المريض المرجو زوال مرضه؛ لما «روى علي أن جارية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت، فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي، فقال: أحسنت» رواه مسلم.
فصل
ولا يحفر للمرجوم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحفر لماعز، وسواء كان رجلاً أو امرأة. قال أحمد: أكثر الأحاديث على أنه لا يحفر للمرجوم. وقال القاضي: إن ثبت زنا المرأة بإقرارها، لم يحفر لها لتتمكن من الهرب إن أرادت، وإن ثبت ببينة، حفر لها إلى الصدر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم امرأة، فحفر لها إلى الثندوة.» رواه أبو داود.
ولأنه أستر لها، وعلى كل حال يشد على المرأة ثيابها، لئلا تتكشف، ويدور الناس حول المرجوم، ويرجمونه حتى يموت، فإن هرب المحدود والحد ببينة أتبع حتى يقتل؛ لأنه لا سبيل إلى تركه، وإن ثبت بإقراره، ترك؛ لما روي «أن ماعز بن مالك لما وجد مس الحجارة خرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز عنه أصحابه، فنزع له بوظيف بعير، فرماه به، فقتله، ثم أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكر ذلك له، فقال: هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه» رواه أبو داود؛ ولأنه يحتمل أن ذلك لرجوعه عن الإقرار، ورجوعه مقبول. فإن لم يترك، وقتل، فلا ضمان فيه؛ لحديث ماعز، ولأن إباحة دمه متيقنة، فلا يجب ضمانه بالشك، وإن ترك، ثم أقام على الإقرار، أقيم عليه الحد.
فصل
وإن كان الحد جلداً، لم يمد المحدود، ولم يربط؛ لما روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ليس في هذه الأمة مد، ولا تجريد، ولا غل، ولا صفد، ويفرق الضرب على أعضائه كلها إلا وجه، والرأس، والفرج، وموضع القتل؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال للجلاد: اضرب، وأوجع، واتق الرأس والوجه والفرج. وقال: لكل موضع من الجسد حظ إلا الوجه والفرج؛ ولأن القصد الردع، لا القتل. ويضرب الرجل قائماً، ليتمكن من تفريق الضرب على أعضائه، والمرأة جالسة؛ لأنه أستر لها، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تتكشف.
فصل
فإن كان مريضاً، أو نضو الخلق. أو في شدة حر، أو برد، أقيم الحد بسوط(4/94)
يؤمن التلف معه، فإن كان لا يطيق الضرب لضعفه وكثرة ضرره، ضرب بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة، أو ضربتين، أو بسوط فيه خمسون شمراخاً؛ لما روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف «عن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلداً على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم، فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكروا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقالوا: ما رأينا بأحد من الضر مثل ما به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يؤخذ له مائة شمراخ، فيضربونه بها ضربة واحدة.» أخرجه أبو داود والنسائي.
فصل
ومن لزمه التغريب، غرب عاما إلى مسافة القصر؛ لأن أحكام السفر من القصر والفطر لا تثبت بدونه. وعنه في المرأة: إنها تغرب إلى ما دون مسافة القصر؛ لتقرب من أهلها، فيحفظونها، ويحتمل مثل ذلك في الرجل؛ لأنه يسمى نفيا وتغريبا، فيتناوله لفظ الخبر. وحيث رأى الإمام أن يغربه فله ذلك، وإن كان بعيدا؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غرب إلى الشام والعراق. وإن رأى الزيادة على الحول لم يجز؛ لأن مدة الحول منصوص عليها، فلم يدخلها الاجتهاد، والمسافة غير منصوص عليها فرجع فيها إلى الاجتهاد. ومتى عاد قبل الحول رد إلى التغريب حتى يكمل الحول. فإن زنى الغريب غرب إلى غير بلده، فإن زنى في البلد الآخر غرب إلى غيره؛ لأن الأمر بالنفي يتناوله حيث كان.
فصل
لا تغرب المرأة إلا مع ذي محرم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ليلة إلا مع ذي حرمة من أهلها» فإن أعوز المحرم، خرجت مع امرأة ثقة، فإن أعوز، استؤجر لها من مالها محرم لها، فإن أعوز، فمن بيت المال، فإن أعوز، نفيت، بغير محرم؛ لأنه حق لا سبيل إلى تأخيره، فأشبه الهجرة. ويحتمل سقوط النفي هاهنا؛ لئلا يفضي إلى إغرائها بالفجور، وتعريضها للفتنة، ومخالفة خبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر بغير محرم، ويخص عموم حديث النفي بخبر النهي عن السفر بغير محرم، ويحتمل أن تنفى إلى دون مسافة القصر جمعاً بين الخبرين.(4/95)
فصل
ويجب أن يحضر حد الزنا طائفة؛ لقول الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] . وقال أصحابنا: أقل ذلك واحد مع الذي يقيم الحد؛ لأن اسم الطائفة يقع على واحد، بدليل قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا} [الحجرات: 9] إلى قَوْله تَعَالَى: {بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقد فسره ابن عباس بذلك. والمستحب أن يحضر أربعة؛ لأن بهم يثبت الحد، والله أعلم.
[باب حد القذف]
باب حكم القذف وهو الرمي بالزنا، وهو محرم وكبيرة؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله، ما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات» متفق عليه.
فصل
ويجب الحد على القاذف بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون مكلفاً لما تقدم.
والثاني: أن يكون المقذوف محصناً؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . مفهومه أنه لا يجلد بقذف غير المحصن. والمحصن: هو الحر المسلم العاقل العفيف عن الزنا الذي يجامع مثله، فلا يجب الحد على قاذف الكافر، والمملوك، والفاجر؛ لأن حرمتهم ناقصة، فلم تنتهض لإيجاب الحد، ولا يجب على قاذف الجنون؛ لأن زناه لا يوجب الحد عليه، فلم يجب الحد بالقذف به، كالوطء دون الفرج، ولا يجب الحد على قاذف الصغير الذي لا يجامع مثله كذلك، ولأنه يتيقن كذب القاذف فيلحق العار به، دون المقذوف. وهل يشترط البلوغ؟ فيه روايتان:(4/96)
إحداهما: يشترط؛ لما ذكرنا في المجنون.
والثانية: لا يشترط، بل متى قذف من يجامع مثله، فعليه الحد؛ لأنه عاقل حر عفيف، يتعير بالقذف، أشبه البالغ. وإن قذف مجبوباً، أو رتقاء، فعليه الحد، لعموم الآية؛ ولأن تعذر الوطء في حقهما بأمر خفي لا يعلم به، فلا ينتفي العار عنه.
فصل
الثالث: أن يكون القاذف والداً، فإن قذف والد ولده وإن سفل، فلا حد عليه، أباً كان أو أماً؛ لأنها عقوبة تجب لحق الآدمي، فلم تجب لولد على والده، كالقصاص. ولو قذف زوجته، فماتت وله منها ولد، أو قذفت زوجها ولها منه ولد، سقط الحد؛ لأنه لما لم يثبت له على والده بقذفه، فلم يثبت له عليه بالإرث. وإن كان للميت ولد آخر من غيره، ثبت الحد؛ لأنه يثبت لكل واحد من الورثة على الانفراد.
فصل
الرابع: أن يقذف بالزنا الموجب للحد، فإن قذف بالوطء دون الفرج والقبلة، لم يجب الحد به، لما تقدم.
والقذف صريح وكناية؛ فالصريح أن يقول: زنيت، أو يا زاني، أو زنى فرجك، أو دبرك أو ذكرك، ونحوه مما لا يحتمل غير القذف، فهذا يجب به الحد، ولا يقبل تفسيره بما يحيله؛ لأنه صريح فيه، أشبه التصريح بالطلاق. وإن قال: يا لوطي، فقال أكثر أصحابنا: هو صريح، وقال الخرقي: إذا قال: أردت أنك من قوم لوط، فلا حد عليه، وهذا بعيد؛ لأن قوم لوط أهلكهم الله فلم يبق منهم أحد. وإن قال: زنى فلان، وأنت أزنى منه، فهو قاذف لهما؛ لأنه وصف هذا بالزنى على وجه المبالغة؛ لأن لفظة أفعل للتفضيل. وإن قال: أنت أزنى من فلان، أو أزنى الناس، فهو قاذف للمخاطب كذلك، وليس بقاذف لفلان؛ لأن لفظة أفعل يستعمل للمنفرد بالفعل، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ} [يونس: 35] وإخباره عن قوم لوط: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] وقال القاضي: هو قذف لهما؛ لأن لفظة أفعل يقتضي اشتراكهما في الفعل، وانفراد أحدهما بمزية. وإن قال: زنأت بالهمزة، فهو قذف في قول أبي بكر وأبي الخطاب؛ لأن العامة لا تفهم منه إلا القذف. وقال ابن حامد: إن كان القاذف عامياً فهو قاذف، وإن كان يعلم العربية، فليس بقاذف؛ لأن معناه طلعت، كما قال الشاعر:(4/97)
وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل
وسواء قال في الجبل، أو لم يقل؛ لأن معناها لا يختلف بذلك وعدمه. وإن قال لرجل: يا زانية، أو لامرأة: يا زاني، فهو قاذف لهما؛ لأن اللفظ صريح في الزنا وزيادة هاء التأنيث في المذكر، وحذفها من المؤنث خطأ لا يغير المعنى، فلم يمنع الحد كاللحن، هذا قول أبي بكر. وقال ابن حامد: ليس بقذف يوجب الحد؛ لأنه يحتمل أن يريد بذلك أنك علامة في الزنا، كالراوية والحفظة. وإن قال لامرأة: زنيت بفتح التاء، ولرجل زنيت بكسرها، فهو قاذف لهما؛ لأنه خاطبهما بنسبة الزنا إليهما، فأشبه ما لو لم يلحن. وإن قذف رجلاً. فقال آخر: صدقت، ففي المصدق وجهان:
أحدهما: يكون قاذفاً؛ لأن تصديقه ينصرف إلى الكلام الذي قبله، كما لو قال: لي عليك ألف. قال: صدقت. والثاني: لا يكون قذفاً؛ لأنه يحتمل بتصديقه في غير هذا. وإن قال: أخبرني فلان أنك تزني، فكذبه الآخر، فليس بقاذف؛ لأنه إنما أخبر عن غيره، فأشبه ما لو صدقه الآخر، ويحتمل أنه قاذف، ذكره أبو الخطاب؛ لأنه نسب إليه الزنا. وإن قال رجل لامرأة: زنيت، فقالت: بك، فلا حد عليهما؛ لأنها صدقته، فسقط الحد عنه، ولا حد عليها؛ لأنها لم تقذفه؛ لأنه يتصور زناها به من غير أن يكون زانياً، بأن تكون عالمة بأنه أجنبي، وهو يظنها زوجته، أو نائماً، استدخلت ذكره ونحو ذلك. وإن قال: زنت يداك، أو رجلاك، لم يكن قاذفاً في ظاهر المذهب، وهو قول ابن حامد؛ لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحد، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، يصدق ذلك الفرج، أو يكذبه» . ويحتمل أن يكون قاذفاً؛ لأنه أضاف الزنا إلى عضو منه، فأشبه ما لو قال: زنى فرجك. وإن قال: زنى بدنك، ففيه وجهان:
أحدهما: هو كقوله: زنت يداك؛ لأن الزنا بجميع البدن يكون بالمباشرة، فلم يكن قذفاً.
والثاني: عليه الحد؛ لأنه أضاف الزنا إلى جميع البدن والفرج منه.
فصل
وأما الكناية، فنحو قوله: يا قحبة، يا فاجرة، يا خبيثة، أو يقول للرجل: يا مخنث، أو يا نبطي يا فارسي وليس هو كذلك، أو يقول لزوجة رجل: قد فضحتيه،(4/98)
وجعلت له قروناً، ونكست رأسه، أو يقول لمن يخاصمه: يا حلال ابن الحلال ما يعرفك الناس بالزنا، ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فهذا ليس صريح في القذف؛ لأنه يحتمل الفجور، والخبث بغير الزنا. والقحبة المتعرضة للزنا وإن لم تفعله، والمخنث المتطبع بطباع التأنيث، وسائر ما ذكرنا يحتمل غير الزنا، فلم يجب به الحد مع الاحتمال.
وعنه: أن الحد يجب بذلك كله؛ لما روى سالم عن أبيه: أن رجلاً قال: ما أنا بزان، ولا أمي بزانية، فجلده عمر الحد. وروى الأثرم: أن عثمان جلد رجلاً قال لآخر: يا ابن شامة الوذر، يعرض بزنا أمه؛ ولأن هذه الألفاظ يراد بها القذف عرفاً فجرت مجرى الصريح، ولأن الكناية مع القرينة كالصريح في إفادة الحكم، بدليل الطلاق والعتاق، كذا هاهنا. وفيما إذا قال: يا نبطي قد نفاه عن نسبه، فيكون قاذفاً لأمه أو لإحدى جداته. وإن قال لثابت النسب: لست بابن فلان، فهو قذف لأمه في الظاهر من المذهب؛ لما روي عن ابن مسعود أنه قال: لا حد إلا في اثنين، قذف محصنة، أو نفي رجل عن أبيه؛ ولأنه لا يكون لغير أبيه إلا بزنا أمه. ويحتمل ألا يكون قذفاً؛ لأنه يحتمل أنه لا تشبهه في كرمه وأخلاقه.
وإن كان الولد منفياً باللعان، فليس بقذف؛ لأن الشرع نفاه. وإن قال لابنه: لست بابني، فقال القاضي: ليس بقذف؛ لأن الإنسان يغلظ لولده في القول تأديباً.
فصل
ومن قال لامرأة: أكرهت على الزنا، فلا حد عليه؛ لأنه لم يقذفها بالزنا وعليه التعزير؛ لأنه ألحق بها العار. وكل موضع لا يجب فيه الحد مما ذكرنا، يوجب التعزير؛ لأنه أذى لمن لا يحل أذاه. وإذا تقاصر عن الحد، أوجب التعزير، كالزنا فيما دون الفرج.
فصل
وحد القذف ثمانون جلدة إن كان القاذف حراً؛ لقول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وإن كان عبداً، فأربعون؛ لما روى يحيى بن سعيد الأنصاري قال: ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكاً افترى على حر ثمانين، فبلغ عبد الله بن عامر بن ربيعة، فقال: أدركت الناس زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى اليوم، فما رأيت أحدا ضرب المملوك المفتري ثمانين قبل أبي بكر بن محمد بن عمرو؛ ولأنه حد يتبعض. فكان المملوك على النصف من الحر، كحد الزنا. وإن كان القاذف بعضه حر، فعليه بالحساب لما ذكرنا.(4/99)
فصل
والحد في القذف والتعزير الواجب بما دونه حق للمقذوف، يستوفى إذا طالب، ويسقط إذا عفا عنه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم، كان إذا خرج يقول: تصدقت بعرضي» والصدقة بالعرض لا تكون إلا بالعفو عما يجب له، ولأنه جزاء جناية عليه لا يستوفى إلا بمطالبته، فكان له، كالقصاص. وعنه: أنه حق لله تعالى؛ لأنه حد فكان حقاً لله كسائر الحدود. فعلى هذا لا يستوفى إلا بمطالبة الآدمي، ولا يسقط بعد وجوبه بالعفو، كالقطع في السرقة. ولو قال لغيره: اقذفني، فقذفه، لم يجب الحد؛ لأنه إذن في سبه، فلم يوجب الحد كالقصاص، والقطع في السرقة.
فصل
وإن جن من له الحد، لم يكن لوليه المطالبة به؛ لأنه يجب للتشفي، ودرك الغيظ، فأخر إلى الإفاقة، كالقصاص. وإن قذف مملوكاً، فالطلب بالتعزير والعفو عنه له، دون سيده؛ لأنه ليس بمال، ولا بدل مال، فأشبه فسخ النكاح للمعتقة تحت العبد. وإن مات العبد، سقط؛ لأنه لو ملكه السيد بحق الملك، لملكه في حياته، والعبد لا يورث. وإن سمع الإمام رجلاً يقذف آخر في حضرته، أو غيبته، لم يلزمه أن يسأله عن ذلك ويحققه؛ لأن القذف لا يوجب حداً حتى يطالب به صاحبه، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات فلا يجب المبالغة في إثباتها.
فصل
ومن قذف جماعة لا يتصور الزنا من جميعهم، كأهل البلدة الكبيرة، فلا حد عليه؛ لأنه لا عار على المقذوف بذلك، للقطع بكذب القاذف، وإن قذف جماعة يمكن زناهم بكلمات، فعليه لكل واحد حد. وإن قذفهم بكلمة واحدة. ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: عليه حد واحد؛ لأن كلمة القذف واحدة، فلم يجب بها أكثر من حد واحد، كما لو كان المقذوف واحداً، ولأنه بالحد الواحد يظهر كذبه، ويزول عار القذف عن جميعهم، فعلى هذا إن طلبه الجميع أقيم لهم، وإن طلبه واحد، أقيم له، أيضاً، ولا مطالبة لغيره. وإن أسقط أحدهم حقه، لم يسقط حق غيره؛ لأنه ثابت لهم على سبيل البدل، فأشبه ولاية النكاح.
والثاني: عليه لكل واحد حد؛ لأنه قذفه، فلزمه الحد له، كما لو قذفه بكلمة مفردة.
والثالث: إن طلبوه جملة، فحد واحد؛ لأنه يقع استيفاؤه لجميعهم. وإن طلبوه(4/100)
متفرقاً، أقيم لكل مطالب مرة؛ لأن استيفاء المطالب الأول له خاصة، فلم يسقط به حق الباقين. وإن قال لامرأة: زنى بك فلان، فهي كالتي قبلها؛ لأنه قذفهما بكلمة واحدة ويحتمل ألا يجب إلا حد واحد، وجهاً واحداً؛ لأن القذف لهما بزنا واحد، يسقط حده ببينة واحدة، ولعان واحد إن كانت المرأة زوجته.
فصل
ومن وجبت عليه حدود قذف لجماعة، فأيهم طالب بحده، استوفي له، ثم إذا طالب غيره استوفي له، كالديون. فإن اجتمعا في الطلب قدم أسبقهما حقاً؛ لأن السابق أولى. فإن تساويا، أقرع بينهما إن تشاحا. ولو قال: يا زاني ابن الزانية، كان قاذفاً لهما بكلمتين. فأيهما طالب حد له. فإن اجتمعا وتشاحا، حد للابن أولاً؛ لأنه بدأ بقذفه، ثم يحد لأمه. ومتى حد مرة، لم يحد لآخر حتى يبرأ ظهره؛ لأنه لا يؤمن مع الموالاة التلف. فإن كان القاذف عبداً فكذلك؛ لأنهما حدان، فأشبها حدي الحر. ويحتمل أن لا يوالى بينهما، ولأنهما جميعاً كحد حر، فيوالى بينهما، كما يوالى بينه.
فصل
وإن قذف واحداً مرات، ولم يحد، فحد واحد؛ لأنها من جنس واحد لمستحق واحد. فإذا كانت قبل الإقامة، تداخلت، كسائر الحدود، وإن حد مرة، ثم قذفه بذلك الزنا، عزر ولم يحد؛ لأن أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا، فجلده عمر، ثم أعاد أبو بكرة القذف، فأراد عمر جلده، فقال علي: إن كنت تريد أن تجلده فارجم صاحبه، فترك عمر جلده. يعني: إن نزلته منزلة أجنبي شهد بزناه، فقد كملت شهادة أربعة. فإن لم تجعله كشاهد آخر، فلا تحده، ولأنه قد حصل التكذيب بالحد، فاستغني عما سواه. وإن قذفه بزنا آخر عقيب الحد، ففيه روايتان:
إحداهما: يحد؛ لأنه قذف بعد الحد، لم يظهر كذبه فيه بحد، فلزمه الحد، كما لو قذفه بعد زمن طويل.
والثانية: لا حد عليه؛ لأنه قد حد له مرة، فلا يحد له ثانياً، كما لو قذفه بالزنا الأول. وإن قذفه بعد طول الفصل، حد؛ لأنه لا تسقط حرمة عرض المقذوف بإقامة الحد له، وذكر القاضي فيها روايتين كالتي قبلها:
فصل
وإذا قال الرجل: يا ولد الزنا، أو يا ابن الزانية، فهو قاذف لأمه. فإن كانت حية، فهو قاذف لها دونه؛ لأن الحق لها، ويعتبر فيها شروط الإحصان؛ لأنها المقذوفة. وإن كانت أمه ميتة، فالقذف له؛ لأنه قدح في نسبه. وعلى سياق هذا، لو قذف جدته، ملك(4/101)
المطالبة بالحد؛ لما روى الأشعث بن قيس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا أوتى برجل يقول: إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته» لقول ابن مسعود: لا حد إلا في قذف محصنة، أو نفي رجل عن أبيه. فعلى هذا، يعتبر الإحصان في الرجل، دون أمه. فلو كانت أمه ميتة أو مشركة، أو أمة، وهو محصن، لوجب له. وهذا اختيار الخرقي، وقال أبو بكر: لا حد على قاذف ميت؛ لأنه لا يطالب فلم يحد قاذفه كما لو قذف غير الأم، ولا خلاف في أنه لو قذف أباه أو أخاه، لم يلزمه حد؛ لأنه لم يقدح في نسبه، بخلاف مسألتنا، ولو مات المقذوف قبل المطالبة بالحد، لم يجب. وإن مات بعد المطالبة به، قام وارثه مقامه؛ لأنه حق له يجب بالمطالبة، فأشبه رجوع الأب فيما وهب لولده.
فصل
وإذا شهد على إنسان بالزنا دون الأربعة، فعليهم الحد، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ولأن أبا بكرة، ونافعاً وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بن شعبة، ولم يكمل زياد شهادته، فحد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثلاثة بمحضر من الصحابة، فكان ذلك إجماعاً، وكذلك إن لم يكمل الرابع شهادته، فعليهم الحد كذلك. وإن شهد ثلاثة، وزوج المرأة، حد الثلاثة؛ لأن الزوج غير مقبول الشهادة على زوجته بالزنا، لإقراره على نفسه بعداوتها، لجنايتها عليه، بإفساد فراشه، وإلحاق العار به، وعلى الزوج الحد، إلا أن يسقطه عنه بلعانه. وإن شهد أربعة، فبانوا فساقاً، أو عبيداً، أو عمياناً، أو بعضهم، ففيهم ثلاث روايات:
إحداهن: عليهم الحد؛ لأن شهادتهم بالزنا لم تكمل، فلزمهم الحد، كما لو شهد ثلاثة.
والثانية: لا حد عليهم؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] وهؤلاء أربعة؛ ولأنه أحرزوا ظهورهم بكمال عددهم، فأشبه ما لو شهد أربعة بزناها، فشهد ثقات أنها عذراء.
والثالثة: إن كانوا عمياناً، فعليهم الحد، وإن كانوا فساقاً، أو عبيداً، فلا حد عليهم؛ لأن الأعمى يشهد بما لم يره يقيناً، فيكون شاهد زور يقيناً، وغيرهم بخلاف(4/102)
ذلك. وإن كان فيهم صبي، أو مجنون، أو من لا تقبل شهادته، فكذلك، والأولى أصح؛ لأن من لا شهادة له، وجوده كعدمه، فأشبه نقص العدد. ولو شهد ثلاثة رجال وامرأتان، حد الجميع؛ لأن شهادة النساء في هذا الباب، كعدمها.
فصل
وإن شهد أربعة بالزنا، ثم رجع أحدهم، فعليهم الحد؛ لأنه نقص عدد الشهود، فلزمهم الحد، كما لو كانوا ثلاثة. وعنه: يحد الثلاثة دون الرابع، اختارها أبو بكر، وابن حامد؛ لأن رجوعه قبل الحد، كالتوبة قبل تنفيذ الحكم، فيسقط الحد عنه، وإن رجعوا كلهم، فعليهم الحد؛ لأنهم يقرون على أنفسهم أنهم قذفة، ويحتمل أن لا يجب عليهم الحد، كالتي قبلها، وإن شهد أربعة، فلم تكمل شهادتهم، لاختلافهم في المكان أو الزمان. أو كونهم لم يأتوا في مجلس واحد، أو لم يصفوا الزنا، أو بعضهم، فهم قذفة، عليهم الحد؛ لأن شهادة الأربعة لم تكمل، فلزمهم الحد، كما لو نقص عددهم. وإن شهد أربعة بالزنا على امرأة، فشهد ثقات من النساء أنها عذراء، فلا حد على واحد منهم؛ لأن ثبوت عذرة المرأة، دليل على براءتها، فينتفي الحد عنها. لظهور براءتها، وصدق الشهود محتمل، لجواز أن يطأها، ثم تعود عذرتها، فانتفى الحد عنهم لاحتمال صدقهم.
فصل
وإذا قذف امرأة، وقال: كنت زائل العقل حين قذفتها، ولم يعرف له زوال عقل قبل ذلك، فالقول قولها؛ لأن الظاهر عقله، فأشبه ما لو ضرب ملفوفاً، وادعى أنه كان ميتاً. وإن عرف له زوال عقل، بجنون، أو تبرسم، أو نحوه، فالقول قوله؛ لأن الأصل براءته من الحد، وصدقه محتمل، ولأن الحد يدرأ بالشبهات. وإن قال: زنيت إذ كنت مشركة، أو أمة، ولم تكن كذلك، حد؛ لأنه يعلم كذبه في وصفها بذلك. وإن كانت مشركة أو أمة، لم يحد؛ لأنه أضاف قذفها إلى حال فيها غير محصنة. وعنه: يحد، حكاها أبو الخطاب؛ لأن القذف في حال لمحصنة. وإن قال: زنيت أنت مشركة، وقال: أردت أنك زنيت في تلك الحال، فقالت: بل قذفتني، ونسبتني إلى الشرك في هذه الحال، فقال القاضي: يحد؛ لأنه خاطبها بالقذف في الحال، فالظاهر إرادة القذف في الحال. واختار أبو الخطاب: أنه لا يحد؛ لأنهما اختلفا في إرادته بكلامه، وهو أعلم بمراده، واللفظ محتمل لما ادعاه، بأن تكون الواو للحال. وإن قال لها: زنيت، ثم قال: أردت في الحال التي كنت غير محصنة، وقالت: أردت قذفي في الحال، حد؛ لأنه قذفها في الحال، فلا يقبل قوله فيما يحيله، وإن قال: إنما كان قذفي لك قبل إحصانك، وقالت: بل بعده. فإن ثبت أنها كانت غير محصنة، فالقول قوله؛ لأن الأصل(4/103)
براءة ذمته. وإن لم يثبت ذلك، فالقول قولها؛ لأن الأصل في الدار، الإسلام والحرية، وكذلك إن كانت مسلمة، فادعى أنها ارتدت، فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤها على دينها.
فصل
وإن ادعت امرأة أو زوجها قذفها، فأنكر، فقامت عليه ببينة، فله أن يلاعن؛ لأن إنكار القذف، لا يكذب ما يلاعن عليه من الزنا؛ لأن القذف الكذب، وهو يدعي أنه صادق، فجاز أن يلاعن، كما لو ادعى عليه وديعة، فقال: ما لك عندي شيء، ثم ادعى تلفها، قبل منه، لكون إنكاره لم يمنع الإيداع، كذا هاهنا.
[باب الأشربة]
كل شراب أسكر كثيره، فقليله حرام؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] وكل مسكر خمر، فيدخل في عموم الآية. وقد روى عبد الله بن عمر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» رواه مسلم وأبو داود، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نزل تحريم الخمر. وهي: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. والخمر: ما خامر العقل. متفق عليه. وروت عائشة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر الفرق منه، فملء الكف منه حرام» رواه أبو داود؛ ولأنه شراب يسكر كثيره، فحرم قليله، كعصير العنب.
فصل
وكل عصير غلى، وقذف بزبده، فهو حرام، لما روى الشالنجي بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اشربوا العصير ثلاثاً ما لم يغل» . «وعن أبي هريرة قال: علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان صائماً، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به فإذا هو ينش، فقال: اضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر» رواه أبو داود(4/104)
والنسائي؛ ولأنه إذا غلى واشتد، صار مسكراً. فإن علم من شيء أنه لا يسكر، كالفقاع، فلا بأس به وإن غلى؛ لأن العلة في التحريم الإسكار، فلا يثبت الحكم بدونها. وإن أتى على العصير ثلاث، فقال أصحابنا: يحرم وإن لم يغل؛ للخبر. «وروى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينبذ له الزبيب، فيشربه اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيهراق أو يسقى الخدم» ؛ ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالباً، وهي خفية تحتاج إلى ضابط. والثلاث تصلح ضابطاً لها. وقد قال ابن عمر: اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قال: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في الثلاث. والنبيذ، كالعصير فيما ذكرنا. وهو: ماء ينبذ فيه تمرات، أو زبيب، ليجتذب ملوحته، كان أهل الحجاز يفعلونه.
فصل
ويكره الخليطان. وهو: أن ينبذ في الماء شيئين؛ لما «روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى أن ينتبذ البسر والرطب جميعاً. ونهى أن ينتبذ الزبيب والتمر جميعاً.» رواه أبو داود. وفي رواية: «وانتبذوا كل واحد على حدة.» قال أحمد: الخليطان حرام. قال القاضي: يعني: إذا اشتد وأسكر. وإنما نهي عنه؛ لأنه يسرع إلى السكر. فإذا لم يسكر، لم يحرم؛ لما «روي عن عائشة قالت: كنا ننبذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب، فنطرحها فيه، ثم نصب عليه الماء، فننبذه غدوة، فيشربه عشية، وننبذه عشية، فيشربه غدوة.» أخرجه أبو داود. ويجوز الانتباذ في الأوعية كلها؛ لما روي عن بريدة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كنت نهيتكم عن الأشربة في ظروف الأدم، فاشربوا في كل وعاء، غير أن لا تشربوا مسكراً» رواه مسلم.
وما لا يسكر من الدبس، والخل، ورب الخروب، وسائر المربيات، فهو حلال؛ لأن تخصيص المسكر بالتحريم دليل على إباحة ما سواه؛ لأن الله تعالى قال: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] . وهذا منها.
فصل
ومن شرب مسكراً - وهو مسلم مكلف - مختار، يعلم أنها تسكر، لزمه الحد، لما(4/105)
روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب الخمر فاجلدوه» رواه أبو داود؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه جلدوا فيه الحد، وفي قدره روايتان:
إحداهما: أربعون؛ لما روى حصين بن المنذر أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الوليد بن عقبة في الخمر أربعين، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين. وكل سنة. وهذا أحب إلي. رواه مسلم.
والثانية: ثمانون؛ لما روى أنس، أن عمر استشار الناس في حد الخمر، فقال عبد الرحمن: اجعله كأخف الحدود، فضرب عمر ثمانين. متفق عليه. وكان ذلك بمحضر من الصحابة، فاتفقوا عليه، فكان إجماعاً.
وحد العبد نصف حد الحر؛ لأنه حد يتبعض، فأشبه الحد في الزنا والقذف. ويجلد بالسوط، ولأن عمر وعلياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جلدا بالسياط، ولأنه حد فيه ضرب، فكان بالسوط، كحد الزنا.
فصل
ولا يثبت إلا ببينة، أو إقرار. فالبينة شاهدان عدلان. ويقبل فيه إقرار مرة؛ لأنه حد ليس فيه إتلاف بحال، فأشبه حد القذف، ولا يحد بوجود الرائحة منه؛ لأنه يحتمل أنه تمضمض بها، أو ظنها لا تسكر، والحد يدرأ بالشبهات. عنه: أنه يحد؛ لأن عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حدا بالرائحة، وإن وجد سكران، أو تيقنا المسكر، فعن أحمد: أنه لا يحد؛ لأنه يحتمل أن يكون مكرهاً، أو ظن أنها لا تسكر، وعلى الرواية التي يحد بالرائحة، يجب أن يحد هاهنا؛ لأن حصيناً قال: شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه رآه شربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيأها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال لعلي: أقم عليه الحد، ففعل. وقال عثمان: لقد تنطعت في الشهادة.
[باب إقامة الحد]
لا يجوز لأحد إقامة الحد إلا للإمام، أو نائبه؛ لأنه حق الله تعالى. ويفتقر إلى الاجتهاد. ولا يؤمن في استيفائه الحيف، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقيم الحد في حياته، ثم خلفاؤه بعده. ولا يلزم الإمام حضور إقامته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت(4/106)
فارجمها» وأمر برجم ماعز ولم يحضر. وأتي بسارق، فقال: «اذهبوا فاقطعوه» . وجميع الحدود في هذا سواء، حد القذف وغيره؛ لأنه لا يؤمن فيه الحيف، والزيادة على الواجب. ويفتقر إلى الاجتهاد، فأشبه سائر الحدود، إلا أن للسيد إقامة الحد على رقيقه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد» . وروى علي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» . ولا يملك إقامته إلا بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون مكلفاً، عالماً بالحدود وكيفية إقامتها؛ لأنه إذا لم يعلم، لا يمكنه الإتيان به على وجهه. وهل تشترط عدالته؟ فيه وجهان:
أحدهما: تشترط؛ لأنه ولاية، فنافاها الفسق، كولاية التزويج؛ ولأنه لا يؤمن من الفاسق التعدي بزيادة أو نقص.
والثاني: لا يشترط؛ لأنها ولاية ثبتت بالملك، أشبهت ولاية التأديب. وفي اشتراط الذكورية وجهان، كما ذكرنا في العدالة. فإن قلنا: تشترط، ففي أمة المرأة وجهان:
أحدهما: يفوض حدها إلى وليها، كتزويجها.
والثاني: يفوض إلى الإمام، كأمة الصغير. وهل تشترط الحرية؟ فيه وجهان. ووجههما ما تقدم. فإن قلنا: تشترط، لم يثبت لمكاتب؛ لأنه ليس من أهل الولاية، ويفوض إلى الإمام.
الشرط الثاني: أن يختص بالمملوك، فأما المشترك، والأمة المزوجة، والمكاتبة، فلا يقيم الحد عليهم إلا الإمام؛ لأن ابن عمر قال ذلك، ولا مخالف له في الصحابة، ولأنه لم تكمل ولايته عليهم، فأشبهوا من بعضه حر.
الشرط الثالث: أن يكون الحد جلداً، كحد الزنا والشرب والقذف. فأما القطع والقتل في الردة، فلا يملكه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما أمر بالجلد، فلا يثبت في غيره؛ ولأن الجلد تأديب، فيملكه السيد، كتأديبه على حقوقه. وفي تفويضه إليه ستر على عبده، كيلا يفتضح بإقامة الإمام له، فتنقص قيمته. وهذا منتف في القطع والقتل؛ ولأن فيهما إتلافاً فيحتاج إلى مزيد احتياط. قال القاضي: وكلام أحمد يقتضي رواية أخرى: أنه يقيمهما؛ لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» ولأن ابن عمر قطع عبداً سرق. وحفصة قتلت أمة سحرتها.(4/107)
الشرط الرابع: أن يثبت عنده سببه بإقرار، أو بينة. فإن ثبت بإقرار، فللسيد أن يسمعه، ويقيم الحد به إذا كان عالماً بشروط الإقرار وكيفيته. وإن ثبت ببينة، اعتبر ثبوتها عند الحاكم؛ لأن للحاكم ولاية البحث عن العدالة، والاجتهاد فيها، ومعرفة شروطها، بخلاف غيره. وذكر القاضي: أن السيد إن عرف شروطها، وأحسن استماعها، ملك سماعها، وإقامة الحد بها، كالإقرار. ولا يقيم الحد بعلمه ورؤيته؛ لأن الإمام لا يقيمه بعلمه، فالسيد أولى. وعن أحمد: أنه يقيمه بعلمه؛ لأنه ثبت عنده أشبه ما لو أقر به عنده.
فصل
ولا يقام الحد على حامل حتى تضع، سواء كان الحد رجماً أو غيره؛ لأنه لا يؤمن تلف الولد. وقد روى بريدة: «أن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إني فجرت، فوالله إني لحبلى، فقال لها: ارجعي حتى تلدي فرجعت، فلما ولدت أتته بالصبي، فقال: ارجعي فأرضعيه حتى تفطميه. فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله، فأمر بالصبي، فدفع إلى رجل من المسلمين، وأمر بها فحفر لها، وأمر بها فرجمت.» رواه أبو داود. فإن كان الحد قتلاً، فالحكم فيه على ما ذكرنا في القصاص في الحامل. وإن كان جلداً، وكانت عقيب الولادة قوية يؤمن تلفها، أقيم عليها الحد، وإن كانت ضعيفة أو في نفاسها، فقال أبو بكر: يقام حدها بشيء يؤمن معه تلفها، ولا تؤخر، كالمريض.
وقال القاضي: ظاهر كلام الخرقي، تأخيرها حتى تطهر من نفاسها، ويؤمن معه تلفها؛ لما روي عن علي قال: «فجرت جارية لآل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا علي انطلق فأقم عليها الحد فانطلقت، فإذا بها دم يسيل لم ينقطع، فأتيته فأخبرته، فقال: دعها حتى ينقطع عنها الدم، ثم أقم عليها.» رواه مسلم بنحو هذا المعنى.
ولا يجلد السكران حتى يصحو؛ لأن المقصود زجره وتنكيله، ولا يحصل في حال سكره.
فصل
ولا يقام الحد في المسجد، جلداً كان أو غيره؛ لما روى حكيم بن حزام، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود» ؛ ولأنه لا يؤمن أن يحدث من المحدود شيء، فيتلوث به المسجد، فإن أقيم به سقط الفرض؛ لأن المقصود حاصل. والمرتكب للنهي غير المحدود، فلم يمنع(4/108)
ذلك سقوط الفرض عنه، كما لو اقتص في غير المسجد.
فصل
ومن أقيم عليه الحد، فمات منه، فالحق قتله، ولا شيء على من حده جلداً كان أو غيره؛ لأنه حد وجب لله، فلم يود من مات به، كالقطع في السرقة. وإن زاد على الحد، فمات، وجب ضمانه؛ لأنه تعدى تعدياً أعان على تلفه، فوجب عليه ضمانه، كما لو ضربه أجنبي. وفي قدره روايتان:
إحداهما: الدية كلها؛ لأنه قتل حصل بأمر من جهة الله، وعدوان، فكان الضمان على العادي الدية، كما لو ضرب مريضاً سوطاً فقتله.
والثانية: نصف الدية؛ لأنه مات بفعل مضمون وغيره، فكان على العادي، نصف الدية، كما لو جرح نفسه، وجرحه آخر، فمات. وسواء زاد سوطاً، أو أكثر، وسواء زاد خطأ، أو عمداً؛ لأن الخطأ يضمن، كالعمد. ومتى كانت الزيادة من قبل الجلاد، فالضمان على عاقلته في الخطأ، وشبه العمد. وإن كان له من يعد عليه، إما الإمام، أو غيره، فلم يخبره بانتهاء العدد، فالضمان على من يعد؛ لأن الخطأ منه. وإن أمره الإمام بالزيادة، فزاد جاهلاً بتحريم الزيادة، فالضمان على الإمام، كما لو أمره بقتل معصوم يجهل المأمور حاله. وإن علم تحريم ذلك، فالضمان عليه. وقال القاضي: هو على الإمام، كما لو جهل الحال، ومتى كانت الزيادة من الإمام عمداً، فالضمان على عاقلته؛ لأنه عمد الخطأ، إلا أن يكون مما يقتل غالباً، فعليه في ماله؛ لأنه عمد. وإن كان خطأ، ففيه روايتان:
إحداهما: الضمان على عاقلته؛ لأنها جناية خطأ تحمل مثلها العاقلة، فكانت على عاقلته، كما لو أخطأ في غير الحكم.
والثانية: هي في بيت المال؛ لأنه نائب الله تعالى، فيتعلق الحكم بمال الله، ولأن خطأه يكثر، فإيجاب عقله على عاقلته إجحاف بهم.
فصل
وإذا اجتمع عليه حدود من جنس، مثل أن زنى مرات، أو شرب الخمر مرات، ولم يحد، فحد واحد؛ لأنها طهرة سببها واحد، فتداخلت، كالطهارة. وإن اجتمعت حدود من أجناس لا قتل فيها، أقيمت كلها؛ لأن أسبابها مختلفة، فلم تتداخل، كالطهارات المختلفة، ويبدأ بالأخف فالأخف؛ لأننا إذا بدأنا بالأغلظ، لم نأمن أن يموت فيفوت به سائرها، وأخفها حد الشرب إن قلنا: هو أربعون، فيبدأ به، ثم بحد(4/109)
القذف. وإن قلنا: هو ثمانون، بدئ بحد القذف؛ لأنه كحد الشرب في عدده، ويرجح لكونه حق آدمي، ثم بحد الشرب، ثم بحد للزنا، ثم بقطع للسرقة، ولا يقام الثاني حتى يبرأ من الأول؛ لأننا لا نأمن من تلفه بموالاتها، والمقصود زجره لا قتله. وإن اجتمع قطع السرقة، وقطع المحاربة، قطعت يده لهما؛ لأن محلهما واحد، ثم تقطع رجله في الحال؛ لأن قطعهما حد واحد، فتجب الموالاة فيه، كالجلدات في الزنا، فأما إن كان في الحدود لله تعالى قتل، كالرجم في الزنا، أو القتل للمحاربة، قتل، وسقط سائرها؛ لأن ذلك يروى عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها حدود لله تعالى فيها قتل، فاجتزئ به عنها، كما لو قطع في المحاربة، وأخذ المال، ولأن زجره يحصل بالقتل، فلا حاجة إلى غيره.
فصل
وإن اجتمعت حدود للآدميين، استوفيت كلها، سواء كان فيها قتل، أو لم يكن. ويبدأ بأخفها، لما ذكرنا. وإن اجتمعت حدود لله تعالى، وللآدمي، ولا قتل فيها استوفيت كلها، إلا أن يتفق الحقان في محل واحد، كالقطع للقصاص والسرقة، فإنه يقدم القصاص؛ لأنه حق آدمي، ويسقط الحد لفوات محله. وإن كان فيها قطع، سقط ما سواه من حدود الله، وتستوفى حقوق الآدميين، ثم يقتل، لما ذكرناه.
فصل
والضرب في الزنا أشد منه في سائر الحدود؛ لأن الله تعالى، خصه بمزيد تأكيد بقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2] ولأن الفاحشة به أعظم، فكانت عقوبته أشد، ثم بعده الضرب في حد القذف؛ لأنه يليه في العدد، وهو حق آدمي، ثم الضرب في الشرب؛ لأنه أخف الحدود، وهو محض حق الله تعالى، ثم التعزير؛ لأنه لا يبلغ به الحد. وذكر الخرقي: أن العبد يضرب بدون سوط الحر؛ لأن حده أقل عدداً، فيكون أخف سوطاً، كالشرب مع الزنا. ويحتمل التسوية بينهما في السوط؛ لأن الله تعالى قال: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] . ولا يتحقق النصف إذا نصفنا العدد، إلا مع تساوي السوطين.
فصل
ويضرب في جميع الحدود بسوط وسط، لا جديد، ولا خلق، لما روي «أن رجلاً اعترف عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا، فدعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط، فأتي بسوط مكسور،(4/110)
فقال: فوق هذا وأتي بسوط جديد لم تكسر ثمرته، فقال: بين هذين.» رواه مالك عن زيد بن أسلم مرسلاً. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين، وهكذا الضرب يكون وسطاً، لا شديد فيقتل، ولا ضعيف فلا يردع، ولا يرفع باعه كل الرفع، ولا يحطه كل الحط، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يبدي إبطه في شيء من الحدود. يعني: لا يبالغ في رفع يده؛ لأن المقصود أدبه، لا قتله.
[باب التعزير]
وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، كوطء جاريته المشتركة، أو المزوجة، ومباشرة الأجنبية فيما دون الفرج، وسرقة ما لا يوجب الحد، والجناية بما لا يوجب القصاص ونحوه؛ لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه سئل عن قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا خبيث. قال: هن فواحش، فيهن تعزير، ليس فيهن حد. ويجوز بالضرب، وبالحبس، والتوبيخ. ولا يجوز قطع شيء من أعضائه، ولا جرحه؛ لأنه لم يرد الشرع بذلك، ولا يتعين الجلد، إلا في وضعين:
أحدهما: إذا وطئ جارية زوجته بإذنها، فإنه يجلد مائة؛ لما ذكرنا من حديث النعمان بن بشير.
والثاني: إذا وطئ الأمة المشتركة، فإنه يجلد مائة إلا سوطاً؛ لما روى سعيد بن المسيب عن عمر في أمة بين رجلين وطئها أحدهما يجلد الحد إلا سوطاً، ولا تقدير فيما عداهما، إلا أنه لا يزاد على عشر جلدات؛ لما روى أبو بردة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ولا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله» متفق عليه.
وعنه: أن وطء الجارية المشتركة، لا يزاد فيه على عشر جلدات، للخبر. وعنه: ما يدل على أن ما كان سببه الوطء يجلد مائة إلا سوطاً؛ لخبر عمر. وما كان سببه غير الوطء، لم يبلغ به أدنى الحدود، فلا يعزر الحر بما يجلد به في الخمر، ولا يبلغ بالعبد حده؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من بلغ حداً في غير حد، فهو من المعتدين»
فصل
ويجب التعزير في الموضعين اللذين ورد الخبر فيهما، وما عداهما يفوض إلى اجتهاد الإمام؛ لما «روي أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني لقيت امرأة، فأصبت منها(4/111)
ما دون أن أطأها، فقال: أصليت معنا؟ قال: نعم. فتلا عليه: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] .» فإن جاء تائباً معترفاً يظهر منه الندم والإقلاع، جاز ترك تعزيره للخبر. وإن لم يكن كذلك، وجب تعزيره؛ لأنه أدب مشروع لحق الله تعالى، فوجب كالحد.
فصل
وإن مات من التعزير، لم يجب ضمانه؛ لأنه مات من عقوبة مشروعة للردع والزجر، فلم يضمن ما تلف بها، كالحد. وإن تجاوز التعزير المشروع، ضمن، كما لو تجاوز الحد في الحد.
[باب دفع الصائل]
كل من قصد إنساناً في نفسه، أو أهله، أو ماله، أو دخل منزله بغير إذنه، فله دفعه؛ لما روى عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل، فهو شهيد» . رواه الخلال بإسناده. وقال الحسن: من عرض لك في مالك، فقاتله، فإن قتلته فإلى النار، وإن قتلك فشهيد؛ ولأنه لو لم يدفعه لاستولى قطاع الطرق على أموال الناس، واستولى الظلمة والفساق على أنفس أهل الدين وأموالهم. ولا يجب الدفع؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في الفتنة: «اجلس في بيتك، فإن خفت أن يبهرك شعاع السيف، فغط وجهك» . وفي لفظ: «فكن كخير ابني آدم» وفي لفظ: «فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» ؛ ولأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يدفع عن نفسه، إلا أن يراد أهله، فيجب الدفع؛ لأنه لا يجوز إقرار المنكر مع إمكان دفعه، وللمسلمين عون المظلوم، ودفع الظالم؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً قال: كيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: ترده عن ظلمه» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المؤمنون يتعاونون على الفتان» ولأنهم لو لم يتعاونوا على دفع الظلم، لقهرهم الظلمة وقطاع الطريق.
فصل
ويدفع الصائل بأسهل ما يمكن الدفع به، فإن أمكن دفعه بيده، لم يجز ضربه(4/112)
بالعصا، وإن اندفع بالعصا، لم يجز ضربه بحديدة، وإن أمكنه دفعه بقطع عضو، لم يجز قتله، وإن لم يمكن إلا بالقتل، قتله ولم يضمنه؛ لأنه قتل بحق فلم يضمنه، كالباغي. وإن قتل الدافع، فهو شهيد، وعلى الصائل ضمانه، للخبر ولأنه قتل مظلوماً، فأشبه ما لو قتله في غير الدفع. فإن أمكنه دفعه بغير قطع شيء منه، فقطع منه عضواً، ضمنه، وإن أمكنه دفعه بقطع عضو، فقتله، أو قطع زيادة على ما يندفع به، ضمنه؛ لأنه جنى عليه بغير حق، أشبه الجاني ابتداء، ولأنه معصوم أبيح منه ما يندفع به شره، ففيما عداه يبقى على العصمة. فإذا ضربه فعطله، لم يجز أن يضربه أخرى؛ لأنه قد انكف أذاه وهو المقصود. وإن قطع يده، فولى عنه، فضربه، فقطع رجله، ضمن رجله؛ لأنها قطعت بغير حق، ولم يضمن اليد؛ لأنها قطعت بحق. وإن مات منهما، فلا قصاص في النفس؛ لأنه من مباح ومحظور، ويضمن نصف ديته.
فصل
وإن عض يد إنسان، فانتزعها من فيه، فانقلعت ثناياه، لم يضمنها؛ لما روى عمران بن حصين «أن يعلى بن أمية قاتل رجلاً، فعض أحدهما يد صاحبه، فانتزع يده من فيه، فانتزع ثنيته، فاختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: أيعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية له» متفق عليه؛ ولأن فعله ألجأه إلى الإتلاف، فلم يضمنه، كما لو رماه بحجر، فعاد عليه فقتله.
وإن أراد رجل امرأة فقتلته دفعاً عن نفسها، لم تضمنه، نص عليه أحمد، وذكر حديثاً عن عبيد بن عمير أن رجلاً ضاف ناساً من هذيل، فأراد رجل منهم امرأة عن نفسها، فرمته بحجر فقتلته، فقال عمر: والله لا يودى أبداً. ولو وجد رجل رجلاً يزني بامرأته فقتلهما لم يضمنهما؛ لما روى سعيد بإسناده عن إبراهيم أن قوماً قالوا لعمر: يا أمير المؤمنين، إن هذا قتل صاحبنا مع امرأته، فقال عمر: ما يقول هؤلاء؟ قال: ضرب الآخر فخذي امرأته بالسيف، فإن كان بينهما أحد فقد قتله، فقال له عمر: ما تقول؟ قالوا: ضرب بسيفه، فقطع فخذي المرأة، فأصاب وسط الرجل، فقطعه باثنين، فقال عمر: إن عادوا فعد. إلا أن تكون المرأة مكرهة، فلا يحل قتلها. وإن قتلها، ضمنها؛ لأنه قتلها بغير حق.
فصل
ومن اطلع في بيت غيره من ثقب، أو شق باب، أو باب غير مفتوح. فرماه(4/113)
صاحب البيت بحصاة، أو طعنه بعود، فقلع عينه، لم يضمنها؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، لم يكن عليك جناح» . وعن سهل بن سعد: «أن رجلاً اطلع في جحر من باب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحك رأسه بمدرى في يده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو علمت أنك تنظرني، لطعنت بها في عينك» متفق عليهما. ظاهر كلام أحمد أنه لا يعتبر أن لا يمكن دفعه إلا بذلك، لظاهر الخبر. قال ابن حامد: يدفعه أولاً بأسهل ما يمكن دفعه به، كالصائل سواء. وليس له رميه بحجر كبير يقتله، ولا بحديدة، فإن فعل، ضمنه؛ لأنه إنما يملك ما يقلع بع العين المبصرة التي حصل الأذى منها. فإن لم يمكن دفعه بالشيء اليسير، جاز بالكبير حتى يأتي ذلك على نفسه، ولا ضمان عليه؛ لأنه تلف بفعل جائز. وسواء كان في البيت حرمة ينظر إليها، أو لم يكن، لعموم الخبر.
وإن كان المطلع أعمى، لم يجز رميه؛ لأنه لا ينظر، فصار وجهه، كقفا غيره.
وإن اطلع ذو محرم لأهله، لم يجز رميه؛ لأنه غير ممنوع من النظر إلا أن تكون المرأة متجردة، فيجوز رميه؛ لأنه يحرم عليه النظر إليها متجردة كالأجنبي. ولو تجرد إنسان في طريق، لم يجز له رمي من نظر إليه؛ لأنه هتك نفسه بتجرده في غير موضع التجرد.
فصل
وإن صالت عليه بهيمة، فله دفعها بأسهل ما تندفع به، فإن لم يمكن إلا بالقتل فقتلها، لم يضمنها؛ لأنه إتلاف بدفع جائز، فلم يضمنه، كدفع الآدمي الصائل ولأنه حيوان قتله لدفع شره. أشبه الآدمي.
فصل
ومن قتل إنساناً، أو بهيمة، أو جنى عليهما، وادعى أنه فعل ذلك للدفع عن نفسه، أو حرمته، أو قتل رجلاً وامرأته، وادعى أنه وجده معها، فأنكر الولي، فالقول قول الولي، وله القصاص؛ لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عن رجل قتل امرأته ورجلاً معها، وادعى أنه وجده معها، فقال علي: إن جاء بأربعة شهداء، وإلا دفع برمته، ولأن القتل متحقق، وما يدعيه خلاف الظاهر. وإن أقام بينة أنه قصده بسلاح مشهور، فضربه هذا، لم يضمنه؛ لأن الظاهر أنه قصد قتله. وإن شهدت أنه دخل بسلاح غير مشهور، لم يسقط الضمان؛ لأنه ليس هاهنا ما يدفعه.(4/114)
فصل
ومن اقتنى كلباً عقوراً، فأطلقه حتى عقر إنساناً أو دابة، أو اقتنى هرة تأكل الطيور، فأكلت طير إنسان، ضمنه؛ لأنه مفرط باقتنائه وترك حفظه. وإن دخل إنسان داره بغير إذنه، فعقره الكلب، لم يضمنه؛ لأنه متعد بالدخول، متسبب إلى إتلاف نفسه، فلم يضمنه، كما لو سقط في بئر فيها.
فصل
وما أتلفت البهائم من الزرع ليلاً، فضمانه على صاحبها. وما أتلفت منه نهاراً، لم يضمنه إلا أن تكون يده عليها؛ لما روى الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة: «أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم، فأفسدت فيه، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن على أهل الأموال حفظها بالنهار، وما أفسدت بالليل، فهو مضمون عليهم.» رواه أبو داود؛ ولأن عادة أهل المواشي إرسالها بالنهار للرعي، وحفظها ليلاً، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً دون الليل، فكان التفريط من تارك الحفظ في وقت عادته. وذكر القاضي: أنه متى لم يكن في القرية مرعى إلا بين زرعين، لا يمكن حفظ الزرع فيه من البهيمة، كساقية ونحوها، فليس لصاحبها إرسالها ليلاً، ولا نهاراً، فإن فعل، فهو مفرط، وعليه الضمان. ومتى كان التفريط في إرسال البهيمة من غير المالك، مثل أن أرسلها غيره، أو فتح بابها لص، أو غيره، فالضمان عليه دون المالك؛ لأنه سبب الإتلاف.
فصل
وإن أتلفت البهيمة غير الزرع، ولا يد لصاحبها عليها، لم يضمنه ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العجماء جبار» . يعني هدراً؛ لأن البهيمة لا تتلف ذلك عادة، فلم يجب حفظها عنه. فإن ابتلعت جوهرة إنسان، فطلب ذبحها ليأخذ جوهرته، فعليه ضمان ما نقص بالذبح؛ لأنه فعل ذلك لتخليص ماله، وليس على صاحب البهيمة ضمان نقص الجوهرة؛ لأنها نقصت بفعل غير مضمون. وإن كانت يد صاحبها عليها، ضمن الجوهرة؛ لأن فعلها منسوب إليه، ويخير بين ذبحها، ورد الجوهرة، وأرش نقصها، وبين غرمها بقيمتها، كمن غصب خيطاً فخاط به جرح حيوان. فإن عاد فذبحها رد الجوهرة إلى صاحبها، واسترجع القيمة، كما لو غصب عبداً فأبق، فرد قيمته، ثم قدر عليه.(4/115)
[كتاب الجهاد]
وهو فرض؛ لقول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] . وقوله سبحانه: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] وقَوْله تَعَالَى: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] . وهو من فروض الكفايات. إذا قام به من فيه كفاية، سقط عن الباقين؛ لقول الله سبحانه: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] إلى قوله: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] . ولو كان فرضاً على الجميع، لما وعد تاركه الحسنى. وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] ؛ ولأنه لو فرض على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة، وطلب المعاش، والعلم، فيؤدي إلى خراب الأرض، وهلاك الخلق. ولا يجب إلا بشروط خمسة:
أحدها: التكليف، فلا يجب على صبي، ولا مجنون، ولا كافر؛ لما تقدم؛ ولأن هذه من شرائط التكليف بسائر الفروع. وقد روي «عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشر سنة، فلم يجزني في المقاتلة.» متفق عليه.
ولأن المجنون لا يستطيع الجهاد، والكافر غير مأمون، والصبي ضعيف البنية.
الثاني: السلامة من الضرر؛ لقوله سبحانه: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] وهو العمى، والعرج، والمرض، والضعف؛ لقول الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] . وقَوْله تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] . ومن كان في بصره سوء يمنعه من رؤية عدوه، وما يتقيه من سلاح، لم يلزمه الجهاد؛ لأنه في معنى الأعمى، في(4/116)
عدم إمكان القتال، وإن لم يمنعه من ذلك، لم يسقط عنه فرضه، ويجب على الأعشى الذي يبصر في النهار دون الليل، وعلى الأعور؛ لأنهما يتمكنان من القتال. ولا يجب على أقطع اليد، أو الرجل؛ لأنه إذا سقط عن الأعرج، فالأقطع أولى، ولأنه يحتاج إلى الرجلين في المشي، واليدين ليتقي بأحدهما، ويضرب بالأخرى، والأشل، كالأقطع. ومن أكثر أصابعه ذاهب، أو إبهامه، أو ما لا تبقى منفعة إليه بعد ذهابه، فهو كالأقطع كذلك. ومن كان عرجه يسيراً أو مرضه يسيراً، لا يمنعه الركوب والمشي، والعدو والقتال، لم يسقط عنه الجهاد؛ لأنه متمكن منه.
الثالث: الحرية. فلا يجب على العبد؛ لقوله سبحانه: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] . والعبد لا يجد ما ينفق، ولأنه عبادة تتعلق بقطع مسافة، فلم يجب على العبد كالحج.
الرابع: الذكورية: فلا يجب على المرأة؛ لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟ قال: جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة» ولأن الجهاد القتال، والمرأة ليست من أهله لضعفها وخورها. ولا يجب على خنثى مشكل؛ لأنه لا يعلم كونه رجلاً.
الخامس: الاستطاعة؛ لقول الله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] ؛ ولأنه يحتاج إلى قطع مسافة، فأشبه الحج. وإن كان القتال قريباً من البلد، لم يشترط ذلك؛ لأنه لا يحتاج إلى ركوب، ولا نفقة طريق، والاستطاعة: وجدان الزاد، والسلاح، وآلة القتال، ومركوب يبلغه إذا كان على مسافة القصر؛ لقول الله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 92] .
فصل
ويتعين الجهاد في موضعين:
إحداهما: إذا التقى الزحفان، تعين الجهاد على من حضر؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] . وقوله سبحانه: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15](4/117)
الآية.
الثاني: إذا نزل الكفار ببلد المسلمين، تعين على أهله قتالهم، والنفير إليهم، ولم يجز لأحد التخلف، إلا من يحتاج إلى تخلفه لحفظ الأهل، والمكان، والمال، ومن يمنعه الأمير الخروج؛ لقول الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} [التوبة: 41] ولأنهم في معنى حاضر الصف، فتعين عليهم، كما تعين عليه.
فصل
وأقل ما يفعل الجهاد مرة في كل عام؛ لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام مرة، وهي بدل عن النصرة، فكذلك مبدلها، وهو الجهاد، إلا لعذر من ضعف بالمسلمين، أو انتظار مدد، أو مانع في الطريق من قلة علف أو غيره، أو طمعه في إسلامهم بتأخير قتالهم، ونحو هذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صالح قريشاً عشر سنين، وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده، وإن دعت الحاجة إلى فعله في العام أكثر من مرة، وجب؛ لأنه فرض كفاية، فكان على حسب الحاجة.
فصل:
ومن كان أحد أبويه مسلماً، لم يجز له الجهاد إلا بإذنه؛ لما روى ابن العباس قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أجاهد؟ قال: لك أبوان قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد» ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح؛ ولأن الجهاد فرض كفاية، وبرهما فرض عين، فوجب تقديمه. فإن كانا كافرين، فلا إذن لهما؛ لأن أبا بكر الصديق، وأبا حذيفة بن عتبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وغيرهما كانوا يجاهدون بغير إذن آبائهم، ولأنهما متهمان في الدين. وإن كانا رقيقين، ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر إذنهما؛ لأنهما كالحرين في البر والشفقة والدين.
والثاني: لا إذن لهما؛ لأنه لا ولاية لهما، ولا نفقة ولا إذن لهما في أنفسهما، ففي غيرهما أولى، ولا إذن لغيرهما من الأقارب، كالجدين، وسائر الأقارب؛ لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا هو في معنى المنصوص عليه، لتأكيد حرمة الوالدين في البر، والتقديم في الإرث، والنفقة، والحجب، والولاية وغيرها. ومتى تعين الجهاد، فلا إذن لأبويه، لأنه صار فرض عين، فلم يعتبر إذنهما فيه، كالحج الواجب. وكذلك كل الفرائض، لا طاعة لهما في تركه؛ لأن تركه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله(4/118)
تعالى، كالسفر لطلب العلم الواجب الذي لا يقدر على تحصيله في بلده، ونحو ذلك. وإن أراد سفراً غير واجب، فمنعاه منه، لم يجز له؛ لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أبوي يبكيان، قال: ارجع إليهما فأضحكهما، كما أبكيتهما» . من المسند.
فصل:
ولا يجوز لمن عليه دين الجهاد إلا بإذن غريمه إلا أن يقيم به كفيلاً، أو يعطي به رهناً، أو يكون له من يقضيه عنه؛ لما روى أبو قتادة «أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن قتلت في سبيل الله، كفر الله خطاياي؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلا غير مدبر كفر الله عنك خطاياك، إلا الدين كذلك قال جبريل» رواه مسلم؛ ولأن فرض أداء الدين متعين عليه، فلا يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم غيره فيه مقامه.
والمؤجل، كالحال؛ لأنه يعرض نفسه للقتل، فيضيع الحق. فإن كان له مال غائب، فهو كالمعسر؛ لأنه قد يتلف، فيضيع الحق. وإن تعين عليه الجهاد، فلا إذن لغريمه؛ لما ذكرنا في الوالدين. وإن أذن له الغريم، جاز له الجهاد؛ لأن الحق له، فجاز بإذنه. فإن رجع عن الإذن، أو أذن له أبواه في الغزو، ثم رجعا، أو كانا كافرين فأسلما، أو رقيقين فعتقا قبل التقاء الزحفين، لم يجز الخروج إلا بإذن مستأنف. وإن كان بعده، فلا إذن لهما؛ لأنه صار متعيناً، فقدم؛ لما ذكرناه.
فصل:
وأفضل التطوع الجهاد في سبيل الله، نص عليه أحمد، وذكر له أمر الغزو، فجعل يبكي ويقول: ما من أعمال البر أفضل منه، وأي عمل أفضل منه؟ والذين يقاتلون في سبيل الله: هم الذين يدفعون عن الإسلام، وعن حريمهم، وقد بذلوا مهج أنفسهم، الناس آمنون، وهم خائفون. وقد روى أبو سعيد الخدري قال: «قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله» . متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الأعمال أفضل؟ أو أي الأعمال خير؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد سنام العمل، قيل: ثم أي؟ قال: ثم حج مبرور» حديث صحيح؛ ولأن نفعه عظيم، وخطره كبير، فكان أفضل مما دونه.(4/119)
وغزو البحر أفضل من غزو البر؛ لما روى أبو داود عن أم حرام عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء، له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين» وروى ابن ماجه بإسناده عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «شهيد البحر مثل شهيدي البر، والمائد في البحر، كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين، كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح، إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض أرواحهم، ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها، إلا الدين، ولشهيد البحر الذنوب والدين» ولأن غزو البحر أعظم خطراً، فإنه بين خطر القتل والغرق، ولا يمكنه الفرار دون أصحابه.
فصل:
وفي الرباط فضل عظيم: وهو المقام بالثغر مقوياً للمسلمين. والثغر: كل مكان يخيف العدو ويخافه. قال أحمد: ليس يعدل الرباط والجهاد شيء. وعن سلمان قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» أخرجه مسلم.
وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» . حديث صحيح. وليس لأقله وأكثره حد، وتمامه أربعون يوماً؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمام الرباط أربعون يوماً» أخرجه أبو الشيخ في كتاب الثواب. ويروى ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وأفضل الرباط المقام بأشد الثغور خوفاً؛ لأنه أنفع للمسلمين، وأشد خطراً، ولا يستحب نقل أهله إلى الثغر المخوف. نص عليه أحمد وقال: أخاف عليه الإثم؛ لأنه يعرض ذريته للمشركين. وقد قال عمر: لا تنزلوا المسلمين ضفة البحر. ويستحب لأهل الثغر أن يجتمعوا في المسجد الأعظم لصلواتهم، ليكون أجمع لهم إذا حضر النفير. فيبلغ الخبر جميعهم، وتراهم عين الكفار، فتخافهم وتخوف منهم. قال الأوزاعي: لو أن لي ولاية على المساجد، يعني التي في الثغر، لسمرت أبوابها، يريد أن تكون صلاتهم في موضع واحد.(4/120)
فصل
ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ولأنهم أهم، فتجب البداءة بهم، إلا أن تدعو الحاجة إلى البداءة بغيرهم. إما لانتهاز فرصة فيهم أو خوف الضرر بتركهم، أو لمانع من قتال الأقرب، فيبدأ بالأبعد لذلك، ويستحب التحريض على القتال؛ لقول الله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] ويستحب ذكر الله، والدعاء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45] ، ويستحب أن يدعو الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم؛ لما روى سهل بن سعد الساعدي قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي كرم الله وجهه يوم خيبر: إذا نزلت بساحتهم فادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله بهداك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» متفق عليه. ولا تجب الدعوة. نص عليه أحمد. وقال: إن الدعوة قد بلغت كل أحد، ولا أعرف اليوم أحداً يدعى، إنما كانت الدعوة في أول الإسلام. وقد روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغار على بني المصطلق وهم غارون آمنون، وإبلهم تسقى على الماء، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية.» متفق عليه، وإن اتفق في الجزائر البعيدة، من لم تبلغه الدعوة، وجبت دعوته؛ لقول الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] . فلا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم.
فصل
ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين، ولا لجماعة أن يفروا من مثليهم؛ لقول الله تعالى {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66] . وهذا أمر بلفظ الخبر؛ لأنه لو كان خبراً بمعناه، لم يكن تخفيفاً، ولوقع الخبر بخلاف المخبر، والأمر يقتضي الوجوب {إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} [الأنفال: 16] وهو أن ينصرف من ضيق إلى سعة، أو من سفل إلى علو، أو من مكان منكشف إلى مستتر، أو من استقبال ريح أو شمس إلى استدبارهما، ونحو ذلك مما هو أمكن له في القتال {أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] ينضم إليهم ليقاتل معهم؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] .(4/121)
وسواء قربت الفئة أو بعدت؛ لما «روى ابن عمر: أنه كان في سرية من سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحاص المسلمون حيصة عظيمة، وكنت فيمن حاص، فلما برزنا قلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بغضب من الله؟! فجلسنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل صلاة الفجر، فلما خرج قمنا فقلنا له: نحن الفرارون. فقال: لا بل أنتم العكارون أنا فئة كل مسلم» أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أنا فئة كل مسلم، وقال: لو أن أبا عبيد تحيز إلي، لكنت له فئة وكان أبو عبيد بالعراق. وإن كان العدو أكثر من المثلين، لم تجب مصابرتهم؛ لأن الله تعالى لما فرض مصابرة المثلين، دل على إباحة الفرار من الزائد عليهما. وقال ابن عباس: من فر من اثنين، فقد فر. ومن فر من ثلاثة، فما فر. لكن إن غلب على ظنهم الظفر، فالأولى لهم الثبات، ليحصل لهم الأجر والغنيمة ومسرة المسلمين بظفرهم. وإن غلب على ظنهم الهلاك بالإقامة، والنجاة في الفرار. فالفرار أولى؛ لئلا يكسروا قلوب المسلمين بهلاكهم. وإن ثبتوا جاز؛ لأن لهم غرضاً في الشهادة. وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف، فالأولى الثبات؛ ليحصل لهم ثواب الشهداء الصابرين المقبلين؛ ولأنه يجوز أن يظفروا فيسلموا ويغنموا، فإن الله تعالى يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وإن خشوا الأسر، قاتلوا حتى يقتلوا لينالوا شرف الشهادة، ولا يتسلط الكفار على إهانتهم وتعذيبهم. وإن استأسروا جاز؛ لأن عاصم بن ثابت وخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة في عشرة رهط كانوا سرية لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام، فعرضوا عليهم أن يستأسروا فأبوا، فقتلوا عاصماً في سبعة، ونزل إليهم خبيب وزيد على العهد والميثاق، فلم يذم أحداً منهم. وإن ألقى الكفار ناراً في سفينة فيها مسلمون، فما غلب على ظنهم السلامة فيه، فالأولى فعله؛ لأن فيهم صيانتهم عن الهلاك. وإن ثبتوا جاز. قال أحمد: كيف شاء صنع. وإن تساوى الأمران، فهم بالخيار بين المقام بالسفينة، وإلقاء نفوسهم في الماء؛ لأنهما موتتان، فيختار أيسرهما. وعنه: أنه يلزمهم المقام، لئلا يكون موته بفعله، فيكون معيناً على نفسه.
[باب ما يلزم الإمام وما يجوز له]
يجب عليه أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم، ويقويها بالعدد، والآلات ويؤمر عليهم أميراً ذا رأي، وشجاعة، ودين؛ لأنه إذا لم يفعل، لم يأمن(4/122)
دخول الكفار من بعض الثغور، فيصيبون المسلمين. وإن احتاج إلى بناء حصن، أو حفر خندق، فعل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفر خندق على المدينة في غزوة الأحزاب. وإذا بعث جيشاً، أو سرية، لزمه أن يولي عليهم أميراً على الصفة المذكورة، ويوصيه بجيشه؛ لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث أميراً على سرية، أو جيش، أمره بتقوى الله في خاصته، ومن معه من المسلمين» ، ولما بعث أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيوشه إلى الشام، خرج مع أمرائهم يشيعهم، ويوصيهم، ويعهد إليهم.
