتكف بكونه في المسجد، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف في مسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
1398 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» . وفعله خرج بيانا للاعتكاف المشروع، وقد تقدم قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا اعتكاف إلا في مسجد جامع. ومن شرط المسجد أن يجمع فيه، أي تقام فيه الجماعات، إن تضمن الاعتكاف وقت صلاة، والمعتكف ممن تجب عليه الجماعة، وهو الحر البالغ، غير المعذور، حذارا من ترك الواجب الذي هو الجماعة، أو تكرر الخروج المنافي للاعتكاف في اليوم والليلة خمس مرات، مع إمكان التحرز عن ذلك، أما إن لم يتضمن الاعتكاف وقت صلاة، أو كان المعتكف ممن لا تجب عليه الجماعة، كالصبي والعبد، - إن لم تجب عليه الجمعة - والمرأة، ونحوهم، فالمشترط المسجدية فقط، لزوال المحذور، نعم لا يصح الاعتكاف في مسجد البيت بلا ريب، لانتفاء حكم المسجدية عنه في سائر الأحكام،(3/7)
فكذلك هنا، ولا يشترط للمسجد إقامة الجمعة فيه لندرة الخروج منه، والله أعلم.
[ما يجوز للمعتكف]
قال: ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان.
ش: كذا في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» ، وحاجة الإنسان البول والغائط، كني عنهما بحاجة الإنسان، وفي معنى [ذلك] الاغتسال من الجنابة والوضوء، قال أحمد: لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد. وكذلك الأكل والشرب، إن لم يكن له من يناوله ذلك، وإذا خرج للبول والغائط، وثم سقاية أقرب من منزله، ولا ضرر عليه في دخولها لزمه ذلك، لزوال العذر وإن تضرر بدخولها - كمن عليه نقيصة في ذلك، أو لعدم التمكن من التنظيف، ونحو ذلك - لم يلزمه، دفعا للضرر، وله المضي إلى منزله، وإذا خرج مشى على المعتاد من غير عجلة، ولا توان، لا لأكل ولا لغيره، نعم قال ابن حامد: يأكل في بيته اليسير كلقمة ونحوها، لا جميع أكله، وقال القاضي: يتوجه أن له الأكل في بيته، والخروج إليه ابتداء، لما في الأكل في المسجد من الدناءة، ونصر أبو(3/8)
محمد الأول، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - والله أعلم.
قال: وإلى صلاة الجمعة.
ش: أي وله الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه إذا لم تقم فيه الجمعة، وبهذا يتبين أن قول الخرقي: يجمع فيه. أي تقام فيه الجماعة، لا أنه يجمع فيه أي تقام فيه الجمعة، لأن الخروج للجمعة كالمستثنى باللفظ، للزوم ذلك له، ولأن ذلك واجب متحتم عليه، أشبه الخروج لقضاء العدة، وإذا خرج فصلى، فإن أحب أن يتم اعتكافه في الجامع فله ذلك، وإلا استحب له الإسراع إلى معتكفه، قال أبو محمد: ويحتمل أن يخير في تعجيل الرجوع وتأخيره، لأنه مكان يصلح للاعتكاف، أشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه، والله أعلم.
[ما لا يجوز للمعتكف]
قال: ولا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، إلا أن يشترط ذلك.
ش: أما مع عدم الشرط فلا يفعل ذلك على المشهور من الروايتين، والمجزوم عند [عامة] الأصحاب، لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة» ويرجحه حديث الصحيحين: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» .(3/9)
1399 - وفي الصحيح عنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - – أنها قالت: إن كنت لأدخل البيت للحاجة، والمريض فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة.
ولأن عيادة المريض مستحبة، فلا يترك لها واجب، وشهود الجنازة إن لم يتعين فكذلك، وإن تعين أمكن فعله في المسجد فلا حاجة إلى الخروج، نعم إن لم يمكن شهودها في المسجد فالخروج لواجب تعين عليه، لا لشهود جنازة.
(والرواية الثانية) : له ذلك كما له الوضوء.
1400 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة، وليعد المريض وليحضر الجنازة، وليأت أهله ليأمرهم بالحاجة وهو قائم» رواه الإمام أحمد وأما مع الشرط فيجوز بلا ريب.
1401 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم» ونحوه ولأن مع(3/10)
الشرط المنذور اعتكافه حقيقة ما عدا هذه الشروط.
(تنبيه) : محل الخلاف [السابق] في الاعتكاف الواجب، أما الاعتكاف المتطوع به فله ذلك، لأن له تركه رأسا، لكن الأولى عدم الخروج اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه لم يكن يعرج على المريض، مع كون اعتكافه كان تطوعا، والله أعلم.(3/11)
[مفسدات الاعتكاف]
قال: ومن وطئ فقد أفسد اعتكافه.
ش: يحرم على المعتكف الوطء لنص الكتاب قال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] والجماع مراد من الآية بلا ريب، إما عموما وإما خصوصا، وهو أظهر، فإن وطئ فقد أفسد اعتكافه، لأنه وطء حرام في العبادة، فيفسدها كالوطء في الحج والصوم، مع أن هذا إجماع في العمد حكاه ابن المنذر، انتهى.
وإطلاق الخرقي يشمل العمد وغيره وهو صحيح قياسا على الحج، والصوم. ويتخرج من الصوم عدم البطلان مع العذر كنسيان ونحوه.
ومقتضى كلامه أنه لا كفارة عليه لأجل الوطء، وهو إحدى الروايتين واختيار أبي محمد وزعم في المغني أنه ظاهر المذهب وفي الكافي أنه المذهب، إذ الوجوب من الشرع ولم يرد، ولأنها عبادة لم تجب بأصل الشرع فلم يجب بإفسادها بالوطء كفارة كالوطء في الصوم المنذور. (والرواية الثانية) - واختارها القاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما - تجب الكفارة لأنها عبادة يفسدها الوطء، فوجب به كفارة كالحج، ثم هذه(3/12)
الكفارة كفارة يمين [عند الشريف أبي جعفر، تبعا لأبي بكر في التنبيه، لأنها كفارة نذر، وكفارة النذر كفارة يمين] وعند القاضي في الخلاف: كفارة واطئ في رمضان قياسا لها عليها، وقد حكى الشيرازي القولين روايتين ومقتضى كلامه أن المباشرة دون الفرج لا تبطل، وهو كذلك إن عريت عن الإنزال، أما مع الاقتران به فتفسد على المذهب المجزوم به عند الأكثرين كما في الصوم، وفيه احتمال لابن عبدوس والله أعلم.
قال: ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا.
ش: إذا أفسد الاعتكاف بالوطء، نظرت فإن كان تطوعا لم يجب القضاء، بناء على قاعدتنا من أن النوافل ما عدا الحج والعمرة لا تلزم بالشروع، وقد تقدم ذلك في الصوم. وإن كان الاعتكاف واجبا بأن نذره وجب القضاء، لأن الذمة مشتغلة، ولم يوجد ما يبرئها فوجب براءتها، وهذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فإن كان النذر لأيام متتابعة فقد أفسده(3/13)
بالفطر غير المعذور فيه، فيلزمه الاستئناف بإمكان الإتيان [بالمنذور] على صفته، نعم، مع العذر إن قيل بالإفطار لا ينبغي أن ينقطع التتابع حملا على العذر، بل يقضي ويجري في الكفارة وجهان، وإن كان النذر لأيام معينة كعشر ذي الحجة ونحو ذلك فهل يبطل التتابع، كما لو اشترطه بلفظه، أو لا يبطل لأنه إنما حصل لضرورة الزمن؟ فيه وجهان، فعلى الأول يستأنف العشرة. وعلى الثاني: يتم بقية العشرة ويقضي اليوم الذي أفسده، وتلزمه الكفارة على الوجهين، بتركه عين المنذور، وينبغي أن يجري في الكفارة مع العذر وجهان والله أعلم.
قال: وإذا وقعت فتنة خاف منها ترك الاعتكاف.
ش: إذا وقعت فتنة فخاف على نفسه، أو أهله، أو ماله، منها، جاز له الخروج وترك الاعتكاف، إذ ذاك يترك له الواجب بأصل الشرع، وهو الجمعة والجماعة، فما أوجبه على نفسه أولى، وفي معنى ذلك المرض الذي يشق المقام معه ونحو ذلك والله أعلم.
