[خطبة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
قال الشيخ العالم العلامة الأوحد، الصدر الكامل شيخ الإسلام قدوة الأنام، موفق الدين أبو عبد الله أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار، عالم خفيات الأسرار، غافر الخطيئات والأوزار، الذي امتنع عن تمثيل الأفكار وارتفع عن الوصف بالحد والمقدار، وأحاط(1/13)
علمه بما في لجج البحار، وله ما سكن في الليل والنهار، أنعم علينا بالنعم الغزار، ومن علينا بالنبي المختار، محمد سيد الأبرار، المبعوث من أطهر بيت في مضر بن نزار، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ - الأطهار، وصحابته المصطفين الأخيار، صلاة تجوز حد الإكثار، دائمة بدوام الليل والنهار.
هذا كتاب استخرت الله تعالى في تأليفه على مذهب إمام الأئمة، ورباني الأمة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الفقه، توسطت فيه بين الإطالة والاختصار، وأومأت إلى أدلة مسائله مع الاقتصار، وعزيت أحاديثه إلى كتب أئمة الأمصار؛ ليكون الكتاب كافيا في فنه عما سواه، مقنعا لقارئه بما حواه، وافيا بالغرض من غير تطويل، جامعا بين بيان الحكم والدليل، وبالله أستعين، وعليه أعتمد، وإياه أسأل أن يعصمنا من الزلل، ويوفقنا لصالح القول والنية والعمل، ويجعل سعينا مقربا إليه، ونافعا لديه، وينفعنا والمسلمين بما جمعنا، ويبارك لنا فيما صنعنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(1/14)
[كتاب الطهارة]
[باب حكم الماء الطاهر]
[كتاب] الطهارة باب حكم الماء الطاهر يجوز التطهر من الحدث والنجاسة بكل ماء نزل من السماء: من(1/15)
المطر، وذوب الثلج والبرد؛ لقول الله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11](1/16)
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم طهرني بالماء والثلج والبرد» متفق عليه. وبكل ماء نبع من الأرض، من العيون، والبحار، والآبار، لما(1/17)
روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سأل رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.(1/18)
و «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ من بئر بضاعة» رواه النسائي.
فصل:
فإن سخن بالشمس، أو بطاهر، لم تكره الطهارة به؛ لأنها صفة خلق عليها الماء، فأشبه ما لو برده، وإن سخن بنجاسة يحتمل وصولها إليه، ولم(1/19)
يتحقق فهو طاهر؛ لأن الأصل طهارته، فلا تزول بالشك، ويكره استعماله لاحتمال النجاسة. وذكر أبو الخطاب رواية أخرى: أنه لا يكره؛ لأن الأصل عدم الكراهة. وإن كانت النجاسة لا تصل إليه غالباً، ففيه وجهان:
أحدهما: يكره؛ لأنه يحتمل النجاسة، فكره كالتي قبلها.
والثاني: لا يكره؛ لأن احتمال النجاسة بعيد، فأشبه غير المسخن.
وإن خالط الماء طاهر لم يغيره، لم يمنع الطهارة به؛(1/20)
لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغتسل هو وزوجته من قصعة فيها أثر العجين» رواه النسائي وابن ماجه والأثرم [و] لأن الماء باق على إطلاقه.
فإن كان معه ماء يكفيه لطهارته فزاده مائعاً لم يغيره، ثم [تطهر] به، صح لما ذكرنا.
وإن كان الماء لا يكفيه لطهارته، فكذلك؛ لأنه المائع استهلك في الماء كالتي قبلها.
وفيه وجه آخر: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه أكملها بغير الماء، فأشبه ما لو غسل به بعض أعضائه.(1/21)
وإن غير الطاهر صفة الماء لم يخل من أوجه أربعة:
أحدها: ما يوافق الماء في الطهورية، كالتراب، وما أصله الماء كالملح المنعقد من الماء، فلا يمنع الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في صفته، أشبه الثلج.
والثاني: ما لا يختلط بالماء كالدهن والكافور والعود، فلا يمنع؛ لأنه تغير عن مجاورة، فأشبه ما لو تغير الماء بجيفة بقربه.
الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، كالطحلب وسائر ما ينبت في الماء، وما يجري عليه الماء من الكبريت والقار وغيرهما، وورق الشجر على السواقي والبرك، وما تلقيه الرياح والسيول في الماء من الحشيش والتبن ونحوهما، فلا يمنع؛ لأنه لا يمكن صون الماء عنه.
الرابع: ما سوى هذه الأنواع، كالزعفران والأشنان والملح المعدني، وما لا ينجس بالموت كالخنافس والزنابير، وما عفي عنه لمشقة التحرز إذا ألقي في الماء قصداً، فهذا إن غلب على أجزاء الماء مثل أن جعله صبغاً، أو حبراً، أو طبخ فيه، سلبه الطهورية(1/22)
[بغير] خلاف؛ لأنه زال اسم الماء، فأشبه الخل.
وإن غير إحدى صفاته طعمه أو لونه أو ريحه، ولم يطبخ فيه، فأكثر الروايات عن أحمد أنه لا يمنع؛ لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولأنه خالطه طاهر لم يسلبه اسمه، ولا رقته، ولا جريانه، أشبه سائر الأنواع. وعنه: لا تجوز الطهارة به؛ لأنه سلب إطلاق اسم الماء، أشبه ماء الباقلاء المغلي، وهذا اختيار الخرقي، وأكثر الأصحاب.
فصل:
فإن استعمل في رفع الحدث، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صب على جابر من وضوئه» رواه البخاري. ولأنه لم يصبه نجاسة فكان طاهراً، كالذي تبرد به.(1/23)
وهل تزول طهوريته؟
فيه روايتان:
أشهرهما: زوالها؛ لأنه زال عنه إطلاق اسم الماء أشبه المتغير بالزعفران.
والثانية: لا تزول؛ لأنه استعمال لم يغير الماء، أشبه التبرد به.
وإن استعمل في طهارة مستحبة، كالتجديد وغسل الجمعة، والغسلة الثانية والثالثة، فهو باق على إطلاقه؛ لأنه لم يرفع حدثاً، ولم يزل نجساً.
وعنه: أنه غير مطهر؛ لأنه مستعمل في طهارة شرعية، أشبه المستعمل في رفع الحدث.(1/24)
فصل:
وإن استعمل في غسل نجاسة، فانفصل متغيراً بها، أو قبل زوالها، فهو نجس؛ لأنه متغير بنجاسة، أو ملاق لنجاسة لم يطهرها، فكان نجساً، كما لو وردت عليه.
وما انفصل من الغسلة التي طهرت المحل غير متغير، فهو طاهر إن كان المحل أرضاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوب من ماء» متفق عليه.
فلو كان المنفصل نجساً لكان تكثيراً للنجاسة.
وإن كان غير الأرض، ففيه وجهان:
أظهرهما: طهارته كالمنفصل عن الأرض، ولأن البلل الباقي في المحل طاهر، والمنفصل بعض المتصل، فكان حكمه حكمه.
والثاني: هو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى نجاسة فتنجس بها، كما لو وردت عليه.
فإن قلنا بطهارته، فهل يكون مطهراً؟ على وجهين بناء على الروايتين في المستعمل(1/25)
في رفع الحدث، وقد مضى توجيههما.
فصل:
وإذا انغمس المحدث في ماء يسير ينوي به رفع الحدث، صار مستعملاً؛ لأنه استعمل في رفع الحدث، ولم يرتفع حدثه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه وهو جنب» رواه مسلم. والنهي يقتضي فساد المنهي عنه،(1/26)
ولأنه بأول جزء انفصل منه صار مستعملاً، فلم يرتفع الحدث عن سائره.(1/27)
فصل:
وما سوى الماء من المائعات كالخل والمرق والنبيذ، وماء الورد، والمعتصر من الشجر، لا يرفع حدثاً، ولا يزيل نجساً؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فأوجب التيمم على من لم يجد ماء، «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض يصيب الثوب: تحتيه ثم تقرصيه ثم تنضحيه بالماء ثم تصلي فيه» متفق عليه. فدل على أنه لا يجوز بغيره. والله أعلم.
[باب الماء النجس]
إذا وقع في الماء نجاسة فغيرته، نجس بغير خلاف؛ لأن تغيره لظهور أجزاء النجاسة فيه.
وإن لم تغيره لم يخل من حالين:
أحدهما: أن يكون قلتين فصاعداً، فهو طاهر لما روى ابن عمر رضي الله(1/28)
عنهما أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «سئل عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» رواه الأئمة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» وروى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل: يا رسول(1/29)
الله، أتتوضأ من بئر بضاعة وهي: بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال: الماء طهور لا ينجسه شيء» . قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح.
قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي فوجدتها ستة أذرع، ولأن الماء الكثير لا يمكن حفظه في الأوعية، فعفي عنه كالذي لا يمكن نزحه.
الثاني: ما دون القلتين، ففيه روايتان:
أظهرهما: نجاسته؛ لأن قوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء» يدل على أن ما لم يبلغهما ينجس، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات» متفق عليه. فدل على نجاسته من غير تغيير، ولأن الماء اليسير يمكن حفظه [في الأوعية] فلم يعف عنه، وجعلت القلتان حداً بين القليل والكثير.
والثانية: هو طاهر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء طهور لا ينجسه شيء» . وروى أبو(1/30)
أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه» رواه ابن ماجه. ولأنه لم يتغير بالنجاسة أشبه الكثير.
فصل:
وفي قدر القلتين روايتان:
إحداهما: [أنهما] أربعمائة رطل بالعراقي؛ لأنه روي عن ابن جريج ويحيى بن عقيل: أن القلة تأخذ قربتين، وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصارت القلتان بهذه المقدمات أربعمائة رطل.
والثانية: هما خمسمائة رطل؛ لأنه يروى عن ابن جريج أنه قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئاً. فالاحتياط أن يجعل الشيء نصفاً فيكونان خمس قرب.
وهل ذلك تحديد أو تقريب؟(1/31)
فيه وجهان:
أظهرهما: أنه تقريب، فلو نقص رطل أو رطلان لم يؤثر؛ لأن القربة إنما جعلت مائة رطل تقريباً، والشيء إنما جعل نصفاً احتياطاً، والغالب أنه يستعمل فيما دون النصف، وهذا لا تحديد فيه.
والثاني: أنه تحديد، فلو نقص شيئاً يسيراً تنجس بالنجاسة؛ لأنا جعلنا ذلك احتياطاً، وما وجب الاحتياط به صار فرضاً، كغسل جزء من الرأس مع الوجه.
فصل:
وجميع النجاسات في هذا سواء إلا بول الآدميين، وعذرتهم المائعة، فإن أكثر الروايات عن أحمد أنها تنجس الماء الكثير؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه» متفق عليه. إلا أن يبلغ حداً(1/32)
لا يمكن نزحه، كالغدران والمصانع بطريق مكة، فذلك الذي لا ينجسه شيء؛ لأن «نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البول في الماء الدائم» ينصرف إلى ما كان في أرضه على عهده من آبار المدينة ونحوها.
وعنه أنه كسائر النجاسات لعموم الأحاديث التي ذكرناها، ولأن البول كغيره من النجاسات في سائر الأحكام، فكذلك في تنجيس الماء، وحديث البول لا بد من تخصيصه، فنخصه بخبر القلتين.
فصل:
وإذا وقعت النجاسة في ماء فغيرت بعضه فالمتغير نجس، وما لم يتغير إن بلغ قلتين فهو طاهر لعموم الأخبار فيه، ولأنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة، فكان طاهراً كما لو لم يتغير فيه شيء. وإن نقص عنهما فهو نجس؛ لأنه ماء يسير لاقى ماء نجسا فنجس به. فإذا كان بين الغديرين ساقية فيها ماء يتصل بهما فهما ماء واحد.(1/33)
فصل:
فأما الماء الجاري إذا تغير بعض جريانه بالنجاسة، فالجرية المتغيرة نجسة، وما أمامها طاهر؛ لأنها لم تصل إليه، وما وراءها طاهر؛ لأنه لم يصل إليها. وإن لم يتغير منه شيء، احتمل أنه لا ينجس؛ لأنه ماء كثير يتصل بعضه ببعض فيدخل في عموم الأخبار السابقة أولاً، فلم ينجس كالراكد. ولو كان ماء الساقية راكداً لم ينجس إلا بالتغير، فالجاري أولى لأنه أحسن حالاً.
وجعل أصحابنا المتأخرون كل جرية كالماء المنفرد، فإذا كانت النجاسة في جرية تبلغ قلتين، فهي طاهرة ما لم تتغير. وإن كان دون القلتين فهي نجسة، وإن كانت النجاسة واقفة، فكل جرية تمر عليها إن بلغت قلتين، فهي طاهرة وإلا فهي نجسة. وإن اجتمعت الجريات، فكان في الماء قلتان طاهرتان، متصلة لاحقة، أو سابقة، فالمجتمع كله طاهر، إلا أن يتغير بالنجاسة؛ لأن القلتين تدفعان النجاسة عن نفسهما ويطهرهما ما اجتمع معهما، وإن لم يكن فالجميع نجس، والجرية ما يحيط بالنجاسة من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها وما قرب منها مع ما يحاذي ذلك فيما بين طرفي النهر.(1/34)
فصل:
وهو ثلاثة أقسام:
ما دون القلتين: فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين، إما أن ينبع فيه، أو يصب عليه، وسواء كان متغيراً فزال تغيره أو غير متغير فبقي بحاله.
الثاني: قدر القلتين، فتطهيره بالمكاثرة المذكورة، أو بزوال تغيره بمكثه.
الثالث: الزائد عن القلتين، فتطهيره بهذين الأمرين، أو بنزح يزيل تغيره ويبقى بعده قلتان، ولا يعتبر صب الماء دفعة واحدة؛ لأن ذلك يشق، لكن يصبه على حسب ما أمكنه من المتابعة، إما أن يجريه من ساقية، أو يصبه دلواً فدلواً. وإن كوثر بماء دون القلتين، أو طرح فيه تراب، أو غير الماء، لم يطهره؛ لأن ذلك لا يدفع النجاسة عن نفسه، فلم يطهره الماء، كما لو طرح فيه مسك، ويتخرج أن يطهره؛ لأنه تغير الماء، فأشبه ما لو زال بنفسه، ولأن علة التنجيس في الماء الكثير التغير، فإذا زالت زال حكمها، كما لو زال تغير المتغير بالطاهرات.(1/35)
فأما ما دون القلتين، فلا يطهر بزوال التغير؛ لأن العلة فيه المخالطة لا التغير.
فصل:
فإن اجتمع نجس إلى نجس، فالجميع نجس وإن كثر؛ لأن اجتماع النجس إلى النجس لا يتولد بينهما طاهر، كالمتولد بين الكلب والخنزير، ويتخرج أن يطهر إذا زال التغير، وبلغ القلتين، لما ذكرناه، وإن اجتمع مستعمل إلى مثله، فهو باق على المنع، فإن اجتمع إلى طهور يبلغ قلتين، فالكل طهور؛ لأن القلتين تزيل حكم النجاسة، فالاستعمال أولى، فإن اجتمع مستعمل إلى طهور دون القلتين، وكان المستعمل يسيراً، عفي عنه؛ لأنه لو كان مائعاً غير الماء، عفي عنه، فالمستعمل أولى وإن كثر؛ بحيث لو كان مائعاً غلب على أجزاء الماء، منع كغيره من الطاهرات.
[باب الشك في الماء]
إذا شك في نجاسته لم يمنع الطهارة به، سواء وجده متغيراً أو غير متغير؛ لأن الأصل الطهارة، والتغير يحتمل أن يكون من مكثه، أو بما لا يمنع، فلا يزول بالشك.
وإن تيقن نجاسته، ثم شك في طهارته، فهو نجس؛ لأن الأصل نجاسته.(1/36)
وإن علم وقوع النجاسة فيه، ثم وجده متغيراً تغيراً يجوز أن يكون منها، فهو نجس؛ لأن الظاهر تغيره بها.
وإن أخبره ثقة بنجاسة الماء، لم يقبل حين يعين سببها لاحتمال اعتقاده نجاسته بما لا ينجسه، كموت ذبابة فيه، وإن عين سببها، لزمه القبول، رجلاً كان أو امرأة، بصيراً أو أعمى؛ لأنه خبر ديني، فلزمه قبوله كرواية الحديث، ولأن للأعمى طريقاً إلى العلم بالحس والخبر، ولا يقبل خبر كافر، ولا صبي ولا مجنون ولا فاسق؛ لأن روايتهم غير مقبولة.
وإن أخبره أن كلباً ولغ في هذا الإناء دون هذا وقال آخر: إنما ولغ في هذا الإناء دون ذاك حكم بنجاستهما؛ لأنه يمكن صدقهما، لكونهما في وقتين. أو كانا كلبين. وإن عينا كلباً ووقتاً لا يمكن شربه فيه منهما، تعارضا وسقط قولهما؛ لأنه لا يمكن صدقهما، ولم يترجح أحدهما.(1/37)
[فصل في اشتباه الماء النجس بالطاهر]
فصل:
وإن اشتبه الماء النجس بالطاهر، تيمم، ولم يجز له استعمال أحدهما، سواء كثر عدد الطاهر أو لم يكثر. وحكي عن أبي علي النجاد أنه إذا كثر عدد الطاهر، فله أن يتحرى ويتوضأ بالطاهر عنده؛ لأن احتمال إصابة الطاهر أكثر، والأول المذهب؛ لأنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة، فلم يجز التحري كما لو كان النجس بولاً، أو كثر عدد النجس أو اشتبهت أخته بأجنبيات، ولأنه لو توضأ بأحدهما ثم تغير اجتهاده في الوضوء الثاني، فتوضأ بالأول، لتوضأ بماء يعتقد نجاسته، وإن توضأ بالثاني من غير غسل أثر الأول، تنجس يقيناً، وإن غسل أثر الأول، نقض اجتهاده باجتهاده، وفيه حرج ينتفي بقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فتركهما أولاً أولى.
وهل يشترط لصحة التيمم إراقتهما أو خلطهما؟ فيه روايتان:
إحداهما: يشترط ليتحقق عدم الطاهر.
والثانية: لا يشترط؛ لأن الوصول إلى الطاهر متعذر، واستعماله ممنوع منه، فلم يشترط عدمه كماء الغير.(1/38)
وإن اشتبه مطلق بمستعمل، توضأ من كل إناء وضوءاً لتحصل له الطهارة بيقين، وصلى صلاة واحدة. وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة، وأمكنه الصلاة في عدد النجس، وزيادة صلاة، لزمه ذلك؛ لأنه أمكنه تأدية فرضه يقيناً من غير مشقة، فلزمه كما لو اشتبه المطلق بالمستعمل، وإن كثر عدد النجس، فذكر ابن عقيل أنه يصلي في أحدها بالتحري؛ لأن اعتبار اليقين يشق، فاكتفي بالظاهر، كما لو اشتبهت القبلة.
[أقسام الحيوان]
فصل:
وهو ثلاثة أقسام:(1/39)
طاهر، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: الآدمي متطهراً كان، أو محدثاً، لما روى أبو هريرة، قال: «لقيني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا جنب فانخنست منه، فاغتسلت، ثم جئت، فقال: أين كنت يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله ! كنت جنباً، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: سبحان الله! إن المؤمن ليس بنجس» متفق عليه. وعن عائشة: «أنها كانت تشرب من الإناء، وهي حائض فيأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع فيها فيشرب» رواه مسلم.
النوع الثاني: ما يؤكل لحمه، فهو طاهر بلا خلاف.
الثالث: ما لا يمكن التحرز منه، وهو السنور، وما دونها في الخلقة، لما روت كبشة بنت كعب بن مالك، قالت: «دخل علي أبو قتادة، فسكبت له وضوءاً، فجاءت هرة، فأصغى لها الإناء حتى شربت، فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟! قلت: نعم، قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. دل بمنطوقه على طهارة الهرة، وبتعليله على طهارة ما دونها، لكونه مما يطوف علينا، ولا يمكن التحرز عنه، كالفأرة ونحوها، فهذا سؤره وعرقه وغيرهما طاهر.
القسم الثاني: نجس، وهو: الكلب والخنزير، وما تولد منهما فسؤره نجس، وجميع أجزائه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبعاً»(1/40)
متفق عليه. ولولا نجاسته ما وجب غسله، والخنزير شر منه؛ لأنه منصوص على تحريمه، ولا يباح إنقاذه بحال. وكذلك ما تولد من النجاسات كدود الكنيف وصراصره؛ لأنه متولد من نجاسة، فكان نجساً، كولد الكلب.
القسم الثالث: مختلف فيه، وهو ثلاثة أنواع كذلك:
أحدها: سائر سباع البهائم والطير، وفيهما روايتان:
إحداهما: أنها نجسة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الماء وما ينوبه من السباع فقال: إذا كان الماء قلتين، لم ينجسه شيء» فمفهومه: أنه ينجس إذا لم يبلغهما، ولأنه حيوان حرم لخبثه يمكن التحرز عنه، فكان نجساً كالكلب.
والثانية: أنها طاهرة لما روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل عن الحياض التي بين مكة والمدينة، تردها السباع والكلاب والحمر، وعن الطهارة بها، فقال: لها ما أخذت في أفواهها، ولنا ما غبر طهور» رواه ابن ماجه.
ومر عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص بحوض، فقال عمرو: يا صاحب الحوض! ترد على حوضك السباع؟ فقال عمر: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا، فإنا نرد عليها، وترد علينا. رواه مالك في الموطأ.
النوع الثاني: الحمار الأهلي والبغل، ففيهما روايتان:(1/41)
إحداهما: نجاستهما، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحمر يوم خيبر: إنها رجس» متفق عليه، ولما ذكرنا في السباع.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأنه قال: إذا لم يجد غير سؤرهما، تيمم معه، ولو شك في نجاسته، لم يبح استعماله، ووجهها ما روى جابر أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها» رواه الشافعي في مسنده. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يركب الحمار والبغال، وكان الصحابة يقتنونها ويصحبونها في أسفارهم، فلو كانت نجسة، لبين لهم نجاستها، ولأنه لا يمكن التحرز عنها لمقتنيها، فأشبهت الهر ويحكم بطهارته، ويجوز بيعها، فأشبهت مأكول اللحم.
النوع الثالث: الجلالة وهي: التي أكثر علفها النجاسة، ففيها روايتان:
إحداهما: نجاستها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن ركوب الجلالة وألبانها» ، رواه أبو داود. ولأنها تنجست بالنجاسة، والريق لا يطهر.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأن الضبع والهر يأكلان النجاسة، وهما طاهران.
وحكم أجزاء الحيوان من جلده وشعره وريشه حكم سؤره؛ لأنه من أجزائه، فأشبه فمه، فإذا وقع في الماء ثم خرج حياً، فحكم ذلك حكم سؤره.
قال أحمد في فأرة سقطت في ماء، ثم خرجت حية: لا بأس به.(1/42)
فصل:
إذا أكلت الهرة نجاسة، ثم شربت من ماء بعد غيبتها، لم ينجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنها ليست بنجس» مع علمه بأكلها النجاسات. وإن شربت قبل الغيبة، فقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر قول أصحابنا: طهارته؛ للخبر. ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة، واحتمال طهارتها بها شك لا يزيل يقين النجاسة.
وقال القاضي: ينجس؛ لأن أثر النجاسة في فمها، بخلاف ما بعد الغيبة، فإنه يحتمل أن تشرب من ماء يطهر فاها، فلا ينجس ما تيقنا طهارته بالشك.
[فصل في أقسام الحيوان الطاهر]
فصل:
والحيوان الطاهر على أربعة أضرب:
أحدها: ما تباح ميتته، كالسمك ونحوه، والجراد وشبهه فميتته طاهرة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والحل ميتته» .
والثاني: ما ليست له نفس سائلة، كالذباب والعقارب والخنافس، فهو طاهر حياً وميتاً، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فامقلوه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء» رواه البخاري بمعناه فأمر بمقله؛ ليكون شفاء(1/43)
لنا إذا أكلنا، ولأنه لا نفس له سائلة، أشبه دود الخل إذا مات فيه.
والثالث: الآدمي، ففيه روايتان:
أظهرهما: أنه طاهر بعد الموت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن المؤمن ليس بنجس» ولأنه لو كان نجس العين، لم يشرع غسله، كسائر النجاسات.
والثانية: هو نجس، قال أحمد في صبي مات في بئر: تنزح، وذلك لأنه حيوان له نفس سائلة أشبه الشاة.
والرابع: ما عدا ما ذكرنا، مما له نفس سائلة لا تباح ميتته، فميتته نجسة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله [تعالى] : {إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] .
[باب الآنية]
وهي ضربان:
مباح من غير كراهة: وهو إناء طاهر من غير جنس الأثمان، ثميناً كان أو(1/44)
غير ثمين، كالياقوت والبلور والعقيق والخزف والخشب والجلود والصفر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل من جفنة، وتوضأ من تور من صفر، وتور من حجارة، ومن قربة وإداوة.
والثاني: محرم، وهو آنية الذهب والفضة، لما روى حذيفة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا من صحافهما، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة» ، وقال: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليهما. فتوعد عليه بالنار، فدل على تحريمه، ولأن فيه سرفاً وخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، ولا يحصل هذا في [ثمين] الجواهر؛ لأنه لا يعرفها إلا خواص الناس، ويحرم اتخاذها، لأن ما حرم استعماله، حرم اتخاذه [على] هيئة الاستعمال، كالطنبور، ويستوي في ذلك الرجال والنساء، لعموم الخبر. وإنما أبيح للنساء التحلي للحاجة إلى الزينة للأزواج، فما عداه تجب التسوية فيه بين الجميع، وما ضبب بالفضة أبيح إذا كان يسيراً، لما روى أنس «أن(1/45)
قدح الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.» رواه البخاري.
ولا يباح الكثير؛ لأن فيه سرفاً، فأشبه الإناء الكامل، واشترط أبو الخطاب أن يكون لحاجة؛ لأن الرخصة وردت في شعب القدح، وهو لحاجة. ومعنى الحاجة أن تدعو الحاجة إلى ما فعله به، وإن كان غيره يقوم مقامه. وقال القاضي: يباح من غير حاجة لأنه يسير، إلا أن أحمد كره الحلقة؛ لأنها تستعمل، وتكره مباشرة الفضة بالاستعمال، فأما الذهب، فلا يباح إلا في الضرورة، كأنف الذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رخص لعرفجة بن سعد لما قطع أنفه يوم الكلاب واتخذ أنفاً من ورق فأنتن عليه، فأمره أن يتخذ أنفاً من الذهب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ويباح ربط أسنانه بالذهب إذا خشي سقوطها؛ لأنه في معنى أنف الذهب. وذكر أبو بكر في " التنبيه " أنه يباح يسير الذهب. وقال أبو الخطاب: ولا بأس بقبيعة السيف بالذهب؛ لأن سيف عمر كان فيه سبائك من ذهب. ذكره الإمام أحمد. وعن مزيدة العصري قال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة» . رواه الترمذي، وقال: هو حديث غريب.
[التطهر من آنية الذهب والفضة]
فصل:
فإن تطهر من آنية الذهب والفضة، ففيه وجهان:
أحدهما: تصح طهارته، وهذا قول الخرقي؛ لأن الوضوء جريان الماء على العضو وليس بمعصية، وإنما المعصية استعمال الإناء.
والثاني: لا تصح، اختاره أبو بكر؛ لأنه استعمال للمعصية في العبادة، أشبه(1/46)
الصلاة في الدار المغصوبة.
[فصل في استعمال آنية أهل الكتاب]
فصل:
وهم ضربان:
أحدهما: من لا يستحل الميتة كاليهود، فأوانيهم طاهرة [مباحة الاستعمال] ؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أضافه يهودي بخبز وإهالة سنخة فأجابه» ، رواه أحمد في المسند وتوضأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من جرة نصرانية.
والثاني: من يستحل الميتات والنجاسات، كعبد الأوثان والمجوس، وبعض النصارى، فلما لم يستعملوه من آنيتهم، فهو طاهر، وما استعملوه فهو نجس، لما روى أبو ثعلبة الخشني [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «قلت: يا رسول الله، إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها، إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها، ثم(1/47)
كلوا فيها» متفق عليه. وما شك في استعماله فهو طاهر، وذكر أبو الخطاب أن أواني الكفار كلها طاهرة.
وفي كراهية استعمالها روايتان:
إحداهما: تكره، لهذا الحديث.
والثانية: لا تكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل فيها.
[فصل في حكم ثياب الكفار]
فأما ثياب الكفار، فما لم يلبسوه، أو علا من ثيابهم كالعمامة والطيلسان، فهو طاهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا يلبسون ثياباً من نسج الكفار. وما لاقى عوراتهم، فقال أحمد: أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيها، فيحتمل وجوب الإعادة، وهو قول القاضي؛ لأنهم يتعبدون بالنجاسة، ويحتمل أن لا تجب، وهو قول أبي الخطاب؛ لأن الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك.
[فصل في حكم طهارة الميتة]
فصل:
وجلود الميتة نجسة، ولا تطهر بالدباغ في ظاهر المذهب؛ لقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والجلد جزء منها. وروى أحمد عن يحيى بن سعيد عن شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن عبد الله بن عكيم قال: «قرئ علينا كتاب رسول الله في أرض جهينة، وأنا غلام شاب: أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» .(1/48)
قال أحمد: ما أصلح إسناده، [تعجب منه] . ولأنه جزء من الميتة، نجس بالموت، فلم يطهر كاللحم. وعنه: يطهر منها جلد ما كان طاهراً حال الحياة، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجد شاة ميتة أعطيتها مولاة لميمونة من الصدقة، فقال: ألا أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به؟ قالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها» متفق عليه.
ولا يطهر جلد ما كان نجساً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن جلود السباع وعن مياثر النمور» رواه الأثرم. ولأن أثر الدبغ في إزالة نجاسة حادثة بالموت، فيعود الجلد إلى ما كان عليه قبل الموت، كجلد الخنزير.
وهل يعتبر في طهارة الجلد المدبوغ أن يغسل بعد دبغه؟ على وجهين:
أحدهما: لا يعتبر، لما روى ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» متفق عليه.
والثاني: يعتبر؛ لأن الجلد محل النجس، فلا يطهر بغير الماء، كالثوب.
فصل:
وعظم الميتة وقرنها وظفرها وحافرها نجس لا يطهر بحال؛ لأنه جزء من(1/49)
الميتة فيدخل في عموم قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والدليل على أنه منها قول الله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] . ولأن دليل الحياة الإحساس والألم، والضرس يألم ويحس بالضرس، برد الماء وحرارته، وما فيه حياة يحله الموت، فينجس به كاللحم.
فصل:
وصوفها ووبرها وشعرها وريشها طاهر لأنه لا روح له، فلا يحله الموت؛ لأن الحيوان لا يألم بأخذه، ولا يحس، ولأنه لو كانت فيه حياة لنجس بفصله من الحيوان في حياته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» رواه أبو داود بمعناه.
فصل:
وحكم شعر الحيوان وريشه حكمه في الطهارة والنجاسة، متصلاً كان أو منفصلاً في حياة الحيوان أو موته، فشعر الآدمي طاهر؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن واتفق على معناه. ولولا طهارته لما فعل، ولأنه شعر حيوان طاهر، فأشبه شعر الغنم.(1/50)
فصل:
ولبن الميتة نجس؛ لأنه مائع في وعاء نجس، وإنفحتها نجسة لذلك، وعنه: أنها طاهرة؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أكلوا من جبن المجوس، وهو يصنع بالإنفحة، وذبائحهم ميتة. فأما البيضة: فإن صلب قشرها، لم تنجس، كما لو وقعت في شيء نجس، وإن لم يصلب، فهي كاللبن.
وقال ابن عقيل: لا تنجس إذا كان عليها جلدة تمنع وصول النجاسة إلى داخلها.(1/51)
فصل:
وكل ذبح لا يفيد إباحة اللحم لا يفيد طهارة المذبوح، كذبح المجوسي، ومتروك التسمية، وذبح المحرم للصيد، وذبح الحيوان غير المأكول؛ لأنه ذبح غير مشروع، فلم يطهر كذبح المرتد.
[باب السواك وغيره]
السواك سنة مؤكدة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» متفق عليه. وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، أنه قال: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» رواه الإمام أحمد في المسند، ويتأكد استحبابه في أوقات ثلاثة: عند الصلاة؛ لما ذكرنا، وإذا قام من النوم؛ لما روى حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك» ، متفق عليه. ولأن النائم ينطبق فمه ويتغير. والثالث: عند تغير الفم بمأكول أو خلو معدته، ولأن السواك شرع لتنظيف الفم، وإزالة رائحته. ويستحب في سائر الأوقات؛ لما روى شريح بن هانئ، قال: «سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأي شيء كان يبدأ(1/52)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك» . رواه مسلم.
قال ابن عقيل: لا يختلف المذهب أنه لا يستحب السواك للصائم بعد الزوال؛ لأنه يزيل خلوف فم الصائم، وخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، ولأنه أثر عبادة مستطاب شرعاً، فلم يستحب إزالته، كدم الشهداء. وهل يكره؟ على روايتين:
إحداهما: يكره لذلك.
والثانية: لا يكره؛ لأن عامر بن ربيعة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» . قال الترمذي: هذا حديث حسن، ويستاك بعود لين ينقي الفم، ولا يجرحه ولا يتفتت فيه، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستاك بعود أراك، ولا يستاك بعود رمان؛ لأنه يضر بلحم الفم، ولا عود ريحان؛ لأنه يروى أنه يحرك عرق الجذام، فإن استاك بأصبعه أو خرقة، لم يصب السنة؛ لأنها لم ترد به، ولا يسمى سواكاً، [قال ابن عبد القوي على القول المجود] : ويحتمل أن يصيب؛(1/53)
لأنه يحصل من الإنقاء بقدره.
فصل:
ومن السنة تقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط وحلق العانة، لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط» متفق عليه.
فصل:
ويجب الختان؛ لأنه من ملة إبراهيم، فإنه روي «أن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، ختن نفسه» متفق عليه. وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] ولأنه يجوز كشف العورة من أجله، ولولا أنه واجب ما جاز النظر إليها لفعل مندوب.(1/54)
فإن كان كبيراً وخاف على نفسه من الختان، سقط وجوبه.
[باب فرائض الوضوء وسننه]
أول فرائضه: النية: وهي شرط لطهارة الأحدث كلها، الغسل، والوضوء، والتيمم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه. ولأنها عبادة محضة، فلم تصح من غير نية، كالصلاة.
ومحل النية: القلب؛ لأنها عبارة عن القصد، ويقال: نواك بخير، أي: قصدك به. ومحل القصد القلب، ولا يعتبر أن يقول بلسانه شيئاً، فإن لفظ بما نواه كان آكد. وموضع وجوبها عند المضمضة؛ لأنها أول واجباته، ويستحب تقديمها على غسل اليدين والتسمية، لتشمل مفروض الوضوء ومسنونه. ويستحب استدامة ذكرها في سائر وضوئه، فإن عزبت في أثنائها جاز؛ لأن النية في أول العبادة تشمل جميع أجزائها كالصيام، وإن تقدمت النية الطهارة بزمن يسير، وعزبت عنه في(1/55)
أولها، جاز؛ لأنها عبادة، فلم يشترط اقتران النية بأولها كالصيام.
وصفتها: أن ينوي رفع الحدث، أي: إزالة المانع من الصلاة أو الطهارة، لأمر لا يستباح إلا بها، كالصلاة والطواف ومس المصحف، وإن نوى الجنب بغسله قراءة القرآن صح؛ لأنه يتضمن رفع الحدث، وإن نوى بطهارته ما لا تشرع له الطهارة، كلبس ثوبه ودخول بيته والأكل، لم يرتفع حدثه؛ لأنه ليس بمشروع، أشبه التبرد، وإن نوى ما يستحب له الطهارة، كقراءة القرآن، وتجديد الوضوء وغسل الجمعة والجلوس في المسجد والنوم، فكذلك في إحدى الروايتين؛ لأنه لا يفتقر إلى رفع الحدث أشبه لبس الثوب، والأخرى: يرتفع حدثه؛ لأنه يشرع له فعل هذا، وهو غير محدث، وقد نوى ذلك، فينبغي أن تحصل له، ولأنها طهارة صحيحة، فرفعت الحدث، كما لو نوى رفعه. وإن نوى رفع الحدث والتبرد، صحت طهارته؛ لأنه أتى بما يجزئه، وضم إليه ما لا ينافيه، فأشبه ما لو نوى بالصلاة العبادة والإدمان على السهر، فإن نوى طهارة مطلقة، لم يصح؛ لأن منها ما لا يرفع الحدث، وهو الطهارة من النجاسة. وإن نوى رفع حدث بعينه، فهل يرتفع غيره؟ على وجهين: قال أبو بكر: لا يرتفع؛ لأنه لم ينوه، أشبه إذا لم ينو شيئاً. وقال القاضي: يرتفع؛ لأن الأحداث تتداخل، فإن ارتفع بعضها ارتفع جميعها، وإن نوى صلاة واحدة نفلاً(1/56)
أو فرضاً لا يصلي غيرها، ارتفع حدثه، ويصلي ما شاء؛ لأن الحدث إذا ارتفع لم يعد إلا لسبب جديد، ونيته للصلاة تضمنت رفع الحدث، وإن نوى نية صحيحة ثم غير نيته، فنوى التبرد في غسل بعض الأعضاء، لم يصح ما غسله للتبرد، فإن أعاد غسل العضو بنية الطهارة، صح، ما لم يطل الفصل.
فصل:
ثم يقول: بسم الله. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها واجبة في طهارات [الأحداث] كلها، اختارها أبو بكر، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» . قال أحمد: حديث أبي سعيد أحسن شيء في الباب.
والثانية: أنها سنة اختارها الخرقي. قال الخلال: الذي استقرت الروايات عنه: أنه لا بأس به إذا ترك التسمية؛ لأنها عبادة، فلا تجب فيها التسمية كغيرها، وضعف أحمد الحديث فيها، وقال: ليس يثبت في هذا حديث، واختلف من أوجبها في سقوطها بالسهو، فمنهم من قال: لا تسقط كسائر واجبات الطهارة ومنهم من أسقطها؛ لأن الطهارة عبادة تشتمل على مفروض ومسنون، فكان من فروضها ما يسقطه السهو، كالصلاة والحج، فإن ذكرها في أثناء وضوئه، سمى حيث(1/57)
ذكر.
ومحل التسمية اللسان؛ لأنها ذكر، وموضعها بعد النية، ليكون مسمياً على جميع الوضوء.
فصل:
في غسل الكفين: ثم يغسل كفيه ثلاثاً؛ «لأن عثمان وعبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وصفا وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات» . متفق عليهما، ولأن اليدين آلة نقل الماء إلى الأعضاء ففي غسلهما احتياط لجميع الوضوء، ثم إن كان لم يقم من نوم الليل، فغسلهما مستحب؛ لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» متفق عليه. ولم يذكر البخاري "ثلاثاً". فتخصيصه هذه الحالة بالأمر، دليل على عدم الوجوب في غيرها.
وإن قام في نوم الليل ففيه روايتان:
إحداهما: أنه واجب، اختارها أبو بكر لظاهر الأمر، فإن غمسهما قبل(1/58)
غسلهما، صار الماء مستعملاً؛ لأن النهي عن غمسهما يدل على أنه يفيد منعاً، وإن غسلهما دون الثلاث، ثم غمسهما، فكذلك؛ لأن النهي باق، وغمس بعض يده كغمس جميعها، ويفتقر غسلهما إلى النية؛ لأنه غسل وجب تعبداً، أشبه الوضوء.
والرواية الثانية: ليس بواجب، اختارها الخرقي؛ لأن اليد عضو لا حدث عليه ولا نجاسة، فأشبهت سائر الأعضاء، وتعليل الحديث يدل على أنه أريد به الاستحباب؛ لأنه علل بوهم النجاسة، ولا يزال اليقين بالشك، فإن غمسهما في الماء فهو باق على إطلاقه.
فصل:
ثم يتمضمض ويستنشق؛ لأن كل من وصف وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مضمض واستنشق، وهما واجبان في الطهارتين؛ لقول الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وهما داخلان في حد الوجه، ظاهران، يفطر الصائم بوصول القيء إليهما، ولا يفطر بوضع الطعام فيهما، ولا يحد بوضع الخمر فيهما، ولا يحصل الرضاع بوصول اللبن إليهما، ويجب غسلهما من النجاسة، فيدخلان في عموم الآية.
وعنه: الاستنشاق وحده واجب؛ لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال] : «إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه، ثم لينتثر» متفق عليه. وعنه: أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى؛ لأنها طهارة تعم جميع البدن ويجب فيها غسل ما تحت الشعور، وتحت الخفين.(1/59)
ويستحب المبالغة فيهما، إلا أن يكون صائماً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً» حديث صحيح. وصفة المبالغة اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف، ولا يجعله سعوطاً، وفي المضمضة، إدارة الماء في أقاصي الفم، ولا يجعله وجوراً، وهو مخير بين أن يمضمض ويستنشق ثلاثاً من غرفة أو من ثلاث غرفات؛ لأن في حديث عبد الله بن زيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «مضمض واستنشق من كف واحدة، ففعل ذلك ثلاثاً» ، وفي لفظ: «أدخل يده في الإناء، فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات» ، متفق عليهما. وإن شاء فصل بينهما؛ لأن جد طلحة بن مصرف قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يفصل بين المضمضة والاستنشاق» . رواه أبو داود. ولا يجب الترتيب بينهما وبين الوجه؛ لأنهما منه، لكن تستحب البداءة بهما اقتداءً برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ثم يغسل وجهه، وذلك فرض بالإجماع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6](1/60)
وحده من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ولا اعتبار بالأصلع الذي ينحسر شعره عن ناصيته، ولا الأفرع الذي ينزل شعره على جبهته.
فإن كان في الوجه شعر كثيف يستر البشرة، لم يجب غسل ما تحته؛ لأنه باطن أشبه [باطن] أقصى الأنف، ويستحب تخليله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلل لحيته. وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «كان إذا توضأ، أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه، فخلل به لحيته، وقال: هكذا أمرني ربي، عز وجل» رواه أبو داود.
وإن كان يصف البشرة، وجب غسل الشعر والبشرة.
وإن كان بعضه خفيفا، وبعضه كثيفاً، وجب غسل ظاهر الكثيف، وبشرة الخفيف معه. وسواء في هذا شعر اللحية والحاجبين، والشارب والعنفقة؛ لأنها شعور معتادة في الوجه، أشبهت اللحية.(1/61)
وفي المسترسل من اللحية عن حد الوجه روايتان:
إحداهما: لا يجب غسله؛ لأنه شعر نازل عن محل الفرض، أشبه الذؤابة في الرأس.
والثاني: يجب؛ لأنه نابت في بشرة الوجه، أشبه الحاجب. ويدخل في حد الوجه العذار، [وهو: الشعر الذي على العظم الناتئ سمت صماخ الأذن إلى الصدغ.
والعارض: الذي تحت العذار] . والذقن: وهو مجتمع اللحيين، ويخرج منه النزعتان، وهما: ما ينحسر عنهما الشعر في فودي الرأس؛ لأنهما من الرأس، لدخولهما فيه. والصدغ: وهو الذي عليه الشعر في حق الغلام، محاذ لطرف الأذن الأعلى؛ لأنه شعر متصل بالرأس ابتداء، فكان من الرأس كسائره، وقد مسحه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع رأسه في حديث الربيع.
ويستحب أن يزيد في ماء الوجه؛ لأن فيه غضوناً وشعوراً، ودواخل وخوارج، ويمسح مآقيه، ويتعاهد المفصل وهو البياض الذي بين اللحية والأذن، فيغسله.
ولا يجب غسل داخل العينين. ولا يستحب؛ لأنه لا يؤمن الضرر من(1/62)
غسلهما.
فصل:
ثم يغسل يديه إلى المرفقين، وهو فرض بالإجماع، لقول الله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . ويجب غسل المرفقين؛ لأن جابراً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه» ، رواه الدارقطني، وفيه: " دار الماء " وهذا يصلح بياناً؛ لأن " إلى " تكون بمعنى " مع " كقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] [أي: مع الله] ، {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] .
ويجب غسل أظفاره، وإن طالت، والأصبع الزائدة، والسلعة؛ لأن ذلك من يده، وإن كانت له يد زائدة أصلها في محل الفرض، وجب غسلها؛ لأنها نابتة في محل الفرض، أشبهت الأصبع، وإن نبتت في العضد أو المنكب، لم يجب غسلها وإن حاذت محل الفرض؛ لأنها في غير محل الفرض، فهي كالقصيرة. وإن كانت له يدان متساويتان على منكب واحد، وجب غسلهما؛ لأن إحداهما ليست أولى من الأخرى.
وإن تقلعت جلدة من الذراع، فتدلت من العضد، لم يجب غسلها؛ لأنها صارت من العضد، وإن تقلعت من العضد، فتدلت من الذراع، وجب غسلها؛ لأنها متدلية من محل الفرض. وإن تقلعت من إحداهما، فالتحم رأسها بالأخرى، وجب غسل ما حاذى محل الفرض منها؛ لأنها كالجلد الذي عليهما، فإن كانت متجافية في وسطها، غسل ما تحتها من محل الفرض. وإن كان أقطع فعليه غسل ما بقي من محل الفرض، فإن لم يبق منه شيء، سقط الغسل، ويستحب أن يمس محل القطع بالماء، لئلا يخلو العضو من طهارة.(1/63)
وتستحب البداءة بغسل اليمنى من يديه ورجليه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يحب التيمن في ترجله وتنعله وطهوره، وفي شأنه كله» . متفق عليه. فإن بدأ باليسرى جاز؛ لأنهما كعضو واحد، بدليل قوله سبحانه: {وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فجمع بينهما.
فصل:
ثم يمسح رأسه، وهو فرض بغير خلاف، لقول الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وهو ما ينبت عليه الشعر المعتاد في الصبي مع النزعتين. ويجب استيعابه بالمسح؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] والباء للإلصاق، فكأنه قال: امسحوا رؤوسكم، وصار كقوله سبحانه: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] قال ابن برهان: من زعم أن الباء للتبعيض، فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وظاهر قول الإمام أحمد: المرأة يجزئها مسح مقدم الرأس؛ لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها، وعنه في الرجل: أنه يجزئه مسح بعضه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مسح(1/64)
بناصيته وعمامته» . رواه مسلم.
وكيفما مسح الرأس أجزأ، بيد واحدة، أو بيدين، إلا أن المستحب أن يمر يديه من مقدم رأسه إلى قفاه، ثم يعيدهما إلى الموضع الذي بدأ منه، لأن عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال في صفة وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» ، متفق عليه. ولا يستحب تكرار المسح، لأن أكثر من وصف وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ذكر أنه مسح مرة واحدة، ولأنه ممسوح في طهارة، أشبه التيمم. وعنه: يستحب تكراره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «توضأ ثلاثا ثلاثا. وقال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلي» رواه ابن ماجه. ولأنه أصل في الطهارة، أشبه الغسل.(1/65)
والأذنان في الرأس يمسحان معه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأذنان من الرأس» رواه أبو داود. وروت الربيع بنت معوذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مسح برأسه، وصدغيه، وأذنيه، مسحة واحدة» . رواه الترمذي، وقال حديث [حسن] صحيح. ويستحب إفرادهما بماء جديد لأنهما كالعضو المنفرد، وإنما هما من الرأس على وجه التبع، ولا يجزئ مسحهما عنه لذلك، وظاهر كلام أحمد أنه لا يجب مسحهما لذلك، ويستحب أن يدخل سبابتيه في صماخي أذنيه، ويجعل إبهاميه لظاهرهما، ولا يجب مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولا يجزئ مسحه عن الرأس سواء رده فعقده فوق رأسه أو لم يرده، لأن الرأس ما ترأس وعلا، ولو أدخل يده تحت الشعر، فمسح البشرة دون الظاهر لم يجزه، لأن الحكم تعلق بالشعر فلم يجزه مسح غيره، ولو مسح رأسه ثم حلقه، أو غسل عضوا ثم قطع جزعا منه أو جلده، لم يؤثر في طهارته، لأنه ليس ببدل عما تحته، فلم يلزمه بظهوره طهارة، فإن أحدث بعد ذلك غسل ما ظهر لأنه صار ظاهرا، فتعلق الحكم به، ولو حصل في بعض أعضائه شق أو ثقب، لزمه غسله لأنه صار ظاهرا.
فصل:
ثم يغسل رجليه إلى الكعبين، وهو فرض لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6](1/66)
ويدخل الكعبين في الغسل لما ذكرنا في المرفقين، ولا يجزئ مسح الرجلين، لما روى عمر «أن رجلا ترك موضع ظفر في قدمه اليمنى فأبصره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " ارجع فأحسن وضوءك " فرجع ثم صلى» رواه مسلم. وإن كان الرجل أقطع اليدين فقدر على أن يستأجر من يوضئه بأجرة مثله، لزمه كما يلزمه شراء الماء. ولا يعفى عن شيء من طهارة الحدث، وإن كان يسيرا لما ذكرنا من حديث عمر.
ويستحب أن يخلل أصابعه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «إذا توضأت فخلل بين أصابع يديك ورجليك» رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن.
فصل:
ويجب ترتيب الوضوء على ما ذكرنا في ظاهر المذهب، وحكي عنه أنه ليس بواجب، لأن الله سبحانه وتعالى عطف الأعضاء المغسولة بالواو، ولا ترتيب فيها.
ولنا أن في الآية قرينة تدل على الترتيب، لأنه أدخل الممسوح بين المغسولات، وقطع النظير عن نظيره، ولا يفعل الفصحاء هذا إلا لفائدة، ولا نعلم هنا فائدة سوى الترتيب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه الوضوء إلا مرتبا، وهو يفسر كلام الله سبحانه بقوله مرة وبفعله مرة أخرى. فإن نكس وضوءه فختم بوجهه لم يصح إلا غسل وجهه، وإن غسل وجهه ويديه، ثم غسل رجليه ثم مسح برأسه، صح وضوءه إلا غسل رجليه، فيغسلهما ويتم وضوءه.(1/67)
فصل:
ويوالي بين غسل الأعضاء، وفي وجوب الموالاة روايتان:
إحداهما: يجب، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رأى رجلا يصلي وفي رجله لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة» . رواه أبو داود. ولو لم تجب الموالاة لأجزأه غسلها، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والى بين الغسل.
والثانية: لا تجب، لأن المأمور به الغسل، وقد أتى به، وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه توضأ وترك مسح خفيه حتى دخل المسجد، فدعي لجنازة، فمسح عليهما وصلى عليها. والتفريق المختلف فيه: أن يؤخر غسل عضو حتى يمضي زمن ينشف فيه الذي قبله في الزمان المعتدل فإن أخر غسل عضو لأمر في الطهارة من إزالة الوسخ، أو عرك عضو لم يقدح في طهارته.
فصل:
والوضوء مرة مرة يجزئ، والثلاث أفضل، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، توضأ مرة مرة، وقال: " هذا وضوء من لم يتوضأه لم يقبل الله له صلاة "، ثم توضأ مرتين، ثم قال: " هذا وضوء من توضأه أعطاه الله كفلين من الأجر "، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا،، ثم قال: " هذا وضوئي ووضوء المرسلين من قبلي» أخرجه ابن ماجه. وإن غسل بعض أعضائه أكثر من بعض فلا بأس، فقد «حكى عبد الله بن زيد وضوء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغسل يديه مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثا [وغسل وجهه ثلاثا] ثم غسل يديه مرتين إلى(1/68)
المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما ثم رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه» ، متفق عليه. ولا يزيد على ثلاث لأن «أعرابيا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوضوء، فأراه ثلاثا ثلاثا ثم قال: " هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وظلم» رواه أبو داود، ويكره الإسراف في الماء لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على سعد وهو يتوضأ فقال: " لا تسرف " قال: يا رسول الله: في الماء إسراف؟ قال: " نعم وإن كنت على نهر جار» رواه ابن ماجه.
فصل:
ويستحب إسباغ الوضوء، ومجاوزة قدر الواجب بالغسل، لأن «أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضد، ورجله حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله» متفق عليه.
فصل:
ولا بأس بالمعاونة على الوضوء والغسل بتقريب الماء، وحمله وصبه لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحمل له الماء، ويصب عليه. قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ينطلق لحاجته فآتيه أنا وغلام من الأنصار بإداوة من ماء يستنجي به» ، وعن المغيرة(1/69)
بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء فصببت عليه من الإداوة، فغسل وجهه وذكر بقية الوضوء» ، متفق عليهما. وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كنا نعد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاثة آنية من الليل مخمرة، إناء لطهره، وإنا لسواكه، وإنا لشرابه» ، أخرجه ابن ماجه.
فصل:
وفي تنشيف بلل الغسل والوضوء روايتان:
إحداهما: يكره، لأن «ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وصفت غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قالت: فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» ، متفق عليه.
والأخرى: لا بأس به، لأنه إزالة الماء عن بدنه، أشبه نفضه بيديه.
فصل:
ويستحب أن يقول بعد فراغه من الوضوء: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لما روى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من توضأ فأحسن وضوئه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد(1/70)
أن محمدا عبده ورسوله فتح الله له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء» رواه مسلم.
فصل:
والمفروض من ذلك بغير خلاف خمسة: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين.
وخمسة فيها روايتان: الترتيب، والموالاة، والمضمضة والاستنشاق، والتسمية.
والسنن سبعة: غسل الكفين والمبالغة في المضمضة والاستنشاق، وتخليل اللحية، وأخذ ماء جديد للأذنين، وتخليل الأصابع، والبداءة باليمنى والدفعة الثانية والثالثة.
[باب المسح على الخفين]
وهو جائز بغير خلاف لما روى جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال، ثم توضأ، ومسح على خفيه» ، متفق عليه. قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة، ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه، وتلحق المشقة بنزعه، فجاز المسح عليه كالجبائر ويختص جوازه بالوضوء دون الغسل، لما روى صفوان بن عسال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا إذا كنا مسافرين، أو سفر أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم» . أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولأن الغسل يقل فلا(1/71)
تدعو الحاجة إلى المسح على الخف فيه بخلاف الوضوء، ولجواز المسح عليه شروط أربعة:
أحدها: أن يكون ساترا لمحل الفرض من القدم كله، فإن ظهر منه شيء لم يجز المسح، لأن حكم ما استتر المسح، وحكم ما ظهر الغسل، ولا سبيل إلى الجمع بينهما، فغلب الغسل، كما لو ظهرت إحدى الرجلين، فإن تخرقت البطانة دون الظهارة، أو الظهارة دون البطانة جاز المسح، لأن القدم مستور به، وإن كان فيه شق مستطيل ينضم لا يظهر منه القدم، جاز المسح [عليه] لذلك، وإن كان الخف رقيقا يصف لم يجز المسح عليه، لأنه غير ساتر، وإن كان ذي شرج في موضع القدم، وكان مشدودا لا يظهر شيء من القدم إذا مشى جاز المسح عليه، لأنه كالمخيط.
فصل:
الثاني: أن يمكن متابعة المشي فيه، فإن كان يسقط من القدم لسعته، أو ثقله لم يجز المسح عليه، لأن الذي تدعو الحاجة إليه هو الذي يمكن متابعة المشي فيه، وسواء في ذلك الجلود والخرق والجوارب لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مسح على الجوربين والنعلين» . أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. قال الإمام أحمد: يذكر المسح على الجوربين عن سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنه ملبوس ساتر للقدم يمكن متابعة المشي فيه، أشبه الخف. فإن شد على رجليه لفائف، لم يجز المسح عليها، لأنها لا تثبت(1/72)
بنفسها إنما تثبت بشدها.
فصل:
الثالث: أن يكون مباحا فلا يجوز المسح على المغصوب والحرير، لأن لبسه معصية، فلا تستباح به الرخصة، كسفر المعصية.
فصل:
الرابع: أن تلبسهما على طهارة كاملة، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في سفر فأهويت لأنزع خفيه، قال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما» متفق عليه. فإن تيمم، ثم لبس الخف، لم يجز المسح عليه، لأن طهارته لا ترفع الحدث. وإن لبست المستحاضة، ومن به سلس البول خفا على طهارتهما فلهما المسح، نص عليه، لأن طهارتهما كاملة في حقهما فإن عوفيا لم يجز المسح؛ لأنها صارت ناقصة في حقهما، فأشبهت التيمم.
وإن غسل إحدى رجليه، فأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى فأدخلها، لم يجز المسح، لأنه لبس الأول قبل كمال الطهارة.
وعنه: يجوز لأنه أحدث بعد كمال الطهارة واللبس، فأشبه ما لو نزع الأول، ثم لبسه بعد أن غسل الأخرى.
وإن تطهر ولبس خفيه، فأحدث قبل بلوغ الرجل قدم الخف، لم يجز المسح،(1/73)
لأن الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فأشبه من بدأ اللبس محدثا، وإن لبس خفا على طهارة، ثم لبس فوقه آخر، أو جرموقا قبل أن يحدث جاز المسح على الفوقاني سواء كان التحتاني صحيحا أو مخرقا، لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي فيه لبسه على طهارة كاملة، أشبه المنفرد، وإن لبس الثاني بعد الحدث، لم يجز المسح عليه لأنه لبسه على غير طهارة، وإن مسح الأول، ثم لبس الثاني، لم يجز المسح عليه، لأن المسح لم يزل الحدث عن الرجل فلم تكمل الطهارة.
وإن كان التحتاني صحيحا، والفوقاني مخرقا، فالمنصوص جواز المسح لأن القدم مستور بخف صحيح. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز، لأن الحكم تعلق بالفوقاني، فاعتبرت صحته كالمنفرد. وإن لبس المخرق فوق لفافة، لم يجز المسح عليه، لأن القدم لم يستتر بخف صحيح، وإن لبس مخرقا فوق مخرق فاستتر القدم بهما احتمل أن لا يجوز المسح لذلك، واحتمل أن يجوز، لأن القدم استتر بهما فصارا كالخف الواحد.
[فصل في مدة المسح على الخفين]
فصل:
ويتوقت المسح بيوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، لما روى عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم» . قال الإمام أحمد: هذا أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في غزوة تبوك، آخر غزاة غزاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو آخر فعله.(1/74)
وسفر المعصية كالحضر، لأن ما زاد يستفاد بالسفر، وهو معصية فلم يجز أن يستفاد به الرخصة.
ويعتبر ابتداء المدة من حين الحدث بعد اللبس في إحدى الروايتين، لأنهما عبادة مؤقتة فاعتبر أول وقتها من حين جواز فعلها، كالصلاة. والأخرى من حين المسح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالمسح ثلاثة أيام، فاقتضى أن تكون الثلاثة كلها يمسح فيها.
وإن أحدث في الحضر، ثم سافر قبل المسح، أتم مسح مسافر، لأنه بدأ العبادة في السفر.
وإن مسح في الحضر، ثم سافر، أو مسح في السفر ثم أقام، أتم مسح مقيم، لأنها عبادة يختلف حكمها بالحضر والسفر، فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكم كالصلاة، وإن مسح المسافر أكثر من يوم وليلة، ثم أقام، انقضت مدته في الحال. وإن شك هل بدأ المسح في الحضر، أو في السفر بنى على مسح الحضر، لأن الأصل الغسل والمسح رخصة، فإذا شككنا في شرطها رجعنا إلى الأصل. وإن لبس وأحدث، وصلى الظهر ثم شك هل مسح قبل الظهر أو بعدها، وقلنا: ابتداء المدة من حين المسح بنى الأمر في المسح على أنه قبل الظهر، وفي الصلاة على أنه مسح بعدها، لأن الأصل بقاء الصلاة، في ذمته، ووجوب غسل الرجل فرددنا كل واحد منهما إلى أصله.
فصل:
والسنة أن يمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه، فيضع يديه مفرجتي الأصابع على(1/75)
أصابع قدميه، ثم يجرهما إلى ساقيه، لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين على ظاهرهما» ، حديث حسن صحيح. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خفيه» . رواه أبو داود.
فإن اقتصر على مسح الأكثر من أعلاه أجزأه، وإن اقتصر على مسح أسفله لم يجزه لأنه ليس محلا للمسح أشبه الساق.
[فصل في نواقض المسح على الخفين]
فصل:
إذا انقضت مدة المسح، أو خلع خفيه، أو أحدهما بعد المسح، بطلت طهارته في أشهر الروايتين، ولزمه خلعهما، لأن المسح أقيم مقام الغسل، فإذا زال بطلت الطهارة في القدمين، فتبطل في جميعها لكونها لا تتبعض.
والثانية، يجزئه غسل قدميه، لأنه زال بدل غسلهما فأجزأه المبدل كالمتيمم يجد الماء. وإن أخرج قدمه إلى ساق الخف، بطل المسح، لأن استباحة المسح تعلقت باستقرارهما، فبطلت بزواله كاللبس.
وإن مسح على الخف الفوقاني، ثم نزعه، بطل مسحه، ولزمه نزع التحتاني، لأنه زال الممسوح عليه، فأشبه المنفرد.
[فصل في المسح على العمامة]
فصل:
في المسح على العمامة: ويجوز المسح على العمامة لما روى المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومسح على الخفين والعمامة» . حديث [حسن](1/76)
صحيح. وعن عمرو بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على عمامته وخفيه» . رواهما البخاري. وروى الخلال بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله. ولأن الرأس عضو سقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين. ويشترط أن تكون ساترة لجميع الرأس إلا ما جرت العادة بكشفه، لأنه جرت العادة بكشفه في العمائم، فعفي عنه بخلاف بعض القدم، ويشترط أن تكون لها ذؤابة أو تكون تحت الحنك، لأن ما لا ذؤابة لها ولا حنك تشبه عمائم أهل الذمة، وقد نهي عن التشبه بهم، فلم تستبح بها الرخصة، كالخف المغصوب، فإن كانت ذات حنك جاز المسح عليها، وإن لم يكن لها ذؤابة، لأنها تفارق عمائم أهل الذمة.
وإن أرخى لها ذؤابة، ولم يتحنك، ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز المسح عليها لذلك.
والثاني: لا يجوز، لأنه يروى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بالتلحي ونهى عن الاقتعاط» ، قال أبو عبيد: الاقتعاط أن لا يكون تحت الحنك منها شيء.
فصل:
وحكمها في التوقيت، واشتراط تقديم الطهارة، وبطلان الطهارة بخلعها،(1/77)
كحكم الخف لأنها أحد الممسوحين على سبيل البدل، وفيما يجزئه مسحه منها؟ روايتان:
إحداهما: مسح أكثرها لما ذكرنا.
والثاني: يلزمه استيعابها، لأنها بدل من جنس المبدل، فاعتبر كونه مثله، كما لو عجز عن قراءة الفاتحة، وقدر على قراءة غيرها اعتبر أن يكون بقدرها، ولو عجز عن القراءة فأبدلها بالتسبيح لم يعتبر كونه بقدرها. وإن خلع العمامة بعد مسحها. وقلنا لا يبطل الخلع الطهارة. لزمه مسح رأسه، وغسل قدميه، ليأتي بالترتيب.
وإن قلنا بوجوب استيعاب مسح الرأس، فظهرت ناصيته، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه مسحها معه، لأن المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين» . ولأنه جزء من الرأس ظاهر، فلزم مسحه، كما لو ظهر سائر رأسه.
والثاني: لا يلزمه، لأن الفرض تعلق بالعمامة، فلم يجب مسح غيرها، كما لو ظهرت أذناه.
وإن انتقض من العمامة كور، ففيه روايتان:
إحداهما: يبطل المسح لزوال الممسوح عليه.
والأخرى: لا يبطل، لأن العمامة باقية، أشبه كشط الخف مع بقاء البطانة.(1/78)
فصل:
ولا يجوز المسح على الكلوتة ولا وقاية المرأة لأنها لا تستر جميع الرأس، ولا يشق نزعها، فأما القلانس المبطنات، كدنيات القضاة والنوميات، وخمار المرأة، ففيها روايتان:
إحداهما: يجوز المسح عليها؛ لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مسح على قلنسوته. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن شاء حسر عن رأسه، وإن شاء مسح على قلنسوته وعمامته. وكانت أم سلمة تمسح على الخمار. وقال الخلال: قد روي المسح على القلنسوة من رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأسانيد صحاح، واختاره لأنه ملبوس للرأس معتاد أشبه العمامة.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يشق نزع القلنسوة، ولا يشق على المرأة المسح من تحت خمارها، فأشبه الكلوتة والوقاية.
[فصل في المسح على الجبيرة]
فصل:
ويجوز المسح على الجبائر الموضوعة على الكسر، لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «انكسرت إحدى زندي فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أمسح عليها» . رواه ابن ماجه، ولأنه ملبوس يشق نزعه، فجاز المسح عليه كالخف، ولا إعادة على الماسح لما ذكرنا.(1/79)
ويشترط أن لا يتجاوز بالشد موضع الحاجة لأن المسح عليها إنما جاز للضرورة، فوجب أن يتقيد الجواز بموضع الضرورة.
وتفارق الجبيرة الخف في ثلاثة أشياء:
أحدها: أنه يجب مسح جميعها، لأنه مسح للضرورة أشبه التيمم، ولأن استيعابها بالمسح لا يضر بخلاف الخف.
الثاني: أن مسحها لا يتوقف، لأنه جاز لأجل الضرورة فيبقى ببقائه.
الثالث: أنه يجوز في الطهارة الكبرى، لأنه مسح أجيز للضرورة أشبه التيمم.
وفي تقدم الطهارة روايتان:
إحداهما: يشترط لأنه حائل منفصل يمسح عليه، أشبه الخف، فإن لبسها على غير طهارة، أو تجاوز بشدها موضع الحاجة، وخاف الضرر بنزعها تيمم لها، كالجريح العاجز عن غسل جرحه.
والثانية: لا يشترط، لأنه مسح أجيز للضرورة، فلم يشترط تقدم الطهارة له كالتيمم.
فصل: ولا فرق بين الجبيرة على كسر، أو جرح يخاف الضرر بغسله؛ لأنه موضع يحتاج إلى الشد عليه، فأشبه الكسر، ولو وضع على الجرح دواء، وخاف الضرر(1/80)
بنزعه، مسح عليه، نص عليه. وقد روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، فكان يتوضأ عليها.
[باب نواقض الطهارة الصغرى]
وهي ثمانية: الخارج من السبيلين، وهو نوعان:
معتاد فينقض بلا خلاف، لقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن من غائط وبول ونوم» وقوله: «فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وقال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» متفق عليه.
النوع الثاني: نادر كالحصى والدود والشعر والدم، فينقض أيضا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال للمستحاضة: «تتوضأ عند كل صلاة» رواه أبو داود، ودمها غير معتاد، ولأنه خارج من السبيل، أشبه المعتاد، ولا فرق بين القليل والكثير.
فصل:
الثاني: خروج النجاسة من سائر البدن، وهو نوعان:(1/81)
غائط وبول فينقض قليله وكثيره، لدخوله في النصوص المذكورة.
الثاني: دم وقيح وصديد وغيره، فينقض كثيره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال لفاطمة بنت أبي حبيش: «إنه دم عرق فتوضئي لكل صلاة» رواه الترمذي، فعلل بكونه دم عرق، وهذا كذلك، ولأنها نجاسة خارجة من البدن، أشبهت الخارج من السبيل. ولا ينقض يسيره لقول ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشا فعليه الإعادة، قال الإمام أحمد: عدة من الصحابة تكلموا فيه، ابن عمر عصر بثرة فخرج دم، فصلى ولم يتوضأ، وابن أبي أوفى عصر دملا، وذكر غيرهما، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا.
وظاهر مذهب أحمد أنه لا حد للكثير إلا ما فحش، لقول ابن عباس.
وقال ابن عقيل: إنما يعتبر الفاحش في نفوس أوساط الناس، لا المتبذلين، ولا الموسوسين، كما رجعنا في يسير اللقطة الذي لا يجب تعريفه إلى ما لا تتبعه نفوس الأوساط.
وعن أحمد: أن الكثير شبر في شبر.
وعنه: قدر الكف فاحش.
وعنه: قدر عشر أصابع كثير، وما يرفعه بأصابعه الخمس يسير.(1/82)
قال الخلال: والذي استقر عليه قوله: إن الفاحش ما يستفحشه كل إنسان في نفسه.
فصل:
الثالث: زوال العقل، وهو نوعان:
أحدهما: النوم فينقض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن من غائط وبول ونوم» . وعنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه قال: «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» رواه أبو داود. ولأن النوم مظنة الحدث، فقام مقامه كسائر المظان. ولا يخلو من أربع أحوال:
أحدها: أن يكون مضجعا أو متكئا أو معتمدا على شيء، فينقض الوضوء قليله وكثيره، لما رويناه.
والثاني: أن يكون جالسا غير معتمد على شيء فلا ينقض قليله، لما روى أنس «أن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا ينتظرون العشاء فينامون قعودا ثم يصلون، ولا يتوضؤون» رواه مسلم بمعناه. ولأن النوم إنما نقض، لأنه مظنة لخروج الريح من غير علمه، ولا يحصل ذلك ههنا، لأنه يشق التحرز منه لكثرة وجوده من منتظري الصلاة، فعفي عنه، وإن كثر واستثقل، نقض، لأنه لا يعلم بالخارج مع استثقاله ويمكن التحرز منه.
الحال الثالث: القائم، ففيه روايتان:
إحداهما: إلحاقه بحالة الجلوس، لأنه في معناه.(1/83)
والثانية: ينقض يسيره، لأنه لا يتحفظ حفاظ الجالس.
الرابع: الراكع والساجد، وفيه روايتان:
أولاهما: أنه كالمضطجع لأنه ينفرج محل الحدث، فلا يتحفظ، فأشبه المضطجع.
والثانية: أنه كالجالس، لأنه على حال من أحوال الصلاة، أشبه الجالس.
والمرجع في اليسير والكثير إلى العرف، ما عد كثيرا فهو كثير، وما لا فلا، لأنه لا حد له في الشرع فيرجع فيه إلى العرف، كالقبض والإحراز، وإن تغير عن هيئته انتقض وضوءه لأنه دليل على كثرته استثقال فيه.
النوع الثاني: زوال العقل بجنون أو إغماء أو سكر ينقض الوضوء، لأنه لما نص على نقضه بالنوم نبه على نقضه بهذه الأشياء، لأنها أبلغ في إزالة العقل، ولا فرق بين الجالس وغيره، والقليل والكثير، لأن صاحب هذه الأمور لا يحس بحال، بخلاف النائم فإنه إذا نبه انتبه، وإن خرج منه شيء قبل استثقاله في نومه أحس به.(1/84)
فصل:
الرابع: أكل لحم الجزور فينقض الوضوء، لما روى جابر بن سمرة «أن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: " إن شئت توضأ، وإن شئت فلا تتوضأ " قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: " نعم توضأ من لحوم الإبل» رواه مسلم. قال أبو عبد الله: فيه حديثان صحيحان عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حديث البراء بن عازب، وجابر بن سمرة. ولا فرق بين قليله وكثيره، ونيئه ومطبوخه، لعموم الحديث.
وعنه في من أكل وصلى ولم يتوضأ: إن كان يعلم أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بالوضوء منه، فعليه الإعادة، وإن كان جاهلا فلا إعادة عليه.(1/85)
وفي اللبن روايتان:
إحداهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم.
والثانية: ينقض، لما روى أسيد بن حضير أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «توضؤوا من لحوم الإبل وألبانها» رواه أحمد في المسند.
وفي الكبد والطحال، وما لا يسمى لحما وجهان:
أحدهما: لا ينقض؛ لأنه ليس بلحم.
والثاني: ينقض، لأنه من جملته، فأشبه اللحم، وقد نص الله على تحريم لحم الخنزير فدخل فيه سائر أجزائه.
ولا ينقض الوضوء مأكول غير لحم الإبل، ولا ما غيرت الناس لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في لحم الغنم: «وإن شئت فلا توضأ» ويروى أن آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ترك الوضوء مما غيرت النار» . رواه أبو داود.(1/86)
فصل:
والخامس: لمس الذكر فيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا ينقض [الوضوء] ، لما روى قيس بن طلق [عن أبيه] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، سئل عن الرجل يمس ذكره، وهو في الصلاة. قال: " هل هو إلا بضعة منك» رواه أبو داود. ولأنه جزء من جسده، أشبه يده.
والثانية: ينقض وهي أصح، لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» . قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو حديث صحيح. وروى أبو هريرة نحوه، وهو متأخر عن حديث طلق، لأن في حديث طلق أنه قدم، وهم يؤسسون المسجد، وأبو هريرة قدم حين فتحت خيبر فيكون ناسخا له.
والثالثة: إن قصد إلي مسه نقض، ولا ينقض من غير قصد، لأنه لمس فلم ينقض بغير قصد كلمس النساء.
وفي لمس حلقة الدبر، ومس المرأة فرجها روايتان:
إحداهما: لا ينقض لأن تخصيص الذكر بالنقض دليل على عدمه من غيره.(1/87)
والثانية: ينقض، لأن أبا أيوب وأم حبيبة قالا: سمعنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» قال أحمد: حديث أم حبيبة صحيح. وهذا عام؛ ولأنه سبيل فأشبه الذكر.
وحكم لمسه فرج غيره حكم لمس فرج نفسه صغيرا كان أو كبيرا، لأن نصه على نقض الوضوء بمس ذكر نفسه، ولم يهتك به حرمة وهذا تنبيه على نقضه بمسه من غيره.
وفي مس الذكر المقطوع وجهان:
أحدهما: لا ينقض كمس يد المرأة المقطوعة.
والآخر: ينقض، لأنه مس ذكر. وإن انسد المخرج وانفتح غيره لم ينقض مسه، لأنه ليس بفرج. ولا ينقض مس فرج البهيمة، لأنه لا حرمة لها، ولا مس ذكر الخنثى المشكل، ولا قبله، لأنه لا يتحقق كونه فرجا. وإن مسهما معا نقض لأن أحدهما فرج. وإن مس رجل ذكره لشهوة نقض، لأنه إن كان ذكرا فقد مس ذكره، وإن كانت امرأة فقد مسها لشهوة. وإن مست امرأة قبله لشهوة فكذلك(1/88)
لما ذكرنا. واللمس الذي ينقض هو اللمس بيده إلى الكوع، ولا فرق بين ظهر الكف وبطنه، لأن أبا هريرة روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينهما شيء فليتوضأ» من " المسند "، ورواه الدارقطني بمعناه. واليد المطلقة تتناول اليد إلى الكوع لما نذكره في التيمم.
ولا ينقض غير الفرج كالعانة والأنثيين وغيرهما، لأن تخصيص الفرج به دليل على عدمه فيما سواه.
فصل:
السادس: لمس النساء وهو أن تمس بشرته بشرة أنثى، وفيه ثلاث روايات:
إحداهن: ينقض بكل حال، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]
الثانية: لا ينقض لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل عائشة ثم صلى ولم يتوضأ» . رواه أبو داود، وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «فقدت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجعلت أطلبه فوقعت يدي على قدميه، وهما منصوبتان، وهو ساجد» . رواه النسائي ومسلم. ولو بطل وضوءه لفسدت صلاته.(1/89)
والثالثة: هي ظاهر المذهب أنه ينقض إذا كان لشهوة، ولا ينقض لغيرها جمعا بين الآية والأخبار، ولأن اللمس ليس بحدث، إنما هو داع إلى الحدث، فاعتبرت فيه الحالة التي تدعو فيها إلى الحدث كالنوم.
ولا فرق بين الصغيرة والكبيرة، وذوات المحارم وغيرهن، لعموم الأدلة فيه.
وإن لمست امرأة رجلا ففيه روايتان:
إحداهما: أنها كالرجل، لأنها ملامسة توجب طهارة فاستوى فيها الرجل والمرأة كالجماع.
والثانية: لا ينقض وضوءها، لأن النص لم يرد فيها، ولا يصح قياسها على المنصوص، لأن اللمس منه أدعى إلى الخروج.
وهل ينقض وضوء الملموس؟ فيه روايتان.
وإن لمس سن امرأة أو شعرها أو ظفرها لم ينقض وضوءه. لأنه لا يقع عليها(1/90)
الطلاق بإيقاعه عليه، وإن لمس عضوا مقطوعا، لم ينقض وضوءه، لأنه لا يقع عليه اسم امرأة، وإن مس غلاما أو بهيمة أو مست امرأة امرأة، لم ينقض الوضوء، لأنه ليس محلا لشهوة الآخر شرعا.
فصل:
السابع: الردة عن الإسلام، وهو أن ينطق بكلمة الكفر، أو يعتقدها، أو يشك شكا يخرجه عن الإسلام، فينتقض وضوءه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ولأن الردة حدث لقول ابن عباس: الحدث حدثان وأشدهما حدث اللسان. فيدخل في عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» متفق عليه. ولأنها طهارة من حدث، فأبطلتها الردة كالتيمم.
فصل:
الثامن: غسل الميت. عده أصحابنا من نواقض الوضوء، لأن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء. وقال أبو هريرة: أقل ما فيه الوضوء، لأنه مظنة لمس الفرج فأقيم مقامه كالنوم مع الحدث. ولا فرق بين الميت المسلم، والكافر، والصغير والكبير في ذلك، لعموم الأمر والمعنى.(1/91)
وكلام أحمد يدل على أنه مستحب غير واجب، فإنه قال: أحب إلي أن يتوضأ. وعلل نفي وجوب الغسل من غسل الميت بكون الحديث موقوفا على أبي هريرة والوضوء كذلك، ولأنه ليس بمنصوص عليه، ولا هو في معنى المنصوص، والأصل عدم وجوبه، فيبقى عليه، وما عدا هذا لا ينقض بحال.
فصل:
ومن تيقن الطهارة وشك هل أحدث أم لا فهو على طهارته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه هل خرج شيء أو لم يخرج؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» رواه مسلم والبخاري، ولأن اليقين لا يزال بالشك.
وإن تيقن الحدث، شك في الطهارة، فهو محدث لذلك.
وإن تيقنهما، وشك في السابق منهما نظر في حاله قبلهما فإن كان متطهرا فهو محدث الآن لأنه تيقن زوال تلك الطهارة، بحدث وشك هل زال أم لا، فلم يزل يقين الحدث بشك الطهارة، وإن كان قبلهما محدثا، فهو الآن متطهر لما ذكرنا في التي قبلها.
فصل:
ولا تشترط الطهارتان معا إلا لثلاثة أشياء:
الصلاة: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ» .
والطواف: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام» رواه(1/92)
الشافعي في مسنده.
ومس المصحف: لقول الله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] . وفي كتاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم. ولا بأس بحمله في كمه أو بعلاقته، وتصفحه بعود، لأنه ليس بمس له، ولذلك لو فعله بامرأة لم ينتقض وضوءه.
وإن مس المحدث كتاب فقه، أو رسالة فيها آي من القرآن جاز لأنه لا يسمى مصحفا، والقصد منه غير القرآن، ولذلك «كتب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قيصر في رسالته: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية» متفق عليه. وكذلك إن مس ثوبا مطرزا بآية من القرآن.
وإن مس درهما مكتوبا عليه آية فكذلك في أحد الوجهين لما ذكرنا.
والثاني: لا يجوز لأنه معظم ما فيه من القرآن.
وفي مس الصبيان ألواحهم، وحملها على غير طهارة وجهان:
أحدهما: لا يجوز؛ لأنهم محدثون، فأشبهوا البالغين.(1/93)
والثاني: يجوز؛ لأن حاجتهم ماسة إلى ذلك ولا تتحفظ طهارتهم، فأشبه الدرهم.
ومن كان طاهرا وبعض أعضائه نجس فمس المصحف بالعضو الطاهر جاز، لأن حكم النجاسة لا يتعدى محلها بخلاف الحدث.
فصل:
ويستحب تجديد الطهارة، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ لكل صلاة» طلبا للفضل. رواه البخاري.
" «وصلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد» ليبين الجواز. رواه مسلم.
[باب آداب التخلي]
يستحب لمن أراد قضاء الحاجة أن يقول: بسم الله. لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الخلاء أن(1/94)
يقول: بسم الله» رواه ابن ماجه والترمذي. ويقول: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان إذا دخل الخلاء قال ذلك. متفق عليه.
فإذا خرج قال: «غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» " لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج من الخلاء قال: " غفرانك» حديث حسن. وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا خرج من الخلاء قال: «الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني» رواه ابن ماجه، ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج، لأن اليسرى للأذى واليمنى لما سواه، ويضع ما فيه ذكر الله أو قرآن(1/95)
صيانة له، فإذا كان ذلك دراهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرجو أن لا يكون به بأس. قال: والخاتم فيه اسم الله يجعله في بطن كفه، ويدخل الخلاء.
فصل:
وإن كان في الفضاء أبعد لما روى جابر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد» .
ويستتر عن العيون، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستدبره» .
ويرتاد لبوله مكانا رخوا لئلا يترشش عليه. ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه كان إذا أراد حاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض» أخرج هذه الأحاديث الثلاثة أبو داود.
ويبول قاعدا لأنه أستر له، وأبعد من أن يترشش عليه.
فصل:
ولا يجوز استقبال القبلة في الفضاء بغائط ولا بول، لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا ". قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله» ، متفق عليه.(1/96)
وفي استدبارها روايتان:
إحداهما: لا يجوز، لهذا الحديث.
والأخرى: يجوز، لما روى ابن عمر قال: «رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسا على حاجته، مستقبل الشام، مستدبر الكعبة.» متفق عليه.
وفي استدبارها في البنيان روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم النهي.
والثانية: يجوز، لما روى عراك بن مالك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «ذكر عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن قوما يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: " أو قد فعلوها؟ ! استقبلوا بمقعدتي القبلة» رواه الإمام أحمد وابن ماجه. قال أحمد: أحسن حديث يروى في الرخصة حديث عراك، وإن كان مرسلا فإن مخرجه حسن. سماه مرسلا، لأن عراكا لم يسمع من عائشة. وعن مروان الأصفر أنه قال: «أناخ ابن عمر بعيره مستقبل القبلة، ثم جلس يبول إليه فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ قال: بلى إنما نهي عن هذا في الفضاء أما إذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس» . رواه أبو داود.
ويكره أن يستقبل الشمس والقمر تكريما لهما، وأن يستقبل الريح لئلا ترد(1/97)
البول عليه.
فصل:
ويكره أن يبول في شق أو ثقب، لما روى عبد الله بن سرجس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى أن يبال في الجحر» رواه أبو داود. ولأنه لا يأمن أن يكون مسكنا للجن، أو يكون فيه دابة تلسعه، ويكره البول في طريق أو ظل ينتفع به، أو مورد ماء، لما روى معاذ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل» رواه أبو داود، ويكره البول في موضع تسقط فيه الثمرة لئلا تتنجس به، والبول في المغتسل، لما روى عبد الله بن مغفل قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبول الرجل في مغتسله» رواه ابن ماجه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن صب عليه الماء فجرى في البالوعة فذهب فلا بأس.
فصل:
يكره أن يتكلم على البول أو يسلم، أو يذكر الله تعالى بلسانه «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم عليه رجل، وهو يبول، فلم يرد عليه حتى توضأ ثم قال: " كرهت أن أذكر الله إلا على طهر» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه. ويكره الإطالة أكثر من(1/98)
الحاجة، لأنه يقال: إن ذلك يدمي الكبد، ويأخذ منه الباسور. ويتوكأ في جلوسه على الرجل اليسرى، لما روى سراقة بن مالك قال: «علمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى، وننصب اليمنى.» رواه الطبراني في معجمه، ولأنه أسهل لخروج الخارج، ويتنحنح ليخرج ما تم، ثم يسلت من أصل ذكره فيما بين المخرجين، ثم ينتره برفق ثلاثا فإذا أراد الاستنجاء تحول من موضعه لئلا يرش على نفسه.
فصل:
والاستنجاء واجب من كل خارج من السبيل معتادا كان أو نادرا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المذي: «يغسل ذكره ويتوضأ» وقال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه» رواه أبو داود عن ابن أبي أوفى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والنسائي وأحمد والدارقطني وقال: إسناده حسن صحيح. ولأن المعتاد نجاسة لا مشقة في إزالتها فلم تصح الصلاة معها كالكثير، والنادر لا يخلو من رطوبة تصحبه غالبا، ولا يجب من الريح، لأنها ليست نجسة، ولا يصحبها نجاسة، وقد روي: «من استنجى من الريح فليس منا» رواه الطبراني في المعجم الصغير.
فصل:
وإن تعدت النجاسة المخرج بما لم تجر العادة به، كالصفحتين ومعظم الحشفة لم يجزئه إلا الماء، لأن ذلك نادر، فلم يجز فيه المسح، كيده وإن لم يتجاوز قدر العادة جاز بالماء والحجر، نادرا كان أو معتادا، لحديث ابن أبي أوفى، ولأن النادر(1/99)
خارج يوجب الاستنجاء أشبه المعتاد. والأفضل الجمع بين الماء والحجر يبدأ بالحجر، لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء من أثر الغائط والبول، فإني أستحييهم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يفعله» . حديث صحيح. ولأنه أبلغ في الإنقاء وأنظف. ولأن الحجر يزيل عين النجاسة، فلا تباشرها يده، فإن اقتصر على أحدهما جاز، والماء أفضل، لأن أنسا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج لحاجة أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء، يعني: يستنجي به» متفق عليه. ولأنه يزيل عين النجاسة وأثرها، ويطهر المحل.
وإن اقتصر على الحجر أجزأ بشرطين:
أحدهما: الإنقاء وهو أن لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء بحيث يخرج الآخر نقيا.
والثاني: استيفاء ثلاثة أحجار، لقول سلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لقد نهانا - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم» . رواه مسلم. وإن كان الحجر كبيرا فمسح بجوانبه ثلاث مسحات أجزأه. ذكره الخرقي، لأن المقصود عدد المسحات دون عدد الأحجار بدليل أنا لم نقتصر على الأحجار بل عديناه إلى ما في معناه من الخشب والخرق.
وقال أبو بكر لا يجزئه اتباعا للفظ الحديث، وقال: لا يجزئه الاستجمار(1/100)
بغير الأحجار، لأن الأمر ورد بها على الخصوص، ولا يصح، لأن في سياقه «وأن نستنجي برجيع أو عظم» فيدل على أنه أراد الحجر، وما في معناه، ولولا ذلك لم يخص هذين بالنهي، وروى طاوس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فليستطب بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاثة حثيات من تراب» رواه الدارقطني. ولأنه نص على الأحجار لمعنى معقول، فيتعداه الحكم كنصه على الغضب في منع القضاء.
فصل:
ويجوز الاستجمار بكل جامد طاهر منق، غير مطعوم، لا حرمة له، ولا متصل بحيوان، فيدخل فيه الحجر، وما قام مقامه من الخشب والخرق والتراب، ويخرج منه المائع، لأنه يتنجس بإصابة النجاسة، فيزيد المحل تنجسا، ويخرج منه النجس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ألقى الروثة، وقال: «إنها ركس» رواه البخاري. ولأنه يكسب المحل نجاسة. فإن استجمر به، والمحل رطب، لم يجزه الاستجمار بعده، لأن المحل صار نجسا بنجاسة واردة عليه، فلزم غسله، كما لو تنجس بذلك في حال طهارته، ويخرج ما لا ينقي كالزجاج والفحم الرخو لأن الإنقاء شرط، ولا يحصل به، ويخرج المطعومات والروث والرمة، وإن كانا ظاهرين لما روى ابن مسعود أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «لا تستنجوا بالروث، ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن» رواه مسلم. علل(1/101)
النهي بكونه زادا للجن فزادنا أولى. ويخرج ما له حرمة كالورق المكتوب، لأن له حرمة، أشبه المطعوم، ويخرج منه ما يتصل بحيوان، كيده، وذنب بهيمة وصوفها المتصل بها، لأنه ذو حرمة، فأشبه سائر أعضاءها. وإن استجمر بما نهي عنه لم يصح، لأن الاستجمار رخصة فلا تستباح بالمحرم كسائر الرخص.
فصل:
ولا يستجمر بيمينه، ولا يستعين بها فيه، لحديث سلمان وروى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه» متفق عليه. فيأخذ ذكره بيساره، ويمسح به الحجر أو الأرض، فإن(1/102)
كان الحجر صغيرا أمسكه بعقبيه، أو بإبهامي قدميه، فمسح عليه، فإن لم يمكنه، أخذ الحجر بيمينه، والذكر بيساره، فمسحه على الحجر.
ولا يكره الاستعانة باليمنى في الماء، لأن الحاجة داعية إليه، فإذا استجمر بيمينه أجزأه، لأن الاستجمار بالحجر لا باليد، فلم يقع النهي على ما يستنجى به.
فصل:
وكيف حصل الإنقاء في الاستجمار أجزأه إلا أن المستحب أن يمر حجرا من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها، ثم يمره على صفحته اليسرى حتى يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى كذلك، ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحتين، وحجرا للمسربة» رواه الدارقطني، وقال إسناد حسن. ويبدأ بالقبل لينظفه لئلا تتنجس يده به عند الاستجمار في الدبر، والمرأة مخيرة في البداءة بأيهما شاءت لعدم ذلك فيها.
فصل:
فإن توضأ قبل الاستنجاء ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه، لأنها طهارة يبطلها الحدث، فاشترط تقديم الاستنجاء عليها كالتيمم.
والثانية: يصح لأنها نجاسة فلم يشترط تقديم إزالتها كالتي على ساقه، فعلى هذه الرواية إن قدم التيمم على الاستجمار ففيه وجهان:
أحدهما: يصح قياسا على الوضوء.(1/103)
والثاني: لا يصح لأنه لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، فلا تباح مع قيام المانع. وإن تيمم وعلى بدنه نجاسة في غير الفرج، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح قياسا على نجاسة الفرج.
والثاني: يصح لأنها نجاسة لم توجب التيمم فلم تمنع صحته كالتي على ثوبه.
[باب ما يوجب الغسل]
والموجب له في حق الرجل ثلاثة أشياء:
الأول: إنزال المني، وهو الماء الدافق تشتد الشهوة عند خروجه، ويفتر البدن بعده. وماء الرجل أبيض ثخين، وماء المرأة أصفر رقيق، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر» رواه مسلم. فيجب الغسل بخروجه في(1/104)
النوم واليقظة، «لأن أم سليم قالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : " نعم إذا رأت الماء» متفق عليه. فإن خرج لمرض من غير شهوة لم يوجب، لأن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وصف المني الموجب بأنه غليظ أبيض، ولا يخرج في المرض إلا رقيقا. فإن احتلم فلم ير بللا فلا غسل عليه، لحديث أم سليم. وإن رأى منيا ولم يذكر احتلاما فعليه الغسل، لما روت عائشة قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلاما، فقال: " يغتسل» ". «وسئل عن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد البلل، فقال: " لا غسل عليه» رواه أبو داود. فإن وجد منيا في ثوب ينام فيه هو وغيره، فلا غسل عليه، لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
وإن لم يكن ينام فيه غيره، وهو ممن يمكن أن يحتلم كابن اثني عشر سنة فعليه الغسل،(1/105)
وإعادة الصلاة من أحدث نومة نامها، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى في ثوبه منيا بعد أن صلى، فاغتسل وأعاد الصلاة.
فصل:
والمذي: ماء رقيق يخرج بعد الشهوة متسببا لا يحس بخروجه، فلا غسل فيه، ويجب منه الوضوء، لما روى سهل بن حنيف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فكنت أكثر منه الاغتسال، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وسألته عنه، فقال: " يجزيك من ذلك الوضوء» ، حديث صحيح. وهل يوجب غسل الذكر والأنثيين؟ على روايتين:
إحداهما: لا يوجب، لحديث سهل.
والثانية: يوجب لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنت رجلا مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمكان ابنته، فأمرت المقداد فسأله، فقال: " يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ» رواه أبو داود.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، فليس فيه إلا الوضوء، لأن الشرع لم يرد فيه بزيادة عليه.
فإن خرج منه شيء ولم يدر، أمنى هو أو غيره؟ في يقظة فلا غسل فيه، لأن المني الموجب للغسل يخرج دفقا بشهوة، فلا يشتبه بغيره، وإن كان في نوم، وكان نومه عقيب شهوة بملاعبة أهله، أو تذكر فهو مذي، لأن ذلك سبب المذي، والظاهر أنه(1/106)
مذي، وإن لم يكن كذلك اغتسل، لحديث عائشة في الذي يجد البلل، ولأن خروج المني في النوم معتاد، وغيره نادر، فحمل الأمر على المعتاد.
فصل:
وإن أحس بانتقال المني من ظهره، فأمسك ذكره فلم يخرج، ففيه روايتان:
إحداهما: لا غسل عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأت الماء» .
والثانية: يجب، لأنه خرج من مقره، أشبه ما لو ظهر.
فإن اغتسل فخرج بعد ذلك، وجب الغسل على الرواية الأولى، لأن الواجب متعلق بخروجه، ولم يجب على الثانية، لأنه تعلق بانتقاله، وقد اغتسل له.
وعنه: إن خرج قبل البول، وجب الغسل، لأنا نعلم أنه المني المنتقل، فإن خرج بعده لم يجب لأنه يحتمل أنه غيره، وهو خارج لغير شهوة، وفي فضلة المني الخارجة بعد الغسل الروايات الثلاث.
فصل:
والثاني: التقاء الختانين، وهو تغيب الحشفة في الفرج يوجب الغسل وإن عري عن الإنزال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جلس بين شعبها الأربع(1/107)
ومس الختان الختان فقد وجب الغسل» رواه مسلم. وختان الرجل: الجلدة التي تبقى بعد الختان، وختان المرأة، جلدة كعرف الديك في أعلى الفرج يقطع منها في الختان، فإذا غابت الحشفة في الفرج تحاذى ختاناهما فيقال: التقيا وإن لم يتماسا.
ويجب الغسل في الإيلاج في كل فرج، قبل أو دبر، من آدمي، أو بهيمة، حي أو ميت، لأنه فرج أشبه قبل المرأة.(1/108)
فإن أولج من قبل الخنثى المشكل، فلا غسل عليهما لأنه لا يتيقن كونه فرجا فلا يجب الغسل بالشك.
فصل:
والثالث: إسلام الكافر وفيه روايتان:
إحداهما: يوجب الغسل، اختارها الخرقي لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ثمامة بن أثال، وقيس بن عاصم أن يغتسلا حين أسلما، ولأن الكافر لا يسلم من حدث لا يرتفع حكمه باغتساله، فقامت مظنة ذلك مقامه، ولا يلزمه أن يغتسل للجنابة، لأن الحكم تعلق بالمظنة، فسقط حكم المظنة كالمشقة في السفر.
والثانية: لا غسل عليه اختارها أبو بكر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمعاذ: «إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات» متفق عليه. ولم يأمرهم بالغسل، ولو كان أول الفروض لأمر به، ولأنه أسلم العدد الكثير، والجم الغفير، فلو أمروا بالغسل لنقل نقلا متواترا.(1/109)
فإن أجنب في حال كفره احتمل أن لا يجب الغسل عليه لما ذكرناه، واحتمل أن يجب، وهو قول أبي بكر، لأن حكم الحدث باق.
فصل:
فأما المرأة فيجب من حقها الأغسال المذكورة، وتزيد بالغسل من الحيض، والنفاس، ونذكره في بابه.
ولا يجب الغسل بالولادة العارية عن دم، لأن الإيجاب من الشرع، ولم يوجب لها، ولا هي في معنى المنصوص عليه.
وعنه يجب بها، لأنها لا تكاد تعرى من نفاس موجب، فكانت مظنة له، فأقيمت مقامه كاتقاء الختانين مع الإنزال.
فصل:
ولا يجب الغسل بغير ذلك، من غسل ميت، أو إفاقة مجنون، أو مغمى عليه، لما ذكرناه.
[فصل فيما يحرم على الجنب]
فصل:
ومن لزمه الغسل حرم عليه ما حرم على المحدث، ويحرم عليه قراءة آية(1/110)
فصاعدا، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجبه. أو قال: يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة» . رواه أبو داود. وفي بعض آية روايتان:
إحداهما: يحرم قراءته، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تقرأ الحائض والجنب شيئا من القرآن» رواه أبو داود.
والأخرى: يجوز، لأن الجنب لا يمنع من قول: بسم الله، والحمد لله، وذلك بعض آية.
فصل:
ويحرم عليه اللبث في المسجد لقول الله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ، يعني مواضع الصلاة. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا أحل المسجد لحائض، ولا جنب» رواه أبو داود. ولا يحرم العبور في المسجد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43](1/111)
، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «ناوليني الخمرة من المسجد " قالت: إني حائض، قال: " إن حيضتك ليست في يدك» .
قال بعض أصحابنا: إذا توضأ الجنب حل له اللبث في المسجد، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كان أحدهم إذا أراد أن يتحدث في المسجد وهو جنب، توضأ ثم دخل فجلس فيه، ولأن الوضوء يخفف بعض حدثه فيزول بعض ما منعه.(1/112)
فصل:
ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة، لما روى ابن عمر «أن عمر قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: " نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد» متفق عليه. ويستحب له الوضوء إذا أراد أن يأكل أو يعود للجماع، ويغسل فرجه، فأما الحائض فلا يستحب لها شيء من ذلك، لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها، ولا يصح منها.
[باب صفة الغسل من الجنابة]
باب الغسل من الجنابة وهي على ضربين: كامل، ومجزئ.
الضرب الأول: الكامل، يأتي فيه بتسعة أشياء: النية، وهو أن ينوي الغسل للجنابة، أو استباحة ما لا يستباح إلا بالغسل، كقراءة القرآن، واللبث في المسجد ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثا قبل إدخالهما الإناء. ثم يغسل ما به من أذى، ويغسل فرجه وما يليه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات يروي بها أصول شعره، ويخلله بيده، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ثم يدلك بدنه بيده، وإن توضأ إلا غسل رجليه، ثم غسل قدميه آخرا، فحسن. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغسل من الجنابة على حديث عائشة، يعني قولها: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه، وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يخلل شعره بيديه، حتى إذا ظن أنه(1/113)
قد أروى بشرته، أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده» .
وقالت ميمونة: «وضع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضوء الجنابة، فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا، ثم تمضمض، واستنشق، وغسل وجهه، وذراعيه، ثم أفاض على رأسه، ثم غسل جسده، فأتيته بالمنديل فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» . متفق عليهما.
الضرب الثاني: المجزئ، وهو أن ينوي، ويعم بدنه وشعره بالغسل، والتسمية ههنا كالتسمية في الوضوء فيما ذكرنا، ويجب إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر وإن كان كثيفا، لحديث عائشة، ولا يجب نقضه إن كان مضفورا؛ لما روت أم سلمة قالت: «قلت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: " لا، إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين» رواه مسلم، ولا ترتيب الغسل، لأن الله تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يقدم بعض البدن على بعض لكن يستحب البداءة بما ذكرناه، والبداءة بغسل الشق الأيمن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب التيامن في طهوره، ولا موالاة فيه، لأنه طهارة لا ترتيب فيها فلم يكن فيها موالاة كغسل النجاسة.
فصل:
فأما غسل الحيض، فهو كغسل الجنابة سواء إلا أنه يستحب لها أن تأخذ شيئا(1/114)
من المسك أو طيب أو غيره، فتتبع به أثر الدم، ليزيل [زفورته] لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله عن الغسل من الحيض، فقال: " خذي فرصة من مسك، فتطهري بها " فقالت: كيف أتطهر(1/115)
بها؟ فقالت عائشة: قلت: تتبعي بها أثر الدم» . رواه مسلم. فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب، فإن لم تجد فالماء كاف.
وهل عليها نقض شعرها للغسل منه؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يجب، لأنه غسل واجب أشبه الجنابة.
والثانية: يجب، ليتيقن وصول الماء إلى ما تحته، وإنما عفي عنه في الجنابة، لأنه يتكرر فيشق النقض فيه، بخلاف الحيض.
فصل:
والأفضل تقديم الوضوء على الغسل، للخبر الوارد، فإن اقتصر على الغسل ونواهما أجزأه عنهما لقول الله تعالى: [ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ولم يأمر بالوضوء معه] ، ولأنهما عبادتان من جنس: صغرى وكبرى، فدخلت الصغرى في الكبرى في(1/116)
الأفعال دون النية، كالحج، والعمرة.
وعنه: لا يجزئه عن الحدث الأصغر حتى يتوضأ، لأنهما نوعان يجبان بسببين، فلم يدخل إحداهما في الآخر، كالحدود. وإن نوى إحداهما دون الأخرى، فليس له غيرها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وإنما لكل امرئ ما نوى» .