فصل
وإذا أراد الإمام، أو الأمير الغزو، لزمه أن يعرض جيشه، ويتعاهد الخيل والرجال، فلا يدع فرساً حطماً، وهو الكسير، ولا قحماً، وهو الكبير، ولا ضرعاً وهو الصغير، ولا هزيلاً يدخل معه أرض العدو، لئلا ينقطع فيها، وربما كانت سبباً للهزيمة. ولا يأذن لمخذل من الناس، وهو الذي يفند الناس عن الغزو، ولا لمرجف، وهو الذي يحدث بقوة الكفار، وضعف المسلمين، وهلاك بعضهم، ويخيل لهم أسباب ظفر عدوهم بهم، ولا لمن يعين العدو بمكاتبتهم، بأخبار المسلمين، والتجسس لهم، ولا لمن يضر المسلمين بإيقاع الاختلاف بينهم، ولا لمن يعرف بالنفاق والزندقة؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} [التوبة: 83] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46] . وقَوْله تَعَالَى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] قيل: معناه: لأوقعوا بينكم الاختلاف، وقيل: لأسرعوا في تفريق جمعكم؛ ولأن في حضورهم ضرراً، فيجب صيانة المسلمين عنه. ولا يأذن لطفل ولا مجنون؛ لأن دخولهم تعرض للهلاك، لغير فائدة. ويجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان؛ لأن فيهم معونة ونفعاً، ولا يأذن لمشرك؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى بدر، فتبعه رجل من المشركين، قال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا. قال: فارجع فلن نستعين بمشرك» . حديث حسن. فإن دعت حاجة إليه، ولم يكن حسن الرأي في المسلمين، لم يستعن به أيضاً؛ لأن ما يخشى من ضرره أكثر مما يرجى من نفعه، وإن كان حسن الرأي فيهم، جاز؛ لأن صفوان بن أمية شهد حنيناً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على شركه. ولا يأذن للمرأة الشابة الجميلة؛ لأنها ليست من(4/123)
أهل القتال، ولا يؤمن الضرر عليها وبها، ويجوز أن يأذن للطاعنة في السن، لسقي الماء، ومعالجة الجرحى؛ لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار، يسقين الماء، ويداوين الجرحى.» وهذا حديث صحيح.
فصل
ويستحب أن يخرج يوم الخميس؛ لما روى كعب بن مالك قال: «قلما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج في سفر إلا يوم الخميس.» ويعبئ جيشه، ويرتب في كل جانب كفؤاً؛ لما «روى أبو هريرة قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل خالداً على إحدى المجنبتين، وجعل الزبير في الأخرى، وجعل أبا عبيدة على الساقة» ؛ ولأن ذلك أحوط للحرب، وأبلغ في إرهاب العدو. ويعقد الألوية والرايات، ويجعل لكل طائفة لواء؛ لما روى ابن عباس: «أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للعباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها قال: فحبسته على الوادي، حيث أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومرت به القبائل على راياتها. وهو متحير في ألوانها» . لكنه يغاير ألوانها، ليعرف كل قوم راياتهم، ويعرف عليهم العرفاء، ويجعل لكل طائفة أميراً، ويكلفهم من السير ما يقدر عليه ضعيفهم؛ لئلا ينقطع عنهم، أو يشق عليه إلا أن تدعو حاجة إلى الجد في السير لمصلحة رآها، فيجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، جد في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي: ليخرجن الأعز منها الأذل. ليشغل الناس عن الخوض فيه. ويتخير لهم من المنازل أصلحها لهم، ويتتبع مكامنها فيحوطها عليهم، ولا يغفل الحرس والطلائع، ليحفظهم من البيات. وقد «روى سهل بن الحنظلية: أنهم ساروا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين، فأطنبوا السير حتى إذا كان عشية، قال: من يحرسنا الليلة؟ فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله، قال: فاركب فركب فرساً له، وجاء إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فقال له: استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن من قبلك الليلة، فلما أصبحنا، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مصلاه، فركع ركعتين، ثم قال: هل أحسستم فارسكم قالوا: لا، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، حتى إذا قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاته قال: أبشروا فقد جاءكم فارسكم فإذا هو قد جاء، حتى وقف على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلم، فقال: إني انطلقت، حتى كنت في أعلى هذا الشعب، حيث أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أصبحت، اطلعت الشعبين كليهما فنظرت، فلم أر أحداً، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل نزلت الليلة قال: لا، إلا مصلياً، أو قاضياً حاجة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد وجبت، فلا عليك ألا تعمل بعدها.» رواه أبو داود. ويذكي العيون، ليعلم أخبار(4/124)
عدوه، فيتحرز منهم، ويتمكن من الفرصة فيهم، ويستشير ذوي الرأي من أصحابه؛ لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر الناس مشاورة لأصحابه. ويمنع جيشه من المعاصي، والتشاغل بالتجارة المانعة لهم من القتال، ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب الظفر، ويعد ذا الصبر منهم بالأجر والنفل، ويخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه؛ لئلا يعلم به عدوه، فقد كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد غزوة، ورى بغيرها، ولا يميل مع أهله وموافقيه في مذهبه على مخالفيه؛ لئلا تنكسر قلوبهم، فيخذلوه عند الحاجة، ويعد لهم الزاد، ويراعي من معه، ويرزق كل واحد بحسب حاجته.
فصل
ويقاتل أهل الكتاب والمجوس، حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛ لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا، في ظاهر المذهب. ولا يجوز قتل نسائهم، وصبيانهم؛ لما روى ابن عمر «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن قتل النساء والصبيان» ، متفق عليه؛ ولأنهما يصيران رقيقاً ومالاً للمسلمين، فقتلهما إتلاف لمال المسلمين.
ولا قتل شيخ فإن؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلاً ولا امرأة» رواه أبو داود؛ ولأنه لا نكاية له في الحرب، أشبه المرأة.
ولا قتل زمن ولا أعمى؛ لأنهما في معنى الشيخ الفاني. ولا راهب؛ لما روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه أوصى يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام، فقال: لا تقتلوا الولدان، ولا النساء، ولا الشيوخ، وستجدون قوماً حبسوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم، ولا قتل خنثى مشكل، لأنه يحتمل أنه امرأة، فلا يجوز قتله مع الشك. ومن قاتل من هؤلاء كلهم، قتل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يوم قريظة امرأة ألقت حجراً على محمود بن مسلمة. ومن كان ذا رأي يعين به في الحرب، جاز قتله؛ لأن الرأي في الحرب، أبلغ من القتال؛ لأنه الأصل. وعنه يصدر القتال. قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني(4/125)
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان
وإن تترس الكفار بصبيانهم ونسائهم، جاز رميهم، بقصد المقاتلة؛ لأن المنع من رميهم، يفضي إلى تعطيل الجهاد. وإن تترسوا بأسارى المسلمين، أو أهل الذمة، لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب، والخوف على المسلمين؛ لأنهم معصومون لأنفسهم، فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة. وفي حال الضرورة، يباح رميهم؛ لأن حفظ الجيش أهم.
فصل
ويجوز بيات الكفار، ورميهم بالمنجنيق والنار، وقطع المياه عنهم، وإن تضمن ذلك إتلاف النساء والصبيان؛ لما «روى الصعب بن جثامة، قال سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عن الدار من ديار المشركين، نبيتهم فنصيب من نسائهم وذراريهم؟ فقال: هم منهم» متفق عليه. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصب منجنيقاً على أهل الطائف.» والتغريق بالماء في معناه.
فإن كان فيهم مسلمون، فأمكن الفتح بدون ذلك، لم يجز رميهم؛ لأنه تعريض لقتلهم من غير حاجة، وإن لم يمكن بدونه، جاز؛ لأن تحريمه يفضي إلى تعطيل الجهاد.
فصل
ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من دوابهم؛ لأن قتلها وسيلة إلى الظفر بهم، فإذا صارت إلينا، لم يجز قتلها؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل شيء من الدواب صبراً» ولأنها مال المسلمين. ولا يجوز ذبحها إلا لأكل لا بد لهم منه. ولا يجوز تحريق النحل، ولا تغريقه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النحلة.» وقال أبو بكر: لا تحرقن نحلاً ولا تغرقنه. ويجوز أخذ الشهد، وفي أخذه كله روايتان:
إحداهما: لا يجوز؛ لأن فيه قتل النحل وهلاكه.
والثانية: يجوز؛ لأن هلاكه إنما يحصل ضمناً غير مقصود، فأشبه قتل النساء في البيات.
ويجوز هدم بنيانهم، وقطع شجرهم، وحرق زرعهم إذا احتيج إليه، للتمكن من قتالهم ونحوه، ولا يجوز إذا كان فيه ضرر بالمسلمين، لحاجتهم إلى الاستظلال أو الاستتار به، أو الأكل منه، أو علف دوابهم. وما عدا ذلك، ففيه روايتان:
إحداهما: جوازه؛ لقول الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] .(4/126)
وروى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرق نخل بني النضير وقطع، وهي البويرة، فأنزل الله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] ولها يقول حسان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
رواه مسلم.
» وروى أسامة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان عهد إليه فقال: أغر على أُبْنَى صباحاً وحرق» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
والثانية: لا يجوز إلا أن يكونوا يفعلون ذلك بنا؛ لما روي أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ليزيد وهو يوصيه حين بعثه أميراً: يا يزيد لا تقتل صبياً، ولا امرأة، ولا هرماً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شجراً مثمراً، ولا دابة عجماء، ولا شاة إلا لمأكلة، ولا تحرقن نحلاً ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن. رواه سعيد. فإن كانوا يفعلونه في بلدنا، جاز فعله بهم، لينتهوا، وإن أخذنا منهم مالاً، فعجزنا عن تخليصه إلى دار الإسلام. جاز إتلافه كيلا ينتفعوا به.
فصل
ويخير الإمام في الأسرى من أهل القتال بين أربعة أشياء؛ القتل، والفداء، والمن، والاسترقاق. فأما الفداء والمن، فقول الله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنَّ على أبي عزة الجمحي الشاعر ومَنَّ على أبي العاص بن الربيع، ومَنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي. وفادى أسيراً برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف، وفادى أُسارى بدر بالمال. وأما القتل، «فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل يوم بدر النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط صبراً» ، «وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي» ، وقتل قريظة؛ ولأنه أنكى فيهم وأبلغ في إرهابهم، فيكون أولى. وأما الاسترقاق فيجوز في أهل الكتاب والمجوس؛ لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية، فالرق أولى؛ لأنه أبلغ في صغارهم، وإن كان من غيرهم، ففيه روايتان:(4/127)
إحداهما: لا يجوز إرقاقه. اختارها الخرقي؛ لأنه لا يقر بالجزية، فلم يجز إرقاقه، كالمرتد.
والثانية: يجوز؛ لأنه كافر أصلي، فأشبه الكتابي. وإن أسلم الأسير، حرم قتله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ويتخير فيه بين المن عليه؛ لأنه إذا جاز المن عليه حال كفره، ففي حال إسلامه أولى، بين إرقاقه وفدائه.
وقال أصحابنا: يصير رقيقاً بنفس الإسلام، ويسقط التخيير؛ لأنه ممن يحرم قتله، فأشبه المرأة.
وأما النساء والصبيان، فإنهم يصيرون رقيقاً بنفس السبي؛ لأنهم مال لا ضرر في اقتنائه، فأشبهوا البهائم.
وأما الرجال الذين يحرم قتلهم، كالشيخ الفاني ونحوه، فلا يجوز سبيهم؛ لأنه لا نفع من استرقاقهم، ولا يحل قتلهم. إذا ثبت هذا. فإن التخيير الثابت في الأسرى تخيير مصلحة واجتهاد، لا تخيير شهوة،
فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال، تعينت عليه
، ولم يجز له غيرها؛ لأنه ناظر للمسلمين فلم يجز له ترك ما فيه الحظ لهم، كولي اليتيم، فمتى رأى القتل، ضرب عنقه بالسيف؛ لقول الله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالذين قتلهم، فضربت أعناقهم، ولا يجوز التمثيل به؛ لما روى بريدة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أمر أميراً على جيش، أو سرية قال: اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تغلوا» وإن اختار الفداء، جاز أن يفاديهم بأسارى المسلمين، وجاز بالمال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين. وقال أبو الخطاب: لا يجوز فداؤهم بالمال في أحد الوجهين، فإن فادى بالمال، أو استرقهم، كان الرقيق، والمال للغانمين. وليس له إطلاق الأسارى ولا المال إلا برضاهم؛ لما روى مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاءه وفد هوازن مسلمين قال: إن إخوانكم جاءوا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك، فليفعل، ومن أحب أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا، فليفعل فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله.» أخرجه البخاري.(4/128)
فصل:
ومنع أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فداء النساء بالمال؛ لأن في بقائهن في الرق تعريضا لهن للإسلام، لمعاشرتهن للمسلمين، وجوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع رجلين من المسلمين؛ ولأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق إسلامه. وإن أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار، بفداء ولا غيره، لقول الله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، ولا يجوز المفاداة بالصبيان بحال؛ لأنهم يصيرون مسلمين بإسلام سابيهم.
فصل:
ولا يجوز بيع رقيق المسلمين لكافر. نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كتب إلى أمراء الأمصار: ينهاهم عنه؛ ولأن في بقائهم رقيقا للمسلمين، تعريضا لهم للإسلام، وفي بيعهم لكافر، تفويت ذلك، فلم يجز.
فصل:
وإن أسر من يقر بالجزية فبذلها، لم يلزم قبولها؛ لأنه قد ثبت حق التخيير فيه بين الأمور الأربعة، فلم يسقط ببذله، ويجوز للإمام إجابته إليها إذا رأى ذلك؛ لأنه بمنزلة المن عليه.
فصل:
ويكره نقل رءوس الكفار من بلد إلى بلد، ورميها في المنجنيق؛ لأن فيه مُثْلَة، وقد روى عقبة بن عامر: أنه قدم على أبي بكر برأس بَنَّاق البطريق، فأنكر ذلك، فقيل: يا خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنهم يفعلون بنا هذا، قال: فَاسْتِنَانٌ بفارس والروم؟ لا يحمل رأس، وإنما يكفي الكتاب والخبر. رواه سعيد.
فصل:
إذا حصر الإمام حصنا، فرأى المصلحة في مصابرته، لزمه ذلك؛ لأن عليه فعل ما فيه الحظ للمسلمين. وإن كانت المصلحة في الانصراف، انصرف لذلك. وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا، فقال: إنا قافلون إن شاء الله غدا فقال المسلمون: أنرجع ولم نفتتحه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغدوا على القتال فغدوا عليه، فأصابهم جراح، فقال لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا قافلون غدا فأعجبهم، فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه.(4/129)
وإن أسلم أهل الحصن قبل فتحه، عصموا دماءهم وأموالهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
وإن طلبوا النزول على حكم حاكم، جاز؛ «لأن بني قريظة حين حصرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فحكم فيهم: بقتل مقاتليهم، وسبي ذراريهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
» ويجب أن يكون الحاكم بالغا عاقلا حرا مسلما ذكرا عدلا عالما؛ لأنه ولاية حكم، فأشبه ولاية القضاء، ولا يشترط أن يكون بصيرا؛ لأن الذي يقتضي الحكم فيهم هو الذي يشتهر من حالهم، وذلك يُدرك بالسمع، فأشبه الشهادة فيما طريقه السمع.
ويكره أن يكون حسن الرأي فيهم؛ لأنه يخشى ميله إليهم. ويجوز حكمه؛ لأنه عدل في دينه. فإن نزلوا على حكم من يختاره الإمام، جاز؛ لأنه لا يختار إلا من يجوز حكمه. ولا يجوز أن ينزلوا على حكم من يختارونه؛ لأنهم قد يختارون من لا يصلح. ويجوز أن ينزلوا على حكم اثنين، أو أكثر؛ لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي، فأشبه التحكيم في اختيار الإمام. وإن نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه، أو حكم من يجوز، فمات قبل الحكم، وجب ردهم إلى حصنهم؛ لأنهم نزلوا على أمان، فلا يجوز أخذهم، ولا يجوز للحاكم الحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين؛ لأنه نائب الإمام، فقام مقامه في اختيار الأحظ من الأمور الأربعة. فإن حكم بالمن، فقال القاضي: يلزم حكمه كذلك. وقال أبو الخطاب: لا يلزم؛ لأن الإمام إذا لم يره، تبين أنه لا حظ فيه، فلم يلزم حكمه به. فإن حكم بعقد الذمة، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزم حكمه؛ لأنهم رضوا بحكمه.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه عقد معاوضة، فلم يجز إلا برضا الفريقين، فإن حكم بالقتل والسبي، جاز؛ لأن سعدا حكم به في بني قريظة، فصادف حكم الله تعالى.
وللإمام أن يمن على من حكم عليه بالقتل؛ لأن ثابت بن قيس بن شماس سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي بعد الحكم عليهم، فوهبه له، وأطلق له أهله وماله.
وإن حكم باسترقاقهم، لم يجز أن يمن عليهم، إلا برضا الغانمين؛ لأنهم صاروا مالا لهم. وإن حكم بالقتل فأسلموا، عصموا دماءهم؛ لأن قتل المسلم حرام، ولم يعصموا أموالهم؛ لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم. وفي استرقاقهم روايتان:(4/130)
إحداهما: لا يسترقون، ذكره القاضي؛ لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم، فأشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم.
والثانية: يسترقون؛ لأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم، ووجوب قتلهم، فأشبهوا الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله.
فصل:
ومن أسلم قبل القدرة عليه، عصم نفسه وماله، وأولاده الصغار، للخبر المذكور.
ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حاصر بني قريظة، فأسلم ابنا سبيعة، فأحرز إسلامهما أموالهما وأولادهما؛ ولأن الأولاد تبع لوالدهما في الإسلام، فكذلك في العصمة. وإن كان للمسلم منفعة بإجارة، لم تملك عليه؛ لأنها مال. ولا يعصم زوجته؛ لأن النكاح ليس بمال. ولا يجري مجراه، وإن كانت حاملا منه، فولده مسلم معصوم. ويجوز استرقاقها؛ لأنها حربية، لا أمان لها ولا يعصم أولاده البالغين؛ لأنهم لا يتبعونه في دينه فكذلك في عصمته. وإذا ادعى الأسير أنه أسلم قبل الأسر. لم يقبل إلا ببينة. فإن شهد له مسلم وحلف معه، ثبت ذلك له؛ لأن ابن مسعود شهد لسهيل بن بيضاء أنه سمعه يذكر الإسلام، فقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهادته وأطلقه من الأسر.
فصل:
ومن أسلم من الأبوين، كان أولاده الأصاغر تبعا له في الإسلام، رجلا كان أو امرأة، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] ، ويتبعه الحمل؛ لأنه لا يصح إسلامه بنفسه، فتبعه كالولد. وإن لم يسلم واحد منهما، فولدهما كافر؛ لأنه لا حكم لنفسه، فتبع أبويه، كولد المسلم. فإن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام، حكم بإسلام الولد، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» فجعل التبعية لأبويه معا. فإذا مات أحدهما، انقطعت التبعية، فوجب بقاؤه على حكم الفطرة؛ ولأن الدار يغلب فيها حكم الإسلام، بدليل الحكم بإسلام لقيطها. وإنما منع ظهور حكمها اتباعه لأبويه، فإذا مات أحدهما، اختل المانع، فظهر حكم الدار. والحكم في المجنون الذي يبلغ مجنونا، كالحكم في الصبي؛ لأنه لا حكم لقوله، فتبع في الإسلام كالطفل؛ ولأنه يتبع والديه في الكفر، ففي الإسلام أولى؛ وإن بلغ عاقلا ثم جن، ففيه وجهان:(4/131)
أحدهما: يتبع أباه؛ لأنه لا حكم لقوله.
والثاني: لا يتبع؛ لأنه زال حكم التبعية، ببلوغه عاقلا، فلا يعود.
فصل:
وإن سبي الطفل منفردا عن أبويه، تبع سابيه في الإسلام؛ لأنه زال حكم أبويه، لإفراده عنهما، واختلاف الدار بهما، فأشبه ما لو ماتا؛ ولأن سابيه، كأبيه في حضانته، فكان مثله في استتباعه، وإن سبي معهما، تبعهما، لخبر أبي هريرة؛ ولأنه لم ينفرد عنهما، أشبه ما لو كان ذميا. وإن سبي مع أحد أبويه، حكم بإسلامه؛ لأنه انقطع اتباعه لأحد أبويه، فأشبه ما لو أسلم، أو مات، وقال أبو الخطاب: يتبع أباه، وقال القاضي: فيه روايتان:
أشهرهما: أنه يحكم بإسلامه، لما ذكرنا.
والثانية: يتبع أباه.
فصل:
ولا يجوز التفريق في السبي بين الوالدة وولدها، ولا بين الوالد وولده، ولا بين ذوي رحم محرم، إذا كان أحدهما صغيرا. فإن كانا بالغين، فعلى روايتين، ذكرناهما في البيع. فإن اشترى من المغنم اثنين على أنه يحرم التفريق بينهما، فتبين أنه جائز، وجب رد الفضل الذي حصل بإباحة التفريق؛ لأنه تبين له فضل لم يعلم به البائع، فوجب رده، كما لو قبض الثمن على أنه عشرة، فبان أحد عشر. ولو اشترى من المغنم جارية معها مال، أو حلي، أو ثياب غير لباسها، لزمه رده. نص عليه؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للبائع» لأن البيع إنما وقع عليها دونه.
فصل:
إذا سبيت المرأة دون زوجها، انفسخ نكاحها، لقول الله تعالى: « {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] . قال أبو سعيد الخدري: نزلت هذه الآية في سبي أوطاس، أصبنا سبايا ولهن أزواج في قومهن، فذكر ذلك لرسول الله، فنزلت الآية» . قال الترمذي: هذا حديث حسن؛ ولأنه استولى على محل حق الكافر الحربي، فأزاله، كما لو سبيت أمته. وقال أبو الخطاب: عندي لا ينفسخ. وإن سبي الرجل وحده، لم ينفسخ نكاحه؛ لأنه لم يستول على محل حقه، أشبه ما لو لم يسب؛ وإن سبي الزوجان، لم(4/132)
ينفسخ نكاحهما؛ لأن الرق لا يمنع ابتداء النكاح، فلم يقطع استدامته، كالعتق. ويحتمل أن ينفسخ نكاحهما؛ لأنه استولى على محل حقه، فزال ملكه عنه، كماله، أو كما لم يسب معها.
فصل:
وإن أسلم عبد الحربي ولم يخرج إلينا، فهو على رقه؛ لأن يد سيده لم تزل عنه، فلم يزل ملكه، كما لو لم يسلم، وإن خرج إلينا، صار حرا؛ لأنه أزال يد سيده قهرا، فزال ملكه، كما لو استولى عليه مسلم. وإن أسر سيده، وأخذ ماله وعياله، فالمال له، والسبي رقيقه؛ لأن دار الحرب دار قهر، فما استولى عليها فيها، فهو للمستولي. وقد روى أبو سعيد الأعشم قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العبد، إذا أخرج من دار الحرب قبل سيده، أنه حر، فإن خرج سيده بعد، لم يرد إليه، وقضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد، رد على سيده» ، رواه سعيد.
فصل:
وليس للإمام أن يقيم حدا في أرض الحرب، ولا يستوفي قصاصا، لما روي عن بسر بن أرطاة، أنه «أتى برجل في الغزاة، قد سرق بختية، فقال: لولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعتك» . رواه أبو داود.
وروى سعيد بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى الناس: أن لا يجلدن أمير جيش، ولا سرية، رجلا من المسلمين حدا وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان، فيلحق بالكفار؛ ولأنا لا نأمن أن يحمله الخوف من الحد، فيلحق بالكفار، فيجب تأخيره. فإذا قفل وخرج من دار الحرب، أقيم عليه حد ما فعل في دار الحرب؛ لأنه واجب لوجود سببه، تأخر لعارض زال بقفوله، فتجب إقامته، كما لو أخر لمرض. وأما الثغور، فتقام بها الحدود والقصاص؛ لأنها دار إسلام. وقد كتب عمر إلى أبي عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أن يجلد من شرب الخمر عنده ثمانين. وكتب إلى خالد يأمره بمثل ذلك.
[ما يلزم الجيش من طاعة الإمام]
باب ما يلزم الجيش من طاعة الإمام يلزم الجيش طاعة أميرهم، وامتثال أوامره، والانتهاء عن مناهيه، لقول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أطاعني فقد(4/133)
أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري، فقد عصاني» رواه النسائي. ولا يجوز الخروج إلى الغزو إلا بإذنه؛ لأنه أعلم بمصالح الحرب، والطرقات، ومكامن العدو، وكثرتهم وقلتهم، فيجب الرجوع إلى رأيه، إلا أن يعرض ما يمنع، من استئذانه من مفاجأة عدو يخاف الضرر بتأخير حربه، أو فرصة يخاف فوتها بانتظار رأيه، فيجوز من غير إذنه. قال أحمد: وإذا نادى الإمام: الصلاة جامعة، لأمر يحدث يشاور فيه، لم يتخلف أحد إلا من عذر. وإن غضب على رجل، فقال: اخرج، عليك ألا تصحبني، فلا يصحبه حتى يأذن له.
فصل:
ويُغْزَى مع كل بر وفاجر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا.» رواه أبو داود؛ ولأن تركه مع الفاجر يُفضي إلى تعطيل الجهاد وظهور العدو.
وقال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع القائد إذا عرف بالهزيمة، وتضييع المسلمين، فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر، والغلول، يغزى معه إذا كان له شفقة وحيطة على المسلمين. إنما فجوره على نفسه، ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» متفق عليه
فصل:
وإذا غزا الأمير بالناس، لم يجز لأحد أن يخرج من المعسكر لتعلّف، ولا احتطاب، ولا غارة، ولا غير ذلك إلا بإذنه، لقول الله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] ؛ ولأن الأمير أعرف بحال الناس، ومكامن العدو، وقربه وبعده، ومواضع الأمن، فلا يأذن لهم، إلا مع أمنه عليهم، وإن خرجوا من غير أمره، لم يأمنوا كمينا للعدو. أو مهلكة يهلكون بها، وربما رحل الجيش فيضيع الخارج.
فصل:
وتجوز المبارزة في الحرب، وهو: أن يخرج الرجل من المسلمين، إلى الرجل من الكافرين بين الصفين، ليقاتل كل واحد منهما صاحبه؛ لأن حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، بارزوا يوم بدر عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، بأمر(4/134)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] الآيات ولا يجوز إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر القتال موكول إليه، وهو أعلم برجاله، فلا يؤمن مع مخالفته، أن يتم ما ينكسر به الجيش. ومتى خرج كافر يطلب البراز، جاز رميه وقتله؛ لأنه مشرك لا أمان له، إلا أن تجري العادة بينهم بترك التعرض لمن يطلب البراز، فلا يجوز التعرض له؛ لأن ذلك يجري مجرى الشرط، ويستحب لمن يعلم من نفسه الشدة والشجاعة مبارزته؛ لأن في ترك مبارزته كسرا على المسلمين. ويكره للضعيف الخروج إليه لأن القصد إظهار القوة. والظاهر من مبارزة الضعيف خلاف ذلك. فإن طلب الشجاع المبارزة ابتداء، أبيح له؛ لأن فيه إظهار القوة، ولا يستحب؛ لأنه لا حاجة إليه، ولا يأمن الغلبة، فيكسر قلوب المسلمين. ومتى تبارزا بشرط أن لا يعين واحدا أصحابه، لم يجز رمي الكافر، وفاء بشرطه. فإن ولى مثخنا، أو محتازا، أو ولى عنه المسلم، جاز رميه؛ لأنه شرط الأمان حال القتال، وقد انقضى القتال فزال الأمان. وإن استنجد الكافر أصحابه، أو بدءوا بإعانته، فلم يمنعهم، انتقض أمانه لنقضه إياه. وإن منعهم فلم يقبلوا منه، فهو على أمانه؛ لأنه لم ينقضه. وإن شرط أن لا يرميه أحد حتى يرجع إلى صفه، وفي له بشرطه. فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله، جاز رميه؛ لأنه نقض الشرط، فسقط أمانه.
فصل:
ومن أسر أسيرا، لم يكن له قتله حتى يأتي به الإمام، فيرى فيه رأيه؛ لأنه إذا صار أسيرا فالخيرة فيه إلى الإمام. وعنه: ما يدل على إباحة قتله؛ لأنه في وقت الحرب، فأشبه قتله حال القتال. وإن امتنع الأسير أن ينقاد معه. فله إكراهه بالضرب وغيره، فإن لم يمكنه إكراهه، أو خافه على نفسه، أو خاف انقلابه، فله قتله؛ لأنه كافر لا أمان له، يخاف شره، فأبيح قتله، كما قبل الأسر. وإن كان امتناعه لمرض، أبيح قتله، كما يجوز أن يذفف على جريحهم. وقد توقف أحمد عن قتله، والأولى إباحته. ومتى قتل أسيره، أو أسير غيره قبل بلوغه إلى الإمام، أو بعده قبل الحكم باسترقاقه، لم يضمنه؛ لأنه ليس بمال، ولذلك أبيح للأمير إتلافه. وإن قتل امرأة أو صبيا قبل الاستيلاء عليهم، لم يضمنهم؛ لأنهم لم يصيروا مالا للمسلمين وإن قتلهم بعد الاستيلاء عليهم ضمنهم لأنهم يصيرون رقيقا بنفس السبي.(4/135)
فصل:
وإذا وجد المسلمون بأرض الحرب طعاما أو علفا، فلهم الأكل منه، وعلف دوابهم مع الحاجة وعدمها من غير إذن الإمام، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه قدر ما يكفيه، ثم ينصرف. وروي أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا فتحنا أرضا كثيرة الطعام والعلف، وكرهنا أن نقدم في شيء من ذلك. فكتب إليه: دع الناس يعلفون، ويأكلون، فمن باع منهم شيئا، بذهب أو فضة، ففيه خمس الله، وسهام المسلمين. رواهما سعيد؛ ولأن الحاجة تدعو إليه، ففي المنع ضرر بالجيش؛ لأنه يشق عليهم حمل الزاد والعلف. ولآخذه أن يعطيه لمن يحتاج إليه، فيكون أحق به. وليس له بيعه؛ لأن الحاجة تدعو إلى الأكل دون البيع، فإن باعه لبعض الغانمين، صار الآخذ أحق به؛ لأنه صار في يده، وهو من الغانمين الذين لهم الأكل منه. وله أخذ ما دفع من ثمنه؛ لأنه دفعه إلى من لا يستحق، فإن رد الطعام إلى البائع، صار البائع أحق به؛ لأنه صار إليه. وإن باعه لغير الغانمين، فالبيع باطل، ويرد المبيع إلى الغنيمة؛ لأنه لا يملك بيعه. فإن تعذر رده، رد ثمنه، لخبر عمر؛ ولأنه تعذر رد المبيع، فوجب رد قيمته، كالمغصوب. وإن وجد دهنا مأكولا، فله أكله؛ لأنه من الطعام. وقد روى عبد الله بن مغفل قال: «دلي جراب من شحم يوم خيبر، فأتينه فالتزمته وقلت: هذا لي، فالتفت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبتسم لي، فاستحييت منه» . متفق عليه.
وإن أراد أن يدهن به، أو يدهن به دابته، فقال أحمد: إذا كان من ضرورة، أو صداع، فلا بأس، وإن كان للزينة، فلا يعجبني. وذلك لأن ما تدعو الحاجة إليه من هذا، فهو مثل الطعام في الحاجة إليه، فأبيح، ولا حاجة إلى الزينة، فلم تبح، كلبس الثوب. وليس له غسل ثيابه بالصابون؛ لأنه للزينة والتحسين , قال القاضي: وليس له إطعام الجوارح، كالفهد والكلب، والصقر؛ لأنه لا حاجة إليه. وما يحتاج إليه من المشروبات للدواء، أبيح له تناوله؛ لأنه طعام احتاج إليه، فأشبه الفاكهة.
فصل:
وإن أحرزت الغنيمة، فقال الخرقي: لا يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة، بأن لا يجدوا ما يأكلون. ونص عليه أحمد؛ لأن المسلمين ملكوها بحيازتها، فلم يجز الأكل منها، كما لو حيزت إلى بلد الإسلام. وقال القاضي: لهم الأكل منها ما لم تحرز بدار الإسلام، أو تقسم؛ لأن الحاجة تدعو إلى الأكل منها، فأشبه ما قبل الحيازة. ويحتمل أن الخرقي أراد بالإحراز إدخالها دار الإسلام، فيكون معنى القولين واحدا. وإذا وجد في دار الحرب حيوانا مأكولا، فقال الخرقي: لا تعقر شاة، ولا دابة إلا لأكل لا بد(4/136)
منه؛ لأنها تقتنى لغير الأكل، فأشبهت الفرس. وقال القاضي: يجوز ذبح ما جرت العادة بذبحه للأكل، كالشاة وما دونها؛ لأنها مما تؤكل عادة، فأشبه الطعام. فأما الطيور، كالدجاج ونحوها، فيباح ذبحها وأكلها. نص عليه أحمد؛ لأن هذا مما لا يمكن حمله إلى دار الإسلام. فأشبه الطعام.
فصل:
ومن فضل معه من الطعام والعلف كثير، فأدخله البلد، فعليه رده إلى المغنم؛ لأنه إنما أبيح للحاجة وقد زالت الحاجة. وإن كان يسيرا، ففيه روايتان:
إحداهما: يجب رده؛ لأنه أبيح للحاجة وقد زالت.
والثانية: له أخذه؛ لأنه أخذ ما له أخذه، فلم يجب رده، كالسلب؛ ولأن اليسير تجري المسامحة فيه. قال الأوزاعي: أدركت الناس يقدمون من أرض العدو. بفضل الطعام والعلف، فيعلفون دوابهم، ويهديه بعضهم إلى بعض، لا ينكره إمام، ولا عامل ولا جماعة، وكانوا يقدمون بالقديد فيهديه بعضهم إلى بعض.
فصل:
ولا يجوز أخذ إبرة، ولا خيط، ولا شعر، ولا صوف، لما روي «أن رجلا أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبة من شعر الغنم، فقال: يا رسول الله، إنا نعمل الشعر فهبها لي، قال: نصيبي منها لك» رواه سعيد. ولا يجوز أخذ جلد، سواء كان جلد ما نذبحه، أو غيره؛ لأنه إذا لم يجز أخذ الشعر، فالجلد أولى؛ ولأنه ليس بمأكول، أشبه الثياب. ولا يجوز ركوب دابة من المغنم، ولا لبس ثوب، لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلق رده فيه» وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أن له ركوب الفرس عند الحاجة حتى تنقضي الحرب، ثم يردها؛ لأنها من آلات الحرب، فأشبهت السلاح.
فصل:
ومن أخذ من مباحات دار الحرب شيئا، كالصيد، والحجر، والحشيش والشجر ونحوها، فاحتاج إليه للأكل والعلف، انتفع به. وإن لم يحتج إليه لذلك، وله قيمة في موضعه، فهو غنيمة؛ لأنه وصل إليه بقوة الجيش. وإن لم يكن له قيمة في موضعه،(4/137)
وإنما يصير له قيمة بنقله، فهو لآخذه؛ لأنه إنما صارت له قيمة بفعله، وكذلك الركاز.
وإن وجد لقطة يعلم أنها للكفار، فهي غنيمة. وإن احتمل أن تكون لمسلم، عرفها حولا، ثم ردها في الغنيمة إن لم تعرف لذلك. وإن ترك صاحب المغنم شيئا عجز عن حمله، فقال: من أخذ منه شيئا، فهو له، فهو لمن أخذه. نص عليه؛ لأنه بمنزلة ما لا قيمة له في دارهم. وإن لم يقل ذلك، فأكثر الروايات عن أحمد أنه لآخذه كذلك. وعنه: يكون غنيمة؛ لأنه ذو قيمة، فهو كالصيد.
فصل:
ومن وجد كتبا فيها كفر، فعليه إتلافها؛ لأن قراءتها والنظر فيها معصية، وكذلك كتب التوراة والإنجيل؛ لأنها مبدلة منسوخة منهي عن قراءتها. وإن أمكن الانتفاع بجلودها، أو رقها إذا غسل، فعل ذلك. وإن وجد خمرا، وجبت إراقته؛ لأن شربه معصية. وإن وجد خنزيرا، قتله. وإن وجد كلبا لا يباح اقتناؤه تركه، وإن أبيح اقتناؤه، فله أخذه لنفسه ودفعه إلى من ينتفع به من الغانمين، أو أهل الخمس؛ لأن الكلب لا قيمة له. وإن وجد فهدا معلما، أو بازيا، فهو غنيمة؛ لأن له قيمة.
[باب الأنفال والأسلاب]
النفل: ما يعطاه زيادة على سهمه. وهو نوعان:
أحدهما: ما يستحق بالشرط، وهو ضربان:
أحدهما: أن الأمير إذا دخل دار الحرب غازيا، بعث سرية بين يديه تغير على العدو، ويجعل لهم الربع بعد الخمس. فإذا قفل، بعث سرية تغير، ويجعل لهم الثلث بعد الخمس، فما قدمت به السرية خمسه، ثم أعطى السرية ما جعل لها، ثم قسم الباقي في الجيش والسرية معه، لما روى حبيب بن مسلمة الفهري قال: «شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة» . وفي لفظ: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل الربع بعد الخمس، والثلث بعد الخمس، إذا قفل» ، رواهما أبو داود. وعن عبادة بن الصامت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى الأثرم عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لجرير بن عبد الله لما قدم عليه في قومه يريد الشام: هل لك أن تأتي الكوفة ولك الثلث بعد الخمس(4/138)
من كل أرض وسبي؟ ولا تجوز الزيادة على الثلث؛ لأن نفل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انتهى إليه ويجوز النقص منه؛ لأنه إذا جاز أن لا ينفل شيئا، فلأن يجوز تنفيل القليل أولى، ولا يستحق هذا النفل إلا بالشرط. نص عليه؛ لأن استحقاقه بغير شرط إنما يثبت بالشرع، ولم يرد الشرع باستحقاقه على الإطلاق.
الضرب الثاني: أن يجعل الأمير جعلا لمن يعمل عملا فيه غناء عن المسلمين، مثل أن يقول: من طلع هذا الحصن، فله كذا أو من نقبه، أو من جاء بأسير، فله كذا، ومن جاء بعشرة رءوس، فله رأس، وأشباه هذا مما يراه الإمام مصلحة للمسلمين، فيجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل قتيلا، فله سلبه» ويجوز أن يجعل الجعل من مال المسلمين، ومما يؤخذ من المشركين، فإن جعله من مال المسلمين لم يجز إلا معلوما مقدرا، كالجعل في المسابقة، ورد الضالة. وإن كان من الكفار، جاز مجهولا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الثلث والربع، وسلب المقتول، وهو مجهول؛ ولأنه ضرر فيه على المسلمين، فجاز مع الجهالة، كسلب القتيل.
النوع الثاني: أن يخص الإمام بعض الغانمين بشيء، لغنائه وبأسه، أو لمكروه تحمله، ككونه طليعة، أو عينا، فيجوز من غير شرط، لما روى سلمة بن الأكوع قال: «أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتبعتهم، وذكر الحديث إلى قوله: فأعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم الفارس والراجل» ، وعنه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا بكر، فبيتنا عدونا، فقتلت منهم تسعة أهل أبيات، فأخذت منهم امرأة، فنفلنيها أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما قدمت المدينة استوهبها مني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوهبتها له» ، رواهما أبو داود؛ ولأن في هذا تحريضا على القتال، ونفعا للمسلمين، والدفع عنهم، فجاز، كإعطاء السهم.
فصل:
إذا قال: من دلني على القلعة الفلانية، أو من دلني على طريق سهل، ونحو ذلك، فله كذا - جاز. فإن كان الجعل جارية من القلعة، جاز أن تكون معينة، وغير معينة كجارية مطلقة. فإن لم تفتح القلعة، فلا شيء له؛ لأن تقدير الكلام: من دلني على القلعة ففتحها الله علينا، فله جارية منها، لتعذر تسليمه جارية منها قبل فتحها، فإن فتحت، فلم يكن فيها جارية، أو لم يكن فيها المعينة، فلا شيء له؛ لأنه شرط(4/139)
معدوما. وإن كانت فيها فماتت قبل الفتح، فلا شيء له؛ لأنها غير مقدور عليها، أشبهت المعدومة. وإن كانت باقية، سلمت إليه؛ لأنه استحقها بالشرط. فإن كانت قد أسلمت قبل الفتح، عصمت نفسها بإسلامها، وله قيمتها؛ لأنه تعذر تسليمها مع وجودها، والقدرة عليها. وإن أسلمت بعد الفتح، سلمت إليه إن كان مسلما، وإن كان مشركا، انتقل إلى قيمتها، لتعذر تسليمها إليه مع القدرة عليها فإن أسلم بعد ذلك، احتمل أن لا يستحقها؛ لأن حقه انتقل إلى قيمتها، واحتمل أن يستحقها؛ لأن تعذر تسليمها إليه لمانع زال فأشبه من غصب عبدا، فأبق، ثم قدر عليه. وإن فتحت القلعة صلحا، فاستثنى الأمير الجارية وسلمها، جاز. وإن وقع مطلقا، فرضي مستحقها بقيمتها، أعطيها. وإن أبى وامتنع صاحب القلعة من بذلها بقيمتها، فسخ الصلح، لتعذر إمضائه، لسبق حق الدال، وتعذر إيصاله إليه مع تمام المصلحة، ويحتمل أن يعطى مستحقها قيمتها؛ لأنه تعذر دفعها إليه، فأشبه ما لو أسلمت.
فصل:
ومن قتل في وقت الحرب كافرا، فله سلبه، لما روى أبو قتادة، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من قتل قتيلا له عليه بينة، فله سلبه» متفق عليه. وعن أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: من قتل كافرا فله سلبه فقتل أبو طلحة عشرين رجلا، وأخذ أسلابهم» .
ولا يقبل دعوى القتل إلا ببينة، للخبر. ولا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، نص عليه؛ لأنه دعوى القتل، فأشبه قتل المسلم. وقياس المذهب أن يقبل فيها ما يقبل في الأموال؛ لأن مقصوده المال، فأشبه الشهادة على الغصب، والجناية الموجبة للمال. ويحتمل أن يقبل فيه قول واحد؛ لأن أبا قتادة، لما شهد له الرجل الذي أخذ سلبه، دفعه إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله وحده، ولا يخمس السلب؛ لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فله سلبه» يتناول جميعه. وقد روى عوف بن مالك، وخالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في السلب للقاتل، ولم يخمس السلب» . رواه أبو داود.
فصل:
ولا يستحقه إلا بشروط أربعة:
أحدها: أن يكون القاتل ذا حق في المغنم، حرا كان أو عبدا، رجلا أو صبيا، أو امرأة لعموم الخبر. وإن لم يكن ذا حق، كالمخذل، والمرجف، والكافر إذا حضر(4/140)
بغير إذن، لم يستحقه؛ لأنه لا حق له في السهم الثابت، فغيره أولى.
والثاني: أن يغرر بنفسه في قتله، كالمبارز، فإن قتله بسهم رماه من صف المسلمين ونحوه، لم يستحقه؛ لأنه إنما ورد الخبر في المبارز ونحوه.
الثالث: أن يقتله وهو مقبل على الحرب، فإن قتل أسيرا، أو مثخنا، أو منهزما إلى غير فئة، لم يستحقه؛ لأن ابن مسعود ذفف على أبي جهل يوم بدر، فلم يعط سلبه؛ ولأن استحقاق السلب للمخاطرة، والتغرير بالنفس، ولا خطر هاهنا. وإن قتل موليا ليكر، أو متحيزا إلى فئة، فله سلبه؛ لأن سلمة بن الأكوع، أدرك طليعة للكفار موليا، فقتله، «فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من قتله؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: فله سلبه أجمع» ؛ ولأن القتال كر وفر.
الرابع: أن يقتله لأن الخبر خص القاتل بالسلب، فاختص به دون غيره، فإن أسره لم يستحق سلبه كذلك. وقال القاضي: له سلبه، سواء قتله الإمام، أو من عليه، أو فاداه، وله فداؤه؛ لأن مال حصل بسبب تغريره في تحصيله، أشبه سلب القتيل. وظاهر كلام أحمد أنه يشترط أن ينفرد بقتله؛ لأنه قال في رواية حرب: له سلبه إذا انفرد بقتله؛ ولأنه يستحق للتغرير بالنفس، ولا يحصل مع الاشتراك، وإن قطع أحدهما يده، أو رجله وقتله الآخر، فكذلك؛ لأنهما شريكان فيه. وإن قطع أحدهما أربعته وقتله الآخر، فسلبه للقاطع؛ لأن معاذ بن عمرو بن الجموح أثبت أبا جهل، وتمم عليه ابن مسعود، فقضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسلبه لمعاذ؛ ولأن القاطع كفى شره، فأشبه القاتل، وإن قطع يديه أو رجليه، فكذلك لأنه قد عطله، ويحتمل أن لا يستحقه؛ لأنه إن قطع رجليه، قاتل بيديه، وإن قطع يديه فهو يعدو، ويكثر ويهيب، فما كفى شره. وإن عانق رجلا فقتله الآخر فالسلب للقاتل للخبر؛ ولأنه قاتل لمن لم يكف المسلمون شره، أشبه المطلق. وظاهر المذهب أنه يستحق، وإن لم يشرطه الإمام له، للخبر، إلا أنه أعجب أحمد أن لا يأخذه إلا بإذن الإمام؛ لأنه أمر مجتهد فيه، فلا يأخذه إلا بإذنه كالسهم. وعنه: لا يستحقه إلا بجعل الإمام قبل قتله، أو تنفيله بعده؛ لأنه نفل فلا يستحقه إلا بإذنه، كسائر الأنفال.
فصل:
والسلب: ما على القتيل من ثيابه، وحليه، وسلاحه، وإن كثر، لما روي أن عمرو بن معديكرب حمل على أسوار، فطعنه، فدق صلبه، فصرعه، فنزل إليه، فقطع(4/141)
يديه، وأخذ سوارين كانا عليه، ويلمقا من ديباج وسيفا ومنطقة، فسلم ذلك له. وبارز البراء مرزبان الزارة، فقتله، فبلغ سواراه ومنطقته ثلاثين ألفا.
وفي الدابة وآلتها روايتان:
إحداهما: هي من السلب، اختارها الخرقي؛ لأنها يستعان بها في الحرب، فهي كالسلاح.
والثانية: ليست منه، اختارها الخلال، وأبو بكر؛ لأن السلب ما كان على البدن، والدابة ليست كذلك. فإن كان يقاتل وهو ممسك بعنانها، فعن أحمد أنها من السلب؛ لأنه يركبها إذا احتاج إليها. وعنه: ليست منه؛ لأنه ليس بمستعين بها في حال قتاله، أشبهت التي في رحله. فإن كان معه فرس مجنوبة إلى فرسه، فليست من السلب كذلك، وكذلك المال الذي في كمرانه، وغيره، ورحله، وسلاحه الذي ليس معه حال قتله، ليس من السلب؛ لأن سلبه ما عليه حال قتله، أو ما يستعان به في القتال.
[باب قسمة الغنائم]
الغنيمة: ما أخذ من مال الكفار بإيجاف، فخمسها لأهل الخمس، وأربعة أخماسها للغانمين، لقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. فأضافها إليهم ثم جعل خمسها لله فدل على أن أربعة أخماسها لهم. ثم قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم الغنائم كذلك. والإمام مخير بين قسمتها في دار الحرب، وبين تأخير القسمة إلى دار الإسلام، أي ذلك رأى المصلحة فيه فعل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين جميعا، فقسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء، قريبا من بدر، وغنائم بني المصطلق على مياههم، وغنائم حنين بأوطاس واد من حنين، وقسم فداء أسارى بدر بالمدينة، وهو غنيمة؛ ولأن المسلمين قد ملكوا الغنيمة بالاستيلاء التام في دار الحرب، فجازت قسمتها، كما لو جاوزها إلى دار الإسلام.
فصل:
فإذا أراد القسمة بدأ بالأسلاب، فدفعها إلى أهلها وإن كان فيها مال المسلم، دفع إليه لأنه استحقه بسبب سابق، ثم يدفع منه أجرة الحافظ، والناقل، والقاسم،(4/142)
والحاسب؛ لأنه لمصلحة الغنيمة. وفي الرضخ وجهان:
أحدهما: هو من أصل الغنيمة؛ لأنه يستحقه للمعاونة في تحصيلها، أشبه أجرة النقال.
والثاني: من أربعة الأخماس؛ لأنه استحق بحضور الوقعة، أشبه السهمان. فعلى الأول يعطى الرضخ لأهله، ثم يقسم الباقي على خمسة أسهم، سهم منها لأهل الخمس، ثم يدفع الأنفال مما بقي، ثم يقسم الباقي بين الغانمين، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه، لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم يوم خيبر، للفارس ثلاثة أسهم، سهمان لفرسه، وسهم له» . متفق عليه، وعن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفارس ثلاثة أسهم، وأعطى الراجل سهما» . رواه الأثرم.
فصل:
ويقسم ما بين الغانمين، كقسمة المتاع بين الشركاء، فيقوم ما عدا الأثمان، ويدفعها إليهم بقيمتها، فإن أمكن تخصيص كل إنسان بعين، كجارية وفرس وثوب، فعل، وإن لم يمكن، شرك بين الجماعة في العين الواحدة. ويقسم الغنيمة بين من شهد الوقعة من أهل القتال، من قاتل ومن لم يقاتل، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة. ولأن غير المقاتل ردء له ومعين فيشاركه، كرد المحارب. فأما غير أهل القتال، كالطفل، والمجنون، ومن ينبغي للإمام منعه كالمرجف والمخذل، والمعين للعدو، فلا شيء له وإن قاتل؛ لأن ضره أكثر من نفعه. ومن كان مريضا مرضا يمنعه القتال، فلا سهم له، كالمجنون، وإن لم يمنعه القتال، كالحمى الخفيفة والصداع، والسعال، أسهم له؛ لأنه من أهل القتال.
فصل:
ولا يسهم لفرس ينبغي للإمام منعه كالقحم، والحطم، والضرع، والأعجف لما ذكرنا في الرجل، ولا لغير الخيل من البغال والحمير، والإبل لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسهم لغير الخيل؛ ولأنها لا تلحق بالخيل في التأثير في الحرب والكر والفر، فلم تلحق بها في السهم. وهذا اختيار أبي الخطاب. وروي عن أحمد فيمن غزا على بعير لا يقدر على غيره، قسم له ولبعيره سهمان، لقول الله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ولأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض، أشبه الفرس.(4/143)
فصل:
وفي غير العربي من الخيل أربع روايات:
إحداهن: أنه كالعربي في سهمه، اختارها الخلال؛ ولأن اسم الفرس شامل له؛ ولأنه حيوان ذو سهم، فاستوى العربي وغيره، كالرجال.
والثانية: له سهم واحد، اختارها الخرقي، لما روى أبو الأقمر قال: غارت الخيل على الشام، فأدركت العراب من يومها، وأدركت الكوادن ضحى الغد، وعلى الخيل رجل من همدان يقال له: المنذر بن أبي حميضة فقال: لا أجعل التي أدركت من يومها مثل التي لم تدرك، ففضل الخيل، فقال عمر: هبلت الوداعي أمه، امضوها على ما قال. أخرجه سعيد؛ ولأنهما تختلف غناؤهما فاختلفت سهمانهما، كالفارس والراجل.
الثالثة: ما أدرك منها إدراك العراب، فله سهمها؛ لأنه عمل عملها، وساواها في جنسها، فساواها في سهمها، كما لو اتفق نوعهما.
والرابعة: لا سهم له؛ لأنه لا يعمل عمل العراب أشبه البغال.
فصل:
ومن غزا على فرسين، قسم لهما أربعة أسهم، ولصاحبهما سهم، ولا يسهم لأكثر من فرسين، لما روى الأوزاعي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس» . وعن أزهر بن عبد الله: أن عمر كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح: أن أسهم للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبهما سهما، فذلك خمسة أسهم. وما كان فوق الفرسين، فهو جنائب.
فصل:
ومن غزا على فرس حبيس، فله سهمه؛ لأنه استحق نفعه، فملك سهمه، كالمستعار. ومن غصب فرسا، فقاتل عليه، فسهم الفرس لمالكه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للفرس سهمين، فكانا لمالكها، كما لو كان راكبها. وإن كان الفرس عارية أو بأجرة، فسهمها لراكبها لأنه ملك نفعه. وهذا من نفعه. وعنه: أن سهم المستعار لمالكه؛ لأنه من نمائه، أشبه ولده. وإن قاتل العبد على فرس سيده، قسم للفرس لأنه قوتل عليه في الحرب فاستحق السهم، كما لو قاتل عليه حر، ويكون سهمه لمالكه. ومن دخل أرض الحرب فارسا، وحضر الوقعة غير فارس لموت فرسه، أو بيعه، أو إجارته، أو إعارته أو غصبه أو ضيعته، فله سهم راجل. وإن دخل راجلا، فملك فرسا، أو استأجره فحضر به الوقعة فله سهم فارس؛ لأن الفرس حيوان ذو سهم، فاعتبر وجوده(4/144)
حال القتال فيسهم له مع وجوده، ولا يسهم له مع العدم، كالآدمي.
فصل:
ولا يسهم لامرأة ولا صبي ولا مملوك؛ لأنهم من غير أهل القتال. ويرضخ لهم دون السهم، لما روى ابن عباس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بالنساء فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة. وأما سهم، فلم يضرب لهن» . رواه مسلم. وقال سعيد بن المسيب: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة في صدر هذه الأمة. وقال تميم بن قرع: كنت في الجيش الذي فتح الإسكندرية في المرة الآخرة، فلم يسهم لي عمرو شيئا وقال: غلام لم يحتلم، فسألوا أبا بصرة الغفاري، وعقبة بن عامر، فقالا: انظروا، فإن كان قد أشعر فاقسموا له، فنظر إلي بعض القوم، فإذا أنا قد أنبت، فقسم لي. وقال الجوزجاني: هذا من مشاهير حديث مصر، وجيده. وعن عمير مولى آبي اللحم قال: «شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرني فقلدت سيفا، فإذا أنا أجره، فأخبر أني مملوك، فأمر لي بشيء من خرثي المتاع.» رواه أحمد، وأبو داود والترمذي.
والمكاتب والمدبر، كالقن؛ لأنه عبد، فأما المعتق بعضه، فظاهر كلام أحمد أنه يرضخ له؛ لأنه لم تكمل له الحرية، أشبه القن. وقال أبو بكر: يسهم له بقدر ما فيه من الحرية والرق؛ لأنه يتجزأ، فقسم على قدر ما فيه كالميراث. قال ابن أبي موسى: هذا هو الصحيح. ومن أعتق قبل انقضاء الحرب، أو بلغ، أسهم له؛ لأنه صار من أهل الاستحقاق، فأشبه المدد إذا لحق. والرضخ غير مقدر لكنه يرجع فيه إلى اجتهاد أمير الجيش، فيفضل ذا الغناء على من دونه في النفع؛ لأن الشرع لم يرد بتقديره، فرجع في تقديره إلى الاجتهاد كالتعزير. ولا يبلغ بالرضخ لراجل سهم راجل؛ لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه، كالتعزير عن الحد. والحكومة لا يبلغ بها أرش العضو. ويكون الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة؛ لأنهم من المجاهدين، فكان حقهم من أربعة الأخماس، كذوي السهمان.
فصل:
وإذا غزا الكافر معنا من غير إذن الأمير فلا سهم له؛ لأنهم ممن يستحق المنع من الغزو، فأشبه المخذل. وإن غزا بإذنه ففيه روايتان:(4/145)
إحداهما: لا سهم له؛ لأنه من غير أهل الجهاد، فلم يسهم له، كالعبد. فعلى هذا يرضخ له كالعبد.
والثانية: يسهم له. اختارها الخرقي، لما روى سعيد بإسناده عن الزهري «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعان بناس من اليهود في حربه، فأسهم لهم» . وروي «أن صفوان بن أمية خرج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم حنين وهو على شركه، فأسهم له» ؛ ولأن الكفر نقص دين، فلم يمنع استحقاق السهم كالفسق.
فصل:
ومن استؤجر على الجهاد من غير أهل القتال، كالكافر والعبد، لم يستحق غير الأجرة. وهكذا الأجير للخدمة، والذي يكري دابته. فأما المسلم الحر إذا استؤجر للجهاد، فقال القاضي: لا يصح استئجاره؛ لأن الغزو يتعين بحضوره على من هو من أهله، فلا يصح أن يفعله عن غيره، كالحج. فعلى هذا: يرد الأجرة وله سهمه؛ لأن غزوه بغير أجرة. وظاهر كلام أحمد والخرقي صحة الإجارة لمن لم يتعين عليه الجهاد؛ لأنه مما لا يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، فجاز استئجار الحر المسلم عليه، كبناء المساجد؛ ولأن ما صحت إجارة العبد والكافر عليه، صح إجارة الحر المسلم عليه، كالبناء. فعلى هذا إذا حضر القتال، فظاهر نص أحمد والخرقي أنه لا يسهم له، لما روى «يعلى بن منية أنه استأجر أجيرا يكفيه من الغزو، قال: فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمة، أردت أن أجري له سهمه، فذكرت الدنانير، فجئت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أمره، فقال: ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى» رواه أبو داود؛ ولأن غزوه بعوض، فكأنه واقع من غيره، فلم يثبت له حكمه وفائدته، كما له حج عن غيره. واستحقاق الغنيمة من أحكامه وفوائده، وروي عن أحمد أنه يسهم له. قال الخلال: وهو الذي أعتمد عليه من قول أبي عبد الله، لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: «للغازي أجره، وللجاعل أجره وأجر الغازي» . رواه أبو داود. وعن جبير بن نفير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الذين يغزون عن أمتي، ويأخذون الجعل، ويتقوون به على عدوهم مثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» . رواه سعيد؛ ولأنه حاضر للوقعة من أهل القتال، فأشبه أهل الديوان.
فأما التاجر والصانع وأشباههما، فيسهم لهم إذا حضروا القتال، نص عليه أحمد،(4/146)
لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن حضر الوقعة. قال القاضي: هذا إذا كان قصدهم الجهاد، ويقاتلون إذا احتيج إليهم وأمكنهم، وكذلك من يكري دابته. ومن لم يكن كذلك، لم يسهم له؛ لأنه لا نفع في حضوره، أشبه المخذل.
فصل:
وإذا لحق الجيش مدد، أو أسير أفلت، أو فودي به قبل انقضاء الحرب، أسهم لهم، وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لهم، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة. ولما روى أبو هريرة «أن أبان بن سعيد وأصحابه قدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر بعد أن فتحها، فقال: اقسم لنا يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجلس يا أبان ولم يقسم له» . رواه أبو داود؛ ولأنهم إذا قدموا قبل انقضاء الحرب، فقد شاركوا الغانمين في السبب، فشاركوهم في الاستحقاق، كما لو قدموا قبل الحرب. وإذا قدموا بعد ذلك، فلا شيء لهم؛ لأنهم لم يشاركوهم في السبب ولأنهم حضروا بعد أن صارت الغنيمة للغانمين، فأشبه ما لو حضروا بعد القسمة. وإن حضروا بعد تقضي الحرب، وقبل إحراز الغنيمة، فظاهر كلام الخرقي أنهم يشاركونهم؛ لأن الغنيمة تملك بحيازتها، والاستيلاء عليها، ولا يتم إلا بحيازتها، وظاهر قول القاضي: أنهم لا يشاركونهم؛ لأنه ذكر أن الغنيمة تملك بتقضي الحرب قبل الحيازة؛ لأنها صارت مقدورا عليها بإزالة يد الكفار عنها، فأشبه ما بعد الحيازة، وإن حازها الغانمون، ثم جاءهم الكفار يقاتلونهم عليها فأدركهم المدد، فقاتلوا معهم حتى سلموا الغنيمة، فنص أحمد: أنه لا شيء للمدد؛ لأن الأولين ملكوها، والمدد يقاتلون عن الغانمين بعد ملكهم للغنيمة، فأشبهت سائر أموالهم، وإن استنقذها الكفار من أيديهم، ثم جاءهم المدد، فقاتلوا معهم حتى استنقذوها، فقال أحمد: أعجب إلي أن يصطلحوا.
فصل:
وإذا غزا الأمير بجيش، فأسرى سرية، أو سرايا إلى جهة مقصده، أو غيره، فغنمت، شاركهم الجيش وإن غنم الجيش، شارك سراياه؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين هزم هوازن بحنين، أسرى قبل أوطاس سرية، فغنمت، فقسم غنائمهم بين الجميع. وفي تنفيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السرية الثلث والربع، دليل على مقاسمة الجيش لها الباقي؛ ولأن الجميع جيش واحد، فلم يختص بعضهم بغنيمة، كأحد جانبي الجيش، وإن بعث السرايا، وأقام الجيش في بلد الإسلام، فلكل سرية غنيمتها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث السرايا من المدينة، فلم يشاركهم أهل المدينة في غنائمهم. وإن خلف الأمير قوما في بلد(4/147)
العدو لضعف، أو غيره، وغزا فغنم، فأقاموا في بلد العدو حتى رجع، شاركوهم. نص عليه. سواء رجع عليهم، أو من غير طريقهم؛ لأنهم كالسرية، وإن رجعوا إلى حصون المسلمين، أو بلادهم، فلا سهم لهم؛ لأنهم برجوعهم صاروا كالمقيمين بدار الإسلام.
فصل:
ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش، كالبريد، والطليعة، والجاسوس، فلم يحضر الغنيمة أسهم له؛ لأنه في مصلحة الجيش، أشبه السرية؛ ولأنه إذا أسهم للمتخلف عن الجيش، فلهؤلاء أولى. وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من بدر ولم يحضرها، لاشتغاله بتمريض رقية ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في سهمه؛ لأنه ثبت ملكه فيه، فقام وارثه مقامه، كما بعد القسمة. وإن أسر، فله سهمه كذلك. وإن أسر، أو مات قبل تقضي الحرب، فلا شيء له لأنه لم يملك شيئا.
فصل:
وإذا قال الإمام: من أخذ شيئا، فهو له، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم بدر: «ومن أخذ شيئا فهو له» ولأنهم غزوا على هذا ورضوا به.
والثانية: لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقسم الغنائم، والخلفاء بعده؛ ولأن ذلك يفضي إلى اشتغالهم بالنهب عن القتال، فيفضي إلى ظفر العدو بهم، وقصة بدر منسوخة بقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] .
فصل:
فأما تفضيل بعض الغانمين على بعض، فإن كان على سبيل التنفيل لبعضهم، فقد ذكرناه. وإن كان على غير ذلك، لم يجز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سوى بينهم؛ ولأنهم اشتركوا في الغنيمة على سبيل التسوية، فيجب التسوية بينهم، كسائر الشركاء.
فصل:
ومن غل من الغنيمة وهو أن يكتم ما غنمه، أو شيئا منه، وجب إحراق رحله،(4/148)
إلا السلاح والمصحف، وما فيه روح، لما روى صالح بن محمد بن زائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه، فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل، فأحرقوا متاعه واضربوه» قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسألنا سالما عنه، فقال: بعه وتصدق بثمنه.
ولا يحرق المصحف والحيوان لحرمته، ولا ثيابه؛ لأنه يبقى عريانا، ولا ما غله لأنه للمسلمين. وإن مات قبل إحراق متاعه، لم يحرق؛ لأنه عقوبة فسقط بموته، كالحد؛ ولأن ماله ينتقل إلى وارثه فيصير إحراقه عقوبة لغير الجاني، ولا يحرم الغال سهمه؛ لأن سبب استحقاقه متحقق.
فصل:
وإذا كان في السبي، من يعتق على بعض الغانمين بالملك، أو عتق عبدا من الغنيمة عتق عليه كله، وعليه قيمته، يرد في المقسم إن كان موسرا؛ لأنه ملك جزءا منه بفعله، فعتق عليه جميعه، كما لو اشترى جزءا منه. وإن كان معسرا، لم يعتق عليه، إلا ما ملك منه كذلك. ومن وطئ جارية من المغنم، ممن له فيها حق أو لولده، فلا حد عليه للشبهة ويعزر، وعليه مهرها؛ لأنه وطء سقط فيه الحد عن الواطئ للشبهة، فوجب به المهر، كالوطء في نكاح فاسد، وإن أحبلها، ثبت نسب الولد، وينعقد حرا للشبهة، وتصير أم ولد له، وعليه قيمتها ترد في المغنم. وهل يلزمه قيمة الولد؟ فيه روايتان:
إحداهما: تلزمه لأنه فوت رقه.
والثانية: لا يجب؛ لأنه ينعقد حرا، فلم يدخل في ملك الغانمين.
فصل:
ويجوز للأمير البيع من الغنيمة قبل القسمة للغانمين، ولغيرهم إذا رأى المصلحة فيه؛ لأن الولاية ثابتة له عليها، وقد تدعو الحاجة إلى ذلك لإزالة كلفة نقلها، أو لتعذر قسمتها بعينها، ويجوز لكل واحد من الغانمين، بيع ما يحصل له بعد القسم، والتصرف فيه كيف شاء؛ لأن ملكه ثابت فيه. فإن باع الأمير، أو بعض الغانمين في دار الحرب شيئا، فغلب عليه العدو قبل إخراجه إلى دار الإسلام، ففيه روايتان:(4/149)
إحداهما: هو من ضمان المشتري. اختارها الخلال وصاحبه؛ لأنه مال مقبوض أبيح لمشتريه التصرف فيه، فكان من ضمانه، كما لو اشتراه في دار الإسلام.
والثانية: ينفسخ البيع، ويسقط الثمن عن المشتري، أو يرد إليه إن كان أخذ منه. اختارها الخرقي؛ لأنه لم يكمل قبضه، لكونه في دار الحرب، في خطر قهر العدو، فلم يضمنه المشتري كالثمر في الشجر. هذا إذا أخذ بغير تفريط من المشتري، فإن أخذ منه لخروجه من العسكر، فهو من ضمانه؛ لأنه ذهب بتفريطه، أشبه ما لو أتلفه.
فصل:
قال أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : ولا يجوز لأمير الجيش، أن يشتري من مغنم المسلمين شيئا؛ لأنه يحابي؛ ولأن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] رد ما اشتراه ابنه، في غزوة جلولاء، فأما إن وكل من يشتري له، ممن لا يعرف أنه وكيله، صح الشراء، لعدم المحاباة. ورخص أبو عبد الله، فيما إذا قوم أصحاب المقاسم، فقالوا: جلود الماعز بكذا، والخرفان بكذا، فاحتاج أحد الغانمين إلى أخذ شيء منه بتلك القيمة أن يأخذه، ولا يأتي المقاسم، لأجل المشقة في استئذانهم في جميع ذلك.
فصل:
وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين، أو أهل الذمة، ثم ظهر عليه المسلمون، فأدركه صاحبه قبل قسمه، وجب رده إليه، لما روى ابن عمر أنه ذهب فرس له، فأخذه العدو، فظهر عليه المسلمون فرد عليه في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعنه: «أن غلاما له أبق إلى أرض العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ابن عمر، ولم يقسم» . رواهما أبو داود.
فإن لم يرده إليه الإمام، وقسمه مع العلم، لم تصح قسمته؛ لأنه قسم مال مسلم، يجب رده إليه فأشبه المغصوب، ولصاحبه أخذه بغير شيء. فأما إن أدركه صاحبه بعد القسم ففيه روايتان:
إحداهما: لا حق له فيه، لما روي أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما أحرز المشركون من المسلمين، ثم ظهر المسلمون عليهم بعد، قال: من وجد عين ماله بعينه، فهو أحق به ما لم يقسم. وقال سلمان بن ربيعة: إذا قسم، فلا حق له فيه. رواهما سعيد. وروى أصحابنا عن ابن عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ماله قبل أن يقسم، فهو له. وإن أدركه بعد أن قسم فليس له فيه شيء» .(4/150)
والثانية: هو أحق به بالثمن الذي حسب به على آخذه، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن رجلا وجد بعيرا له، كان المشركون أصابوه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أصبته قبل القسمة، فهو لك، وإن أصبته بعدما قسم، أخذته بالقيمة» ؛ ولأن امتناع أخذه خشية ضياع حق آخذه من الغنيمة أو تضييع الثمن على المشتري، وهذا ينجبر بأداء الثمن، فوجب أن يأخذه بالثمن، كالشقص المشفوع. وإن أخذ أحد الرعية مال المسلم من الكفار بغير عوض، كالهبة، والسرقة، فصاحبه أحق به، لما روي: «أن قوما أغاروا على سرح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذوا ناقته، وجارية من الأنصار، فأقامت عندهم أياما، ثم خرجت في بعض الليل، قالت: فما وضعت يدي على ناقة، إلا رغت، حتى وضعتها على ناقة ذلول، فامتطيتها، ثم توجهت إلى المدينة ونذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها، فلما قدمت المدينة استعرفت الناقة، فإذا هي ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذها، فقلت: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحرها، فقال: بئس ما جازيتها، لا نذر في معصية» وفي لفظ: «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم» ؛ ولأنه حصل في يده بغير عوض ولا قسمة، أشبه ما لو أدركه في الغنيمة، قبل القسمة. وإن أخذه من الكفار بثمن فحكمه حكم المقسوم. هل يكون صاحبه أحق به بالثمن، أو لا يستحقه؟ يحتمل وجهين؛ لما روى الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب، فأصابوا سبايا العرب، فكتب السائب بن الأقرع، إلى عمر في سبايا المسلمين ورقيقهم قد اشتراه التجار من أهل ماه، فكتب عمر فيمن أصاب رقيقه، ومتاعه في أيدي التجار بعدما اقتسم، فلا سبيل إليه، وأيما حر اشتراه التجار، فإنه ترد إليهم رءوس أموالهم. فإن الحر لا يباع، ولا يشترى. رواه سعيد.