قال: فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياما معلومة، وقضى ما ترك، وكفر كفارة يمين.(3/14)
ش: إذا زال المعنى الذي جاز لأجله ترك الاعتكاف - كما إذا أمن [في] الفتنة ونحو ذلك، والاعتكاف تطوع - خير بين الرجوع وعدمه، وإن كان واجبا وجب عليه الرجوع إلى معتكفه، ليأتي بالواجب، ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال (أحدها) نذر أياما معلومة مطلقة، كاعتكاف عشرة أيام غير متتابعة، أو عشرة أيام وقلنا: لا يلزمه التتابع على المذهب، فإنه يتم باقيها لا غير، ولا شيء عليه، لإتيانه بالمنذور على وجهه، ويبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله، قاله أبو محمد.
(الثاني) : نذر أياما متتابعة غير معينة - كعشرة أيام متتابعة ونحو ذلك - فيخير بين البناء وقضاء ما بقي منها، مع كفارة يمين، لفوات صفة المنذور، وبين الاستئناف بلا كفارة، لإتيانه بالمنذور على وجهه، وقد نبه الخرقي على هذا في النذر فقال: ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه، فمرض في بعضه، فإذا عوفي بنى، وكفر كفارة يمين، وإن أحب أتى بشهر كامل متتابع، ولا كفارة عليه وكذلك إذا نذرت المرأة صيام شهر متتابع وحاضت فيه.
(الثالث) : من الأحوال: نذر أياما معينة، وهو مراد الخرقي هنا لقوله: معلومة، كعشر ذي الحجة ونحوه، فيقضي ما ترك، ليأتي بالواجب، ويكفر كفارة يمين، لترك المنذور في وقته، إذ النذر كاليمين، ولو ترك ما حلف على فعله، أو فعل ما حلف على تركه، وجبت الكفارة، وإن كان معذورا، (وعن أحمد) ما يدل على أنه لا(3/15)
كفارة مع العذر، حملا على العذر، إذ الكفارة زاجرة أو ماحية، وهما منتفيان معه (وعن القاضي) إن وجب الخروج، كالخروج لنفير عام، أو شهادة متعينة ونحو ذلك، فلا كفارة كالخروج للحيض، وإن لم يجب وجبت، ويقرب منه قول صاحب التلخيص، وابن عبدوس: إن كان الخروج لحق نفسه كالمرض والفتنة ونحوهما، وجبت، وإن كان لحق عليه، كأداء الشهادة، والنفير، والحيض، فلا كفارة. قال: وقيل: تجب، والله أعلم.
قال: وكذلك في النفير إذا احتيج إليه.
ش: إذا احتيج للمعتكف في الجهاد، بأن استنفره الإمام، أو حصر العدو بلده ونحو ذلك، تعين عليه ترك الاعتكاف، والخروج لذلك، وحكمه إذا زال ذلك في رجوعه إلى معتكفه، وفي القضاء والكفارة حكم ما تقدم من التفصيل، لأنه ساواه معنى، فيساويه حكما، والله أعلم.
قال: والمعتكف لا يتجر.
ش: الاعتكاف وضعه حبس النفس للطاعة، والتجارة تنافي ذلك في الجملة.
1402 - «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن البيع والشراء في المسجد» ، رواه الترمذي وحسنه. وإذا نهي عن البيع والشراء في غير حال الاعتكاف ففيه أجدر.(3/16)
(تنبيه) : له أن يشتري ما لا بد له منه من مأكول ونحوه، لكن خارج المسجد، والله أعلم.
قال: ولا يتكسب بالصنعة.
ش: كالخياطة ونحوها، إذ ذاك في معنى التجارة، فمنع منه كهي. ومفهوم كلام الخرقي أن له فعل الصنعة لا متكسبا، وظاهر كلام أحمد المنع، قال في رواية المروذي وقد سأله: ترى له أن يخيط؟ قال: لا ينبغي أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل.
وقرر ذلك القاضي فقال: لا يجوز أن يخيط في المسجد، وإن احتاج إليها، قلت: وقال أبو محمد: الأولى فعل ما احتاج إليه وقل، مثل أن انشق قميصه فيخيطه، ونحو ذلك، والله أعلم.
قال: ولا بأس أن يتزوج في المسجد، ويشهد النكاح.
ش: إذ النكاح طاعة، وحضوره قربة، ومدته لا تطول، أشبه رد السلام، وتشميت العاطس، والله أعلم.(3/17)
قال: والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة تخرج لقضاء العدة، وتفعل كما فعل الذي خرج لفتنة.
ش: المتوفى عنها زوجها إذا كانت معتكفة فإنها تخرج لتعتد في بيت زوجها، إذ ذاك واجب بأصل الشرع، والاعتكاف إن كان تطوعا فواضح، وإن كان واجبا فهي التي أوجبته على نفسها، ولأن الاعتكاف لا يفوت، لأنه يقضى، والعدة تفوت، لانقضائها بمضي الزمن، فإذا انقضت العدة فإنها تفعل [كما] فعل الذي خرج للفتنة، فترجع إلى معتكفها، وتقضي وتكفر، على ما مضى من التفصيل فيه، لاشتراكهما في أنه خروج لواجب، والله أعلم.
قال: والمعتكفة إذا حاضت خرجت من المسجد، وضربت خباء في الرحبة.
ش: إذا حاضت المعتكفة خرجت من المسجد، لأنه حدث يمنع اللبث في المسجد، فهو كالجنابة، بل آكد.
1403 - وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إني لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض» رواه أبو داود.
1404 - وفي حديث آخر: « «إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض»(3/18)
رواه ابن ماجه، وإذا خرجت فإن لم يكن للمسجد رحبة مضت إلى بيتها، وإن كانت له رحبة ضربت خباء، وأقامت فيها لأن ذلك أقرب إلى محل اعتكافها.
1405 - وقد روى أبو حفص بسنده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كن [المعتكفات] إذا حضن أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإخراجهن من المسجد، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن» . وهذا على سبيل الاستحباب قاله أبو البركات، وصاحب التلخيص، حاكيا له عن بعض الأصحاب. وكذلك(3/19)
قال أبو محمد: الظاهر أنه مستحب وشرط ذلك الأمن على نفسها، وإلا رجعت إلى بيتها، ولهذا قال بعضهم هذا مع سلامة الزمان، وإذا طهرت رجعت، فأتت بما بقي من اعتكافها، ولا كفارة عليها، كما أشعر به كلام الخرقي، حيث لم يجعلها كالخارجة لقضاء عدتها، وهو واضح، إذ هذا خروج معتاد أشبه الخروج للجمعة، ولأنه كالمستثنى لفظا، وقد تقدم أن صاحب التلخيص حكى قولا بوجوب الكفارة عليه [وكذلك حكاه أبو البركات، نظرا إلى أن العذر لا يمنع وجوب الكفارة] .
وقد دل كلام الخرقي على أن رحبة المسجد ليست في حكم المسجد، وعن أحمد ما يدل على روايتين، وجمع القاضي بينهما على اختلاف حالتين، فالموضع الذي قال فيه تقيم، إذا كانت محوطة وعليها باب في حكمه، وما لا فلا، والله أعلم.
قال: ومن نذر أن يعتكف شهرا بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس، والله أعلم.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، إذ الشهر يدخل بدخول الليل، ولهذا ترتبت الأحكام المعلقة بها من حلول الديون(3/20)
ونحوها بذلك، ومن ضرورة اعتكاف جميع الليل الدخول قبل غروب الشمس، نظرا إلى قاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به [فهو] واجب. (والرواية الثانية) : قبل طلوع فجر أول يوم من أوله، ولعله بناء على اشتراط الصوم له، وإذا لا يبتدئ قبل الشرط.
1406 - واستدل بعضهم «بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه» . متفق عليه. وهذا لا يبيح الدعوى لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدخل إلا بعد صلاة الصبح، وهم يوجبون قبل ذلك، على أن اعتكافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تطوعا، والمتطوع متى شاء شرع، مع أن ابن عبد البر قال: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بهذا الحديث. والله أعلم.(3/21)
[كتاب الحج] [حكم الحج]
ش: الحج بفتح الحاء وكسرها القصد، وعن الخليل: كثرة القصد إلى من يعظمه، وفي الشرع: عبارة عن القصد إلى محل مخصوص مع عمل مخصوص.