فصل:
ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا، ويتوضآ من إناء واحد، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد، يغرفان منه جميعا» ، متفق عليه. وقال ابن عمر: «كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد» ، رواه أبو داود، ويجوز للمرأة التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة، وللرجل التطهر بفضل طهور الرجل وفضل طهور المرأة ما لم تخل به.
فإن خلت به، ففيه وجهان:
إحداهما: يجوز أيضا، لما روت ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أجنبت فاغتسلت من جفنة، ففضلت فيها فضلة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليغتسل منه، فقلت: إني(1/117)
اغتسلت منه فقال: " إن الماء ليس عليه جنابة» رواه أبو داود، ولأنه ماء لم ينجس، ولم يزل عن إطلاقه، فأشبه فضله الرجل.
والثانية: لا يجوز للرجل التطهر به، لما روى الحكم بن عمرو قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة» ، حديث حسن. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: جماعة من الصحابة كرهوه ذكر منهم ابن عمر وعبد الله بن سرجس، وخص ما خلت به، لقول عبد الله بن سرجس: توضأ أنت ههنا، وهي ههنا، فأما إذا خلت به فلا تقربنه.
ومعنى الخلوة: أن لا يشاهدها إنسان تخرج بحضوره عن الخلوة في النكاح.
وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل.
وإنما تؤثر خلوتها في الماء اليسير، لأن النجاسة لا تؤثر في الكثير، فهذا أولى.
ولا يخرج الماء الذي خلت به المرأة عن إطلاقه. بل يجوز للنساء التطهر به من الحدث والنجاسة،(1/118)
وللرجل إزالة النجاسة به، لأن منع الرجل من الوضوء به تعبد، فوجب قصره على مورده.
وذكر القاضي أنه لا يزيل النجاسة، لأن ما لا يرفع الحدث لا يزيل النجس، كالخل.
وهذا لا يمكن القول بموجبه، فإن هذا يرفع حدث المرأة بخلاف الخل.
[باب التيمم]
التيمم طهارة بالتراب يقوم مقام الطهارة بالماء عند العجز عن استعماله، لعدم، أو مرض، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وروى عمار قال: «أجنبت فلم أجد الماء، فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، فذكرت ذلك له فقال: " إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا " ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه , ووجهه» . متفق عليه. والسنة في التيمم أن يضرب بيديه على الأرض ضربة(1/119)
واحدة، ثم يمسح بهما وجهه، ويديه إلى الكوعين، للخبر، ولأن الله تعالى أمر بمسح اليدين. واليد عند الإطلاق في الشرع تتناول اليد إلى الكوع، بدليل قَوْله تَعَالَى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] . وإن مسح يديه إلى المرفقين، فلا بأس، لأنه قد روي عن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وسواء فعل ذلك بضربتين أو أكثر. ويستحب تفريق أصابعه عند الضرب ليدخل الغبار فيما بينهما، وإن كان التراب ناعما فوضع اليدين عليه وضعا أجزأه، ويمسح جميع ما يجب غسله من الوجه، مما لا يشق، مثل باطن الفم، والأنف، وما تحت الشعور الخفيفة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} [المائدة: 6] وكيفما مسح بعد أن يستوعب الوجه والكفين إلى الكوعين، جاز لأن المستحب في الضربة الواحدة أن يمسح وجهه بباطن أصابع يديه، وظاهر كفيه بباطن راحتيه، وإن مسح بضربتين، مسح بأولاهما وجهه، وبالثانية يديه، فإن مسح إلى المرفقين، وضع بطون أصابع اليسرى على ظهور أصابع اليمنى، ثم يمرهما إلى مرفقيه، ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع، ويمر عليه، ويرفع إبهامه، فإن بلغ الكوع أمر إبهام يده اليسرى على إبهام يده اليمنى ثم مسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك، ثم مسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين أصابعه، وإن يممه غير جاز، كما يجوز أن يوضئه.
وإن أثارت الريح عليه ترابا، فمسح وجهه بما على يديه جاز، وإن مسح وجهه بما عليه لم يجز، لأن الله تعالى أمر بقصد الصعيد والمسح به، ويحتمل أن يجزئه إذا صمد للريح، لأنه بمنزلة مسح غيره له.(1/120)
[فصل في فرائض التيمم]
فصل:
وفرائض التيمم: النية، لما ذكرنا في الوضوء، ومسح الوجه والكفين، للأمر به، وترتيب اليدين على الوجه قياسا على الوضوء، وفي التسمية والموالاة روايتان، كالوضوء.
فأما النية، فهو أن ينوي استباحة ما لا يباح إلا به، فإن نوى صلاة مكتوبة أبيح له سائر الأشياء لأنه تابع لها، فيدخل في نية المتبوع، وإن نوى نفلا أو صلاة مطلقة، لم يبح له الفرض، لأن التيمم لا يرفع الحدث، وإنما تستباح به الصلاة، فلا يستبيح به الفرض حتى ينويه، وله قراءة القرآن لأن النافلة تتضمن القرآن، وليس له الجنازة المتعينة، لأنها فرض ولو كانت نفلا فله فعلها.
وإن نوى قراءة القرآن لم يكن له التنفل لأنه أعلى.
فإن نوى رفع الحدث لم يجزئه. لأن التيمم لا يرفع الحدث.
وعنه: ما يدل على أنه يرفع الحدث، فيكون حكمه حكم الوضوء في نيته.
ولا بد له من تعيين ما يتيمم له من الحدث الموجب للغسل، أو الوضوء أو النجاسة، فإن تيمم للحدث ونسي الجنابة، أو الجنابة ونسي الحدث، لم يجزئه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما لكل امرئ ما نوى» ولأن ذلك لا يجزئ في الماء وهو الأصل، ففي البدل أولى.
[فصل فيما يباح بالتيمم]
فصل:
ويجوز التيمم عن جميع الأحداث لظاهر الآية، وحديث عمار وروى عمران بن حصين «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم، فقال: " يا فلان، ما(1/121)
منعك أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء عندي، قال: عليك بالصعيد فإنك يكفيك» متفق عليه.
ويجوز التيمم للنجاسة على البدن، لأنها طهارة مشترطة للصلاة، فناب فيها التيمم، كطهارة الحدث.
واختار أبو الخطاب أنه يلزمه الإعادة إذا تيمم لها عند عدم الماء.
وقيل في وجوب الإعادة روايتان:
إحداهما: لا يجب، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «التراب كافيك ما لم تجد الماء» وقياسا على التيمم الحدث.
والأخرى: تجب الإعادة، لأنه صلى بالنجاسة، فلزمته الإعادة، كما لو تيمم.
ولا يجوز التيمم عن النجاسة في غير البدن، لأنها طهارة في البدن فلا تؤثر في غيره كالوضوء.
[فصل في شرائط التيمم]
فصل:
ولجواز التيمم ثلاث شروط:(1/122)
أحدها: العجز عن استعمال الماء، وهو نوعان:
أحدهما: عدم الماء، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] . ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإن وجدت الماء فأمسه جلدك» رواه أبو داود.
النوع الثاني: الخوف على نفسه باستعمال الماء، لمرض أو قرح يخاف باستعمال الماء تلفا أو زيادة مرض أو تباطؤ البرء أو شيئا فاحشا في جسمه، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ، وقَوْله تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] وإن وجد ماء يحتاج إلى شربه للعطش، أو شرب رفيقه أو بهائمه، أو بينه وبينه سبع أو عدو يخافه على نفسه أو ماله، أو خاف على ماله إن تركه وذهب إلى الماء، فله التيمم لأنه خائف الضرر باستعماله، فهو كالمريض. وإن خاف لشدة البرد تيمم وصلى، لما روى عمرو بن العاص قال: «احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: " يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، ثم قلت سمعت الله يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا» . رواه أبو داود.
ولأنه خائف على نفس، أشبه المريض، ولا إعادة عليه إن كان مسافرا، لما ذكرنا.
وإن كان حاضرا ففيه روايتان:(1/123)
إحداهما: لا يلزمه الإعادة لذلك.
والثانية: يلزمه، لأنه ليس بمريض، ولا مسافر، فلا يدخل في عموم الآية، ولأن الحضر مظنة إمكان إسخان الماء، فالعجز عنه عذر غير متصل.
وإن قدر على إسخان الماء، لزمه كما يلزمه شراء الماء، ومن كان واجدا للماء فخاف فوت الوقت لتشاغله بتحصيله، أو استسقائه لم يبح له التيمم، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد.
وإن خاف فوات الجنازة فليس له التيمم لذلك.
وعنه: يجوز، لأنه لا يمكن استدراكها.
فصل:
والثاني: طلب الماء شرط في الرواية المشهورة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ، ولا يقال: لم يجد إلا لمن طلب، ولأنه بدل، فلم يجز العدول إليه قبل طلب المبدل، كالصيام في الظهار.
وعنه: ليس بشرط، لأنه ليس بواجب قبل الطلب، فيدخل في الآية.
وصفة الطلب أن ينظر يمينه، وشماله، وأمامه، ووراءه، وإن كان قريبا من حائل، من ربوة، أو حائط، علاه فنظر حوله. وإن رأى خضرة أو نحوها استبرأها.(1/124)
وإن كان معه رفيق، سأله الماء فإن بذله له لزمه قبوله. لأن المنة لا تكثر في قبوله.
وإن وجد ماء يباع بثمن المثل أو بزيادة غير مجحفة بماله، وهو واجد للثمن، غير محتاج إليه، لزمه شراؤه، كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة.
فإن لم يبذله له صاحبه، لم يكن له أخذه قهرا، وإن استغنى عنه صاحبه، لأن له بدلا، وإن علم بماء قريب، لزمه قصده ما لم يخف على نفسه أو ماله أو فوت الوقت أو الرفقة وإن تيمم ثم رأى ركبا، أو خضرة، أو شيئا يدل على الماء، أو سرابا ظنه ماء قبل الصلاة، لزمه الطلب؛ لأنه وجد دليل الماء، وبطل تيممه، لأنه وجب عليه الطلب، فبطل تيممه، كما لو رأى ماء. وإن رأى الركب ونحوه في الصلاة، لم تبطل؛ لأنه شرع فيها بطهارة متيقنة، فلا يبطلها بالشك.
فصل:
الثالث: دخول الوقت شرط، لأنه قبل الوقت مستغن عن التيمم، فلم يصح تيممه، كما لو تيمم وهو واجد للماء، وإن كان التيمم لنافلة، لم يجز في وقت النهي عن فعلها، لأنه قبل وقتها، وإن تيمم لفائتة أو نافلة قبل وقت الصلاة، ثم دخل الوقت بطل تيممه، وإن تيمم لمكتوبة في وقتها، فله أن يصليها وما شاء من النوافل قبلها وبعدها، ويقضي فوائت، ويجمع بين الصلاتين، لأنها طهارة أباحت فرضا، فأباحت سائر ما ذكرناه، كالوضوء.(1/125)
ومتى خرج الوقت بطل التيمم في ظاهر المذهب، لأنها طهارة عذر وضرورة، فتقدرت بالوقت كطهارة المستحاضة.
وعنه: يصلي بالتيمم حتى يحدث، قياسا على طهارة الماء.
فصل:
والأفضل تأخير التيمم إلى آخر الوقت إن رجا وجود الماء، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الجنب: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت، ولأن الطهارة بالماء فريضة. وأول الوقت فضيلة، وانتظار الفريضة أولى. وإن يئس من الماء، استحب تقديمه لئلا يترك فضيلة متيقنة لأمر غير مرجو.
ومتى تيمم وصلى صحت صلاته، ولا إعادة عليه، وإن وجد الماء في الوقت، لما روى عطاء بن يسار، قال: «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا، فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الوضوء والصلاة، ولم يعد الآخر، ثم أتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: " أجزأتك صلاتك " وقال للذي أعاد: " لك الأجر مرتين» رواه أبو داود. وقال: قد روي عن أبي سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصحيح أنه مرسل، ولأنه أدى فريضة بطهارة، فأشبه ما لو أداها بطهارة الماء.(1/126)
فإن علم أن في رحله ماء نسيه، فعليه الإعادة، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالنسيان، كما لو نسي عضوا لم يغسله، وإن ضل عن رحله، أو ضل عنه غلامه الذي معه الماء، فلا إعادة عليه، لأنه غير مفرط، وإن وجد بقربه بئرا أو غديرا علامته ظاهرة، أعاد لأنه مفرط في الطلب، وإن كانت أعلامه خفية لم يعد لعدم تفريطه.
فصل:
وإن وجد ماء لا يكفيه لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنبا، لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وهذا واجد، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» رواه البخاري. وقال: «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولأنه مسح أبيح للضرورة، فلم يبح في غير موضعها كمسح الجبيرة.
وإن كان محدثا ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه استعماله لذلك.
والآخر: لا يلزمه، لأن الموالاة شرط يفوت بترك غسل الباقي، فبطلت طهارته، بخلاف غسل الجنابة.
وإن كان بعض بدنه صحيحا، وبعضه جريحا، غسل الصحيح، وتيمم للجريح جنبا كان أو محدثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أصابته الشجة: «إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، لأن العجز ههنا ببعض البدن، وفي الإعواز العجز ببعض الأصل، فاختلفا، كما أن الحر إذا عجز عن بعض الرقبة في الكفارة، فله العدول إلى الصوم، ولو كان بعضه حرا فملك بنصفه الحر مالا، لزمه التكفير بالمال، ولم تكن كالتي قبلها.(1/127)
[فصل في مبطلات التيمم]
فصل:
ويبطل التيمم بجميع مبطلات الطهارة التي تيمم عنها، لأنه بدل عنها. فإن تيمم لجنابة، ثم أحدث منع ما يمنعه المحدث من الصلاة والطواف، ومس المصحف، لأن التيمم ناب عن الغسل، فأشبه المغتسل إذا أحدث، ويزيد التيمم بمبطلين:
أحدهما: القدرة على استعمال الماء سواء وجدت في الصلاة أو قبلها أو بعدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك» دل بمفهومه على أنه ليس بطهور عند وجود الماء، وبمنطوقه على وجوب استعماله عند وجوده، ولأنه قدر على استعمال الماء، فأشبه الخارج من الصلاة.
فعلى هذا إن وجده في الصلاة خرج، وتوضأ، واغتسل إن كان جنبا، واستقبل الصلاة، كما لو أحدث في أثنائها.
وعنه: إذا وجده في الصلاة لم تبطل، لأنه شرع في المقصود، فأشبه المكفر يقدر على الإعتاق بعد شروعه في الصيام، إلا أن المروذي روي عنه أنه قال: كنت أقول: إنه يمضي ثم تدبرت فإذا أكثر الأحاديث أنه يخرج. وهذا يدل على رجوعه عن هذه الرواية.
والثاني: خروج الوقت يبطلها لما ذكرناه، فإن خرج وهو في الصلاة بطل، كما لو أحدث.
ومن تيمم وهو لابس خفا أو عمامة، يجوز المسح عليهما، ثم خلع أحدهما، فقد ذكر أصحابنا أنه يبطل تيممه، لأنه من مبطلات الوضوء، ولا يقوى ذلك عندي، لأنها طهارة لم يمسح عليهما، فلم تبطل بخلعهما، كالملبوس على غير طهارة بخلاف الوضوء.(1/128)
فصل
ويجوز التيمم في السفر الطويل والقصير، وهو ما بين قريتين قريبتين؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] ولأن الماء يعدم في القصير غالباً، أشبه الطويل، ويجوز في الحضر للمرض للآية، ولأنه عذر غالب يتصل، أشبه السفر.
وإن عدم الماء في الحضر لحبس، تيمم ولا إعادة عليه؛ لأنه في عدم الماء، وعجزه عن طلبه كالمسافر، وأبلغ منه فألحق به، وإن عدمه لغير ذلك، وكان يرجوه قريباً، تشاغل بطلبه ولم يتيمم، وإن كان ذلك يتمادى، تيمم وصلى وأعاد؛ لأنه عذر نادر غير متصل، ويحتمل أن لا يعيد؛ لأنه في معنى عادم الماء في السفر، فألحق به.
وإن كان مع المسافر ماء، فأراقه قبل الوقت، أو مر بماء قبل الوقت، فتركه، ثم عدم الماء في الوقت تيمم وصلى ولا إعادة عليه؛ لأنه لم يخاطب باستعماله.
وإن كان ذلك في الوقت، ففيه وجهان: أحدهما: تلزمه الإعادة؛ لأنه مفرط.
والثاني: لا تلزمه؛ لأنه عادم للماء أشبه ما قبل الوقت.
[فصل فيما يجوز التيمم به]
فصل
ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] وما لا غبار له لا يمسح شيء منه.
وقال ابن عباس: الصعيد تراب الحرث، والطيب: هو الطاهر، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أعطيت ما لم يعط نبي من أنبياء الله تعالى قبلي جعل لي التراب طهوراً» رواه الشافعي في " مسنده " ولو كان غيره طهوراً ذكره فيما من الله به عليه.
وعنه: يجوز التيمم بالرمل والسبخة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:(1/129)
«جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» رواه البخاري ومسلم، وقال ابن أبي موسى: إن لم يجد غيرهما، تيمم بهما، وإن دق الخزف أو الحجارة، وتيمم به لم يجزئه؛ لأنه ليس بتراب.(1/130)
وإن خالط التراب جص، أو دقيق، أو زرنيخ، فحكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات، وإن خالط ما لم يعلق باليد، كالرمل والحصى، لم يمنع التيمم به؛ لأنه لا يمنع وصول الغبار إلى اليد، وإن ضرب بيده على صخرة عليها غبار، أو حائط، أو لبد، فعلا يديه غبار، أبيح التيمم به؛ لأن المقصود التراب الذي يمسح به وجهه ويديه، وقد روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ضرب بيديه على الحائط، ومسح بهما وجهه، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه» رواه أبو داود.
ولا بأس أن يتيمم الجماعة من موضع واحد، كما يتوضئون من حوض واحد، وإن تناثر من التراب عن العضو بعد استعماله شيء: احتمل أن يمنع من استعماله مرة ثانية؛ لأنه كالماء المستعمل، واحتمل أن يجوز؛ لأنه لم يرفع حدثاً ولم يزل نجساً، بخلاف الماء.
[فصل في حكم فاقد الطهورين]
فصل
فإن عدم الماء والتراب ووجد طيناً، لم يستعمله، وصلى على حسب حاله(1/131)
ولم يترك الصلاة؛ لأن الطهارة شرط، فتعذرها لا يبيح ترك الصلاة، كالسترة، والقبلة، وفي الإعادة روايتان: إحداهما: لا تلزمه؛ لأن الطهارة شرط، فأشبهت السترة والقبلة.
والثانية: تلزمه؛ لأنه عذر نادر غير متصل، أشبه نسيان الطهارة.
فصل
إذا اجتمع جنب، وميت، وحائض، معهم ماء لأحدهم لا يفضل عنه، فهو أحق به، ولا يجوز أن يؤثر به؛ لأنه واجد للماء، فلم يجزئه التيمم، فإن آثر به وتيمم، لم يصح تيممه مع وجوده لذلك، وإن استعمله الآخر، فحكم المؤثر به حكم من أراق الماء، وإن كان الماء لهم، فهم فيه سواء، وإن وجدوه، فهو للأحياء دون الميت؛ لأنه لا وجدان له، وإن كان لغيرهم فأراد أن يجود به، فالميت أولى به؛ لأن غسله خاتمة طهارته، وصاحباه يرجعان إلى الماء ويغتسلان.(1/132)
وإن فضل عنه ما يكفي أحدهما، فالحائض أحق به؛ لأن حدثها آكد، وتستبيح بغسلها ما يستبيحه الجنب وزيادة الوطء، وإن اجتمع على رجل حدث ونجاسة، فغسل النجاسة أولى؛ لأن طهارة الحدث لها بدل مجمع عليه، بخلاف النجاسة.
وإن اجتمع محدث وجنب، فلم يجدا إلا ما يكفي المحدث، فهو أحق به؛ لأنه يرفع جميع حدثه، وإن كان يكفي الجنب وحده، فهو أحق به، لما ذكرنا في الحائض، وإن كان يفضل عن كل واحد منهما فضلة لا تكفي صاحبه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقدم الجنب لما ذكرنا.
والثاني: المحدث؛ لأن فضلته يلزم الجنب [استعمالها] فلا تضيع، بخلاف فضلة الجنب.
والثالث: التسوية: لأنه تقابل الترجيحان فتساويا، فتدفع إلى من شاء منهما، أو يقرع بينهما والله أعلم.
[باب الحيض]
وهو دم ترخيه الرحم يخرج من المرأة في أوقات معتادة يتعلق به ثلاثة عشر حكماً:(1/133)
أحدها: تحريم فعل الصلاة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» متفق عليه.
والثاني: سقوط فرضها؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنا نحيض على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» ، متفق عليه.
والثالث: تحريم الصيام، ولا يسقط وجوبه، لحديث عائشة، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس إحداكن إذا حاضت لم تصم ولم تصل؟ "(1/134)
قلن: بلى» ، رواه البخاري.
والرابع: تحريم الطواف؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة إذ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» متفق عليه.
والخامس: تحريم قراءة القرآن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن» رواه الترمذي.
والسادس: تحريم مس المصحف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» رواه الأثرم.
والسابع: تحريم اللبث في المسجد، لما ذكرناه من قبل.
والثامن: تحريم الطلاق، لما نذكره في النكاح.
والتاسع: تحريم الوطء في الفرج؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] .
ولا يحرم الاستمتاع بها في غير الفرج؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا كل شيء غير(1/135)
النكاح» رواه مسلم.
وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرني فأتزر فيباشرني، وأنا حائض» ، متفق عليه، ولأنه وطء حرم للأذى، فاختص بمحله، كالوطء في الدبر.
والعاشر: منع صحة الطهارة؛ لأنه حدث يوجب الطهارة فاستمراره يمنع صحتها كالبول.
والحادي عشر: وجوب الغسل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه.
الثاني عشر: وجوب الاعتداد به، لما نذكره في العدد.
الثالث عشر: حصول البلوغ به لما نذكره في موضعه.
فإذا انقطع دمها ولم تغتسل زالت أربعة أحكام: سقوط فرض الصلاة؛ لأن سقوطه بالحيض قد زال، ومنع صحة الطهارة لذلك، وتحريم الصيام؛ لأن وجوب الغسل لا يمنع(1/136)
فعله، كالجنابة، وتحريم الطلاق؛ لأن تحريمه لتطويل العدة، وقد زال هذا المعنى.
وسائر المحرمات باقية؛ لأنها تثبت في حق المحدث الحدث الأكبر، وحدثها باق، وتحريم الوطء باق؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] قال مجاهد: حتى يغتسلن.
فإن لم تجد الماء تيممت، وحل وطؤها؛ لأنه قائم مقام الغسل، فحل به ما يحل بالغسل، وإن تيممت للصلاة حل وطؤها؛ لأن ما أباح الصلاة أباح ما دونها.
وإن وطئ الحائض قبل طهرها؛ فعليه كفارة [دينار أو] نصف دينار، لما روى ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: " يتصدق بدينار أو بنصف دينار» ، قال أبو داود: كذا الرواية الصحيحة.
وعن أحمد: لا كفارة فيه؛ لأنه وطء حرم للأذى، فلم تجب به كفارة كالوطء في الدبر، والحديث توقف أحمد عنه للشك في عدالة راويه.
وإن وطئها بعد انقطاع دمها، فلا كفارة عليه؛ لأن حكمه أخف ولم يرد الشرع بالكفارة فيه.
فصل
وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين، فإن رأت قبل ذلك دماً فليس(1/137)
بحيض، ولا يتعلق به أحكامه؛ لأنه لم يثبت في الوجود لامرأة حيض قبل ذلك، وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة.
وأقل الحيض يوم وليلة.
وعنه: يوم؛ لأن الشرع علق على الحيض أحكاماً ولم يبين قدره، فعلم أنه رده إلى العادة، كالقبض والحرز، وقد وجد حيض معتاد يوماً، ولم يوجد أقل منه.
قال عطاء: رأيت من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر.
قال أبو عبد الله الزبيري: كان في نسائنا من تحيض يوماً، وتحيض خمسة عشر يوماً.
[وأكثره خمسة عشر يوماً] لما ذكرنا، وعنه سبعة عشرة يوماً.
وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن امرأة ادعت انقضاء عدتها في شهر، فقال لشريح: قل فيها، فقال: إن جاءت ببطانة من أهلها يشهدن أنها حاضت في شهر ثلاث مرات تترك(1/138)
الصلاة فيها، وإلا فهي كاذبة، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قالون " يعني جيد، وهذا اتفاق منهما على إمكان ثلاث حيضات في شهر، ولا يمكن إلا بما ذكرنا من أقل الحيض، وأقل الطهر.
وعنه: أقله خمسة عشر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي» وليس لأكثره حد، وغالب الحيض ست أو سبع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمنة بنت جحش: «تحيضي - في علم الله - ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسلي وصلي أربعة وعشرين يوماً، أو ثلاثة وعشرين كما تحيض النساء، وكما يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن» حديث حسن، وغالب الطهر أربعة وعشرون أو ثلاثة وعشرون، لهذا الحديث.
وإذا بلغت المرأة ستين عاماً يئست من المحيض؛ لأنه لم يوجد لمثلها حيض معتاد، فإن رأت دماً فهو دم فاسد، وإن رأته بعد الخمسين، ففيه روايتان:(1/139)
إحداهما: هو دم فاسد أيضاً؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض.
والثانية: إن تكرر بها الدم فهو حيض، وهذا أصح؛ لأنه قد وجد ذلك، وعنه: أن نساء العجم ييأسن في خمسين، ونساء العرب إلى ستين؛ لأنهن أقوى جبلة.
وقال الخرقي: إذا رأت الدم، ولها خمسون سنة، فلا تدع الصلاة، ولا الصوم، وتقضي الصوم احتياطاً، وإن رأته بعد الستين، فقد زال الإشكال، فتصوم وتصلي، ولا تقضي.
والحامل لا تحيض، فإن رأت دماً، فهو دم فاسد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في سبايا أوطاس: " لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» يعني تستعلم براءتها من الحمل بالحيضة، فدل على أنها لا تجتمع معه.(1/140)
فصل
والمبتدأ بها الدم في سن تحيض لمثله تترك الصلاة والصوم؛ لأن دم الحيض جبلة وعادة، ودم الفساد عارض لمرض ونحوه، والأصل عدمه، فإن انقطع لدون يوم وليلة، فهو دم فساد، وإن بلغ ذلك جلست يوماً وليلة، فإن انقطع دمها لذلك اغتسلت وصلت، وكان ذلك حيضها.
وإن زاد عليه، ففيه أربع روايات: أشهرهن: أنها تغتسل عقيب اليوم والليلة، وتصلي؛ لأن العبادة واجبة بيقين، وما زاد على أقل الحيض مشكوك فيه، فلا تسقطها بالشك، فإن انقطع دمها، ولم يعبر أكثر الحيض، اغتسلت غسلاً ثانياً، ثم تفعل ذلك في شهر آخر، وعنه: تفعله في شهرين آخرين.
فإن كان في الأشهر كلها مدة واحدة، علمت أن ذلك حيضها، فانتقلت إليه، وعملت عليه، وأعادت ما صامت الفرض فيه؛ لأننا تبينا أنها صامته في حيضها.(1/141)
والثانية: تجلس ما تراه من الدم إلى أكثر الحيض؛ لأنه دم يصلح حيضاً، فتجلسه كاليوم والليلة.
والثالثة: تجلس ستاً أو سبعاً؛ لأن الغالب من النساء هكذا يحضن، ثم تغتسل وتصلي.
والرابعة: تجلس عادة نسائها؛ لأن الغالب أنها تشبههن في جميع ذلك، فإذا انقطع الدم لأكثر الحيض فما دون وتكرر، صار عادة، فانتقلت إليه، وأعادت ما صامته من الفرض فيه.
وإن عبر دمها أكثر الحيض، علمنا استحاضتها فنظر في دمها، فإن كان متميزاً بعضه أسود ثخين منتن، وبعضه رقيق أحمر، وكان الأسود لا يزيد على أكثر الحيض، ولا ينقص عن أقله، فهذه مدة حيضها زمن الدم الأسود، فتجلسه، فإذا خلفته اغتسلت وصلت، لما روي أن فاطمة بنت أبي حبيش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض، فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: " لا إنما ذلك عرق، ليس بالحيض، فإذا أقبلت الحيضة، فدعي الصلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم، وصلي» متفق عليه.
يعني بإقباله: سواده ونتنه، وبإدباره: رقته وحمرته، وفي لفظ، قال: «إذا كان دم الحيض، فإنه أسود، يعرف فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الأحمر فتوضئي إنما هو عرق» رواه النسائي , وقال ابن عباس: ما رأت الدم البحراني، فإنها تدع الصلاة، إنها والله لن ترى الدم بعد أيام محيضها إلا كغسالة ماء اللحم، ولأنه خارج من الفرج يوجب الغسل، فرجع إلى صفته عند الاشتباه، كالمني والمذي، وإن لم تكن مميزة(1/142)
جلست من كل شهر ستة أيام، أو سبعة، لما روي أن حمنة بنت جحش «قالت: يا رسول الله، إني أستحاض حيضة شديدة، منكرة، قد منعتني الصوم والصلاة، فقال لها: " تحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام، في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت، فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها، وصومي فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.
وذكر أبو الخطاب في المبتدأة هذه الروايات الأربع، وحكي عن ابن عقيل في المبتدأة المميزة أنها تجلس بالتمييز في أول مرة، لما ذكرنا من الأخبار؛ ولأن التمييز يجري مجرى العادة، والمعتادة تجلس عدة أيام عادتها، كذلك المميزة.
فصل
وإن استقرت لها عادة، فما رأت من الدم فيها، فهو حيض سواء كان كدرة أو صفرة أو غيرهما، لما روى مالك عن علقمة عن أمه: أن النساء كن يرسلن بالدرجة، فيها الشيء من الصفرة، إلى عائشة فتقول: لا تصلين حتى ترين القصة البيضاء.
قال مالك وأحمد: هو ماء أبيض يتبع الحيضة، ولأنه دم في زمن العادة أشبه الأسود، فإن تغيرت العادة، لم تخل من ثلاثة أقسام: أحدها: أن ترى الطهر قبل تمامها، فإنها تغتسل وتصلي؛ لأن ابن عباس قال: لا يحل لها ما رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل، ولأنها طاهر فتلزمها الصلاة، كسائر الطاهرات.(1/143)
وإن عاودها الدم في عادتها، ففيه روايتان: إحداهما: تتحيض فيه، وهي الأولى؛ لأنه دم صادف العادة، فكان حيضاً كالأول.
والثانية: لا تجلسه حتى يتكرر؛ لأنه جاء بعد طهر، فلم يكن حيضاً بغير تكرار، كالخارج عن العادة، وإن عاودها بعد العادة، وعبر أكثر الحيض، فهو استحاضة، وإن لم يعبر ذلك وتكرر، فهو حيض، وإلا فلا؛ لأنه لم يصادف عادة، فلا يكون حيضاً بغير تكرار.
القسم الثاني: أن ترى الدم في غير عادتها، قبلها أو بعدها مع بقاء عادتها، أو طهرها فيها، أو في بعضها، فالمذهب أنها لا تجلس ما خرج عن العادة حتى يتكرر، وفي قدره روايتان: إحداهما: ثلاثاً؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعي الصلاة أيام أقرائك» وأقل ذلك ثلاثاً.
والثانية: مرتان؛ لأن العادة مأخوذة من المعاودة، وذلك يحصل بمرتين، فعلى هذا تصوم وتصلي فيما خرج عن العادة مرتين أو ثلاثاً، فإذا تكرر، انتقلت إليه، وصار عادة، وأعادت ما صامته من الفرض فيه؛ لأنا تبينا أنها صامته في حيضها.
قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويقوى عندي أنها تجلس متى رأت دماً يمكن أن يكون حيضاً، وافق العادة أو خالفها؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، ولم تقيده بالعادة وظاهر الأخبار تدل على أن النساء كن يعددن ما يرينه من الدم حيضاً من غير افتقاد عادة، ولم ينقل عنهن ذكر العادة، ولا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/144)
بيان لها ولا الاستفصال عنها إلا في التي قالت: إني أستحاض فلا أطهر، وشبهها من المستحاضات، أما في امرأة يأتي دمها في وقت يمكن أن يكون حيضاً، ثم يطهر فلا، والظاهر أنهن جرين على العرف في اعتقاد ذلك حيضاً، ولم يأت من الشرع تغيير، ولذلك أجلسنا المبتدأة من غير تقدم عادة، ورجعنا في أكثر أحكام الحيض إلى العرف، والعرف أن الحيضة تتقدم وتتأخر وتزيد وتنقص، وفي اعتبار العادة على هذا الوجه، إخلال ببعض المنتقلات عن الحيض بالكلية، مع رؤيتها للدم في وقت الحيض على صفته، وهذا لا سبيل إليه.
فصل
القسم الثالث: أن ينضم إلى العادة ما يزيدان بمجموعهما على أكثر الحيض، فلا تخلو من حالين: أحدهما: أن تكون ذاكرة لعادتها، فإن كانت غير مميزة، جلست قدر عادتها، واغتسلت بعدها وصلت وصامت؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت أبي حبيش: «دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» متفق عليه، وإن كانت مميزة ففيها روايتان:
إحداهما: تعمل بالعادة، لهذا الحديث، والأخرى: تعمل بالتمييز، وهو اختيار الخرقي، لما تقدم من أدلته.
الحال الثاني: أن تكون ناسية لعادتها: فإن كانت مميزة، عملت بتمييزها؛ لأنه دليل لا معارض له، فوجب العمل به كالمبتدأة.(1/145)
وإن لم تكن مميزة فهي على ثلاثة أضرب: إحداهن: المتحيرة وهي الناسية لوقتها وعددها، فهذه تتحيض في كل شهر ستة أيام أو سبعة، على حديث حمنة بنت جحش، ولأنه غالب عادات النساء، فالظاهر، أنه حيضها، وعنه: أنها ترد إلى عادة نسائها، كما تقدم، وقيل: فيها الروايات الأربع.
ويجعل حيضها من أول كل شهر في أحد الوجهين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحيضي في علم الله ستة أيام، أو سبعة أيام، من كل شهر، ثم اغتسلي، وصلي ثلاثة وعشرين يوماً» فجعل حيضها من أوله، والصلاة في بقيته.
والآخر: تجلسه بالاجتهاد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها إلى الاجتهاد في العدد بين الست والسبع، فكذلك في الوقت.(1/146)
وإن علمت أن حيضها في وقت من الشهر كالنصف الأول ولم تعلم موضعه منه، ولا عدده فكذلك، إلا أن اجتهادها يختص بذلك الوقت دون غيره.
الضرب الثاني: أن تعلم عددها وتنسى وقتها، نحو أن تعلم أن حيضها خمس ولا تعلم لها وقتاً، فهذه تجلس قدر أيامها من أول كل شهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلسه بالتحري.
وإن علمته في وقت من الشهر، مثل أن علمت أن حيضها في العشر الأول من الشهر أو العشر الأوسط، جلست قدر أيامها من ذلك الوقت دون غيره.
الضرب الثالث: ذكرت وقتها ونسيت عددها، مثل أن تعلم أن اليوم العاشر من حيضها، ولا تدري قدره، فحكمها في قدر ما تجلسه حكم المتحيرة، واليوم العاشر حيض بيقين، فإن علمته أول حيضها، جلست بقية أيامها بعده، وإن علمته آخر حيضها، جلست الباقي قبله.
وإن لم تعلم أوله ولا آخره جلست مما يلي أول الشهر في أحد الوجهين، وفي الآخر تجلس بالتحري.
فصل
ومتى ذكرت الناسية عادتها، رجعت إليها؛ لأنها تركتها للعجز عنها، فإذا زال العجز، وجب العمل بها لزوال العارض، فإن كانت مخالفة لما عملت قضت ما صامت من الفرض في مدة العادة، وما تركت من الصلاة والصيام فيما خرج عنها؛ لأننا تبينا أنها تركتها وهي طاهرة.(1/147)
فصل
ولا تصير المرأة معتادة حتى تعلم حيضها وطهرها وشهرها، ويتكرر.
وشهرها: هو المدة التي يجتمع لها فيه حيض وطهر، وأقل ذلك أربعة عشر يوماً، يوم للحيض وثلاثة عشر للطهر، وغالبه الشهر المعروف، لحديث حمنة، ولأنه غالب عادات النساء، وأكثره، لا حد له [لأن أكثر الحيض لا يتعداه] وتثبت العادة بالتمييز، كما تثبت بانقطاع الدم، فلو رأت المبتدأة خمسة أيام دماً أسود، ثم احمر وعبر أكثر الحيض، وتكرر ذلك ثلاثاً، ثم رأت في الرابع دماً مبهماً، كان حيضها أيام الدم الأسود؛ لأنه صار عادة لها.
فصل
والعادة على ضربين: متفقة ومختلفة.
فالمتفقة: مثل من تحيض خمسة من كل شهر، والمختلفة مثل من تحيض في شهر ثلاثة، وفي الثاني أربعة، وفي الثالث خمسة، ثم يعود إلى الثلاثة، ثم إلى أربعة على هذا الترتيب، أو في شهر ثلاثة، وفي الثاني خمسة، وفي الثالث أربعة، ثم تعود إلى الثلاثة، فكل ما أمكن ضبطه من ذلك، فهو عادة مستقرة، وما لم يمكن ضبطه نظرت إلى القدر الذي تكرر منه، فجعلته عادة، كأنها رأت في شهر ثلاثة، وفي شهر أربعة، وفي شهر خمسة، فالثلاثة حيض، لتكررها ثلاثاً.
فإذا رأت في الرابع ستة، فالأربعة حيض: لتكررها ثلاثاً، فإذا رأت في الخامس سبعة، فالخمسة حيض، وعلى هذا ما تكرر، فهو حيض، وما لا فلا.
فصل
في التلفيق: إذا رأت يوماً دماً، ويوم طهراً، فإنها تغتسل، وتصلي في زمن الطهر، لقول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يحل لها إذا رأت الطهر ساعة إلا أن تغتسل، ثم إن انقطع الدم لخمسة عشر فما دون، فجميعه حيض، تغتسل عقيب كل يوم وتصلي في الطهر، وإن عبر الخمسة عشر، فهي مستحاضة ترد إلى عادتها، فإن كانت عادتها، سبعة متوالية، جلست ما وافقها من الدم، فيكون حيضها منه ثلاثة أيام، أو أربعة، وإن كانت ناسية، فأجلسناها سبعة فكذلك، وإن أجلسناها أقل الحيض، جلست(1/148)
يوماً وليلة لا غير، وإن كانت مميزة، ترى يوماً دماً أسود، ثم ترى نقاء ثم ترى أسود إلى عشرة أيام، ثم ترى دماً أحمر وعبر، ردت إلى التمييز، فيكون حيضها زمن الدم الأسود دون غيره، ولا فرق بين أن ترى الدم زمناً يمكن يكون أن يكون حيضاً كيوم وليلة، أو دون ذلك، كنصف يوم، ونصف ليلة، فإن كان النقاء أقل من ساعة، فالظاهر أنه ليس بطهر؛ لأن الدم يجري تارة، وينقطع أخرى، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
فصل
وإذا رأت ثلاثة أيام دماً، ثم طهرت اثني عشر يوماً، ثم رأته ثلاثة دماً، فالأول حيض؛ لأنها رأته في زمان إمكانه، والثاني استحاضة؛ لأنه لا يمكن أن يكون ابتداء حيض، لكونه لم يتقدمه أقل الطهر، ولا من الحيض الأول؛ لأنه يخرج عن الخمسة عشر.
والحيضة الواحدة لا يكون بين طرفيها أكثر من خمسة عشر يوماً. فإن كان بين الدمين ثلاثة عشر يوماً فأكثر وتكرر، فهما حيضتان؛ لأنه أمكن جعل كل واحد منهما حيضة منفردة، لفصل أقل الطهر بينهما، وإن أمكن جعلهما حيضة واحدة بأن لا يكون بين طرفيهما أكثر من خمسة عشر يوماً مثل أن ترى يومين دماً وتطهر عشرة، وترى ثلاثة دماً وتكرر، فهما حيضة واحدة؛ لأنه لم يخرج زمنهما عن مدة أكثر الحيض. وعلى هذا يعتبر ما ألقي من المسائل في التلفيق.
فصل
في المستحاضة وهي:
التي ترى دماً ليس بحيض ولا نفاس. وحكمها حكم الطاهرات في وجوب العبادات وفعلها؛ لأنها نجاسة غير معتادة، أشبه سلس البول، فإن اختلط حيضها باستحاضتها، فعليها الغسل عند انقطاع الحيض، لحديث فاطمة، ومتى أرادت الصلاة؛ غسلت فرجها، وما أصابها من الدم، حتى إذا استنقأت عصبت فرجها، واستوثقت بالشد، والتلجم، ثم توضأت وصلت، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لحمنة بنت جحش حين شكت إليه كثرة الدم: " أنعت لك الكرسف " يعني القطن، تحشي به المكان. قالت: إنه أشد من ذلك، فقال: " تلجمي» .(1/149)
وعن أم سلمة «أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "لتنظر عدة الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر، قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة، قدر ذلك من الشهر فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر بثوب، ثم لتصل» رواه أبو داود، فإن خرج الدم بعد الوضوء لتفريط في الشد، أعادت الوضوء؛ لأنه حدث أمكن التحرز عنه.
وإن خرج لغير تفريط، فلا شيء عليها لما روت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: اعتكفت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من أزواجه، فكانت ترى الدم، والصفرة والطست تحتها، وهي تصلي» رواه البخاري.
ولأنه لا يمكن التحرز منه فسقط، وتصلي بطهارتها ما شاءت من الفرائض والنوافل قبل الفريضة وبعدها، حتى يخرج الوقت فتبطل بها طهارتها، وتستأنف الطهارة لصلاة أخرى، لما روي في حديث «فاطمة أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال لها: "اغتسلي ثم توضئي لكل صلاة وصلي» قال الترمذي: هذا حديث صحيح، ولأنها طهارة عذر وضرورة، فتقيدت بالوقت كالتيمم، وإن توضأت قبل الوقت، بطل وضوءها بدخوله، كما في التيمم، وإن انقطع دمها بعد الوضوء، وكانت عادتها انقطاعه وقتاً لا يتسع للصلاة لم يؤثر انقطاعه؛ لأنه لا يمكن الصلاة فيه، وإن لم تكن به عادة أو كانت عادتها انقطاعه مدة طويلة، لزمها استئناف الوضوء، وإن كانت في الصلاة، بطلت؛ لأن العفو عن الدم، لضرورة جريانه فيزول بزواله، وحكم من به سلس البول أو المذي أو الريح أو الجرح الذي لا يرقأ دمه حكمها في ذلك إلا أن ما(1/150)
لا يمكن عصبه يصلي بحاله، فقد صلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجرحه يثعب دماً.
فصل
قال أصحابنا: ولا توطأ مستحاضة لغير ضرورة؛ لأنه أذى في الفرج، أشبه دم الحيض، فإن الله تعالى قال: {هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فعلله بكونه أذى، وإن خاف على نفسه العنت، أبيح الوطء؛ لأنه يتطاول، فيشق التحرز منه، وحكمه أخف، لعدم ثبوت أحكام الحيض فيه، وحكى أبو الخطاب فيه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان: إحداهما: كما ذكرنا.
والثانية: يحل مطلقاً لعموم النص في حل الزوجات، وامتناع قياس المستحاضة على الحائض، لمخالفتها لها في أكثر أحكامها، ولأن وطء الحائض ربما يتعدى ضرره إلى الولد، فإنه قد قيل: إنه يكون مجذوماً بخلاف دم المستحاضة.
فصل
ويستحب لها الغسل لكل صلاة؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - روت: «أن أم حبيبة استحيضت، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تغتسل لكل صلاة.» [رواه أبو داود] ، وإن جمعت بين الصلاتين بغسل واحد، فهو حسن، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحمنة: «فإن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر، ثم تغتسلين حتى تطهرين، وتصلين الظهر والعصر جميعاً، ثم تؤخرين المغرب، وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين، وتغتسلين مع الصبح، كذلك فافعلي إن قويت على(1/151)
ذلك هو أعجب الأمرين إلي» وهو حديث صحيح، وإن توضأت لوقت كل صلاة أجزأها لما ذكرنا سابقاً.
[باب النفاس]
وهو خروج الدم، بسبب الولادة، وحكمه حكم الحيض فيما يحرم ويجب ويسقط به؛ لأنه دم حيض مجتمع، احتبس لأجل الحمل، فإن خرج قبل الولادة بيومين، أو ثلاثة، فهو نفاس؛ لأن سبب خروجه الولادة، وإن خرج قبل ذلك، فهو دم فساد؛ لأنه ليس بنفاس، لبعده من الولادة، ولا حيض؛ لأن الحامل لا تحيض.
وأكثر النفاس أربعون يوماً لما روت أم سلمة قالت: «كانت النفساء على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تقعد بعد نفاسها أربعين يوماً أو أربعين ليلة» رواه أبو داود.
وليس لأقله حد فأي وقت رأت الطهر فهي طاهر تغتسل وتصلي، ويستحب لزوجها الإمساك عن وطئها حتى تتم الأربعين، فإن عاودها الدم في مدة النفاس، فهو نفاس؛ لأنه في مدته أشبه الأول، وعنه: أنه مشكوك فيه، تصوم وتصلي وتقضي الصوم احتياطاً؛ لأن الصوم واجب بيقين، فلا يجوز تركه لعارض مشكوك فيه، ويجب قضاؤه لأنه ثابت بيقين فلا يسقط بفعل مشكوك فيه، ويفارق الحيض المشكوك فيه، لكثرته وتكرره ومشقة إيجاب القضاء فيه، وما زاد على الأربعين، فليس بنفاس، وحكمها فيه حكم غير النفساء، إذا رأت الدم وصادف عادة الحيض فهو حيض، وإلا فلا.(1/152)
فصل
وإذا ولدت توأمين، فالنفاس من الأول؛ لأنه دم خرج عقيب الولادة، فكان نفاساً، كما لو كان منفرداً، وآخره منه، فإذا أكملت أربعين من ولادة الأول انقضت مدتها؛ لأنه نفاس واحد، لحمل واحد، فلم تزد العادة منه على أربعين.
وعنه: أنه من الأول، ثم تستأنفه في الثاني؛ لأن كل واحد منهما سبب للمدة، فإذا اجتمعا اعتبر أولها من الأول، وآخرها من الثاني، كالوطء في إيجاب العدة.
[باب أحكام النجاسات]
بول الآدمي نجس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي يعذب في قبره: «إنه كان لا يستتر(1/153)
من بوله» متفق عليه، والغائط مثله.
والودي: ماء أبيض يخرج عقيب البول، حكمه حكم البول لأنه في معناه.
والمذي نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المذي: «اغسل ذكرك» ولأنه خارج من الذكر لا يخلق منه الولد، أشبه البول، وعنه: أنه كالمني: لأنه خارج بسبب الشهوة، أشبه المني.
وبول ما لا يؤكل لحمه، ورجيعه نجس؛ لأنه بول حيوان غير مأكول، أشبه بول الآدمي إلا بول ما لا نفس له سائلة، فإن ميتته طاهرة فأشبه الجراد.
وبول ما يؤكل لحمه ورجيعه طاهر، وعنه أنه كالدم؛ لأنه رجيع، والمذهب الأول؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا في مرابض الغنم» حديث صحيح، وكان يصلي فيها قبل بناء(1/154)
مسجده، وقال للعرنيين: «انطلقوا إلى إبل الصدقة فاشربوا من ألبانها وأبوالها» متفق عليه.
ومني الآدمي طاهر؛ لأن عائشة قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيصلي فيه» ، متفق عليه، ولأنه بدء خلق آدمي، فكان طاهراً كالطين، وعنه: أنه نجس، يجزئ فرك يابسه، ويعفى عن يسيره لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» هذا حديث صحيح؛ لأنه خارج من مخرج البول أشبه المذي.(1/155)
وفي رطوبة فرج المرأة روايتان: إحداهما: أنها نجس؛ لأنها بلل من الفرج، لا يخلق منه الولد، أشبه المذي.
والثانية: أنها طاهرة؛ لأن عائشة كانت تفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو من جماع؛ لأن الأنبياء لا يحتلمون، وهو يصيب رطوبة الفرج.
والقيء نجس؛ لأنه طعام استحال في الجوف إلى الفساد، أشبه الغائط.
وفي كل حيوان غير الآدمي ومنيه، في حكم بوله في الطهارة والنجاسة؛ لأنه في معناه.(1/156)
والنخامة طاهرة، سواء خرجت من رأس، أو صدر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد، فليقل هكذا ووصف القاسم، وتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض» رواه مسلم.
وذكر أبو الخطاب: أن البلغم نجس، قياساً على القيء، والأول أصح، والبصاق والمخاط والعرق، وسائر رطوبات بدن الآدمي طاهرة؛ لأنه من جسم طاهر، وكذلك هذه الفضلات، من كل حيوان طاهر.
فصل
والدم نجس؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في الدم: «اغسليه بالماء» متفق عليه، ولأنه نجس لعينه، بنص القرآن، أشبه الميتة، إلا دم السمك، فإنه طاهر؛ لأن ميتته طاهرة مباحة.
وفي دم ما لا نفس له سائلة، كالذباب والبق والبراغيث والقمل، روايتان: إحداهما: نجاسته؛ لأنه دم أشبه المسفوح.
والثانية: طهارته؛ لأنه دم حيوان، لا ينجس بالموت، أشبه دم السمك، وإنما حرم الدم المسفوح.(1/157)
والعلقة نجسة؛ لأنها دم خارج من الفرج، أشبه الحيض، وعنه: إنها طاهرة؛ لأنها بدء خلق آدمي، أشبهت المني.
والقيح نجس؛ لأنه دم استحال إلى نتن وفساد، والصديد مثله، إلا أن أحمد قال: هما أخف حكماً من الدم، لوقوع الخلاف في نجاستهما، وعدم النص فيهما.
وما بقي من الدم في اللحم معفو عنه، ولو علت حمرة الدم في القدر، لم يكن نجساً؛ لأنه لا يمكن التحرز منه.
فصل
والخمر نجس؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] ولأنه يحرم تناوله من غير ضرر، فكان نجساً كالدم، والنبيذ مثله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل خمر حرام» رواه مسلم، ولأنه شراب فيه شدة مطربة، أشبه الخمر، فإن انقلبت الخمرة خلاً بنفسها طهرت؛ لأن نجاستها لشدتها المسكرة، وقد(1/158)
زال ذلك، من غير نجاسة خلفتها فوجب أن تطهر، كالماء الذي تنجس بالتغير [إذا زال تغيره] .
وإن خللت لم تطهر لما روي: «أن أبا طلحة، سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن أيتام ورثوا خمراً فقال: أهرقها، قال: أفلا أخللها؟ قال: لا» ، رواه أحمد في مسنده والترمذي، ولو جاز التخليل، لم ينه عنه، ويتخرج أن تطهر لزوال علة التحريم، كما لو تخللت، ولا يطهر غيرها من النجاسات بالاستحالة، فلو أحرقت فصارت رماداً أو تركت في ملاحة، فصارت ملحاً لم تطهر؛ لأن نجاستها لعينها بخلاف الخمر، فإن نجاستها لمعنى زال بالانقلاب.
ودخان النجاسة وبخارها نجس، فإن اجتمع منه شيء، أو لاقى جسماً صقيلاً، فصار ماءً، فهو نجس.
وما أصاب الإنسان من دخان النجاسة، وغبارها، فلم يجتمع منه شيء، ولا ظهرت صفته فهو معفو عنه، لعدم إمكان التحرز منه.
فصل
ولا يختلف المذهب، في نجاسة الكلب والخنزير، وما تولد منهما، إذا(1/159)
أصابت غير الأرض أنه يجب غسلها سبعاً إحداهن بالتراب، سواء كان من ولوغه أو غيره، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب» متفق عليه، ولمسلم: «أولاهن بالتراب» .(1/160)
وعنه: «يغسله سبعاً، وواحدة بالتراب» ، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولغ الكلب في الإناء، فاغسلوه سبعاً وعفروه الثامنة بالتراب» رواه مسلم والأولى أصح؛ لأنه يحتمل أنه عد التراب ثامنة، لكونه مع الماء، من غير جنسه، والأولى جعل التراب، في الأولى للخبر، وليكون الماء بعده، فينظفه، وحيث جعله جاز، لقوله في اللفظ الآخر: «وعفروه الثامنة بالتراب» فيدل على أن عين الغسلة غير مرادة.
وإن جعل مكان التراب جامداً آخر كالأشنان، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجزئه؛ لأن نصه على التراب تنبيه على ما هو أبلغ منه في التنظيف.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه تطهير ورد الشرع فيه بالتراب، فلم يقم غيره مقامه كالتيمم.(1/161)
والثالث: يجزئه إن عدم التراب، أو كان مفسداً للمغسول للحاجة، وإلا فلا.
وإن جعل مكانه غسلة ثامنة، لم يجزه؛ لأنه أمر بالتراب معونة للماء، في قلع النجاسة، أو للتعبد، ولا يحصل بالماء وحده، وقد ذكر فيه الأوجه الثلاثة، وإن ولغ في الإناء كلاب، أو وقعت فيه نجاسة أخرى، لم تغير حكمه؛ لأن الغسل لا يزداد بتكرار النجاسة، كما لو ولغ الكلب فيه مرات.
وإن أصاب الثوب من ماء الغسلات، ففيه وجهان: أحدهما: يغسل سبعاً إحداهن بالتراب؛ لأنها نجاسة كلب.
والثاني: حكمه حكم المحل الذي انفصل عنه في الغسل بالتراب وفي عدد الغسلات؛ لأن المنفصل كالبلل الباقي، وهو يطهر بباقي العدد كذلك هذا.
فصل
والنجاسات كلها على الأرض، يطهرها أن يغمرها الماء، فيذهب عينها ولونها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء» متفق عليه، ولو كانت أرض البئر نجسة فنبع عليها الماء طهرها.(1/162)
ولا تطهر الأرض النجسة بشمس، ولا ريح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أمر بغسل بول الأعرابي، ولأنه محل نجس، أشبه الثوب.
وإن طبخ اللبن المخلوط بالزبل النجس، لم يطهر، لكن ما يظهر منه يحترق فيذهب عينه، ويبقى أثره، فإذا غسل طهر ظاهره، وبقي باطنه نجساً لو حمله مصل، لم تصح صلاته، وإن ظهر من باطنه شيء فهو نجس.
فصل
إذا أصاب أسفل الخف، أو الحذاء نجاسة، ففيه ثلاث روايات: إحداهن: يجزئ دلكه بالأرض، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه، فطهورهما التراب» وفي لفظ: «إذا وطئ بنعله» ، رواه أبو داود؛ لأنه محل تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح، كمحل الاستنجاء.
والثانية: يجب غسله؛ لأنه ملبوس فلم يجز فيه المسح كظاهره.
والثالثة: يجب غسله من البول والعذرة لفحشهما، ويجزئ دلكه من غيرهما، فإن قلنا: يجزئ المسح، ففيه وجهان: أحدهما: يطهر اختاره ابن حامد، للخبر.(1/163)
والثاني: لا يطهر؛ لأنه محل نجس فلم يطهره المسح كغيره، وفي محل الاستنجاء بعد الاستجمار وجهان أيضاً: أحدهما: يطهر، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المستجمر: يعرق في سراويله: لا بأس به، «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الروث والرمة: لا يطهران» دليل على أن غيرهما يطهر.
والثاني: لا يطهر، لما ذكرنا من القياس.
فصل
ويجزئ في بول الغلام الذي لم يطعم الطعام النضح، وهو أن يغمره بالماء، وإن لم يزل عنه لما «روت أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام، إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجلسه في حجره، فبال على ثوبه(1/164)
فدعا بماء فنضحه ولم يغسله» متفق عليه.
ولا يجزئ في بول الجارية إلا الغسل، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بول الغلام ينضح، وبول الجارية يغسل» رواه أحمد في(1/165)
" المسند " فإن أكلا الطعام وتغذيا به غسل بولهما؛ لأن الرخصة وردت فيمن لم يطعم، فبقي من عداه على الأصل.
وفي المذي روايتان: إحداهما: يجزئ نضحه، لما «روى سهل بن حنيف، قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء، فقلت: يا رسول الله، فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفاً من ماء، فتنضح به حيث ترى أنه أصاب منه» ، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.(1/166)
والثانية: يجب غسله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بغسل الذكر منه، ولأنه نجاسة من كبير، أشبه البول.
فصل
وما عدا المذكور من النجاسات، في سائر المحال، فيه روايتان: إحداهما: يجزئ مكاثرتها بالماء حتى تذهب عين النجاسة ولونها من غير عدد، قياساً على نجاسة الأرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأسماء في الدم: «اغسليه بالماء» ولم يذكر عدداً، «وروى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان غسل الثوب من النجاسة سبع مرات، فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل، حتى جعل الغسل من البول مرة» رواه أبو داود.
والثانية: يجب فيها العدد، وفي قدره روايتان: إحداهما: سبع؛ لأنها نجاسة في غير الأرض، فأشبهت نجاسة الكلب، وفي اشتراط التراب وجهان.(1/167)
والثانية: ثلاث؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء، حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده» أمر بالثلاث، وعلل بوهم النجاسة، ولا يرفع وهمها إلا ما يرفع حقيقتها.
فإن قلنا بالعدد، لم يحتسب برفع الثوب من الماء غسلة، حتى يعصره، وعصر كل شيء بحسبه، فإن كان بساطاً ثقيلاً أو زلياً فعصره بتقليبه ودقه، حتى يذهب أكثر ما فيه من الماء.
فصل
وإذا غسل النجاسة، فلم يذهب لونها أو ريحها لمشقة إزالته، عفي عنه، لما «روي(1/168)
أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله، أرأيت لو بقي أثره، تعني: الدم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الماء يكفيك، ولا يضرك أثره» رواه أبو داود بمعناه.
فصل
ويعفى عن يسير الدم في غير المائعات؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، فإن الغالب أن الإنسان، لا يخلو من حبة وبثرة، فألحق نادره بغالبه، وقد روي عن جماعة من الصحابة الصلاة مع الدم، ولم يعرف لهم مخالف، وحد اليسير ما لا ينقض مثله الوضوء، وقد ذكر في موضعه.
والقيح والصديد كالدم لأنه مستحيل منه، وفي المني إذا حكمنا بنجاسته روايتان: إحداهما: أنه كالدم؛ لأنه مستحيل منه.
والثانية: لا يعفى عنه؛ لأنه يمكن التحرز منه.(1/169)
وفي المذي، وريق البغل والحمار وعرقهما، وسباع البهائم وجوارح الطير وبول الخفاش، روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لمشقة التحرز منه، فإن المذي يكثر من الشباب، ولا يكاد يسلم مقتني هذه الحيوانات من بللها، فعفي عن يسيرها كالدم.
والثانية: لا يعفى عنها، لعدم ورود الشرع فيها.
وفي النبيذ روايتان: إحداهما: يعفى عن يسيره، لوقوع الخلاف فيه.
والثانية: لا يعفى عنه؛ لأن التحرز عنه ممكن.
وما عدا هذا من النجاسة، لا يعفى عن شيء منه، ما أدركه الطرف منها، وما لم يدركه؛ لأنها نجاسة، لا يشق التحرز منها، فلم يعف عنها كالكثير.(1/170)
[كتاب الصلاة]
الصلوات المكتوبات خمس، لما «روى طلحة بن عبيد الله، أن أعرابياً قال: يا رسول الله، ماذا فرض الله علي من الصلاة؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع(1/171)
شيئاً» متفق عليه، ولا تجب إلا على مسلم عاقل بالغ، فأما الكافر، فلا تجب عليه، أصلياً(1/172)
كان أو مرتداً.
وخرج أبو إسحاق بن شاقلا رواية أخرى: أنها تجب على المرتد، ويؤمر بقضائها؛ لأنه اعتقد وجوبها، وأمكنه التسبب إلى أدائها، فأشبه المسلم.
والمذهب الأول؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ،(1/173)
ولأنه قد أسلم كثير في عصر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبعده، فلم يؤمروا بقضاء، ولأن في إيجاب القضاء تنفيراً له عن الإسلام، فعفي عنه.
ولا تجب على مجنون؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» حديث حسن، ولأن(1/174)
مدته تتطاول، فيشق إيجاب القضاء عليه، فعفي عنه.
ولا تجب على الصبي حتى يبلغ، للحديث، ولأن الطفل لا يعقل، والمدة التي يكمل فيها عقله وبنيته تخفى وتختلف، فنصب الشرع عليه علامة ظاهرة، وهي البلوغ لكنه يؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر، ليتمرن ويعتادها فلا يتركها عند بلوغه، وتصح صلاته، ويستحب له فعلها، لما ذكرنا.
وعنه: أنها تجب عليه إذا بلغ عشراً، لكونه يعاقب على تركها، والواجب ما عوقب على تركه.
والأول المذهب، فإن بلغ في أثنائها أو بعدها في الوقت، لزمته إعادتها؛ لأنه صلاها نفلاً، فلم تجزه عما أدرك وقته من الفرض، كما لو نواها نفلاً.
وإن بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو أسلم الكافر، أو طهرت الحائض قبل(1/175)
غروب الشمس، لزمته الظهر والعصر، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر، لزمته المغرب والعشاء؛ لأن ذلك يروى عن عبد الرحمن بن عوف، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن وقتهما وقت لكل واحدة منهما حال العذر، فأشبه ما [لو] أدرك جزءاً من وقت الأولى.
وإن بلغ في وقت الفجر لم يلزمه غيرها؛ لأن وقتها مختص بها.
وتجب الصلاة على المغمى عليه لمرض، أو شرب دواء، وعلى السكران؛ لأن عماراً أغمي عليه فقضى ما فاته، ولأن مدته لا تتطاول، ولا تثبت(1/176)
الولاية عليه، فوجبت عليه كالنائم.
فصل
ومن وجبت عليه الصلاة لم يجز له تأخيرها عن وقتها إذا كان ذاكراً لها، قادراً على فعلها إلا المتشاغل بتحقيق شرطها، ومن أراد الجمع لعذر، فإن جحد وجوبها كفر؛ لأنه كذب الله تعالى في خبره.
وإن تركها متهاوناً بها معتقداً وجوبها وجب قتله؛ لقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فدل على أنهم إذا لم يقيموا الصلاة يقتلون، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعوا على قتال مانعي الزكاة والصلاة آكد منها.
ولا يقتل حتى يستتاب ثلاثة أيام، ويضيق عليه، ويدعى إلى فعل كل صلاة في وقتها، ويقال له: إن صليت وإلا قتلناك؛ لأنه قتل لترك واجب فيتقدمه الاستتابة، كقتل المرتد، فإن تاب، وإلا قتل بالسيف، وهل يقتل حداً أو لكفره؟ .(1/177)
فيه روايتان: إحداهما: لكفره، وهو كالمتمرد في أحكامه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة» رواه مسلم، ولأنها من دعائم الإسلام لا تدخلها نيابة بنفس، ولا مال، فيكفر تاركها كالشهادتين.
والثانية: يقتل حداً كالزاني المحصن، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد إن(1/178)
شاء عذبه وإن شاء غفر له» من المسند، ولو كفر لم يدخله في المشيئة.
ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» ، «ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله» متفق عليهما، ولأنها فعل واجب في الإسلام، فلم يكفر تاركها المعتقد لوجوبها كالحج.(1/179)
[باب أوقات الصلوات]
الأولى هي الظهر، لما روى أبو برزة الأسلمي قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض(1/183)
الشمس، يعني: تزول» في حديث طويل، متفق عليه، وأول وقتها إذا زالت الشمس، وآخره إذا كان ظل كل شيء مثله بعد القدر الذي زالت الشمس عليه، لما روى [ابن عباس] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر في المرة الأولى حين زالت الشمس، والفيء مثل الشراك، ثم صلى بي في المرة الأخيرة حين صار ظل كل شيء مثله، وقال: الوقت ما بين هذين» في حديث طويل، قال الترمذي: هو حديث حسن.
ويعرف زوال الشمس بطول الظل بعد(1/184)
تناهي قصره، والأفضل تعجيلها، لحديث أبي برزة إلا في شدة الحر فإنه يستحب، الإبراد بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا [بالظهر](1/185)
في شدة الحر، فإن شدة الحر من فيح جهنم» متفق عليه.(1/186)
فصل
ثم العصر، وهي الوسطى لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً» متفق عليه، وأول وقتها إذا صار ظل كل شيء مثله، وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جبريل: «وصلى بي العصر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي المرة الآخرة حين صار ظل كل شيء مثليه»(1/187)
وعنه: أن آخره ما لم تصفر الشمس، لما روى عبد الله بن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» رواه مسلم، ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس.
ومن أدرك منها جزءاً قبل الغروب، فقد أدركها، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته» متفق عليه، وتعجيلها أفضل بكل حال، لقول أبي برزة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/188)
يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية» ، متفق عليه.
فصل
ثم المغرب وهي الوتر وأول وقتها، إذا غابت الشمس، وآخره إذا غاب الشفق الأحمر، لما روى بريدة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالاً فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى المغرب في اليوم الثاني حين غاب الشفق، ثم قال: وقت وصلاتكم بين ما رأيتم» رواه مسلم، وفي حديث عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يغب الشفق» ويكره تأخيرها عن وقتها؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلاها بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في(1/189)
اليومين في أول وقتها، وقال جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب إذا وجبت الشمس» ، متفق عليه.
فصل
ثم العشاء وأول وقتها إذا غاب الشفق الأحمر، وآخره ثلث الليل، لما روى بريدة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وصلاها في اليوم الثاني حين ذهب ثلث الليل» ، وحديث ابن عباس في صلاة جبريل مثله، وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق، وجبت الصلاة» رواه الدارقطني.(1/190)
وعنه: آخره نصف الليل، لما روى عبد الله بن عمرو: أن النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) قال: «وقت العشاء إلى نصف الليل» رواه مسلم وأبو داود، والأفضل تأخيرها لقول أبي برزة: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستحب أن يؤخر العشاء» متفق عليه.
ويستحب أن يراعى حال المأمومين، لقول جابر: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي العشاء أحياناً يقدمها وأحياناً يؤخرها إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا، أخر»(1/191)
متفق عليه، ثم يذهب وقت الاختيار، ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني، على ما ذكرنا في وقت العصر.
فصل
ثم الفجر، وأول وقتها إذا طلع الفجر الثاني بغير خلاف، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق معترضاً لا ظلمة بعده، وآخره إذا طلعت الشمس، لما روى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه أمر بلالاً فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني صلى الفجر، فأسفر بها، ثم قال: وقت صلاتكم ما بين ما رأيتم» ، وفي حديث ابن عباس في حديث جبريل مثله.
والأفضل تعجيلها، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفجر، فيشهد(1/192)
معه نساء من المؤمنات، ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس» .(1/193)
متفق عليه.
وعنه: يراعي حال المأمومين، فإن أسفروا فالإسفار أفضل، لما ذكرنا في العشاء.
فصل:
وتجب الصلاة بأول الوقت، لأن الأمر بها يتعلق بأول وقتها، والأمر يقتضي الوجوب، ولأنه سبب الوجوب، فتثبت عقبيه، كسائر الأسباب، ويستقر الوجوب بذلك.
فلو جن بعد دخول جزء من وقت الصلاة، أو حاضت المرأة، لزمها القضاء، لأنه إدراك جزء تجب بها الصلاة، فاستقرت به، كآخر الوقت.
وهل تجب العصر بإدراك جزء من وقت الظهر؟ فيه وجهان:
أحدهما: تجب، لأنه أدرك جزءاً من وقت إحدى صلاتي الجمع، فلزمته الأخرى، كإدراك جزء من وقت العصر.(1/194)
والثاني: لا تجب، لأنه لم يدرك شيئاً من وقتها، ولا وقت تبعها، فأشبه من لم يدرك شيئاً بخلاف العصر، فإنها تفعل تبعاً للظهر، فمدرك وقتها مدرك لجزء من وقت تبع الظهر، وهكذا القول في المغرب والعشاء.
ومن أدرك ركعة من الصلاة قبل خروج الوقت، فهو مدرك لها لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وفي لفظ: «إذا أدرك أحدكم سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإذا أدرك سجدة من صلاة الصبح، فليتم صلاته» متفق عليه.
وفي مدرك أقل من ركعة وجهان:
أحدهما: يكون مدركاً لها لأنه إدراك جزء من الصلاة، فاستوى فيه الركعة وما دونها، كإدراك الجماعة.
والثاني: لا يكون مدركاً لها، لتخصيصه الإدراك بركعة، وقياساً على إدراك الجمعة.
فصل:
ويجوز تأخير الصلاة إلى آخر وقتها، لأن «جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - صلى بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في(1/195)
اليوم الثاني في آخر الوقت» .
فإن أخرها عن وقتها، لزمه قضاؤها على الفور، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. فإن فاتته صلوات، لزمه قضاؤهن مرتبات، لأنها صلوات مؤقتات، فوجب الترتيب فيها، كالمجموعتين.
فإن خشي فوات الحاضرة، قدمها لئلا تصير فائتة، ولأن فعل الحاضرة آكد، بدليل أنه يقتل بتركها، بخلاف الفائتة.
وعنه: لا يسقط الترتيب، لما ذكرنا من القياس.
وإن نسي الفائتة حتى صلى الحاضرة سقط الترتيب، وقضى الفائتة وحدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» رواه النسائي. وإن ذكرها في الحاضرة، والوقت ضيق، فكذلك.
وإن كان متسعاً وهو مأموم، أتمها وقضى الفائتة، وأعاد الحاضرة، لما روى(1/196)
ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام، فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته، فليعد التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام» رواه أبو حفص العكبري وأبو يعلى الموصلي. وروي موقوفاً على ابن عمر.
وفي المنفرد روايتان:
إحداهما: أنه كذلك.
والأخرى: يقطعها.
وعنه في الإمام: أنه ينصرف، ويستأنف المأمومون، قال أبو بكر: لم ينقلها غير حرب.(1/197)
وإن كثرت الفوائت، قضاها متتابعة ما لم تشغله عن معيشته، أو تضعفه في بدنه حتى يخشى فوات الحاضرة، فليصلها، ثم يعود إلى القضاء.
وعنه: إذا كثرت الفوائت فلم يمكنه فعلها قبل فوات الحاضرة، فله فعل الحاضرة في أول وقتها، لعدم الفائدة في التأخير، مع لزوم الإخلال في الترتيب.
فصل:
ومن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها، لزمه خمس صلوات، ينوي في كل واحدة أنها المكتوبة، ليحصل له تأدية فرضه بيقين.
وإن نسي ظهراً وعصراً من يومين لا يدري أيتهما الأولى، لزمه ثلاث صلوات ظهراً، ثم عصراً، ثم ظهراً، [أو] عصراً، ثم ظهراً ثم عصراً، ليحصل له ترتيبها بيقين.
فصل:
ومن شك في دخول الوقت، لم يصل حتى يتيقن، أو يغلب على ظنه ذلك، بدليل.(1/198)
فإن أخبره ثقة عن علم، عمل به، وإن أخبره عن اجتهاد لم يقلده، واجتهد حتى يغلب على ظنه دخوله، فإن صلى فبان أنه وافق الوقت أو بعده، أجزأه، لأنه صلى بعد الوجوب.
وإن وافق قبله، لم يجزه، لأنه صلى قبل الوجوب.
[باب الأذان]
الأذان مشروع للصلوات الخمس دون غيرها، وهو من فروض الكفاية؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، فلم يجز تعطيله، كالجهاد، فإن اتفق أهل بلد على تركه، قوتلوا عليه، وإن أذن واحد في المصر أسقط الفرض عن أهله، ولا يجزئ الأذان قبل الوقت، لأنه لا يحصل المقصود منه، إلا الفجر، فإنه يجزئ الأذان لها بعد نصف الليل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن بلالاً يؤذن بليل؛ فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»(1/199)
متفق عليه. ولأنه وقت النوم فيحتاج إلى التأذين قبل الوقت، لينتبه النائم ويتأهب للصلاة، بخلاف سائر الصلوات.
ولا يؤذن قبل الوقت، إلا من يتخذه عادة لئلا يغر الناس. ويكون معه من يؤذن في الوقت، كفعل بلال وابن أم مكتوم.
ولا يجوز تقديم الإقامة على الوقت، لأنها تراد لافتتاح الصلاة ولا تفتتح قبل الوقت.
فصل:
ويذهب أبو عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أذان بلال الذي أريه عبد الله بن زيد، كما روي عنه أنه قال: «لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس ليضرب به للناس لجمع الصلاة، طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ قلت: ندعو به إلى الصلاة، فال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله(1/200)
أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: تقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بما رأيت، فقال: إنها رؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فألق ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى طوتاً منك» رواه أبو داود. فهذه صفة الأذان والإقامة المستحب، لأن بلالاً كان يؤذن به حضراً وسفراً مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أن مات.
وإن رجع في الأذان، أو ثنى الإقامة، فلا بأس لأنه من الاختلاف المباح.(1/201)
ويستحب أن يقول في أذان الصبح بعد حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم، مرتين، لما روى أبو محذورة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن كان في أذان الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم، مرتين» رواه النسائي. ويكره التثويب في غيره، لما روى بلال قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أثوب في الفجر، ونهاني أن أثوب في العشاء» . رواه ابن ماجه.
ودخل ابن عمر مسجداً يصلي فيه، فسمع رجلاً يثوب في أذان الظهر، فخرج وقال: أخرجتني البدعة.(1/202)
فصل:
ويسن الأذان للفائتة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاتته الصبح فقال: «يا بلال قم فأذن ثم صلى ركعتين، ثم أقام، ثم صلى الغداة» . متفق عليه.
وإن كثرت الفوائت، أذَّن وأقام للأولى، ثم أقام للتي بعدها، لما روى ابن(1/205)
مسعود أن «المشركين شغلوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات حتى ذهب من الليل ما شاء الله، ثم أمر بلالاً، فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» ، رواه الأثرم.
وإن جمع بين الصلاتين، فكذلك، لما روى جابر أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر والعصر بعرفة بأذان وإقامتين» . رواه مسلم.
وإن ترك الأذان للفائتة، أو المجموعتين في وقت الآخرة منهما، فلا بأس، لما روي أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى المغرب والعشاء بإقامة لكل صلاة من غير أذان» ، متفق عليه.
فصل:
ولا يصح الأذان إلا من مسلم عاقل، ولا يصح من كافر ولا طفل ولا مجنون، لأنهم من غير أهل العبادات. ولا يشرع الأذان للنساء، ولا الإقامة، ولا يصح منهن، لأنه يشرع فيه رفع الصوت، ولسن من أهل ذلك، ولا لخنثى مشكل، لأنه لا يعلم كونه رجلاً.
وفي أذان الفاسق والصبي العاقل وجهان:
أحدهما: يصح، لأنه مشروع لصلاتهما، وهما من أهل العبادات.(1/206)
والثاني: لا يصح لأنه إعلام بالوقت، ولا يقبل فيه خبرهما. وفي الأذان الملحَّن وجهان:
أحدهما: يصح، لأنه أتى به مرتباً فصح كغيره.
والثاني: لا يصح، لما روى ابن عباس، قال: «كان لرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤذن يطرب، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الأذان سهل سمح فإن كان أذانك سهلاً سمحاً وإلا فلا تؤذن» رواه الدارقطني.
وفي أذان الجنب وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه أحد الحدثين، فلم يمنع صحته، كالحدث الأصغر.
والثاني: لا يصح؛ لأنه ذكر مشروع للصلاة يتقدمها، أشبه الخطبة.
فصل:
ويستحب للمؤذن أن يكون أميناً لأنه مؤتمن على الأوقات. صيتاً، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه أندى صوتاً منك» رواه أبو داود. ولأنه أبلغ في الإعلام المقصود بالأذان. وأن يكون عالماً بالأوقات، ليتمكن من الأذان في أوائلها. وأن يكون بصيراً، لأن الأعمى لا يعلم، إلا أن يكون(1/207)
معه بصير يؤذن قبله، كبلال مع ابن أم مكتوم، فإن تشاح اثنان في الأذان، قدم أكملهما في هذه الخصال، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم بلالا على عبد الله بن زيد، لكونه أندى صوتاً، وقسنا عليه باقي الخصال. فإن استويا في ذلك، أقرع بينهما لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه(1/208)
لاستهموا» متفق عليه. وتشاح الناس في الأذان يوم القادسية، فأقرع بينهم سعد.
وعنه: يقدم من يرضاه الجيران، لأن الأذان لإعلامهم، فكان لرضاهم أثر في التقديم.
ولا بأس أن يؤذن اثنان أحدهما بعد الآخر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يؤذن له بلال وابن أم مكتوم، إذا نزل هذا طلع هذا» . ولا يسن أكثر من هذا إلا أن تدعو إليه حاجة فيجوز، لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اتخذ أربعة مؤذنين.
فصل:
يستحب أن يؤذن قائماً، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبلال: قم فأذن» ولأنه أبلغ في الإسماع، فإن أذن قاعداً أو راكباً في السفر جاز، لأن الصلاة آكد منه، وهي تجوز كذلك. وأن يؤذن على موضع عال، لأنه أبلغ في الإعلام. وروي أن «بلالاً كان يؤذن على سطح امرأة، ويرفع صوته» ، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال للمؤذن: يغفر له مدى صوته، ويشهد له كل رطب ويابس» رواه أبو داود. ولا يجهد نفسه فوق طاقته؛ لئلا ينقطع صوته، ويؤذي نفسه. وإن أذن لفائتة أو لنفسه في مصر، لم يجهر لأنه لا يدعو أحداً وربما غر الناس. وإن كان في الصحراء جهر في الوقت، فإن أبا(1/209)
سعيد قال: «إذا كنت في غنمك أو باديتك، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء، فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا أنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ،(1/210)
رواه البخاري، ويستحب أن يؤذن متوضئاً، لأن أبا هريرة قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» ، وروي مرفوعاً، أخرجه الترمذي. ويستحب أن يؤذن مستقبل القبلة، ويلتفت يميناً إذا قال: حي على الصلاة، ويساراً إذا قال: حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه، ويجعل إصبعيه في أذنيه، لما روى أبو جحيفة قال: «أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو في قبة حمراء من أدم، وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، يقول يميناً وشمالاً: حي على الصلاة، حي على الفلاح» . متفق عليه. وفي لفظ: «ولم يستدر وأصبعاه في أذنيه» ، رواه الترمذي.
ويستحب أن يترسل في الأذان ويحدر الإقامة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بلال إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» رواه أبو داود. ولأن الأذان إعلام الغائبين والترسل فيه أبلغ في الإسماع، والإقامة إعلام الحاضرين، فلم يحتج إلى الترسل(1/211)
فيه، ويكره التمطيط والتلحين لما تقدم.
فصل:
ولا يصح الأذان إلا مرتباً متوالياً، لأنه لا يعلم أنه أذان بدونهما، فإن سكت فيه سكوتاً طويلاً أعاد. ولا يصح أن يبني على أذان غيره، لأنه عبادة بدنية، فلم يبن فعله على فعل غيره، كالصلاة، فإن أغمي عليه، ثم أفاق قريباً بنى، وإن طال الفصل ابتدأ لتحصيل الموالاة. وإن ارتد في أثنائه بطل أذانه لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . ويكره الكلام فيه، فإن تكلم بكلام طويل ابتدأ، لإخلاله بالموالاة، وإن كان يسيراً بنى، لأن ذلك لا يبطل الخطبة، وهي آكد منه، إلا أن يكون كلاماً محرماً، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبطل، لأنه لا يخل بالمقصود.
والثاني: يبطل، لأنه فعل محرماً فيه.(1/212)
فصل:
ويستحب أن يؤذن في أول الوقت ليعلم الناس بوقت الصلاة فيتهيؤوا لها، وقد روي أن «بلالا كان يؤذن في أول الوقت، وربما أخر الإقامة شيئاً» . رواه ابن ماجه.
ويؤخر الإقامة. لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك قدر ما يفرغ الآكل من أكله، والشارب من شربه، والمعتصر إذا دخل لقضاء حاجته» رواه أبو داود. ولأن الإقامة لافتتاح الصلاة فينبغي أن تتأخر قدراً يتهيؤون فيه للصلاة. فإن كان للمغرب جلس جلسة خفيفة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جلوس المؤذن بين الأذان والإقامة في المغرب سنة» رواه تمام في الفوائد.
ويستحب أن يقيم في موضع أذانه إلا أن يشق عليه، لكونه قد أذن في مكان بعيد، «لقول بلال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تسبقني بآمين» . لأنه لو أقام في موضع صلاته لم يخف سبقه بذلك.
ويستحب لمن أذن أن يقيم لما «روى زياد بن الحارث الصدائي أنه أذن فجاء بلال ليقيم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن أخا صداء أذن ومن أذن فهو يقيم» من المسند. وإن أقام غيره جاز لما روى أبو داود في حديث الأذان أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألقه على بلال فألقاه عليه فأذن بلال، فقال عبد الله: أنا رأيته، وأنا كنت أريده قال: فأقم أنت» .
فصل:
ولا يجوز أخذ الأجرة عليه، لما روي عن عثمان بن أبي العاص أنه قال: «إن آخر ما عهد إلي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً» . قال الترمذي:(1/213)
هذا حديث حسن. ولأنه قربة لفاعله، أشبه الإمامة، وإن لم يوجد من يتطوع به رزق الإمام من بيت المال من يقوم به، لأن الحاجة داعية إليه، فجاز أخذ الرزق عليه، كالجهاد. وإن وجد متطوعاً به لم يرزق
لأن المال للمصلحة فلا يعطى في غير مصلحة.
فصل:
ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول، لما روى أبو سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول» متفق عليه.(1/214)
ويقول عند الحيعلة: لا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله(1/215)
أكبر، الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه، دخل الجنة» رواه مسلم. قال الأثرم: هذا من الأحاديث الجياد.
فإن سمع الأذان في الصلاة لم يقل مثل قوله، لأن في الصلاة شغلاً، فإذا فرغ قال ذلك.
وإن كان في قراءة قطعها، وقال ذلك، لأن القراءة لا تفوت وهذا يفوت. وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء:(1/216)
اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه المقام المحمود(1/217)
الذي وعدته، حلت له الشفاعة يوم القيامة» أخرجه البخاري. وروى [سعد] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال حين يسمع النداء: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، غفر له ذنبه» رواه(1/218)
مسلم. ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد» حديث حسن.
[باب شرائط الصلاة]
وهي ستة:(1/219)
الطهارة من الحدث، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور» رواه مسلم.
والثاني: الطهارة من النجس، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأسماء في دم الحيض: حتيه، ثم اقرصيه، ثم اغسليه، وصلي فيه» فدل على أنها ممنوعة من الصلاة فيه قبل غسله،(1/220)
فمتى كانت عليه في بدنه أو ثيابه نجاسة مقدور على إزالتها غير معفو عنها، لم تصح صلاته.
وإن جبر عظمه بعظم نجس، فجبر، لم يلزمه قلعه إذا خاف الضرر وأجزأته صلاته، لأن ذلك يبيح ترك التطهر من الحدث، وهو آكد.
ويحتمل أن يلزمه قلعه إذا لم يخف التلف، لأنه لا يخاف التلف، أشبه إذا لم يخف الضرر.
وإن أكل نجاسة، لم يلزمه فيها، لأنها حصلت في معدته، فصارت كالمستحيل في المعدة.
وإن عجز عن إزالة النجاسة عن بدنه، أو خلع الثوب النجس، لكونه مربوطاً، أو نحو ذلك، صلى ولا إعادة عليه، لأنه شرط عجز عنه فسقط، كالسترة.
وإن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه، لأن ستر العورة آكد لوجوبه في الصلاة وغيرها، وتعلق حق الآدمي به في ستر عورته، وصيانة نفسه.
والمنصوص أن يعيد، لأنه ترك شرطاً مقدوراً عليه.
ويتخرج أن لا يعيد، كما لو عجز عن خلعه، أو صلى في موضع نجس، لا يمكنه الخروج منه. وإن خفي عليه موضع النجاسة لم يزل حكمها حتى يغسل ما يتيقن به أن التطهر قد لحقها، لأنه تيقن النجاسة، فلا يزول إلا بيقين غسلها.
فإن صلى على منديل طرفه نجس على الطاهر منه صحت صلاته، فإن كان المنديل عليه، أو متعلقاً به، بحيث ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه حامل لها وإن كان في يده حبل مشدود في شيء نجس ينجر معه إذا مشى، لم تصح صلاته، لأنه كالحامل لها، وإن كان لا ينجر معه كالفيل والسفينة النجسة، لم تبطل صلاته، لأنه غير حامل لها، فأشبه ما لو كان مشدوداً في دار فيها حش.(1/221)
وإن حمل في الصلاة حيواناً طاهراً لم تبطل صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى حاملاً أمامة بنت زينب ابنته» . متفق عليه. ولأن ما في الحيوان من النجاسة في معدته، فأشبه ما في جوف المصلي.
ولو حمل قارورة فيها نجاسة، لم تصح صلاته، لأنه حامل لنجاسة في غير معدتها، أشبه ما لو حملها في كمه.
فصل:
ويشترط طهارة موضع صلاته، لأنه يحتاج إليه في الصلاة، أشبه الثوب فإن كان بدنه أو ثوبه يقع على موضع نجس، لم تصح صلاته. وإن لاصقها على حائط، أو ثوب إنسان، فذكر ابن عقيل أن صلاته صحيحة، لأنه ليس بموضع لصلاته، ولا محمولاً فيها.
وإن سقطت عليه نجاسة يابسة فزالت، أو أزالها بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه زمن يسير، فعفي عنه، كاليسير في القدر وإن كانت النجاسة محاذية لبدنه في سجوده، لا تصيب بدنه، ولا ثوبه، صحت صلاته.
وإن بسط على الأرض النجسة ثوباً أو طينها، صحت صلاته عليها مع الكراهة، لأنه ليس بحامل للنجاسة، ولا مباشر لها.
وقيل: لا تصح لأن اعتماده على الأرض النجسة.
وإن خفيت النجاسة في موضع معين، حكمه حكم الثوب. وإن خفيت في صحراء صلى حيث شاء، لأنه لا يمكنه حفظها من النجاسة، ولا غسل جميعها.
فإن حبس في مكان نجس صلى ولا إعادة عليه، لأنه صلى على حسب حاله، أشبه المربوط إلى غير القبلة فإن كانت رطبة يخاف تعديها إليه أومأ بالسجود، وإن لم يخف سجد بالأرض.
فصل:
إذا رأى عليه نجاسة بعد الصلاة، وجوز حدوثها بعدها، لم تلزمه الإعادة لأن الأصل عدمها في الصلاة.(1/222)
وإن علم أنها كانت عليه في الصلاة، ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد، لأنها طهارة واجبة، فلم تسقط بالجهل، كالوضوء وقياساً على سائر الشرائط.
والثانية: لا يلزمه، لما روى أبو سعيد أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلع نعليه في الصلاة، فخلع الناس نعالهم، فقال: ما لكم خلعتم؟ فقالوا: رأيناك خلعت نعليك، فخلعنا نعالنا، فقال: أتاني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فأخبرني أن فيهما قذراً» رواه أبو داود. ولو بطلت لاستأنفها، فعلى هذا إن علم بها في الصلاة، فأمكنه إزالتها بغير عمل طويل، فعل كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإن علم بها قبل الصلاة ثم نسيها، فقال القاضي: يعيد، لأنه فرط في تركها. وقال أبو الخطاب: فيها روايتان، كالتي قبلها، لأن ما عذر فيه بالجهل عذر فيه بالنسيان، كواجبات الصلاة.
فصل:
ولا تصح الصلاة في خمسة مواضع:
المقبرة، حديثة كانت أو قديمة، والحمام داخله وخارجه، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام» رواه أبو داود. وروى أبو مرثد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها» رواه مسلم.(1/223)
وأعطان الإبل، وهي التي تقيم فيها وتأوي إليها، لما روى جابر بن سمرة أن رجلاً قال: «يا رسول الله أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أنصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا.» رواه مسلم. ولأن هذه المواضع مظنة للنجاسة فأقيمت مقامها.
والحش، لأن النهي عن هذه المواضع تنبيه على النهي عنه، ولأن احتمال النجاسة فيه أكثر وأغلب.
والموضع المغصوب، لأن قيامه وقعوده ولبثه فيه محرم، منهي عنه، فلم يقع عبادة، كالصلاة في زمن الحيض.
وعنه: أن الصلاة في هذه المواضع تصح مع التحريم، لأن النهي لمعنى في غير الصلاة، أشبه المصلي وفي يده خاتم من ذهب، وعنه: إن علم النهي لم تصح صلاته، لارتكابه للنهي، وإن لم يعلم صحت. وضم بعض أصحابنا إلى هذه المواضع أربعة أخر، المجزرة، وهي موضع الذبح، والمزبلة، وقارعة الطريق، وظهر البيت الحرام، فجعل فيها الروايات الثلاث، لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبعة مواطن لا تجوز فيها الصلاة، المجزرة والمزبلة، والمقبرة ومعاطن الإبل، والحمام وقارعة الطريق، وفوق بيت الله العتيق» رواه ابن ماجه. وفيه ضعف، ولأن قارعة الطريق والمجزرة والمزبلة مظان للنجاسة، أشبهت(1/224)
الحش والحمام، وفي الكعبة يكون مستدبراً لبعض القبلة. وإن صلى النافلة في الكعبة، أو على ظهرها وبين يديه شيء منها، صحت صلاته، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في البيت ركعتين» . متفق عليه.
والصلاة إلى هذه المواضع صحيحة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فحيثما أدركتك الصلاة فصل» متفق عليه. إلا المقبرة فإن ابن حامد قال: لا تصح الصلاة إليها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصلوا إليها» وإن صلى في مسجد بني في المقبرة، فحكمه حكمها. وإن حدثت المقبرة حوله صحت الصلاة فيه، لأنه ليس بمقبرة.
وفي أسطحة هذه المواضع وجهان:
أحدهما: أن حكمها حكمها، لأنها تابعة لها.(1/225)
والثاني: تصح، لأنه ليس بمظنة للنجاسة، ولا يتناوله النهي.
[باب ستر العورة]
وهو الشرط الثالث للصلاة، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» رواه أبو داود. وعورة الرجل ما بين سرته وركبتيه لما روى أبو أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسفل السرة وفوق الركبتين من العورة» رواه أبو بكر بإسناده. وعن جرهد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غط فخذك فإن الفخذ من العورة» رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسند، وليست السرة والركبة من العورة، لما ذكرنا.
وعنه: أنها الفرجان، لما روى أنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه البخاري. وعورة الحر والعبد سواء، لعموم الأحاديث.
فصل:
والمرأة كلها عورة إلا الوجه، وفي الكفين روايتان: لقول الله تعالى:(1/226)
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]
قال ابن عباس: وجهها وكفيها، ولأنه يحرم ستر الوجه في الإحرام، وستر الكفين بالقفازين، ولو كانا عورة، لم يحرم سترهما.
والثانية: أن الكفين عورة لأن المشقة لا تلحق في سترهما فأشبها سائر بدنها، وما عدا هذا عورة؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» وعن أم سلمة قالت: «يا رسول الله تصلي المرأة في درع وخمار وليس عليها إزار؟ فقال: نعم إذا كان سابغاً يغطي ظهور قدميها» رواه أبو داود.
فصل:
وما يظهر غالباً من الأمة، كالرأس واليدين إلى المرفقين والرجلين إلى الركبتين، ليس بعورة، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نهى الأمة عن التقنع والتشبه بالحرائر، قال القاضي في الجامع: وما عدا ذلك عورة، لأنه لا يظهر غالباً، أشبه ما تحت السرة.
وقال ابن حامد: عورتها كعورة الرجل، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زوج أحدكم أمته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى شيء من عورته، فإن ما تحت السرة إلى الركبة عورة يريد عورة الأمة» ، رواه الدارقطني. ولأنه من لم يكن رأسه عورة لم يكن صدره عورة، كالرجل والمدبرة والمعلق عتقها بصفة كالقن، لأنهما مثلها في البيع وغيره. وأم الولد والمعتق بعضها كذلك، لأن الرق باق فيهما إلا أنه يستحب لهما التستر، لما فيهما من شبه الأحرار.
وعنه: أنها كالحرة لذلك.
وعورة الخنثى المشكل كعورة الرجل، لأن الأصل عدم وجوب الستر، فلا نوجبه بالشك، وإن قلنا: العورة الفرجان، لزمه ستر قبله وذكره، لأن أحدهما واجب الستر، ولا يتيقن ستره إلا بسترهما.
فصل:
وإن انكشف من العورة شيء يسير عفي عنه، لأن اليسير يشق التحرز منه. وإن كثر بطلت الصلاة به، لأن التحرز منه ممكن، وإن أطارت الريح ثوبه عن عورته، فأعاده بسرعة، لم تبطل صلاته، لأنه يسير فأشبه اليسير في العورة.(1/227)
فصل:
ويجب ستر العورة بما يستر لون البشرة من الثياب أو الجلود أو غيرها، فإن وصف لون البشرة، لم يعتد به. لأنه ليس بساتر. ويجب أن يجعل على عاتقه شيئاً من اللباس في الصلاة المفروضة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء» متفق عليه. فإن ترك عليه شيئاً من اللباس أجزأه وإن لم يسترها؛ استدلالاً بمفهوم الحديث. وقال القاضي: ستر المنكبين واجب في الفرض، وقيل: يجزئه وضع خيط، وظاهر الحديث يدل على ما ذكرناه.
فصل:
ويستحب للرجل أن يصلي في قميص ورداء أو إزار وسراويل، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو قال: قال عمر: «إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما» . رواه أبو داود. فإن اقتصر على ثوب واحد أجزأه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد» . متفق عليه. والقميص أولى من الرداء، لأنه أعم في الستر، فإن كان واسع الجيب ترى منه عورته، لم يجزئه، لما روى سلمة بن الأكوع قال: قلت: «يا رسول الله إنا نصيد أفنصلي في القميص الواحد؟ قال: نعم وازرره ولو بشوكة» حديث حسن. فإن كان ذا لحية تسد جيبه فلا ترى عورته جاز. وإن صلى في رداء، وكان واسعاً، التحف به. وإن كان(1/228)
ضيقاً خالف بين طرفيه على منكبيه، كالقصار، لما روى عمر بن أبي سلمة قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في ثوب واحد، قد ألقى طرفيه على عاتقيه» . متفق عليه. وإن لم يجد ما يستر عورته أو منكبيه، ستر عورته، لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعاً، فالتحف به، وإن كان ضيقاً فاتزر به» رواه البخاري.
ويستحب للمرأة أن تصلي في درع وخمار وجلباب تلتحف به، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درع وخمار وإزار. وإن صلت في درع وخمار يستر جميع بدنها أجزأ، لما روينا من حديث أم سلمة وقد روي عن أم سلمة وميمونة أنهما كانا يصليان في درع وخمار، ليس عليهما أزار. رواه مالك.
فصل:
فإن عدم السترة، وأمكنه الاستتار بحشيش بربطه عليه، أو ورق، لزمه، لأنه ساتر للبشرة، أشبه الثياب. وإن وجد طيناً لم يلزمه أن يطين عورته، لأنه يلوثه ولا يغيب الخلقة. وإن وجد بارية تؤذي جسمه، ويدخل القصب فيه، لم يلزمه لبسها، لما فيه من الضرر. وإن وجد ماء لم يلزمه النزول فيه، وإن كان كدر، لأنه ليس يستره، ويمنعه التمكن من الصلاة.
فصل:
فإن لم يجد إلا ما يستر بعض العورة ستر الفرجين، لأنهما أغلظ، وإن لم يكف إلا أحدها ستر الدبر في أحد الوجهين لأنه أفحش، وفي الآخر القبل، لأنه به يستقبل القبلة، والدبر يستتر بالأليتين، وأيهما ستر أجزأه.
فصل:
فإن عدم بكل حال صلى عرياناً جالساً يومئ بالسجود، لأنه يحصل به ستر أغلظ العورة , وهو آكد لما ذكرناه، وعنه يصلي قائماً ويركع ويسجد لأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط. يصلي العراة جماعة صفاً واحداً لئلا يرى(1/229)
بعضهم عورات بعض، ويقوم إمامهم في وسطهم ليكون أستر له، فإن لم يسعهم صف واحد صلوا صفين وغضوا أبصارهم، فإن كان فيهم نساء صلى كل نوع لأنفسهم، فإن ضاق المكان صلى الرجال واستدبرهم النساء ثم صلى النساء واستدبرهن الرجال.
فصل:
وإن وجد السترة بعد الصلاة لم يعد لأنه شرط للصلاة عجز عنه، أشبه القبلة، وإن وجدها في أثناء الصلاة قريبة، ستر وبنى، لأنه عمل قليل، وإن كانت بعيدة بطلت صلاته لأنه يفتقر إلى عمل كثير. وإن عتقت الأمة في الصلاة وهي مكشوفة الرأس فكذلك، فإن لم تعلم حتى صلت أعادت، كما لو بدت عورتها ولم تعلم بها.
فصل:
إذا كان معهم ثوب لأحدهم لزمته الصلاة فيه، فإن آثر غيره وصلى عرياناً لم تصح لأنه قادر على السترة، فإذا صلى استحب أن يعيره لرفقته، فإن لم يفعل لم يغصب لأن صلاتهم تصح بدونه. وإن أعاره لواحد لزمه قبوله وصار بمنزلته لأن المنة لا تلحق به، ولو وهبه له لم يلزمه قبوله، لأن فيه منة، فإن أعاره لجميعهم صلى فيه واحد بعد واحد إلا أن يخاف ضيق الوقت، فيصلي فيه واحد والباقون عراة. ويستحب أن يعيره لمن يصلح لإمامتهم حتى يؤمهم، ويقوم بين أيديهم فإن أعاره لغيره، جاز.
قال القاضي: ويصلي وحده، لأنه قادر على شرط الصلاة، فلم يجز أن يأتم بالعاجز عنه، كالمعافى يأتم بمن به سلس البول.
فصل:
ويحرم لبس الثوب المغصوب، لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه، فإن لم يجد غيره، صلى وتركه، ويحرم على الرجال استعمال ثياب الحرير، في لبسها وافتراشها، وكذلك المنسوج بالذهب، والمموه به، لما روى أبو موسى أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وإن صلى في ذلك، ففيه روايتان. مضى توجيههما في المواضع المنهي عنها.(1/230)
وإن صلى في عمامة محرمة، أو خاتم ذهب، صحت صلاته، لأن النهي لا يعود إلى شرط الصلاة.
ولا بأس في صلاة المرأة في الحرير والذهب، لحله لها. ولا بأس بلبس الرجل الخز، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لبسوه. ومن لم يجد إلا ثوب حرير، صلى فيه، ولا يعيد، لأنه مباح له في تلك الحال، ويباح علم الحرير في الثوب إذا كان أربع أصابع فما دون لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحرير إلا موضع إصبعين، أو ثلاث أو أربع» . حديث صحيح.
وقال أبو بكر: يباح وإن كان مذهباً، وكذلك الرقاع، ولبنة الجيب، وسجف الفراء، وما نسج من الحرير وغيره، جاز لبسه إذا قل الحرير عن النصف، لما روي عن ابن عباس أنه قال: «إنما نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثوب المصمت، أما العلم وسدى الثوب، فليس به بأس» . رواه أبو داود. وإن زاد على النصف حرم لأن الحكم للأغلب، وإن استويا ففيه وجهان:
أحدهما: إباحته للخبر.
والثاني: تحريمه، لعموم خبر التحريم.
ويباح لبس الحرير للقمل والحكة، لأن أنساً روى أن «عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام شكوا القمل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فرخص لهما في قميص الحرير» . متفق عليه.
وعنه: لا يباح، لعموم التحريم، واحتمال اختصاصهم بذلك. وهل يباح لبسه في الحرب، فيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم الخبر.
والثانية: يجوز، لأن المنع منه للخيلاء، وهي غير مذمومة في الحرب، وكان لعروة يلمق من ديباج، بطانته من سندس، يلبسه في الحرب.(1/231)
وليس لولي الصبي أن يلبسه الحرير، لأنه ذكر فيدخل في عموم الخبر.
وعنه: يباح، لأن الصبي غير مكلف، فأشبه ما لو ألبسه الدابة.