فصل:
وإن استولى حربي على مال مسلم، ثم أسلم، أو دخل إلينا بأمان، فهو له. نص عليه أحمد. وإن كان قد أتلفه أو باعه فلا شيء عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم على شيء فهو له» ، وإن كان أخذه من المستولي عليه بسرقة، أو هبة، أو شراء، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه قد حصل منه الاستيلاء، والأخرى صاحبه أحق به بالقيمة؛ لأنه كالمقسوم. فإن استولى على جارية، فاستولدها، فهي أم ولد له. فإن غنمها المسلمون فأدركها صاحبها، أخذها، وكان أولادها غنيمة؛ لأنهم أولاد كافر حدثوا بعد ملك الكافر لها.(4/151)
فصل:
وإن استولى الكفار على حر من المسلمين، أو أهل الذمة، لم يملكوه. وإن اشتراه رجل منهم فعلى الأسير أداء ما اشتراه به، لما ذكرنا من خبر عمر. وإن استولوا على عبد، فحكمه حكم الأموال، قنا كان أو مدبرا، أو مكاتبا أو مدبرا؛ لأنه يضمن بالقيمة. وهل يكون سيده أحق به بالثمن بعد القسمة؟ على الروايتين. وإن استولوا على أم ولد، فأدركها صاحبها بعد القسمة، أو في يد مشتريها من الكفار، فهو أحق بها بالقيمة بكل حال؛ لأنه قد حصل فيها سبب للحرية لازم، فأثر ذلك في منع إقرار اليد عليها. فإن لم يحب سيد المكاتب أخذه. فهو في يد مشتريه، أو من أعطيه من الغانمين فبقي على ما بقي عليه من كتابته، يعتق بالأداء. وولاؤه لمن يؤدي إليه.
فصل:
وإن غنم المسلمون من الكفار شيئا عليه علامة المسلمين، ولم يعرف صاحبه، فهو غنيمة، تجوز قسمته؛ لأنه قد وجد سبب الملك وهو الاستيلاء، ولم يتحقق ما يمنعه. فإن كان فيها شيء موسوم عليه، حبيس، رد إلى أهله؛ لأنه قد عرف مصرفه، وإن كان فيها عبد فقال: أنا لفلان، قبل منه ورد إلى صاحبه، وإن أصابوا مركبا، كان للمسلمين، وفيه النواتية، فقالوا: هذا لفلان، وهذا لفلان، لم يقسم. نص أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على هذا كله.
فصل:
وإذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب بغير إذن الإمام، فغنموا، ففي غنيمتهم ثلاث روايات:
إحداهن: فيها الخمس وسائرها لهم؛ لعموم قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] .
والثانية: هي لهم من غير خمس؛ لأنه اكتساب مباح من غير جهاد، فأشبه الاحتطاب.
والثالثة: هي فيء لا شيء لهم فيها؛ لأنهم عصاة بفعلهم، فلم يملكوه، كالسرقة من المسلمين. وإن كانت الطائفة ذات منعة فكذلك، لما ذكرنا من التعليل، وقيل: لا يكون لهم بغير خمس، رواية واحدة لأنها غنيمة، فلا يستحقونها بغير خمس للآية، وكسائر الغنائم.(4/152)
فصل:
ومن أجر نفسه على حفظ الغنيمة أو سوق دوابها، أو رعيها أو حملها، فله أجرته؛ لأنه فعل بالمسلمين إليه حاجة لم يتعين عليه فعله، فأبيح له إجارة نفسه فيه، كالدلالة على الطريق. وليس له ركوب دابة من المغنم، ولا حبيس؛ لأنه يستعمل دابة المسلمين فيما يختص نفعه به، فلم يجز، كما لو أجر نفسه لأجنبي. فإن فعل فعليه أجرة مثل الدابة، يرد في المغنم إن كانت من الغنيمة، أو تصرف في نفقة دابة الحبيس، إن كانت حبيسا. وإن شرط له في الإجارة ركوب دابة من المغنم، جاز؛ لأن ركوبها من الأجرة، فجازت من المغنم، كما لو أجر نفسه بدابة من المغنم.
فصل:
وما أهداه أهل الحرب لأمير الجيش، أو غيره من أهل الجيش في دار الحرب، فهو غنيمة؛ لأنه يغلب على الظن أنه بذله خوفا من المسلمين. وإن كانت الهدية من دار الحرب إلى دار الإسلام، فهي لمن أهدي إليه؛ لأنه تبرع له بذلك من غير خوف، فأشبه هدية المسلمين.
فصل:
وإن عدم الإمام لم يؤخر الجهاد، وإن حصلت غنائم، قسمها أهلها بينهم على موجب الشرع؛ لأنها مال لهم مشترك، فجاز لهم قسمته كسائر الأموال. فإن كان فيها إماء، أخروا قسمتهن حتى يظهر إمام؛ لأن في قسمتهن إباحة الفروج، فاحتيط في بابها.
[باب قسمة الخمس]
يقسم الخمس على خمسة أسهم: سهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، لقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] . فسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصرف في مصالح المسلمين، لما روى جبير بن مطعم «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناول بيده وبرة من بعير ثم قال: والذي نفسي بيده ما لي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» فجعله لجميع المسلمين. ولا يمكن صرفه إلى جميعهم إلا بصرفه في مصالحهم، من سد الثغور، وكفاية أهلها، وشراء(4/153)
الكراع والسلاح، ثم الأهم فالأهم، على ما سنذكره في الفيء. وعنه: أن سهم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختص بأهل الديوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استحقه لحصول النصرة، فيكون لمن يقوم مقامه في النصرة. وعنه: أنه يصرف في الكراع والسلاح.
فصل:
وسهم ذي القربى لبني هاشم وبني المطلب ابني عبد مناف، لما روى جبير بن مطعم، قال: «لما كان يوم خيبر، وضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، جئت أنا وعثمان، فقلنا: يا رسول الله، إن إخواننا بني هاشم لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا؟ وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة، فقال: إنهم لم يفارقوني في جاهلية وإسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد ثم شبك بين أصابعه» . رواه أبو داود.
ويجب تعميمهم به حيث كانوا، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ولأنه حق يستحق بالقرابة، فوجب تعميمهم به كالميراث. ويعطى الغني والفقير والذكر والأنثى كذلك؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى منه العباس وهو غني، وأعطى صفية عمته. ويقسم للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه يستحق بقرابة الأب بالشرع، أشبه الميراث، ويحتمل أن يسوى بينهما، كالمستحق بالوصية للقرابة.
فصل:
وأما سهم اليتامى، فهو لصغير لا أب له، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد احتلام» . ويعتبر أن يكون فقيرا؛ لأن غناه بالمال أكثر من غناه بالأب، وسهم المساكين للفقراء، أو المساكين الذين يستحقون من الزكاة؛ لأنه متى أفرد لفظ المساكين أو الفقراء، تناول الصنفين، بدليل مصرف الكفارات، والوصايا والنذور. وسهم ابن السبيل للصنف المذكور في أصناف الزكاة.
فصل:
ولا حق في الخمس لكافر؛ لأنه عطية من الله، فلم يكن لكافر فيه حق كالزكاة، ولا للعبد؛ لأن ما يعطاه لسيده، فكانت العطية لسيده دونه.(4/154)
[باب قسمة الفيء]
باب قسم الفيء
فصل:
وهو: كل مال أخذ من المشركين بغير قتال كالجزية، والخراج، والعشور المأخوذة من تجارهم، وما تركوه فزعا وهربوا، أو بذلوه لنا في الهدنة، ونحو ذلك، فذكر الخرقي: أنه يخمس، فيصرف خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة، لقول الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] وهؤلاء أهل الخمس، وهذا إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وظاهر المذهب أنه لا يخمس، لقول الله تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ... الآيات. فجعله كله لجميع المسلمين. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما قرأها: هذه استوعبت المسلمين، ولئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. وعلى كلتا الروايتين يبدأ فيه بالأهم فالأهم. وأهم المصالح كفاية أجناد المسلمين بأرزاقهم، وسد الثغور بمن فيه كفاية. وكفايتهم بأرزاقهم، وبناء ما يحتاج إلى بنائه منها، وحفره الخنادق، وشراء ما يحتاج إليه من الكراع والسلاح، ثم الأهم فالأهم من عمارة القناطر والطرق والمساجد، وكري الأنهار، وسد البثوق، وأرزاق القضاة، والأئمة، والمؤذنين، ومن يحتاج إليه المسلمون، وكل ما يعود نفعه إلى المسلمين، ثم ما فضل قسمه على المسلمين، لما ذكرنا من الآية، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذكر القاضي: أن الفيء لأهل الجهاد خاصة دون غيرهم من الأعراب، ومن لا يعد نفسه للجهاد؛ لأنه ذلك كان للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحصول النصرة به، فلما مات أعطي لمن يقوم مقامه في ذلك، وهم المقاتلة دون غيرهم.
فصل:
ويفرض للمقاتلة من المسلمين قدر كفايتهم؛ لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد فيجب أن يكفوا المؤنة، ويتعاهد عدد عيالهم لأنهم قد يزيدون وينقصون، ويتعرف أسعار ما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة؛ لأنه قد يغلو ويرخص، لتكون أعطيتهم على قدر كفايتهم، ولا يفرض في المقاتلة لصبي ولا مجنون، ولا عبد ولا امرأة، ولا ضعيف عاجز عن الجهاد، ولا لمريض لا يرجى برؤه؛ لأنهم من غير أهل الجهاد. ويفرض للمريض المرجو برؤه؛ لأن أحدا لا يخلو من عارض. وإن مات مجاهد وله(4/155)
عائلة، أجري عليهم قدر كفايتهم؛ لأن فيه تطييب قلوب المجاهدين، فمتى علموا أن عيالهم يكفون المؤنة بعد موتهم، توفروا على الجهاد. وإن علموا خلاف ذلك، توفروا على الكسب، وآثروه على الجهاد. فإذا بلغ الذكور منهم، فاختاروا أن يكونوا من المقاتلة، فرض لهم. وإن لم يختاروا، تركوا. ومتى تزوجت المرأة، سقط حقها؛ لأنها خرجت من عيال الميت. ومن مات بعد حلول وقت العطاء، دفع إلى ورثته حقه؛ لأنه مات بعد الاستحقاق، فانتقل حقه إلى وارثه، كسائر الموروثات.
فصل:
وينبغي للإمام أن يضع ديوانا يكتب فيه أسماء المقاتلة، وقدر أرزاقهم لما روي عن أبي هريرة قال: قدمت على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانمائة ألف درهم، فلما أصبح، أرسل إلى نفر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لهم: قد جاء للناس مال لم يأتيهم مثله منذ كان الإسلام، أشيروا علي بمن أبدأ؟ قالوا: بك يا أمير المؤمنين، إنك ولي ذلك. قال: لا، ولكن ابدءوا بأهل بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، الأقرب فالأقرب، فوضع الديوان على ذلك، ويجعل لكل طائفة عريفا يقوم بأمرهم ويجمعهم وقت العطاء، ووقت الغزو؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا، ويجعل العطاء في كل عام مرة أو مرتين. ولا يجعل في أقل من ذلك، لئلا يشغلهم عن الغزو، ويبدأ ببني هاشم؛ لأنهم أقارب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ذكرنا من خبر عمر، ثم ببني المطلب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه. ثم ببني عبد شمس؛ لأنه أخو هاشم لأبيه وأمه. قال آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: عبد شمس كان يتلو هاشما، وهما بعد لأم وأب، ثم ببني نوفل؛ لأنه أخو هاشم لأبيه، ثم يعطى بنو عبد العزى، وعبد الدار ويقدم عبد العزى؛ لأن فيهم أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن خديجة منهم، فعلى هذا: يعطى الأقرب فالأقرب، حتى تنقضي قريش، وهم بنو النضر بن كنانة، ثم يقدم الأنصار على سائر العرب لسابقتهم وآثارهم الجميلة، ثم سائر العرب، ثم العجم، وإن استوى اثنان في الدرجة، قدم أسنهما، ثم أقدمهما هجرة وسابقة.
فصل:
واختلفت الرواية عن أحمد في جواز تفضيل بعضهم على بعض، فروي عنه: أنه يسوى بينهم في العطاء، ولا يجوز التفضيل؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سوى بينهم فيه، وقال: فضائلهم عند ربهم؛ ولأن الغنائم تقسم بين من حضر الوقعة على السواء، فكذلك الفيء. وعنه: أن للإمام تفضيل قوم على قوم؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قسم بينهم على السوابق، وقال: لا أجعل من قاتل على الإسلام كمن قوتل عليه ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم النفل بين أهله متفاضلا، وهذا في معناه.(4/156)
فصل:
ومن ضل من أهل الحرب الطريق، فوقع في دار الإسلام، أو حملته الريح في المركب إلينا، أو شرد من دوابهم فحصل في أيدينا، ذكر أبو الخطاب، فيه روايتين:
إحداهما: يكون فيئا؛ لأنه مال مشرك ظهر عليه بغير قتال، أشبه ما تركوه فزعا وهربوا.
والثانية: هو لمن أخذه؛ لأنه مباح ظهر عليه بغير جهاد، فكان لآخذه كمباحات دار الإسلام. وقد روي عن أحمد فيمن ضل الطريق منهم، فدخل إلى قرية، قال: هو لأهل القرية كلهم، وقال في عبد أبق إلى أرض الروم، ثم رجع ومعه متاع: فالعبد لمولاه، وما معه من المتاع والمال فهو للمسلمين. قال القاضي: هذا على الرواية التي تجعل غنيمة الذين دخلوا أرض الحرب بغير إذن الإمام فيئا، فأما على الرواية الأخرى، فيكون المال لسيده؛ لأنه كسب عبده، وفي تخميسه روايتان. ولو أسر الكفار رجلا، فغنم منهم شيئا، وخرج به إلى دار الإسلام، كان له؛ لأنه كسبه، ويحتمل أن يجب فيه الخمس؛ لأنه غنيمة. وقد روى الأوزاعي أنه لما أقفل عمر بن عبد العزيز الجيش الذين كانوا مع مسلمة، كسر مركب بعضهم، فأخذ المشركون ناسا من القبط، فكانوا خدما لهم ثم خرجوا إلى عبد لهم، وخلف القبط في مركبهم، ورفع القبط القلع، وفي المركب متاع الآخرين وسلاحهم، فلم يضعوا قلعهم حتى أتوا بيروت، فكتب في ذلك إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب إليهم عمر: نفلوهم القلع وكل شيء جاءوا به، إلا الخمس. رواه سعيد. ويحتمل أن يكون فيئا، استدلالا بقول عمر: نفلوهم الذي جاءوا به، ولو كان لهم، لم يكن نفلا.
[باب حكم الأرضين المغنومة]
الأرض التي بأيدي المسلمين تنقسم قسمين:
أحدهما: ما هو مملوك لأهله، لا خراج عليه، وهو ما أسلم عليه أهله، كأرض مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو غنمه المسلمون فقسم بينهم، كأرض خيبر التي قسمها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أصحابه الذين افتتحوها، أو ما صالح أهله على أن الأرض لهم، كأرض اليمن، والحيرة وبانقيا، وأليس من العراق، أو ما أحياه المسلمون من موات الأرض، كأرض البصرة، كانت سبخة، فأحياها عتبة بن غزوان، وعثمان بن أبي العاص، فهذا ملك لأهله، لهم التصرف فيه، بالبيع وسائر التصرفات؛ لأنه مملوك لهم، أشبه الثياب والسلاح.(4/157)
القسم الثاني: ما وقفه الأئمة على المسلمين ولم يقسموه، كأرض الشام كلها، ما خلا مدنها، والعراق كله إلا ما ذكرنا منه، والجزيرة ومصر، والمغرب وسائر ما افتتح عنوة، فهذا وقفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن بعده من الأئمة، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد من أصحابه - أنه قسم أرضا عنوة غير خيبر. وروى أبو عبيد بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قدم الجابية، فأراد قسمة الأرض بين المسلمين، فقال له معاذ: والله إذا ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها اليوم، صار الريع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل الواحد، والمرأة الواحدة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدا، وهم لا يجدون شيئا، فانظروا أمرا يسع أولهم وآخرهم، فصار عمر إلى قول معاذ.
ولما افتتح عمرو بن العاص مصر، طلب منه الزبير قسمتها، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر: أن دعها حتى يغزو منها حبل الحبلة. وروي عن بكير بن عامر، قال: اشترى عتبة بن فرقد أرضا من أرض الخراج، فأتى عمر فأخبره، فقال عمر: ممن اشتريتها؟ قال: من أهلها، قال: فهؤلاء أهلها، للمسلمين، أبعتموه شيئا؟ قالوا: لا، قال: فاذهب فاطلب مالك.
وعن عبد الله بن المغفل أنه قال: لا تشتر من أرض السواد، إلا من أهل الحيرة، وبانقيا، وأليس. روى هذا كله أبو عبيد. وقد اشتهرت قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ضرب الخراج على أرض السواد، وإقراره في يد أهله بالخراج الذي ضربه، وجعل ذلك أجرة له، ولم يقدر مدته، لعموم المصلحة فيه، فهذا لا يجوز بيعه، ولا شراؤه، لخبر عتبة بن فرقد؛ ولأنه موقوف للمسلمين كلهم، فلم يجز بيعه، كسائر الوقوف. فأما إجارته فجائزة؛ لأنه مستأجر في أيدي أربابه بالخراج. وإجارة المستأجر جائزة. وذكر القاضي في إجارته روايتين، والصحيح ما ذكرناه. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أنه كره بيعها، وأجاز شراءها؛ لأنه استنقاذ لها، فجاز، كشراء الأسير. ومن كانت في يده أرض، فهو أحق بها بالخراج، كالمستأجر. وتنتقل إلى وارثه بعده، على وجه الذي كانت في يد موروثه. وإن آثر بها أحدا، صار الثاني أحق بها. وإن عجز رب الأرض عن عمارتها، وأداء خراجها، أجبر على رفع يده عنها، ودفعت إلى غيره؛ لأن الأرض للمسلمين، فلا يجوز تعطيلها عليهم.
فصل:
ويجب الخراج في العامر الذي يمكن زرعه، والانتفاع به، فأما الموات الذي لا يمكن زرعه، فلا خراج فيه؛ لأن الخراج أجرة الأرض، ولا أجرة لهذا. وعنه: يجب فيه الخراج إذا كان على صفة يمكن إحياؤه، ليحييه من هو في يده، أو يرفع يده عنه فيحييه غيره، وينتفع به. وما كان من الأرض لا يمكن زرعها حتى تراح عاما، وتزرع(4/158)
عاما، فخراجها على النصف من خراج غيرها؛ لأن نفعها على النصف، وحكم الخراج حكم الدين يطالب به الموسر، وينظر به المعسر؛ لأنه أجرة، فأشبه أجرة المساكن. وإن رأى الإمام المصلحة في ترك خراج إنسان له، أو تخفيفه، جاز له؛ لأنه فيء، فكان النظر فيه إلى الإمام. ويجوز لصاحب الأرض أن يرشو العامل، ليدفع عنه الظلم في خراجه؛ لأنه يتوصل بماله إلى كف اليد العادية عنه. ولا يجوز له ذلك، ليدع له من خراجه شيئا؛ لأنه رشوة، لإبطال حق، فحرمت على الآخذ والمعطي، كرشوة الحاكم، ليحكم له بغير الحق.
فصل:
ولا يسقط خراج هذه الأرض بإسلام أهلها، أو انتقالها إلى مسلم؛ لأنه أجرة، فأشبه أجرة المساكن. قال أحمد: ما كان من أرض عنوة، ثم أسلم صاحبها، وضعت عنه الجزية وأقر على أرض الخراج. وقال أيضا: أرض أهل الذمة فيها الخراج، فإن اشتراها المسلم، ففيها الخراج؛ لأنه حق على الأرض. قال: ويكره للمسلم أن يشتري من أرض الخراج والمزارع؛ لأن في الخراج معنى الذلة، وبهذا وردت الأخبار عن عمر وغيره. ومعنى الشراء هاهنا: أن يتقبل الأرض بما عليها من خراجها؛ لأن شراء هذه الأرض غير جائز، أو يكون على الرواية التي أجاز شراءها، لكونه استنقاذا لها، فهو كاستنقاذ الأسير.
فصل:
ويعتبر الخراج بما تحمله الأرض من القليل والكثير، والمرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، في إحدى الروايات، وهي اختيار الخلال وعامة شيوخنا؛ لأنها أجرة، فلم تتقدر بمقدار ما لا يختلف، كأجرة المساكن.
والثانية: يرجع فيه إلى ما فرض عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لا تجوز الزيادة عليه، ولا النقصان منه؛ لأن اجتهاد عمر أولى من قول غيره.
والثالثة: تجوز الزيادة عليه، ولا يجوز النقصان، لما روى عمرو بن ميمون: أنه سمع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول لحذيفة، وعثمان بن حنيف: لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق، فقال عثمان: والله لئن زدت عليهم، لا تشق عليهم ولا تجهدهم. فدل على إباحة الزيادة ما لم يجهدهم.
واختلف عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قدر الخراج، إلا أنه روي عن عمرو بن ميمون: أنه وضع على كل جريب، من أرض السواد قفيزا ودرهما. قال أحمد: أعلى وأصح حديث في أرض السواد، حديث عمرو بن ميمون في الدرهم والقفيز. وهذا يدل على أنه أخذ به.(4/159)
فصل:
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قدر القفيز، صاع قدره ثمانية أرطال. قال القاضي: عندي أن ثمانية أرطال بالمكي، فيكون ستة عشر رطلا بالعراقي. وقال أبو بكر: قد قيل: إن قدره ثلاثون رطلا، وينبغي أن يكون من جنس ما تخرجه الأرض؛ لأنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه ضرب على الطعام درهما، وقفيز حنطة، وعلى الشعير درهما وقفيز شعير.
فصل:
والجريب: عشر قصبات في عشر قصبات. والقصبة: ستة أذرع بذراع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو ذراع وسط، لا أطول ذراع ولا أقصرها، وقبضة وإبهام قائمة، وما بين الشجر من بياض الأرض تبع لها. ومن ظلم في خراجه، لم يحتسبه من العشر؛ لأنه ظلم، فلم يحتسبه من العشر، كالغصب. وعنه: يحتسبه من العشر؛ لأن الآخذ لهما واحد، وهذا اختيار أبي بكر.
فصل:
وما فتح عنوة، فالإمام مخير بين قسمته بين الغانمين، فيصير ملكا لهم، لا خراج عليه، وبين وقفها على المسلمين، وضرب الخراج عليها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين في خيبر، فقسم نصفها، ووقف نصفها، وعمر وقف كل شيء فتحه ولم يقسمه، فدل على جواز الأمرين، وليس له إلا فعل ما يرى المصلحة فيه، فما فعل من ذلك، لزم. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هم على ما يفعل الفاتح، إذا كان من أئمة الهدى. وعنه: أن الأرض تصير وقفا بنفس الظهور عليها؛ لأن الأئمة بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقسموا أرضا افتتحوها؛ ولأن في قسمتها المحذور الذي ذكره معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وإنما قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصف خيبر في بدء الإسلام، لضعفهم وحاجتهم. وذكر أبو الخطاب رواية ثالثة: أنها تقسم بين الغانمين من غير تخيير، لعموم قوله سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ؛ لأن فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولى من فعل غيره، والأول أولى؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومن بعده، لم يقسموا الأرض، وتابعهم علماء الصحابة عليه، فحصل إجماعا. وما وقفه الإمام، فهو مخير بين إقرار أهله فيه بالخراج وبين إجلائهم، وجلب غيرهم؛ لأن الأرض قد ملكت عليهم. فأما ما جلا عنها أهلها خوفا من المسلمين، فتصير وقفا بنفس الظهور عليها؛ لأنها ليست غنيمة، فتقسم. وعنه: لا(4/160)
تصير وقفا حتى يقفها الإمام؛ لأن الوقف لا يثبت بنفسه. وحكمها حكم العنوة إذا وقفت، وكذلك الحكم فيما صالحونا عليه، على أن الأرض للمسلمين، وتقر في أيديهم بالخراج. فأما إن صالحناهم على أن الأرض لهم، ولنا عليها الخراج، فهذه ملك لأربابها، متى أسلموا، سقط عنهم؛ لأنه بمنزلة الجزية، فيسقط بالإسلام، كالجزية. ولهم بيعها والتصرف فيها. وإن انتقلت إلى مسلم، لم يؤخذ خراجها، لما ذكرناه.
[باب الأمان]
يحوز عقد الأمان لجميع الكفار وآحادهم، لقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] . وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل.» رواه البخاري.
وتصح من كل مسلم بالغ عاقل مختار، ذكرا كان أو أنثى، حرا أو عبدا للخبر، وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين، فيجوز. وعن فضيل بن يزيد الرقاشي قال: جهز عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جيشا فكنت فيه، فحضرنا موضعا، فرأينا أنا سنفتحها اليوم، وجعلنا نقبل ونروح، فبقي عبد منا، فراطنهم وراطنوه، فكتب لهم الأمان في صحيفة، وشدها على سهم، ورمى بها إليهم، فأخذوها، وخرجوا، فكتب بذلك إلى عمر، فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين يجوز أمانه. رواهما سعيد، ويصح أمان الأسير المسلم إذا عقده غير مكره، كذلك.
فصل:
ولا يصح من كافر، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «يسعى بها أدناهم» وليس الكافر منهم؛ ولأنه متهم في الدين. ولا من مجنون، ولا طفل؛ لأنه لا حكم لقولهما، ولا مكره؛ لأنه عقد أكره عليه بغير حق، فلم يصح، كالبيع، وفي الصبي المميز روايتان:
إحداهما: لا يصح منه؛ لأن القلم مرفوع عنه، ولا يلزمه بقوله حكم، فلا يلزم غيره كالمجنون.
والثانية: يصح، لعموم الخبر؛ ولأنه مسلم عاقل فصح أمانه، كالبالغ، فإن دخل مشرك بأمان من لا يصح أمانه، عالما بفساده، جاز قتله، وأخذ ماله؛ لأنه حربي لا أمان(4/161)
له وإن لم يعرف، عرف ذلك، ورد إلى مأمنه، ولم يجز قتله؛ لأنه دخل على أنه بأمان.
فصل:
وللإمام عقده لجميع الكفار؛ لأن له الولاية على جميع المسلمين، وللأمير عقده لمن أقيم بإزائه؛ لأن إليه الأمر فيهم. وأما سائر الرعية، فلهم عقده للواحد، والعشرة، والحصن الصغير، لحديث عمر في أمان العبد. ولا يصح لأهل بلدة ورستاق ونحوهم؛ لأن ذلك يفضي إلى تعطيل الجهاد، والافتئات على الإمام. وللإمام والأمير أمان الأسير؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمن الهرمزان وهو أسير؛ ولأن له المن عليه، فالأمان أولى، وليس ذلك لغيره؛ لأن أمر الأسير إلى الإمام، فلم يجز لغيره الافتئات عليه. وذكر أبو الخطاب: أن ذلك لكل مسلم؛ لأن زينب ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجارت زوجها أبا العاص بن الربيع بعد أسره، فأمضاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ومن طلب الأمان ليسمع كلام الله، ويعرف الشريعة، وجب أن يعطاه، ثم يرد إلى مأمنه، لقول الله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6] . ويجوز عقده للمستأمن غير مقيد بمدة؛ لأن ذلك لا يفضي إلى ترك الجهاد. قال القاضي: يجوز أن يقيموا في دارنا مدة الهدنة، بغير جزية، وهو ظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن من جاز إقراره بغير جزية فيما دون السنة، جاز فيما زاد كالمرأة، وقال أبو الخطاب: عندي لا يجوز أن يقيموا سنة فصاعدا بغير جزية، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
فصل:
ويحصل الأمان بما يدل عليه من قول وغيره، فالقول مثل: أمنتك، أو أنت آمن، أو أجرتك، أو أنت مجار، أو في جواري، أو في ذمتي، أو في أماني، أو في خفارتي، أو لا بأس عليك، أو لا خوف عليك، أو لا تخف، أو مترس بالفارسية، ونحو ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم الفتح: «من دخل دار أبي سفيان، فهو آمن» . وقال لأم هانئ: «قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت» . وقال أنس لعمر في قصة الهرمزان: ليس لك إلى قتله سبيل، قد قلت: تكلم لا بأس عليك، فأمسك عمر. وروى(4/162)
زر عن عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الله يعلم كل لسان، فمن أتى منكم أعجميا، فقال له: مترس، فقد أمنه، وإن أشار إليه بالأمان، فهو أمان، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى السماء إلى مشرك، فنزل إليه، فقتله، لقتلته به، فإن قال المسلم: لم أرد به الأمان، فالقول قوله؛ لأنه أعلم بنيته، ويرد المشرك إلى مأمنه؛ لأنه نزل على أنه آمن. وإن قال له: قف، أو قم، أو ألق سلاحك، فقال أصحابنا: هو أمان؛ لأن الكافر يعتقده أمانا، فأشبه قوله: لا تخف. ويحتمل أن يرجع فيه إلى النية، فإن نوى به الأمان، كان أمانا لأنه يحتمله. وإن لم ينو، لم يكن أمانا؛ لأنه يستعمل للإرهاب والتخويف والتهديد، فلم ينصرف إلى الأمان بغير نية، وإذا اختلفا في نيته، فالقول قول المسلم، لما ذكرنا، وإن قال الكافر: أنت آمن، فرد الأمان، لم ينعقد؛ لأنه إيجاب حق بعقده، فلم يصح مع الرد، كالبيع. وإن قبله ثم رده انتقض؛ لأنه حق له، فسقط بإسقاطه، كالرق.
وأما الفعل، فإذا دخل الحربي دار الإسلام، رسولا أو تاجرا، وقد جرت العادة بدخول تجارهم إلينا، كان أمانا له، ولم يجز التعرض له؛ «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرسولي مسيلمة: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكما» رواه أبو داود والنسائي بمعناه؛ ولأنهم دخلوا يعتقدون الأمان، فأشبه ما لو دخلوا بإشارة المسلم.
وإن دخل مسلم دار الحرب رسولا، أو تاجرا وقد جرت العادة بدخول تجارنا إليهم، صار في أمانهم، وصاروا في أمان منه؛ لأن الأمان إذا انعقد من أحد الطرفين، انعقد من الآخر، فلا تحل خيانتهم في أموالهم، ولا معاملتهم بالربا؛ لأن من حرم ماله عليك، ومالك عليه، حرمت معاملته بالربا، كالمسلم في دار الإسلام. وإذا أخذ المسلمون حربيا، فادعى أنه جاء مستأمنا نظرنا، فإن كان بغير سلاح، قبل قوله؛ لأن تركه السلاح دليل على قصد الأمان. وإن كان معه سلاح، لم يقبل منه، نص عليه أحمد؛ لأن حمله لآلة الحرب دليل على أنه محارب. وقال أحمد: إذا لقي الرجل العلج، فطلب منه الأمان، لم يعطه. وإن كان المسلمون جماعة أعطوه الأمان؛ لأن الواحد لا يأمن غدر العلج عند خلوته به، والجماعة يأمنون ذلك.
فصل:
ومن جاء بحربي، فادعى الحربي أنه أمنه، فأنكر المسلم، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: القول قول المسلم؛ لأن الأصل معه. وهو إباحة دم الحربي، وعدم الأمان.(4/163)
والثانية: القول قول الأسير؛ لأنه يدعي حقن دمه، فيكون ذلك شبهة في درء القتل.
والثالثة: القول قول من يدل ظاهر الحال على صدقه، فمتى كان أقوى من المسلم ومعه سلاحه، فالقول قوله: لأن الظاهر معه، وإن كان ضعيفا مأخوذا سلاحه، فالقول قول المسلم؛ لأن الظاهر معه.
فصل:
وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان، ثبت الأمان لنفسه وماله الذي معه؛ لأن الأمان يقتضي ترك التعرض له بما يضره، وأخذ ماله يضره، فإن أودع ماله، أو أقرضه مسلما، أو ذميا، ثم عاد إلى دار الحرب رسولا، أو تاجرا، أو متنزها ليعود إلى دار الإسلام، فهو على أمانه. وإن دخل مستوطنا، أو محاربا، انتقض الأمان في نفسه؛ لأنه تركه وبقي في ماله؛ لأنه بطل في نفسه بعوده، ولم يوجد ذلك في المال؛ ولأن الأمان ثبت للمال بأخذ المودع والمقترض له، فأشبه ما لو استودعه في دار الحرب، ودخل به دار الإسلام. فإن طلبه صاحبه، بعث به إليه، وإن مات، بعث إلى وارثه، وكذلك إن مات المستأمن في دار الإسلام، بعث ماله إلى وارثه؛ لأن الأمان حق لازم تعلق بالمال. فإذا انتقل إلى الوارث، انتقل بحقه، كسائر ماله، وإن لم يكن له وارث، فهو فيء؛ لأنه مال انتقل عن الكافر ولا مستحق له، فأشبه مال الذمي الذي يموت ولا وارث له، وإن سبي مالكه، كان موقوفا، فإن عتق، رد إليه، وإن مات في الرق، أو قتل، فماله فيء؛ لأنه لا يورث، فأشبه مال من لا وارث له.
فصل:
وإن أخذ المسلم من الحربي في دار الحرب مالا، مضاربة، أو وديعة، ودخل به دار الإسلام، فهو في أمان، حكمه مثل ما ذكرنا، وإن أخذه ببيع في الذمة، أو اقتراض، فالثمن في ذمته، عليه أداؤه إليه. وإن اقترض حربي من حربي مالا، ثم دخل إلينا فأسلم، فعليه رد البدل؛ لأنه أخذه على سبيل المعاوضة، فأشبه ما لو تزوج حربية، ثم أسلم، فإنه يلزمه مهرها.
فصل:
وإن حصر المسلمون حصنا، فطلب رجل منهم الأمان، ليفتح لهم الحصن، جاز إعطاؤه. وكذلك إن طلبه لجماعة معينين، جاز، لما روي أن المهاجر بن أبي أمية لما حصر النجير، بعث إليه الأشعث بن قيس: تعطيني الأمان لعشرة وأفتح لك الحصن؟ ففعل. فإن فتح الحصن، فادعى الأمان منهم جماعة، كل واحد يقول أنا المعطى،(4/164)
وأشكل، لم يجز قتل واحد منهم؛ لأنه اشتبه المباح بالمحرم، فوجب تغليب التحريم، كما لو اختلطت أخته بأجنبيات، وفي استرقاقهم وجهان:
أحدهما: لا يسترق واحد منهم كذلك، قال القاضي: هذا المنصوص عليه.
والثاني: يقرع بينهم، فيخرج صاحب الأمان بالقرعة، ويسترق الباقون، اختارها أبو بكر؛ لأنه اشتبه الحر بالرقيق، فوجب أن يخرج بالقرعة، كما لو أعتق عبدا من عبيده وأشكل، وإن أسلم واحد في الحصن قبل فتحه، ثم فتح، فادعى كل واحد منهم أنه المسلم، خرج فيها ما في التي قبلها؛ لأنها في معناها.
فصل:
وإذا أسر الكفار أسيرا، فأطلقوه بشرط أن يقيم عندهم مدة، كانوا في أمان منه، ولم يكن له أن يهرب منهم، ولا أن يخونهم في أموالهم؛ لأنهم على هذا أطلقوه. وإن أطلقوه ولم يشرطوا عليه شيئا، فله أن يقتل، ويسرق، ويهرب؛ لأنه لم يصدر منه ما يثبت به الأمان. وكذلك إن أطلقوه على أن يكون رقيقا لهم، وملكا؛ لأنه حر لا يثبت عليه الملك، ولم يصدر منه أمان. فإن أطلقوه وأمنوه، ولم يشرطوا عليه شيئا، كان له الهرب؛ لأنه ليس بمال لهم، ولم يكن له خيانتهم في أموالهم وأنفسهم؛ لأن أمانهم له يقتضي سلامتهم منه، وإن شرطوا عليه الإقامة عندهم، فالتزمه، لزمه الوفاء لهم. نص عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] . وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المؤمنون عند شروطهم» . وإن شرطوا عليه أن يبعث إليهم فداءه من دار الإسلام، لزمه ذلك، لما ذكرنا؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل الحديبية على رد من جاء، وَفَّى لهم، وقال: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» ، فإن عجز عن الفداء، كان في ذمته، يبعثه إليهم متى قدر، كثمن المبيع.
وإن شرطوا عليه أنه إن لم يقدر على الفداء، رجع عليهم، فلم يقدر عليه، وكان رجلا لزمه الوفاء في إحدى الروايتين، لما ذكرناه.
والثانية: لا يعود إليهم؛ لأن العود إليهم معصية، فلم يلزم بالشرط. وإن كانت امرأة، لم ترجع إليهم رواية واحدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما صالح أهل الحديبية على رد من جاءه، منعه الله تعالى رد النساء؛ ولأن في ردها تسليطا على وطئها حراما، فلم يجز. وإن كان الأسير شرط لهم ذلك مكروها بضرب وتعذيب، لم يلزمه الوفاء لهم بشرط مما شرطه. وإن اشترى الأسير منهم شيئا مختارا، أو اقترضه، لزمه الوفاء لهم؛ لأنه عقد(4/165)
معارضة، فأشبه غير الأسير. وإن كان مكروها لم يصح، فإن أكرهوه على قبضه، لم يلزمه ضمانه وإن تلف، وعليه رده إن كان باقيا؛ لأنهم دفعوه إليه بحكم عقد فاسد، وإن قبضه باختياره، فعليه ضمانه كذلك، والله أعلم.
[باب الهدنة]
ومعناها: موادعة أهل الحرب، ولا يجوز ذلك إلا على وجه النظر للمسلمين، وتحصيل المصلحة لهم، لقول الله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] ؛ ولأن هدنتهم من غير حاجة، ترك للجهاد الواجب لغير فائدة، فإن رأى الإمام المصلحة فيها، جازت، لقول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ، وقَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وروى مروان ومسور بن مخرمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح سهيل بن عمرو بالحديبية، على وضع القتال عشر سنين» ، ووادع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبائل من المشركين، وقريظة، والنضير؛ ولأنه قد تكون المصلحة في الهدنة لضعف المسلمين عن قتالهم، أو طمع في إسلامهم، أو التزامهم الجزية، أو غير ذلك. ولا يجوز عقدها إلا من الإمام، أو نائبه؛ لأنه عقد يقتضي الأمان لجميع المشركين، فلم يجز لغيرهما، كعقد الذمة.
فصل:
ولا يجوز عقد الهدنة مطلقا غير مقدرة بمدة؛ لأن إطلاقها يقتضي التأبيد، فيفضي إلى ترك الجهاد أبدا. ويرجع في تقديرها إلى رأي الإمام على ما يراه من المصلحة في قليل وكثير. وقال القاضي: وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز أكثر من عشر سنين. وهو اختيار أبي بكر؛ لأن الأمر بالجهاد يشمل الأوقات كلها، خص منه مدة العشر بصلح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل الحديبية على عشر، ففيما زاد يبقى على العموم.
ووجه الأول: أنه عقد يجوز في العشر، فجاز فيما زاد عليها، كالإجارة. فإن هادنهم أكثر من قدر الحاجة، بطل في الزائد، وهل يبطل في قدر الحاجة على(4/166)
وجهين، بناء على تفريق الصفقة. وكذلك إذا هادنهم أكثر من عشر على الرواية الأخرى بطل في الزيادة، وفي مدة العشر وجهان. فإن قال هادنتكم ما شئتم، لم يصح؛ لأنه جعل الكفار متحكمين على المسلمين، وإن قال: هادنتكم ما شئنا، أو ما شاء فلان، أو شرط أن له نقضها متى شاء، لم يصح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد؛ ولأنه عقد مؤقت، فلم يجز تعليقه على مشيئة أحدهما، كالإجارة. وقال القاضي: يصح لأنه جعل التحكم إليه. وإن قال: إلى أن يشاء الله، أو نقركم ما أقركم الله، لم يجز؛ لأنه لا طريق إلى معرفة ما عند الله.
فصل:
وتجوز الهدنة على غير مال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالح أهل الحديبية، وغيرهم بغير مال. وتجوز على مال يأخذه منهم؛ لأنه إذا جازت بغير مال، فعلى مال أولى، فأما مصالحتهم على مال يدفعه إليهم، فقد أطلق أحمد المنع منه؛ لأن فيه صغارا على المسلمين. وهذا محمول على غير حال الضرورة. فأما عند الحاجة، مثل أن يخاف على المسلمين قتلا، أو أسرا، أو تعذيب من عندهم من الأسارى، فيجوز، لما روى الزهري قال: «أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى عيينة بن حصن وهو مع أبي سفيان: أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار، أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر، فعلت.» فلولا أنه جائز، لما جعله له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ولأن الضرر المخوف أعظم من الضرر ببذل المال. فجاز دفع أعلاهما بأدناهما.
فصل:
ويجوز في عقد الصلح شرط رد من جاء من أهل الحرب من الرجال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرط ذلك في صلح الحديبية. ولا يجوز شرط رد النساء المسلمات، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] . ولما عقد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلح في الحديبية، جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فجاء أخواها يطلبانها، فأنزل الله تعالى: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله منع الصلح في النساء» ؛ ولأنه لا يؤمن أن تتزوج بمشرك، فيصيبها، أو تفتن في دينها.
ولا يجوز رد الصبيان العقلاء؛ لأنهم بمنزلة المرأة في ضعف قلوبهم، وقلة معرفتهم، فلا يؤمن أن يفتتنوا عن دينهم. وإن شرط رد الرجال بها، لزم الوفاء لهم،(4/167)
بمعنى أنهم إن جاءوا في طلب من جاء منهم، لم يمنعوا من أخذه ولا يجبره الإمام على الرجوع معهم وله أن يأمره سرا بالفرار منهم وقتالهم؛ لأن أبا بصير جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلح الحديبية، فجاء الكفار في طلبه، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر، وقد علمت ما عاهدناهم عليه، ولعل الله أن يجعل لك فرجا ومخرجا» ، فرجع معهم، فقتل أحدهم، ورجع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يلمه، ولم ينكر عليه.
وإن جاءت امرأة مسلمة، لم يجز ردها، ولا يجب رد مهرها؛ لأن بضعها لا يدخل في الأمان. وإنما رد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المهر؛ لأنه شرط رد النساء، فكان شرطا صحيحا، فلما نسخ ذلك، وجب رد البدل، لصحة الشرط، بخلاف حكم من بعده.
فصل:
وإن شرط في الهدنة شرطا فاسدا، كرد المرأة أو مهرها، أو السلاح، أو إدخالهم الحرم، أو شرط لهم مالا، فهل يبطل عقد الهدنة؟ على وجهين؛ بناء على الشروط الفاسدة. ومتى وقع العقد باطلا، فدخل بعض الكفار دار الإسلام معتقدا للأمان، كان آمنا؛ لأنه دخل بناء على العقد. ويرد إلى دار الحرب. ولا يقر في دار الإسلام؛ لأن الأمان لم يصح.
فصل:
وإن عقدت الهدنة على مدة، وجب الوفاء بها، لما ذكرنا في أول الباب؛ ولأننا لو نقضنا عهدهم عند قدرتنا عليهم، لنقضوا عهدنا عند قدرتهم علينا، فيذهب معنى الصلح. وإن مات الإمام أو عزل وولي غيره، لزمه إمضاؤه؛ لأنه عقد لازم، فلم يجز نقضه بموت عاقده، كعقد الذمة. وعلى الإمام منع من يقصدهم من أهل دار الإسلام من المسلمين، وأهل ذمتهم؛ لأن الهدنة عقدت على الكف عنهم. ولا يجب منعهم ممن يقصدهم من أهل الحرب، ولا منع بعضهم من بعض؛ لأن الهدنة لم تعقد على ذلك. فإن سباهم قوم، لم يكن للمسلمين شراؤهم؛ لأنهم في عهدهم، فلم يملكوهم، كأهل الذمة. وإن أتلف عليهم المسلمون شيئا، لزمهم ضمانه؛ لأنهم في عهد، فأشبه أهل الذمة. وإن جاءنا منهم عبد أو أمة، مسلما، لم يرد إليهم؛ لأنه صار حرا بقهره سيده، وإزالة يده بدخوله دار الإسلام.
فصل:
ومن أتلف منهم شيئا على مسلم، لزمه ضمانه، وإن قتله، فعليه القصاص. وإن قذفه فعليه الحد؛ لأن الهدنة تقتضي أمان المسلمين منهم، وأمانهم من المسلمين، في النفس، والمال، والعرض، فلزمهم ما يجب في ذلك. ومن شرب منهم خمرا أو زنى،(4/168)
لم يحد لأنه حق الله تعالى ولم يلتزموه بالهدنة. وإن سرق مال مسلم، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يقطع؛ لأنه حق خالص لله تعالى، أشبه حد الزنا.
والثاني: يقطع؛ لأنه يجب لصيانة حق الآدمي، فأشبه حد القذف.
فصل:
وإن نقض أهل الذمة العهد بقتال، أو مظاهرة عدو، أو قتل مسلم، أو أخذ مال، انتقض عهدهم؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة: 12] ... الآية، والتي بعدها، وقَوْله تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وقوله سبحانه: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] ؛ ولأن الهدنة تقتضي الكف، فانتقضت بتركه، ولا يحتاج في نقضها إلى حكم الإمام؛ لأنه إنما يحتاج إلى حكمه في أمر محتمل، وفعلهم لا يحتمل غير نقض العهد. وإن نقض بعضهم، وسكت سائرهم، انتقضت الهدنة في الجميع؛ لأن ناقة صالح عقرها واحد، فلم ينكر عليه قومه، فعذبهم الله سبحانه جميعا. ولما هادن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قريشا، دخلت خزاعة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبنو بكر مع قريش، فعدت بنو بكر على خزاعة، وأعانهم نفر من قريش، وأمسك سائر قريش، فكان ذلك نقض عهدهم، فسار إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى فتح مكة. فإن أنكر الممسك على الناقض، أو اعتزلهم، أو راسل الإمام به، لم ينتقض عهده؛ لأنه لم ينقض، ولا رضي بالنقض. ويؤمر بتسليم الناقض، أو التميز عنه. فإن لم يفعل مع القدرة عليه، انتقضت هدنته أيضا؛ لأنه صار مظاهرا للناقض. وإن لم يقدر على ذلك، فحكمه حكم الأسير. فإذا أسر الإمام منهم قوما، فادعوا أنهم ممن لم ينقض، وأشكل، قبل قولهم؛ لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا من جهتهم.
فصل:
وإن خاف الإمام نقض العهد منهم، جاز أن ينبذ إليهم عهدهم، لقول الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] ، يعني: أعلمهم بنقض العهد، حتى تصير أنت وهم على سواء في العلم، ولا يكفي بمجرد الخوف حتى تظهر أمارة النقض. ولا يفعل ذلك إلا الإمام؛ لأن نقضها لخوف الخيانة، يحتاج إلى نظر واجتهاد(4/169)
فافتقر إلى الحكم، وإن خاف خيانة أهل الذمة، لم ينبذ إليهم عهدهم؛ لأن النظر في عقدها إليهم. وكذلك إذا طلبوا الذمة، لزمته إجابتهم إليه. والنظر في الهدنة إلى الإمام، فكان النظر إليه عند الخوف. ومتى نقضها في دارنا منهم أحد، وجب ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا بأمان، فوجب ردهم إلى مأمنهم، كما لو أفردهم بالأمان، وإن كان عليهم حق، استوفي منهم.
[باب عقد الذمة]
ولا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام، أو نائبه؛ لأنه عقد مؤيد تتعلق به المصالح العامة، فلم يصح من غير الإمام ونائبه. ويجوز عقدها لأهل الكتاب، والمجوس، لقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، ولما روى عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من مجوس هجر. وسواء كانوا عربا أو عجما؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، أو عدله معافر» . رواه أبو داود. وكانوا عربا.
وأهل الكتاب: هم اليهود والنصارى، ومن وافقهم في أصل دينهم، وآمن بنبيهم وكتابهم، كالسامرة الموافقة لليهود في موسى والتوراة، والفرنج يوافقون النصارى في عيسى والإنجيل. وليس المجوس بأهل كتاب، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ، ولا المتمسك بدين إبراهيم وشيث وداود بكتابي، ولا تعقد له ذمة، لقول الله سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] ، ولا يجوز عقد الذمة لغير أهل الكتاب والمجوس، كعبدة الأوثان، ومن عبد ما استحسن، والدهرية، ونحوهم، لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] . ثم خص أهل الكتاب بإعطاء الجزية، وألحق بهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المجوس، فبقي من عداهم على مقتضى العموم؛ ولأنهم تغلظ كفرهم، لكفرهم بجميع أنبياء الله تعالى وكتبه. وروى الحسن بن ثواب عن أحمد: أن الجزية تقبل من جميع الكفار، إلا من عبدة الأوثان من العرب؛ لأنه تغلظ كفرهم(4/170)
بدينهم وجنسهم، لكونهم رهط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وغيرهم لم يتغلظ كفرهم من الجهتين، فقبلت الجزية منهم، كالمجوس.
وأما الصابئون، فينظر فيهم. فإن كانوا يوافقون أحد أهل الكتابين، في نبيهم وكتابهم، فهم فرقة منهم. وإن لم يوافقوا واحدا منهم، فهم غير أهل الكتاب، حكمهم حكم عبدة الأوثان.
فصل:
ومن دخل في دين أهل الكتاب، أو المجوس من سائر الكفار، صار منهم، وحكمه حكمهم. سواء دخل قبل بعث نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو بعده، لعموم النصوص فيهم. قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد. وقال أبو الخطاب: من دخل بعد بعث نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قبل بعثه، وبعد تبديل كتابهم، لم تعقد له الذمة؛ لأنه دخل في دين باطل. ومن كان أحد أبويه ممن تعقد له الذمة، والآخر ممن لا تعقد له، عقدت له الذمة، لما ذكرنا؛ ولأنه تبع لمن يؤخذ منه الجزية؛ لأنه تبعه في الدين، فتبعه في الجزية، وقال أبو الخطاب: فيه وجهان.
وإن ظهر المسلمون على قوم لا يعرف دينهم، فادعوا أنهم أهل كتاب، قبل منهم؛ لأنهم لا يعرف دينهم إلا من جهتهم. فإن أسلم منهم اثنان، وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب، وكانا عدلين نبذ إليهم عهدهم؛ لأنه بان بطلانهم دعواهم.
فصل:
ومن عقدت له الذمة، أخذت منه الجزية. وفي قدرها ثلاث روايات.
إحداهن: يرجع إلى ما فرضه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليهم، على الموسر ثمانية وأربعون درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهما، وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما، لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرضها كذلك بمحضر من الصحابة، وتابعه سائر الخلفاء بعده، فكان إجماعا.
والثانية: يرجع إلى اجتهاد الإمام، في الزيادة على ذلك والنقصان منه، على ما يراه من المصلحة بعد أن لا يكلفهم فوق طاقتهم؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له: خذ من كل حالم دينارا» رواه أبو داود. وعمر زاد عليهم، فدل على جواز الزيادة والنقصان.(4/171)
والثالثة: يجوز الزيادة، ولا يجوز النقصان؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زاد على ما فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم ينقص. فإذا قلنا: لا تجوز الزيادة، فمتى بذلوا القدر الواجب، لزم قبوله، وحرم قتالهم، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . فمد قتالهم إلى إعطائها، أي: بذلها. وإن قلنا له الزيادة، فله أن يزيد بقدر ما يراه. ولا يحرم قتالهم، إلا أن يبذلوا ما طلب منهم.
فصل:
ويؤخذ من نصارى بني تغلب، مكان الجزية الزكاة، مثلي ما يؤخذ من المسلمين، من جميع أموالهم الزكاتية، لما روى: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دعاهم إلى بذل الجزية، فأبوا، وأنفوا، وقالوا: نحن عرب، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم، خذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم، فردهم وضعف عليهم من كل خمس من الإبل شاتين، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعين، ومن كل عشرين دينارا دينارا، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم، ومما سقت السماء الخمس، وفيما سقي بنضح، أو غرب، أو دولاب، العشر. فاستقر ذلك من قول عمر، ولم يخالفه غيره من الصحابة فكان إجماعا.
قال أصحابنا: حكم المأخوذ منهم حكم الزكاة، في أنه يؤخذ من مال كل من تؤخذ منه الزكاة لو كان مسلما. فعلى هذا يؤخذ من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم، وزمناهم، ومكافيفهم، وشيوخهم؛ لأنهم سألوا عمر أن يأخذ منهم ما يأخذ بعضكم من بعض، فأجابهم؛ ولأنهم صينوا عن السبي بهذا الصلح، فجاز أن يدخلوا في الواجب به، كالرجال. ولا يؤخذ من مال لم يبلغ نصابا، ولا من مال غير زكاتي كذلك. ومن كان المأخوذ منه أقل من دينار، أجزأ عنه. ومن ليس له نصاب زكاتي، فلا شيء عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صالحهم على هذا. واختلف أصحابنا في مصرفه، فقال القاضي: مصرفه مصرف الفيء؛ لأنه جزية باسم الزكاة. ومعنى الشيء أخص به من اسمه؛ ولأنه مال مشرك أخذ بغير قتال، فكان فيئا كالجزية.
وقال أبو الخطاب: مصرفه مصرف الصدقة؛ لأنه سلك به مسلكها في قدر المأخوذ، والمأخوذ منه: فكذلك في المصرف. فإن بذل تغلبي الجزية، مكان المفروض عليهم، وكان حربيا، قبل منه؛ لأنه كتابي لم يصالح على غير الجزية، فحقن دمه بها كغيره. وإن كان ممن عقد الذمة، لم يقبل منه؛ لأن الصلح وقع على غير ذلك، فلم يجز تغييره.(4/172)
فصل:
فأما سائر أهل الكتاب من النصارى وغيرهم، فلا يقبل منهم إلا الجزية، ولا يؤخذون بما يؤخذ به بنو تغلب. نص عليه أحمد، للآية والأخبار. والعرب وغيرهم في هذا سواء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث معاذا إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا، وهم عرب. وإنما خص بنو تغلب بالصدقة، لصلحهم، فبقي من عداهم على مقتضى النصوص. وذكر القاضي: أن تنوخ وبهرا، كبني تغلب، وأن عمر صالحهم. وقال أبو الخطاب: وكذلك الحكم فيمن تنصر من تنوخ وبهرا، أو تهود من كنانة، وحمير، أو تمجس من تميم؛ لأنهم عرب، فأشبهوا بني تغلب. والصحيح الأول. ولم يصح عن عمر ولا غيره مصالحة غير بني تغلب على غير الجزية.
فصل:
ولا جزية على صبي، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» ، وروى أسلم أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أمراء الأجناد: لا تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه المواسي. رواه سعيد؛ ولأنها تجب لحقن الدم، وهو محقون بدونها، ولا على امرأة كذلك، ولا على خنثى مشكل؛ لأنه لا يعلم كونه رجلا، فلم تجب عليه مع الشك، ولا على مجنون؛ لأنه في معنى الصبي، فنقيسه عليه، ولا على زمن، ولا أعمى، ولا شيخ فان، ولا راهب؛ لأن دماءهم محقونة، فأشبهوا الصبي والمرأة، ولا على فقير عاجز عن أدائها، لقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .
فأما المعتمل الذي يقدر على كسب ما يقوم بكفايته، فعليه الجزية؛ لأنه في حكم الأغنياء، ولا تجب على مملوك، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا جزية على مملوك؛ ولأنه لا يقتل بالكفر، أشبه الصبي. وعن أحمد: أن على الذمي أداء الجزية عن مملوكه. وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه ذكر مكلف قوي مكتسب، أشبه الحر. ومن كان بعضه حرا، فعليه من الجزية بقدر ما فيه من الحرية؛ لأن حكمه يتبعض، فقسم على قدر ما فيه من الحرية والرق، كالميراث.
فصل:
ومن بلغ من صبيانهم، أو أفاق من مجانينهم، أو عتق من عبيدهم، فهو من أهلها بالعقد الأول؛ لأنه تبع من عليه الجزية في الأمان، فيتبعه في الذمة، وتعتبر جزيته بحاله(4/173)
لا بحال غيره؛ لأنه حكم يختلف باختلاف الحال، فاعتبر بحاله، كالزكاة. فإن كان في أثناء الحول، أخذ في آخر الحول بقدر ما أدرك منه، لئلا تختلف أحوالهم، فيشق ضبطها. ومن كان يجن ويفيق إفاقة مضبوطة، كيوم ويوم، أو نصف الحول ونصفه، ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر بالأغلب منهما؛ لأن الاعتبار في الأصول بالأغلب.
والثاني: تلفق إفاقته، فإذا بلغ حولا، أخذت الجزية، فإن كان سواء، ففيه وجهان:
أحدهما: يؤخذ في كل حول نصف جزية؛ لأن الجزية تؤخذ في كل حول، فيؤخذ منه بقدر ما عليه.
والثاني: تلفق إفاقته، فإذا بلغت حولا، أخذت منه؛ لأن حوله لا يكمل إلا حينئذ.
فصل:
وإذا كان في الحصن نساء أو من لا جزية عليه، فطلبوا عقد الذمة بغير جزية، أجيبوا إليها؛ لأنهم محقونون بدونها. وإن بذلوا جزية، أخبروا أنه لا جزية عليهم، فإن تبرعوا بها، كانت هبة، متى امتنعوا منهم، لم يحوجوا إليها.
فصل:
وتجب الجزية في آخر كل حول؛ لأنه مال يتكرر بتكرر كل الحول، فوجب في آخره، كالزكاة، والدية. فإن جن قبل انقضائه جنونا مطبقا، أو مات أو أسلم، فلا جزية عليه؛ لأنه خرج عن أهلية الوجوب قبل الوجوب فلم يجب عليه، كما لو مات بعض العاقلة قبل الحول، وإن جن أو مات بعد الحول، لم تسقط عنه؛ لأنه دين وجب عليه في حياته، فأشبه العقل ودين الآدمي. وإن أسلم بعد الحول، سقطت عنه، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على المسلم جزية» رواه الخلال. وقال أحمد: قد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن أخذها في كفه، ثم أسلم، ردها. وروى أبو عبيد: أن يهوديا أسلم، فطولب بالجزية، وقيل: إنما أسلمت تعوذا، قال: إن في الإسلام معاذا، فرفع إلى عمر، فقال: إن في الإسلام معاذا، فكتب أن لا تؤخذ منه الجزية؛ ولأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر، فيسقطها الإسلام، كالقتل. وإن اجتمعت على الذمي جزية سنين، أخذت منه، ولم تتداخل؛ لأن الحق مالي يجب في آخر كل حول، فلم تتداخل، كالدية والزكاة.(4/174)
فصل:
ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين، لما روى الأحنف بن قيس: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شرط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة، وأن يصلحوا القناطر، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم، فعليهم ديته، رواه الإمام أحمد؛ ولأن فيه مصلحة، فإنه ربما تعذر الشراء على المسلمين، ولا يلزمنهم ذلك إلا برضاهم؛ لأنه أداء مال فلم يلزمهم بغير رضاهم، كالجزية، وإن امتنعوا من قبول الشرط، لم تعقد لهم الذمة؛ لأنه شرط سائغ، فإذا امتنعوا منه، لم تعقد لهم، كالجزية. فإن لم تشترط عليهم الضيافة، لم تجب؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: خذ من كل حالم دينارا» ولم يذكر الضيافة. ومن أصحابنا من قال: تجب بغير شرط، كما تجب على المسلمين. وتقسم الضيافة عليهم على قدر جزيتهم، والأولى أن يبين عدد أيام الضيافة من السنة، وعدد من يضاف من الرجال والفرسان، وقدر الطعام والإدام والعلوفة؛ لأنه أبعد من اللبس. فإن أطلق ذلك، جاز. ولا يجب عليهم في الضيافة أكثر من يوم وليلة؛ لأن ذلك الواجب على المسلم، ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم، لما روى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالوا: إن المسلمين إذا مروا بنا، كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال: أطعموهم مما تأكلون، ولا تزيدوهم على ذلك. ولا تزاد الضيافة على ثلاثة أيام، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الضيافة ثلاثة أيام» . وذكر القاضي: أن تقدير أيام الضيافة، وعدد من يضاف، والطعام، والإدام، والعلوفة شرط؛ لأنه من الجزية، فاعتبر العلم به، كالنقود. والأول أولى؛ لأن عمر لم يقدره، ولما شكوا إليه اعتداء الأضياف، قال: أطعموهم مما تأكلون. وللمسلمين النزول في الكنائس، والبيع؛ لأن عمر صالح أهل الشام على أن يوسعوا أبواب كنائسهم، وبيعهم لمن يجتاز بهم من المسلمين، ليدخلها المسلمون ركبانا. فإن لم يجدوا مكانا، فلهم النزول في الأفنية، وفضول المنازل من غير أن يحولوا ذا منزل عن منزله. فإن لم يسعهم، فالسابق أحق، فإن تساووا، وتشاحوا، أقرع بينهم. فإن امتنع أهل الذمة مما شرط عليهم، أجبروا عليه، فإن لم يمكن إلا بالمقاتلة، قوتلوا، فإن قاتلوا، انتفض عهدهم.
فصل:
ويثبت الإمام عدد أهل الذمة، وأسماءهم، وأنسابهم، ودينهم، وحلاهم التي لا تتغير بالأيام، كالطول، والقصر، والبياض، والسواد، والسمرة، فيكتب أدعج العينين،(4/175)
أقنى الأنف، مقرون الحاجبين. ويثبت ما يأخذ منهم، ويجعل لكل طائفة عريفا، يجمعهم عند أداء الجزية، ويعرف من يبلغ من غلمانهم، ويفيق من مجانينهم، ويقدم من غائبهم، ومن يموت أو يسلم؛ لأنه أمكن لاستيفاء الجزية وأحوط. وتؤخذ الجزية مما تيسر من أموالهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا، أو عدله معافر» .
وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ من أهل نجران ألفي حلة، وكان علي يأخذ من كل ذي صناعة من صناعته التي عنده، ومن قبضت جزيته، كتب له براءة، لتكون له حجة إذا احتاج إليها، ويمتهنون عند أخذ الجزية منهم، ويطال قيامهم، وتجر أيديهم عند أخذها. ومن بعثها منهم، لم تقبل حتى يحضر فيؤديها، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
فصل:
إذا مات الإمام، أو عزل وولي غيره، لم يحتج إلى تجديد عقد؛ لأن الخلفاء لم يجددوا لمن كان في زمنهم عقدا؛ ولأنه عقد لازم، فأشبه الإجارة، فإن عرف الثاني مبلغ المشروط عليهم، أقرهم عليه، وإن لم يعرف رجع إلى قولهم فيما يسوغ جعله جزية؛ لأنه لا يمكن معرفته إلا من جهتهم. فإن ثبت بعد ذلك أنهم نقصوا من الشروط التي عليهم شيئا، رجع عليهم فيما نقص. وإن قال بعضهم: كنا نؤدي دينارا، وقال بعضهم: كنا نؤدي دينارين، أخذ كل واحد منهم بإقراره، ولم يقبل قول بعضهم على بعض؛ لأن أقوالهم غير مقبولة.
[باب المأخوذ من أحكام أهل الذمة]
لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين، بذل الجزية، والتزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود والمعاملات، وأروش الجنايات، وقيم المتلفات. فإن عقد على غير هذين الشرطين، لم يصح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . قيل: الصغار: جريان أحكام المسلمين عليهم. ومن ادعى منهم كتابا من عمر أو علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بالبراءة من الجزية، لم يصدق؛ لأنه لا أصل له، ولم يذكره علماء الإسلام، وأخبار أهل الذمة لا تقبل.(4/176)
فصل:
ويلزمهم التميز عن المسلمين في أربعة أشياء: لباسهم، وشعورهم، وركوبهم، وكناهم؛ لما روى إسماعيل بن عياش، عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم: إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين، ولا فرق شعر، ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم، وأن لا نتكنى بكناهم، وأن نجز مقادم رءوسنا، ولا نفرق نواصينا، ونشد الزنانير في أوساطنا، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله، ولا نتقلد السيوف. وذكر سائره. رواه الخلال بإسناده.
وذكر في آخره: فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: أن أمض لهم ما سألوا. فيجعلون فيما يظهر من ثيابهم ثوبا يخالف لونه لون سائر ثيابهم، كالعسلي والأدكن، والأزرق، والأصفر. ويشدون الزنانير في أوساطهم فوق ثيابهم، وإن لبسوا العمائم، أو القلانس، جعلوا فيها خرقة تخالف لونها، ويختم في رقاب رجالهم ونسائهم خواتيم من رصاص، أو حديد، ليتميزوا في الحمام عن المسلمين. وتأخذ نساؤهم بالغيار والزنار تحت ثيابهن، لئلا تنكشف رءوسهن إن شددنه فوق ثيابهن، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أهل الآفاق: مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن. وإن لبسن الخفاف، جعلن الخفين من لونين، ليتميزن عن نساء المسلمين. فإن شرط عليهم الجمع بين الزنار والغيار، أخذوا به. وإن شرط أحدهما، اكتفي به، ولا يمنعون من لبس فاخر الثياب، والطيلسان؛ لأن التمييز حصل بما ذكرناه. وأما التميز في الشعور، فبأن يحذفوا مقاديم رءوسهم، ولا يفرقون شعورهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق شعره.
وأما التميز في الركوب، فلا يركبون الخيل؛ لأن ركوبها عز، ولهم ركوب ما سواها على غير السروج، وروي عن ابن عمر: أن عمر أمر أن يركبوا عرضا على الأكف بالعرض، ولا يتكنون بكنى المسلمين، كأبي القاسم، وأبي بكر، وأبي عبد الله، ونحوها، ولا يمنعون من الكنى بالكلية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسقف نجران: «أسلم أبا الحارث» ، وقال عمر لنصراني: يا أبا حسان، أسلم تسلم. ذكرهما أحمد.
فصل:
ولا يتصدرون في المجالس عند المسلمين؛ لأن في كتابهم لعبد الرحمن بن غنم: وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشد الطريق، ونقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا(4/177)
المجالس، ولا نطلع عليهم في منازلهم. ولا يبدءون بالسلام، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا لقيتم اليهود في الطريق فاضطرهم إلى أضيقها، ولا تبدءوهم بالسلام» .
وإن سلموا عليه، قال: وعليكم، لما روى أبو بصرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا غادون، فلا تبدءوهم بالسلام، وإن سلموا عليكم، فقولوا: وعليكم» . قيل لأحمد: فإنا نأتيهم في منازلهم وعندهم قوم مسلمون، أفنسلم عليهم؟ قال: نعم، ننوي السلام على المسلمين.
فصل:
ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم المسلمين، لقولهم في شروطهم: ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يعلو ولا يعلى» ، وفي مساواتهم وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنه لا يفضي إلى علو الكفر.
والثاني: لا يجوز؛ لأن القصد علو الإسلام، ولا يحصل مع المساواة. فإن لم يكن لهم جار مسلم، لم يمنعوا من تعلية بنيانهم؛ لأنه لا يضر المسلمين. وإن ملكوا دارا عالية من مسلم، لم يؤمروا بنقضها؛ لأنهم ملكوها على هذه الصفة.
فصل:
ويمنعون من إظهار المنكر، كالخمر، والخنزير، وضرب الناقوس، ورفع أصواتهم بكتابهم، وإظهار أعيادهم، وصلبهم، لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم: إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيا في جوف كنائسنا، ولا نظهر عليها صليبا، ولا نرفع أصواتنا في الصلاة، ولا القراءة في صلاتنا فيما يحضره المسلمون، وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين، وأن لا نخرج باعوثا، ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين، ولا نجاورهم بالخنازير، ولا نظهر شركا، ولا نرغب في ديننا، ولا ندعو إليه أحدا.
والباعوث: عيد يجتمعون له، كما يخرج المسلمون يوم الفطر والأضحى.
فصل:
ويمنعون من إحداث البيع، والكنائس والصوامع في بلاد المسلمين، لما روي في(4/178)
شروطهم لعبد الرحمن بن غنم: إن شرطنا لك على أنفسنا، أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة ولا فيما حولها ديرا، ولا قلاية، ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا، ولا ما كان منها في خطط المسلمين. وما كان فيها قبل الفتح في بلد فتح صلحا، أقر؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أقروهم على كنائسهم، وبيعهم، وما فتح عنوة فكذلك؛ لأن الكنائس والبيع، موجودة في جميع بلاد المسلمين من غير نكير، ولم تهدمها الصحابة في بلد فتحوه. وفيه وجه آخر، أنها تهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين، فلم يجز أن يكون فيها بيعة، كالتي مصرها المسلمون، ويجوز رم ما تشعث من بيعهم وكنائسهم رواية واحدة؛ لأنه أبقى لها فأشبه تطيين سطوحها. وأما تجديد ما خرب منها فلا يجوز؛ لقولهم: ولا نجدد ما خرب من كنائسنا؛ ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام، فمنع منه كابتداء بنائها. وعنه: يجوز؛ لأنه أبقى لها، أشبه لَمْ مَا تشعث. وإن عقدت لهم الذمة في بلد ينفردون به، لم يمنعوا من شيء مما ذكرناه، ولم يأخذوا بغيار، ولا زنار؛ لأنهم في بلدانهم، فلم يمنعوا من إظهار دينهم.
فصل:
وينعون من سكنى الحجاز؛ لما روى أبو عبيدة بن الجراح: أن «آخر ما تكلم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أخرجوا اليهود من الحجاز» ، رواه أحمد وأبو داود. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب» رواه مسلم. والمراد الحجاز، بدليل أن أحدا من الخلفاء لم يخرج أحدا من اليمن، ولا أهل تيماء، فدل على أن المراد به الحجاز، وهو مكة، والمدينة، واليمامة، وخيبر، وفدك، وما والاها - سمي حجازا؛ لأنه حجز بين تهامة ونجد - وليس نجران من الحجاز، وإنما أجلاهم عمر منه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صالحهم على ألا ياكلوا الربا فأكلوه، ونقضوا العهد، فأمر بإجلائهم، فأجلاهم عمر. ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير إقامة؛ لأنهم كانوا يدخلونه في زمن عمر، وعثمان، والخلفاء بعدهم. ولا يجوز لهم الدخول، إلا بإذن الإمام؛ لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين، فوقف على رأي الإمام، كدخول الحربي دار الإسلام، فمن استأذن منهم في الدخول فيما للمسلمين فيه نفع، كتجارة، ورسالة، ونحوها، أذن له لما فيه من المصلحة، فإذا دخل، لم يقم في موضع أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أذن لمن دخل(4/179)
منهم تاجرا، في إقامة ثلاثة أيام. فإذا انتقل إلى موضع آخر، فله أن يقيم فيه ثلاثة أخر؛ لأنه لا يصير مقيما في موضع، فأشبه المسافر، وإن مرض فعجز عن الخروج، أقام حتى يبرأ؛ لأنه موضع ضرورة، وإن مات دفن فيه؛ لأنه موضع حاجة.