وهو مما علم وجوبه من دين الله تعالى بالضرورة، بشهادة الكتاب، والسنة، والإجماع قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] .
1407 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» وأجمع المسلمون على ذلك والله أعلم.
[شروط وجوب الحج]
قال: ومن ملك زادا وراحلة، وهو عاقل بالغ، لزمه الحج والعمرة.(3/22)
ش: يشترط لوجوب الحج شروط:
(أحدها) الاستطاعة، لأن الخطاب إنما ورد للمستطيع، إذ (من) بدل من (الناس) فتقدير الكلام: ولله على المستطيع. ولانتفاء تكليف ما لا يطاق شرعا، بل وعقلا، والاستطاعة عندنا أن يملك زادا وراحلة.
1408 - لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في قوله عز وجل {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قال: قيل يا رسول: ما السبيل؟ قال «الزاد والراحلة» رواه الدارقطني.
1409 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «الزاد والراحلة» يعني قوله عز وجل {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] » رواه ابن ماجه.(3/23)
1410 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما يوجب الحج؟ قال «الزاد والراحلة» رواه الترمذي وقال: وعليه العمل عند أهل العلم، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فكانت الاستطاعة فيها شرط ذلك، دليله الجهاد، وكون القوة قد يحصل بها الاستطاعة يتخلف في غالب الناس، والحكم إنما يناط بالأعم الأغلب.
ويشترط في الزاد والراحلة أن يكونا صالحين لمثله، لمدة ذهابه وإيابه، وأن يكون ذلك فاضلا عن نفقة نفسه، وعياله(3/24)
وحوائجه الأصلية، وبيان ذلك له موضع آخر إن شاء الله، وإنما يشترط الراحلة لمن بينه وبين مكة مسافة القصر، أما من كان دون ذلك، ويمكنه المشي، فلا تشترط له الراحلة.
وقول الخرقي: من ملك. مقتضاه [أنه] لو بذل له ذلك لم يصر مستطيعا، وإن كان الباذل ابنه، وهو صحيح لما تقدم، إذ قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في جواب ما يوجب الحج؟ قال «الزاد والراحلة» [أي ملك الزاد والراحلة] انتهى.
(الثاني والثالث) : العقل والبلوغ فلا يجب الحج على مجنون ولا صبي.
1411 - لما روى ابن عباس قال: أتي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسا، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها علي بن أبي طالب فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها أن ترجم. فقال: ارجعوا بها. فقال: يا أمير المؤمنين إن القلم مرفوع عن ثلاثة، عن المجنون حتى يبرأ، وفي رواية حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل. فقال: بلى. قال: فما بال هذه؟ قال: لا شيء. قال: [فأرسلها] . فأرسلها عمر قال: فجعل يكبر، وفي رواية قال له: أوما تذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال. . وذكر الحديث وفيه: وقال: «عن الصبي حتى يحتلم» رواه أبو داود.(3/25)
(الشرط الرابع) : الحرية، ويأتي في كلام الخرقي إن شاء الله تعالى.
(الشرط الخامس) : الإسلام، وكأن الخرقي إنما ترك هذا الشرط لوضوحه، إذ جميع العبادة لا يجب على كافر أداؤها، ولا قضاؤها إذا أسلم، وإنما معنى توجه الخطاب إليه ترتب ذلك في ذمته فيسلم ويفعل، وفائدة ذلك العقاب في الآخرة، نعم اختلف فيما إذا وجد المرتد الاستطاعة في زمن الردة، ثم أسلم وفقدت، هل يجب عليه الحج بناء [على أنه] في حكم المسلم حيث التزم حكم الإسلام، أو لا يجب عليه، بناء [على أنه] في حكم الكافر الأصلي، والإسلام يجب ما قبله؟ فيه روايتان أشهرهما الثاني، انتهى.
فظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لوجوب الحج غير ما ذكر، وهذا إحدى الروايتين، وإليها ميل أبي محمد، لظاهر إطلاق الكتاب والسنة، وهو قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] الآية، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» وأصرح من هذا لما سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ما يوجب الحج قال «الزاد والراحلة» ولأن إمكان الأداء على قاعدتنا ليس بشرط في وجوب العبادة، بدليل ما إذا طهرت(3/26)
الحائض، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن الأداء فيه.
(والرواية الثانية) : وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى، والقاضي في الجامع: يشترط لوجوب الحج شرطان آخران، سعة الوقت، وأمن الطريق، إذ بدونهما يتعذر فعل الحج، فاشترطا كالزاد والراحلة، فعلى الأولى هما شرطان للزوم الأداء، وفائدة الروايتين إذا مات قبل الفعل، فعلى الأولى يخرج من تركته للوجوب، وعلى الثانية لا، لعدمه، ومعنى سعة الوقت أن يمكنه المسير على العادة في وقت جرت العادة به، ومعنى تخلية الطريق أن يكون آمنا مما يخاف في النفس، والبضع، والمال، سالما من خفارة وإن كانت يسيرة، اختاره القاضي وغيره، حذارا من الرشوة في العبادة، وعن ابن حامد: يجب بذل الخفارة اليسيرة، هذا نقل أبي البركات، وأبي محمد في الكافي، وفي المقنع والمغني والتلخيص: إن لم يجحف بماله لزمه البذل، لأن ذلك مما يتسامح بمثله.
وحيث وجب الحج فهل تجب العمرة؟ فيه ثلاث روايات: (أشهرها) وبه جزم جمهور الأصحاب: نعم.
1412 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال «نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج(3/27)
والعمرة» رواه أحمد، وابن ماجه، قال بعض الحفاظ: ورواته ثقات.
1413 - «وعن أبي رزين العقيلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، ولا الظعن، فقال «حج عن أبيك واعتمر» رواه الخمسة وصححه الترمذي، وقال الإمام أحمد: لا أعلم في وجوب العمرة حديثا أجود من هذا، ولا أصح.
1414 - «وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء رجل فقال: يا محمد ما الإسلام؟ فقال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان» وذكر باقي(3/28)
الحديث، وأنه قال «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح ثابت.
1415 - وقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنهما لقرينة الحج في كتاب الله. يشير إلى قوله سبحانه {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .
1416 - والظاهر أن الصبي بن معبد فهم ذلك [أيضا] وأقره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليه حيث قال لعمر: يا أمير المؤمنين إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، فأهللت بهما، فقال عمر: هديت لسنة نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رواه أبو داود، والنسائي.
(والرواية الثانية) : لا تجب.
1417 - لما روي [عن] جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن(3/29)
العمرة: واجبة هي؟ قال «لا، وأن تعتمر فهو أفضل» رواه أحمد وضعفه، والترمذي وصححه.
(والرواية الثالثة) : تجب إلا على أهل مكة، وهذا المذهب عند أبي محمد في المغني إذ ركن العمرة ومعظمها هو الطواف، وهو حاصل منهم.
1418 - قال أحمد: كان ابن عباس يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم الطواف بالبيت. والله أعلم.(3/30)
قال: فإن كان مريضا لا يرجى برؤه، أو شيخا لا يستمسك على الراحلة، أقام من يحج عنه ويعتمر.
ش: هذان شرطان لوجوب المباشرة بلا ريب، حذارا من تكليف ما لا يطاق، أو حصول الضرر المنفي شرعا، وإذا عدما وبقية الشروط موجودة فيه، ووجد مالا فاضلا عن حاجته المعتبرة، وافيا بنفقة راكب، وجب عليه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من بلده، لما تقدم من حديث أبي رزين.
1419 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال «فحجي عنه» رواه الجماعة.(3/31)
1420 - وعن عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل [من خثعم] إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ قال «أنت أكبر ولده؟» قال: نعم. قال «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته [عنه] أكان ذلك يجزئ عنه؟» قال: نعم. قال «فحج عنه» رواه أحمد , والنسائي بمعناه، فأخبره - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بأن الحج مكتوب عليه وفريضة على من هذا حاله، ولم ينكر ذلك، وإذا وجب وجبت النيابة لتبرأ الذمة.