فصل:
ويكره للرجل لبس المزعفر والمعصفر. لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى أن يتزعفر الرجل» . متفق عليه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهاني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لباس المعصفر» . رواه مسلم. ولا بأس بذلك للنساء. فأما ما عليه صور الحيوان فقال أبو الخطاب: يحرم لبسه، لأن أبا طلحة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب، ولا صورة» . وقال ابن عقيل: يكره وليس بمحرم، لأن في سياق الحديث: «إلا رقم في ثوب» متفق عليه.
فصل:
ويكره اشتمال الصماء، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى عن اشتمال(1/232)
الصماء» . رواه البخاري. ومعنى الصماء: أن يجعل الرداء تحت كتفه الأيمن، ويرد طرفيه على الأيسر، فيبقى منكبه الأيمن مكشوفاً.
وعنه: إنما نهي عنه إذا لم يكن عليه إزار فيبدو فرجه، أما إذا كان عليه إزار فتلك لبسة المحرم، لا بأس بها.
ويكره إسبال القميص والإزار والسراويل اختيالاً، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه» متفق عليه.
ويكره تغطية الفم في الصلاة، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه» . رواه أبو داود.
ويكره شد الوسط بما يشبه شد الزنار، لما فيه من التشبه بالنصارى، فأما شده بغير ذلك، فلا بأس به. ويكره لف الكم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعراً ولا ثوباً» متفق عليه.
[باب استقبال القبلة]
وهو الشرط الرابع للصلاة، لقول الله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] . والناس في القبلة على ضربين:
منهم من يلزمه إصابة العين، وهو المعاين للكعبة.
أو من بمكة أو قريباً منها من وراء حائل، فمتى علم أنه مستقبل الكعبة عمل بعلمه، وإن لم يعلم كالأعمى، والغريب بمكة، أجزأه الخبر عن يقين، أو مشاهدة أنه مصل إلى عين الكعبة.(1/233)
الثاني: من فرضه إصابة جهة الكعبة، وهو البعيد عنها فلا يلزمه إصابة العين، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين، يستقبلان قبلة واحدة، ولا يمكن أن يصيب العين إلا أحدهما، وهذا ينقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: الحاضر في قرية أو من يجد من يخبره عن يقين، ففرضه التوجه إلى محاريبهم أو الرجوع إلى خبرهم، لأن هذا بمنزلة النص، فلا يجوز الرجوع إلى الاجتهاد معه، كالحاكم إذا وجد النص.
الثاني: من عدم ذلك، وهو عارف بأدلة القبلة، ففرضه الاجتهاد، لأن له طريقاً إلى معرفتها بالاجتهاد، فلزمه ذلك، كالعالم في الحادثة.
الثالث: من عجز عن ذلك، لعدم بصره أو بصيرته، أو لرمد أو حبس، ففرضه تقليد المجتهد، لأنه عجز عن معرفة الصواب باجتهاده، فلزمه التقليد، كالعامي في الأحكام، وإن أمكنه تعرف الأدلة، والاستدلال بها قبل خروج الوقت، لزمه ذلك، لأنه قدر على التوجه باجتهاد نفسه، فلم يجز له تقليد غيره كالعالم، فإن اختلف مجتهدان قلد العامي أوثقهما عنده، فإن قلد الآخر احتمل أن يجوز، لأنه دليل مع عدم غيره، فكذلك مع وجوده، واحتمل أن لا يجوز، لأنه عمل بما يغلب على ظنه خطؤه، فأشبه المجتهد إذا خالف جهة ظنه، فإن استويا عنده، قلد من شاء منهما كالعامي في الأحكام.
فصل:
ومن ترك فرضه في الاستقبال وصلى، لم تصح صلاته، وإن أصاب؛ لأنه تارك لفرضه، فأشبه ما لو أخطأ، وإن أتى بفرضه فبان أنه أخطأ، وكان في الحضر، أعاد، لأن ذلك لا يكون إلا لتفريط، وإن كان مسافراً لم يعده، لأنه أتى بما أمر من غير تفريط، فلم تلزمه إعادة، كما لو أصاب. وإن بان له الخطأ في الصلاة، استقبل جهة القبلة، وبنى على صلاته، لأن «أهل قباء بلغهم تحويل القبلة، وهم في الصلاة، فاستداروا إليها، وأتموا صلاتهم» . متفق عليه. وإن اختلف اجتهاد رجلين، لم يجز لأحدهما(1/234)
الائتمام بصاحبه، لأنه يعتقد خطأه، وإن اتفق اجتهادهما فصليا جميعاً، فبان الخطأ لأحدهما، استدار وحده، ونوى كل واحد منهما مفارقة صاحبه، فإن كان معهما مقلد تبع الذي قلده منهما، فدار بدورانه، وأقام بإقامته، وإن قلدهما جميعاً لم يدر إلا بدورانهما لأنه دخل في الصلاة بظاهر، فلا يزول إلا بمثله. وإن تغير اجتهاده في الصلاة رجع إليه كما لو بان له الخطأ، نص عليه لأنه مجتهد أداه اجتهاده إلى جهة، فلم يجز له تركها. وقال ابن أبي موسى: لا يرجع ويبني على الأول كيلا ينقض اجتهاده باجتهاده، والأول أولى. وإن شك في الصلاة مضى على ما هو عليه لأنه دخل فيها بظاهر فلا يزول عنه بالشك. وإن تبين له الخطأ، ولم يعلم جهة القبلة، فسدت صلاته، لأنه لا يمكن إتمامها إلى جهة يعلم الخطأ فيها، ولا التوجه إلى جهة أخرى بغير دليل، وإن صلى بالاجتهاد، ثم أراد صلاة أخرى لزمه الاجتهاد لها، كالحاكم إذا اجتهد في حادثة، ثم حدثت مرة أخرى.
فصل:
فإن خفيت الأدلة على المجتهد بغيم أو غيره، صلى على حسب حاله، ولا إعادة عليه، لما روى عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال: «كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزل قَوْله تَعَالَى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » رواه ابن ماجة والترمذي. ولأنه أتى بما أمر به فأشبه المجتهد مع ظهور الأدلة. وإن لم يجد المقلد من يقلده صلى، وفي الإعادة روايتان:
إحداهما: لا يعيد، لما ذكرنا.
والثاني: يعيد، لأنه صلى بغير دليل.
وقال ابن حامد: إن أخطأ أعاد وإلا ففيها وجهان.
ويجوز للأعمى الاستدلال باللمس، فإذا لمس المحراب جاز له استقباله لأنه يحصل بذلك العلم، فأشبه البصير، فإن شرع في الصلاة بخبر غيره، فأبصر في أثنائها وهو ممن فرضه الخبر، بنى على صلاته، لأن فرضه لم يتغير، وإن كان فرضه الاجتهاد فشاهد ما يدل على القبلة من شمس أو محراب أو نحوه، أتم صلاته، وإن لم يشاهد(1/235)
شيئاً وكان قلد مجتهداً فسدت صلاته لأن فرضه الاجتهاد، فلا تجوز صلاته باجتهاد غيره.
فصل:
ولا يقبل خبر كافر ولا فاسق ولا صبي ولا مجنون، لما تقدم، ويقبل خبر من سواهم من الرجال والنساء والعبيد والأحرار، لأنه خبر من أخبار الديانة فأشبه الرواية، وإن رأى محاريب لا يعلم أهي للمسلمين أم لغيرهم؟ لم يلتفت إليها لأنه لا دلالة له فيها.
فصل:
والمجتهد في القبلة العالم بأدلتها وإن كان عامياً، ومن لا يعرفها، فهو مقلد وإن كان فقيهاً، فإن من علم دليل شيء كان مجتهداً فيه، وأوثق أدلتها النجوم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ، وآكدها القطب، وهو نجم خفي حوله أنجم دائرة كفراشة الرحى إحدى طرفيها الفرقدان. وفي طرفها الآخر الجدي، وبين ذلك أنجم صغار ثلاثة من فوق وثلاثة من أسفل، تدور هذه الفراشة حول القطب دوران الرحى حول قطبها في كل يوم وليلة دورة، وحول الفراشة بنات نعش مما يلي الفرقدين، وهي سبعة أنجم متفرقة مضيئة، والقطب في وسط الفراشة لا يبرح مكانه، إذا جعله إنسان وراء ظهره في الشام، كان مستقبلاً للكعبة، وإن استدبر الفرقدين أو الجدي كان مستقبلاً للجهة، وكذلك بنات نعش، إلا أن انحرافه يكون أكثر، والشمس والقمر ومنازلهما، وهي ثمانية وعشرون منزلاً تطلع كلها من المشرق، وتغرب من المغرب، يكون في طلوعها على ميسرة المصلي، وفي غروبها عن يمينه.
ويستدل من الرياح بأربع تهب من زوايا السماء، الدبور تهب مما بين المغرب والقبلة، مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن، والصبا مقابلتها تهب من ظهره إلى كتفه اليسرى مارة إلى مهب الدبور، والجنوب تهب مما بين المشرق والقبلة مارة إلى الزاوية المقابلة لها، والشمال تهب من مقابلتها مارة إلى مهب الجنوب.
فصل:
ويسقط الاستقبال في ثلاثة مواضع:(1/236)
أحدها: عند العجز لكونه مربوطاً إلى غير القبلة، يصلي على حسب حاله، لأنه فرض عجز عنه أشبه القيام.
والثاني: في شدة الخوف مثل حال التحام الحرب، والهرب المباح من عدو أو سيل أو سبع لا يمكنه التخلص منه إلا بالهرب، فيجوز له ترك القبلة، ويصلي حيث أمكنه راجلاً وراكباً، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مستقبلي القبلة وغير مستقبليها» رواه البخاري.
ولأنه عاجز عن الاستقبال، فأشبه المربوط، فإن كان طالباً للعدو يخاف فوته، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز له صلاة الخائف كالمطلوب، لأن عبد الله بن أنيس قال: «بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى سفيان بن خالد الهذلي لأقتله، فانطلقت أمشي فحضرت العصر، وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه» . رواه أبو داود، وظاهره أنه أخبر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكره. وقال الأوزاعي: قال شرحبيل بن حسنة: لا تصلوا الصبح إلا على ظهر، فنزل الأشتر فصلى على الأرض، فمر به شرحبيل، فقال: مخالف خالف الله به، فخرج الأشتر في الفتنة. ولأنها إحدى حالتي الخوف، فأشبهت حالة المطلوب.
والثانية: لا يجوز، لأنه آمن.
الثالث: النافلة في السفر، فإن كان راكباً، فله الصلاة على دابته، لما روى ابن عمر أن «رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، وكان يوتر على بعيره» . متفق عليه. وكان يصلي على حماره، ولا فرق بين السفر الطويل والقصير، لأن ذلك تخفيف في التطوع كيلا يؤدي إلى قطعه وتقليله، فيستوي فيه الطويل والقصير، فإن أمكنه الاستقبال والركوع والسجود، كالذي في العمارية، لزمه ذلك، لأنه كراكب السفينة، ويحتمل أن لا يلزمه، لأن الرخصة العامة يستوي فيها ذو الحاجة وغيره. وإن شق عليه، صلى حيث كان وجهه يومئ بالركوع والسجود، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، وإن شق عليه استقبال القبلة في تكبيرة الإحرام كراكب(1/237)
الجمل المقطور لا يمكنه إدارته، لم يلزمه. وإن كان سهلاً ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ذلك، اختاره الخرقي، لأنه أمكنه الاستقبال في ابتداء الصلاة، فلزمه كالماشي.
والثاني: لا يلزمه، اختاره أبو بكر، لأنه جزء من الصلاة، فأشبه سائرها، فإن عدلت به البهيمة عن جهة مقصده إلى جهة القبلة، جاز لأنها الأصل، وإن عدلت إلى غيرها، وهو عالم بذلك مختار له، بطلت صلاته، لأنه ترك قبلته لغير عذر. وإن ظنها طريقه أو غلبته الدابة، لم تبطل.
فأما الماشي ففيه روايتان:
إحداهما: له الصلاة حيث توجه لأنها إحدى حالتي سير المسافر، فأشبه الراكب، لكنه يلزمه الركوع والسجود على الأرض، مستقبلاً لإمكان ذلك.
والثانية: لا يجوز، وهو ظاهر قول الخرقي، لأن الرخصة وردت في الراكب، والماشي يخالفه، لأنه يأتي في الصلاة يمشي وذلك عمل كثير، فإن دخل المسافر في طريقه بلداً جاز أن يصلي فيه، وإن كان في البلد الذي يقصده، أتم صلاته ولم يبتدئ فيه صلاة.
[باب اشتراط دخول الوقت لصحة الصلاة]
باب في الشرط الخامس: وهو الوقت وقد ذكرنا أوقات المكتوبات، ولا تصح الصلاة قبل وقتها بغير خلاف، فإن أحرم بها فبان أنه لم يدخل وقتها، انقلبت نفلاً، لأنه لما بطلت نية الفريضة، بقيت نية الصلاة. ووقت سنة كل صلاة مكتوبة متقدمة عليها من دخول وقتها إلى فعلها، ووقت التي بعدها من فعلها إلى آخر وقتها، فأما النوافل المطلقة، فجميع الزمان وقت لها إلا خمسة أوقات، بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تنزل، وبعد العصر حتى تتضيف الشمس للغروب، وإذا تضيفت حتى تغرب، فلا يجوز التطوع في هذه الأوقات بصلاة لا سبب لها، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس» متفق عليه. وروى عقبة بن عامر قال: «ثلاث ساعات، كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي(1/238)
فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب» . رواه مسلم. والنهي عما بعد العصر يتعلق بالفعل، فلو لم يصل فله التنفل، وإن صلى غيره، لأن لفظ العصر بإطلاقه ينصرف إلى الصلاة. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيما بعد الصبح مثل ذلك، لأنها إحدى الصلاتين، فكان النهي متعلقاً بفعلها، كالعصر. والمشهور في المذهب أنه متعلق بالوقت، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليبلغ الشاهد الغائب أن لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين» . رواه أبو داود. وسواء في هذا مكة، ويوم الجمعة وغيرهما، لعموم النهي في الجميع.
فصل:
ويجوز قضاء المكتوبات في كل وقت، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» متفق عليه. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته» ويجوز في وقتين منهما، وهما بعد الفجر، وبعد العصر، الصلاة على الجنازة، لأنهما وقتان طويلان، فالانتظار فيهما يضر بالميت، وركعتا الطواف بعده، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت، وصلى في أي ساعة شاء من ليل أو نهار» رواه الشافعي والأثرم. وإعادة الجماعة لما روى يزيد بن الأسود أنه قال: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الفجر، فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحلكما ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم فإنها لكم نافلة» رواه الأثرم.
فأما فعل هذه الصلوات الثلاث في الأوقات الثلاثة الباقية، ففيها روايتان:
إحداهما: يجوز لعموم الأدلة المجوزة، ولأنها صلاة جازت في بعض أوقات(1/239)
النهي، فجازت في جميعها، كالقضاء.
والثانية: لا يجوز، لقول عقبة في حديثه: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا» .
وذكر الصلاة مع الدفن ظاهر في الصلاة على الميت، ولأن النهي في هذه الأوقات آكد لتخصيصهن بالنهي في أحاديث، ولأنها أوقات خفيفة، لا يخاف على الميت فيها، ولا يشق تأخير الركوع للطواف فيها بخلاف غيرها.
فصل:
ومتى أعاد المغرب شفعها برابعة نص عليه، لأنها نافلة، ولا يشرع التنفل بوتر في غير الوتر، ومتى أقيمت الصلاة في وقت نهي، وهو خارج من المسجد، لم يستحب له الدخول، فإن دخل صلى معهم، لما روي عن ابن عمر أنه خرج من دار عبد الله بن خالد حتى إذا نظر إلى باب المسجد إذا الناس في الصلاة فلم يزل واقفاً حتى صلى الناس، وقال: إني قد صليت في البيت.
فصل:
فأما سائر الصلوات ذوات الأسباب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وقضاء السنن، ففيها روايتان:
إحداهما: المنع لعموم النهي، ولأنها نافلة، فأشبهت ما لا سبب له.
والثانية: يجوز فعلها، لما روت أم سلمة، قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله صليت صلاة لم أكن أراك تصليها، فقال: إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر، وإنما قدم وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فهما هاتان الركعتان» رواه مسلم. وعن قيس بن عمر قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلاً يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلاة الصبح مرتين؟ فقال له الرجل: إني لم أكن صليت ركعتين قبلها، فصليتهما الآن، فسكت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .(1/240)
رواه أبو داود. ولأنها صلاة ذات سبب، فأشبهت ركعتي الطواف، والمنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الوتر أنه يفعله قبل الفجر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن «الله زادكم صلاة فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح» رواه الأثرم. وقال في ركعتي الفجر: إن صلاهما بعد الفجر أجزأه. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأما أنا فأختار تأخيرهما إلى الضحى، لما روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس» .
[باب النية في الصلاة]
باب النية
وهي الشرط السادس، فلا تصح الصلاة إلا بها بغير خلاف، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة، فلم تصح بغير نية، كالصوم. ومحل النية: القلب، فإذا نوى بقلبه أجزأه، وإن لم يلفظ بلسانه. وإن نوى صلاة فسبق لسانه إلى غيرها، لم تفسد صلاته.
والأفضل النية مع تكبيرة الإحرام، لأنها أول الصلاة لتكون النية مقارنة للعبادة، ويستحب استصحاب ذكرها في سائر الصلوات، لأنها أبلغ في الإخلاص، وإن تقدمت النية التكبير بزمن يسير، جاز ما لم يفسخها، لأن أولها من أجزائها، فكفى استصحاب النية فيها كسائر أجزائها. وإن كانت فرضاً لزمه أن ينوي الصلاة بعينها، ظهراً أو عصراً لتتميز عن غيرها. قال ابن حامد: ويلزمه أن ينوي فرضاً، لتتميز عن ظهر الصبي، والمعادة. وقال غيره: لا يلزمه لأن ظهر هذا لا يكون إلا فرضاً، وينوي الأداء في الحاضرة والقضاء في الفائتة، وفي وجوب ذلك وجهان:
أولاهما: أنه لا يجب لأنه لا يختلف المذهب في من صلى في الغيم بالاجتهاد، فبان بعد الوقت أن صلاته صحيحة، وقد نواها أداء، فإن كانت سنة معينة كالوتر ونحوه، لزم تعيينها أيضاً، وإن كانت نافلة مطلقة أجزأته نية الصلاة. ومتى شك في أثناء الصلاة هل نواها أم لا؟ لزمه استئنافها، لأن الأصل عدمها، فإن ذكر أنه نوى قبل أن يحدث شيئاً من أفعال الصلاة أجزأه. وإن فعل شيئا قبل ذكره بطلت صلاته، لأنه فعله شاكاً في صلاته. وإن نوى الخروج من الصلاة بطلت؛ لأن النية شرط في جميع الصلاة وقد قطعها. وإن تردد في قطعها فعلى وجهين:(1/241)
أحدهما: تبطل لما ذكرنا.
والثاني: لا تبطل، لأنه دخل فيها بنية متيقنة، فلا يخرج منها بالشك.
وإذا نوى في صلاة الظهر ثم قلبها عصراً فسدتا جميعاً، لأنه قطع نية الظهر ولم تصح العصر، لأنه ما نواها عند الإحرام. وإن قلبها نفلاً لعذر، مثل أن يحرم بها منفرداً، فتحضر جماعة فيجعلها نفلاً ليصلي فرضه في الجماعة، صح لأن نية النفل تتضمنها نية الفرض. وإن فعل ذلك لغير غرض كره، وصح قلبها لما ذكرنا، ويحتمل أن لا يصح لما ذكرنا في الظهر والعصر.
[باب صفة الصلاة]
وأركانها خمسة عشر:
القيام وهو واجب في الفرض، لقول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: «صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري.
فإن كبر للإحرام قاعداً، أو في حال نهوضه إلى القيام، لم يعتد به، لأنه أتى به في غير محله.
ويستحب القيام للمكتوبة عند قول المؤذن: قد قامت الصلاة، لأنه دعاء إلى القيام، فاستحب المبادرة إليه.
ويستحب للإمام تسوية الصفوف، لما روى أنس بن مالك قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة أخذ بيمينه - يعني عوداً في المحراب - ثم فقال التفت وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم، ثم أخذ بيساره، وقال: اعتدلوا سووا صفوفكم» رواه أبو داود.
فصل:
ثم يكبر للإحرام، وهو الركن الثاني، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للمسيء في صلاته: «إذا(1/242)
قمت إلى الصلاة فكبر» وقال: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود. وقال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه، ثم يستقبل القبلة، ويقول: الله أكبر» ولا يجزئه غيره من الذكر، ولا قول: الله أكبر، ولا التكبير بغير العربية، لما ذكرنا، فإن لم يحسن العربية، لزمه التعلم. فإن خشي خروج الوقت، ففيه وجهان:
أحدهما: يكبر بلغته، لأنه عجز عن اللفظ، فلزمه الإتيان بمعناه، كلفظة النكاح.
والثاني: لا يكبر بغير العربية، لأنه ذكر تنعقد به الصلاة، فلم يجز التعبير عنه بغير العربية، كالقراءة، فعلى هذا يكون حكمه حكم الأخرس، فإن عجز عن بعض اللفظ، أو عن بعض الحروف، أتى بما يمكنه، وإن كان أخرس، فعليه تحريك لسانه، لأن ذلك كان يلزمه مع النطق، فإذا عجز عن أحدهما بقي الآخر. ذكره القاضي. ويقوى عندي أن لا يلزمه تحريك لسانه، لأن ذلك إنما وجب على الناطق ضرورة القراءة، وإذا سقطت سقط ما هو من ضرورتها، كالجاهل الذي لا يحسن شيئاً من الذكر، ولأن تحريك لسانه بغير القراءة عبث مجرد، فلا يرد الشرع به، ويبين التكبير، ولا يمططه، فإن مططه تمطيطاً يغير المعنى، مثل أن يمد الهمزة في اسم الله تعالى، فيجعله استفهاماً، أو يمد أكبار، فيزيد ألفاً فيصير جمع كبير. وهو الطبل، لم تجزه، ويجهر بالتكبير إن كان إماماً بقدر ما يسمع من خلفه، وإن لم يكن إماماً بقدر ما يسمع نفسه كالقراءة.
فصل:
ويستحب أن يرفع يده، ممدودة الأصابع، مضموماً بعضها إلى بعض حتى يحاذي بهما منكبيه، أو فروع أذنيه لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يفعل ذلك في السجود» . متفق عليه. ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، وانتهاؤه مع انتهائه، لأن الرفع للتكبير، فيكون معه فإن سبق رفعه التكبير، أثبتهما حتى يكبر، ولا يحطهما في حال التكبير. وإن لم يرفع حتى فرغ التكبير، لم يرفع لأنه سنة فات(1/243)
محلها. وإن ذكر في الثانية، رفع لأن محله باق، وإن عجز عن الرفع إلى حذو المنكبين، رفع قدر ما يمكنه، وإن عجز عن رفع إحدى اليدين رفع الأخرى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .
فصل:
فإذا فرغ استحب وضع يمينه على شماله، لما روى هلب، قال، «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ويجعلهما تحت السرة، لما روي عن علي أنه قال: «السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة» . رواه أبو داود. وعنه: فوق السرة. وعنه: أنه مخير. ويستحب جعل نظره إلى موضع سجوده، لأنه أخشع للمصلي، وأكف لنظره.
فصل:
ويستحب أن يستفتح. قال أحمد: أما أنا فأذهب إلى ما روي عن عمر - يعني ما رواه الأسود - أنه صلى خلف عمر، فسمعه كبر، فقال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» . رواه مسلم. ولو أن رجلاً استفتح ببعض ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الاستفتاح كان حسناً، أو قال: جائزاً. وإنما اختاره أحمد، لأن عائشة وأبا سعيد، قالا: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استفتح الصلاة، قال ذلك. وعمل به عمر بمحضر من الصحابة، فكان أولى من غيره، وصوب الاستفتاح بغيره مثل ما روى أبو هريرة قال: «قلت: يا رسول الله أرأيت إسكاتك بين التكبير والقراءة ماذا تقول؟ قال: أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي(1/244)
بالثلج والماء والبرد» متفق عليه. قال أحمد: ولا يجهر الإمام بالاستفتاح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجهر به.
فصل:
ثم يستعيذ بالله، فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . قال ابن المنذر: وجاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان يقول قبل القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» .
فصل:
ثم يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ولا يجهر بها، لما روى أنس بن مالك قال: «صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . رواه البخاري ومسلم. وفيها روايتان:
إحداهما: أنها آية من الفاتحة، اختارها أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قرأ في الصلاة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وعدها آية، والحمد لله رب العالمين آيتين» ، ولأن الصحابة أثبتوها في المصاحف فيما جمعوا من القرآن، فدل على أنها منها.
والثانية: ليست منها، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك(1/245)
نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين ... إلى آخرها، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» رواه مسلم. ولو كانت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ منها لبدأ بها، ولم يتحقق التنصيف، ولأن مواضع الآي كالآي في أنها لا تثبت إلا بالتواتر، ولا تواتر فيما نحن فيه، ومن نسي الاستفتاح حتى شرع في الاستعاذة أو نسي الاستعاذة حتى شرع في البسملة، أو البسملة حتى شرع في الفاتحة على الرواية التي تقول: ليست من الفاتحة، لم يرجع إليها لأنها سنة فات محلها.
فصل:
ثم يقرأ الفاتحة، وهو الركن الثالث في حق الإمام المنفرد، لما روى عبادة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب» متفق عليه.
ولا تجب على المأموم لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] . وروى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما لي أنازع القرآن قال: فانتهى الناس أن يقرأوا فيما جهر فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مالك في الموطأ. ولأنها لو وجبت عليه لم تسقط عن المسبوق، كسائر الأركان لكن إن سمع قراءة الإمام أنصت له، ويقرأ في سكاته وإسراره، لأن مفهوم قوله: فانتهى الناس أن يقرؤوا فيما جهر فيه، أنهم يقرأون في غيره.
وتجب قراءة الفاتحة في كل ركعة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الأخيرتين بأم الكتاب» . متفق عليه. وروي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم المسيء في صلاته، فقال: «اقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ثم قال: اصنع في كل ركعة مثل ذلك» ولأنه ركن لا تفتتح به الصلاة فتكرر في كل ركعة، كالركوع. وعنه: لا تجب إلا في الأوليين، لأنها لو وجبت في غيرهما لسن الجهر بها في بعض الصلوات كالأوليين.
ويجب أن يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية، فإن قطع قراءتها بذكر كثير، أو سكوت(1/246)
طويل عامداً، أعادها وإن فعل ذلك ناسياً، أو كان الذكر أو السكوت يسيراً، أتمها لأن الموالاة لا تفوت بذاك. وإن نوى قطعها، لم تنقطع، لأن القراءة باللسان فلم تنقطع بالنية بخلاف نية الصلاة.
ويأتي فيها بإحدى عشرة تشديدة، فإن أخل بحرف منها أو شدة، لم تصح، لأنه لم يقرأها كلها، والشدة أقيمت مقام حرف، وإن خفف الشدة صح، لأنه كالنطق به مع العجلة.
فصل:
فإذا فرغ منها، قال: آمين، يجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، لما روى وائل بن حجر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قال: ولا الضالين قال: آمين، ورفع بها صوته» . رواه أبو داود. ويؤمن المأمومون مع تأمينه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ، فقولوا: آمين» ، وفي لفظ: «إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له» متفق عليه. ويجهرون بها لما روى عطاء أن ابن الزبير كان يؤمن ويؤمنون حتى إن للمسجد للجة. رواه الشافعي في مسنده. فإن نسيه الإمام جهر به المأموم، ليذكره فإن لم يذكره حتى شرع في القراءة لم يأت به، لأنه سنة فات محلها.
وفي آمين لغتان: قصر الألف ومدها مع التخفيف، فإن شدد الميم لم يجزئه لأنه يغير معناها.
فصل:
فإن لم يحسن الفاتحة، لزمه تعلمها، فإن ضاق الوقت عن ذلك، قرأ سبع آيات من غيرها. وهل يجب أن يكون في عدد حروفها؟ على وجهين:(1/247)
أحدهما: [يجب] لأن الثواب مقدر بالحروف، فاعتبرت كالآي.
والآخر: لا يعتبر، لأنه من فاته صوم يوم طويل لم يعتبر كون القضاء في يوم طويل مثله، فإن لم يحسن سبعاً كرر ما يحسن بقدرها، فإن لم يحسن إلا آية من الفاتحة وشيئاً من غيرها، ففيه وجهان:
أحدهما: يكرر آية الفاتحة، لأنها أقرب إليها.
والثاني: يقرأ تمام السبع من غيرها، لأنه لو لم يحسن شيئاً من الفاتحة، قرأ من غيرها فما عجز عنه منها وجب أن يأتي ببدله من غيرها، فإن لم يحسن الفاتحة بالعربية، لم يجز أن يترجم عنها بلسان آخر، لأن الله تعالى جعل القرآن عربياً، ويلزمه أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن، فعلمني ما يجزئني، فقال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله» رواه أبو داود. ولأنه ركن من الصلاة، فقام غيره مقامه عند العجز عنه، كالقيام، فإن لم يحسن إلا بعض ذلك، كرره بقدره، فإن لم يحسن شيئاً وقف بقدر القراءة.
فصل:
ويستحب للإمام أن يسكت بعد الفاتحة سكتة، يقرأ فيها من خلفه، لما روى سمرة: أنه حفظ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكتتين، سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] رواه أبو داود. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: للإمام سكتتان، فاغتنموا فيهما القراءة بفاتحة الكتاب، إذا افتتح الصلاة، وإذا قال: {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] .
فصل:
ويسن أن يقرأ بعد الفاتحة سورة تكون في الصبح من طوال المفصل، وفي(1/248)
المغرب من قصاره، وفي سائرهن من أوساطه، لما روى جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الفجر بـ "ق» رواه مسلم.
وعنه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] و {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1] ونحوهما من السور» . رواه أبو داود.
وعنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دحضت الشمس، صلى الظهر، ويقرأ بنحو: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] والعصر كذلك، والصلوات كلها إلا الصبح، فإنه كان يطيلها» . رواه أبو داود. وما قرأ به بعد أم كتاب في ذلك كله أجزأه.
ويستحب له أن يطيل الركعة الأولى من كل صلاة، لما روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر، بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، ويسمع الآية أحياناً، وكان يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وكان يقرأ في العصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب، وسورتين، يطول في الأولى، ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من الصبح، ويقصر في الثانية» . متفق عليه. وفي رواية: «فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى، ولا يزيد على أم الكتاب في الأخيرتين من الرباعية، ولا الثالثة من المغرب» ، لهذا الحديث.
فصل:
ويسن للإمام الجهر بالقراءة في الصبح، والأوليين من المغرب والعشاء، والإسرار فيما وراء ذلك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعل ذلك. ولا يسن الجهر لغير الإمام، لأنه لا يقصد إسماع غيره، وإن جهر المنفرد فلا بأس، لأنه لا ينازع غيره، وكذلك القائم لقضاء ما فاته من الجماعة. وإن فاتته الصلاة ليلاً فقضاها نهاراً، لم يجهر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاة النهار عجماء» فإن فاتته صلاة نهار فقصاها ليلاً لم يجهر، لأنها صلاة نهار، وإن فاتته ليلاً، فقضاها ليلاً في جماعة جهر.
وإذا فرغ من القراءة استحب له أن يسكت سكتة قبل الركوع، لأن في حديث سمرة في بعض رواياته: «وإذا فرغ من القراءة سكت» .(1/249)
فصل:
ثم يركع وهو الركن الرابع، لقول الله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ويكبر للركوع، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا قام إلى الصلاة كبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، يفعل ذلك في صلاته كلها» ، رواه البخاري. وفي هذه التكبيرات روايتان:
إحداهما: أنها واجبة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعلها، وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» متفق عليه. ولأن الهوي إلى الركوع فعل، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: لا يجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمها المسيء في صلاته، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ويستحب أن يرفع يديه مع التكبير لحديث ابن عمر، وقدر الإجزاء: الانحناء حتى يمكنه مس ركبتيه بيديه، لأنه لا يسمى راكعاً بدونه.
ويجب أن يطمئن راكعاً وهو الركن الخامس، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم اركع حتى تطمئن راكعاً» متفق عليه. ويستحب أن يضع يديه على ركبتيه، قابضاً لهما، ويسوي ظهره، ولا يرفع رأسه، ولا يخفضه، ويجافي يديه على جنبيه، لما روى أبو حميد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره» ، وفي لفظ: «ركع ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنع» . وفي رواية: «ووضع يديه على ركبتيه كأنه قابض عليهما، ووتر يديه، فنحاهما عن جنبيه» . حديث صحيح.
فصل:
ثم يقول: سبحان ربي العظيم، وفيه روايتان:
إحداهما: يجب، لما روى عقبة بن عامر أنه «لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجعلوها في ركوعكم فلما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم رواه» أبو داود. ولأنه فعل في الصلاة، فلم يخل من ذكر واجب، كالقيام.
والثانية: ليس بواجب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعلمه المسيء في صلاته، وأدنى الكمال ثلاث، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم فليقل: سبحان ربي(1/250)
العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه، وإذا سجد فليقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وذلك أدناه» رواه الأثرم والترمذي. وإن اقتصر على واحدة أجزأه، لأنه ذكر مكرر، فأجزأت الواحدة، كسائر الأذكار.
فصل:
ثم يرفع رأسه قائلاً: سمع الله لمن حمده، حتى يعتدل قائماً، وهذا الرفع والاعتدال الركن السادس والسابع، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمسيء في صلاته: «ثم ارفع حتى تعتدل قائماً» وفي حديث أبي حميد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: سمع الله لمن حمده ورفع يديه، واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه معتدلاً» . وفي وجوب التسميع روايتان، لما ذكرنا في التكبير، ولا يشرع للمأموم، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال: الإمام سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» ويقول في اعتداله: ربنا ولك الحمد. وفي وجوبه روايتان. لما ذكرنا. قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يثبت أمر الواو. وقال: قد روى فيه الزهري ثلاثة أحاديث عن أنس، وعن سعيد عن أبي هريرة، وعن سالم عن أبيه. وإن قال: ربنا لك الحمد، جاز، نص عليه، لأنه قد صحت به السنة.
ويستوي في ذلك كل مصل، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاله، وأمر به المأمومين. ويستحب أن يقول: ملء السماء وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، لما روى أبو سعيد، وابن أبي أوفى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا رفع رأسه قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد» متفق عليه. ولا يستحب للمأموم الزيادة على «ربنا ولك الحمد» نص عليه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فقولوا: ربنا ولك الحمد» ولم يأمره بغيره. وعنه: ما يدل على استحباب قول: «ملء السماء» وهو اختيار أبي الخطاب لأنه ذكر مشروع للإمام، فشرع للمأموم كالتكبير. وموضع ربنا ولك الحمد، من حق الإمام المنفرد بعد اعتداله، وللمأموم حال رفعه، لأن قوله: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد» يقتضي تعقيب قول الإمام قول المأموم، وهي حال رفعه.(1/251)
فصل:
في السجود: ثم يخر ساجداً ويطمئن في سجوده، وهما الركن الثامن والتاسع، لقول الله تعالى: {اسْجُدُوا} [البقرة: 34] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً» وينحط إلى السجود مكبراً لحديث أبي هريرة، ولا يرفع يديه، لحديث ابن عمر. ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه، لما روى وائل بن حجر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» رواه أبو داود. والسجود على هذه الأعضاء واجب، لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أسجد على سبع أعظم، الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه، واليدين والركبتين، وأطراف القدمين» متفق عليه.
وفي الأنف روايتان:
إحداهما: لا يجب السجود عليه، لأنه ليس من السبعة المذكورة.
والثانية: تجب، لإشارة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أنفه عند بيان أعضاء السجود. ولا يجب مباشرة المصلي بشيء من هذه الأعضاء إلا الجبهة، فإن فيها روايتين:
إحداهما: يجب، لما روي عن خباب قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا» . رواه مسلم.
والثانية: لا يجب، وهو ظاهر المذهب، لما روى أنس قال: «كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود» . رواه البخاري ومسلم. ولأنها من أعضاء السجود، فجاز السجود على حائلها كالقدمين. ويستحب أن يجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جافى عضديه عن إبطيه» . «ووصف البراء سجود النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فوضع يديه واعتمد على ركبتيه ورفع عجيزته وقال: هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد» . رواه أبو(1/252)
داود. ويستحب أن يضم أصابع يديه بعضها إلى بعض، ويضعها على الأرض حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويكون على أطراف أصابع قدميه، ويثنيها نحو القبلة، لما روى أبو حميد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع كفيه حذو منكبيه» . وفي لفظ: «سجد غير مفترش، ولا قابضهما، واستقبل بأطراف رجليه القبلة» . وفي رواية: «فسجد فانتصب على كفيه وركبتيه، وصدور قدميه، وهو ساجد» . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش افتراش الكلب» ، صحيح متفق على معناه. ويقول: سبحان ربي الأعلى، وحكمه حكم تسبيح الركوع في عدده ووجوبه لما مضى. فإذا أراد السجود فهوى على وجهه، فوقعت جبهته على الأرض، أجزأه لأنه قد نواه. وإن انقلب على جنبه، ثم انقلب فمست جبهته الأرض ناوياً السجود، أجزأه، وإن لم ينو لم يجزئه، ويأتي بالسجود بعده.
فصل: ثم يرفع رأسه مكبراً، ويعتدل جالساً، وهما الركن العاشر والحادي عشر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم ارفع حتى تطمئن جالساً» ويجلس مفترشاً، يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، لقول أبي حميد في وصف صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله اليسرى، وقعد عليها، ثم اعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وينهى عن عقبة الشيطان» . رواه مسلم. ويسن أن يثني أصابع اليمنى نحو القبلة، لما روى النسائي عن ابن عمر أنه قال: «من سنة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى، واستقباله(1/253)
بأصابعها القبلة» . ويكره الإقعاء وهو أن يفترش قدميه، ويجلس على عقبيه، بهذا فسره أحمد، لحديث أبي حميد وعائشة. وعن أحمد أنه قال: لا أفعله، ولا أعيب في فعله، العبادلة كانوا يفعلونه، وقال ابن عباس: «هو سنة نبيك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. ويقول: رب اغفر لي، لما روى حذيفة «أنه صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان يقول بين السجدتين: رب اغفر لي رب اغفر لي» رواه النسائي. والقول في وجوبه وعدده، كالقول في تسبيح الركوع. وإن قال ما روى ابن عباس: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني، واهدني، وعافني وارزقني فلا بأس» . رواه أبو داود.
فصل:
ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى سواء، وفيها ركنان، ثم يرفع رأسه مكبراً لحديث أبي هريرة. وهل يجلس للاستراحة فيه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجلس، اختارها الخلال، لما روى مالك بن الحويرث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض» . متفق عليه. وصفة جلوسه مثل جلسة الفصل، لما روى أبو حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ثنى رجله وقعد واعتدل حتى رجع كل عظم في موضعه، ثم نهض» . حديث صحيح. وقال الخلال: روى عن أحمد من لا أحصيه كثرة أنه يجلس على إليته. وقال الآمدي: يجلس على قدميه، ولا يلصق إليته بالأرض.
والرواية الثانية: لا يجلس بل ينهض على صدور قدميه معتمداً على ركبتيه، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينهض على صدور قدميه» . وفي حديث وائل بن حجر: «وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه» . وفي لفظ: «فإذا نهض، نهض على ركبتيه، واعتمد(1/254)
على فخذيه» . رواه أبو داود. ولا يعتمد بيده على الأرض، لما ذكرنا، إلا أن يشق ذلك عليه، لضعف أو كبر. ولا يكبر لقيامه من جلس الاستراحة لأنه قد كبر لرفعه من السجود.
فصل:
ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اصنع ذلك في صلاتك كلها» إلا في النية والاستفتاح، لأنه يراد لافتتاح الصلاة، وفي الاستعاذة روايتان:
إحداهما: يستعيذ، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] فيقتضي أن يستعيذ عند كل قراءة.
والثانية: لا يستعيذ لما روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض من الركعة الثانية، استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولم يسكت» . رواه مسلم.
ولأن الصلاة جملة واحدة، فإذا أتى بالاستعاذة من أولها، كفى كالاستفتاح، فإن نسيها في أول الصلاة، أتى بها في الثانية، والاستفتاح خلاف ذلك، نص عليه.
فصل:
ثم يجلس مفترشاً، لقول أبي حميد في صفة صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «فإذا جلس في الركعتين، جلس على اليسرى ونصب الأخرى» ، وفي لفظ: «فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته» . صحيح. ويستحب أن يضع يده اليسرى على فخذه اليسرى مبسوطة مضمومة الأصابع مستقبلاً بأطرافها القبلة، أو يلقمها ركبته، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، يعقد الوسطى مع الإبهام عقد ثلاث وخمسين، ويشير بالسبابة عند ذكر الله تعالى، ويقبض الخنصر والبنصر، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثاً وخمسين، وأشار بالسبابة» . رواه مسلم.(1/255)
وعنه: يبسط الخنصر والبنصر، لما روى ابن الزبير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد يدعو وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة يدعو، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى يدعو» ، وفي لفظ: «وألقم كفه اليسرى ركبته» ، رواه مسلم. وفي لفظ: «وكان يشير بإصبعه إذا دعا، ولا يحركها» ، رواه أبو داود.
فصل:
ثم يتشهد لما روى ابن مسعود قال: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد، كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» . متفق عليه. قال الترمذي هذا أصح حديث روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، فاختاره أحمد لذلك، فإن تشهد بغيره مما صح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتشهد ابن عباس وغيره جاز، نص عليه. ومقتضى هذا أنه متى أخل بلفظة ساقطة في بعض التشهدات، فلا بأس، فإذا فرغ منه، وكانت الصلاة أكثر من ركعتين، لم يزد عليه، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يجلس في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف.» رواه أبو داود. لشدة تخفيفه، ثم نهض مبكراً كنهوضه من السجود، ويصلي الثالثة والرابعة كالأوليين إلا في الجهرية، ولا يزيد على فاتحة الكتاب لما قدمناه.
فصل:
فإذا فرغ جلس فتشهد، وهما الركن الثاني والثالث عشر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر به(1/256)
وعلمه ابن مسعود، ثم قال: «فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك» رواه أبو داود.
وعن ابن مسعود قال: «كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تقولوا: السلام على الله، ولكن قولوا: التحيات لله» فدل هذا على أنه فرض، ويجلس متوركًا يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما عن يمينه؛ لقول أبي حميد في وصفه: «فإذا جلس في الركعتين جلس على اليسرى، ونصب اليمنى، فإذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى، وجلس متوركًا على شقه الأيسر، وقعد على مقعدته» . رواه البخاري.
وقال الخرقي: يجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمنى، ويجعل إليته على الأرض؛ لأن في بعض لفظ حديث أبي حميد: «جلس على إليتيه، وجعل باطن قدمه اليسرى عند مأبض اليمنى، ونصب قدمه اليمنى» .
وقال ابن الزبير: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه وساقه» ، رواهما أبو داود: وأيهما فعل جاز، ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان في الأخير منهما؛ لأنه جعل للفرق، ولا حاجة إليه مع عدم الاشتباه.
فصل:
ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيها روايتان:
إحداهما: ليست واجبة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد: «فإذا فعلت فقد تمت صلاتك» .
والثانية: أنها واجبة، قال أبو زرعة الدمشقي، عن أحمد قال: كنت أتهيب ذلك، ثم تبينت، فإذا الصلاة واجبة، ووجهها ما روى كعب بن عجرة قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد(1/257)
مجيد» متفق عليه، قال بعض أصحابنا: وتجب الصلاة على هذه الصفة، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها، والأولى أن يكون هذا الأفضل، وكيفما أتى بالصلاة أجزأه؛ لأنها رويت بألفاظ مختلفة، فوجب أن يجزئ منها ما اجتمعت عليه الأحاديث.
فصل:
ويستحب أن يتعوذ من أربع؛ لما روى أبو هريرة قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» متفق عليه، ولمسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع» وذكره، وما دعا به مما ورد في القرآن والأخبار فلا بأس إلا أن يكون إمامًا، فلا يستحب له التطويل، كيلا يشق على المأمومين إلا أن يؤثروا ذلك، وقد روي عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» متفق عليه.
فصل:
ولا يجوز أن يدعو فيها بالملاذ وشهوات الدنيا، وما يشبه كلام الآدميين، مثل: اللهم ارزقني زوجة حسناء، وطعامًا طيبًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم، ولأن هذا يتخاطب بمثله الآدميون أشبه تشميت العاطس، ورد السلام.
فصل:
ثم يسلم، والسلام هو الركن الرابع عشر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مفتاح الصلاة(1/258)
الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» رواه أبو داود، والترمذي، ولأنه أحد طرفي الصلاة، فكان فيه نطق واجب كالأول، ويسلم تسليمتين، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويلتفت عن يمينه وعن يساره كذلك، لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه، السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره السلام عليكم ورحمة الله، وفي لفظ: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم حتى يرى بياض خده عن يمينه وعن يساره» ، رواه مسلم.
ويكون التفاته في الثانية أوفى، قال ابن عقيل يبتدئ بقوله: السلام عليكم إلى القبلة، ثم يلتفت قائلًا: ورحمة الله عن يمينه ويساره؛ «لقول عائشة كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم تلقاء وجهه» ، معناه ابتداء السلام، ويستحب أن يجهر بالأولى أكثر من الثانية، نص عليه، واختاره الخلال، وحمل أحمد «حديث عائشة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم تسليمة واحدة» ، على أنه كان يجهر بواحدة، ويستحب أن لا يمد السلام؛ لأن أبا هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حذف السلام سنة» رواه الترمذي، وقال: حديث صحيح. قال ابن المبارك: معناه لا يمده مدًا. قال أحمد: معناه لا يطول به صوته.
فصل:
والواجب تسليمة واحدة، والثانية سنة؛ لأن عائشة وسهل بن سعد وسلمة بن الأكوع رووا أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فسلم مرة واحدة» ، ولأنه إجماع حكاه ابن المنذر، وعنه أن الثانية واجبة؛ لأن جابرًا قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه، ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله» رواه مسلم، ولأنها عبادة لها تحللان، فكان الثاني واجبًا كالحج.
فصل:
فإن اقتصر على قول: السلام عليكم، فقال القاضي: ظاهر كلام أحمد أنه يجزئه،(1/259)
نص عليه في صلاة الجنازة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحليلها التسليم» وهو حاصل بدون الرحمة، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم، السلام عليكم. وقال ابن عقيل: الصحيح أنه لا يجزئ؛ لأن من وصف سلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصحابة، قال فيه: " ورحمة الله " ولأنه سلام ورد فيه ذكر الرحمة، فلم يجزئه بدونها، كالسلام على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد، ويأتي بالسلام مرتبًا فإن نكسه، فقال: عليكم السلام، أو نكس التشهد لم تصح.
وذكر القاضي وجهًا من صحته؛ لأن المقصود يحصل، وهو بعيد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال مرتبًا، وعلمهم إياه مرتبًا، ولأنه ذكر يؤتى به في أحد طرفي الصلاة، فاعتبر ترتيبه كالتكبير.
فصل:
وينوي بسلامه الخروج من الصلاة، فإن لم ينو لم تبطل صلاته، نص عليه؛ لأن نية الصلاة قد شملت جميعها، والسلام من جملتها، ولأنها عبادة فلم تجب النية للخروج منها كسائر العبادات، وقال ابن حامد: تبطل صلاته؛ لأنه أحد طرفي الصلاة، فوجبت فيه النية كالآخر، وإن نوى بالسلام على الحفظة وعلى المصلين معه فلا بأس، نص عليه؛ لحديث جابر الذي قدمناه، وفي لفظ: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نرد على الإمام، وأن يسلم بعضنا على بعض» رواه أبو داود.
فصل:
ويستحب ذكر الله تعالى بعد انصرافه من الصلاة ودعائه واستغفاره، قال المغيرة: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد» متفق عليه.
وقال ثوبان: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه مسلم. «وقال ابن عباس:(1/260)
إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن عباس: كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته» متفق عليه.
فصل:
ويكره للإمام إطالة الجلوس في مكانه مستقبل القبلة؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» رواه ابن ماجه. فإن أحب قام، وإن شاء انحرف عن قبلته، لما روى سمرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى أقبل علينا بوجهه» ، رواه مسلم.
وينصرف حيث شاء، عن يمين أو شمال؛ لقول ابن مسعود: «لا يجعل أحدكم للشيطان حظًا من صلاته، يرى أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكثر ما ينصرف عن يساره» . متفق عليه.
فإن كان مع الإمام رجال ونساء، فالمستحب أن تثب النساء، ويثبت هو والرجال، بقدر ما ينصرف النساء؛ لقول أم سلمة: «إن النساء في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كن إذا سلمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام الرجال، قال الزهري: فنرى أن ذلك لكي ينفذ من ينصرف من النساء» ، رواه البخاري. ولأن الإخلال بذلك يفضي إلى اختلاط الرجال بالنساء، ولا يثب المأمومون قبل انصراف الإمام، لئلا يذكر سهوًا فيسجد، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني إمامكم فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف» رواه(1/261)
مسلم.
فإن انحرف عن قبلته أو خالف السنة في إطالة الجلوس مستقبل القبلة، فلا بأس أن يقوم المأموم ويدعه.
فصل:
ويكره للإمام التطوع في موضع صلاة مكتوبة، نص عليه، وقال: كذا قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وللمأموم أن يتطوع في موضع صلاته، فعله ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وروى المغيرة بن شعبة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتطوع الإمام في مقامه الذي يصلي به الناس» رواه أبو داود. فإن دعت إليه ضرورة، لضيق المسجد انحرف قليلًا عن مصلاه، ثم صلى.
فصل:
وترتيب الصلاة على ما ذكرنا، وهو الركن الخامس عشر، فصارت أركان الصلاة خمسة عشر، لا يسامح بها في عمد ولا سهو.
وواجباتها المختلف فيها: تسعة؛ التكبير سوى تكبيرة الإحرام، التسبيح في الركوع والسجود مرة مرة، وقول: سمع الله لمن حمده، وقول: ربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي، بين السجدتين مرة، والتشهد الأول، والجلوس له، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والتسليمة الثانية: وقد ذكرنا في وجوب جميعها روايتين.
وما عدا ذلك فسنن، تتنوع ثلاثة أنواع:(1/262)
سنن الأقوال، وهي اثنتا عشرة: الاستفتاح، والاستعاذة، وقراءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقول آمين، وقراءة السورة بعد الفاتحة، والجهر والإخفات في موضعهما، وما زاد على التسبيحة الواحدة في الركوع والسجود، وعلى المرة في سؤال المغفرة، وقول ملء السماء بعد التحميد، والدعاء، والتعوذ في التشهد الأخير، وقنوت الوتر.
النوع الثاني: سنن الأفعال، وهي اثنتان وعشرون: رفع اليدين عند الإحرام، الركوع والرفع منه، ووضع اليمنى على اليسرى، وجعلهما فوق السرة، والنظر إلى موضع سجوده، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ومد الظهر والتسوية بين رأسه وظهره، والتجافي فيه، والبداءة بوضع الركبتين قبل اليدين في السجود، ورفع اليدين قبل الركبتين في النهوض، والتجافي فيه، وفتح أصابع رجليه فيه، وفي الجلوس، ووضع يديه حذو منكبيه مضمومة، مستقبلًا بها القبلة، والتورك في التشهد الأخير، والافتراش في الأول، وفي سائر الجلوس، ووضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة محلقة، والإشارة بالسبابة، ووضع اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والالتفات عن يمينه وشماله في التسليم، والسجود على أنفه، وجلسة الاستراحة على إحدى الروايتين فيهما.
والنوع الثالث: ما يتعلق بالقلب: وهو الخشوع، ونية الخروج في سلامه.
فصل:
ولا يسن القنوت في صلاة فرض؛ لأن أبا مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: «يا أبت، إنك قد صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، هاهنا في الكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني، محدث» ، قال الترمذي: هذا حديث حسن. وعن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرًا يدعو على حي من أحياء العرب، ثم تركه» . رواه مسلم، فإن نزل بالمسلمين نازلة فللإمام القنوت في صلاة الصبح بعد الركوع، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى أبو هريرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يقنت في صلاة الفجر إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم» ، رواه سعيد في سننه، وليس ذلك لآحاد المسلمين، ويقول في قنوته نحوًا من قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقول عمر رضي(1/263)
الله عنه وكان عمر يقول في القنوت: " اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم العن كفرة أهل الكتاب، الذين يكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خالف بين كلمتهم، وزلزل أقدامهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك " رواه أبو داود.
[باب صلاة التطوع]
وهي من أفضل تطوع البدن؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واعلموا أن من خير أعمالكم الصلاة» رواه ابن ماجه، ولأن فرضها آكد الفروض، فتطوعها آكد التطوع.
وهي تنقسم أربعة أقسام:
القسم الأول: السنن الرواتب، وهي ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الرواتب مع الفرائض، وآكدها عشر ركعات، وذكرها ابن عمر، قال: «حفظت من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل الصبح، كانت ساعة لا يدخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها أحد حدثتني حفصة، أنه كان إذا أذن المؤذن، وطلع الفجر، صلى ركعتين» ، متفق عليه.
وآكدها ركعتا الفجر؛ قالت عائشة: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتي الفجر» ، وقال: «ركعتا الفجر أحب إلي من الدنيا وما فيها» رواهما مسلم، وقال: «صلوهما ولو طردتكم الخيل» رواه أبو داود، ويستحب له تخفيفها، لقول عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يصلي ركعتي الفجر فيخفف، حتى إني لأقول هل قرأ فيهما بفاتحة الكتاب؟» متفق عليه.
ويقرأ فيهما وفي ركعتي المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، قال أبو هريرة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في ركعتي الفجر: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] رواه مسلم. وعن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه ابن ماجه.
ويستحب ركوعهن في البيت؛ لحديث ابن عمر، ولما روى رافع بن خديج قال: «أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بني عبد الأشهل فصلى المغرب في مسجدنا، ثم قال: اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم» رواه ابن ماجه. قال أحمد: ليس(1/264)
هاهنا شيء آكد من الركعتين بعد المغرب، يعني فعلها في البيت.
ويستحب المحافظة على أربع قبل الظهر، وأربع بعدها، لما روت أم حبيبة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار» وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.
وعلى أربع قبل العصر، لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعًا» رواه أبو داود.
وعلى ست بعد المغرب، لما روي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى بعد المغرب ستًا لم يتكلم بينهن بسوء، عدلن له عبادة ثنتي عشرة سنة» رواه الترمذي.
وعلى أربع بعد العشاء؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء قط إلا صلى أربع ركعات، أو ست ركعات» ، رواه أبو داود.
فصل:
في الوتر:
النوع الثاني: الوتر. وهو سنة مؤكدة، لمداومة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حضره وسفره، وروى أبو أيوب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» رواه أبو داود. وحكي عن أبي بكر أنه واجب لذلك، والصحيح أنه ليس بواجب؛ لأنه يصلى على الراحلة من غير ضرورة، ولا يجوز ذلك في واجب.
والكلام فيه في ثلاثة أشياء: وقته، وعدده، وقنوته.
أما وقته: فمن صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، لما روى أبو بصرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله زادكم صلاة، فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر» رواه الإمام أحمد. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة» متفق عليه.
والأفضل فعله سحرًا؛ لقول عائشة: «من كل الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانتهى وتره إلى السحر» . متفق عليه، فمن كان له تهجد جعل الوتر بعده، ومن خشي أن لا يقوم أوتر قبل أن ينام؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر من أوله، ومن طمع أن يقوم من آخره، فليوتر من آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل» رواه مسلم.(1/265)
فمن أوتر قبل النوم، ثم قام للتهجد لم ينقض وتره، وصلى شفعًا حتى يصبح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وتران في ليلة» وهذا حديث حسن. ومن أحب تأخير الوتر، فصلى مع الإمام التراويح والوتر، قام إذا سلم الإمام، فضم إلى الوتر ركعة أخرى؛ لتكون شفعًا، ومن فاته الوتر حتى يصبح صلاه قبل الفجر، لما ذكرنا متقدمًا.
وأما عدده، فأقله ركعة لحديث أبي أيوب، وأكثره إحدى عشرة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة» . متفق عليه. وأدنى الكمال: ثلاث بتسليمتين، لما روى ابن عمر أن «رجلًا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوتر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم» رواه الأثرم.
فإن أوتر خلف الإمام تابعه فيما يفعله، لئلا يخالفه، قال أحمد: يعجبني أن يسلم في الركعتين، وإن أوتر بثلاث لم يضيق عليه عندي.
ويستحب أن يقرأ في الأولى بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، وفي الثانية: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، وفي الثالثة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما روى أبي بن كعب قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] ، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه أبو داود.
وإن أوتر بخمس سردهن، فلم يجلس إلا في آخرهن؛ لأن عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي في الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر في ذلك بخمس، لا يجلس إلا في آخرهن» . متفق عليه. وإن أوتر بتسع لم يجلس إلا بعد الثامنة، ولم يسلم، ثم جلس بعد التاسعة، فتشهد وسلم، وكذلك يفعل في السبع، لما «روى سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقالت: كنا نعد كل سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيتسوك ويصلي تسع ركعات، ولا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله ويحمد ويدعوه، ثم ينهض ولا يسلم، ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيحمد الله ويذكره ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا، ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين صنيعه في الأول» رواه مسلم، وأبو داود. وفي حديثه: «أوتر بسبع ركعات لم يجلس فيهن إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلم إلا في السابعة» .
وأما القنوت فيه؛ فمسنون في جميع السنة، وعنه: لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان؛ لأن أبيًا كان يفعل ذلك حين يصلي التراويح، وعن أحمد ما يدل على رجوعه قال في رواية المروذي: قد كنت أذهب إلى أنه في النصف الأخير من رمضان،(1/266)
ثم إني قنت، هو دعاء وخير، ولأن ما شرع في الوتر في رمضان شرع من غيره كعدده، ويقنت بعد الركوع، لما روى أبو هريرة، وأنس أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت بعد الركوع» ، رواه مسلم.
ويقول في قنوته: ما «روى الحسن بن علي قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت» رواه الترمذي، وقال: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القنوت شيئًا أحسن من هذا، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول في آخر الوتر: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه الطيالسي.
وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قنت فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إنا نستعينك، ونستهديك، ونستغفرك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق، اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، وهاتان سورتان من مصحف أبي. وقال ابن قتيبة: نحفد: نبادر، وأصل الحفد: مداركة الخطو، والإسراع. والجد بكسر الجيم أي: الحق لا اللعب، وملحق بكسر الحاء لاحق، وإن فتحها جاز.
وإذا قنت الإمام أمن من خلفه، فإن لم يسمع قنوت الإمام، دعا هو، نص عليه.
ويرفع يديه في القنوت إلى صدره؛ لأن ابن مسعود فعله، وإذا فرغ أمر يديه على وجهه، وعنه: لا يفعل، والأولى أولى؛ لأن السائب بن يزيد قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا دعا رفع يديه، ومسح وجهه بيديه» . رواه أبو داود.
فصل:
النوع الثالث: صلاة الضحى، وهي مستحبة، لما روى أبو هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاث أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» ، متفق عليه.
وأقلها ركعتان لحديث أبي هريرة، وأكثرها ثمان ركعات، لما «روت أم هانئ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل بيتها يوم فتح مكة، وصلى ثمان ركعات، فلم أر قط صلاة أخف منها، غير أنه يتم الركوع والسجود» ، متفق عليه.(1/267)
ووقتها إذا علت الشمس، واشتد حرها؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» رواه مسلم. قال أبو الخطاب: يستحب المداومة عليها؛ لحديث أبي هريرة، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من حافظ على شفعة الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» أخرجه الترمذي، ولأن أحب العمل إلى الله أدومه، وقال غيره: لا يستحب ذلك؛ لقول عائشة: «ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الضحى قط.» متفق عليه، ولأن فيه تشبيهًا بالفرائض.
فصل:
والقسم الثاني: ما سن له الجماعة، منها التراويح، وهو قيام رمضان، وهي سنة مؤكدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان، وقامه إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، وقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأصحابه ثلاث ليال، ثم تركها خشية أن تفرض، فكان الناس يصلون لأنفسهم، حتى خرج عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليهم وهم أوزاع يصلون، فجمعهم على أبي بن كعب. قال السائب بن يزيد: لما جمع عمر الناس على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة؛ فالسنة أن يصلي بهم عشرين ركعة في الجماعة لذلك، ويوتر الإمام بهم بثلاث ركعات، لما روى مالك عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في عهد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بثلاث وعشرين ركعة، قال أحمد: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف، حسب له قيام ليلة» قال: ويقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف على الناس، ولا يشق عليهم، قال القاضي: لا تستحب الزيادة على ختمة، لئلا يشق عليهم، ولا النقصان منها، ليسمعهم جميع القرآن، إلا أن يتفق جماعة يؤثرون الإطالة، فلا بأس بها، وسميت هذه تراويح؛ لأنهم كانوا يجلسون بين كل أربعة يستريحون.
وكره أحمد التطوع بينها، وقال: فيه عن ثلاثة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كراهية، عبادة، وأبو الدرداء وعقبة بن عامر.
ولا يكره التعقيب، وهو أن يصلوا بعد التراويح نافلة في جماعة؛ لأن أنسًا قال: ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه، وعنه: أنه يكره، إلا أنه قول قديم. قال أبو بكر: إن أخروا الصلاة إلى نصف الليل أو آخره لم يكره رواية واحدة، قال أحمد: فإذا أنت فرغت من قراءة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] ، فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، وادع وأطل القيام، رأيت أهل مكة وسفيان بن عيينة يفعلونه، واختلف أصحابنا في قيام ليلة الشك، فقامها القاضي؛ لأن القيام تبع للصيام، ومنعها أبو حفص العكبري؛ لأن الأصل بقاء شعبان، ترك ذلك في الصيام احتياطًا، ففيما عداه يبقى على الأصل.(1/268)
فصل:
القسم الثالث: التطوع المطلق، وهو مشروع في الليل والنهار، وتطوع الليل أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل» وهو حديث حسن. والنصف الأخير أفضل، «قال عمرو بن عبسة: قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير» رواه أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الصلاة إلى الله، صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» متفق عليه.
ويستحب للمتهجد أن يفتتح صلاته بركعتين خفيفتين؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من الليل فليفتتح صلاته بركعتين خفيفتين» رواه مسلم.
ويستحب أن يكون له ركعات معلومة، يقرأ فيها حزبه من القرآن؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أحب العمل إلى الله الذي يدوم عليه صاحبه وإن قل» متفق عليه.
وقالت عائشة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي ما بين أن يفرغ من صلاة العشاء الآخرة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة» . رواه مسلم.
وهو مخير إن شاء خافت، وإن شاء جهر، قالت عائشة: «كل ذلك كان يفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ربما أسر وربما جهر» حديث صحيح، إلا أنه إن كان يسمع ما ينفعه، أو يكون أنشط له وأطيب لقلبه، فالجهر أفضل، وإن كان يؤذي أحدًا، أو يخلط عليه القراءة، فالسر أولى، فإن أبا سعيد قال: «اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم مناج ربه، فلا يؤذين بعضكم بعضًا، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة» رواه أبو داود.
فصل:
ويستحب أن يختم القرآن في كل سبع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعبد الله بن عمرو: «اقرأ القرآن في كل سبع» متفق عليه.
ويحزبه أحزابًا، لما روى أوس بن حذيفة قال: «قلنا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أبطأت علينا الليلة، قال: إنه طرأ علي حزبي، فكرهت أن أجيء حتى أتمه. قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف يحزبون القرآن؟ قال: قالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده» . رواه أبو داود.(1/269)
فصل:
وصلاة الليل مثنى مثنى، لا يزيد على ركعتين؛ لما «روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: صلاة الليل مثنى مثنى قيل لابن عمر: ما مثنى مثنى؟ قال: تسلم من كل ركعتين» . متفق عليه.
وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس؛ لأن تخصيص الليل بالتثنية دليل على إباحة الزيادة عليها في النهار.
والأفضل التثنية؛ لأنه أبعد من السهو.
فصل:
والتطوع في البيت أفضل؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» . رواه مسلم، ولأنه من عمل السر، ويجوز منفردًا وفي جماعة؛ لأن أكثر تطوع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان منفردًا، وقد أم ابن عباس في التطوع مرة، وحذيفة مرة، وأنسًا واليتيم مرة، فدل على جواز الجميع.
فصل:
ويجوز التطوع جالسًا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الرجل قاعدًا نصف الصلاة» رواه مسلم، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك؛ لأنه يستحب تطويله وتكثيره، فسومح في ترك القيام تكثيرًا له، ويستحب أن يكون في حال القيام متربعًا، ليخالف حالة الجلوس، ويثني رجليه حال السجود؛ لأن حال الركوع كحال القيام، وقال الخرقي: يثنيها في الركوع أيضًا لأن ذلك يروى عن أنس، وإن صلى على غير هذه الهيئة جاز، وإذا بلغ الركوع فإن شاء قام، ثم ركع لما روت عائشة قالت: «لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاة الليل قاعدًا حتى أسن، فكان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع، قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية، أو أربعين آية، ثم ركع» . متفق عليه.
وإن شاء ركع من قعود، لما روت عائشة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم، ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد» . رواه مسلم.
فصل:
القسم الرابع: صلوات لها أسباب، منها تحية المسجد، لما روى أبو قتادة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس» متفق عليه.(1/270)
ومنها صلاة الاستخارة، قال جابر: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم في الأمر؛ فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي ومعادي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي، في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به» أخرجه البخاري.
فصل:
وسجود التلاوة سنة للقارئ والمستمع؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا السورة من غير الصلاة، فيسجد ونسجد معه، حتى لا يجد أحدنا مكانًا لوضع جبهته» متفق عليه. ولا يسن للسامع عن غير قصد؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مر بقاص، فقرأ سجدة ليسجد عثمان معه، فلم يسجد، وقال: إنما السجدة على من استمع.
ويشترط كون التالي يصلح إمامًا للمستمع، لما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم سجدة، ثم نظر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك كنت إمامنا، ولو سجدت لسجدنا» رواه الشافعي.
ويسجد القارئ لسجود الأمي والقادر على القيام بالعاجز عنه؛ لأن ذلك ليس بواجب فيه، ولا يقوم الركوع مقام السجود؛ لأنه سجود مشروع فأشبه سجود الصلاة، وإن كانت السجدة آخر السورة سجد ثم قام فقرأ شيئًا ثم ركع، وإن أحب قام، ثم ركع من غير قراءة، وإن شاء ركع في آخر السورة؛ لأن السجود يؤتى به عقيب الركوع.
فصل:
[في أن سجود التلاوة غير واجب] :
وسجود التلاوة غير واجب؛ لأن زيد بن ثابت قال: «قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النجم،(1/271)
فلم يسجد منا أحد» متفق عليه. وقال عمر: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يكتبها الله علينا.
وله أن يومئ بالسجود على الراحلة، كصلاة السفر، ويشترط له ما يشترط للنافلة، ويكبر للسجود تكبيرة واحدة في الصلاة وفي غيرها؛ لأن ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة، كبر وسجد، وسجدنا معه» ، ويرفع يديه في غير الصلاة؛ لأنها تكبيرة افتتاح، وإن كان في صلاة، ففيها روايتان، ويكبر للرفع منه؛ لأنه رفع من سجود أشبه سجود الصلاة، ويسلم إذا رفع تسليمة واحدة؛ لأنها صلاة ذات إحرام، فأشبهت صلاة الجنازة.
وعنه: لا سلام له؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا يفتقر إلى تشهد، ولا يسجد فيه لسهو؛ لأنه لا ركوع فيه أشبه صلاة الجنازة، ولا يفتقر إلى قيام؛ لأنه لا قراءة فيه، ويقول فيه ما يقول في سجود الصلاة، فإن قال ما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يقول في سجود القرآن: سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته» فحسن، وهذا حديث صحيح. فإن قال غيره مما ورد في الأخبار فحسن.
فصل:
وسجدات القرآن، أربع عشرة سجدة: في (الحج) منها اثنتان، وثلاث في المفصل، وعنه: أنها خمس عشرة سجدة، منها سجدة (ص) ؛ لما «روى عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرأه خمس عشرة سجدة؛ منها ثلاث في المفصل، وسجدتان في الحج» رواه أبو داود. والصحيح أن سجدة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليست من عزائم السجود؛ لما روى ابن عباس أنه قال: ليست (ص) من عزائم السجود رواه أبو داود.
ومواضع السجدات ثابتة بالإجماع، إلا سجدات المفصل، والثانية من الحج، وقد ثبت ذلك بحديث عمرو. «وروى عقبة بن عامر أنه قال: يا رسول الله، أفي الحج سجدتان؟ قال: نعم، ومن لم يسجدهما لا يقرأهما» رواه أبو داود. وأول السجدات آخر الأعراف، وفي الرعد عند قوله: {بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] ، وفي النحل عند: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] ، وفي سبحان عند {يَزِيدُهُمْ إِلا} [الإسراء: 41] ، وفي مريم عند: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] ، وفي الحج: الأولى عند: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18](1/272)
والثانية عند: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] وفي الفرقان عند: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] ، وفي النمل عند: {الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] ، وفي {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] عند: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] وفي حم السجدة عند: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وفي آخر النجم، وفي: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] عند: {لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] ، وآخر اقرأ، ويكره اختصار السجود، وهو أن يجمع آيات السجدات فيقرأها في ركعة، وقيل: أن يحذف آيات السجدات في قراءته، وكلاهما مكروه؛ لأنه محدث، وفيه إخلال بالترتيب.
فصل:
وسجود الشكر مستحب عند تجدد النعم، لما روى أبو بكرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جاءه شيء يسر به خر ساجدًا» ، وصفته وشروطه كصفة سجود التلاوة وشروطها، ولا يسجد للشكر في الصلاة؛ لأن سببه ليس منها، فإن فعل بطلت، كما لو سجد في الصلاة لسهو صلاة أخرى.
[باب سجود السهو]
وإنما يشرع لجبر خلل الصلاة، وهو ثلاثة أقسام: زيادة، ونقص، وشك.
والزيادة ضربان: زيادة أقوال، تتنوع ثلاثة أنواع:
أحدها: أن يأتي بذكر مشروع في غير محله، كالقراءة في الركوع والسجود والجلوس، والتشهد في القيام، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأول، ونحوه فهذا لا يبطل الصلاة بحال؛ لأنه ذكر مشروع في الصلاة، ولا يجب له سجود؛ لأن عمده غير مبطل، وهل يسن السجود لسهوه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسن؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
والثانية: لا يسن؛ لأن عمده غير مبطل، فأشبه العمل اليسير.(1/273)
الثاني: أن يسلم في الصلاة قبل إتمامها، فإن كان عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه تكلم فيها، وإن كان سهوًا، وطال الفصل، بطلت أيضًا، لتعذر بناء الباقي عليها، وإن ذكر قريبًا أتم صلاته، وسجد بعد السلام.
فإن كان قد قام، فعليه أن يجلس لينهض عن جلوس؛ لأن القيام واجب للصلاة، ولم يأت به قاصدًا لها، والأصل فيه، ما روى أبو هريرة قال: «صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إحدى صلاتي العشي، فصلى ركعتين ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فوضع يده عليها كأنه غضبان، شبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، وخرج السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي(1/274)
القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، فقال له: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لم أنس ولم تقصر، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم. قال: فتقدم فصلى ما ترك من صلاته، ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر» متفق عليه.
وإن انتقض وضوؤه أو دخل في صلاة أخرى، أو تكلم من غير شأن الصلاة، كقوله: اسقني ماء فسدت صلاته، وإن تكلم مثل كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذي اليدين، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا تفسد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وذا اليدين تكلموا ثم أتموا صلاتهم.
والثانية: لا تفسد صلاة الإمام؛ لأن له أسوة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتفسد صلاة المأموم؛ لأنه(1/275)
لا يمكنه التأسي بأبي بكر وعمر؛ لأنهما تكلما مجيبين للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وإجابته واجبة، ولا بذي اليدين؛ لأنه تكلم سائلًا عن قصر الصلاة في زمن يمكن ذلك فيه، فعذر، بخلاف غيره، واختارها الخرقي.
والثالثة: تفسد صلاتهم؛ لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» اختارها أبو بكر، والأول أولى.
النوع الثالث: أن يتكلم من صلب الصلاة، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة إجماعًا لما رويناه، ولما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة؛ يكلم الرجل صاحبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام» متفق عليه. وإن تكلم ناسيًا، أو جاهلًا بتحريمه ففيه روايتان:
إحداهما: يبطلها، لما روينا، ولأنه من غير جنس الصلاة، فأشبه العمل الكثير.
والثانية: لا يفسدها، لما «روى معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينما أنا أصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم لكي أسكت، فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، ثم قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» رواه مسلم. فلم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة لجهله، والناسي في معناه.(1/276)
وإن غلب بكاء، فنشج بما انتظم حروفًا لم تفسد صلاته، نص عليه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يسمع نشيجه من وراء الصفوف، وإن غلط في القراءة وأتى بكلمة من غيره لم تفسد صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه.
وإن نام فتكلم احتمل وجهين:
أحدهما: لا تفسد صلاته؛ لأنه عن غلبة، أشبه ما تقدم.
والثاني: أنه ككلام الناسي، وإن شمت عطاسًا، أفسد صلاته لحديث معاوية، وكذلك إن رد سلامًا، أو سلم على إنسان؛ لأنه من كلام الآدميين، فأشبه تشميت العاطس، وإن قهقه بطلت صلاته؛ لأن جابرًا روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القهقهة تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء» رواه الدارقطني.
والكلام المبطل ما انتظم حرفين فصاعدًا؛ لأنه أقل ما ينتظم منه الكلام، وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نفخ في الصلاة، وتنحنح فيها» ، وهو محمول على أنه لم يأت بحرفين، أو لم يأت بحرفين مختلفين.
فصل:
الثاني: زيادة الأفعال، وهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: زيادة من جنس الصلاة، كركعة أو ركوع أو سجود، فمتى كان عمدًا أبطلها، وإن كان سهوًا سجد له؛ لما «روى ابن مسعود، قال: صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا، فلما انفتل من الصلاة توشوش القوم بينهم، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله، هل زيد في الصلاة شيء؟ قال: لا قالوا: إنك صليت خمسًا، فانفتل وسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين، وفي لفظ: فإذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين» رواه مسلم.
ومتى قام الرجل إلى ركعة زائدة، فلم يذكر حتى سلم، سجد للحال، وإن ذكر قبل السلام سجد ثم سلم، وإن ذكر في الركعة، جلس على أي حال كان، فإن كان قيامه قبل التشهد تشهد ثم سجد ثم سلم، وإن كان بعده سجد ثم سلم، وإن كان تشهد ولم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه، ثم سجد وسلم.(1/277)
فصل:
وإذا سها الإمام فزاد أو نقص فعلى المأمومين تنبيهه؛ لما «روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى فزاد أو نقص، ثم قال: إنما أنا بشر، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني» ، «وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا نابكم أمر فليسبح الرجال، وليصفح النساء» ، وفي لفظ: «التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء» متفق عليه.
وإذ سبح به اثنان، لزمه الرجوع إليهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى قول أبي بكر وعمر، وأمر بتذكيره ليرجع، فإن لم يرجع بطلت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، وليس لهم اتباعه لبطلان صلاته، فإن اتبعوه بطلت صلاتهم، إلا أن يكونوا جاهلين، فلا تبطل؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تابعوه في الخامسة، وإن فارقوه وسلموا صحت صلاتهم، وذكر القاضي رواية أخرى: أنهم يتابعونه استحبابًا، ورواية ثالثة: أنهم ينتظرونه، اختارها ابن حامد، وإن كان الإمام على يقين من صواب نفسه لم يرجع؛ لأن قولهما: إنما يفيد الظن، واليقين أولى.
وإن سبح به واحد لم يرجع نص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يرجع بقول ذي اليدين وحده، وإن سبح به من يعلم فسقه لم يرجع؛ لأن خبره غير مقبول، وإن افترق المأمومون طائفتين سقط قولهم؛ لتعارضه عنده، وإن نسي التشهد الأول، فسبحوا به، بعد انتصابه قائمًا، لم يرجع، ويتابعونه في القيام، لما «روى زياد بن علاقة قال: صلى بنا المغيرة بن شعبة، فلما صلى ركعتين، قام ولم يجلس، فسبح به من خلفه، فأشار إليهم قوموا، فلما فرغ من صلاته سلم، وسجد سجدتين وسلم، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الإمام أحمد.
وإن رجع بعد شروعه في القراءة لم يتابعوه؛ لأنه خطأ، فإن سبحوا به قبل قيامه لزمه الرجوع، فإن لم يرجع تشهدوا لأنفسهم وتابعوه؛ لأنه ترك واجبًا تعين عليهم، فلم يجز لهم اتباعه في تركه، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه فرجع إليه بعد قيام المأمومين وشروعهم في القراءة لزمهم الرجوع؛ لأنه رجع إلى واجب، فلزمهم متابعته، ولا عبرة بما فعلوه قبله.
النوع الثاني: زيادة من غير جنس الصلاة، كالمشي والحك، والتروح، فإن كثر متواليًا أبطل الصلاة إجماعًا، وإن قل لم يبطلها، لما «روى أبو قتادة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها» متفق عليه.
وروي عنه أنه فتح الباب لعائشة وهو في الصلاة، ولا فرق بين العمد والسهو فيه؛ لأنه من غير جنس الصلاة، ولا يشرع له سجود لذلك، واليسير: ما شابه فعل(1/278)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما رويناه، ومثل تقدمه وتأخره في صلاة الكسوف، والكثير: ما زاد على ذلك مما عد كثيرًا في العرف؛ فيبطل الصلاة، إلا أن يفعله متفرقًا.
النوع الثالث: الأكل والشرب، متى أتى بهما في الفريضة عمدًا بطلت؛ لأنهما ينافيان الصلاة، والنافلة كالفريضة.
وعنه: لا يبطلها اليسير، والأولى أولى؛ لأن ما أبطل الفريضة أبطل النافلة، كالعمل الكثير، وإن فعلها سهوًا وكثر ذلك بطلت الصلاة؛ لأنه عمل كثير، وإن قل فكذلك؛ لأنه من غير جنس الصلاة، فسوى بين عمده وسهوه كالمشي.
وعنه: لا يبطل؛ لأنه سوى بين قليله وكثيره في العمد، فعفي عنه في السهو كالسلام، فعلى هذا يسجد له؛ لأنه تبطل الصلاة بعمده، وعفي عن سهوه، فيسجد له كجنس الصلاة.
ومن ترك في فيه ما يذوب كالسكر، وابتلع ما يذوب منه، فهو أكل، وإن بقي في فمه أو بين أسنانه يسير من بقايا الطعام يجري به الريق فابتلعه، لم تبطل صلاته؛ لأنه لا يمكنه التحرز منه، وإن ترك في فيه لقمة، لم يبلعها لم تبطل صلاته؛ لأنه عمل يسير، ويكره؛ لأنه يشغل عن خشوعها وقراءتها، فإن لاكها فهو كالعمل، وإن كثر أبطل، وإلا فلا.
فصل:
القسم الثاني: النقص، وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: ترك ركن، كركوع أو سجود، فإن كان عمدًا أبطل الصلاة، وإن كان سهوًا فله أربعة أحوال:
أحدها: لم يذكره حتى سلم، وطال الفصل، فتفسد صلاته، لتعذر البناء مع طول الفصل.
الثاني: ذكره قريبًا من التسليم، فإنه يأتي بركعة كاملة؛ لأن الركعة التي ترك الركن منها، بطلت بتركه، والشروع في غيرها، فصارت كالمتروكة.
الثالث: ذكر المتروك قبل شروعه في قراءة الركعة الأخرى، فإنه يعود فيأتي بما تركه، ثم يبني على صلاته، فإن سجد سجدة، ثم قام قبل جلسة الفصل فذكر، جلس للفصل، ثم سجد ثم قام، وإن ترك السجود وحده، سجد ولم يجلس؛ لأنه لم يتركه، ولو جلس للاستراحة لم يجزئه عن جلسة الفصل؛ لأنه نوى بجلوسه النفل، فلم يجزئه(1/279)
عن الفرض، كمن سجد للتلاوة لم يجزئه عن سجود الصلاة، ويسجد للسهو، فإن لم يعد إلى فعل ما تركه، فسدت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمدًا، إلا أن يكون جاهلًا.
الحال الرابع: ذكر بعد شروعه في قراءة الفاتحة في ركعة أخرى، فتبطل الركعة التي ترك ركنها وحدها، ويجعل الأخرى مكانها، ويتم صلاته، ويسجد قبل السلام.
وإن ترك ركنين مع ركعتين، أتى بركعتين مكانها.
وإن ترك أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد سجد سجدة، تصح له الركعة الرابعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، وعنه: أن صلاته تبطل؛ لأنه يفضي إلى عمل كثير غير معتد به.
وإن ذكر وهو في التشهد أنه ترك سجدة من الرابعة، سجد في الحال، ثم تشهد وسجد للسهو، فإن لم يعلم من أي الركعات تركها، جعلها من ركعة قبلها، ليلزمه ركعة، وإن ذكر في الركعة أنه ترك ركنًا لم يعلم أركوع هو أم سجود؟ جعله ركوعًا، ليأتي به، ثم بما بعده كيلا يخرج من الصلاة على شك.
النوع الثاني: ترك واجبا غير ركن عمدًا، كالتكبير غير تكبيرة الإحرام، وتسبيح الركوع والسجود؛ بطلت صلاته إن قلنا بوجوبه، وإن تركه سهوًا سجد للسهو قبل السلام؛ لما «روى عبد الله بن مالك ابن بحينة قال: صلى بنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر، فقام في الركعتين، فلم يجلس، فقام الناس معه، فلما قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه، كبر فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم» متفق عليه. فثبت هذا بالخبر، وقسنا عليه سائر الواجبات، وإن ذكر التشهد قبل انتصابه قائمًا، رجع فأتى به، وإن ذكر بعد شروعه في القراءة، لم يرجع لذلك؛ لأنه تلبس بركن مقصود، فلم يرجع إلى واجب، وإن ذكره بعد قيامه، وقبل شروعه في القراءة لم يرجع أيضًا لذلك، لما «روى المغيرة بن شعبة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: إذا قام أحدكم في الركعتين فلم يستتم قائمًا جلس، فإن استتم قائمًا لم يجلس وسجد سجدتي السهو» رواه أبو داود.
وقال أصحابنا: وإن رجع في هذه الحال لم تفسد صلاته، ولا يرجع إلى غيره من الواجبات؛ لأنه لو رجع إلى الركوع لأجل تسبيحة لزاد ركوعًا في صلاته، وأتى بالتسبيح في ركوع غير مشروع.(1/280)
النوع الثالث: ترك سنة، فلا تبطل الصلاة بتركها عمدًا ولا سهوًا، ولا سجود عليه؛ لأنه شرع للجبر، فإن لم يكن الأصل واجبًا فجبره أولى، ثم إن كان المتروك من سنن الأفعال لم يشرع له السجود؛ لأنه يمكن التحرز منه، وإن كان من سنن الأقوال ففيه روايتان:
أحدهما: لا يسن له السجود كسنن الأفعال.
والثانية: يسن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» .
فصل:
القسم الثالث: الشك، وفيه ثلاث مسائل:
إحداهن: شك في عدد الركعات، ففيه ثلاثة روايات:
إحداهن: يبني على غالب ظنه، ويتم صلاته، ويسجد بعد السلام؛ لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسجد سجدتين متفق عليه، وللبخاري: " بعد التسليم» .
الثانية: يبني على اليقين، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثًا أو أربعًا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته، وإن كان صلى أربعًا كانتا ترغيمًا للشيطان» رواه مسلم.
والرواية الثالثة: يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين؛ لأن للإمام من يذكره إن غلط، فلا يخرج منها على شك، والمنفرد يبني على اليقين؛ لأنه لا يأمن الخطأ، وليس له من يذكره، فلزمه البناء على اليقين، كيلا يخرج من الصلاة شاكًا فيها، وهذا ظاهر المذهب.
المسألة الثانية: شك في ركن من الصلاة، فحكمه حكم تاركه؛ لأن الأصل عدمه.(1/281)
المسألة الثالثة: شك فيما يوجب سجود السهو، من زيادة أو ترك واجب، ففيه وجهان:
أحدهما: لا سجود عليه؛ لأن الأصل عدم وجوبه، فلا يجب بالشك.
والثاني: إن شك في زيادة لم يسجد؛ لأن الأصل عدمها، وإن شك في ترك واجب لزمه السجود؛ لأن الأصل عدمه، وإنما يؤثر الشك إذا وجد في الصلاة، فإن شك بعد سلامها لم يلتفت إليه؛ لأن الظاهر الإتيان بها على الوجه المشروع؛ لأن ذلك يكثر فيشق الرجوع إليه فسقط، وهكذا الشك في سائر العبادات بعد فراغه منها.
فصل:
وسجود السهو لما يبطل عمده الصلاة واجب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله وأمر به، ولأنه شرع لجبر واجب، فكان واجبًا كجبرانات الحج، وجميعه قبل السلام؛ لأنه من تمامها وشأنها، فكان قبل سلامها كسجود صلبها، إلا في ثلاثة مواضع:
أحدها: إذا سلم من نقصان في صلاته سجد بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين.
الثاني: إذا بنى على غالب ظنه سجد بعد السلام لحديث ابن مسعود.
الثالث: إذا نسي السجود قبل السلام سجده بعده؛ لأنه فاته الواجب فقضاه، وعن أحمد: أن جميعه قبل السلام، إلا أن ينساه قبل أن يسلم.
وعنه: ما كان من زيادة فهو بعد السلام؛ لحديث ذي اليدين، وما كان من نقصان أو شك كان قبله؛ لحديث ابن بحينة وأبي سعيد، فمن سجد قبل السلام جعله بعد فراغه من التشهد؛ لحديث ابن بحينة: فيكبر للسجود والرفع منه، ويسجد سجدتين كسجدتي صلب الصلاة، ويسلم عقيبها، وإن سجد بعد السلام كبر للسجود والرفع منه؛ لحديث ذي اليدين، ويتشهد ويسلم، لما «روى عمران بن حصين: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم فسها، فسجد سجدتين، ثم تشهد وسلم» وهذا حديث حسن، ولأنه سجود يسلم له، فكان معه تشهد كسجود صلب الصلاة، فإن نسي السجود فذكره قبل طول الفصل سجد وإن تكلم.
وقال الخرقي: يسجد ما لم يخرج من المسجد، وإن تكلم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام رواه مسلم.
وإن نسيه حتى طال الفصل، أو خرج من المسجد، على قول الخرقي، سقط؛ وعنه: يعيد الصلاة.(1/282)
وقال أبو الخطاب: إن ترك المشروع قبل السلام عامدًا بطلت صلاته؛ لأنه ترك واجبًا فيها عمدًا، وإن ترك المشروع بعد السلام عمدًا أو سهوًا لم تبطل صلاته؛ لأنه ترك واجبًا ليس منها، فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج.
فصل:
فإن سها سهوين محل سجودهما واحد، كفاه أحدهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين» ، ولأن السجود إنما أخر ليجمع السهو كله، ولولا ذلك فعله عقيب السهو؛ لأنه سببه، وإن كان أحدهما قبل السلام والآخر بعده ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه سجود واحد لذلك، ويسجد قبل السلام؛ لأنه أسبق وآكد، ولم يسبقه ما يقوم مقامه فلزمه الإتيان بخلاف الثاني.
والثاني: يأتي بهما في محلهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» رواه أبو داود.
فصل:
وليس على المأموم سجود لسهوه، فإن سها إمامه فعليه السجود معه، لما روى ابن عمر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سها إمامه فعليه وعلى من خلفه» رواه الدارقطني، ولأن المأموم تابع لإمامه، فلزمه متابعته في السجود وفي تركه.
ويسجد المسبوق مع إمامه في سهوه الذي لم يدركه، فإن كان السجود بعد السلام لم يقم المسبوق حتى يسجد معه.
وعنه: لا سجود عليه هاهنا، والأول المذهب، فإن قام ولم يعلم، فسجد الإمام رجع فسجد معه إن لم يكن استتم قائمًا، وإن استتم قائمًا مضى، ثم سجد في آخر صلاته قبل سلامه؛ لأنه قام عن واجب، فأشبه تارك التشهد الأول، وإن سجد مع الإمام ففيه روايتان:
إحداهما: يعيد السجود؛ لأن محله آخر الصلاة، وإن سجد مع إمامه تبعًا، فلم يسقط المشروع في محله كالتشهد.(1/283)
والثانية: لا يسجد؛ لأنه قد سجد وانجبرت صلاته، وإن لم يسجد مع إمامه سجد وجهًا واحدًا.
وإن ترك الإمام السجود، فهل يسجد المأموم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يسجد لأن صلاته نقصت بسهو إمامه، ولم يجبرها فلزمه جبرها.
والثانية: لا يسجد؛ لأنه إنما يسجد تبعًا، فإن لم يوجد المتبوع لم يجب التبع.
فصل:
والنافلة كالفريضة في السجود؛ لعموم الأخبار، ولأنها في معناها، ولا يسجد لسهو في سجود السهو؛ لأنه يفضي إلى التسلسل، ولا في صلاة جنازة؛ لأنه لا سجود في صلبها، ففي جبرها أولى، ولا يسجد لفعل عمد؛ لأن السجود سجود للسهو، ولأن العمد إن كان لمحرم أفسد الصلاة، وإن كان في غيره فلا عذر عليه، والسجود إنما شرع في محل العذر.
فصل:
ومن أحدث عمدًا بطلت صلاته؛ لأنه أخل بشرطها عمدًا، وإن سبقه الحدث أو طرأ عليه ما يفسد طهارته، كظهور قدمي الماسح، وانقضاء مدة المسح، ومن به سلس لبول؛ بطلت صلاته.
وعنه فيمن سبقه الحدث: يتوضأ ويبني، وهذه الصور في معناها، والمذهب الأول؛ لأن الصلاة لا تصح من محدث في عمد ولا سهو، وله أن يستخلف من يتم بهم الصلاة.
وعنه: ليس له ذلك؛ لأن صلاته باطلة، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين طعن أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فأتم بهم الصلاة، فلم ينكره أحد فكان إجماعًا، وإن لم يستخلف، فاستخلف الجماعة لأنفسهم، أو صلوا وحدانًا جاز.
قال أصحابنا: وله استخلاف من لم يكن معه في الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة أبي بكر، ولم يكن معه، فأخذ من حيث انتهى إليه أبو بكر، فإن كان مسبوقًا ببعض الصلاة، فتمت صلاة المأمومين قبله، وجلسوا يتشهدون، وقام هو فأتم صلاته، ثم أدركهم فسلم بهم، ولا يسلمون قبله؛ لأن الإمام ينتظر المأمومين في صلاة الخوف، فالمأمومون أولى بانتظاره.(1/284)
[باب ما يكره في الصلاة]
يكره الالتفات لغير حاجة؛ لأن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التفات الرجل وهو في الصلاة، فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة الرجل» حديث صحيح، ولا تبطل الصلاة به، ما لم يستدر بجملته، أو يستدبر القبلة.
ولا يكره للحاجة؛ لأن «سهل ابن الحنظلية قال: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، قال: وكان بعث أنس بن أبي مرثد طليعة» رواه أبو داود.
«وقال ابن عباس: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلتفت يمينًا وشمالًا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره» رواه النسائي. ويكره رفع البصر لما روى البخاري أن أنسًا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم - فاشتد قوله في ذلك حتى قال: - لينتهن عن ذلك، أو لتخطفن أبصارهم» ويكره أن يصلي ويده على خاصرته؛ لما «روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يصلي الرجل متخصرًا» متفق عليه. ويكره أن يكف شعره، أو ثيابه، أو يشمر كميه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا» متفق عليه. ويكره أن يصلي معقوصًا أو مكتوفًا؛ لما «روي: أن ابن عباس رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص فحله، وقال: إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إنما مثل هذا، مثل الذي يصلي وهو مكتوف» رواه الأثرم.
ويكره أن يشبك أصابعه؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا قد شبك أصابعه، في الصلاة ففرج بين أصابعه» رواه ابن ماجه. ويكره فرقعة الأصابع؛ لما روي عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقعقع أصابعك، وأنت في الصلاة» رواه ابن(1/285)
ماجه.
ويكره التروح؛ لأنه من العبث، ويكره أن يعتمد على يده في الجلوس؛ لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجلس الرجل وهو يعتمد على يديه» رواه أبو داود. ويكره مسح الحصى؛ لما روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم في الصلاة فإن الرحمة تواجهه، فلا يمسح الحصى» من المسند. ويكره أن يكثر الرجل مسح جبهته؛ لقول ابن مسعود: إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من الصلاة. ويكره النظر إلى ما يلهيه؛ لما «روت عائشة قالت: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خميصة لها أعلام، فقال: شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم بن حذيفة، وائتوني بأنبجانيته» متفق عليه.
ويكره أن يصلي وبين يديه ما يلهيه؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: أميطي عنا قرامك هذا، فإنه ما تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي» رواه البخاري. ويكره كثرة التميل؛ لقول عطاء: إني لأحب أن يقل فيه التحريك. وأن يعتدل قائمًا على قدميه إلا أن يكون إنسانًا كبيرًا لا يستطيع ذلك، فأما التطوع فإنه يطول على الإنسان، فلا بد من التوكي على هذا مرة، وعلى هذا مرة، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يفرج بين قدميه ولا يمس إحداهما الأخرى، ولكن بين ذلك، ويكره تغميض العين، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: هو من فعل اليهود، ويكره العبث كله، وما يذهب بخشوع الصلاة، ولا تبطل الصلاة بشيء من هذا إلا ما كان عملًا كثيرًا.
فصل:
ولا بأس بِعَدّ الآي والتسبيح؛ لأنه روي عن طاوس، والحسن، وابن سيرين، ولا بأس بقتل الحية والعقرب؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتل الأسودين في الصلاة، الحية والعقرب» ، وإن قتل القملة فلا بأس، فإن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يقتل القمل في الصلاة رواه سعيد.
قال القاضي: والتغافل عنها أولى، ولا بأس بالعمل اليسير للحاجة لما قدمنا.
فصل:
فإن تثاءب في الصلاة استحب له أن يكظم، فإن لم يقدر وضع يده على فيه؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» ، وفي رواية: «فليضع يده على فيه، فإن الشيطان يدخل» وهذا حديث حسن صحيح. وإن بدره البصاق بصق عن(1/286)
يساره، أو تحت قدمه، فإن كان في المسجد بصق في ثوبه، وحك بعضه ببعض؛ لما «روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس، فقال: ما بال أحدكم يقوم مستقبل القبلة، فيتنخع أمامه، أيحب أن يُستقبل فيتنخع في وجهه، وإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا ووصف القاسم: فتفل في ثوبه ومسح بعضه على بعض» ، وإن سُلم على المصلي، رد بالإشارة؛ لما «روى جابر قال: أدركت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي، فسلمت عليه فأشار إلي، فلما فرغ دعاني، وقال: إنك سلمت علي آنفًا وأنا أصلي» متفق عليه.
[باب صلاة الجماعة]
باب الجماعة الجماعة واجبة على الرجال، لكل صلاة مكتوبة؛ لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب، ثم آمر بالصلاة، ثم آمر رجلًا فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار» متفق عليه. وليست شرطًا للصحة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة» متفق عليه. وتنعقد باثنين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الاثنان فما فوقهما جماعة» رواه ابن ماجه. فإن أم الرجل عبده أو زوجته كانا جماعة لذلك، وإن أَمَّ صبيًا في النفل جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم ابن عباس في التهجد، وإن أَمَّهُ في فرض، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يكون مسقطًا له؛ لأنه ليس من أهله، وعنه: يصح كما لو أم رجلًا متنفلًا.
فصل:
ويجوز فعلها في البيت والصحراء؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أينما أدركتك الصلاة فَصَلِّ، فإنه مسجد» متفق عليه. وعنه أن حضور المسجد واجب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وفعلها فيما كثر الجمع أفضل؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى» من المسند. وإن كان في جواره مسجد، تختل الجماعة فيه بغيبته عنه، ففعلها فيه أفضل، وإن لم تختل بذلك، وثم مسجد آخر فالعتيق أفضل؛ لأن الطاعة فيه أسبق، وإن كانا سواء، فهل الأفضل قصد الأبعد أو الأقرب على روايتين، وإن كان البلد ثغرًا فالأفضل اجتماع الناس في مسجد واحد؛ لأنه أعلى للكلمة، وأوقع للهيبة، وبيت المرأة خير لها، فإن أرادت المسجد لم تمنع منه، ولا تتطيب له؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير(1/287)
لهن» رواه أحمد. وفي رواية: «ليخرجن تفلات» يعني غير متطيبات، ولا بأس أن تصلي المرأة بالنساء؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أذن لأم ورقة أن تؤم أهل دارها» رواه أبو داود.
فصل:
ويعذر في ترك الجماعة والجمعة بثمانية أشياء:
المرض: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر، قالوا: يا رسول الله، وما العذر؟ قال: خوف أو مرض» رواه أبو داود.
والخوف: لهذا الحديث، وسواء خاف على نفسه من سلطان، أو لص، أو سبع، أو غريم يلزمه، ولا شيء معه يعطيه، أو على ماله من تلف أو ضياع أو سرقة، أو يكون له دين على غريم يخاف سفره، أو وديعة عنده إن تشاغل بالجماعة مضى وتركه، أو يخاف شرود دابته، أو احتراق خبزه أو طبخه، أو ناطور بستان يخاف سرقة شيء منه، أو مسافر يخاف فوت رفقته، أو يكون له مريض يخاف ضياعه، أو صغير أو حرمة يخاف عليها.
والثالث، والرابع: المطر والوحل: لما «روي عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل حي على الصلاة، وقل: صلوا في بيوتكم، فعل ذلك من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشوا في الطين والدحض» متفق عليه.
والخامس: الريح الشديدة في الليلة المظلمة الباردة، وهذا يختص بالجماعة؛ لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر مناديًا فيؤذن، ثم يقول على إثر ذلك: ألا صلوا في الرحال في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر» متفق عليه.
السادس: أن يحضر الطعام ونفسه تتوق إليه.
السابع: أن يدافع الأخبثين أو أحدهما؛ لما روت عائشة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام، ولا وهو يدافع الأخبثين» رواه البخاري ومسلم.
الثامن: أن يكون له قريب يخاف موته ولا يحضره، لما روى ابن عمر رضي الله(1/288)
عنهما: استصرخ علي سعيد بن زيد، وقد تجهز للجمعة، فذهب إليه وتركها.
فأما الأعمى فلا يعذر إذا أمكنه الحضور؛ لما روى أبو هريرة قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأله أن يرخص له، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال: أتسمع النداء بالصلاة، قال: نعم، قال: فأجب» رواه مسلم.
فصل:
ومن شرط صحة الجماعة أن ينوي الإمام والمأموم حالهما، فإن نوى أحدهما دون صاحبه لم تصح؛ لأن الجماعة إنما انعقدت بالنية، فيعتبر وجودها منهما، وإن نوى كل واحد منهما أنه إمام صاحبه لم يصح؛ لأنه لا مأموم له، وإن نوى كل واحد منهما أنه مأموم لم يصح؛ لأنه لا إمام له، وإن نوى أن يأتم بأحد الإمامين لا بعينه لم يصح؛ لأنه لا يمكنه اتباعه، وإن نوى الائتمام بهما لم يصح لذلك، وإن نوى الائتمام بالمأموم أو المنفرد لم يصح؛ لأنه ليس بإمام.
فصل:
فإن أحرم على صفة، ثم انتقل عنها، ففيه ست مسائل:
إحداهن: أحرم منفردًا، ثم جاء إنسان فأحرم معه، فنوى إمامته، فيجوز في النفل؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام يصلي في التهجد، فجاء ابن عباس فأحرم معه، فصلى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» متفق عليه.
وإن كان في فرض وكان يرجو مجيء من يصلي معه، جاز أيضًا، نص عليه؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بالصلاة وحده، فجاء جابر وجبار فصلى بهما» رواه أبو داود. وإن لم يكن كذلك؛ فعن أحمد لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الإمامة في ابتداء الصلاة، وعنه ما يدل على الإجزاء؛ لأنه يصح في النفل والفرض في معناه.