فصل:
ويمنعون من دخول الحرم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] . والمسجد الحرام: الحرم، بدليل قوله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الإسراء: 1] وأراد مكة؛ لأنه أسري به من بيت أم هانئ. فإن جاء رسولا، خرج إليه من يسمع منه، فإن لم يكن له بد من لقاء الإمام، خرج إليه، ولم يأذن له، فإن دخله عالما بالمنع، عزر، وإن كان جاهلا، أخرج ونهي وهدد، وإن كان مريضا، أو ميتا، أخرج ولم يدفن فيه، فإن دفن نبش وأخرج إلا أن يكون قد بلي؛ لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته، فدفن جيفته فيه أولى.
وحد الحرم: من طريق المدينة، على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة تسعة أميال، ومن طريق عرفة سبعة أميال، ومن طريق جدة عشرة أميال، فإن صالحهم على دخوله لم يجز، وإن كان بعوض لم يجز. فإن دخلوا إلى الموضع الذي صالحهم عليه، أخذ منهم العوض؛ لأنهم استوفوا المعوض، فلزمهم العوض. فإن دخلوا إلى بعضه، أخذ منهم بقدره.
فصل:
وليس لهم دخول مساجد الحل، بغير إذن مسلم. فإن دخل عزر، لما روت أم غراب قالت: رأيت عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المنبر وبصر بمجوسي، فنزل، فضربه، وأخرجه من أبواب كندة.
فإن أذن له مسلم في الدخول، جاز في الصحيح من المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم عليه وفد الطائف، فأنزلهم المسجد قبل إسلامهم.
وعنه: لا يجوز؛ لما روى عياض الأشعري: أن أبا موسى قدم على عمر ومعه نصراني، فأعجب عمر خطه، وقال: قل لكاتبك هذا يقرأ علينا كتابه، قال: إنه لا يدخل المسجد. قال: لم؟ أجنب هو؟ قال: هو نصراني، فانتهره عمر؛ ولأن الجنب يمنع المسجد، فالمشرك أولى.(4/180)
فصل:
وعلى الإمام حفظ أهل الذمة، ومنع من يقصدهم بأذى، من المسلمين والكفار، واستنقاذ من أسر منهم، بعد استنقاذ أسارى المسلمين، واسترجاع ما أخذ منهم؛ لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم، وحفظ أموالهم، وإن أخذ منهم خمر، أو خنزير، لم يجب استرجاعه؛ لأنه محرم، لا يحل اقتناؤه. وإن أخذ منهم أهل الحرب مالا، ثم قدر عليه المسلمون، رد إليهم إذا علم به قبل القسمة، كمال المسلم. وحكم أموالهم في الضمان حكم أموال المسلمين.
فصل:
وإذا تحاكم مسلم وذمي إلى الحاكم، لزمه الحكم بينهما؛ لأن إنصاف المسلم والإنصاف منه واجب. وإن تحاكم ذميان إليه، ففيه روايتان:
إحداهما: يلزمه الحكم بينهما، لقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ؛ ولأن دفع الظلم عنهم واجب، والحكم طريق له، فوجب كالحكم بين المسلمين.
والثانية: لا يجب، بل يخير بين الحكم بينهم وبين تركهم، لقول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] ؛ ولأنهما كافران، فلم يجب الحكم بينهما كالمستأمنين، ولا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام، لقول الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] ، وإن دعي أحدهما إلى الحكم، لزمته الإجابة، وإن تحاكم إليه مستأمنان، خير بين الحكم بينهما وبين تركهما، للآية. وإن دعاهما إلى الحكم أو أحدهما، لم يلزمهما الحضور؛ لأن قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] نزلت في المعاهدين قبل الولاية.
فصل:
ومن أتى محرما من أهل الذمة، مما يعتقد تحريمه في دينه، كالقتل، والزنا، والسرقة، والقذف، وجب عليه ما يجب على المسلم؛ لما روى أنس: «أن يهوديا، قتل جارية على أوضاح لها، فقتله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين حجرين» . متفق عليه.
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما، فرجمهما» ؛ ولأنه محرم في دينه، وقد التزم حكم الإسلام، فثبت في حقه حكمه، كالمسلم.(4/181)
فأما ما لا يعتقد تحريمه، كشرب الخمر، ونحوه، فلا حد عليه فيه؛ لأنه يعتقد حله، فلم يجب عليه عقوبة، كالكفر، ولا يمكن من التظاهر به؛ لأنه منكر، فلا يمكن من إظهاره، فإن أظهره عزر.
[باب العشور]
من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده ثم عاد، أخذ منه نصف عشر ما معه من المال، لما روى أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ فقال: ألا ترضى أن أجعلك على ما جعلني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر. رواه الإمام أحمد.
والذكر والأنثى سواء في هذا؛ للخبر؛ ولأنه حق مال التجارة، فوجب على الأنثى كالزكاة، وقال القاضي: لا يجب على النساء؛ لأنه لا جزية عليهن، فعلى قوله لا تؤخذ إلا ممن تجب عليه الجزية من أهل الذمة، والأول أصح. وسواء كان تغلبيا، أو غيره، لعموم هذا الخبر؛ ولأن الواجب على التغلبي ضعف ما على المسلم، وذلك نصف العشر. وعن أحمد: أن الواجب عليه العشر، لما روى زياد بن حدير، قال: بعثني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مصدقا، فأمرني أن آخذ من نصارى بني تغلب العشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر. رواه أحمد أيضا.
وإن دخل إلينا تاجر حربي، أخذ منه العشر، لما روى لاحق بن حميد، قال: قالوا لعمر: كيف نأخذ من أهل الحرب إذا قدموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم؟ قالوا: العشر. قال: فكذلك خذوا منهم.
وإن رأى الإمام التخفيف عليهم، أو الترك لمصلحة، فعل ذلك؛ لأنه فيء، فملك تخفيفه كالخراج. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يأخذ من النبط من القطنية العشر، ومن الحنطة والزبيب نصف العشر، ليكثر الحمل إلى المدينة. وذكر القاضي: أنهم إذا دخلوا بميرة، لم يؤخذ منهم شيء؛ لأنهم لنفع المسلمين. وظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه يؤخذ من الكل، وحديث عمر دليل عليه؛ لأنه أخذ من الحنطة والزبيب. فإن كانت تجارته في الخمر وخنزير، ففيه روايتان:
إحداهما: يؤخذ من ثمنها حقها. قال أحمد في حديث سويد بن غفلة في قول عمر: ولوهم بيع الخمر والخنزير لعشرها. هذا إسناد جيد، ولا يكون ذلك إلا على الآخذ منها.
والثانية: لا يؤخذ منها شيء، لما روى أبو عبيد بإسناده: أن عتبة بن فرقد بعث(4/182)
إلى عمر بأربعين ألف درهم صدقة الخمر، فكتب إليه عمر: بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين، فأخبر بذلك الناس، وقال: والله لا استعملتك على شيء بعدها، فنزعه، وقول عمر: ولوهم بيعها وخذوا من ثمنها في الخراج؛ لأن بلالا قال لعمر: إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال: لا تأخذوها منهم وخذوا أنتم من الثمن.
فصل:
ولا يؤخذ في السنة إلا مرة، نص عليه أحمد، وقال ابن حامد: يؤخذ من الحربي كلما دخل إلينا؛ لأننا لو لم نأخذ منه كل مرة، لم نأمن أن لا يدخل إذا جاء وقت السنة فيتعذر الأخذ، والأول أصح، لما روي أن نصرانيا جاء إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: إن عاملك عشرني مرتين. قال عمر: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصراني. قال عمر: وأنا الشيخ الحنيف، ثم كتب إلى عامله أن لا تعشر في السنة إلا مرة، رواه الإمام أحمد.
ولأنه حق مال التجارة فلا يؤخذ في السنة إلا مرة، كالزكاة. وما ذكره ابن حامد لا يلزم؛ لأنه يوجد منه أول مرة، ثم لا يؤخذ منه شيء حتى يحول عليه الحول. وينبغي أن يكتب له كتابا بما أخذ منه، ووقت الأخذ، وقدر المال؛ ليكون حجة له حتى لا يؤخذ منه عشر ما أدى عشره قبل انقضاء الحول.
فصل:
ولا يجب في أقل من عشرة دنانير. نص عليه. وهل يجب العشر في العشرة، أو في العشرين؟ على روايتين:
إحداهما: تجب في العشرة؛ لأنها مال يبلغ واجبه نصف مثقال، فوجب فيه كالعشرين للمسلم.
والثانية: لا يجب إلا في عشرين؛ لأنه لا يجب في أقل منها زكاة على مسلم، ولا تغلبي، فلم يجب فيه على ذمي شيء، كاليسير. وقال ابن حامد: يجب في القليل والكثير؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خذ من كل عشرين درهما درهما.
فصل:
وإن مر على العاشر منتقل بماله، لم يؤخذ منه لأنه لغير التجارة، وإن كانت معه تجارة، وعليه دين، فظاهر كلام أحمد أنه يمنع الأخذ منه؛ لأنه حق مال يتعلق بالتجارة، فمنع الدين وجوبه كالزكاة. ولا تقبل دعوى الدين إلا ببينة؛ لأن الأصل براءة(4/183)
ذمته منه وإن كانت معه جارية، فادعى أنها ابنته، ففيه روايتان:
إحداهما: يقبل؛ لأن الأصل عدم الملك فيها.
والثانية: لا يقبل؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليها.
[باب ما ينتقض به عهد الذمة]
باب ما ينتقض به العهد ينتقض عهد الذمي بأحد ثلاثة أشياء: الامتناع من بذل الجزية، والامتناع من التزام أحكام الإسلام، وقتال المسلمين، سواء شرط عليهم أو لم يشرط؛ لأن الله أمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية، ويلتزموا أحكام الملة، فإذا امتنعوا من ذلك وجب قتالهم. فإذا قاتلوا فقد نقضوا العهد؛ لأن العقد يقتضي الأمان من الجانبين، والقتال ينافيه، فانتقض العهد به. فأما ما سوى ذلك فقسمان:
أحدهما: ما فيه ضرر بالمسلمين، وهو ثمانية أشياء: قتل مسلم، أو فتنه عن دينه، أو قطع الطريق عليه، أو الزنا بمسلمة أو إصابتها باسم نكاح، أو إيواء جاسوس، أو دلالة على عورات المسلمين، أو ذكر الله تعالى أو رسوله أو كتابه بسوء، ففيه روايتان:
إحداهما: ينتقض العهد به، سواء شرط أو لم يشرط، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه رفع إليه رجل أراد استكراه مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم، وأمر به، فصلب في بيت المقدس. وقيل لابن عمر: إن راهبا يشتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعط الأمان على هذا. وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر عبد الرحمن بن غنم: أن يُلْحِق في كتاب صلح الجزيرة: ومن ضرب مسلما فقد خلع عهده؛ ولأنه لم يف بمقتضى الذمة، وهو الأمن من جانبه، فانتقض عهده، كما لو قاتل المسلمين.
والثانية: لا ينتقض العهد به، ويقام عليه حد ذلك؛ لأن ما يقتضيه العهد من التزام أداء الجزية، وأحكام المسلمين، والكف عن قتالهم - باق، فوجب بقاء العهد، فأما سائر الخصال، كالتميز عن المسلمين، وترك إظهار المنكر، ونحوه، فإن لم يشترط عليهم، لم ينتقض عهدهم به؛ لأن العقد لا يقتضيها، ولا ضرر على المسلمين فيها، وإن شرطت عليهم، فظاهر كلام الخرقي أن عهدهم ينتقض بمخالفتها، لقوله: ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه، حل دمه وماله. ووجهه: أن في كتاب صلح الجزيرة لعبد الرحمن بن غنم، بعد استيفاء الشروط: وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما شرطنا على أنفسنا، وقبلنا الأمان عليه، فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل من أهل(4/184)
المعاندة والشقاق؛ ولأنه عقد بشرط، فزال بزوال شرطه، كما لو امتنع من بذل الجزية. وقال غيره من أصحابنا: لا ينتقض العهد به؛ لأنه لا ضرر على المسلمين فيه، ولا ينافي عقد الذمة، ولكنه يعزر، ويلزم ما تركه.
فصل:
ومن نقض العهد، خير الإمام فيه بين أربعة أشياء، كالأسير الحربي؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلب الذي أراد استكراه المرأة؛ ولأنه كافر لا أمان له، فأشبه الحربي. ولا ينتقض عهد نسائه وأولاده بنقضه؛ لأن النقض وجد منه دونهم، فاختص حكمه به، ولو هرب بأهله وذريته إلى دار الحرب، لم ينتقض عهد ذريته، ولم يجز سبيهم لذلك، فأما المرأة فإن هربت طائعة انتقض عهدها؛ لأن النقض وجد منها، وإن لم تكن طائعة لم ينتقض عهدها؛ لأنه لم يوجد منها. ومن ولد له بعد دخوله دار الحرب، فلا عهد له. والله تعالى أعلم.
تم، والحمد لله على تمامه، والله المسئول الزيادة من إنعامه، فرغ من تصنيفه عشية يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر صفر سنة ست وتسعين وخمسمائة بمدينة دمشق المحروسة، والله المحمود المشكور.(4/185)
[كتاب الأيمان]
لا تنعقد اليمين إلا من مختار، فأما الصبي، والمجنون، والنائم، فلا تنعقد أيمانهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ... الحديث.
وفي السكران وجهان، بناء على طلاقه. ولا تنعقد يمين المكره؛ لأنه قول أكره عليه بغير حق، فلم يصح، ككلمة الكفر. وتنعقد اليمين من الكافر، وتلزمه الكفارة بالحنث، سواء حنث في الكفر أو الإسلام؛ «لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوف بنذرك» ؛ ولأنه من أهل القسم، يصح استحلافه عند الحاكم، فانعقدت يمينه كالمسلم.
فصل:
واليمين على أربعة أضرب: يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها، وهي اليمين على مستقبل متصور، عاقدا عليه قلبه، فتوجب الكفارة، لقول الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89] .
الضرب الثاني: لغو اليمين، فلا كفارة فيه، لقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: 89] ، واللغو نوعان:
أحدهما: أن تجري اليمين على لسانه من غير قصد إليها، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يعني اللغو في اليمين هو كلام الرجل في بيته: لا والله، وبلى والله» رواه البخاري وأبو داود.(4/186)
وقال القاضي: هو أن يريد أن يقول: والله، فيجري على لسانه: لا والله، أو عكس ذلك.
والثاني: أن يحلف على شيء، يظنه كما حلف، فيتبين بخلافه. وعنه: في هذا النوع الكفارة؛ لأن ظاهر حديث عائشة حصر اللغو في النوع الأول، وظاهر المذهب الأول؛ لأن هذا يمين على ماض فلم يوجب الكفارة، كالغموس.
الضرب الثالث: يمين الغموس، وهي التي يحلفها كاذبا، عالما بكذبه، فلا كفارة فيها في ظاهر المذهب؛ لأنها يمين غير منعقدة لا توجب برا، ولا يمكن فيها فلم توجب كفارة، كاللغو. وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خمس من الكبائر لا كفارة لهن» ، ذكر منهن: «الحلف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مسلم» .
وعن أحمد: أن الكفارة تجب فيها؛ لأنه حالف مخالف مع القصد، فلزمته الكفارة كالحالف على مستقبل.
الضرب الرابع: أن يحلف على مستحيل، كصوم أمس، والجمع بين الضدين، وشرب ماء إناء لا ماء فيه، فلا كفارة فيها؛ لأنها غير منعقدة، لعدم تصور البر فيها، كيمين الغموس. وقال القاضي: قياس المذهب أن تجب فيها الكفارة؛ لأنها يمين على مستقبل. وإن حلف على مستحيل عادة، كإحياء الميت، وقلب الأعيان، فقال القاضي وأبو الخطاب: فيها كفارة؛ لأنه متوهم التصور. وقياس المذهب أنها كالتي قبلها؛ لأنها لا توجب برا، ولا يمكن فيها.
فصل:
فإن استثنى عقيب يمينه، فقال: إن شاء الله، لم يحنث، لما روى عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: من حلف فقال إن شاء الله - لم يحنث» ، رواه أبو داود؛ لأنه علق المحلوف عليه بشرط يلزم من وجوده وجوده، ومن عدمه عدمه، فلم يتصور الحنث فيها. ويشترط أن يكون متصلا باليمين، ولا يفصل بينهما بكلام أجنبي، ولا سكوت يمكن الكلام فيه؛ لأن الاستثناء من تمام الكلام، فاعتبر اتصاله به كالشرط وخبر المبتدأ. وعنه: يجوز الاستثناء ما لم يطل الفصل، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لأغزون قريشا، ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله» رواه أبو داود.(4/187)
وقال بعض أصحابنا: يجوز الاستثناء ما دام في المجلس، واشترط القاضي أن يقصد الاستثناء، فإن سبق لسانه إليه من غير قصد كالعادة، لم يصح الاستثناء؛ لأن اليمين يعتبر لها القصد، فكذلك ما يرفع حكمها، ولا ينفعه الاستثناء بقلبه حتى يقول بلسانه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن شاء الله فعلقه بالقول؛ ولأن اليمين لا تنعقد بالنية، فكذلك الاستثناء، إلا أن أحمد قال: إن كان مظلوما، فاستثنى في نفسه، رجوت أن يجوز إذا حلف على نفسه، وذلك لأنه بمنزلة التأويل، يجوز للمظلوم دون غيره.
فصل:
ولا تنعقد اليمين إلا باسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته، لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحف بالله، أو ليصمت» متفق عليه. وعن ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حلف بغير الله فقد أشرك» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
فلو حلف بالكعبة أو بنبي، أو عرش، أو كرسي، أو غير ذلك، لم تنعقد يمينه.
وعنه: من حلف بحق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فحنث، فعليه الكفارة؛ لأنه أحد شرطي الشهادة، فأشبه الحلف باسم الله، والأول أولى، لدخوله في عموم الأحاديث وشبهه، كسائر الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -.
فصل:
وأسماء الله ثلاثة أقسام:
أحدها: ما لا يشارك الله تعالى فيه غيره، نحو: الله، والرحمن، ومالك يوم الدين، ورب العالمين، والحي الذي لا يموت، فالحلف بها يمين بكل حال.
الثاني: ما يسمى به غير الله، وإطلاقه ينصرف إليه، كالملك، والجبار والسلطان والرحيم، والقادر، فهذا إن نوى اليمين، أو أطلق، كان يمينا؛ لأنه بإطلاقه ينصرف إليه، وإن نوى به غير الله، لم يكن يمينا؛ لأنه نوى ما يحتمله، مما لو صرح به لم يكن يمينا. قال طلحة العاقولي: إذا قال: والخالق والرزاق والرب، كان يمينا بكل حال؛ لأنها لا تستعمل مع لام التعريف، إلا في اسم الله تعالى، فأشبهت القسم الأول.
الثالث: ما لا ينصرف بالإطلاق إلى اسم الله تعالى، كالحي، والعالم، والموجود، والمؤمن، والكريم. فهذا إن أطلق لم يكن يمينا؛ لأنه لا ينصرف مع الإطلاق إليه، وإن قصد باليمين اسم الله، كان يمينا. وقال القاضي: لا يكون يمينا،(4/188)
لأن اليمين إنما تنعقد لحرمة الاسم، ومع الاشتراك لا حرمة له، والأول أصح؛ لأنه أقسم بالله قاصدا للحلف به، فكان يمينا كالذي قبله.
فصل:
وصفات الله تعالى تنقسم قسمين:
أحدهما: ما هو صفة لذات الله تعالى لا يحتمل غيرها، كعظمة الله، وعزته، وجلاله، وكبريائه، فالقسم بها يمين منعقدة؛ لأنها صفة من صفات ذات الله لم يزل موصوفا بها، أشبهت أسماءه.
والثاني: ما هو صفة حقيقية، ويعبر به عن غير ذلك مجازا، كعلم الله وقدرته، فإن أطلق كان يمينا، فإن نوى بعلم الله معلومه، وبقدرته مقدوره، فالمنصوص عن أحمد أنه يمين؛ لأنه موضوع لليمين، فلا يقبل منه غيره، ويحتمل أن لا يكون يمينا؛ لأنه نوى بكلامه ما يحتمله مما ليس بيمين، فأشبه القسم بالقادر. وإن أقسم بحق الله، كان يمينا؛ لأنه إذا اقترن به عرف الاستعمال باليمين، انصرف إلى ما يستحقه لنفسه من العظمة والكبرياء، فأشبه قدرة الله. وإن قال: لعمر الله، كان يمينا؛ لأنه أقسم بصفة من صفات الله، فهو كالحالف ببقاء الله. ويقال: الْعَمْرُ وَالْعُمُرُ وَاحِدٌ، فهو قسم ببقاء الله. وقد ثبت لها عرف الاستعمال. قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] .
وقال النابغة:
فلا لعمر الذي قد زرته حججا ... وما هريق على الأنصاب من جسد
وإن قال: وايم الله، أو وايمن الله، فهو يمين، كما ذكرنا في الذي قبله، وإن حلف بالقرآن، أو بكلام الله، فهي يمين منعقدة؛ لأن كلام الله صفة من صفاته، والقرآن هو كلام الله. وإن حلف بسورة منه، فهي يمين؛ لأنها من القرآن، وكذلك إن حلف بالمصحف؛ لأن القرآن فيه. قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] .
وإن حلف بعهد الله، أو ميثاقه، أو أمانته، فهو يمين؛ لأنه يحتمل كلام الله الذي أمرنا به ونهانا، كقول تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} [يس: 60] ، وقرينة الاستعمال صارفة إليه. وإن قال: والعهد والميثاق والأمانة، ونوى ذلك كان يمينا. وإن أطلق ففيه روايتان:(4/189)
إحداهما: يكون يمينا كذلك؛ ولأن اللام إن كانت للتعريف، صرفته إلى عهد الله وميثاقه، وإن كانت للاستغراق، دخل ذلك فيه.
والثانية: لا كفارة فيه؛ لأنه يحتمل غير ما تجب به الكفارة.
فصل:
وحروف القسم ثلاثة: الباء وهي الأصل تدخل على المُظهَر والمضمر، والواو وهي بدل منها، تدخل على المظهر وحده، والتاء وهي بدل من الواو. وتدخل على اسم الله تعالى وحده، فبأيها أقسم كان قسما صحيحا. وإن أقسم بغير حرف، فقال: الله لأقومن، بالنصب، أو الجر - كان صحيحا؛ لأنه لغة صحيحة. وقد ورد به عرف الاستعمال في الشرع. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لركانة بن عبد يزيد: «الله ما أردت إلا واحدة، قال: الله ما أردت إلا واحدة» . فإن قال: الله - بالرفع - لأقومن، ونوى اليمين، كان يمينا مع لحنه، وإن لم يرد اليمين لم يكن يمينا؛ لأنه لم يأت بالموضوع، ولا قصده. وقال أبو الخطاب: يكون يمينا، إلا أن يكون من أهل العربية. وإن قال: لاها الله، ونوى اليمين، كان يمينا؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في سلب قتيل أبي قتادة: لاها الله، إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله وعن رسوله، فيعطيك سلبه، وإن قال: أشهد بالله، أو أقسم بالله أو أحلف بالله، أو أقسمت بالله، أو شهدت بالله، ونوى اليمين، أو أطلق، كان يمينا؛ لأنه قد ثبت له عرف الشرع والاستعمال. فإن قصد بذلك الخبر عما يفعله ثانيا، أو عما فعله ماضيا، لم يكن يمينا. وكذلك القول في: أعزم بالله، وعزمت بالله، في ظاهر كلام الخرقي. وقال أبو بكر: إن أطلق، لم يكن يمينا؛ لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا الاستعمال. وإن قال: قسما بالله، أو ألية بالله، فهو يمين؛ لأن تقديره: أقسمت قسما، وآليت ألية. فإن قال: أقسمت، أو آليت، أو حلفت، أو شهدت لأفعلن، ونوى اليمين بالله - فهو يمين؛ لأنه نوى ما يحتمله مما هو يمين. وإن أطلق، ففيه روايتان:
إحداهما: هو يمين؛ لأنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال، «فإن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تقسم يا أبا بكر» .
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو:
آليت لا تنفك عيني حزينة ... عليك ولا ينفك جلدي أغبرا(4/190)
والثانية: تنعقد اليمين؛ لأنه يحتمل القسم بغير اسم الله تعالى. وإن قال: حلفت بالله وأراد الخبر، لم يكن يمينا، اختاره أبو بكر. وعنه: عليه الكفارة لإقراره على نفسه، والأول المذهب؛ لأنه حكم بينه وبين الله تعالى، فلا يلزمه ما لم يوجد سببه. وإن قال: عليّ يمين، فكذلك. فإن أراد عقد اليمين، لم يكن يمينا؛ لأنه لم يأت باسم الله، ولا صفته، فلم يكن يمينا، كسائر الكلام.
فصل:
ويجاب القسم بأحرف خمسة: إن، واللام في الإيجاب، كقول الله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] ، وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] ، و"ما" و"لا" و"إن" الخفيفة في النفي كقول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ} [الضحى: 3] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [النحل: 38] ، وقوله سبحانه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62] ، وتحذف "لا" وهي مرادة، كقول الله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [يوسف: 85] . وقال امرؤ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
أي: لا أبرح. فإن قال: بالله صل لم تنعقد يمينه؛ لأنه لم يجبه بجواب القسم، وإن قال: تالله لتفعلن، انعقدت يمينه، والكفارة على الحالف؛ لأنه الحانث.
فصل:
وإن حرم على نفسه شيئا، وقال: ما أحل الله علي حرام، فهي يمين. سواء أطلق ذلك، أو علقه على شرط، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله تعلى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] يعني: التكفير. قالت عائشة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمكث عند زينب، ويشرب عندها عسلا، فتواطأت أنا وحفصة أيتنا دخل عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحدانا، فقالت ذلك، فقال: لا، بل شربت عسلا ولن أعود له، فنزلت: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] » . متفق عليه.(4/191)
وإن حرم أمته، أو أم ولده، فهو كتحريم ماله؛ لأنها مال له. وقد قال الحسن: إن الآية نزلت في تحريم مارية القبطية.
فصل:
وإن حلف بالخروج من الإسلام، فقال: هو بريء من الإسلام، أو كافر، أو يهودي، إن فعل - أثم؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من حلف بملة غير الإسلام كاذبا متعمدا، فهو كما قال.» متفق عليه.
وفي لفظ: «من حلف أنه بريء من الإسلام، فإن كان قد كذب، فهو كما قال، وإن كان صادقا لم يرجع إلى الإسلام سالما» .
وهل تنعقد يمينه موجبة للكفارة؟
فيه روايتان:
إحداهما: تنعقد، لما روى أبو بكر بإسناده عن زيد بن ثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن الرجل يقول: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء، قال: عليه كفارة يمين» .
والثانية: لا كفارة عليه؛ لأنه لم يحلف باسم الله، ولا صفته، فأشبه الحالف بمحو المصحف.
وإن حلف باستحلال الزنا والخمر، أو ترك الصلاة، أو الصيام، فهو كالحالف بالكفر؛ لأن ذلك كفر. وإن حلف بمحو المصحف، وقتل النفس التي حرم الله ومعصيته في كل ما أمر، أو لعن نفسه، فلا كفارة فيه، نص عليه؛ لأنه لا يوجب الكفر. وإن قال: لا يراني الله في موضع كذا، فذكر القاضي: أن أحمد نص على أنه موجب للكفارة.
فصل:
وإن حلف رجل، فقال آخر: يميني في يمينك، يريد أنه يلزمني من اليمين ما يلزمك، لم تنعقد يمينه؛ لأن اليمين بالله لا تنعقد بالكناية؛ لأن تعلق الكفارة بها لحرمة اللفظ، ولا يوجد في الكناية. وإن كان ذلك في الطلاق، انعقدت يمينه؛ لأن الطلاق ينعقد بالكناية. وإن قال: أيمان البيعة تلزمني ولا يعرفها، أو لا نية له، لم يلزمه حكمها؛ لأن هذا كناية، فيعتبر له النية. ولا تصح النية لما لا يعرفه. وإن عرفها، ونوى التزام ما فيها، انعقدت يمينه بالطلاق، والعتاق؛ لأن اليمين بها تنعقد بالكناية، ولم تنعقد باليمين بالله؛ لأنها لا تنعقد بالكناية.(4/192)
وأيمان البيعة أيمان رتبها الحجاج، تشتمل على اليمين بالله تعالى والعتاق، والطلاق، والحج، وصدقة المال، يستحلف بها الناس عند عقد البيعة.
فصل:
والحالف مخير في يمينه بين البر، وبين التكفير. ولا يحرم المحلوف عليه بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» .
وإن فعل المحلوف عليه ناسياً، أو مكرهاً، لم يحنث، لقول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه والدارقطني؛ ولأنه غير قاصد للمخالفة، فلم يحنث، كالنائم.
وعنه: أنه يحنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه قاصداً لفعله، أشبه غير الناسي. وإن فعله جاهلاً، كرجل حلف لا يكلم فلاناً، فكلمه يظنه غيره، أو سلم على جماعة هو فيهم ولم يعلم به، أو حلف لا يفارقه حتى يقضيه حقه. فأعطاه قدر حقه، ففارقه، فوجده رديئاً، ففيه روايتان، كالناسي؛ لأنه غير قاصد للمخالفة. ومن حلف على غيره، ألا يفعل وكان المحلوف عليه ممن يمتنع بيمينه، فهو في الجهل والنسيان، كالحالف. وإن كان ممن لا يمتنع بيمينه، كالسلطان، والحاج، استوى في الحنث العلم والجهل والنسيان؛ لأنه مما لا يؤثر اليمين في امتناعه، فأشبه تعليق الطلاق بطلوع الشمس.
[باب كفارة اليمين]
ومن حلف، فهو مخير في التكفير قبل الحنث أو بعده، سواء كانت الكفارة صوماً أو غيره، لما روى عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عبد الرحمن بن سمرة، إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» متفق عليه. وفي لفظ: «ثم ائت الذي هو خير» رواه أبو داود؛ لأنه كفر بعد سببه، فجاز ككفارة الظهار، والقتل بعد الجرح.(4/193)
فصل:
وهو مخير في أن يطعم عشرة مساكين أو يكسوهم، أو يعتق رقبة. فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، لقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] . وقد شرحنا العتق والإطعام في كفارة الظهار.
فأما الكسوة، فلا يجزئه أقل من كسوة عشرة مساكين، للآية. وتقدر الكسوة بما يجزئ في الصلاة، وهو ثوب للرجل، وللمرأة درع وخمار يستر جميعها. ولا يجزئ السراويل، ولا إزار وحده؛ لأن التكفير عبادة تعتبر فيها الكسوة، فأشبهت الصلاة. وتجزئه كسوتهم من القطن والكتان والصوف، وسائر ما يسمى كسوة؛ لأن الله تعالى لم يعين جنسها، فوجب أن لا يتعين. وتجوز كسوتهم من الجديد واللبيس، إلا أن يكون مما ذهبت منفعته باللبس، فلا يجزئ؛ لأن ذلك معيب، فأشبه الحب المعيب. وإن كسا بعض المساكين من جنس وباقيهم من جنس آخر، أو أطعمهم من جنس، جاز؛ لأنه قد أطعم وكسا عشرة، فجاز، كما لو كان من جنس واحد. وإن أطعم بعضهم، وكسا باقيهم، جاز؛ لأنه أخرج من جنس المنصوص عليه بعدة العدد الواجب، فأجزأ، كما لو أخرجه من جنس واحد؛ ولأن كل واحد من النوعين يقوم مقام صاحبه في جميع العدد، فقام مقامه في بعضه كالتيمم مع الماء. وإن أعتق نصف عبد. وأطعم خمسة مساكين، أو كساهم، لم يجزئه؛ لأن مقصودهما مختلف متباعد، فلم يكمل أحدهما بصاحبه، كالإطعام والصيام. ويشترط التتابع في صوم الأيام الثلاثة، وعنه: لا يشترط؛ لأن الأمر بها مطلق، فلم يجز تقييده بغير دليل، فظاهر المذهب الأول؛ لأن في قراءة أبي وابن مسعود (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) فالظاهر أنهما سمعاه من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيكون خبراً.
فصل:
وإن حلف العبد أجزأه الصيام؛ لأن ذلك فرض الحر المعسر، وهو أحسن من العبد حالاً، وإذا أذن له سيده في التكفير بالمال، لم يلزمه؛ لأنه غير مالك له. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يجزئه غير الصيام. وقال غيره: فيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه إلا الصيام؛ لأنه لا يملك المال، فلم يجز له التكفير به، كالحر يكفر بمال غيره.(4/194)
والثانية: له التكفير بالمال إذا أذن له سيده فيه. وملكه قدر ما يكفر به؛ لأنه قدر على التكفير بالمال، فصح تكفيره به، كالمعسر يملك ما يكفر به، فعلى هذا له التكفير بالإطعام. وهل له التكفير بالعتق؟ على روايتين:
إحداهما: له ذلك؛ لأنه من صح تكفيره بالإطعام، صح تكفيره بالعتق، كالحر.
والثانية: لا يجوز؛ لأن العتق يقتضي الولاية والإرث، وليس ذلك للعبد. فإن قلنا: يجوز، فأذن له في إعتاق نفسه عن كفارته، ففعل، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز؛ لأنها رقبة تجزئ عن غيره. فأجزأت عنه كغيره.
والثاني: لا تجزئه؛ لأنه لا يملك نفسه، فلا يجزئه التكفير بها، كما لو لم يؤذن له؛ ولأن الكفارة عنه، لم يجز صرفها إلى نفسه، كالحر. فأما إن أذن في العتق مطلقاً، لم يجز أن يعتق نفسه، كما لو وكل غريماً في إبراء بعض غرمائه، لم يملك إبراء نفسه. وقال أبو بكر: فيه وجه آخر أنه يجزئه. فإن حنث وهو عبد، فعتق، فقال الخرقي: لا يجزئه غير الصيام؛ لأنه حين الوجوب لا يجزئه غيره؛ ولأنه حكم تعلق بالعبد، فلم يتغير بحريته كالحد. ومن جعل للعبد التكفير بالمال في حال رقه، فهنا أولى. ومن اعتبر أغلظ الأحوال وكان موسراً، لم يجز له التكفير بغير المال.
فصل:
ومن حلف أيماناً كثيرة على شيء واحد، فحنث، لم يلزمه أكثر من كفارة؛ لأنها أسباب كفارات من جنس، فتداخلت، كالحدود. وإن حلف يميناً واحدة على أفعال مختلفة، فحنث في الجميع، أجزأه كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة، فلم يحنث بها أكثر من كفارة، كما لو حلف على فعل واحد. وإن حنث بفعل واحد، انحلت يمينه في الباقي. وإن حلف أيماناً على أفعال فقال: والله لا أكلت، والله لا شربت، والله لا لبست، ففيه روايتان:
إحداهما: يجزئه عن الجميع كفارة واحدة، اختارها أبو بكر والقاضي؛ لأنها كفارات من جنس واحد، فتداخلت، كالحدود.
والثانية: يجب في كل يمين كفارة، وهو ظاهر قول الخرقي؛ لأنها أيمان لا يحنث في إحداهن بالحنث في الأخرى، فوجبت في كل يمين كفارتها، كالمختلفة الكفارة. قال أبو بكر: المذهب الأول، وقد رجع أحمد عن الرواية الأخرى. ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفي الكفارة، كالظهار واليمين بالله، لزمته في كل يمين كفارتها؛ لأنها أجناس، فلم تتداخل، كالحدود من أجناس.(4/195)
فصل: ومن حلف بالقرآن، فحنث، فقياس المذهب أن عليه كفارة واحدة؛ لأن الحلف بصفات الله تعالى وتكرر اليمين بها، لا يوجب أكثر من كفارة واحدة، فهذا أولى. والمنصوص عنه أن عليه بكل آية كفارة؛ لأن ابن مسعود قال ذلك. قال أحمد: ما أعلم شيئاً يدفعه. ويحتمل أن ذلك ندب غير واجب؛ لأنه قال: عليه بكل آية كفارة يمين، فإن لم يمكنه، فعليه كفارة يمين. ورده إلى كفارة واحدة عند العجز، دليل على أن الزائد عليها غير واجب؛ إذ لو وجب، لم يسقط بالعجز، كالواحدة.
[باب جامع الأيمان]
ومبنى الأيمان على النية، فمتى نوى بيمينه ما يحتمله، تعلقت يمينه بما نواه، دون ما لفظ به، سواء نوى ظاهر اللفظ أو مجازه، مثل أن ينوي موضوع اللفظ، أو الخاص بالعام، أو العام بالخاص، أو غير ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» فتدخل فيه الأيمان؛ ولأن كلام الشارع يصرف إلى ما دل الدليل على أنه أراده دون ظاهر اللفظ، فكلام المتكلم مع اطلاعه على تعين إرادته أولى. فلو حلف ليأكلن لحماً أو فاكهة، أو ليشربن ماء، أو ليكلمن رجلاً، أو ليدخلن داراً، أو لا يفعل ذلك، وأراد بيمينه معيناً، تعلقت يمينه به دون غيره، وإن نوى الفعل أو الترك في وقت بعينه، اختص بما نواه. وإن حلف لا يشرب له الماء من العطش، يريد قطع منته، تناولت يمينه كل ما يمتن به؛ لأن ذلك للتنبيه على ما هو أعلى منه، كقول الله تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا} [النساء: 77] . يريد: ولا تظلمون شيئاً. وقال الشاعر:
ولا يظلمون الناس حبة خردل
وإن حلف: لا يلبس شيئاً من غزلها، يريد قطع منتها، فباعه وانتفع بثمنه، حنث، ولا يتعدى الحكم إلى كل ما فيه منة؛ لأن لكونه من غزلها أثراً في داعية اليمين، فلم يجز حذفه. وإن حلف: لا يأوي معها في دار، ينوي جفاءها، ولم يكن للدار أثر في القصد، فأوى معها في غيرها، حنث، ولا يحنث بصلتها بغير الإيواء؛ لأن له أثراً فلا يحذف. وإن قال: إن رأيتك تدخلين الدار، فأنت طالق، يقصد منعها الدخول بالكلية، حنث بدخولها وإن لم يرها، وإن لم يرد ذلك، لم يحنث حتى يراها تدخل اتباعاً للفظه. وإن حلف: ليقضينه حقه في غد، يريد ألا يتجاوزه بالقضاء، فقضاه قبله، لم(4/196)
يحنث. وإن حلف: لا يبيع ثوبه بمائة. يريد ألا ينقصه، فباعه بأقل، حنث. وإن حلف: لا يتزوج، حنث بالعقد الصحيح. وإن حلف: ليتزوجن، بر بذلك، إلا أن يقصد بيمينه غيظ زوجته، أو يكون سبب يمينه يقتضي ذلك، فلا يبر إلا بتزويج يغيظها. فإن واطأها على التزوج والطلاق قبل الدخول، ليحل يمينه، أو يتزوج من لا يغيظها تزوجها، لم يبر. وقال أصحابنا فيمن حلف: ليتزوجن على امرأته، لا يبر حتى يتزوج نظيرتها، ويدخل بها، والصحيح أن هذا لا يعتبر؛ لأن غيظها يحصل بدونه.
فصل:
وإن تأول الظالم في يمينه، لم ينفعه تأويله، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» . رواه مسلم وأبو داود؛ ولأنه لو ساغ له التأويل لبطل المعنى المبتغى باليمين، وهو تعريف الحالف ليرتدع عن جحوده، خوفاً من عاقبة اليمين الكاذبة. وإن كان مظلوماً، فله تأويله، نص عليه أحمد في رجل له امرأتان، اسم كل واحدة فاطمة، فماتت إحداهما: فحلف بطلاق فاطمة ينوي الميتة، إن كان المستحلف ظالماً، فالنية نية صاحب الطلاق، وإن كان الحالف ظالماً، فالنية نية الذي أحلفه، لما روى أبو داود بإسناده عن سويد بن حنظلة قال: «خرجنا نريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت: أنه أخي، فخلى سبيله، فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرنا ذلك له، فقال: أنت كنت أبرهم وأصدقهم، المسلم أخو المسلم» ؛ ولأنه نوى بكلامه ما يحتمله على وجه لا يبطل حق أحد، فجاز كما لو عنى به الظاهر. وإن لم يكن ظالماً، ولا مظلوماً، فظاهر كلام أحمد: أن له تأويله كذلك، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» . وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمزح ولا يقول إلا حقاً. وقال لرجل: «إنا حاملوك على ابن ناقة. فقال الرجل: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال: وهل تلد الإبل إلا النوق» . رواه أبو داود.
وقال بعض أهل العلم: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف، يعني: التأويل.
فصل:
ومن لم تكن له نية، وكان ليمينه سبب هيجها، يقتضي معنى أعم من اللفظ، مثل من امتنت عليه زوجته، فحلف لا يشرب لها الماء من العطش، أو لا يلبس ثوباً من(4/197)
غزلها، أو حلف: لا يأوي معها في دار، لسبب يقتضي جفاءها، فحكمه حكم القاصد كذلك؛ لأن السبب دليل على النية والقصد، فقام مقامه. وإن كان اللفظ أعم من السبب، كرجل امتنت عليه زوجته ببيتها، فحلف لا يسكن بيتاً، أو دعاه إنسان إلى غداء، فحلف لا يتغدى، ففيه وجهان:
أحدهما: يحمل اللفظ على عمومه؛ لأن كلام الشارع إذا ورد على سبب خاص، حمل على عمومه، ولم يختص محل سببه، فكذلك اليمين.
والثاني: يختص بمحل السبب؛ لأن قرينة حاله دالة على إرادة الخاص، أشبه ما لو نواه؛ ولأننا أقمنا السبب مقام النية في التعميم، فكذلك في التخصيص. ولو حلف على شيء لسبب فزال، مثل من حلف لا يدخل بلداً، لظلم فيه، فزال، ثم دخله، فقال القاضي: يحنث. وذكر أن أحمد نص عليه. وإن حلف على زوجته أو عبده: ألا يخرجها إلا بإذنه، فخرجا عن ملكه، فقال القاضي: تنحل يمينه؛ لأن قرينة الحال تقتضي تخصيصهما بحالة الملك، فأشبه ما لو صرح به، فيخرج في هذه المسألة، وفي التي قبلها وجهان، قياساً لكل واحدة منهما على صاحبتها. وإن حلف لعامل: لا يخرج إلا بإذنه، فعزل، أو حلف: لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي فلان، فعزل، وأشباه هذا، ففيه وجهان كذلك. فإن قلنا: لا تنحل اليمين بعزله، فرفعه إليه بعد عزله، بر. وإن قلنا: تنحل بذلك، فرأى منكراً في ولايته وأمكنه رفعه إليه، فلم يرفعه إليه حتى عزل، ثم رفعه إليه، لم يبر.
فصل:
فإن عدم ذلك، تعلقت يمينه بما عينه، فمتى حلف لا أكلت هذا الرطب، أو هذا العنب، فصار دبساً، أو خلاً، أو ناطفاً، أو: لا أكلت هذا الحمل، فصار كبشاً، أو: لا أكلت هذا البر، فصار دقيقاً أو خبزاً أو هريسة، أو ما تولد من المحلوف عليه، فأكل منه، حنث، وإن حلف: لا كلمت هذا الصبي، فصار شيخاً، فكلمه، أو: لا دخلت هذه الدار، فصارت فضاء، أو مسجداً، أو حماماً، فدخلها، أو: لا لبست هذا الرداء، فلبسه قميصاً، أو سراويل، أو اعتم به، أو: لا ركبت هذه السفينة، فنقضت، ثم أعيدت وركبها، أو: لا كلمت زوجة فلان هذه، ولا عبده هذا، أو: لا دخلت داره هذه، أو: لا كلمت بكراً عند زيد، ولا هنداً زوجته، أو: لا كلمت زيداً سيد بكر، أو زوج هند، أو زيداً صديق سعد، فزال ملكه عنهن، وفعل ما حلف عليه، حنث؛ لأن عين المحلوف عليه باقية، فحنث به، كما لو حلف: لا أكلت هذا الكبش، فذبحه، وأكل من لحمه، ويحتمل أن لا يحنث في هذا كله. وإن استحالت العين، مثل أن حلف على(4/198)
هذا البر، فصار زرعاً، أو بيضة، فصارت فرخاً، أو على خمر، فصار خلاً، لم يحنث؛ لأن الأعيان استحالت، فزال حكم اليمين، ومتى كانت نية الحالف على شيء مقيد بصفة، تقيدت يمينه بذلك. ومتى حلف: لا يدخل دار فلان، ولا يكلم عبده ولا زوجته، ولا يركب دابته، وقصد معيناً، تعلقت اليمين بعينه، سواء بقي لفلان، أو انتفل عنه، ولا تتناول يمينه غير تلك الدار والعبد والدابة والزوجة؛ لأنه تعين بنيته. وإن لم يعين حنث بكلام كل عبد وزوجة له، ودخول كل دار مضافة إليه بملك أو إجارة أو سكنى؛ لأن الدار تضاف إلى ساكنها. قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . يريد: بيوت أزواجهن التي تسكنها. ولا يحنث بكلام عبد زال عنه ملك فلان، ولا دار. ولو حلف: لا يدخل دار عبد فلان، ولا يركب دابته، ولا يلبس ثوبه، فركب، أو لبس، أو سكن، أو ركب ما جعل برسمه، حنث، لما ذكرنا؛ ولأن إضافة الملكية هنا غير متحققة، فتعين صرفها إلى غير الملكية.
فصل:
وإن عدم التعيين، تعلقت يمينه بما تناوله الاسم، والأسماء ثلاثة أقسام:
أحدها: الأسماء العرفية، وهي أسماء اشتهر في العرف استعمالها في غير موضوعها، وهي أربعة أنواع:
أحدها: ما صارت الحقيقة فيه مغمورة، لا يعرفها أكثر الناس، كالراوية: للمزادة، وحقيقتها: البعير الذي يسقى عليه. والغائط والعذرة: للفضلة المستقذرة. وحقيقة الغائط: المكان المطمئن. والعذرة: فناء الدار. فهذا تنصرف اليمين عليه إلى الاسم العرفي دون الحقيقي؛ لأنه يعلم أنه لا يريد غيره، فصار كالمصرح به، ولو حلف: لا يأكل شواء، اختصت يمينه اللحم المشوي، دون المشوي من البيض وغيره، لاختصاص الشوي باللحم المشوي، دون غيره. وإن حلف على الدابة، لم تتناول يمينه آدمياً، ولا ما لا يسمى دابة في العرف، وإن حلف: لا استظل بسقف، لم تتناول يمينه السماء، وإن كان الله تعالى قد قال: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] . ولو حلف على السراج، لم يتناول الشمس، لعدم تسميتها عرفاً. وإن اختلف أهل بلدين في تسمية عين، انصرفت يمين الحالف إلى تسمية أهل بلده؛ لأنه لا يريد غيره، فأشبه ما لو اختلفت اللغات.
النوع الثاني: ما يزيل الاسم عن الحقيقي، مثل اسم اللحم، يتناول في الحقيقة(4/199)
لحم السمك. قال الله تعالى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] ولا يفهم ذلك عند إطلاق الاسم، فذكر الخرقي أنه إذا حلف: لا يأكل لحماً، فأكل من لحم السمك، حنث لأن الله تعالى سماه لحماً؛ ولأنه لحم حيوان، فأشبه لحم الطير. وقال ابن أبي موسى: لا يدخل إلا أن ينويه؛ لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم، أشبه الجراد؛ ولأن الظاهر أن الحالف لم يرده بيمينه، فأشبه النوع الذي قبله. وإن حلف: لا يدخل بيتاً، فنص أحمد على أن يمينه تتناول المسجد والحمام؛ لأن الله سمى المساجد بيوتاً، فقال سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] . وفي الأثر: «بئس البيت الحمام» . وإذا كان بيتاً في الحقيقة، ويسميه الشارع، حنث بدخوله كغيره، ويحتمل ألا يحنث؛ لأنه لا يسمى في العرف بيتاً، أشبه النوع الأول. ويدخل في يمينه بيت الشعر والمدر؛ لأنه بيت حقيقة وعرفاً، ولا تدخل فيه الخيمة؛ لأنها لا تسمى بيتاً، ولا يدخل الدهليز، ولا الصفة، ولا صحن الدار كذلك. وإن حلف على الريحان، فقال القاضي. تختص يمينه الريحان الفارسي؛ لأنه المسمى عرفاً. وقال أبو الخطاب. تتناول كل نبت أو زهر طيب الريح، كالورد، والبنفسج، والنرجس، والمرزنجوش، ونحوه؛ لأنه يتناول اسم الريحان حقيقة. ولو حلف: لا يشم ورداً، ولا بنفسجاً، حنث بشمهما، رطبين كانا أو يابسين. فإن شم دهنهما، لم يحنث عند القاضي؛ لأنه لم يشمهما، ويحنث عند أبي الخطاب؛ لأن الشم إنما هو للرائحة، وريحهما في دهنهما. وإن حلف: لا يشتريهما، فاشترى دهنهما، لم يحنث وجهاً واحداً.
النوع الثالث: ما يتناوله الاسم حقيقة وعرفاً، لكن أضاف إليه فعلاً لم تجر العادة بإضافته إلا إلى بعضه، ففيه وجهان:
أحدهما: يتناول الاسم جميع المسمى، لعموم الاسم فيه.
والثاني: يختص بما جرت العادة بإضافة الفعل إليه؛ لأن هذا قرينة دالة على اختصاصه بالإرادة، فأشبه ما لو خصه بنيته. فإذا حلف: لا يأكل رأساً، فقال القاضي: يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم، والطير، والصيد، والحيتان، والجراد، لعموم الاسم فيه حقيقة وعرفاً، فأشبه ما لو حلف: لا يشرب ماء، فإنه يحنث بشرب الماء الملح، والماء النجس. ومن حلف: لا يأكل خبزاً، حنث بأكل خبز الذرة والدخن، وإن لم تجر عادة أهل بلد الحالف بأكله. ولو حلف: لا يأكل لحماً، تناول يمينه لكل اللحم المحرم. وقال أبو الخطاب: لا يحنث بأكل رأس لم تجر العادة بأكله منفرداً لأنه(4/200)
لا ينصرف إليه اللفظ عرفاً فلم يحنث بأكله، كما لو حلف: لا يأكل شواء، فأكل بيضاً مشوياً، وإن حلف: لا يأكل بيضاً، فعند القاضي: يحنث بأكل بيض كل حيوان، وعند أبي الخطاب: لا يحنث بأكل بيض لا يزايل بائضه في حياته، كبيض السمك والجراد.
النوع الرابع: أسماء يقصد بها في الغالب معنى، فإذا أطلقها في اليمين، تعلقت يمينه بما يحصل ذلك المعنى. فإذا حلف: لا يضربه، فخنقه، أو نتف شعره، أو عصر ساقه، حنث؛ لأنه يقصد ترك تأليمه. وإن حلف ليضربنه، بر بفعل ذلك؛ لأنه يحصل مقصوده، ويسمى ضرباً. وإن ضربه بعد موته، لم يبر؛ لأنه لا يحصل مقصوده، وإن حلف: لا وطئت مدينة كذا راكباً، حنث؛ لأن ذلك يراد به اجتنابها.
فصل:
القسم الثاني: الأسماء الشرعية، وهي التي لها موضوع شرعي، كالوضوء، والطهارة، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، والبيع. فتعلق اليمين بالموضوع الشرعي؛ لأنه الظاهر. وتعلق اليمين بالصحيح منه دون الفاسد؛ لأنه المشروع. وقال ابن أبي موسى: من حلف لا يتزوج، لم يحنث إلا بتزويج صحيح. ومن حلف لا يشتري، فاشترى شراء فاسداً، ففيه روايتان. وإن تزوج تزويجاً مختلفاً فيه، أو اشترى شراء مختلفاً فيه، حنث؛ لأنه يطلق عليه الاسم. وقال أبو الخطاب: إن باع وقت النداء، أو تزوج بغير ولي، ففيه وجهان. وإن حلف: لا يبيع خمراً ولا حراً، حنث بفعل ذلك؛ لأنه يتعذر حمل يمينه على عقد صحيح، فيتعين الفاسد محملاً لها، ويحتمل أن لا يحنث؛ لأنه ليس ببيع في الشرع. وإن حلف: ليصلين وليصومن، فأقل ذلك صوم يوم، وصلاة ركعتين، كما لو نذر ذلك، وإن حلف: لا يصلي، ولا يصوم، فكذلك عند أبي الخطاب؛ لأن ما دونه لا يبر به، فلا يحنث بفعله، كغيره من الأفعال. وقال القاضي: يحنث بابتدائهما؛ لأنه يسمى مصلياً، وصائماً. ويحتمل أن يخرج هذا على الروايتين فيمن حلف لا يفعل شيئاً، ففعل بعضه. وإن حلف: لا يبيع، لم يحنث، حتى ينعقد البيع بالإيجاب والقبول. وإن حلف: لا يهبه. أو لا يعيره، فأوجب ذلك، فلم يقبل الآخر، حنث؛ لأن المقصود من الهبة فعل الواهب، لعدم العوض فيها، بخلاف البيع. فإن مقصود البائع لا يتم إلا بالقبول. وإن حلف: لا يتصدق عليه، فوهبه، لم يحنث؛ لأن الصدقة تختص بوصف زائد، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو عليها صدقة ولنا هدية» .(4/201)
وإن حلف: لا يهبه، فتصدق عليه تطوعاً، لم يحنث عند أبي الخطاب كذلك. وقال القاضي: يحنث؛ لأنه تبرع بعين في حياته، أشبه ما لو أهدى إليه، والصدقة نوع من الهبة فتتناولها يمين الحالف على الهبة، ولم تدخل الهبة في يمين الحالف على الصدقة، ولا يحنث بالصدقة الواجبة، وجهاً واحداً؛ لأنه ليس بتبرع.
وإن أهدى إليه، أو أعمره، حنث؛ لأنه هبة. وإن وصى له، لم يحنث؛ لأن الملك إنما يثبت بعد انحلال اليمين بالموت. وإن أعاره، لم يحنث؛ لأنها لا تسمى هبة؛ ولأن الهبة تمليك الأعيان. وقال أبو الخطاب: يحنث؛ لأنها هبة المنافع. وإن حاباه في البيع لم يحنث، لما ذكرنا في العارية. وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر؛ أنه يحنث؛ لأنه تبرع عليه. وإن وقف عليه، ابتنى على ملك الموقوف عليه. وإن قلنا: يملك، حنث. وإلا، فلا. وقال أبو الخطاب. يحنث؛ لأنه تبرع عليه، ويحتمل أن لا يحنث بحال؛ لأنه لا يسمى هبة.
فصل:
القسم الثالث: ما له موضوع لغوي، لم يغلب استعماله في غيره، فتتناوله يمينه، مثل أن يحلف: لا يأكل لبناً، فيحنث بأكل ما يسمى لبناً، حليباً كان أو مخيضاً، مائعاً أو جامداً. ولا يحنث بأكل الخبز، والزبد والسمن والأقط والكشك؛ لأنه لا يسمى لبناً.
وإن حلف على الزبد، لم تتناول يمينه سمناً ولا لبناً لم يظهر زبده. فإن ظهر زبده تناولته يمينه، وإن حلف على السمن، لم تتناول يمينه زبداً ولا لبناً، ويحنث بأكل ما حلف عليه مفرداً، وفي طبيخ يظهر طعمه فيه؛ لأنه أكل المحلوف عليه وغيره، وإن لم يظهر طعمه في الطبيخ لم يحنث بأكله؛ لأنه زال اسمه وطعمه، فلم يحنث بأكله، كالكشك. وإن حلف لا يأكل حنطة، فأكلها خبزاً، أو طبيخاً، حنث؛ لأن الحنطة لا تؤكل حباً عادة، فانصرفت يمينه إلى أكلها في جميع أحوالها، وإن أكل شعيراً فيه حبات حنطة، ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه أكل حنطة، فأشبه ما لو حلف لا يأكل رطباً، فأكل منصفاً.
والثاني: لا يحنث؛ لأنها مستهلكة في الشعير، أشبه السمن في الخبيص.
فصل:
وإن حلف لا يأكل فاكهة، تناولت يمينه كل ثمرة مأكولة تخرج من الشجر، كالعنب، والزبيب، والرطب، والتمر، والجوز، واللوز؛ لأنه يسمى فاكهة، ولا تتناول(4/202)
القثاء، والخيار، والباذنجان؛ لأنها من الخضر. وفي البطيخ وجهان:
أحدهما: فاكهة؛ لأنه ينضج ويحلو، أشبه العنب.
والثاني: ليس بفاكهة؛ لأنه ثمر بقلة، أشبه القثاء.
فصل:
والإدام: ما يؤكل مع الخبز عادة، سواء كان مما يصطبغ به، كالمرق، واللبن، والدهن والخل، أو مما لا يصطبغ به، كالشواء، والجبن، والزيتون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نعم الإدام الخل» وقال: «اللحم سيد الإدام في الدنيا والآخرة» . فنص على هذين. وقسنا عليهما سائر ما ذكرنا؛ لأنه يؤتدم به عادة. وفي التمر وجهان:
أحدهما: هو إدام، لما روى يوسف بن عبد الله بن سلام قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع تمرة على كسرة وقال: هذه إدام هذه» . رواه أبو داود.
والثاني: أنه ليس بأدم؛ لأنه فاكهة أشبه الزبيب.
وأما الطعام، فهو: اسم لكل مأكول، ومشروب على سبيل الاختيار. قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما تحرز لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم» .
والحلال والحرام سواء في اليمين. وفي الماء والدواء وجهان:
أحدهما: هو طعام، لقول الله تعالى في النهر: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] ؛ ولأنه مشروب، والدواء مأكول ومشروب، أشبه العسل.
والثاني: ليس بطعام؛ لأنه لا يطلق عليه اسمه، والدواء إنما يؤكل عند الضرورة. وأما القوت: فما تبقى به البنية، كالخبز، والتمر، والزبيب، واللحم واللبن؛ لأن كل واحد من هذه يقتاته أهل بلد، ويحتمل ألا يدخل في يمينه ما لا يقتاته أهل بلده؛ لأن يمينه تنصرف إلى المتعارف عندهم.
فصل:
ومن حلف على اللحم، تناولت يمينه لحم الأنعام والصيد والطير والسباع،(4/203)
وكل ما يسمى لحماً، ولا تتناول يمينه الشحم، والألية، والمخ، والدماغ، والكبد، والطحال، والقلب، والرئة، والكلية، والكرش، والمصران، والقانصة، والكارع؛ لأنه ليس بلحم. ولا ينفرد عنه باسمه وصفته، فأشبه الجلد، وفي اللسان وجهان:
أحدهما: يدخل؛ لأنه لحم حقيقة.
والثاني: لا يدخل؛ لأنه ينفرد باسمه وصفته، أشبه القلب. وفي لحم الرأس وجهان:
أحدهما: لا يدخل في يمينه. أومأ إليه أحمد فيمن حلف لا يشتري لحماً، فاشترى رأساً، أو كارعاً، لا يحنث إلا أن ينوي؛ لأن اسم اللحم، لا ينصرف عند الإطلاق إليه.
والثاني: يحنث؛ لأنه لحم، وفي المرق وجهان:
أحدهما: لا تتناوله يمينه؛ لأنه لا يسمى لحماً.
والثاني: تتناوله يمينه. اختاره القاضي؛ لأن خاصية اللحم فيه، ولا تخلو من أجزائه. وفي اللحم الأبيض الذي على الظهر والجنب، وفي تضاعيف اللحم الأحمر، وجهان:
أحدهما: هو لحم. وهذا قول القاضي، وأبي الخطاب؛ لأنه يسمى لحماً، ويسمى بائعه لحاماً، ولا يفرد عن اللحم.
والثاني: هو شحم، هذا ظاهر قول الخرقي. واختيار طلحة العاقولي؛ لأنه يشبه الشحم في لونه وذوبه، ولا يسمى لحماً بمفرده، فعلى هذا يكون هذا، والألية، وشحم البطن، شحم تتناوله يمين الحالف على الشحم. وعلى قول القاضي: الشحم: اسم لشحم البطن خاصة، لا يتناوله غيره. ومن حلف لا يأكل شحماً، فأكل لحماً أحمر وحده، لم يحنث؛ لأنه لا يسمى شحماً، ولا يظهر فيه شحم. وقال الخرقي: يحنث؛ لأنه لا يخلو من شحم.
فصل:
ومن حلف على العنب، لم تتناول يمينه حصرماً، ولا زبيباً، ولا ما يتولد من العنب. ومن حلف على الزبيب، لم تتناول يمينه عنباً. ومن حلف لا يأكل رطباً، فأكل منصفاً، وهو الذي أرطب نصفه، أو أكل القدر الذي أرطب منه، حنث؛ لأنه أكل رطباً. وإن أكل القدر الذي لم يرطب، لم يحنث ومن حلف لا يكلم شيخاً، ولا عبداً، ولا يشتري جدياً، ولا يأكل لحماً طرياً، ولا رطباً جنياً، لم يحنث بغير الموصوف بتلك الصفة؛ لأن يمينه لم تتناول غيره.(4/204)
فصل:
ومن حلف على الحلي، تناولت يمينه الخواتيم، والأسورة، والخلاخيل وكل ما يسمى حلياً، وتتناول اللؤلؤ والجواهر في المخنقة، لقول الله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] . ولا تتناول العقيق، والسبج؛ لأنه ليس بحلي، أشبه الودع والخرز. ولا تتناول السيف المحلى؛ لأن السيف ليس بحلية. والحلية إنما هي للسيف، وفي المنطقة المحلاة وجهان:
أحدهما: هي كالسيف.
والثاني: تتناولها اليمين؛ لأنها من حلي الرجال. وإن لبس الخاتم في أي أصابعه كان، حنث؛ لأنه قد لبسه، فأشبه لبسه في الخنصر.
فصل:
والحين عند إطلاقه: اسم لستة أشهر؛ لأن ذلك يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال عكرمة، وسعيد بن جبير، وأبو عبيد في قول الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] . هو ستة أشهر، فيحمل مطلق كلام الآدمي على المطلق من كلام الله سبحانه. والحقب: ثمانون عاماً. قاله ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] .
وإن حلف لا يكلمه وقتاً، أو دهراً، أو ملياً، أو طويلاً، أو قريباً، تناول أقل الزمان؛ لأن الاسم تناوله، وكذلك إذا حلف لا يكلمه زمناً، عند أبي الخطاب؛ لأنه في معنى وقت. وقال ابن أبي موسى: هو ثلاثة أشهر، وقال العاقولي: هو كالحين. والأول أصح. وقوله: عمراً، كقوله: وقتاً، عند أبي الخطاب، وعند العاقولي، هو كالحين، ويحتمل أن يحمل على أربعين عاماً، لقول الله تعالى: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16] . ويعني: مدة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل بعثه، وكان أربعين عاماً.
وإن حلف لا يكلمه الدهر، أو الأبد، أو الزمان، تناول الدهر؛ لأن الألف واللام تستغرق الجميع.
وإن(4/205)
حلف على أشهر، أو أيام، فهي ثلاثة؛ لأنها أقل الجمع. وإن حلف على شهور، فكذلك عند أبي الخطاب؛ لأنها جمع. وقال غيره: هي اثنا عشر، لقول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} [التوبة: 36] ولأن هذا جمع كثرة، فلا يحمل على ما يحمل عليه جمع القلة. وإن حلف لا يأوي معه بيتاً. فدخلا بيتاً، حنث وإن قل لبثهما، لقول الله تعالى: {إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} [الكهف: 63] . قال أحمد: ما كان ذلك إلا ساعة.
فصل:
وإن حلف لا يدخل داراً، فدخلها مختاراً، حنث، راكباً كان أو ماشياً، أو محمولاً، أو على مأمن بابها، أو من ثقب فيها، أو من فوق جدارها؛ لأنه قد دخلها. وإن رقى على سطحها، حنث؛ لأنها منها. وكذلك يصح الاعتكاف في سطح المسجد، ويمنع الجنب اللبث فيه، إلا أن تكون بينة أو قرينة حالة تقتضي إخراج السطح من اليمين. وإن قال: على حائطها، أو عتبة بابها، ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه دخل في حدها.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يسمى داخلاً. وإن تعلق على غصن شجرة منها حتى صار بين حيطانها، حنث. وإن صار مقابلاً لها، احتمل وجهين. وإن حلف لا يدخل من بابها، فحول بابها، ودخل من الثاني، حنث؛ لأنه بابها. وإن حلف لا يضع قدمه فيها، أو لا يطأها، فدخلها راكباً، أو حافياً، أو منتعلاً، حنث لأن معناه، أن لا يدخلها.
فصل:
وإن حلف على دار ليخرجن منها، اقتضت يمينه الخروج بنفسه، وأهله، وإن حلف ليخرجن من هذه البلد، اقتضت يمينه الخروج بنفسه؛ لأن الدار يخرج منها صاحبها كل يوم عادة. وظاهر حاله، إرادة خروج غير المعتاد، بخلاف البلد. وهل يحنث بالعود إليها؟ فيه روايتان:
إحداهما: يحنث؛ لأن ظاهر حاله قصد هجرانها، ولا يحصل ذلك مع العود.
والثانية: لا يحنث؛ لأن يمينه على الخروج وقد فعله، ولذلك لو حلف لا يخرج منها، حنث بمجرد الخروج. وحمل اليمين على المقصد مع عدمه وعدم سبب يقتضيه، لا يصح.(4/206)
فصل:
وإن حلف على زوجته، أن لا تخرج إلا بإذنه، أو بغير إذنه، أو إلى أن يأذن لها، أو إلا أن يأذن لها، أو حتى يأذن لها، فخرجت بغير إذنه، حنث وانحلت يمينه. وإن خرجت بإذنه، لم يحنث، ولم تنحل يمينه؛ لأنها فعلت غير المحلوف عليه، فأشبه ما لو فعلت غير الخروج. وإن أذن لها، ثم نهاها، فخرجت، حنث؛ لأن إذنه زال، فأشبه من لم يأذن وإن أذن لها من حيث لا تعلم، فخرجت، ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأن الإذن الإعلام، ولم يتحقق، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أي إعلام. وآذنتكم. أي: أعلمتكم.
والثاني: لا يحنث؛ لأنه قد أذن، وكذلك ينعزل الوكيل بعزله قبل علمه. وإن حلف ألا تخرجي إلا بإذن زيد، فمات زيد، ثم خرجت، حنث؛ لأنها خرجت قبل إذنه، وإن حلف ألا تخرج إلى غير الحمام، فخرجت إلى الحمام وغيره، حنث؛ لأنها خرجت إلى غيره. وإن قال: إن خرجت إلا إلى الحمام، فأنت طالق، فخرجت إليه وإلى غيره، لم تطلق؛ لأنها خرجت إليه. وإن خرجت إلى الحمام، ثم عدلت إلى غيره، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يحنث؛ لأنها لم تخرج إلى غيره.
والثاني: يحنث؛ لأن قصده في الظاهر صيانتها من غيره ولم يحصل ذلك.
فصل:
ومن حلف: لا يسكن داراً هو ساكنها، وأقام فيها زمناً يمكنه الخروج، حنث، إلا أن تكون إقامته لنقل متاعه، فلا يحنث، ويكون نقله على ما جرت به العادة قليلاً. وإن خرج بنفسه دون أهله وماله، مع إمكان نقلهم، حنث؛ لأنه يقال: فلان ساكن الدار، مع كونه خارجاً منها، إلا أن يريد بخروجه السكنى منفرداً في غيرها، فلا يحنث، فإن أقام في الدار لإكراه، أو خوف، أو ليل، أو لأنه يحول بينه وبين الخروج أبواب مغلقة، أو لعدم ما ينقل عليه متاعه، أو منزلاً ينتقل إليه، أياماً وليالي في طلب النقلة، لم يحنث؛ لأن إقامته لدفع الضرر، وانتظار السكنى. وإن أقام غير ناو للنقلة، حنث. ولو وهب رحله، أو أعاره، أو أودعه وخرج بنفسه لا يريد العود، لم يحنث، وإن تردد إلى الدار لنقل متاعه، أو عيادة مريض، لم يحنث؛ لأنه ليس بسكنى. وإن امتنعت زوجته من الخروج معه، فخرج وتركها، لم يحنث.(4/207)
فصل:
وإن حلف لا يساكن فلاناً، فاستدام المساكنة، حنث. وإن سكنا في دارين متجاورتين، لم يحنث إلا أن ينوي، أو يكون سبب يمينه، يقتضي ذلك. وإن سكنا في دار واحدة، حنث، سواء سكنا بيتين، أو أحدهما بيتاً والآخر صفة. وإن كانا متساكنين، فأقاما حتى بنيا بينهما حاجزاً، وقسماها دارين، حنث، فإن خرجا منها، أو أحدهما، وقسماها دارين ثم سكناها، لم يحنث.
فصل:
وإن حلف لا يأكل شيئاً، فشربه، أو لا يشربه، فأكله، فقال الخرقي. يحنث؛ لأن هذه اليمين يقصد بها اجتناب الشيء، بدليل قَوْله تَعَالَى: {تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] . يتناول اجتنابها، ونهي الطبيب المريض عن أكل شيء يمنع تناوله، فحملت اليمين عليه، ونقل منها عن أحمد: لا يحنث؛ لأن الأفعال أنواع، كالأعيان. فالحالف على نوع، لا يحنث بفعل آخر، كالأعيان. قال القاضي: إنما الروايتان فيما إذا عين المحلوف عليه. فإن لم يعين، لم يحنث رواية واحدة. فأما إن حلف لا يطعمه، أولا يذوقه، تناول الأمرين. فإن حلف لا يأكله، ولا يشربه، فذاقه، لم يحنث. وإن حلف لا يأكل سكراً، فتركه في فمه حتى ذاب فبلعه، خرج على الروايتين. وإن حلف لا يشرب، فمص قصب السكر، لم يحنث. نص عليه. وكذلك إن حلف لا يأكله. قاله ابن أبي موسى. ويجيء على قول الخرقي أنه يحنث. والأكلة بالفتح: المرة من الأكل. والأكلة: اللقمة.