ومفهوم كلامه أن المريض المرجو البرء ليس له الاستنابة، و [كذلك] الصحيح بطريق الأولى، وهو كذلك في الفرض، أما في النفل فالمريض له الاستنابة، والصحيح فيه روايتان،(3/32)
(الجواز) بشرط أن يحج الفرض، نظرا إلى أن الحج لا يلزمه بنفسه، أشبه المعضوب، (وعدمه) لأنه يقدر على الحج بنفسه، فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض هذه طريقة أبي محمد في المغني، وطريقة صاحب التلخيص، وابن حمدان في الصغرى جريان الروايتين فيهما.
(تنبيهان) : [أحدهما] : حكم المحبوس حكم المريض المرجو البرء.
(الثاني) : لو لم يجد العاجز من ينوب، فقال أبو محمد: قياس المذهب أنه يبنى على الروايتين في إمكان المسير، هل هو شرط للوجوب، أو للزوم الأداء؟ فعلى الأول: لا يجب عليه شيء، وعلى الثاني: يثبت الحج في ذمته، والله أعلم.
قال: وقد أجزأ عنه وإن عوفي.
ش: إذا أقام المعضوب من يحج عنه فإنه يجزئ [عنه] ذلك وإن عوفي، لأنه أتى بالمأمور به، فيخرج عن العهدة، كما لو لم يبرأ، إذ الشارع إنما يكلف العبد بما [في] ظنه واجتهاده، لا بما لا اطلاع له عليه.
واعلم أن هذا له ثلاث حالات: (إحداها) بريء بعد فراغ النائب، فيجزئه بلا ريب عندنا، (الحالة الثانية) بريء قبل إحرام النائب، فلا يجزئه بلا ريب، للقدرة على المبدل قبل(3/33)
الشروع في البدل، أشبه المتيمم إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة، (الحالة الثالثة) : بعد شروع النائب وقبل الفراغ، فقال أبو محمد: ينبغي أن لا يجزئه، وهو أظهر الوجهين عند أبي العباس، كالمتيمم إذا وجد الماء في الصلاة.
(والثاني) - وهو احتمال لأبي محمد في المغني، واختاره صاحب الوجيز - يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي، والله أعلم.
[شرط الاستطاعة للحج بالنسبة للمرأة]
قال: وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل.
ش: المذهب المشهور المعروف أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم.
1421 - لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها [أو ابنها] أو ذو محرم منها» رواه أبو داود , والترمذي، ومسلم، وللبخاري نحوه.(3/34)
1422 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم» متفق عليه.
1423 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها» رواه مسلم، وأبو داود، ورواه البخاري، والترمذي وقالا «أن تسافر يوما وليلة» ولأبي داود في رواية «بريدا» .
1424 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يقول «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا.
قال «فانطلق فحج مع امرأتك» متفق عليه. وهذا معنى دخول سفر الحج في العموم.(3/35)
وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز ذلك في الفريضة، قال: أما في حجة الفريضة فأرجو أنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته، وأما في غيرها فلا، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فسر الإيجاب بالزاد والراحلة، وهذه واجدتهما، ولأنه سفر واجب، فلم يشترط له المحرم كسفر الهجرة، وأجيب بأن ما تقدم أخص، وفيه زيادة، وهو أكثر رواة، وأصح بلا ريب، وسفر الهجرة محل ضرورة، فلا يقاس عليه غيره.
وبالجملة لا تفريع ولا عمل على هذه الرواية، أما على المذهب فيشترط المحرم لمسافة القصر فما زاد، وفي اشتراطه لما دونها روايتان: (أشهرهما) : الاشتراط، ولعل مبناهما اختلاف الأحاديث، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال:
1425 - أما أبو هريرة فيقول: يوم وليلة. ويروى عن أبي هريرة «لا تسافر سفرا» أيضا، وأما حديث أبي سعيد فيقول «ثلاثة أيام» قيل له: ما تقول أنت: قال: لا تسافر قليلا ولا كثيرا إلا مع ذي محرم.
وعلى هذا فيجمع بين الأحاديث بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك في مواطن مختلفة، بحسب أسئلة، فحدث كل بما(3/36)
سمع، وإن كان واحدا فحدث بها مرات على حسب ما سمعها، أو يقال: المراد بالليلة مع اليوم، وذلك إشارة إلى مدة الذهاب.
1426 - وقد روي في الصحيح «يومان» فيكون إشارة إلى مدة الذهاب والرجوع، ورواية «الثلاث» إشارة إلى مدة الذهاب، والرجوع، واليوم الذي يقضي فيه الحاجة، أو يقال: هذا كله تمثيل للعدد القليل، فاليوم الواحد [أول العدد وأقله، والاثنان أول الكثير وأقله، والثلاث أول الجمع وأقله فأشار - والله أعلم - إلى أن مثل هذا] في قلة الزمن لا تسافره إلا مع ذي محرم، فكيف بما فوقه. انتهى.
وهل المحرم شرط للوجوب، وهو ظاهر كلام الخرقي، أو للزوم الأداء؟ فيه روايتان.
والمحرم زوج المرأة ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح، قال أبو محمد متابعة لكثير من الأصحاب: فيخرج زوج الأخت ونحوها، إذ تحريمها [عليه] ليس على(3/37)
التأبيد، وكذلك عبد المرأة، لا يكون محرما لسيدته على المذهب المشهور والمجزوم به عند الأكثرين، منهم أبو محمد، وصاحب التلخيص لذلك.
1427 - وقد جاء عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سفر المرأة مع عبدها ضيعة» [رواه سعيد] (وعن أحمد) - وزعم القاضي في شرح المذهب أنه المذهب - أنه محرم لها، لأنه يباح له النظر إليها، أشبه ذا رحمها، ويخرج الزاني والواطئ بالشبهة لا يكون محرما للمزني بها، والموطوءة بشبهة، لعدم إباحة السبب، هذا المذهب المنصوص، وقيل: بل هو محرم لها، نظرا للتحريم المؤبد، وقيل - ويحكى عن ابن عقيل -: تحصل المحرمية في وطء الشبهة [دون الزنا، لعدم وصف وطء الشبهة] بالتحريم، وهو ظاهر(3/38)
[ما] في التلخيص، قال: لسبب غير محرم. وعدل أبو البركات [عن هذا كله] فقال: زوجها، ومن تحرم عليه أبدا، لا من تحريمها بوطء شبهة أو زنا. فقيل: إنما قال ذلك حذارا من أن يرد عليه أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن تحريمهن على المسلمين أبدا بسبب مباح، وهو الإسلام، وليسوا بمحارم لهن، فكان يجب استثناؤهن كما استثنى المزني بها، فأجيب لانقطاع حكمهن [فأورد عليه الملاعنة، ولا جواب عنه.
ويعتبر للمحرم التكليف والإسلام، نص عليهما، والبذل للخروج فلو] امتنع لم يجبر على المذهب، وعنه: يجب عليه الخروج، فيقتضي أنه يجبر، والله أعلم.
[الحج عن الميت]
قال: فمن فرط فيه حتى توفي، أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة.
ش: «من» من أدوات الشرط، يشمل المذكر والمؤنث، على المشهور من قولي الأصوليين، فمن وجب عليه الحج(3/39)
من الرجال والنساء، ولم يحج حتى مات، وجب أن يحج عنه، ويعتمر إن قلنا بوجوب العمرة، وهو المذهب.
1428 - لما روي عن ابن عباس – - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: «أتى رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟» قال: نعم. قال «فاقض الله فهو أحق بالقضاء» وفي رواية: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال «حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟» قالت: نعم. قال «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» متفق عليه.
1429 - وله - أيضا - قال: «أتى رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أبي مات(3/40)
وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال «أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه؟» قال: نعم» . رواه الدارقطني.