الثانية: أحرم منفردًا فحضرت جماعة، فأحب أن يصلي معهم، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أحب إلي أن يقطع الصلاة، ويدخل مع الإمام، فإن لم يفعل ودخل معهم ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه لم ينو الائتمام في ابتداء الصلاة.
والثانية: يجزئه لأنه لما جاز أن يجعل نفسه إمامًا، جاز أن يجعلها مأمومًا.
الثالثة: أحرم مأمومًا، ثم نوى الانفراد لعذر جاز، نحو أن يطول الإمام، أو تفسد(1/289)
صلاته لعذر من سبق حدث أو نحوه؛ لما «روى جابر قال: صلى معاذ بقومه، فقرأ بسورة البقرة فتأخر رجل، وصلى وحده، فقيل له: نافقت يا فلان، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر له ذلك، فقال: أفتان أنت يا معاذ؟ مرتين» متفق عليه.
فإن نوى الانفراد لغير عذر فسدت صلاته؛ لأنه ترك متابعة إمامه لغير عذر، فأشبه ما لو تركها بغير نية المفارقة، وفيه وجه أنه يصح، بناء على المنفرد إذا نوى الإمامة.
الرابعة: أحرم مأمومًا ثم صار إمامًا لعذر، مثل أن سبق إمامه الحدث فيستخلفه فإنه يصح.
وعنه: لا يصح، وإن أدرك نفسان بعض الصلاة مع الإمام، فلما سلم ائتم أحدهما بصاحبه في بقيتها؟ ففيه وجهان، فإن كان لغير عذر لم تصح.
الخامسة: أحرم إمامًا ثم صار منفردًا لعذر، مثل أن يسبق الإمام الحدث أو تفسد صلاته لعذر، فينوي الإمام المنفرد فيصح، وإن كان لغير عذر لم يصح.
السادسة: أحرم إمامًا ثم صار مأمومًا لعذر، مثل أن يؤم غير إمام الحي، فيزول عذر الإمام، فيتقدم في أثناء الصلاة، ويبني على صلاة الأول، ويصير الأول مأمومًا ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لما روى سهل بن سعد قال: «ذهب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فصلى أبو بكر، فجاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والناس في الصلاة، فتخلص حتى وقف في الصف، فاستأخر أبو بكر حتى استوى في الصف وتقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى ثم انصرف» متفق عليه.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لا حاجة إلى ذلك، وفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أن يكون خاصًا له؛ لأن أحدًا لا يساويه.
فصل:
وإذا أقيمت الصلاة لم يشتغل عنها بغيرها؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم. وإن أقيمت وهو في نافلة خففها وأتمها، إلا أن يخاف فوات الجماعة فيقطعها؛ لأن الفريضة أهم، وعنه يتمها لقول الله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] .(1/290)
وإن أقيمت قبل مجيئه لم يسع إليها؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ائتوها وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا وروي: فاقضوا» متفق عليه. ولا بأس أن يسرع شيئًا إذا خاف فوات الركعة؛ لأنه جاء عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم كانوا يعجلون شيئًا إذا خافوا الفوات، فإن أدركه راكعًا كبر للإحرام وهو قائم، ثم كبر أخرى للركوع، فإن كبر واحدة أجزأه، نص عليه، واحتج أنه فعل زيد بن ثابت، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن أدرك قدر ما يجزئ في الركوع مع الإمام أدرك الركعة، فإن لم يدرك ذلك لم يكن مدركًا لها، لما روى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أدركتم الإمام في السجود فاسجدوا، ولا تعدوها شيئًا، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة» رواه أبو داود. وإن أدركه في سجود أو جلوس كبر الإحرام، وانحط من غير تكبير؛ لأنه لم يدرك محل التكبير في السجود.
فصل:
وإذا أحس بداخل في القيام أو الركوع استحب له انتظاره، ما لم يشق على المأمومين؛ لما «روى ابن أبي أوفى: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر، حتى لا يسمع وقع قدم» ، ولأنه انتظار ليدرك المأموم على وجه لا يشق، فلم يكره، كالانتظار في صلاة الخوف، إلا أن يكون الجمع كثيرًا فأنه لا يستحب؛ لأنه يتعذر أن يكون فيهم من يشق عليه، ولأنه يفوت حق جماعة كثيرة لأجل واحد، ومن كبر قبل سلام الإمام، فقد أدرك فضيلة الجماعة ويبني عليها.
فصل:
وما يدركه المأموم مع الإمام آخر صلاته لا يستفتح فيه، وما يقضيه أولها يستفتح إذا قام إليه ويستعيد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» والمقضي هو الفائت.
وعنه: إن ما يدركه أولها ما يقضيه آخرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فأتموا» والأول المشهور؛ لأنه يقرأ فيما يقضيه بالسورة بعد الفاتحة، فكان أول صلاته كما لو بدأ به، فإن لم يدرك إلا ركعة من المغرب، أو الرباعية ففي موضع تشهده روايتان:
إحداهما: يأتي بركعتين متواليتين ثم يتشهد؛ لأن المقضي أول صلاته، وهذا صفة أول الصلاة، ولأنهما ركعتان يقرأ فيهما بالسورة، فكانتا متواليتين كغير المسبوق.(1/291)
والثانية: يأتي بركعة ثم يجلس؛ لأنه يروى عن ابن مسعود، وسعيد بن المسيب، ومسروق: فإذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير كرر التشهد الأول، فإذا قضى ما عليه تشهد، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم سلم.
فصل:
وإن فاتته الجماعة استحب أن يصلي في جماعة أخرى، فإن لم يجد إلا من قد صلى استحب لبعضهم أن يصلي معه، لما «روى أبو سعيد: أن رجلًا جاء وقد صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: من يتصدق على هذا فيصلي معه؟» وهذا حديث حسن؛ ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» ويجوز ذلك في جميع المساجد، إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرهه في المسجد الحرام ومسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ويتبع المأموم الإمام، فيجعل أفعاله بعد أفعاله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا» متفق عليه. والفاء للتعقيب، وقال في حديث أبي موسى: «فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم» رواه مسلم. «وقال البراء بن عازب: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره، حتى يقع ساجدًا، ثم نقع سجودًا بعده» متفق عليه.
فإن كبر للإحرام مع إمامه أو قبله لم يصح؛ لأنه ائتم بمن لم تنعقد صلاته، وإن فعل سائر الأفعال معه كره لمخالفة السنة، ولم تفسد صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، وإن ركع أو رفع قبله عمدًا أتم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام» والنهي يقتضي التحريم.
وروى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن صلاته تبطل لهذا الحديث. قال: لو كان له صلاة لرجي له الثواب، ولم يخش عليه العقاب.
وقال القاضي: تصح صلاته؛ لأنه اجتمع معه في الركن، أشبه ما لو وافقه، وإن فعله جاهلًا أو ناسيًا فلا بأس. وعليه أن يعود ليأتي بذلك معه، فإن لم يفعل صحت(1/292)
صلاته؛ لأنه سبق يسير لا يمكن التحرز منه، فإن ركع ورفع قبل أن يركع إمامه، وسجد قبل رفعه عمدًا عالمًا بتحريمه بطلت صلاته؛ لأنه لم يأتم بإمامه في معظم الركعة، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته للعذر، ولم يعتد بتلك الركعة لما ذكرنا، فإن ركع قبله فلما ركع رفع، ففي بطلان الصلاة لعمد ذلك والاعتداد بالركعة مع جهله ونسيانه وجهان. فإن ركع الإمام، ورفع قبل ركوع المأموم عمدًا، بطلت صلاته، لتركه المتابعة، وإن كان لنوم أو غفلة ونحو ذلك لم تبطل؛ لأنه سبق يسير، ويركع ثم يدركه، فإن سبقه بأكثر من ذلك لعذر ففيه وجهان:
أحدهما: يفعله ويلحق، كالمزحوم في الجمعة.
والثاني: تبطل الركعة؛ لأنها مفارقة كثيرة.
[باب صفة الأئمة]
الكلام فيها في ثلاثة أمور:
أحدها: صحة الإمامة: والناس فيها على خمسة أقسام:
أحدها: من تصح إمامته بكل حال، وهو الرجل المسلم العدل القائم بأركان الصلاة وشرائطها، فتصح إمامته وإن كان عبدًا؛ لأن أبا ذر، وابن مسعود، وحذيفة، وناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدموا أبا سعيد مملوكًا لأبي أسيد فصلى بهم، ولأنه من أهل الأذان لهم، فأشبه الحر، وتصح إمامة الأعمى؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستخلف ابن أم مكتوم يؤم الناس وهو أعمى» رواه أبو داود.
ولأن الأعمى فقد حاسة فأشبه فقد الشم، وتصح إمامة الأصم لذلك، فإن كان أصم أعمى فقال بعض أصحابنا: لا تصح إمامته؛ لأنه قد يسهو فلا يمكن تنبيهه، والأولى صحتها؛ لأنه لا يخل بشيء من واجبات الصلاة، والسهو عارض لا يبطل الصلاة احتمال وجوده كالجهل بحكم السجود، وتصح إمامة ولد الزنا، والجندي، والخصي، والأعرابي، إذا سلموا في دينهم؛ لدخولهم في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم» وتصح إمامة المتيمم بالمتوضئ؛ «لأن عمرو بن العاص صلى بأصحابه متيممًا، وأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضحك، ولم ينكر عليه» ؛ لأن طهارته صحيحة أشبه الماسح.
فصل:
القسم الثاني: من لا تصح إمامته؛ وهم نوعان:
أحدهما: من لا تصح صلاته لنفسه كالكافر والمجنون، ومن أخل بشرط أو واجب(1/293)
لغير عذر، فلا تصح إمامته بحال؛ لأنه لا صلاة له في نفسه أشبه اللاعب إلا في المحدث والنجس إذ لم يعلم هو والمأموم حتى فرغوا من الصلاة أعاد وحده؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بالناس الصبح، ثم خرج إلى الجرف، فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلامًا، فأعاد ولم يعد الناس. وروى الأثرم نحو هذا عن عثمان وعلي وابن عمر، ولم يعرف لهم مخالف فكان إجماعًا، ولأن هذا مما يخفى، فكان المأموم معذورًا في الاقتداء به، والنجاسة كالحدث؛ لأنها مما تخفى ولا يعفى عن سائر الشروط؛ لأنها ليست في مظنة الخفاء، فإن علم الإمام والمأموم ذلك في أثناء الصلاة لزمهم الاستئناف، وحكي عنه في المأموم أنه يبني على ما مضى لو سبق الإمام الحدث والمذهب الأول؛ لأن ما مضى بني على غير طهارة بخلاف من سبقه الحدث، وإن علم بعض المأمومين دون بعض، فالمنصوص أنهم يعيدون جميعًا لعدم المشقة فيه، ويحتمل أن تختص الإعادة بمن علم؛ لأنه اختص بالعلم المبطل، فاختص البطلان كما لو أحدث.
النوع الثاني: الفاسق إما بالأفعال أو ببدعة لا تكفره؛ ففي إمامته روايتان:
إحداهما: تصح «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: كيف أنت إذا كانت عليك أمراء، يميتون الصلاة عن وقتها. قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل، فإنها لك نافلة» من المسند. وكان ابن عمر يصلي وراء الحجاج، والحسن والحسين يصليان وراء مروان.
والثانية: لا يصح؛ لأن جابرًا قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تؤمن امرأة رجلًا، ولا فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان، أو يخاف سوطه أو سيفه» رواه ابن ماجه.
ولأنه لا يؤمن على شرائط الصلاة، ويحتمل أن تصح الجمعة والعيد دون غيرهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بهما خلف كل بر وفاجر؛ لأنها لا تختص بإمام واحد، فالمنع منها خلف الفاسق يفضي إلى تفويتها، فسومح فيها دون سائر الصلوات.
فصل:
القسم الثالث: من تصح إمامته بمثله، ولا تصح بغيره، وهم ثلاثة أنواع:
إحداها: المرأة يجوز أن تؤم النساء لما تقدم، ولا يجوز أن تؤم رجلًا، ولا خنثى مشكلًا، في فرض ولا صلاة نفل؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تؤمن امرأة رجلًا» ولأنها لا تؤذن للرجال، فلم يجز لها أن تؤمهم كالمجنون.
والثاني: الأمي وهو: من لا يحسن الفاتحة، أو يخل بترتيلها أو حرف منها، أو يبدله بغيره كالألثغ الذي يجعل الراء غينًا، ومن يلحن لحنًا يحيل المعنى مثل أن يضم(1/294)
تاء {أَنْعَمْتَ} [الفاتحة: 7] أو يكسر كاف {إِيَّاكَ} [الفاتحة: 5] ، أو يخل بشدة، فإن الشدة قامت مقام حرف، بدليل أن شدة راء الرحيم قامت مقام اللام، لكن إذا خففها أجزأته، فهؤلاء إن لم يقدروا على إصلاح قراءتهم أميون تصح صلاتهم بمثلهم، ولا تصح بقارئ؛ لأنه عجز عن ركن الصلاة فأشبه العاجز عن السجود، فإن أم أميين وقارئًا صحت صلاة الأميين وفسدت صلاة القارئ.
وفي معنى هذا النوع من يخل بشرط أو ركن كالأخرس والعاجز عن الركوع والسجود، والقيام والقعود، والمستحاضة ومن به سلس البول وأشباههم تصح صلاتهم في أنفسهم، وبمن حاله كحالهم، ولا تصح بغيرهم؛ لأنهم أخلوا بفرض الصلاة، فأشبه المضجع يؤم القائم، إلا في موضع واحد وهو العاجز عن القيام يؤم القادر عليه بشرطين:
أحدهما: أن يكون إمام الحي.
والثاني: أن يرجى زوال مرضه، ويصلون خلفه جلوسًا؛ لأن النبي «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بهم جالسًا، فصلى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، ثم قال: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون» متفق عليه. فإن صلوا قيامًا ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح للنهي عنه.
والثاني: يصح لأن القيام هو الأصل، وقد أتوا به، فإن ابتدأ بهم قائمًا، ثم اعتل فجلس أتموا قيامًا؛ «لأن عائشة قالت: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، فلما دخل أبو بكر في الصلاة خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس جالسًا، وأبو بكر قائمًا يقتدي برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر» متفق عليه.
فأتموا قيامًا لابتدائهم إياها قيامًا، فأما غير إمام الحي، فلا يصح أن يؤم قادرًا على القيام، وهو جالس لعدم الحاجة إلى تقديمه مع عجزه، وإن لم يرج برؤه لم تجز إمامته؛ لأنه لا يجوز استبقاؤه إمامًا دائمًا مع عجزه، واحتمل هذا في القيام دون سائر الأركان لخفته؛ بدليل سقوطه في النفل دونها، فإن كان أقطع اليدين فقال أبو بكر: لا تصح إمامته لإخلاله بالسجود على عضوين من أعضاء السجود، فأشبه العاجز عن السجود على جبهته، وفي معناه: اقطع اليد الواحدة.
وقال القاضي: تصح إمامته؛ لأنه لا يخل بركن الصلاة بخلاف تارك السجود على الجبهة.
النوع الثالث: الصبي تصح إمامته بمثله؛ لأنه بمنزلته، ولا تصح إمامته ببالغ في فرض، نص عليه؛ لأن ذلك روي عن ابن مسعود، وابن عباس، ولأنه ليس من أهل(1/295)
الكمال، فلا يؤم الرجال كالمرأة، وهل يؤمهم في النفل على روايتين.
إحداهما: لا تصح لذلك.
والثانية: تصح لأن صلاته نافلة، فيؤم من هو في مثل حاله، ويخرج أن تصح إمامته لهم في الفرض بناء على إمامة المتنفل للمفترض، «ولأن عمر بن سلمة الجرمي كان يؤم قومه وهو غلام في عصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» أخرجه البخاري.
فصل:
القسم الرابع: من تصح إمامته ممن دونه ولا تصح بمثله ولا أعلى منه، وهو الخنثى المشكل، تصح إمامته بالنساء؛ لأن أدنى أحواله أن يكون امرأة، ولا تصح برجل؛ لأنه يحتمل أن يكون امرأة، ولا خنثى مشكل؛ لأنه يحتمل كون المأموم رجلًا.
فصل:
القسم الخامس: المتنفل يصح أن يؤم متنفلًا، وهل يصح أن يؤم مفترضًا؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأن صلاة المأموم لا يتأدى بنية الإمام، فأشبه الجمعة خلف من يصلي الظهر.
والثانية: يصح، وهي أولى؛ «لأن جابرًا روى أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة» متفق عليه. «وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخوف بطائفة ركعتين، ثم سلم، ثم صلى بالأخرى ركعتين ثم سلم» رواه أبو داود. وهو في الثانية متنفل، ويؤم مفترضين، ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال، فأشبه المتنفل يأتم بمفترض، وإن صلى الظهر خلف من يصلي العصر، أو صلى العشاء خلف من يصلي التراويح ففيه روايتان، وجههما ما تقدم، فإن كانت إحدى الصلاتين تخالف الأخرى، كصلاة الكسوف والجمعة، خلف من يصلي غيرهما، أو غيرهما خلف من يصليهما لم يصح.
رواية واحدة؛ لأنه يفضي إلى المخالفة في الأفعال، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عنه» وإن صلى من يؤدي صلاة خلف من يقضيها، أو من يقضيها خلف من يؤديها صحت، رواية واحدة، ذكره الخلال؛ لأن الصلاة واحدة، وإنما اختلف الوقت، وخرج بعض أصحابنا فيها روايتين كالتي قبلها.(1/296)
فصل:
الأمر الثاني في أولى الناس بالإمامة، وأتم ما روي فيه حديث أبي مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا، أو قال: سلمًا، ولا يؤمن الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» رواه مسلم.
فأولى الناس بالإمامة السلطان، للحديث وهو الخليفة أو الوالي من قبله أو نائبهما، فإن لم يكن سلطان، فصاحب البيت أحق للخبر. وقال أبو سعيد مولى أبو أسيد: تزوجت وأنا مملوك، فدعوت ناسًا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيهم أبو ذر، وابن مسعود، وحذيفة، فحضرت الصلاة، فتقدم أبو ذر فقالوا له: وراءك، فالتفت إلى أصحابه فقال: أكذلك؟ قالوا: نعم فقدموني، رواه صالح، بإسناده في مسائله.
فإن أذن صاحب البيت لرجل فهو بمنزلته، وإن اجتمع السلطان وصاحب البيت فالسلطان أولى؛ لأن ولايته على البيت وصاحبه، وإن اجتمع السلطان وخليفته فالسلطان أولى؛ لأن ولايته أعم، وإن اجتمع العبد وسيده في بيت العبد فالسيد أولى؛ لأنه مالك للعبد وبيته، وإن اجتمع المؤجر والمستأجر في الدار، فالمستأجر أولى لأنه أحق بالمنفعة، وإمام المسجد الراتب فيه بمنزلة صاحب البيت، لا يجوز لأحد أن يؤم فيه، بغير إذنه لذلك، ويجوز في غيبته؛ لأن أبا بكر صلى حين غاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «وفعل ذلك عبد الرحمن بن عوف مرة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحسنتم» رواه مسلم. فإن لم يكن ذو مزية من هؤلاء، فأولاهم أقرؤهم لكتاب الله للخبر، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» رواه مسلم.
ويرجع في القراءة بجودتها وكثرة القرآن، فإن كان أحدهم أجود والآخر أكثر قرآنًا، فالأجود أولى؛ لأنه أعظم أجرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قرأ القرآن فأعربه، فله بكل حرف منه عشر حسنات، ومن قرأه ولحن فيه، فله بكل حرف حسنة» حديث حسن صحيح.
وقال أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إعراب القرآن أحب إلينا من حفظ بعض حروفه، فإن اجتمع قارئ لا يعرف أحكام الصلاة وفقيه أمي، فالقارئ أولى للخبر، ولأنه لا تصح صلاته خلف الأمي، وإن كان الفقيه يقرأ ما يجزئ في الصلاة فكذلك الخبر.
وقال ابن عقيل: الفقيه أولى؛ لأنه تميز بما لا يستغنى عنه في الصلاة، فإن استويا في القراءة فأولاهما أفقههما للخبر، ولأن الفقيه يحتاج إليه في الصلاة، فأشبه القراءة،(1/297)
وإن استويا في ذلك فأولاهما أقدمهما هجرة، وهو المهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام، فإن استويا في ذلك فأكبرهما سنًا للخبر، ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لمالك بن الحويرث: إذا حضرت الصلاة فليؤذن إحداكما، وليؤمكما أكبركما» حديث صحيح. ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة الدعاء، ويرجح بتقدم الإسلام؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقدمهم سلمًا» لأنه إذا رجح بتقدم السن فبالإسلام أولى، فإن استويا في ذلك قدم أشرفهما نسبًا، وأفضلهما في أنفسهما، وأعلاهما قدرًا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا ولا تقدموها» هذا ظاهر كلام أحمد. وقال الخرقي: إذا استويا في الفقه فقدم أكبرهما سنًا، فإن استويا فأقدمهما هجرة، وقال ابن حامد يقدم الشرف بعد الفقه ثم الهجرة، ثم السن، فإن استووا قدم أتقاهم وأورعهم؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولأنه أقربهم إلى الإجابة.
فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد، وأتمهم مراعاة له، ويقدم الحر على العبد؛ لأنه من أهل المناصب، والحاضر يقدم على المسافر؛ لأنه إذا أم حصل جميع الصلاة في جماعة، بخلاف المسافر.
والحضري على البدوي؛ لأنه أجدر بمعرفة حدود الله تعالى، وأحرى بإصابة الحق.
والبصير على الأعمى؛ لأنه أقدر على توقي النجاسات، واستقبال القبلة بعلم نفسه.
وقال القاضي: هما سواء؛ لأن الضرير لا يرى ما يلهيه ويشغله، فذلك يقابل البصر فيستويان، والأولى لإمام الحي إذا عجز عن القيام أن يستنيب، لئلا يلزمهم ترك ركن، فإن استووا أقرع بينهم؛ لأن سعدًا أقرع بين أهل القادسية في الأذان، ولا يرجح بحسن الوجه؛ لأنه لا مدخل له في الإمامة.
فصل:
الثالث: أنه يكره إمامة اللحان؛ لأنه نقص يذهب ببعض من الثواب، وإمامة من لا يفصح ببعض الحروف، كالضاد والقاف، وإمامة التمتام، وهو من يكرر التاء والفأفاء، فالذي يكرر الفاء؛ لأنهما يزيدان في الحروف، وتصح الصلاة خلفهما؛ لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال، فإن كان يجعل الضاد ظاء في الفاتحة، فقياس المذهب أنه كالأمي؛ لأنه يبدل حرفًا بغيره، ويحيل المعنى، فإنه يقال: ظل يفعل كذا، إذا فعله نهارًا.(1/298)
ويكره أن يؤم قومًا أكثرهم له كارهون؛ لما روى أبو أمامة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون» وهذا الحديث حسن.
فإن كانوا يكرهونه لسنته أو دينه فلا يكره، قال منصور: قيل لنا: إنما عنى بهذا أئمة الظلم، فأما من أقام بالسنة، فإنما الإثم على من كرهه.
ويكره أن يؤم نساء أجانب لا رجل معهن، ويكره أن يتقدم المفضول من هو أولى منه؛ لأنه جاء في الحديث: «إذا أم الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال» احتج به أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
[باب موقف الإمام والمأموم في الصلاة]
باب موقف الصلاة إذا كان المأموم واحدًا، وقف عن يمين الإمام، فإن كبر عن يساره أداره الإمام عن يمينه، فإن جاء آخر كبر وتأخر فصفا خلفه، ولا يتقدم الإمام إلا إن كان الموضع ضيقًا، فإن كبر الثاني عن يساره أخرهما الإمام بيديه؛ لما «روى جابر قال: سرت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة، فقام يصلي فتوضأت، ثم جئت حتى قمت عن يسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأخذ بيدي، فأدارني حتى أقامني عن يمينه، فجاء جبار بن صخر حتى قام عن يساره، فأخذنا بيديه جميعًا حتى أقامنا خلفه» من المسند. وإن صليا عن يمينه، أو أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره جاز؛ لما روي: «أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» رواه أبو داود. ولأن الوسط موقف لإمام العراة وإمامة النساء.
فإن كان معهم امرأة قامت خلفهم؛ لما «روى أنس قال: قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصففت أنا واليتيم وراءه والمرأة خلفنا، فصلى بنا ركعتين» متفق عليه. فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء، تقدم الرجال ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء؛ لما «روى أبو مالك الأشعري أنه قال: ألا أحدثكم بصلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: أقام الصلاة، فصف الرجال، ثم صف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم، ثم قال: هكذا قال عبد الأعلى، لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي» رواه أبو داود.
فإن لم يكن مع الرجال إلا امرأة، وقفت خلفه، فإن كان معه صبي وقف عن يمينه، لما «روى ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي من الليل، فقمت فوقفت عن يساره، فأخذ بذؤابتي فأدارني عن يمينه» متفق عليه.
فإن كان معه رجل وصبي في فرض وقف بينهما، كما في حديث ابن مسعود،(1/299)
وجعل الرجل عن يمينه، أو جعلهما عن يمينه، وإن كان في نافلة وقفا خلفه على ما في حديث أنس.
فصل:
فإن وقف المأموم قدام الإمام لم تصح صلاتهم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به» .
وإن وقف الواحد خلف الصف، أو خلف الإمام أو عن يساره لم تصح صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدار ابن عباس وجابرا لما وقفا عن يساره، «وروى وابصة بن معبد: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد» رواه أبو داود. «وعن علي بن شيبان قال: صلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فانصرف ورجل فرد خلف الصف، فوقف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى انصرف الرجل، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استقبل صلاتك، فلا صلاة لفرد خلف الصف» رواه الأثرم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيه وفي حديث وابصة: هذا حديث حسن.
ولأنه خالف الموقف فلم تصح صلاته، كما لو وقف قدام الإمام، فإن صلى ركعة واحدة لم تصح صلاته، وإن جاء آخر فوقف معه أو دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع صحت صلاته؛ لأنه أدرك في الصف ما يدرك به الركعة، وإن كان ذلك بعد رفع الإمام ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: يصح؛ لأنه لم يصل ركعة واحدة، أشبه ما لو أدرك الركوع.
والثانية: لا يصح؛ لأنه لم يدرك في الصف ما يدرك به الركعة، أشبه من صلى ركعة.
والثالثة: إن كان جاهلًا لم يعد، وإن كان عالمًا أعاد؛ لما روى البخاري «أن أبا بكرة انتهى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو راكع فركع قبل أن يصله، فذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد» فلم يأمره بالإعادة لجهله، ونهاه عن العود، والنهي يقضي الفساد، فإن ذلك لغير عذر، ولا خشي الفوات، فحكمه حكم من خاف الفوات؛ لأن الموقف لا يختلف لخيفة الفوات وعدمه، ويحتمل أن لا يصح؛ لأن الرخصة وردت في حق المعذور، فلا يلحق به غيره.
فصل:
ومن وقف معه كافر أو امرأة أو خنثى مشكل أو من صلاته فاسدة، فحكمه حكم(1/300)
الفذ؛ لأنهم من غير أهل الوقوف معه، وإن وقف معه فاسق أو أمي أو متنفل كانوا معه صفًا: لأنهم من أهل الوقوف معه، وإن وقف الصبي معه في النفل كانا صفًا لحديث أنس، وإن كان في فرض احتمل أن يكون معه صفًا؛ لأنه كالمتنفل، واحتمل أن لا يصح؛ لأنه ليس من أهل الإمامة له فيه أشبه المرأة.
وإن وقف معه محدث أو نجس يعلمان بذلك فهو كالفذ، وإن لم يعلما بذلك صحت صلاته؛ لأنه لو كان إمامًا له صحت صلاته.
وإن وقفت المرأة في صف الرجال كره، ولم تبطل صلاتها ولا صلاة من يليها، وقال أبو بكر: تبطل صلاة من يليها؛ لأنه خالف الموقف، والأول أولى؛ لأنها هي التي خالفت بوقوفها مع الرجال، فلم تبطل صلاتها، فصلاته أولى.
فإن وقف اثنان خلف الصف، فخرج أحدهما لعذر دخل الآخر في الصف، أو وقف عن يمين الإمام أو نبه من يخرج فيقف معه، فإن لم يمكنه نوى مفارقته، وأتم منفردًا؛ لأنه عذر أشبه ما لو سبق إمامه الحدث.
فإن دخل المسبوق فوجد فرجة قام فيها، فإن لم يمكنه قام عن يمين الإمام، فإن لم يمكنه نبه رجلًا يتأخر معه، فإن لم يفعل لم يكرهه ويصلي وحده، أو ينتظر جماعة أخرى.
فصل:
السنة للمرأة إذا أمت نساء، أن تقوم وسطهن؛ لأن ذلك يروى عن عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وإن كانت معهما امرأة وقفت عن يمينها، وإن وقفت خلفها جاز؛ لأن المرأة يجوز وقوفها وحدها؛ بدليل حديث أنس.
فصل:
والسنة أن يقف الإمام حذاء وسط الصف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وسطوا الإمام وسدوا الخلل» رواه أبو داود. وأن يتموا الصف الأول؛ لما روى أنس: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فما كان من نقص، فليكن في الصف الآخر» رواه أبو داود.
وخير صفوف الرجال أولها، وخير صفوف النساء آخرها؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» رواه مسلم. قال أحمد: ويلي الإمام الشيوخ وأهل القرآن، ويؤخر الصبيان والغلمان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى» رواه مسلم.(1/301)
فصل:
والسنة أن لا يكون الإمام أعلى من المأمومين، لما «روي أن عمار بن ياسر كان بالمدائن، فأقيمت الصلاة، فتقدم عمار فقام على دكان والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة فأخذ بيده، واتبعه عمار حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: إذا أم الرجل القوم فلا يقومن في مكان أرفع من مقامهم وقال عمار: فلذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» رواه أبو داود. فإن فعل فقال ابن حامد: تبطل صلاته لارتكابه النهي، وقال القاضي: لا تبطل؛ لأن عمارًا بنى على صلاته، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس بهذا؛ لما «روى سهل قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المنبر، فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع ثم رفع، فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم قال: أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه. ولا بأس بالعلو اليسير؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى رفع البصر المنهي عنه فيه، بخلاف الكثير، ولا بأس أن يكون المأموم أعلى من الإمام لذلك، ويصح أن يأتم به من في أعلى المسجد وغيره، إذا اتصلت الصفوف.
فصل:
يجوز أن يأتم بالإمام من في المسجد، وإن تباعد؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فإن كان بينهما حائل يمنع المشاهدة، وسماع التكبير لم يصح الائتمام به، لتعذر اتباعه، وإن منع المشاهدة دون السماع؛ ففيه وجهان:
أصحها صحة الصلاة؛ لأن أحمد قال في المنبر: إذا قطع الصف لم يضر، ولأنهم في موضع الجماعة، ويمكنهم الاقتداء به لسماع التكبير، فأشبه المشاهد.
والثاني: لا يصح؛ لأن عائشة قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب، والحجاب موجود هاهنا، فإن كان المأموم في غير المسجد، وبينهما حائل يمنع رؤية الإمام، أو من وراءه لم تصح الصلاة؛ لحديث عائشة، وقال ابن حامد: يمنع في الفرض، وفي النافلة روايتان.
وعن أحمد في رجل يصلي خارج المسجد يوم الجمعة، وأبوابه مغلقة أرجو أن لا يكون به بأس، ويشترط اتصال الصفوف، وهو أن لا يكون بينهما بعد كثير لم تجر العادة بمثله، واشترط أصحابنا أن لا يكون بينهما نهر تجري فيه السفن، ولا طريق، والصحيح أن هذا لا يمنع؛ لأنه لا يمنع المتابعة، إلا أن يكون عريضًا يمنع الاتصال.(1/302)
فصل:
ويستحب أن يصلي إلى سترة ويدنو منها؛ لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة، وليدن منها» رواه الأثرم. «قال سهل: كان بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبين القبلة ممر الشاة» رواه البخاري ومسلم.
وقدر السترة مثل آخرة الرحل، وقد قدر الذراع أو عظم الذراع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل، ولا يبال ما مر وراء ذلك» رواه مسلم.
ويجوز أن يستتر بعصًا أو حيوان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تركز له الحربة، فيصلي إليها، ويعرض البعير فيصلي إليه، وقال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد سبيلًا إلى سارية، قال: ولني ظهرك، فإن لم يجد سترة خط خطًا؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد فلينصب عصًا، فإن لم يكن معه عصًا فليخط خطًا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخط عرضًا مثل الهلال، وقد قالوا طولًا، وقالوا عرضًا.
قال الشيخ: وأنا أختار هذا، فإن لم يمكنه نصب العصا ولا الخط، عرضها بين يديه؛ لأنها تقوم مقام الخط، ولا يصمد للسترة، لكن ينحرف عنها يسيرًا؛ «لقول المقداد: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن، ولا يصمد له صمدًا» رواه أبو داود.
وسترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بأصحابه إلى سترة، ولم يأمرهم أن يستتروا بشيء.(1/303)
فصل:
وإذا مر من وراء سترته بشيء، فلا بأس، للحديث، فإن أراد المرور دونها رده، فإن لح دفعه، إلا أن يغلبه أن يحوجه إلى عمل كثير، لما روى أبو سعيد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا كان أحدكم يصلي إلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو الشيطان» متفق عليه. فإن مر بين يديه لم يرده من حيث جاء؛ لأنه مرور ثان، وإن صلى إلى غير سترة فمر من بين يديه شيء فحكمه حكم ما مر بينه وبين السترة للحديث، ويتقيد ذلك بالقريب منه، الذي لو مشى إليه فدفعه لم تفسد صلاته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، فتقيد به، بدلالة الإجماع بما لا يفسد الصلاة، فكذلك هذا.
[فصل في حكم المرور بين يدي المصلي]
فصل:
ويحرم المرور بين يدي المصلي؛ لما روى أبو جهيم الأنصاري قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه» متفق عليه. ولا يقطعها شيء إلا الكلب الأسود البهيم، الذي لا لون فيه سوى السواد، لما «روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا قام أحدكم يصلي، فإنه يستره مثل آخر الرحل، فإن لم يكن بين يديه، مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود قلت: يا أبا ذر، ما بال الكلب الأسود، من الكلب الأحمر، من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي، سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سألتني فقال: الكلب الأسود شيطان» رواه مسلم.(1/304)
وعن أحمد: أن مرور المرأة والحمار يقطع الصلاة للحديث، والمشهور الأول؛ «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: عدلتمونا بالكلب والحمار، لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي صلاته في الليل كلها، وأنا معترضة بينه وبين القبلة» متفق عليه. «وقال: الفضل بن عباس: أتانا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن في بادية فصلى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارة لنا وكلبة يعبثان بين يديه، فما بالى ذلك» رواه أبو داود. فإن كان الكلب واقفًا بين يديه ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم المار؛ لأنه حصل بين يديه أشبه المار.
والثاني: لا تفسد صلاته؛ لأن حكم الواقف يخالف حكم المار؛ بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي إلى البعير، ويصلي وعائشة في قبلته، ولا يرى ذلك كالمرور، ومن غصب سترة فاستتر بها، فهل يمنع ما مر وراءها، فيه وجهان بناء على الصلاة في الثوب المغصوب.
فصل:
ولا حاجة في مكة إلى سترة، ولا يضره ما مر بين يديه؛ «لأن المطلب قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي حيال الحجر والناس يمرون بين يديه» رواه الخلال. وكان ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يصلي والطواف بينه وبين القبلة تمر المرأة بين يديه فينتظرها حتى تمر، ثم يضع جبهته في موضع قدمها.(1/305)
[باب قصر الصلاة]
ولا يجوز قصر الصبح والمغرب بالإجماع؛ لأن قصر الصبح يجحف بها لقلتها، وقصر المغرب يخرجها عن كونها وترًا، ويجوز قصر الرباعية فيصليها ركعتين بشروط ستة:
أحدها: أن تكون في سفر طويل قدره أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخًا، ثمانية وأربعون ميلًا بالهاشمي، وذلك نحو من يومين قاصدين؛ لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، ما بين عسفان إلى مكة، وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وابن عمر لا يقصران في أقل من أربعة برد، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والشدة، فجاز القصر فيها كمسيرة ثلاثة أيام.
وسواء كان في بر أو بحر؛ لأن الاعتبار بالفراسخ، وإن شك في قدر السفر لم يبح القصر؛ لأن الأصل الإتمام، فلا يزول بالشك والاعتبار بالنية دون حقيقة السفر، فلو نوى سفرًا طويلًا، فقصر ثم بدأ له فأقام أو رجع، كانت صلاته صحيحة، ولو خرج طالبًا لآبق أو منتجعًا غيثًا، متى وجده رجع أو أقام لم يقصر، ولو سافر شهرًا.
ولو خرج مكرهًا كالأسير يقصد به بلدًا بعينه فله القصر؛ لأنه تابع لمن يقصد مسافة القصر، فإذا وصل حصنهم أتم حينئذ، نص عليه، وإن كان للبلد طريقان طويلة وقصيرة، فسلك البعيدة ليقصر فله ذلك؛ لأنه سفر يقصر في مثله، فجاز له القصر، كما لو لم يكن له طريق سواه.
فصل:
والثاني: أن يكون السفر مباحًا، فإن سافر لمعصية كالآبق، وقطع الطريق والتجارة في خمر لم يقصر، ولم يترخص بشيء من رخص السفر؛ لأنه لا يجوز تعليق الرخص بالمعاصي، لما فيه من الإعانة عليها والدعاية إليها، ولا يرد الشرع بذلك.
فصل:
والثالث: شروعه بالسفر بخروجه من بيوت قريته؛ لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] ، ولا يكون ضاربًا(1/306)
في الأرض حتى يخرج، فله القصر بين حيطان البساتين؛ لأنها ليست من حيطان البلد، ولا تبنى للسكنى.
وإن خرب بعض البلد فصار فضاء فهو كالصحراء، وإن كانت حيطانه قائمة، فقال القاضي: لا يقصر حتى يفارقها؛ لأنه يمكن السكنى فيها، وقال الآمدي: له القصر بينهما؛ لأنها غير معتمدة للسكنى، فهي كالبساتين.
فصل:
الرابع: أن ينوي القصر مع نية الإحرام، وقال أبو بكر: لا يحتاج إلى النية؛ لأن من خير في العبادة قبل الدخول فيها خير بعد الدخول فيها كالصيام، ولنا أن الأصل الإتمام، فإطلاق النية ينصرف إليه، كما لو نوى الصلاة مطلقًا انصرف إلى الانفراد الذي هو الأصل، فإن شك نية القصر لزمه الإتمام؛ لأنه الأصل، فلو نوى الإتمام في ابتداء الصلاة، أو في أثنائها، أو ما يلزمه الإتمام كالإقامة، أو قلب نيته إلى سفر قريب أو معصية؛ لزمه إتمام الصلاة، ولزم من خلفه متابعته؛ لأن نية الأربع أو ما قد يوجبها قد وجد، فلزمته الأربع كما لو نوى في الابتداء، ومن قصر معتقدًا تحريم القصر فصلاته فاسدة؛ لأنه فعل ما يعتقد تحريمه.
فصل:
الخامس: ألا تكون الصلاة وجبت في الحضر، فلو ترك صلاة حضر فقضاها في السفر لم يجز له قصرها؛ لأنه تعين فعلها أربعًا، فلم يجز النقصان فيها، كما لو نوى أربع ركعات، ولأن القضاء معتبر بالأداء، والأداء أربع، ومن سافر بعد دخول وقت صلاة، لم يقصرها لذلك، وحكي عنه أن له قصرها؛ لأنها صلاة مؤداة في السفر، فأشبه ما لو دخل وقتها فيه.
ولو أحرم بها في سفينة في الحضر، فخرجت به في أثناء الصلاة، أو أحرم بها في(1/307)
السفر، فدخلت البلد في أثناء الصلاة، لم يقصر؛ لأنها عبادة تختلف بالسفر والحضر، ووجد أحد طرفيها في الحضر، فغلب حكمه كالمسح.
وإن نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، أتمها لذلك، وإن ذكرها في السفر أو في سفر آخر قصرها؛ لأن وجوبها وفعلها وجدا في السفر، فكان له قصرها كما لو أداها، ويتخرج أن يلزمه إتمامها إذا ذكرها في سفر آخر؛ لأن الوجوب كان ثابتًا في ذمته في الحضر.
فصل:
السادس: أن لا يأتم بمقيم، فإن ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء ائتم به في الصلاة كلها أو جزء منها؛ لأن «ابن عباس سئل: ما بال المسافر يصلي ركعتين حال الانفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة» رواه الإمام أحمد. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأنها صلاة مردودة من أربع، فلا يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة، ولو أدرك المسافر من الجمعة أقل من ركعة لزمه إتمامها أربعًا، لائتمامه بالمقيم، ومن ائتم بالمقيم ففسدت صلاته، لم يجز له قصرها بعد ذلك؛ لأنها تعينت عليه تامة لائتمامه بمقيم.
ومن أحرم مع من يظنه مقيمًا أو يشك فيه، لزمه الإتمام، وإن قصر إمامه اعتبارًا بالنية، وإن غلب على ظنه أنه مسافر لدليل، فله أن ينوي القصر، ويتبع إمامه، فيقصر بقصره، ويتم بإتمامه، وإن أحدث إمامه قبل علمه بحاله، فله القصر؛ لأن الظاهر أنه مسافر.
وإن أم المسافر مقيمًا لزم المقيم الإتمام، ويستحب للإمام أن يقول لهم: أتموا فإنا قوم سفر، لما «روى عمران بن حصين قال: شهدت الفتح مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يصلي إلا ركعتين، ثم يقول لأهل البلد: صلوا أربعًا فإنا سفر» رواه أبو داود.(1/308)
وإن أتم الإمام بهم صحت الصلاة.
وعنه: تفسد صلاة المقيمين؛ لأنهم ائتموا بمتنفل في الركعتين الأخيرتين، والأول المذهب؛ لأن الإتمام يلزمه بنيته.
وإن نسي المسافر فقام إلى ثالثة فله أن يجلس، ولا يلزمه الإتمام؛ لأن الموجب للإتمام نيته، أو ائتمامه بمقيم ولم يوجد، فإن جلس سجد للسهو، وله أن يتم.
فإن لم يعلم المأمومون هل سها أو نوى الإتمام؟ لزمته متابعته؛ لأن حكم وجوب المتابعة ثابت، فلا يزول بالشك، فإذا اتبعوه فصلاتهم صحيحة لما ذكرناه، وإن علموا أن قيامه لسهو فلهم مفارقته، فإن تابعوه، فقال القاضي: تفسد صلاتهم؛ لأنهم زادوا في الصلاة عمدًا، والصحيح أنها لا تفسد؛ لأنها زيادة لا تفسد بها صلاة الإمام عمدًا، فلا تفسد بها صلاة المأموم، كزيادات الأقوال، وإذا صلى بهم الأربع سهوًا سجد للسهو، وليس بواجب عليه؛ لأنها زيادة لا يبطل عمدها، فلا يجب لها السجود كقراءة السورة في الثالثة.
فصل:
وللمسافر أن يقصر، وله أن يتم؛ لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] فمفهومه أن القصر رخصة يجوز تركها، «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: خرجت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت، فقال: أحسنت» رواه أبو داود الطيالسي.
ولأنه تخفيف أبيح للسفر، فجاز تركه كالمسح ثلاثًا، والقصر أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه داوموا عليه، وعابوا من تركه. «قال عبد الرحمن بن يزيد: صلى عثمان أربعًا، فقال عبد الله: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، ولوددت أن حظي من أربع، ركعتان متقبلتان» متفق عليه. وأتى ابن عباس رجل فقال: إني(1/309)
كنت مع صاحب لي في السفر، فكنت أتم وصاحبي يقصر، فقال: بل أنت الذي كنت تقصر وصاحبك يتم.
فصل:
وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم، وإن نوى دونها قصر، وعنه: إن نوى الإقامة أربعة أيام أتم؛ لأن الثلاث حد القلة بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا» رواه أبو داود. فإذا أقام أربعًا فقد زاد على حد القلة، فيتم، والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بمكة فصلى بها إحدى وعشرين صلاة يقصر فيها، وذلك أنه قدم لصبح رابعة، فأقام إلى يوم التروية، فصلى الصبح ثم خرج، فمن أقام مثل إقامته قصر، ومن زاد أتم، ذكره الإمام أحمد، «قال أنس: أقمنا بمكة عشرًا نقصر الصلاة» ، ومعناه ما ذكرناه؛ لأنه حسب خروجه إلى منى وعرفة وما بعده من العشرة، وفي هذا الحديث دليل على أن من قصد بلدًا ينوي الرجوع عنه قريبًا فله القصر فيه؛ لكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة وهي مقصده، وفيه دليل على أن من قصد رستاقًا، يتنقل فيه لا ينوي إقامة في موضع واحد فله القصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر بمكة ومنى وعرفة عشرًا، ومن كان بمكة مقيمًا فخرج إلى عرفة عازمًا على أنه إذا رجع إلى مكة لا يقيم بها، فله القصر من حين خروجه، ولو خرج المسافر، فذكر حاجة في بلده قصر في رجوعه إليها، فإذا وصل البلد، فإن كان له به أهل أو مال أتم، وإلا قصر فيه أيضًا.
ومتى مر المسافر ببلده له به أهل أو ماشية أتم؛ لأن ذلك يروى عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
فصل:
ومن لم يجمع على إقامة إحدى وعشرين صلاة قصر، وإن أقام دهرًا، مثل من يقيم لحاجة يرجو إنجازها، أو جهاد أو حبس سلطان أو عدو أو مرض، سواء غلب(1/310)
على ظنه كثرة ذلك أو قلته؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يقصر الصلاة» رواه البخاري. «وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر» رواه الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين، وقد حال الثلج بينه وبين الدخول، وإن قال: إن لقيت فلانًا أقمت، وإلا لم أقم، لم يبطل حكم سفره؛ لأنه لم يعزم على الإقامة.
فصل:
والملاح الذي أهله معه في السفينة، وحاجة بيته ولا بيت له غيرها، وليس له نية المقام ببلد لا يقصر، نص عليه؛ لأنه غير ظاعن عن بلده ومنزله، فأشبه المقيم ببلد، قال القاضي: والمكاري، والفيج مثل في ذلك، والأولى إباحة القصر لهما، لدخولهما في النصوص المبيحة، وامتناع قياسها على الملاح؛ لأنه لا يمكنهما استصحاب الأهل، ومصالح المنزل في السفر، وزيادة المشقة عليه في سفره بحمل أهله معه بخلاف الملاح.
[باب الجمع بين الصلاتين]
وأسباب الجمع ثلاثة:
أحدها: السفر المبيح للقصر؛ لما «روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا عجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينها ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق» متفق عليه. وهذا لفظ مسلم، وخص الخرقي الجمع بهذه الحالة، إذا ارتحل قبل دخول الوقت الأولى أخرها حتى يجمعها مع الثانية، في وقت الثانية، وروى نحوه عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
والمذهب جواز الجمع لمن جاز له القصر في نزوله وسيره، وله الخيرة بين تقديم الثانية، فيصليها مع الأولى، وبين تأخير الأولى إلى الثانية، لما «روى معاذ: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر(1/311)
الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار، وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء، فصلاها مع المغرب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وروى ابن عباس نحوه، وروى أنس نحوه، أخرجه البخاري. ولأنها رخصة من رخص السفر، فلم يعتبر فيها وجود السير كسائر رخصه، فإن جمع بينهما في وقت الأولى اعتبر ثلاثة شروط: أن ينوي الجمع عند الإحرام بالأولى؛ لأنها نية تفتقر إليها، فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر، وفيه وجه آخر أنه يجزئه، أن ينوي قبل الفراغ من الأولى؛ لأنه موضع الجمع بين الصلاتين، فإذا لم تتأخر النية عنه جاز، وقال أبو بكر: لا يحتاج الجمع إلى نية؛ كقوله في القصر، وقد مضى الكلام معه.
الشرط الثاني: أن لا يفرق بينهما إلا تفريقًا يسيرًا؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقرنة، ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل، والمرجع في طول الفرق وقصره إلى العرف، فإن احتاج إلى وضوء خفيف لم تبطل، وإن صلى بينهما سنة الصلاة فعلى روايتين.(1/312)
الشرط الثالث: وجود العذر حال افتتاح الأولى، والفراغ منها، وافتتاح الثانية؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وبافتتاح الثانية يحصل الجمع، فاعتبر العذر فيها، فإن انقطع العذر في غير هذه المواضع لم يؤثر، وإن جمع في وقت الثانية اعتبر أن ينوي التأخير للجمع في وقت الأولى، إلى أن يبقى منه قدر فعلها، واستمرار العذر إلى وقت الثانية، ولا يعتبر وجوده في وقت الثانية؛ لأنها صارت في غير وقتها، وقد جوز له التأخير ولا يعتبر المواصلة بينهما في أصح الوجهين؛ لأن الثانية مفعولة في وقتها، فهي أداء على كل حال، والأولى معها كصلاة فائتة.
فصل:
والسبب الثاني: المطر يبيح الجمع بين المغرب والعشاء؛ «لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان يوم مطير أن يجمع بين المغرب والعشاء» ، وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر، قال أحمد: ما سمعت بذلك، وهذا اختيار أبي بكر، وذكر بعض أصحابنا وجهًا في جوازه قياسًا على الليل، ولا يصح لأن المشقة في المطر إنما تعظم في الليل لظلمته، فلا يقاس عليه غيره.
والمطر المبيح للجمع هو الذي يبل الثياب، وتلحق المشقة بالخروج فيه والثلج مثله في هذا، فأما الطل والمطر الذي لا يبل الثياب، فلا يبيح الجمع؛ لعدم المشقة فيه، وهل يجوز الجمع لمن يصلي منفردًا، أو لمقيم في المسجد، أو من طريقه إليه في ظلال؟ على وجهين:
أحدهما: لا يجوز لعدم المشقة.
والثاني: يجوز؛ لأن العذر العام لا يعتبر فيه حقيقة المشقة كالسفر.
والوحل بمجرده مبيح للجمع؛ لأنه يساوي المطر في مشقته وإسقاطه للجمعة والجماعة، فهو كالمطر، وفيه وجه آخر أنه لا يبيح، لاختلافهما في المشقة، وفي الريح الشديدة في الليلة المظلمة وجهان.
فصل:
والسبب الثالث: المرض يبيح الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا لحقه بتركه مشقة وضعف؛ لأن «ابن عباس قال: جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر» متفق عليه. وقد أجمعنا على(1/313)
أن الجمع لا يجوز لغير عذر، ولم يبق إلا المرض، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر سهلة بنت سهيل، وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة، وهو نوع مرض، ثم هو مخير بين التقديم والتأخير، أي ذلك كان أسهل عليه فعله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله طلبًا للأسهل، فكذلك المريض، وإن كان الجمع عنده واحدًا فالأفضل التأخير، فأما الجمع في المطر، فلا تحصل فائدة الجمع فيه إلا بتقديم العشاء إلى المغرب، فيكون ذلك الأولى، والله أعلم.
[باب صلاة المريض]
إذا عجز عن الصلاة قائمًا صلى قاعدًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب» رواه البخاري. وصلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاعدًا بأصحابه وهو شاك.
وصفة جلوسه على ما ذكرنا في صلاة التطوع.
فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، يقرب وجهه من الأرض في السجود قدر طاقته.
فإن سجد على وسادة بين يديه جاز؛ لأن أم سلمة سجدت على وسادة لرمد بها، ولا يجعلها أرفع من مكان يمكنه حط وجهه إليه.
وإن أمكنته الصلاة قائمًا وحده ولم تمكنه من الإمام إلا بالقعود في بعضها فهو مخير فيها؛ لأنه يفعل في كل واحدة منهما واجبًا ويترك واجبًا، وإن أمكنه القيام وعجز عن الركوع والسجود صلى قائمًا، فأومأ بالركوع، ثم جلس فأومأ بالسجود؛ لأن سقوط فرض لا يسقط فرضًا غيره.
وإن تقوس ظهره فصار كالراكع رفع حال القيام قدر طاقته، ثم انحنى في الركوع قليلًا آخر، وإن كان بعينه رمد فقال ثقات من العلماء بالطب: إن صليت مستلقيًا أمكن مداواتك جاز ذلك؛ لأن أم سلمة تركت السجود لرمد بها، ولأنه يخاف من الضرر، أشبه المرض.(1/314)
فصل:
وإن عجز عن القعود صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة بوجهه؛ لحديث عمران، وإن صلى على جنبه الأيسر جاز للخبر، ولأنه يستقبل القبلة به، وإن صلى مستلقيًا على ظهره بحيث إذا قعد كان وجهه إليها جاز؛ لأنه نوع استقبال، ويحتمل أن لا يجوز لمخالفته الأمر، وتركه الاستقبال بوجهه وجملته.
فإن عجز عن الصلاة على جنبه صلى على ظهره، ويومئ بالركوع والسجود برأسه، فإن عجز فبطرفيه، ولا تسقط الصلاة عنه ما دام عقله ثابتًا.
فصل:
وإن قدر على القيام والقعود في أثناء الصلاة انتقل إليه، وأتم صلاته. وإن ابتدأها قائمًا أو قاعدًا فعجز عن ذلك في أثنائها أتم صلاته على ما أمكنه؛ لأنه يجوز أن يؤدي جميعها قائمًا حال القدرة، وقاعدًا حال العجز، فجاز أن يفعل بعضها قائمًا مع القدرة، وبعضها قاعدًا مع العجز.
فصل:
ومن كان في ماء أو طين لا يمكنه السجود إلا بالتلوث والبلل فله الصلاة بالإيماء، والصلاة على دابته؛ لأن أنس بن مالك صلى المكتوبة في يوم مطير على دابته، «وروى يعلى بن أمية، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه على ظهور دوابهم يومئون ويجعلون السجود أخفض من الركوع» رواه الأثرم، والترمذي. فإن كان البلل يسيرًا لا أذى فيه لزمه السجود؛ لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاته وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين» متفق عليه.
وهل تجوز الصلاة على الدابة لأجل مرض؟ فيه روايتان:
إحداهما: تجوز، اختارها أبو بكر؛ لأن مشقة النزول في المرض أكثر من المشقة بالمطر.(1/315)
والثانية: لا تجوز؛ لأن ابن عمر كان ينزل مرضاه، ولأن الصلاة على الأرض أسكن له وأمكن، بخلاف صاحب الطين.
فإن خاف المريض بالنزول ضررًا غير محتمل كالانقطاع عن الرفقة ونحوه فله الصلاة عليها، رواية واحدة؛ لأنه خائف على نفسه، فأشبه الخائف من عدو.
[باب صلاة الخوف]
تجوز صلاة الخوف في كل قتال مباح، كقتال الكفارة والبغاة والمحاربين، ولا تجوز في محرم لأنها رخصة، فلا تستباح بالمحرم كالقصر.
والخوف على ضربين: شديد وغيره، فغير الشديد، يجوز أن يصلي بهم على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الأحاديث التي جاءت في صلاة الخوف كلها أحاديث جياد صحاح، وهي تختلف، فأقول: إن ذلك كله جائز لمن فعله، إلا أن حديث سهل بن أبي خيثمة أنكى في العذر فأنا أختاره، وقال ستة أو سبعة: يروى فيها كلها جائز، فتذكر الوجوه التي بلغنا.
فالوجه الأول: منها ما «روى صالح بن خوات، عن من صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صلت معه، وطائفة وجاه فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسًا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم» متفق عليه. فهذا حديث سهل الذي اختاره أحمد.
ويشترط أن يكون في المسلمين كثرة يمكن تفريقهم طائفتين؛ كل طائفة ثلاثة فأكثر.
ويقرأ الإمام في حال الانتظار، ويطيل حتى يدركوه؛ لأن الصلاة ليست محلًا للسكوت، وتكون الطائفة الأولى في حكم الائتمام قبل مفارقته إن سها لحقهم حكم سهوه، وسجدوا له، وإن سهوا لم يلحقهم حكم سهوهم؛ لأنهم مأمومون، فإذا فارقوه صاروا منفردين لا يلحقهم سهوه، وإن سهوا سجدوا؛ لأنهم منفردون، فأما الطائفة الثانية، فلحقها سهو إمامها في جميع الصلاة، ما أدركوه معه وما لم يدركوه كالمسبوق، ولا يلحقهم حكم سهوهم في شيء من صلاتهم؛ لأنهم إن فارقوه فهم مؤتمون به حكمًا؛ لأنهم يسلمون بسلامه، فإذا قضوا ما عليهم فسجد إمامهم سجدوا معه، فإن(1/316)
سجد قبل إتمامه سجدوا معه؛ لأنه إمامهم فلزمهم متابعته، ولا يعيدون السجود بعد فراغهم من التشهد؛ لأنهم لم ينفردوا عن الإمام، فلا يلزمهم من السجود أكثر مما يلزمه، بخلاف المسبوق.
فصل:
الوجه الثاني: أن يقسمهم طائفتين، يصلي بكل طائفة صلاة كاملة، كما «روى أبو بكرة قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خوف الظهر، فصف بعضهم خلفه، وبعضهم بإزاء العدو، فصلى ركعتين ثم سلم، فانطلق الذين صلوا معه، فوقفوا موقف أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلوا خلفه، فصلى بهم ركعتين ثم سلم، فكان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» رواه أبو داود.
فصل:
الوجه الثالث: أن يصلي بهم كالتي قبلها، إلا أنه لا يسلم إلا في آخر الأربع، كما «روى جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذ كنا بذات الرقاع، فنودي بالصلاة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع ركعات، وللقوم ركعتان» رواه البخاري.
فصل:
الوجه الرابع: ما «روى عبد الله بن عمر قال: صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون فصلى بهم ركعة، ثم قضت الطائفتان ركعة ركعة» متفق عليه. فهذا الوجه جوز أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصلاة به، واختار حديث سهل؛ لأنه أشبه بظاهر الكتاب وأحوط للصلاة، وأنكى في العدو، وأما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية، وقوله: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102](1/317)
ظاهره أن جميع صلاتها معه، وأن الطائفة الأولى قد صلت جميع صلاتها، ولا يتحقق هذا في هذا الوجه، وأما الاحتياط للحرب، فإن كل طائفة تنصرف بعد الفراغ من صلاتها، وتتمكن من الضرب والكلام والتحريض وغيره، وفي هذا الوجه تنصرف كل طائفة، وهي في حكم الصلاة لا تتمكن من ذلك، ولا يخلو من أن تمشي أو تركب، وذلك عمل كثير يفسدها.
فصل:
الوجه الخامس: إذا كان العدو في جهة القبلة، بحيث لا يخفى بعضهم على المسلمين ولم يخافوا كمينًا، صلى بهم كما «روى جابر قال: شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة الخوف، فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكبرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحور العدو، فلما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السجود، وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجد، ثم سلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلمنا جميعًا» أخرجه مسلم.
فهذه الأوجه الخمسة جائزة لمن فعلها، ولا نعرف وجهًا سادسًا غير ما «روى ابن عباس، قال: صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذي قرد صلاة الخوف، والمشركون بينه وبين القبلة، فصف صفًا خلفه وصفًا موازي العدو، فصلى بهم ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ورجع هؤلاء إلى مصاف هؤلاء، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، فكانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتان، ولهم ركعة ركعة» رواه الأثرم. فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي كون هذا من الوجوه الجائزة، إلا أن أصحابه قالوا: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، فيدل على أن هذا ليس بمذهب له.(1/318)
فصل:
فإن صلى المغرب على حديث سهل، صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وتتم لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بالحمد لله، وبالثانية ركعة، وتتم لأنفسها ركعتين تقرأ فيها بالحمد لله وسورة، وتفارقه الأولى حين يقوم إلى الثالثة في أحد الوجهين؛ لأن الانتظار في القيام أولى لكثرة ثواب القيام، واستحباب تقصير التشهد، وفي الآخر تفارقه حين يفرغ من تشهده الأول، فتقوم ويثبت هو جالسًا لتدرك الثانية جميع الركعة الثالثة، ويطيل التشهد حتى تجيء الطائفة الثانية فينهض، ثم تكبر الطائفة وتدخل معه، فإذا جلس للتشهد الآخر نهضت لقضاء ما فاتها، ولم تتشهد معه؛ لأنه ليس بموضع تشهدها، ويحتمل أن تتشهد معه إذا قلنا: إنها تقضي ركعتين متواليتين؛ لئلا يفضي إلى وقوع جميع الصلاة بتشهد واحد.
فصل:
ويجوز صلاة الخوف للمقيمين؛ لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الآية. ولأنها حالة خوف، فأشبهت حالة السفر، ويصلي بكل طائفة ركعتين، وتتم الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى بالحمد لله وسورة، وفي موضع مفارقة الطائفة الأولى له وجهان، على ما ذكرنا في المغرب، وإن صلى بطائفة ثلاث ركعات وبالأخرى ركعة، أو صلى المغرب بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين، جاز لأنه لم يزد على انتظارين ورد الشرع بهما.
وإن فرقهم أربع فرق، وصلى بكل طائفة ركعة أو ثلاث فرق في المغرب صحت صلاة الأولى والثانية؛ لأنهما فارقتاه لعذر، وبطلت صلاة الإمام لزيادته انتظارًا لم يرد الشرع بمثله، وصلاة الثالثة والرابعة لاقتدائهما بمن صلاته باطلة، وقال ابن حامد: إن لم يعلما ببطلان صلاته صحت صلاتهما للعذر، فأشبه من صلى وراء محدث يجهل هو والإمام حدثه.
فصل:
إذا صلى صلاة الخوف من غير خوف لم تصح؛ لأنها لا تنفك من مفارق إمامه، أو تارك متابعته، أو قاصر مع إتمام إمامته، أو قائم للقضاء قبل سلامه، وكل ذلك مبطل إلا مع العذر، إلا أن يصلي بكل طائفة صلاة تامة على حديث أبي بكرة.(1/319)
فصل:
قال أصحابنا: لا يجب حمل السلاح في صلاة الخوف؛ لأنه لو وجب لكان شرطًا كالسترة، ويستحب أن يحمل ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، ويكره ما يثقله كالجوشن، وما يمنع إكمال السجود كالمغفر، وما يؤذي به غيره كالرمح متوسطًا، فإن كان في حاشية لم يكره، ولا يجوز حمل نجس ولا ما يخل بركن الصلاة، إلا أن يخاف وقوع السهام والحجارة ونحوها به، فيجوز للضرورة، ويحتمل وجوب حمل السلاح للأمر به بقوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] فيدل على الجناح عند عدم ذلك.
فصل:
الضرب الثاني: الخوف الشديد، مثل التحام الحرب والقتال، ومصيرهم إلى المطاردة، فلهم أن يصلوا كيفما أمكنهم رجالًا وركبانًا، يومون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويتقدمون ويتأخرون ويضربون ويطعنون، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها، وصلاتهم صحيحة، وإن هرب هربًا مباحًا من عدو أو سيل أو سبع أو نار لا يمكنه التخلص إلا بالهرب، أو كان أسيرًا يخاف الكفار إن صلى أو مختفيًا في موضع يخاف أن يظهر عليه صلى كيفما أمكنه، قائمًا أو قاعدًا أو مستلقيًا إلى القبلة وغيرها بالإيماء في السفر والحضر، فإن أمن في صلاته أتمها صلاة أمن، وإن ابتدأها آمنًا فعرض له الخوف أتمها صلاة خائف؛ لأنه يبني على صلاة صحيحة، فجاز كبناء صلاة المرض على صلاة الصحة.
وإن رأى سوادًا فظنه عدوًا، فصلى صلاة الخوف، ثم بان أنه غير عدو، أو بينه وبينه ما يمنع العبور أعاد؛ لأنه لم يوجد المبيح فأشبه من ظن أنه متطهر، فصلى ثم علم بحدثه، قال أصحابنا: ويجوز أن يصلوا في شدة الخوف جماعة رجالًا وركبانًا، ويعفى عن تقدمهم الإمام لأجل الحاجة، كما عفي عن العمل الكثير وترك الاستقبال.
[باب صلاة الجمعة]
وهي واجبة بالإجماع، وروى ابن ماجه عن جابر قال: خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «واعلموا أن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا، في يومي هذا، في شهري هذا،(1/320)
في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعدي، وله إمام عادل أو جائر استخفافًا بها أو جحودًا لها، فلا جمع الله له شمله، ولا بارك له في أمره» .
ولا تجب إلا على من اجتمعت فيه شرائط ثمانية: الإسلام، والبلوغ، والعقل؛ لأنها من شرائط التكاليف بالفروع، والذكورية، والحرية، والاستيطان، لما روى طارق بن شهاب قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو مسافر، أو مريض» رواه أبو داود. ولأن المرأة ليست من أهل الجماعات، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات يوم جمعة فلم يصل جمعة.
وفي العبد رواية أخرى أنها تجب عليه؛ لأنها فرض عين من الصلوات فوجبت عليه كالظهر، والأولى أولى للخبر؛ ولأن العبد مملوك المنفعة محبوس على سيده، أشبه المحبوس بدين.
السابع: انتفاء الأعذار المسقطة للجماعة.
الثامن: أن يكون مقيمًا بمكان الجمعة أو قريبًا منه، وتجب الجمعة على أهل المصر قريبهم وبعيدهم؛ لأن البلد كالشيء الواحد، وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ من غيرهم، ولا تجب على غيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود. ولم يمكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع منه النداء في الغالب، إذا كان المؤذن صيتًا بموضع عالٍ، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، فرسخ فاعتبرناه به.
فصل:
وهذه الشروط تنقسم أربعة أقسام:
أحدها: شرط للصحة والانعقاد، وهو: الإسلام والعقل، فلا تصح من كافر ولا مجنون، ولا تنعقد بهما؛ لأنهما ليسا من أهل العبادات.
الثاني: شرط للوجوب والانعقاد وهي: الحرية، والذكورية، والبلوغ، والاستيطان، فلا تنعقد الجمعة بمن عدمت فيه، ولا يصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من غير أهل الوجوب، فلم تنعقد بهم كالنساء، وتصح منهم وتجزئهم عند الظهر، وحضورها لغير النساء أفضل؛ لأن سقوطها عنهم رخصة، فإذا تكلفوا فعلها أجزأتهم، كالمريض يتكلف الصلاة قائمًا.(1/321)
الثالث: شرط الوجوب السعي فقط، وهو: انتفاء الأعذار، فلو تكلف المريض الحضور وجبت عليه، وانعقدت به؛ لأن سقوطها كان لدفع المشقة، فإذا حضرت زالت المشقة، فوجبت عليه، وانعقدت به كالصحيح.
الرابع: شرط الانعقاد حسب وهو: الإقامة بمكان الجمعة، فلو كان أهل القرية يسمعون النداء من المصر لزمهم حضورها، ولم تنعقد بهم، ولو خرج أهل المصر أو بعضهم إلى القرية لم تنعقد بهم الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين بها، والظاهر أنها تصح إمامتهم فيها؛ لأنهم من أهل الوجوب.
فصل:
والأفضل لمن لم تجب عليه الجمعة أن لا يصلي الظهر قبل صلاة الإمام؛ لأنه ربما زال عذره فلزمته الجمعة، فإن صلى، فقال أبو بكر: لا تصح صلاته لذلك، والصحيح أنها تصح؛ لأنه صلى فرضه، فلا يبطل بالاحتمال، كالمتيمم، فإن زال عذره فقياس المذهب أنه لا تلزمه الجمعة؛ لأنه أدى فرض الوقت، فأشبه المعضوب إذا حج عن نفسه ثم برئ، وإن لم يزل العذر فحضروها كانت لهم نفلًا؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: فصلها معهم تكن لك نافلة» ولأن الأولى أسقطت الفرض، فأما من تجب عليه الجمعة إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام لم تصح؛ لأنه ما خوطب بالظهر، فإن فاتته الجمعة أعادها ظهرًا؛ لأنه خوطب بها حينئذ.
وإن اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا ظهرًا لم تصح لذلك، فإذا خرج وقت الجمعة لزمهم الجمعة لزمهم إعادة الظهر، ولا يكره لمن فاتته الجمعة أو لم يكن من أهل فرضها أن يصلي الظهر في جماعة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» ...(1/322)
متفق عليه. فإن خاف التهمة استحب إخفاؤها ليدفعها عن نفسه.(1/323)
فصل:
ويشترط لصحة الجمعة أربعة شروط:
أحدها: الوقت، فلا تصح قبل وقتها ولا بعده بالإجماع، وآخر وقتها آخر وقت الظهر بغير خلاف، فأما أوله فذكر القاضي أنها تجوز في وقت العيد؛ لأن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في رواية عبد الله: يجوز أن يصلي الجمعة قبل الزوال، يذهب إلى أنها كصلاة العيد، لحديث وكيع، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن حجاج، عن عبد الله بن سيلان، قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر، فكانت صلاته وخطبته قبل انتصاف النهار، وشهدتها مع عمر بن الخطاب، فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم صليتها مع عثمان بن عفان - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره. وهذا نقل للإجماع. وعن جابر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الجمعة فنذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس.» رواه مسلم؛ ولأنها صلاة عيد فأشبهت صلاة العيدين.
وقال الخرقي: تجوز في الساعة السادسة، وفي نسخة الخامسة، فمفهومه أنه لا يجوز قبل ذلك؛ لأن ما رويناه تختص به. والأفضل فعلها عند زوال الشمس صيفاً وشتاءً، لا يقدمها إلى موضوع الخلاف، ولا يؤخرها. فيشق على الناس؛ لما روى سلمة بن الأكوع قال: «كنا نجمع مع النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء» ، متفق عليه. فإن خرج الوقت وهم فيها، فقال أحمد: من أدرك التشهد أتمها جمعة، فظاهره أنه يعتبر الوقت في جميعها إلا السلام؛ لأن الوقت شرط، فيعتبر في جميعها كالوضوء، وقال الخرقي: إن دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أجزأتهم جمعة؛ لأنه شرط يختص بالجمعة، فلم يعتبر في الركعة الثانية كالجماعة في حق المسبوق، وإن أدرك أقل من ذلك فهل يتمها ظهراً أو يستأنف؟ على وجهين بناء على المسبوق، بأكثر من ركعة، وقال القاضي: متى تلبس بها في وقتها أتمها جمعة، قياساً على سائر الصلوات، فإن شرع فيها ثم شك في خروج الوقت أتمها جمعة؛ لأن الأصل بقاؤه، وإن ضاق الوقت عما يجري في الجمعة لم يكن لهم فعلها.(1/324)
فصل:
الشرط الثاني: أن يكون في قرية مبنية بما جرت العادة ببناء القرى به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب، مجتمعة البناء بما جرت به العادة في القرية الواحدة، يسكنها أربعون من أهل الجمعة سكنى إقامة، لا يظعنون عنها صيفاً ولا شتاءً، فأما أهل الخيام وبيوت الشعر فلا جمعة لهم؛ لأن ذلك لا ينصب للاستيطان، ولذلك كانت قبائل العرب حول المدينة، ولم يأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجمعة، وإن كانت قرية يسكن فيها بعض السنة دون بعضهم، أو متفرقة تفريقاً لم تجر به العادة، لم تصح فيها الجمعة، فإن اجتمعت هذه الشروط في القرية، وجبت الجمعة على أهلها، وصحت بها؛ لأن كعباً قال: أسعد بن زرارة أول من جمع بنا في هزم النبيت، من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. رواه أبو داود.
قال الخطابي: حرة بني بياضة على ميل من المدينة، ولأن هذا بناء استوطنه أربعون من أهل الجمعة، فوجبت عليهم كأهل مصر، وتجوز إقامة أهل الجمعة فيما قارب البنيان من الصحراء، لحديث أسعد بن زرارة. فإن خربت القرية، فلازموها عازمين على إصلاحها ومرمتها فحكمها باق، وإن عزموا على النقلة عنها زال الاستيطان.
فصل:
الشرط الثالث: اجتماع أربعين ممن تنعقد بهم الجمعة.
وعنه: تنعقد بثلاثة؛ لأنهم جمع تنعقد بهم الجماعة، وعنه بخمسين، والمذهب الأول؛ لأن جابراً قال: مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة. فينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن انفضوا فلم يبق معه إلا أقل من أربعين لم يتمها جمعة؛ لأنه شرط، فاعتبر في جميع الصلاة كالطهارة، وهل يستأنف ظهراً أو يبني على صلاته؟ على وجهين، بناءً على المسبوق، وقياس المذهب، أنهم إن انفضوا بعد صلاة ركعة أتمها جمعة؛ لأنها شرط تختص الجمعة فلم يعتبر الركوع في أكثر من ركعة كالجماعة فيها.
فصل:
ولا يختلف المذهب أن المسبوق إذا أدرك مع الإمام الركوع في الثانية أنه يتمها جمعة، فإن أدرك أقل من ذلك لم يتمها جمعة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة» متفق عليه. وفي لفظ: «فليضف إليها أخرى» فأما من أدرك أقل من ذلك فقال الخرقي: يبني على ظهر إذا كان(1/325)
قد دخل بنية الظهر. فظاهر هذا أنه إن نوى جمعة لزمه الاستئناف؛ لأنهما صلاتان لا تتأدى إحداهما بنية أخرى، فلم يجز بناؤها عليها، كالظهر والعصر. وقال أبو إسحاق بن شاقلا: ينوي جمعة؛ لئلا يخالف بنيته نية إمامه، ثم يبني عليها ظهراً لأنهما فرض وقت واحد، ردت إحداهما من أربع إلى ركعتين فجاز أن يبني عليها الأربع، كالتامة مع المقصورة.
فصل:
من أحرم مع الإمام ثم زوحم عن السجود فأمكنه السجود على ظهر إنسان أو قدمه لزمه. لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اشتد الزحام فليسجد على ظهر أخيه أو قدمه. رواه الطيالسي. ولأنه يأتي بما يمكنه حال العجز فوجب وصح، كالمريض يومئ، فإن لم يمكنه ذلك انتظر زوال الزحام، ثم يسجد ويتبع الإمام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك في صلاة عسفان للعذر، والعذر ههنا قائم، وكذلك إن تعذر عليه السجود لعذر من مرض أو نوم أو سهو. فإن خاف فوات الركوع مع إمامه لزمه متابعته وترك السجود لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن ركع فاركعوا» ولأنه مأموم خاف فوات الركعة فلزمه متابعة إمامه، كالمسبوق فيركع مع إمامه، وتبطل الأولى. وتصير الثانية أولاه. فإن سجد وترك متابعة إمامه بطلت صلاته، إن علم تحريم ذلك؛ لأنه ترك الواجب عمداً، وإن لم يكن يعلم تحريمه، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بسجوده؛ لأنه أتى به في موضع الركوع جهلاً فهو كالساهي.
وقال أبو الخطاب: يعتد بسجوده ويتم ركعته الأولى، فإن أدرك الركوع أيضاً صحت له الركعتان وإن فاته الركوع، فاتته الثانية وحدها فيقضيها بعد سلام إمامه، وتصح جمعته، قال: ويسجد للسهو، وقال القاضي: هو كمن لم يسجد، فإن أدرك الركوع صحت الثانية وحدها، وإن فاته الركوع وأدرك معه السجدتين سجدهما للركعة الأولى، وصحت له ركعة، ويقضي ركعة، وتمت جمعته لإدراكه ركعة، وإن فاتته السجدتان أو إحداهما قضى ذلك بعد سلام إمامه، فتصح له ركعة، وكذا لو ترك سجدتي الأولى، خوفاً من فوات ركوع الثانية فركع معه، وزوحم عن سجدتي الثانية فأمكنه السجود في التشهد سجد، وإن لم يمكنه سجد بعد سلام الإمام وصحت له ركعة ومثلها: لو كان مسبوقاً بالأولى وزوحم عن سجود الثانية، وهل يكون مدركاً للجمعة في كل موضع لم يتم له ركعة إلا بعد سلام إمامه؟ على روايتين:
إحداهما: يكون مدركاً لها؛ لأنه قد يحرم بالصلاة مع الإمام، أشبه ما لو ركع وسجد معه.(1/326)
والثانية: لا جمعة له؛ لأنه لم يدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق بركوع الثانية، وعلى هذه الرواية هل يستأنف أو يتمها ظهراً على وجهين.
وإن أحرم مع الإمام فزوحم، وأخرج من الصف فصلى فذاً، لم تصح صلاته، وإن صلى ركعة وأخرج من الثانية، فأتمها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يتمها جمعة؛ لأنه أدرك مع إمامه ركعة، فأشبه المسبوق.
والثانية: يعيد لأنه فذ في ركعة كاملة. فإن أدرك مع الإمام ركعة، وقام ليقضي، فذكر أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة، أو شك في إحدى السجدتين، لزمه أن يرجع إن لم يكن شرع في قراءة الثانية، فيأتي بما ترك، ثم يقضي ركعة أخرى، ويتمها جمعة. نص عليه، وإن ذكر بعد شروعه في قراءة الثانية بطلت الأولى، وصارت الثانية أولاه، ويتمها جمعة على المنصوص، وفيه وجه آخر أنه لا تحصل له الجمعة؛ لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، وهكذا لو قضى الثانية ثم علم أنه نسي سجدة لا يدري من أيهما تركها، أو شك في ذلك، فإنه يجعلها من الأولى، وتصير الثانية أولاه، فأما إن شك في إدراك الركوع مع الإمام، لم يعتد له بالركعة التي مع الإمام، وتصير ظهراً قولاً واحداً.
فصل:
الشرط الرابع: أن يتقدمها خطبتان؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين يقعد بينهما» . متفق عليه. وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنما أقرت الجمعة ركعتين من أجل الخطبة. ومن شرط صحتها حضور العدد المشروط للصلاة؛ لأنه ذكر الاشتراط للصلاة واشترط له العدد، كتكبيرة الإحرام، فإن انفضوا وعادوا لم يطل الفصل صلى الجمعة؛ لأنه تفريق يسير، فلم يمنع، كالتفريق بين المجموعتين، ويشترط لهما الوقت لذلك، ويشترط الموالاة في الخطبتين، فإن فرق بين الخطبتين أو بين أجزاء الخطبة الواحدة أو بينهما وبين الصلاة، فأطال بطلت، فإن كان يسيراً بنى؛ لأنهما مع الصلاة كالمجموعتين، ويحتمل أن الموالاة ليست شرطاً؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط الموالاة بينهما، كالأذان والإقامة ولا يشترط لهما الطهارة، نص عليه لذلك، ولأنها لو اشترطت لاشترط الاستقبال كالصلاة. وعنه: أنها شرط؛ لأنه ذكر شرط في الجمعة فأشبه تكبيرة الإحرام. ويشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة لذلك، لكن يجوز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر؛ لأنه إذا جاز الاستخلاف في بعض الصلاة للعذر ففي الصلاة بكمالها أولى، وعنه: ما يدل على جواز الاستخلاف لغير عذر، قال في الإمام يخطب يوم الجمعة، ويصلي الأمير بالناس: لا بأس إذا حضر(1/327)
الأمير الخطبة؛ لأنه لا يشترط اتصالها بها، فلم يشترط أن يتولاهما واحد، كصلاتين، وهل يشترط أن يكون الخليفة ممن حضر الخطبة؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يشترط؛ لأنه لا يشترط في صحة جمعته حضور الخطبة إذا كان مأموماً، فكذلك إذا كان إماماً.
والثانية: يشترط لأنه إمام، فاشترط حضوره للخطبة، كما لو لم يستخلف.
فصل
وفروض الخطبة أربعة أشياء:
حمد الله تعالى؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس، يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له» .
والثاني: الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى، افتقرت إلى ذكر رسوله، كالأذان.
الثالث: الموعظة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعظ، وهو القصد من الخطبة فلا يجوز الإخلال بها.
الرابع: قراءة آية؛ لأن جابر بن سمرة قال: «كانت صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصداً، وخطبته قصداً، يقرأ آيات من القرآن، ويذكر الناس» . رواه أبو داود والترمذي. ولأن الخطبة فرض في الجمعة، فوجبت فيها القراءة كالصلاة، وعن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ما يدل على أنه لا يشترط قراءة آية، فإنه قال: القراءة في الخطبة على المنبر. ليس فيه شيء مؤقت ما شاء قرأ، وتشترط هذه الأربعة في الخطبتين؛ لأن ما وجب في إحداهما وجب في الأخرى كسائر الفروض.
فصل:
وسننها ثلاث عشرة:
أن يخطب على منبر أو موضع عال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب على منبره؛ ولأنه أبلغ في الإعلام.
الثاني: أن يسلم عقيب صعوده إذا أقبل عليهم؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم عليهم» رواه ابن ماجه.(1/328)
الثالث: أن يجلس إذا سلم عليهم؛ لأن ابن عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن، ثم يقوم فيخطب، ثم يجلس فلا يتكلم، ثم يقوم فيخطب» ، رواه أبو داود.
الرابع: أن يخطب قائماً؛ لأن جابر بن سمرة قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب، فمن حدثك أنه كان يخطب جالساً، فقد كذب» ، رواه مسلم وأبو داود.
وليس ذلك بشرط؛ لأن المقصود يحصل بدونه.
الخامس: أن يجلس بينهما لما رويناه، وليس بواجب؛ لأنها جلسة للاستراحة، وليس فيها ذكر مشروع، فأشبهت الأولى.
السادس: أن يعتمد على سيف أو قوس أو عصا، لما روى الحكم بن حزن قال: «وفدت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على سيف، أو قوس، أو عصا، فحمد الله وأثنى عليه بكلمات خفيفات طيبات مباركات» ، رواه أبو داود، ولأن ذلك أمكن له، فإن لم يكن معه شيء أمسك شماله بيمينه، أو أرسلهما عند جنبيه وسكنهما.
السابع: أن يقصد بلقاء وجهه؛ لأن في التفاته إلى أحد جانبيه إعراضاً عمن في الجانب الآخر.
الثامن: أن يرفع صوته؛ لأن جابراً قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه منذر جيش، يقول صبحكم ومساكم، ويقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» رواه مسلم، ولأنه أبلغ في الإسماع.
التاسع: أن يكون في خطبته مترسلاً معرباً، مبيناً من غير عجلة ولا تمطيط؛ لأنه أبلغ وأحسن.
العاشر: تقصير الخطبة، لما روى عمار قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة» . رواه مسلم.
الحادي عشر: ترتيبها، يبدأ بالحمد لله، ثم بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يعظ؛ لأنه أحسن والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بالحمد لله، وقال: «كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر» .(1/329)
الثاني عشر: أن يدعو للمسلمين؛ لأن الدعاء لهم مسنون، في غير الخطبة ففيها أولى وإن دعا للسلطان فحسن لأن صلاحه نفع للمسلمين، فالدعاء له دعاء لهم.
الثالث عشر: أن يؤذن لها إذا جلس الإمام على المنبر؛ لأن الله تعالى قال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] ، يعني الأذان، قال السائب: «كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث» رواه البخاري. وهذا النداء الأوسط هو الذي يتعلق به وجوب السعي، وتحريم البيع؛ لأنه الذي كان مشروعاً حين نزول الآية، فتعلقت الأحكام به. ويسن الأذان الأول في أول الوقت؛ لأن عثمان سنه، وعملت به الأمة بعده، وهو مشروع للإعلام بالوقت، والثاني للإعلام بالخطبة، والإقامة للإعلام بقيام الصلاة.
فصل:
ولا يشترط للجمعة إذن الإمام؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى بالناس، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محصور، ولأنها من فرائض الأعيان، فلم يعتبر لها إذن الإمام، كالظهر. قال أحمد: وقعت الفتنة بالشام تسع سنين، فكانوا يجمعون لكن إن أمكن استئذانه فهو أكمل وأفضل، وعنه أنه شرط؛ لأنه لا يقيمها في كل عصر إلا الأئمة.
فصل:
وتصلى خلف كل بر وفاجر، لحديث جابر، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، وتختص بإمام واحد، فتركها خلف الفاجر يفضي إلى الإخلال بها، فلم يجز ذلك كالجهاد، ولهذا أبيح فعلها في الطرق، ومواضع الغصب، صيانة لها عن الفوات.
فصل:
[و] إذا فرغ من الخطبة نزل، فأقيمت الصلاة فصلى بهم ركعتين، يقرأ في كل ركعة بالحمد لله وسورة معها، ويجهر بالقراءة للإجماع ونقل الخلف عن السلف. ومهما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، إلا أن المستحب أن يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين، أو بسبح، والغاشية، لما روى أبو هريرة قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بسورة الجمعة والمنافقين، في الجمعة» . وعن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في العيدين والجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواهما مسلم.(1/330)
فصل:
ومتى أمكن الغنى بجمعة واحدة في المصر لم يجز أكثر منها؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم وخلفاءه لم يقيموا إلا جمعة واحدة، وإن احتيج إلى أكثر منها جاز؛ لأنها تفعل في الأمصار العظيمة في جوامع من غير نكير، فصار إجماعاً، ولأنها صلاة عيد جاز فعلها في موضعين مع الحاجة كغيرها، وإن استغنى بجمعتين لم تجز الثالثة. فإن صليت في موضعين من غير حاجة، وإحداهما جمعة الإمام فهي الصحيحة، ويحتمل أن السابقة هي الصحيحة؛ لأنه لم يتقدمها ما يفسدها، وبعد صحتها لا يفسدها ما بعدها، والأول أولى؛ لأن في تصحيح غير جمعة الإمام افتئاتاً عليه، وتبطيلاً لجمعته، ومتى أراد أربعون نفساً إفساد صلاة الإمام، والناس أمكنهم ذلك، فإن لم يكن لأحدهما مزية فالسابقة هي الصحيحة لما ذكرناه، وتفسد الثانية. وإن وقعتا معاً: فهما باطلتان؛ لأنه لا يمكن تصحيحهما، ولا تعيين إحداهما بالصحة فبطلتا، كما لو جمع بين أختين. وعليهم إقامة جمعة ثالثة؛ لأنه مصر لم تصل فيه جمعة صحيحة، وإن علم سبق إحداهما وجهلت، فعلى الجميع الظهر؛ لأن كل واحد لم يتيقن براءة ذمته من الصلاة، وليس لهم إقامة الجمعة لأن المصر قد صليت فيه جمعة صحيحة وإن جهل الحال، فسدتا. وهل لهم إقامة الجمعة؟ على وجهين:
أحدهما: لا يقيمونها للشك في شرط إقامتها.
والثاني: لهم ذلك؛ لأننا لم نعلم المانع من صحتها والأصل عدمه. وذكر القاضي وجهاً من إقامتها مع العلم بسبق إحداهما؛ لأنه لما تعذر تصحيح إحداهما بعينها صارت كالمعدومة. ولو أحرم بالجمعة فعلم أنها قد أقيمت في مكان آخر لم يكن له إتمامها.
وهل يبني عليها ظهراً أم يستأنفها؟ على وجهين:
أصحهما استئنافها؛ لأن ما مضى منها لم يكن جائزاً له فعله، ويعتبر السبق بالإحرام؛ لأنه متى أحرم بإحداهما حرم الإحرام بالأخرى للغنى عنها.
فصل:
ولا يجوز لمن تجب عليه الجمعة السفر بعد دخول وقتها؛ لأنه يتركها بعد وجوبها عليه، فلم يجز، كما لو تركها لتجارة إلا أن يخاف فوت الرفقة، فأما قبل الوقت فيجوز للجهاد، لما روى ابن عباس قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الله بن رواحة في سرية، فوافق ذلك يوم الجمعة، فقدم أصحابه وقال: أتخلف فأصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ألحقهم. قال: فلما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقال: ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ فقال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو أنفقت ما في الأرض ما(1/331)
أدركت فضل غدوتهم» من " المسند " وهل يجوز لغير الجهاد؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الجمعة لا تحبس عن سفر، ولأنها لم تجب، فأشبه السفر من الليل.
والثانية: لا يجوز لما روى الدارقطني في الإفراد عن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من سافر من دار إقامة يوم الجمعة دعت عليه الملائكة ألا يصحب في سفره» .
فصل:
ويجب السعي بالنداء الثاني لما ذكرنا، إلا لمن منزله في بعد، فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويستحب التبكير بالسعي، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما(1/332)
قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أملح، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه. وقال علقمة: خرجت(1/333)
مع عبد الله يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: رابع أربعة وما رابع أربعة ببعيد. ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الناس يجلسون يوم القيامة على قدر رواحهم إلى الجمعة» رواه ابن ماجه. ويستحب أن يأتيها ماشياً ليكون أعظم للأجر، وعليه سكينة ووقار، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تأتوا الصلاة وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار» ، متفق عليه. ويقارب بين خطاه لتكثر حسناته.
فصل:
ويستحب أن يغتسل ويتطيب، ويتنظف بقطع الشعر، وقص الظفر، وإزالة الرائحة، لما روى أبو سعيد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر، ويدهن من دهنه، ويمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» رواه البخاري. وعنه: أن الغسل واجب، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك وأن يمس طيباً» رواه مسلم. والأول المذهب؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل الغسل أفضل» قال الترمذي: هذا حديث حسن، والخبر الأول أريد به تأكيد الاستحباب، ولذلك ذكر فيه السواك والطيب وليسا واجبين.
ووقت الغسل بعد الفجر لقوله: «يوم الجمعة» والأفضل فعله عند الرواح؛ لأنه أبلغ في المقصود. ولا يصح إلا بنيته؛ لأنه عبادة، فإن اغتسل للجمعة والجنابة أجزأه، وإن اغتسل للجنابة وحدها احتمل أن يجزئه، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة» ، ولأن المقصود التنظيف وهو حاصل، واحتمل أن لا يجزئه لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وليس للمرء من عمله إلا ما نواه» .
فصل:
وإذا أتى المسجد كره له أن يتخطى الناس، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولم يفرق بين اثنين» إلا أن يكون إماماً ولا يجد طريقاً فلا بأس بالتخطي؛ لأنه موضع حاجة. ومن لم يجد موضعاً إلا فرجة، لا يصل إليها بتخطي الرجل والرجلين، فلا بأس. فإن(1/334)
تركوا أول المسجد فارغاً وجلسوا دونه، فلا بأس بتخطيهم؛ لأنهم ضيعوا حق نفوسهم. وإن ازدحم الناس في المسجد وداخله اتساع فلم يجد الداخل لنفسه موضعاً، فعلم أنهم إذا قاموا تقدموا، وإن لم يرج ذلك فله تخطيهم؛ لأنه موضع حاجة.
وليس لأحد أن يقيم غيره ويجلس مكانه، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ويجلس فيه» متفق عليه. وإن قام له رجل من مكانه وأجلسه فيه جاز؛ لأن الحق له، لكن إن كان المتنفل ينتقل إلى موضع أبعد من موضعه كره لما فيه من الإيثار بالقربة.
ولو قدم رجل غلامه فجلس في موضع فإذا جاء قام الغلام وجلس مكانه فلا بأس به. كان ابن سيرين يفعله. وإن فرش له مصلى لم يكن لغيره الجلوس عليه. وهل لغيره رفعه والجلوس في موضعه؟ فيه وجهان:
وإن قام الجالس من موضعه لحاجة ثم عاد إليه فهو أحق به، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قام أحدكم من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به» رواه مسلم. وإن نعس فأمكنه التحول إلى مكان لا يتخطاه فيه أحد استحب له ذلك، لما روى ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا نعس أحدكم يوم الجمعة في مجلسه فليتحول إلى غيره» من المسند. وهو حديث صحيح.
فصل:
ويستحب الدنو من الإمام لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غسل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها» رواه ابن ماجه والنسائي. وإن حضر قبل الخطبة اشتغل بالتنفل، أو ذكر الله، وقراءة القرآن، ويكثر من الدعاء لعله يوافق ساعة الإجابة، ويكثر من الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقرأ سورة الكهف؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقي الفتنة» .
فصل:
فإذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل، فإذا أخذ من الخطبة حرم الكلام،(1/335)
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب أنصت فقد لغوت» متفق عليه.
وروى ثعلبة بن مالك أنهم كانوا يتحدثون يوم الجمعة وعمر جالس على المنبر، فإذا سكت المؤذن، قام عمر ولم يتكلم أحد حتى يقضي الخطبتين، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا. وعنه: لا يحرم الكلام، لما روى أنس قال: «بينما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يوم الجمعة، إذ قام رجل فقال: يا رسول الله، هلك الكراع هلك الشاء، فادع الله أن يسقينا» . وذكر الحديث. متفق عليه. والأول أولى، وهذا يحتمل أنه من تكليم الخطيب دون غيره لأنه لا يشتغل بتكليمه عن سماع خطبته. والبعيد والقريب سواء في ذلك. وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إن للمنصت الذي لا يسمع من الخطبة مثل للسامع، إلا أن للبعيد أن يذكر الله ويقرأ القرآن سراً، وليس الجهر، ولا المذاكرة في(1/336)
الفقه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الحلق يوم الجمعة والإمام يخطب» . وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة» ، ومن يسمع متكلماً لم ينهه بالقول: للخبر، ولكن يشير إليه، ويضع إصبعه على فيه، وإن وجب الكلام مثل تحذير ضرير شيئاً مخوفاً فعليه الكلام؛ لأنه لحق آدمي، فكان مقدماً على غيره، ومن سأله الإمام عن شيء فعليه إجابته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل الداخل: أصليت فأجابه، وسأل عمر عثمان فأجابه، وفي رد السلام، وتشميت العاطس، روايتان:
إحداهما: يفعل لأنه لحق آدمي، فأشبه تحذير الضرير.
والأخرى: لا يفعله لأن المسلم سلم في غير موضعه، والتشميت سنة لا يترك لها الإنصات الواجب، ولا يتصدق على سائل والإمام يخطب، وإذا لم يسمع الخطبة، فلا بأس أن يشرب الماء.
فصل:
ولا يحرم الكلام على الخاطب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتكلم، وعمر سأل عثمان أية ساعة هذه؟ فإذا وصل الخطيب إلى الدعاء ففيه وجهان:
أحدهما: يباح الكلام؛ لأنه فرغ من الخطبة.
والثاني: لا يباح؛ لأنه قاطع للخطبة أشبه التطويل في الموعظة.
فصل:
ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين، يوجز فيهما، لما روى جابر قال: «دخل رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قال: صليت يا فلان قال: لا، قال: فصل ركعتين» . متفق عليه. زاد مسلم ثم قال: «إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما» .
فصل:
ويسن أن يصلي بعد الجمعة أربعاً لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل بعدها أربعاً» رواه مسلم، وإن شاء صلى ركعتين، لما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين» ، متفق عليه، وإن شاء صلي ستاً لأن ابن عمر روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ويستحب أن(1/337)
يفصل بين الجمعة والركوع بكلام، أو رجوع إلى منزله، لما روى السائب بن يزيد قال: قال لي معاوية: «إذا صليت صلاة الجمعة فلا تصليها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا بذلك» ، رواه مسلم.
فصل:
ويستحب أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [السجدة: 1 - 2] و {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] » رواه مسلم. قال أحمد: ولا أحب أن يداوم عليها، لئلا يظن الناس أنها مفضلة بسجدة.
فصل:
فإذا اتفق عيد في يوم جمعة فصلوا العيد لم تلزمهم الجمعة، ويصلون ظهراً لما روى زيد بن أرقم قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيدين اجتمعا في يوم، فصلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: من شاء أن يجمع فليجمع» . وعن أبي هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون إن شاء الله» رواهما أبو داود.
وتجب الجمعة على الإمام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا مجمعون» ولأن تركه لها منع لمن يريدها من الناس.
وعنه: لا تجب؛ لأن ابن الزبير لم يصلها وكان إماماً، ولأن الجمعة إذا سقطت عن المأمومين سقطت عن الإمام، كحالة السفر، فإن عجل الجمعة في وقت العيد أجزأته عن العيد والظهر، في ظاهر كلامه لما روى عطاء قال: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير، فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد، فجمعهما وصلاهما ركعتين، فلم يزد عليهما حتى صلى العصر، وبلغ فعله ابن عباس فقال: أصاب السنة.
[باب صلاة العيدين]
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يداومون عليها، ولأنها من شعائر الإسلام الظاهرة، فكانت فرضاً كالجهاد، ولا تجب على الأعيان؛ لأن(1/338)
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر للأعرابي خمس صلوات فقال: هل علي غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوع» متفق عليه.
فإن اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام، لتركهم شعائر الإسلام الظاهرة، فأشبه تركهم الأذان. ويشترط لوجوبها ما يشترط للجمعة؛ لأنها صلاة عيد، فأشبهت الجمعة، ولا يشترط لصحتها الاستيطان، ولا العدد؛ لأن أنساً كان إذا لم يشهد العيد مع الإمام جمع أهله ومواليه، ثم قام عبد الله بن أبي عتبة مولاه فصلى بهم ركعتين يكبر فيهما ولأنهما من حق من انتفت فيه شروط الوجوب تطوع، فلم يشترط لها ذلك كسائر التطوع، وقال القاضي: كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي أن في اشتراط الاستيطان والعدد وإذن الإمام روايتين.
فصل:
ووقتها من حين ترتفع الشمس وتزول وقت النهي إلى الزوال، فإن لم يعلم بها إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم، لما روى أبو عمير بن أنس عن عمومة له من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن ركباً جاؤوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا فإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم» ، رواه أبو داود. ويسن تقديم الأضحى وتأخير الفطر، لما روى عمرو بن حزم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقدم الأضحى ويؤخر الفطر» ، ولأن السنة إخراج الفطرة قبل الصلاة، ففي تأخير الصلاة توسيع لوقتها، ولا تجوز التضحية إلا بعد الصلاة، ففي تعجيلها مبادرة إلى الأضحية.
فصل:
ويسن أن يأكل في الفطر قبل الصلاة، ويمسك في الأضحى حتى يصلي لما روى بريدة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي» ، رواه الترمذي، ويفطر على تمرات وتر، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات» . رواه البخاري وفي لفظ: «ويأكلهن وتراً» .
فصل:
والسنة أن يصليها في المصلى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء بعده كانوا يفعلونها فيه، ويستحب أن يستخلف على ضعفة الناس من يصلي بهم في الجامع لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استخلف أبا مسعود البدري، يصلي بضعفة الناس في المسجد، وهل يصلي المستخلف ركعتين أو أربعاً، على روايتين بناء على اختلاف الروايات في فعل أبي مسعود وقد روي أنه صلى بهم ركعتين وروي أنه صلى بهم أربعاً، وإن كان عذر من(1/339)
مطر أو نحوه صلى في المسجد، لما روى أبو هريرة قال: «أصابنا مطر في يوم عيد، فصلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد» . رواه أبو داود.
فصل:
ويسن الاغتسال للعيد، والطيب والتنظيف والسواك، وأن يلبس أحسن ثيابه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في جمعة من الجمع: «إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك» فعلل ذلك بأنه يوم عيد، ولأن هذا اليوم يشرع فيه الاجتماع للصلاة، فأشبه الجمعة، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم، ويلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة» رواه ابن عبد البر. إلا أن المعتكف يستحب له الخروج في ثياب اعتكافه، ليبقى عليه أثر العبادة.
فصل:
ويستحب أن يبكر إليها المأموم، ماشياً مظهراً للتكبير؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة أن يأتي العيد ماشياً. رواه الترمذي وقال، حديث حسن ولأنه أعظم للأجر، ويتأخر الإمام إلى وقت الصلاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله، ولأن الإمام ينتظر ولا ينتظر، وإذا غدا من طريق رجع من غيره؛ لأن جابراً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق.» رواه البخاري.
فصل:
قال ابن حامد: ويستحب خروج النساء، لما روت أم عطية قالت: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن المصلى، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين» . متفق عليه. قال القاضي: وظاهر كلام أحمد أن ذلك جائز غير مستحب، ولا يلبسن ثوب شهرة، ولا يتطيبن لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليخرجن تفلات» .
فصل:
وليس لها أذان ولا إقامة لما روى عطاء قال: أخبرني جابر «أن لا أذان للصلاة يوم الفطر ولا إقامة ولا نداء، ولا شيء لا نداء يومئذ ولا إقامة» ، متفق عليه. وقال جابر بن سمرة: «صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد غير مرة ولا مرتين بلا أذان ولا إقامة» . رواه مسلم.