فصل:
وإن حلف لا يكلمه، ثم وصل بيمينه كلاماً، مثل أن يقول: فتحقق ذلك، أو: فاذهب، أو: فاسمع، حنث ثم؛ لأنه كلمة بعد يمينه. إلا أن ينوي أن لا يكلمه كلاماً منفصلاً، ويحتمل أن لا يحنث وإن أطلق؛ لأن إتيانه بكلام متصل يدل على قصده الكلام المنفصل. وإن كلم إنساناً ليسمع المحلوف عليه، حنث، نص عليه؛ لأن ذلك تكليم له في المعنى. قال الشاعر:
إياك أعني فاسمعي يا جارة
وإن ناداه بحيث يسمع، فلم يسمع، حنث. نص عليه؛ لأنه أراد تكليمه بما لفظ به. وإن زجره، فقال: تنح، أو اسكت. أو سمعه يتكلم، فقال: على الكاذب لعنة الله، حنث؛ لأنه كلمه. وإن سلم عليه، أو على جماعة هو فيهم يقصده معهم،(4/208)
حنث؛ لأنه كلمه. وإن قصدهم دونه، لم يحنث؛ لأن اللفظ العام يصح استعماله في الخصوص. وإن أطلق، حنث؛ لأن العام يحمل على عمومه ما لم يخصه مخصص. ويحتمل أن لا يحنث؛ لأنه يصلح للبعض، فلا يحنث بالاحتمال. وإن كاتبه، أو راسله، ففيه روايتان:
إحداهما: يحنث، لقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] . فاستثنى ذلك من التكليم؛ ولأن ظاهر حاله قصد هجرانه، فتحمل يمينه عليه.
والثانية: لا يحنث؛ لأنه ليس بتكليم، ولهذا صح نفيه، إلا أن ينويه، أو يكون سبب يمينه يقتضي مقاطعته وجفاءه. وفي الإشارة وجهان. بناء على الرسالة. فإن ناداه وهو غائب، أو ميت، أو أصم، أو مغمى عليه، لم يحنث؛ لأنه ليس بتكليم له. وقال أبو بكر: يحنث بتكليم الميت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمهم. والأول أصح؛ لأنه قد بطلت حواسه، وذهبت نفسه، وتكليم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم من خصائصه، فلا يقاس عليه. وإن حلف لا يتكلم، فقرأ، أو سبح، لم يحنث، لقول الله سبحانه: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [آل عمران: 41] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله قد أحدث أن لا تكلموا في الصلاة» . متفق عليه.
فإن حلف على ترك كلامه أياماً متتابعة، دخلت الليالي التي بين الأيام في يمينه؛ لأن الله تعالى: جعل آية زكريا ترك الكلام في الأيام، فدخلت الليالي فيه.
فصل:
فإن حلف على غريمه: لا افترقنا حتى أستوفي حقي منك، فهرب منه، حنث؛ لأن يمينه تقتضي ألا يحصل بينهما فرقة وقد حصلت. وإن حلف: لا فارقتك، فهرب منه، لم يحنث؛ لأن اليمين على فعل نفسه، ولم توجد المفارقة إلا من غريمه. وعنه: يحنث، كما ذكرنا في التي قبلها، وإن فارقه الغريم بإذنه، أو قدر على منعه من الهرب فلم يفعل، حنث؛ لأن معنى يمينه لألزمنك ولم يلزمه اختياراً، وإن أحاله ففارقه، حنث؛ لأنه فارقه قبل استيفاء حقه. فإن ظن أنه قد بر خرج على الروايتين في الجاهل. وإن قضاه عن حقه من غير جنسه، ففارقه، فقال ابن حامد: لا يحنث؛ لأنه وصل إلى حقه من غريمه. وقال القاضي: إن كان لفظه: لا فارقتك ولي قبلك حق، لم يحنث؛ لأنه لم يبق له قبله حق. وإن قال: حتى أستوفي حقي منك، حنث؛ لأن يمينه على نفس(4/209)
الحق، فإن فلسه الحاكم، وألزمه فراقه، فهو كالمكره وإن لم يلزمه فراقه، ففارقه، حنث؛ لأنه فارقه اختياراً، وإن أبرأه، ثم فارقه وكان لفظه: لا فارقتك ولي قبلك حق، لم يحنث. وإن قال: حتى أستوفي حقي منك، حنث. والفراق: ما عده الناس فراقاً، كالفرقة في البيع، وغيره.
فصل:
ومن حلف ليضربنه عشرة أسواط، فجمعها، وضربه بها ضربة واحدة، لم يبر؛ لأن السوط أقيم مقام المصدر، تقديره: عشر ضربات بسوط، ولذلك لم يلزمه الضرب بعشرة أسواط، ولا يبر إلا بضرب يؤلم؛ لأن هذا في العرف يقصد به التأليم، فانصرفت اليمين إليه، كما لو صرح به. فإن مات المحلوف عليه قبل ضربه، أو حلف ليشربن ماء، فتبدد، أو مات الحالف بعد إمكان الفعل، حنث؛ لأنه فاته المحلوف عليه بعد الإمكان، فحنث كما لو حلف ليحجن العام ففاته الحج، وإن تلف المحلوف عليه قبل الإمكان، حنث لما ذكرنا. ويتخرج ألا يحنث؛ لأنه عجز بغير فعله. أشبه المكره. وإن حلف ليضربنه في غد. فمات العبد اليوم، ففيه الوجهان. وإن مات الحالف اليوم، فلا حنث عليه؛ لأنه لم يفته فعله في وقته إلا بعد خروجه عن أهلية التكليف. وإن ضربه اليوم لم يبر. وقال القاضي: يبر كما لو حلف ليقضينه حقه غداً، فقضاه اليوم. والأول أصح؛ لأنه لم يفعل المحلوف في وقته، أشبه ما لو حلف ليصومن يوم الخميس، فصام الأربعاء. ويفارق قضاء الحق؛ لأنه يراد به ألا يتجاوز الوقت. وإن لم يبين وقت الضرب ولم ينوه، لم يحنث حتى يموت أحدهما؛ لأنه لا يفوته المحلوف عليه إلا به، بدليل قَوْله تَعَالَى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] . وهو حق وصدق ولم يأت بعد.
فصل:
إذا حلف ليفعلن شيئاً، لم يبر إلا بفعل جميعه. وإن حلف لا يفعله، ففعل بعضه. ففيه روايتان:
إحداهما: لا يحنث؛ لأنه لا يبر بفعل البعض، فلا يحنث بفعله، كما لو نوى الجميع.
والثانية: يحنث؛ لأن اليمين على الترك تقتضي المنع من فعله، فاقتضت المنع من فعل البعض، كالنهي، واليمين على الفعل يقتضي فعل الكل، كالأمر، وإذا حلف لا يأكل رغيفاً، فأكل بعضه، أو لا يكلم زيداً وعمراً، فكلم أحدهما، أو لا يدخل داراً،(4/210)
فأدخل بعض جسده، ففيه الروايتان. وإن حلف لا يلبس ثوباً اشتراه زيد، أو نسجه، أو خاطه، أو من غزل امرأته، أو لا يدخل داره، فلبس ثوباً اشتراه زيد وبكر، أو خاطاه، أو نسجاه، أو فيه من غزل امرأته، أو دخل داراً لهما، ففيه وجهان بناء على الروايتين، وإن حلف لا يأكل طعاماً اشتراه زيد، فأكل طعاماً اشترياه، حنث؛ لأن زيداً اشترى نصفه وقد أكله، بخلاف الثوب الذي اشتراه، فإن الاسم لجميعه، ونصفه ليس بثوب، ونصف الطعام طعام. ولو حلف لا يلبس ثوباً من غزل امرأته، فلبس ثوباً فيه من غزلها، حنث؛ لأنه لبس من غزلها. ولو اشترى زيد طعاماً فخلطه بطعام آخر، فأكل الحالف أكثر مما اشتراه الآخر، حنث؛ لأنه أكل مما اشتراه زيد. وإن أكل بقدره، أو دونه، ففيه وجهان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه يستحيل في العادة انفراد ما اشتراه أحدهما مما اشتراه الآخر، فيحنث ظاهراً.
والأخر: لا يحنث؛ لأنه يحتمل أن يكون المأكول مما اشتراه غيره، فلا يحنث بالشك. وإن اشترى زيد نصفه مشاعاً، واشترى الآخر باقيه، فأكل منه، حنث؛ لأن كل جزء فيه من شراء زيد. وإن أكل طعاماً اشتراه زيد لغيره، حنث؛ لأنه فعل المحلوف عليه. وإن اشتراه زيد، ثم باع نصفه، فأكل منه، حنث أيضاً. ومن نوى بيمينه الجميع، أو البعض، أو لفظ به، أو دلت القرينة عليه، تقيدت يمينه بذلك وجهاً واحداً. فلو قال: والله لا أكلت هذا الطعام كله، أو: لا صمت هذا الشهر جميعه، أو نوى ذلك بقلبه، لم يحنث إلا بفعل الجميع. وإن حلف لا شربت ماء هذا النهر، ولا أكلت التمر، ولا كلمت الرجال، حنث بفعل البعض رواية واحدة؛ لأن فعل الجميع ممتنع بغير يمينه. ولو حلف ليفعلن ذلك، بر بفعل بعضه. وإذا حلف لا يشرب ماء النهر، فغرف منه بإناء، وشرب أو كرع فيه، حنث؛ لأنه شرب منه. وإن شرب من نهر يأخذ منه، ففيه احتمالان:
أحدهما: يحنث؛ لأنه منه، أشبه ما في الإناء.
والثاني: أنه إن زال عنه الاسم، لم يحنث؛ لأنه زال اسمه، فأشبه من حلف لا يأكل رطباً، فأكل تمراً.
فصل:
وإن حلف لا يفعل شيئين، ففعل أحدهما، ففيه الروايتان.
ويحتمل أن يفرق بين اليمين بالله تعالى، والطلاق؛ لأن اليمين بالطلاق تعليق على شرط، وما علق على شرط لا يوجد قبل تمامه، وما علق على شرطين لا يوجد عند أحدهما، ولهذا إذا قال لزوجتيه: إذا حضتما فأنتما طالقتان، فحاضت إحداهما، لم تطلق واحدة منهما. ولو(4/211)
قال: إن كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق، أو إن كلمتك، فدخلت دارك، أو ثم دخلت دارك، لم يحنث بفعل أحدهما وجهاً واحداً.
فصل:
ومن حلف لا يفعل شيئاً، فوكل من يفعله حنث؛ لأن الفعل يطلق على الموكل فيه والآمر به، فيحنث به، كما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه.
[باب النذر]
وهو أن يقول: لله علي أن أفعل كذا، أو: إن رزقني الله مالاً، لأتصدقن أو: فعلي صوم شهر، لقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ} [التوبة: 76] وقال ابن عمر في الرجل يقول: علي المشي إلى الكعبة: هذا نذر، فليمش. وهو سبعة أقسام:
أحدها: نذر اللجاج، والغضب، وهو الذي يخرج مخرج اليمين للمنع من شيء، أو الحث عليه، كقوله: إن دخلت الدار، فلله علي الحج، أو صوم سنة، أو عتق عبدي، أو صدقة مالي، فهذا يمين يخير الناذر بين فعله وبين كفارة يمين، لما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» رواه سعيد في سننه، وعن أحمد أنه تتعين الكفارة، ولا يجزئه غيرها، للخبر، والأول ظاهر المذهب؛ لأنه يمين، فيخير فيها بين الأمرين، كاليمين بالله تعالى؛ ولأن هذا جمع الصفتين، فيخرج عن العهد بكل واحد منهما. وإن قال: إن فعلت كذا، فعبدي حر، ففعله، عتق العبد؛ لأن العتق يصح تعليقه بالشرط، فأشبه الطلاق.
فصل:
القسم الثاني: النذر المبهم، أن يقول: لله علي نذر، فيجب كفارة اليمين، لما روى عقبة بن عامر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفارة النذر - إذا لم يسم - كفارة يمين» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
فصل:
القسم الثالث: نذر المباح، كنذر لبس ثوبه، وأكل طعامه، وطلاق زوجته، فيتخير(4/212)
بين الوفاء به وكفارة اليمين، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله» رواه أبو داود.
فإن لم يف، فعليه كفارة، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين» . رواه أبو داود.
وإذا وجبت الكفارة في المعصية، ففي المباح أولى. وإن وفى به أجزأه، لما روي «أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال رسو الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوفي بنذرك» رواه سعيد.
ويتخرج أنه لا كفارة فيه؛ لأنه لو نذر الاعتكاف أو الصلاة في موضع بعينه، جاز له الاعتكاف في غيره، ولا كفارة عليه. وقد روى ابن عباس قال: «بينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مروه فليجلس، وليستظل، وليتكلم، وليتم صومه» رواه البخاري.
ولم يأمره بكفارة. فإن جمع بين مباح ومندوب، لزمه الوفاء بالمشروع، وحكمه في المباح كما لو انفرد، ولحديث أبي إسرائيل. وإن تضمن خصالاً كثيرة، أجزأته كفارة واحدة، كاليمين. وإن نذر مكروهاً، كره له الوفاء به، وإن وفى به أجزأه.
فصل:
القسم الرابع: نذر المعصية، كنذر شرب الخمر، وقتل النفس المحرمة، وظلم الناس، فلا يحل الوفاء به. ويوجب كفارة يمين، لحديث عائشة، ولما روى عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «النذر نذران، فما كان من نذر في طاعة الله، فذلك لله وفيه الوفاء، وما كان من نذر في معصية الله، فلا وفاء فيه، ويكفره ما يكفر اليمين» رواه الجوزجاني؛ ولأن النذر كاليمين، واليمين على المعصية توجب الكفارة، فكذلك النذر.
وعن أحمد ما يدل على أنه لا كفارة فيه، لحديث أبي إسرائيل ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(4/213)
«ليس على الرجل نذر فيما لا يملك» متفق عليه. وفي لفظ: «لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك العبد» رواه مسلم؛ ولأنه نذر غير منعقد، فلم يوجب شيئاً، كيمين اللغو.
وسواء كان النذر مطلقاً، أو معلقاً بشرط. وإن نذر ذبح ولده، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يوجب كفارة؛ لأنه نذر معصية، فأشبه نذر قتل أخيه.
والثانية: عليه ذبح كبش؛ لأن الله تعالى أمر إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذبح ولده، فخرج عن عهدة الأمر بذبح كبش، فكذا نذر الآدمي يخرج عن عهدته بكبش؛ لأنه يقتضي الإكرام، كالأمر. فإذا ذبحه، فرقه على المساكين؛ لأن ما وجب كفارة، فرق على المساكين، كسائر الكفارات.
وإن نذرت المرأة صوم يوم حيضها أو نفاسها، أو صوم يوم العيد، فهو نذر معصية موجبة كفارة، كشرب الخمر. وإن نذرت صوم يوم الخميس، فصادف حيضها أو يوم العيد، لم تصمه، وعليها القضاء؛ لأنها إنما قصدت الطاعة في محل يحتمل الطاعة، وهل تلزمها الكفارة مع القضاء؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمها لإخلالها بالمنذور في وقته، فأشبه ما لو حلفت على ذلك.
والثاني: لا كفارة عليها؛ لأن المنذور محمول على المشروع. ولو أفطرت في رمضان لحيض، أو لمرض لم يلزمها إلا القضاء، فكذا هاهنا، ويتخرج أن لا يلزمها إلا الكفارة، كالتي قبلها، وإن نذر فعل طاعة على صفة محرمة، أو مكروهة، كنذر المرأة الحج حاسرة، وجب فعل الطاعة. وفي الكفارة لترك المعصية والمكروه وجهان:
أحدهما: يجب، لما روى عقبة بن عامر قال: «نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة. فذكر ذلك عقبة لرسول الله فقال: مر أختك فلتركب، ولتختمر، ولتصم ثلاثة أيام» رواه الترمذي.
والثاني: لا كفارة عليه، لما ذكرناه. وإن نذر أن يطوف على أربع، فقياس المذهب، أن يطوف طوافاً واحداً.
وفي الكفارة وجهان. والمنصوص عن أحمد: أنه يطوف طوافين، لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال ذلك. وروي أيضاً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أخرجه الدارقطني في سننه.(4/214)
فصل:
القسم الخامس: نذر الواجب كنذر صوم رمضان وصلاة الفرض، فقال أصحابنا: لا يوجب شيئاً لأنه التزام للازم، فلم يصح لاستحالته، كنذر المحال. وقياس المذهب أن ينعقد موجباً للكفارة إن تركه، كنذر المباح؛ لأن النذر كاليمين.
فصل:
وإن نذر صوم يوم يقدم فلان، فصادف رمضان، فحكمه حكم ما لو صادف يوم العيد. وقال الخرقي: يجزئه صيامه لرمضان ونذره؛ لأنه قد فعل الصيام.
فصل:
القسم السادس: نذر المستحيل، كصوم أمس، فلا ينعقد؛ لأنه لا يتصور انعقاده والوفاء به، فأشبه اليمين على المستحيل. ويحتمل أن يوجب الكفارة، كيمين الغموس.
فصل:
القسم السابع: نذر الطاعة تبرراً، فيلزم الوفاء به، سواء نذره مطلقاً، مثل أن يقول: لله علي صوم يوم. أو علقه على شرط، مثل أن يقول: إن شفاني الله من مرضي فلله علي صدقة درهم، فإذا وجد شرطه لزمه ما نذر. سواء كان للمنذور أصل في الوجوب، كالصلاة، والصوم، أو لم يكن له أصل في الوجوب، كالاعتكاف، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه» رواه البخاري.
وإن نذر الصدقة بجميع ماله، أجزأته الصدقة بثلثه، لما روى كعب بن مالك قال: «قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يجزئك الثلث» رواه أبو داود. وفي لفظ: «أمسك عليك مالك» متفق عليه؛ ولأن الصدقة بجميع المال مكروهة، بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نهى عنها كعباً، وأبا لبابة، ولا ينهى عن القرب.
فإن نذر الصدقة بمعين، وكان المعين يستغرق ماله، فهي كالتي قبلها. وإن كان بعض ماله، ففيه روايتان:
إحداهما: تجزئه الصدقة بثلث؛ لأنه مال نذر الصدقة به، فأشبه جميع المال.(4/215)
والثانية: تلزمه الصدقة بجميعه، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، والقياس على سائر المنذورات، ويحتمل أنه إن كان الثلث فما دونه، لزمه. وإن كان أكثر، أخرج ثلث المال؛ لأنه حكم اعتبر فيه ثلث المال، فكان حكمه ما ذكرنا، كالوصية.
فصل:
ومن نذر صياماً، ولم يسم عدداً، ولم ينوه، لزمه صوم يوم؛ لأنه أقل صوم يصح في الشرع.
وإن نذر صلاة، ففيه روايتان:
إحداهما: يجزئه ركعة؛ لأن الوتر ركعة مشروعة.
والثانية: لا يجزئه إلا ركعتان؛ لأن الركعة لا تجزئ في الفرض، فلا تجزئ في النذر كالسجدة.
وإذا نذر عتق رقبة، فهي التي تجزئ عن الواجب؛ لأن المطلق يحمل على المعهود في الشرع، وذلك هو الواجب في الكفارة.
وإن نذر هدياً، لم يجزئه إلا ما يجزئ في الأضحية كذلك. وعليه إيصاله إلى فقراء الحرم؛ لأن إطلاق الهدي يقتضي ذلك. قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] .
وإن نذر المشي إلى بيت الله الحرام أو إتيانه، لزمه المشي في حج أو عمرة؛ لأن المشي إلى البيت المعهود شرعاً هو المشي في أحد النسكين، فحمل النذر المطلق عليه، ويلزمه المشي من دويرة أهله كذلك، وإن نذر المشي إلى البلد الحرام، أو بقعة منه، فهو كنذر المشي إلى البيت الحرام؛ لأن الحرم كله محل النسك، ولذلك صح إحرام المكي بالحج منه. وإن نذر المشي إلى غير الحرم، كعرفة وغيرها، لم يلزمه، وكان كنذر المباح، وكذلك إن نذر إتيان مسجد من مساجد الحل، لم يلزمه إلا مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمسجد الأقصى، فإنه يلزمه إتيانهما، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا» منفق عليه. ويلزمه صلاة ركعتين فيهما؛ لأن القصد بنذره القربة، ولا يحصل إلا بالصلاة، فتضمنها نذره، كتضمن نذر المشي إلى المسجد الحرام أحد النسكين، وإن نذر الصلاة في مسجد. هو كنذر إتيانه، إلا أنه تلزمه الصلاة دون الإتيان، في غير المساجد الثلاثة، وتجزئ الصلاة في المسجد الحرام عن الصلاة في المسجدين الآخرين. والصلاة في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في المسجد الأقصى، لما ذكرنا في الاعتكاف.(4/216)
فصل:
ومن عين بنذره أو بنيته شيئاً من عدد الصيام، أو الصلاة، أو الهدي، أو الرقاب، أجزأه ما عينه، صغيراً كان أو كبيراً، صحيحاً أو معيباً، مما يجزئ في الواجب، ومما لا يجزئ؛ لأن الوجوب ثبت بقوله، فيجب أن تتبع فيه صفته، كأوامر الشرع. وعنه فيمن قال: إن قدم فلان لأتصدقن بمال، هو في نفسه مال، يخرج ما شاء. وهذا يدل على أنه إنما يلزمه ما لفظ به دون ما نواه؛ لأن النذر باللفظ دون النية، والأولى أولى؛ لأنه نوى بلفظه ما يحتمله فتقيد به، كاليمين.
فإن عين الهدي بغير الحيوان، جاز، ويتصدق به، أو بثمنه على مساكين الحرم؛ لأنه محل الهدي. وإن نذر هدي ما لا ينقل، كالدر ونحوه، بيع، وتصدق بثمنه. وإن عين نذر الهدي بموضع غير الحرم، لزمه ما عينه، ويتصدق به على فقراء ذلك الموضع إن لم يتضمن معصية، لما روي: «أن رجلاً نذر على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينحر إبلاً ببوانة، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟ قالوا: لا، قال: هل كان فيها عيد من أعيادهم، قالوا: لا، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوف بنذرك» . رواه أبو داود؛ ولأن معهود الشرع تفرقة اللحم بالمكان الذي نذر الذبح به، فكأنه نذر فرقة اللحم على فقراء أهله.
فصل:
إذا نذر صيام ثلاثين يوماً، لم يلزمه التتابع. نص عليه؛ لأن لفظه لا يقتضي التتابع. وعنه فيمن نذر صيام عشرة أيام: يلزمه التتابع؛ لأن الصيام الواجب بأصل الشرع متتابع. والأول أولى، وهذا محمول على من نوى التتابع أو شرطه، لما ذكرناه. وإن نذر صيام شهر، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يلزمه التتابع؛ لأن الشهر يقع على ما بين الهلالين، وعلى ثلاثين يوماً، فلا يلزمه ما بين الهلالين، فصار كنذر ثلاثين يوماً.
والثانية: يلزمه التتابع؛ لأن الشهر اسم لأيام متتابعة. فإن صام ما بين الهلالين، أجزأه، تاماً كان أو ناقصاً؛ لأنه شهر، وإن بدأ من أثناء شهر، لزمه ثلاثون يوماً؛ لأن الشهر العادي ثلاثون يوماً. وإن نذر صيام أشهر متتابعة، فبدأ من أول شهر، صامهن بالأهلة. وإن بدأ من أثناء شهر، صام شهراً بالعدد، وباقيها بالأهلة، لما ذكرنا في صوم الظهار.(4/217)
فإن أفطر بالصيام المتتابع لغير عذر، لزمه الاستئناف؛ لأنه أمكنه الإتيان بالمنذور على صفته، فلزمه، كحال الابتداء. وإن أفطر لعذر يوجب الفطر، كالمرض المخوف، والحيض، خير بين الاستئناف؛ لأنه يجزئه مع عدم العذر، فمع العذر أولى، وبين البناء والتكفير؛ لأن الفطر لعذر لا يقتضي التتابع حكماً، بدليل فطر المظاهر في الشهرين لعذر، ويكفر لترك صفة النذر؛ لأن النذر كاليمين.
وإن أفطر لعذر يبيح الفطر، كالسفر، ففيه وجهان:
أحدهما: يقطع التتابع؛ لأنه أفطر باختياره، أشبه غير المعذور.
والثاني: لا يقطعه؛ لأنه عذر للفطر في رمضان، فأشبه المرض. فأما إن نذر صوم شهر بعينه، فأفطر لغير عذر، ففيه روايتان:
إحداهما: يلزمه الاستئناف؛ لأنه صوم يجب متتابعاً، أشبه المنذور متتابعاً.
والثانية: لا يلزمه وجوب التتابع من جهة الوقت، لا للنذر، فلم يبطله الفطر كشهر رمضان. وإن أفطر لعذر، بنى، وعليه كفارة في الموضعين، لتركه صفة نذره.
وعنه: لا تجب الكفارة مع العذر؛ لأنه تركه بأمر الشرع، فلم يلزمه كفارة، كما لو نذر الصدقة بجميع ماله، وتصدق بثلثه.
فصل:
وإن نذر صيام سنة معينة، لم يدخل في نذره رمضان، ويوما العيدين؛ لأنه لا يقبل الصوم عن النذر، فلم يدخل في نذره، كالليل. وفي أيام التشريق روايتان. وإن نذر صوم سنة، فهل يلزمه سنة متتابعة؟ فيه روايتان على ما ذكرنا في الشهر. فإن قلنا: يلزمه التتابع، فحكمها حكم المعينة، وإن قلنا: لا يلزمه التتابع، لزمه اثنا عشر شهراً بالأهلة، إلا أن يبتدئ صوم شهر من أثنائه، أو لا يوالي بينه، فيلزمه ثلاثون يوماً، فإن صام سنة متوالية، قضى عن شهر رمضان ويومي العيدين.
فصل:
وإن نذر صوم يوم يقدم فلان، فقدم ليلاً، لم يلزمه شيء؛ لأنه لم يتحقق شرطه، فلم يجب نذره. وإن قدم نهاراً، لم يخل من ثلاثة أحوال:
أحدها: قدم والناذر مفطر، فيه روايتان:
إحداها: لا يلزمه شيء؛ لأنه قدم في وقت لا يصح فيه صومه شرعاً، أشبه ما لو قدم ليلاً.(4/218)
والثانية: يلزمه القضاء والكفارة؛ لأنه علق نذره بزمن المستقبل ولم يف به، فلزمه القضاء والكفارة، كما لو نذر صوم يوم الخميس فأفطره.
الثاني: قدم والناذر صائم من رمضان، أو فرضاً غيره، ففيه روايتان:
إحداهما: يجزئه صومه عنهما؛ لأنه نذر صومه وقد وفى به.
والثانية: حكمه حكم من أفطره؛ لأنه لم يصمه عن نذره.
الثالث: قدم والناذر صائم تطوعاً، أو ممسك، ففيه وجهان:
أحدهما: يتم صومه، ويجزئه؛ لأن سبب الوجوب وجد في أثنائه قبل فطره، فأشبه ما لو قال: لله علي صوم بقية يومي.
والثاني: يلزمه القضاء والكفارة؛ لأنه صوم واجب، فلم يصح بنية من النهار، كالقضاء.
فصل:
وإذا نذر الحج العام، وعليه حجة الإسلام، ففيه روايتان:
إحداهما: يجزئه الحج عنهما.
والثانية: يلزمه حجة أخرى، أصلها إذا نذر صوم يوم، فوافق يوماً من رمضان.
فصل:
وإذا عجز عن الوفاء بالنذر، لم يخل من خمسة أحوال:
أحدها: أن يعجز عجزاً لا يرجى زواله، لكبر، أو مرض غير مرجو الزوال أو غيره، فعليه كفارة يمين لا غير، لما روى عقبة بن عامر قال: «نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتيته، فقال: لتمش ولتركب» متفق عليه؛ ولأن النذر كاليمين إلا فيما لا يطيق. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من نذر نذراً لا يطيقه، فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً يطيقه، فليف لله بما نذر. وسواء كان عاجزاً وقت النذر، أو تجدد العجز؛ لأنهما سواء في فوات النذر.
وعن أحمد فيمن نذر صوماً، فعجز عنه لكبر، أو مرض لا يرجى برؤه: أنه يطعم عن كل يوم مسكيناً. اختاره الخرقي؛ لأنه صوم وجد سبب إيجابه عيناً، فأشبه صوم رمضان، والأول أقيس.(4/219)
الثاني: أن يعجز عجزاً مرجو الزوال نحو المرض. فإذا كان النذر غير موقت، أخره حتى يزول العارض ثم يأتي به، وإن كان موقتاً، كصوم شهر معين. فإذا زال العجز قضاه؛ لأنه صوم واجب يلزمه قضاؤه كرمضان، وعليه كفارة اليمين؛ لأن النذر كاليمين. وعنه: لا كفارة عليه؛ لأن المنذور محمول على المشروع، ولو أفطر في رمضان لعذر، لم يلزمه كفارة، كذا هاهنا.
الثالث: أن يمنعه الشرع من الوفاء بنذره، مثل أن يصادف عيداً، أو حيضاً ففيه وجهان. بناء على الروايتين فيما قبلها. وإن صادف أيام التشريق، فكذلك في إحدى الروايتين، وفي الأخرى، يصح صيامها للفرض، لما ذكرنا في صيامها عن دم المتعة، وإن صادف رمضان لم يجزئ صومه عن النذر، وكان حكمه كما لو صادف يوم العيد. وقال الخرقي: يجزئه صيامه لرمضان، ونذره، وقد ذكر ذلك.
الرابع: أن يصادفه النذر مجنوناً، فلا شيء عليه؛ لأنه خرج عن أهلية التكليف قبل وقت النذر، أشبه ما لو فاته.
الخامس: أن يموت، فإن كان ذلك قبل وقت النذر، فلا شيء عليه؛ لأنه خرج عن أهلية التكليف. وإن كان بعده، أو كان النذر غير موقت، فعل ذلك وليه، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام، صام عنه وليه» متفق عليه.
وعن ابن عباس قال: «أتى رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها، ماتت، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو كان عليها دين، أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض الله، فهو أحق بالقضاء» . رواه البخاري. فثبت القضاء للصوم والحج بالنص. وقسنا عليه غيره للمعنى المشترك بينهما.
وفي الصلاة روايتان:
إحداهما: تقضى عنه لما ذكرناه.
والثانية: لا تقضى؛ لأنها لا تدخلها نيابة، ولا كفارة، فلم تقض عنه، كحالة الحياة وكل موضع قلنا: يقضي عنه الولي، فإنه على سبيل الندب، لا الوجوب؛ لأن قضاء دينه لا يجب على وليه. فكذلك النذر المشبه به.(4/220)
[كتاب الأقضية]
القضاء فرض على الكفاية، بدليل قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم بين الناس، وبعث علياً إلى اليمن للقضاء، وحكم الخلفاء الراشدون، وولوا القضاة في الأمصار؛ ولأن الظلم في الطباع، فيحتاج إلى حاكم ينصف المظلوم، فوجب نصبه، فإن لم يكن من يصلح للقضاء إلا واحداً، تعين عليه، فإن امتنع أجبر عليه؛ لأن الكفاية لا تحصل إلا به، وعن أحمد: أنه سئل هل يأثم القاضي إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال: لا يأثم. وهذا يدل على أنه لا يجب عليه الدخول فيه؛ لأن عليه في التولي خطراً وغرراً، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جُعل قاضياً، فقد ذبح بغير سكين» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن. فلم يلزمه الإضرار بنفسه لنفع غيره، فعلى هذا القول يكره له طلبه، لما فيه من الخطر؛ ولأن السلف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يأبون القضاء أشد الإباء ويفرون منه. وإن طلب فالأولى أن لا يدخل فيه؛ لأنه أسلم له. وقال ابن حامد: إن كان خاملاً، إذا ولي نشر علمه، فالأفضل الدخول فيه، لما يحصل من نشر العلم. وإن كان ينشر علمه بغير ولاية، فالأفضل أن لا يدخل فيه؛ لأن الاشتغال بنشر العلم مع السلامة أفضل. فأما من يوجد غيره ممن يصلح للقضاء، فلا يجب عليه الدخول فيه، ويكره له طلبه، لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتغى القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدده» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وإن طُلِبَ، فالأفضل له الامتناع إلا على قول ابن حامد على التفصيل الماضي. وأما من لا يُحسن القضاء، فيحرم عليه الدخول فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة:(4/221)
واحد في الجنة، واثنان في النار، إلى قوله: ورجل قضى بين الناس بجهل فهو في النار» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه
فصل:
ويجوز للقاضي أخذ الرزق عند الحاجة، لما روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لما ولي الخلافة، أخذ الذراع، وخرج إلى السوق، فقيل له: لا يسعك هذا، فقال: ما كنت لأدع أهلي يضيعون من أجلكم، ففرضوا له كل يوم درهمين. وبعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى الكوفة عمار بن ياسر والياً، وابن مسعود قاضياً، وعثمان بن حنيف ماسحاً، وفرض لهم كل يوم شاة، نصفها لعمار، والنصف الآخر بين عبد الله وعثمان. وكتب إلى معاذ، وأبي عبيدة في الشام: أن انظروا رجالاً من صالحي مَن قبلكم، فاستعلموهم على القضاء، وارزقوهم وأوسعوا عليهم من مال الله. فأما مع عدم الحاجة. ففيه وجهان:
أحدهما: الجواز، لما ذكرنا؛ ولأنه يجوز للعامل الأخذ على العمالة مع الغنى، فكذلك القضاء.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يختص أن يكون فاعله من أهل القربة، فلم يجز أخذ الأجرة عليه؛ كالصلاة. قال أحمد: ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجراً، وإن كان فبقدر شغله، مثل ولي اليتيم. وإذا قلنا: يجوز أخذ الرزق، فلم يجعل له شيء، فقال: لا أقضي بينكما إلا بجُعْل، جاز.
فصل:
ويشترط للقضاة عشرة أشياء: أن يكون مسلماً، عدلاً، بالغاً، عاقلاً؛ لأن هذه شروط الشهادة، فأولى أن تشترط للقضاء.
الخامس: الذكورية، فلا يصح تولية المرأة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري؛ ولأن المرأة ناقصة العقل، غير أهل لحضور الرجال ومحافل الخصوم. ولا يصح تولية الخنثى؛ لأنه لم يعلم كونه ذكراً.
السادس: الحرية. فلا يصح تولية العبد؛ لأنه منقوص برقه، مشغول بحقوق سيده، لا تقبل شهادته في جميع الأشياء، فلم يكن أهلاً للقضاء، كالمرأة.
السابع: أن يكون متكلماً، لينطق بالفصل بين الخصوم.(4/222)
الثامن: أن يكون سميعاً ليسمع الدعوى، والإنكار، والبينة، والإقرار.
التاسع: أن يكون بصيراً، ليعرف المدعي من المدعى عليه، والمقر من المقر له، والشاهد من المشهود عليه.
العاشر: أن يكون مجتهداً، وهو العالم بطرق الأحكام، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة، واثنان في النار. فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، فهو في الجنة. ورجل عرف الحق فحكم فجار في الحكم، فهو في النار. ورجل قضى للناس على جهل، فهو في النار» . رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه؛ ولأنه إذا لم يجز أن يفتي الناس وهو لا يلزمهم الحكم، فلئلا يقضي بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى. ولا يشترط كونه كاتباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سيد الحكام، وهو أمي. وقيل: يشترط؛ ليعلم ما يكتبه كاتبه، فيأمن تحريفه.
فصل:
ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، لئلا يطمع فيه الظالم، فينبسط عليه. ليناً من غير ضعف، لئلا يهابه صاحب الحق، فلا يتمكن من استيفاء حجته بين يديه. حليماً ذا أناة وفطنة ويقظة، لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة. ذا ورع وعفة، ونزاهة، وصدق. قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم.
فصل:
ولا تصح ولاية القضاة إلا بتولية الإمام، أو من فوض إليه الإمام؛ لأنه من المصالح العظام، فلم يصح إلا من جهة الإمام، كعقد الذمة. ومن شرط صحة التولية، معرفة المولي للمولى، وأنه على صفة تصلح للقضاء. فإن كان يعرفه، وإلا سأل عنه، فإذا علم ذلك ولاه.
وألفاظ التولية تنقسم إلى صريح وكناية، فصريحها سبعة: وليتك الحكم، وقلدتك، واستنبتك، واستخلفتك، ورددت إليك الحكم، وفوضت إليك، وجعلت إليك، فإذا أتى بواحدة منها واتصل بها القبول، انعقدت الولاية.
وأما الكناية، فهي أربعة: اعتمدت عليك في الحكم، وعولت عليك، ووكلت(4/223)
إليك وأسندت إليك الحكم، فلا تنعقد التولية بها حتى تقترن بها قرينة، نحو: فاحكم فيما وكلت إليك، وانظر فيما أسندت إليك وتول فيما عولت عليك فيه؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل التولية وغيرها، من كونه يأخذ برأيه، وغير ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلا بقرينة.
فصل:
فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء، فحكماه ليحكم بينهما، جاز، لما روى أبو شريح أنه «قال: يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي علي الفريقان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أحسن هذا» . رواه النسائي؛ ولأن عمر وأبياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. فإذا حكم بينهما، لزم حكمه؛ لأن من جاز حكمه، لزم، كقاضي الإمام.
فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه، قبل شروعه في الحكم، فله ذلك؛ لأنه إنما صار حكماً لرضاه به، فاعتبر دوام الرضى. وإن رجع بعد شروعه فيه، وقبل تمامه، ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه ما قبل الشروع.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما، إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه، رجع، فيبطل المقصود بذلك. واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان، قياساً على قاضي الإمام. وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال الخاصة. فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام، كالحدود.
فصل:
ويجوز أن يولي في البلد الواحد قاضيين فأكثر، على أن يحكم كل واحد منهما في موضع، وأن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق، وإلى الآخر في حق آخر، أو إلى أحدهما في زمن، وإلى الآخر في زمن آخر؛ لأنه نيابة عن الإمام، فكان على حسب الاستنابة. وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد وزمن واحد، وحق واحد؟ فيه وجهان:(4/224)
أحدهما: يجوز؛ لأنه نيابة، فجاز جعلها إلى اثنين، كالوكالة.
والثاني: لا يجوز، فقد يختلفان، فتقف الحكومة.
فصل:
ولا يجوز تقليده القضاء على أن يحكم بمذهب معين، لقول الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] . وإنما يظهر له الحق بالدليل، فلا يتعين ذلك في مذهب بعينه. فإن قلد على هذا الشرط، بطل الشرط. وفي فساد التولية وجهان، بناء على الشروط الفاسدة في البيع.
فصل:
إذا ولاه قاضياً في غير بلده، كتب إليه العهد بما ولاه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب لعمرو بن حزم، حين بعثه إلى اليمن.
وروى حارثة بن مضرب، أن عمر كتب إلى أهل الكوفة: أما بعد، فإني بعثت إليكم عماراً أميراً، وعبد الله قاضياً وأميراً، فاسمعوا لهما وأطيعوا، فقد آثرتكم بهما. فإن كان البلد الذي ولاه بعيداً، أشهد على التولية شاهدين لتثبت التولية بهما. وإن كان قريباً، فإن شاء أشهد، وإن شاء اكتفى بالاستفاضة؛ لأنها تثبت الولاية. ويستحب للقاضي السؤال عن حال البلد الذي وليه، ومن فيه من العلماء والأمناء؛ لأنه لا بد له منهم، فاستحب تقدم العلم بهم.
ويستحب أن يدخل البلد يوم الخميس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك. فإذا دخل قصد الجامع، فصلى فيه ركعتين، وأمر بجمع الناس، فقرأ عليهم عهده ليعلموا التولية، وما فوض إليه، ويعد الناس يوماً لجلوسه، ثم يصير إلى منزله، ويجعل منزله في وسط البلد إن أمكن ليتساووا في قربه.
فصل:
وإن نهاه الذي ولاه عن الاستخلاف، لم يكن له ذلك؛ لأنه نائب فيتبع قول من استنابه. وإن لم ينهه، جاز له الاستخلاف؛ لأن الغرض من القضاء الفصل بين المتخاصمين وإيصال الحق إلى مستحقه، فجاز أن يليه بنفسه وبغيره. فإذا استخلف القاضي خليفة، انعزل بموته وعزله؛ لأنه نائبه، فأشبه الوكيل. وإن ولى الإمام قاضياً، فهل ينعزل بموته وعزله؟ فيه وجهان:(4/225)
أحدهما: ينعزل كذلك، ولما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لأعزلن أبا مريم - يعنى عن قضاه البصرة - وأولي رجلاً إذا رآه الفاجر فرقه، فعزله وولى كعب بن سوار. وولى علي أبا الأسود، ثم عزله فقال: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال: إني رأيتك يعلو كلامك على الخصمين.
والثاني: لا ينعزل؛ لأنه عقده لمصلحة المسلمين، فلم يملك عزله مع سداد حاله، كما لو عقد الولي النكاح على موليته، لم يملك فسخه. وإن اختل أحد الشروط، بأن يفسق، أو يختل عقله، أو بصره، انعزل بذلك؛ لأنه فات الشرط، فانتفى المشروط كالصلاة.
فصل:
وليس له أن يقضي ولا يولي ولا يسمع البينة، ولا يكاتب قاضياً في حكم في غير عمله، ولا يعتد بذلك إن فعله؛ لأنه لا ولاية له في غير عمله، أشبه سائر الرعية.
فصل:
ولا يجوز له أن يحكم لنفسه؛ لأنه لا يجوز أن يكون شاهداً لها، ويتحاكم هو وخصمه إلى قاض آخر. ويجوز أن يحاكمه إلى بعض خلفائه؛ لأن عمر حاكم أبياً إلى زيد. وحاكم عثمان طلحة إلى جبير. ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا، ولا لولده وإن سفل؛ لأنه متهم في حقهما، فلم يجز حكمه لهما، كنفسه. وقال أبو بكر: يجوز حكمه لهما؛ لأنهما من رعيته، فجاز حكمه لهما، كالأجانب، وإن اتفقت حكومة بين والديه، أو ولديه، أو والده وولده، فالحكم فيهما، كما لو انفرد أحدهما؛ لأن ما منع منه في حق أحدهما إذا كان خصمه أجنبيا، منع منه إذا ساواه خصمه، كالشهادة. ويجوز له استخلاف والده وولده في أعماله؛ لأن غاية ما فيه أنهما يجريان مجراه.
فصل:
ولا يجوز له أن يرتشي في الحكم، لما روى عبد الله بن عمرو قال: «لعن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح؛ ولأنه أخذ مال على حرام، فكان حراماً، كمهر البغي.
ولا يجوز له قبول الهدية ممن لم تجر عادته بها قبل الولاية، لما روى أبو حميد قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقه، فقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المنبر، فقال: ما بال العامل نبعثه فيقول:(4/226)
هذا لكم وهذا أهدي إلي، ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه شيء أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته» . متفق عليه. فدل على أن أهدي إليه مما كانت الولاية سبباً له محرم عليه.
فأما من كانت عادته الهدية إليه قبل الولاية، فجائز قبولها؛ لأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا» . يدل على تعليل تحريم الهدية، لكون الولاية سببها، وهذه لم تكن سببها الولاية فجاز قبولها إلا أن تكون في حال الحكومة بينه وبين خصم له، فلا يجوز قبولها؛ لأنه يتهم، فهي كالرشوة. والأولى الورع عنها في غير حال الحكومة؛ لأنه لا يأمن أن تكون الحكومة منتظرة.
فصل:
ويكره أن يباشر البيع والشراء بنفسه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما عدل وال اتجر في رعيته» .
وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاني القضاء: أن لا أبيع، ولا أبتاع، ولا أرشي، ولا أقضي وأنا غضبان؛ ولأنه يعرف، فيحابى، فيجري مجرى الهدية.
ويستحب أن يوكل من لا يعرف أنه وكيله. فإذا عرف استبدل به حتى لا يحابى، فإن لم يمكنه الاستنابة، تولاه بنفسه؛ لأن أبا بكر الصديق أخذ الذراع وقصد السوق ليتجر فيه؛ ولأنه لا بد له منه. فإن كان لمن بايعه حكومة، استخلف من يحكم بينه وبين خصمه، كيلا يميل إليه.
فصل:
ويجوز للقاضي حضور الولائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإجابة الداعي. ولا يخص بإجابته قوماً دون قوم؛ لأنه جور. فإن كثرت عليه وشغلته، ترك الجميع؛ لأنه يشتغل بها عما هو أوكد منها. وله عيادة المرضى، وشهود الجنائز، ويأتي مقدم الغائب؛ لأنه قربة وطاعة. وله أن يخص بذلك قوماً دون قوم؛ لأن هذه الأمور لحق نفسه طلباً لثواب الله تعالى، فكان له فعل ما أمكن منها دون ما لم يمكن. وحضور الوليمة لحق الداعي. فإذا خص بعضهم بها، حصل مراعياً لبعضهم دون بعض، فكان ذلك ميلاً.
فصل:
ولا يقضي في حال الغضب، ولا الجوع، والعطش، والحزن، والفرح المفرط،(4/227)
والنعاس الشديد، والمرض المقلق، ومدافعة الأخبثين، والحر المزعج، والبرد المؤلم، لما روى أبو بكرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» . متفق عليه. فثبت النص في الغضب، وقسنا عليه سائر المذكور؛ لأنه في معناه؛ ولأن هذه الأمور تشغل قلبه، فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم وتأمل الحادثة. فإن حكم في هذه الأحوال، ففيه وجهان:
أحدهما: ينفذ حكمه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختصم إليه الزبير، ورجل من الأنصار في شراج الحرة فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك؟ فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قال للزبير: اسق زرعك ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر» . متفق عليه. فحكم في غضبه.
والثاني: لا ينفذ حكمه؛ لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وقيل: إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة؛ لأنه يشغله عن استيضاح الحق. أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم، لم يمنع حكمه فيها، كقصة الزبير.
فصل:
ويستحب للحاكم الجلوس للحكم في موضع بارز واسع يصل إليه كل أحد، ولا يحتجب من غير عذر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم، احتجب الله دون حاجته وفقره» رواه الترمذي
ويكون موضعاً لا يتأذى فيه بحر ولا برد ولا دخان ولا رائحة منتنة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى أبي موسى: إياك والقلق والضجر. وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنعه من التوفر على الاجتهاد، ويمنع الخصوم من استيفاء الحجة، ولا بأس بالقضاء في المساجد، لما روي عن عمر وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم كانوا يقضون في المسجد. وقال مالك: هو من أمر الناس القديم. فإن اتفق لأحد الخصمين مانع من دخول المسجد، كالحيض، والكفر، وكل له وكيلاً أو انتظره حتى يخرج، فيحاكم إليه.
فصل:
وإن احتاج إلى أعوان لإحضار الخصوم، اتخذ أمناء كهولاً أو شيوخاً من أهل الدين،(4/228)
ويوصيهم بالرفق بالخصوم. وإن دعت الحاجة إلى اتخاذ حاجب اتخذه أميناً بعيداً من الطمع، ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق.
فصل:
ويتخذ حبساً؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى داراً بمكة بأربعة آلاف اتخذها سجناً. واتخذ علي سجناً؛ ولأنه قد يحتاج إليه للتأديب واستيفاء الحق من المماطل، والاحتفاظ بمن عليه قصاص أو حد، حتى يستوفى.
فصل:
وينبغي أن يتخذ كاتباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استكتب زيداً وغيره؛ ولأن الحاكم يكثر اشتغاله ونظره فلا يتمكن من الجمع بينهما وبين الكتابة. فإن أمكنة ولاية ذلك بنفسه، جاز. ومن شرط الكاتب أن يكون عارفاً بما يكاتب به القضاة من الأحكام. وما يكتبه من المحاضر، والسجلات؛ لأنه إذا لم يعرفه، أفسد ما يكتبه بجهله. وأن يكون عدلاً لأن الكتابة موضع أمانة، ولا تؤمن خيانة الفاسق. وأن يكون مسلماً؛ لأن الإسلام من شروط العدالة، ويستحب أن يكون ورعاً نزهاً، لئلا يستمال بالطمع. جيد الحفظ، ليكون أكمل. حراً، ليخرج من الخلاف. فإن كان عبداً، جاز؛ لأنه من أهل الشهادة.
فصل:
ولا يتخذ شهودا معينين، لا يقبل غيرهم؛ لأنه من ثبتت عدالته وجب قبول شهادته، فلم يجز تخصيص قوم بالقبول دون قوم.
فصل:
ويتخذ أصحاب مسائل يتعرف بهم أحوال من جهل عدالته من الشهود. ويجب أن يكونوا عدولاً برآء من الشحناء، بعداء من العصبية في نسب أو مذهب، كيلا يحملهم ذلك على تزكية فاسق، أو جرح عدل. وأن يكونوا وافري العقول ليصلوا إلى المطلوب. ولا يسألوا عدواً ولا صديقاً؛ لأن الصديق يظهر الجميل ويستر القبيح. والعدو بخلاف ذلك. فإذا شهد عنده من يعرفه بالعدالة، قبل شهادته. وإن علم فسقه لم يقبلها، ويعمل بعلمه في العدالة والفسق. وإن جهل إسلامه سأل عنه، ولم يعمل بظاهر الدار؛ لأن أعرابياً شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برؤية الهلال، فلم يحكم بشهادته حتى سأله عن إسلامه؛ ولأنه يتعلق بشهادته حق على غيره، فلم يعمل بظاهر الدار. ويقبل قوله في إسلام نفسه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل قول الأعرابي في ذلك؛ ولأنه بقوله يصير مسلماً. وإن لم تعرف عدالته لم يحكم حتى تثبت عدالته.(4/229)
وعنه: يحكم بشهادة من جهل عدالته ما لم يقل المشهود عليه: هو فاسق، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: المسلمون عدول بعضهم على بعض؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما شهد عنده الأعرابي برؤية الهلال، لم يسأل عن عدالته؛ ولأن العدالة تخفى ويدل عليها الإسلام، فاكتفى به. والأول: المذهب لقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] . وقال سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وروى سليمان بن حرب قال: شهد رجل عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له عمر: إني لست أعرفك، ولا يضرك أنني لا أعرفك، فائتني برجل يعرفك، فقال رجل: أنا أعرفه يا أمير المؤمنين. قال: بأي شيء تعرفه. قال: بالعدالة. قال: فهو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: فلست تعرفه. ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك؛ ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقاً. فإذا أراد أن يعرف عدالته، كتب اسمه، ونسبه، وكنيته، وحليته، وصنعته، ومسكنه، حتى لا ينسبه، ومن شهد له وعليه، لئلا يكون ممن لا تقبل شهادته للمشهود له، من والد أو ولد، ولا تقبل شهادته على المشهود عليه من عدو، وقدر ما يشهد به لئلا يكون ممن يقبل قوله في القليل دون الكثير. ويبعث ما كتبه مع أصحاب المسائل، ويجتهد أن لا يعرفهم المشهود له، ولا المشهود عليه، لئلا يحتالا في تعديل الشهود أو جرحهم، ولا المسؤولون، لئلا يحتال أعداؤهم في جرحهم، وأصدقاؤهم في تعديلهم. ويجتهد أن لا يعلم بعض أهل المسائل ببعض، كيلا يجمعهم الهوى على التواطؤ على جرح أو تعديل. ويأمرهم القاضي: أن يسألوا عنه معارفه من أهل سوقه، ومسجده، وجيرانه. فإذا عاد أهل المسائل بجرح أو تعديل، ففيه وجهان:
أحدهما: يكتفي بقولهم؛ لأن الجيران لا يلزمهم الحضور للشهادة بما عندهم، فعلى هذا: يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم بلفظ الشهادة، ويعتبر عدولهم كما في سائر المعدلين.
والثاني: لا يكتفي بهم؛ لأنهم شهود فرع، فلا يكتفى بهم مع القدرة على شهود الأصل. لكن يعينون من أخبرهم بالجرح أو العدالة، ليستحضر الحاكم اثنين منهم، فيسمع منهم الجرح والتعديل بلفظ الشهادة والعدد، فعلى هذا: لا يعتبر العدد في أصحاب المسائل، بل يجوز أن يكون واحداً؛ لأنه مخبر عن شاهد، ليس بشاهد.(4/230)
فصل:
ولا يقبل الجرح والتعديل من أقل من اثنين؛ لأنه إخبار عن صفة من يبنى الحكم على صفته، فأشبه الإحصان. وعنه: يكتفى بواحد. اختارها أبو بكر؛ لأنه إخبار عن حال من لا حق له، فأشبه أخبار الديانات؛ ولأنه يكتفى في تعديل راوي الحديث وجرحه بقول واحد، فكذلك في غيره. والأول: المذهب، لما ذكرنا. وإنما اكتفي في تعديل الراوي بواحد؛ لأنه فرع على الرواية المنقولة من واحد، بخلاف الشهادة، ويعتبر فيه اللفظ بالشهادة؛ لأنه شهادة إلا على الرواية التي قلنا: هو خبر، فلا يعتبر فيه لفظ الشهادة، ويكفي في التعديل قوله: أشهد أنه عدل. وإن لم يقل: علي ولي؛ لأنه لا يكون عدلاً، إلا له وعليه. ولا يكفي أن يقول: لا أعلم فيه إلا الخير؛ لأنه لم يصرح بالتعديل. وإن شهد بالجرح واحد، وبالتعديل اثنان، ثبتت العدالة؛ لأن بينة الجرح لم تكمل. وإن شهد بالجرح اثنان، قدم الجرح على التعديل؛ لأن الشاهد به يخبر عن أمر باطني خفي على المعدل، وشاهد العدالة يخبر عن أمر ظاهر، فقدم من يخبر عن الباطن؛ ولأن الجارح مثبت، والمعدل ناف، فقدم الإثبات. وإن شهد بالجرح اثنان، وبالعدالة أربعة، قدم الجرح؛ لأن بينته كملت، ولا يقبل الجرح إلا مفسراً بأن يذكر السبب الذي به جرح، ولا يكفي أن يشهد أنه فاسق، أنه ليس بعدل، وعنه: يكتفى بذلك، كما يكتفى في التعديل أن يشهد أنه عدل. والأول: المذهب؛ لأن الناس يختلفون فيما يفسق به الإنسان، فيحتمل أن يعتقد الشاهد فسقه بما لا يعتقده الحاكم فسقاً. والجرح والتعديل إلى الحاكم، فوجب بيانه، لينظر فيه. ولا يجوز أن يشهد بالجرح إلا من يعلم ذلك بمشاهدة الأفعال، كالسرقة، وشرب الخمر. أو بالسماع في الأقوال، كالقذف، والبدعة، أو بالاستفاضة بالخبر؛ لأنه شهادة عن علم. فإن قال: بلغني كذا، أو قيل لي، لم يجز أن يشهد به، لقول الله تعالى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ولا يقبل التعديل إلا من أهل الخبرة الباطنة ممن تقدمت معرفته، وطالت صحبته، لحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأن المقصود علم عدالته في الباطن، ولا يعلم ذلك إلا من تقدمت معرفته، ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء؛ لأنه شهادة بما ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الحدود.
فصل:
وإذ لم تثبت عدالته، فقال المشهود عليه: هو عدل، حكم بشهادته؛ لأن البحث(4/231)
عن عدالته لحق المشهود عليه، وإنه ممن يثبت بالحق بقوله، فوجب الحكم به. وفيه وجه آخر: إنه لا يثبت؛ لأن اعتبار العدالة في الشاهد حق لله تعالى، ولهذا لو رضي المشهود عليه، أن يحكم عليه بشهادة فاسق، لم يحكم عليه بها.
فصل:
ومن ثبتت عدالته، ثم شهد عند الحاكم بعد ذلك بزمن قريب، حكم بشهادته. وإن كان بعده بزمن طويل، ففيه وجهان:
الوجه الأول: يحكم بشهادته؛ لأن عدالته قد ثبتت، والأصل بقاؤها.
والثاني: يعيد السؤال؛ لأن مع طول الزمان تتغير الأحوال. وإن شهد عنده عدول، فارتاب بشهادتهم، استحب له تفريقهم، وسؤال كل واحد منهم على الانفراد عن صفه التحمل، ومكانه، وزمانه. فإن اختلفوا سقطت شهادتهم. وإن اتفقوا، وعظهم، لما روى أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: كنت عند محارب بن دثار، وهو قاضي الكوفة، فجاءه رجل، فادعى على رجل حقاً، فأنكره، فأحضر المدعي شاهدين، فشهدا له، فقال المشهود عليه: والذى تقوم به السماوات والأرض لقد كذبا علي، وكان محارب بن دثار متكئاً، فاستوى جالساً، وقال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمى بما في حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار» . فإن صدقتما فاثبتا، وإن كذبتما، فغطيا رؤوسكما وانصرفا، فغطيا رؤوسهما وانصرفا.
فصل:
ويستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء من أهل كل مذهب، يشاورهم فيما يشكل عليه، لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] قال الحسن: إن كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مشاورتهم لغنياً، ولكن أراد أن يستن بذلك الحكام. وروى عبد الرحمن بن القاسم: أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، دعا عمر، وعثمان، وعلياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم ولي عمر، فكان يدعو هؤلاء النفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فإذا اتفق أمر مشكل شاورهم. فإن اتضح له الحق، حكم به. وإن لم يتضح له أخره، ولم يقلد غيره، ضاق الوقت أو اتسع؛ لأنه مجتهد فلم يقلد غيره، كما لو اتسع الوقت. وإن فوض الحكم في(4/232)
الحادثة إلى من اتضح له الحق، فحكم فيها، جاز. وإن حكم باجتهاده ثم تبين له الخطأ بنص أو إجماع، نقضه، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ردوا الجهالات إلى السنة. وكتب إلى أبي موسى: لا يمنعنك قضاء قضيت به، ثم راجعت نفسك، فهديت لرشدك، أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، وإن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل؛ ولأنه مفرط في حكمه، غير معذور فيه، فوجب نقضه. وإن تغير اجتهاده، ولم يخالف نصاً، ولا إجماعاً، لم ينقض حكمه، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه حكم في المشركة بإسقاط ولد الأبوين، ثم شرك بينهم بعد، وقال: تلك على ما قضينا، وهذه على ما قضينا. وقضى في الحد بقضايا مختلفة، ولم يرد الأولى؛ ولأنه لو نقض الحكم بمثله، لأدى إلى نقض النقض، والى أن لا تثبت قضية.
فصل:
وليس على القاضي تتبع قضايا من قبله؛ لأن الظاهر أنه لا يولى للقضاء إلا من يصلح، والظاهر إصابته الحق. وإن علم أن القاضي قبله لا يصلح للقضاء، نقض من أحكامه ما خالف الحق، وإن لم يخالف نصاً ولا إجماعاً؛ لأنه ممن لا يجوز قضاؤه، أشبه حكم بعض الرعية، ويبقي ما وافق الحق؛ لأن الحق وصل إلى مستحقه، فلا حاجة إلى نقضه. وقال أبو الخطاب: ينقضه أيضاً ليحكم به. وإن كان يصلح للقضاء، لم يجز أن ينقض من قضاياه، إلا ما خالف نصاً أو إجماعاً، لما ذكرنا في حكم نفسه. وإن تظلم متظلم من القاضي قبله وسأل إحضاره، لم يحضره حتى يسأله عما بينهما؛ لأنه ربما قصد تبديله. فإن قال: لي عليه مال من معاملة، أو غصب، أو رشوة، أحضره، وإن قال: حكم علي بشهادة فاسقين، أو عدوين، أو جار علي في الحكم، وله بينة، أحضره، أو وكيله، وحكم له بها. وإن لم يكن له بينة، ففيه وجهان:
أحدهما: يحضره، كما لو ادعى عليه مالاً.
والثاني: لا يحضره لأنه لا تتعذر إقامة البينة عليه. فإن أحضره فاعترف، حكم عليه، وإن أنكر، قبل قوله بغير يمين؛ لأن قوله مقبول بحال ولايته.
فصل:
ويخرج القاضي إلى مجلس قضائه على أعدل أحواله، ويقول عند خروجه: بسم الله، آمنت بالله، واعتصمت بالله وتوكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويدعو بما روت أم سلمة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذا خرج من بيته قال: «اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أزل، أو أضل أو أضل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل علي» رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وقال الترمذي حديث حسن(4/233)
صحيح، ويسأله أن يعصمه، ويعينه.
ويجلس مستقبل القبلة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة» ويكون عليه سكينة ووقار في مشيه وجلوسه، ويبسط تحته شيئاً يجلس عليه، ليكون أوقر له، ويترك القمطر مختوماً بين يديه، ليترك فيه ما يجتمع من المحاضر، والسجلات، ويجلس الكاتب قريباً منه، ليرى ما يكتبه فإن غلط رد عليه.
فصل:
ويبدأ في نظره بالمحبوسين؛ لأن الحبس عقوبة، وربما كان فيهم من يجب إطلاقه، فاستحب البداءة بهم، فيكتب أسماء المحبوسين، وينادي في البلدان: القاضي ينظر في أمرهم يوم كذا، فليحضر من له محبوس، فإذا حضروا، أخرج رقعة، فأخرج صاحبها فنظر بينه وبين خصمه، فإن وجب إطلاقه أطلقه، وإن وجب حبسه أعيد. فإن قال: حبست بدين أنا معسر به، فصدقه خصمه، أو ثبت إعساره ببينة، أطلقه، وإن كذبه ولم يثبت إعساره، أعيد إلى الحبس. فإن ادعى خصمه أن له داراً، وأقام بها بينة، فقال المحبوس: هي لزيد، فكذبه زيد، بيعت الدار، وقضي الدين؛ لأن إقراره سقط بإكذابه، وإن صدقه زيد وله بينة، فهي له؛ لأن بينته قويت بإقرار صاحب اليد.
وإن قال: حبست في ثمن كلب، أو خمر أرقته لذمي. فقال القاضي: يطلقه لأن غرمه ليس بواجب. وفيه وجه آخر: أن الثاني ينفذ حكم الأول؛ لأنه ليس له نقض حكم غيره باجتهاده، ويحتمل أن يتوقف ويجتهد في أن يصطلحا على شيء؛ لأنه لا يمكنه فعل الأمرين المتقدمين. وإن قال: حبست ظلماً، ولا حق علي، نادى الحاكم بذلك. فإن لم يظهر له خصم، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه لا خصم له، ولا حق عليه، ويخلي سبيله، والله أعلم.
فصل:
ثم ينظر في أمر الأوصياء والأمناء؛ لأنهم يتصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله. فإن ادعى رجل أنه وصي ميت، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل عدم الوصية. فإن أقام بينة، وكان عدلاً قوياً، أقره على الوصية، وإن كان فاسقاً أو ضعيفاً، ضم إليه أميناً يتقوى به، أو أبدله إن رأى إبداله. وإن أقام بينة أن الحاكم الذي قبله أنفذ الوصية، أنفذها، ولم يسأل عن عدالته؛ لأن الظاهر أنه لا ينفذ ذلك إلا لمن هو أهل. وإن كان وصياً في تفرقة ثلثه، ففرقه وهو عدل، فلا شيء عليه. وإن كان فاسقاً والوصية لمعينين، فلا شيء عليه أيضاً؛ لأنه دفعه إلى مستحقه، وإن كان لغير معين، ففيه وجهان:(4/234)
أحدهما: لا غرم عليه؛ لأنه دفعه إلى مستحقه بإذن الميت، أشبه ما لو كان لمعينين.
والثاني: يغرم لأنه فرقه ولم تكن له تفرقته، فغرمه، كما لو جعلت تفرقته إلى غيره، والله تعالى أعلم
[باب ما على القاضي في الخصوم]
يلزمه أن يسوي بين الخصمين في الدخول عليه، والمجلس، والخطاب، والإقبال عليهما، والسماع منهما، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين، فليعدل بينهم في لحظه، وإشارته، ومقعده، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين، ما لا يرفعه على الآخر» رواه عمر بن شيبة في كتاب قضاة البصرة.
وكتب عمر إلى أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: واس الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع شريف في حيفك.
وجاء رجل إلى شريح وعنده السري، فقال: اعدل بي على هذا الجالس إلى جنبك، فقال شريح للسري: قم فاجلس مع خصمك. قال: إني أسمعك من مكاني، قال: لا. قم فاجلس مع خصمك، إن مجلسك برتبته، وإني لا أدع النصرة وأنا عليها قادر؛ ولأن إيثار أحد الخصمين في بعض ما ذكرنا يكسر خصمه. والمستحب أن يجلسهما بين يديه، لما روى ابن الزبير قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي» . رواه أبو داود ولأنه أمكن لخطابهما، فإن كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً، جاز رفع المسلم عليه، لما روى إبراهيم التيمي: أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حاكم يهودياً إلى شريح، فقام شريح من مجلسه، فأجلس علياً فيه، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو كان خصمي مسلماً لجلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تساووهم في المجالس» . ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه، لما روي عن علي كرم الله وجهه أنه نزل به رجل، فقال: ألك خصم؟ قال: نعم. قال: تحول عنا، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تضيفوا أحد الخصمين إلا ومعه خصمه» .
ولا يسار أحدهما، ولا يلقنه حجته، ولا يأمره بإقرار ولا إنكار، لما فيه من الضرر. فإن لم يحسن الدعوى، ففيه وجهان:(4/235)
أحدهما: لا يجوز له تلقينه كيف يدعي؛ لأن في تلقينه ما يثبت حقه به، أشبه تلقينه الحجة.
والثاني: يجوز؛ لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه، وله أن يزن عن أحدهما ما وجب عليه؛ لأنه نفع لخصمه، ولا يكون إلا بعد انقضاء الحكم، وله أن يشفع لأحدهما إلى الآخر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شفع إلى كعب بن مالك في أن يحط عن ابن أبي حدرد بعض دينه» . متفق عليه.
وإن أحب غلبة أحدهما ولم يظهر منه ذلك بقول، ولا فعل، فلا شيء عليه؛ لأن التسوية في المحبة والميل بالقلب لا يستطاع، فأشبه التسوية بين النساء. ولا ينتهر خصماً دون الآخر، لئلا يكسره، إلا أن يظهر منه لدد، أو سوء أدب، فينهاه فإن عاد زجره. فإن عاد، عزره. ولا يزجر شاهداً، ولا يتعيبه؛ لأن ذلك يمنعه أداء الشهادة على وجهها ويدعوه إلى ترك القيام بتحملها وأدائها، وفيه تضييع للحقوق.
فصل:
وإذا حضر القاضي خصوم كثيرة، قدم الأول، فالأول؛ لأن الأول سبق إلى حق له، فقدم، كما لو سبق إلى موضع مباح. فإن حضروا دفعة واحدة أو أشكل السابق، أقرع بينهم، فمن قرع، قدم؛ لأنهم تساووا، فقدم أحدهم بالقرعة، كالنساء إذا أراد السفر بإحداهن. وإن ثبت السبق لأحدهم، فآثر غيره بسبقه، جاز؛ لأن الحق له، فجاز إيثاره به، كما لو سبق إلى مباح. ولا يقدم السابق في أكثر من حكومة واحدة، كيلا يستوعب المجلس بدعاويه، فيضر بغيره. وإن حضر مقيمون ومسافرون قليل في وقت واحد، وهم على الخروج، قدموا؛ لأن عليهم ضرراً في المقام، وإن كانوا مثل المقيمين. ولا يزال ضرر بمثله. وإن تقدم خصمان، فادعى أحدهما حقاً على الآخر فقال الآخر: أنا جئت به، وأنا المدعي، قدم السابق بالدعوى؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما محتمل، وللسابق حق السبق، فقدم.
فصل:
وإذا كان بين اثنين خصومة، فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم، لزمته إجابته، لقول الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51] . فإن لم يحضر فاستعدي عليه، لزم الحاكم أن(4/236)
يعديه؛ لأن تركه يفضي إلى تضييع الحقوق. فإن استدعاه الحاكم، لزمته الإجابة، فإن أبى تقدم إلى صاحب الشرط ليحضره. وإن استعدى على غائب، وكان الغائب في بلد فيه حاكم، كتب إليه، لينظر بينهما، وإن لم يكن ثم حاكم، وكان ثم من يتوسط بينهما، كتب إليه لينظر بينهما. فإن لم يكن ثم من ينظر بينهما، لم يحضره حتى يحقق الدعوى؛ لأنه يجوز أن يكون المدعى ليس بحق، كثمن الكلب، والخمر، فلا يكلفه مشقة الحضور، كما لا يقضي به فإذا حقق الدعوى أحضره، بعدت المسافة أو قربت، لما روي أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى المهاجر بن أبي أمية: أن ابعث إلي بقيس بن المكشوح في وثاق، فأحلفه خمسين يميناً، على منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ما قتل داذويه؛ ولأننا لو لم نلزمه الحضور، جعل البعد طريقاً إلى إبطال الحقوق. وإن استعداه على امرأة برزة، فهي كالرجل؛ لأنها مثله في الخروج إلى الحاجات. وإن كانت غير برزة. لم تكلف الحضور، وتوكل من يحاكم عنها. فإن توجهت اليمين عليها، بعث إليها من يحلفها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ولم يكلفها الحضور.
[باب صفة القضاء]
إذا حضر القاضي خصمان، فادعى أحدهما على الآخر شيئاً تصح دعواه، فللقاضي مطالبة الخصم بالخروج من دعواه قبل سؤاله؛ لأن شاهد الحال يدل على طلب المطالبة، فيقول له الحاكم: ما تقول فيما يدعى عليك؟ فإن أقر لزمه الحق. ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعي؛ لأن الحكم حق له، فلم يجز استيفاؤه بغير إذنه. فإذا طالبه حكم له. فيقول: قد ألزمتك ذلك، أو قضيت عليك، أو أخرج له منه. ويحتمل جواز الحكم من غير مطالبة؛ لأن قرينة حاله تدل على إرادة ذلك؛ ولأن أكثر الناس لا يعلمون توقف الحكم على طلبهم، فتوقف الحكم عليه يفضي إلى فوات حقه؛ ولأنه لم ينقل هذا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن خلفائه، فاشتراطه يخالف ظاهر حالهم. وإن أنكر، فلم يعرف المدعي وقت البينة، قال له القاضي: ألك بينة؟ وإن كان يعلم فللقاضي أن يقول ذلك، وله أن يسكت. فإن قال: ما لي بينة، قال له الحاكم: فلك يمينه. فإن سأله إحلافه، أحلفه. ولا يجوز إحلافه قبل مطالبة المدعي، فإن فعل لم يعتد بها؛ لأنها يمين قبل وقتها، وللمدعي المطالبة بإعادتها. وإن أمسك المدعي عن إحلافه. ثم أراد إحلافه، فله ذلك؛ لأن حقه لم يسقط بالتأخير. وإن قال: أبرأتك من اليمين، سقط حقه(4/237)
منها في هذه الدعوى. وله استئناف الدعوى، والطلب باليمين فيها؛ لأن حقه لم يسقط بالإبراء من اليمين. وهذه الدعوى غير التي أبرأه من اليمين فيها. فإذا حلف سقطت الدعوى، لما روى وائل بن حجر: «أن رجلاً من حضرموت ورجلاً من كندة أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال الحضرمي: إن هذا غلبني على أرضي ورثتها من أبي، وقال الكندي: أرضي وفي يدي لا حق له فيها، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: شاهداك أو يمينه، فقال: إنه لا يتورع من شيء، فقال: ليس لك إلا ذلك.» رواه مسلم بمعناه.
فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه، فإن بدا فقال: أريد أن أنظر في حسابي، أمهل ثلاثة أيام؛ لأنها قريبة، ولا يمهل أكثر منها؛ لأنه كثير. وقال أبو الخطاب: لا يمهل لأن الحق توجه عليه حالاً، فلا يمهل به، كالمال. وإن لم يذكر عذراً لامتناعه، قال له الحاكم: إن حلفت وإلا جعلتك ناكلاً وقضيت عليك، ويكرر ذلك عليه ثلاثاً، فإن حلف، وإلا حكم عليه، لما روى أحمد أن ابن عمر باع زيد بن ثابت عبداً، فادعى عليه زيد أنه باعه إياه عالماً بعيبه، فأنكر ابن عمر، فتحاكما إلى عثمان، فقال له عثمان: احلف أنك ما علمت به عيباً، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد؛ ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اليمين على المدعى عليه» فحصرها في جنبته، فلم يشرع لغيره. واختار أبو الخطاب أنه لا يحكم بالنكول، ولكن ترد اليمين على خصمه، وقال: قد صوبه أحمد، وقال: ما هو ببعيد، يحلف ويستحق، فيقول الحاكم لخصمه: أتحلف وتستحق؟ لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد اليمين على صاحب الحق» . رواه الدارقطني. وروي أن المقداد اقترض من عثمان مالاً، فتحاكما إلى عمر، فقال عثمان: هو سبعة آلاف، وقال المقداد: هو أربعة آلاف، فقال المقداد لعثمان: احلف أنه سبعة آلاف، فقال عمر: أنصفك. فإن حلف المدعي حكم له، وإن نكل سئل عن سبب نكوله؛ لأنه لا يجب بنكوله لغيره حق، بخلاف المدعى عليه. فإن قال: امتنعت؛ لأن لي بينة أقيمها، أو حساباً أنظر فيه، فهو على حقه من اليمين، ولا يضيق عليه في المدة؛ لأنه لا يتأخر بتركه إلا حقه، بخلاف المدعى عليه. فإن قال: لا أريد أن أحلف، فهو ناكل. فإن عاد فبذل اليمين، لم تسمع منه في هذه الدعوى؛ لأنه أسقط حقه منها. فإن عاد في مجلس آخر، واستأنف الدعوى، أعيد الحكم بينهما، كالأول. فإن بذل اليمين هاهنا حكم بها؛ لأنها يمين في دعوى أخرى.(4/238)
فصل:
وإن كان للمدعي بينة عادلة، قدمت على يمين المدعى عليه، للخبر؛ ولأنها لا تهمة فيها؛ لأنها من جهة غيره، واليمين بينهم فيها. ولا يجوز سماع البينة والحكم بها إلا بمسألة المدعي؛ لأنه حق له، فلا يستوفى إلا بإذنه. فإن شهدت البينة، فقال المدعى عليه: أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة، لم يحلف؛ لأن في ذلك طعناً في البينة. وإن قال: قضيته، أو: أبرأني منه، أو: أحلته به، فأنكر المدعي، فسأل إحلافه، أحلف له؛ لأن ذلك ليس بتكذيب للبينة. فإن كانت البينة غير عادلة، قال له الحاكم: زدني شهوداً، فإن قال المدعي: لي بينة غائبة فأحلف المدعى عليه، أحلف؛ لأن الغائبة كالمعدومة، لتعذر إقامتها. ومتى حضرت بينته وطلب سماعها وجب سماعها والحكم بها، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: البينة العادلة أحق من اليمين الفاجرة؛ ولأن البينة كالإقرار، ثم يجب الحكم بالإقرار بعد اليمين كذلك بالبينة، وإن قال: لي بينة حاضرة، ولكني أريد يمينه ثم أقيم بينتي، لم يستحلف؛ لأنه أمكن فصل الخصومة بالبينة وحدها، فلم يشرع معها غيرها، كما لو أقامها. وإن قال: أحلفوه ولا أقيم بينتي، حلف؛ لأن له في هذا غرضاً وهو أن يخاف، فيقر، فيثبت الحكم بإقراره، وهو أسهل من إثباته بالبينة. فإذا حلف فهل يمكن المدعي من إقامة البينة؟ على وجهين. وإن قال: ما لي بينة، ثم جاء ببينته، لم تسمع؛ لأنه أكذبها بإنكاره. وإن قال: ما أعلم لي بينة، ثم أقام بينة، أو قال شاهدان: نحن نشهد لك، فقال: هذان بينتي، سمعت؛ لأنه لم يكذب بينته. وإن قال: ما أريد أن تشهدا لي، وأريد يمينه، حلف لما ذكرناه. وإن قال: لي بينة، وأريد ملازمة خصمي، أو حبسه حتى أقيمها، لم يكن له ذلك، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك» .
فصل:
وإذا شهد شاهدان، فلم يعلم خصمه أن له جرحهما، قال له الحاكم: قد أطردتك جرحهما. وإن كان يعلم، فله أن يقول له ذلك، وله أن يسكت. فإن سأل خصمه الإنظار ليجرحهما، أنظر ثلاثاً، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال في كتابه إلى أبي موسى: واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة، أخذت له حقه، وإلا استحللت القضية عليه، فإنه أنفى للشك، وأجلى للعمى. وإن قال: لي بينة بالقضاء أو الإبراء، أمهل ثلاثاً، فإن لم يأت بها، حلف المدعي على نفي ذلك، وقضى له، وله ملازمته إلى أن يقيم بينة بالجرح أو القضاء؛ لأن الحق قد ثبت في الظاهر. وإن شهد شاهدان، ولم تثبت عدالتهما في الباطن، فسأل المدعي حبس الخصم إلى أن يسأل عن عدالة الشهود، حبس؛ لأن الظاهر العدالة، وعدم الفسق،(4/239)
ويحتمل أن لا يحبس؛ لأن الأصل براءة ذمته. وإن شهد له واحد، فسأله حبسه حتى يقيم له شاهداً آخر، ففيه وجهان:
أحدهما: يحبس كما لو جهل عدالة الشهود.
والثاني: لا يحبس؛ لأن البينة لم تتم.
فصل:
وإن علم الحاكم الحال، لم يجز أن يحكم بعلمه، في حد ولا غيره، في ظاهر المذهب، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه تداعى عنده رجلان، فقال له أحدهما: أنت شاهدي، فقال: إن شئتما شهدت ولم أحكم، أو أحكم ولا أشهد. وقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو رأيت رجلاً على حد، لم أحده حتى تقوم البينة عندي؛ ولأنه متهم في الحكم بعلمه، فلم يجز، كالحكم لولده. وعنه: يجوز له الحكم بعلمه سواء علمه في ولايته أو قبلها، «ولأن هنداً قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني لي ولولدي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقضى بعلمه؛ ولأنه حق علمه، فجاز الحكم به، كالتعديل والجرح، وكما لو ثبت بالبينة.
فصل:
وإن كان للمدعي شاهد واحد عدل، في المال، أو ما يقصد به المال، حلف المدعي مع شهادته، وحكم له به؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قضى بشاهد ويمين» . رواه مسلم.
فإن أبى أن يحلف، وقال: أريد يمين المدعى عليه أحلفناه. فإن نكل المدعى عليه، قضي عليه. ومن قال: ترد اليمين، فهل ترد هاهنا؟ يحتمل وجهين:
أحدهما: لا ترد؛ لأنها كانت في جنبته، وقد أسقطها بنكوله عنها، وصارت في جنبة غيره، فلم تعد إليه، كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين، فردت على المدعي، فنكل عنها.
والثاني: ترد عليه؛ لأن هذه غير اليمين الأولى؛ ولأن سبب الأولى قوة جنبة المدعي بالشاهد. وسبب الثانية نكول المدعى عليه، فسقوط إحداهما لا يوجب سقوط الأخرى. فإن سكت المدعى عليه، فلم ينكر ولم يقر، حبسه الحاكم حتى يجيب، ولم يجعله بذلك ناكلاً. ذكره القاضي في المجرد. وذكر أبو الخطاب أن الحاكم(4/240)
يقول له: إن أجبت وإلا جعلتك ناكلا، وحكمت عليك، ويكرر ذلك ثلاثاً، فإن أجاب وإلا حكم عليه؛ لأنه ناكل عما يلزمه جوابه، فأشبه الناكل عن اليمين.
فصل:
ومتى اتضح الحكم للقاضي، لزمه الحكم به، ولم يجز ترديد الخصمين؛ لأن الحكم لازم، وأداء الحق واجب، فلم يجز تأخيره. وإن كان فيه لبس أمرهما بالصلح، فإن أبيا، أخرهما، ولا يحكم حتى يزول اللبس، ويتضح وجه الصواب؛ لأن الحكم بالجهل حرام.
[باب القضاء على الغائب وحكم كتاب القاضي]
إن حضر رجل يدعي على رجل غائب عن البلد ولا بينة معه، لم تسمع دعواه؛ لأن سماعها لا يفيد. وإن كانت له بينة، سمع الدعوى، والبينة وحكم بها؛ لأنها بينة مسموعة، فيحكم بها، كما لو شهدت على حاضر. وعن أحمد: لا يجوز القضاء على الغائب. وهو اختيار ابن أبي موسى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقض للأول حتى تسمع كلام الآخر، فإنك لا تدري بما تقضي» . رواه الترمذي. وقال: حديث حسن؛ ولأنه قضى لأحد الخصمين وحده، فلم يجز، كما لو كان الآخر في البلد؛ ولأنه يحتمل القضاء والإبراء، وكون الشاهد مجروحاً، فلم يجز الحكم، كالأصل. ولو ادعى على حاضر لم تسمع البينة، حتى يحضر، لما ذكرنا؛ ولأنه يمكن سماع قوله، فلم يحكم قبل سماعه، كحاضر المجلس. وتعتبر الغيبة إلى مسافة القصر؛ لأنها الغيبة التي تبنى عليها الأحكام. فإن امتنع الخصم في البلد من الحضور عند الحاكم، وتعذر إحضاره، حكم عليه؛ لأنه لو لم يحكم عليه، لجعل الامتناع والاستتار طريقاً إلى تضييع الحقوق، ويكون حكمه حكم الغائب. وإن هرب المدعى عليه بعد الدعوى، فهو كما لو هرب قبلها في الحكم عليه. ولو كانت الدعوى على صبي أو مجنون، لحكم عليه بالبينة؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، فهو كالغائب، ولا يمين على المدعي في هذه المواضع كلها؛ لأنه أقام البينة بحقه فلم يستحلف، كما لو كان خصمه حاضراً. وعنه: يستحلف؛ لأنه يجب الاحتياط. ويحتمل أن يكون قد قضاه أو أبرأه، أو غير ذلك، وكذلك لو كان حاضراً، فادعى بعض ذلك وطلب اليمين، أجيب إليها، فمع الغيبة أولى، وكذلك الحكم إن كانت الدعوى على مجنون، أو صبي؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، فهو كالغائب.
فصل:
ويجوز للقاضي أن يكتب إلى قاض آخر بما ثبت عنده، ليحكم به، وبما حكم به(4/241)
لينفذه، لما روى الضحاك بن سفيان قال: «كتب إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها» . أخرجه أبو داود والترمذي؛ ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك. فإن كتب بما حكم به لينفذه، جاز في المسافة القريبة والبعيدة؛ لأن إمضاء حكم القاضي لازم لكل قريب وبعيد. وإن كتب بما ثبت عنده ليحكم به، لم يجز إلا إذا كان بينهما مسافة القصر؛ لأن القاضي الكاتب فيما حمل شهود الكتاب، كشاهد الأصل، وشهود الكتاب كشاهد الفرع. ولا تقبل شهادة الفرع مع قرب الأصل.
فصل:
ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان عدلان لأن ما أمكن إثباته بالشهادة، لم يجز الاقتصار فيه على الظاهر، كالمفقود. ويتخرج أن يجوز قبوله بغير شهادة، إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه، كقولنا في الوصية. والأول أولى؛ لأن الخط يشبه الخط، والختم يشبه الختم، فلا يؤمن التزوير عليه. فإذا أراد إنفاذ كتاب، أحضر شاهدين وقرأ الكتاب عليهما، أو يقرؤه غيره وهو يسمعه، والمستحب أن ينظر الشاهدان في الكتاب حتى لا يحرف ما فيه. وإن لم ينظرا جاز؛ لأنهما يؤديان ما سمعا. فإذا وصلا إلى القاضي المكتوب إليه، قرآ الكتاب عليه، وقالا: نشهد أن هذا كتاب فلان إليك سمعناه وأشهدنا به، كتب إليك بما فيه. فإن قالا: نشهد أن فلاناً هذا كتب إليك بما في هذا الكتاب، وسلماه إليه من غير قراءته عليه، لم يقبله؛ لأنه ربما زور عليهما، وإن لم يختم الكتاب، أو ختمه فانكسر الختم، لم يضر؛ لأن المعول على ما فيه. وإن انمحى بعضه وهما يحفظان ما فيه، أو معهما نسخة أخرى، شهدا، وقبل الحاكم. وإن لم يحفظاه، ولا معهما نسخة أخرى، لم يشهدا؛ لأنهما لا يعلمان ما انمحى منه.
فصل:
وإن مات الكاتب، أو عزل، جاز للمكتوب إليه قبول الكتاب، والعمل به؛ لأنه إن كان الكتاب بما حكم به، وجب تنفيذه عل كل أحد، وإن كان فيما ثبت لينفذ، فالكاتب كشاهد الأصل. وموت شاهد الأصل لا يمنع قبول شاهد الفرع. وإن فسق الكاتب، ثم وصل كتابه، وجب قبوله فيما حكم به؛ لأن الحكم لا يبطل بالفسق بعده، ولم يقبل فيما ثبت عنده؛ لأنه كشاهد الأصل. وشاهد الأصل إذا فسق قبل الحكم، لم يحكم بشهادة الفرع. وإن مات المكتوب إليه أو عزل، أو ولي غيره، قبل الثاني الكتاب؛ لأن المعول عل ما حفظه الشهود وتحملوه. ومن تحمل شهادة وشهد بها، وجب على كل قاض الحكم بشهادته.(4/242)
فصل:
وإذا وصل الكتاب إليه، فأحضر الخصم، فقال: لست فلان ابن فلان، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل براءة ذمته. فإن أقام المدعي بينة أنه فلان ابن فلان، ثبت ذلك، فإن قال: المحكوم عليه غيري، لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد أن له من يشاركه في جميع ما سمي ووصف به؛ لأن الأصل عدم المشاركة. فإن قامت بالمشاركة بينة، توقف عن الحكم حتى يثبت من المحكوم عليه منهما. فإذا ثبت، حكم به. فإن قال المحكوم عليه: اكتب إلى الحاكم الكاتب أنك حكمت علي حتى لا يدعى ثانياً، ففيه وجهان. أحدهما: تلزمه إجابته ليخلص مما يخافه. والثاني: لا يلزمه؛ لأن الحاكم إنما يكتب بما حكم به، أو ثبت عنده، والحاكم هو الذي حكم به، أو ثبت عنده دون غيره.
فصل:
إذا ثبت عنده حق بالإقرار، فسأله المقر له أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده من الإقرار، لزمه ذلك؛ لأنه لا يؤمن أن ينكر المقر، فلزمه الإشهاد، ليكون حجة له إذا أنكر. وإن ثبت عنده الحق بنكول المدعى عليه، فسأله المدعي أن يشهد على نفسه بثبوت النكول، لزمه؛ لأنه لا يؤمن أن ينكر بعد ذلك، ويحلف. وإن ثبت عنده بيمين المدعي بعد نكول المدعى عليه، فسأله أن يشهد على نفسه بذلك، لزمه؛ لأنه لا حجة للمدعي غير الإشهاد. وإن ثبت ببينة، فسأله المدعي الإشهاد، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجب عليه؛ لأن له بالحق بينة، فلم يلزم القاضي تجديد بينة أخرى، وإن ادعى عليه حقاً.
الثاني: يلزمه؛ لأن في الشهادة على نفسه تعديلاً لبينته، وإثباتاً لحقه، وإلزاماً لخصمه. وإن ادعى عليه حقاً، فأنكره، وحلف عليه، وسأله الحالف أن يشهد على براءته، لزمه، ليكون حجة له في سقوط الدعوى، حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى. وإن سأله في هذه المسائل أن يكتب له محضراً بما جرى، وما ثبت له به الحق. فإن لم يكن قرطاس من بيت المال، ولم يأته المكتوب له بقرطاس، لم يلزمه أن يكتب له؛ لأن عليه الكتاب دون الغرم. وإن كان عنده قرطاس من بيت المال، أو أتاه صاحبه بقرطاس. فهل يلزمه كتابة المحضر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه لأنه وثيقة بالحق، فلزمه كالإشهاد على نفسه.
والثاني: لا يلزمه؛ لأن الحق يثبت باليمين، أو البينة دون المحضر. وإن سأله أن يسجل به، وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر، ويشهد على إنفاذه أسجل له. وهل يلزمه ذلك؟ على وجهين كما ذكرنا في المحضر.(4/243)
فصل:
وصفة المحضر: حضر القاضي فلان ابن فلان، قاضي عبد الله الإمام على كذا. وإن كان خليفة قاض قال: خليفة فلان: قاضي الإمام فلان، بمجلس حكمه وقضائه، فلان ابن فلان الفلاني، وأحضر معه فلان ابن فلان الفلاني، ويرفع في نسبهما، حتى يتميزا، وإن ذكر حليتهما، كان آكد. وإن كان الحاكم لا يعرف الخصمين، قال: مدع ذكر أنه فلان ابن فلان الفلاني، وأحضر معه مدعى عليه، ذكر أنه فلان ابن فلان الفلاني، ويرفع في نسبهما، ويذكر حليتهما؛ لأن الاعتماد عليهما، فادعى عليه كذا، فأقر له به. ولا يحتاج أن يذكر بمجلس حكمه وقضائه؛ لأن الإقرار يصح في غير مجلس الحكم. وإن كتب أنه شهد على إقراره شاهدان، كان آكد. وإن أنكر وحلف، قال: فأنكر فسأل الحاكم المدعي: ألك بينة؟ فلم يكن له بينة، فقال: لك يمينه، فسأله أن يستحلفه، فأحلفه في مجلس حكمه وقضائه في وقت واحد؛ لأن الاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحكم. وإن قضى بالنكول قال: فعرض اليمين على المدعى عليه، فنكل عنها، فسأل خصمه أن يقضي عليه بالحق، فقضى عليه في مجلس حكمه وقضائه في وقت كذا. وإن رد اليمين على المدعي فحلف، وحكم له، ذكر ذلك، ويعلم في رأس المحضر: الحمد لله رب العالمين، أو نحوه، وإن ثبت الحق ببينة، كتب الحاكم في آخر المحضر: شهد عندي بذلك فلان مع علامته في رأس المحضر. وصفة السجل أن يكتب: هذا ما أشهد عليه القاضي فلان ابن فلان، قاضي الإمام فلان، في موضع كذا في وقت كذا، أنه ثبت عنده، بشهادة فلان وفلان، وينسبهما، وقد عرفهما بما ساغ له به قبول شهادتهما عنده، بما في كتاب نسخته، وينسخ الكتاب، ثم يكتب بعد ذلك: فحكم به وأنفذه وأمضاه، بعد أن سأله فلان ابن فلان أن يحكم له به. ولا يحتاج أن يذكر له بمحضر المدعى عليه؛ لأن القضاء على الغائب جائز. فإن ذكره احتياطاً، قال: بعد أن أحضر من ساغ له للدعوى عليه، ويكتب المحضر، أو المسجل نسختين، يدفع إحداهما إلى صاحب الحق، والأخرى في ديوان الحكم، فإن هلكت إحداهما وجدت الأخرى. وما يحصل عنده من المحاضر والسجلات في كل شهر، أو أسبوع على قدر كثرتها أو قلتها، يشد عليها إضبارة، ويكتب عليها: سجلات كذا، ومحاضر كذا، في شهر كذا، في سنة كذا، ليسهل إخراجه عند طلبه. فإن تولى ذلك بنفسه، وإلا وكل أمينه. فإن حضر رجلان عند الحاكم، فادعى أحدهما أن له في ديوان الحكم حجة على خصمه، فوجدها وكان حكماً حكم به غيره، لم يحكم به، إلا أن يشهد شاهدان أن هذا حكم حكم به فلان القاضي، ولا يكفي الخط والختم؛ لأنه يحتمل التزوير في الخط والختم. وإن كان حكماً حكم هو به، فذكر الحكم وعلم به، عمل به، وألزم(4/244)
خصمه حكمه. وإن لم يذكر الحكم به، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز له الحكم به؛ لأنه يحتمل التزوير في الخط والختم، فلم يجز له الحكم به. كحكم غيره.
والثانية: يجوز الحكم به؛ لأنه إذا كان بخطه تحت ختمه، لم يحتمل أن يكون غير صحيح إلا احتمالا بعيداً، كاحتمال كذب الشاهدين، فلا يعول على مثله. فإن شهد به شاهدان، وجب الحكم به؛ لأنه حكم شهد به عدلان، فوجب قبوله، كحكم غيره، أو كما لو شهدا به عند غيره.
فصل:
وإذا قال: حكمت لفلان بكذا، قبل قوله؛ لأنه يملك الحكم به فملك الإقرار به، كالزوج لما ملك الطلاق، ملك الإقرار به. وإن قال ذلك بعد عزله، قبل أيضاً؛ لأن عزله لا يمنع قبول قوله كما لو كتب إلى غيره، فوصل الكتاب بعد عزله؛ ولأنه أخبر بما حكم به، وهو غير متهم، فيجب قبوله، كحال الولاية. ويحتمل أن لا يقبل قوله؛ لأنه لا يملك الحكم، فلم يملك الإقرار به.
[باب القسمة]
الأصل في القسمة، الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} [النساء: 8] . وأما السنة: فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة» . وقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغنائم بين أصحابه، وأجمعت الأمة على جوازها. والعبرة تقتضيها لحاجة الشركاء، ليتخلصوا من سوء المشاركة وكثرة الأيدي، ويتصرف كل واحد في المال على الكمال، على حسب الاختيار.
فصل:
ويجوز للشركاء أن يقتسموا بأنفسهم، وأن ينصبوا قاسماً يقسم بينهم، وأن يسألوا الحاكم قاسماً يقسم بينهم؛ لأن الحق لهم، فجاز ما تراضوا عليه. ويجب أن يكون القاسم عالماً بالقسمة، ليوصل إلى كل ذي حق حقه، كما يجب أن يكون الحاكم عالماً(4/245)
بالحكم، ليحكم بالحق. فإن كان منصوباً من جهة الحاكم، فمن شرطه أن يكون عدلاً؛ لأنه نصبه لإلزام الحكم، فاشترطت عدالته، كالحاكم. وإن كان منصوباً من جهتهما، لم تشترط عدالته؛ لأنه نائبهما، فأشبه الوكيل، إلا أنه إن كان عدلاً، كان القاسم كالحاكم في لزوم قسمته؛ لأنه يصير بتراضيهما، كالمنصوب من جهة الحاكم، وإن لم يكن عدلاً، لم تلزم قسمته إلا بتراضيهما، كما لو اقتسما بأنفسهما. ويجزئ قاسم واحد، إن خلت القسمة من تقويم؛ لأنه حكم بينهما، فأشبه الحاكم. وإن كان فيها تقويم، لم يجز أقل من قاسمين؛ لأن التقويم لا يثبت إلا باثنين.
فصل:
وعلى الإمام أن يرزق القاسم من بيت المال؛ لأنه من المصالح. وقد روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، اتخذ قاسماً جعل له رزقاً في بيت المال؛ ولأن هذا من المصالح، فأشبه رزق الحاكم. فإن لم يعط من بيت المال شيئاً، فأجرته على الشركاء على قدر أملاكهم، سواء طلباها معاً، أو أحدهما؛ لأنها مؤنة تتعلق بالملك، فكانت على قدر الأملاك، كنفقة العبد. وإن كان الشركاء نصبوا قاسماً، فأجرته بينهم على ما شرطوه؛ لأنه أجيرهم.
فصل:
وإذا كان في القسمة رد عوض، فهي بيع، لأن صاحب الرد بذل المال عوضاً عما حصل له من حق شريكه، وهذا هو البيع. وإن لم يكن فيها رد، فهي إفراز النصيبين، وتميز الحقين، وليست بيعاً، ولذلك جاز تعليقها على القرعة، وتقدرت بقدر الحق، ودخلها الإجبار. ولو كانت بيعاً حتماً لم يجز ذلك فيها، كما في سائر البيوع. وحكي عن أبي عبد الله بن بطة: أنها بيع؛ لأن أحدهما يبذل نصيبه من أحد السهمين بنصيب صاحبه من السهم الآخر، وهذا حقيقة البيع. والمذهب الأول. فيجوز قسمة الثمار على الشجر خرصاً، وقسمة المكيل وزنا، والموزون كيلاً، والتفرق قبل القبض. ولا يحنث بها من حلف أن لا يبيع. وإن كان العقار وقفاً أو نصفه، جازت القسمة، وإن قلنا: هي بيع، لم يجز شي من ذلك؛ لأن بيعه غير جائز. وإن كان فيها رد، لم تجز قسمة الوقف؛ لأنه لا يجوز بيع شيء منه، وإن كان بعضه طلقاً، وبعضه وقفاً، والرد من صاحب الطلق، لم يجز؛ لأنه يشتري بعض الوقف. وإن كان صاحب الوقف، جاز؛ ولأنه يشتري بعض الطلق.
فصل:
إذا طلب أحد الشريكين القسمة، فأبى الآخر من غير ضرر، كالحبوب والأدهان،(4/246)
والثياب الغليظة، والأراضي، والدور التي يمكن قسمتها بالتعديل من غير رد عوض، ولا ضرر، أجبر الممتنع عليها؛ لأن طالبها يطلب إزالة الضرر عنه وعن شريكه من غير ضرر بأحد، فوجب إجابته إليه. وسواء كانت الأرض متساوية الأجر، أو مختلفة، بعضها عامر، وبعضها خراب، أو بعضها ذو بناء، أو شجر، أو بئر، وبعضها بياض، أو يسقى بعضها سيحاً، وبعضها بناضح. وإن كان عليهما ضرر في القسمة، كالجواهر، والثياب التي ينقصها القطع، والرحى الواحدة، والبئر، والحمام الصغير، لم يجبر الممتنع، لما روى مالك في موطئه عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ضرر ولا ضرار» . من المسند؛ ولأنه إتلاف مال، وسفه يستحق به الحجر، فلم يجبر عليه، كهدم البناء. وإن كان على أحدهما ضرر دون الآخر، كدار لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها، يستضر صاحب الثلث بالقسمة دون شركائه، فطلبها المستضر، ففيه وجهان:
أحدهما: يجبر الممتنع؛ لأنه مطالب بقسمة لا ضرر عليه فيها، فلزمته الإجابة، كالتي قبلها.
والثاني: لا يجبر؛ لأن طلب المستضر سفه، فلم تلزم إجابته، كما لو استضرا معاً. وإن طلبها غير المستضر، فقال أبو الخطاب: لا يجبر الممتنع. وهذا ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها. وذلك، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» ؛ ولأنها قسمة تضره، فلم يجبر عليها، كما لو استضر. وقال القاضي: يجبر؛ لأنه يطالب بحق ينفع الطالب، فوجبت إجابته، كقضاء الدين. وفي الضرر المانع روايتان:
إحداهما: هو أن لا يتمكن أحدهما من الانتفاع بنصيبه مفرداً، كالدار الصغيرة التي لا يمكن سكنى نصيب أحدهما منفرداً. وهذا قول الخرقي؛ لأن ضرر نقص القيمة ينجبر بزوال ضرر الشركة، فيصير كالمعدوم.
والثانية: هو أن تنقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشركة؛ لأنه ضرر، فمنع وجوب القسمة، للخبر، والقياس الأول.
فصل:
وإن كان بينهما أرض مختلفة الأجزاء، وأمكنت التسوية، بأن يكون الجيد في مقدمها، والرديء في مؤخرها، فيقسمانها نصفين فيحصل في كل قسم من الجيد والرديء مثل ما في الآخر، قسم كذلك. وإن لم يمكن، لكون الجيد في أحد النصفين، وأمكن التعديل بجعل ثلثيها في المساحة في مقابلة ثلثها الجيد، أجبر الممتنع؛ لأنه(4/247)
يوجب التساوي بالتعديل من غير رد، فأشبه ما لو تساويا في الذرع، وأجرة القاسم بينهما سواء، لتساويهما في أصل الملك. ويحتمل أن يجب على صاحب الثلث ثلثها، وعلى الآخر ثلثاها، لتفاضلهما بالمأخوذ بالقسمة. فإن أمكن القسمة بالتعديل والرد فدعى كل واحد منهما إلى أحدهما، أجيب من طلب قسمة التعديل؛ لأن ذلك مستحق. ولا يلزم إجابة الآخر؛ لأنه بيع، فلا يجبر عليه غيره.
فصل:
وإن كان بينهما دور، أو أرض مختلفة في بعضها نخل، وفي بعضها شجر، وبعضها يسقى سيحاً، وبعضها يسقى بالنواضح، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة، وطلب الآخر قسمة كل عين على حدة، قسمت كل عين على حدة؛ لأن لكل واحد منهما حقاً في الجميع، فجاز له طلبه من الجميع. وإن كانت بينهما عضائد متلاصقة، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً، وطلب الآخر قسمة كل واحدة منهما، لم يجبر واحد منهما؛ لأن كل واحدة مسكن منفرد في قسمته ضرر. وإن كانت كباراً يمكن قسمتها بغير ضرر، قسمت كل واحدة على حدتها، كالدور المتفرقة.
وإن كانت بينهما دار، لها علو وسفل، فطلب أحدهما أن يجعل العلو لأحدهما، والسفل للآخر، فأبى الآخر، لم يجبر؛ لأن العلو تابع للعرصة، فلا يجوز جعله في القسمة متبوعاً. وإن طلب قسمة السفل وحده، أو العلو وحده، لم تجب إجابته؛ لأن القسمة تراد للتمييز، ومع بقاء الإشاعة في أحدهما لا يحصل التمييز. وإن طلب قسمة السفل منفرداً والعلو منفرداً، لم تجب إجابته؛ لأنه قد يحصل لكل واحد منهما علو سفل الآخر، أو بعضه، فلا يتميز الحقان. وإن طلبا قسمتهما معاً وكانت لا تضر، أجبر الممتنع، لما تقدم.
فصل:
وإن كان بين ملكيهما عرصة حائط، فطلب أحدهما قسمتها طولاً، ليحصل لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض، فقال أصحابنا: يجبر الممتنع؛ لأنه لا ضرر. ويحتمل أن لا يجبر؛ لأنه يفضي إلى بقاء ملكه الذي يلي نصيب صاحبه بغير حائط. وإن طلب قسمتها عرضاً، ليحصل لكل واحد نصف العرض في كمال الطول، وكان يحصل لكل واحد منهما ما لا يمكن أن يبنى فيه حائط، لم يجبر الممتنع؛ لأنه يتضرر. وإن حصل له ما يمكنه بناء حائط فيه، أجبر الممتنع؛ لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد منهما الانتفاع به مقسوماً، ويحتمل أن لا يجبر؛ لأنه لا تدخله القرعة خوفاً من أن يحصل لكل واحد منهما ما يلي ملك الآخر. وإن كان بينهما حائط، فطلب(4/248)
أحدهما قسمته طولاً في كمال العرض، ففيه وجهان:
أحدهما: تجب إجابته، لما ذكرنا في العرصة.
والثاني: لا تجب؛ لأنه إن قطع الحائط، ففيه إتلاف. وإن لم يقطع أفضى إلى الضرر؛ لأن في تجميل أحدهما له ثقلاً على نصيب صاحبه. وإن طلب قسمته عرضاً في كمال الطول، لم يجبر الممتنع؛ لأن فيه إفساداً، وفي جميع ذلك متى اتفقا على القسمة، جاز.
فصل:
وإن كان بينهما أرض مزروعة، فطلب أحدهما قسمة الأرض دون الزرع لزم إجابته؛ لأن الزرع لم يمنع جواز القسمة، فلم يمنع وجوبها، كالقماش في الدار، فإذا قسماها بقي الزرع بينهما مبقى إلى الحصاد. ذكره أصحابنا، والأولى أنها لا تجب؛ لأنه يلزم منها إبقاء الزرع المشترك في الأرض المقسومة إلى الحصاد، بخلاف القماش، كما لو بيعت الأرض. وإن طلب قسمة الزرع منفرداً، لم يلزم إجابته؛ لأنه لا يمكن تعديله. ويشترط بقاؤه في الأرض المشتركة. وإن طلب قسمة الأرض مع الزرع، وكان قصيلاً، لزمته إجابته؛ لأن الزرع، كالشجر في الأرض، فلم يمنع الإجبار. وإن كان سنابل مشتداً حبها فكذلك، إلا عند من جعل له القسمة بيعاً، فلا يجوز؛ لأنه يبيع بعضه ببعض من غير كيل. وإن كان بذراً لم تجز قسمته؛ لأنه مجهول، لا يمكن تعديله، فيكون قسمة مجهول ومعلوم، ويحتمل الجواز؛ لأنه بيع لا يمنع البيع إذا اشترطه المبتاع، فكذلك لا يمنع القسمة.
فصل:
إذا كان بينهما ثياب، أو حيوانات، أو خشب، أو عمد، أو أحجار متفاضلة، فطلب أحدهما قسمتها أعياناً بالقيمة، لم تجب إجابته؛ لأن ذلك بيع. وإن كانت متماثلة، فقال القاضي: تجب إجابته؛ لأنها متماثلة، أشبهت أجزاء الأرض المتماثلة، ويحتمل أن لا يلزم إجابته؛ لأنها أعيان متفرقة، فأشبهت العضائد والدور المتفرقة.
فصل:
إذا كانت بينهما عين، فأرادا قسمة منافعها بالمهايأة، بأن تجعل في يد أحدهما مدة، وفي يد الآخر مثلها، جاز؛ لأن المنافع كالأعيان، فجازت قسمتها. وإن امتنع أحدهما، لم يجبر؛ لأن حق كل واحد منهما معجل، فلم يجبر على تأخيره بالمهايأة، فإن تهايآه، اختص كل واحد منهما بمنفعته في مدته، وكسبه. وفي الأكساب النادرة، كاللقطة، والهبة، والركاز، وجهان:(4/249)
أحدهما: يدخل فيها؛ لأنها كسب، أشبه المعتاد.
والثاني: لا يدخل؛ لأن المهايأة، كالبيع، فلا يدخل فيها، إلا ما يقدر عليه في العادة، والنادر لا يقدر عليه عادة، فلا يدخل فيها، ويكون بينهما. ونفقة الحيوان في مدة كل واحد منهما عليه؛ لأن نفعه له، فكانت مؤنته عليه، كالمنفرد به.
فصل:
وصفة القسمة أن يحصي القاسم عدد أهل [السهمان] ثم يعدل السهمان بالأجزاء، أو بالقيمة، أو بالرد، وإن كانت تقتضيه. ثم لا يخلو من حالين:
أحدهما: أن تتساوى سهمانهم، كأرض بين ستة، لكل واحد سدسها. فهذا يخير فيه بين إخراج الأسماء على السهام، بأن يكتب اسم كل واحد في رقعة، ويدرجها في بنادق شمع متساوية، ويطرح عليها ثوباً، ويقال لمن لم يحضر ذلك: أدخل يدك فأخرج بندقة على هذا السهم الأول. فمن خرج اسمه، فهو له: ثم على الثاني، والثالث، والرابع، والخامس، ويتعين السهم السادس للسادس. وبين إخراج السهام على الأسماء، بأن يكتب في رقعة السهم الأول، وفي أخرى الثاني حتى يستوفي جميع السهام، ثم يأمر بإخراج بندقة على اسم أحد الشركاء، فما خرج، فهو له، كذلك إلى آخرها.
الحال الثاني: أن تختلف سهمانهم، مثل أن يكون لأحدهم نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فإنه يعدل السهام بعدد أقلها، ويجعلها ستة، ويخرج الأسماء على السهام لا غير، فيخرج بندقة على السهم الأول. فإن خرج اسم صاحب النصف أخذه، والثاني، والثالث. ثم يخرج بندقة على السهم الرابع. فإن خرجت لصاحب الثلث أخذه، والخامس. ويتعين السادس لصاحب السدس. وإنما قلنا: يأخذه والذي يليه، ليجتمع حقه، ولا يتضرر بتفرقته. ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء، لئلا يخرج السهم الرابع لصاحب النصف، فيقول: خذه وسهمين قبله، فيقول صاحباه: يأخذه وسهمين بعده، فيختلفان؛ ولأنه لو خرج لصاحب السدس السهم الثاني، ثم خرج لصاحب النصف السهم الأول، لتفرق نصيبه.
فصل:
وإذا قسم بينهما قاسم الحاكم قسمة إجبار، فأقرع بينهما، لزمت قسمته بغير رضاهما؛ لأن رضاهما لا يتعين في ابتداء القسمة، فلا يتعين في أثنائها. وإن نصبا عدلاً عالماً يقسم بينهما، لزمتهما قسمته بالقرعة؛ لأن الحاكم الذي ينصبانه كحاكم الإمام في لزوم حكمه، فقاسمهما كقاسم الإمام في لزوم قسمته. وإن كان فاسقاً، أو جاهلاً بالقسمة، أو قسما بأنفسهما لم يلزم إلا بتراضيهما؛ لأن رضاهما معتبر في الأول، ولم(4/250)
يوجد ما يزيله، فوجب استمراره. وإن كان في القسمة رد، فتولاها قاسم الحاكم، ففيها وجهان:
أحدهما: لا يلزم إلا بالتراضي كذلك؛ ولأنها بيع، فلا يلزم بغير التراضي، كسائر البيع.
والثاني: يلزم بالقرعة؛ لأن القاسم، كالحاكم. وقرعته كحكمه، وإن تراضيا على أن يأخذ كل واحد منهما، سهماً بغير قرعة، أو خير أحدهما صاحبه، فاختار أحد السهمين، جاز ويلزم بتراضيهما وتفرقهما، كالبيع.
فصل:
وإن ادعى أحدهما غلطاً في قسمة الإجبار، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن القاسم كالحاكم، فلم تقبل دعوى الغلط عليه بغير بينة، كالحاكم. فإن أقام البينة نقصت القسمة. وإن لم يكن له بينة، وطلب يمين شريكه، أحلف له. وإن ادعى الغلط في قسمة لا تلزم إلا بتراضيهما، لم تسمع دعواه؛ لأنه رضي بذلك، ورضاه بالزيادة في نصيب شريكه تلزمه.
فصل:
وإن ظهر بعض نصيب أحدهما مستحقاً، بطلت القسمة؛ لأنه بقي له حق في نصيب شريكه، فعادت الإشاعة. وإن كان المستحق في نصيبهما على السواء وكان معيناً، لم تبطل القسمة؛ لأن الباقي مع كل واحد قدر حقه، ويحتمل أن تبطل القسمة؛ لأنه لم يتعين الباقي لكل واحد منهما في مقابلة ما بقي للآخر. وإن كان مشاعاً بطلت القسمة؛ لأن الثالث شريكهما لم يأذن في القسمة، ولم يحضر، فأشبه ما لو علما به. وإن قسما أرضاً نصفين، وبنى أحدهما في نصيبه داراً، ثم استحق ما في يده، ونقض بناؤه، رجع على شريكه بنصف البناء؛ لأن القسمة كالبيع. ولو باعه نصف الدار، رجع عليه بنصف ما غرم، كذا ها هنا.
فصل:.
إذا اقتسم الوارثان، فظهر على الميت دين متعلق بالتركة، انبنى ذلك على أن الدين، هل يمنع تصرف الورثة في التركة؟ وفيه وجهان:
أحدهما: يمنع، فلا تصح القسمة.
والثاني: لا يمنع، فتكون القسمة صحيحة، هذه هي المذهب؛ لأن تعلق الدين بالتركة لا يمنع صحة التصرف فيها، لكن إن امتنعا من وفاء الدين، بيعت في الدين(4/251)
وبطلت القسمة، هذا هو المذهب. وإن وفى أحدهما دون الآخر، صح في نصيب من وفى، وبطل في نصيب الآخر.
فصل:
وإذا سأل أحد الشريكين الحاكم القسمة بينه وبين شريكه فيما تدخله قسمة الإجبار، لم يجبه إلى ذلك حتى يثبت عنده ملكها؛ لأن في قسمة الإجبار حكماً عليه، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك. وإن سأله الشريكان القسمة أجابهما إليها، ولم يحتج إلى إثبات الملك؛ لأن يدهما دليل ملكهما، ولا منازع لهما، فيثبت لهما من حيث الظاهر. ولكنه يثبت في القضية أن قسمه إياه بينهما بإقرارهما، لا ببينة شهدت لهما بملكهما، وكل ذي حجة على حجته، لئلا يتخذ القسمة حجة على من ينازعه في الملك.
[باب الدعاوى]
لا تصح دعوى المجهول في غير الوصية والإقرار؛ لأن القصد في الحكم فصل الخصومة والتزام الحق، ولا يمكن ذلك في المجهول. فإن كان المدعى ديناً، ذكر الجنس والنوع والصفة. وإن كان عيناً باقية ذكر صفتها. وإن ذكر قيمتها، كان أحوط. وإن كانت تالفة لها مثل، ذكر صفتها. وإن ذكر القيمة كان أحوط. وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها. وإن كان سيفاً محلى بذهب، أو فضة، قومه بغير جنس حليته. وإن كان محلى بهما، قومه بما شاء منهما للحاجة. وإن ادعى حقاً من وصية أو إقرار، جاز أن يدعي مجهولاً؛ لأنهما يصحان بالمجهول. وإذا ادعى مالاً، لم يحتج إلى ذكر سببه الذي ملك به؛ لأن أسبابه كثيرة، فيشق معرفة كل درهم منه.
فصل:
وإن ادعى عقد نكاح، لزم ذكر شروطه، فيقول: تزوجتها بولي مرشد، وشاهدي عدل، وإذنها، إن كان إذنها معتبراً؛ لأنه مبني على الاحتياط. وتتعلق العقوبة بجنسه، فاشترط ذكر شروطه، كالقتل. وإن ادعى استدامة النكاح، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه ذكر الشروط؛ لأنه يثبت بالاستفاضة التي لا يعلم معها اجتماع الشروط.
والثاني: يلزم؛ لأنها دعوى في النكاح، أشبه العقد. وإن ادعى عقداً يستحق به المال، كالبيع والإجارة، لم يحتج إلى ذكر شروطه؛ لأن مقصوده المال، أشبه دعوى العين. ويحتمل أن يفتقر إلى ذلك لأنه عقد، فأشبه النكاح. وإن ادعى قصاصاً في(4/252)
نفس أو طرف، فلا بد من ذكر صفة الجناية، وأنها عمد، منفرداً بها، أو مشاركاً فيها، ويذكر صفة العمد؛ لأنه قد يعتقد ما ليس بعمد عمداً. والقتل مما لا يمكن تلافيه، فلا يؤمن أن يقتص ممن لا يجب القصاص فيه، وهو ما لا يمكن تلافيه، فوجب الاحتياط فيه.
فصل:
وما لزم ذكره في الدعوى، فلم يذكره، سأله الحاكم عنه ليذكره، فتصير الدعوى معلومة، فيمكن الحكم بها، والله أعلم.
فصل:
واذا ادعت المرأة النكاح على رجل، وذكرت معه حقاً من حقوق النكاح، سمعت دعواها؛ لأن حاصل دعواها دعوى الحق من المهر، والنفقة، ونحوهما، وذكر النكاح لبيان السبب. وإن لم تذكر معه حقاً، فذكر القاضي أن دعواها تسمع أيضاً؛ لأن النكاح يتضمن حقوقاً، فصح دعواها له، كالبيع. وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر، أن دعواها لا تسمع؛ لأنه حق عليها، فدعواها له إقرار، ولا يسمع مع إنكار المقر له.
فصل:
وإذا ادعى مالاً مضافاً إلى سببه، فقال: أقرضته ألفاً، أو أتلف علي ألفاً، فقال: ما أقرضني، وما أتلفت عليه، صح الجواب؛ لأنه نفى ما ادعى عليه. وإن قال: لا يستحق علي شيئاً، ولم يتعرض لما ذكر المدعي، صح الجواب أيضاً؛ لأنه إذا لم يستحق عليه شيئاً، برئ منه.
فصل:
وإذا ادعى على رجل عيناً في يده، أو ديناً في ذمته، فأنكره، ولا بينة له، فالقول قول المنكر مع يمينه، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو أن الناس أعطوا بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» . رواه البخاري ومسلم. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة الحضرمي والكندي: «شاهداك أو يمينه» ؛ ولأن الأصل براءة ذمته من الدين، والظاهر من اليد الملك. وإذا تداعيا عيناً في أيديهما، ولا بينة، حلفا، وجعلت بينهما نصفين، لما روى أبو موسى الأشعري: «أن رجلين تداعيا دابة ليس لأحدهما بينة، فجعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم» . رواه مسلم.
ولأن يد كل واحد منهما على نصفها، فكان القول قوله فيه، كما لو كانت العين في يد أحدهما.(4/253)
وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما، ولا بينة لواحد منهما، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف أنها له وسلمت إليه، لما روى أبو هريرة «أن رجلين تداعيا عيناً لم يكن لواحد منهما بينة، فأمرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستهما على اليمين، أحبا أم كرها» . رواه أبو داود؛ ولأنهما تساويا، ولا بينة لهما، فيقرع بينهما، كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما. وإن كانت للمدعي أو لأحد المتداعيين بينة، حكم له بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث الحضرمي: «ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه» ؛ ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك، لا تهمة فيها، فكانت أولى من اليمين التي يتهم فيها.
فصل:
وإن ادعيا عيناً في يد غيرهما، فأقام كل واحد منهما بينة، ففيها ثلاث روايات، إحداهن، تقدم بينة المدعي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» فجعل البينة للمدعي؛ ولأن بينة المدعي أكثر فائدة؛ لأنها تثبت شيئاً لم يكن. وبينة المنكر إنما تثبت ظاهراً دلت اليد عليه، فلم تفد؛ ولأنه يجوز أن يكون مستند بينة المنكر، رؤية التصرف، ومشاهدة اليد، فأشبهت اليد المفردة.
والثانية: تقدم بينة المنكر؛ لأنهما تعارضتا، ومع صاحب اليد ترجيح بها، فقدمت، كالنصين إذا تعارضا والقياس مع أحدهما.
والثالثة: إن شهدت بينة المدعى عليه بالسبب من نتاج، أو نسج، أو قطيعة، أو كانت أقدم تاريخاً، قدمت وإلا فلا، لما روى جابر «أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دابة، أو بعير، فأقام كل واحد منهما البينة أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» ؛ ولأنها إذا شهدت بالسبب، أفادت ما لا تفيد اليد، وترجحت باليد، فوجب ترجيحها، وكل من قضي له ببينة، لم يستحلف معها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شاهداك، أو يمينه، ليس لك إلا ذلك» ؛ ولأن اليمين تكفي وحدها في حق من شرعت في حقه، فالبينة أولى؛ لأنها أقوى. وسواء كان الخصم ممن يعبر عن نفسه، كالمكلف، أو ممن لا يعبر عن نفسه، كغيره، لما ذكرنا.
فصل:
فإن ادعى الخارج أن الدابة ملكه، أودعها إياه، أو أجره إياها، وأنكر الآخر، وأقاما بينتين، فبينة الخارج أولى. وقال القاضي: بينة الداخل أولى؛ لأنه الخارج في المعنى، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي» ؛ ولأن اليمين على الداخل، فكانت بينة الخارج مقدمة، كما لو لم يدع الوديعة.(4/254)
فصل:
وإن تداعيا عيناً في يديهما، وأقام كل واحد منهما بينة أنها ملكه، تعارضتا، وقسمت العين بينهما نصفين، لما روى أبو موسى: «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعير، فأقام كل واحد منهما شاهدين، فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبعير بينهما نصفين» . رواه أبو داود؛ ولأن بينة الداخل أو الخارج مقدمة، فكل واحد خارج في نصفها، داخل في نصفها الآخر، فقدمت بينته في أحد النصفين. وهل يلزم اليمين كل واحد منهما في النصف المحكوم له به؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يلزم، لما ذكرنا.
والثانية: تجب اليمين؛ لأن البينتين تساوتا فتساقطتا، فصارا كمن لا بينة لهما.
وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أنه يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف وأخذها؛ لأنهما لما تساويا وجب المصير إلى القرعة، كالعبيد في العتق؛ والأول أولى؛ للخبر والمعنى.
فصل:
وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما، فاعترف أنه لا يملكها، وأقام كل واحد منهما البينة أنها له، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: تسقط البينتان، ويقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة، حلف أنها له وسلمت إليه؛ لأنهما تساويا من غير ترجيح بيد ولا غيرها، فوجب أن يسقطا، كالنصين ويصار إلى القرعة، كالعبيد إذا تساووا. وقد روى الشافعي حديثاً رفعه إلى ابن المسيب «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أمر، وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما» .
والثانية: تقسم العين بينهما، لحديث أبي موسى؛ لأنهما تساويا في الدعوى والبينة واليد، فوجب أن تقسم العين بينهما، كما لو كانت في أيديهما.
والثالثة: يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، أخذها بغير يمين؛ لأن القرعة أوجبت العمل بإحدى البينتين، ولا حاجة إلى اليمين مع البينة.
فصل:
وإذا ادعى عيناً في يد إنسان، فأقر بها لغيره وصدقه المقر له، حكم له؛ لأنه مصدق فيما بيده، وقد صدقه المقر له، فصار كصاحب اليد، وتنتقل الخصومة إليه، وعلى المقر اليمين لأنه لا يعلم أنها للمدعي لأنه لو أقر بها له، لزمه غرمها، ومن لزمه(4/255)
الغرم مع الإقرار، لزمته اليمين مع الإنكار. فإن نكل عنها مع طلبها منه، قضي عليه بالغرم وإن أكذبه المقر له، وقال: ليست لي، وكان للمدعي بينة حكم له.
وإن لم يكن له بينة، ففيه وجهان:
أحدهما: تدفع إليه؛ لأنه يدعيها ولا منازع له فيها، أشبه التي في يده؛ ولأن صاحب اليد لو ادعاها ثم نكل، قضي عليه، فمع عدم ادعائه لها أولى.
والثاني: لا تدفع إليه؛ لأنه ليس له إلا مجرد الدعوى، فلا يحكم بها، كما لو أنكره الآخر، فعلى هذا يأخذها الإمام، يحفظها حتى يظهر صاحبها؛ لأنه لم يثبت لها مستحق، فهي كالضالة. ويحتمل أن تقر في يد المقر؛ لأنه لم يثبت صحة إقراره. فإن أقر المقر له بها للمدعي، سلمت إليه؛ لأنه قام مقام صاحب اليد لو ادعاها، فقام مقامه في الإقرار بها.
وإن أقر بها صاحب اليد لغائب معين، صار الغائب الخصم فيها. فإن أقام المقر بينة أنها للغائب، سمعها الحاكم لإزالة التهمة، وإسقاط اليمين عنه، ولم يحكم بها للغائب؛ لأنه إنما يقضي بها إذا أقامها المدعي أو وكيله. وليس المدعي واحداً منهما. ومتى لم يكن للمدعي بينة، لم يقض له بها؛ لأنه لا يقضى على الغائب بغير حجة. فإن أقام بينة سمعها الحاكم، وقضى بها. والغائب على خصومته متى حضر، فإذا حضر فأقام بينة أنها ملكه، تعارضت البينتان، وأقرت في يد المدعي إن قلنا: إن بينة الخارج مقدمة؛ لأنه خارج. وإن قلنا: تقدم بينة الداخل، فهي للغائب؛ لأنه صاحب اليد، وإن ادعى الحاضر أنها معه بأجرة، أو عارية، وأقام بينة، لم يقض له بها؛ لأن ثبوت الإجارة والعارية يترتب على الملك، ولا يثبت الملك بها، فكذلك فرعها. وإن أقر الحاضر بها لمجهول، لم تسمع. وقيل: إن أقررت بها لمعروف، وإلا جعلناك ناكلاً، وقضينا عليك له. فإن أصر، قضي عليه بنكوله. فإن قال بعد ذلك: هي لي، لم يقبل في أحد الوجهين؛ لأنه اعترف أنها ليست له.
والثاني: تسمع؛ لأن قوله ذلك لم يصح، فلم يمنع صحة الدعوى لنفسه.
فصل:
وإن ادعى أن هذه العين كانت ملكه، لم تسمع دعواه حتى يدعي ملكها في الحال؛ لأن الخلاف في ملكه لها في الحال. وإن ادعى ملكها في الحال، فشهدت بينته أنها كانت ملكه أمس، أو أنها كانت في يده أمس، لم تسمع لأنها شهدت بغير ما ادعاه. ويحتمل أن تسمع، ويقضى بها؛ لأنها تثبت الملك في الزمن الماضي، فيجب استدامته حتى يعلم زواله. فإن انضم إليها بيان سبب يد الثاني، فقالت: نشهد أنها ملك(4/256)
هذا أمس، فغصبها هذا منه، أو سقطت، فالتقطها هذا، حكم له بها؛ لأنه تثبت أن يد الثاني عدوان، ليست دليلاً للملك، فيجب القضاء باستدامة الملك الماضي، وإن ادعى جارية أو ثمرة، فشهدت بينة أن الجارية بنت أمته، والثمرة ثمرة شجرته، لم يحكم له بها؛ لأنه يجوز أن تلدها، أو تثمرها قبل ملكه. فإن قالت مع ذلك: ولدتها في ملكها، وأثمرتها في ملكه، حكم له بها؛ لأنها شهدت أنها نماء ملكه، فصار كما لو شهدت أن الغزل من قطنه، وإن شهدت بينة أن الغزل من قطنه، أو الطير من بيضته، أو الدقيق من حنطته، حكم له بها؛ لأن الجميع عين ماله، وإنما تغيرت صفته.
فصل:
وإن كانت في يد زيد دار، فادعى آخر أنه ابتاعها من غيره وهي ملكه، فأقام ذلك بينة، حكم له بها؛ لأنه ابتاعها من مالكها. وإن شهدت أنه باعه إياها، وسلمها إليه، حكم له بها؛ لأنه لم يسلمها إليه إلا وهي في يده. وإن لم يذكر الملك ولا التسليم، لم يحكم بها؛ لأنه لا يمكن أن يبيعه ما لا يملكه، فلا تزال يد صاحب اليد. وإن ادعاها رجلان، فشهد لأحدهما رجلان، أن صاحب اليد غصبه إياها، وشهد للآخر شاهدان، أن صاحب اليد أقر له بها، حكم للمغصوب منه؛ لأنه ثبت أن صاحب اليد غاصب، وإقرار الغاصب غير مقبول.
فصل:
وإذا تداعى رجلان داراً ذكر كل واحد منهما أنه ابتاعها من زيد، ونقده ثمنها، أو ادعى أحدهما أنه اشتراها من زيد وهي ملكه، وادعى آخر أنه اشتراها من عمرو وهي ملكه، ولكل واحد منهما بينة بدعواه، واختلف تاريخهما، فهي للأول؛ لأنه ابتاعها من مالكها، وإن استوى تاريخهما أو أطلقتا، أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى، تعارضتا، فإن كانت الدار في يد أحدهما، ابتنى على بينة الداخل والخارج، وإن كانت في يد غيرهما، فادعاها لنفسه، وقلنا: تسقط البينتان، حلف لكل واحد منهما يميناً وأخذها. وإن قلنا: يستعملان، بأن يقرع بينهما، قرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف، وأخذها. وإن قلنا: تقسم بينهما، فلكل واحد منهما نصفها بنصف الثمن. وقد نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الكوسج، في رجل أقام البينة أنه اشترى سلعة بمائة، فأقام الآخر بينة أنه اشتراها بمائتين، فكل واحد منهما يستحق نصف السلعة بنصف الثمن، فيكونان شريكين. فإن لم يدعها صاحب اليد، فإن قلنا: تسقط البينتان، رجع إليه، فإن أقر بها لأحدهما، سلمت إليه، ويحلف كل واحد منهما للذي أنكره. وإن أقر بها لهما، قسمت بينهما، ويحلف لكل واحد منهما يميناً، ويحلف كل واحد منهما لصاحبه على النصف المحكوم له به، وإن قلنا: تستعمل البينتان، لم يفد إقراره شيئاً؛ لأنه قد ثبت زوال(4/257)
ملكه، وأن يده لا حكم لها، فصار كالأجنبي، ولو كان في يده عبد، فادعى رجل أنه اشتراه منه، وادعى العبد أنه أعتقه، وأقاما بينتين، فالحكم على ما مضى من التفصيل، ومتى قلنا: تقسم العين بينهما، عتق نصف العبد، وللآخر نصفه بنصف الثمن.
فصل:
فإن كان في يده دار، فادعى رجل أنه باعه إياها بمائة في رمضان، وأنه يستحق ثمنها عليه، وادعى آخر أنه باعه إياها في شوال، وأنه استحق عليه ثمنها، ولا بينة لهما، فأنكرهما حلف لكل واحد منهما يميناً، وبرئ. وإن أقاما بينتين بدعواهما، لزمه اليمين لكل واحد منهما؛ لأنه يمكن أن يشتريها من الأول في رمضان، ثم تصير للثاني، فيبيعها الآخر في شوال. وإن اتفق تاريخهما تعارضتا. فإن قلنا بسقوطهما، صارا كمن لا بينة لهما. وإن قلنا: يستعملان، قسم الثمن بينهما على رواية، ويقدم أحدهما بالقرعة رواية أخرى. وإن أطلقتا، أو أطلقت إحداهما وأرخت الأخرى، لزمه الثمنان لهما؛ لأنه أمكن صدق البينتين بأن يكونا في زمنين، فوجب تصديقهما كالمختلفي التاريخ، ويحتمل تعارضهما، لاحتمال استواء تاريخهما. والأصل براءة الذمة. والأول أولى.
فصل:
إذا قال لعبده: إن قُتِلْت، فأنت حر، فادعى العبد أنه قُتِلَ، وادعى الوارث أنه مات، ولا بينة لهما، فالقول قول الوارث مع يمينه. وإن أقام كل واحد منهما بينة، ففيه وجهان:
أحدهما: يتعارضان، ويبقى العبد رقيقاً لأن كل واحدة منهما تثبت ما شهدت به، وتنفي ما شهدت به الأخرى، فهما سواء.
والثاني: تقدم بينة العبد؛ لأنها تثبت القتل، وهو صفة زائدة على الموت، فقد تضمنت زيادة أثبتتها. وقول المثبت مقدم. وإن قال لأحد العبدين: إن مت في رمضان، فأنت حر، وقال للآخر: إن مت في شوال، فأنت حر، ولا بينة لهما، فأنكرهما الوارث، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل موته في غيرهما. والأصل بقاء الرق. وإن اعترف لهما، فالقول قول من يدعي موته في شوال؛ لأن الأصل بقاء الحياة. وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه، ففيه وجهان:
أحدهما: يتعارضان؛ لأن موته في أحد الزمانين ينفي موته في الآخر، فيبقى العبدان على الرق. ذكره أصحابنا. وقياس المذهب أن يقرع بينهما ويعتق أحدهما؛ لأنا علمنا حرية أحدهما لا بعينه.(4/258)
والوجه الثاني: تقدم بينة رمضان؛ لأنه يحتمل أنه خفي موته في رمضان على البينة الأخرى، وعلمته الأولى.
وإن قال لعبد: إن مت من مرضي هذا، فأنت حر، وقال لآخر: إن برئت، فأنت حر، ولا بينة لهما، فالقول قول الأول؛ لأن الأصل عدم البرء، وإن أقام كل واحد منهما بينة بموجب عتقه، تعارضتا، والحكم فيها كالتي قبلها؛ لأن كل واحدة منهما تنفي ما أثبتته الأخرى، ويحتمل تقديم بينة البرء، ولأنه يجوز أن تعلمه إحداهما، وتخفى على الأخرى.
فصل
وإذا كان في يد رجل عين، فادعاها نفسان، وعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي اشتراكهما فيها، كالإرث، والشراء في صفقة واحدة، فأقر لأحدهما بنصفها، شاركه الآخر فيه؛ لأن دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء منها، وكذلك لو كان طعاماً، فهلك بعضه، كان باقيه بينهما، فيجب أن يكون المجحود، والمقر به بينهما، وإن لم يعزيا الدعوى إلى سبب يقتضي الاشتراك، فأقر لأحدهما بنصفها، لم يشاركه الآخر؛ لأن دعواه لا تقتضي الاشتراك في كل جزء، وإن أقر له بجميعها، وكان المقر له قد أقر لشريكه في الدعوى بنصفها، لزمه دفعه إليه؛ لأنه أقر له به، فإذا وصل إليه، لزمه حكم إقراره، وإن لم يكن أقر له، وادعى جميعها، حكم له به، وانتقلت الخصومة في النصف إليه؛ لأنه يجوز أن يكون الجميع له، ويخص النصف بالدعوى؛ لأن له عليه بينة، أو يظن أنه يقر له به، ومن يملك الجميع، فهو يملك النصف، فإن قال: النصف لي، والباقي لا أعلم صاحبه، أعطي النصف الذي ادعاه، وفي النصف الباقي ثلاثة أوجه، تقدم ذكرها فيمن ادعى عيناً في يد رجل، فأقر بها لغيره، وكذبه المقر له.
فصل
فإن كان في أيديهما دار، ادعى أحدهما نصفها، وادعاها الآخر كلها، ولا بينة لهما، فهي بينهما نصفين، وعلى مدعي النصف اليمين لصاحبه؛ لأن يده على نصفها، فالقول قوله فيه مع يمينه، ولا منازع لصاحبه في نصفها الآخر وهو في يده، فإن أقام كل واحد منهما بينة، تعارضتا، وأيهما يقدم؟ ينبني على الخلاف في تقديم بينة المدعي والمنكر.
وظاهر المذهب تقديم بينة المدعي، فتكون الدار كلها لمدعي الكل، وإن كانت الدار في يد ثالث لا يدعيها، فلصاحب الكل نصفها الذي لا ينازع فيه، فإن لم يكن لهما بينة، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف، وأخذ النصف الآخر، وإن كان لأحدهما بينة، حكم بها، وإن كانت لكل واحد منهما بينة، تعارضتا، وسقطتا، وصارا كمن لا بينة لهما، يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه، حلف وأخذ النصف، وعنه: تقسم بينهما، فيصير لمدعي الكل ثلاثة أرباعها، على ما مضى فيمن تداعيا عيناً في يد غيرهما.(4/259)
فصل
ولو ادعى إنسان أن أباه مات، وخلفه وأخاً له غائباً، أو صغيراً أو مجنوناً، وخلف عيناً لهما في يد إنسان، فأنكر المدعى عليه، فأقام المدعي بينة بدعواه، ثبتت العين للميت، وانتزعت من يد المنكر، ودفع نصفها إلى المدعي، وحفظ الحاكم نصيب الغائب له، ولو ادعى الدار له ولأجنبي، لم ينزع الحاكم نصيب الأجنبي من المنكر؛ لأن الشريك ينوب عن نفسه، وها هنا يثبت الحق للميت، فتقضى ديونه منه، وتنفذ وصاياه، ولأن الأخ ها هنا يشارك أخاه فيما أخذه إذا تعذر عليه أخذ الباقي، بخلاف الأجنبي، وإن كان المدعى ديناً في ذمة إنسان، فهل يقبض الحاكم نصيب أخي المدعي؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبضه؛ لأنه أنفع لصاحبه؛ إذ قد تتعذر البينة عليه عند قدومه، أو يعزل الحاكم، فوجب أن يقبضه كالعين.
والثاني: لا يقبضه؛ لأن الذمة أحوط له من يد الأمين؛ لأنه قد يتلف إذا قبضه.
فصل
إذا مات رجل وخلف ولدين، مسلماً وكافراً، فادعى كل واحد منهما أن أباه مات على دينه، ليرثه دونه أخيه، فإن عُلم أصل دينه، فالقول قول من يبقيه عليه مع يمينه؛ لأنه الأصل، فلا يُزال بالشك، وإن لم يُعرف أصل دينه، فقال الخرقي: القول قول الكافر؛ لأنه لو كان مسلماً أصلياً، لم يقر ولده على الكفر في دار الإسلام، فيكون ذلك دليلاً على أنه كان كافراً، قال ابن أبي موسى: وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أن الميراث بينهما نصفين، فإن أقام كل واحد منهما بينة أن أباه مات على دينه، فقال الخرقي وابن أبي موسى: يكونان كمن لا بينة لهما، وقد ذكرنا أن البينتين إذا تعارضتا، قدم أحدهما بالقرعة في وجه، وتقسم العين بينهما في وجه، ويحتمل أن تقدم بينة المسلم ها هنا؛ لأنه يجوز أن تكون اطلعت على أمر خفي على البينة الأخرى، وإن قالت إحدى البينتين: نعرفه مسلماً، وقالت الأخرى: نعرفه كافراً، واختلف تاريخهما، عمل بالآخرة منهما؛ لأنه ثبت بها أنه انتقل عما شهدت به الأولى، وإن اتفق تاريخهما، تعارضتا، وإن أطلقتا، أو أطلقت إحداهما، قدمت بينة المسلم؛ لأن الإسلام يطرأ على الكفر، وذكر القاضي أن قياس المذهب فيهما إذا لم يكن لهما بينة، مثل ما إذا تداعيا عيناً، وإن كانت التركة في أيديهما، تحالفا، وكانت بينهما، وإن كانت في يد غيرهما، أقرع بينهما، والأول أولى؛ لأن صاحب اليد معترف أن هذه تركة للميت، فلا تدل يده على الملك، وإن ادعى كل واحد منهما أن هذه التركة لي ورثتها عن أبي، ولم يعترف(4/260)
أحدهما بأخوة الآخر، فهي كما قال القاضي، سواء ذكرا أباً واحداً أو أبوين، وإن خلف ابناً مسلماً، أو أخاً كافراً، فاختلف في دينه عند موته، فالحكم على ما ذكرناه، وإن خلف أبوين وابنين، فادعى الأبوان، أنه مات على دينهما، وادعى الابنان، أنه مات على دينهما، فذلك بمنزلة معرفة أصل دينه؛ لأن الولد قبل بلوغه محكوم له بدين أبويه، فيكون القول قولهما ما لم تقم بينة بخلافه.
فصل
وإن خلف ابنين، كان أحدهما عبداً، فادعى أنه عتق قبل موت أبيه، وأنكره أخوه، فالقول قول المنكر؛ لأن الأصل عدم العتق، فإن اتفقا على أنه عتق في رمضان، واختلفا في وقت موت الأب، فقال الحر: مات في شعبان، وقال الآخر: مات في شوال، فالقول قول المعتق؛ لأن الأصل بقاء الحياة، وكذلك إن مات مسلم، وله ولدان مسلم وكافر، فأسلم الكافر، واختلفا في وقت إسلامه.
فصل
وإذا مات رجل، فادعى إنسان أنه وارثه، لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث، لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يرث به، ولا يقبل إلا ببينة تشهد أنه وارثه، لا نعلم له وارثاً سواه، ويبين السبب، كما يبين المدعى، فيدفع إليه ميراثه؛ لأن الظاهر عدم وارث، فإن لم يقولا: لا وارث له سواه، وكان للمشهود له فرض، لا يمكن إسقاطه، أعطي اليقين كالزوج يعطى ربعاً عائلاً، والزوجة تعطى ربع تسع، وكل واحد من الأبوين يعطى سدساً عائلاً، ولا يعطى من سوى هؤلاء شيئاً؛ لأنه يحتمل أن يكون محجوباً، أو لا يعلم ماله بيقين كالولد، فإن قالا: نشهد أن هذا ولد فلان، ولا نعلم له ولداً سواه، قبلت شهادتهما، ويدفع إليه ربع وسدس، إن كان ذكراً؛ لأنه أقل ما يرث، مع زوج وأبوين، والخمسان إن كان أنثى؛ لأنه أقل ما يرث مع زوج وأبوين وبنت ابن، فإن كان الميت رجلاً، فأقل ما يرث الابن نصف وثلث ثمن، والبنت النصف عائلاً، ويبعث الحاكم إلى البلدان التي دخلها الميت، فيسأل عن أحواله، ويستكشف، فإن لم يظهر له وارث، توقف مدة بحيث لو كان له وارث، ظهر، فإن لم يظهر له غيره، دفع إليه كمال ميراثه؛ لأن البحث مع هذه الشهادة، كشهادة أهل الخبرة، أنهم لا يعلمون وارثاً سواه.
فصل
ولو مات رجل، وخلف ابناً وزوجة وداراً، فادعت الزوجة أنه أصدقها إياها، وأنكر الابن، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الصداق، فإن أقامت بينة بدعواها(4/261)
وأقام الابن بينة، أن أباه تركها ميراثاً، قدمت بينة الزوجة؛ لأنها تشهد بأمر حادث على الملك خفي على بينة الإرث، وكذلك إن ادعت هي أو غيرها شراءها، أو اتهابها، فالحكم كذلك لما ذكرنا.
فصل
وإذا تنازع الزوجان في متاع البيت حال الزوجية، أو بعد الفرقة، أو تنازع ورثتهما بعد موتهما، أو أحدهما وورثة الآخر، ولا بينة لهما، حكم بما يصلح للرجال من ثيابهم، وعمائمهم، وسلاحهم، ونحو ذلك للرجل، وما يصلح للنساء من ثيابهن، ومقانعهن، وحليهن، ومغازلهن، ونحو ذلك للمرأة، وما يصلح لهما من الفرش، والحصر، والآنية، ونحو ذلك، فهو بينهما؛ لأن الظاهر أن من يصلح له شيء، فهو له، فرجح قوله فيه، كصاحب اليد.
قال القاضي: هذا إذا كانت أيديهما عليه من طريق الحكم، بأن يكون في منزلهما، فإن كان في يد أحدهما المشاهدة، فهو له، وإن كان في أيديهما، فهو بينهما؛ لأن اليد المشاهدة أقوى، فرجح بها.