1430 - وعن بريدة قال: «جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج، أفأحج عنها؟ قال «نعم حجي عنها» رواه الترمذي انتهى. ويحج عنه من جميع ماله، لأنه دين مستقر، أشبه دين الآدمي، فإن اجتمع معه دين آدمي تحاصا على المذهب، لاستواء الحقين في الوجوب، ووجود مرجح لكل منهما، فدين الله يقدم لعظم مستحقه، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الله أحق بالوفاء» ودين الآدمي لشحه، وقيل: يقدم دين الآدمي، للمعنى الثاني.(3/41)
ويجب أن يحج عنه من حيث وجب، من بلده، أو من محل يساره، لتعلق الوجوب من ثم، والقضاء على وفق الأداء، نعم، لو خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات، لأن ما مضى سقط عنه وجوبه، حتى لو فعل بعض المناسك سقطت عنه، وفعل [عنه] ما بقي، ولو لم تف تركته بالإخراج من حيث وجب حج عنه من حيث يبلغ على المذهب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (وعنه) ما يدل على سقوط الحج والحال هذه، لعدم الإتيان به على الكمال، وحيث وجب الإتيان به من محل فأتى به من دونه فإن كان دون مسافة القصر أجزأ، لأنه في حكم القريب، وإن بلغها فقولان: (الإجزاء) ، وهو احتمال لأبي محمد، كما لو أحرم دون الميقات وهو فرضه، (وعدمه) ، قاله القاضي، لعدم الإتيان بالواجب.
وقول الخرقي: فمن فرط حتى توفي. لا مفهوم له، بل من مات بعد وجوب الحج عليه وجب أن يحج عنه بشرطه، وإن لم يكن فرط، إذ التمكن من الأداء ليس بشرط في الوجوب، والظاهر أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار بهذا إلى أن الحج وجوبه على(3/42)
الفور، وهو المشهور والمذهب من الروايتين، بناء على قاعدتنا من أن الأوامر كلها على الفور.
1431 - وفي الباب بخصوصه عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» رواه أحمد، وفيه غير ذلك، والله أعلم.
[شروط الحج عن الغير]
قال: ومن حج عن غيره، ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ. وكانت الحجة عن نفسه.
ش: لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره على الصحيح المشهور من الروايتين، حتى أن القاضي في الروايتين قال: لا يختلف أصحابنا أنه لا ينعقد عن المحجوج عنه.
1432 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع(3/43)
رجلا يقول: لبيك عن شبرمة. قال: «ومن شبرمة؟» قال أخ لي أو قريب لي. قال «أحججت عن نفسك؟» قال: لا. قال «حج عن نفسك ثم احجج عن شبرمة» رواه أبو داود، وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه.(3/44)
(والثانية) : - يجوز، حكاها أبو الحسين، وغيره، لأن الحج تدخله النيابة، فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة، فعلى هذا يقع عن الغير لعموم «الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» .
وعلى المذهب فاختار أبو بكر في الخلاف - وحكاه عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد - يقع إحرامه باطلا، لأنه لم ينو عن نفسه فلا يحصل له إذ ليس لامرئ إلا ما نوى، وغيره ممنوع من الإحرام [عنه] فلا يصح له، لارتكابه النهي، وقال الخرقي، وابن حامد، والقاضي وأتباعه: يقع حجة عن نفسه، إلغاء لنية التعيين، فيصير كما لو أحرم مطلقا، ولو أحرم مطلقا صح عن نفسه بلا ريب فكذلك هاهنا، وفارق الصلاة، فإنها لا تصح بنية مطلقة، وكذلك الصوم على المذهب.
1433 - وقد جاء في الحديث « «هذه عنك، وحج عن شبرمة» رواه الدارقطني، وقال أبو حفص العكبري: يقع الإحرام عن(3/45)
المحجوج [عنه] نظرا للنية، ثم [يجب أن] يقلبه الحاج عن نفسه.
1434 - إذ في الحديث « «اجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة» رواه ابن ماجه وحيث لا يقع الحج عن الغير فإنه يرد ما أخذ، لأنه لم يعمل العمل الذي أخذ العوض لأجله.
(تنبيهات) : (أحدها) : الحكم فيما إذا كان عليه قضاء أو نذر فحج عن الغير كالحكم في حجة الإسلام على ما سبق.
(الثاني) : كما أنه لا يجوز أن يحج عن الغير [من] لم يحج عن نفسه كذلك يجب إذا حج عن نفسه أن يقدم الفريضة، ثم حجة القضاء، ثم النذر، ثم النافلة وإذا جوزنا [ثم جوزنا] هنا، فعلى الأول: إذا خالف فقدم على حجة(3/46)
الإسلام غيرها، أو على القضاء النذر، أو على النذر التطوع، فهل يقع باطلا، أو عن ما يجب الإيقاع عنه، على ما تقدم من الخلاف؟ هذا نقل أبي البركات، وأما أبو الحسين في الفروع، وصاحب التلخيص، وأبو محمد في المغني، فحكوا هنا روايتين أصحهما الوقوع عما يجب الإيقاع عنه.
(والثانية) : أنه يقع عما نواه، قال أبو الحسين: وهو ظاهر كلام أبي بكر. وقال أبو محمد: وهو قول أبي بكر، ولم يحكوا القول بالبطلان هنا، مع حكايتهم قول أبي بكر ثم. انتهى.
وحكم نائب المعضوب أو الميت يحرم بتطوع أو نذر عمن عليه حجة الإسلام حكم ما لو أحرم هو كذلك، إذ حكم النائب حكم المنوب عنه، نعم، له أن يستنيب رجلين أحدهما يحرم بالفريضة والآخر بالمنذورة في سنة واحدة، لكن أيهما أحرم أولا وقع عن الفريضة، ثم الثاني عن النذر، قاله أبو محمد (الثالث) : العمرة إن قيل بوجوبها كالحج فيما تقدم، والله أعلم.
[حج الصبي والعبد]
قال: ومن حج وهو غير بالغ فبلغ، أو عبد فعتق فعليه الحج.
ش: من حج وهو صبي ثم بلغ أو [وهو] عبد ثم عتق لم(3/47)
يجزئهما عن حجة الإسلام، وعليهما الحج بعد البلوغ والعتق.
1435 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى» رواه البيهقي [وغيره] وقال بعض الحفاظ: ولم يرفعه إلا يزيد بن زريع عن شعبة وهو ثقة.
1436 - وعن محمد بن كعب القرظي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما(3/48)
رجل مملوك حج به أهله، فمات أجزأت عنه، فإن عتق فعليه الحج» ذكره أحمد في رواية ابنه عبد الله هكذا مرسلا ولأنهما فعلا الحج قبل وجوبه عليهما فلم يجزئهما، أصله إذا صلى الصبي الصلاة ثم بلغ في وقتها، مع أن هذا قول عامة أهل العلم إلا شذوذا، بل قد حكاه الترمذي إجماعا.
وقد فهم [من] كلام الخرقي أنه يصح حج الصبي والعبد، ولا ريب في ذلك لما تقدم، ولأن العبد من أهل العبادات والتكاليف في الجملة.
1437 - وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لقي ركبا بالروحاء فقال «من القوم؟» قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال «أنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فرفعت إليه امرأة صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال «نعم، ولك أجر» رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وفي رواية لمسلم «صبيا صغيرا» .(3/49)
واقتضى كلام الخرقي أيضا أن الحج لا يجب عليهما وإلا لأجزأهما، وهو كذلك، لما تقدم من حديثي ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي، ولأن الصبي القلم مرفوع عنه، والعبد مشغول بحقوق سيده، والحج تطول مدته غالبا، ويعتبر له الزاد والراحلة، فلم يجب على العبد كالجهاد.
(تنبيه) : لو حصل العتق أو البلوغ قبل الفراغ من الحج، فإن كان بعد فوات وقت الوقوف لم يجزئهما ذلك عن حجة الإسلام بلا ريب، لفوات الركن الأعظم وهو الوقوف، وإن كان في وقت يدركان معه الوقوف ووقفا، نظرت فإن كان قبل السعي، أو بعده - وقلنا السعي ليس بركن - أجزأتهما تلك الحجة عن حجة الإسلام، لإدراكهما الركن [الأعظم] وهو الوقوف، والإحرام مستصحب.