فصل:
وصلاة العيد ركعتان، يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد لله وسورة، ويجهر بالقراءة(1/340)
بلا خلاف، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد خاب من افترى» . رواه الإمام أحمد في " المسند ". ويسن أن يقرأ فيهما بسبح و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] لحديث النعمان بن بشير. ومهما قرأ أجزأه، ويكبر في الأولى سبع تكبيرات منها تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمساً سوى تكبيرة القيام، لما روت عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات سوى تكبيرتي الركوع» رواه أبو داود.
واعتددنا بتكبيرة الإحرام لأنها في حال القيام، ولم نعتد بتكبيرة القيام لأنها قبله.
ويسن أن يرفع يديه في كل تكبيرة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة وفي العيد. رواه الأثرم. ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم تسليماً؛ لأنه يجمع بين ما ذكرناه.
وموضع التكبير بين الاستفتاح، وقبل الاستعاذة والقراءة في الركعتين. وعنه: أنه قبل الاستفتاح أيضاً اختارها الخلال وصاحبه، والأول أولى؛ لأن الاستفتاح لافتتاح الصلاة، فيكون في أولها، والاستعاذة للقراءة فتكون في أولها. وعنه: أنه يوالي بين القراءتين، يجعلها في الأولى بعد التكبير، وفي الثانية قبله، لما روى علقمة أن عبد الله بن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة قبل العيد يوماً فقال لهم: إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ فقال عبد الله: تبدأ وتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة، وتحمد ربك، وتصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم تدعو وتكبر، إلى أن قال: وتركع، ثم تقوم فتقرأ وتحمد ربك،. وذكر الحديث. قال أبو موسى وحذيفة صدق. ووجه الأولى أنه تكبير في إحدى ركعتي العيد فكان قبل القراءة كالأولى.
فصل:
وتكبيرات العيد الزوائد والذكر بينها سنة لا يؤثر تركها عمداً، وإن والى بين التكبير كان جائزاً، وإن نسي التكبير حتى شرع في القراءة، لم يعد إليه لأنه سنة فلا يعود إليها بعد شروعه في القراءة كالاستفتاح.
فصل:
فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك. ويفارق خطبتي الجمعة في أربعة أشياء:(1/341)
أحدها: أن محلها بعد الصلاة، لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة» . متفق عليه.
الثاني: أنه يسن أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع، ويكثر التكبير في أضعاف الخطبة، لما روى سعد مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر بين أضعاف الخطبة، يكثر التكبير بن خطبتي العيدين» .
الثالث: أن يحثهم في الفطر على إخراج الفطر، ويبين لهم ما يخرجونه ووقته وجنسه، وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم ما يجزئ فيها، ووقت ذبحها، ويحثهم على الإطعام منها؛ لأنه وقت هذا النسك فيشرع تبيينه.
الربع: أنهما سنة لا يجب استماعهما ولا الإنصات لهما، لما روى عبد الله بن السائب قال: «شهدت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيد، فلما قضى الصلاة قال: إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحب أن يذهب فليذهب» رواه أبو داود. ويستحب أن يجلس عقيب صعوده ليستريح، وقيل: لا يجلس؛ لأن الجلوس في الجمعة لموضع الأذان ولا أذان ههنا.
فصل:
ولا يتنفل قبل الصلاة وبعدها في موضع الصلاة لا في المسجد ولا في المصلى، إماماً كان أو مأموماً، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها» . متفق عليه. ولا بأس أن يصلي بعد رجوعه، لما روى أبو سعيد قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين» . رواه ابن ماجه.
فصل:
ومن سبق بالتكبير أو بعضه لم يقضه لأنه سنة فات محلها.
وقال ابن عقيل: يأتي به؛ لأن محله القيام وقد أدركه، وإن أدركه في الركوع تتبعه ولم يقض التكبير وجهاً واحداً، وإن أدركه في التشهد قام إذا سلم الإمام فقضى ركعتين يكبر فيهما، وإن أدركه في الخطبة استمع ثم قضى الصلاة إن أحب. وفي صفة القضاء ثلاث روايات:
إحداهن: يقضيها على صفتها، لحديث أنس ولأنه قضى صلاة فكان على صفتها كغيرها.(1/342)
الثانية: يصليها أربعاً بسلام واحد إن أحب، أو بسلامين، لما روى الأثرم عن عبد الله بن مسعود قال: من فاته العيد فليصل أربعاً، ولأنها صلاة عيد فإذا فاتت صليت أربعاً كالجمعة.
الثالثة: هو مخير بين ركعتين وأربع؛ لأنه تطوع نهار فكانت الخيرة إليه فيه كالضحى.
فصل:
ويشرع التكبير في العيدين، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يكبر حتى يسمع أهل الطريق.
قال القاضي: والتكبير في الفطر مطلق غير مقيد على ظاهر كلامه. يعني لا يختص بأدبار الصلوات.
وقال أبو الخطاب: يكبر من غروب الشمس إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وهل يكبر بعد صلاة العيد على روايتين.
فصل:
فأما التكبير في الأضحى فهو على ضربين: مطلق ومقيد. فأما المطلق فالتكبير في جميع الأوقات، من أول العشر إلى آخر أيام التشريق. وأما المقيد فهو التكبير في أدبار الصلوات، من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق. قيل لأحمد: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير في صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وقد روي عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة، ثم أقبل علينا فقال: الله أكبر ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق» . وصفة التكبير المشروع: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد) ؛ لأن هذا يروى عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال أبو عبد الله: اختياري تكبير ابن مسعود. وذكر مثل هذا، ولأن في حديث جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر تكبيرتين» ، ولأنه تكبير خارج الصلاة فكان شفعاً كتكبير الأذان.
فصل:
وموضعه عقيب أدبار الصلوات المفروضات، ولا يشرع عقيب النوافل لأنه لا أذان(1/343)
لها فلم يكبر بعدها كصلاة الجنازة. وإن سبق الرجل ببعض الفريضة كبر إذا سلم. وإن صلاها كلها وحده ففيه روايتان:
إحداهما: يكبر لأنه ذكر مشروع للمسبوق فأشبه التسليمة الثانية.
والثانية: لا يكبر؛ لأن ابن عمر كان لا يكبر إذا صلى وحده. وقال ابن مسعود: إنما التكبير على من صلى في الجماعة، ولأنه مخصوص بوقت فخص بالجماعة كالخطبة. والمسافر كالمقيم في التكبير، والمرأة كالرجل. قال البخاري: النساء كن يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز مع الرجال في المسجد، ويخفضن أصواتهن حتى لا يسمعهن الرجال. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنها لا تكبر. ومن فاتته صلاة في أيام التكبير فقضاها فيها كبر، وإن قضاها بعدها لم يكبر؛ لأن التكبير مقيد بالوقت.
فصل:
ويكبر مستقبل القبلة، فإن أحدث قبل التكبير لم يكبر؛ لأن الحدث يقطع الصلاة. وإن نسي التكبير استقبل القبلة وكبر، ما لم يخرج من المسجد. ويستحب الاجتهاد في العمل الصالح في أيام العشر، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما العمل الصالح في أيام أفضل منه من العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء» أخرجه البخاري.
[باب صلاة الكسوف]
وهي سنة مؤكدة عند كسوف الشمس أو القمر، لما روى أبو مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آتيان من آيات الله تعالى يخوف الله بهما عباده وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم» وعن عائشة قالت: «خسفت الشمس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث منادياً فنادى: الصلاة جامعة، وخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات» ، متفق عليهما. وتجوز جماعة وفرادى لإطلاق الأمر بهما في(1/344)
حديث أبي مسعود، والجماعة أفضل لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها في جماعة، وينادي لها: الصلاة جامعة للحديث. وتفعل في لمسجد للخبر، ولأن وقتها ضيقاً فلو خرجوا إلى المصلى خيف فواتها.
فصل:
وصفتها أن يكبر للإحرام ويستفتح، ثم يقرأ الفاتحة وسورة البقرة أو نحوها، ثم يركع ويسبح نحواً من مائة آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وآل عمران أو نحوها، ثم يركع فيسبح نحواً من سبعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد، ثم يسجد سجدتين يسبح فيهما نحواً من الركوع، ثم يقوم إلى الثانية، فيقرأ الفاتحة وسورة النساء، ثم يركع ويسبح نحواً من خمسين آية ثم يرفع فيسمع ويحمد ويقرأ الفاتحة وسورة المائدة، ثم يركع فيسبح نحواً من أربعين آية، ثم يرفع فيسمع ويحمد ثم يسجد نحواً من ركوعه، ويتشهد ويسلم؛ وليس هذا التقدير في القراءة والتسبيح منقولاً عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا هو متعين. وما قرأ به بعد أم الكتاب فيها أجزأه، لكن يستحب ذلك ليقارب فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما روت عائشة قالت: قال: «خسفت الشمس في حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فخرج إلى المسجد فقام وكبر، وصف الناس وراءه فقرأ رسول الله قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم قام فقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ثم كبر فركع ركوعاً هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، ثم سجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات، فانجلت الشمس.» متفق عليه.
وفي رواية أخرى: «فرأيت أنه قرأ في الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران» ، ويجهر بالقراءة ليلاً كان أو نهاراً؛ لأن عائشة روت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الخسوف» [رواه أبو داود] . ولأنها صلاة شرع لها الجمع الكثير فسن لها الجهر كالعيد، وإن صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات على نحو ما ذكرنا جاز؛ لأن [عائشة روت] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ست ركعات وأربع سجدات» . رواه مسلم.(1/345)
وإن جعل في كل ركعة أربع ركوعات جاز أيضاً؛ لأنه يروى عن علي وابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمختار الأول؛ لأنه أصح وأشهر.
فصل:
ووقتها من حين الكسوف إلى حين التجلي، فإن فاتت لم تقض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا حتى يكشف الله ما بكم» وإن تجلت وهو في الصلاة أتمها وخففها، وإن سلم قبل انجلائها لم يصل أخرى واشتغل بالذكر والدعاء، وإن استترت بغيم صلى؛ لأن الأصل بقاء الكسوف، وإن غابت كاسفة فهو كانجلائها؛ لأنه ذهب وقت الانتفاع بنورها. وإن طلعت الشمس والقمر خاسف فكذلك لما ذكرنا، وإن غاب ليلاً وهو كاسف لم يصل كالشمس إذا غابت. وقال القاضي: يصلي لأن وقت سلطانه باق.
فصل:
قال القاضي: لم يذكر لها أحمد خطبة، ولا رأيته لأحد من أصحابنا، وذلك لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصلاة دون الخطبة.
فصل:
إذا اجتمع الكسوف والجنازة بدئ بالجنازة؛ لأنه يخاف عليها وإن اجتمع مع المكتوبة في آخر وقتها بدئ بها؛ لأنها آكد. وإن كان في أول وقتها بدئ بصلاة الكسوف؛ لأنه يخشى فواتها. وإن اجتمع هو والوتر وخيف فواتهما بدئ بالكسوف لأنه آكد.
فصل:
ولا يصلى لغير الكسوف من الآيات؛ لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا عن أحد من خلفائه. إلا أن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يصلي للزلزلة الدائمة لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل الكسوف بأنه آية يخوف الله بها عباده، والزلزلة أشد تخويفاً، فأما الرجفة فلا تبقى مدة تتسع لصلاة.
[باب صلاة الاستسقاء]
وهي سنة عند الحاجة إليها. لما روى عبد الله بن زيد قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/346)
يستسقي، فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه وصلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة» . متفق عليه. وصفتها في موضعها وأحكامها صفة صلاة العيد. وهل يكبر فيهما تكبير العيدين؟
على روايتين:
إحداهما: لا يكبر لأن عبد الله بن زيد لم يذكره.
والثاني: يكبر؛ لأن ابن عباس روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ركعتين كما يصلي في العيدين» ، حديث صحيح. وعن جعفر بن محمد عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعاً، وخمساً» . رواه الشافعي في " مسنده ". ولا وقت لها معين، إلا أن الأولى فعلها في وقت صلاة العيد، لشبهها بها. وذكر ابن عبد البر أن الخروج إليها عند زوال الشمس عند جماعة العلماء.
فصل:
وفي إذن الإمام روايتان، بناء على صلاة العيد:
إحداهما: هو شرط لها. قال أبو بكر: فإن خرجوا بغير إذن الإمام صلوا ودعوا بغير خطبة.
والثانية: يصلون ويخطب بهم أحدهم، والأولى للإمام إذا أراد الاستسقاء أن يعظ الناس، ويأمرهم بتقوى الله، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي وتحليل بعضهم بعضاً، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96] . ويعد الناس يوماً يخرجون فيه، ويأمرهم أن يخرجوا على الصفة التي خرج عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عباس: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاستسقاء متبذلاً، متواضعاً متخشعاً، متضرعاً حتى أتى المصلى، فلم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» . هذا حديث صحيح. ويسن التنظيف وإزالة الرائحة لئلا يؤذي الناس بها، ولا يلبس زينة ولا يتطيب؛ لأن هذا يوم استكانة وخضوع.
فصل:
ويخرج الشيوخ والصبيان، ومن له ذكر جميل ودين وصلاح؛ لأنه أسرع للإجابة.(1/347)
ويستحب أن يستسقي الإمام بمن ظهر صلاحه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استسقى بالعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واستسقى معاوية والضحاك بيزيد بن الأسود الجرشي، وروي أن معاوية أمر يزيد بن الأسود فصعد المنبر، فقعد عند رجليه، فقال معاوية: اللهم إنا نستشفع إليك بخيرنا وأفضلنا، اللهم إنا نستشفع إليك بيزيد بن الأسود الجرشي، يا يزيد ارفع يديك إلى الله، فرفع يديه ورفع الناس أيديهم، فما كان بأوشك من أن ثارت سحابة في الغرب، كأنها ترس، وهب لها ريح، فسقوا حتى كاد الناس أن لا يبلغوا منازلهم. ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخرجها، ولا إخراج الكفار؛ لأنهم أعداء الله فلا يتوسل بهم. فإن خرجوا لم يمنعوا لأنهم يطلبون رزقهم، ويفردون عن المسلمين بحيث إن أصابهم عذاب لم يصب غيرهم.
فصل:
واختلفت الرواية في الخطبة فروي: أنه لا يخطب وإنما يدعو، لقول ابن عباس: «لم يخطب خطبتكم هذه» ، وروي أنه يخطب قبل الصلاة، لقول عبد الله بن زيد: «فتوجه إلى القبلة يدعو، وحول رداءه ثم صلى» .
وعنه: أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها؛ لأن الجميع مروي.
وعنه: يخطب بعد الصلاة؛ لأن أبا هريرة قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم خطبنا» . وهذا صريح. ولأنها مشبهة بصلاة العيد، وخطبتها بعد الصلاة. فإذا صعد المنبر جلس، ثم قام فخطب خطبة واحدة، يفتتحها بالتكبير لأنه لم ينقل أحد من الرواة خطبتين، ويكثر فيها الاستغفار، وقراءة الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار مثل: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3] . ويكثر الدعاء والتضرع ويدعو بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد روى ابن قتيبة بإسناده عن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى الاستسقاء، فتقدم فصلى ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، فلما قضى صلاته استقبل القوم بوجهه، وقلب رداءه ورفع يديه، وكبر تكبيرة قبل أن يستسقي، ثم قال: اللهم اسقنا وأغثنا، اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، وحياً ربيعاً، وجداً طبقاً، غدقاً مغدقاً، مونقاً، هنيئاً مريئاً مريعاً، مربعاً، مرتعاً، سابلاً، مسبلاً مجللاً، دائماً، دروراً، نافعاً، غير ضار عاجلاً غير رائث، اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم أنزل في أرضنا زينتها، وأنزل في أرضنا سكنها، اللهم أنزل علينا من(1/348)
السماء ماء طهوراً، فأحي به بلدة ميتاً، واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسي كثيراً» . فالحيا الذي يحيى به الأرض.
والجدا: المطر العام.
والطبق: الذي يطبق الأرض.
والغدق: الكثير.
والمونق: المعجب.
والمريع: ذو المراعة والخصب.
والمربع: المقيم، من قولك: ربعت بالمكان إذا أقمت فيه.
والمرتع: من قولك: رتعت الإبل إذا رعت.
والسابل: المطر.
والمسبل: الماطر.
والسكن: القوة لأن الأرض تسكن به.
وعن ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا استسقى قال: «اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً، هنيئاً، مريئاً، غدقاً، مجللاً، طبقاً، عاماً، سحاً، دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والضنك والجهد ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنزل علينا من بركاتك، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من العذاب ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً» . ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة، ويحول رداءه، يجعل اليمين يساراً واليسار يميناً كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تفاؤلاً أن يحول الله تعالى الجدب خصباً، ولا يجعل أعلاه أسفله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعله، ويدعو الله في استقباله فيقول: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا. لأن عبد الله بن زيد روى: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة ودعا، وحول رداءه وجعل الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» .
ويرفع يديه؛ لأن أنساً قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء، كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه» . متفق عليه. فإن سقوا قبل الصلاة(1/349)
صلوا وشكروا الله تعالى، وسألوه المزيد من فضله، وإن صلوا ولم يسقوا عادوا في اليوم الثاني والثالث لأن الله يحب الملحين في الدعاء.
فصل:
والاستسقاء على ثلاثة أضرب:
أحدها: مثل ما وصفنا.
والثاني: أن يستسقي الإمام يوم الجمعة على المنبر كما روى أنس: «أن رجلاً دخل يوم الجمعة ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب فاستقبل رسول الله قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وتقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. فرفع رسول الله يديه فقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» ، وذكر الحديث، متفق عليه.
الثالث: أن يدعو عقيب الصلوات، ويستحب أن يقف في أول المطر، ويخرج ثيابه ليصيبها لما روى أنس في حديثه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينزل عن منبره حتى رأينا المطر يتحادر من لحيته» . [رواه البخاري] .
فصل:
فإن كثر المطر بحيث يضرهم، أو كثرت مياه العيون حتى خيف منها، استحب أن يدعو الله تعالى حتى يخففه؛ لأن في حديث أنس قال: «فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة، فجاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، تهدمت البيوت، وقطعت السبل وهلكت المواشي فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اللهم على ظهور الجبال والآكام، وبطون الأودية ومنابت الشجر فانجابت عن المدينة انجياب الثوب» . متفق عليه. وفي حديث آخر: «اللهم حوالينا ولا علينا ويقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] » .(1/350)
[كتاب الجنائز]
يستحب الإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له، فإذا مرض استحب عيادته، لما روى البراء قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنازة، وعيادة المريض» . متفق عليه. فإذا دخل عليه سأله عن حاله، ورقاه ببعض رقى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويحثه على التوبة، ويرغبه في الوصية، ويذكر له ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عنده»(1/351)
متفق عليه.
فصل:
ويستحب أن يلي المريض أرفق أهله به، وأعلمهم بسياسته، وأتقاهم لربه. وإذا رآه منزولاً به تعاهد بل حلقه فيقطر فيه ماء أو شراباً، ويندي شفتيه بقطنة، ويلقنه قول: لا إله إلا الله مرة، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» رواه مسلم. ويكون ذلك في لطف ومداراة، ولا يكرر عليه فيضجره، إلا أن يتكلم بشيء فيعيد تلقينه، لتكون آخر كلامه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة» رواه أبو داود. ويقرأ عنده سورة " يس " ليخفف عنه، لما روى معقل بن يسار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقرؤوا يس على موتاكم» رواه أبو داود. ويوجهه إلى القبلة، كتوجيهه إلى الصلاة؛ لأن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: وجهوني، ولأن خير المجالس ما استقبل القبلة.
فصل:
فإذا مات أغمض عينيه، لما روى شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح» من " المسند ". ولأنه إذا لم تغمض عيناه بقيتا مفتوحتين فيقبح منظره، ويشد لحيته بعصابة عريضة، يجمع لحييه ثم يشدها على رأسه، لئلا ينفتح فوه فيقبح منظره ويدخل فيه ماء الغسل. ويقول الذي يغمضه: بسم الله وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويلين مفاصله؛ لأنه أسهل في الغسل، ولئلا تبقى جافة فلا يمكن تكفينه، ويخلع ثيابه لئلا يحمي جسمه فيسرع إليه التغير والفساد، ويجعل على سرير أو لوح حتى لا تصيبه نداوة الأرض فتغيره، ويترك على بطنه حديدة لئلا ينتفخ بطنه، وإن لم يكن فطين مبلول. ويسجى بثوب؛ «لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجي ببرد حبرة» ، متفق عليه. ويسارع في تجهيزه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لأرى طلحة قد حدث فيه الموت فآذنوني به وعجلوا فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني(1/352)
أهله» رواه أبو داود. وإن شك في موته انتظر به حتى يتيقن موته، بانخساف صدغيه، وميل أنفه وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه، ولا بأس بالانتظار بها قدر ما يجتمع لها جماعة، ما لم يخف عليه، أو يشق على الناس. ويسارع في قضاء دينه، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» وهذا حديث حسن. فإن تعذر تعجيله استحب أن يتكفل به عنه، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بجنازة فسأل: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران فلم يصل عليه. فقال أبو قتادة: هما علي يا رسول الله فصلى عليه» . رواه النسائي. وتستحب المسارعة في تفريق وصيته ليتعجل ثوابها بجريانها على الموصى له.
[باب غسل الميت]
وهو فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الذي وقصته ناقة: «اغسلوه بماء وسدر» متفق عليه. وأولى الناس بغسله من أوصي إليه بذلك لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس فقدمت بذلك. وأوصى أنس أن يغسله محمد بن سيرين ففعل، ولأنه حق للميت فقدم وصيه فيه على غيره كتفريق ثلثه. فإن لم يكن له وصي فأولاهم بغسل الرجل أبوه، ثم جده، ثم ابنه وإن نزل، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، ثم الرجال من ذوي الأرحام، ثم الأجانب لأنهم أولى الناس بالصلاة عليه. وأولاهم بغسل المرأة أمها، ثم جدتها، ثم ابنتها ثم الأقرب فالأقرب، ثم الأجنبيات.
ويجوز للمرأة غسل زوجها بلا خلاف، لحديث أبي بكر. ولقول عائشة: لو استقبلنا ما أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا نساؤه. رواه أبو داود. وفي غسل الرجل امرأته روايتان:
أشهرهما: يباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة: «لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك» رواه ابن ماجه. وغسل علي فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فلم ينكره منكر، فكان إجماعاً، ولأنها أحد الزوجين فأبيح للآخر غسله كالزوج.
والأخرى: لا يباح؛ لأنهما فرقة أباحت أختها وأربعاً سواها، فحرمت اللمس، والنظر كالطلاق. وأم الولد كالزوجة في هذا؛ لأنها محل استمتاعه، فإن طلق الرجل(1/353)
زوجته فماتت في العدة، وكان الطلاق بائناً، فهي كالأجنبية محرمة عليه، وإن كانت رجعية، وقلنا: إن الرجعية مباحة له فله غسلها وإلا فلا.
فصل:
ولا يصح غسل الكافر لمسلم؛ لأن الغسل عبادة محضة فلا تصح من كافر كالصلاة، ولا يجوز للمسلم أن يغسل كافراً وإن كان قريبه، ولا يتولى دفنه، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه. قال أبو حفص العكبري: يجوز ذلك، وحكاه قولاً لأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «قلت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: اذهب فواره» رواه أبو داود والنسائي. ولنا أنه لا يصلي عليه فلم يكن له غسله كالأجنبي، والخبر يدل على مواراته وله ذلك: لأنه يتغير بتركه ويتضرر ببقائه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسلم مات والده النصراني -: فليركب دابته وليسر أمام الجنازة، وإذا أراد أن يدفن رجع، مثل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
ولا يجوز لرجل غسل امرأة غير من ذكرنا، ولا لامرأة غسل رجل سوى زوجها وسيدها؛ لأن أحدهما محرم على صاحبه في الحياة، فلم يجز له غسله كحال الحياة. فإن مات رجل بين نساء، أو امرأة بين رجال، أو خنثى مشكل فإنه ييمم، في أصح الروايتين، لما روى واثلة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ماتت المرأة مع الرجال ليس بينها وبينهم محرم تيمم كما ييمم الرجل» أخرجه تمام في " فوائده ".
وعنه: في الرجل تموت أخته فلم يجد نساء، يغسلها، وعليها ثياب ويصب عليها الماء صباً، والأول أولى؛ لأن الغسل من غير مس لا يحصل به التنظيف ولا إزالة النجاسة، بل ربما كثرت، فكان التيمم أولى كما لو وجد ماء لا يطهر النجاسة. ويجوز للمرأة غسل صبي لم يبلغ سبع سنين نص عليه؛ لأن عورته ليست عورة، وتوقف عن غسل الرجل الجارية، قال الخلال: القياس التسوية بين الغلام والجارية، لولا أن التابعين فرقوا بينهما، وسوى أبو الخطاب بينهما في الجواز، جرياً على موجب القياس.
فصل:
وينبغي أن يكون الغاسل أميناً، لما روي عن ابن عمر أنه قال: لا يغسل موتاكم إلا المأمونون. ولأن غير الأمين لا يؤمن أن لا يستوفي الغسل، ويذيع ما يرى من قبيح، وعليه ستر ما يرى من قبيح؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من غسل ميتاً ثم لم يفش عليه خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه ابن ماجه بمعناه. وإن رأى أمارات الخير استحب إظهارها، ليترحم عليه، ويرغب في مثل طريقته. وإن كان مغموصاً عليه في(1/354)
السنة والدين، مشهوراً بذلك، فلا بأس بإظهار الشر عنه، لتحذر طريقته، ويستحب ستر الميت عن العيون، ولا يحضره إلا من يعين في أمره؛ لأنه ربما كان فيه عيب يستره في حياته، وربما بدت عورته فشاهدها.
فصل:
ويجرد الميت عند تغسيله، ويستر ما بين سرته وركبتيه، وروى ذلك الأثرم عنه، واختاره الخرقي وأبو الخطاب؛ لأن ذلك أمكن في تغسيله، وأبلغ في تطهيره، وأشبه بغسل الحي، وأصون له عن أن يتنجس بالثوب إذا خلع عنه، ولأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يفعلون ذلك. بدليل أنهم قالوا: لا ندري أنجرد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما نجرد موتانا؟ رواه أبو داود. والظاهر أن النبي أمرهم به وأقرهم عليه.
وروى المروذي، وعنه: أن الأفضل غسله في قميص رقيق ينزل الماء فيه، ويدخل الغاسل يده في كم القميص فيمرها على بدنه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل في قميصه. ولأنه أستر للميت. ويستحب أن يوضع على سرير غسله، متوجهاً، منحدراً نحو رجليه، لينصب ماء الغسل منه، ولا يستنقع تحته فيفسده، ويستحب أن يتخذ الغاسل ثلاثة آنية، إناء كبير فيه ماء، بعيداً عن الميت، وإناء وسطاً، وإناء يغترف به من الوسط، ويصب على الميت، فإن فسد الماء الذي في الوسط كان الآخر سليماً؟ ويكون بقربه مجمر فيه بخور لتخفى رائحة ما يخرج منه.
فصل:
والفرض فيه ثلاثة أشياء: النية. لأنها طهارة تعبدية، أشبهت غسل الجنابة. وتعميم البدن بالغسل؛ لأنه غسل فوجب فيه ذلك، كغسل الجنابة وتطهيره من النجاسة. وفي التسمية وجهان بناء على غسل الجنابة. ويسن فيه ثمانية أشياء:
أحدها: أن يبدأ فيحني الميت حنياً لا يبلغ به الجلوس، ويمر يده على بطنه فيعصره عصراً دقيقاً ليخرج ما في جوفه من فضلة لئلا يخرج بعد الغسل، أو بعد التكفين فيفسده، ويصب عليه الماء وقت العصر صباً كثيراً، ليذهب بما يخرج، فلا تظهر رائحته.
والثاني: أن يلف على يده خرقة فينجيه بها ولا يحل له مس عورته؛ لأن رؤيتها محرمة فلمسها أولى، ويستحب أن لا يمس سائر بدنه إلا بخرقة، وينبغي أن يتخذ الغاسل خرقتين خشنتين، ينجيه بإحداهما ثم يلقيها، ويلف الأخرى على يده فيمسح بها سائر البدن، لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبيده خرقة يمسح بها ما تحت القميص.(1/355)
الثالث: أن يبدأ بعد إنجائه فيوضئه، لما روت أم عطية أنها قالت: «لما غسلنا ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها» متفق عليه. ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل فكذلك الميت، ولا يدخل فاه ولا أنفه ماء؛ لأنه لا يمكنه إخراجه، فربما دخل بطنه ثم خرج فأفسد وضوءه، لكن يلف على يده خرقة مبلولة، ويدخلها بين شفتيه فيمسح أسنانه وأنفه، ويتتبع ما تحت أظافره - إن لم يكن قلمها - بعود لين كالصفصاف، فيزيله ويغسله، كما يفعل الحي في وضوئه وغسله.
الرابع: أن يغسله بسدر مع الماء، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغسلوه بماء وسدر» وقال للنساء اللاتي غسلن ابنته: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئاً من كافور» متفق عليه. وظاهر كلام أحمد أن السدر يجعل في جميع الغسلات لظاهر الخبر، وذكره الخرقي.
وقال القاضي وأبو الخطاب: يغسل الأولى بماء وسدر، ثم يغسل الثانية بماء لا سدر فيه، كيلا يسلب طهوريته، ولا يجعل فيه سدر صحيح. ولا فائدة في ترك يسير لا يؤثر فإن أعوز السدر جعل مكانه ما يقوم مقامه كالخطمي والصابون ونحوه مما ينقي.
الخامس: أن يضرب السدر، ثم يبدأ فيغسل برغوته رأسه ولحيته؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبدأ بعد الوضوء بالصب على رأسه في الجنابة.
السادس: أن يبدأ بشقه الأيمن، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ابدأن بميامنها» فيغسل يده اليمنى، وصفحة عنقه، وشق صدره، وجنبه، وفخذه، وساقه، وقدمه، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ويغسل شق ظهره الأيمن وما يليه، ثم يقلبه على جنبه الأيمن ويغسل شقه الأيسر كذلك.
السابع: أن يغسله وتراً للخبر، فيغسله ثلاثاً فإن لم ينق بثلاث زاد إلى خمس، أو إلى سبع لا يزيد عليها؛ لأنه آخر ما انتهى إليه أمر النبي، ويمر في كل مرة يده، ولا يوضئه إلا في المرة الأولى، إلا أن يخرج منه شيء فيعيد وضوءه؛ لأنه بمنزلة الحدث من المغتسل في الجنابة، ولو غسله ثلاثاً ثم خرج منه شيء غسله إلى خمس، فإن خرج بعد ذلك غسله إلى سبع، فإن خرج بعد ذلك لم يعد إلى الغسل، ويسد مخرج النجاسة بالقطن، فإن لم يستمسك فبالطين الحر، ويغسل موضع النجاسة، ويوضأ لأن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل انتهى إلى سبع. واختار أبو الخطاب أنه لا يعاد إلى الغسل لخروج الحدث؛ لأن الجنب إذا أحدث بعد غسله لم يعده، ويوضأ وضوءه للصلاة.
الثامن: أن يجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً ليشده ويبرده ويطيبه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بذلك ويستحب أن يضفر شعر المرأة ثلاثة قرون، ويسدل من ورائها، لما روت أم(1/356)
عطية قالت: «ضفرنا شعرها ثلاثة قرون، وألقيناه من خلفها، تعني: ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه.
فصل:
وكره أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تسريح الميت؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: علام تنصون ميتكم؟ يعني: لا تسرحوا رأسه بالمشط. ولأنه يقطع شعره وينتفه. والماء البارد في الغسل أفضل من الحار؛ لأن البارد يشده، والحار يرخيه، إلا من حاجة إليه لوسخ يقلع به، أو شدة برد يتأذى به الغاسل ولا يستعمل الأشنان، إلا لحاجة إليه للاستعانة على إزالة الوسخ.
فصل:
ويستحب تقليم أظافر الميت، وقص شاربه؛ لأن ذلك سنة في حياته، ويترك ذلك معه في أكفانه؛ لأنه من أجزائه، وكل ما سقط من الميت جعل معه في أكفانه، ليجمع بين أجزائه، وفي أخذ عانته، وجهان:
أحدهما: يستحب إزالتها بنورة أو حلق؛ لأن سعد بن أبي وقاص جز عانة ميت، ولأنه من الفطرة، فأشبه تقليم الأظفار.
والثاني: لا يستحب؛ لأن فيه لمس العورة، وربما احتاج إلى نظرها، وذلك محرم فلا يفعل لأجل مندوب.
فصل:
والسقط إذا أتى عليه أربعة أشهر غسل وصلي عليه، لما روى المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والسقط يصلى عليه» رواه أبو داود، ولأنه ميت مسلم أشبه المستهل، ودليل أنه ميت: ما روى ابن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه فيكون نطفة أربعين يوماً، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح» متفق عليه. ومن كان فيه روح ثم خرجت فهو ميت، ويستحب تسميته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سموا أسقاطكم فإنهم أسلافكم» . فإن لم يعلم أذكر هو أم أنثى سمي اسماً يصلح لهما كسعادة وسلامة، ومن له دون أربع أشهر لا يغسل، ولا يصلى عليه لعدم ما ذكرناه فيه.
فصل:
والشهيد إذا مات في المعركة لم يغسل رواية واحدة. وفي الصلاة عليه روايتان:(1/357)
إحداهما: يصلى عليه، اختارها الخلال لما روى عقبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوماً فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف» . متفق عليه.
والثانية: لا يصلى عليه، وهي أصح، لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفن شهداء أحد في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم» . رواه البخاري. وحديث عقبة مخصوص بشهداء أحد، بدليل أنه صلى عليهم بعد ثمان سنين، والخيرة في تكفين الشهداء إلى الولي، إن أحب زمله في ثيابه ونزع ما عليه من جلد أو سلاح. لما روى ابن عباس «أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم» . رواه أبو داود. وإن أحب نزع ثيابه وكفنه بغيرها؛ «لأن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوبين ليكفن حمزة فيهما، فكفنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحدهما، وكفن في الآخر رجلاً آخر» . قال يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد، وإن حمل وبه رمق، أو أكل أو طالت حياته، غسل وصلي عليه؛ لأن سعد بن معاذ غسله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى عليه وكان شهيداً، وإن قتل وهو جنب غسل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم أحد: «ما بال حنظلة بن الراهب؟ إني رأيت الملائكة تغسله قالوا: إنه سمع الهائعة، فخرج ولم يغتسل» . رواه الطيالسي. وإن سقط من دابته، أو تردى من شاهق، أو وجد ميتاً لا أثر به، غسل وصلي عليه؛ لأنه ليس بقتيل الكفار، والذي لا أثر به يحتمل أنه مات حتف أنفه، فلا يسقط الغسل الواجب بالشك.
ومن عاد عليه سلاحه فقتله فهو كقتيل الكفار؛ لأن عامر بن الأكوع عاد عليه سيفه فقتله فلم يفرد عن الشهداء بحكم.
وقال القاضي: يغسل ويصلى عليه؛ لأنه ليس بقتيل الكفار، ومن قتل من أهل العدل في المعترك فحكمه حكم قتيل المشركين.
وأما أهل البغي فقال الخرقي، يغسلون ويصلى عليهم؛ لأنهم ليس لهم حكم الشهداء.
وأما المقتول ظلماً كقتيل اللصوص، والمقتول دون ماله ففيه روايتان:
إحداهما: يغسل ويصلى عليه؛ لأن ابن الزبير غسل وصلي عليه؛ لأنه ليس بشهيد المعترك أشبه المبطون.(1/358)
والثانية: لا يغسل؛ لأنه قتيل شهيد أشبه شهيد المعترك.
فصل:
ومن تعذر غسله لعدم الماء أو خيف تقطعه به، كالمجزوم والمحترق، يمم لأنها طهارة على البدن، فيدخلها التيمم عند العجز عن استعمال الماء كالجنابة، وإن تعذر غسل بعضه يمم، لما لم يصبه الماء، وإن أمكن صب الماء عليه، وخيف من عركه، صب عليه الماء صباً ولا يعرك.
ومن مات في بئر ذات نفس أخرج، فإن لم يمكن إلا بمثله، وكانت البئر يحتاج إليها أخرج أيضاً؛ لأن رعاية حقوق الأحياء أولى من حفظه عن المثلة، وإن لم يحتج إليها طمت عليه فكانت قبره.
فصل:
ويستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتاً فليغتسل» رواه الطيالسي وأبو داود. ولا يجب ذلك لأن الميت طاهر، والخبر محمول على الاستحباب والصحيح فيه أنه موقوف على أبي هريرة، وكذلك قال أحمد: فإذا فرغ من غسله نشفه بثوبه، كيلا يبل أكفانه.
[باب الكفن]
يجب كفن الميت في ماله، مقدماً على الدين والوصية. والإرث، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الذي وقصته ناقته: «كفنوه في ثوبيه» متفق عليه. ولأن كسوة المفلس الحي تقدم على دينه، فكذلك كفنه فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه كسوته في حياته، فإن لم يكن ففي بيت المال، وليس على الرجل كفن زوجته؛ لأنها صارت أجنبية لا يحل الاستمتاع منها، فلم يجب عليه كسوتها.
فصل:
وأقل ما يجزئ في الكفن ثوب يستر جميعه.
وقال القاضي: لا يجزئ أقل من ثلاثة؛ لأنه لو أجزأ واحد لم يجز أكثر منه؛ لأنه يكون إسرافاً ولا يصح؛ لأن العورة المغلظة يسترها ثوب واحد، فالميت أولى، وما ذكره لا يلزم، فإنه يجوز التكفين بالحسن وإن أجزأ دونه. ويستحب تحسين الكفن لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه» رواه مسلم. ويكون جديداً أو غسيلاً إلا أن يوصي الميت بتكفينه في خلق فتمتثل وصيته؛ لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -(1/359)
قال: كفنوني في ثوبي هذين، فإن الحي أحوج إلى الجديد من الميت، والأفضل تكفينه في ثلاث لفائف بيض، لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كفن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسيلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة» . متفق عليه. ولأن حالة الإحرام أكمل أحوال الحي، وهو لا يلبس المخيط فيها، فكذلك حال موته.
والمستحب أن يؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها، فيبسط على بساط ليكون الظاهر للناس أحسنها؛ لأن هذه عادة الحي، ثم تبسط الثانية فوقها، ثم الثالثة فوقهما، ويذر الحنوط والكافور فيما بينهن، ثم يحمل الميت فيوضع عليهن مستلقياً، ليكون أمكن لإدراجه فيها، ويجعل ما عند رأسه أكثر مما عند رجليه، ويجعل بقية الحنوط والكافور في قطن، ويجعل من بين أليتيه برفق، ويكثر ذلك ليرد شيئاً إن خرج حين تحريكه، ويشد فوقه خرقة مشقوقة الطرف، كالتبان تأخذ أليتيه ومثانته، ويجعل الباقي على منافذ وجهه ومواضع سجوده، ويجعل الطيب والذريرة في مغابنه ومواضع سجوده، تشريفاً لهذه الأعضاء التي خصت بالسجود، ويطيب رأسه ولحيته؛ لأن الحي يتطيب هكذا. وإن طيب جميع بدنه كان حسناً، ولا يترك على أعلى اللفافة العليا ولا النعش شيء من الحنوط؛ لأن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً. ثم يثني طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ثم يرد طرفها الآخر على شقه الأيسر فوق الطرف الآخر ليمسكه إذا أقامه على شقه الأيمن، ثم يفعل بالثانية والثالثة كذلك، ثم يجمع ذلك جمع طرف العمامة فيرده على وجهه ورجليه، إلا أن يخاف انتشارها فيعقدها، وإذا وضع في القبر حلها. ولا يخرق الكفن؛ لأن تخريقه يفسده. ولا يجب الطيب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به، ولأنه لا يجب على الحي، فكذلك على الميت. ولا يزاد الكفن على ثلاثة أثواب لأنه إسراف لم يرد الشرع به.
فصل:
وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ألبس عبد الله بن أبي قميصه كفنه فيه» متفق على معناه. ويجعل المئزر مما يلي جلده، ولا يزر عليه القميص، فإن تشاح الورثة في الكفن، جعل ثلاث لفائف على حسب ما كان يلبس في حياته، وإن قال أحدهم: يكفن من ماله، وقال الآخر: من مال السبيل، كفن من ماله لئلا يتعير بذلك. ويستحب تجمير الكفن ثلاثاً؛ لأن جابراً روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً» .
فصل:
وتكفن المرأة في خمسة أثواب، مئزر تؤزر به، وقميص تلبسه بعده، ثم تخمر(1/360)
بمقنعة، ثم تلف بلفافتين، لما روى أبو داود عن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: «كنت فيمن غسل أم كلثوم ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقي، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد ذلك في الثوب الآخر» . ولأن المرأة تزيد في حياتها على الرجل في الستر لزيادة عورتها على عورته، فكذلك في موتها، وتلبس المخيط في إحرامها فتلبسه في مماتها.
فصل:
فإن لم يجد إلا ثوباً لا يستر جميعه، غطي رأسه، وترك على رجليه حشيش، لما روى خباب «أن مصعب بن عمير، قتل يوم أحد ولم يكن له إلا نمرة، إذا غطي رأسه، بدت رجلاه، وإذا غطي رجلاه بدا رأسه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: غطوا بها رأسه، واجعلوا على رجليه الإذخر» متفق عليه. فإن كان أضيق من ذلك ستر به عورته، وغطي سائره بحشيش أو ورق، فإن كثر الموتى وقلت الأكفان كفن الاثنان والثلاثة في الكفن الواحد، لما روى أنس قال: «كثرت القتلى وقلت الأكفان يوم أحد، فكفن الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد، ثم يدفنوا في قبر واحد» . وهو حديث حسن.
فصل:
فإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه، لم يعد إلى الغسل وحمل؛ لأن في إعادته مشقة، ولا يؤمن مثله ثانياً وثالثاً. وإن ظهر منه كثير فالظاهر عنه أنه يحمل أيضاً لمشقة إعادته.
وعنه: أنه يعاد غسله، ويطهر كفنه؛ لأنه يؤمن مثله في الثاني للتحفظ بالتلجم والشد.
فصل:
وإذا مات المحرم، لم يقرب طيباً، ولا يخمر رأسه؛ لأن حكم إحرامه باق فيجنب ما يتجنبه المحرمون، لما روى ابن عباس قال: «بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» متفق عليه.
وعنه: لا يغطى وجهه ولا رجلاه، والظاهر عنه، جواز تغطيتهما؛ لأنه لم يذكرهما في حديث ابن عباس، ولأن الحي لا يمنع من تغطيتهما، فالميت أولى، ولا يلبس قميصاً إن كان رجلاً؛ لأنه ممنوع من لبس المخيط، وإن كان امرأة جاز ذلك؛ لأنها لا(1/361)
تمنع من لبس المخيط، وجاز تخمير رأسها لأنها لا تمنع ذلك في حياتها. وإن ماتت معتدة بطل حكم عدتها، وفعل بها ما يفعل بغيرها؛ لأن اجتناب الطيب في الحياة إنما كان لئلا يدعو إلى نكاحها، وقد أمن ذلك بموتها.
[باب الصلاة على الميت]
وهي فرض على الكفاية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على من قال لا إله إلا الله» ويكفي واحد لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة، فلم يشترط لها العدد كالظهر، ويجوز في المسجد لأن عائشة قالت: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد» . رواه مسلم. وصلي على أبي بكر وعمر في المسجد. وتجوز في المقبرة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر في المقبرة، ويجوز فعلها فرادى؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى عليه فرادى، والسنة فعلها في جماعة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصليها بأصحابه، ويستحب أن يصف ثلاثة صفوف لما روى مالك بن هبيرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يموت فيصلى عليه ثلاث صفوف من المسلمين إلا أوجب» وهذا حديث حسن. وإن اجتمع نساء فصلين عليه جماعة، أو فرادى فلا بأس؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - صلت على سعد بن أبي وقاص.
فصل:
وأولى الناس بالصلاة عليه من أوصى إليه بذلك، لإجماع الصحابة على الوصية بها فإن أبا بكر أوصى أن يصلي عليه عمر، وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وابن مسعود أوصى بذلك الزبير، وأبو بكرة أوصى به أبا برزة، وأم سلمة أوصت به سعيد بن زيد، وعائشة أوصت إلى أبي هريرة، وأوصى أبو سريحة إلى زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم فقدم زيداً. ولأنها حق للميت، فقدم وصيه بها كتفريق ثلثه. ثم الأمير، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه»
وقال أبو حازم: شهدت حسيناً - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين مات الحسن وهو يدفع في قفا(1/362)
سعيد بن العاص ويقول: تقدم، لولا السنة ما قدمتك. وسعيد أمير المدينة؛ لأنها إمامة في صلاة فأشبه سائر الصلوات. ثم الأب وإن علا ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة، ثم الرجال من ذوي أرحامه، ثم الأجانب. وفي تقديم الزوج على العصبة روايتان:
أشهرهما: تقديم العصبة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لقرابة امرأته: أنتم أحق بها، ولأن النكاح يزول بالموت والقرابة باقية.
والثانية: الزوج أحق بها؛ لأن أبا بكرة صلى على امرأته دون إخوتها، ولأنه أحق منهم بغسلها فإن استووا فأولاهم أولاهم بالإمامة في المكتوبات، للخبر فيه، والحر أولى من العبد القريب، لعدم ولايته، فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم.
فصل:
ومن شرطها الطهارة والاستقبال والنية؛ لأنها من الصلوات فأشبهت سائرهن، والسنة أن يقوم الإمام حذاء رأس الرجل ووسط المرأة، لما روي «أن أنساً صلى على رجل، فقام عند رأسه، ثم صلى على امرأة فقام حيال وسط السرير، فقال له العلاء بن زياد: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام على المرأة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم» . وهذا حديث حسن.
ويجوز أن يصلي على جماعة دفعة واحدة، ويقدم إلى الإمام أفضلهم، ويسوى بين رؤوسهم، فإن اجتمع رجال وصبيان وخناثى ونساء. قدم الرجال وإن كانوا عبيداً، ثم الصبيان ثم الخناثى ثم النساء، لما روى عمار مولى الحارث بن نوفل قال: «شهدت جنازة صبي وامرأة فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه فصلي عليهما، وفي القوم أبو سعيد الخدري وابن عباس وأبو قتادة وأبو هريرة، فسألتهم، فقالوا: السنة.» رواه أبو داود. ولأنهم هكذا يصفون في صلاتهم، وقال الخرقي: يقدم النساء على الصبيان لحاجتهن إلى الشفاعة، ويسوى بين رؤوسهم؛ لأن ابن عمر كان يسوي بين رؤوسهم، وعن أحمد ما يدل أنه يجعل صدر الرجل حذاء وسط المرأة، واختاره أبو الخطاب ليقف كل واحد منهما موقفه.
فصل:
وأركان صلاة الجنازة ستة:
أحدها: القيام: لأنها صلاة مكتوبة فوجب القيام فيها كالظهر.(1/363)
الثاني: أربع تكبيرات؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر على النجاشي أربعاً» . متفق عليه.
الثالث: أن يقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن» «وصلى ابن عباس على جنازة فقرأ بأم القرآن، وقال: إنه من السنة، أو من تمام السنة» ، حديث صحيح، رواه البخاري. ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كالظهر.
والرابع: أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثانية، لما روى أبو أمامة بن سهل عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن «السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، ويقرأ في نفسه، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويخلص الدعاء للجنازة ولا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سراً في نفسه» . رواه الشافعي في " مسنده ". وليس في الصلاة عليه شيء مؤقت، وإن صلى كما يصلى عليه في التشهد فحسن.
الخامس: أن يدعو للميت في الثالثة لذلك، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود. ولأنه المقصود فلا يجوز الإخلال به، وما دعا به أجزأه.
السادس: التسليم لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحليلها التسليم» .
فصل:
وسننها سبع:
أولها: رفع اليدين مع كل تكبيرة؛ لأن عمر كان يرفع يديه في تكبير الجنازة والعيد، ولأنها تكبيرة لا يتصل طرفها بسجود ولا قعود، فسن فيها الرفع كتكبيرة الإحرام.
والثاني: الاستعاذة قبل القراءة، لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] . الثالث: الإسرار بالقراءة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر بها.
الرابع: أن يدعو لنفسه ولوالديه وللمسلمين بدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وهو ما روى أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى على الجنازة قال: اللهم(1/364)
اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا» حديث صحيح.
وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه. وزاد: «اللهم من أحييته منا فأحييه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تضلنا بعده» وفي آخر: «اللهم أنت ربها وأنت خلقتها وأنت هديتها للإسلام وأنت قبضتها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر له» رواه أبو داود. وعن عوف بن مالك قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على جنازة فحفظت من دعائه: الله اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت» . رواه مسلم. وإن كان طفلاً جعل مكان الاستغفار له: «اللهم اجعله لوالديه ذخراً وفرطاً وسلفاً وأجراً، اللهم ثقل به موازينهما، وأعظم به أجورهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم، وقه برحمتك عذاب الجحيم» وإن لم يعلم شراً من العبد قال: «اللهم لا نعلم إلا خيراً»
الخامس: أن يقف بعد الرابعة قليلاً، وهل يسن فيها ذكر على روايتين.
السادس: أن يضع يمينه على شماله، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة فوضع يمينه على شماله» .
السابع: الالتفات على يمينه في التسليمة.
فصل:
ولا يسن الاستفتاح؛ لأن مبناها على التخفيف، ولا قراءة شيء بعد الفاتحة لذلك.
وعنه: يسن الاستفتاح ولا يسن تسليمه ثانية؛ لأن عطاء بن السائب روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلم على الجنازة تسليمة واحدة» . رواه الجوزجاني ولأنه إجماع. قال أحمد: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن ستة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم. ولا تسن الزيادة على أربع تكبيرات؛ لأنها المشهورة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وجمع عمر الناس على أربع تكبيرات، وقال: هو أطول الصلاة. فإن كبر خمساً جاز وتبعه المأموم؛ لأن «زيد بن أرقم كبر على جنازة خمساً وقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبرها» . رواه مسلم.(1/365)
وعنه لا يتابع فيها، اختاره ابن عقيل لأنها زيادة غير مسنونة. وإن كبر ستاً أو سبعاً ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز ويتابعه المأموم فيها؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كبر سبعاً وكبر على أبو قتادة سبعاً.
والثانية: لا يجوز، ولا يتبعه المأموم فيها؛ لأن المشهور عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه خلافها، لكن لا يسلم قبله وينتظره حتى يسلم معه؛ لأنها زيادة قول مختلف فيه؛ لأنه لا يجز له مفارقة إمامه إذا اشتغل به، كالقنوت في الصبح، وإن زاد على سبع لم يتابعه، ولم يسلم قبله قال أحمد: وينبغي أن يسبح به.
فصل:
وإن كبر على جنازة فجيء بأخرى كبر الثانية عليهما، ثم إن جيء بثالثة كبر الثالثة عليهن، ثم إن جيء برابعة كبر الرابعة عليهن، ثم يتمم سبع تكبيرات ليحصل للرابعة أربع تكبيرات، فإن جيء بأخرى لم يكبر عليها لئلا يفضي إلى زيادة التكبير على سبع، أو نقصان الخامسة من أربع، وكلاهما غير جائز. وإن أراد أهل الأولى رفعها قبل سلام الإمام لم يجز؛ لأن السلام ركن لم يأت به. ويقرأ في التكبيرة الرابعة الفاتحة. وفي الخامسة يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويدعو لهم في السادسة لتكمل الأركان لجميع الجنائز.
فصل:
ومن سبق ببعض الصلاة فأدرك الإمام بين تكبيرتين دخل معه، كما يدخل في سائر الصلوات.
وعنه: أنه ينتظر تكبير الإمام فيكبر معه؛ لأن كل تكبيرة كركعة فلا يشتغل بقضائها فإذا سلم الإمام قضى ما فاته، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» . قال الخرقي: يقضيه متتابعاً. فإن سلم ولم يقضه فلا بأس؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يقضي، ولأنها تكبيرات متوالية حال القيام فلم يجب قضاء ما فات منها، كتكبيرات العيد.
وقال القاضي وأبو الخطاب: يقضيه على صفته، إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متوالياً لعدم من يدعى له، فإن سلم ولم يقضه فحكى أبو الخطاب عنه رواية أنها لا تصح قياساً على سائر الصلوات.
فصل:
وإذا صلي عليه بودر إلى دفنه ولم ينتظر حضور أحد إلا الولي، فإنه ينتظر ما لم(1/366)
يخش عليه التغيير فإن حضر من لم يصل عليه صلى عليه جماعة وفرادى. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا بأس بذلك، قد فعله عدة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن صلى مرة لم يستحب له إعادتها؛ لأنها نافلة، وصلاة الجنازة لا يتنفل بها، ومن فاتته الصلاة عليه حتى دفن صلى على قبره، لما روى ابن عباس «أنه مر مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على قبر منبوذ فأمهم وصلوا خلفه» . متفق عليه. ولا يصلى على القبر بعد شهر إلا بقليل؛ لأن أكثر ما نقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه صلى على أم سعد بن عبادة بعدما دفنت بشهر» . رواه الترمذي. ولأنه لا يعلم بقاؤه أكثر من شهر فتقيد به.
فصل:
وتجوز الصلاة على الغائب.
وعنه: لا تجوز؛ لأن حضوره شرط، بدليل ما لو كانا في بلد واحد، والأول المذهب، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نعى النجاشي اليوم الذي مات فيه، فصف بهم في المصلى وكبر بهم أربعاً» . متفق عليه. فإن كان الميت من أحد جانبي البلد لم يصل عليه في الجانب الآخر؛ لأنه يمكن حضوره، فأشبه ما لو كانا من جانب واحد، وقال ابن حامد: يجوز قياساً على البعيد، وتتوقت الصلاة على الغائب بشهر؛ لأنه لا يعلم بقاؤه أكثر منه، أشبه من في القبر.
فصل:
ويصلى على كل مسلم لما تقدم، إلا شهيد المعترك، وإن لم يوجد إلا بعض الميت غسل وصلي عليه.
وعنه: لا يصلى عليه كما لا يصلى على يد الحي إذا قطعت، والمذهب الأول؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صلى على عظام بالشام، وصلى أبو عبيدة على رؤوس. ولا يصلي الإمام على الغال ولا قاتل نفسه، لما روى جابر بن سمرة قال: «أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه» . رواه مسلم. وعن زيد بن خالد قال: «توفي رجل من جهينة يوم خيبر، فذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: صلوا على صاحبكم، إن صاحبكم غل من الغنيمة» احتج به أحمد. ويصلى على سائر الناس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على صاحبكم» .
قال الخلال: الإمام ههنا أمير المؤمنين وحده، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن إمام كل قرية واليهم. وأنكر هذا الخلال وخطأ ناقله.(1/367)
فصل:
ولا تجوز الصلاة على كافر، لقول الله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] ، وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] . ومن حكمنا بكفره من أهل البدع لم يصل عليه، قال أحمد: لا أشهد الجهمي ولا الرافضي، ويشهدهما من أحب.
[باب حمل الجنازة والدفن]
وهما فرض على الكفاية؛ لأن في تركها هتكاً لحرمتها، وأذى للناس بها، وأولى الناس بذلك أولاهم بغسله، وأولى الناس بإدخال المرأة قبرها محارمها الأقرب فالأقرب. وفي تقديم الزوج عليهم وجهان. بناء على ما مر في الصلاة، فإن لم يكن فالمشايخ من أهل الدين.
وعنه: النساء بعد المحارم، اختاره الخرقي، والأول أولى؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا طلحة فنزل على قبر ابنته دون النساء» . رواه البخاري. «ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساء في جنازة فقال: أتدلين فيمن يدلي؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات» أخرجه ابن ماجه. ولأن الدفن يحتاج إلى قوة وبطش، ويحضره الرجال فتولي المرأة له، تعريض لها للهتك.
والتربيع في حمل الجنازة مسنون، لما روي عن ابن مسعود أنه قال: إذا اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربع، ثم ليتطوع بعد أو ليذر، فإنه من السنة. رواه سعيد بن منصور. وصفته أنه يبدأ فيضع قائمة السرير اليسرى على كتفه اليمنى من عند رأس الميت، ثم من عند رجليه، ثم يضع قائمة السرير اليمنى على كتفه اليسرى من كتفه اليمنى من عند رأسه، ثم من عند رجليه.
وعنه: أن يدور فيأخذ بعد ياسرة المؤخرة، يامنة المؤخرة، ثم المقدمة وإن حمل بين العمودين فحسن. روي عن سعد بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن الزبير أنهم حملوا بين عمودي السرير. والسنة الإسراع في المشي بها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسرعوا بالجنازة، فإن تكن صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه. ولا يفرط بالإسراع فيمخضها ويؤذي متبعها.(1/368)
فصل:
واتباع الجنازة سنة، وهو على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يصلي وينصرف.
والثاني: أن يتبعها إلى القبر ثم يقف حتى تدفن، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شهد جنازة حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين» متفق عليه.
الثالث: أن يقف بعد الدفن يستغفر له، ويسأل الله له التثبيت. كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «كان إذا دفن ميتاً وقف وقال: استغفروا له واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل» [رواه أبو داود] . والمشي أمامها أفضل، لما روى ابن عمر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يمشون أمام الجنازة.» رواه أبو داود. ولأنهم شفعاء لها، والشافع يتقدم المشفوع. وحيث مشى قريباً منها فحسن. وإن كان راكباً فالسنة أن يكون خلفها، لما روى المغيرة بن شعبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء منها» حديث صحيح. ويكره الركوب لمشيعها إلا من حاجة؛ لأنه يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ركب في جنازة ولا عيد، ولا بأس بالركوب في الانصراف لما روى جابر بن سمرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتبع جنازة ابن الدحداح ماشياً، ورجع على فرس» حديث حسن، رواه الترمذي ورواه مسلم.
فصل:
وإذا سبقها فجلس لم يقم عند مجيئها، وإن مرت به جنازة لم يستحب له القيام.
وعنه: يستحب لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رأى أحدكم الجنازة فليقم حين يراها حتى تخلفه» رواه مسلم. والأول أولى، لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم قعد» ، ورواه مسلم. وهذا ناسخ للأول، فأما من مع الجنازة فيكره أن يجلس حتى توضع عن الأعناق، لما روى أبو سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تبع جنازة فلا يجلس(1/369)
حتى توضع» رواه البخاري ومسلم. وفي لفظ: «حتى توضع في الأرض» رواه أبو داود.
ويكره اتباع النساء الجنائز لما روت أم عطية قالت: «نهينا عن اتباع الجنائز» . متفق عليه. ويكره أن تتبع بنار أو صوت، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار» رواه أبو داود.
فصل:
ويجوز الدفن في البيت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر دفنوا في بيت. والدفن في الصحراء أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن أصحابه بالبقيع وإنما دفن في البيت كراهة أن يتخذ قبره مسجداً ولولا ذلك لأبرز قبره، كذلك قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. متفق عليه. ويدفن الشهيد في مصرعه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بشهداء أحد أن يردوا إلى مصارعهم» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: صحيح وكان بعضهم قد حمل إلى المدينة.
وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة مكروه؛ لأنه أذى للأحياء والميت لغير فائدة.
وإن تنازع وارثان في الدفن في مقبرة المسلمين أو البيت دفن في المقبرة لأن له في البيت حقاً فلا يجوز إسقاطه، ويستحب الدفن في المقبرة التي فيها الصالحون لينتفع بمجاورتهم. وجمع الأقارب في الدفن حسن، لتسهل زيارتهم والترحم عليهم، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال: أعلم قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي» رواه أبو داود.
وإن تشاح اثنان في مقبرة مسبلة قدم السابق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به» . وإن استويا في السبق أقرع بينهما. ولا يدفن ميت في موضع فيه ميت حتى يبلى الأول، ويرجع فيه إلى أهل الخبرة بتلك الأرض.
فصل:
ويستحب تعميق القبر وتوسيعه وتحسينه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «احفروا وأوسعوا(1/370)
وأعمقوا» رواه أبو داود، قال أحمد يعمق إلى الصدر؛ لأن الحسن وابن سيرين كانا يستحبان ذلك، ولأن في تعميقه أكثر من ذلك مشقة، وقال أبو الخطاب: يعمق قدر قامة وبسطة والسنة أن يلحد له، لقول سعد بن مالك: «ألحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما صنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم.
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولا أحب الشق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللحد لنا والشق لغيرنا» رواه أبو داود. ومعنى الشق أنه إذا وصل إلى الأرض شق في وسطه شقاً نازلاً، فإن كانت الأرض رخوة لا يثبت فيها اللحد شق فيها للحاجة.
فصل:
ولا يدفن في القبر اثنان؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن كل ميت في قبره، فإن دعت الحاجة إليه جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لما كثر القتلى يوم أحد، كان يجمع بين الرجلين في القبر الواحد، ويسأل أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فيقدمه في اللحد» . حديث صحيح. ويقدم أفضلهم إلى القبلة للخبر، ويجعل بين كل اثنين حاجزاً من تراب، ليصير كل واحد منفرداً كأنه في قبر منفرد، وإن دفن رجل وصبي وامرأة في قبر واحد جعل الرجل في القبلة، والصبي خلفه، والمرأة خلفهما، وقال الخرقي: تقدم المرأة على الصبي، وقال أحمد: وإن حفروا شبه النهر رأس هذا عند رجل هذا جاز، ويجعل بينهما حاجز لا يلصق أحدهما بصاحبه، فإن مات له أقارب بدأ بمن يخاف تغيره، فإن استووا بدأ بأقربهم إليه على ترتيب النفقات، فإن استووا قدم أسنهم وأفضلهم.
فصل:
ولا توقيت في عدد من يدخل القبر، إنما هو بحسب الحاجة إليه، نص عليه.
ويسل الميت من قبل رأسه، وهو أن يجعل رأسه عند رجلي القبر، ثم يسل سلاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل من قبل رأسه، وإن كان الأسهل غير ذلك فعل الأسهل ويقول الذي يدخله، بسم الله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوله إذا أدخل الميت القبر من " المسند "، ويضعه في اللحد على جانبه الأيمن، مستقبل القبلة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه» ويتوسد رأسه بلبنة أو نحوها كالحي إذا نام ويجعل خلفه تراب يسنده لئلا يستلقي على قفاه، وإن وطأ تحته بقطيفة فلا بأس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك تحته قطيفة كان يفترشها، وينصب عليه اللبن نصباً لحديث سعد، وإن جعل عليه: طن قصب جاز، لما روى عمرو بن شرحبيل أنه قال: إني رأيت المهاجرين يستحبون ذلك.(1/371)
ويكره الدفن في التابوت، وأن يدخل القبر آجراً أو خشباً أو شيئاً مسته النار؛ لأن إبراهيم قال: كانوا يستحبون اللبن ويكرهون الخشب والآجر، ولأنه آلة بناء المترفين، وسائر ما مسته النار يكره للتفاؤل بها.
فصل:
ولا يخمر قبر الرجل، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه مر بقوم وقد دفنوا ميتاً وبسطوا على قبره الثوب، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، ويستحب ذلك للنساء للخبر ولئلا ينكشف منها شيء فيراه الحاضرون.
فصل:
ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر، لما روى الساجي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع قبره عن الأرض قدر شبر، ولأنه يعلم أنه قبر فيتوقى، ويترحم عليه، ولا يزاد عليه من غير ترابه، لقول عقبة بن عامر: لا تجعلوا على القبر من التراب أكثر مما خرج منه. رواه أحمد. ويستحب أن يرش عليه الماء ليتلبد. وروى أبو رافع «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سل سعداً ورش على قبره الماء» . رواه ابن ماجه. وتسنيمه أفضل من تسطيحه. لما روى البخاري عن سفيان التمار: أنه رأى قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسنماً، ولأن السطح يشبه أبنية أهل الدنيا. ولا بأس بتعليمه بصخرة ونحوها لما ذكرنا من حديث عثمان بن مظعون، ولأنه يعرف قبره فيكثر الترحم عليه.
فصل:
ويكره البناء على القبر، وتجصيصه والكتابة عليه، لقول جابر: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يقعد عليه» . رواه مسلم. زاد الترمذي: «وأن يكتب عليها» . وقال: حديث صحيح، ولأنه من زينة الدنيا فلا حاجة بالميت إليه، ولا يجوز أن يبنى عليه مسجد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» يحذر مثل ما صنعوا. متفق عليه. ويكره الجلوس عليه، والاتكاء إليه، والاستناد إليه، لحديث جابر. ويكره المشي عليه، لما روى عقبة بن عامر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لأن أطأ على جمرة أو سيف أحب إلي من أن أطأ على قبر مسلم ولا أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي أو وسط السوق» . رواه ابن ماجه. فإن لم يكن طريق إلى قبر من يزوره إلا بالوطء جاز لأنه موضع حاجة.(1/372)
فصل:
ولا يجوز الدفن في الساعات المذكورة في حديث عقبة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث ساعات كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب» . رواه مسلم. ويجوز الدفن في سائر الأوقات ليلاً ونهاراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفن ليلاً، ودفن ذا البجادين ليلاً. والدفن في النهار أولى؛ لأنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه زجر عن الدفن ليلاً. رواه مسلم. ولأن النهار أمكن وأسهل على مشيعيها، وأكثر لمتبعيها.
فصل:
وإذا ماتت ذمية حامل من مسلم لم تدفن في مقبرة المسلمين لكفرها، ولا تدفن في مقبرة الكفار لأن ولدها مسلم، وتدفن مفردة، ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين إلى ظهرها. وإن ماتت امرأة حامل، وولدها يتحرك، ورجيت حياته، سطت عليه القوابل فأخرجنه، ولا يشق بطنها؛ لأن فيه هتكاً لحرمة متيقنة، لإبقاء حياة موهومة بعيدة، فإن لم يخرج تركت حتى يموت، ثم تدفن، ويحتمل أن يشق بطنها إن غلب على الظن أنه يحيا لأن حفظ حرمة الحي أولى. وإن بلع الميت جوهرة لغيره شق بطنه. وأخذت؛ لأن فيه تخليصاً له من مأثمها، ورداً لها إلى مالكها، ويحتمل أن يغرم قيمتها من تركته، ولا يتعرض له صيانة عن المثلة به، فإن لم يكن له تركة تعين شقه، فإن كانت الجوهرة له ففيه وجهان:
أحدهما: يشق بطنه لأنها للوارث فهي كجوهرة الأجنبي.
والثاني: لا يشق؛ لأنه استهلكها في حياته فلم يتعلق بها حق الوارث. وإن بلع مالاً يسيراً لم يشق بطنه، ويغرم القيمة من تركته. وإن وقع في القبر ما له قيمة نبش وأخذ؛ لأنه يمكن رده إلى صاحبه بغير ضرورة فوجب. وإن دفن الميت بغير غسل، أو إلى غير القبلة نبش، وغسل ووجه؛ لأن هذا مقدور على فعله فوجب، إلا أن يخاف عليه الفساد فلا ينبش؛ لأنه تعذر فسقط كما يسقط وضوء الحي لتعذره. وإن دفن قبل الصلاة عليه احتمل أن يكون حكمه كذلك؛ لأنه واجب فهو كغسله، واحتمل أن يصلى على القبر ولا تهتك حرمته لأنه عذر.
فصل:
سئل أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن تلقين الميت في قبره فقال: ما رأيت أحداً يفعله،(1/373)
إلا أهل الشام. قال: وكان أبو مغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلون. وقال القاضي وأبو الخطاب: يستحب ذلك، ورويا فيه حديث عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحد عند رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، الثانية، فيستوي قاعداً، ثم ليقل: يا فلان بن فلانة، فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله، ولكن لا تسمعونه فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نبياً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكير يتأخر كل واحد منهما، فيقول: انطلق فما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته ويكون عند الله حجيجه دونهما فقال الرجل: يا رسول الله، فإن لم يعرف اسم أمه؟ قال: فلينسبه إلى حواء» رواه الطبراني في " معجمه " بمعناه.
[باب التعزية والبكاء على الميت]
التعزية سنة لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى مصاباً فله مثل أجره» وهو حديث غريب. وتجوز التعزية قبل الدفن وبعده لعموم الخبر. ويكره الجلوس لها؛ لأنه محدث، ويقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، ورحم ميتك، وفي تعزيته بكافر: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وتوقف أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن تعزية أهل الذمة، وهي تخرج على عيادتهم، وفيها روايتان:
إحداهما: يعودهم؛ لأنه روي «أن غلاماً من اليهود كان يخدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له، أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار» رواه البخاري.
والثانية: لا يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تبدؤوهم بالسلام» فإن قلنا: نعزيهم فإن تعزيتهم عن مسلم: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك، وعن كافر: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك.
فصل:
والبكاء غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على سعد بن عبادة، فوجده في غاشية، فبكى وبكى أصحابه وقال: ألا تسمعون أن الله(1/374)
لا يعذب بدمع العين، ولا يحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه أو يرحم» متفق عليه. ولا يجوز لطم الخدود، وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية، لما روى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»
وعن أبي مسعود «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برئ من الصالقة والحالقة والشاقة» متفق عليهما. ويكره الندب والنوح. ونقل حرب عن أحمد كلاماً يحتمل إباحتهما، واختاره الخلال وصاحبه؛ لأن واثلة وأبا وائل كانا يستمعا النوح ويبكيان وظاهر الأخبار التحريم.
قال أحمد في قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] . هو النوح، فسماه معصية. وقالت أم عطية: «أخذ علينا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البيعة أن لا ننوح» . متفق عليه.
وينبغي للمصاب أن يستعين بالله تعالى وبالصبر والصلاة، ويسترجع، ولا يقول إلا خيراً، لقول الله تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة: 153] الآيات. وقالت أم سلمة: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيراً منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خير منها. قالت: فلما توفي أبو سلمة قلتها. فأخلف الله لي خيراً منه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه مسلم. وقال: لما مات أبو سلمة: «لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون» . رواه مسلم.(1/375)
فصل:
ويستحب لأقرباء الميت وجيرانه إصلاح طعام لأهله؛ لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما جاء نعي جعفر قال: «اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم» رواه أبو داود.
فأما صنيع أهل الميت الطعام للناس فمكروه؛ لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلاً لهم إلى شغلهم.
فصل:
ويستحب للرجال زيارة القبور؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها إنها تذكركم الموت» رواه مسلم. وإن مر بها أو زارها قال ما روى مسلم قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإن شاء الله بكم للاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية» . وفي حديث آخر: «يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين» وفي حديث آخر: «اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم» ، وإن زاد: «اللهم اغفر لنا ولهم» كان حسناً.
فأما النساء ففي كراهية زيارة القبور لهن روايتان:
إحداهما: لا يكره، لعموم ما رويناه؛ ولأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زارت قبر أخيها عبد الرحمن.
والثانية: يكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله زوارات القبور» وهذا حديث صحيح، فلما زال التحريم بالنسخ، بقيت الكراهية؛ ولأن المرأة قليلة الصبر، فلا يؤمن تهيج حزنها برؤية قبور الأحبة، فيحملها على فعل ما لا يحل لها فعله، بخلاف الرجل.
فصل:
ويستحب لمن دخل المقابر خلع نعليه، لما روى بشير بن الخصاصية قال: «بينما أنا أماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ حانت منه نظرة، فإذا رجل يمشي بالقبور عليه نعلان فقال: يا صاحب السبتيتين ويحك ألق سبتيتيك فنظر الرجل، فلما عرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلعهما فرمى بهما» ، رواه أبو داود. فإن خاف الشوك إن خلع نعليه فلا بأس بلبسهما(1/376)
للحاجة، ولا يدخل في هذا الخفاف؛ لأن نزعها يشق، وفي التمشكات ونحوها وجهان:
أحدهما: هي كالنعل لسهولة خلعها.
والثاني: لا يستحب؛ لأن خلع النعلين تعبد فيقصر عليهما.
فصل:
وإن دعا إنسان لميت، أو تصدق عنه، أو قضى عنه ديناً واجباً عليه، نفعه ذلك بلا خلاف؛ لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] . «وقال سعد بن عبادة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أينفع أمي إذا تصدقت عنها؟ قال: نعم» متفق عليه. وإن فعل عبادة بدنية كالقراءة والصلاة والصوم، وجعل ثوابها للميت نفعه أيضاً؛ لأنه إحدى العبادات فأشبهت الواجبات، ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرؤون ويهدون لموتاهم، ولم ينكره منكر، فكان إجماعاً.(1/377)
[كتاب الزكاة]
وهي أحد أركان الإسلام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت» متفق عليه. وتجب على الفور، فلا يجوز تأخيرها مع القدرة على أدائها؛ لأنها حق يصرف إلى آدمي توجهت المطالبة به، فلم يجز تأخيرها، كالوديعة، ومن جحد وجوبها لجهله، ومثله يجهل ذلك، كحديث العهد بالإسلام، عرف ذلك ولم يحكم بكفره؛ لأنه معذور. وإن كان ممن لا يجهل مثله ذلك كفر، وحكمه حكم المرتد؛ لأن وجوب الزكاة معلوم ضرورة، فمن أنكرها كذب الله ورسوله، وإن منعها معتقداً وجوبها أخذها الإمام منه وعزره، فإن قدر عليه دون ماله استتابه ثلاثاً، فإن تاب وأخرج، وإلا قتل، وأخذت من تركته، وإن لم يمكن أخذها إلا بالقتال قاتله الإمام؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليها. رواه البخاري. وتابعه الصحابة على ذلك، فكان إجماعاً.
وإن كتم ماله حتى لا تؤخذ زكاته، أخذت منه وعزر، وفي جميع ذلك يأخذها الإمام من غير زيادة، بدليل أن العرب منعت الزكاة، فلم ينقل أنه أخذ منهم زيادة عليها.
وقال أبو بكر: يأخذ معها شطر ماله، بدليل ما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «في كل سائمة في كل أربعين بنت لبون، من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن أبى فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا» رواه أبو(1/378)
داود. وقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هو عندي صالح.
وهل يكفر من قاتل الإمام على الزكاة؟ فيها روايتان:
إحداهما: يكفر؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] دل هذا على أنه لا يكون أخانا في الدين إلا بأدائها، ولأن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لمانعي الزكاة: لا حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
والثانية: لا يكفر؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - امتنعوا من قتالهم ابتداء، فيدل على أنهم لم يعتقدوا كفرهم، ثم اتفقوا على القتال وبقي الكفر على الأصل.
فصل:
ولا تجب إلا بشروط أربعة: الإسلام، فلا تجب على كافر أصلي ولا مرتد؛ لأنها من فروع الإسلام، فلا تجب على كافر كالصيام.
فصل:
والشرط الثاني: الحرية فلا تجب على عبد، فإن ملَّكه سيده مالاً، وقلنا: لا يملك، فزكاته على سيده؛ لأنه مالكه، وإن قلنا: يملك، فلا زكاة في المال؛ لأن سيده لا يملكه، ومِلْك العبد ضعيف لا يحتمل المواساة، بدليل أنه لا يعتق عليه أقاربه إذا ملكهم، ولا تجب عليه نفقة قريبه، والزكاة إنما تجب بطريق المواساة، فلا تجب على مكاتب لأنه عبد، وملكه غير تام لما ذكرنا، فإن عتق وبقي في يده نصاباً استقبل به حولاً، وإن عجز استقبل سيده بماله حولاً؛ لأنه يملكه حينئذ، وما قبض من نجوم مكاتبه استقبل به حولاً لذلك، وإن ملك المعتق بعضه بجزئه الحر نصاباً لزمته زكاته؛ لأنه يملك ذلك ملكاً تاماً فأشبه الحر.
فصل:
والشرط الثالث: تمام الملك، فلا تجب الزكاة في الدين على المكاتب لنقصان الملك فيه، فإن له أن يعجز نفسه ويمتنع عن أدائه، ولا في السائمة الموقوفة؛ لأن الملك لا يثبت فيها في وجه، في وجه يثبت ناقصاً لا يتمكن من التصرف فيها بأنواع التصرفات.(1/379)
وروى مهنا عن أحمد: فيمن وقف أرضاً أو غنماً في السبيل لا زكاة عليه ولا عشر، هذا في السبيل.
إنما يكون ذلك إذا جعله في قرابته، وهذا يدل على إيجاب الزكاة فيه إذا كان لمعين؛ لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «في كل أربعين شاة شاة» .
ولا تجب في حصة المضارب من الربح قبل القسمة؛ لأنه لا يملكها على رواية، وعلى روية يملكها ملكاً ناقصاً غير مستقر؛ لأنها وقاية لرأس المال، ولا يختص المضارب بنمائها.
واختار أبو الخطاب أنها جائزة في حول الزكاة لثبوت الملك فيها، وفي المغصوب والضالّ. والدين على من لا يمكن استيفاؤه منه لإعسار أو جحد أو مطل روايتان:
إحداهما: لا زكاة فيه؛ لأنه خارج عن يده وتصرفه، أشبه دين الكتابة، ولأنه غير تام أشبه الحلي.
والثانية: فيه الزكاة؛ لأن الملك فيه مستقر، ويملك المطالبة به فوجبت الزكاة فيه كالدين على مليء، ولا خلاف في وجوب الزكاة في الدين الممكن استيفاؤه. ولا يلزمه الإخراج حتى يقبضه، فيؤدي لما مضى؛ لأن الزكاة مواساة وليس في المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه. وظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا فرق بين الحالّ والمؤجل؛ لأن المؤجل مملوك له تصح الحوالة به، والبراءة منه.
ولو أجر داره سنين بأجرة ملكها من حين العقد، وجرت في حول الزكاة، وحكمها حكم الدين، وحكم الصداق على الزوج حكم الدين على الموسر والمعسر؛ لأنه دين، وسواء في هذا قبل الدخول أو بعده؛ لأنها مالكة له.
فأما إن أسر رب المال وحِيلَ بينه وبين ماله، أو نسي المودع لمن أودع ماله، فعليه فيه الزكاة؛ لأن تصرفه في ماله نافذ، ولهذا لو باع الأسير ماله أو وهبه صح. وإذا حصل الضال في يد ملتقط فهو في حول التعريف على ما ذكرناه، وفيما بعده يملكه الملتقط، فزكاته عليه دون ربه، ويحتمل أن لا تلزمه زكاته، ذكره ابن عقيل؛ لأن ملكه غير مستقر؛ إذ لمالكه انتزاعه منه عند مجيئه، والأول أصح؛ لأن الزكاة تجب في الصداق قبل الدخول، وفي المال الموهوب للابن مع جواز الاسترجاع.
فإن أبرأت المرأة زوجها من صداقها عليه، أو أبرأ الغريم غريمه من دينه ففيه روايتان:
إحداهما: على المبرئ زكاة ما مضى؛ لأنه تصرف فيه، أشبه ما لو أحال به أو قبضه.(1/380)
والثانية: زكاته على المدين؛ لأنه ملك ما ملك عليه قبل قبضه منه، فكأنه لم يزل ملكه عنه.
ويحتمل أن لا تجب الزكاة على واحد منهما؛ لأن المبرئ لم يقبض شيئاً، ولا تجب الزكاة على رب الدين قبل قبضه، والمدين لم يملك شيئاً؛ لأن من أسقط عنه شيئاً لم يملكه بذلك، فأما ما سقط من الصداق قبل قبضه بطلاق الزوج فلا زكاة فيه؛ لأنها لم تقبضه، ولم يسقط بتصرفها فيه، بخلاف التي قبلها، وإن سقط لفسخها النكاح احتمل أن يكون كذلك؛ لأنها لم تتصرف فيه، واحتمل أن يكون كالموهوب؛ لأن سقوطه بسبب من جهتها.
فصل:
الشرط الرابع: الغنى، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» متفق عليه؛ ولأن الزكاة تجب مواساة للفقراء، فوجب أن يعتبر الغنى، ليتمكن من المواساة، والغنى المعتبر: ملك نصاب خال عن دين، فلا يجب على من لا يملك نصاباً، لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا فيما دون خمسة ذود صدقة ولا فيما دون خمسة أواق صدقة» متفق عليه. ومن ملك نصاباً، وعليه دين يستغرقه أو ينقصه فلا زكاة فيه، إن كان من الأموال الباطنة وهي الناضّ وعروض التجارة رواية واحدة؛ لأن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال بمحضر من الصحابة: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم. رواه أبو عبيد في الأموال ولم ينكر، فكان إجماعاً؛ ولأنه لا يستغني به، ولا تجب الصدقة إلا عن ظهر غنى، وإن كان من الأموال الظاهرة وهي المواشي والزروع والثمار ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: لا تجب فيها الزكاة لذلك.
والثانية: فيها الزكاة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث سعاته، فيأخذون الزكاة من رؤوس الأموال الظاهرة، من غير سؤال عن دين صاحبه، بخلاف الباطن.
الثالثة: أن ما استدانه على زرعه لمؤنته حسبه، وما استدان لأهله لم يحسبه؛ لأنه ليس من مؤونة الزرع فلا يحسبه على الفقراء. فإن كان له مالان من جنسين، وعليه دين يقابل أحدهما؛ جعله في مقابلة ما يقضي منه، وإن كانا من جنس، جعله في مقابلة ما الحظ للمساكين في جعله في مقابلته تحصيلاً لحظهم.
فصل:
وتجب الزكاة على مال الصبي والمجنون. لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ابتغوا(1/381)
في أموال اليتامى كيلا تأكلها الزكاة» . أخرجه الترمذي وفي إسناده مقال، وروي موقوفاً على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الزكاة تجب مواساة، وهما من أهلها، ولهذا تجب عليهما نفقة القريب، ويعتق عليهما ذو الرحم، وتخرج عنهما زكاة الفطر والعشر، فأشبها البالغ العاقل.
فصل:
ولا يعتبر في وجوبها إمكان الأداء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» . يدل بمفهومه على وجوبها فيه عند تمام الحول؛ ولأنه لو أتلف النصاب بعد الحول ضمنها، ولو لم تجب لم يلزمه ضمانها كقبل الحول، فإن تلف النصاب بعد الحول لم تسقط الزكاة، سواء فرط أو لم يفرط؛ لأنه مال وجب في الذمة، فلم يسقط بتلف النصاب كالدين، وروى عنه التميمي وابن المنذر أنه إن تلف قبل التمكن سقطت الزكاة؛ لأنها عبادة تتعلق بالمال، فتسقط بتلفه قبل إمكان الأداء كالحج؛ ولأنه حق تعلق بالعين فسقط بتلفها من غير تفريط كالوديعة والجاني، فإن تلف بعض النصاب قبل التمكن سقط من الزكاة بقدره، وإن تلف الزائد عن النصاب لم يسقط شيء؛ لأنها تتعلق بالنصاب دون العفو. ولا تسقط الزكاة بموت من وجبت عليه؛ لأنه حق واجب تصح الوصية به فلم يسقط بالموت كدين الآدمي.
فصل:
وفي محل الزكاة روايتان:
إحداهما: أنها تجب في الذمة؛ لأنه يجوز إخراجها من غير النصاب، ولا يمنع التصرف فيه فأشبهت الدين.
والثانية: يتعلق بالعين، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25](1/382)
وفي للظرفية. فإن ملك نصاباً مضت عليه أحوال لم تؤد زكاته، وقلنا: هي في الذمة، لزمته الزكاة لما مضى من الأحوال؛ لأن النصاب لم ينقص، وإن قلنا: تتعلق بالعين لم يلزمه إلا زكاة واحدة؛ لأن الزكاة الأولى تعلقت بقدر الفرض فينقص النصاب في الحول الثاني، وهذا ظاهر المذهب، نقله الجماعة عن أحمد. فإن كان المال زائداً عن نصاب نقص منه كل حول بقدر الفرض، ووجبت الزكاة فيما بقي، فإن ملك خمساً من الإبل لزمه لكل حول شاة؛ لأن الفرض يجب من غيرها فلا يمكن تعلقه بعينها. وإن ملك خمساً وعشرين من الإبل فعليه للحول الأول ابنة مخاض، وفيما بعد ذلك لكل حول أربع شياه.
فصل:
وتجب الزكاة في خمسة أنواع:
أحدها: المواشي. ولها ثلاثة شروط:
أحدها: أن تكون من بهيمة الأنعام؛ لأن الخبر ورد فيها وغيرها لا يساويها في كثرة نمائها ونفعها ودرّها ونسلها واحتملت المواساة منها دون غيرها، ولا زكاة في الخيل والبغال والحمير والرقيق؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة» متفق عليه. ولأنه لا يطلب درها، ولا تقتنى في الغالب إلا للزينة، والاستعمال، لا للنماء ولا زكاة في الوحوش لذلك، وعنه في بقر الوحش الزكاة، لدخولها في اسم البقر، والأول أولى؛ لأنها لا تدخل في إطلاق اسم البقر، ولا تجوز التضحية بها، ولا تقتنى لنماء ولا دَرّ، فأشبهت الظباء.
وما تولد بين الوحشي والأهلي فقال أصحابنا: فيه الزكاة تغليباً للإيجاب، والأولى أن لا تجب؛ لأنها لا تقتنى للنماء والدر، أشبهت الوحشية، ولأنها لا تدخل في إطلاق اسم البقر والغنم.
فصل:
الشرط الثاني: الحول؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» رواه الترمذي وابن ماجه وأبو داود؛ ولأن الزكاة إنما تجب في مال نَامٍ فيعتبر له حول يكمل النماء فيه، وتحصل الفائدة منه، فيواسي من نمائه. فإن هلك النصاب، أو واحدة منه في الحول، أو باعها، انقطع، ثم إن نتجت له أخرى مكانها، أو رجع إليه باع، استأنف الحول، سواء ردت إليه ببيع أو إقالة أو(1/383)
باعها بالخيار فردت به؛ لأن الملك يزول بالبيع، والرد تجديد ملك، وإن قصد بشيء من ذلك الفرار من الزكاة لم تسقط؛ لأنه قصد إسقاط نصيب من انعقد سبب استحقاقه فلم يسقط، كالطلاق في مرض الموت. وإن نتجت واحدة ثم هلكت واحدة لم ينقطع الحول؛ لأنه لم ينقص. وإن خرج بعضها ثم هلكت أخرى قبل خروج بقيتها انقطع الحول؛ لأنها لا يثبت لها حكم الوجود في الزكاة حتى يخرج جميعها. وإن أبدل نصاباً بجنسه لم ينقطع الحول؛ لأنه لم يزل في ملكه نصاب من الجنس جاز في حول الزكاة، فأشبه ما لو نتج النصاب نصاباً، ثم ماتت الأمهات. وإن باع عيناً بورق انبنى على ضم أحدهما إلى الآخر. فإن قلنا: يضم لم ينقطع الحول؛ لأنهما كالجنس الواحد، وإن قلنا: لا يضم انقطع الحول لأنهما جنسان. وما نتج من النصاب فحوله حول النصاب، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اعتد عليهم بالسلخة يروح بها الراعي على يديه؛ ولأنه من نماء النصاب فلم يفرد عنه بحول، كربح التجارة. وإن ماتت الأمهات فتم الحول على السخال وهي نصاب وجبت فيها الزكاة؛ لأنها جملة جارية في الحول لم تنقص عن النصاب، أشبه ما لو بقي من الأمهات نصاب. وإن ملك دون النصاب، وكمل بالسخال احتسب الحول من حين كمال النصاب.
وعنه: يستحب من حين ملك الأمهات، والأول المذهب؛ لأن النصاب هو السبب فاعتبر مضي الحول على جميعه. وأما المستفاد بإرث أو عقد فله حكم نفسه؛ لأن مال ملكه أصلاً فيعتبر له الحول شرطاً، كالمستفاد من غير الجنس. ولا يبني الوارث حوله على حول الموروث؛ لأنه ملك جديد، فإن كان عنده ثلاثون من البقر، فاستفاد عشرة في أثناء الحول، فعليه من الثلاثين إذا تم حولها تبيع، لكمال حولها. فإذا تم حول العشرة فيها ربع مسنة؛ لأنه تم نصاب المسنة، ولم يمكن إيجابها لانفراد الثلاثين بحكمها، فوجبت في العشرة بقسطها منها.
وإن ملك أربعين من الغنم في المحرم، وأربعين في صفر وأربعين في ربيع فتم حول الأولى فعليه شاة؛ لأنها نصاب كامل مضى عليه حول، لم يثبت له حكم الخلطة في جميعه، فوجب فيه شاة، كما لو لم يملك غيرها، فإن تم حول الثاني ففيه وجهان:
أحدهما: لا شيء فيه، ولا في الثالث؛ لأنه لو ملكه مع الأول لم يجب فيه شيء، فكذلك إذا ملكه بعده؛ لأنه يحصل وقص بين نصابين.
والثاني: فيه الزكاة؛ لأنه نصاب منفرد بحول، فوجبت زكاته كالأول. وفي قدرها وجهان:(1/384)
أحدهما: شاة لذلك.
والثاني: نصف شاة؛ لأنه لم ينفك عن خلطة في جميع الحول. وفي الثالث ثلث شاة؛ لأنه لم ينفك عن خلطة لثمانين، فكان عليه بالقسط وهو ثلث شاة.
وإن ملك عشرين من الإبل في المحرم، وخمساً في صفر، وخمساً في ربيع، فعليه في العشرين عند دخولها أربع شياه، وفي الخمس الأولى عند حولها خمس بنات مخاض، وفي الخمس الثانية ثلاثة أوجه:
أحدها: لا شيء فيها.
والثاني: عليه سدس بنت مخاض.
والثالث: عليه شاة.
فصل:
الشرط الثالث: السوم، وهو أن تكون راعية، ولا زكاة في المعلوفة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الإبل السائمة في كل أربعين بنت لبون وفي سائمة الغنم في كل أربعين شاة» فيدل على نفي الزكاة عن غير السائمة؛ ولأن المعلوفة لا تقتنى للنماء، فلم يجب فيها شيء، كثياب البذلة. ويعتبر السوم في معظم الحول؛ لأنها لا تخلو من علف في بعضه، فاعتباره في الحول كله يمنع الوجوب بالكلية، فاعتبر في معظمه. وإن كان غصبها غاصب فعلفها معظم الحول فلا زكاة فيها، لعدم السوم المشترط. وإن غصب معلوفة فأسامها ففيه وجهان:
أحدهما: لا زكاة فيها لأن مالكها لم يسمها فلم يلزمه زكاتها كما لو علفها.
والثاني: تجب زكاتها؛ لأن الشرط تحقق، فأشبه ما لو كمل النصاب في يد الغاصب.
[باب زكاة الإبل]
وهي مقدرة بما قدره به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فروى البخاري بإسناده، عن أنس أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب له حين وجهه إلى البحرين: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المسلمين، والتي أمر الله بها رسول(1/385)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعطه.
في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة؛ فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض؛ فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل، إلى ستين فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها ابنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها. فإذا بلغت خمساً من الإبل ففيها شاة أوجب دون خمس وعشرين غنماً لأنه لا يمكن المواساة من جنس المال؛ لأن واحدة منها كثير، وإخراج جزء تشقيص يضر بالمالك والفقير، والإسقاط غير ممكن فعدل إلى إيجاب الشياه جمعاً بين الحقوق، وصارت الشياه أصلاً لو أخرج مكانها إبلاً لم يجزئه لأنه عدل عن المنصوص عنه إلى غير جنسه فلم يجزئه، كما لو أخرجها عن الشياه الواجبة في الغنم. ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن والثني من المعز؛ لأنها الشاة التي تعلق بها حكم الشرع، في سائر موارده المطلقة، ويعتبر كونها في صفة الإبل، ففي السمان الكرام شاة سمينة كريمة، وفي اللئام والهزال لئيمة هزيلة؛ لأنها سببها فإن كانت مراضاً لم يجز إخراج مريضة؛ لأن المخرج من غير جنسها، ويخرج شاة صحيحة على قدر المال، ينقص من قيمتها على قدر نقيصة الإبل، ولا يعتبر كونها من جنس غنمه، ولا غنم البلد؛ لأنها ليست سبباً لوجوبها، فلم يعتبر كونها من جنسها، كالأضحية، ولا يجزئ فيها الذكر كالمخرجة عن الغنم، ويحتمل أن يجزئ؛ لأنها شاة مطلقة، فيدخل فيها الذكر كالأضحية، فإن عدم الغنم لزمه شراء شاة، وقال أبو بكر: يجزئه عشرة دراهم؛ لأنها بدل الشاة للجبران ولا يصح؛ لأن هذا إخراج قيمة فلم يجز، كما في الشاة المخرجة عن الغنم، وليست الدراهم في الجبران بدلاً، بدليل إجزائها مع وجود الشاة.
فصل:
فإذا بلغت خمساً وعشرين أمكنت المواساة من جنسها، فوجبت فيها بنت مخاض، وهي التي لها سنة ودخلت في الثانية، سميت بذلك لأن أمها ماخض أي: حامل بغيرها، قد حان ولادتها، فإن عدمها أخرج ابن لبون ذكراً، وهو الذي له سنتان ودخل في الثالثة، سمي بذلك لأن أمه لبون أي ذات لبن، وصار نقص الذكورية مجبوراً بزيادة(1/386)
السن. فإن عدمه أيضاً لزمه شراء بنت مخاض؛ لأنهما استويا في العدم، فأشبه ما لو استويا في الوجود، ولأن تجويز ابن لبون للرفق به، إغناء له عن كلفة الشراء، ولم يحصل الإغناء عنها ههنا، فرجع إلى الأصل. ومن لم يجد إلا بنت مخاض معيبة فهو كالعادم؛ لأنه لا يمكن إخراجها، وإن وجدها أعلى من صفة الواجب أجزأته، فإن أخرج ابن لبون لم يجزئه لأن ذلك مشروط بعدم ابنة مخاض مجزئة، وإن اشترى بنت مخاض على صفة الواجب جاز، ولا يجبر نقص الذكورية بزيادة السن في غير هذا الموضع. وقال القاضي: يجوز أن يخرج عن بنت لبون حقاً، وعن الحقة جذعاً مع عدمهما؛ لأنه أعلى وأفضل، فيثبت الحجم فيه بالتنبيه، ولا يصح لأنه لا نص فيهما، وقياسهما على ابن اللبون ممتنع؛ لأن زيادة سنة يمتنع بها من صغار السباع، ويرعى الشجر بنفسه، ويرد الماء ولا يوجد هذا في غيره.
فصل:
فإذا بلغت ستاً وثلاثين ففيها بنت لبون، وفي ست وأربعين حقة وهي التي لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، سميت بذلك لأنها استحقت أن يطرقها الفحل وتركب، ولهذا قال في الحديث: «طروقة الفحل» .
وفي إحدى وستين جذعة، وهي التي ألقت سناً ولها أربع سنين ودخلت الخامسة، وهي أعلى سن يؤخذ في الزكاة، وفي ست وسبعين ابنتا لبون.
وفي إحدى وتسعين حقتان إلى عشرين ومائة، وإذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون.
وعنه: لا يعتبر الفرض حتى تبلغ ثلاثين ومائة، فيكون فيها حقة وبنتا لبون، والصحيح الأول؛ لأن في حديث الصدقات الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان عند آل عمر بن الخطاب «فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون» وهذا نص، وهو حديث حسن. ولو ملك زادت جزءاً من بعير لم يتغير الفرض به لذلك، ولأن سائر الفروض لا تتغير بزيادة جزء، ثم في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة، للحديث الصحيح.
فصل:
فإذا بلغت مائتين، اتفق الفرضان، أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أيهما أخرج(1/387)
أجزأه، فإن كان الآخر أفضل منه، والمنصوص عنه في أربع حقاق، وهذا محمول على أن ذلك فيها بصفة التخيير؛ لأن في كتاب الصدقات الذي عند آل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإذا كان مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون، أي السنين وجدت عنده أخذت منه، ولأنه اتفق الفرضان في الزكاة فكانت الخيرة لرب المال كالخيرة في الجبران، وإن كان المال ليتيم لم يخرج عنه إلا أدنى السنين، لتحريم التبرع بمال اليتيم، فإن أراد إخراج الفرض من السنين، على وجه يحتاج إلى التشقيص، كزكاة لمائتين لم يجز، وإن لم يحتج إليه كزكاة ثلاثمائة يخرج عنها حقتين وخمس بنات لبون جاز، وإن وجدت إحدى الفريضتين دون الأخرى، أو كانت الأخرى ناقصة، تعين إخراج الكاملة؛ لأن الجبران بدل، لا يصار إليه مع وجود الفرض الأصلي، وإن احتاجت كل فريضة إلى جبران أخرج ما شاء منها، فإذا كانت عنده ثلاث حقاق وأربع بنات لبون فله إخراج الحقاق وبنت لبون مع الجبران أو بنات اللبون وحقة، ويأخذ الجبران، وإن أعطى حقة وثلاث بنات لبون مع الجبران لم يجزئه؛ لأنه يعدل عن الفرض مع وجوده إلى الجبران، ويحتمل الجواز، فإن كان الفرضان معدومين، أو معيبين فله العدول إلى غيرها مع الجبران، فيعطي أربع جذعات، ويأخذ ثماني شياه، أو يخرج خمس بنات مخاض وعشر شياه، وإن اختار أن ينتقل من الحقاق إلى بنات المخاض مع الجبران، أو من بنات اللبون إلى الجذعات مع الجبران، لم يجز؛ لأن الحقاق وبنات اللبون منصوص عليهن فلا تصعد إلى الحقاق بجبران، ولا ينزل لبنات اللبون بجبران.
فصل:
ومن وجبت عليه فريضة فعدمها فله أن يخرج فريضة أعلى منها بسنة، ويؤخذ شاتين، أو عشرين درهماً، أو فريضة أدنى منها بسنة، ومعها شاتان أو عشرون درهما، لما روى أنس في كتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة وعنده حقة، فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطى شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده حقة، فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق شاتين أو عشرين درهماً، فأما من وجبت عليه جذعة، فأعطى مكانها ثنية بغير جبران جاز، وإن طلب جبراناً لم يعط؛ لأن زيادة سن الثنية غير معتبر في الزكاة، وإن عدم بنت المخاض لم يقبل منه فصيل بجبران ولا غيره؛ لأنه ليس بفرض ولا أعلى منه، والخيرة في النزول والصعود، والشياه والدراهم إلى رب المال؛(1/388)
للخبر، فإن أراد أعطى شاة وعشرة دراهم، أو أخذ ذلك جاز ذكره القاضي؛ لأن الشاة مقام عشرة دراهم، وقد كانت الخيرة إليه فيهما مع غيرهما، فكانت الخيرة إليه فيهما مفردين ويحتمل المنع؛ لأن الشارع جعل له الخيرة في شيئين، وتجويز هذا يجعل له الخيرة في ثلاثة أشياء، وإن كان النصاب مريضاً لم يجز له الصعود إلى الفرض الأعلى بجبران؛ لأن الشاتين جعلتا جبراناً، لما بين صحيحين، فيكون أكثر مما بين المريضين، وإن أراد النزول ويدفع الجبران جاز؛ لأنه متطوع بالزيادة، ومن وجب عليه فرض فلم يجد إلا أعلى منه بسنتين، فقال القاضي: يجوز أن يصعد إلى الأعلى، ويأخذ أربع شياه أو أربعين درهماً، أو ينزل إلى الأنزل، ويخرج معه أربع شياه أو أربعين درهماً لأن الشارع جوز له الانتقال إلى الذي يليه، وجوز الانتقال من العدول إلى ما يليه [إذا كان هو الفرض، وهنا لو كان موجوداً فإذا عدم جاز العدول إلى ما يليه] ، وقال أبو الخطاب: لا يجوز؛ لأن النص إنما ورد بالانتقال إلى ما يليه فأما إن وجد سناً يليه لم يجز له الانتقال إلى الأبعد؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أقام الأقرب مقام الفرض، ولو وجد الفرض لم ينتقل عنه، فكذلك إذا وجد الأقرب لم ينتقل عنه، وإن أراد أن يخرج مكان الأربع شياه شاتين وعشرين درهماً جاز؛ لأنهما جبران فيهما كالكفارتين، ولا مدخل للجبران في غير الإبل لأن النص فيها ورد وليس غيرها في معناها.
[باب صدقة البقر]
روى الإمام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن يحيى بن الحكم، أن معاذاً قال: «بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصدق أهل اليمن، فأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعاً، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاث أتباع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرة ومائة مسنتين وتبيعاً، ومن العشرين ومائة ثلاث مسنات أو أربعة أتباع، وأمرني أن لا آخذ فيما بين ذلك شيئاً إلا أن تبلغ مسنة أو جذعاً.» فأول نصابها ثلاثون وفيها تبيع أو تبيعة، وهو الذي له سنة ودخل في الثانية. وفي الأربعين مسنة، وهي التي لها سنتان ودخلت في الثالثة. ويتفق الفرضان في مائة وعشرين، فيخرج رب المال أيهما شاء للخبر، ولما ذكرنا في الإبل.