فصل
وإن اختلف صانعان في دكان في الآلات التي فيه، حكم بآلة كل صناعة لصاحبها؛ لأن الظاهر معه، وإن تنازعا في شيء خارج من الدكان، لم يرجح دعوى أحدهما، بصلاحية المدعى له؛ لأنه إنما يصلح للترجيح مع اليد الحكمية، ولا يكفي مع انفراده، كما لو اختلف الزوجان في متاع خارج من البيت.
فصل
وإن تنازع رب الدار، والمكتري في شيء في الدار المكتراة، وكان مما يتبع الدار في البيع، كالسلم المسمر، والرف المسمر، والخابية المنصوبة، والمفاتيح، فهو لرب الدار؛ لأنه من توابعها، فأشبه الشجرة المغروسة فيها، فإن كان مما لا يتبعها، كالفرش، والأواني، فهو للمكتري؛ لأن يده عليه، والعادة أن الإنسان يؤجر داره فارغة، وإن تنازعا في رفوف موضوعة على أوتاد فعن أحمد: أنه لرب الدار؛ لأن الظاهر أنه يترك الرفوف فيها، فأشبه المتصلة، وقال القاضي: يتحالفان ويكون بينهما؛ لأن هذا الظاهر معارض بكون الرفوف لا تتبع الدار في البيع، فاستويا.
وقال أبو الخطاب: إن كان لها شكل منصوب في الدار فهو لصاحبها؛ لأن أحدهما له، فكان الآخر له، وإن لم يكن لها شكل منصوب، فهو للمكتري؛ لأن يده عليه، وهو مما لا يتبع الدار، فأشبه الفرس.
وإن اختلفا في مصرع باب مقلوع، فالحكم فيه، كالحكم في الرف، إلا أن القاضي قال: إن كان له شكل في الدار، فالقول قول رب الدار، وإلا فالقول قول المكتري.(4/262)
فصل
وإن اختلف رب الدار والخياط الذي فيها، في الإبرة والمقص، فهما للخياط؛ لأن تصرفه فيهما أظهر، وإن اختلفا في الثوب، فهو لصاحب الدار؛ لأن الظاهر أنه لا يحمل قميصه يخيطه في دار غيره، وإن اختلف النجار ورب الدار، فالقول قول النجار في القدوم والمنشار، والقول قول رب الدار في الرفوف والخشب، لما ذكرناه، وإن تنازع رجلان دابة، أحدهما راكبها، أو له حمل عليها، والآخر آخذ بزمامها، فهي لراكبها؛ لأن تصرفه فيها أقوى، ويده آكد، فإن كان لأحدهما عليها حمل، والآخر راكبها، فهي للراكب؛ لأن يده عليها وعلى الحمل، وإن اختلف صاحب الدابة وراكبها في حملها، فهو لراكبها؛ لأن يده على الدابة، فتكون يده على حملها، وإن تنازعا في رحل الدابة وسرجها، فهو لصاحبها؛ لأنه تابع للدابة، والعادة جارية بأن ذلك يكون لصاحبها.
فصل
وإن تنازعا حائطاً معقوداً ببناء أحدهما عقداً، لا يمكن إحداثه، فالقول قوله فيه؛ لأن الظاهر أنه بناه مع ملكه، وإن كان له عليه أزج فهو له؛ لأن الظاهر أنه لا يضع أزجه إلا على ملكه، ولا يرجح أحدهما بوضع خشبه عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أن لا يمنع المرء جاره من وضع خشبه على حائطه، وإن كان معقوداً ببناء كل واحد منهما، أو محلولاً منهما، أو لكل واحد منهما عليه أزج، أو لا أزج لواحد منهما تحالفا، وكان بينهما؛ لأنهما استويا فيه مع ثبوت يديهما عليه، فأشبه ما لو تنازعا داراً في يديهما.
وإن تنازع صاحب العلو والسفل السقف الذي بينهما، فهو بينهما؛ لأنه حاجز توسط بين ملكيهما، أشبه الحائط بين الملكين، وإن تنازعا درجة تحتها مسكن، فهي بينهما؛ لأنهما تساويا في الانتفاع بها، وإن لم يكن تحتها مسكن، أو تنازعا سلماً منصوباً، فهو لصاحب العلو؛ لأنها وضعت لنفعه، وإن كانت تحتها جب، فهي لصاحب العلو؛ لأن المقصود بها نفعه، وإن تنازعا حائط العلو، فهو لصاحبه؛ لأنه مختص بنفعه، وإن تنازعا حائط السفل، احتمل أن يكون بينهما؛ لأنه لنفعهما، فهو كالسلم تحته مسكن واحتمل أن يكون لصاحب السفل؛ لأنه لم تجر العادة ببيت لا حائط له، وإن تنازعا صحن الدار والدرجة فيه، فهو بينهما؛ لأن لكل واحد منهما عليه يداً، وإن لم يكن فيه درجة، فهو لصاحب السفل، ولهذا يملك منع صاحب العلو من الاستطراق فيه، وإن تنازعا مسناة بين أرض أحدهما، ونهر الآخر، فهي بينهما؛ لأنه حائط بين ملكيهما، ينتفع به كل واحد منهما، أشبه الحائط بين الدارين، وإن تنازعا عمامة في يد أحدهما طرفها، وباقيها في يد الآخر، تحالفا وكانت بينهما؛ لأن يد كل واحد منهما ثابتة عليها.
وإن كان(4/263)
أحدهما لابسها، والآخر آخذ بطرفها، أو تنازعا قميصاً، أحدهما لابسه، والآخر آخذ بكمه، فهو للابسه؛ لأن المنتفع به المتصرف فيه، وإن تنازعا عبداً، عليه ثياب لأحدهما، فهما سواء؛ لأن نفع الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحبه.
فصل
وإن كان في يده غلام بالغ عاقل، فادعاه عبداً له، فصدقه، حكم له بملكه، وإن كذبه، فالقول قوله؛ لأن الظاهر الحرية، وإن كان طفلاً لا يميز، فهو للمدعي؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، أشبه البهيمة، فإن بلغ فقال: إني حر، لم يقبل منه؛ لأنه حكم برقه قبل دعواه، وإن لم يدع ملكه، لكنه كان في يده يتصرف فيه، فهو كما لو ادعى رقه؛ لأن اليد دليل الملك، فإن ادعى أجنبي نسبه، ثبت ولم يزل ملك سيده؛ لأنه يجوز أن يكون ولده وهو مملوك إلا أن يكون المدعي امرأة، فتثبت حرية ولدها، أو يكون رجلاً عربياً، فإن فيه روايتين: إحداهما: لا يسترق ولده فيحكم بحريته حينئذ، وإن كان الصبي مميزاً، فأنكر رق نفسه، ففيه وجهان: أحدهما: لا يثبت رقه؛ لأنه معرب عن نفسه في دعوى الحرية، فأشبه البالغ.
والثاني: يثبت الملك عليه؛ لأنه لا قول له، فأشبه الطفل، ولو ادعى رجلان رق كبير في أيديهما، فأقر لأحدهما، فهو لمن أقر له؛ لأن رقه إنما يثبت بإقراره، وإن جحدهما، فالقول قوله، فإن أقام كل واحد منهما بينة بملكه تعارضتا، فإن قلنا بسقوطهما، رجع إلى قوله، وإن قلنا بقسمته بينهما أو بقرعته بينهما، عمل على حسب ذلك.
فصل
ولو كان في يده صغيرة، فادعى نكاحها، لم تقبل دعواه، ولا يخلى بينه وبينها إلا أن تكون بينة؛ لأن النكاح لا يثبت إلا بعقد وشهادة، بخلاف الرق، فإذا كبرت، واعترفت له بالنكاح، قبل إقرارها والله أعلم.
فصل
ومن كان له حق على من يقر به ويبذله، لم يكن له أن يأخذ من ماله إلا ما يعطيه؛ لأن الخيرة إلى الغريم في تعيين ما يقضيه، فإن أخذ من ماله شيئاً بغير اختياره، لزمه رده؛ لأنه لا يجوز أن يتملك غير ماله بغير ضرورة، فإن أتلفه، صار ديناً في ذمته، فإن كان من جنس حقه تقاص الدينان، وتساقطا، وإن كان من غير جنسه، صار دين كل واحد منهما فى ذمة الآخر.
وإن كان من عليه الدين مانعاً له، بجحد، أو تعد، فالمذهب أنه ليس له الأخذ أيضاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا(4/264)
تخن من خانك» والأخذ من ماله بغير علمه خيانة، ولأنه إن أخذ من غير جنس حقه، فهي معاوضة بغير تراض منهما، فلا يجوز؛ لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وإن أخذ من جنسه، فليس له تعيين الحق بغير رضى صاحبه، كحالة البذل، قال ابن عقيل: وجعل أصحابنا المحدثون لجواز الأخذ وجهاً، وخرجه أبو الخطاب احتمالاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» حين أخبرته أن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيها ما يكفيها، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الرهن محلوب ومركوب بنفقته» ، فعلى هذا إن أخذ من جنس حقه، أخذ قدره، وإن أخذ من غير جنسه، اجتهد في تقويمه، كقولنا في المرتهن: يركب ويحلب بقدر العلف.
فصل
وإذا ادعى حقاً على إنسان، وأقام به شاهدين، فلم يعرف الحاكم عدالتهما، فسأل حبس غريمه حتى تثبت عدالة شهوده، أجيب إليه؛ لأن الظاهر عدالة المسلم، ولأن الذي على الشاهد قد أتى به، وإنما بقي ما على الحاكم، وهو الكشف عن عدالة الشهود.
وإن أقام شاهداً واحداً في حق، لا يثبت إلا بشاهدين، وسأل حبس غريمه، ليقيم آخر، لم يحبس؛ لأن الحبس عذاب، فلا يتوجب قبل تمام البينة، وإن كان الحق مما يثبت بشاهد واحد، احتمل أن يحبس؛ لأن الشاهد حجة فيه، واليمين إنما هي مقوية، واحتمل أن لا يحبس؛ لأن الحجة ما تمت، ويحتمل أنه إن كان المدعي باذلاً لليمين، ولم تثبت عدالة الشاهد، حبس؛ لأنها في معنى التي قبلها، وإن كان التوقف عن الحكم لغير ذلك، لم يحبس؛ لأنه إن حبس ليقيم شاهداً آخر، فهي كالتي لا تثبت إلا بشاهدين، وإن حبس ليحلف الخصم، فلا حاجة إلى الحبس مع إمكان اليمين في الحال، وكل موضع حبس على تعديل الشهود، استديم حبسه حتى تثبت عدالتهم، أو فسقهم، وإن حبس، ليقيم شاهداً آخر، حبس ثلاثاً، فإن أقام الخصم شاهداً، وإلا خلي سبيله، وإن ادعى العبد أن سيده أعتقه، وأقام شاهدين، فلم يعدلا، فسأل الحاكم أن يحول بينه وبين سيده إلى أن يبحث الحاكم عن عدالة شهوده، فعل ذلك، ويؤخره الحاكم، وينفق عليه من كسبه لما ذكرنا فيما تقدم.(4/265)
[باب اليمين في الدعاوى]
ومن ادعى حقاً من المال، أو يقصد به المال، كالبيع، والإجارة، فأنكر المدعى عليه، فعليه اليمين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين، على المدعى عليه» رواه مسلم ورواه البخاري بمعناه.
ولحديث الحضرمي والكندي، فأما غير ذلك من الحقوق، وهو ما لا يثبت إلا بشاهدين، وهو القصاص، والقذف، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والنسب، والاستيلاد، والرق، والعتق، والولاء، ففيه روايتان: إحداهما: لا يستحلف فيها؛ لأن البدل لا يدخلها، فلم يستحلف فيها، كحقوق الله تعالى.
والثانية: يستحلف في الطلاق، والقصاص، والقذف.
وذكر الخرقي: أنه يستحلف في مدة الإيلاء، وتستحلف المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها، قبل رجعة زوجها، وذكر أبو الخطاب: أنه يستحلف في كل حق لآدمي، لعموم الخبر، وهو ظاهر في القصاص؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لادعى قوم دماء رجال وأموالهم» ، ولأنها دعوى صحيحة في حق آدمي فيستحلف عليه، كدعوى المال، فإذا توجهت اليمين عليه في المال، فحلف، برىء، وإن نكل، قضي عليه بعد أن يقول له الحاكم: إن حلفت، وإلا قضيت عليك ثلاثاً.
ولا ترد اليمين على المدعي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اليمين على المدعى عليه» ، فحصرها في جانبه.
وادعى زيد بن ثابت على ابن عمر: أنه باعه عبداً يعلم عيبه عند عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: أحلف أنك ما بعته وبه عيب علمته، فأبى ابن عمر أن يحلف، فرد عليه العبد، ولم يرد اليمين، وقال أبو الخطاب: ترد اليمين على المدعي، فيحلف، ويحكم له بما ادعاه.(4/266)
وقال: قد صوبه أحمد، وقال: ما هو ببعيد، يحلف ويستحق، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رد اليمين على طالب الحق» رواه الدارقطني.
ولا ترد إلا أن يردها المدعى عليه، فإن نكل المدعي عن اليمين أيضاً، أخر الحكم حتى يحتكما في مجلس آخر.
فإن كانت الدعوى في غير المال، فنكل المدعى عليه، لم يقض بالنكول، وهل يحبس حتى يقرأ ويحلف، أم يخلى سبيله؟ على وجهين: أصلهما إذا نكلت الزوجة عن اللعان، وروي عن أحمد في القذف والقصاص فيما دون النفس: أنه يقضى فيه بالنكول، إلا أن أبا بكر قال: هو قول قديم، المذهب على خلافه.
فصل
واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب هى اليمين بالله تعالى؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] ، وقال سبحانه: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] ، وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لركانة بن عبد يزيد في الطلاق: الله ما أردت إلا واحدة؟ قال: الله ما أردت إلا واحدة» .
وسواء كان الحالف مسلماً، أو كافراً، عدلاً أو فاسقاً؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للحضرمي المدعي على الكندي: ليس لك إلا يمينه، فقال الحضرمي: إنه رجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه، قال: ليس لك منه إلا ذلك» .
«وقال الأشعث بن قيس: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني فقدمته إلى النبى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل لك بينة؟ قلت لا، قال لليهودي: احلف ثلاثاً، قلت: إذاً يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] » رواه أبو داود وأين حلف، ومتى حلف، أجزأ، لظاهر ما روينا، وحلف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حكومة لأبي في النخل في مجلس زيد، فلم ينكره أحد.
واختار الخرقي تغليظها في حق الكافر خاصة في المكان واللفظ، فقال: واليمين التي يبرأ بها المطلوب، هي اليمين بالله، إلا أنه إن كان(4/267)
يهودياً، قيل له: قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى، وإن كان نصرانياً، قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإن كان لهم مواضع يعظمونها، ويتوقون أن يحلفوا فيها كاذبين، حلفوا فيها، لما روى أبو هريرة قال: «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني لليهود: نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ما تجدون في التوراة على من زنى؟» رواه أبو داود.
وعلى هذا يحلف المجوسي: قل: والله الذي خلقني ورزقني، ويحلف الوثني، ومن لا يعبد الله، بالله وحده، واختار أبو الخطاب: أن الحاكم إن رأى تغليظها في حق المسلم والكافر في اللفظ، والمكان، والزمان، فعل وتغليظها في حق المسلم باللفظ، مثل قوله: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية.
وفي الزمان أن يحلف بعد العصر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} [المائدة: 106] ويحلف بين الأذانين، وفي المكان: أن يحلف بين الركن والمقام بمكة، وعند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، وعند الصخرة بالقدس، وعند المنبر في سائر المساجد، لما روى مالك في الموطأ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من حلف على منبري هذا بيمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار» ولأنه ثبت التغليظ في أهل الذمة، فنقيس عليهم غيرهم، ولا تغلظ إلا فيما له خطر، كالنصاب من المال، والقصاص، والطلاق، والعتق ونحوه.
فصل
ويستحلف على حسب جوابه، فإذا ادعى عليه قرضاً، أو بيعاً فأجاب بأنه: ما أقرضني، ولا باعني، حلف على ذلك، وإن أجاب: بأنه لا يستحق علي شيئاً، حلف عليه؛ لأن اليمين شرعت لتحقيق جوابه، وتأكيد صدقه فيما أخبر به، فكانت على حسبه، فإن ادعى ألفاً، فجوابه لا يستحق علي الألف، ولا شيئاً منها، أو لا يستحق علي شيئاً، ويحلف كذلك، ولا يكتفى منه بأنه لا يستحق علي الألف؛ لأن ذلك لا ينفي استحقاقه بعضها، وإن ادعى على معسر حقاً هو عليه، لم يجز له أن يحلف أنه لا يستحق علي شيئاً؛ لأنه كذب، فإن الحق في ذمته.
فصل
ومتى كانت الدعوى على الخصم في نفسه، حلف على البتات في النفي(4/268)
والإثبات، لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «استحلف رجلاً، فقال: قل: والله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء، رواه» أبو داود ولأن له طريقاً إلى العلم به، فلزمه القطع بنفيه.
فإن كانت الدعوى عليه في حق غيره في الإثبات، حلف على البت؛ لأن له طريقاً إلى العلم به، وفي النفي يحلف على نفي علمه، نص عليه أحمد وذكر حديث القاسم بن عبد الرحمن عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا يعلمون.
» وفي حديث الحضرمي: «ولكن أحلفه: والله ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه» رواه أبو داود: ولأنه لا يمكنه الإحاطة بنفي فعل غيره، فلم يكلف ذلك، وذكر ابن أبي موسى عنه: أنه قال: على كل حال اليمين على العلم فيما يدعي عليه في نفسه، أو فيما يدعي على ميته، قال: وبالأول أقول، قال: وعنه فيمن باع سلعة، فظهر المشتري على عيب بها، وأنكره البائع، هل اليمين على علمه، أو على البتات؟ على روايتين.
وإن باع عبداً فأبق عند المشتري، هل يحلف على علمه، أو على أنه لم يأبق عنده؟ على روايتين.
فصل
وإذا ادعى عليه جماعة حقاً، فأنكر، لزمه لكل واحد يمين؛ لأنه منكر لحق كل واحد منهم، فإن قال: أنا أحلف للجميع يميناً واحدة، لم يقبل منه، وإن رضي الجماعة بيمين واحدة، جاز؛ لأن الحق لهم، لا يخرج عنهم.(4/269)
[كتاب الشهادات]
تحملها وأداؤها فرض؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] .
وقوله سبحانه: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، ولأنها أمانة، فيلزمه أداؤها عند طلبها، كالوديعة، وهي فرض كفاية، إن لم يوجد من يكتفى به غير اثنين، تعين عليهما؛ لأن المقصود لا يحصل إلا بهما، وإن قام بها من يكفي، سقطت عمن سواهم؛ لأن القصد حفظ الحقوق، وقد حصل.
ويستحب الإشهاد على العقود كلها؛ لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]- يعني: في المداينة -.
ولا يجب في عقد غير النكاح والرجعة؛ لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتبايعون في عصره في الأسواق من غير إشهاد، فلم ينكر عليهم، ولأن في إيجابه حرجاً، فسقط بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
فصل
ومن كانت عنده شهادة لآدمي عالم بها، لم يشهد حتى يسأله صاحبها، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم ينذرون ولا يوفون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون» ، متفق عليه.
وإن لم يعلم بها، استحب إعلامه بها، وله أداؤها قبل إعلامه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أنبئكم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» رواه أبو داود، فتعين حمل الحديث على هذه الصورة، جمعاً بين الخبرين.(4/270)
ومن كانت عنده شهادة في حد الله، لم يستحب أداؤها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ستر عورة مسلم، ستره الله في الدنيا والآخرة» .
وتجوز الشهادة به؛ لقول الله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] ، والله أعلم.
[باب من تقبل شهادته ومن ترد]
يعتبر في الشاهد المقبول شهادته ستة شروط: أحدها: العقل، فلا تقبل شهادة طفل، ولا مجنون، ولا سكران، ولا مبرسم؛ لأن قولهم على أنفسهم لا يقبل، فعلى غيرهم أولى.
والثاني: البلوغ، فلا تقبل شهادة صبي؛ لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، والصبي ليس من رجالنا، ولأنه ليس بمكلف، أشبه المجنون، وعنه: تقبل شهادة ابن العشر إذا كان عاقلاً؛ لأنه يؤمر بالصلاة، ويضرب عليها، أشبه البالغ.
وعنه: تقبل شهادته في الجروح خاصة، إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي تجارحوا عليها؛ لأنه قول ابن الزبير، والمذهب الأول.
والثالث: الضبط فلا تقبل شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة؛ لأنه لا تحصل الثقة بقوله، لاحتمال أن يكون من غلطه، وتقبل شهادته من يقبل ذلك منه؛ لأن أحداً لا يسلم من الغلط.
والرابع: النطق، فلا تقبل شهادة الأخرس بالإشارة؛ لأنها محتملة، فلم تقبل، كإشارة الناطق، وإنما قبلت في أحكامه المختصة به، للضرورة، وهي ها هنا معدومة.
والخامس: الإسلام، فلا تقبل شهادة كافر بحال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، والكافر ليس بعدل، ولا مرضي، ولا هو منا، إلا أن شهادة أهل الكتاب، تقبل في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم، ويستحلف مع شهادته بعد العصر؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] الآيات، نزلت في تميم الداري وعدي وكانا نصرانيين، شهدا بوصية مولى(4/271)
لعمرو بن العاص، روى هذه القصة أبو داود وغيره، وروى حنبل عن أحمد: أن شهادة بعضهم على بعض جائزة، لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة بعض أهل الذمة على بعض» ، رواه ابن ماجة، ولأن بعضهم يلي بعضاً، فتجوز شهادتهم عليهم، كالمسلمين، والمذهب الأول.
قال الخلال: غلط حنبل فيما رواه لا شك فيه، والخبر يرويه مجالد، وهو ضعيف، ويحتمل أنه أراد اليمين فإنها شهادة.
فصل
الشرط السادس: العدالة، فلا تقبل شهادة فاسق؛ لقول الله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] ، وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه» ، رواه أبو داود.
ويعتبر في العدالة شيئان: أحدهما: اجتناب الكبائر، والإدمان على الصغائر، والكبائر كل ما فيه حد، أو وعيد، فمن فعل كبيرة، أو أكثر من الصغائر، فلا تقبل شهادته؛ لأنه لا يؤمن من مثله شهادة الزور، ولأن الله تعالى نص على القاذف، فقسنا عليه مرتكب الكبائر، واعتبرنا في مرتكب الصغائر الأغلب؛ لأن الحكم للأغلب، بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 8] ، والآية التي بعدها.
ولا يقدح فيه في عمل صغيرة نادراً؛ لأن أحداً لا يسلم منها، ولهذا روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك لا ألما» والثاني: المروءة، فلا تقبل شهادة غير ذي المروءة، كالمغني، والرقاص، والطفيلي، والمتمسخر، ومن يحدث بمباضعة أهله، ومن يكشف عورته في الحمام، أو غيره، أو يكشف رأسه في موضع لا عادة بكشفه فيه، ويمد رجليه في مجمع الناس(4/272)
وأشباه ذلك مما يجتنبه أهل المروءات؛ لأنه لا يأنف من الكذب، بدليل ما روى أبو مسعود البدري، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح، فاصنع ما شئت» ، وفي أصحاب الصنائع الدنيئة، كالكساح، والزبال، والقمام، والقراد، والكباش، والمشعوذ، والحجام وجهان: أحدهما: لا تقبل شهادته؛ لأن هذا دناءة يجتنبه أهل المروءات، فأشبه ما قبله.
والثاني: تقبل شهادتهم إذا حسنت طريقتهم في دينهم؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وألحق أصحابنا بهذه الصنائع، الحياكة، والدباغة، والحراسة، لدناءتها، والأولى في هذه قبول الشهادة؛ لأنه قد تولاها كثير من الصالحين وأهل المروءة.
ومن كانت صناعته محرمة، كصانع المزامير، والطنابير، لا تقبل شهادته؛ لأنه مدمن على المعاصي، ساقط المروءة، وكذلك المقامر؛ لأن القمار من الميسر الذي أمر الله باجتنابه، وفيه دناءة، وسفه، وأكل مال بالباطل.
فصل
ويحرم اللعب بالنرد والشطرنج، وإن خلا من القمار، لما روى أبو موسى قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من لعب بالنردشير، فقد عصى الله ورسوله» ، رواه أبو داود.
وعن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لله تعالى ثلاثمائة وستين نظرة، ليس لصاحب الشاه فيها نصيب» ، رواه أبو بكر.
ومر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على قوم يلعبون بالشطرنج، فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] ، ولأنه لعب يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، فأشبه القمار، والنرد أشد من الشطرنج، نص عليه أحمد للاتفاق عليه، وثبوت الخبر.(4/273)
فأما اللعب بالحمام، فإن كان يقصد به تعليمها حمل الكتب ونحوها مما تدعو الحاجة إليه، فلا بأس به؛ لأنه كتأديب الفرس، وإن كان لغرض محرم من القمار، أو أخذ حمام غيره ونحوه، فهو محرم، وإن كان عبثاً، فهو دناءة وسفه، فما دام عليه صاحبه من المحرم والسفه، لم تقبل شهادته، لزوال عدالته، وما ندر لم يمنع؛ لأنه من الصغائر، فأما اللعب بآلات الحرب، كالمناضلة، وتأديب الفرس، والثقاف، فمندوب إليه، لما فيه من القوة للجهاد، وقد لعب الحبشة بالحراب والدوق، بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده.
فصل
وهي نوعان: محرم: وهي الآلات المطربة، من غير غناء كالمزمار، وسواء كان من عود أو قصب، كالشبابة، أو غيره، كالطنبور، والعود، والمعزفة، لما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله بعثني رحمة للعالمين، وأمرني بمحق المعازف والمزامير» رواه سعيد في " سننه "، ولأنها تطرب، وتصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، فحرمت كالخمر.
النوع الثاني: مباح، وهو: الدف في النكاح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف» رواه الترمذي، وابن ماجة.
وفي معناه، ما كان في حادث سرور، ويكره في غيره، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان إذا سمع صوت الدف، بعث فنظر، فإن كان في وليمة سكت، وإن كان في غيره، عمد بالدرة، وهو مكروه للرجل على كل حال، لتشبهه بالنساء.
وأما الضرب بالقصب، فليس بمطرب، فلا يحرم، وإنما هو تابع للغناء، فيتبعه في الكراهة، ومن أدمن على شيء من ذلك، ردت شهادته؛ لأنه إما معصية، وإما دناءة وسقوط مروءة.
فصل
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يعجبني الغناء؛ لأنه ينبت النفاق في القلب، وقال: من خلف ولداً يتيماً له جارية مغنية تباع ساذجة، واختلف أصحابنا فيه، فذهب طائفة إلى تحريمه؛ لأنه يروى عن ابن عباس، وابن مسعود، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الغناء ينبت النفاق في القلب» ، وذهب أبو بكر والخلال، إلى إباحته مع الكراهة، وهو(4/274)
قول القاضي: «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت عندي جاريتان تغنيان، فدخل أبو بكر، فقال: مزمور الشيطان في بيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعهما فإنها أيام عيد» .
قال أبو بكر: الغناء والنوح واحد، مباح ما لم يكن معهما منكر، ولا فيه طعن، وفي الجملة، من اتخذه صناعة يؤتى له، أو اتخذ غلاماً أو جارية مغنيين يجمع عليهما الناس، فلا شهادة له؛ لأنه سفه وسقوط مروءة، ومن كان يغشى بيوت الغناء، أو يغشاه المغنون للسماع متظاهراً به، وكثر منه، ردت شهادته، ومن استتر بذلك، أو غنى لنفسه قليلاً، لم ترد شهادته، فإن كثر مع الاستتار به، ردت شهادة صاحبه عند من حرمه؛ لأنه معصية، ومن أباحه، لم يردها؛ لأنه لا معصية فيه، ولم يتظاهر به، وأما الحداء، فمباح، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «كنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء، وكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن رواحة: حرك بالقوم، فاندفع يرتجز فتبعه أنجشة، فأعنقت الإبل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنجشة: رويدك، رفقاً بالقوارير» .
ونشيد الأعراب لا بأس به؛ لأنه كالحداء، وكذلك سائر الأصوات، إلا القراءة بالألحان، قال القاضي: هي مكروهة، وقال غيره: إن فرط فيها، فأشبع الحركات، حتى صارت الفتحة ألفاً، والضمة واواً، والكسرة ياء، حرم، لما فيه من تغيير القرآن، وإن لم يكن كذلك، فلا بأس به، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد قرأ ورجع، وقال: «ما أذن الله لشيء، كإذنه لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به» أي: استمع.
«وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستمع إلى أبي موسى، وقال: لقد أوتيت مزماراً، من مزامير آل(4/275)
داود فقال أبو موسى: لو علمت أنك تستمع، لحبرته لك تحبيراً» .
فصل
والشعر كالكلام، حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه؛ لأنه كلام موزون مشغوله، وقد روى عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الشعر كالكلام حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه» ، وقول الشعر مباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له شعراء، ويأتيه الشعراء فيسمع منهم.
فصل
وتمنع التهمة قبول الشهادة، وهي ستة أنواع؛ أحدها: كونه والداً وإن علا، أو ولداً وإن سفل، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه ولا ظنين في قرابة، ولا ولاء» ، والظنين المتهم، وكل واحد منهما، متهم في حق صاحبه؛ لأنه يميل إليه بطبعه، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فاطمة بضعة مني، يريبني ما أرابها» .
ويستحق أحدهما النفقة على صاحبه، ويعتق عليه إذا ملكه، وعنه: تقبل شهادتهما؛ لأنهما عدلان من رجالنا، فيدخلان في عموم الآيات والأخبار، وعنه: تقبل شهادة الولد لوالده، لدخوله في العموم، ولا تقبل شهادة الأب لابنه؛ لأن ماله كماله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» فكانت شهادته لنفسه، فأما شهادة أحدهما على صاحبه، فمقبولة؛ لأنه لا يتهم عليه، ولذلك قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] .
وحكى القاضي رواية أخرى عن أحمد: أن شهادته عليه لا تقبل؛ لأن من لم تقبل(4/276)
شهادته له، لم تقبل عليه، كغير العدل، والمذهب الأول كما ذكرنا، ولأن شهادته له ردت للتهمة، ولا تهمة في الشهادة عليه.
الثاني: لا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه؛ لأنه ينتفع بشهادته لتبسط كل واحد منهما في مال الآخر عادة، واتساعه سعته، وإضافة مال كل منهما إلى الآخر.
قال ابن مسعود لرجل قال له: إن غلامي سرق مرآة امرأتي قال: غلامكم سرق مالكم، لا قطع عليه، ولأنه إن كان الزوج الشاهد، فهو يجر إلى نفسه نفعاً؛ لأن قيمة بضع المرآة المملوك له، يزداد بيسارها، وإن كان الشاهد المرأة، فنفقتها تزداد بيساره، وعنه: أن شهادة أحدهما للآخر مقبولة، لدخوله في العموم.
الثالث: الجار إلى نفسه، أو الدافع عنها، كشهادة الغرماء للمفلس أو الميت بدين، أو عين، فإنه لو ثبت له، تعلقت حقوقهم به بخلاف غيرهما من الغرماء، فإنه لا يتعلق حق الشاهد بما يشهد به، وكذلك لا تقبل شهادة الورثة للمورث، للجرح قبل الاندمال؛ لأنه قد يسري إلى نفسه، فتجب الدية لهم، ولا شهادة الوصي بمال الميت؛ لأنه يثبت له فيه حق التصرف، وكذلك شهادة الشريك لشريكه بمال الشركة، ولا الوكيل لموكله، فيما هو موكل فيه، ولا الشفيع ببيع الشقص المشفوع، ولا السيد لعبده المأذون، ولا لمكاتبه.
قال القاضي: ولا تقبل شهادة الأجير لمستأجره، نص عليه أحمد.
وأما الدافع عن نفسه، فمثل شهادة المشهود عليه بجرح الشهود، أو شهادة العاقلة بجرح شهود القتل الذين يحملون عقله، وشهادة الضامن بقضاء الدين، أو البراءة منه، فلا تقبل شهادة أحد؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولا ظنين في قرابة» ولا الظنين المتهم.
فإن شهد الشريك لشريكه بغير مال الشركة، أو الوكيل بغير ما وكل به، أو العاقلة بما لا تحمل عقله، قبلت شهادتهم، لعدم التهمة فيهم، وإن شهد من العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ من لا يحمل العقل، لفقره أو بعده، احتمل أن تقبل شهادته كذلك، واحتمل أن لا تقبل؛ لأنه قد يوسر عند الحول فيحمل، أو يموت القريب فيحمل البعيد.
الرابع: من ترد شهادته لفسقه، ثم أعادها بعد عدالته، لم تقبل للتهمة في أدائها، لكونه تعير بردها، فربما قصد بأدائها أن تقبل لإزالة العار الذي لحقه بردها، ولأنها ردت بالاجتهاد، فقبولها ينقض لذلك الاجتهاد، وإن شهد عبد فردت شهادته، ثم عتق، وأعادها، ففيه روايتان:(4/277)
إحداهما: لا تقبل؛ لأنها شهادة مجتهد فيها، فإذا ردت لم تقبل مرة أخرى، كشهادة الفاسق.
والثانية: تقبل؛ لأن العتق يظهر، وليس من فعله فيتهم في إظهاره، بخلاف العدالة، وإن شهد السيد لمكاتبه، أو الوارث لمورثه بالجرح قبل الاندمال، فردت شهادتهم، ثم زالت الموانع، فأعادوا الشهادة، ففي قبولها وجهان، كالروايتين والأولى أنها لا تقبل؛ لأنها شهادة ردت للتهمة، فلا تقبل إذا أعيدت، كالمردود للفسق.
الخامس: من شهد بشهادة ترد في البعض، ردت في الكل، مثل من شهد على رجل، أنه قذفه وأجنبياً، أو قطع الطريق عليه، أو على أجنبي، أو شهد الأب لابنه وأجنبي بدين، أو لشريكه وأجنبي، فلا تقبل؛ لأنها شهادة متهم فيها، فلم تقبل.
السادس: العداوة تمنع قبول شهادة العدو على عدوه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه» ولأنه يتهم في إرادة الضرر بعدوه، فلا تقبل شهادة الرجل على زوجته بالزنا؛ لأنه يقر بعدواته لها، ولأنه دعوى جناية في حقه، فلم تقبل؛ لأنه خصم، ولا تقبل شهادة المقطوع عليه الطريق على القاطع، ولا المقذوف على القاذف؛ لأنه عدو، فأما المتحاكمان على مال، فلا يمنع ذلك قبول شهادة أحدهما على صاحبه؛ لأنه ليس بعدواة.
فصل
وتقبل شهادة العدو لعدوه؛ لأنه غير متهم في شهادته له وشهادة الرجل لأبيه من الرضاع، وابنه، وسائر أقاربه، جائزة؛ لأنه لا نسب بينهما يوجب الإنفاق والصلة، وعتق أحدهما على صاحبه، بخلاف قرابة النسب، وتقبل شهادة الأخ من النسب لأخيه؛ لأنه عدل غير متهم، فيدخل في عموم الآيات والأخبار، ولا يصح قياسه على الوالد والولد، لما بينهما من التقارب، وتقبل شهادة الصديق الملاطف، وسائر الأقارب، لما ذكرنا، وتقبل شهادة ولد الزنى، والجندي، إذا سلما في دينهما كذلك، وتقبل شهادة الوصي والوكيل بعد العزل في أحد الوجهين كذلك، إلا أن يكونا قد خاصما فيما شهدا به؛ لأنهما صارا خصمين فيه، وتقبل شهادة الوارث بالجرح بعد الاندمال، لما ذكرناه.
فصل
ومن شهد شهادة زور، فسق، وردت شهادته؛ لأنها من الكبائر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق(4/278)
الوالدين وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور، فما زال يكررها، حتى قلنا: ليته سكت» متفق عليه.
ويثبت أنه شاهد زور بأحد ثلاثة أشياء: أحدهما: أن يقر بذلك.
والثاني: أن تقوم البينة به.
الثالث: أن يشهد بما يقطع بكذبه، مثل أن يشهد بموت من تعلم حياته، أو يقتله في مكان، والمشهود عليه في ذلك الوقت في بلد آخر.
ولا يثبت ذلك بتعارض الشهادتين؛ لأنه ليس تكذيب إحداهما أولى من الأخرى، ومتى ثبت أنه شاهد زور، عزره الحاكم، بما يراه من الضرب أو الحبس، وشهره، بأن يقيمه للناس في موضع يشتهر أنه شاهد زور؛ لأن فيه زجراً له ولغيره عن فعل مثله، فأما الغلط والنسيان، فلا يصير به شاهد زور؛ لأنه لم يتعمده، ولو غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد فيها، أو نقص، قبلت ما يحكم بشهادته؛ لأنه يجوز أن يكون نسيه.
فصل
ومن قذف، أو فعل معصية توجب رد شهادته، فتاب، قبلت شهادته؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] {إِلا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] ، نص على قبول شهادة القاذف إذا تاب، وقسنا عليه سائر من ذكرنا.
إن قذف ولم يتب، لم تقبل شهادته، سواء جلد أو لم يجلد، للآية، ولأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي بكرة: تب، أقبل شهادتك، ولأن القذف معصية توجب حداً، فوجب أن ترد بها الشهادة قبل التوبة، وتقبل بعد التوبة، كالزنا، والتوبة من الذنب: الاستغفار، والندم على الفعل، والعزم على أن لا يعود، والإقلاع عن الذنب؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] ، الآية، والتي بعدها، وإن كانت مظلمة لآدمي، فالإقلاع عنها، والتخلص(4/279)
منها، بإيفاء صاحبها، أو التحلل منه؛ لأن الحق لأدمي، فلا يبرأ منه إلا بأدائه أو إبرائه، وإن عجز عن ذلك، عزم على إيفائه متى قدر، وإن كان قذفاً فإقلاعه عنه، إكذابه لنفسه؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: توبة القاذف إكذابه نفسه، ولأنه بالقذف ألحق العار به، فإكذابه نفسه يزيله، فإن لم يكن كاذباً، قال: قذفي لفلان كان باطلاً، وقد ندمت عليه، ولا يعتبر مع التوبة إصلاح العمل؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لأبي بكرة: تب، أقبل شهادتك، ويحتمل أن يعتبر مضي مدة تعلم توبته فيها؛ لأن الله تعالى قال: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5] ، وقال: {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] .
فصل
وتقبل شهادة العبد، فيما خلا الحد، والقصاص لقول الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، والعبد عدل تقبل روايته، وفتياه، وأخباره الدينية، فيدخل في العموم.
وعن عقبة بن الحارث، أنه قال: «تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء، فقالت: أرضعتكما، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: كيف وقد زعمت ذلك» متفق عليه، ولأنه عدل غير متهم، فأشبه الحر، ولا تقبل شهادته في الحد؛ لأنه يدرأ بالشبهات، وفي شهادة العبد شبهة، لوقوع الخلاف فيها، وفي القصاص احتمالان: أحدهما: لا تقبل فيه كذلك.
والثاني: تقبل؛ لأنه حق آدمي، لا يصح الرجوع عن الإقرار به، فأشبه الأموال، وذكر الشريف، وأبو الخطاب في جميع العقوبات روايتين.
فصل
وتجوز شهادة الأمة، فيما تجوز به شهادة النساء، لحديث عقبة بن الحارث، وحكم المدبر، والمكاتب، وأم الولد، حكم القن في ذلك؛ لأنهم أرقاء.
فصل
ويعتبر استمرار شروط العدالة حتى يتصل بها الحكم، فإن شهد عند الحاكم، فلم يحكم بشهادته، حتى حدث منه ما لا تجوز معه شهادته، لم يحكم بها؛ لأن العدالة أن الإنسان يستبطن الفسق، ويظهر العدالة، فلا يؤمن أن يكون فاسقاً حين أداء شهادته، فلم يجز الحكم بها مع الشك فيها، وإن حدث ذلك منه بعد الحكم وقبل الاستيفاء، فإن(4/280)
كان ذلك حداً لله تعالى، لم يستوف؛ لأنه يدرأ بالشبهات ولا مطالب به، وهذه شبهة، وإن كان مالاً، استوفي؛ لأن الحكم قد تم، وثبت الاستحقاق بأمر ظاهر الصحة، فلا نبطله بأمر محتمل، وإن كان حد قذف، أو قصاص، ففيه وجهان: أحدهما: يستوفى؛ لأنه حق آدمي له مطالب، فأشبه المال.
والثاني: لا يستوفى؛ لأنه عقوبة على البدن، تدرأ بالشبهات، أشبه الحد، فأما إن أديا الشهادة وهما من أهلها، ثم ماتا قبل الحكم بها، أو جنا، أو أغمي عليهما، حكم بها؛ لأن ذلك لا يؤثر في شهادتهما، فلا يدل على الكذب فيها.
[باب عدد الشهود]
والحقوق تنقسم ستة أقسام؛ أحدها: ما لا يكفي فيه إلا أربعة شهداء وهو الزنا؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
واللواط زناً، فلا يقبل فيه إلا أربعة كذلك، ولأنه فاحشة، بدليل قول الله تعالى لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] ، فيعتبر فيه الأربعة؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] ، فأما إتيان البهيمة، فإن قلنا: يجب به الحد، فهو كالزنا في الشهادة؛ لأنه فاحشة موجبة للحد، فأشبه الزنا، وإن قلنا: الواجب به التعزير، ففيه وجهان: أحدهما: يعتبر فيه الأربعة؛ لأنه فاحشة.
والثاني: يثبت بشاهدين؛ لأنه لا يوجب الحد، فأشبه قبلة الأجنبية، وفي الإقرار بالزنا، وجهان: أحدهما: تعتبر له الأربعة؛ لأنه سبب يثبت به الزنا، فاعتبر فيه أربعة، كالشهادة.
والثاني: يثبت بشاهدين؛ لأنه إقرار، فثبت بشاهدين، كسائر الأقارير، وإن كان المقر أعجمياً، ففي الترجمة وجهان، كالشهادة على الإقرار، فأما المباشرة دون الفرج، وسائر ما يوجب التعزير، فيكتفى فيه بشاهدين؛ لأنه ليس بزنا موجب للحد، فأشبه ظلم الناس.(4/281)
فصل
الثاني: سائر العقوبات كالقصاص وسائر الحدود، فلا يقبل فيه إلا شهادة رجلين، لما روي عن الزهري قال: «جرت السنة، من عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألا تقبل شهادة النساء في الحدود،» ولأنها عقوبة مشروعة، فلا يقبل فيها إلا شهادة الرجال الأحرار، كحد الزنا، وسواء كان القصاص في النفس، أو ما دونها، كالموضحة، والأطراف،، فأما جنايات العمد التي لا توجب القصاص، كالجائفة، والمأمومة، وجناية الأب، فقال الخرقي: يقبل فيه رجل وامرأتان، أو رجل ويمين، وهذا ظاهر المذهب؛ لأنه لا يوجب إلا المال، فأشبه البيع، وقال ابن أبي موسى: فيه روايتان: إحداهما: كما ذكرنا.
والثانية: لا يقبل إلا رجلان، قال: وهذا اختياري، وهو قول أبي بكر؛ لأنه جناية عمد، فأشبه الموضحة، وقيل: يقبل في الجائفة؛ لأنها لا توجب قصاصاً بحال، ولا يقبل في المأمومة وشبهها؛ لأنها لا توجب القود في الموضحة، ومن قال بالأول، لم يوجب القصاص في الموضحة، حتى يشهد بها من يثبت القصاص بشهادته.
فصل
القسم الثالث: المال وما يوجبه، كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصية له، والضمان، والكفالة، فيقبل فيه شهادة رجل وامرأتين؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، نص على المداينة، وقسنا عليه سائر ما ذكرنا.
وقال ابن أبي موسى: لا تثبت الوصية إلا بشاهدين؛ لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] .
فصل
القسم الرابع: ما ليس بمال ولا عقوبة، كالنكاح، والطلاق، والرجعة، والعتق، والوكالة، والوصية إليه، والولاية، والعزل وشبهه، ففيه روايتان: إحداهما: لا يقبل فيه إلا رجلان؛ لقول الله تعالى في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فنقيس عليه سائر ما ذكرنا، ولأنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، أشبه العقوبات.(4/282)
والثانية: يقبل فيه رجل وامرأتان، أو يمين؛ لأنه ليس بعقوبة، ولا يسقط بالشبهة، أشبه المال، وقال القاضي: النكاح وحقوقه لا يثبت إلا بشاهدين، وما عداه يخرج فيه روايتان، وكل ما يثبت بشاهد ويمين، لا يقبل فيه شهادة امرأتين ويمين، ولا أربع نسوة؛ لأن شهادة النساء ناقصة، وإنما انجبرت بانضمام الذكر إليهن، فلا يقبلن منفردات وإن كثرن.
فصل
وإن اختلف الزوجان في الصداق، ثبت بشهادة رجل وامرأتين؛ لأنه مال، وإن اختلفا في الخلع فادعاه الرجل، وأنكرته المرأة، قبل فيه رجل وامرأتان؛ لأنه بينة لإثبات المال، فإن ادعته المرأة وأنكره الرجل، لم يقبل فيه إلا رجلان؛ لأنه بينتهما لإثبات الفسخ، وإن اختلفا في عوضه خاصة، ثبت برجل وامرأتين؛ لأن الخلاف في المال، وإن شهد رجل وامرأتان بسرقة، ثبت المال دون القطع، وإن شهدوا بقتل عمد، لم يجب قصاص ولا دية؛ لأن السرقة توجب المال والقطع، فإذا قصرت عن أحدهما، ثبت الآخر، والقتل يوجب القصاص، والمال بدل، فإذا لم يثبت الأصل، لم توجب بدله، وإن قلنا: موجبه أحد شيئين، لم يتعين أحدهما إلا بالاختيار، فلو أوجبنا الدية وحدها، أوجبنا معيناً، وقال ابن أبي موسى: لا يجب المال فيما إذا شهدوا بالسرقة؛ لأنها شهادة لا توجب الحد، وهو أحد موجبيها، فإذا بطلت في أحدهما، بطلت في الآخر ولو كان في يد رجل جارية ذات ولد، فادعى رجل أنها أم ولده، وولدها منه، وشهد بذلك رجل وامرأتان، قضي له بالجارية؛ لأنها مملوكته، فثبت ذلك برجل وامرأتين، وإذا مات عتقت بإقراره، وفي الولد وجهان: أحدهما: يثبت نسبه وحريته؛ لأن الولد نماء الجارية، وقد ثبتت له، فتبعها الولد في الحكم، ثم ثبت نسبه وحريته بإقراره.
والثاني: لا يثبتان؛ لأنهما لا يثبتان إلا بشاهدين، فإن ادعى أنها كانت ملكه فأعتقها، لم يثبت ذلك بشاهد وامرأتين؛ لأن البينة شهدت بملك قديم، فلم يثبت، والحرية لا تثبت برجلين وامرأتين، ويحتمل أن تثبت كالتي قبلها.
فصل
القسم الخامس: ما لا يطلع عليه الرجال، من الولادة، والرضاع، والعيوب تحت الثياب، والحيض، والعدة، فيقبل فيه شهادة امرأة عدلة، لحديث عقبة بن الحارث، ولأنه معنى يقبل فيه قول النساء المنفردات، فأشبه الرواية، وعنه: لا يقبل فيه إلا شهادة امرأتين؛ لأن الرجال أكمل منهن، ولا يقبل منهم إلا اثنان، فالنساء أولى، وتقبل شهادة(4/283)
النساء في الاستهلال؛ لأنه يكون عند الولادة، ولا يحضرها الرجال، وتقبل شهادة المرضعة على الرضاع، لحديث عقبة، وإن شهد الرجل الواحد بما تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، فقال أبو الخطاب: يكتفى به؛ لأنه أكمل منها، ولأن ما يقبل فيه قول المرأة، يقبل فيه قول الرجل، كالرواية.
فصل
القسم السادس: ما لا يعرفه إلا أهل الطب، كالموضحة وشبهها، وداء الدواب الذي لا يعرفه إلا البيطار، فإذا لم يقدر على اثنين، قبل فيه قول الواحد العدل من أهل المعرفة؛ لأن مما يعسر عليه إشهاد اثنين، فيقبل فيه قول الواحد، كالمسألة قبلها، وإن أمكن إشهاد اثنين، لم يكتف بدونهما؛ لأنه الأصل.
[باب تحمل الشهادة وأدائها]
لا يجوز تحملها، وأداؤها، إلا عن علم؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ، وقوله سبحانه: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] ، فإن كانت الشهادة على فعل، كالخيانة والغصب، لم تجز إلا عن مشاهدة؛ لأنه لا يعمل إلا بها، فإن أراد أن ينظر إلى فرجي الزانيين، ليتحمل الشهادة عليهما، جاز؛ «لأن سعد بن عبادة قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم» ولأن أبا بكرة، ونافعاً، وشبل بن معبد، شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلم ينكر عليهم نظرهم.
فصل
وإن كانت الشهادة على قول، كالبيع، والنكاح، والطلاق، والرجعة، والإقرار، لم يجز التحمل فيها إلا بسماع القول، ومعرفة القائل يقيناً؛ لأن العلم لا يحصل بدونهما، وإن لم يحصل العلم إلا بمشاهدة القائل، اعتبر ذلك، لتوقف العلم عليه، وإن حصل العلم بدونه، لمعرفته صوت القائل، كفى؛ لأنه علم المشهود عليه، فجازت الشهادة عليه، كما لو رآه.
فصل
وتجوز الشهادة بما علمه بالاستفاضة، في تسعة أشياء: النسب، والنكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاية، والعزل؛ لأننا نشهد أن فاطمة(4/284)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وزوج علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأن نافعاً مولى ابن عمر، وأنهم قد ماتوا، ونعلم ذلك يقيناً، ولم نشاهده، قال مالك: ليس عندنا أحد يشهد على أجناس أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا على السماع، ولأن هذه الأمور، يتعذر في الغالب معرفة أسبابها، ويحصل العلم فيها بالاستفاضة، فجاز أن يشهد عليها بها، كالنسب، وظاهر كلام أحمد والخرقي، أنه لا يشهد بذلك، حتى يسمعه من عدد كثير يحصل له به العلم؛ لأن الشهادة لا تجوز إلا على ما علمه، وقال القاضي: يكفي أن يسمع من عدلين يسكن قلبه إلى خبرهما، فإن الحق يثبت بقول اثنين، فإن سمع رجلاً يقر بنسب أب، أو ابن، وصدقة المقر به، جاز أن يشهد به؛ لأنها شهادة على إقرار، وإن سكت، شهد به أيضاً؛ لأن السكوت في النسب إقرار به، بدليل أن من بشر بولد فسكت، كان مقراً به، ويحتمل أن لا يشهد به حتى يكرر؛ لأن السكوت محتمل، فاعتبر له التكرار، ليزول الاحتمال، وإن كذبه المقر به، لم يشهد به.
فصل
وإن سمع إنساناً يقر بحق، جاز أن يشهد عليه، وإن لم يقل له: اشهد علي؛ لأنه سمع إقراره يقيناً، فجاز أن يشهد به، كما يشهد على الفعل برؤيته، وعنه: لا يشهد حتى يستدعيه المقر ذلك، فيقول: اشهد علي، قياساً على الشهادة، وعنه: إن سمعه يقر بالدين، شهد عليه؛ لأنه معترف بثبوته، وإن سمعه يقر بسببه، كالقرض ونحوه، لم يشهد به؛ لأنه يجوز أن يكون قد وفاه، وعنه: يجوز أن يشهد بما سمعه، ولا يجب أداؤه حتى يقول له: اشهد علي، فإذا قاله، وجب عليه الأداء، إذا دعي لقول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ، قال: إذا أشهدوا، والأول المذهب؛ لأنه يشهد بما سمعه يقيناً، فأشبه الشهادة بالاستفاضة، وفارق الشهادة على الشهادة؛ لأنها ضعيفة، فاعتبر تقويتها، بالاستدعاء.
فصل
ومن رأى في يد إنسان شيئاً مدة يسيرة، لم يجز أن يشهد له بالملك؛ لأن ملك غيره قد يكون في يده، ويجوز أن يشهد له باليد؛ لأنه شاهدها، وإن رآه في يده مدة طويلة يتصرف فيه تصرف الملاك، من النقص، والبناء، والسكنى، والاستغلال ونحوه، جاز أن يشهد له بالملك في قول ابن حامد؛ لأن اليد دليل الملك، واستمرارها من غير منازع يقويها، فجرت مجرى الاستفاضة، ويحتمل أن لا يشهد له إلا باليد؛ لأن اليد قد(4/285)
تكون من غصب، وتوكيل، وإجارة، وعارية، فلم تحصر في الملك، فلم تجز الشهادة به مع الاحتمال.
فصل
وتجوز شهادة الأعمى بالاستفاضة؛ لأنه يحصل له العلم بها، كالبصير، وبالترجمة؛ لأنه يترجم ما يسمعه عند الحاكم، وفيما طريقه السماع، إذا عرف القائل يقيناً؛ لأنه تجوز روايته بالسماع، واستمتاعه بزوجته، فجازت شهادته، كالبصير، ولا يجوز أن يشهد على ما طريقه الرؤية؛ لأنه لا رؤية له، فإن تحمل الشهادة عليها وهو بصير، ثم عمي، جاز أن يشهد، إذا عرف الفاعل باسمه ونسبه؛ لأنه يشهد على ما يعلمه، فإن لم يعرفه إلا بعينه، لم يشهد عليه، إلا أن يتيقن صوته، فيجوز أن يشهد عليه، لعلمه به.
قال القاضي: يجوز أن يشهد عليه إذا وصفه بما يتميز به، ويحتمل ألا يشهد؛ لأن هذا مما لا ينضبط غالباً.
فصل
ولا تجوز الشهادة حتى يعرف المشهود عليه، والمشهود له، نص عليه أحمد، وقال: لا يشهد على امرأة، حتى ينظر إلى وجهها، ويعرف كلامها، فإن كانت ممن عرف اسمها، ودعيت، وذهبت، وجاءت فليشهد، وإلا فلا يشهد، ولا يجوز أن يقول لرجل: أتشهد أن هذه فلانة؟ ويشهد على شهادته.
قال القاضي: يجوز أن يحمل هذا على الاستحباب، لتجويز الشهادة بالاستفاضة.
قال: ولا يشهد على امرأة إلا بإذن زوجها، ولا يشهد لرجل على رجل بحق وهو لا يعرف اسميهما، إلا إذا كانا شاهدين، فقال أشهد أن لهذا على هذا كذا، فأما إذا كانا غائبين، فلا.
فصل
ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلم، قال أحمد: لا يشهد على الوصية المختومة حتى يقرأها، فإن حضر جماعة، فقرأ الكتاب بعضهم، وسمعه بعضهم، جاز لجميعهم الشهادة به.
فصل
ويعتبر في أداء الشهادة الإتيان بلفظها فيقول: أشهد بكذا، فإن قال: أعلم وأتيقن، أو أحق ونحوه، لم يعتد به؛ لأنها مشتقة من اللفظ، وإذا شهد بأرض، أو دار، فلا بد من ذكر حدودها؛ لأنها لا تعلم إلا بذلك، وإن شهد بنكاح، اشترط ذكر شروطه، من الولي، والشهود، والإيجاب، والقبول؛ لأن الناس يختلفون فيها، وإن شهد بالرضاع، احتاج إلى وصفه، وأنه ارتضع من ثديها، أو من لبن حلب منه، وذكر عدد الرضعات(4/286)
وأنه في الحولين، ولو شهد أنه ابنها من الرضاع، لم يكف، لاختلاف الناس فيما يصير به ابناً.
وإن رأى امرأة أخذت صبياً تحت ثيابها فأرضعته، لم يجز أن يشهد برضاعه؛ لأنه يجوز أن يتخذ شيئاً على هيئة الثدي يمتصه، غير الثدي، وإن شهد بالجناية، ذكر صفتها، فيقول: ضربه بالسيف، فقتله، أو أماته، أو فمات منه، أو فضربه فأوضحه، وإن قال: ضربه بالسيف، فمات، أو فاتضح، أو فوجدته ميتاً، أو موضحاً، لم تصح شهادته؛ لأنه قد يموت، أو يتضح من غير ضربة، وإن قال: ضربه فسال دمه، لم تثبت البازلة كذلك، وإن قال: فأسال دمه، ثبتت، وإن قال: ضربه فأوضحه، فوجدت في رأسه موضحتين، وجب دية موضحة؛ لأنه قد أثبتها، ولم يجب قصاص؛ لأننا لا ندري أيتهما التي شهد بها.
فصل
ومن شهد بالزنا، فلا بد من ذكر الزاني والمزني بها، لئلا يراه على بهيمة، أو جارية ابنه، فيعتقده زنا، ويحتمل أن لا يقتصر إلى ذكر المزني بها؛ لأنه لا يفتقر إليه في الإقرار، ويفتقر إلى ذكر صفة الزنا، وأنه رأى ذكره في فرجها؛ لأن زياداً شهد على المغيرة، فلم يذكر ذلك، فلم يقم الحد عليه، فإن لم يذكر الشهود ذلك، سألهم الحاكم عنه، وهل يفتقر إلى ذكر الزمان والمكان؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا يفتقر إلى ذكرهما؛ لأن الأزمنة في الزنا واحد، فلا تختلف.
والثاني: يفتقر إلى ذكره، لتكون شهادتهم على فعل واحد، لئلا يكون ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر، ولأن الناس اختلفوا في الشهادة بالحد مع تقادم الزمان، فقال ابن أبي موسى: لا تقبل؛ لأن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من شهد على رجل بحد، فلم يشهد عليه حين يصيبه، فإنما يشهد على ضغن، وقال غيره من أصحابنا: تقبل؛ لأنها شهادة بحق، فجازت مع تقادم الزمان، كالقصاص، ولأنه قد يعرض ما يمنعه الشهادة في حينها، ويتمكن منها بعد ذلك، ومن شهد على سرقة، ذكر السارق، والمسروق منه، الحرز، والنصاب؛ لأن الحكم يختلف باختلافها.
ومن شهد بالردة بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتداً، فلم يجز الحكم به قبل البيان، كما لا يجوز الحكم بجرح الشاهد قبل بيان الجرح.
فصل
ويجوز للحاكم أن يعرض للشهود بالوقوف عن الشهادة في حدود الله تعالى؛ لأن(4/287)
عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عرض لزياد في شهادته على المغيرة، فقال: إني لأرجو أن لا يفضح الله على يدك أحداً من أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال أبو الخطاب: في ذلك وجهان.
فصل
وكل حق لله تعالى، كالحدود، والحقوق المالية، وما كان حقاً لآدمي غير معين، كالوقوف على الفقراء، والمساجد، والمقبرة المسبلة، فلا يفتقر أداء الشهادة فيه إلى تقدم دعوى؛ لأنه لا يستحقها آدمي معين فيدعيها، وكذلك شهد أبو بكرة وأصحابه من غير دعوى، وما عدا ذلك، فلا تسمع الشهادة فيه إلا بعد تقدم الدعوى؛ لأن الشهادة فيه حق لآدمي، فلا يستوفى إلى بمطالبة وإذنه.
فصل
ومن كان له على غيره حق، فقضى بعضه، وأشهد البينة بقضائه، ثم جحد الباقي، شهد الشهود للمدعي بالدين، وعليه بما اقتضى، وإن قال: أشهد أن عليه ألفاً، ثم قال: قضاه منه بعضه، أفسد شهادته؛ لأن ما قضاه لم يبق عليه، وإن لم يقبض منه شيئاً، فقال المدعي للشاهد: اشهد لي ببعض الدين، فعنه: أنه لا يشهد إلا كما تحمل؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] ، وقال أبو الخطاب: عندي يجوز ذلك؛ لأن من شهد بألف، فهو شاهد بخمسمائة، وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد، أو نقص، قبلت ما لم يحكم بشهادته، وإن ادعت عنده شهادة، فأنكر، ثم شهد بها وقال: كنت أنسيتها، قبلت؛ لأن ما قاله محتمل، فلا يجوز تكذيبه مع إمكان تصديقه.
[باب الشهادة على الشهادة]
تجوز الشهادة على الشهادة فيما يثبت بشاهد وامرأتين؛ لأنه مبني على المساهلة، فجازت فيه الشهادة، كالأموال، ولا يقبل في حد الله تعالى؛ لأن مبناه على الدرء بالشبهات، وهذه لا تخلو من شبهة، ولهذا اشترطنا لها عدم شهود الأصل، وظاهر كلام أحمد: أنها لا تقبل في قصاص، ولا حد قذف؛ لأنه عقوبة، فأشبه سائر الحدود.
ونص على قبولها في الطلاق؛ لأنه لا يدرأ بالشبهات، فيخرج من هذا، وجوب قبولها في كل ما عدا الحدود والقصاص كذلك، وقال ابن حامد: لا تقبل في النكاح، ونحوه قول أبي بكر، فعلى قولهما: لا تقبل في غير المال، وما قصد به المال؛ لأنه لا يثبت إلا بشاهدين، فأشبه الحد، وما ثبت بالشهادة على الشهادة ثبت بكتاب القاضي إلى القاضي(4/288)
وما لا فلا؛ لأن الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي فكان حكمه، حكم الشهادة على الشهادة.
فصل
ولها أربعة شروط
أحدهما: تعذر شهود الأصل، لموت، أو مرض، أو غيبة، أو خوف، أو غيره؛ لأن شهادة الأصل أقوى؛ لأنها تثبت بنفس الحق وهذه لا تثبته ولأن سماع القاضي منهما متيقن، وصدق شاهدي الفرع عليهما مظنون فلم يقبل الأدنى مع القدرة على الأقوى، وفي قدر الغيبة وجهان: أحدهما: مسافة القصر؛ لأن من دونها في حكم الحاضر، ذكره أبو الخطاب.
والثاني: أن يكون بمكان لا يمكنه الرجوع إلى منزله من يومه؛ لأن في تكليفه الحضور مع ذلك ضرراً، وقد نفاه الله تعالى بقوله: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] ، وما دون ذلك؛ لا مشقة فيه فوجب حضورهما منه.
والشرط الثاني: أن يتحقق شروط الشهادة، من العدالة، وغيرها، في كل واحد من شهود الأصل والفرع؛ لأن الحكم ينبني على الشهادتين معاً، فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل، فشهدوا على شهادتهم وعدالتهم، كفى ذلك؛ لأن شهادتهما بالحق مقبولة، فكذلك في العدالة، وإن لم يشهدوا بعدالتهم، تولى الحاكم ذلك.
الشرط الثالث: أن يعين شهود الفرع شهود الأصل بأسمائهم، وأنسابهم، ولو قالوا: نشهد على شهادة عدلين، لم تقبل؛ لأنهما ربما كانا عدلين عندهما غير عدلين عند الحاكم، ولأنه يتعذر على الخصم جرحهما إذا لم يعرف عينهما.
الشرط الرابع: أن يسترعيه شاهد الأصل الشهادة، فيقول: اشهد على شهادتي، آني أشهد لفلان على فلان بكذا، أو أقر عندي بكذا، نص عليه، ولو سمع رجلاً يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يجز أن يشهد به؛ لأنه يحتمل أنه أراد أن له ذلك عليه من وعد، فلم يجز أن يشهد مع الاحتمال بخلاف ما إذا استرعاه؛ لأنه لا يسترعيه إلا على واجب، وإن سمعه يسترعي غيره، جاز أن يشهد به كذلك، ويحتمل ألا يجوز؛ لأن في الشهادة على الشهادة معنى النيابة، فلا ينوب عنه إلا بأذنه، وإن سمعه يشهد عند الحاكم، أو سمعه يشهد بحق يعزيه إلى سببه كقوله: أشهد أن لفلان على فلان ألفاً، من ثمن مبيع، ففيه روايتان:(4/289)
إحداهما: لا يشهد به لما ذكرنا.
والثانية: يجوز أن يشهد به؛ لأنه لا يحتمل مع ذلك إلا الوجوب، فيزول به الاحتمال، ويرتفع به الإشكال، فجاز أن يشهد به، كما لو استرعاه.
فصل
ويعتبر دوام هذه الشروط، إلى حين الحكم، فلو شهد الفروع عند الحاكم، فلم يحكم حتى حضر شهود الأصل، أو صحوا من المرض، وقف الحكم على سماع شهادتهم؛ لأنه قدر على الأصل قبل العمل بالبدل فأشبه المتيمم يقدر على الماء، وإن فسق شهود الأصل، أو رجعوا عن الشهادة قبل الحكم، لم يحكم بها؛ لأن الحكم ينبني عليها، فأشبه ما لو فسق شهود الفرع، أو رجعوا.
فصل
واختلفت الرواية، في شرط خامس: هو اعتبار الذكورية في شهود الفرع، فعنه: لا يشترط؛ لأن الغرض إثبات المال، فجاز أن يثبت بشهادة النساء مع الرجال، كشهادة الأصل، والثانية يشترط؛ لأنه شهادتهم على شهادة الشاهدين، وليس ذلك بمال، ولا المقصود منه المال، ويطلع عليه الرجال، أشبه النكاح، وأما شهود الأصل، فلا تعتبر فيهم الذكورية؛ لأنها شهادة بمال، وعنه: أنها تعتبر؛ لأن في الشهادة على الشهادة ضعفاً، فاعتبر تقويتها باعتبار الذكورية فيها.
فصل
ويجوز أن يشهد على كل واحد من شهود الأصل، شاهد فرع، فيشهد شاهدا فرع، على شاهدي أصل؛ لأن شهود الفرع، بدل من شهود الأصل، فاكتفي بمثل عددهم، وذكر ابن بطة أنه يشترط أن يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل، شاهدا فرع؛ لأن شاهدي الفرع، يثبتان شهادة شاهدي الأصل، فلا يثبت كل واحد منهما إلا باثنين، كما لو كانت الشهادة على إقراره، لكن إن شهد شاهدا الفرع على كل واحد من شاهدي الأصل، جاز؛ لأنه إثبات قول اثنين، فجاز بشاهدين، كالشهادة على إقرار نفسين.
فصل
ويؤدي الشهادة على الصفة التي تحملها، فيقول: أشهد أن فلاناً يشهد أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وإن سمعه يشهد عند الحاكم، أو يعزي الحق إلى سبب، ذكره.(4/290)
[باب اختلاف الشهود]
إذا ادعى ألفين على رجل فشهد له شاهد بهما، وشهد له آخر بألف، ثبت له الألف بشهادتهما، لاتفاقهما، ويحلف مع شاهده على الألف الآخر؛ لأن له بها شاهداً، وسواء شهدت البينة، بإقرار الخصم، أو ثبوت الحق عليه، وسواء ادعى ألفاً، أو أقل منه؛ لأنه يجوز أن يكون له حق فيدعي بعضه، ويجوز أن لا يعلم أن له من يشهد له بجميعه والله أعلم.
فصل
وإن شهد اثنان أنه زنى بها في بيت، وشهد آخران أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد اثنان أنه زنى بها غدوة، وشهد اثنان أنه زنى بها عشياً، فهم قذفة، وعليهم الحد، وقال أبو بكر: تكمل شهادتهم، ويحد المشهود عليه، وحكاه عن أحمد؛ لأنه قد شهد عليه أربعة بالزنا، فيدخل في عموم قوله سبحانه: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} [النساء: 15] ، والأول المذهب؛ لأنه لم يشهد الأربعة على فعل واحد، فأشبه ما لو شهد اثنان على رجل أنه زنا بامرأة، وشهد اثنان أنه زنا بامرأة أخرى، فيلزم الشهود الحد، دون المشهود عليه، وإن شهد اثنان أنه زنا بها في هذه الزاوية، واثنان أنه زنا بها في الزاوية الأخرى، وهما متباعدتان، فكذلك؛ لأنهما فعلان، وإن كانتا متقاربتين، كملت الشهادة؛ لأنه أمكن صدقهم، بأن تكون كل بينة نسبية إلى إحدى الروايتين، لقربه منهما.
وإن شهد اثنان، أنه زنا بها مطاوعة، واثنان أنه زنا بها مكرهة، فلا حد على المرأة، ولا على الرجل؛ لأن الشهادة لم تكمل على واحد من الفعلين، فإن زنا المكرهة غير الزنا من المطاوعة، فأشبهت التي قبلها هذا قول أبي بكر والقاضي، واختار أبو الخطاب: أن الحد يجب على الرجل دون المرأة لاتفاق الأربعة على الشهادة بزناه، ولا حد على الشهود في قوله لكمالها، وعلى قول أبي بكر: فيهم وجهان: أحدهما: عليهم الحد؛ لأن البينة لم تكمل على فعل واحد، أشبه ما لو اختلفوا في البيت.
والآخر أن الحد على شهود المطاوعة؛ لأنهم قذفوا المرأة، ولم تكمل البينة عليها.
فصل
وإن شهد أحدهما أنه قتله عمداً، وشهد الآخر أنه قتله خطأ، ثبت القتل، لاتفاقهما(4/291)
عليه، ولم يثبت العمد، والقول قول المشهود عليه مع يمينه في أنه خطأ، ولا تحمله العاقلة؛ لأنه لم يثبت ببينة، وإن شهد أحدهما أنه قتله غدوة، وشهد الآخر أنه قتله عشياً، أو شهد أحدهما أنه قتله بسيف، وشهد الآخر أنه قتله بسكين، لم يثبت القتل، اختاره القاضي؛ لأنهما لم يشهدا بفعل واحد، وعند أبي بكر: يثبت كالتي قبلها، فإن شهد شاهد أنه قذفه غدوة، وشهد آخر أنه قذفه عشياً، أو اختلفا في المكان، أو شهد أحدهما أنه قذفه بالعربية، وشهد الآخر أنه قذفه بالعجمية، لم تكمل شهادتهما؛ لأن البينة لم تكمل على قذف واحد، وكذلك إن كانت الشهادة بالنكاح أو بفعل، كالقتل، والسرقة، والغصب فاختلفا في المكان، أو الزمان، لم تكمل البينة كذلك، إلا على قول أبي بكر فإنها تكمل، ويثبت المشهود به، والمذهب: الأول، وإن شهد أحدهما أنه أقر بقذفه، أو بقتله يوم الجمعة، وشهد الآخر: أنه أقر بذلك يوم الخميس، أو اختلفا في المكان، أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر بالعجمية، ثبت المشهود به؛ لأنه المشهود به واحد وإن اختلفت العبارة، وإن كانت الشهادة بعقد غير النكاح، كالبيع، والطلاق، والرجعة، فقال أصحابنا: تكمل الشهادة؛ لأن المشهود به، قول، فأشبه الإقرار، ويحتمل أن لا تكمل الشهادة؛ لأن كل بيع أو طلاق لم يشهد به إلا واحد، فلم تكمل البينة، كالنكاح، وإن شهد أحدهما أنه غصبه هذا، وشهد الآخر أنه أقر بغصبه، كملت الشهادة، نص عليه أحمد في القتل؛ لأنه يجوز أن يكون الإقرار بالغصب الذي شهد به الآخر، فتكمل البينة على شيء واحد.