1438 - واعتمد أحمد بأن ابن عباس قال: إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته، وإن أعتق بجمع لم تجزئ عنه. وإن كان العتق أو البلوغ بعد السعي، وقلنا بركنيته فوجهان (أحدهما) - واختاره ابن عقيل تبعا لقول شيخه في المجرد: أنه قياس(3/50)
المذهب - لا يجزئه، لوقوع الركن في غير وقت الوجوب، أشبه ما لو كبر للإحرام ثم بلغ. (والثاني) - وهو اختيار القاضي أظنه في التعليق، وأبي الخطاب، وظاهر كلام أبي محمد - يجزئه، نظرا لحصول الركن الأعظم وهو الوقوف، وجعلا لغيره تبعا له، والله أعلم.
قال: وإذا حج بالصغير جنب ما يتجنبه الكبير.
ش: إذا حج بالصبي وجب أن يجنب ما يجنبه الكبير من الطيب، واللباس، وقتل الصيد، وحلق الشعر، وغير ذلك، لأن الحج يصح له بحكم النص السابق، وإذا صح له ترتبت أحكامه، ومن أحكامه تجنب ما ذكر، وهو لا يخاطب بخطاب تكليفي، فوجب على الولي أن يجنبه ذلك، كما وجب عليه تجنيبه شرب الخمر، وغيرها من المحرمات.
1439 - وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت [تجرد] الصبيان إذا دنوا من الحرم، والله أعلم.
قال: وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه.
ش: كما إذا عجز عن الرمي، أو الطواف ونحوهما.
1440 - لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حججنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم» . رواه أحمد، وابن ماجه.(3/51)
1441 - وعن ابن عمر أنه كان يحجج صبيانه وهم صغار، فمن استطاع منهم أن يرمي رمى، ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه.
1442 - وعن أبي إسحاق أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاف بابن الزبير في خرقة. رواهما الأثرم.
وظاهر كلام الخرقي أن ما أمكن الصبي عمله عمله، وذلك كالوقوف، والمبيت بمزدلفة، وبمنى، ونحو ذلك، وكذلك الإحرام إن عقله صح منه بإذن الولي بلا ريب وبدون إذنه فيه وجهان: أصحهما - وبه جزم أبو محمد - لا يجزئه، قياسا على بقية تصرفاته، إذ لا ينفك عن لزوم [مال] فهو كالبيع.
والثاني: يجزئه تغليبا لجانب العبادة، وإن لم يعقله فعله الولي، (والولي) هو من يلي ماله من أب أو غيره، وفي صحة إحرام الأم عنه وجهان، (الصحة) وهو ظاهر كلام أحمد، واختاره ابن عقيل، ومال إليه أبو محمد، لظاهر حديث ابن عباس، إذ الظاهر أن الأجر الثابت لها لكون الصغير تبعا لها في(3/52)
الإحرام، (وعدمها) وهو اختيار القاضي، لعدم ولايتها [عليه] في المال، أشبهت الأجنبي، وفي بقية العصبات وجهان مخرجان من القولين فيها، فأما الأجنبي فلا يصح أن يحرم عنه وجها واحدا، ومعنى الإحرام عنه أن يعقد له الإحرام، فيصير الصبي محرما بذلك [الإحرام] دون العاقد، والله أعلم.
قال: ومن طيف به محمولا كان الطواف له دون حامله، والله أعلم بالصواب.
ش: يصح طواف المحمول في الجملة، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، ثم لا يخلو من ثمانية أحوال (أحدها) : نويا جميعا عن [الحامل، فيصح له فقط بلا ريب.
(الثاني) نويا جميعا عن] المحمول، فتختص الصحة به أيضا.
(الثالث) : نوى كل منهما عن نفسه، فيصح الطواف للمحمول دون الحامل، جعلا له كالآلة، وحسن أبو محمد صحة الطواف لهما [وهو مذهب الحنفية، واحتمال لابن الزاغوني] نظرا إلى نيتهما، ومنع أبو حفص العكبري الصحة في هذه الصورة رأسا، زاعما أنه لا أولوية لأحدهما، والفعل الواحد لا يقع عن اثنين، وهذه الصورة - والله أعلم - هي الحاملة للخرقي على ذكر هذه المسألة.
(الرابع(3/53)
والخامس) : نوى كل منهما عن نفسه، ولم ينو الآخر [شيئا] فيصح للناوي دون غيره.
(السادس والسابع والثامن) : لم ينو واحد منهما، أو نوى كل منهما عن صاحبه، فلا يصح لواحد منهما، ويتحرر أنه يصح الطواف للمحمول في ثلاث صور، إذا نويا جميعا له، أو نوى هو لنفسه ولم ينو الآخر شيئا، أو نوى كل منهما لنفسه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب ذكر المواقيت]
ش: المواقيت جمع ميقات، وهو الزمان والمكان المضروب للفعل، والله أعلم.
قال: وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة، وأهل اليمن من يلملم، وأهل الطائف ونجد من قرن، وأهل المشرق من ذات عرق.
1443 - ش: روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن» قال ابن عمر - رضي الله(3/54)
عنه -: وذكر لي - ولم أسمع - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «يهل أهل اليمن من يلملم» .
1444 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن، ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة» متفق عليهما، فهذه الأربع مواقيت ثبتت في الصحيح.
1445 - وأما ذات عرق لأهل المشرق ففي سنن أبي داود، والنسائي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وقت لأهل العراق ذات عرق.»
1446 - وفي البخاري عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما فتح هذان المصران، أتوا عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حد لأهل نجد قرنا» ، وإنه جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا أن نأتي قرنا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من(3/55)
طريقكم. قال: فحد لهم عمر ذات عرق. فيحتمل أن اجتهاد عمر – - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقع على وفق ما قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان موفقا للصواب، ويحتمل اختصاص عمر بذلك، وكافيك به لكن ثبوت توقيت ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس كغيره، وقد أنكر أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حديث عائشة في ذات عرق.(3/56)
1447 - وجاء عن ابن عباس قال: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل المشرق العقيق» ، رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، قال الحافظ المنذري: وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.
(تنبيه) : «ذو الحليفة» بضم الحاء وفتح اللام - موضع عند قرية، بينه وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، «والجحفة» بجيم مضمومة، ثم حاء مهملة ساكنة - قرية جامعة تميز على طريق المدينة من مكة كان اسمها (مهيعة) ، فجحف السيل بأهلها فسميت به، (ومهيعة) بفتح الميم، وسكون الهاء، وفتح الياء، وقال بعضهم بكسر(3/57)
الهاء كجميلة، وهي [على] ثلاث مراحل من مكة، و «قرن» بفتح القاف [وسكون الراء المهملة، ويقال له «قرن المنازل» و «قرن الثعالب» ورواه بعضهم بفتح الراء وغلط، قيل] من قال بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه، فإنه موضع فيه طرق مفترقة، وهو تلقاء مكة، على يوم [وليلة] منها، و «يلملم» بفتح الياء آخر الحروف، و [يقال] : ألملم بفتح الهمزة، والياء بدل منها، وقال ابن السيد: يلملم ويرمرم باللام والراء، وهو على ليلتين من مكة، و «ذات عرق» منزل معروف من منازل الحاج، يسمى بذلك لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير، وقيل: العرق من الأرض سبخة تنبت الطرفاء، و «العقيق» قبل ذات عرق بمرحلة أو مرحلتين، وكل مسيل شقه ماء السيل فوسعه فهو عقيق، و «المصران»(3/58)
البصرة والكوفة والمصر المدينة «والجور» الميل عن القصد، والله أعلم.
قال: وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل.
ش: ميقات أهل مكة إذا أرادوا العمرة من الحل.
1448 - لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[المحصب] فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال «اخرج بأختك [من الحرم] فلتهل بعمرة، ثم لتطف بالبيت، فإني أنتظركما هنا» مختصر، متفق عليه. وليجمع في النسك بين الحل والحرم، إذ أفعال العمرة كلها في الحرم، فلو أحرم منه لم يجمع بينهما، وهذا بخلاف الحج، إذ في الحج يخرج إلى عرفة، فيحصل الجمع، ومن أي الحل أحرم جاز، وإنما أمرت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - والله أعلم بالإحرام من التنعيم لأنه أقرب الحل إلى مكة. وقال أحمد في المكي: كلما تباعد فهو أعظم للأجر، هي على قدر تعبها، وذكر صاحب التلخيص أن أفضل مواقيتها الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية، فلو خالف فأحرم بها من الحرم، أثم ولزمه دم. لمخالفة الميقات، ثم إن خرج إلى الحل قبل إتمامها وعاد أجزأته عمرته، لوجود الجمع بين الحل والحرم، وإن لم يخرج حتى أتم أفعالها فوجهان (أحدهما) : وهو المشهور يجزئه،(3/59)
إذ فوات الإحرام من الميقات لا يقتضي البطلان، دليله الحج.