فصل:
ولا يؤخذ في الصدقة إلا الأنثى، لورود النص بها. وفضلها بدرها ونسلها، إلا(1/389)
الأتبعة في البقر حيث وجبت، وابن لبون مكان بنت مخاض، إذا عدمت، فإن كانت ماشيته كلها ذكوراً جاز إخراج الذكر في الغنم وجهاً واحداً لأن الزكاة وجبت مواساة، والمواساة إنما تكون بجنس المال. ويجوز إخراجه في البقر في أصح الوجهين لذلك. وفي الإبل وجهان:
إحداهما: يجوز لذلك.
والآخر: لا يجوز، لإفضائه إلى إخراج ابن لبون عن خمس وعشرين وست وثلاثين، وفيه تسوية بين النصابين. فعلى هذا يخرج أنثى ناقصة بقدر قيمة الذكر، وعلى الوجه الأول يخرج ابن لبون عن النصابين، ويكون التعديل بالقيمة. ويحتمل أن يخرج بن مخاض عن خمس وعشرين فيقوم الذكر مقام الأنثى التي في سنه، كسائر النصب [ويحتمل أن لا يخرج الذكر فعلى هذا يخرج أنثى ناقصة بقدر قيمة الذكر وعلى الوجه الأول يخرج ابن لبون عن نصابين ويكون التعديل بالقيمة] .
فصل:
والجواميس نوع من البقر، والبخاتي نوع من الإبل، والضأن والمعز جنس واحد. فإذا كان النصاب نوعين، أو كان فيه سمان ومهازيل، وكرام ولئام؛ أخرج الفرض من أيهما شاء على قدر المالين. فإذا كان نصفين، وقيمة الفرض من أحدهما عشرة، ومن الآخر عشرين أخذه من أيهما شاء قيمته خمسة عشر، إلا أن يرضى رب المال بإخراج الأجود.
[باب صدقة الغنم]
وأول نصابها أربعون: وفيها شاة، إلى مائة وعشرين. فإذا زادت واحدة، ففيها شاتان إلى مائتين، فإن زادت واحدة ففيها ثلاث شياه. ثم في كل مائة شاة شاة، لما روى أنس في كتاب الصدقات: «وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة؛ فإذا زادت على عشرين ومائة ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه: فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة شاة واحدة فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها» .
وعن أحمد: أن في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه، ثم في كل مائة شاة شاة. اختارها(1/390)
أبو بكر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الثلاثمائة غاية، فيجب تغير الفرض بالزيادة عليها، والأول أصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل حكمها إذا زادت على الثلاثمائة، في كل مائة شاة. فإيجاب أربع فيما دون الأربعمائة يخالف الخبر، وإنما جعل الثلاثمائة حداً لاستقرار الفرض.
فصل:
ولا يجزئ من الغنم إلا الجذع من الضأن، وهو الذي له ستة أشهر، والثني في المعز، وهو الذي له سنة لما روى سعر بن ديسم قال: «أتاني رجلان على بعير فقالا: إنا رسولا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لتؤدي صدقة غنمك. قلت: فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناقاً جذعة أو ثنية» . رواه أبو داود. لأن هذا السن هو المجزئ في الأضحية دون غيره، كذلك في الزكاة، فإن كان في ماشيته كبار وصغار لم يجب فيها إلا المنصوص، ويؤخذ الفرض بقدر قيمة المالين، ولذلك قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعتد عليهم بالسخلة، يروح بها الراعي على يديه، ولا تأخذها منهم. فإن كانت كلها صغاراً جاز إخراج الصغير؛ لقول الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لقاتلتهم عليها. ولا تؤدى العناق إلا عن صغار؛ ولأن الزكاة تجب مواساة، فيجب أن تكون من جنس المال.
وقال أبو بكر: لا تجزئ إلا كبيرة، للخبر. فإن كانت ماشيته الصغار إبلاً أو بقراً ففيها وجهان:
أحدهما: تجزئه الصغيرة، لما ذكرناه في الغنم، وتكون الصغيرة الواجبة في ست وأربعين زائدة على الواجبة في ست وثلاثين بقدر تفاوت ما بين الحقة وبنت اللبون، وهكذا في سائر النصب تعدل بالقيمة.
والثاني: لا يجزئ إلا كبيرة؛ لأن الفرض يتغير بنهاية السن، فيؤدي إخراج الصغيرة إلى التسوية بين النصابين. فعلى هذا يخرج كبيرة ناقصة القيمة بقدر نقص الصغار عن الكبار. وعنه أيضاً: لا ينعقد عليها الحول حتى تبلغ سناً يجزئ في الزكاة، لئلا يلزم هذا المحذور.
فصل:
لا يجزئ في الصدقة هرمة، ولا معيبة، ولا تيس، لقول الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وروى أنس في كتاب الصدقات: «لا يخرج في(1/391)
الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس» . وروى أبو داود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، لكن من وسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشره» . الشرط: رذالة المال، والدرنة: الجرباء، فإن كان بعض النصاب مريضاً، وبعضه صحيحاً لم يأخذ إلا صحيحة على قدر المالين، وإن كان كله مريضاً أخذت مريضة منه. وقال أبو بكر: لا يؤخذ إلا صحيحة بقيمة المريضة، والقول في هذا كالقول في الصغار.
فصل:
ولا يؤخذ في الصدقة الربى، وهي التي تربي ولدها، ولا الماخض، وهي الحامل، ولا التي طرقها الفحل؛ لأن الغالب أنها حامل، ولا الأكولة وهي السمينة، ولا فحل الماشية المعد لضرابها، ولا حزرات المال، وهو خياره تحزره العين لحسنه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «إياك وكرائم أموالهم» متفق عليه. وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لم يسألكم خيره» وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لساعيه: لا تأخذ الربى ولا الماخض ولا الأكولة ولا فحل الغنم. قال الزهري: إذا جاء المصدق قسم الشاء: أثلاثاً، ثلثاً خياراً، وثلثاً شراراً، وثلثاً وسطاً، ويأخذ المصدق من الوسط. فإن تبرع المالك بدفع شيء من هذا، أو أخرج عن الواجب أعلى منه من جنسه جاز؛ لأن المنع من أخذه، لحقه فجاز برضاه، كما لو دفع فرضين مكان فرض. فإذا دفع حقة عن بنت لبون، أو تبيعين مكان الجذعة جاز لذلك، ولأن التبيعين يجزئان عن الأربعين مع غيرها فلأن يجزئان عنها مفردة أولى. وقد روى أبو داود عن أبي بن كعب «أن رجلاً قدم على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا نبي الله أتاني رسولك ليأخذ مني صدقة مالي، فزعم أن ما علي فيه بنت مخاض، فعرضت عليه ناقة فتية سمينة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذاك الذي وجب عليك فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه وقبلناه منك فقال: ها هي ذه يا رسول الله، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقبضها، ودعا له بالبركة» .
فصل:
ولا تجزئ القيمة في شيء من الزكاة. وعنه: يجزئ لأن المقصود غنى الفقير بقدر المال. والأول المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر هذه الأعيان المنصوص عليها بياناً لما فرضه تعالى، فإخراج غيرها ترك للمفروض. وقوله: فإن لم تكن بنت مخاض، فابن(1/392)
لبون ذكر، يمنع إخراج ابن اللبون مع وجود ابنة المخاض، ويدل على أنه أراد العين دون المالية، فإن خمساً وعشرون لا تخلوا عن مالية ابنة المخاض، وإخراج القيمة يخالف ذلك، ويفضي إلى إخراج الفريضة مكان الأخرى من غير جبران، وهو خلاف النص، واتباع السنة أولى. وقد روي عن معاذ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما بعثه إلى اليمن قال: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة من البقر» رواه أبو داود.
[باب حكم الخلطة]
وهي ضربان:
خلطة أعيان: بأن يملكا مالاً مشاعاً يرثانه أو يشتريانه أو غير ذلك.
وخلطة أوصاف: وهو أن يكون مال كل واحد منهما متميزاً فخلطاه، ولم يتميزا في أوصاف نذكرها، وكلاهما يؤثر في جعل مالهما كمال الواحد في شيئين:
أحدهما: أن الواجب فيهما كالواجب في مال واحد؛ فإن بلغا معاً نصاباً ففيهما الزكاة، وإن زادا على النصاب لم يتغير الفرض حتى يبلغا فريضة ثانية. فلو كان لكل واحد منهما عشرون كان عليهما شاة، وإن كان لكل واحد منهما ستون، لم يجب أكثر من شاة، وإن كان لهما مال غير مختلط، تبع المختلط في الحكم فلو كان لكل واحد منهما ستون، فاختلط في أربعين لم يلزمهما إلا شاة في مالهما كله؛ لأن مال الواحد يضم بعضه إلى بعض في الملك، فتضم الأربعين المنفردة إلى العشرين المختلطة، فيلزم انضمامها إلى العشرين التي لخليطه، فيصير الجميع كمال واحد، ولو كان لرجل ستون، كل عشرين منها مختلطة بعشرين لآخر، فالواجب شاة واحدة، نصفها على صاحب الستين، ونصفها على الخلطاء، على كل واحد سدس شاة، لما ذكرناه، فإن كان لأحدهم شاة مفردة، لزمهم شاتان.
والثاني: أن الساعي أخذ الفرض من مال أيهما شاء، سواء دعت إليه حاجة لكون الفرض واحداً أو لم تدع إليه حاجة، بأن يجد فرض كل واحد منهما في ماله؛ لأن مالهما صار كالمال الواحد في الإيجاب، فكذلك في الإخراج، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» رواه البخاري. يعني: إذا أخذ الفرض من مال أحدهما. والأصل في الخلطة ما روى أنس في حديث الصدقات: «ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» . ولأن المالين صارا كالمال الواحد في المؤن، فكذلك في الزكاة.(1/393)
فصل:
ويعتبر في الخلطة شروط خمس:
أحدها: أن تكون في السائمة ولا تؤثر الخلطة في غيرها.
وعنه: تؤثر فيها خلطة الأعيان لعموم الخبر، ولأنه مال تجب فيه الزكاة فأثرت الخلطة فيه كالسائمة، ولنا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والخليطان ما اجتمعا على الحوض والراعي والفحل» رواه الدارقطني وهذا تفسير للخلطة المعتبرة شرعاً، فيجب تقديمه، ولأن الخلطة في السائمة أثرت في الضرر لتأثيرها في النفع، وفي غيرها لا تؤثر في النفع لعدم الوقص فيها، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» دليل على اختصاص ذلك بالسائمة التي تقل الصدقة بجمعها لأجل أوقاصها، بخلاف غيرها.
الثاني: أن يكون الخليطان من أهل الزكاة، فإن كان أحدهما مكاتباً أو ذمياً فلا أثر لخلطته؛ لأنه لا زكاة في ماله، فلم يكمل النصاب به.
الشرط الثالث: أن يختلطا في نصاب، فإن اختلطا فيما دونه، مثل أن يختلطا في ثلاثين شاة لم تؤثر الخلطة، سواء كان لهما مال سواه أو لم يكن؛ لأن المجتمع دون النصاب فلم تجب الزكاة فيه.
الشرط الرابع: أن يختلطا في ستة أشياء لا يتميز أحدهما عن صاحبه فيها وهي: المسرح، والمشرب، والمحلب، والمراح، والراعي، والفحل لما روى الدارقطني بإسناده عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة والخليطان ما اجتمعا في الحوض والفحل والراعي» نص على هذه الثلاثة، فنبه على سائرها، ولأنه إذا تميز كل مال بشيء مما ذكرناه لم يصيرا كالمال الواحد في المؤن ولا يشترط حلب المالين في إناء واحد؛ لأن ذلك ليس بمرفق بل ضرر، لاحتياجهما إلى قسمته.
الشرط الخامس: أن يختلطا في جميع الحول، فإن ثبت لهما حكم الانفراد في بعضه زكيا زكاة المنفردين فيه؛ لأن الخلطة، معنى يتعلق به إيجاب الزكاة فاعتبرت في جميع الحول كالنصاب، فإن كان مال كل واحد منهما منفرداً فخلطاه، زكياه في الحول الأول زكاة الانفراد، وفيما بعد زكاة الخلطة، فإن اتفق حولاهما مثل أن يملك كل واحد منهما أربعين في أول المحرم، وخلطاها في صفر، فإذا تم حولهما الأول أخرجا شاتين، فإذا تم الثاني فعليهما شاة واحدة. وإن اختلف حولاهما، فملك أحدهما أربعين في المحرم، والآخر أربعين في صفر، فخلطاها في ربيع، أخرجا شاتين للحول الأول، فإذا(1/394)
تم حول الأول والثاني فعليه نصف شاة، فإن أخرجا من غير النصاب فعلى الثاني عند تمام حوله نصف شاة، وإن أخرجها من النصاب فعلى الثاني من الشاة بقدر ماله من جميع المالين، فإذا كان ماله أربعين، ومال صاحب أربعون إلا نصف شاة، فعليه أربعون جزءاً من تسع وسبعين جزءاً ونصف من شاة، وإن ثبت لأحدهما حكم الانفراد دون صاحبه: نحو أن يملكا نصابين فخلطاهما، ثم باع أحدهما ماله أجنبياً، فعلى الأول شاة عند تمام حوله؛ لأنه ثبت له حكم الانفراد، فإذا تم حول الثاني فعليه زكاة الخلطة؛ لأنه لم يزل مخلطاً في جميع الحول.
فصل:
فإن كان بينهما نصابان مختلطان، فباع أحدهما غنمه بغنم صاحبه وأبقياه على الخلطة، لم ينقطع حولهما ولم تزل خلطتهما، وكذلك إن باع البعض بالبعض من غير إفراد، قل المبيع أو كثر، فأما إن أفرداها، ثم تبايعا ثم خلطاها، وطال زمان الإفراد بطل حكم الخلطة، وإن لم يطل ففيه وجهان:
أحدهما: لا ينقطع حكم الخلطة لأن هذا زمن يسير فعفي عنه.
والثاني: يبطل حكم الخلطة؛ لأنه قد وجد الانفراد في بعض الحول فيجب تغليبه، كالكثير وإن أفردا بعض النصاب وتبايعاه، وكان الباقي على الخلطة نصاباً، لم تنقطع الخلطة؛ لأنها باقية في نصاب، وإن بقي أقل من نصاب فحكمه حكم إفراد جميع المال.
وذكر القاضي: أن حكم الخلطة، ينقطع في جميع هذه المسائل ولا يصح؛ لأن الخلطة لم تزل في جميع الحول، والبيع لا يقطع حكم الحول في الزكاة فكذلك في الخلطة، ولو كان لكل واحد أربعون، مخالطة لمال آخر، فتبايعاها مختلطة، لم يبطل حكم الخلطة، وإن اشترى بالمخالطة، مفردة، أو بالمفردة مختلطة، انقطعت الخلطة، وزكى زكاة المنفرد؛ لأن زكاة المشتري تجب ببنائه على حول المبيع، وقد ثبت لأحدهما حكم الانفراد في بعض الحول فيجب تغليبه.
فصل:
[إذا كان لرجل نصاب، فباع نصفه مشاعاً في الحول] ، فقال أبو بكر: ينقطع حول الجميع؛ لأنه قد انقطع في النصف المبيع، فكأنه لم يجر في حول الزكاة أصلاً، فلزم انقطاعه في الباقي.(1/395)
وقال ابن حامد: لا ينقطع الحول فيما لم يبع؛ لأنه لم يزل مخالطاً لمال جار في حول الزكاة، وحدوث الخلطة لا يمنع ابتداء الحول، فلا يمنع استدامته، وهكذا لو كان النصاب لرجلين، فباع أحدهما نصيبه أجنبياً فعلى هذا إذا تم حول ما لم يبع ففيه حصته من الزكاة، فإن أخرجت منه نقص النصاب، فلم يلزم المشتري زكاة، وإن أخرجت من غيره، وقلنا الزكاة تتعلق بالعين، فلا شيء على المشتري أيضاً لأن تعلق الزكاة بالعين يمنع وجوب الزكاة.
وقال القاضي: لا يمنع، فعلى قوله: على المشتري زكاة حصته إذا تم حوله، وإن قلنا تتعلق بالذمة لم يمنع وجوب الزكاة على المشتري؛ لأن النصاب لم ينقص، فأما إن أفرد بعض النصاب وباعه، ثم خلطه المشتري بمال البائع، فقال ابن حامد: ينقطع حولهما، لثبوت حكم الانفراد لهما. وقال القاضي: يحتمل أن لا ينقطع حكم حول البائع؛ لأن هذا زمن يسير.
ولو كان لرجلين نصاب خلطة، فاشترى أحدهما نصيب صاحبه، أو ورثه، أو اتهبه في أثناء الحول فهذه عكس المسألة الأولى صورة ومثلها معنى؛ لأنه في الأولى كان خليط نفسه ثم صار خليط أجنبي، وههنا كان خليط أجنبي فصار خليط نفسه، والحكم فيها كالحكم في الأولى، لاشتراكهما في المعنى.
ولو استأجر أجيراً يرعى غنمه بشاة منها، فحال الحول ولم يفردها فهما خليطان، ولو أفردها فنقص النصاب فلا زكاة فيها، لنقصانها، وإن استأجره بشاة موصوفة صح وجرت مجرى الدين في منعها من الزكاة على ما مضى من الخلاف فيه.
فصل:
وذكر القاضي شرطاً سادساً وهو نية الخلطة؛ لأنه معنى يتغير به الفرض فافتقر إلى النية، كالسوم، والصحيح أنه لا يشترط؛ لأن النية لا تؤثر في الخلطة فلا تؤثر في حكمها؛ لأن المقصود بها الارتفاق بخفة المؤونة، وذلك يحصل في عدم النية.
فصل:
إذا أخذ الساعي الفرض من مال أحدهما رجع على خليطه بقدر حصته من المال، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» فإذا كان لأحدهما الثلث فأخذ الفرض من ماله، رجع على خليطه بقيمة ثلثيه، وإن أخذه من صاحبه، رجع صاحبه عليه بقيمة ثلثه، فإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرجوع عليه، إذا عدمت البينة؛ لأنه غارم فالقول كالغاصب، وإن أخذ الساعي أكثر من الواجب بغير(1/396)
تأويل، فأخذ مكان الشاة اثنتين، لم يرجع على صاحبه إلا بقدر الواجب؛ لأن الزيادة ظلم، فلا يرجع بها على غير ظالمه، وإن أخذه بتأويل فأخذ صحيحة كبيرة عن مراض صغار رجع على صاحبه؛ لأن ذلك إلى اجتهاد الإمام، فإذا أداه اجتهاده إلى أخذه وجب دفعه إليه، وكان بمنزلة الواجب، وإن أخذ القيمة رجع بالحصة منها لأنه مجتهد فيه.
فصل:
فإن كانت سائمة الرجل في بلدين لا يقصر بينهما الصلاة فهي كالمجتمعة وإن كان بينهما مسافة القصر فكذلك اختاره أبو الخطاب؛ لأنه مال واحد يضم إلى بعض، كغير السائمة، وكما لو تقارب البلدان، والمشهور عن أحمد: أن لكل مال حكم نفسه، لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة» ، ولا يختلف المذهب في سائر الأموال أنه يضم مال الواحد بعضه إلى بعض، تقاربت البلدان أو تباعدت، لعدم تأثير الخلطة فيها.
[باب زكاة الزرع والثمار]
وهي واجبة: بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر» أخرجه البخاري، وبالإجماع. ولا تجب إلا بخمسة شروط:
أحدها: أن يكون حباً أو ثمراً، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في حب أو ثمر حتى تبلغ خمسة أوسق» رواه مسلم. وهذا يدل على وجوب الزكاة في الحب والثمر وانتفائها عن غيرهما.
الشرط الثاني: أن يكون مكيلاً، لتقديره بالأوسق، وهي مكاييل، فيدل ذلك على اعتبارها.
الشرط الثالث: أن يكون مما يدخر؛ لأن جميع ما اتفق على زكاته مدخر، ولأن غير المدخر لا تكمل ماليته لعدم التمكن من الانتفاع به في المال. فتجب الزكاة في جميع الحبوب المكيلة، المقتات منها، والقطاني، والأبازير والبزور والقرطم، وحب القطن، ونحوها، وفي التمر، والزبيب، واللوز، والفستق، والعناب، لاجتماع هذه(1/397)
الأوصاف الثلاثة، [وقال ابن حامد: لا زكاة في الأبازير والبزور ونحوها] ، ولا تجب في الخضر كالقثاء، والبطيخ، والباذنجان، لعدم هذه الأوصاف فيها، وقد روى موسى بن طلحة أن معاذاً لم يأخذ من الخضر صدقة: ولا تجب في سائر الفواكه كالجوز، والتفاح، والإجاص، والكمثرى، والتين، لعدم الكيل فيها، وعدم الادخار في بعضها، وقد روى الأثرم بإسناده أن عامل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إليه في كروم فيها من الفرسك ما هو أكثر غلة من الكرم أضعافاً مضاعفة، فكتب إليه عمر: ليس عليها عشر هي من العضاه. والفرسك: الخوخ، ولا زكاة في الزيتون؛ لأنه لا يدخر، وعنه: فيه الزكاة لقول الله تعالى: {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] .
وقيل: لم يرد بهذه الآية الزكاة؛ لأنها مكية نزلت قبل وجوب الزكاة، ولهذا لم تجب الزكاة في الرمان. ولا زكاة في تين، ولا ورق، ولا زهر؛ لأنه ليس بحب ولا ثمر ولا مكيل.
وعنه في القطن والزعفران: زكاة لكثرته، وفي الورس والعصفر وجهان. بناء على الزعفران.
وقال أبو الخطاب: تجب الزكاة في الصعتر، والأشنان؛ لأنه مكيل مدخر والأول أولى؛ لأنه ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص.
فصل:
الشرط الرابع: أن ينبت بإنبات الآدمي في أرضه، فأما النابت بنفسه، كبزر قطونا والبطم وحب الأشنان والثمام، فلا زكاة فيه. ذكره ابن حامد؛ لأنه إنما يملك بحيازته. والزكاة إنما تجب ببدو الصلاح، ولم يكن ملكاً له حينئذ، فلم تجب زكاته، كما لو اتهبه. وقال [القاضي] : فيه الزكاة، لاجتماع الأوصاف الأول فيه. وما يلتقطه اللقاطون من السنبل لا زكاة فيه. نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: هو بمنزلة المباحات ليس فيه صدقة. وما يأخذه الإنسان أجرة لحصاده، أو يوهب له لا زكاة عليه(1/398)
فيه، لما ذكرنا. ومن استأجر أرضاً، أو استعارها فالزكاة عليه فيما زرع؛ لأن الزرع ونفع الأرض له دون المالك. ومن زرع في أرض موقوفة عليه، فعليه العشر؛ لأن الزرع طلق غير موقوف. فإن كان الوقف للمساكين فلا عشر فيه؛ لأنه ليس لواحد معين إنما يملك المسكين ما يعطاه منه، فلم يلزمه عشره، كما لو أخذ عشر الزرع غيره.
فصل: [في نصاب الزروع] الشرط الخامس: أن يبلغ نصاباً قدر خمسة أوسق، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيها دون خمسة أوسق صدقة» متفق عليه. والوسق: ستون صاعاً لما روى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الوسق ستون صاعاً» رواه أبو داود. والصاع خمس أرطال وثلث، والمجموع ثلاثمائة صاع، وهي ألف وستمائة رطل بالعراقي، والرطل مائة وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع، وهو بالرطل الدمشقي المقدر بستمائة درهم، ثلاثمائة رطل واحد وأربعون رطلاً وستة أسباع رطل. والأوساق مكيلة، وإنما نقل إلى الوزن ليحفظ وينقل. قال أحمد: وزنته، يعني الصاع، فوجدته خمسة أرطال وثلثاً حنطة، وهذا يدل على أن قدره ذلك من الحبوب الثقيلة. فإن كان ما وجبت فيه الزكاة موزوناً كالقطن والزعفران اعتبر بالوزن؛ لأنه موزون ذكره القاضي. وحكي عنه أنه قال: إذا بلغت قيمته قيمة خمسة أوسق من أدنى ما تخرجه الأرض ففيه الزكاة، فإن كان الحب [قيمته قيمة خمسة أوسق] مما يدخر في قشره كالأرز، فإنه علم أنه يخرج عن النصف، فنصابه عشرة أوسق مع قشره، وإن لم يعلم ذلك، أو شك في بلوغ النصاب، خير بين أن يستنظر ويخرج عشره قبل قشره وبين قشره واعتباره بنفسه. والعلس: نوع من الحنطة، يزعم أهله أنه إذا خرج من قشره لا يبقى بقاء الحنطة، ويزعمون أنه يخرج عن النصف، فنصابه عشرة أوسق مع قشره، ويعتبر أنه يبلغ النصاب من الحب مصفى، ومن الثمار يابساً.
وعنه: يعتبر النصاب في الثمرة رطباً ثم يخرج منه قدر عشر رطبه ثمراً، ولا يصح؛ لأنه إيجاب لزيادة على العشر، والنص يرد ذلك.
فصل:
وتضم أنواع الجنس بعضها إلى بعض ليكمل النصاب، كما ذكرنا في الماشية، فيضم العلس إلى الحنطة، والسلت إلى الشعير؛ لأنهما نوعا جنس واحد، ويضم زرع(1/399)
العام الواحد بعضه إلى بعض، سواء اتفق وقت إطلاعه وإدراكه أو اختلف، فيقدم بعضه على بعض ويضم الصيفي إلى الربيعي. ولو حصدت الذرة ثم نبتت مرة أخرى يضم أحدهما إلى الآخر لأنه زرع عام واحد فضم بعضه إلى بعض كالمتقارب. ويضم ثمرة العام الواحد بعضها إلى بعض لذلك. فإن كان له نخل يحمل حملين في العام، ضم أحدهما إلى الآخر كالزرع. وقال القاضي في موضع: لا يضم الحمل الثاني إلى شيء. والأول أولى.
فصل:
ولا يضم جنس إلى غيره؛ لأنهما جنسان مختلفان، فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالماشية.
وعنه: تضم كل الحبوب بعضها إلى بعض، اختارها أبو بكر لأنها تتفق في قدر النصاب، والمخرج، والمنبت، والحصاد، أشبهت أنواع الجنس.
وعنه: تضم الحنطة إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض، اختاره الخرقي والقاضي؛ لأنها تتقارب في المنفعة فأشبهت نوعي الجنس. وهذا ينتقض بالتمر والزبيب، لا يضم أحدهما إلى الآخر مع ما ذكروه.
فصل:
وقدر الزكاة: العشر فيما سقي بغير كلفة، كماء السماء والعيون والأنهار، ونصف العشر فيما سقي بكلفة كالدوالي والنواضح ونحوها للحديث الذي في أول الباب، ولأن للكلفة تأثيراً في تقليل النماء، فيؤثر على الزكاة كالعلف في الماشية، فإن سقي نصف السنة بكلفة، ونصفها بما لا كلفة فيه، ففيه ثلاث أرباع العشر، وإن سقي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر بالأكثر؛ لأن اعتبار السقي في عدد مراته، وقدر ما يشرب في كل مرة يشق ويتعذر، فاعتبر بالأكثر، كالسوم. وقال ابن حامد: يجب بالقسط لأن ما وجب فيه بالقسط عند التماثل، ويجب عند التفاضل كزكاة الفطر عن العبد المشترك. وإن جهل المقدار غلبنا إيجاب العشر، نص عليه لأنه الأصل. وإن اختلف الساعي ورب المال في قدر شربه، فالقول قول رب المال من غير يمين؛ لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، فإن كان له حائطان، فسقى أحدهما بمؤنة، والآخر بغير مؤنة، ضم أحدهما إلى الآخر في كمال النصاب، وأخذ من كل واحدة فرضه، ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه، قل أو كثر؛ لأنه يتجزأ فوجب فيه بحسابه كالأثمان.(1/400)
فصل:
وإذا بدا الصلاح في الثمار واشتد الحب وجبت الزكاة؛ لأنه حينئذ يقصد للأكل والاقتيات به، فأشبه اليابس، وقيل: لا يقصد لذلك، فهو كالرطبة. فإن تلف قبل ذلك، أو أتلفه فلا شيء فيه؛ لأنه تلف قبل الوجوب، فأشبه ما لو أتلف السائمة قبل الحول، إلا أن يقصد بإتلافها الفرار من زكاتها فتجب عليه لما ذكرنا، وإن تلف بعد وجوبها، وقبل حفظها في بيدرها وجرينها بغير تفريط، فلا ضمان عليه، سواء خرصت أو لم تخرص؛ لأنها في حكم ما لم تثبت اليد عليه. ولو تلف بجائحة رجع بها المشتري على البائع. وإن أتلفها أو فرط فيها ضمن نصيب الفقراء بالخرص، أو بمثل نصيبهم. وإن أتلفها أجنبي ضمن نصيب الفقراء بالقيمة؛ لأن رب المال عليه تخفيف هذا بخلاف الأجنبي. والقول في تلفها وقدرها والتفريط فيها، قول رب المال؛ لأنه خالص حق الله تعالى، فلا يستحلف فيه كالحد، وإن تلف بعد جعلها في الجرين فحكمها حكم تلف السائمة بعد الحول.
فصل:
ويستحب الإمام أن يبعث من يخرص الثمار حين بدو الصلاح، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه» . رواه أبو داود. وعن عتاب بن أسيد قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نخرص العنب كما نخرص النخل. فيؤخذ زكاته زبيباً كما تؤخذ زكاة النخل تمراً» . رواه أبو داود. ويجزئ خارص واحد لحديث عائشة، ولأنه يفعل ما يؤديه إليه اجتهاده، فجاز أن يكون واحداً كالحاكم.
ويعتبر أن يكون مسلماً أميناً غير متهم ذا خبرة، فإن كانت الثمرة أنواعاً خرص كل نوع على حدته؛ لأن الأنواع تختلف، منها ما يكثر رطبه ويقل يابسه، ومنها خلاف ذلك، فإن كانت نوعاً واحداً خير بين خرص كل شجرة منفردة، وبين خرص الجميع دفعة واحدة، ثم يعرف المالك قدر الزكاة، ويخيره بين حفظها إلى الجذاذ، وبين التصرف فيها وضمان حق الفقراء فإن اختار حفظها فعليه زكاة ما يؤخذون منها قل أو كثر؛ لأن الفقراء شركاؤه، فليس عليه أكثر من حقهم منها، وإن اختار التصرف ضمن حصة الفقراء بالخرص، فإن ادعى غلط الساعي في الخرص، دعوى محتملة، فالقول قوله بغير يمين، وإن ادعى غلطاً كثيراً لا يحتمل مثله لم يلتفت إليه لأنه يعلم كذبه، فإن اختار التصرف فلم يتصرف، أو تلفت فهو كما لو لم يخير؛ لأن الزكاة أمانة فلا تصير مضمونة في الشرط كالوديعة.(1/401)
فصل:
ويخرص الرطب والعنب، لحديث عتاب، ولأن الحاجة داعية إلى أكلهما رطبين، وخرصهما ممكن لظهور ثمرتهما، واجتماعها في أفنانها وعناقيدها، ولم يسمع بالخرص من غيرهما، ولا هو في معناهما؛ لأن الزيتون ونحوه حبه متفرق في شجره مستتر بورقه.
فصل:
وعلى الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع توسعة على رب المال، لحاجته إلى الأكل منها والإطعام، ولأنها قد يتساقط منها وينتابها الطير والمارة، وقد روى سهل بن أبي حثمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا أو تجدوا الثلث فدعوا الربع» رواه أبو داود. وعن مكحول قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث الخراص قال: خففوا عن الناس فإن في المال العرية والواطئة والأكلة» رواه أبو عبيد. فالعرية: النخلات يهب رب المال ثمرتها لإنسان، والواطئة: السابلة، والأكلة: أرباب الأموال ومن تعلق بهم. فإن لم يترك الخارص شيئاً فلهم الأكل بقدر ذلك، ولا يحتسب عليهم، وإن لم يخرص عليهم، فأخرج رب المال خارصاً فخرص، وترك قدر ذلك، جاز. ولهم أكل الفريك من الزرع ونحوه، مما جرت العادة بمثله، ولا يحتسب عليهم.
فصل:
وإذا احتيج إلى قطع الثمرة قبل كمالها، لخوف العطش أو غيره، أو لتحسين بقية الثمرة جاز قطعها؛ لأن العشر وجب مواساة، فلا يكلف منه ما يهلك أصل المال، ولأن حفظ الأصل أحظ للفقراء من حفظ [الثمرة، لتكرر حقهم فيها كما هو أحظ للمالك. فإن كفى التجفيف لم يجز قطعها] ، فإن لم يكف جاز قطعها كلها، وإن كانت الثمرة عنباً، لا يجيء منه زبيب، أو زبيبه رديء كالخمري، أو رطب لا يجيء منه تمر جاز كالبربنا قطعه.
قال أبو بكر: وعليه قدر الزكاة في جميع ذلك يابساً، وذكر أن أحمد نص عليه.
وقال القاضي: لا يلزمه ذلك لأن الفقراء شركاؤه فلم يلزمه مواساتهم بغير جنس ماله. ويتخير الساعي بين مقاسمة رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص، ويأخذ نصيبهم(1/402)
شجرات منفردة، وبين مقاسمة الثمرة بعد جذها بالكيل، ويقسم الثمرة في الفقراء، وبين بيعها للمالك أو لغيره قبل الجذاذ وبعده، ويقسم ثمنها في الفقراء، فإن أتلفها رب المال فعليه قيمتها؛ لأنه لا يلزمه تجفيفها، فأشبه الأجنبي.
فصل:
وما عدا ذلك لا يجوز إخراج الواجب من ثمرته إلا يابساً، ومن الحبوب إلا مصفى؛ لأنه وقت الكمال وحالة الادخار، فإن كان نوعاً واحداً أخرج عشره منه، جيداً كان أو رديئاً؛ لأن الفقراء بمنزلة الشركاء فيه. وإن كان أنواعاً أخرج من كل نوع حصته كذلك، ولا يجوز إخراج الرديء عن الجيد، ولا يلزم إخراج الجيد عن الرديء، لما ذكرنا، ولا مشقة في هذا؛ لأنه لا يحتاج إلى تشقيص.
وقال أبو الخطاب: إن شق ذلك لكثرة الأنواع واختلافها، أخذ من الوسط، وإن أخرج رب المال الجيد عن الرديء جاز، وله ثواب الفضل لما ذكرنا في السائمة.
فصل:
فأما الزيتون فإن لم يكن ذا زيت أخرج عشر حبه، وإن كان ذا زيت فأخرج من حبه جاز كسائر الحبوب، وإن أخرج زيتاً كان أفضل لأنه يكفي الفقراء مؤنته، ويخرجه في حال الكمال والادخار.
فصل:
ويجوز لرب المال بيعه بعد وجوب زكاته؛ لأن الزكاة إذا كانت في ذمته لم يمنع التصرف في ماله كالدين، وإن تعلقت بالمال، لكنه تعلق ثبت بغير اختياره، فلم يمنع التصرف فيه كأرش الجناية، فإن باعه فزكاته عليه دون المشتري ويلزمه إخراجها كما تلزمه لو لم يبعه.
فصل:
ويجتمع العشر والخراج في كل أرض فتحت عنوة، الخراج في رقبتها والعشر في غلتها؛ لأن الخراج مؤنة الأرض فهو كالأجرة في الإجارة، ولأنهما حقان يحيان لمستحقين، فيجتمعان كالكفارة، والقيمة في الصيد المملوك على المحرم.
وقال الخرقي: يؤدي الخراج ثم يزكي ما بقي؛ لأن الخراج دين من مؤنة الأرض، فأشبه ما استدانه لينفقه على زرعه. وقد ذكرنا فيما استدانه رواية أخرى: أنه لا يحتسب به فكذلك يخرج ههنا.(1/403)
فصل:
ويجوز لأهل الذمة شراء الأرض العشرية، ولا عشر عليهم في الخارج منها؛ لأنهم من غير أهل الزكاة، فأشبه ما لو اشتروا سائمة. ويكره بيعها لهم لئلا يفضي إلى إسقاط الزكاة.
وعنه: يمنعون شراءها لذلك، اختاره الخلال وصاحبه، فعلى هذا إن اشتروها، ضوعف العشر عليهم، كما لو اتجروا إلى غير بلدانهم ضوعف عليهم ما يؤخذ من المسلمين.
فصل:
وفي العسل العشر، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخذ في زمانه من قرب العسل، من كل عشر قرب قربة من أوسطها» . رواه أبو عبيد. وعن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في العسل في كل عشر قرب قربة» رواه أبو داود والترمذي. وقال الترمذي: في إسناده مقال، ولا يصح في هذا الباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبير شيء. ومقتضى هذا أن يكون نصابه عشر قرب، والقربة مائة رطل. كذلك ذكره العلماء في تقرير القرب التي قدروا بها في القلتين. وقال أصحابنا: نصابه عشر أفراق؛ لأن الزهري قال: في عشرة أفراق فرق، ثم اختلفوا، فقال ابن حامد والقاضي في المجرد: الفرق ستون رطلاً، وحكي عن القاضي أنه قال: الفرق ستة وثلاثون رطلاً، والمشهور عند أهل العربية الفرق الذي هو ثلاثة آصع، هو ستة عشر رطلاً.
[باب زكاة الذهب]
والفضة وهي واجبة لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ، ولما نذكره من النصوص، ولأنهما معدان للنماء، فأشبها السائمة، ولا زكاة إلا في نصاب، ونصاب الورق مائتا درهم، ونصاب الذهب، عشرون مثقالاً؛ لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في أقل من عشرين مثقالاً من الذهب، ولا أقل من مائتي درهم صدقة» رواه أبو عبيد. والاعتبار بدراهم الإسلام، التي وزن كل عشر منها سبعة مثاقيل بغير خلاف فإن نقص النصاب كثيراً فلا زكاة فيه للحديث، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أواق صدقة» . والأوقية أربعون درهماً، وإن كان يسيراً كالحبة والحبتين فظاهر كلام الخرقي لا(1/404)
زكاة فيه للخبر؛ وقال غيره من أصحابنا: فيه الزكاة؛ لأن هذا لا يضبط، فهو كنقص الحول ساعة أو ساعتين. ولا يضم الذهب إلى الفضة في إكمال النصاب؛ لأنهما جنسان. اختارها أبو بكر، وفرق بينها وبين الحبوب لاختلاف نصابهما واتفاق نصاب الحبوب. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه يضم؛ لأن مقاصدها متفقة، فهما كنوعي الجنس، ويضم أحدهما إلى الآخر بالأجزاء فيحسب كل واحد من نصابه، ثم يضم إلى صاحبه؛ لأن الزكاة تتعلق بأعيانها فلا تعتبر قيمتها كسائر الأموال.
وعنه: تضم بالقيمة إن كان ذلك أحظ للفقراء فيقوم الأعلى منهما بالآخر، فإذا ملك مائة درهم وتسعة دنانير، قيمتها مائة درهم، وجبت زكاتها، مراعاة للفقراء، ويجب في الزائد على النصاب بحسابه؛ لأنه يتجزأ من غير ضرر فأشبه الحبوب.
فصل:
والواجب فيها ربع العشر. لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» رواه البخاري. والرقة: الدراهم المضروبة، فيجب في المائتين خمسة دراهم وفي العشرين مثقال، نصف مثقال ويخرج عن كل واحد من الرديء والجيد، وعن كل نوع من جنسه، إلا أن يشق ذلك لكثرة الأنواع واختلافها فيؤخذ من الوسط لما ذكرنا في الماشية، وإن أخرج الجيد عن الرديء كان أفضل، فإن أخرج رديئاً عن جيد زاد بقدر ما بينهما من الفضل؛ لأنه لا ربا بين العبد وسيده.
وقال القاضي: هذا في المكسرة عن الصحيحة، أما المبهرجة فلا يجزئه، بل يلزمه إخراج جيده، ولا يرجع فيما أخرج لله تعالى، وفي إخراج أحد النقدين عن الآخر روايتان. بناء على ضم أحدهما إلى الآخر. ومن ملك مغشوشاً منهما فلا زكاة فيه حتى يبلغ قدر الذهب والفضة نصاباً، فإن شك في بلوغه، خير بين سبكه ليعرف، وبين أن يستظهر ويخرج، ليسقط الفرض بيقين.
فصل:
ولا زكاة في الجواهر واللآلئ؛ لأنها معدة للاستعمال، فأشبهت ثياب البذلة، وعوامل الماشية، وأما الفلوس فهي كعروض التجارة تجب فيها زكاة القيمة.
فصل:
ومن ملك مصوغاً من الذهب أو الفضة محرماً كالأواني، وما يتخذه الرجل لنفسه من الطوق ونحوه، وخاتم الذهب وحلية المصحف والدواة والمحبرة والمقلمة والسرج(1/405)
واللجام وتازير المسجد، ففي الزكاة؛ لأن هذا فعل محرم فلم يخرج به عن أصله. فإن كان مباحاً كحلية النساء المعتادة من الذهب والفضة، وخاتم الرجل من الفضة، وحلية سيفه وحمائله ومنطقته، وجوشنه وخوذته وخفه ورانه من الفضة وكان معداً للتجارة، أو نفقة أو كراء بيت؛ ففيه الزكاة؛ لأنه معد للنماء، فهو كالمضروب، وإن أعد للبس والعارية، فلا زكاة فيه، لما روى جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في الحلي زكاة» ولأنه مصروف عن جهة النماء إلى استعمال مباح فلم تجب فيه زكاته كثياب البذلة. وحكى ابن أبي موسى عنه أن فيه الزكاة، لعموم الأخبار.
فصل:
ولا فرق بين كثير الحلي وقليله لعدم ورود الشرع بتحديده. وقال ابن حامد: إن بلغ حلي المرأة ألف مثقال فهو محرم وفيه الزكاة؛ لأن جابراً قال: إن ذلك لكثير. ولأنه سرف لم تجز العادة به، فأشبه ما لو اتخذت حلي الرجال.
فصل:
فإن انكسر الحلي كسراً لا يمنع اللبس فهو كالصحيح، إلا أن ينوي ترك لبسه، وإن كان كسراً يمنع الاستعمال، ففيه الزكاة لأنه صار كالنقرة. ولو نوى بحلي اللبس التجار والكرى انعقد عليه حول الزكاة من حين نوى؛ لأن الوجوب الأصل فانصرف إليه بمجرد النية، كما لو نوى بمال التجارة القنية.
فصل:
ويعتبر النصاب في المصوغ بالوزن لعموم الخبر، فإن كانت قيمته أكثر من وزنه لصناعة محرمة فلا عبرة بزيادة القيمة؛ لأنها معدومة شرعاً، وإن كانت مباحة كحلي التجارة فعليه قدر ربع عشره في زنته وقيمته؛ لأن زيادة القيمة ها هنا بغير محرم، فأشبه زيادة قيمته لنفاسة جوهره، فإن أخرج ربع عشره مشاعاً جاز، وإن دفع قدر ربع عشره وزاد في الوزن بحيث يستويان في القيمة جاز؛ لأن الربا لا يجري ها هنا، وإن أراد كسره، ودفع ربع عشره مكسوراً لم يجز؛ لأنه ينقص قيمته، وإن كان في الحلي جواهر ولآلئ وكان للتجارة قوم جميعه، وإن كان لغيرها فلا زكاة فيها؛ لأنها لا زكاة فيها منفردة فكذلك مع غيرها.
[باب زكاة المعدن]
وهو ما استخرج من الأرض مما خلق فيها من غير جنسها كالذهب والفضة(1/406)
والحديد والنحاس والزبرجد والبلور والعقيق والكحل والمغرة وأشباهها، والقار والنفط والكبريت ونحوه، فتجب فيه الزكاة، لقول الله تعالى: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] . وروى الجوزجاني بإسناده عن بلال بن الحارث المزني: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ من معادن القبلية الصدقة» . وقدرها ربع العشر؛ لأنها زكاة في الأثمان، فأشبهت زكاة سائر الأثمان، أو تتعلق بالقيمة أشبهت زكاة التجارة، ولا يعتبر لها حول؛ لأنه يراد لتكامل النماء، وبالوجود يصل إلى النماء فلم يعتبر له حول كالعشر. ويشترط له النصاب وهو مائتا درهم من الورق، أو عشرون مثقالاً من الذهب، أو ما قيمته ذلك من غيرهما، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ولأنها زكاة تتعلق بالأثمان أو بالقيمة فاعتبر لها النصاب كالأثمان أو العروض. ويعتبر إخراج النصاب متوالياً، فإن ترك العمل ليلاً أو نهاراً للراحة، أو لإصلاح الأداة، أو لمرض أو إباق عبد فهو كالمتصل؛ لأن ذلك العادة. وإن خرج بين النيلين تراب لا شيء فيه فاشتغل به فهو مستديم للعمل، وإن تركه ترك إهمال فلكل دفعة حكم نفسها. قال القاضي: ويعتبر النصاب في كل جنس منفرداً، والأولى ضم الأجناس إلى المعدن الواحد في تكميل النصاب؛ لأنها تتعلق بالقيمة فيضم، وإن اختلفت الأنواع، كالعروض. ولا يحتسب بما أنفق على المعدن في إخراجه وتصفيته؛ لأنه كمؤن الحصاد والزراعة. ولا تجب على من ليس من أهل الزكاة؛ لأنه زكاة. ويمنع الدين وجوبه، كما يمنع في الأثمان. وتجب في الزائد على النصاب بحسابه؛ لأنه مما يتجزأ، ويخرج زكاته من قيمته كما يخرج من قيمة العروض.
فصل:
فأما الخارج من البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ففيه روايتان:
إحداهما: لا شيء فيه؛ لأن ابن عباس قال: لا شيء في العنبر إنما هو شيء ألقاه البحر، ولأنه قد كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفائه فلم يسبق فيه سنة.
والثانية: فيه زكاة؛ لأنه معدن أشبه معدن البر. ولا شيء في السمك؛ لأنه صيد فهو كصيد البر.
وعنه: فيه الزكاة قياساً على العنبر.
فصل:
ويجوز بيع تراب معادن الأثمان بغير جنسه، ولا يجوز بجنسه لإفضائه إلى الربا،(1/407)
وزكاته على البائع؛ لأن رجلاً باع معدناً، ثم أتى علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخبره، فأخذ زكاته منه. ولأنه باع ما وجبت عليه زكاته فكانت عليه، كبائع الحب بعد صلاحه. وتتعلق الزكاة بالمعدن بظهوره، كتعلقها بالثمرة بصلاحها، ولا يخرج منه إلا بعد السبك والتصفية كالحب والثمر.
[باب حكم الركاز]
وهو مال الكفار المدفون في الأرض، وفيه الخمس، لما روى أبو هريرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «وفي الركاز الخمس» متفق عليه. ولأنه مال كافر مظهور عليه بالإسلام فوجب فيه الخمس كالغنيمة، ويجب الخمس في قليله وكثيره من أي نوع كان من غير حول لذلك. ويجب على كل واجد له من أهل الزكاة وغيرهم لذلك. ومصرفه مصرف الفيء لذلك، ولأنه روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رد بعض خمس الركاز على واجده، ولا يجوز ذلك في الزكاة.
وعنه: أنه زكاة مصرفه مصرفها، اختارها الخرقي. لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمر واجد الركاز أن يتصدق به على المساكين، ولأنه حق تعلق بمستفاد من الأرض فأشبه صدقة المعدن والعشر. وفي جواز رده على واجده وجهان لما ذكرنا من الروايتين، ويجوز لواجده أن يفرق الخمس بنفسه، نص عليه واحتج بحديث علي، ولأنه أوصل الحق إلى مستحقه فبرئ منه، كما لو فرق الزكاة.
فصل:
والركاز: ما دفنه الجاهلية، ويعتبر ذلك برؤية علاماتهم عليه، كأسماء ملوكهم وصورهم وصلبهم؛ لأن الأصل أنه لهم، فأما ما عليه علامات المسلمين كأسمائهم أو قرآن ونحوه فهو لقطة؛ لأنه ملك مسلم لم يعلم زواله عنه، وكذلك إن كان على بعضه علامة الإسلام وعلى بعضه علامة الكفار؛ لأن الظاهر أنه صار لمسلم فدفنه، وما لا علامة عليه فهو لقطة تغليباً لحكم الإسلام.
فصل:
ولا يخلو الركاز من أربعة أحوال:
أحدها: أن يجده في موات فهو لواجده.
الثاني: وجده في ملك آدمي معصوم، ففيه روايتان:(1/408)
إحداهما: يملكه واجده؛ لأنه لا يملك بملك الأرض إذ ليس هو من أجزائها، وإنما هو مودع فيها، فجرى مجرى الصيد والكلأ، يملكه من ظفر به كالمباحات كلها، وإن ادعاه صاحب الأرض فهو له مع يمينه، لثبوت يده على محله.
والثانية: هو لصاحب الأرض إن اعترف به، وإن لم يعترف به، فهو لأول مالك؛ لأنه في ملكه، فكان له كحيطانه، فإن كان الملك موروثاً فهو للورثة، إلا أن يعترفوا أنه لم يكن لمورثهم فيكون لمن قبله، فإن اعترف به [بعضهم دون بعض فللمعترف به نصيبه وباقيه لمن قبله] .
الثالث: وجده في ملك انتقل إليه فهو له بالظهور عليه، وإن قلنا: لا يملك به فهو للمالك قبله إن اعترف به، وإلا فهو لأول مالك.
الرابع: وجده في أرض الحرب وقدر عليه بنفسه فهو له؛ لأن مالك الأرض لا حرمة له فأشبه الموات وإن لم يقدر عليه إلا بجماعة المسلمين فهو غنيمة؛ لأن قوتهم أوصلته إليه وإن وجد في ملك انتقل إليه ما عليه علامة الإسلام، فادعاه من انتقل عنه ففيه روايتان:
إحداهما: يدفع إليه من غير تعريف ولا صفة؛ لأنه كان تحت يده فالظاهر أنه ملكه، كما لو لم ينتقل عنه.
والثانية: لا يدفع إليه إلا بصفة؛ لأن الظاهر أنه لو كان له لعرفه. وإن اكترى داراً فظهر فيها دفين، فادعى كل واحد من المالك والمكتري أنه دفنه ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول المالك؛ لأن الدفين تابع للأرض.
والثاني: القول قول المكتري؛ لأنه مودع في الأرض وليس منها، فكان القول قول من يده عليه كالقماش.
فصل:
وإذا استأجر أجيراً ليحفر له طالباً لكنز فوجد كنزاً فهو للمستأجر؛ لأنه استأجره لذلك، فأشبه ما لو استأجره ليحتش له، وإن استأجره لغير ذلك فوجد كنزاً فهو للأجير؛ لأنه غير مقصود بالإجارة. فكان للظاهر عليه كما لو استأجره ليحتمل له فوجد صيداً.
[باب زكاة التجارة]
وهي واجبة، روى سمرة بن جندب قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا أن نخرج(1/409)
الصدقة مما نعده للبيع» . رواه أبو داود. ولأنه مال نام فتعلقت به الزكاة كالسائمة، ولا تجب إلا بشروط أربعة:
أحدهما: نية التجارة، لقوله: مما نعده للبيع، ولأن العروض مخلوقة في الأصل للاستعمال فلا تصير للتجارة إلا بنيتها، كما أن ما خلق للتجارة وهي الأثمان لا تصير للقنية إلا بنيتها. ويعتبر وجودها في جميع الحول؛ لأنها شرط أمكن اعتباره في جميع الحول فاعتبر فيه كالنصاب.
الثاني: أن يملك العروض بفعله كالشراء ونحوه بنية التجارة.
وعنه: تصير للتجارة بمجرد النية، اختاره أبو بكر، وابن عقيل للخبر، ولأنه يصير للقنية بمجرد النية، فلأن يصير للتجارة بذلك أولى. وظاهر المذهب الأول؛ لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله لا يصير لها بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى بها الإسامة، وفارق نية القنية؛ لأنها الأصل فكفى فيها مجرد النية كالإقامة مع السفر، فعلى هذا إن لم ينو عند التملك ونوى بعده لم تجب الزكاة فيه؛ لأنه نية مجردة، ولو نوى بتملكه أنه للتجارة، ثم نواه للقنية صار للقنية؛ لأنها الأصل، وإن نوى بعد للتجارة لم يصر لها حتى يبيعه.
الشرط الثالث: أن يبلغ قيمته نصاباً من أقل الثمنين قيمة، فإذا بلغ أحدهما نصاباً دون الآخر قومه به، ولا يعتبر ما اشتراه به؛ لأن تقويمه لحظ الفقراء فيعتبر ما لهم الحظ فيه، ولو كان أثماناً قومه كالسلع؛ لأنه وجد فيه معنيان يقتضيان الإيجاب فيعتبر ما يتعلق به الإيجاب كالسوم والتجارة، فإن بلغ نصاباً من كل واحد منهما قومه بما هو أحظ للفقراء، فإن استويا قومه بما شاء منهما.
الشرط الرابع: الحول لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ويعتبر وجوب النصاب في جميع الحول؛ لأن ما اعتبر له الحول والنصاب اعتبر وجوده في جميعه كالأثمان.
ولو اشترى للتجارة عرضاً لا يبلغ نصاباً، ثم بلغه، انعقد الحول عليه من حين صار نصاباً. وإن ملك نصاباً فنقص انقطع الحول، فإن عاد فنما فبلغ النصاب استأنف الحول على ما ذكرنا في السائمة والأثمان.
وإن ملك نصاباً في أوقات فلكل نصاب حول، ولا يضم نصاب إلى نصاب؛ لأن المستفاد يعتبر له حول أصله على ما أسلفناه، وإن لم يكمل الأول إلا بالثاني فحولهما منذ ملك الثاني، وإن لم يكمل إلا بالثالث فحول الجميع من حين كمل النصاب.(1/410)
فصل:
ولا يشترط أن يملك العرض بعوض. ذكره ابن عقيل وأبو الخطاب، وقال القاضي: يشترط أن يملكه بعوض كالبيع والخلع والنكاح، فإن ملكه بهبة أو احتشاش أو غنيمة لم يصر للتجارة؛ لأنه ملك بغير عوض أشبه الموروث. ولنا: أنه ملكه بفعله أشبه المملوك بالبيع، وفارق الإرث؛ لأنه بغير فعله فجرى مجرى الاستدامة.
فصل:
وإذا اشترى نصاباً للتجارة بآخر لم ينقطع الحول؛ لأن الزكاة تتعلق بالقيمة، والقيمة فيها واحدة انتقلت من سلعة إلى سلعة، فهي كدراهم نقلت من بيت إلى بيت، وإن اشتراه بأثمان لم ينقطع الحول؛ لأن القيمة في الأثمان كانت ظاهرة فاستترت في السلعة، وكذلك لو باع نصاب التجارة بنصاب الأثمان لم ينقطع الحول لذلك، وإن اشترى نصاباً للتجارة بعرض للقنية، أو بما دون نصاب من الأثمان أو عرض التجارة، انعقد الحول من حين الشراء؛ لأن ما اشترى به لم يجر في حول الزكاة فلم يبن عليه، ولو اشترى نصاباً للتجارة بنصاب سائمة، أو سائمة بنصاب تجارة، انقطع الحول؛ لأنهما مختلفان، فإن كان نصاب التجارة سائمة فاشترى به نصاب سائمة للقنية لم ينقطع الحول. لأن السوم سبب للزكاة إنما قدم عليه زكاة التجارة لقوته، فإذا زال المعارض ثبت حكم السوم لظهوره.
فصل:
وإذا ملك للتجارة سائمة فحال الحول، والسوم ونية التجارة موجودان فبلغ المال نصاب أحدهما دون الآخر كخمس من الإبل لا تبلغ قيمتها مائتي درهم، أو أربع تبلغ ذلك، وجب زكاة ما وجد نصابه، لوجود سببها خالياً عن معارض لها، وإن وجد نصابهما كخمس قيمتها مائتا درهم، وجبت زكاة التجارة وحدها؛ لأنها أحظ للفقراء لزيادتها بزيادة القيمة من غير وقص. وسواء تم حولهما جميعاً، أو تقدم أحدهما صاحبه لذلك. وإن اشترى أرضاً أو نخلاً للتجارة فأثمرت النخل وزرعت الأرض فكذلك في أحد الوجهين، وفي الآخر يزكي الثمرة والزرع زكاة العشر، ثم يقوم النخل والأرض فيزكيهما؛ لأن ذلك أحظ للفقراء لكثرة الواجب وزيادة نفعه.
فصل:
وتقوم السلعة عند الحول بما فيها من نماء وربح؛ لأن الربح من نمائها فكان حولها كسخال السائمة، وما نما بعد الحول ضم إليه في الحول الثاني؛ لأنه إنما وجد فيه،(1/411)
ويكمل نصاب التجارة بالأثمان؛ لأن زكاة التجارة تتعلق بالقيمة فهما جنس واحد وتخرج الزكاة من قيمة العروض لا من أعيانها؛ لأن زكاتها تتعلق بالقيمة لا بالأعيان، وما اعتبر النصاب فيه وجبت الزكاة منه كسائر الأموال. وقدر زكاته ربع العشر؛ لأنها تتعلق بالقيمة فأشبهت زكاة الأثمان، وفيما زاد على النصاب بحسابه لذلك، ويخرج عنها ما شاء من عين أو ورق لأنهما جميعاً قيمة.
فصل:
وإذا تم الحول على مال المضاربة فعلى رب المال زكاة رأس المال وحصته من الربح؛ لأن حول الربح حول الأصل، وله إخراجها من المال؛ لأنها من مؤنته وواجبة لسببه، ويحسبها من نصيبه؛ لأنها واجبة عليه فتجب عليه كدينه، ويحتمل أن تحسب من الربح؛ لأنها من مؤنة المال فأشبهت أجرة الكيال. وفي زكاة حصة المضارب وجهان. فمن أوجبها لم يجوز إخراجها من المال؛ لأن الربح وقاية رأس المال فليس عليه إخراجها من غيره حتى يقبض، فيؤدي لما مضى كالدين، ويحتمل جواز إخراجها منه؛ لأنهما دخلا على حكم الإسلام، ومن حكمه وجوب الزكاة وإخراجها من المال.
فصل:
وإذا أذن كل واحد من الشريكين للآخر في إخراج زكاته فأخرجاها معاً، ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه؛ لأنه انعزال عن الوكالة بشروع موكله في الإخراج، وإن أخرجها أحدهما قبل الآخر، ضمن الثاني نصيب الأول، علم بإخراجه أو لم يعلم؛ لأن الوكالة زالت بزوال ما وكل فيه، فأشبه ما لو وكله في بيع ثوب ثم باعه الموكل، ويحتمل أن لا يضمن إذا لم يعلم؛ لأن المالك غيره.
فصل:
ومن اشترى شقصاً للتجارة بمائتي درهم، فحال الحول وقيمته أربعمائة فعليه زكاة أربعمائة، ويأخذه الشفيع بمائتين؛ لأن الشفيع يأخذه في الحال بالثمن الأول، وزكاته على المشتري؛ لأنها زكاة ماله، ولو وجد به عيباً رده بالثمن الأول وزكاته على المشتري.
[باب صدقة الفطر]
وهي واجبة على كل مسلم، لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض(1/412)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر من رمضان على الذكر والأنثى، والحر والمملوك من المسلمين، صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير)) ، فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير، وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» . متفق عليه.
وتجب على المكاتب عن نفسه للخبر، ولأنه مسلم تلزمه نفقته فلزمته فطرته كالحر، ولا تجب على كافر، ولا على أحد بسببه، فلو كان للمسلم عبد كافر أو زوجة كافرة لم تجب فطرتهما، لقوله: «من المسلمين» ، ولأنها زكاة، فلم تلزم الكافر كزكاة المال، وتجب على الصغير للخبر والمعنى، ويخرج من حيث يخرج نفقته؛ لأنها تابعة لها. ولا تجب على جنين، كما لا تجب على أجنة السائمة، ويستحب إخراجها عنه؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يخرج عن الجنين، وإن ملك الكافر عبداً مسلماً، لم تجب فطرته؛ لأن العبد لا مال له والسيد كافر.
وعنه: على السيد فطرته؛ لأنه من أهل الطهرة فلزم سيده فطرته كما لو كان مسلماً.
فصل:
ولا تجب إلا بشرطين:
أحدهما: أن يفضل عن نفقته ونفقة عياله يوم العيد وليلته صاع؛ لأن النفقة أهم فتجب البداءة بها لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابدأ بنفسك» رواه مسلم. وفي لفظ: «وابدأ بمن تعول» رواه الترمذي. فإن فضل صاع واحد أخرجه عن نفسه، فإن فضل آخر، بدأ بمن تلزمه البداءة بنفقته، على ما نذكره في بابه إن شاء الله لأنها تابعة للنفقة، فإن فضل بعض صاع ففيه روايتان:
إحداهما: يلزمه إخراجه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» متفق عليه. ولأنه لو ملك بعض العبد لزمته فطرته، فكذلك إذا ملك بعض المؤدى لزمه أداؤه.
والثانية: لا يلزمه؛ لأنه عدم ما يؤدي به الفرض فلم يلزمه، كمن عليه الكفارة إذا(1/413)
لم يملك إلا بعض الرقبة. فإن فضل صاع وعليه دين يطالب به، قدم قضاؤه؛ لأنه حق آدمي مضيق وهو أسبق، فكان أولى، فإن لم يطالب به فعليه الفطرة؛ لأنه حق توجهت المطالبة به فقدم على ما لا يطالب به، ولا يمنع الدين وجوبها لتأكدها بوجوبها على الفقير من غير حول.
فصل:
الشرط الثاني: دخول وقت الوجوب، وهو غروب الشمس من ليلة الفطر، لقول ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر من رمضان» . وذلك يكون بغروب الشمس، فمن أسلم أو تزوج أو ولد له ولد أو ملك عبداً أو أيسر بعد الغروب، لم تلزمه فطرتهم، وإن غربت وهم عنده ثم ماتوا فعليه فطرتهم؛ لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بالموت ككفارة الظهار.
فصل:
والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة للخبر، ولأن المقصود إغناء الفقراء يوم العيد عن الطلب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم» رواه سعيد بن منصور. وفي إخراجها قبل الصلاة إغناء لهم في اليوم كله، فإذا قدمها قبل ذلك بيومين جاز؛ لأن ابن عمر كان يؤديها قبل ذلك باليوم واليومين، ولأن الظاهر أنها تبقى أو بعضها فيحصل الغنى بها فيه، وإن عجلها لأكثر من ذلك لم يجز؛ لأن الظاهر أنه ينفقها فلا يحصل بها الغنى المقصود يوم العيد، وإن أخرها [عن الصلاة ترك الاختيار لمخالفته الأمر، وأجزأت لحصول الغنى بها في اليوم، وإن أخرها] عن اليوم أثم لتأخيره الحق الواجب عن وقته ولزمه القضاء؛ لأنه حق مال وجب فلا يسقط بفوات وقته كالدين.
فصل:
ولا يشترط لوجوبها الغنى بنصاب ولا غيره، لما روى أبو داود بإسناده عن ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أدوا صدقة الفطر صاعاً من بر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير، حر أو مملوك، غني أو فقير، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى» ، ولأنه حق مالي لا يزيد بزيادة المال فلم يشترط في وجوبه النصاب كالكفارة.(1/414)
فصل:
ومن لزمته فطرة نفسه لزمته فطرة من تلزمه مؤنته من المسلمين، لما روى ابن عمر قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد. ممن تمونون» . فيجب على الرجل فطرة زوجته وعبده وزوجة عبده؛ لأن نفقتهم عليه، فإن كان له عبد آبق فعليه فطرته؛ لأنها تجب بحق الملك والملك لم يزله الإباق. قال أحمد: ولا يعطي عنه، إلا أن يعلم مكانه، وذلك لأنه يحتمل أنه قد مات أو ارتد فلم تجب الفطرة مع الشك، فإن علم حياته بعد ذلك لزمه الإخراج لما مضى، وإن كانت له زوجة ناشز لم تلزمه فطرتها؛ لأنه لا تلزمه نفقتها. وقال أبو الخطاب: تلزمه قطرتها كما يلزم السيد فطرة الآبق. وإن كان لزوجته خادم تلزمه نفقته لزمته فطرته. وإن كان العبد لسادة فعليهم فطرته؛ لأن عليهم نفقته، وعلى كل واحد من فطرته بقدر ما يلزمه من نفقته؛ لأنها تابعة لها فتقدرت بقدرها.
وعنه: على كل سيد فطرة كاملة؛ لأنها طهرت فوجب تكميلها ككفارة القتل. ومن نصفه حر ففطرته عليه وعلى سيده لما ذكرناه، ومن نفقتها على اثنين من أقاربه، أو الأمة التي نفقتها على سيدها: وزوجها، فطرته عليهما كذلك. ومن تكفل بمؤنة شخص فمانه شهر رمضان فالمنصوص عن أحمد أن عليه فطرته لدخوله في عموم قوله: «ممن تمونون» .
واختار أبو الخطاب: أنه لا تلزمه فطرته كما لا تلزمه نفقته، وحمل الخبر على من تلزمه المؤنة بدليل وجوبها على الآبق، ومن ملكه عند الغروب ولم يمنهما، وسقوطها عمن مات أو أعتق قبل الغروب وقد مانه.
فصل:
على الموسرة التي زوجها معسر فطرة نفسها؛ لأنه كالمعدوم. وإن كانت أمة ففطرتها على سيدها لذلك، ويحتمل أن لا تجب فطرتهما؛ لأن من تجب عليه النفقة معسر فسقطت، كما لو كانت الزوجة والسيد معسرين، ومن لزمت فطرته غيره فأخرجها عن نفسه بغير إذنه ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه لأدائه ما عليه.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنها تجب على غيره فلا يجزئ إخراجها بغير إذن من وجبت عليه، كزكاة المال.
فصل:
والواجب في الفطرة صاع من كل مخرج، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولما(1/415)
روى أبو سعيد قال: «كنا نعطيها في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: إن مداً من هذا يعدل مدين. قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه» . متفق عليه.
ومن قدر على هذه الأصناف الأربعة لم يجزه غيرها؛ لأنها المنصوص عليها فأيها أخرج أجزأه، سواء كانت قوته أو لم تكن لظاهر الخبر. ويجزئ الدقيق والسويق من الحنطة والشعير لقول أبي سعيد، «لم نخرج على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من دقيق، ثم شك فيه سفيان بعد، فقال: دقيق أو سلت» . رواه النسائي. ولأنه أجزاء بحب يكال أو يدخر، فأشبه الحب. ويجزئ إخراج صاع من أجناس إذا لم يعدل عن المنصوص؛ لأن كل واحد منها يجزئ منفرداً فأجزأ بعض من هذا وبعض من هذا، كما لو كان العبد لجماعة، وقال أبو بكر يتوجه قول آخر أنه يعطي ما قام مقام هذه الخمسة لظاهر قوله: صاعاً من طعام. قال: والأول أقيس. وفي الأقط روايتان:
إحداهما: يجزئ إخراجه مع وجود غيره؛ لأنه في الخبر.
والثانية: لا يجزئ إلا عند عدم الأصناف. قال الخرقي: إن أعطى أهل البادية الأقط أجزأ إذا كان قوتهم، وذلك لأنه لا يجزئ في الكفارة ولا تجب الزكاة فيه، فإن عدم الخمسة أخرج ما قام مقامها من كل مقتات من الحب والتمر، وقال ابن حامد: يخرجون من قوتهم أي شيء كان، كالذرة والدخن ولحوم الحيتان والأنعام.
فصل:
والأفضل عن أبي عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إخراج التمر. لما روى مجاهد قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع والبر أفضل من التمر. قال: إن أصحابي قد سلكوا طريقاً وأنا أحب أن أسلكه، فآثر الاقتداء بهم على غيره. وكذلك أحمد. ثم بعد التمر البر؛ لأنه أكثر نفعاً وأجود.
فصل:
ولا يجزئ الخبز لأنه خارج من الكيل والادخار، ولا حب معيب ولا مسوس، ولا قديم تغير طعمه، لقول الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . ولا تجزئ القيمة؛ لأنه عدول عن المنصوص.(1/416)
فصل:
والصاع خمس أرطال وثلث بالعراقي، وهو بالرطل الذي وزنه ستمائة درهم رطل وأوقية وثلثا أوقية إلى ثلثي درهم.
قال أحمد: الصاع: خمسة أرطال وثلث حنطة، فإن أعطى خمسة أرطال وثلثاً تمراً فقد أوفى، وقيل له: إن الصيحاني ثقيل، فقال: لا أدري. وهذا يدل على أنه ينبغي أن يحتاط في الثقيل بزيادة شيء على خمسة أرطال وثلث ليسقط الفرض بيقين. ومصرفها مصرف زكاة المال؛ لأنها زكاة. ويجوز إعطاء الواحد ما يلزم الجماعة، كما يجوز دفع زكاة مالهم إليه، وإعطاء الجماعة ما يلزم الواحد كما يجوز تفرقة ماله عليهم.
[باب إخراج الزكاة والنية فيه]
لا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة، ويجوز تقديمها على الدفع بالزمن اليسير كما في سائر العبادات، ولأنه يجوز التوكل فيها بنية غير مفارقة لأداء الوكيل. ويجب أن ينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة، أو صدقة المال، أو الفطر، فإن نوى صدقة مطلقة لم تجزه؛ لأن الصدقة تكون نفلاً فلا ينصرف إلى الفرض إلا بتعيين، ولو تصدق بجميع ماله تطوعاً لم يجزه؛ لأنه لم ينو الفرض. ولا يجب تعيين المال المزكى عنه، فإن كان له نصابان، فأخرج الفرض عن أحدهما بعينه أجزأه؛ لأن التعيين لا يضر، وإن أطلق عن أحدهما أجزأه؛ لأنه لو أطلق لكان عن أحدهما فلا يضر التقييد به. وإن نوى أنه لو كان الغائب سالماً فهو زكاته وإلا فهو عن الحاضر، صح، وكان على ما نواه. وإن نوى أنه زكاة أو تطوع لم يصح؛ لأنه لم يخلص النية للفرض، وإن نوى أنه زكاة مالي وإن لم يكن سالماً فهو تطوع صح؛ لأنه هكذا يقع فلا يضر التقييد به، ولو نوى إن كان أبي قد مات فصار ماله لي فهذا زكاته لم يصح؛ لأنه لم يبن على أصل. ولو نوى عن ماله الغائب فبان تالفاً لم يكن له صرفه إلى الحاضر؛ لأنه عينه للغائب، فأشبه ما لو أعتق عبداً عن كفارة لم يملك صرفه إلى أخرى.
فصل:
وإذا كان في إخراج الزكاة، ونوى عند الدفع إلى الوكيل ونوى الوكيل عند الأداء، جاز. وإن نوى الوكيل ولم ينو الموكل لم يجزه؛ لأنها فرض عليه فلم يجزه من غير نية، وإن نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل ولم ينو الوكيل عند الدفع.
فقال أبو الخطاب: يجزئ؛ لأن الذي عليه الفرض قد نوى، ويحتمل أنه إن نوى(1/417)
بعد الأداء من الدفع لم يجزه؛ لأن الدفع حصل من غير نية قريبة ولا مقارنة، وإن دفعها إلى الإمام برئ منها بكل حال؛ لأن يد الإمام كيد الفقراء. وإن أخذها الإمام قهراً أجزأت من غير نية رب المال؛ لأنها تؤخذ من الممتنع فلو لم تجزئ ما أخذت. هذا ظاهر كلام الخرقي ويحتمل أن لا تجزئه فيما بينه وبين الله تعالى إلا بنيتها؛ لأنها عبادة محضة فلم تجز بغير نية، كالمصلي كرهاً، وهذا اختيار أبي الخطاب وابن عقيل، وقال القاضي: تجزئ نية الإمام في الكره والطوع؛ لأن أخذ الإمام كالقسم بين الشركاء، والأول أولى.
فصل:
ولا يجوز تعجيل الزكاة قبل كمال النصاب؛ لأنه سببها فلم يجز تقديمها عليه كالتكفير قبل الحلف، ويجوز تعجيلها بعده، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن العباس سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرخص له في أن يعجل الصدقة قبل أن تحل فرخص له» . رواه أبو داود. ولأنه حق مال أجل للرفق فجاز تعجيله قبل أجله، كالدين ودية الخطأ.
وفي تعجيلها لأكثر من عام روايتان:
إحداهما: يجوز لأنه عجلها بعد سببها.
والثانية: لا يجوز؛ لأنه عجلها قبل انعقاد حولها، فأشبه ما لو عجلها قبل انعقاد وقت نصابها، فإن ملك نصاباً فعجل زكاة نصابين عنه وعما يستفيده في الحول الآخر أجزأه عن النصاب دون الزيادة؛ لأنه عجل زكاة الزيادة قبل وجودها، ولو ملك خمساً من الإبل فعجل شاتين عنها وعن نتاجها، فحال الحول وقد نتجت خمساً فكذلك، لما ذكرنا، وإن ملك أربعين شاة فعجل عنها شاة، ثم ماتت الأمهات وبقيت سخالها، أجزأت عنها؛ لأنها لا تجزئ عنها وعن أمهاتها لو كانت باقية فعنها وحدها أولى، بخلاف التي قبلها، ولو ملك عرضاً قيمته ألف، فعجل زكاة ألفين، فحال الحول وقيمته ألفان أجزأه عن ألف واحد لما ذكرنا.
فصل:
وإذا عجل الزكاة فلم تتغير الحال وقعت موقعها، وإن ملك نصاباً فعجل زكاته وحال الحول وهو ناقص مقدار ما عجلها أجزأت عنه. وإن ملك مائة وعشرين، فعجل شاة ثم نتجت أخرى قبل كمال الحول؛ لزمه شاة ثانية؛ لأن المعجل كالباقي على ما ملكه في إجزائه عن الزكاة عند الحول، وكذلك في إيجاب الزكاة، وإن تغيرت الحال قبل الحول بموت الآخذ أو غناه أو ردته فإن الزكاة تجزئ عن ربها وليس له ارتجاعها،(1/418)
لأنه أداها إلى مستحقها فبرئ منها، كما لو تلفت عند أخذها أو استغنى بها، أما إن تغيرت حال رب المال بموته أو ردته، أو تلف النصاب أو بعضه، أو بيعه أو حالهما معاً.
فقال أبو بكر والقاضي: الحكم كذلك لأنه دفعها إلى مستحقها فلم يملك الرجوع بها، كما لو لم يعلمه.
وقال ابن حامد: إن لم يعلمه رب المال أنها زكاة معجلة لم يكن له الرجوع عليه؛ لأن الظاهر أنها عطية تلزم بالقبض، فلم يكن له الرجوع بها، وإن كان الدافع الساعي أو رب المال، لكنه أعلم الآخذ أنها زكاة معجلة، رجع عليه؛ لأنه دفعها عن ما يستحقه القابض في الثاني، فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق وجب رده، كالأجرة إذا انهدمت الدار قبل السكنى، ثم إن وجدها بعينها أو زائدة زيادة متصلة رجع بها؛ لأن هذه الزيادة تتبع في الفسوخ فتبعت ههنا، وإن زادت زيادة منفصلة فهي للفقير؛ لأنها انفصلت في ملكه، وإن نقصت لزم الفقير نقصها لأنه ملكها بقبضها فكان نقصها عليه كالمعيب، وإن تلفت فعليه قيمتها يوم قبضها؛ لأن ما زاد بعد ذلك أو نقص إنما هو في ملك الفقير، فإن قال المالك: أعلمته الحال فأنكر الفقير فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه منكر.
فصل:
ولو عجلها إلى غني فافتقر عند وجوبها لم يجزه؛ لأنه لم يعطها لمستحقها وإن عجلها فدفعها إلى مستحقها ثم مات المالك فحبسها الوارث عن زكاته، لم يجزه؛ لأنها عجلت قبل ملكه، فأشبه ما عجلها هو، وإن تسلف الإمام الزكاة فهلكت في يده، لم يضمنها، وكانت من ضمان الفقراء، سواء سأله رب المال أو الفقراء أو لم يسأله الجميع؛ لأن يده كأيديهم وله ولاية عليهم، بدليل أن له أخذ الزكاة بغير إذنهم، فإذا تلفت من غير تفريط لم يضمن كولي اليتيم.
فصل:
وظاهر كلام القاضي أنه لا يجوز تعجيل العشر؛ لأنه يجب بسبب واحد وهو بدو الصلاح في الثمرة والحب، فتعجيله تقديماً له على سببه، وقال أبو الخطاب: يجوز تعجيله إذا ظهرت الثمرة وطلع الزرع، ولا يجوز قبله؛ لأن وجود ذلك كملك النصاب، وبدو الصلاح كتمام الحول. وأما المعدن والركاز فلا يجوز تقديم صدقتهما قولاً واحداً؛ لأن سبب وجوبها يلازم وجوبها ولا يجوز تقديمها قبل سببها.(1/419)
[باب قسم الصدقات]
يجوز لرب المال تفريق زكاته بنفسه؛ لأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليقضه ثم يزكي بقية ماله. وأمر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واجد الركاز أن يتصدق بخمسه. وله دفعها إلى الإمام عدلاً كان أو غيره، لما روى سهيل بن أبي صالح قال: أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال وأريد إخراج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى. فقال: ادفعها إليهم. فأتيت ابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقالوا مثل ذلك، ولأنه نائب عن مستحقها فجاز الدفع إليه كولي اليتيم. قال أحمد: أعجب إلي أن يخرجها، وذلك لأنه على ثقة من نفسه، ولا يأمن من السلطان أن يصرفها في غير مصارفها.
وعنه: ما يدل على أنه يستحب دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى السلطان دون الباطنة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يبعثون سعاتهم لقبض زكاة الأموال الظاهرة دون الباطنة. وقال ابن أبي موسى وأبو الخطاب: دفعها إلى الإمام العادل أفضل؛ لأنه أعلم بالمصارف، والدفع إليه أبعد من التهمة، ويبرأ بها ظاهراً وباطناً، ودفعها إلى أهلها، يحتمل أن يصادف غير مستحقها فلا يبرأ بها باطناً.
فصل:
ويجب على الإمام أن يبعث السعاة لقبض الصدقات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يفعلونه، ولأن في الناس من لا يؤدي صدقته أو لا يعلم ما عليه، ففي إهمال ذلك ترك للزكاة. ومن شرط الساعي أن يكون بالغاً عاقلاً أميناً؛ لأن الصبي والمجنون لا قبض لهما، والخائن يذهب بمال الزكاة، ولا يشترط كونه فقيراً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بعث عمر وعمله وكان غنياً، ولأن ما يعطيه أجرة، فأشبه أجرة حملها، ولا كونه حراً؛ لأن المقصود يحصل منه من غير ضرر، فأشبه الحر، ولا فقيهاً إذا كتب له ما يأخذ وحد له، أو بعث معه من يعلمه ذلك. لأنه استئجار على استيفاء حق فلم يشترط له الفقه كاستيفاء الدين
قال أبو الخطاب: في إسلامه روايتان:
إحداهما: لا يشترط ذلك، ولأنه قد يعرف منه الأمانة بالتجربة، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] .(1/420)
والأخرى: هو شرط؛ لأن الكفر ينافي الأمانة. وقد قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تأتمنوهم وقد خونهم الله تعالى. قال أصحابنا: وجوز أن يكون من ذوي القربى؛ لأن ما يأخذه أجرة فلم يمنع منها كأجرة الحمل، وظاهر الخبر يمنع ذلك، فإن «الفضل بن عباس وعبد المطلب بن ربيعة سألا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالا: يا رسول الله، لو بعثتنا على هذه الصدقة فنصيب منها ما يصيب الناس، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس. فأبى أن يبعثهما، وقال: إن هذه الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس» رواه مسلم.
فصل:
وإذا كان الساعي يبعث لأخذ العشر بعث في وقت إخراجه، وإن بعث لقبض غيره، بعث في أول محرم؛ لأنه أول السنة. ويستحب أن يعد الماشية على أهلها على الماء أو في أفنيتهم، لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تؤخذ صدقات الناس على مياههم وأفنيتهم» ، وإن أخبره صاحب المال بعدده قبل منه، وإن قال: لم يكمل الحول أو فرقت زكاته ونحو هذا مما يمنع الأخذ منه، قبل منه ولم يحلفه؛ لأن الزكاة عبادة وحق لله تعالى، فلا يحلف عليهما كالصلاة والحد. وإن أعطاه صدقته، استحب أن يدعو له، لقول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] . وروى عبد الله بن أبي أوفى قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقة فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى» متفق عليه. ولا يجب الدعاء لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر سعاته بذلك. ويستحب أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً. ويستحب للمعطي أن يقول: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً. وإن وجد الساعي مالاً لم يكمل حوله، فسلفه ربه زكاته أخذها، وإن أبى لم يجبره؛ لأنه ليس بواجب عليه، فإما أن يوكل من يقبضها منه عند حولها، وإما أن يؤخرها إلى الحول الثاني.(1/421)
فصل:
ويؤمر الساعي بتفريق الصدقة في بلدها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» . ولا يجوز نقلها عنهم إلى بلد تقصر فيه الصلاة لذلك، ولأن نقلها عنهم يفضي إلى ضياع فقرائهم، فإن نقلها رب المال ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه حق واجب لأصناف بلد، فلم يجزئ إعطاؤه لغيرهم كالوصية لأصناف بلد.
والأخرى: يجزئه؛ لأنهم من أهل الصدقات، فإن استغنى عنها أهل بلدها جاز نقلها، لما روي أن معاذاً بعث إلى عمر صدقة من اليمن، فأنكر عمر ذلك وقال: لم أبعثك جابياً ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس وترد في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني. رواه أبو عبيد في كتاب الأموال. فإن كان مال الرجل غائباً عنه زكاه في بلد المال، فإن كان متفرقاً زكى كل مال حيث هو، فإن كان نصاباً من السائمة ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه في كل بلد من الرفض بقدر ما فيه من المال، لئلا تنقل زكاته إلى غير بلده.
والثاني: يجزئه الإخراج في بعضها، لئلا يفضي إلى تشقيص زكاة الحيوان. وإن كان ماله تجارة يسافر به. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يزكيه في الموضع الذي أكثر مقامه فيه.
وعنه: يعطي بعضه في هذا البلد وبعضه في هذا. وقال القاضي: يخرج زكاته حيث حال حوله؛ لأن المنع من هذا يفضي إلى تأخير الزكاة. وإن كان ماله في بادية، فرق زكاته في أقرب البلاد إليها.
فصل:
إذا احتاج الساعي إلى نقل الصدقة استحب أن يسم الماشية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسمها، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لتمييزها عن غنم الجزية والضوال، ولترد إلى مواضعها إذا شردت، ويسم الإبل والبقر في أصول أفخاذها؛ لأنه موضع صلب يقل ألم الوسم فيه، وهو قليل الشعر فتظهر السمة ويسم الغنم في آذانها، فيكتب عليها: لله أو زكاة. وإن وقف من الماشية في الطريق شيء، أو خاف هلاكه جاز بيعه؛ لأنه موضع ضرورة، وإن باع لغير ذلك فقال القاضي: البيع باطل وعليه الضمان؛ لأنه متصرف(1/422)
بالإذن ولم يؤذن له في ذلك، ويحتمل الجواز؛ لأن قيس بن أبي حازم روى «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فسأل عنها، فقال المصدق: إني ارتجعتها بإبل فسكت» . رواه سعيد بن منصور. ومعنى الارتجاع أن يبيعها ويشتري بثمنها غيرها.
[باب ذكر الأصناف الذين تدفع الزكاة لهم]
وهم ثمانية ذكرهم الله تعالى في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] .
فلا يجوز صرفها إلى غيرهم من بناء مساجد أو إصلاح طريق أو كفن ميت؛ لأن الله تعالى خصهم بها بقوله: إنما وهي للحصر تثبت المذكور وتنفي ما عداه. ولا يجب تعميمهم بها.
وعنه: يجب تعميمهم والتسوية بينهم. وأن يدفع من كل صنف إلى ثلاثة فصاعداً؛ لأنه أقل الجمع، إلا العامل، فإن ما يأخذه أجرة فجاز أن يكون واحداً، وإن تولى الرجل إخراجها بنفسه سقط العامل. وهذا اختيار أبي بكر؛ لأن الله تعالى جعلها لهم بلام التمليك، وشرك بينهم بواو التشريك، فكانت بينهم على السواء كأهل الخمس، والأول: المذهب؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال لمعاذ: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» أمر بردها في صنف واحد. «وقال لقبيصة لما سأله في حمالة: أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» وهو صنف واحد. وأمر بني بياضة بإعطاء صدقاتهم سلمة بن صخر وهو واحد، فتبين بهذا أن مراد الآية بيان مواضع الصرف دون التعميم؛ ولذلك لا يجب تعميم كل صنف، ولا التعميم بصدقة واحد إذا أخذها الساعي، بخلاف الخمس.
فصل:
إذا تولى الإمام القسمة بدأ بالساعي فأعطاه عمالته؛ لأنه يأخذ عوضاً فكان حقه آكد ممن يأخذ مواساة. وللإمام أن يعين أجرة الساعي قبل بعثه، وله أن يبعثه من غير شرط؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ساعياً ولم يجعل له أجرة فلما جاء أعطاه، فإن عين له أجرة دفعها إليه، وإلا دفع إليه أجرة مثله. ويدفع منها أجرة الحاسب والكاتب(1/423)
والعداد والسائق والراعي والحافظ والحمال والكيال ونحو ذلك؛ لأنه من مؤنتها فقدم على غيره.
فصل:
والفقراء والمساكين صنفان، وكلاهما يأخذ لحاجته إلى مؤنة نفسه، والفقراء أشد حاجة؛ لأن الله تعالى بدأ بهم والعرب إنما تبدأ بالأهم فالأهم، ولأن الله تعالى قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] . فأخبر أن لهم سفينة يعملون بها، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعاذ من الفقر وقال: «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين» رواه الترمذي. فدل على أن الفقراء أشد، فالفقير من ليس له ما يقع موقعاً من كفايته من مكسب ولا غيره، والمسكين الذي له ذلك، فيعطى كل واحد منهما ما تتم به كفايته. وإذا ادعى الفقر من لم يعرف بغنى قبل قوله بغير يمين؛ لأن الأصل عدم المال، وإن ادعاه من عرف غناه لم يقبل إلا ببينة، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل أصابته فاقة حتى يشهد له ثلاث من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش» رواه مسلم. وإن رآه جلداً وذكر أنه لا كسب له أعطاه من غير يمين، لما روى عبيد الله بن عدي بن الخيار: «أن رجلين أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقسم الصدقة فسألاه شيئاً، فصعد بصره فيهما وصوبه، وقال لهما: إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» رواه أبو داود.
وإن ادعى أن له عيالاً: فقال القاضي وأبو الخطاب: يقلد في ذلك كما قلد في حاجة نفسه.
وقال ابن عقيل: لا يقبل إلا ببينة؛ لأن الأصل عدم العيال، فلا تتعذر إقامة البينة عليهم، وإن كان لرجل دار يسكنها، أو دابة يحتاج إلى ركوبها، أو خادم يحتاج إلى خدمته، أو بضاعة يتجر بها، أو ضيعة يستغلها، أو سائمة يقتنيها، ولا يقوم بكفايته فله أخذ ما تتم به الكفاية ولا يلزمه بيع شيء من ذلك قل أو كثر.
فصل:
الصنف الرابع: المؤلفة وهم السادة المطاعون في عشائرهم، وهم ضربان: كفار ومسلمون، فالكفار من يرجى إسلامهم أو يخاف شرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى صفوان بن أمية يوم حنين قبل إسلامه ترغيباً له في الإسلام.(1/424)
والمسلمون أربعة أضرب:
منهم من له شرف، يرجى بإعطائه إسلام نظيره، فإن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى عدي بن حاتم ثلاثين فريضة من الصدقة، وأعطى الزبرقان بن بدر، مع ثباتهما وحسن نياتهما.
الثاني: ضرب نيتهم ضعيفة في الإسلام، فيعطون لتقوى نيتهم فيه، فإن أنساً قال «حين أفاء الله على رسوله أموال هوزان طفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل وقال: إني أعطي رجالاً حدثاء عهد بكفر أتالفهم» متفق عليه.
الثالث: قوم إذا أعطوا قاتلوا ودفعوا عن المسلمين.
الرابع: قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة، ممن لا يعطيها إلا أن يخاف فكل هؤلاء يجوز الدفع إليهم من الزكاة لأنهم داخلون في اسم المؤلفة. وقد سمى الله تعالى لهم سهماً.
وروى حنبل عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن حكمهم انقطع؛ لأن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لم يعطياهم شيئاً. والمذهب الأول. فإن سهمهم ثبت بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ولا يثبت النسخ بالاحتمال وترك عمر وعثمان عطيتهم، وإنما كان لغناهم عنهم. والمؤلفة إنما يعطون للحاجة إليهم، فإن استغني عنهم فلا شيء لهم.
فصل:
الخامس: الرقاب. وهم المكاتبون، يعطون ما يؤدونه في كتابتهم، ولا يقبل قوله: إنه مكاتب إلا ببينة لأن الأصل عدمها، فإن صدقه المولى ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل؛ لأن السيد يقر على نفسه.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه متهم في أن يواطئه ليأخذ الزكاة بسببه. وللسيد دفع زكاته إلى مكاتبه؛ لأنه معه في باب المعاملة كالأجنبي، ويجوز أن يردها المكاتب إليه؛ لأنه يأخذها وفاء عن دينه، فأشبه الغريم. ولا يزاد المكاتب على ما يوفي كتابته، ويجوز أن يدفع إليه قبل حلول النجم لئلا يحل وهو معسر فتنفسخ كتابته. وهل يجوز الإعتاق من الزكاة فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأنه من الرقاب فيدخل في الآية فعلى هذا يجوز أن يعين في ثمنها، وأن يشتريها كلها من زكاته ويعتقها، ولا يجوز أن يشتري ذا رحمه المحرم عليه، فإن فعل عتق عليه ولم تسقط الزكاة؛ لأن عتقه حصل بسبب غير الإعتاق من الزكاة، ويجوز أن يفتك منها أسيراً مسلماً؛ لأنه فك رقبته من الأسر.(1/425)
والرواية الثانية: لا يجوز الإعتاق منها لأن الآية تقضي الدفع إلى الرقاب، لقوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] ، يريد الدفع إلى المجاهدين والعبد لا يدفع إليه.
فصل:
السادس: الغارمون، وهم ضربان: ضرب غرم لإصلاح ذات البين، وهو من يحمل دية أو مالاً لتسكين فتنة، وإصلاح بين طائفتين، فيدفع إليه من الصدقة ما يؤدي حمالته، وإن كان غنياً، لما روى قبيصة بن مخارق قال: «تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها فقال: أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. ثم قال: يا قبيصة إن الصدقة لا تحل إلا لثلاث، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك» رواه مسلم، ولأنه يأخذ لمصلحة المسلمين، فجاز له الأخذ مع الغنى كالغازي.
الضرب الثاني: من غرم لمصلحة نفسه في مباح، فيعطى من الصدقة ما يقضي غرمه، ولا يعطي مع الغنى لأنه يأخذ لحاجة نفسه فلم يدفع إليه مع الغنى كالفقير. وإن غرم في معصية، لم يدفع إليه قبل التوبة؛ لأنه لا يؤمن أن يستعين بها في المعصية، وفي إعطائه بعد التوبة وجهان:
أحدهما: يعطى؛ لأنه يأخذ لتفريغ ذمته، لا لمعصية فجاز، كإعطائه لفقره.
والثاني: لا يعطى؛ لأنه لا يؤمن عوده إلى المعصية، ولا يقبل قوله: إنه غارم إلا ببينة فإن صدقه الغريم فعلى وجهين. ويجوز للرجل دفع زكاته إلى غريمه وأخذها منه لما ذكرنا في المكاتب.
فصل:
السابع: في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان إذا نشطوا غزوا، ويعطون قدر ما يحتاجون إليه لغزوهم، من نفقة طريقهم وإقامتهم، وثمن السلاح والخيل إن كانوا فرساناً، وما يعطون السايس وحمولتهم إن كانوا رجالاً مع الغنى؛ لأنهم يأخذون لمصلحة المسلمين. ولا يعطى الراتب في الديوان؛ لأنه يأخذ قدر كفايته من الفيء. وفي الحج روايتان:
إحداهما: هو من سبيل الله فيعطى من الصدقة ما يحج به حجة الإسلام، أو يعينه فيها مع الفقر، لما روي «أن رجلاً جعل ناقة له في سبيل الله فأرادت امرأته الحج فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اركبيها فإن الحج في سبيل الله» رواه أبو داود.(1/426)
والثانية: لا يجوز ذلك؛ لأن سبيل الله إذا أطلق إنما يتناول الغزو، ولأنه لا مصلحة للمسلمين في حج الفقير، ولا حاجة به إلى إيجاب الحج عليه، فلم يدفع إليه كحج النفل.
فصل:
الثامن: ابن السبيل. وهو المسافر المنقطع به وله اليسار في بلده، فيعطى من الصدقة ما يبلغه، فأما المنشئ للسفر من بلده فليس بابن سبيل؛ لأن السبيل الطريق، وابنها الملازم لها الكائن فيها، والقاطن في بلده ليس بمسافر، ولا له حكم المسافر. فإن كان هذا فقيراً أعطي لفقره، وإلا فلا. ومن كان سفره لمعصية فهل يدفع إليه بعد التوبة ما يرجع به؟ على وجهين، كما ذكرنا فيمن غرم لمعصية.
فصل:
ولا يدفع إلى واحد منهم أكثر مما يدفع به حاجته، فلا يزاد الفقير والمسكين على ما يغنيهما، ولا العامل على أجرته، ولا المؤلفة على ما يحصل به التأليف، ولا الغارم والمكاتب على ما يقضي دينهما، ولا الغازي على ما يحتاج إليه لغزوه، ولا ابن السبيل على ما يوصله بلده؛ لأن الدفع لحاجة، فوجب أن يتقيد بها، وإن اجتمع في واحد سببان كالغارم الفقير دفع إليه بهما؛ لأن كل واحد منهما سبب للأخذ، فوجب أن يثبت حكمه حيث وجد.
فصل:
وأربعة يأخذون أخذاً مستقراً لا يرجع عليهم بشيء الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلفة، وأربعة يأخذون أخذاً مراعى، الرقاب والغارمون والغزاة وابن السبيل، إن صرفوه فيما أخذوا له، وإلا استرجع منهم. وإن فضل مع المكاتب شيء بعد أداء كتابته أو مع الغارم بعد قضاء غرمه، أو مع الغازي بعد غزوه، أو مع ابن السبيل بعد وصوله إلى بلده استرجع منهم وإن استغنوا عن الجميع ردوه، وإن عجز المكاتب رجع على سيده بما أخذ لأن الدفع إليهم لمعنى لم يوجد.
وقال الخرقي: إذا عجز المكاتب ورد في الرق، وقد كان تصدق عليه بشيء فهو لسيده. وأربعة يأخذون مع الغنى؛ الغازي والعامل والغرم للإصلاح والمؤلفة؛ لأنهم يأخذون لحاجتنا إليهم. والحاجة توجد مع الغنى، وسائرهم لا يعطون إلا مع الفقر؛ لأنهم يأخذون لحاجتهم، فاعتبر ذلك فيهم، إلا أن ابن السبيل تعتبر حاجته في مكانه، وإن كان له مال في بلده؛ لأنه غير مقدور عليه، فهو كالمعدوم. ولا يستحب إعلام(1/427)
الآخذ أنها زكاة إذا كان ظاهره الاستحقاق؛ لأن فيه كسر قلبه. قال أحمد: ولم يبلغه بها، يعني: لا يعلمه. فإن شك في استحقاقه أعلمه كما أعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجلين الجلدين.
[باب من لا يجوز دفع الزكاة إليه]
وهم ستة أصناف: الكافر، لا يجوز الدفع إليه لغير التأليف، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» ، ولأنها مواساة تجب على المسلم فلا تجب للكافر كالنفقة.
الثاني: المملوك؛ لأن ما يعطاه يكون لسيده، ولأن نفقته على سيده فهو غني بغناه.
الثالث: بنو هاشم لا يعطون منها إلا لغزو أو حمالة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الصدقة أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد وآل محمد» وسواء أعطوا حقهم من الخمس أو منعوه لعموم الخبر، ولأن منعهم لشرفهم، وشرفهم باق، فينبغي المنع.
الرابع: مواليهم: وهم معتقوهم، فحكمهم حكمهم، لما روى أبو رافع، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصب منها، فانطلق إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله فقال: إنا لا تحل لنا الصدقة وإن مولى القوم منهم» وهذا حديث صحيح، ولأنهم ممن يرثهم بني هاشم بالتعصيب، فحرمت عليهم الصدقة كبني هاشم.
وفي بني المطلب روايتان:
إحداهما: تحل لهم؛ لأن المنع اختص بآل محمد وهم بنو هاشم فلا يلحق بهم غيرهم.
والثاني: يحرم عليه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك أصابعه» أخرجه البخاري [والحديث بتمامه أخرجه الشافعي في مسنده] . ولأنهم يستحقون من خمس الخمس فأشبهوا بني هاشم.
الخامس: الغني، لا تحل له الزكاة سوى من ذكرنا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا حظ فيها(1/428)
لغني ولا لقوي مكتسب» ، وقوله: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي» وهذا حديث حسن. وفي ضابطه روايتان: إحداهما: أنه الكفاية على الدوام، إما بصناعة أو مكسب أو أجرة أو نحوه. اختارها أبو الخطاب وابن شهاب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث قبيصة: «فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سدادا من عيش» مد إباحة المسألة إلى حصول الكفاية، ولأن الغنى ضد الحاجة وهي تذهب بالكفاية، وتوجد مع عدمها.
والثانية: أنه الكفاية أو ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب، لما روى ابن مسعود قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خموشاً أو خدوشاً أو كدوحاً في وجهه، فقيل: يا رسول الله ما الغنى؟ قال: خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. فعلى هذه الرواية: إن كان له عيال فله أن يأخذ لكل واحد من عياله خمسين، نص عليه. ولو ملك عروضاً تكثر قيمتها لا تقوم بكفايته؛ جاز الأخذ رواية واحدة، وإذا كان للمرأة زوج غني فهي غنية؛ لأن كفايتها واجبة عليه وجوباً متأكداً، فأما من تجب نفقته على نفسه فله الأخذ من الزكاة؛ لأن استحقاقه للنفقة مشروط بفقره، فيلزم من وجوبها له وجود الفقر، بخلاف نفقة الزوجة، ولأن وجوبها بطريق الصلة والمواساة بخلاف غيرها.
السادس: من تلزمه مؤنته: كزوجته ووالديه وإن علوا، وأولاده وإن سفلوا، الوارث منهم وغيره، ولا يجوز الدفع إليهم؛ لأن في دفعها إليهم إغناء لهم عن نفسه، فكأنه صرفها إلى نفسه، وفيمن يرثه غير عمودي نسبه روايتان:
إحداهما: لا يدفع إليه؛ لأن الله تعالى أوجب نفقته عليه بقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] .
والثانية: يجوز لأنه ممن تقبل شهادته له، فجاز الدفع إليه، كالأجانب فإن كان محجوباً عن ميراثه، أو من ذوي الأرحام جاز الدفع إليه، وإن كان شخصان يرث أحدهما صاحبه دون الآخر كالعمة مع ابن أخيها فللموروث دفع زكاته إلى الوارث؛ لأنه لا يرثه، وفي دفع الوارث زكاته إلى موروثه الروايتان. وهل للمرأة، دفع زكاتها إلى زوجها؟ على روايتين:
إحدهما: يجوز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لزينب امرأة ابن مسعود: «زوجك وولدك أحق(1/429)
من تصدقت به عليهم» رواه البخاري، ولأنه لا تلزمها نفقته فلم تحرم عليه زكاتها كالأجنبي.
والثانية: لا يجوز؛ لأنها تنتفع بدفعها إليه، لوجوب نفقتها عليه، وتبسطها في ماله عادة فلم يجز دفعها إليه كالولد.
فصل:
ويجوز لكل واحد من هؤلاء الأخذ من صدقة التطوع؛ لأن محمد بن علي كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، وقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة. ويجوز لفقراء ذوي القربى الأخذ من وصايا الفقراء والنذور؛ لأنها صدقة تطوع بها، وفي أخذهم من الكفارة وجهان.