وقال القاضي: لا تكمل؛ لأن ما شهد به أحدهما غير ما شهد به الآخر.
فصل
وإن شهد أحدهما أنه سرق ثوباً غدوة، وشهد الآخر أنه سرقه بعينه عشياً، لم يجب الحد؛ لأن البينة لم تكمل على سرقة واحدة، وله أن يحلف مع أحدهما، ويغرم المشهود عليه؛ لأن الغرم يثبت بشاهد ويمين، فإن كان مكان كل شاهد شاهدان، تعارضت البينتان.
ذكره القاضي لأن كل شاهدين بينة، والتعارض إنما يكون في البينة، بخلاف التي قبلها، فإن كل شاهد، ليس بينة، فلا يتعارضان، ويحتمل أن لا يتعارضا هاهنا؛ لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يسرقه غدوة، ثم يعود إلى مالكه فيسرقه عشية، ومع إمكان الجمع لا تعارض، فعلى هذا يجب على السارق الحد والغرم، وإن لم تعين البينة الثوب، فلا تعارض بينهما وجهاً واحداً، ويجب للمسروق منه الثوبان، وعلى السارق القطع، وإن شهد أحدهما أنه سرق ثوباً قيمته ثمن دينار، وشهد الآخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع دينار.
لم تكمل بينة الحد، لاختلافهما في النصاب، ووجب للمشهود له ثمن دينار، لاتفاقهما عليه، وحلف مع الآخر على الثمن الآخر إن أحب؛ لأن الغرم(4/292)
يثبت بشاهد واحد ويمين، وإن كان مكان كل شاهد شاهدان، تعارضت البينتان، ولا حد، ووجب ما اتفقوا عليه، وسقط الزائد، لتعارض البينتين فيه.
فصل
وإذا شهد عدلان على ميت أحدهما شهد) أنه أعتق سالماً في مرضه: وهو ثلث ماله، وشهد الآخر أنه أعتق غانماً، وهو ثلث ماله، عتق السابق منهما، فإن جهل السابق منهما، أقرع بينهما فأعتق من تخرج له القرعة، كما لو أعتقهما بكلمة واحدة، وإن شهدت إحداهما أنه وصى بعتق سالم، وشهدت الأخرى أنه وصى بعتق غانم، أقرع بينهما، فأعتق أحدهما بالقرعة، سواء تقدمت وصيته أو تأخرت؛ لأن الوصية يستوي فيها المقدم والمؤخر.
وقال أبو بكر وابن أبي موسى: يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأنهما سواء في الوصية، فيجب أن يتساويا في الحرية، والأول قياس المذهب، بدليل ما لو أعتقهما بكلمة واحدة، وإن كانت إحدى البينتين وارثة عادلة، ولم تطعن في شهادة الأجنبية، فالحكم كذلك، وإن كذبت الأجنبية، وقالت: ما أعتق إلا سالما وحده، عتق سالم كله، لإقرار الورثة بحريته، ولم يقبل تكذيبهم، لأنه نفي فيكون حكم غانم على ما تقدم، في أنه يعتق إذا تقدم تاريخ عتقه، ويرق إذا تأخر ويقرع بينهما إذا استويا، أو جهل الحال، وإن كانت الوارثة غير عادلة، عتق غانم كله، ولم يزاحمه من شهدت به الوارثة؛ لأن شهادة الفاسق كعدمها، ثم إن طعنت في شهادة الأجنبية، عتق سالم كله، لإقرارها بحريته، وإن لم تطعن فيها، فذكر القاضي: أنه يعتق من سالم نصفه؛ لأنه ثبت عتقه بإقرارهم، وعتق غانم بالبينة، فصار كأنه أعتق العبدين معاً إلا في أنه لا ينتقض عتق غانم، لشهادة الوارثة لفسقها.
فصل
فإن شهد اثنان على اثنين بقتل رجل، فشهد الآخران أن الأولين قتلاه، فصدق الولي الأولين، حكم بشهادتهما؛ لأنهما غير متهمين، وإن صدق الآخرين وحدهما، لم يحكم له بشيء؛ لأنهما متهمان، لكونهما يدفعان عن أنفسهما القتل، وإن صدق الجميع، فكذلك لأنهما متعارضتان، فلا يمكن الجمع بينهما.
فصل
وإن ادعى على رجل، أنه قتل وليه عمداً، وأقام شاهداً، فأقر بقتله خطأ، ثبت قتل الخطأ بإقراره، وعليه الدية، ولم يثبت العمد؛ لأنه لا يثبت إلا بشاهدين، وهل يحلف على نفيه؟ على وجهين، وإن قتل رجل رجلاً عمداً، وله وارثان، فشهد أحدهما على الآخر أنه عفا عن القود والمال، سقط القود، وإن كان الشاهد فاسقاً؛ لأنه شهادته تضمنت(4/293)
الإقرار بسقوطه، ويثبت نصيب الشاهد من الدية؛ لأنه ما عفا، وأما نصيب المشهود عليه، فإن كان الشاهد فاسقاً، حلف: ما عفوت، واستحق نصيبه من الدية، وإن كان عدلاً، حلف القاتل معه، وسقط نصف الدية؛ لأن ما طريقه المال يثبت بشاهد ويمين، وفي كيفية اليمين وجهان: أحدهما: أنه قد عفا عن المال؛ لأن القود سقط بغير يمين.
والثاني: يحلف أنه قد عفا عن القود والمال؛ لأنه قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها، إذا قلنا: موجب العمد القصاص عيناً.
فصل
وإذا ادعى على رجلين، أنهما رهناه عبداً لهما بدين له عليهما، فأنكراه وشهد كل واحد منهما، على صاحبه، فشهادتهما صحيحة، وله أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير رهناً، أو مع أحدهما ويصير نصفه رهناً؛ لأن إنكاره لا يقدح في شهادته، كما لو كانت الدعوى في عين أخرى، ويحتمل أن لا تقبل شهادتهما؛ لأنه يدعي أن كل واحد منهما كاذب.
[باب الرجوع عن الشهادة]
إذا رجع الشاهدان قبل الحكم بشهادتهما، لم يحكم بها؛ لأنها شرط الحكم، فيشترط استدامتها إلى انقضائه، كعدالتهما.
فإن رجعا بعد الحكم بها في حد، أو قصاص، قبل الاستيفاء، لم يجز استيفاؤه؛ لأنه يدرأ بالشبهات، وهذا من أعظمها، وإن كان المشهود به غير ذلك، وجب استيفاؤه؛ لأن حق المشهود له قد وجب وحكم به، فلم يسقط بقولهما المشكوك فيه، وإن رجعا بعد الاستيفاء في حد، أو قصاص، وقالا: عمدنا ذلك ليقتل، فعليهما القصاص، لما ذكرنا في الجنايات، وإن قالا: عمدنا الشهادة، ولم نعلم أنه يقتل، فعليهما دية مغلظة؛ لأنه شبه عمد وإن قالا: أخطأنا، فعليهما الدية مخففة، ولا تحملها العاقلة؛ لأنها وجبت باعترافهما، وإن اتفقا على أن أحدهما عامد، والآخر مخطىء، فلا قصاص عليهما، وعلى العامد نصف دية مغلظة، وعلى الآخر نصفها مخففة، وإن قال أحدهما: عمدنا جميعاً.
وقال الآخر: أخطأنا جميعاً، فعلى العامد القود، لإقراره بما يوجبه، وعلى المخطئ نصف الدية مخففاً، وإن قال كل واحد منهما: عمدت، وأخطأ صاحبي، ففيه وجهان: أحدهما: لا قود عليهما؛ لأنه لا يؤاخذ كل واحد منهما إلا بإقراره، ولم يقر بما يوجب القصاص؛ لأنه أقر بعمد فيه شركة خطأ.(4/294)
والثاني: عليهما القود؛ لأن كل واحد منهما مقر بالعمد، وإن قال أحدهما: عمدنا معاً، وقال الآخر: عمدت وأخطأ صاحبي فعلى الأول القود.
وفي الثاني وجهان.
وإن قال: كل واحد منهما عمدت، ولا أدري ما فعل صاحبي فعليهما القود؛ لأننا تبينا وقوعهما عمداً، وإن رجع أحدهما وحده، فحكمه حكم ما لو رجع صاحبه معه.
فصل
إذا شهد خمسة بالزنا على رجل، فقتل ثم رجعوا وقالوا: عمدنا، قتلوا كلهم، وإن قالوا: أخطأنا غرموا الدية أخماساً؛ لأن القتل حصل بقول جميعهم، وإن رجع واحد منهم، وقال: عمدنا اقتص منه، وإن قال: أخطأنا فعليه خمس الدية، لأنه يقر بما لو وافقه أصحابه عليه، لزمهم القود أو قسطه من الدية، فلزمه ذلك وإن لم يوافقوه، كما لو كانوا أربعة، وإن رجع اثنان، فعليهما خمسا الدية، وإن كانوا ثلاثة، فعليهم ثلاثة أخماس الدية؛ لأن الإتلاف حصل بشهادتهم، فأشبه ما لو رجعوا كلهم، وإن شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان، فقتل، ثم رجعوا عن الشهادة، فالضمان على الجميع؛ لأن القتل حصل بقولهم، فأشبه ما لو شهد الجميع بالزنا.
وفي كيفية الضمان وجهان: أحدهما: توزع الدية على عددهم؛ لأن القتل حصل بجميعهم، أشبه ما لو اتفقت شهادتهم.
والثاني: على شهود الإحصان النصف، وعلى شهود الزنا النصف؛ لأنه قتل بنوعين من البينة، فقسمت الدية عليهما، وإن شهد أربعة بالزنا، واثنان منهم بالإحصان، فعلى الوجه الأول على شهود الإحصان ثلثا الدية، وعلى الآخر ثلاثة أرباعها، ويحتمل أن لا يجب عليهما إلا النصف، لأنهم كأربعة أنفس، جنى اثنان جنايتين، وجنى الآخران أربع جنايات.
فصل
وإن شهدا بمال، ثم رجعا بعد الحكم به، غرماه، ولا يرجع على المحكوم له به سواء كان المال تالفاً، أو قائماً؛ لأنهما حالا بينه وبين ماله بعدوان، فلزمهما الضمان، كما لو غصباه، فإن رجع أحدهما غرم النصف، وإن كانوا ثلاثة، فالضمان بينهم على عددهم، وإن رجع أحدهم، فعليه بقسطه، لما ذكرنا.
وإن شهد رجل وامرأتان، ثم رجعوا، فعلى الرجل النصف، وعلى كل واحدة منهما الربع؛ لأنهما كرجل، وإن شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجعوا، فعلى الرجل السدس، وعليهن خمسة أسداس، وإن رجع بعضهم، فعلى الراجع بقسطه، لما ذكرناه، وإن حكم له بشاهد ويمين، ثم رجع الشاهد، فعليه غرامة المال كله في أحد الوجهين؛ لأن الحكم بشهادته، وإنما اليمين مقوية له.(4/295)
والثاني: يلزمه نصف المال؛ لأن الملك استند إلى شهادته ويمين المدعي، فتوزع الحق عليهما، كالشاهد والمرأتين.
فصل
وإن شهد اثنان بحرية عبد، فحكم بشهادتهما، ثم رجعا، غرما للسيد قيمته، لما ذكرنا، وإن شهدا بطلاق قبل الدخول، فحكم به، ثم رجعا، فعليهما نصف الصداق المسمى؛ لأنهما أغرماه للزوج، فلزمهما ذلك، كما لو شهدا بالنصف، وإن كان ذلك بعد الدخول، فلا ضمان عليهما لأن خروج البضع من ملك الزوج غير متقوم، فلم يضمناه، كما لو أخرجته عن ملكه بالردة، أو بالقتل، وإن شهدا بكتابة عبده، فحكم بها، ثم رجعا، فعليهما ما بين قيمته سليماً ومكاتباً، فإن أدى وعتق، فعليهما ما بين قيمته وكتابته، لأنهما فوتاه ذلك، ويحتمل أن يرجع عليهما بجميع قيمته؛ لأن ما أداه كان من كسبه الذي يملكه، وإن لم يعتق، لم يرجع عليهما بشيء، وإن شهدا لأمة بالاستيلاد، فرجعا، فعليهما ما نقص من قيمتها، فإن عتقت بموت سيدها، ضمنا تمام قيمتها؛ لأنهما فوتا رقها على الورثة.
فصل
وإذا حكم بشهادة الفروع، ثم رجعوا عن الشهادة، ضمنوا ولو رجع شهود الأصل، لم يضمنوا، ذكره القاضي؛ لأنه لم يلجئوا الحاكم إلى الحكم، ويحتمل أن يضمنوا؛ لأنهم سبب في الحكم، فيضمنوا كالمزكيين، وشهود الإحصان.
فصل
وإذا شهد الشهود بحد فزكاهم اثنان، فبان أنهم ممن لا تقبل شهادتهم، لفسق، أو كفر، فالضمان على المزكيين، لأنهم شهدوا بشهادة زور أفضت إلى الحكم، فلزمهم الضمان، كالشهود إذا رجعوا عن الشهادة، ولا شيء على الشهود؛ لأنهم يقولون: شهدنا بحق، ولا على الحاكم؛ لأن المزكيين ألجآه إلى الحكم، وقال القاضي: الضمان عليه؛ لأنه فرط في الحكم بمن لا يجوز الحكم بشهادته، ولا شيء على المزكيين؛ لأنهما لم يشهدا بالحق، وقال أبو الخطاب: الضمان على الشهود؛ لأنهم فوتوا الحق على مستحقه بشهادتهم الباطلة، فلزمهم الضمان، كما لو رجعوا عن الشهادة، والأول أصح؛ لأن الحاكم أتى بما عليه، والشهود لم يعترفوا ببطلان شهادتهم، وإنما التفريط من المزكيين، فكان الضمان عليهما.
فإن تبين أن المزكيين فاسقان، أو كافران، فالضمان على الحاكم لتفريطه، وكذلك إن حكم بشهادة فاسقين، أو كافرين، من غير تزكية، فالضمان عليه كذلك، وإن كانت الشهادة بمال، نقض(4/296)
الحكم، وأمر برد المال إن كان قائماً، أو قيمته إن كان تالفاً؛ لأنهما ليسا من أهل الشهادة، فوجب نقض الحكم، كما لو كانا صبيين، وعنه: أنه لا ينقض الحكم إذا كانا فاسقين، ويغرم الشاهدان المال؛ لأنهما سبب الحكم بشهادة ظاهرها الزور، فأشبه ما لو رجعا.
والأول أولى؛ لأنهما لم يعترفا ببطلان شهادتهما، لكن تبين فقد شرط الحكم، فوجب أن يقضى بنقضه، كما لو تبين أن حكمه بالقياس مخالف للنص.
فصل
ومن حكم له بمال، أو بضع، أو غيرهما بشهادة زور أو يمين فاجرة، لم يحل له ما حكم به، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بما أسمع، وأظنه صادقاً، فمن قضيت له، بشيء من حق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو يدعها» متفق عليه، ولأنه يقطع بتحريم ما حكم له به قبل الحكم، فلا يحل له بالحكم كما لو حكم له بما يخالف النص، أو الإجماع، وحكي عن أحمد رواية أخرى: أن حكم الحاكم ينفذ في الفسوخ، والعقود؛ لأنه حكم باجتهاده، فنفذ حكمه، كما لو حكم في المجتهدات.(4/297)
[كتاب الإقرار]
والحكم به واجب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» .
ورجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزاً والغامدية، والجهنية، بإقرارهم، ولأنه إذا وجب الحكم بالبينة، فلأن يجب بالإقرار مع بعده من الريبة أولى، فإن كان المقر به حقاً لآدمي، أو لله تعالى، لا يسقط بالشبهة، كالزكاة، والكفارة، ودعت الحاجة إلى الإقرار به لزمه ذلك؛ لقول الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ، وقوله: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] ، والإملال: الإقرار وإن كان حداً لله، لم يلزمه الإقرار به؛ لأنه مندوب إلى الستر على نفسه.
فصل
ولا يصح الإقرار إلا من عاقل مختار، فأما الطفل والمجنون، والنائم، والمبرسم، فلا يصح إقرارهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ولأنه التزام حق بالقول، فلم يصح منهم كالبيع، فإن قال: أقررت قبل البلوغ، فالقول قوله مع يمينه إذا كان اختلافهما بعد بلوغه في أحد الوجهين، فأما السكران بسبب مباح، فهو كالمجنون؛ لأنه غير عاقل، والسكران بمعصية، حكم إقراره حكم طلاقه، ولا يصح إقرار المكره؛ لقول(4/298)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه سعيد، ولأنه قول أكره عليه بغير حق، فلم يصح كالبيع.
وإذا ادعى أنه أقر مكرهاً، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل السلامة.
فإذا ثبت أنه كان مقيداً، أو محبوساً، أو موكلاً به، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن هذه دلالة الإكراه، وإن ادعى أنه كان زائل العقل، لم يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل السلامة، فإن أكره على الإقرار بشيء، فأقر بغيره، لزمه إقراره؛ لأنه غير مكره على ما أقر به، وكذلك إن أكره على الإقرار لإنسان، فأقر لغيره، ولا يصح إقرار الصبي المحجور عليه، وإن كان عاقلاً؛ لأنه لا يصح بيعه، وإن كان العاقل مأذوناً له في التجارة، جاز إقراره فيما أذن له فيه، وقال أبو بكر: لا يصح إقراره إلا في الشيء اليسير، والأول أصح؛ لأنه يصح تصرفه فيه، فصح إقراره به كالبالغ.
فصل
ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص فيما دون النفس؛ لأن الحق له، دون مولاه، ولأن إقرار مولاه عليه به لا يصح، فلو لم يقبل إقراره به لتعطل، وأما القصاص في النفس، فظاهر قول الخرقي أنه يصح إقراره به، وهو اختيار أبي الخطاب كذلك.
وعن أحمد: أنه لا يصح إقراره به؛ لأنه يسقط به حق سيده، أشبه الإقرار بقتل الخطأ، ولأنه متهم في أن يقر لمن يعفو على مال، فتستحق رقبته ليتخلص من سيده، ولا يقبل إقراره بجناية الخطأ، ولا بعمد موجبه المال؛ لأنه إيجاب حق في رقبة مملوكة لمولاه، فلم يقبل كإقراره على عبد سواه، ويقبل إقرار المولى عليه بذلك؛ لأنه يقر بحق في ماله، فأشبه ما لو أقر لرجل بملك العبد، ولا يقبل إقراره عليه بحد ولا قصاص؛ لأنه لا يملك منه إلا المال، لكن إن أقر عليه بقصاص قبل إقراره فيما يتعلق بالمال، فيملك المقر له مطالبته بالمال؛ لأنه أقر بما يضمن وجوب المال، فلزمه، كما لو أقر الموسر بعتق نصيبه من العبد المشترك، وإن أقر العبد المشترك بسرقة موجبها المال، لم يقبل، ويقبل إقرار المولى عليه لذلك، وإن كان موجبها القطع دون المال، قبل إقرار العبد بها دون المولى، وإن كان موجبها القطع والمال، فأقر بها العبد، وجب قطعه دون المال، سواء كان في يده أو يد سيده، باقياً، أو تالفاً، لما تقدم وإن أقر العبد غير المأذون له بدين، لم يقبل، ويتعلق بذمته، يتبع به بعد العتق، وإن أقر المأذون له قبل إقراره في دين المعاملة في قدر ما أذن له فيه، وإن أقر بقرض أو أرش جناية، لم يقبل؛ لأنه أقر بغير مأذون له فيه، فلم يقبل، كغير المأذون له.
وإن حجر السيد عليه، ثم أقر بدين، لم يقبل؛ لأنه محجور عليه بالرق، فلم(4/299)
يصح إقراره، كما لو كان عليه دين يحيط بتركته، وإن أقر السيد أنه باع عبد نفسه، فكذبه العبد، عتق، ولم يلزمه شيء سوى اليمين على الثمن؛ لأن السيد أقر بحريته وادعى الثمن، فإن ادعى أنه باعه أجنبياً فأعتقه، فأنكره، عتق العبد على سيده، وحلف المنكر على الثمن.
فأما المكاتب، فحكمه حكم الحر في إقراره؛ لأن تصرفه صحيح، وحكم أم الولد والمدبر حكم القن؛ لأن تصرفه بغير إذن سيده لا يصح.
فصل
وإقرار المريض بدين الأجنبي صحيح؛ لأنه غير متهم في حقه، وعنه: لا يقبل في مرض موته؛ لأن حق الورثة تعلق بماله، فلم يقبل إقراره به، كالمفلس، وعنه: يقبل إقراره بثلث المال دون ما زاد؛ لأنه يملك التصرف فيه بالوصية، فملك الإقرار به، والأول: ظاهر المذهب، لما ذكرنا، فإن ثبت عليه دين في الصحة، ثم أقر بدين في مرض موته، واتسع ماله لهما، تساويا، وإن ضاق عنهما، فظاهر كلام الخرقي، والتميمي، أنهما يتحاصان فيه؛ لأنهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال، فتساويا كدين الصحة، وقال القاضي: قياس المذهب، أنه يقدم الدين الثابت على الدين الذي أقر به في المرض؛ لأنه أقر بعد تعلق حق الأجنبي بماله، فلم يشارك المقر له من ثبت حقه قبل التعلق، كما لو أقر بعد الفلس، وإن أقر لهما جميعاً في المرض، تساويا، ولم يقدم السابق منهما؛ لأنهما تساويا في الحال، فأشبه غريمي الصحة، وإن أقر المريض لوارث، لم يقبل إلا ببينة؛ لأنه إيصال للمال إلى الوارث بقوله، فلم يصح، كالوصية، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فما دون، فيصح؛ لأن سببه ثابت، وهو النكاح وإن أقر لوارثه، فلم يمت حتى صار غير وارث، لم يصح، وإن أقر لغير وارث، فصار وارثاً قبل الموت، صح إقراره له، نص عليهما أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه إقرار لوارث في الأولى، ولغير وارث في الثانية، متهم في الأولى، غير متهم في الثانية، فأشبه الشهادة، وذكر أبو الخطاب في المسألتين رواية أخرى خلاف ما قلنا؛ لأنه معنى يعتبر فيه عدم الميراث، فاعتبر بحالة الموت، كالوصية، فإن أقر المريض بوارث، ففيه روايتان: إحداهما: يصح؛ لأنه عند الإقرار غير وارث.
والثانية: لا يصح؛ لأنه حين الموت وارث، ويمكن أن تكون هذه مبنية على المسألتين قبلها، وإن ملك ابن عمه، وأقر أنه كان أعتقه في صحته، وهو أقرب عصبته، عتق ولم يرثه؛ لأنه توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته، لكونه إقراراً لوارثه، وإذا بطلت حريته، سقط ميراثه، فيفضي توريثه إلى إسقاط ميراثه، ويحتمل أن يرث؛ لأنه حين الإقرار غير وارث، فأشبه الإقرار بوارث.(4/300)
فصل
ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق المقر به، فإن أقر لعبد بالنكاح، أو القصاص، أو تعزير القذف، صح الإقرار به وإن كذبه المولى؛ لأن الحق له دون المولى، وإن أقر له بمال، فالإقرار لمولاه، يلزم بتصديقه، ويبطل برده؛ لأن يد العبد كيد سيده، وإن أقر لبهيمة لم يصح، ولم يكن لمالكها، لأن البهيمة لا تملك ولا لها أهلية الملك، وإن أقر لحمل بمال، وعزاه إلى إرث، أو وصية، صح؛ لأنه يملك بهما، وإن لم يعزه، فقال ابن حامد: يصح أيضاً؛ لأنه يجوز أن يملك بوجه صحيح، فصح له الإقرار المطلق، كالطفل، وقال أبو الحسن التميمي: لا يصح؛ لأنه لا يثبت له الملك بغيرهما، فعلى قول ابن حامد: إن ولدت ذكراً وأنثى، كان بينهما نصفين؛ لأنه شرك بينهما في الإقرار، فأشبه ما لو أقر لهما بعد الولادة، وإن قال: لهذا الحمل علي ألف أقرضتها، فقياس المذهب، صحة إقراره؛ لأنه وصله بما يسقطه، فسقطت الصلة دون الإقرار، كما لو قال: له علي ألف لا يلزمني، وإن قال: أقرضني ألفاً، لم يصح؛ لأن القرض إذا سقط، لم يبق شيء يصح به الإقرار، ومتى أقر لحمل بمال وعزاه إلى وصية، فخرج الطفل ميتاً، عاد إلى ورثة الموصي، وإن عزاه إلى إرث، عاد إلى شركائه في الميراث، وإن أطلق، كلف ذكر السبب ليعمل به، فإن مات قبل التفسير، بطل الإقرار، كالمقر لرجل لا يعرف مراد إقراره، وإن أقر لمسجد، أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح، من غلة وقفه ونحوه صح، وإن أطلق، فيه وجهان بناء على ما تقدم.
فصل
ومن أقر لرجل بمال في يده وكذبه المقر له، بطل إقراره له؛ لأنه لا يقبل قوله عليه في ثبوت ملكه، ويقر المال في يد المقر في أحد الوجهين؛ لأنه كان في يده، فإذا بطل إقراره، بقي كأنه لم يقر به، وفي الآخر يأخذه الإمام، فيحفظه حتى يظهر مالكه؛ لأنه بإقراره خرج عن ملكه، ولم يدخل في ملك المقر له، وكل واحد منهما ينكر ملكه، فهو كالمال الضائع، فإن ادعاه ثالث، فأقر له المقر له، صح؛ لأنه صار بمنزلة صاحب اليد.
فصل
إذا قال: لي عليك ألف، فقال: نعم، أو أجل أو صدقت، أو إي لعمري، كان مقراً بها؛ لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق، وإن قال: أعطني عبدي هذا، أو اقضني الألف التي لي عليك، فقال: نعم، كان مقراً؛ لأنه تصديق، وإن قال: أنا مقر بدعواك، كان مقراً؛ لأنه صدقه، وإن لم يقل: بدعواك، ففيه وجهان:(4/301)
أحدهما: يكون مقراً؛ لأنه جواب الدعوى، فانصرف إليها.
والثاني: لا يكون مقراً؛ لأنه يحتمل أنه أراد: إني مقر ببطلان دعواك، وإن قال: أنا أقر، لم يكن مقراً؛ لأنه وعد بالإقرار، وإن قال: أنا لا أنكر، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل: لا أنكر بطلان دعواك، وإن قال: لا أنكر أن تكون محقاً، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل أن يريد: محقاً في اعتقادك، ويحتمل أن يكون مقراً؛ لأنه جواب الدعوى، فانصرف إليها، وإن قال: لا أنكر أنك محق في دعواك، كان مقراً؛ لأنه لا يحتمل إلا الدعوى التي عليه، وإن قال: "لعل" أو "عسى" لم يكن مقراً؛ لأنهما للترجي، وإن قال: "أظن" أو أحسب أو أقدر لم يكن مقراً؛ لأن هذه وضعت للشك، وإن قال: لك علي ألف في علمي، كان مقراً بها؛ لأن ما عليه في علمه لا يحتمل غير الوجوب، وإن ادعى عليه ألفاً، وقال: خذ، أو اتزن، أو افتح كمك، لم يكن مقراً؛ لأنه يحتمل ضد الجواب، أو اتزن من غيري، أو افتح كمك للطمع، وإن قال: خذها، أو اتزنها، فكذلك؛ لأنه لم يقر أنه واجب، ويحتمل أن يكون مقراً؛ لأن هذه الكناية ترجع إلى المذكور في الدعوى، وإن قال: هي صحاح، ففيها وجهان، كالتي قبلها، وإن قال: له علي ألف إن شاء الله، كان مقراً؛ لأنه وصل إقراره بما يسقط جملة، فسقطت الصلة وحدها، كما لو قال: له علي ألف لا تلزمني، وإن قال: له علي ألف إلا أن يشاء الله، صح إقراره كذلك، وإن قال: له علي ألف إن شاء زيد، فقال القاضي: يكون إقراره صحيحاً كذلك؛ ولأن الحق الثابت في الحال لا يقف على شرط مستقبل، فسقط الاستثناء، ويحتمل أن لا يكون إقراراً؛ لأنه علقه على شرط مقيد، يمكن الوقوف عليه، أشبه ما لو قال: له علي ألف إن شهد بها فلان، وإن قال: له علي ألف إن شهد بها فلان، أو إن شهد علي فلان بها فهو صادق، ففيه وجهان: أحدهما: يكون مقراً؛ لأنه أقر بها عند الشرط، ولا تكون عند الشرط إلا وهي عليه في الحال وإن قال: إن شهد بها فلان صدقته، لم يكن مقراً؛ لأنه قد يصدقه بما لم يصدق فيه، وإن قال: له علي ألف إذا جاء رأس الشهر، كان مقراً؛ لأنه بدأ بالإقرار، وبين بالثاني المحل، وإن قال: إذا جاء رأس الشهر، فله علي ألف، فليس بإقرار؛ لأنه بدأ بالشرط، وأخبر أن الوجوب إنما يوجد عند رأس الشهر، والإقرار لا يتعلق على شرط.
فصل
إذا قال: له علي ألف قضيتها إياه، لزمه الألف، ولم تسمع دعوى القضاء؛ لأنه أقر أن الألف عليه في الحال، وقوله قضيتها، يرفع ما أقر به كله، فلم يقبل، كاستثناء(4/302)
الكل، ولأنه بدعوى القضاء يكذب نفسه في الإقرار، فلم تسمع، كما لو قال: له علي ألف، ولا شيء له علي، وقال القاضي: يقبل؛ لأنه ما أقر به بكلام متصل، أشبه استثناء البعض، وإن قال: قضيته منها مائة، ففيه روايتان: إحداهما: يقبل؛ لأنه رفع بعض ما أقر به بكلام متصل، أشبه استثناء المائة.
والثانية: لا يقبل؛ لأنه يكذب نفسه؛ لأنه لو قضاه مائة، لم يكن له عليه ألف، والاستثناء لا يرفع ما أقر به، وإنما يمنع دخول ما استثناه في المستثنى منه، وإن قال: كان له علي ألف فقضيتها ففيه روايتان: إحداهما: لا تقبل دعوى القضاء؛ لأنه أقر بالدين وادعى براءته منه، فقبل إقراره، ولا تسمع دعواه إلا ببينة، كما لو ادعى ذلك بكلام منفصل.
والثانية: يقبل، اختاره الخرقي؛ لأنه قول يمكن صحته، ولا تناقض فيه من جهة اللفظ، فوجب قبوله، كاستثناء البعض.
قال القاضي: المذهب أن هذا ليس بإقرار، وإن قال: لي عليك ألف، فقال: قضيتك منها مائة، فقال القاضي: ليس هذا إقراراً بشيء؛ لأن المائة قد رفعها بقوله، والباقي لم يقر به، وقوله: منها، يحتمل أنه أراد مما يدعيه، وإن قال: كان له علي ألف وسكت، فهو مقر بها؛ لأنه أقر بوجوبها عليه، وثبوتها في ذمته، والأصل بقاؤه حتى يوجد ما يرفعه.
[باب الاستثناء في الإقرار]
باب الاستثناء الاستثناء يمنع أن يدخل في الإقرار ما لولاه لدخل، ولا يرفع ما ثبت؛ لأنه لو ثبت بالإقرار شيء، لم يقدر المقر على رفعه، فيصح استثناء ما دون النصف؛ لأنه لغة العرب، قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] ولا يصح استثناء أكثر من النصف، لأنه ليس من لسانهم، قال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير.
ولو قال: له علي مائة إلا تسعة وتسعين، لم يكن متكلماً بالعربية، وفي استثناء النصف وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه ليس بالأكثر.
والثاني: لا يصح لأنه لم يأت في لسانهم إلا في القليل من الكثير، فإذا قال: له(4/303)
علي عشرة إلا درهمين، لزمته ثمانية، وإن قال: إلا ثمانية، لزمته العشرة، وإن قال: إلا خمسة، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه خمسة.
والآخر: يلزمه عشرة.
فصل
ولا يصح الاستثناء من غير الجنس، ولا من غير النوع، فلو قال: له علي عشرة دراهم إلا ثوباً، لزمته العشرة، وإن قال: له علي قفيز تمر معقلي، إلا مكوكاً برنياً، لزمه القفيز كله، ولم يصح الاستثناء؛ لأن الاستثناء صرف اللفظ بحرف الاستثناء عما كان يقتضيه لولاه، ولأنه مشتق من: ثنيت فلاناً عن رأيه، إذا صرفته عما كان عازماً عليه، وثنيت عنان دابتي، إذا رددتها عن وجهها الذي كانت ذاهبة إليه، ولا يوجد هذا في غير الجنس والنوع، ولأن الاستثناء من غير الجنس لا يكون إلا في الجحد بمعنى "لكن" والإقرار إثبات، فإن استثنى أحد النقدين من الآخر، لم يصح في إحدى الروايتين، اختارها أبو بكر، لما ذكرنا.
والأخرى: يصح، اختارها الخرقي؛ لأنهما كالجنس الواحد، لاجتماعهما في أنهما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ويعبر بأحدهما عن الآخر، وتعلم قيمته منه، فأشبها النوع الواحد، بخلاف غيرهما.
فصل
وإن أقر بدار إلا بيتاً منها عينه، لم يدخل البيت في إقراره؛ لأنه استثناه، وإن قال: هذا البيت لي، وهذه الدار له أو هذه الدار له وهذا البيت لي، صح؛ لأنه في معنى الاستثناء، لكونه أخرج بعض ما دخل في اللفظ بكلام متصل، وإن قال: إلا ثلثها، أو إلا ربعها، صح، وكان مقراً بالباقي، فإن قال: له هذه الدار إلا نصفها، صح، وكان مقراً بالنصف؛ لأن هذا بدل البعض، وهو سائغ.
قال الله تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3] ، ويصح ذلك فما دون النصف، كقوله: له هذه الدار إلا ربعها، أو أقل، كقولهم: رأيت زيداً وجهه، وإن قال: له هذه الدار سكناها، أو قال: هي له سكنى، أو عارية، صح، وهذا بدل الاشتمال، كقوله سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217] ، فهو في معنى الاستثناء في كونه إخراجاً للبعض، ويفارقه في جواز إخراج أكثر من النصف.(4/304)
فصل
وإن قال: له هؤلاء العبيد إلا هذا، كان مقراً بمن دون المستثنى، وإن قال: إلا واحداً، رجع في تعيين المستثنى إليه؛ لأنه لا يعرف إلا من جهته، وكذلك إن قال: غصبتك هؤلاء العبيد إلا واحداً، رجع في تفسير الواحد إليه، فإن هلكوا إلا واحداً، ففسر به المستثنى، قبل في الغصب، وجهاً واحداً؛ لأنه يلزمه غرامة ما تلف، وفي الإقرار وجهان: أحدهما: يقبل أيضاً؛ لأنه يحتمل ما قاله.
والثاني: لا يقبل، ذكره أبو الخطاب؛ لأنه يرفع جميع ما أقر به، وإن قتلوا إلا واحداً، قبل تفسيره به، وجهاً واحداً؛ لأنه، لا يرفع جملة الإقرار، لوجوب قيمة الباقين للمقر له.
فصل
إذا استثنى بعد الاستثناء بحرف العطف، كان مضافاً إلى الاستثناء الأول، فإذا قال: له علي عشرة إلا ثلاثة، وإلا درهمين، كان مستثنياً لخمسة من العشرة، وإن كان الثاني غير معطوف، كان مستثنياً من الاستثناء، فيكون استثناؤه من الإثبات نفياً، ومن النفي إثباتاً، وهو جائز في اللغة.
قال الله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الحجر: 58] {إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 59] {إِلا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 60] .
فأذا قال: له علي عشرة إلا ثلاثة، إلا درهماً، كان مقراً بثمانية، وإن قال: له علي عشرة إلا خمسة، إلا ثلاثة، إلا درهمين، إلا درهماً، لم يصح على قول من منع استثناء النصف، ولزمته عشرة، وعلى قول غيره يصح، ويكون مقراً بسبعة، ولو قال: عشرة إلا ستة، إلا أربعة، إلا درهمين، فهو مقر بستة؛ لأنه أثبت عشرة، ثم نفى ستة، ثم أثبت أربعة، ثم نفى درهمين، بقي ستة.
فصل
وإن عطف جملة على جملة بالواو، ثم استثنى، ففيه وجهان: أحدهما: يعود الاستثناء إليهما جميعاً؛ لأن العطف جعل الجملتين كالجملة الواحدة، فعاد الاستثناء إليهما، كقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل الرجل في بيته، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» .(4/305)
والثاني: لا يعود إلا إلى التي تليه؛ لأن عوده إلى ما يليه متيقن، وما زاد مشكوك فيه، فلا يثبت بالشك، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] .
فلو قال: علي أربعة وثلاثة، إلا درهمين، صح على الوجه الأول، وبطل على الثاني؛ لأنه استثناء الأكثر، فإن وجدت قرينة صارفة إلى أحد الاحتمالين، انصرف إليه، وكذلك إن عطف على المستثنى، مثل قوله: له علي عشرة إلا أربعة وثلاثة، ففيه وجهان: أحدهما: يصيران كجملة واحدة، فيبطل الاستثناء كله لزيادته على النصف.
والثاني: لا يصيران كجملة واحدة فيبطل الاستثناء الثاني وحده.
فصل
وإذا قال: له عندي تمر في جراب، أو سكين في قراب، أو دراهم في كيس، أو في صندوق، وثوب في منديل: وزيت في زق، وفص في خاتم، فقال ابن حامد: يكون مقراً بالمظروف وحده؛ لأن إقراره، لم يتناول الظرف، فيحتمل أنه أراد: في ظرف لي، وفيه وجه آخر: أنه يكون مقراً بالجميع؛ لأنه ذكره في سياق الإقرار، فكان مقراً به، كالمظروف، وقال: له عندي جراب فيه تمر، أو قراب فيه سكين، وسائر ما مثلنا، أو دابة عليه سرج، أو عبد عليه عمامة، فعلى الوجهين كما ذكرنا، وإن قال: له عندي ثوب مطرز، أو خاتم بفص، أو سرج مفضض، وأطلق، لزمه الثوب بتطريزه، والخاتم بفصه، والسرج بفضته؛ لأنه صفة له.
فصل
وإذا قال: له علي ألف درهم زيوف، أو ناقصة، أو مكسرة، أو إلى شهر، بكلام متصل، لزمه ما أقر به على صفته؛ لأنه إنما يلزمه بقوله، فأتبع قوله فيه، إلا أن يفسر الزيوف بما لا قيمة له، فلا يقبل؛ لأنه أثبت في ذمته شيئاً، وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة، وذكر أبو الخطاب: احتمالاً في أنه لا يقبل قوله: مؤجلة؛ لأن التأجيل يمنع استيفاء الحق في الحال، والمذهب: أنه يقبل؛ لأنه يحتمل ما قاله، فوجب اتباعه، كما لو قال: ناقصة، فأما إن سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه، ثم وصفها بشيء من هذه الصفات، لم يقبل، ولزمه ألف جياد وازنة صحاح حالة؛ لأن إطلاقها يقتضي ذلك، بدليل ما لو باعه: بألف درهم وأطلق، فإنها تلزمه كذلك: فإذا سكت، استقرت في ذمته(4/306)
كذلك، فلا يتمكن من تغييرها، ولا فرق بين الإقرار بها من غصب، أو وديعة، أو قرض، أو غيره، وإن كان المقر في بلد أوزانهم ناقصة، أو مغشوشة، ففسر إقراره، بدراهم البلد، قبل؛ لأن إطلاقه ينصرف إليها، بدليل إيجابها في ثمن المبيع، ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بها؛ لأن إطلاق الدراهم تنصرف إلى دراهم الإسلام، وهو: ما كان عشرة منه وزن سبعة مثاقيل، وتكون فضة خالصة، وهي: التي قدر بها الشرع نصب الزكوات، والديات، والجزية، ونصاب القطع في السرقة، ويخالف الإقرار البيع من حيث إنه أقر بحق سابق، والبيع إيجاب في الحال، وإن أقر بدراهم صغار، فظاهر كلام الخرقي: أنه يقبل تفسيره بدراهم ناقصة؛ لأن الصغر في الذات وصف لا يثبت في الذمة، فلا ينصرف الإقرار إليه؛ لأنه إخبار عما في الذمة، ويحتمل أن لا يقبل تفسيره بناقص؛ لأنه يحتمل صغيراً في ذاته، وهو وازن، وإن أقر بدرهم كبير، لزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأنه كبير في العرف، وإن قال: له علي دراهم عدداً، لزمته وازنة؛ لأن الدراهم تقتضي أن تكون وازنة، وذكر العدد لا ينفي كونها وازنة، فوجب الجميع، وإن فسر الدراهم بسكة البلد، أو سكة تزيد عليها، قبل؛ لأنه غير متهم، وإن كانت تنقص عنها، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل؛ لأن إطلاقه يحمل على دراهم البلد، كما في البيع.
والثاني: يقبل؛ لأنه فسرها بدراهم الإسلام، وإن قال: له علي دريهم، لزمه درهم وازن؛ لأنه هو المعروف، والتصغير قد يكون لقلته عنده، أو لمحبته، أو غير ذلك، وإن قال: له علي دراهم، لزمه ثلاثة؛ لأنها أقل الجمع، وإن قال: دراهم كثيرة، لم يلزمه أكثر من ثلاثة؛ لأنها كثيرة بالإضافة إلى ما دونها، ويحتمل أنها كثيرة عنده، أو في نفسه، وإن قال: له علي ما بين درهم إلى عشرة، لزمه ثمانية؛ لأنها الذي بينهما.
وإن قال: من درهم إلى عشرة، ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه تسعة؛ لأن الواحد أول العدد، فيدخل فيه، ولا يدخل العاشر؛ لأنه غاية ينتهي إليها، فلم يدخل.
والثاني: يلزمه عشرة؛ لأن العاشر أحد الطرفين، فيدخل فيه كالأول، ويحتمل أن يلزمه ثمانية كالتي قبلها.
فصل
وإذا قال: له علي ألف لا يلزمني، أو من ثمن خمر، أو خنزير، أو تكفلت به عن فلان على أني بالخيار، لزمه ما أقر به، وسقط ما وصله به؛ لأنه يسقط ما أقر به، فلم يقبل، كاستثناء الكل، وإن قال: هذا العبد لفلان رهن عندي على دين لي عليه، فأنكر(4/307)
المقر له الدين، لزمه العبد، والقول قول المالك في نفي الدين مع يمينه؛ لأن العين ثبتت له بالإقرار، وادعى المقر ديناً، فكان القول قول من ينكره، وكذلك لو أقر بدار، وقال: قد استأجرتها، أو بثوب، وادعى أنه قصره أو خاطه بأجرة، أو بعبد، وادعى استحقاق خدمته، أو أقر بسكنى دار غيره، فادعى أنه سكنها بإذنه، فالقول قول المالك مع يمينه لما ذكرناه.
وإن قال: له علي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، ففيه وجهان: أحدهما: القول قول المالك كما ذكرنا.
والثاني: القول قول المقر؛ لأنه أقر بحق في مقابلة حق لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا لم يسلم له ماله، لم يسلم ما عليه، كما لو قال لرجل: بعتك هذا بألف، وقال بل ملكتنيه بغير شيء، وفارق ما لو قال: لك عندي رهن، فقال المالك: بل وديعة؛ لأن الدين بنفسك عن الرهن، والثمن لا ينفك عن المبيع، ولو قال: له علي ألف من ثمن مبيع، ثم سكت، ثم قال: لم أقبضه قبل، كالمتصل؛ لأن إقراره تعلق بالمبيع، والأصل عدم القبض، فقبل قوله فيه، ولو قال: له علي ألف، ثم سكت، ثم قال: من ثمن مبيع لم أقبضه، لم يقبل؛ لأنه فسر إقراره بما يمنع وجوب التسليم بكلام منفصل، كما لو قال: له علي ألف، ثم سكت، ثم قال قبضتها.
فصل
وإذا قال: له عندي ألف، ثم قال: هي وديعة، قبل تفسيره، سواء قال ذلك متصلاً أو منفصلاً؛ لأنه فسر لفظه بما يقتضيه، فقبل، كما لو قال: له علي ألف وفسره بدين، فعند ذلك تثبت أحكام الوديعة، بحيث لو ادعى تلفها، كان القول قوله، ولو قال: له عندي ألف فطالبه به بعد مدة، فقال: كانت وديعة، فتلفت، أو قال: رددتها عليك، فالقول قوله، نص عليه أحمد، كما ذكرنا، ولو قال: لك عندي وديعة وقد تلفت، فقال القاضي: يقبل قوله كذلك، ويتوجه أن لا يقبل ها هنا؛ لأن الألف المردود والتالف ليس عنده، ولا هي وديعة: وإن قال: كانت عندي فظننتها باقية، ثم عرفت أنها هلكت، فالحكم فيها كالتي قبلها.
ولو قال: له عندي ألف، ثم فسره بدين عليه، قبل؛ لأنه يقر بما هو أغلظ، وإن قال: له علي ألف، ثم قال: وديعة، وقال المقر له: بل هي دين، فالقول قول المقر له؛ لأن "علي" للإيجاب في الذمة، والإقرار يؤخذ فيه بظاهر اللفظ، بدليل أنه لو أقر بدراهم، أخذ بثلاثة، فعند ذلك تثبت أحكام الدين، فلا تسمع دعواه تلفها.
وإن قال: لك علي ألف، ثم أحضرها وقال: هذه التي أقررت بها، وهي وديعة، فقال المقر له: هذه وديعة، والمقر به غيرها، دين عليك، فالقول قول المقر له، لما ذكرناه.
هذا ظاهر كلام الخرقي وقال القاضي: القول قول المقر، إلا أن يكون قال:(4/308)
علي ألف في ذمتي، فيكون القول قول المقر له، قال: وقد قيل: القول قول المقر؛ لأنه يحتمل أنه أراد: في ذمتي أداؤها، أو يكون وديعة تعدى فيها، وإذا لم يقل: في ذمتي، قبل قوله؛ لأن الوديعة عليه حفظها وأداؤها؛ لأن حروف الصلة يخلف بعضها بعضاً، قال الله تعالى إخباراً عن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] أي: عندي.
وإن قال: له علي ألف وديعة، قبل؛ لأنه وصل كلامه بما يحتمله، فصح، كما لو قال: ألف نقص، وإن قال: له علي ألف وديعة ديناً، أو مضاربة ديناً، صح؛ لأنه قد يتعدى فيها فتكون ديناً.
[باب الرجوع عن الإقرار]
ومن أقر بحق لآدمي، أو حق لله تعالى، لا تسقطه الشبهة، كالزكاة، والكفارة، ثم رجع عن إقراره لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يسقط بغير رضاه، كما لو ثبت ببينة، وإن أقر بحد، ثم رجع عنه، قبل رجوعه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أتاه ماعز، فشهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هل بك جنون» ؟ متفق عليه، فلو لم يسقط بالرجوع، لما عرض له به، ولو أقيم عليه بعض الحد، ثم رجع، قبل رجوعه، ويخلى سبيله، لما روي «أن ماعزاً هرب في أثناء رجمه، قال جابر: فأدركناه بالحرة، فرجمناه حتى مات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فهلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه» ، ولأنه إذا سقط جميعه بالرجوع، فبعضه أولى وإن هرب في أثناء الحد ترك، لما رويناه، ولأنه يحتمل الرجوع، فإن لم يتركوه حتى قتلوه، لم يضمنوه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يضمنهم ديته، ولأن الهرب ليس بصريح في الرجوع، فلم يسقط به المتيقن.
فصل
وإذا قال: هذه الدار لزيد، بل لعمرو، أو غصبتها من زيد، بل من عمرو، حكم بها لزيد؛ لأن إقراره له بها، ولم يقبل رجوعه عن إقراره له؛ لأنه حق لآدمي، ويلزمه أن يغرم قيمتها لعمرو؛ لأنه حال بينه وبين ماله، لإقراره به لغيره، فلزمه ضمانه، كما لو أتلفه، وإن قال: غصبتها من أحدهما، طولب بالتعيين، فإن عين أحدهما، لزمه دفعها إليه، وعليه اليمين للآخر، فإن نكل عنها، غرم له، لما ذكرنا.
وإن قال: غصبتها من زيد، وملكها لعمرو، لزمه دفعها إلى زيد، لإقراره له باليد، ولا يقبل قوله: ملكها لعمرو؛ لأنه إقرار على غيره، ولا يغرم لعمرو شيئاً؛ لأنه لا تفريط منه، إذ يجوز أن يكون ملكها لعمرو، وهي في يد زيد بإجارة، أو غيرها.
وإن قال: ملكتها لزيد(4/309)
وغصبتها من عمرو، فالحكم فيها كالتي قبلها.
لا فرق بين التقديم والتأخير، ويحتمل أن يلزمه تسليمها إلى زيد، ويلزمه ضمانها لعمرو، كما لو قال: غصبتها من زيد، بل من عمرو.
وإذا مات رجل وخلف ألفاً، فادعاها رجل، فأقر له بها الوارث، ثم ادعاها آخر، فأقر له بها، فهي للأول، ويغرمها للثاني، لما ذكرنا في أول الفصل، وإن ادعى رجل على ميت ألفاً، فصدقه الوارث، ثم ادعى آخر على الميت ألفاً، فصدقه الوارث، فقال الخرقي: إن كان في مجلس واحد، فهي بينهما؛ لأن حكم المجلس الواحد حكم الحال الواحد.
وإن كان في مجلسين، فهي للأول؛ لأنه استحق تسليمها كلها بالإقرار له، فلا يقبل إقرار الوارث بما يسقط حقه؛ لأنه إقرار على غيره.
[باب الإقرار بالمجمل]
إذا قال: له علي شيء، أو كذا، قيل له: فسره، فإن أبى، حبس حتى يفسره؛ لأنه أقر بالحق، وامتنع من أدائه، فحبس عليه، وقال القاضي: إذا امتنع من البيان، قيل للمقر له: فسره أنت، ثم يسأل المقر: فإن صدقه، ثبت عليه، وإن أبى، جعل ناكلاً، وقضي عليه، وإذا مات، أخذ ورثته بمثل ذلك، وإن فسره بمال قبل وإن قل؛ لأنه شيء، وإن فسره بقشر جوزة، وحبة حنطة، ونحوهما مما لا يتمول عادة، لم تقبل؛ لأن إقراره اعتراف بحق عليه، وهذا لا يثبت في الذمة، وكذلك إن فسره بكلب، أو حيوان يحرم اقتناؤه، وإن فسره بكلب يجوز اقتناؤه أو جلد ميتة، غير مدبوغ، ففيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأنه يجب عليه رده، فالوجوب ثابت عليه.
والثاني: لا يقبل؛ لأن إقراره يقتضي وجوب ضمانه عليه، وهذا لا يضمنه، وإن فسره بحد قذف، أو شفعة، قبل؛ لأنه حق عليه في ذمته، وإن قال: غصبتك لم يلزمه شيء؛ لأنه قد يغصبه نفسه، وإن قال: غصبتك شيئاً، لزمه حق يؤخذ بتفسيره على ما بيناه.
فصل
وإن أقر بمال، قبل تفسيره بالقليل والكثير؛ لأن اسم المال يقع عليه، وإن قال له علي مال عظيم، أو كثير، أو جليل، أو خطير، فكذلك؛ لأنه ما من مال إلا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه، ويحتمل أنه أراد عظمه عنده، لقلة ماله، وفقر نفسه.
وإن قال: له علي أكثر من مال فلان، قبل تفسيره بالقليل والكثير؛ لأنه يحتمل أنه أراد أكثر بقاء نفعاً، أو لكونه حلالاً، سواء علم مال فلان، أو جهله، هذا قول أصحابنا.
والأولى أنه يلزمه أكثر منه قدراً؛ لأنه ظاهر اللفظ السابق إلى الفهم، فلزمه، كما لو أقر(4/310)
بدراهم، لزمه ثلاثة، ولم يقبل تفسيره بما دونها.
فصل
إذا قال: له علي كذا درهم بالجر، قبل تفسيره بجزء من درهم؛ لأن "كذا" يحتمل، أن يكون جزءاً مضافاً إلى درهم، وإن قال: كذا درهم مرفوعاً، لزمه درهم؛ لأن تقديره: شيء هو درهم، وإن قال: كذا درهماً، فكذلك، ويكون نصبه على التمييز.
وإن قال: كذا كذا درهم، فالحكم فيها كغير المكررة؛ لأن التكرير للتأكيد، وإن قال: كذا وكذا درهم، فكذلك؛ لأنه بمنزلة قوله: شيئان هما درهم، وفي الخفض بمنزلة: جزء درهم، وفي النصب وجهان: أحدهما: يلزمه درهم، اختاره ابن حامد والقاضي؛ لأن الدرهم الواحد يجوز أن يكون تفسيراً لشيئين، كل واحد بعض درهم.
والثاني: يلزمه درهمان، اختاره التميمي؛ لأنه ذكر جملتين فسرهما بدرهم، فيعود التفسير إلى كل واحد منهما، كقوله: عشرون درهماً، وحكي عن التميمي أيضاً: أنه يلزمه، أكثر من درهم، جعل الدرهم تفسيراً لما يليه، ورجع في تفسير الأولى إليه.
فصل
وإن قال: له علي ألف، رجع في تفسير جنسها إليه، فإن فسرها بأجناس، قبل منه؛ لأنه يحتمل ذلك، وإن قال: له علي ألف ودرهم، أو درهم وألف، ففيه وجهان: أحدهما: الجميع دراهم، اختاره ابن حامد، والقاضي؛ لأنه ذكر مبهماً مع مفسر، فكان المبهم من جنس المفسر، كما لو قال: مائة وخمسون درهماً، ولأن العرب تكتفي بتفسير إحدى الجملتين عن الأخرى، كقول الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] .
والثاني: يرجع في تفسير الألف إليه؛ لأن العطف لا يقتضي التسوية بين المعطوفين في الجنس، بدليل أنه يجوز أن يقول: رأيت رجلًا وحماراً، وإن قال: له علي ألف، إلا خمسين درهماً، فعلى الوجهين.
أحدهما: يكون الجميع دراهم؛ لأن الاستثناء، المطلق، ينصرف إلى الاستثناء من الجنس، بدليل ما لو قال: له علي ألف درهم إلا خمسين.(4/311)
والثاني: يرجع في تفسير الألف إليه؛ لأنه يحتمل أنه أراد الاستثناء من غير الجنس، وإن قال: له علي ألف وخمسون درهماً، أو ألف وثلاثة دراهم، فالجميع دراهم؛ لأن الدرهم المفسر في كلامهم يفسر جميع ما قبله، كقوله سبحانه: {تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] وقوله: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} [يوسف: 4] والفرق بينها وبين التي قبلها أن الدرهم هاهنا للتفسير، لا يجب به زيادة على العدد، وفي التي قبلها، ذكر للإيجاب، ولهذا يجب به زيادة على الألف، ويحتمل أن يرجع في تفسير الألف إليه، لما ذكرنا في التي قبلها.
فصل
وإذا أقر بألف في وقت، ثم أقر بألف في وقت آخر، لزمه ألف واحد؛ لأنه خبر، فيجوز أن يكون الثاني خبراً عما أخبر به في الأول، وإن قال: ألف من قرض، ثم قال ألف من ثمن مبيع، لزمه الألفان؛ لأن الثاني غير الأول، وإن قال: ألف وألف، أو فألف، أو ثم ألف، لزمه ألفان؛ لأن العطف يقتضي كون المعطوف غير المعطوف عليه.
وإن قال: له علي درهم ودرهمان، لزمه ثلاثة كذلك، وإن قال: له علي درهم، ودرهم، ودرهم، لزمه ثلاثة كذلك، وقال بعض أصحابنا: إن قال: أردت بالثالث التوكيد، قبل؛ لأنه في لفظ الثاني وكذلك الحكم إن قال: له علي درهم، فدرهم، فدرهم، أو درهم، ثم درهم، ثم درهم، وإن قال: له علي درهم، ودرهم، ثم درهم، لزمته ثلاثة؛ لأن الثالث لا يصلح للتأكيد، لمخالفته للثاني، وإن قال: له علي درهم، بل درهم، لزمه درهم؛ لأنه لم يقر بأكثر منه، ويحتمل أن يلزمه درهمان؛ لأنه أضرب عن الأول، فلم يسقط بإضرابه، وأثبت الثاني معه، ذكره أبو بكر، وابن أبي موسى.
وإن قال: له علي درهم، بل درهمان، لزمه درهمان، وإن قال: له علي درهم، بل دينار، لزمه درهم ودينار؛ لأنه أضرب عن الدرهم فلم يسقط، وأثبت معه ديناراً، فلزماه، وإن قال: له علي هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان، لزمه ثلاثة كذلك، وإن قال: له علي قفيز حنطة بل، قفيزا شعير، لزمه الثلاثة كذلك، وإن قال: له علي درهم، نصفه، لزمه نصف درهم؛ لأن هذا بدل البعض، وهو سائغ، فينزل منزلة الاستثناء.
وإن قال: له علي درهم، أو دينار لزمه أحدهما، يرجع في تعيينه إليه، ويؤخذ به؛ لأنه أقر بأحدهما.
وإن قال: له علي درهم في دينار، لزمه درهم؛ لأنه يجوز أن يريد: في دينار لي، وإن قال: له علي درهم فوق درهم، أو تحت درهم، فقال القاضي: يلزمه درهم؛ لأنه يحتمل فوق درهم، أو تحته في الجودة، فلم يلزمه زيادة مع الاحتمال، وقال أبو(4/312)
الخطاب: يلزمه درهمان؛ لأنه إقرار بدرهم، مقرون بآخر، فلزماه جميعاً، وإن قال: له علي درهم مع درهم، أو معه درهم، أو قبله درهم، أو بعده درهم، لزمه درهمان؛ لأن "قبل" و "بعد" يستعملان للتقديم والتأخير في الوجوب، فحمل عليه، وإن قال: له علي درهم في عشرة، وفسره بإرادة الحساب، لزمه عشرة، وإن فسره بدرهم مع عشرة، لزمه أحد عشر، وإن لم يفسره لزمه درهم؛ لأنه يحتمل: في عشرة لي، إلا أن يكون عرفهم استعمالهم "في" ذلك، بمعنى "مع" فيحتمل وجهين.
فصل
وإن قال: له في هذا العبد شركة، أو هو شركة بيننا أو هو لي وله، كان مقراً بجزء من العبد، يؤخذ بتفسيره، ويقبل بتفسيره بالقليل والكثير؛ لأن اللفظ يقع عليه، وإن قال: له في هذا العبد ألف، طولب بالبيان.
فإن قال: وزن في ثمنه ألفاً عني، كانت قرضاً، وإن لم يقل: عني، كان شريكاً بقدرها، وإن قال: أوصي له بألف من ثمنه، قبل، وإن فسرها: بألف من جناية جناها العبد، قبل أيضاً؛ لأنه يحتمل ذلك، وإن قال: هو رهن عندي بألف ففيه وجهان: أحدهما: يقبل؛ لأن الدين يتعلق بالرهن، فصح تفسيره به، كالجناية.
والثانية: لا يقبل؛ لأن حق المرتهن في الذمة لا في العبد، وإن قال: له في ميراث أبي ألف، لزمه تسليمها إليه؛ لأن حق المرتهن في الذمة لا في العبد، وإن قال له في ميراث أبي ألف لزمه تسليمها إليه، وإن قال: له في ميراثي من أبي ألف، وقال: أردت هبة، وبدا لي من تقبيضها، قبل منه؛ لأنه أضاف الميراث إلى نفسه، ولا ينتقل ماله إلى غيره إلا من جهته وإن قال: له في هذا المال ألف، لزمه، وإن قال: له في مالي هذا ألف، أو من مالي هذا ألف، وفسره بدين، أو وديعة، قبل منه؛ لأنه يحتمل صدقه فقبل كالأول.
فصل
ومن شهد بحرية عبد غيره، أو أقر بها، ثم اشتراه، عتق عليه، لاعترافه بحريته، ويكون بيعاً في حق البائع، واستخلاصاً في حق المشتري، وولاؤه موقوف؛ لأن أحداً لا يدعيه، فإذ مات وخلف مالاً، فقال القاضي: للمشتري منه قدر ثمنه عوضاً عما استخصله به، كما لو استنقذ أسيراً من بلد الروم بثمن، وإن رجع البائع فصدق المشتري في إعتاقه، لزمه رد الثمن عليه، والولاء له؛ لأنه إقرار بسبب للميراث لا منازع له فيه، فقبل، كالإقرار بالنسب، وإن رجع المشتري عن الشهادة بالحرية، لم يقبل في الحرية؛ لأنه حق لغيره، وقيل في الولاء لعدم المنازع له.(4/313)
[باب الإقرار بالنسب]
إذا أقر رجل بنسب مجهول النسب يمكن كونه منه، وهو صغير، أو مجنون، ثبت نسبه منه؛ لأنه أقر له بحق، فثبت، كما لو أقر له بمال، فإن بلغ الصبي، وأفاق المجنون، وأنكر النسب، لم يسقط؛ لأنه نسب حكم بثبوته، فلم يسقط برده، كما لو قامت به بينة.
وإن كان المقر به بالغاً عاقلاً لم يثبت نسبه حتى يصدقه؛ لأن له فيه قولاً صحيحاً، فاعتبر تصديقه، كما لو أقر له بمال، وإن كان المقر به ميتاً، ثبت نسبه وإن كان بالغاً؛ لأنه لا قول له، أشبه المجنون.
ومتى ثبت نسب المقر له به، فرجع المقر عن الإقرار، لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق لغيره، وإن صدقه المقر له في الرجوع، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يسقط؛ لأن النسب إذا ثبت، لم يسقط بالاتفاق على نفيه، كالثابت بالفراش.
والثاني: يقبل؛ لأنهما اتفقا على الرجوع عن الإقرار، أشبه الرجوع عن الإقرار بالمال.
فصل
وإن أقر على أبيه أو غيره بنسب في حياته، لم يقبل إقراره؛ لأن إقرار الرجل على غيره غير مقبول، وإن أقر بعد موته وكان الميت قد نفاه، لم يثبت؛ لأنه يحمل على غيره نسباً قد حكم بنفيه، وإن لم يكن نفاه، ولكن المقر غير وارث، لم يقبل إقراره؛ لأنه لا يقبل إقراره في المال، فكذا في النسب، وإن كان وارثاً ومعه شريك في الميراث لم يثبت النسب بقوله؛ لأنه لا يثبت في حق شريكه، فوجب أن لا يثبت في حقه، وإن كان هو الوارث وحده، ثبت النسب بقوله، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «اختصم سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي؛ وُلد على فراشه، وقال سعد: ابن أخي عهد إلي فيه أخي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش» ، متفق عليه؛ ولأن الوارث يقوم مقام موروثه في حقوقه، وهذا من حقوقه، وإن كان المقر بنتاً واحدة، ثبت النسب بقولها؛ لأنها ترث المال كله بالفرض والرد، وإن خلف زوجة، فأقرت بابن لزوجها، فوافقها الإمام، ثبت نسبه، وإلا فلا.
وإن خلف ابنين عاقلاً، ومجنوناً، فأقر العاقل بأخ، لم يثبت النسب؛ لأنه لا يرث المال كله، فإن مات المجنون، وله وارث غير أخيه، لم(4/314)
يثبت النسب إلا باتفاقهم جميعاً، وإن لم يخلف وارثاً إلا أخاه، قام مقامه في الإقرار، وإن كانا عاقلين، فأقر أحدهما بنسب صغير ثم مات الآخر، ففيه وجهان: أحدهم: يثبت النسب؛ لأن المقر صار جميع الورثة.
والثاني: لا يثبت؛ لأن تكذيبه لشريكه يبطل الحكم بنسبه، فلم يثبت، كما لو أنكر الأب نسبه في حياته، فأقر به الوارث، وإن خلف ابناً، فأقر بأخ، ثبت نسبه. فإن أقر الثالث، ثبت نسبه أيضاً، فإن أنكر الثالث الثاني ففيه وجهان: أحدهما: يسقط نسبه؛ لأن الثالث ابن، فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني.
والثاني: لا يسقط؛ لأنه ثبت نسبه: قبل الثالث، ولأن الثالث فرع على نسب الثاني، فلا يسقط الفرع أصله، وإن خلف أبناً، فأقر بأخوين له في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما لصاحبه، ثبت نسبهما، وإن تكاذبا، لم يثبت نسب واحد منهما في أحد الوجهين؛ لأنه لم يجتمع كل الورثة على الإقرار لهما، وفي الآخر يثبت نسبهما؛ لأنه ثبت بقول ثابت النسب قبلهما، فلم يؤثر إنكارهما، وإن صدق أحدهما بصاحبه، وكذب به الآخر، ثبت نسب المصدق به، وفي الآخر وجهان، وإن أقر ابن الوارث، بنسب أحد التوأمين، ثبت نسبهما، فإن كذب أحدهما بصاحبه، لم يؤثر التكذيب لأنهما لا يفترقان في النسب، وإن أقر الوارث بنسب من يحجبه، كأخ أقر بابن للميت، ثبت نسبه، وورث دونه؛ لأن حجبه لو منع إقراره، لما صح إقرار الابن بأخ؛ لأنه يخرج بإقراره عن كونه كل الورثة.
فصل
إذا كان لرجل أمة لها ثلاثة أولاد، ولم يقر بوطئها، ولا زوج لها فقال: أحد أولادها ابني، أخذ ببيان النسب والتعيين، فإذا عين أحدهما، ثبت نسبه وحريته، فإن قال: هو من نكاح فعليه الولاء لأبيه؛ لأنه قد مسه رق، والأمة وولداها الآخران رقيق قن؛ لأنها لم تعلق منه بِحُرّ في ملكه، وإن قال: من وطء شبهة، فالولد حر الأصل، وأمه وأخواه مملوكون، وإذا قال: استولدتها في ملكي، فالولد حر الأصل، ولا ولاء عليه، والجارية أم ولد، فإن كان المعين الأكبر، فأخواه ابنا أم ولد، حكمهما حكمها؛ لأنها ولدتهما بعد استيلادهما وثبوت حكم أم الولد لها، وإن عين الأوسط، فالأكبر رقيق، والأصغر له حكم أمه، وإن عين الأصغر، فأخواه رقيق؛ لأنها ولدتهما قبل كونها أم ولده وإن مات قبل البيان، أخذ ورثته بالبيان، ويقوم بيانهم مقام بيانه، فإن بينوا النسب دون الاستيلاد، ثبت النسب وحرية الولد، ولم تصر الأمة أم ولد؛ لاحتمال كونه من نكاح وغيره، وإن لم يعينوا أحداً منهم، عرضوا على القافة، فإن ألحقوا به واحداً(4/315)
ألحقناه به، ولا يثبت حكم الاستيلاد لغيره، وإن لم يكن قافة، وأشكل، أقرعنا بينهم، لتميز الحرية، فمن وقعت عليه القرعة، عتق، وورث، ويحتمل أن تصير الأمة أم ولد في هذه المواضع؛ لأنه أقر بولدها وهي في ملكه، فالظاهر أنه استولدها في ملكه.
فصل
فإن كان له أمتان لكل واحدة منهما ولد، ولا زوج لواحدة منهما، ولم يقر بوطئها، فقال: أحد هذين ابني، أخذ بالبيان، فإن عين أحدهما، ثبت نسبه وحريته، ويطالب ببيان الاستيلاد فإن قال: استولدتها في ملكي، فالولد حر الأصل، وأمه أم ولد، وإن قال: من نكاح، أم وطء شبهة، فالأمة رقيق قن، وترق الأخرى وولدها.
فإن ادعت الأخرى أنها المستولدة، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدم استيلادها، وإن مات قبل البيان، قام وارثه مقامه على ما بينا في المسألة التي قبلها، فإن لم يكن له وارث،، أو لم يعين الوارث، عرضا على القافة، فألحق بمن ألحقته به القافة، وإن لم يكن قافة، أو أشكل أقرع بينهما، فيعتق أحدهما بالقرعة، وقياس المذهب أنه يثبت نسبه ويرث أيضاً.
فصل
وإن خلف رجل ابنين، فأقر أحدهما بدين على أبيه لأجنبي، وكان عدلاً، فللغريم أن يحلف مع شهادته، ويأخذ دينه، وإن لم يكن عدلاً، حلف المنكر، وبرئ، ويلزم المقر من الدين بقدر ميراثه؛ لأنه لو لزمه بإقراره جميع الدين، لم تقبل شهادته على أخيه، لكونه يدفع بها عن نفسه ضرراً، ولأنه لا يرث إلا نصف التركة، فلم يلزمه أكثر من نصف الدين، كما لو وافقه أخوه، وإن لم يخلف الميت تركة، لم يلزم الوارث من الدين شيء؛ لأنه لا يلزمه أداء دينه إذا كان حياً مفلساً، فكذلك إذا كان ميتاً.
وإن كانت له تركة، تعلق الدين بها، فإن أحب الوارث تسليمها في الدين، لم يلزمه سوى ذلك، وإن أحب استخلاصها وإيفاء الدين من ماله، فله ذلك، ويلزمه أقل الأمرين من قيمتها، أو قدر الدين بمنزلة دين الجناية في رقبة الجاني، وإذا قال الرجل في مرضه: هذه الألف لقطة، فتصدقوا بها، ولا مال له سواها، فقال أبو الخطاب: يلزمهم التصدق بثلثها؛ لأنها جميع ماله، والأمر بالصدقة بها وصية بجميع المال، فلا يلزمهم منها إلا الثلث، وقال القاضي: يلزمهم الصدقة بجميعها؛ لأن أمره بالصدقة بها يدل على تعديه فيها على وجه تلزمهم الصدقة بجميعها، فيكون ذلك إقراراً منه لغير وارث، فيجب امتثاله والله أعلم.
تم بحمد الله ومنته الجزء الرابع من الكافي في فقه الإمام أحمد وبه تمام الكتاب والحمد لله رب العالمين.(4/316)