(والثاني) : لا يجزئه، نظرا إلى أن الجمع شرط وقد فات، فعلى هذا لا يعتد بأفعاله، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها، والله أعلم.
قال: وإذا أرادوا الحج فمن مكة.
ش: إذا أراد أهل مكة الحج فميقاتهم من مكة، لما تقدم من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي رواية «حتى أهل مكة يهلون منها» .
1449 - «وقال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح» . رواه مسلم (وعن أحمد) فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة: يهل بالحج من الميقات، فإن لم يفعل فعليه دم.
وذكر القاضي أظنه في المجرد - ونقله عن أحمد - فيمن دخل مكة محرما عن غيره بحج أو عمرة [ثم أراد أن يحرم عن نفسه، أو دخل محرما لنفسه ثم أراد أن يحرم عن غيره بحج أو عمرة] أنه يلزمه الإحرام من الميقات، فإن لم يفعل فعليه دم، لأنه جاوز الميقات مريدا للنسك، والمشهور - وهو اختيار أبي محمد -(3/60)
الأول عملا بإطلاق الحديث، وعليه لو أحرم من الحل فقال أبو محمد: إن كان من الحل الذي يلي عرفة فهو كالمحرم دون الميقات، فيلزمه دم، وكذلك إن كان من الجانب الآخر ولم يسلك الحرم، لعدم الجمع بين الحل والحرم، وإن سلكه فهو كالمحرم قبل الميقات فلا دم عليه، وحكى أبو البركات وغيره روايتين على الإطلاق، وعلى رواية وجوب الدم لو أحرم بين مكة والحل ففي وجوب الدم - أيضا - روايتان، حكاهما في التلخيص.
(تنبيه) : أهل مكة من كان فيها، سواء كان مقيما بها أو غير مقيم، وحكم الحرم حكم مكة في [جواز] إحرام المكي منه، وقد أحرم الصحابة من الأبطح. والله أعلم.
قال: ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه. 50 ش: أي إذا كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات فميقاته من منزله، لما تقدم من حديث ابن عباس «ومن كان دونهن فمهله من أهله» ولو كان مسكنه قرية جاز الإحرام من أي جوانبها شاء، والأولى الإحرام من الأبعد، والله أعلم.
قال: ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم.
ش: لما تقدم من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انظروا حذوها من طريقكم. فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم(3/61)
قبله، إذ الإحرام قبل الميقات جائز، وبعده حرام، ولا يجب الإحرام حتى يعلم المحاذاة، حذارا من الوجوب بالشك، والله أعلم.
قال: وهذه المواقيت لأهلها، ولمن مر عليها من غير أهلها، ممن أراد حجا أو عمرة.
ش: المواقيت التي تقدمت لأهلها الذين ذكرهم، ولمن مر عليها من غير أهلها، سواء كان مريدا للحج أو للعمرة فإذا حج الشامي من طريق المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته، لحديث ابن عباس «هن «لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة» ، والله أعلم.
قال: والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته.
ش: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه – - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - – لم يحرموا إلا من الميقات، ولا يفعلون إلا الأفضل والأكمل قطعا، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر أحدا أن يحرم قبل الميقات.
1450 - وعن الحسن أن عمران بن الحصين أحرم من البصرة، فبلغ ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فغضب وقال: يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم من مصره.(3/62)
1451 - وقال إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع، وكرهه له. رواهما سعيد، والأثرم.
1452 - وقال البخاري في صحيحه: كره عثمان أن يحرم الرجل من خراسان. ولأنه يعرض نفسه لمواقعة المحظور، وفيه مشقة على نفسه، فلم يطلب كالوصال في الصوم.
1453 - وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليستمتع أحدكم بحله [ما استطاع] فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» » .(3/63)
1454 - ويرشح هذا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بعثت بالشريعة السهلة السمحة» ونحو هذا.
1455 - وما روي عن أم سلمة – - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه أحمد، وأبو داود فمختص والله أعلم ببيت المقدس، ليجمع في الصلاة بين مسجدين في إحرام واحد، ولهذا أحرم ابن عمر منه.
1456 - قال مالك في موطئه: عن الثقة عنده أن ابن عمر أهل بحج من إيلياء مع أن الحديث قد ضعف، قال المنذري: اختلف الرواة في متنه وفي إسناده اختلافا كثيرا.(3/64)
1457 - وما يروى عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -[أنهما] قالا في قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. ففسره أحمد وسفيان بأنه ينشئ لهما سفرا من بلده مقصودا لهما، ويعين هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لم يحرموا إلا من الميقات، وإلا يلزم مخالفة الأمر، وهو منفي قطعا، ثم قد تقدم أن عمر أنكر على عمران إحرامه من مصره، فكيف ينكر المأمور، والله أعلم.
قال: فإن فعل فهو محرم.
ش: إذا ترك الاختيار، وأحرم قبل الميقات صح إحرامه بالإجماع، حكاه ابن المنذر وما تقدم عن عمر، وعثمان يدل على ذلك، إذ لم يأمرا من أحرم قبل الميقات بإعادة الإحرام، وهل يكره؟ فيه قولان المجزوم به عند أبي محمد الكراهة، تبعا لما نقل عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحذارا من المخالفة لما فعله سيد الأنام.(3/65)
قال: ومن أراد الإحرام فجاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم من الميقات، فإن أحرم من موضعه فعليه دم وإن رجع محرما إلى الميقات.
ش: يجب على المريد للنسك أن يحرم من الميقات، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبقوله «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة» الحديث، ولأنه ميقات للعبادة، فلم يجز تجاوزه كميقات الصلاة، فإن أحرم فبها ونعمت، وإن جاوزه غير محرم فقد أثم إن كان عالما، ووجب عليه الرجوع إن أمكنه، ليأتي بالواجب، فإن رجع فأحرم من الميقات فلا دم عليه، وإن لم يرجع وأحرم من مكانه فعليه دم لتركه الواجب.
1458 - وقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «من ترك نسكا فعليه دم» روي موقوفا ومرفوعا وسواء رجع محرما إلى الميقات أو لم يرجع، إذ بالإحرام دون الميقات حصل ترك الواجب فوجب الدم، والأصل عدم سقوطه.
وقول الخرقي: ومن أراد الإحرام. مفهومه أن من لم يرد الإحرام ليس حكمه كذلك، فلا يخلو غير المريد للإحرام إما(3/66)
أن يريد الحرم أو دونه، فإن كان مراده دون الحرم فلا إحرام عليه بلا نزاع، لحديث ابن عباس، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بدرا مرتين ولم يحرم، ثم إن بدا له الإحرام أحرم من موضعه ولا شيء عليه، على ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، اعتمادا على ظاهر حديث ابن عباس، وعن أحمد: يلزمه الرجوع إلى الميقات. انتهى.
وإن كان مراده الحرم فلا يخلو من ثلاثة أحوال:.
(أحدها) أن يكون قصده لذلك لحاجة تتكرر، كالاحتشاش والاحتطاب، ونحوهما، أو لقتال مباح، أو خوف، فيجوز له الدخول بغير إحرام، لظاهر حديث ابن عباس، ويخص القتال والخوف ونحوهما.
1459 - بما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام» . رواه مسلم، والنسائي.