وعنه: منعهم من صدقة التطوع، لعموم الخبر. والأول أظهر، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل معروف صدقة» حديث صحيح. ويجوز اصطناع المعروف إليهم. وروى أبو سعيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل ابتاعها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إلى الغني» رواه أبو داود. ولو أهدى المسكين مما تصدق به عليه إلى الهاشمي حل له؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل مما تصدق به على أم عطية نسيبة وقال: إنها قد بلغت محلها» . متفق عليه.
فصل:
وإذا دفع رب المال الصدقة إلى غني يظنه فقيراً ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجزئه؛ لأنه دفعها إلى غير مستحقها، فأشبه دفع الدين إلى غير صاحبه.
والثانية: يجزئه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكتفى بالظاهر لقوله للرجلين: «إن شئتما أعطيتكما منها ولا حظ فيها لغني» ، وهذا يدل على أنه يجزئ، ولأن الغنى يخفى فاعتبار حقيقته يشق، ولهذا قال الله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] . وإن بان كافراً أو عبداً أو هاشمياً، لم تجزئه رواية واحدة؛ لأن حال هؤلاء لا تخفى فلم يعذر الدافع إليهم، بخلاف الغني.(1/430)
فصل:
وإذا تولى الرجل إخراج زكاته استحب أن يبدأ بأقاربه الذين يجوز الدفع إليهم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقتك على ذي القربى صدقة وصلة» رواه الترمذي والنسائي. ويخص ذوي الحاجة؛ لأنهم أحق، ومن مات وعليه زكاة ودين لا تتسع تركته لهما، قسمت بينهما بحصصهما؛ لأنهما تساويا في الوجوب فتساويا في القضاء.
[باب صدقة التطوع]
وهي مستحبة، لقول الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا الطيب، فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» متفق عليه. وصدقة السر أفضل لقول الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271] ، وجاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أن صلة الرحم تزيد في العمر وصدقة السر تطفئ غضب الرب» رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. والأفضل الصدقة على ذي الرحم للخبر، ولقول الله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] ، والصدقة في أوقات الحاجة أكثر ثواباً للآية، وكذلك على من اشتدت حاجته، لقول الله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] والصدقة في الأوقات الشريفة كرمضان، وفي الأماكن الشريفة تضاعف كما يضاعف غيرها من الحسنات، والنفقة في سبيل الله تضاعف سبعمائة ضعف، لقول الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] .(1/431)
فصل:
ومن عليه دين، لا يجوز أن يتصدق صدقة تمنع قضاءها؛ لأنه واجب فلم يجز تركه، ولا يجوز تقديمها على نفقة العيال؛ لأنها واجبة، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت» رواه أبو داود. وروى أبو هريرة قال: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصدقة، فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي دينار فقال: تصدق على نفسك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على ولدك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على زوجك، قال: عندي آخر، قال: تصدق به على خادمك، قال: عندي آخر، قال: أنت أبصر» رواه أبو داود. فإن وافقه عياله على الإيثار فهو أفضل، لقول الله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة جهد من مقل إلى فقير في السر» رواه أبو داود [ولم يذكر (إلى فقير في السر) ] ، ومن أراد الصدقة بكل ماله، وكان يعلم من نفسه حسن التوكل وقوة اليقين والصبر عن المسألة، أو كان له مكسب يقوم به فذلك أفضل له وأولى به؛ لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تصدق بكل ماله، فروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتصدق، فوافق مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: أبقيت لهم مثله. فأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أبقيت لأهلك؟ فقال: الله ورسوله، فقلت لا أسابقك إلى شي أبداً» ، وإن لم يثق من نفسه بهذا كره له، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة ثم يقعد يستكف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» رواهما أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد: «إنك أن تدع أهلك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكففون الناس» متفق عليه. ويكره لمن لا صبر له على الإضاقة أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة.(1/432)
[كتاب الصيام]
صيام رمضان أحد أركان الإسلام وفروضه، لقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] الآيات، وعن أبي هريرة قال: «بينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً بارزاً للناس إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما الإسلام؟ قال أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان» متفق عليه.
ولا يجب إلا بشروط أربعة: الإسلام، فلا يجب على كافر أصلي ولا مرتد، والعقل، فلا يجب على مجنون، والبلوغ، فلا يجب على صبي لما ذكرنا في الصلاة، وقال بعض أصحابنا: يجب على من أطاقه، لما روى عبد الرحمن بن أبي لبيبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام شهر رمضان» ، ولأنه يعاقب على تركه، وهذا هو حقيقة الواجب والأول المذهب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ» رواه أبو داود ولأنه عبادة بدنية، فلم يلزم الصبي كالحج، وحديثهم مرسل، ثم يحمل على تأكيد الندب. كقوله: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم» لكن يؤمر بالصوم إذا أطاقه ويضرب عليه ليعتاده كالصلاة، فإن أسلم كافر أو أفاق مجنون أو بلغ صبي في أثناء الشهر؛ لزمهم صيام ما يستقبلونه؛ لأنهم صاروا من أهل الخطاب فيدخلون في الخطاب به ولا يلزمهم قضاء ما مضى؛ لأنه مضى قبل تكليفهم فلم يلزمهم قضاؤه كالرمضان الماضي، وإن وجد ذلك منهم في أثناء نهار؛ لزمهم إمساك بقيته وقضاؤه.(1/433)
وعنه: لا يلزمهم ذلك؛ لأنه نهار أبيح له فطر أوله ظاهرا وباطناً فلم يلزمهم إمساكه، كما لو استمر العذر، ولأنهم لم يدركوا من وقت العبادة ما يمكنهم التلبس بها فيه، فأشبه ما لو زالت أعذارهم ليلاً، وظاهر المذهب الأول؛ لأنهم أدركوا جزءاً من وقت العبادة فلزمهم قضاؤها كما لو أدركوا جزءاً من وقت الصلاة، ويلزمهم الإمساك لحرمة رمضان كما لو قامت البينة بالرؤية في أثناء النهار، وإن بلغ الصبي وهو صائم، لزمه إتمام صومه رواية واحدة؛ لأنه صار من أهل الوجوب فلزمه الإتمام. كما لو شرع في صيام تطوع ثم نذر إتمامه. وقال القاضي: ولا يلزمه قضاؤه لذلك.
وقال أبو الخطاب: يلزمه القضاء كما لو بلغ في أثناء الصيام.
فصل:
الشرط الرابع: الإطاقة، فلا يجب على الشيخ الذي يجهده الصيام، ولا المريض المأيوس من برئه لقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وعليه أن يطعم لكل يوم مسكيناً لقول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] . قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما لا يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً، والحامل والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. رواه أبو داود. فإن لم يكن له فدية فلا شيء عليه، للآية الأولى.
فصل:
ومن لزمه الصوم لم يبح له تأخيره إلا أربعة:
أحدها: الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما فلهما الفطر، وعليهما القضاء وإطعام مسكين لكل يوم لما ذكرنا من الآية، وإن أفطرتا خوفاً على أنفسهما فعليهما القضاء حسب كالمريض.
الثاني: الحائض والنفساء لهما الفطر، ولا يصح منهما الصيام لما ذكرنا في باب الحيض، والنفاس كالحيض فنقيسه عليه، ومتى وجد ذلك في جزء من اليوم أفسده، وإن انقطع دمها ليلاً فنوت الصوم، ثم اغتسلت في النهار؛ صح صومها؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً من جماع ثم يغتسل ويتم صومه» . متفق عليه، وهذه في معناه.
الثالث: المريض له الفطر وعليه القضاء لقول الله تعالى:(1/434)
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . والمبيح للفطر: ما خيف من الصوم زيادته أو إبطاء برئه، فأما ما لا أثر للصوم فيه كوجع الضرس والإصبع ونحوه فلا يبيح الفطر؛ لأنه لا ضرر عليه في الصوم، ومن أصبح صائماً فمرض في النهار فله الفطر؛ لأن الضرر موجود، والصحيح إذا خاف على نفسه لشدة عطش أو جوع، أو شبق يخاف أن تنشق أنثياه ونحو ذلك، فله الفطر ويقضي؛ لأنه خائف على نفسه، أشبه المريض، ومن فاته الصوم لإغماء فعليه القضاء؛ لأنه لا يزيل التكليف، ويجوز على الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - ولا تثبت الولاية على صاحبه، فهو كالمريض؛ ومن أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه؛ لأن الصوم الإمساك ولا ينسب ذلك إليه، وإن أفاق في جزء من النهار صح صومه، لوجود الإمساك فيه، وإن نام جميع النهار صح صومه؛ لأن النائم في حكم المنتبه، لكونه ينتبه إذا نبه، ويجد الألم في حال نومه.
الرابع: السفر الطويل المباح يبيح الفطر، للآية، ولا يباح الفطر لغيره لما ذكرنا في القصر، ولا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره لما ذكرنا في القصر، وللمسافر أن يصوم ويفطر، لما روى حمزة بن عمر الأسلمي أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أصوم في السفر؟ قال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر» متفق عليه. والفطر أفضل: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من البر الصوم في السفر» متفق عليه. ولأنه من رخص السفر المتفق عليها، فكان أفضل كالقصر.
ولو تحمل المريض والحامل والمرضع الصوم، كره لهم وأجزأهم؛ لأنهم أتوا بالأصل فأجزأهم كما لو تحمل المريض الصلاة قائماً. ومن سافر في أثناء النهار أبيح له الفطر، لما روي عن أبي بصرة الغفاري، أنه ركب في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان فدفع، ثم قرب غداه فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسفر. ثم قال: اقترب قيل: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فأكل. رواه أبو داود. ولأنه مبيح للفطر فأباحه في أثناء النهار كالمرض.
وعنه: لا يباح؛ لأنها عبادة لا تختلف بالسفر والحضر، فإذا اجتمعا فيها غلب حكم الحضر كالصلاة، وإن نوى الصوم في سفره فله الفطر لذلك، ولما روى جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس معه. فقيل: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب والناس ينظرون، فأفطر بعضهم وصام بعضهم، فبلغه أن ناساً صاموا فقال:(1/435)
أولئك العصاة» رواه مسلم، وله أن يفطر بما شاء.
وعنه: لا يفطر بالجماع، فإن أفطر به ففي الكفارة روايتان:
أصحهما: لا تجب؛ لأن الصوم لا يجب المضي فيه، فأشبه التطوع، وإذا قدم المسافر وبرئ المريض وهما صائمان لم يبح لهما الفطر؛ لأنه زال عذرهما قبل الترخص أشبه القصر، فإن زال عذرهما أو عذر الحائض والنفساء وهم مفطرون ففي الإمساك روايتان، على ما ذكرنا في الصبي ونحوه. ومن أبيح له الفطر لم يكن له أن يصوم غير رمضان، فإن نوى ذلك لم يصح؛ لأنه لم ينو رمضان ولا يصح الزمان لسواه.
فصل:
ولا يجب صوم رمضان إلا بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان ثلاثين يوماً؛ لأنه تيقن به دخول رمضان، ورؤية الهلال، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» متفق عليه. ويقبل فيه شهادة الواحد وعنه: لا يقبل فيه إلا شهادة اثنين، لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين فإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا» رواه النسائي. وقال أبو بكر: إن كان الرأي في جماعة لم يقبل إلا شهادة اثنين؛ لأنهم يعاينون ما عاينه، وإن كان في سفر فقدم، قبل قوله وحده، وظاهر المذهب: الأول. اختاره الخرقي وغيره لما روى ابن عمر قال: «تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام» . رواه أبو داود. ولأنه خبر فيما طريقه المشاهدة يدخل به في الفريضة فقبل من واحد، كوقت الصلاة، والعبد كالحر؛ لأنه ذكر من أهل الرواية والفتيا، فأشبه الحر. وفي المرأة وجهان:
أحدهما: يقبل قولها؛ لأنه خبر ديني فقبل خبرها به كالرواية.
والثاني: لا يقبل؛ لأن طريقه الشهادة ولهذا لا يقبل فيه شاهد الفرع مع إمكان شاهد الأصل، ويطلع عليه الرجال فلم يقبل بالمرأة المنفردة، كالشهادة بهلال شوال.
الثالث: أن يحول دون مطلع الهلال ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر، وفيه ثلاث روايات:(1/436)
إحداهن: يجب الصيام، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له» . متفق عليه. يعني: ضيقوا له العدة من قوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق عليه، وتضييق العدة له أن يحسب شعبان تسعة وعشرين يوماً، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذا حال دون مطلعه غيم أو قتر أصبح صائماً، وهو راوي الحديث وعمله به تفسير له.
والثانية: لا يصوم، لقوله في الحديث الآخر: «فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين يوماً» حديث صحيح. وقال عمار: «من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، حديث صحيح. ولأنه شك في أول الشهر، فأشبه حال الصحو.
الثالثة: الناس تبع للإمام إن صام صاموا وإن أفطر أفطروا، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون» رواه أبو داود.
فصل:
وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم؛ لأنه ثبت ذلك اليوم من رمضان، وصومه واجب بالنص والإجماع، ومن رأى الهلال فردت شهادته لزمه الصوم، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «صوموا لرؤيته» فإن أفطر يومئذ بجماع فعليه القضاء والكفارة؛ لأنه أفطر يوماً من رمضان بجماع تام فلزمته كفارة، كما لو قبلت شهادته.
ولا يجوز الفطر إلا بشهادة عدلين، لحديث عبد الرحمن بن زيد، ولأنها شهادة على هلال لا يدخل بها في العبادة، فلم يقبل فيه الواحد كسائر الشهور، ولا تقبل فيها شهادة رجل وامرأتين لذلك، ولا يفطر إذا رآه وحده لما روي أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال، وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر فذكرا ذلك له، فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال الآخر: أنا صائم. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام. فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك، رواه سعيد. ولأنه محكوم به من رمضان، أشبه الذي قبله، فإذا صام الناس بشهادة اثنين ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال أفطروا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ثم أفطروا» حديث حسن. وإن صاموا لأجل الغيم فلم يروا الهلال لم يفطروا؛ لأنهم إنما صاموا احتياطاً للصوم، فيجب الصوم في آخره احتياطاً.(1/437)
وإن صاموا بشهادة واحد فلم يروا الهلال ففيه وجهان:
أحدهما: لا يفطرون، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن شهد اثنان فصوموا وأفطروا» ولأنه فطر يستند إلى شهادة واحد فلم يجز، كما لو شهد بهلال شوال.
والثاني: يفطرون؛ لأن الصوم ثبت فوجب الفطر باستكمال العدة تبعاً وقد ثبت تبعاً ما لا يثبت أصلاً بدليل أن النسب لا يثبت بشهادة النساء أصلاً، ويثبت بها الولادة ثم يثبت النسب للفراش على وجه التبع للولادة.
فصل:
ومن كان أسيراً، أو في موضع لا يمكنه معرفة الشهور بالخبر فاشتبهت عليه الشهور فإنه يصوم شهراً بالاجتهاد؛ لأنه اشتبه عليه وقت العبادة فوجب العمل بالتحري، كمن اشتبه عليه وقت الصلاة، فإن لم ينكشف الحال فصومه صحيح؛ لأنه أدى فرضه باجتهاده، أشبه المصلي يوم الغيم، وإن انكشف الحال فبان أنه وافق الشهر أجزأه؛ لأنه أصاب في اجتهاده، وإن وافق بعده أجزأه؛ لأنه وقع قضاء لما وجب عليه فصح، كما لو علم، وإن بان قبله لم يجزئه لأنه صام قبل الخطاب، أشبه المصلي قبل الوقت، وإن صام بغير اجتهاد، أو غلب على ظنه أن الشهر لم يدخل فصام لم يجزئه وإن وافق؛ لأنه صام مع الشك فأشبه المصلي شاكاً في أول الوقت.
فصل:
ووقت الصوم من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، لقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق» حديث حسن. وعن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس أفطر الصائم» متفق عليه، ويجوز الأكل والشرب إلى الفجر للآية والخبر.
وإن جامع قبل الفجر ثم أصبح جنباً صح صومه؛ لأن الله تعالى لما أذن في المباشرة إلى الفجر ثم أمر بالصوم دل على أنه يصوم جنباً. وقد روت عائشة وأم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم» . متفق عليه. وإن أصبح وفي فيه طعام أو شراب فلفظه لم يفسد صومه وإن طلع الفجر وهو مجامع فاستدام فعليه القضاء(1/438)
والكفارة؛ لأن استدامة الجماع جماع، وإن نزع فكذلك في اختيار ابن حامد والقاضي؛ لأن النزع جماع كالإيلاج.
وقال أبو حفص: لا قضاء عليه ولا كفارة؛ لأنه تارك للجماع، وما علق على فعل شيء لا يتعلق على تركه. وإن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل، وإن أكل شاكاً في غروب الشمس بطل صومه؛ لأن الأصل بقاء النهار.
[باب النية في الصوم]
لا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنية من الليل لكل يوم، لما روت حفصة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» رواه أبو داود، ولأنه صوم مفروض فاعتبرت فيه النية، من الليل لكل يوم كالقضاء ونحوه، وعنه: تجزئه النية في أول رمضان لجميعه؛ لأنه عبادة واحدة، والأول: المذهب؛ لأن كل يوم عبادة منفردة لا يتصل بالآخر، ولا يفسد أحدهما الآخر فأشبه أيام القضاء، وفي أي وقت من الليل نوى أجزأه للخبر. ولأن الليل محل النوم فتخصيص النية بجزء منه يفوت الصوم، ومن أكل وشرب بعد النية، لم تبطل نيته لأن إباحة الأكل والشرب إلى الفجر دليل على أن نيته لم تفسد به.
فصل:
ويجب تعيين النية لكل صوم يوم واجب، وهو أن يعتقد أنه صائم غداً من رمضان، أو من كفارته أو من نذره. وعنه: لا يجب تعيين النية لرمضان؛ لأنه يراد للتمييز، وزمن رمضان متعين له لا يحتمل سواه، والأولى أصح؛ لأنه صوم واجب فافتقر إلى التعيين كالقضاء، فلو نوى ليلة الشك إن كان غداً من رمضان فهو فرض وإلا فهو نفل، أو نوى نفلاً أو أطلق النية، صح عند من لم يوجب التعيين؛ لأنه نوى الصوم ونيته كافية، ولا يصح عند من أوجبه؛ لأنه لم يجزم به والنية عزم جازم. وإن نوى إن كان غداً من رمضان فأنا صائم وإلا فلا، لم يصح على الروايتين؛ لأنه شك في النية لأصل الصوم، ولا يفتقر مع التعيين إلى نية الفرض؛ لأنه لا يكون رمضان إلا فرضاً، وقال ابن حامد: يحتاج إلى ذلك لأن رمضان للصبي نفل، ومن نوى الخروج من صوم الفرض أبطله؛ لأن النية شرط في جميعه، فإذا قطعها في أثنائه خلا ذلك الجزء عن النية ففسد الكل لفوات الشرط.
فصل:
ويصح صوم التطوع بنية من النهار، لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل(1/439)
علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا. قال: إني إذا صائم» رواه مسلم، ولأن في تجويز ذلك تكثيراً للصيام؛ لأنه قد تعرض له النية من النهار فجاز، كما سومح في ترك القيام والاستقبال في النافلة لذلك، وفي أي وقت نوى من النهار أجزأه في ظاهر كلام الخرقي؛ لأنه نوى في النهار، أشبه ما قبل الزوال.
واختار القاضي أنه يجزئ بنية بعد الزوال؛ لأن النية لم تصحب العبادة في معظمها، أشبه ما لو نوى مع الغروب.
قال أحمد: من نوى التطوع من النهار كتب له بقية يومه، وإذا أجمع من الليل كان له يومه. فظاهر هذا أنه إنما يحكم له بالصيام من وقت نيته لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى» .
وقال أبو الخطاب: يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من أول النهار؛ لأن صوم بعضه لا يصح.
[باب ما يفسد الصوم وما يوجب الكفارة]
يحرم على الصائم الأكل والشرب للآية والخبر، فإن أكل أو شرب مختاراً ذاكراً لصومه أبطله؛ لأنه فعل ما ينافي الصوم لغير عذر، سواء كان غذاء أو غير غذاء كالحصاة والنواة لأنه أكل. وإن استعط أفسد صومه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً» رواه أبو داود وهذا يدل على أنه يفسد الصوم إذا بالغ فيه بحيث يدخل إلى خياشيمه. وإن أوصل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان، أو إلى دماغه مثل أن احتقن أو داوى جائفة بما يصل جوفه، أو طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه بما يصل جوفه، أو قطر في أذنيه فوصل إلى دماغه، أو داوى مأمومة بما يصل إليه؛ أفطر؛ لأنه إذا بطل بالسعوط دل على أنه يبطل بكل واصل من أي موضع كان، ولأن الدماغ أحد الجوفين فأبطل الصوم ما يصل إليه كالآخر. وإن اكتحل فوصل الكحل إلى حلقه أفطر؛ لأن العين منفذ، لذلك يجد المكتحل مرارة الكحل في حلقه، ويخرج أجزاؤه في نخاعته، وإن شك في وصوله لكونه يسيراً كالميل ونحوه ولم يجد طعمه لم يفطر، نص عليه، وإن زرق في إحليله شيئاً أو أدخل ميلاً لم يبطل صومه؛ لأن ما يصل المثانة، لا يصل إلى الجوف ولا منفذ بينهما، إنما يخرج البول رشحاً فهو بمنزلة ما لو ترك في فيه شيئاً، وإن ابتلع ما بين أسنانه أفطر؛ لأنه واصل من خارج يمكن التحرز عنه فأشبه اللقمة.(1/440)
فصل:
وما لا يمكن التحرز منه كابتلاع ريقه، وغربلة الدقيق، وغبار الطريق والذبابة تدخل في حلقه، لا يفطره؛ لأن التحرز منه لا يدخل تحت الوسع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإن جمع ريقه ثم ابتلعه لم يفطر؛ لأنه يصل من معدته، أشبه ما لو لم يجمعه.
وفيه وجه آخر: أنه يفطره، لإمكان التحرز منه. وإن ابتلع النخامة ففيها روايتان:
إحداهما: يفطر لأنها من غير الفم، أشبه القيء.
والثانية: لا يفطر لأنها لا تصل من خارج وهي معتادة في الفم، أشبه الريق. ومن أخرج ريقه من فمه ثم ابتلعه، أو بلع ريق غيره أفطر؛ لأنه بلعه من غير فمه، أشبه ما لو بلع ماء، ومن أخرج درهماً من فمه ثم أدخله وبلع ريقه لم يفطر؛ لأنه لا يتحقق ابتلاع البلل الذي كان عليه، ولذلك لا يفطر بابتلاع ريقه بعد المضمضة والتسوك بالعود الرطب، ولا بإخراج لسانه ثم إعادته. ولو سال فمه دماً أو خرج إليه قلس أو قيء فازدرده أفطر؛ لأن الفم في حكم الظاهر، وإن أخرجه ثم ابتلع ريقه ومعه شيء من المنجس أفطر وإلا فلا.
فصل:
ومن استقاء عمداً أفطر، ومن ذرعه فلا شيء عليه لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقى عمداً فليقض» حديث حسن. وإن حجم أو احتجم أفطر، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحد عشر نفساً، وقال أحمد: حديث ثوبان وشداد بن أوس صحيحان.
فصل:
وتحرم عليه المباشرة للآية، فإن باشر فيما دون الفرج، أو قبل أو لمس فأنزل فسد صومه، فإن لم ينزل لم يفسد، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً قبلت وأنا صائم قال: أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم قلت: لا بأس قال: فمه؟» رواه أبو داود. شبه القبلة بالمضمضة لأنها من مقدمات الشهوة، والمضمضة إذا لم يكن معها نزول الماء لم يفطر كذلك القبلة، ولو احتلم لم يفسد صومه؛ لأنه يخرج عن غير اختياره.
وإن جامع ليلاً فأنزل نهاراً لم يفطر؛ لأن مجرد الإنزال لا يفطر كالاحتلام، وإن(1/441)
كرر النظر فأنزل أفسد صومه؛ لأنه إنزال عن فعل في الصوم أمكن التحرز عنه، أشبه الإنزال باللمس، وإن صرف بصره فأنزل لم يفطر لأنه لا يمكن التحرز عنه وإن أنزل بالفكر لم يفطر لذلك، وإن استمنى بيده فأنزل أفطر؛ لأنه إنزال عن مباشرة أشبه القبلة، وسواء في هذا كله المني والمذي؛ لأنه خارج تخلله الشهوة انضم إلى المباشرة به فأفطر به كالمني، إلا في تكرار النظر لا يفطر، إلا بإنزال المني في ظاهر كلامه؛ لأنه ليس بمباشرة.
فصل:
وما فعل من هذا ناسياً لم يفطره، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أكل أحدكم أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه» متفق(1/442)
عليه، وفي لفظ: «فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله تعالى» فنص على الأكل والشرب، وقسنا عليه سائر ما ذكرناه، وإن فعله مكرهاً لم يفطر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ذرعه القيء فليس عليه قضاء» فنقيس عليه ما عداه، وإن فعله وهو نائم لم يفطر؛ لأنه أبلغ في العذر من الناسي، وإن فعله جاهلاً بتحريمه أفطر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» في حق رجلين رآهما يفعلان ذلك مع جهلهما بالتحريم، ولأنه نوع جهل فلم يعذر به، كالجهل بالوقت، وذكر أبو الخطاب أنه لا يفطر؛ لأن الجهل عذر يمنع [التأثيم] فيمنع الفطر كالنسيان، وإن تمضمض أو استنشق فدخل الماء حلقه لم يفطر؛ لأنه واصل بغير اختياره ولا تعديه فأشبه الذباب الداخل حلقه وإن بالغ فيهما فوصل الماء ففيه وجهان:
أحدهما: لا يفطر؛ لأنه بغير اختياره.
والثاني: يفطر لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عنه لقيط بن صبرة، حفظاً للصوم، فدل على أنه يفطره؛ لأنه تولد بسبب منهي عنه، فأشبه الإنزال عن مباشرة، وإن زاد على الثلاث فيهما فوصل الماء فعلى الوجهين. وإن أكل يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب، أو أن الفجر لم يطلع وقد طلع، أفطر، لما روي عن حنظلة. قال: كنا بالمدينة في رمضان وفي السماء سحاب، فظننا أن الشمس قد غابت فأفطر بعض الناس، ثم طلعت الشمس، فقال عمر: من أفطر فليقض يوماً مكانه رواه سعيد بن منصور. ولأنه أكل ذاكراً مختاراً فأفطر، كما لو أكل يظن أن اليوم من شعبان فبان من رمضان.(1/443)
فصل:
وعلى من أفطر القضاء لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استقاء فليقض» ولأن القضاء يجب مع العذر فمع عدمه أولى، وعليه إمساك سائر يومه لأنه أمر به في جميع النهار فمخالفته في بعضه لا تبيح المخالف في الباقي. ولو قامت البينة بالرؤية بعد فطره فعليه القضاء والإمساك لذلك. ولا تجب الكفارة بغير الجماع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر بها المحتجم ولا المستقيء، ولأن الإيجاب في الشرع ولم يرد بها إلا في الجماع، وليس غيره في معناه؛ لأنه أغلظ، ولهذا يجب به الحد في ملك الغير، والكفارة العظمى في الحج، ويفسده دون سائر محظوراته، ويتعلق به اثنا عشر حكماً.
فصل:
ومن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل فعليه القضاء والكفارة، لما روى أبو هريرة «أن رجلاً جاء فقال: يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال له(1/444)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا، قال: فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا نحن على ذلك أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعذق فيه تمر فقال: أين السائل خذ هذا فتصدق به فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه فقال: أطعمه أهلك» متفق عليه. وسواء في هذا وطء الزوجة والأجنبية،(1/445)
والحية والميتة، والآدمية والبهيمة، والقبل والدبر؛ لأنه وطء في فرج موجب للغسل أشبه وطء الزوجة، ولأنه إذا وجب التفكير بالوطء في المحل المملوك ففيما عداه أولى، ويحتمل أن لا تجب الكفارة بوطء البهيمة لأنه محل لا يجب الحد بالوطء فيه أشبه غير الفرج، وفي الجماع دون الفرج إذا أنزل روايتان:
إحداهما: تجب به الكفارة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل السائل عن الوقاع.
والثانية: لا تجب؛ لأنه مباشرة لا يفطر بغير إنزال فأشبه القبلة، ولا يصح قياسه على الوطء في الفرج، لما بينهما من الفرق، وإنما لم يستفصله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنه فهم منه الوقاع في الفرج، بدليل ترك الاستفصال عن الإنزال. وتجب الكفارة على الناسي والمكره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل السائل عن حاله، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كل أمر غلب عليه الصائم فليس عليه قضاء ولا غيره. فيدخل فيه الإكراه والنسيان، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» رواه النسائي. وقياساً على سائر المفطرات.
وقال ابن عقيل: إن كان الإكراه إلجاء. مثل أن استدخلت ذكره وهو نائم أو مغلوب على نفسه. فلا كفارة عليه؛ لأنه لا فعل له. وفي فساد صومه احتمالان، وإن كان بالوعيد ونحوه فعليه القضاء؛ لأن الانتشار من فعله ولا كفارة عليه لعذره.
فصل:
وفي وجوب الكفارة على المرأة روايتان:
إحداهما: تجب؛ لأنها إحدى المتواطئين فلزمتها الكفارة كالرجل.
والثانية: لا تلزمها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر امرأة المواقع بكفارة، ولأنه حق مال يتعلق بالوطء من بين جنسه فاختص بالرجل كالمهر. فإن كانت ناسية أو مكرهة فلا كفارة عليها رواية واحدة؛ لأنها تعذر بالعذر في الوطء ولذلك لا تحد إذا أكرهت على الزنا بخلاف الرجل، والحكم في فساد صومها كالحكم في الرجل المعذور، ولا تجب الكفارة بالوطء في غير رمضان، لعدم حرمة الزمان.(1/446)
فصل:
ومن لزمه الإمساك في رمضان فعليه الكفارة بالوطء وإن كان مفطراً لأنه وطء يحرم بحرمة رمضان فوجبت به الكفارة كوطء الصيام ومن جامع وهو صحيح مقيم ثم مرض أو جن أو سافر؛ لم تسقط الكفارة عنه؛ لأنه أفسد صوماً واجباً في رمضان بجماع تام فوجبت الكفارة وجوباً مستمراً، كما لو لم يطرأ عذر. وإن وطئ ثم وطئ قبل التكفير في يوم واحد فعليه كفارة واحدة بلا خلاف؛ لأنها عبادة تكرر الوطء فيها قبل التكفير فلم تجب أكثر من كفارة كالحج، وإن كان ذلك في يومين ففيه وجهان:
أحدهما: تجزئه كفارة واحدة لأنه جزاء عن جناية تكرر سببها قبل استيفائها فتداخلا كالحدود وكالتي قبلها.
والثاني: تلزمه كفارتان اختاره القاضي؛ لأنه أفسد صوم يومين بجماع فوجبت كفارتان كما لو كانا في رمضانين، فإن كفر عن الأول فعليه للثاني كفارة وجهاً واحداً؛ لأنه تكرر السبب بعد استيفاء حكم الأول فوجب أن يثبت للثاني حكمه كسائر الكفارات.
فصل:
والكفارة عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً للخبر.
وعنه: أنها على التخيير بين الثلاثة، لما روي عن أبي هريرة «أن رجلاً أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً» . رواه مسلم ومالك في " الموطأ ". و" أو " للتخيير، والأول المذهب؛ لأن الحديث الأول أصح وهو متضمن للزيادة، وإن عجز عن الأصناف كلها سقطت؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الذي أخبره بحاجته إليها بأكلها، ويحتمل أن لا تسقط؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليه المكتل وأمره بالتكفير بعد إخباره بعجزه، والأول أولى؛ لأن الإسقاط آخر الأمرين فيجب تقديمه.
[باب قضاء رمضان]
باب القضاء يجوز تفريق قضاء رمضان، لقول الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، وهذا مطلق يتناول المتفرق، وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن المنكدر أنه قال: بلغني «أن(1/447)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن تقطيع قضاء رمضان، فقال: لو كان على أحدكم دين فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين هل كان ذلك قاضياً دينه؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم» رواه الدارقطني بنحوه والمتتابع أحسن؛ لأنه أشبه بالأداء وأبعد من الخلاف، ويجوز له تأخيره ما لم يأت رمضان آخر؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لقد كان يكون علي الصيام من رمضان فما أقضيه حتى يجيء شعبان. متفق عليه، ولا يجوز تأخيره أكثر من ذلك لغير عذر؛ لأنه لو جاز لأخرته عائشة، ولأن تأخيره غير مؤقت، إلحاقاً لها بالمندوبات، فإن أخره لعذر فلا شيء عليه؛ لأن فطر رمضان يباح للعذر فغيره أولى، وسواء مات أو لم يمت؛ لأنه لم يفرط في الصوم فلم يلزمه شيء، كما لو مات في رمضان، وإن أمكنه القضاء فلم يقض حتى جاء رمضان آخر قضى وأطعم عن كل يوم مسكيناً؛ لأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن تأخير القضاء عن وقته إذا لم يوجب قضاء أوجب كفارة، كالشيخ الهرم وإن فرط فيه حتى مات قبل رمضان آخر، أطعم عنه عن كل يوم مسكين؛ لأن ذلك يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وإن مات المفرط بعد أن أدركه رمضان آخر فكفارة واحدة عن كل يوم يجزئه، نص عليه؛ لأن الكفارة الواحدة أزالت تفريطه فصار كالميت من غير تفريط. وقال أبو الخطاب: عليه لكل يوم فقيران لأن كل واحد يقتضي كفارة، فإذا اجتمعا وجب بهما كفارتان، كالتفريط في يومين. ويجوز لمن عليه قضاء رمضان التطوع بالصوم؛ لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع بها في وقتها قبل فعلها كالصلاة، وعنه: لا يجوز؛ لأنها عبادة يدخل في جبرانها المال فلم يجز التطوع بها قبل فرضها كالحج، والأول أصح؛ لأن الحج يجب على الفور، بخلاف الصيام، ولا يكره قضاؤه في عشر ذي الحجة؛ لأن عمر كان يستحب القضاء فيها، ولأنها أيام عبادة لا يكره القضاء فيها كعشر المحرم، وعنه: يكره؛ لأن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كرهه، ولأن العبادة فيها أحب الأعمال إلى الله تعالى فاستحب توفيرها على التطوع.
[باب ما يستحب وما يكره للصائم]
باب ما يستحب وما يكره ينبغي للصائم أن يحرس صومه عن الكذب والغيبة والشتم والمعاصي، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم قلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم» متفق عليه، ويستحب للصائم السحور، لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «تسحروا فإن في السحور بركة» متفق عليه ويستحب تأخير السحور وتعجيل الفطر، لما روى أبو ذر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تزال أمتي بخير ما أخروا(1/448)
السحور وعجلوا الفطور» من المسند. ويستحب أن يفطر على رطب، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد فعلى ماء، لما روى أنس قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء» ، وهذا حديث حسن، ولا بأس بالسواك؛ لأن عامر بن ربيعة قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» ، وهذا حديث حسن. وهل يكره بالعود الرطب، على روايتين:
إحداهما: لا يكره؛ لأنه يروى عن عمر وعلي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
والأخرى: يكره؛ لأنه لا يأمن أن يتحلل منه أجزاء تفطره.
فصل:
وتكره القبلة لمن تحرك شهوته؛ لأنه لا يأمن إفضاءها إلى فساد صومه ومن لا تحرك شهوته فيه روايتان:
إحداهما: يكره؛ لأنه لا يأمن من حدوث شهوة.
والأخرى: لا يكره، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقبل وهو صائم» متفق عليه لما كان أملك لإربه، وقد روي عن أبي هريرة «أن رجلاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المباشرة للصائم فرخص له، فأتاه آخر وسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ. والذي نهاه شاب» . رواه أبو داود، والحكم في اللمس وتكرار النظر كالحكم في القبلة؛ لأنهما في معناها. ويكره أن يذوق الطعام، فإن فعل فلم يصل إلى حلقه شيء لم يضره، وإن وصل شيء فطره، ويكره مضغ العلك القوي الذي لا يتحلل منه شيء، فأما ما يتحلل منه أجزاء يجد طعمها في حلقه فلا يحل مضغه، إلا أن لا يبلع ريقه، فإن بلعه فوجد طعمه في حلقه فطره، وإن وجد طعم ما لا يتحلل منه شيء في حلقه ففيه وجهان:
أحدهما: يفطره كالكحل.
والثاني: لا يفطره؛ لأن مجرد الطعم لا يفطر، كمن لطخ باطن قدميه بالحنظل فوجد مرارته في حلقه لم يفطره، ويكره الغوص في الماء لئلا يدخل مسامعه، فإن دخل فهو كالداخل من المبالغة في الاستنشاق؛ لأنه حصل بفعل مكروه، فأما الغسل فلا بأس به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصبح جنباً ثم يغتسل.(1/449)
فصل:
ويكره الوصال وهو أن يصوم يومين لا يفطر بينهما، لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تواصلوا قالوا: إنك تواصل. قال: إني لست كأحد منكم إني أُطعم وأُسقى» متفق عليه. فإن أخّر فطره إلى السحر جاز، لما روى أبو سعيد أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر» أخرجه البخاري.
[باب صوم التطوع]
وهو مستحب، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الله تعالى: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، الصيام جنة، والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» . متفق عليه، وأفضله ما روى عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً» متفق عليه.
ويستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لما روى أبو هريرة قال: «أوصاني خليلي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثلاث؛ صيام ثلاث أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» ، متفق عليه. ويستحب أن يجعلها أيام البيض، لما روى أبو ذر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة» وهذا حديث حسن، ويستحب صوم الاثنين والخميس، لما روى أسامة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس فسئل عن ذلك فقال: إن أعمال الناس تعرض يوم الاثنين والخميس» . رواه أبو داود. ويستحب الصيام في المحرم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم» رواه مسلم، وهذا حديث حسن. ويستحب صيام عشر ذي الحجة، لما روى ابن عباس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من أيامٍ العملُ الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» وهذا حديث حسن صحيح. وصوم يوم عرفة كفارة سنتين وهو التاسع من ذي الحجة، وصوم عاشوراء كفارة سنة، وهو العاشر من المحرم، لما روى أبو قتادة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده» وقال في صيام يوم عاشوراء: «إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده» رواه مسلم.
ولا يستحب لمن(1/450)
بعرفة أن يصوم؛ ليتقوى على الدعاء؛ لما روى ابن عمر قال: «حججت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يصمه، ومع أبي بكر فلم يصمه، ومع عمر فلم يصمه، ومع عثمان فلم يصمه، فأنا لا أصومه ولا آمر به، ولا أنهى عنه» ، حديث حسن، ومن صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال - وإن فرقها - فكأنما صام الدهر؛ لما روى أبو أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام شهر رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله» رواه مسلم.
فصل:
ويكره إفراد الجمعة بالصيام. لما روى أبو هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةَ إِلَّا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» متفق عليه. وإفراد يوم السبت بالصوم؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لَا تَصُومُوا يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِيمَا افْتُرِضَ عَلَيْكُمْ» وهذا حديث حسن صحيح. فإن صامهما معًا لم يكره لحديث أبي هريرة، ويكره إفراد أعياد الكفار بالصيام لما فيه من تعظيمها، والتشبه بأهلها، ويكره صوم الدهر؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل له: فكيف بمن صام الدهر؟ قال: «لا صام ولا أفطر» حديث حسن؛ ولأنه يشبه التبتل المنهي عنه. ويكره إفراد رجب بالصوم؛ لما فيه من تشبهه برمضان، وقد روي عن خرشة قال: رأيت عمر يضرب أكف الناس حتى يضعوها في الطعام. يعني في رجب. ويقول: إنما هو شهر كانت الجاهلية تعظمه، ثم يقول: صوموا منه، وأفطروا، وروى سعيد بن منصور أوله بمعناه، ولم يقل فيه: " صوموا منه وأفطروا ". وقال أصحابنا: يكره صوم يوم الشك وهو اليوم الذي يُشَكُّ فيه هل هو من شعبان أو من رمضان إذا كان صحوًا، ويحتمل أنه محرم؛ لقول عمار: «من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - رواه أبو داود والترمذي نحوه، وصححه والمعصية حرام.
وكذلك استقبال رمضان باليوم واليومين؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين إلا أن يكون رجلا كان يصوم صيامًا فليصمه» متفق عليه. وما وافق هذا كله عادة فلا بأس بصومه لهذا الحديث، وقد دل هذا الحديث بمفهومه على جواز التقدم بأكثر من يومين. وقد روي عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إِذَا كَانَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمْسِكُوا عَنِ الصِّيَامِ حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ» وهذا حديث صحيح، فيحمل الأول على الجواز، وهذا على نفي الفضيلة جمعًا بينهما.
فصل:
ويحرم صوم العيدين عن فرض أو تطوع، فإن صامهما فقد عصى ولم يجزآه عن فرض؛ لما روى أبو عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب فقال: «هذان يومان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهما، يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر(1/451)
تأكلون من نسككم.» متفق عليه، ولا يجوز صيام أيام التشريق؛ لما روى نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل» رواه مسلم. وفي صيامهما للفرض روايتان:
إحداهما: يحرم لهذا الحديث.
والثانية: يجوز لما روي عن ابن عمر وعائشة أنهما قالا: «لم يرخص في أيام التشريق أن يُصمن إلا لمن لم يجد الهدي» رواه البخاري. وقسنا على صوم المتعة صوم كل فرض لأنه في معناه.
فصل:
ومن دخل في صيام تطوع فله الخروج منه، ولا قضاء عليه، وعنه: عليه القضاء؛ لأنه عبادة فلزمت بالشروع كالحج.
والأول: المذهب؛ لما روت عائشة قالت: «قلت: يا رسول الله، أهديت لنا هدية أو جاءنا زَوْرٌ، وقد خبأت لك شيئًا: قال ما هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئته به فأكل ثم قال: قد كنت أصبحت صائمًا» رواه مسلم؛ ولأن كل صوم لو أتمه كان تطوعًا؛ لا يلزمه إتمامه، وإن خرج منه لم يلزمه قضاؤه، كما لو اعتقده من رمضان فبان من شعبان، وإن كان الصوم مكروهًا، فالفطر منه مستحب؛ لما روي عن جويرية بنت الحارث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: «أصمت أمس؟ قالت: لا، قال: أتريدين أن تصومي غدًا؟ قالت: لا، قال: فأفطري» متفق عليه، وسائر التطوعات من الصلاة، والاعتكاف وغيرهما كالصوم، إلا الحج والعمرة.
وعنه: أن الصلاة أشد فلا يقطعها، ومال إليها أبو إسحاق والجوزجاني؛ لأن الصلاة ذات إحلال وإحرام، فأشبهت الحج، والأول المذهب؛ لأن ما جاز ترك جميعه جاز ترك بعضه كالصدقة والحج والعمرة يخالفان غيرهما؛ لأنه يمضي في فاسدهما فلا يصح القياس عليهما، ومن دخل في واجب كقضاء، أو نذر غير معين، أو كفارة؛ لم يجز له الخروج منه؛ لأنه تعين بدخوله فيه، فصار كالمتعين، فإن خرج منه لزمه أكثر مما كان عليه.
فصل:
ويستحب تحري ليلة القدر؛ لقول الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] ، وهي في رمضان؛ لأن الله تعالى أخبر أنه أنزل فيها القرآن، وأنه أنزله في(1/452)
شهر رمضان، فيدل على أنها في رمضان. وأرجاه الوتر في ليالي العشر الأواخر؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» وفي لفظ: «فاطلبوها في العشر الأواخر في الوتر منها» متفق عليه. وقال أبي بن كعب: إنها ليلة سبع وعشرين، «أخبرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها ليلة صبيحتها تطلع الشمس ليس لها شعاع. فعددنا وحفظنا» . هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم إلى قوله ((شعاع)) ، فهذا أصح علاماتها، وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنها ليلة بلجة سمحة لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها بيضاء لا شعاع لها» ، من " المسند "، وروى أبو سعيد عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «قد أُرِيتُ هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين، قال أبو سعيد: فأمطرت تلك الليلة، وكان المسجد على عريش فوكف المسجد، فأبصرت عيناي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين.» متفق عليه، والحديثان يدلان على أنها تتنقل في ليالي الوتر من العشر؛ لأن كل واحد منهما يدل على وجود علامتها في ليلة، فينبغي أن يجتهد في ليالي الوتر من العشر كله، ويكثر من الدعاء لعله يوافقها، ويدعو بما روي «عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله إن وافقتها فبم أدعو؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.(1/453)
[كتاب الاعتكاف]
وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه، وهو مستحب؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده.» متفق عليه، وليس بواجب؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يفعلوه، ولا أمروا به إلا من أراده، ويجب بالنذر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» رواه البخاري.
فصل:
ويصح من الرجال والنساء، وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها لأنه يملك استمتاعها فلا تملك تفويته بغير إذنه، وليس للعبد الاعتكاف بغير إذن سيده؛ لأنه يملك نفعه، فإن أذن لهما، صح منهما؛ لأن أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن يعتكفن بإذنه، وإن شرعا فيه تطوعًا فلهما إخراجهما منه، وإن كان بإذنهما؛ لأنه لا يلزم بالشروع فيه، وإن كان منذورًا مأذونًا فيه؛ لم يجز إخراجهما منه سواء كان معينًا أو مطلقًا؛ لأنه يتعين بالشروع، ويجب إتمامه فلم يجز التحليل منه كالصوم، وإن كان النذر والدخول فيه بغير إذن، فلهما منعهما من ابتدائه، وإخراجهما منه بعد الشروع فيه؛ لأنه نذر يتضمن تفويت منافع مملوكة لغيرهما فأشبه نذر عارية عبد غيره.
فصل:
والمكاتب كالحر في الاعتكاف؛ لأنه لا حق للسيد في نفعه، ومن نصفه حر إن لم يكن بينهما مهايأة، فهو كالقن؛ لتعلق حق سيده بنفعه في زمن اعتكافه، وإن كان بينهما مهايأة فهو في زمن سيده كالقن، وفي زمن نفسه كالحر لعدم حق السيد فيه.
فصل:
ولا يصح إلا بنية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ؛ ولأنه عبادة محضة فأشبه الصوم، وإن كان فرضًا لزمه نية الفرضية؛ ليميزه عن التطوع كصوم الفرض. وإن نوى الخروج منه ففيه وجهان:(1/454)
أحدهما: يبطل كما لو قطع نية الصوم.
والثاني: لا يبطل لأنه قربة تتعلق بمكان فلا يخرج منها بنية الخروج كالحج.
فصل:
ويصح بغير صوم، وعنه: لا يصح إلا به؛ لما روى ابن عمر «أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية، فسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: اعتكف وصم» رواه أبو داود.
والمذهب الأول؛ لما روي عن عمر أنه قال: «يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوف بنذرك» متفق عليه. ولو كان الصوم شرطًا لم يصح في الليل منفردًا؛ ولأن كل عبادة صح بعضها بغير صوم صح جميعها بغيره كالحج، والأفضل الصوم؛ ليجمع بين العبادتين ويخرج من الخلاف، فعلى هذه الرواية يصح اعتكاف ليلة وبعض يوم، وعلى الأخرى لا يصح أقل من زمن يصح فيه الصوم. وإن نذر أن يعتكف بصوم؛ لزمه؛ لأنه صفة مقصودة في الاعتكاف فلزم بالنذر كالتتابع.
فصل:
ولا يصح من رجل ولا امرأة إلا في المسجد؛ لقول الله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأنها واجبة عليه فلا يجوز تركها، ولا كثرة الخروج الذي يمكن التحرز منه؛ والأفضل أن يعتكف في الجامع؛ لأن ثواب الجماعة فيه أكثر، ويصح من المرأة في جميع المساجد لعدم وجوب الجماعة عيها.
ومن نذر الاعتكاف في مسجد بعينه، جاز الاعتكاف في غيره؛ لأن الله تعالى لم يعين لأداء الفرض موضعًا، فلم يتعين بالنذر إلا المساجد التي قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى.» متفق عليه. فإنها تتعين بالنذر، فإن نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لم يجزئه الاعتكاف في غيره؛ لأنه أفضلها، وإن نذره في مسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاز أن يعتكف في المسجد الحرام لفضله عليه، ولم يجز في المسجد الأقصى؛ لأنه مفضول، وإن نذر الاعتكاف في(1/455)
المسجد الأقصى جاز له الاعتكاف فيهما؛ لأنهما أفضل منه، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام» رواه مسلم.
وفي " المسند " عن رجال من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن رجلاً قال يوم الفتح: يا نبي الله، إني نذرت لأصلين في بيت المقدس، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: والذي بعث محمدًا بالحق لو صليت هاهنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس» .
فصل:
فإن عين بنذره زمنًا، تعين ولزمه أن يعتكف فيه؛ لأن الله تعالى عين لعباده زمنًا فتعين بالنذر، فإن نذر اعتكاف العشر الأواخر لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس ليلة إحدى وعشرين، ويخرج منه بعد غروب شمس الشهر؛ لأن ذلك هو العشر، تامًا كان الشهر أو ناقصًا.
وعنه: أنه يدخل معتكفه إذا صلى الصبح؛ لما روت عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الصبح، ثم يدخل معتكفه» ، متفق عليه. وإن نذر عشر ليالي من الشهر فخرج الشهر ناقصا لزمه قضاء ليلة عن العاشرة؛ لأنه صرح بذلك، وإن نذر اعتكاف شهر بعينه لزمه دخول معتكفه قبل غروب الشمس من أوله، ويخرج منه بعد غروبها من آخره، تاماً كان الشهر أو ناقصاً؛ لأنه ذلك هو الشهر. وإن نذر اعتكاف شهر مطلق خير بين اعتكاف ما بين هلالين وبين اعتكاف ثلاثين يوماً بالعدد؛ لأن شهر العدد ثلاثون يوماً. ويلزمه التتابع؛ لأن الشهر بإطلاقه ينصرف إلى المتتابع فلزمه كما لو نذر يوماً. وفيه وجه آخر لا يلزمه التتابع؛ لأنه معنى يصح فيه التفريق فلم يجب التتابع فيه بمطلق النذر، كما لو نذر اعتكاف ثلاثين يوماً، ويدخل في نذره الليل والنهار؛ لأن الشهر عبارة عنهما، وإن نذر اعتكاف ثلاثين يوما ًلم يلزمه التتابع؛ لأن الأيام المطلقة توجد بدون التتابع، والنذر يقتضي ما يتناوله لفظه.
وقال القاضي: يلزمه التتابع لما ذكرنا في الشهر، فعلى قوله تدخل الليالي في نذره، وعلى الأول لا تدخل الليالي إلا أن ينويها أو يشترطها بلفظه؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار، والتثنية والجمع تكرار للواحد، فإن شرط التتابع لزمه ودخل في نذره الليالي التي فيه خلل الأيام، وكذلك إذا نذر الليالي متتابعة دخل في نذره الأيام التي في خللها؛ لأن ذلك يدخل في خلل نذره المتتابع فلزمه كأيام العشر، وإن نذر اعتكاف يوم؛ لزمه دخول معتكفه قبل طلوع الفجر، ويخرج منه بعد مغيب الشمس ليستوفي اليوم يقيناً، ولا يجوز تفريق ذلك في ساعات؛ لأن اليوم اسم للكامل المتتابع، فإن قال: لله(1/456)
تعالى علي أن أعتكف أيام هذا الشهر أو لياليه أو شهراً بالليل أو بالنهار؛ لزمه ما نذر ولم يدخل فيه ما سواه؛ لأنه إنما يلزمه بلفظه، فيجب ما يتناوله اللفظ. وإن نذر اعتكافاً معيناً متتابعاً ففاته؛ لزمه قضاؤه متتابعاً؛ لأن التتابع صفة فيه فلم يجز الإخلال بها في القضاء.
وإن لم يقل: متتابعاً ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه التتابع؛ لأن الأداء متتابع فأشبه ما لو تلفظ بالتتابع.
والثاني: لا يلزمه لأن التتابع في الأداء حصل ضرورة التعيين لا من نذره، فلم يجب في القضاء كقضاء رمضان، فإن لم يكن التتابع واجباً في الأداء لم يجب القضاء بطريق الأولى.
فصل:
ولا يجوز الخروج من المسجد إلا لما لا بد له منه؛ لما روت عائشة قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان.» متفق عليه. ولا خلاف في جواز الخروج لحاجة الإنسان، وإن احتاج إلى مأكول أو مشروب وليس له من يأتيه به، فله الخروج إليه؛ لأنه مما لا بد له منه، وإن حضرت الجمعة وهو في غير موضعها فله الخروج إليها؛ لأنها واجبة بأصل الشرع فلم يجز تركها بالاعتكاف، كالوضوء، وإن دعي إلى إقامة شهادة تعينت عليه أو صلاة جنازة تعينت عليه أو دفنها أو حملها، فعليه الخروج لذلك؛ لأن وجوبه آكد لكونه حق آدمي، ولا يبطل اعتكافه بشيء من هذا ما لم يطل الزمان؛ لأنه خروج يسير مباح لم يبطل به الاعتكاف كحاجة الإنسان.
فصل:
وإذا خرج لذلك فليس عليه العجلة في مشيه أكثر من عادته؛ لأن ذلك يشق عليه، ويجوز أن يسأل على المريض أو غيره في طريقه ولا يعرج إليه ولا يقف؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارة.» متفق عليه. ولأنه بالوقوف يترك اعتكافه وبالسؤال لا يتركه، وإن احتاج إلى قضاء الحاجة وثم سقاية أقرب من منزله، وأمكنه التنظيف فيها، وهو ممن لا يحتشم من دخولها، ولا نقص عليه فيه؛ لم يكن له المضي إلى منزله؛ لأنه خروج لغير حاجة، وإن كان له منزلان فليس له قصد الأبعد لذلك، فإن خشي ضرراً أو نقصاً في مروءته، أو انتظاراً طويلاً، فله قصد منزله، وإن بعد، فإن بذل له صديق أو غيره الوضوء في منزله لم يلزمه؛ لأنه يحتشم ويشق عليه.(1/457)
فصل:
ولا يخرج لعيادة مريض، ولا حضور جنازة لم تتعين عليه.
وعنه: أنه يشهد الجنازة ويعود المريض ولا يجلس، ويقضي الحاجة ويعود إلى معتكفه لأن ذاك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والأولى أولى؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه» ، رواه أبو داود. ولكن إن كان متطوعاً فله ترك اعتكافه لفعل ذلك، ثم يعود إلى الاعتكاف، وإن كان واجباً لم يجز له تركه لما ليس بواجب، وإن شرط فعل ذلك في نذره فله فعله، وكذلك إن شرط العشاء في أهله، جاز؛ لأنه يجب بعقده فكان الشرط فيه إليه كالوقوف، وإن شرط أنه متى مرض أو عرض له عارض خرج، جاز شرطه لذلك، وإن شرط الوطء في اعتكافه أو الفرجة أو النزهة أو البيع للتجارة أو التكسب بالصناعة في المسجد؛ لم يصح شرطه؛ لأن هذا ينافي الاعتكاف فلم يصح شرطه كتركه الإقامة في المسجد.
فصل:
وإن خرج لما له منه بد، بطل اعتكافه. فإن كان ناسياً، فقال القاضي: لا يبطل لأنه فعل المنهي عنه في العبادة ناسياً فلم يبطلها كالأكل في الصوم، وقال ابن عقيل: يبطلها؛ لأنه ترك الاعتكاف فاستوى عمده وسهوه كترك النية، وحكم المكره حكم الناسي؛ لأنه في معناه في العفو بالخبر الوارد فيهما، وإن أخرج بعض جسده، جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف إلى عائشة فتغسله.» متفق عليه. وله صعود سطح المسجد لأنه منه، ولهذا منع الجنب من اللبث فيه. وفي رحبة المسجد ما يدل على روايتين، وجمع القاضي بينهما بحملهما على حالين فقال: إن كان عليها حائط وباب، فهي كالمسجد؛ لأنها معه تابعة له، وإن لم تكن محوطة لم يثبت لها حكمه، وإن خرج إلى منارة خارجة من المسجد بطل اعتكافه؛ لأنها ليست منه، قال أبو الخطاب: ويحتمل أن لا يبطل؛ لأن منارة المسجد كالمتصلة به.
فصل:
وإذا دعت الحاجة إلى ترك الاعتكاف لأمر لا بد منه كحيض المرأة أو نفاسها، أو وجوب الاعتداد عليها في منزلها، أو لمرض يتعذر معه الاعتكاف إلا بمشقة شديدة، أو لوقوع فتنة يخاف منها على نفسه أو ماله أو منزله، أو لعموم النفير والاحتياج إلى خروجه، فله ترك الاعتكاف لأن هذا يسقط به الواجب بأصل الشرع، وهو الجمعة(1/458)
والجماعة، فغيره أولى. وإذا زال العذر والاعتكاف تطوع. فإن شاء رجع إليه وإن شاء لم يرجع؛ لأنه لا يلزم بالشروع. وإن كان منذوراً لم يخل من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون نذر أياماً معلومة مطلقة فعليه إتمام باقيها حسب؛ لأنه يأتي بالمنذور على وجهه.
الثاني: نذر أياماً متتابعة غير معينة فهو مخير بين البناء والقضاء وكفارة يمين، وبين أن يبتدئها ولا كفارة عليه.
الثالث: نذر مدة معينة فعليه قضاء ما ترك وكفارة يمين لتركه فعل المنذور في وقته، إلا في الحيض والنفاس فإنه لا كفارة في الخروج له؛ لأنه خروج لعذر معتاد فأشبه الخروج لحاجة الإنسان.
وذكر القاضي: أن كل خروج لواجب كالشهادة المتعينة والنفير العام وقضاء العدة، فلا كفارة فيه؛ لأنه خروج واجب أشبه الخروج للحيض. وذكر أبو الخطاب رواية تدل على أن كل من ترك المنذور لعذر لا كفارة عليه، قياساً على خروج الحائض من الاعتكاف.
فصل:
ويحرم على المعتكف الوطء لقول الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، فإن وطئ فسد اعتكافه؛ لأن الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها كالصوم والحج، والعامد والساهي سواء؛ لأن الجماع في العبادة يستوي عمده وسهوه، بدليل الحج والصوم ولا كفارة عليه، نص عليه.
وعنه: عليه الكفارة؛ لأنها عبادة يفسدها الوطء فوجب به الكفارة كالحج.
والأول: المذهب؛ لأنها عبادة لا تجب بأصل الشرع، ولا تلزم بالشروع فلا يجب بإفسادها كفارة، كصوم غير رمضان، وهذا ينقض القياس الأول.
واختلف موجبو الكفارة فيها:
فقال القاضي: هي ككفارة الوطء في رمضان قياساً لها عليها.
وعن أبي بكر: هي كفارة يمين؛ لأنها كفارة نذر فكانت كفارة يمين كسائر(1/459)
كفاراته. وأما المباشرة فيما دون الفرج فإن كانت لغير شهوة فهي مباحة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدني رأسه إلى عائشة فترجله وهو معتكف، وإن كانت لشهوة فهي محرمة؛ لقول عائشة: «السنة للمعتكف أن لا يمس امرأة ولا يباشرها.» رواه أبو داود.
فإن فعل فأنزل أفسد اعتكافه وإلا فلا، كقولنا في الصوم. وإن شرب مسكراً أو ارتد فسد اعتكافه؛ لأنه خرج بذلك عن أن يكون من أهل المسجد فصار كالخارج منه، وكل موضع فسد اعتكافه التطوع فلا قضاء عليه ولا غيره لأنه لا يلزم بالشروع فهو كصوم النفل، وإن كان نذراً متتابعاً بطل ما مضى منه واستأنف؛ لأن التتابع وصف في الاعتكاف أمكن أن يأتي به فلزمه، كعدة الأيام. وإن كان نذره مدة معينة ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل ما مضى ويستأنف؛ لأنه اعتكاف متتابع فأشبه المقيد بالتتابع لفظاً.
والثاني: لا يبطل الماضي ويستأنف؛ لأن التتابع حصل ضرورة التعيين، والتعيين مصرح به في النذر، فالمحافظة على المصرح به أولى. فعلى هذا يقضي ما أفسده ويتم كما لو أفسد لعذر، وعليه كفارة في الوجهين جميعاً.
فصل:
وليس للمعتكف بيع ولا شراء إلا لما لا بد منه كالطعام ونحوه، ولا يتكسب بالصنعة؛ لأن الاعتكاف لزوم طاعة الله وعبادته في المسجد، والتجارة فيه تنافيه، فإن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن البيع والشراء في المسجد.» وهو حديث حسن، فإن خرج ترك اعتكافه. ولا يخيط في المسجد ولا يعمل صنعة، سواء كان محتاجاً إلى ذلك أو لم يكن؛ لأن المسجد لم يبن لذلك، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المعتكف يخيط: لا ينبغي له أن يعتكف إذا كان يريد أن يعمل. وإن فعل شيئاً من ذلك في المسجد لم يفسد اعتكافه لأنه لا ينافيه.
فصل:
وليس له أن يبول في المسجد في إناء؛ لأن هذا يقبح ويفحش فوجب صيانة المسجد عنه، كما لو أراد أن يبول في أرضه ثم يغسله، وإن أراد الفصد أو الحجامة، أو القيء فيه فهو كذلك؛ لأنه إراقة النجاسة فهو كالبول، وإن دعت إلى ذلك ضرورة، خرج من المسجد ففعله، كما يخرج لحاجة الإنسان، وإن استغنى عنه فليس له فعله وللمستحاضة الاعتكاف وتحترز بما يمنع تلويث المسجد؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «اعتكفت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد امرأة من نسائه فكانت ترى الحمرة والصفرة وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي» . أخرجه البخاري. ولأن هذا لا يمنع الصلاة فلم يمنع الاعتكاف، بخلاف ما قبله.(1/460)
فصل:
ويجوز للمعتكف الأكل في المسجد، ويضع سفرة أو غيرها يسقط عليها ما يقع منه كيلا يتلوث المسجد، ويغسل يده في طست ليفرغ خارج المسجد، ولا يجوز له الخروج لغسل يديه؛ لأنه خروج لما له منه بد، وله أن يتنظف ويرجل شعره ويغسله؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله وهو معتكف، وله أن يتطيب ويلبس رفيع الثياب؛ لأن هذه عبادة لا تحرم اللباس، فلا تحرم ذلك كالصوم، وله أن يتزوج ويشهد النكاح لذلك، وله أن يحدث غيره ويأمر بحاجته؛ لما «روت صفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معتكفاً فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته ثم قمت لأنقلب فقام معي ليقلبني.» متفق عليه.
فصل:
ويستحب له التشاغل بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن، واجتناب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش والإكثار من الكلام، فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف، ففي الاعتكاف الذي هو استشعار بطاعة الله تعالى ولزوم عبادته وبيته، أولى، ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام؛ لم يبطل بمحرمه كالصوم.
فصل:
فأما التزام الصمت فليس من شريعة الإسلام لما روى قيس بن مسلم قال: دخل أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على امرأة من أحمس، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت. رواه البخاري. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا صمات يوم إلى الليل» رواه أبو داود. فإن نذر ذلك فهو كنذر المعاصي على ما سيأتي.
قال ابن عقيل: ولا يجوز جعل القرآن بدلاً من الكلام؛ لأنه استعمال له في غير ما هو له، فهو كتوسد المصحف، وقد جاء: لا يناظر بكتاب الله. أي: لا يتكلم به عند الشيء تراه، كأن ترى رجلاً جاء في وقته فتقول: وجئت على قدر يا موسى. وذكر أبو عبيد نحو هذا.(1/461)
فصل:
وأما قراءة القرآن وتدريس العلم ومناظرة الفقهاء ومذاكرتهم وكتابة العلم فحكي فيه روايتان:
إحداهما: يستحب، اختارها أبو الخطاب؛ لأن ذلك أفضل العبادات لتعدي نفعه، ويمكن فعله في المسجد فكان مستحباً له كالصلاة.
والثانية: لا يستحب وهو ظاهر المذهب؛ لأن الاعتكاف عبادة شرط لها المسجد، فلم يستحب ذلك فيها كالطواف والصلاة. وعلى هذه الرواية فعله لهذه الأمور أفضل من اعتكافه الشاغل عنها. قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلاً يقرئ في المسجد يريد أن يعتكف لعله أن يختم في كل يوم؟ فقال: إذا فعل هذا كان لنفسه، وإذا قعد في المسجد كان له ولغيره، يقرئ أحب إلي.
فصل:
ومن اعتكف العشر الأخير من رمضان استحب أن يبيت ليلة الفطر في معتكفه، ثم يخرج من المصلى في ثياب اعتكافه؛ لأن أبا قلابة وأبا بكر بن عبد الرحمن وأبا مجلز والمطلب بن حنطب وإبراهيم النخعي كانوا يستحبون ذلك، ولأنها ليلة تتلو العشر ورد الشرع بالترغيب في قيامها والعبادة فيها، فأشبهت ليالي العشر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(1/462)
[كتاب الحج]
الحج من أركان الإسلام وفروضه؛ لقول الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] ولما روينا فيما مضى، وروى مسلم عن أبي هريرة قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثاً. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم» وتجب العمرة على من يجب عليه الحج؛ لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . ولما روى الضبي بن معبد قال: أتيت عمر فقلت: إني أسلمت يا أمير المؤمنين، وإني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما. فقال: هديت لسنة نبيك. رواه النسائي.
ويجب ذلك في العمر مرة؛ لحديث أبي هريرة، ولا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام؛ لما روي عن ابن عباس قال: لا يدخل مكة إلا محرم، إلا الحطابين. إلا أن يكون دخوله لقتال مباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر.» متفق عليه. ودخل أصحابه غير محرمين. أو من يتكرر دخوله كالحطاب والحشاش والصياد، فلهم الدخول بغير إحرام؛ لحديث ابن عباس فإنه استثنى الحطابين، وقسنا عليهم من هو(1/463)
في معناهم. ولأن في إيجاب الإحرام عليهم حرجاً فينتفي بقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
فإن دخل من يجب عليه الإحرام بغير إحرام فلا قضاء عليه لأنه لو وجب قضاؤه للزمه للدخول للقضاء قضاء فلا يتناهى، فسقط لذلك.
فصل:
ولا يجب الحج والعمرة إلا بشروط خمسة: الإسلام والبلوغ والعقل لما تقدم، والحرية، والاستطاعة لقول الله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] فيدل هذا على أنه لا يجب على غير مستطيع، والعبد غير مستطيع لأنه لا مال له، ومنافعه مستحقة، فهذا أعظم عذراً من الفقير.
وهذه الشروط تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يشترط للصحة وهو: الإسلام والعقل، فلا يصح من كافر ولا مجنون لما ذكرنا في الصوم.
وقسم يشترط للإجزاء، وهو البلوغ والحرية؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد حج، ثم عتق فعليه حجة أخرى» . رواه الشافعي والطيالسي في مسنديهما. ولأنه فعل العبادة وهو من غير أهل الوجوب فلم يجزئه إذا صار من أهل الوجوب، كالصبي يصلي ثم يبلغ في الوقت، وإن وجد البلوغ أو العتق في الوقوف بعرفه أو قبله، أجزأهما عن حجة الإسلام، لأنهما أتيا بالنسك حال الكمال فأجزأهما، كما لو وجد ذلك قبل الإحرام. وإن وجد بعد الوقوف في وقته فرجعا فوقفا في الوقت أجزأهما أيضاً لذلك، وإن فاتهما ذلك لم يجزئهما لفوات ركن الحج قبل الكمال.
الثالث: شرط الوجوب حسب، وهو الاستطاعة، فلو تكلف العاجز الحج أجزأه ووقع موقعه؛ لأنه إنما سقط عنه رفقاً به فإذا تحمله أجزأه كما لو تحمل المريض الصلاة قائماً؛ لكن إن كان في الحج كلاً على الناس لمسألته إياهم وتثقيله عليهم، كره له؛ لأنه يضر بالناس بالتزام ما لا يلزمه، وإن لم يكن كلاً على أحد؛ لقوته على المشي(1/464)
والتكسب بصناعة أو معاونة من ينفق عليه، فهو مستحب له لقول الله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] ولأنه التزام للطاعة من غير مضرة لأحد فاستحب كقيام الليل.
فصل:
والاستطاعة في حق البعيد: القدرة والزاد والراحلة؛ لما روى ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: الزاد والراحلة» . قال الترمذي: هذا حديث حسن، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فاشترط لوجوبها الزاد والراحلة كالجهاد.
والزاد: هو ما يحتاج إليه من مأكول ومشروب وكسوة في ذهابه ورجوعه.
فإن وجد ذلك لذهابه دون رجوعه لم يلزمه الحج؛ لأن عليه في غربته ضرراً ومشقة وغيبة عن أهله ومعاشه.
وإن وجد ما يكفيه لذهابه ورجوعه بثمن مثله في الغلاء والرخص، أو بزيادة لا تجحف بماله لزمه، وتعتبر القدرة على الماء وعلف البهائم في منازل الطريق على ما جرت به العادة، ولا يكلف حمل ذلك من بلده لما فيه من المشقة التي لا يمكن تحملها، ويعتبر قدرته على أوعية الزاد والماء؛ لأنه لا يستغنى عنها. ويشترط وجدان راحلة تصلح لمثله بشراء أو كراء، وما يحتاج إليه من آلتها الصالحة لمثله في محمل أو زاملة أو قتب على ما جرت به عادة مثله، وما لا يتخوف الوقوع منه، ويكون ذلك فاضلاً عما يحتاج إليه لقضاء دين حال ومؤجل، ونفقة عياله إلى أن يعود، وما يحتاجون إليه من مسكن وخدم؛ لأن هذا واجب عليه يتعلق به حق آدمي، فكان أولى بالتقديم كنفقة نفسه.
وإن احتاج إلى النكاح لخوف العنت، قدم؛ لأنه واجب لدفع الضرر عن نفسه فأشبه النفقة، وإن لم يخف وجب الحج؛ لأنه تطوع فلا يسقط به الحج الواجب، ومن له عقار يحتاج إليه للسكنى أو إلى أجرته لنفقته أو نفقة عياله أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه لذلك، أو آلات لصناعته المحتاج إليها، أو كتب من العلم يحتاج إليها؛ لم يلزمه صرفه في الحج؛ لأنه لا يستغنى عنه، أشبه النفقة، ومن كان من ذلك فاضلاً عن حاجته كمن له بكتاب نسختان أو له دار فاضلة أو مسكن واسع يكفيه بعضه، فعليه(1/465)
صرف ذلك في الحج، ومن لم يكن له مال فبذل له ولده أو غيره مالاً يحج به؛ لم يلزمه قبوله، وإن بذل له أن يحج عنه أو يحمله؛ لم يلزمه قبوله؛ لأن عليه فيه منة ومشقة فلم يلزمه قبوله كما لو كان الباذل أجنبياً.
فصل:
فأما المكي ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر فلا يشترط في حقه راحلة، ومتى قدر على الحج ماشياً لزمه؛ لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة شديدة، وإن عجز عن المشي وأمكنه الحبو لم يلزمه؛ لأن مشقته في المسافة القريبة أكثر من السير في المسافة البعيدة.
فصل:
واختلفت الرواية في ثلاثة أشياء. وهي إمكان المسير، وهو أن تكمل الشرائط فيه، وفي الوقت سعة يتمكن من السير لأدائه. وتخلية الطريق وهو أن لا يكون في الطريق مانع من خوف ولا غيره. والمحرم للمرأة، فروي أنها من شرائط الوجوب لا يجب الحج بدونها؛ لأنه لا يستطاع فعله بدونها، فكانت شرطاً للوجوب كالزاد والراحلة.
وعنه: أنها شروط للزوم الأداء دون الوجوب؛ لأنها أعذار تمنع نفس الأداء فقط، فلم تمنع الوجوب كالمرض، وإذا قلنا: هي من شرائط الوجوب فمات قبل تحققها، فلا شيء عليه كالفقير، وإن قلنا: هي من شرائط لزوم السعي فاجتمعت فيه الشرائط الخمس، حج عنه كالمريض. وإمكان السير معتبر بما جرت به العادة، فلو أمكنه السير بأن يحمل على نفسه ما لم تجر به عادة لم يلزمه؛ لأن فيه مشقة وتعزيراً.
وتخلية الطريق عبارة عن عدم الموانع فيها، بعيدة كانت أو قريبة، براً أو بحراً الغالب السلامة فيه، فإن لم يكن الغالب السلامة لم يلزمه، كالبر إذا كان فيه مانع، فإن كان الطريق آمناً لكنه يحتاج إلى خفارة كثيرة لم يلزمه الأداء؛ لأنه كالزيادة على ثمن المثل في شراء الزاد، فإن كانت يسيرة؟.
فقال ابن حامد: يلزمه لأنها غرامة ممكنة، يقف الحج على بذلها فلزمته كثمن الزاد.
وقال القاضي: لا يلزمه؛ لأنها رشوة في الواجب فلم تلزمه، كسائر الواجبات.
فصل:
فأما السلامة وكونه على حال يمكنه الثبوت على الراحلة فهو شرط للزوم الأداء(1/466)
خاصة، فإن عدم ذلك لمرض لا يرجى برؤه، أو كبر، أقام من يحج عنه ويعتمر؛ لما روى أبو رزين أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن، قال: حج عن أبيك واعتمر» وهو حديث حسن، فإن برئ بعد أن حج عنه فلا حج عليه؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج عن عهدته كما لو لم يبرأ. وإن كان مرضه يرجى زواله لم يجز أن يستنيب؛ لأنه يرجو القدرة فلم تكن له الاستنابة، كالصحيح الفقير، فإن استناب ثم مات؛ لم يجزئه ووجب الحج عنه؛ لأنه حج عنه وهو غير مأيوس منه فلم يجزئه الحج، كما لو برئ، وهل يجوز لمن يمكنه الحج بنفسه أن يستنيب في حجة التطوع؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأنها حجة لا يلزمه أداؤها فجاز له الاستنابة فيها كالمغصوب.
والثانية: لا يجوز؛ لأنها عبادة لا تجوز الاستنابة في فرضها فلم تجز في نفلها كالصلاة.
فصل:
ومن كملت الشرائط في حقه؛ لزمه الحج على الفور ولم يجز له تأخيره؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة» رواه ابن ماجه. وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً» رواه الترمذي، ولأنه أحد أركان الإسلام فلم يجز تأخيره إلى غير وقته كالصيام.
فصل:
وحج الصبي صحيح؛ لما روى ابن عباس قال: «رفعت امرأة صبياً فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر» رواه مسلم. والكلام فيه في أربع أمور:
أحدها: في إحرامه، إن كان مميزاً أحرم بإذن وليه، ولا يصح من غير إذنه؛ لأنه عقد يؤدي إلى لزوم مال فلم ينعقد منه بنفسه كالبيع. وإن كان غير مميز أحرم عنه وليه الذي يلي ماله، ومعنى إحرامه عنه: عقده الإحرام له فيصير الصبي بذلك محرماً دون(1/467)
الولي، كما يعقد له النكاح، فلذلك صح أن يحرم عنه الولي، محلاً كان أو محرماً ممن حج عن نفسه وممن لم يحج، فإن أحرمت عنه أمه، صح في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه قال: يحرم عنه أبواه، وهو ظاهر حديث ابن عباس.
وقال القاضي: لا يصح لعدم ولايتها على ماله، وفي سائر عصباته وجهان، بناء على القول في الأم، فأما الأجنبي فلا يصح إحرامه عنه وجهاً واحداً.
الثاني: أن ما قدر الصبي على فعله كالوقوف بعرفة ومزدلفة فعليه فعله، وما لا يمكنه فعله كالرمي فعله الولي عنه؛ لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنا إذا حججنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبينا مع الصبيان ورمينا عنهم» رواه ابن ماجه، وإن أمكنه المشي في الطواف وإلا طيف به محمولاً، فقد روى الأثرم عن أبي إسحق أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاف بابن الزبير في خرقة. ولا يرمي عن الصبي إلا من أسقط فرض الرمي عن نفسه.
الثالث: أن ما فعله من محظورات الإحرام، إن كان مما يفرق بين عمده وسهوه، فلا فدية فيه؛ لأن عمد الصبي خطأ، وإن كان مما يستوي عمده وسهوه كجزاء الصيد ونحوه ففيه فدية، وفي محلها روايتان:
إحداهما: تجب في مال الصبي؛ لأنه واجب بجنايته فلزمت كجنايته على آدمي.
والثانية: تجب على وليه لأنه أدخله في ذلك وغرر بماله. وإن وطئ الصبي أفسد حجه. ووجبت البدنة ويمضي في فاسده، وعليه القضاء إذا بلغ، وهل يجزئه القضاء عن حجة الإسلام ينظر فإن كانت الفاسدة؛ لو صلحت أجزأت، وهو أن يبلغ في وقوفها، أجزأ القضاء أيضاً وإلا فلا.
الرابع: أن ما يلزمه من النفقة بقدر نفقة الحضر فهو في ماله؛ لأن الوالي لم يكلفه ذلك، وما زاد ففي محله روايتان، كالفدية سواء.
فصل:
وفي حج العبد وهو صحيح؛ لأنه من أهل العبادات فصح حجه كالحر، وإلا فالكلام فيه في أمور أربعة:
أحدها: أنه إن أحرم، صح إحرامه، بإذن سيده وبغير إذنه؛ لأنها عبادة بدنية فصحت منه بغير إذن سيده كالصلاة، فإن أحرم بإذن سيده لم يجز تحليله؛ لأنها عبادة تلزمه بالشروع فلم يملك تحليله إذا شرع بإذنه كقضاء رمضان، وإن أحرم بغير إذنه،(1/468)
فقال أبو بكر: لا يملك تحليله لذلك، وقال ابن حامد: له تحليله، وهو أصح؛ لأن حق السيد فيه ثابت لازم فلم يملك العبد إبطاله بما لا يلزمه، كالاعتكاف، فإن أذن له ثم رجع قبل إحرامه فهو كمن لم يأذن، فإن لم يعلم العبد برجوعه حتى أحرم ففيه وجهان، بناء على الوكيل هو ينعزل بالعزل قبل علمه به؟ على روايتين.
الثاني: إذا نذر العبد الحج انعقد نذره؛ لأنه تكليف فانعقد نذره كالحر، فإن كان بإذن سيده لم يملك منعه من الوفاء به؛ لأنه أذن في التزامه، وإن كان بغير إذنه فله منعه، ذكره ابن حامد.
وقال القاضي: لا يجوز لأن تجويز ذلك يفضي إلى تمكينه من التسبب إلى إبطال حق سيده، فمتى عتق فعليه الوفاء به، ولا يفعله إلا بعد حجة الإسلام.
الثالث: أن ما جنى العبد مما يوجب الفدية فعليه فديته بالصيام فقط؛ لأنه كالمعسر وأدنى منه، فإن ملكه السيد هدياً وأذن له في الفدية به وقلنا: إنه يملك، فعليه الفدية به وإلا ففرضه الصيام، وإن تمتع أو قرن بإذن سيده فهدي التمتع والقران عليه؛ لأن النسك له، فكانت الفدية عليه، كالزوجة إذا فعلته بإذن زوجها.
وقال القاضي: هو على سيده؛ لأنه بإذنه.
الرابع: أن العبد إذا وطئ أفسد حجه وعليه المضي في فاسده ويصوم مكان البدنة، ثم إن كان الإحرام مأذوناً فيه لم يكن لسيده تحليله منه، وإن لم يكن مأذوناً فيه فله تحليله؛ لأن هذا الإحرام هو الذي كان صحيحاً، فحكمه في ذلك حكمه.
فصل:
في حج المرأة ثلاثة أمور:
أحدها: أنه لا يحل لها السفر بغير محرم؛ لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر،(1/469)
أن تسافر مسيرة يوم، إلا ومعها ذو محرم» متفق عليه. والمحرم زوجها، أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب، أو سبب مباح، كابنها وأخيها من نسب أو رضاع وربيبها ورابها، فأما عبدها فليس بمحرم لها؛ لأنها تحل له إذا عتق، وليس بمأمون عليها، ومن حرمت عليه بسبب محرم كالزنا أو وطء الشبهة فليس بمحرم؛ لأن تحريم ذلك بسبب غير مشروع، فأشبه التحريم باللعان، ونفقة المحرم عليها؛ لأنه من سبيلها، فكان عليها نفقته كالراحلة، ولا يلزمه الخروج معها إلا أن يشاء؛ لأنه تكلف شديد فلم يلزمه لأجل غيره كالحج عن الغير، وإن مات المحرم في الطريق، مضت إذا كانت قد تباعدت، وإن كانت قريبة رجعت. وإن حجت امرأة بغير محرم أساءت، وأجزأها حجها، كما لو تكلف رجل مسألة الناس والحج.
الثاني: أنه ليس للرجل منع زوجته من حج الفرض؛ لأنه واجب بأصل الشرع فأشبه صوم رمضان، ويستحب لها استئذانه جمعاً بين الحقين، وله منعها من حج التطوع؛ لأن حقه ثابت في استمتاعها فلم تملك إبطاله بما لا يلزمها كالعبد، فإن أحرمت به فحكمها حكم العبد على ما فصل فيه.
الثالث: أنه ليس لها الخروج للحج في عدة الوفاة؛ لأنها واجبة في المنزل، تفوت، فقدمت على الحج الذي لا يفوت. وإن مات زوجها في الطريق بعد تباعدها، مضت في سفرها؛ لأنه لا بد من سفرها، فالسفر الذي يحصل به الحج أولى، وإن كانت قريبة رجعت لتقضي العدة في منزلها.(1/470)
فصل:
ومن وجب الحج عليه فمات قبل فعله، وجب الحج عنه؛ لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أبيها، مات ولم يحج، قال: حجي عن» أبيك رواه النسائي، ولأنه حق مستقر تدخله النيابة فلم يسقط بالموت، كالدين، ويحج عنه من رأس ماله؛ لأنه واجب فكان من رأس المال كالدين.
فصل:
ويستناب عنه، وعن المعضوب من حيث وجب عليهما، إما من بلدهما، أو من الموضع الذي أيسرا منه، ولا يجزئ الحج عنهما من الميقات؛ لأن الحج واجب عليه من بلده، فوجب أن تكون النيابة عنه منه؛ لأن النائب يقوم مقامه فيما وجب عليه، فيؤدي من حيث وجب.
وإن خرج للحج فمات في الطريق، استنيب عنه من حيث انتهى إليه؛ لأنه أسقط عنه ما ساره.
وإن مات بعد فعل بعض المناسك، فعل عنه ما بقي لأن ما جاز أن ينوب عنه في جميعه جاز في بعضه كالزكاة، وسواء كان إحرامه لنفسه أو عن غيره، فإن لم يخلف الميت تركة تفي بالحج عنه من بلده، حج عنه من حيث تبلغ، نص عليه أحمد في الوصية بالحج؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ولأنه قدر على أداء الواجب على القصور فلزمه، كمن قدر على الصلاة قاعداً.
وذكر القاضي أنه لا يحج عنه؛ لأنه لا يمكن أداء الحج على الكمال، والأول أولى.
فصل:
فإن اجتمع على الميت مع الحج دين آدمي، احتمل تقديم الدين؛ لتأكده بحاجة الآدمي إليه، وغنى الله عن حقه، واحتمل أن يتحاصا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن الحج عمن عليه حج قال: «أرأيت لو كان على أخيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فاقض فالله أحق بالوفاء» رواه النسائي. فعلى هذا يؤخذ ما يخص الحج فيصنع به ما صنع بتركة من لم يخلف ما يفي بالحجة الواجبة.
فصل:
ويستناب عن الميت وإن لم يأذن؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أمر بالحج عنه ولا إذن له، علم أن الإذن غير معتبر، ولا يجوز النيابة عن الحي إلا بإذنه؛ لأنه من أهل الإذن فلم تجز النيابة عنه بغير إذنه كأداء الزكاة، وتجوز النيابة عنهما في حج التطوع؛ لأن ما جاز(1/471)
فرضه جاز نفله كالصدقة، فأما القادر على الحج بنفسه، فلا تجوز له الاستنابة في الفرض؛ لأنه عليه في بدنه، فلا ينتقل عنه إلا في موضع الرخصة للحاجة المعلومة وبقي فيما عداه.
فصل:
ولا يجوز أن ينوب في الحج من لم يسقط فرضه عن نفسه؛ لما روى ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من شبرمة؟ قال: قريب لي، قال: هل حججت قط؟ قال: لا، قال: فاجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة» . رواه أبو داود. ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياساً على الحج، ولا يجوز أن يتنفل بهما من لم يسقط فرضهما، ولا أن يؤدي النذر فيهما وعليه فرضهما؛ لأن التنفل والنذر أضعف من حج الإسلام، فلم يجز تقديمهما عليه كالحج عن غيره، فإن أحرم عن غيره أو نذره أو نفله قبل فرضه، انقلب إحرامه لنفسه عن فرضه.
وعنه: يقع عن غيره ونذره ونفله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما لامرئ ما نوى» والأول المذهب؛ لحديث ابن عباس في الحج عن غيره، ووجود معناه في النذر والنفل. ولو أمر المعضوب من يحج عنه طوعاً أو نفلاً أو نذراً وعليه حجة الإسلام انصرف إليها؛ لأن فعل نائبه كفعله، وهكذا إن حج عن الميت نذراً أو نفلاً قبل حجة الإسلام، وإن استنيب عنهما من يحج النذر والفرض في عام واحد صح؛ لأنه لم يتقدم النذر على حجة الإسلام، وأي النائبين أحرم أولاً وقع عن حجة الإسلام لتحريم تقديم النذر عليها، وإن استنابه اثنان فأحرم عنهما لم يقع على واحد منهما ووقع عن نفسه؛ لأنه يتعذر وقوعه عنهما، وليس أحدهما أولى به من الآخر.
وإن أحرم عن أحدهما لا بعينه احتمل ذلك أيضاً لذلك واحتمل صحته؛ لأن الإحرام يصح مبهماً، فصح عن المجهول، وله صرفه إلى من شاء منهما، فإن لم يصرفه حتى طاف شوطاً لم يجز عن واحد منهما؛ لأن هذا الفعل لا يلحقه فسخ، وليس أحدهما أولى به من الآخر، وإن أحرم عن أحدهما وعن نفسه، انصرف إلى نفسه لأنه لما تعذر وقوعه عنهما كان هو أولى به.(1/472)
[باب مواقيت الحج]
باب المواقيت وللحج ميقاتان:
ميقات مكان، وميقات زمان، فأما ميقات المكان فالمنصوص عليه خمسة. لما روى ابن عباس قال: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم. قال: فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله، وكذلك أهل مكة يهلون منها» متفق عليه. وعن عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل العراق ذات عرق. رواه أبو داود. فهذه المواقيت لكل من مر عليها من أهلها ومن غيرهم للخبر. ومن منزله بين الميقات ومكة، فميقاته: منزله؛ للخبر، وميقات من بمكة منها، وسواء في ذلك أهلها أو غيرهم للخبر، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المتمتعين من أصحابه فأحرموا منها، وعنه فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة: أهل من الميقات. فإن لم يفعل فعليه دم. وذكر القاضي فيمن دخل مكة محرماً عن غيره بحج، أو عمرة، ثم أراد أن يحج عن نفسه، أو دخل مكة محرماً لنفسه ثم أراد أن يحرم عن غيره بحج أو عمرة، أنه يلزمه الإحرام من الميقات، فإن لم يفعل فعليه دم؛ لأنه جاز الميقات مريداً للنسك لنفسه وأحرم دونه فلزمه دم، كما لو تجاوزه غير محرم، ولنا الخبر. وإن كل ميقات لمن أتى عليه فكذلك مكة، ولأن هذا حصل بمكة حلالاً على وجه مباح، فكان له الإحرام منها بلا دم، كما لو كان الإحرامان لشخص، واحد ومن أي موضع في مكة أحرم جاز؛ لأنها كلها موضع للنسك، وإن أحرم خارجاً منها من الحرم جاز أيضاً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه في حجة الوداع: «إذا أردتم أن تنطلقوا إلى منى فأهلوا من البطحاء» وهي خارج من مكة، ولأن ما اعتبر فيه الحرم استوت البلدة فيه وغيرها كالبحر. وميقات العمرة للمكي ومن في الحرم، من الحل؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أخاها عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم.» متفق عليه. وكانت بمكة يومئذ. ومن أي الحل أحرم جاز. لأن المقصود بالإحرام منه الجمع بين الحل والحرم في النسك؛ لأن أفعال العمرة كلها في الحرم، إلا الإحرام، بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الحل للوقوف بعرفة، فيحصل الجمع بين الحل والحرم.
فصل:
ومن جاوز الميقات مريداً لموضع قبل مكة، ثم بدا له الإحرام، أحرم من موضعه،(1/473)
كما أن من دخل مكة يحرم منها، وإن مر به كافر أو عبد أو صبي، فأسلم الكافر، وأعتق العبد، وبلغ الصبي دونه، أحرموا من موضعهم ولا دم عليهم؛ لأنهم أحرموا من الموضع الذي وجب عليهم الإحرام فيه، فأشبهوا المكي والمتجاوز غير مريد لمكة.
وعنه في الكافر يسلم: يخرج إلى الميقات، فإن خشي الفوات أحرم من موضعه وعليه دم، والصبي والعبد في معناه؛ لأنهم تجاوزوا الميقات غير محرمين، قال أبو بكر: وبالأول أقول، وهو أصح لما ذكرناه، ومن لم يكن طريقه على ميقات، فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم؛ لما روى ابن عمر قال؛ «لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حد لأهل نجد قرناً، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا، قال: فانظروا وخذوها من طريقكم، فحد لهم ذات عرق.» رواه البخاري. ولأن هذا مما يدخله الاجتهاد والتقدير، فإذا اشتبه على الإنسان صار إلى اجتهاده فيه كالقبلة، فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم قبله؛ لأن تقديم الإحرام عليه جائز وتأخيره حرام.
فصل:
والأفضل أن لا يحرم قبل الميقات؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا من ذي الحليفة، فإن أحرم قبله، جاز؛ لأن الصبي بن معبد أحرم قبل الميقات قارناً فذكر ذلك لعمر فقال: هديت لسنة نبيك. ومن بلغ الميقات مريداً للنسك؛ لم يجز له تجاوزه بغير إحرام؛ لما تقدم من حديث ابن عباس، فإن تجاوزه غير محرم؛ لزمه الرجوع ليحرم منه؛ لأن من قدر على فعل الواجب لزمه، فإن رجع فأحرم منه فلا دم عليه؛ لأنه أدى الواجب فأشبه من لم يتجاوزه، فإن لم يمكنه الرجوع لخوف أو خشية الفوات فأحرم من موضعه، أو أحرم من موضعه لغير عذر، فعليه دم لأنه ترك الواجب من مناسك الحج، فإن رجع بعد ذلك إلى الميقات لم يسقط الدم؛ لأنه استقر عليه بإحرام من دونه، فأشبه من لم يرجع، فإن أحرم المكي بالحج من الحل الذي يلي عرفة، فهو كالمحرم من دون الميقات، وإن أحرم من الحل الذي يلي الجانب الآخر، ثم سلك الحرم فهو كالمحرم قبل الميقات، وإن أحرم بالعمرة من الحرم انعقد إحرامه كالذي يحرم بعد ميقاته، ثم إن خرج قبل الطواف إلى الحل وعاد، ففعل أفعاله تمت عمرته، وعليه دم، وإن لم يخرج وفعل أفعالها ففيه وجهان:
أحدهما: يجزئه، ويجبرها بدم، كالذي يحرم من دون ميقاته.
والثاني: لا يجزئه؛ لأنه نسك فكان من شرطه الجمع بين الحل والحرم كالحج، فعلى هذا لا يعتد بأفعاله، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها.(1/474)
فصل:
وميقات الزمان: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة؛ لقول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] معناه: وقت الحج؛ لأن الحج أفعال وليس بأشهر فلم يكن بد من التقدير. وعن ابن مسعود وجابر وابن الزبير أنهم قالوا: أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والاختيار أن لا يحرم بالحج قبل أشهره؛ لأنه تقديم للعبادة على وقتها فكره، كتقديمها على ميقات المكان، فإن فعل انعقد إحرامه؛ لأنه أحد الميقاتين فانعقد الإحرام بالحج قبله كالآخر، فأما العمرة فلا ميقات لها في الزمان، ويجوز الإحرام بها في جميع السنة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عمرة في رمضان تعدل حجة.»(1/475)
متفق عليه. «واعتمر في ذي القعدة وفي ذي الحجة مع حجته» ، رواه أنس، وهو حديث صحيح.
[باب الإحرام]
يستحب الغسل للإحرام؛ لما «روى زيد بن ثابت أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد لإهلاله واغتسل.» حديث حسن. وعن جابر قال: «أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي» رواه مسلم. فإن لم يجد ماء لم يتيمم؛ لأنه غسل مسنون يراد للتنظيف فلا يسن التيمم عند العجز عنه كغسل الجمعة. وقال القاضي: يستحب له التيمم قياساً على غسل الجنابة، ويستحب له التنظيف بإزالة الشعر والشعث وقطع الرائحة وتقليم الأظفار؛ لأن الغسل شرع لذلك، ثم يتجرد من المخيط في إزار ورداء أبيضين نظيفين جديدين أو غسيلين؛ لما روى ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين» ، ويستحب أن يتطيب في بدنه؛ لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أطيب، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت» ، وقالت: «كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم.» متفق عليهما، ولا يتطيب في ثوبه، فإن فعل فله استدامته حتى ينزعه، فمتى نزعه ثم لبسه فعليه الفدية؛ لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب دون استدامته. ولو نقل الطيب عن بدنه من موضع إلى موضع آخر فعليه الفدية، وإن سال بالحر وغيره إلى موضع آخر، فلا فدية عليه؛ لأنه ليس من جهته.
فصل:
ويستحب أن يحرم عقيب صلاة إما مكتوبة أو نافلة، وروى الأثرم قال: سألت أبا(1/476)
عبد الله: أيما أحب إليك الإحرام في دبر الصلاة أو إذا استوت به ناقته؟ فقال: كل قد جاء، في دبر الصلاة، وإذا علا البيداء، وإذا استوت به ناقته، فوسع فيه كله.
والمشهور الأول؛ لما روى سعيد بن جبير قال: ذكرت لابن عباس إهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أوجب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين فرغ من صلاته ثم خرج، فلما ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راحلته واستوت به قائمة أهل، فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين استوت به راحلته، وذلك أنهم لم يدركوا إلا ذلك، ثم سار حتى علا البيداء فأهل، فأدرك ذلك منه قوم فقالوا: أهل حين علا البيداء» رواه أبو داود، وهذا فيه فضل بيان وزيادة علم، فيتعين الأخذ به، وتقديمه على ما خالفه.
فصل:
وينوي الإحرام بقلبه، ولا ينعقد من غير نية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ولأنها عبادة محضة فافتقرت إلى النية كالصلاة، فإن لبى من غير نية لم يصر محرماً، وإن نوى الإحرام من غير تلبية، انعقد إحرامه؛ لأنه عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب في أولها كالصوم، فإن نوى إحراماً فسبق لسانه إلى غيره، انعقد إحرامه بما نواه، دون ما نطق به؛ لأن النية هي الإحرام، فاعتبرت دون النطق.
فصل:
ويستحب أن ينطق بما أحرم به ويعينه، ويشترط فيه: أن محلي حيث يحبسني، فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني، فإن حبسني حابس فمحلي حيث يحبسني؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بحج» . وعنها قالت: «دخل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ضباعة بنت الزبير فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني» متفق عليهما. ويفيد هذا الشرط شيئين:
أحدهما: أنه متى عاقه عائق من مرض أو غيره فله التحلل.
والثاني: أنه إذا حل لذلك فلا شيء عليه من دم ولا غيره، وغير هذا اللفظ مما يؤدي معناه يجري مجراه، قال ابن مسعود: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت لي وإلا فلا حرج علي. لأن المقصود المعنى، وإنما اعتبر اللفظ لتأديته له.
فصل:
ويجوز الإحرام بنسك مطلق وله صرفه إلى أيها شاء، وإن أحرم بمثل ما أحرم به(1/477)
فلان، صح؛ لما روى أبو موسى قال: «قدمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو منيخ بالبطحاء فقال لي: بم أهللت؟ قال: قلت: لبيك بإهلال كإهلال رسول الله. قال: أحسنت، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا، والمروة، ثم أمرني أن أحل» متفق عليه، ثم إن تبين له ما أحرم به فلان فإحرامه مثله، وإن تبين أن فلاناً لم يحرم فله صرفه إلى ما شاء كالمطلق؛ لأنه عقد الإحرام، وعلق عين النسك على إحرام فلان، فلما لم يحرم فلان، بطل التعيين وبقي المطلق.
وإن علم أن فلاناً أحرم ولم يعلم بما أحرم، أو شك هل أحرم أم لا، فهو كالناسي لإحرامه، وللناسي لما أحرم به صرفه إلى أي نسك شاء لأنه إن صادف ما أحرم به، فقد أصاب، وإن صرفه إلى عمرة، وكان إحرامه بغيرها، فإن فسخه إليها جائز مع العلم فمع الجهل أولى، فإن صرفه إلى قران وكان إحرامه بعمرة، فقد أدخل عليها الحج وهو جائز، وإن كان مفرداً فقد أدخل العمرة على الحج وهو لغو لا يفيد، ولا يقدح في حجه، كما لو فعله مع العلم.
وإن صرفه إلى الإفراد وكان معتمراً، فقد أدخل الحج على العمرة فصار قارناً، ولا تبطل العمرة بترك نيتها، فإن كان قارناً فهو على حاله لذلك.
والنصوص عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه يجعل المنسي عمرة.
قال القاضي: هذا على سبيل الاستحباب؛ لأن ذلك مستحب مع العلم فمع عدمه أولى، فعلى هذا إن صرفه إلى عمرة، فهو متمتع حكمه حكم من فسخ الحج إلى العمرة، وإن صرفه إلى القران لم يجزئه عن العمرة إذ من المحتمل أن يكون مفرداً فلم يصح إدخال العمرة على حجة، ولا يلزمه دم القران؛ لأنه شاك فيما يوجبه، ويصح له الحج هاهنا، وفيما إذا صرفه إلى الإفراد، فإن كان شكه بعد الطواف لم يكن له صرفه إلا إلى العمرة؛ لأن إدخال الحج على العمرة بعد الطواف غير جائز، فإن صرفه إلى إفراد أو قران، تحلل بأفعال الحج ولم تجزئه عن واحد من النسكين؛ لأنه شاك في صحته ولا دم عليه للشك فيما يوجبه، إلا أن يكون معه هدي فيجزئه عن الحج؛ لأن إدخال الحج على العمرة في حقه جائز بعد الطواف.
فصل:
وإن أحرم بحجتين أو عمرتين، انعقد إحرامه بإحداهما، ولا يلزمه للأخرى قضاء ولا غيره؛ لأنهما عبادتان لا يلزم المضي فيهما، فلم يصح الإحرام بهما كالصلاتين، ولو أفسد نسكه ثم أحرم بغيره من جنسه؛ لم يلزمه للثاني شيء ولم يصح لذلك.(1/478)
فصل:
وهو مخير إن شاء أحرم متمتعاً، أو مفرداً قارناً؛ لحديث عائشة. والتمتع: هو الإحرام بعمرة من الميقات، فإن فرغ منها أحرم بالحج من مكة في عامه، والإفراد: الإحرام بالحج مفرداً، والقران: الإحرام بهما معاً أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الإحرام بالحج قبل الطواف؛ لما روت عائشة قالت: «أهللنا بعمرة فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعاً» متفق عليه. فإن أحرم بحج ثم أدخل عليه عمرة؛ لم يصح ولم يصر قارناً لأنه لم يرد بذلك أثر ولا هو في معنى ما جاء به الأثر؛ لأن إحرامه بها لا يزيده عملاً على ما لزمه بإحرام الحج، ولا بغير ترتيبه بخلاف إدخال الحج على العمرة. ومن طاف للعمرة ثم أحرم بالحج معها؛ لم يصح لأنه قد أتى بمقصودها وشرع في التحلل منها، إلا أن يكون معه هدي فله ذلك؛ لأن من ساق هدياً لا يجوز له التحلل حتى ينحر هديه لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فلا يتحلل بطواف، ويتعين عليه إدخال الحج على العمرة، ويصير قارناً بخلاف غيره.