1460 - وفي الصحيح «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة [عام الفتح] وعلى رأسه المغفر» ، الحديث قال مالك: ولم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ محرما، ويخص من تكررت حاجته لأن في وجوب الإحرام عليه إذا حرجا ومشقة، وهما منتفيان شرعا.(3/67)
الحال الثاني: أن يكون ممن لم يتعلق به الوجوب، كالصبي والعبد والكافر، فهؤلاء لا إحرام عليهم، لحديث ابن عباس ثم [أيضا] إن بلغ الصبي، وعتق العبد، وأرادا النسك وجب عليهما الإحرام من موضعهما، ولا شيء عليهما، لتعلق الوجوب بهما إذا، وكذلك الكافر يسلم على إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، نظرا إلى أن الإسلام يجب ما قبله، فحكم الخطاب إنما تعلق إذا (والرواية الثانية) : يجب عليه الرجوع إلى الميقات ليحرم منه، فإن أحرم من موضعه فعليه دم، اختاره أبو بكر، والقاضي، وأبو الخطاب في خلافه الصغير وغيرهم، بناء على مخاطبته بالفروع على المذهب، ومن هنا يمتنع تخريج أبي محمد الرواية للصبي والعبد.
(الحال الثالث) من عدا ما تقدم، كالداخل لتجارة، أو زيارة ونحو ذلك، ففيه روايتان، أنصهما - وهو اختيار جمهور الأصحاب - وجوب الإحرام، لأنه من أهل فرض الحج، وحاجته لا تتكرر، أشبه مريد النسك.
والثانية: وهو ظاهر كلام الخرقي - لا إحرام عليه، وهو ظاهر النص.
1461 - وحكاه أحمد عن ابن عمر فعلى الأولى إذا دخل طاف وسعى وحلق وحل، نص عليه أحمد، والله أعلم.(3/68)
قال: ومن جاوز الميقات غير محرم فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم، والله أعلم.
ش: من جاوز الميقات ممن يلزمه الإحرام غير محرم، فخشي أنه إن رجع إلى الميقات فاته الحج، فإنه يسقط عنه الرجوع، ويحرم من موضعه، محافظة على إدراك الحج، ونظرا إلى وجوب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما وعليه دم لتركه الواجب والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب ذكر الإحرام]
[سنن وآداب الإحرام]
«باب ذكر الإحرام»
قال: ومن أراد الحج - وقد دخل أشهر الحج - فإذا بلغ الميقات فالاختيار [له] أن يغتسل.
ش: الاختيار لمن أراد الإحرام أن يغتسل.
1462 - لما روي عن خارجة بن زيد عن أبيه، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد لإهلاله واغتسل» . رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
1463 - وثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أسماء بنت عميس لما نفست أن تغتسل وتهل» .(3/69)
1464 - وكذلك أمر عائشة لما حاضت.
1465 -[وفي الموطأ عن نافع، أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يغتسل لإحرامه] قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية بعرفة.
فإن لم يجد ماء سن له التيمم عند القاضي، لأنه قائم مقامه، فشرع كالغسل الواجب، ولم يسن له التيمم عند أبي محمد، لأنه غسل مسنون، أشبه غسل الجمعة، ولفوات المقصود منه وهو التنظيف.(3/70)
وقد أشعر كلام الخرقي بأن المطلوب أن لا يحرم الإنسان بالحج إلا من الميقات المكاني، وفي الميقات الزماني، أما الأول فقد تقدم، وأما الثاني فلا ريب فيه، بحيث لو أحرم قبل ذلك كره، قياسا على الميقات المكاني وخروجا من الخلاف، فإن بعض العلماء لا يصحح إحرامه بالحج قبل أشهره، وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويحتمله كلام الخرقي، لظاهر قول الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي وقت الحج أشهر معلومات، وإذا كان هذا وقته فلا يجوز تقديم شيء منه عليه كوقت الصلاة.
1466 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» . رواه البخاري. أي الطريقة والشريعة، هذا هو الظاهر (والمذهب) المنصوص المختار للأصحاب صحة الحج قبلها، قياسا على الميقات المكاني، ولإطلاق قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ظاهره أن جميع الأهلة مواقيت الحج، وتحمل(3/71)
الآية الكريمة السابقة على ما عدا الإحرام من أفعال الحج، أو يقال: الإحرام مستصحب، فيكتفى بالجزء الواقع فيها، فما خرج شيء من أفعال الحج عنها، والسنة في قول ابن عباس يحتمل أنها المقابلة للواجب.
1467 - كما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله فرض صيام رمضان، وسننت أنا قيامه» . وعلى الرواية الأولى - ولعلها أظهر - إذا أحرم بالحج صح عمرة، لصحة الإحرام بها في كل السنة، ومجرد الإحرام يقتضي أفعالها، وهو الطواف والسعي والحلق، وما زاد على ذلك مختص بالحج، وإذا بطل الخصوص بقي العموم فهو كما لو أحرم بالصلاة قبل وقتها، لكن يقال على هذا بأن اقتضاء الإحرام لأفعالها لا يقتضي أنه إذا بطل الحج أنه تحصل له(3/72)
عمرة، إذ العمرة نسك آخر، فهو كالعصر إذا نقلها للظهر لا تصح ظهرا، غايته أن يقال: يتحلل بعمل عمرة.
وقد يبنى الخلاف في انعقاد الحج قبل أشهره على الخلاف في الإحرام، هل هو شرط أو ركن؟ فإن قلنا إنه شرط، صح، كالوضوء يصح قبل الوقت، وإن قلنا ركن لم يصح، إذ ركن العبادة لا يصح في غير وقتها، وقد يقال: على القول بالشرطية لا يصح أيضا، لأن بالإحرام دخل في الحج، فيلزم إيقاع جزء من العبادة في غير وقتها، والانفصال عن هذا جميعه بأنا لا نسلم أن هذه الأشهر هي الوقت له، بل جميع السنة وقت له، والله تعالى أعلم.
وقد عرفت من هنا أن تقييد الخرقي مريد الحج بهذا الحكم لتخرج العمرة، فإنها تفعل في كل السنة.
1468 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عمرة في رمضان تعدل حجة» متفق عليه.
1469 - وعنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر أربعا، إحداهن في رجب» . رواه الترمذي وصححه.(3/73)
1470 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر عمرتين، عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال» . رواه أبو داود، والله أعلم.
قال: ويلبس ثوبين نظيفين.
ش: أي والاختيار [للمحرم] أن يلبس ثوبين [أي] نوعين من الثياب، وهما الإزار والرداء.
1471 - لما روي عن ابن عمر في حديث له عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «وليحرم أحدكم في إزار ورداء، ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل [من] الكعبين» ، رواه أحمد، وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله(3/74)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (والمستحب) أن يكونا نظيفين، جديدين أو غسيلين، إذ يستحب له تنظيف بدنه، فكذلك ثيابه، والأولى أن يكونا أبيضين.
1472 - لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خير ثيابكم البياض» ، والله أعلم.
قال: ويتطيب.
1473 - ش: لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي هاتين لإحرامه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها، وفي رواية: بطيب فيه مسك. وفي أخرى: في حجة الوداع للحل والإحرام. وفي أخرى: بأطيب ما أجد، حتى أجد وبيص المسك في رأسه [ولحيته] » . وفي أخرى: «قال محمد بن المنتشر: سألت(3/75)
عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرما. فقال: ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا، لأن أطلي بقطران، أحب [إلي من] أن أفعل ذلك. [فدخلت على عائشة، فأخبرتها أن ابن عمر قال: ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا، لأن أطلي بقطران، أحب [إلي من] أن أفعل ذلك] . فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنا طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما - زاد في رواية -: ينضح طيبا» متفق عليه.
1474 - ورئي ابن عباس محرما وعلى رأسه مثل الرب من الغالية.
1475 - وقال مسلم بن صبيح: رأيت [ابن] الزبير وهو محرم، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو [كان] لرجل اتخذ منه رأس مال.
وكلام الخرقي يشمل ما له جرم، وما لا جرم له، وصرح به غيره.(3/76)
1476 - وفي سنن أبي داود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنا نخرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة، فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا ينهانها.»
ويشمل أيضا الطيب في البدن والثياب، وكذلك كلام كثير من الأصحاب، إذ التنظيف مقصود فيهما، وقال أبو محمد في الكافي والمغني: يستحب في بدنه لا في ثوبه. وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، لأن في بعض روايات حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحله وطيبته لإحرامه، طيبا لا يشبه طيبكم هذا» . تعني ليس له بقاء، رواه النسائي. وفي الثوب يبقى.
1477 - وحديث يعلى بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالجعرانة، قد أهل بعمرة، وهو مصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة وأنا كما ترى؟ فقال(3/77)