فصل:
وأفضل الأنساك التمتع؛ لما «روى جابر أنه حج مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أهلوا بالحج مفرداً فقال لهم: حلوا من إحرامكم بطواف بالبيت ومن الصفا والمروة، وقصروا وأقيموا حلالاً حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة، فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ قال: افعلوا ما أمرتكم، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثلما أمرتكم به، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله قال: ففعلوا» . متفق عليه. وعنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل إذا كان معه الهدي. وقد روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن بين الحج والعمرة» . متفق عليه. والأول أصح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولحللت» فيدل هذا على فضيلة المتعة، وقد روى عمر وعلي وسعد وابن عمر وحفصة وعائشة وعمران بن حصين - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان متمتعاً، وإنما منعه الحل سوق الهدي، ومعنى حديث أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدخل الحج على العمرة حين امتنع عليه الحل منها. ثم بعد التمتع الإفراد؛ لأنه يأتي بنسكين كاملين، والقارن يقتصر على عمل الحج، ثم القران بعدهما.(1/479)
فصل:
ويستحب للقارن والمفرد إذا لم يكن معهما هدي أن يفسخا نيتهما بالحج، وينويا عمرة مفردة، ويحلا من إحرامهما بطواف وسعي وتقصير ليصيرا متمتعين؛ لحديث جابر.
ويروى عن إبراهيم الحربي أنه قال: قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن جميل إلا خلة واحدة، تقول بفسخ الحج! فقال أحمد: وقد كنت أرى أن لك عقلاً، عندي ثمانية عشر حديثاً صحاحاً جياداً كلها في فسخ الحج، أتركها لقولك؟ فأما من ساق الهدي فليس له ذلك؛ للحديث، ولقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] .
فصل:
ويجب على المتمتع دم لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] والدم الواجب شاة أو سبع بدنة؛ للآية. قال أبو حمزة: سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها، وسألته عن الدم فقال: فيها جزور أو بقرة أو شاة أو شرك في دم. متفق عليه، ولا يجب الدم إلا بشروط خمسة.
أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، وحاضرو المسجد: أهل الحرم، ومن بينه وبينه مسافة القصر؛ لأن الحاضر القريب، والقريب: دون مسافة القصر.
الثاني: أن يعتمر في أشهر الحج لأن المعتمر في غير أشهره لم يجمع بين النسكين، فلم يجب عليه دم كالمفرد، ولو أحرم بالعمرة من غير أشهر الحج، وحل منها في أشهره؛ لم يكن متمتعاً لأن الإحرام نسك لا تتم العمرة إلا به، ولأنه أتى به من غير أشهر الحج فلم يصر متمتعاً كالطواف.
الثالث: أن يحج من عامه، فإن أخر الحج إلى عام آخر؛ لم يكن متمتعاً لأن التمتع بالعمرة إلى الحج يقتضي الموالاة بينهما، ولم يوال، فأشبه المعتمر في غير أشهر الحج.
الرابع: أن لا يسافر بينهما سفر يقصر فيه؛ لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إذا اعتمر في أشهر الحج ثم أقام فهو متمتع، فإن خرج ثم رجع فليس بمتمتع،(1/480)
ولأنه إذا سافر لزمه الإحرام من الميقات، أو من حيث انتهى إليه، فلا يترفه بأحد السفرين، فأشبه المفرد.
الخامس: أن يحل من عمرته، فإن أدخل عليها الحج لم يجب دم المتعة؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أهللنا بعمرة فقدمنا مكة وأنا حائض؛ لم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة. قالت: ففعلت، فلما قضينا الحج أرسلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت معه، فقال: هذه مكان عمرتك فقضى الله حجها وعمرتها ولم يكن في شيء من ذلك هدي ولا صوم ولا صدقة» . متفق عليه. ولأنه يصير قارناً، أشبه ما لو أحرم بهما، وذكر القاضي أنه يشترط أن ينوي في ابتداء العمرة أو أثناءها أنه متمتع؛ لأنه جمع بين عبادتين، فافتقر إلى النية كالجمع بين الصلاتين، وظاهر الآية يدل على عدم اشتراط هذا؛ لأنه يوجد التمتع بدونه والترفه بترك أحد السفرين فلزمه دم كما لو نوى.
فصل:
وفي وقت وجوبه روايتان:
إحداهما: إذا أحرم بالحج لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وبإحرام الحج يفعل ذلك فيجب الدم.
والثانية: إذا وقف بعرفة؛ لأن الحج لا يحصل إلا به، وهو معرض للفوات قبله فلا يحصل التمتع، فأما وقت ذبحه فقال أحمد: إن قدم مكة قبل العشر ومعه هدي نحره عن عمرته؛ لئلا يضيع أو يموت أو يسرق، فإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدموا في العشر فلم ينحروا حتى نحروا بمنى، فجوز النحر قبل إحرامه بالحج؛ لأنه حق مال يتعلق بشيئين فجاز تقديمه على أحد سببيه كالزكاة.
فصل:
فإن لم يجد الهدي فعليه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وتعتبر القدرة(1/481)
في موضعه لأنه موقت له بدل، فاعتبرت قدرته في وقته كالوضوء، ووقت صيام الثلاثة قبل يوم النحر لقول الله تعالى: {فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] . والأفضل أن يكون آخرها يوم عرفة؛ ليحصل صومها أو بعضه بعد إحرام. وإن قدمه على ذلك بعد إحرام العمرة، جاز؛ لأنه وقت جاز فيه نحر الهدي فجاز فيه الصيام كبعد إحرام الحج، ومعنى قوله: {فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] أي في وقته. ولا يجوز تقديم النحر ولا الصوم قبل إحرام العمرة؛ لأنه تقديم له على سببه، فأشبه تقديم الزكاة على النصاب، ويصوم السبعة إذا رجع إلى أهله للآية، ولما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فمن لم يجد فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله» متفق عليه. فإن صامها بعد حجه بمكة أو في طريقه جاز؛ لأنه صوم واجب جاز تأخيره في حق من يصح منه الصوم فجاز تقديمه، كرمضان في حق المسافر، ولا يجب التتابع في شيء من صوم المتعة؛ لأن الأمر فيه مطلق فلم يجب التتابع فيه كقضاء رمضان، فإن لم يصم الثلاث قبل أيام النحر صام أيام منى في إحدى الروايتين لقول ابن عمر وعائشة: لم يرخص في صوم أيام التشريق إلا للمتمتع إذا لم يجد الهدي.
والثانية: لا يصومها؛ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صوم أيام التشريق، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام. وهل يلزمه لتأخيره دم؟ فيه روايتان:
إحداهما: يلزمه؛ لأنه أخر الواجب من المناسك عن وقته فلزمه دم كتأخير الجمار.
والثانية: لا يلزمه دم؛ لأنه صوم واجب يجب القضاء بفواته، فلم يجب عليه بفواته كفارة كصوم رمضان.
وقال القاضي: إن أخره لغير عذر لتفريطه؛ لزمه، وإن أخره لعذر لم يلزمه وإن أخر الهدي الواجب لعذر من ضياع نفقة ونحوها فليس عليه إلا قضاؤه كسائر الهدي الواجب، وإن أخره لغير عذر ففيه روايتان:
إحداهما: لا يلزمه إلا قضاؤه لذلك.
والثانية: عليه هدي آخر؛ لما روي عن ابن عباس أنه قال: من تمتع فلم يهد إلى قابل يهدي هديين. ولأنه من نسك موقت فوجب بتأخيره دم كالرمي.
فصل:
ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي؛ لم يلزمه الانتقال إليه؛ لأنه صوم شرع(1/482)
فيه لعدم الهدي فلم يلزمه الانتقال عنه كصوم السبعة، وله الانتقال عنه كصوم السبعة، وله الانتقال إليه؛ لأنه الأصل وهو أكمل. وإن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه حتى قدر على الهدي ففيه روايتان:
إحداهما: لا يلزمه الهدي؛ لأن الصوم استقر عليه، أشبه الشارع فيه.
والثانية: يلزمه لأنه وجد المبدل قبل شروعه في البدل أشبه الواجد له حال الوجوب.
فصل:
ويجب على القارن دم؛ لأنه يروى عن ابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن القران نوع تمتع فيدخل في عموم الآية، ولأنه ترفه بترك أحد السفرين فلزمه دم كالمتمتع، ويشترط أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وحكمه حكم دم المتعة فيما ذكرناه.
فصل:
وإذا حاضت المتمتعة قبل الطواف للعمرة فخشيت فوات الحج، أو خشي ذلك غيرها، أحرم بالحج مع العمرة وصار قارناً لحديث عائشة، ولأنه يجوز إدخال الحج على العمرة لغير عذر فمع خشية الفوات أولى.
فصل:
وتجزئ عمرة القارن وعمرة المفرد من أدنى الحل عن عمرة الإسلام، وعنه: لا تجزيان؛ «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما أعمرها أخوها: هذه مكان عمرتك» والصحيح: الأول؛ لقول الصبي بن معبد لعمر إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي فأهللت بهما، يعني أهللت بالمكتوبتين. فقال عمر: هديت لسنة نبيك، ولأنها عمرة صحيحة فكانت مجزئة كعمرة المتمتع والمكي، ولأن الحج مع تأكيده يجزئ الإحرام به من مكة، فالعمرة من أدنى الحل أولى، وأما حديث عائشة فهو حجة على إجزاء إحدى العمرتين المختلف فيهما، ولا حجة فيه على عدم الإجزاء في الأخرى؛ لأنه إنما أعمرها من التنعيم تطييباً لقلبها لما سألته ذلك، ولم يبدأها به.
فصل:
ويسن للمحرم التلبية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبى ورفع صوته وأمر برفع الصوت بها، وصفتها: لبيك اللهم لبيك؛ لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك؛ لا شريك لك؛ لما روى ابن عمر أن هذه تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. متفق عليه. وتجوز الزيادة عليها لأن عمر زاد: لبيك ذا النعماء والفضل الحسن؛ لبيك مرهوباً ومرغوباً(1/483)
إليك؛ لبيك، وزاد ابنه: لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل. وزاد أنس لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً، وسمعهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم ينكر، ولا تستحب الزيادة لاقتصار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها. قال جابر: «وأهل الناس بهذا الذي يهلون، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته» ، رواه مسلم. ويستحب أن يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدها؛ لأنه موضع شرع فيه ذكر الله تعالى فشرع فيه ذكر رسوله كالأذان، ثم يسأل الله الجنة ويستعيذ من النار، ويستحب ذكر إحرامه في تلبيته لقول أنس: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لبيك عمرة وحجاً» متفق عليه، وقول ابن عباس: «قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وهم يلبون بالحج» ، قال أحمد: إذا لبى القارن بهما بدأ بالعمرة؛ لحديث أنس. وقال أبو الخطاب لا يستحب ذكر الإحرام فيها.
فصل:
ويستحب البداءة بالتلبية إذا ركب راحلته؛ لقول ابن عباس، «أوجب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإحرام حين فرغ من صلاته، فلما ركب راحلته واستوت به قائمة أهل، أي لبى» ، ويستحب رفع الصوت بها لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال» حديث صحيح، ولا يجهد نفسه بذلك لئلا ينقطع صوته فتنقطع تلبيته، ولا ترفع المرأة صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها؛ لأنه يخاف الافتتان بها، ويستحب الإكثار منها؛ لأنها ذكر، ولأنه يروى عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما من مسلم يضحى لله يلبي حتى تغيب الشمس إلا غابت بذنوبه، فعاد كما ولدته أمه» رواه ابن ماجة، ويتأكد استحبابها في ثمانية مواضع: إذا علا نشزاً أو هبط وادياً، أو تلبس بمحظور ناسياً، وفي دبر الصلوات المكتوبات وإذا التقت الرفاق وفي إقبال الليل والنهار وبالأسحار؛ لأن النخعي قال: كانوا يستحبون التلبية دبر الصلوات المكتوبة، وإذا هبط وادياً وإذا علا نشزاً، وإذا لقي راكباً، وإذا استوت به راحلته، ولأن في هذه المواضع ترتفع الأصوات، ويكثر الضجيج، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الحج: العج والثج» وهو حديث غريب. والعج: رفع الصوت، والثج: إسالة الدماء. وحكم(1/484)
التلبية دبر الصلاة حكم التكبير في أيام عيد النحر، وتجزئ التلبية مرة واحدة؛ لعدم الأثر في تكرارها، ولا بأس بالزيادة؛ لأنها زيادة ذكر، وتستحب التلبية في المسجد الحرام ومنى وسائر مساجد الحرم وبقاعه؛ لأنها مواضع النسك، ولا يستحب إظهارها في مساجد الحل وأمصاره؛ لما روي عن ابن عباس أنه سمع رجلاً يلبي بالمدينة، فقال: إن هذا لمجنون إنما التلبية إذا برزت.
[باب محظورات الإحرام]
وهي تسعة، أحدها: الجماع؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، وقال ابن عباس الرفث: الجماع. وتحرم المباشرة فيما دون الفرج لشهوة؛ لأنه محرم للوطء فحرم المباشرة لشهوة كالصيام، ويحرم عليه النظر لشهوة؛ لأنه نوع استمتاع فأشبه المباشرة.
فصل:
الثاني: عقد النكاح؛ لا يجوز للمحرم أن يعقده لنفسه ولا لغيره، ولا يجوز عقده لمحرم، ولا على محرمة؛ لما روى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب» ، رواه مسلم. ولأن الإحرام يحرم الطيب فحرم النكاح كالعدة، وإن فعل فالنكاح باطل؛ لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولا(1/485)
بأس بالرجعة؛ لأنها إمساك للزوجة، بدليل قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] .(1/486)
ولأنها تجوز بغير ولي ولا شهود، ولا إذنها، فلم تحرم كإمساكها بترك الطلاق.
وعنه: لا يحل لأنه عقد وضع لإباحة البضع، أشبه النكاح. ويجوز أن يشهد في النكاح لأن العقد الإيجاب والقبول، وليس للشاهد فيهما شيء. وتكره الخطبة للمحرم وخطبة المحرمة؛ للخبر، ولا يجب بالتزويج فدية؛ لأنه عقد فسد للإحرام فأشبه شراء الصيد.
فصل:
الثالث: قطع الشعر؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . نص على حلق الرأس، وقسنا عليه سائر شعر البدن؛ لأنه يتنظف ويترفه به، فأشبه حلق الرأس، وقص الشعر وقطعه ونتفه كحلقه، ولا يحرم عليه حلق شعر الحلال؛ لأنه لا يترفه بذلك. وإن خرج في عينه شعر أو استرسل شعر حاجبيه فغطى عينيه، فله إزالته ولا فدية عليه؛ لأن الشعر آذاه فكان له دفع أذاه من غير فدية كالصيد، وإن كان الأذى من غير الشعر، كالقمل فيه، والقروح برأسه، أو صداع، أو شدة الحر عليه لكثرة شعره فله إزالته، وعليه الفدية؛ لما نذكره، ولأنه فعل المحرم لدفع ضرر غيره، فلزمته الفدية، كما لو قتل الصيد لمجاعة، بخلاف من آذاه الشعر.
فصل:
الرابع: تقليم الأظافر، يحرم لأنه جزء ينمى، ويترفه بإزالته، أشبه الشعر، وإن(1/487)
انكسر ظفره فله إزالته ولا فدية عليه كالشعر المؤذي، وإن قص أكثر مما انكسر فعليه فديته، وإن احتاج إلى مداواة قرحة لا يمكنه مداواتها إلا بقص ظفره فعل، وعليه الفدية، كحالق الرأس دفعاً لأذى قمله.
فصل:
الخامس: لبس المخيط، يحرم عليه لبس كل ما عمل للبدن على قدره أو على قدر عضو منه، كالقميص والبرنس والسراويل والخف؛ لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحداً لا يجد نعلين فيلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس» متفق عليه، وسواء في هذا ما كان من خرق أو جلد، مخيط بالإبر أو ملصق بعضه ببعض؛ لأنه في معنى المخيط، والتبان والران كالسراويل؛ لأنه في معناه وإن شق الإزار، وجعله ذيلين شدهما على ساقيه؛ لم يجز؛ لأنه كالسراويل، وتجب الفدية باللبس؛ لأنه محرم في الإحرام فتعلقت به الفردية كالحلق، ولا يجوز له عقد ردائه عليه؛ لأن ابن عمر قال: لا تعقد عليك شيئاً، ولأنه يصير بالعقد كالمخيط، ولا يجوز له أن يزره عليه، ولا يخله بشوكة ولا غيرها، ولا يغرز طرفيه في إزاره؛ لأنه في معنى عقده، وله أن يعقد إزاره؛ لأنه يحتاج إليه لستر العورة، ولذلك جاز للمرأة لبس المخيط في إحرامها لكونها عورة، وله أن يشد وسطه بعمامة أو حبل، ولا يعقده، ولكن يدخل بعضه في بعض، وله أن يلبس الهميان الذي فيه نفقته، ويدخل السيور بعضها في بعض، فإن لم يثبت عقده؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أوثق عليه نفقتك، ولأن هذا مما تدعو الحاجة إلى عقده فجاز كالإزار، فأما المنطقة وما لا نفقة فيه، فلا يجوز عقده لعدم الحاجة إليه، فإن احتاج إلى عقد المنطقة؛ لوجع ظهره، فعل وفدى، نص عليه؛ لأن هذا نادر، فأشبه حلق الشعر لوجع الرأس.
فأما القباء ونحوه فقال الخرقي: يطرحه على كتفيه، ولا يدخل يديه في كميه؛ لأنه لا يحيط ببدنه، أشبه الاتشاح بالقميص.
وقال القاضي: عليه الفدية؛ لأنه لبس المخيط على العادة في لبسه، فلزمه الفدية، كما لو أدخل يديه في كميه. ومن لم يجد إزاراً، فله لبس السراويل ولا فدية عليه؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين» متفق عليه. ومن عدم الرداء لم يبح له لبس القميص؛ لأنه يمكنه أن يرتدي به على صفته، ولا يمكن أن يتأزر بالسراويل، ومتى وجد الإزار لزمه(1/488)
خلع السراويل للخبر. ويحرم على المحرم لبس الخفين للخبر، فإن لم يجد نعلين؛ لبس خفين، ولا يقطعهما، ولا فداء عليه؛ لحديث ابن عباس، وعنه: لا يلبسهما حتى يقطعهما أسفل من الكعبين، فإن فعل افتدى؛ لأن في حديث ابن عمر زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، وإن لبس خفاً مقطوعاً مع وجود النعل، فعليه الفدية للخبر، وليس له لبس الجمجم، واللالكة في ظاهر كلام أحمد؛ لأنه في معنى الخف المقطوع، فإن لم يجد النعلين، فله لبس ذلك من غير فداء كالخفين.
قال أحمد: لا يلبس نعلاً لها قيد، وهو السير المعترض على الزمام، ويقطع العقب يعني الشراك.
قال القاضي: إذا كانا عريضين يستران القدم فلا فدية فيه؛ لأن حكمهما أخف من حكم الخف، وقد أباح لبسه عند عدم النعل من غير قطع، فها هنا أولى.
ومن وجد نعلاً لا يمكنه لبسها لبس الخف، وافتدى، نص عليه؛ لأن إسقاط الفدية مشروط بعدم النعل، والقياس أنه لا فدية عليه؛ لأن العجز كالعدم في الانتقال إلى البدل، وقد قام مقامه هاهنا في الجواز، فكذلك في سقوط الفدية. فأما المحرمة، فلها لبس المخيط كله، إلا النقاب والقفازين والبرقع وشبهه؛ لما روى ابن عمر أنه «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب، وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر، أو خز، أو حلي، أو سراويل، أو قميص أو خف» . رواه أحمد بإسناده.
وروى البخاري منه: «لا تتنقب المرأة، ولا تلبس القفازين» . ولأن إحرام المرأة في وجهها فحرم عليها تغطيته. وإن احتاجت إلى سترة، سدلت على وجهها من فوق رأسها ما يستره؛ لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: «كان الرجال يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرمات، فإذا حاذونا، سدلت إحدانا جلبابها على رأسها، فإذا جاوزونا كشفناه» . رواه أبو داود.
قال القاضي: ويكون ما تسدله متجافياً، ولا يصيب البشرة، قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولم أجد هذا عن أحمد، ولا في الحديث، والظاهر أنه غير معتبر.(1/489)
فصل:
السادس: تغطية الرأس؛ لنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لبس العمائم، ولقوله في الذي مات محرماً «لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» ويحرم تغطية بعضه؛ لأن النهي تناول جميعه، ولا يجوز أن يعصبه بعصابة ولا سير، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به، سواء كان فيه دواء، أو لا دواء فيه، ولا يطينه بطين ولا حناء، ولا دواء يستره؛ لأنه نوع تغطية، وفيه الفداء لما ذكرنا في اللباس. فإن حمل عليه طبقاً، أو وضع يده عليه، فلا بأس؛ لأنه لا يقصد به الستر، ولو ترك فيه طيباً قبل إحرامه؛ لم يمنع من استدامته؛ لقول عائشة: «كأني أنظر إلى وبيص الطيب في رأس رسول الله وهو محرم» ، ولا يمنع من تلبيده بصمغ، وعسل؛ ليتلبد ويجتمع الشعر، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني لبدت رأسي» وهو محرم. متفق عليه، ولا يمنع من تغطية وجهه؛ لأن عثمان وسعداً وعبد الرحمن بن عوف وزيد بن ثابت أجازوه، وعنه: يمنع منه؛ لأنه في بعض لفظ حديث ابن عباس في الميت المحرم، «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» متفق عليه وفي تظليل المحمل روايتان:
إحداهما: ليس له أن يتظلل به؛ لأن ابن عمر قال: اضح لمن أحرمت له، أي: ابرز للشمس، ولأنه ستر رأسه بما يقصد به الترفه، أشبه تغطيته، وتلزمه الفدية؛ لما ذكرنا.
والثانية: له أن يتظلل؛ لأنه ليس بمباشر للرأس، أشبه الخيمة، وله أن يتظلل بثوب على عود؛ لما روت أم الحصين قالت: «حججت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة» . رواه مسلم. ولا بأس بالتظلل بالخيمة والسقف والشجرة وأشباه ذلك؛ لأنه لا يلازمه، أشبه ظل الجبال والحيطان.
فصل:
السابع: الطيب، يحرم عليه استعماله في بدنه وثيابه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الميت المحرم «ولا تقربوه طيباً» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران» وتجب به الفدية لما ذكرنا في اللباس، ويحرم عليه المبخر بالطيب والمصبوغ به، قياساً على المزعفر، ولا يجوز أن يأكل طيباً، ولا يكتحل به، ولا يستعط به، ولا يحتقن به؛ لأنه استعمال للطيب، وإن كان في الطعام طيب يظهر ريحه؛ لم يجز أكله لأنه يأكل طيباً، وإن لم يظهر له ريح جاز أكله، وإن ظهر لونه، وإن ظهر طعمه فظاهر كلام أحمد المنع منه؛ لأن الطعم لا يكاد ينفك عن الرائحة، وإن(1/490)
لبس ثوباً كان مطيباً فانقطع ريحه، وكان بحيث إذا رش فيه ماء فاح ريحه، فعليه الفدية لأنه مطيب، وإلا فلا، وإن فرش فوق المطيب ثوب صفيق يمنع الرائحة والمباشرة، فلا فدية عليه بالنوم عليه، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه، فعليه الفدية؛ لأنه يمنع من استعمال الطيب في ثيابه، كما يمنع منه في بدنه. والطيب كل ما يتطيب به، أو يتخذ منه طيب، كالمسك والكافور والعنبر والزعفران والورس والورد والبنفسج، والأدهان المطيبة بشيء من ذلك، كدهن الورد والبنفسج والخيري والزنبق ونحوها.
وفي الريحان الفارسي روايتان:
إحداهما: ليس بطيب؛ لأن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال في المحرم: يدخل البستان ويشم الريحان، ولأنه إذا يبس ذهبت رائحته أشبه بنت البرية.
والثانية: هو طيب؛ لأنه يتخذ للطيب، أشبه الورد في سائر النبات الطيب الرائحة الذي لا يتخذ منه طيب كالمرزنجوش والنرجس والبرم، وجهان قياساً على الريحان، وقال أبو الخطاب: في الورد والخيري والبنفسج والياسمين روايتان، كالريحان، والصحيح أنه طيب؛ لأنه يتخذ منه طيب، فهو كالزعفران، فأما نبت البرية، كالشيح والقيصوم والإذخر والخزامى والفواكه كالأترج والتفاح والسفرجل والحناء، فليس بطيب؛ لأنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه طيب، فأشبه العصفر، وقد ثبت أن العصفر ليس بطيب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولتلبس ما شاءت من ألوان الثياب من معصفر» وكان أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرمن في المعصفرات، وإن مس المحرم طيباً يعلق بيده، فعليه الفدية؛ لأنه طيب يده، وإن مس ما لا يعلق بيده، كقطع الكافور والعنبر فلا فدية؛ لأنه لم يتطيب، وإن شمه فعليه الفدية؛ لأنه يستعمل هكذا، وإن شم العود فلا فدية عليه؛ لأنه لا يستعمل هكذا ولا تقصد رائحته، وإن تعمد لشم الطيب، مثل أن دخل الكعبة، وهي تجمر، أو حمل مسكاً ليشم رائحته، أو جلس عند العطار لذلك، فعليه الفدية؛ لأنه شمه قاصداً له، مبتدئاً به في الإحرام، فأشبه ما لو باشره، وإن لم يقصد ذلك، كالجالس عند العطار لحاجة أخرى، أو دخل الكعبة ليتبرك بها أو حمل الطيب من غير مس للتجارة، فلا يمنع منه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه فعفي عنه.
فصل:
الثامن: الصيد، حرام صيده وقتله وأذاه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95](1/491)
وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] . فإن أخذه لم يملكه؛ لأن ما حرم لحق غيره؛ لم يملكه بالأخذ من غير إذنه، كمال غيره، وعليه إرساله من موضع يمتنع فيه، فإن تلف من يده ضمنه كمال الآدمي، وإن كان الصيد لآدمي، فعليه رده إليه؛ لأنه غصبه منه، ويحرم عليه تنفيره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مكة: «لا ينفر صيدها» متفق عليه. وهذا في معناه، فإن نفره، فصار إلى شيء هلك به، ضمنه؛ لخبر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه هلك بسبب من جهته، فأشبه من نصب له شركاً فهلك به. ويحرم عليه الإعانة على قتله، بدلالة، بقول أو إشارة، أو إعارة آلة؛ لما «روى أبو قتادة أنه كان مع أصحاب له، محرمين وهو لم يحرم، فأبصرو حماراً وحشياً، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، فركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، قالوا: والله لا نعينك عليه» . وهذا يدل على اعتقادهم تحريم الإعانة عليه، ولما سألوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها» متفق عليه. ولأن ما حرم قتله حرمت الإعانة عليه، كالآدمي، فإن فعل فقتله حلال فالجزاء على المحرم؛ لأن ذلك يروى عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن فعله سبب إتلافه، فتعلق به الضمان كتنفيره، وإن قتله محرم آخر، فالجزاء بينهما، وإن كان المدلول رأى الصيد قبل الدلالة، فلا شيء فيها؛ لأنها لم تكن سبباً لإتلافه، وإن ضحك المحرم عند رؤية الصيد ففطن الحلال، فلا شيء فيه؛ لأن في حديث أبي قتادة: «فبينا أنا مع أصحابي فضحك بعضهم، فنظرت فإذا حمار وحش» .
وفي رواية: «إذ أبصرت بأصحابي يتراؤون شيئاً فنظرت فإذا حمار وحش» ، ويحرم عليه الأكل مما أشار عليه أو أعان عليه، أو كان له أثر في ذبحه، مثل أن يعيره سكيناً؛ لحديث أبي قتادة، ويحرم عليه أكل ما صاده، أو صيد لأجله؛ لما روى جابر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «صيد البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» قال الترمذي: هذا أحسن حديث في الباب. ويباح أكل ما عدا ذلك للحديثين، فإن أكل مما منع من أكله مما لزمه ضمانه كالذي صاده، أو دل عليه؛ لم يضمنه بالأكل لأنه قد ضمنه بالقتل، فلم يضمنه بالأكل كشاة غيره، وكذلك إن وجب على غيره ضمانة، وإن لم يكن ضمن بالقتل، كالذي صاده حلال من أجله، ضمنه بالأكل بمثله لحماً؛ لأنه إتلاف جزء للصيد، حرمه الإحرام، فتعلق به الضمان، كإتلاف أجزاء الحي، وإن ذبح المحرم الصيد، حرم على كل أحد؛ لأنه منع من الذبح لحق الله، فلم يبح ذبحه كالمجوسي، وما حرم عليه لدلالة، أو إعارة آلة، أو صيد من أجله؛ لم يحرم على الحلال؛ لأن لا فعل منه فيه.(1/492)
فصل:
ويحرم عليه شراء الصيد واتهابه؛ لما روى ابن عباس، «أن الصعب بن جثامة، أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حماراً وحشياً، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» متفق عليه، ولأنه سبب يتملك به الصيد، فلم يملكه به المحرم، كالاصطياد، ومتى ملك الصيد بجهة محرمة، حتى حل؛ لم يبح له، وعليه إرساله، فإن تلف أو أتلفه فعليه فداؤه؛ لأنه تلف بسبب كان في إحرامه فضمنه كما لو جرحه فمات بعد حله، وإن ذبحه بعد التحلل لم يبح عند القاضي؛ لأنه صيد لزمه ضمانه، فلم يبح ذبحه، كحلال الإحرام.
وقال أبو الخطاب: يباح؛ لأنه ذبحه في حال حله، فأبيح كغيره، وإن أحرم وفي ملكه صيد؛ لم يزل ملكه عنه؛ لأنه ملك فلا يزول بالإحرام، كملك البضع، وله بيعه وهبته، وإن كان في يده المشاهدة أو قفص أو حبل معه، فعليه إرساله، فإن لم يفعل فأرسله إنسان، فلا ضمان عليه؛ لأنه ترك فعل الواجب، فإن ترك حتى تحلل، فحكمه حكم ما صاده، قال في الشرح: فملكه باق عليه، وإن مات من يرثه وله صيد، ورثه؛ لأن الملك بالإرث يثبت حكماً، بغير اختياره، ويثبت للصبي والمجنون، فأشبه استدامة الملك، ويحتمل أن لا يملكه؛ لأنه ابتداء ملك فأشبه الشراء.
فصل:
والصيد المحرم: ما جمع صفات ثلاث:
أحدها: أن يكون من صيد البر؛ لأن صيد البحر حلال؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وصيد البحر ما يفرخ فيه ويأوي إليه، فأما طير الماء فهو من صيد البر المحرم لأنه يتعيش في البحر ولا يعيش فيه، وفي الجراد الجزاء لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه لا يعيش إلا في البر فهو كسائر الطير، وعنه: لا جزاء فيه؛ لأنه يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه من صيد البحر، ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طريق ضعيف.
الثاني: أن يكون وحشياً، فأما الأهلي كبهيمة الأنعام، والدجاج، فليس بمحرم؛ لأنه ليس بصيد، ولذلك يذبح الهدايا والأضاحي، والاعتبار في ذلك بالأصل لا بالحال، فلو تأنس الوحشي كحمار الوحش والغزال والحمام لم يحل وفيه الجزاء، ولو توحش الإنسي لم يحرم.(1/493)
الثالث: أن يكون مباحاً، فلا يحرم قتل غيره بالإحرام ولا جزاء فيه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن: الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» متفق عليه. فثبت إباحة هذه الخمس بالنص، وقسنا عليهن ما في معناهن مما فيه أذى، فأما غير المأكول مما لا أذى فيه، فيكره قتله ولا جزاء فيه؛ لأن الصيد ما كان مأكولاً، إلا أن ما تولد بين مأكول وغيره، كالسمع وهو ولد الضبع من الذئب، والعسبار: ولد الذئبة من الضبع، يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً لحرمة القتل، كما غلبت فيه حرمة الأكل. والمتولد بين أهلي ووحشي يحرم قتله وفيه الجزاء تغليباً للتحريم، وفي الثعلب الجزاء، مع الخلاف في أكله، تغليباً للتحريم، وفي القمل روايتان:
إحداهما: لا شيء فيه لتحريم أكله وأذاه فهو كالبراغيث.
والثانية: فيه الجزاء لأنه يترفه بإزالته، وأي شيء تصدق به كان خيراً منه. قال القاضي: وإنما الروايتان في ما ألقاه من شعره، أما ما ألقاه من ظاهر بدنه أو ثوبه، فلا شيء فيه رواية واحدة لشبهه بالبراغيث.
فصل:
وما حرم من الصيد، حرم كسر بيضه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «قال في بيض النعام، يصيبه المحرم: يضمنه» رواه الدارقطني. ولأنه خارج من الصيد يصير منه مثله فهو كالفرخ، وإن كسر بيضاً لم يحل أكله، ولا يحرم على حلال؛ لأنه لا يحتاج إلى زكاة. وقال القاضي: يحرم على كل أحد قياساً على الصيد، وإن كسر بيضاً مذراً فلا شيء عليه؛ لأنه ليس بحيوان ولا يخلق منه حيوان فهو كالأحجار، قال أصحابنا: إلا بيض النعام فإن لقشره قيمة، والأول أولى. وإن نقل بيض صيد فجعله تحت آخر فحضنه وأفرخ، فلا شيء عليه، وكذلك إن كسره فخرج منه فراخ فعاشت، وإن لم تعش الفراخ أو لم تحضنه، أو ترك مع بيضه شيئاً نفر من الصيد فلم يحضنه، ضمنه؛ لأنه أتلفه، وإن باض في طريقه أو على فراشه، فنقله فلم يحضنه الصيد حتى تلف ففيه وجهان:
أحدهما: يضمنه؛ لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما لو قتله للمجاعة.
والثاني: لا شيء عليه؛ لأنه ألجأه إلى إتلافه فأشبه ما لو صال عليه صيد فدفعه فقتله، وإن افترش الجراد في طريقه فقتله بالمشي عليه ففي الجزاء وجهان كذلك.
فصل:
وإن احتاج المحرم إلى لبس المخيط، أو تغطية رأسه، أو الطيب لمرض، أو شدة(1/494)
حر، فعله، وعليه الفدية، قياساً على الحلق، وإن اضطر إلى الصيد فله أكله وعليه جزاؤه؛ لأنه أتلفه لمصلحته فأشبه ما ذكرناه، وإن صال عليه صيد فقتله دفعاً عن نفسه فلا جزاء فيه؛ لأنه حيوان قتله لدفع شره فلم يضمنه كالآدمي.
وقال أبو بكر: عليه الجزاء لأنه قتله لمصلحة نفسه، فأشبه ما لو قتله لأكله والأول أصح. وإن خلص صيداً من سبع أو شبكة ليرسله فتلف ففيه وجهان:
أحدهما: يضمنه؛ لأنه تلف بفعله فيضمنه كالمخطئ.
والثاني: لا يضمنه؛ لأنه تلف بفعل مباح لمصلحته فلم يضمنه، كالآدمي يتلف بمداواة وليه.
فصل:
يكره للمحرم حك شعره بأظفاره كيلا ينقطع، فإن انقطع به شعره لزمته فديته، ويكره الكحل بالإثمد غير المطيب؛ لأنه زينة، والحاج أشعث أغبر، وهو في حق المرأة أشد كراهة؛ لأنها محل الزينة ولا فدية فيه؛ لأن وجوبها من الشارع، ولم يرد بها ههنا، ويكره لبس الخلخال، والتزين بالحلي لذلك، وهو مباح لحديث ابن عمر، ويكره أن ينظر في المرآة لإصلاح شيء لأنه نوع تزين، ويكره أن يدهن بدهن غير مطيب لذلك، وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في جوازه روايتان، إلا أنه يحتمل أن تختص الروايتان بدهن الشعر؛ لأنه يذيل الشعث، ويسكن الشعر، ويزينه، ويباح التدهن في غيره؛ لأن للمحرم أكل الدهن فكان له أن يدهن به. وقد روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادهن بدهن غير مقتت» ، أي: غير مطيب، يعني وهو محرم [والأولى أصح] . إلا أنه من رواية فرقد وهو ضعيف. ولا فدية فيه بحال لما ذكرنا، وينبغي أن ينزه إحرامه عن الكذب والشتم والكلام القبيح والمراء لقول الله: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قال ابن عباس: الفسوق: المنابزة بالألقاب، وتقول لأخيك: يا فاسق يا ظالم، والجدال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه. وروى أبو هريرة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» متفق عليه.
ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حسن إسلام المرء(1/495)
تركه ما لا يعنيه» ففي حال الإحرام والتلبس بطاعة الله تعالى والاستشعار بعبادته أولى.
فصل:
ولا بأس أن يغتسل المحرم بالماء والسدر والخطمي ولا فدية عليه. وعنه: عليه الفدية، والأول أصح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الميت المحرم: «اغسلوه بماء وسدر» . وقال عبد الله بن حنين: «امترى ابن عباس والمسور بن مخرمة في غسل المحرم رأسه، فأرسلوني إلى أبي أيوب الأنصاري، أسأله كيف رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغسل رأسه وهو محرم؟ قال: فصب على رأسه مقبلاً ومدبراً وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل» . متفق عليه. ويجوز أن يحتجم ولا يقطع شعراً؛ لما روى ابن عباس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم.» متفق عليه.
ويجوز أن يفتصد، كما يجوز أن يحتجم، ويتقلد بالسيف عند الضرورة؛ لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلوا في عمرة القضية، متقلدين سيوفهم، ولا بأس بالتجارة والتكسب والصناعة؛ لقول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] . قال ابن عباس: كان ذو المجاز وعكاظ متجراً للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج. رواه البخاري.
فصل:
ومن جامع، أفسد حجه وعليه بدنة، سواء كان عالماً أو جاهلاً، عامداً أو ناسياً؛ لأنه في معنى يتعلق به قضاء الحج، فاستوى عمده وسهوه، كالفوات. وإن حلق أو قلم ناسياً أو جاهلاً، فعليه الفدية؛ لأنه إتلاف، فاستوى عمده وسهوه، كإتلاف مال الآدمي. ويتخرج أن لا فدية عليه، قياساً على اللبس، وإن قتل الصيد مخطئاً، فعليه جزاؤه؛ لأنه ضمان مال، فأشبه ضمان مال الآدمي.
وعنه: لا جزاء عليه؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] .(1/496)
مفهومه أن لا شيء في الخطأ، وإن تطيب ولبس ناسياً أو جاهلاً، فلا فدية عليه؛ لما روى يعلى بن أمية: «أن رجلاً أتى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه جبة، وعليه أثر خلوق، فقال: يا رسول الله كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ قال: اخلع عنك هذه الجبة، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك» متفق عليه. . ولم يأمره بفدية لجهله، وقسنا عليه الناسي؛ لأنه في معناه، وعنه: عليه الفدية؛ لأنه فعل حرمه الإحرام، فاستوى عمده وسهوه كالحلق، والأول: المذهب. والحلق إتلاف لا يمكن تلافيه، ومتى ذكر الناسي أو علم الجاهل، فعليه إزالة ذلك، فإن استدامه فعليه الفدية؛ لأنه تطيب ولبس من غير عذر فأشبه المبتدئ به. وحكم المكره حكم الناسي؛ لأنه أبلغ منه في العذر.
وإن مس طيباً يظنه يابساً فبان رطباً، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه الفدية؛ لأنه قصد مس الطيب.
والثاني: لا فدية عليه؛ لأنه جهل تحريمه، فأشبه من جهل تحريم الطيب. ومن طيب أو حلق رأسه، بإذنه فالفدية عليه؛ لأن ذلك ينسب إليه، وإن حلق رأسه مكرهاً أو نائماً، فالفدية على الحالق؛ لأنه أمانة عنده فالفدية على من أتلفه بغير إذنه، كالوديعة. وإن حلق وهو ساكت لم ينكر، فالفدية عليه، كما لو أتلف الوديعة وهو يقدر على حفظها فلم يفعل، وإن كشط من جلده قطعة عليها شعر، أو قطع إصبعاً عليها ظفر، فلا فدية عليه؛ لأنه زال تبعاً لغيره، فلم يضمنه، كما لو قطع أشفار عيني إنسان، فإنه لا يضمن أهدابها.
[باب الفدية في الحج]
باب الفدية
من حلق رأسه وهو محرم، فعليه ذبح شاة، أو إطعام ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع، أو صيام ثلاثة أيام؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وروى كعب بن عجرة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعلك تؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع تمر، أو نسك شاة» متفق عليه، وسواء حلق لعذر أو غيره. وعنه: فيمن(1/497)
حلق لغير عذر، عليه الدم، من غير تخيير؛ لأن الله تعالى خير بشرط العذر فإن عدم الشرط، زال التخيير، والأول أولى؛ لأن الحكم ثبت من غير عذر المعذور تبعاً له، والتبع لا يخالف أصله، وإنما الشرط لإباحة الحلق؛ لا التخيير، وفي حلق أربع شعرات ما في حلق الرأس كله؛ لأنها كثير، فتعلقت بها الفدية كالكل، وفي الثلاث روايتان:
إحداهما: هي كالكل، قال القاضي: هو المذهب لأنه يقع عليها، اسم الجمع المطلق، فهي كالأربع.
والثانية: لا يجب فيها ذلك، وهي اختيار الخرقي. لأن الثلاث آخر القلة، وآخر الشيء منه.
وفيما دون ذلك ثلاث روايات:
إحداهن: في كل شعرة مد من طعام؛ لأن الله تعالى عدل الحيوان بالطعام هاهنا وفي الصيد، وأقل ما يجب منه مد من طعام فوجب.
والثانية: قبضة من طعام؛ لأنه لا تقدير له في الشرع، فيجب المصير إلى الأقل؛ لأنه اليقين.
والثالثة: درهم؛ لأن إيجاب جزء من الحيوان يشق، فصرنا إلى قيمته وأقل ذلك درهم، وإزالة الشعر بالقطع والنتف والنورة وغيرها كحلقه؛ لأنها في معناه، والأظفار كالشعر في الفدية؛ لأنها في معناها، وفي بعض الشعرة أو الظفر ما في جميعه، كما أن في القصيرة مثل ما في الطويلة، وإن حلق شعر رأسه وبدنه، فعليه فدية واحدة؛ لأنه جنس واحد فأجزأته فدية واحدة، كما لو لبس عمامة وقميصاً، وهذا اختيار أبي الخطاب.
وحكي رواية أخرى: أن عليه فديتين، اختاره القاضي؛ لأن حلق الرأس يتعلق به نسك، دون شعر البدن فيخالفه في الفدية، ومن أبيح له الحلق، فهو مخير في الفدية قبله وبعده كما يتخير في كفارة اليمين، قبل الحنث وبعده.
فصل:
ومن لبس أو غطى رأسه أو تطيب، فعليه الفدية، مثل حلق رأسه؛ لأنه في معناه، فقسناه عليها، وإذا لبس عمامة وقميصاً وسراويل وخفين، فعليه فدية واحدة؛ لأنه جنس واحد فأشبه ما لو طيب رأسه وبدنه، وإن لبس وتطيب وحلق وقلم، فعليه لكل جنس فدية؛ لأنها أجناس مختلفة، فلم تتداخل كفاراتها بالأيمان والحدود، وعنه: إن فعل(1/498)
ذلك دفعة واحدة، ففديته واحدة؛ لأن الكل محظور فأشبه اللبس في رأسه وبدنه. وإن كرر محظوراً واحداً فلبس ثم لبس، أو تطيب ثم تطيب، أو حلق ثم حلق، ففدية واحدة، ما لم يكفر عن الأول قبل فعل الثاني.
وعنه: إن فعله لأسباب، مثل من لبس أول النهار للبرد، ووسطه للحر، وآخره للمرض ففديات؛ لأن أسبابه مختلفة، فأشبه الأجناس المختلفة، والأول أولى؛ لأن الحكم يتعلق بالمحظور لا بسببه، فأشبه الحالف بالله ثلاثة أيمان، على شيء واحد؛ لأسباب مختلفة، وقليل اللبس والطيب وكثيره سواء، وحكم كفارة الوطء في التداخل مثل ما ذكرنا؛ لأنها ليست ضماناً.
فأما جزاء الصيد، فلا تداخل فيه، وكلما قتل صيداً حكم عليه.
وعنه: أنه يتداخل، كسائر الكفارات.
وعنه: لا يجب الجزاء، إلا في المرة الأولى؛ لقول الله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ولم يذكر جزاء، والأول المذهب؛ لقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] . وهذا يقتضي كل قاتل، ومثل الصيدين، أكثر من مثل واحد، ولأنه ضمان مال يختلف باختلافه فوجب في كل مرة، كضمان مال الآدمي.
قال أحمد: روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ، وفيمن قتل ولم يسألوه، هل كان قتل قبل هذا أم لا؟ .
فصل:
وإذا وطئ المحرم، في الفرج، في الحج، قبل التحلل الأول، فعليه بدنة؛ لأن ذلك يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وسواء كان الفرج قبلاً أو دبراً، من آدمي أو من بهيمة؛ لأنه وطء في فرج، أشبه وطء الآدمية، وإن وطئت المحرمة مطاوعة، فعليها بدنة؛ لأنها أفسدت حجها بالجماع فوجبت عليها البدنة كالرجل، وإن وطئ الرجل محرمة مطاوعة، فعلى كل واحد منهما بدنة لأن ابن عباس قال للمجامع: اهد ناقة، ولتهد ناقة، ولأنه إفساد حج شخصين فأوجبت بدنتين كالوطء من رجلين.
وعنه: يجزئهما هدي واحد؛ لأنه جماع واحد، فأشبه ما لو أكرهها، فإن وطئها نائمة، أو مكرهة، ففيها روايتان:(1/499)
إحداهما: أن الواجب هدي واحد عليه دونها؛ لأنها معذورة؛ لم يلزمها كفارة، كالمكرهة على الوطء في الصيام.
والثانية: يجب هديان؛ لأنه إفساد حج اثنين، فعلى هذا يحتمل الرجل عنها؛ لأن الإفساد وجد منه، فكان موجبه عليه، كما تجب عليه نفقة قضائها، ويحتمل أن تكون عليها؛ لأنها وجبت لفساد حجها، وإن وطئ في العمرة، أو وطئ في الحج بعد التحلل الأول، فعليه شاة؛ لأنه فعل محظور لم يفسد حجاً، فلم يوجب بدنة، كالقبلة.
ومتى وطئ المحرم دون الفرج، أو قبل أو لمس لشهوة، فلم ينزل، فعليه شاة لأنه فعل محرم بالإحرام؛ لم يفسد الحج، فوجبت به الشاة كالحلق، وإن أنزل فعليه بدنة؛ لأنه استمتاع، بالمباشرة أوجب الغسل، فأوجب البدنة كالوطء في الفرج، وإن نظر فلم ينزل، فلا شيء عليه. وإن نظر فصرف بصره فأنزل، فعليه شاة، وإن كرر النظر حتى أنزل ففيه روايتان:
إحداهما: شاة، يروى ذلك عن ابن عباس، ولأنه ليس بمباشرة، فلم يوجب البدنة، كما لو صرف بصره.
والثانية: فيه بدنة، اختارها الخرقي لأنه إنزال باستمتاع، فأوجب البدنة كالمباشرة، وإن فكر فأنزل، فلا شيء عليه؛ لما ذكرنا في الصوم، وإن أمذى في هذه المواضع، فهو كمن لم ينزل؛ لأنه خارج؛ لا يوجب الغسل أشبه البول.
فصل:
ومن لزمته بدنة، أجزأته بقرة؛ لأن جابراً قال: وهل هي إلا من البدن، ولأنها تقوم في الأضاحي والهدايا مقامها، فكذا هاهنا، ويجزئه سبع من الغنم لذلك، وإن لم يجد هدياً، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ولأن ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو، قالوا للواطئين: اهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما، ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم، وهم الأصل في ثبوت حكم الوطء، وإليهم المرجع فيه، فكذا في بدله، وقال أصحابنا: تقوم البدنة فيشتري بقيمتها طعاماً يتصدق به، فإن لم يجد صام عن كل مد يوماً قياساً على البدنة الواجبة في فدية النعامة.
[باب جزاء الصيد]
يجب الجزاء في الصيد لقول الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية. وهو ضربان:(1/500)
ما له مثل من النعم: وهي بهيمة الأنعام، فيجب فيه مثله للآية، وهو نوعان، ما قضت الصحابة فيه، فيجب فيه ما قضت؛ لأنه حكم مجتهد فيه، واجتهادهم أحق أن يتبع.
فمن ذلك الضبع، قضى فيها عمر وابن عباس بكبش، وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى فيها بذلك» . رواه أبو داود وغيره، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
والنعامة، قضى فيها عثمان وعلي وزيد وابن عباس ومعاوية ببدنة.
وحمار الوحش، وفيه روايتان:
إحداهما: فيه بقرة؛ لأن عمر قضى فيه بها.
والثانية: فيه بدنة؛ لأن أبا عبيدة وابن عباس قضيا فيه بها، وقضاء عمر أولى. لأنه أقرب إلى ما قضي به، وعن ابن مسعود أنه قضى في بقرة الوحش، ببقرة.
وقال ابن عباس: في الإبل، بقرة. وقال ابن عمر: في الأروى، بقرة.
وقضى عمر في الظبي، بشاة، وفي اليربوع بجفرة وهي التي لها أربعة أشهر في المعز.
وفي الأرنب بعناق، وهي أصغر من الجفرة. وفي الضب بجدي.
والضرب الثاني: ما لم تقض فيه الصحابة، فيرجع فيه إلى قول عدلين من أهل الخبرة؛ لقول الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95] ويجوز أن يكون القاتل أحدهما؛ لدخوله في العموم، ولما روى طارق بن شهاب قال: خرجنا حجاجاً، فأوطأ منا رجل - يقال له إربد - ضباً، ففزر ظهره، فقدمنا على عمر فسأله إربد، فقال له: احكم فيه يا إربد. قال: أنت خير مني يا أمير المؤمنين وأعلم، فقال عمر: إنما أمرتك أن تحكم، ولم آمرك أن تزكيني، فقال إربد: أرى فيه جدياً، قد جمع الماء والشجر، فقال عمر: فذلك فيه. رواه سعيد بن منصور، ولأنه واجب لحق الله فجاز أن يكون من وجب عليه أميناً فيه كالزكاة.
وفي كبير الصيد كبير مثله، وفي الصغير صغير مثله، وفي كل واحد من الصحيح والمعيب مثله، وإن فدى الذكر بالأنثى، جاز؛ لأنها أفضل، وإن فدى الأنثى بالذكر، ففيه وجهان:(1/501)
أحدهما: لا يجزئ لذلك.
والآخر: يجزئ؛ لأن لحمه أوفر وهو المقصود، وإن فدى أعور من عين، بأعور من أخرى، جاز لأن المقصود منهما واحد، وإن فدى معيباً بمعيب من جنس آخر؛ لم يجز؛ لأنهما مختلفان.
وإن أتلف صيداً ماخضاً، ففيه قيمة مثله ماخض، قال القاضي؛ لأن قيمته أكثر من مثله.
وقال أبو الخطاب: فيه مثله ماخض للآية. وإن جنى على ماخض، فأتلف جنينها، ففيه ما نقصها، كما لو جرحها، وإن جرح حياً ثم مات ضمنه بمثله.
فصل:
الضرب الثاني: ما لا مثل له: وهو الطير وشبهه من صغار الصيد، ففيه قيمته، إلا الحمام، فإن فيه شاة؛ لأن عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس قضوا في حمام الحرم بشاة، والحمام: كل ما عب الماء وهدر، كالحمام المعروف، واليمام والجوازل والقماري، والرقاطي، والدباسي، والقطا؛ لأن هذا كله حمام، وقال الكسائي: كل مطوق حمام، فعلى قوله يكون الحجل حماماً، وعلى الأول ليس بحمام، وما كان أصغر من الحمام، ففيه قيمته؛ لأن لا مثل له، وما كان أكبر منه، ففيه وجهان:
أحدهما: فيه قيمته لأن القياس يقتضيها في جميع الطير، تركناه في الحمام؛ لقضاء الصحابة، ففيما عداه يبقى على القياس.
والثاني: فيه شاة؛ لأن إيجابها في الحمام تنبيه على إيجابها فيما هو أكبر منه. وقد روي عن ابن عباس وجابر، أنهما قالا في الحجلة والقطا والحبارى: شاة شاة. وإن نتف ريش طائر ففيه ما نقص، فإن عاد فنبت، ففي ضمانه وجهان، كغصن الشجرة إذا نبت، وفي بيض الصيد قيمته.
فصل:
ومن وجب عليه جزاء صيد، فهو مخير بين إخراج المثل، أو يقوم المثل، ويشتري بقيمته طعاماً، ويتصدق به، أو يصوم عن كل مد يوماً؛ لقول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] و [أو] للتخيير، وعنه: أنها على الترتيب، فيجب(1/502)
المثل، فإن لم يجد [أطعم فإن لم يجد] صام، ككفارة القتل. وعنه: لا طعام في الجزاء، وإنما ذكره ليعدل به الصيام، والمذهب الأول؛ لأنه ظاهر النص فلا تعويل على ما خالفه.
فصل:
وإن اشترك جماعة في قتل صيد، فعليهم جزاء واحد.
وعنه: على كل واحد جزاء؛ لأنها كفارة قتل، أشبهت كفارة قتل الآدمي.
وعنه: إن كفروا بالمال فجزاء واحد، وإن كفروا بالصيام فكفارات، والأولى أولى؛ لأن ذلك يروى عن عمر وابنه وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأنه بدل متلف يتجزأ، فيقسم بدله بين المشتركين، كالديات وقيم المتلفات، وإن اشترك حلال وحرام، فلا شيء على الحلال. وهل يكمل الجزاء على الحرام، أو يكون حكمه، حكم المشارك لحرام؟ فيه وجهان:
وإن جرح صيدا، ضمنه، وفي ضمانه وجهان:
أحدهما: يضمنه بمثله؛ لأن ما وجب ضمان جملته بمثله، وجب في بعضه مثله، كالمكيلات.
والآخر تجب قيمة قدره، من مثله؛ لأن الجزء يشق إخراجه، فصرنا إلى قيمته.
وإن جرح صيدا فأزال امتناعه، فقتله حلال، أو سبع، فعلى المحرم جزاء جميعه؛ لأنه سبب تلفه، وإن قتله محرم آخر، فعلى الأول ما نقصه، والباقي على الثاني. وإن برئ وزال نقصه فلا شيء فيه، كالآدمي، وإن نقص فعليه نقصه، وإن برئ غير ممتنع، فعليه جزاء جميعه؛ لأنه عطله، فصار كالتالف، وإن غاب ولم يعلم خبره، فعليه نقصه؛ لأنه المتيقن.
فصل:
والقارن والمفرد والمعتمر سواء في جزاء الصيد، وسائر الكفارات؛ لأنهم سواء في الإحرام، فوجب استواؤهم في ذلك.
فصل:
وصيد الحرم حرام على الحلال والحرام؛ لما روى ابن عباس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/503)
قال: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة؛ لا يختلى خلاها، ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها، فقال العباس: إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إلا الإذخر» متفق(1/504)
عليه. وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام؛ لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء، والسمك في التحريم كصيد البر؛ لعموم قوله: «لا ينفر صيدها» ولأن حرمته بمحله، وهما في المحل سواء، وعنه: لا يحرم؛ لأنه لا يحرمه الإحرام، فلم يحرمه الحرم كالسباع. وسائر الحيوانات حكمها في الحرم حكمها في الإحرام، فما حرمه الإحرام من الصيد حرمه الحرم، وما أبيح فيه من الأهلي وغير المأكول؛ لم يحرمه الحرم، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» رواه مسلم. إلا أن القمل لا يحرمه الحرم، رواية واحدة. ويجب الجزاء على كل قاتل في الحرام، مسلماً كان أو كافراً، صغيراً أو كبيراً؛ لأن حرمته لمحله، وهو ثابت بالنسبة إلى كل قاتل، ولو قتل محرم صيداً حرمياً؛ لزمه جزاء واحد؛ لأن المقتول واحد، فكان جزاؤه واحداً كما لو قتله حلال.
فصل:
ومن ملك صيداً في الحل، فأدخله الحرم؛ لزمه رفع يده عنه وإرساله، فإن تلف في يده أو أتلفه، ضمنه، وإن ذبحه، صار ميتة؛ لأن الحرم سبب لتحريم الصيد، فحرم استدامة إمساكه، كالإحرام. وإن أمسكه في الحرم، فأخرجه إلى الحل؛ لزمه إرساله كالمحرم إذا مسك الصيد حتى حل.
وإن رمى من الحرم صيداً في الحل، أو أرسل كلبه عليه، أو قتل صيداً على غصن في الحل، أصله في الحرم، فلا ضمان فيه؛ لأنه صيد حل، قاتله حلال فلم يضمن، كما لو كان قاتله في الحل، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينفر صيدها» يدل بمنطوقه على تحريمه في المسألة الأولى، وبمفهومه على حله في الثانية. وإن رمى من الحل صيداً في الحرم، أو أرسل كلبه عليه فقتله، أو قتل صيداً على غصن في الحرم، أصله في الحل، ضمنه؛ لأنه صيد حرمي معصوم بمحله. وعن أحمد فيهما جميعاً روايتان.(1/505)
فإن كانا جميعاً في الحل، فدخل السهم أو الكلب الحرم، ثم خرج، فقتل صيداً في الحل؛ لم يضمن بحال؛ لأن الصيد والصائد جميعاً في الحل.
وإن رمى صيداً في الحل، فدخل السهم الحرم، فقتل فيه صيداً، ضمنه لأن العمد والخطأ واحد في الضمان. وإن أرسل كلبه على صيد في الحل، فدخل فقتله في الحرم، أو قتل غيره، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يضمن؛ لأن للكلب اختياراً، وقد دخل باختياره، فلم يضمن جنايته، بخلاف السهم.
والثانية: إن كان الصيد قريباً من الحرم، ضمنه؛ لتفريطه بتعرضه للاصطياد في الحرم وإن كان بعيداً؛ لم يضمن؛ لعدم تفريطه، ولا يؤكل لأنه صيد حرمي.
وقال أبو بكر: عليه الضمان بكل حال. وإن جرحه في الحل، فدخل الحرم فمات فيه؛ لم يضمنه، وحل أكله لأنه ذبحه في الحل. وإن وقف صيد في الحرم والحل، فقتله ضمنه، تغليباً للتحريم.
وإن أمسك طائراً في الحل، فهلك فراخه في الحرم، ضمن الفراخ وحدها؛ لأنه أتلفها في الحرم.
وإن أمسك الطائر في الحرم، فهلك الفراخ في الحل، ضمن الطائر وحكم الفراخ، حكم ما لو رمى من الحرم صيداً في الحل؛ لأن صيد الحل، هلك بسبب كان منه في الحرم.
وإن نفر صيداً حرمياً، فهلك في نفوره بسبع أو غيره، في حل أو حرم ضمنه؛ لأنه هلك بتنفيره المنهي عنه، وإن سكن من نفوره، ثم هلك؛ لم يضمنه لأن هلاكه بغير سببه. وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه دخل دار الندوة، فعلق رداءه، فوقع عليه حمام، فخاف أن يبول عليه، فأطاره، فانتهزته حية فقال: أنا أطرت، فسأل من معه، فحكم عليه عثمان ونافع بن عبد الحارث بشاة.
فصل:
ويحرم قلع شجر الحرم، وحشيشه كله؛ لحديث ابن عباس، «إلا الإذخر» . وما زرعه الإنسان؛ لأنه كالحيوان الأهلي، وإن غرس شجرة، فقال أبو الخطاب: له قلعها لأنه أنبتها الآدميون، فأشبه الزرع. وإن أخذه من الحرم، فغرسه؛ لم يبح قلعه؛ لأنه حرمي، ويحتمل كلام الخرقي تحريم قلع الشجر كله؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يعضد(1/506)
شجرها» وذكر القاضي وأبو الخطاب: أنه يباح قطع الشوك والعوسج؛ لأنه بمنزلة السباع من الحيوان، والحديث صريح في أنه لا يعضد شوكها، واتباعه أولى.
ولا بأس بقطع ما يبس؛ لأنه بمنزلة الميت، وأخذ ما تناثر أو يبس من الورق، أو تكسر من الشجر والعيدان بغير فعل الآدمي لذلك، وما قطعه الآدمي لم يبح له ولا لغيره الانتفاع به لظاهر كلام أحمد؛ لأنه قطع محرم؛ لحرمة الحرم، فأشبه ذبح الصيد. ولا يجوز أخذ ورق الشجر الأخضر؛ لأن في بعض الألفاظ: «ولا يخبط شجرها» ولأنه يضر بالشجر، أشبه نتف ريش الطير.
فصل:
ويجب الجزاء في ذلك، فيجب في الشجرة الكبيرة، بقرة، وفي الصغيرة شاة؛ لما روي عن ابن عباس أنه قال: في الدوحة بقرة، وفي الجزلة شاة، والدوحة: الكبيرة، والجزلة: الصغيرة. وإن قطع غصناً، ضمنه بما نقص، كأغصان الحيوان، فإن خلف مكانه، فهل يسقط الضمان؟ على وجهين:
أحدهما: لا يضمنه، كشعر الآدمي وسنه.
والثاني: يضمنه؛ لأنه أتلفه.
وإن قلع شجرة؛ لزمه ردها إلى موضعها، كمن صاد صيداً لزمه إرساله، فإن أعادها فيبست، ضمنها؛ لأنه أتلفها، وإن نبتت كما كانت؛ لم يضمنها، كالصيد إذا أرسله، وإن نقصت، ضمن نقصها، كالصيد سواء.
فصل:
ويحرم قطع حشيش الحرم؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يختلي خلاها» ويضمنه بقيمته، كما يضمن صغار الصيد بقيمته، وإن استخلف فهل يسقط الضمان؟ على وجهين.
وفي إباحة رعيه وجهان:
أحدهما: يباح؛ لأن الحاجة تدعو إليه فأشبه قطع الإذخر.
والثاني: يحرم؛ لأنه تسبب في إتلافه، فهو كإرسال الكلب على الصيد، وتباح الكمأة لأنه لا أصل لها، فأشبهت الثمرة.
فصل:
ويكره إخراج تراب الحرم وحصاه؛ لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما(1/507)
كرهاه. ولا يكره إخراج ماء زمزم؛ لأنه يستخلف، ويعد للإتلاف، فأشبه الثمرة.
فصل:
ويحرم صيد مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشجرها؛ لما روى أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرف على المدينة فقال: «اللهم إني أحرم ما بين جبليها، مثل ما حرم إبراهيم مكة» وفي لفظ: «ولا يقطع شجرها» متفق عليه.
ولا جزاء في صيدها وشجرها؛ لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام، فأشبه صيد وج، ولأن الإيجاب من الشارع، ولم يرد به، وعنه: فيه الجزاء، وهو سلب القاتل لأخذه؛ لما روي «أن سعداً ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبداً يقطع شجراً أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد، جاء أهل العبد، فكلموه أن يرد عليهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئاً نفلنيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبى أن يرد عليهم» . رواه مسلم. وفي لفظ. قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم هذا الحرم» وقال: «من وجد أحداً يصيد منه فليسلبه» رواه أبو داود.
وحد حرمها: ما بين لابتيها، بريد في بريد، وقال أحمد: كذا فسر أنس بن مالك، وقد روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بين لابتيها حرام» متفق عليه.
فصل:
ويفارق حرم مكة، في أن من أدخل إليها صيداً من خارج، فله إمساكه وذبحه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «يا أبا عمير ما فعل النغير»(1/508)
متفق عليه. وهو طائر كان يلعب به، فلم ينكر عليهم إمساكه.
ويجوز أن يأخذ من شجرها ما تدعو الحاجة إليه للمساند والوسائد والرحل، ومن حشيشها ما تدعو الحاجة إليه للعلف؛ لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حرم المدينة قالوا: يا رسول الله إنا أصحاب عمل وأصحاب نضح، وإنا لا نستطيع أرضا غير أرضنا، فرخص لنا. فقال: القائمتان والوسادة والعارضة والمسند، فأما غير ذلك فلا يعضد ولا يخبط منها شيء» رواه الإمام أحمد، فأما صيد وج وشجره، وهو واد من أودية الطائف، فحلال؛ لأن الأصل الحل. وقد روي فيه حديث، ضعفه أحمد، وذكره الخلال في كتاب العلل.
فصل:
وما وجب من الهدي والإطعام جزاء للصيد؛ لزمه إيصاله إلى مساكين الحرم؛ لقول الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . وكذلك دم التمتع والقران؛ لأنه نسك، فأشبه الهدي. ودم فدية الأذى، يختص بالمكان الذي وجب سببه فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر كعب بن عجرة بالذبح والإطعام بالحديبية، ولم يأمر بإيصاله إلى الحرم، ونحر علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين حلق رأس الحسين بالسقبا. وفي معناه ما وجب بلبس أو طيب أو نحوه، وقال القاضي: ما وجب بفعل محظور، فيه روايتان:
إحداهما: محله، حيث وجد سببه، كفدية الأذى والإحصار.
والثانية: محله الحرم؛ لقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] وقال ابن عقيل: إن فعل المحظور لعذر يبيحه، فحمل هديه موضع فعله، وإن فعل لغير عذر، فمحله الحرم. وأما هدي المحصر، فمحل نحره محل حصره؛ لما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج معتمراً، فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية» ، روى البخاري نحوه، وبين الحديبية والحرم ثلاثة أميال، ولأنه جاز التحلل في غير موضعه للحصر، فيجوز النحر في غير موضع النحر، وعن أحمد: لا يجوز نحره إلا في الحرم. لقول الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] فعلى هذا يبعثه إلى الحرم، ويواطئ من يبعثه على اليوم الذي ينحره فيه، فيحل حينئذ. وأما الصيام كله(1/509)
فيجزئه بكل مكان؛ لأنه لا نفع فيه لأهل المكان، فلا يختص بالمكان، كرمضان.
فصل:
وما وجب لمساكين الحرم؛ لم يجز ذبحه إلا في الحرم، وفي أي موضع منه ذبح جاز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر وطريق» رواه ابن ماجة. مفهومه أنه لا يجوز النحر في غيره مما ليس في معناه. إذا نحر ففرقه على المساكين، فإن أطلقها لهم يقتطعونها، جاز «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنات خمساً، ثم قال: من شاء فليقتطع» رواه أبو داود. ومساكين الحرم من حله من أهله وغيرهم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلقها لمن حضره.
[باب دخول مكة وصفة العمرة]
ويستحب لمن أراد دخول مكة أن يغتسل، ويدخلها من أعلاها من ثنية كداء، ويخرج من أسفلها؛ لما روي «عن ابن عمر أنه كان يغتسل، ثم يدخل مكة، ويذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله» ، وقال: «دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة من ثنية العليا التي بالبطحاء، وخرج من الثنية السفلى» ، متفق عليهما، ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة؛ لقول جابر: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة، ودخل المسجد.» رواه مسلم.
ويستحب أن يدعو عند رؤيته البيت، ويرفع يديه؛ لما روى ابن جريح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى البيت رفع يديه، وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً ومهابة وبراً، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمر تشريفاً وتعظيماً وبراً» رواه الشافعي في مسنده، وعن سعيد بن المسيب: أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول: ((اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام)) . ذكر الأثرم هذا الدعاء وزاد: الحمد لله رب العالمين كثيراً كما هو أهله، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، الحمد لله الذي بلغني بيته، ورآني لذلك أهلاً، الحمد لله على كل حال، اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام، وقد جئتك لذلك، اللهم تقبل مني، واعف عني، وأصلح لي شأني كله؛ لا إله إلا أنت، وما زاد من الدعاء فحسن.(1/510)
فصل:
ويبدأ بالطواف؛ لما روت عائشة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين قدم مكة، توضأ ثم طاف بالبيت» ، متفق عليه، ولأن الطواف تحية المسجد، فاستحبت البداءة به، كالركعتين في غيره من المساجد، وينوي المتمتع به طواف العمرة، وينوي المفرد والقارن الطواف للقدوم.
ويسن الاضطباع فيه، وهو أن يجعل وسط الرداء تحت منكبه الأيمن، ويتركه مكشوفاً، ويرد طرفيه على منكبه الأيسر؛ لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم، ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى» رواه أبو داود.
ويطوف سبعاً، يبتدئ بالحجر الأسود فيستلمه؛ لقول جابر: «حتى أتينا البيت معه، استلم الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً» ، ومعنى استلامه: مسحه بيده، ويستحب تقبيله؛ لما روى أسلم قال: «رأيت عمر بن الخطاب قبل الحجر، وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبلك ما قبلتك.» متفق عليه، فإن لم يمكنه تقبيله، استلمه، وقبل يده؛ لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلمه وقبل يده» ، رواه مسلم، فإن استلمه بشيء في يده قبله؛ لما روى ابن عباس قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف في البيت، ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن» . رواه مسلم. وإن لم يمكنه أشار بيده إليه؛ لما روى ابن عباس، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعير كلما أتى الركن أشار إليه، وكبر.»
ويستحب أن يقول عنده ما روى عبد الله بن السائب: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عند استلامه: بسم الله والله أكبر إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك محمد، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . ويحاذي الحجر بجميع بدنه؛ ليستوعب جميع البيت بالطواف، ثم يأخذ في الطواف على يمين نفسه، ويجعل البيت على يساره، ويطوف سبعاً يرمل في الثلاث الأول منها، وهو إسراع المشي مع مقاربة الخطى، ولا يثب وثباً، ويمشي أربعاً لحديث جابر، وروى ابن عمر قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً، ومشى أربعاً.» متفق عليه. ولا يرمل في غير هذا الطواف لذلك. فإن ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع؛ لأنه سنة فات محلها، فلم يقضه في غيره كالجهر في الأوليين، ولا يقضى في الأخريين.
ولو فاته الرمل والاضطباع في هذا الطواف؛ لم يقضه فيما بعده، كمن فاته الجهر في الصبح لم يقضه في الظهر، ويكون الحجر داخلاً في طوافه؛ لأن الحجر في البيت،(1/511)
ولا يطوف على جدار الحجر، ولا شاذروان الكعبة؛ لأنه من البيت، فيجب أن يطوف به.
ولا يستلم الركن العراقي ولا الشامي؛ لما روى ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني، وما تركت استلامهما منذ رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلمهما في شدة ولا رخاء» ، رواه مسلم، وقال: «ما أرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استلم الركنين اللذين يليان الحجر، إلا لأن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.» متفق عليه، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك، كلما حاذى الحجر كبَّر. ويقول بين الركنين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] لما روى عبد الله بن السائب: أنه «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك ما بين ركن بني جمح والركن الأسود.» رواه أبو داود. ويقول في بقية الطواف: «اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، وذنباً مغفوراً رب اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم» ، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو بما أحب، ويستحب أن يدنو من البيت؛ لأنه المقصود.
فإن كان يمكنه الرمل بعيداً، ولا يمكنه قريباً، فالبعيد أولى؛ لأنه يأتي بالسنة المهمة.
ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف؛ لأنه صلاة، والصلاة محل القرآن.
ويجوز الشرب في الطواف؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شرب في الطواف» . رواه ابن المنذر.
ويستحب أن يدع الحديث كله، إلا ذكر الله أو قراءة القرآن، أو دعاء أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر؛ لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطواف في البيت صلاة، إلا أن الله أباحكم فيه الكلام، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه الترمذي.
فصل:
فإذا فرغ من الطواف، صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، يقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وسورة الإخلاص. لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف في البيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين، قرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] » رواه مسلم. وإن صلاهما في غير هذا الموضع، أو قرأ غير ذلك أجزأه.
فصل:
ويشترط لصحة الطواف تسعة أشياء:(1/512)
الطهارة من الحدث والنجس، وستر العورة؛ لحديث ابن عباس، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يطوف بالبيت عريان» . متفق عليه؛ ولأنها عبادة تتعلق بالبدن، فاشترط فيها ذلك، كالصلاة.
وعنه، فيمن طاف للزيارة ناسياً لطهارته حتى رجع، فحجه ماض، ولا شيء عليه، وهذا يدل على أنها تسقط بالنسيان. وعنه، فيمن طاف للزيارة غير متطهر: أعاد ما كان بمكة، فإن رجع، جبره بدم، وهذا يدل على أن الطهارة ليست شرطاً، إنما هي واجب، يجبره الدم، فكذلك يخرج في طهارة النجس والستارة؛ لأنها عبادة لا يشترط فيها الاستقبال، فلم يشترط فيها ذلك كالسعي والوقوف.
الرابع: النية؛ لأنها عبادة محضة، فأشبهت الصلاة.
الخامس: الطواف لجميع البيت، فإن سلك الحِجْر، أو طاف على جدار الحجر، أو على شاذروان الكعبة؛ لم يجزئه؛ لأن الله تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وهذا يقتضي الطواف لجميعه، والحِجْر منه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحِجْر من البيت» متفق عليه.
السادس: الطواف سبعاً، فإن ترك منها شيئاً وإن قل؛ لم يجزئه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف سبعاً، فيكون تفسيراً لمجمل قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فيكون ذلك هو الطواف المأمور به، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خذوا عني مناسككم» .
السابع: أن يحاذي الحجر في ابتداء طوافه، بجميع بدنه، فإن لم يفعل لم يعتد بذلك الشوط، واعتد له بما بعده.
ويأتي بشوط مكانه، ويحتمل أن لا يجب هذا؛ لأنه لما لم يجب محاذاة جميع الحجر؛ لم تجب المحاذاة بجميع البدن.
الثامن: الترتيب، وهو أن يطوف على يمينه، فإن نكسه؛ لم يجزئه لما ذكرنا في السادس؛ ولأنها عبادة تتعلق بالبدن، فكان الترتيب فيها شرطاً كالصلاة.
التاسع: الموالاة شرط لذلك، إلا أنه إذا أقيمت الصلاة، أو حضرت جنازة، فإنه يصلي، ثم يبني؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» رواه مسلم.(1/513)
وعنه: إذا أعيا في الطواف، فلا بأس أن يستريح، وقال: إذا كان له عذر، بنى، وإن قطعه من غير عذر، أو لحاجة، استقبل الطواف.
وعنه: فيمن سبقه الحدث، روايتان:
إحداهما: يستأنف قياساً على الصلاة.
والثانية: يتوضأ. ويبني إذا لم يطل الفصل، فيخرج في الموالاة روايتان:
إحداهما: هي شرط كالترتيب.
والثانية: ليست شرطاً حال العذر؛ لأن الحسن غشي عليه، فحمل، فلما أفاق أتمه.
فصل:
وسننه: استلام الركن، وتقبيله، أو ما قام مقامه، من الإشارة والدعاء، والذكر في مواضعه، والاضطباع، والرمل، والمشي في مواضعه؛ لأن ذلك هيئة في الطواف، فلم تجب كالجهر والإخفات في الصلاة. وركعتا الطواف ليست واجبة؛ «لأن الأعرابي؛ لما سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الفرائض، ذكر الصلوات الخمس، قال: فهل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع» متفق عليه.
ولأنها صلاة لم يشرع لها جماعة، فلم تجب، كسائر النوافل، ولكنها سنة مؤكدة، وإن صلى المكتوبة بعد طوافه، أجزأته عنهما، فإن جمع بين الأسابيع، وصلى لكل أسبوع ركعتين، جاز؛ لأن عائشة والمسور بن مخرمة فعلا ذلك، ولا تجب الموالاة بينهما لما ذكرنا، وأن يطوف ماشياً، وإن طاف راكباً أجزأه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعيره، وأمر أم سلمة فطافت راكبة من وراء الناس» . حديث أم سلمة متفق عليه، ويجوز أن يحمله إنسان فيطوف به؛ لأنه في معنى الراكب، وإن طاف راكباً أو محمولاً لغير عذر، ففيه روايتان:
إحداهما: يجزئه؛ لأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقاً، وهذا قد طاف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف راكباً وهو صحيح.
والثانية: لا يجزئه لأنها عبادة تتعلق بالبدن، فلم يجز فعلها راكباً لغير عذر، كالصلاة، فأما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن ابن عباس قال: «إن الناس كثروا عليه، يقولون: هذا محمد هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب» ، رواه مسلم.(1/514)
فصل:
والمرأة كالرجل، إلا أنها إذا قدمت مكة نهاراً، استحب لها تأخير الطواف إلى الليل؛ لأنه أستر لها، إلا أن تخاف الحيض، فتبادر الطواف؛ لئلا يفوتها التمتع، ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر، بل تشير بيدها إليه، قال عطاء: كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين. قالت: انطلقي عنك، وأبت، وليس في حقها رمل، ولا اضطباع؛ لأنه يستحب لها التستر، ولأن الرمل شرع في الأصل لإظهار الجَلَد والقوة، ولا يقصد ذلك في المرأة، ولذلك لا يسن الرمل في حق المكي، ومن جرى مجراهم. وقال ابن عباس وابن عمر: ليس على أهل مكة رمل. وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إذا أحرم في مكة لم يرمل.
فصل:
إذا فرغ من الركعتين، سعى بين الصفا والمروة، ويستحب أن يستلم الحجر ثم يخرج إلى الصفا من بابه، فيرقى عليه حتى يرى البيت فيستقبله ويدعوه؛ لأن جابراً قال في صفة حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا، قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] نبدأ بما بدأ الله تعالى به. فبدأ في الصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبله، فوحد الله وكبره وقال: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين ذلك، وقال مثل هذا ثلاث مرات» .
قال أحمد: ويدعو بدعاء ابن عمر، ذكر نحواً من هذا. وزاد: لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم جنبني حدودك، اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك وأنبياءك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم حببني إليك، وإلى ملائكتك، وإلى رسلك، وإلى عبادك الصالحين. اللهم يسرني لليسرى، وجنبني العسرى، واغفر لي في الآخرة والأولى. واجعلني من أئمة المتقين، واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين، اللهم إنك قلت {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وإنك لا تخلف الميعاد،(1/515)
اللهم إذ هديتني للإسلام فلا تنزعني منه، ولا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا على الإسلام، اللهم لا تقدمني لعذاب، ولا تؤخرني لسوء الفتن، رواه سعيد بن منصور. وما دعا به فحسن، ثم ينزل ويمشي حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر المعلق بفناء المسجد نحواً من ستة أذرع، فيسعى سعياً شديداً، حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد وحذاء دار العباس، ثم يمشي حتى يصعد المروى، فيرقى عليها، ويقول كما قال على الصفا، ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه، ويسعى في موضع سعيه، حتى يكمل ذلك سبعاً، يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع أخرى، يفتتح بالصفا ويختم بالمروة؛ لأن جابراً قال: «ثم نزل، يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعدنا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، فلما كان آخر طوافه على المروة» . . . وذكر الحديث. رواه مسلم. ويدعو فيما بينهما، ويذكر الله تعالى.
قال أبو عبد الله: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله» وهو حديث حسن صحيح.
فصل:
والواجب من هذا ثلاثة أشياء، استيفاء السبع، فإن ترك منها شيئاً وإن قل، لم يجزئه، وإن لم يرق على الصفا والمروة، وجب استيعاب ما بينهما، بأن يلصق عقبيه بأسفل الصفا، ثم يلصق أصابع رجليه بالمروة، ليأتي بالواجب كله، والبداءة بالصفا، لخبر جابر، فإن بدأ بالمروة لم يعتد له بذلك الشوط، واعتد له بما بعده. وترتيب السعي على الطواف، فلو سعى قبله لم يجزئه؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما سعى بعد طوافه، وقال: خذوا عني مناسككم» ولو طاف وسعى، ثم علم أن طوافه غير صحيح لعدم الطهارة، أو غيرها: لم يعتد له بسعيه، لفوات الترتيب.
فصل:
ويسن الطهارة والستارة.
وعنه: أنهما واجبتان؛ لأنه أحد الطوافين، أشبه الطواف في البيت، والأول المذهب؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة حين حاضت: «اقضي ما يقضي الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» أخرجه مسلم والبخاري. ونحوه قالت عائشة: إذا طافت المرأة في البيت، فصلت ركعتين، ثم حاضت، فلتطف بالصفا والمروة؛ ولأنها عبادة لا تتعلق بالبيت، فلم يشترط لها ذلك(1/516)
كالوقوف، ويسن أن يرقى على الصفا والمروة، ويرمل بين العلمين، ويمشي ما سوى ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله، ولا يجب لما روي عن ابن عمر أنه قال: «أنا أمشي، فقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي، وأنا شيخ كبير» . رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. ويسن الموالاة بينه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والى بينه، ولا يجب؛ لأنه نسك لا يتعلق بالبيت، فلم يشترط له الموالاة كالرمي. وقد روي أن سودة بنت عبد الله بن عمر سعت، فقضت طوافها في ثلاثة أيام، ويسن أن يمشي، فإن ركب جاز؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى راكباً، ولما ذكرنا في الموالاة، والمرأة كالرجل، إلا أنها لا ترقى على الصفا والمروة، ولا ترمل في طواف ولا سعي، لما ذكرنا في الرمل في الطواف. وليس على أهل مكة رمل لذلك. نص عليه.
فصل:
فإذا فرغ من السعي، فإن كان متمتعاً، لا هدي معه قصر من شعره، وحل من عمرته، فما روى ابن عمر قال: «تمتع الناس مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج، فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قال للناس: من كان معه هدي، فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجته، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وبين الصفا والمروة وليقصر وليحلل» متفق عليه، وإنما جعل التقصير هاهنا ليكون الحلق للحج، فأما من ساق الهدي فليس له التحلل للحديثين وعنه: أنه يقصر من شعره خاصة، ولا يلمس شاربه ولا أظفاره، لما روى معاوية قال: «قصرت من رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص عند المروة» . حديث صحيح رواه مسلم.
وعنه: إن قدم في العشر، لم يحل لذلك، وإن قدم قبل العشر نحر وتحلل كالمعتمر غير المتمتع. ومن لبد فهو كمن أهدى، لما روت حفصة أنها قالت: «يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ فقال: إني لبدت رأسي، وقلدت هدياً، فلا أحل حتى أنحر» متفق عليه. فأما المعتمر الذي لا يريد التمتع، فإنه يحل، وإن كان في أشهر الحج؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر من ذي القعدة، فحل ونحر هديه.
فصل:
والسعي ركن لا يتم الحج إلا به؛ لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين الصفا والمروة، فطاف المسلمون، فكانت سنة، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بينهما» . رواه مسلم. وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/517)
يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» رواه أبو داود.
وعنه: أنه سنة لا شيء على تاركه. لقول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . مفهومه أنه مباح. وفي مصحف أبي وابن مسعود ((فلا جناح عليه إلا أن يطوف بهما)) وهذا لا ينحط على رتبة الخبر، قال القاضي: الصحيح أنه واجب يجبره الدم، وليس بركن جميعاً بين الدليلين، وتوسطاً بين الأمرين.
فصل:
ولا يسن السعي بين الصفا والمروة إلا مرة في الحج، ومرة في العمرة، فمن سعى مع طواف القدوم، لم يعده مع طواف الزيارة. ومن لم يسع مع طواف القدوم، أتى به بعد طواف الزيارة. فأما الطواف بالبيت، فيستحب الإكثار منه، والتطوع به؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من طاف بالبيت وصلى ركعتين فهو كعتق رقبة» رواه ابن ماجه.
فصل:
ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما أحب، ويتضلع منه؛ لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ماء زمزم لما شرب له» رواه الدارقطني. ويقول عند الشرب: بسم الله اللهم اجعله لنا علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، ورياً وشبعاً، وشفاء من كل داء، واغسل به قلبي واملأه من خشيتك.
[باب صفة الحج]
يستحب لمن بمكة الخروج يوم التروية -
وهو الثامن من ذي الحجة - قبل صلاة الظهر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يومئذ، فصلى الظهر بمنى، فمن كان حراماً، خرج على حاله، ومن كان حلالاً من المتمتعين والمكيين، أحرم بالحج، وفعل فعله عند الإحرام من الميقات، ومن أحرم من الحرم جاز؛ لأن جابراً قال: «أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح» .
والمستحب أن يطوف بالبيت سبعاً، ويصلي ركعتين، ثم يستلم الركن وينطلق منه مهلاً بالحج؛ لأن عطاء كان يفعل ذلك، ويفعل في إقامته بمنى ورواحه منها، ووقوفه، مثل ما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال جابر: «ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى بمنى الظهر والعصر(1/518)
والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضُربت له بنمرة، فسار حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء، فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم لم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل حبل المشاة بين يديه، فاستقبل القبلة، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلاً، حتى غاب القرص، ودفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فهذا أولى ما فعل اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .
ويستحب أن يخطب الإمام خطبة، يعلم الناس مناسكهم وفعلهم في وقوفهم، ودفعهم في أول ما تزول الشمس، ويقصر الخطبة؛ لأن سالم بن عبد الله قال للحجاج يوم عرفة: إن كنت تريد أن تصيب السنة فقصر الخطبة، وعجل الصلاة، قال ابن عمر: صدق. رواه البخاري. ويأمر بالأذان، فينزل فيصلي بهم الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين للخبر. ومن لم يصل مع الإمام، جمع في رحله؛ لأنهما صلاتا جمع، فشرع جمعهما في حق المنفرد كصلاتي المزدلفة، ثم يصير إلى موقف عرفة، وأين وقف منها جاز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عرفة كلها موقف» رواه أبو داود. وهي من الجبل المشرف على عرفة إلى الجبال المقابلة له، إلى ما يلي حوائط بني عامر، إلى بطن عرنة؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل عرفة موقف، وارفعوا عن بطن عرنة» رواه ابن ماجه.
والأفضل الوقوف في موقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن يقف راكباً؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف راكباً؛ ولأنه أمكن له من الدعاء، وقيل: الراجل أفضل؛ لأنه أروح لراحلته، ويحتمل أن يكونا سواء.
فصل:
ويجتهد في الذكر والدعاء؛ لأنه يوم رغبة ترجى فيه الإجابة، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من يوم أكثر من يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، فإنه ليدنو عز وجل فيباهي بهم الملائكة. فيقول: ما أراد هؤلاء» رواه مسلم والنسائي وابن ماجه ويدعو بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أكثر دعاء الأنبياء قبلي، ودعائي عشية عرفة، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، اللهم اجعل لي في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، ويسر لي أمري» ويدعو بدعاء ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الذي ذكرناه. ويختار من الدعاء ما أمكنه.
فصل:
ووقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، لما روى عروة(1/519)
بن مضرس بن أوس بن لام قال: «أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبلي طيئ، أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا ووقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجته وقضى تفثه» هذا حديث صحيح.
وقال أبو حفص العكبري: أول وقته زوال الشمس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف بعده، والأول أولى للخبر، ولأن ما قبل الزوال من يوم عرفة، فكان وقتاً للوقوف بها، كالذي بعده، ووقوف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستوعب الوقت، بدليل ما بعد الغروب، ومن حصل بعرفة في وقت الوقوف قائماً، أو قاعداً أو مجتازاً أو نائماً، أو غير عالم أنه بعرفة، فقد أدرك الحج للخبر، ومن كان مغمى عليه، أو مجنونا لم يحتسب له به؛ لأنه ليس من أهل العبادات، بخلاف النائم لما ذكرنا في الصيام. ومن فاته ذلك. فقد فاته الحج.
قال ابن عقيل: والسكران كالمغمى عليه؛ لأنه ليس من أهل العبادات.
ولا يشترط للوقوف طهارة، ولا سترة ولا استقبال؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة إذ حاضت: «افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت» وأمرها فوقفت. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يستحب أن يشهد المناسك كلها على وضوء؛ لأنه أكمل وأفضل، ويجب أن يقف حتى تغرب الشمس؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف كذلك، فإن دفع قبل الغروب ثم عاد فلا دم عليه؛ لأنه جمع بين الليل والنهار، فإن لم يعد، فعليه دم؛ لأنه ترك نسكاً واجباً، ولا يبطل حجه، لحديث عروة بن مضرس. ومن وافى عرفة ليلاً أجزأه ذلك، ولا دم عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جمع فقد تم حجه» رواه أبو داود. ويستحب أن لا يدفع قبل الإمام. قال أحمد: وما يعجبني أن يدفع إلا مع الإمام؛ لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدفعوا قبله.
فصل:
ثم يدفع بعد الغروب إلى مزدلفة، ويسير، وعليه السكينة، وإذا وجد فرجة، أسرع؛ لقول جابر: «وأردف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسامة وسار وهو يقول: أيها الناس السكينة، السكينة حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما» وقال أسامة: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسير العنق، فإذا وجد فرجة، نص»(1/520)
يعني: أسرع. متفق عليه ويكون في الطريق يلبي، ويذكر الله تعالى، لما روى الفضل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» . متفق عليه. فإن وصل مزدلفة، أناخ راحلته ثم صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال، يجمع بينهما، لخبر جابر، وروى أسامة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام فصلى المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم، ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة، فصلوا ثم حلوا» رواه مسلم. وإن صلى المغرب في طريق مزدلفة، ترك السنة وأجزأه؛ لأن الجمع رخصة فجاز تركها كسائر الرخص، ثم يبيت لمزدلفة حتى يطلع الفجر، ثم يصلي الفجر في أول وقتها، ثم يأتي المشعر الحرام فيقف عليه، ويستقبل القبلة ويدعو، ويكون من دعائه: اللهم كما وقفتنا فيه، وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك، وقولك الحق، {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] . ثم يقف حتى يسفر جداً، ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى، فإذا أتى بطن محسر، أسرع، حتى يجاوزه، ثم يسير حتى يأتي جمرة العقبة، فيرميها؛ لقول جابر في حديثه: «ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الصبح حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله وكبره. وهلله ووحده، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، فدفع قبل طلوع الشمس، حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلاً ثم سلك الطريق الوسطى، حتى أتى الجمرة، يعني جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف» وأين وقف من مزدلفة جاز؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» وحدها ما بين مأزمي وعرفة وقرن محسر، ويستحب أخذ حصى الجمار منها، ليكون مستعداً بالحصى، لا يشتغل بجمعه في منى عن تعجيل الرمي، ومن حيث أخذه جاز، وعدده سبعون حصاة، ويستحب أن يكون مثل حصى الخذف، ويلقطهن لقطاً، لما روى ابن عباس قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة العقبة القط لي حصاً فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفيه، ويقول: أمثال هؤلاء، فارموا ثم قال: أيها الناس، إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» رواه ابن ماجه.
والمبيت بمزدلفة واجب، يجب بتركه دم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف به، وسماه موقفاً، وليس بركن؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الحج عرفة» .
ويجوز الدفع بعد نصف الليل، لما روت عائشة قالت: «أرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/521)
بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم أفاضت» . رواه أبو داود. ولا بأس بتقديم الضعفة ليلاً لهذا الحديث. ولما روى ابن عباس قال: «كنت فيمن قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ضعفة أهله من مزدلفة إلى منى» . متفق عليه ولا يجوز الدفع قبل منتصف الليل، فمن خرج قبل ذلك ثم عاد إليها في ليله فلا دم عليه ومن لم يعد فعليه دم. فإن وافاها بعد نصف الليل فلا دم عليه، كما قلنا في عرفة سواء.
فصل:
فإذا وصل منى بدأ برمي جمرة العقبة؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بها، ولأنها تحية منى، فلم يقدم عليها شيء كالطواف في المسجد، والمستحب رميها بعد طلوع الشمس. لما روى ابن عباس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس» من " المسند ".
وأول وقته بعد نصف الليل، لحديث عائشة، ويستحب لمن كان راكباً أن يأتيها راكباً، لما روى جابر قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: لتأخذوا عني مناسككم» . رواه مسلم. ويستحب أن يستبطن الوادي ويستقبل القبلة، ويرمي على حاجبه الأيمن، لما روى عبد الرحمن بن يزيد قال: «لما أتى عبد الله جمرة العقبة، استبطن الوادي، واستقبل القبلة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن، ثم رمى بسبع حصيات ثم قال: والله الذي لا إله غيره، من هاهنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» . متفق عليه، وإن رماها من فوقها جاز، لما روي عن عمر أنه جاء والزحام عند الجمرة فصعد فرماها من فوقها، ويقطع التلبية عند البداءة بالرمي؛ لقول الفضل: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة» ، ولأن التلبية للإحرام، وبالرمي يشرع في التحلل منه، فلا يبقى للتلبية معنى. ويكبر مع كل حصاة، لحديث جابر، وعن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استبطن الوادي ورمى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة: الله أكبر الله أكبر، اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً» ، رواه حنبل في " مناسكه "، ويرفع يده في الرمي حتى يرى بياض إبطيه، ولا يجزئه غير الحجر في الرمي من المدر والخذف، ولا بحجر قد رمي به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى بالحصى، وأمر بلقطه من غير المرمى ولأن ما تقبل من الحصى رفع، والباقي مردود فلا يرمى به، وإن رمى بحجر كبير أجزأه؛ لأنه حجر، وعنه: لا يجزئه؛ لأنه منهي عنه.
ولا يجزئه وضع الحصى في المرمى بغير رمي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى.
فإن رمى السبع دفعة واحدة لم يجزئه إلا عن واحدة؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى سبع رميات.(1/522)
ولو رمى فوقعت الحصاة في غير المرمى واستقرت، لم تجزئه، وإن طارت فوقعت في المرمى أجزأته؛ لأنها حصلت فيه برميه، وإن وقعت على ثوب إنسان أو محمله، ثم طارت إلى المرمى أجزأته، وإن رماها الإنسان عن ثوبه، أو وقعت بحركة المحمل، لم تجزئه؛ لأنها لم تصل برميه، وإن رماها من مكان عال فتدحرجت إلى المرمى، أجزأته لأنها حصلت فيه بفعله، وإن وقعت في غير المرمى، فأطارت أخرى إلى المرمى، لم تجزئه؛ لأن التي رماها لم تصل.
وإذا فرغ من الرمي انصرف، ولم يقف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقف عندها، فإن أخر الرمي إلى المساء، رمى ولا شيء عليه، لما روى ابن عباس قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل بمنى قال رجل: رميت بعدما أمسيت. فقال: لا حرج» رواه البخاري، فإن لم يرم حتى جاء الليل لم يرم، وأخره إلى غد بعد الزوال؛ لأن ابن عمر قال ذلك.
فصل:
ثم ينصرف فيذبح هدياً إن كان معه، وإن كان واجباً عليه، ولا هدي معه، اشتراه فذبحه؛ لقول جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده» ، ويسن أن ينحر بيده، لهذا الحديث، ويجوز أن يستنيب فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى علياً فنحر ما غبر. وحد منى ما بين العقبة وبطن محسر، فحيث نحر منها أو من الحرم أجزأه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل منى منحر، وكل فجاج مكة منحر وطريق» .
فصل:
ثم يحلق رأسه، ويستحب أن يكبر عند حلقه؛ لأنه نسك، ويستقبل القبلة، ويبدأ بشقه الأيمن لما روى أنس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا بالحلاق، فأخذ بشق رأسه الأيمن، فحلقه ثم الأيسر» . رواه أبو داود. ويجوز أن يقصر من شعره، إلا أن أحمد قال: من لبد رأسه أو عقص أو ظفر، فليحلق؛ لأن عمر وابنه أمرا من لبد رأسه أن يحلق. ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لبد فليحلق» فأما غير هؤلاء فيجزئهم التقصير بالإجماع، والحلق أفضل؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق وقال: «اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال في الرابعة: والمقصرين» .
والمرأة تقصر، ولا تحلق؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء تقصير» رواه أبو داود. ولأن الحلق في حقها مثله، فلم يكن مشروعاً.(1/523)
ومن لا شعر له فلا شيء عليه؛ لأنها عبادة تتعلق بمحل فسقطت بذهابه، كغسل اليد في الوضوء، ويستحب أن يمر الموسى على رأسه لأن ابن عمر قال ذلك.
فصل:
وفي الحلاق والتقصير روايتان:
إحداهما: ليس بنسك، إنما هو استباحة محظور؛ لأنه محرم فلم يكن نسكاً، كالطيب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أبا موسى أن يتحلل بطواف وسعي، ولم يذكر تقصيراً.
والثانية: هو نسك، وهو أصح لقول الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . ولأن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر به بقوله: «فليقصر وليحلل» ودعا للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة. والتفاضل إنما هو في النسك، وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنما على النساء التقصير» فإن قلنا: هو استباحة محظور، فله الخير بين فعله وتركه، والأخذ من بعضه دون بعض، ويحصل التحلل الأول برمي الجمرة قبله، فيحل له كل محرم بالإحرام إلا النساء، وما يتعلق بهن من الوطء والعقد والمباشرة، لما روت أم سلمة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم النحر: «إن هذا يوم رخص لكم، إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا - يعني من كل شيء - إلا النساء» رواه أبو داود.
وعنه: يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج. وإن قلنا، هو نسك فعليه الحلق، أو التقصير من جميع رأسه؛ لقول الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] .
وحلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جميع رأسه.
وعنه: يجزئه بعضه كالمسح، ويقصر قدر الأنملة؛ لأن ابن عمر قال ذلك، وإن أخذ أقل من ذلك جاز؛ لأن الأمر به مطلق، ولا يحصل التحلل الأول إلا به مع الرمي؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وليقصر وليحلل» .
والأولى حصول التحلل بالرمي وحده، لحديث أم سلمة، عن ابن عباس مثله. وإن أخر الحلاق إلى آخر أيام النحر جاز؛ لأن تأخير النحر جائز، وهو مقدم على الحلق فالحلق أولى، وإن أخره عن ذلك ففيه روايتان:
إحداهما: عليه دم؛ لأنه ترك النسك في وقته، فأشبه تأخير الرمي.(1/524)
والثانية: لا شيء عليه سوى فعله؛ لأن الله تعالى بين أول وقته بقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . ولم يبين آخره؛ لأنه لو أخر الطواف لم يلزمه إلا فعله، فالحلق أولى، ويستحب لمن حلق أن يأخذ من شاربه وأظفاره؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حلق رأسه، قلم أظفاره، ولا بأس أن يتطيب؛ لقول عائشة: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحرمه حين أحرم، ولحله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت» . متفق عليه.
فصل:
ويسن أن يخطب الإمام يوم النحر بمنى خطبة، يعلمهم فيها الإفاضة والرمي والمبيت بمنى، وسائر مناسكهم، لما روى ابن عمر قال: «خطبنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر فقال في خطبته: إن هذا يوم الحج الأكبر» رواه البخاري. ولأنه يوم فيه وفيما بعده مناسك، يحتاج إلى العمل بها، فشرعت فيه الخطبة، كيوم عرفة.
فصل:
ثم يفيض إلى مكة، فيطوف بالبيت طوافاً ينوي به الزيارة، ويسمى طواف الزيارة، وطواف الإفاضة، وهو ركن الحج لا يتم إلا به؛ لقول الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . وروت عائشة: «أن صفية حاضت. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحابستنا هي؟ قالوا: يا رسول الله إنها قد أفاضت. قال: فلتنفر إذا» متفق عليه. فدل على أنه لا بد من فعله.
وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، لحديث أم سلمة، والأفضل فعله يوم النحر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رمى الجمرة أفاض إلى البيت، في حديث جابر. وإن أخره جاز؛ لأنه يأتي به بعد دخول وقته، فإذا فرغ منه، حل له كل شيء؛ لقول ابن عمر: «أفاض بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه» ، يعني: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وعن عائشة: مثله. متفق عليهما.
وإن أفاض قبل الرمي حل التحلل الأول ووقف الثاني على الرمي، فإن فات وقته قبل رميه سقط وحل التحلل الثاني بسقوطه، وهذا في حق من سعى مع طواف القدوم، أما من لم يسع فعليه أن يسعى بعد طواف الزيارة، ويقف التحلل على السعي.
قال أصحابنا: يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة، الرمي والحلق والطواف،(1/525)
ويحصل التحلل الثاني بالثالث، إن قلنا: الحلق نسك، وإن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل الأول بواحد من اثنين، وهما الرمي والطواف، وحصل التحلل الثاني بالثالث.
فصل:
قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: في المتمتع إذا دخل مكة لطواف الزيارة: يبدأ قبله بطواف القدوم، ويسعى بعده، ثم يطوف للزيارة بعدهما. وهكذا القارن والمفرد، إذا لم يكونا دخلا مكة قبل يوم النحر، ولا طافا للقدوم، فإذا دخلا للإفاضة، بدآ بطواف القدوم، وسعيا بعده، ثم طافا للزيارة،؛ لأن طواف القدوم مشروع، فلا يسقط بتعيين طواف الزيارة إلا أنه قال في المرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت فخشيت فوات الحج: أهلت الحج، وكانت قارنة، ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم.
واحتج أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم» ، متفق عليه، قال الشيخ: لم يتبين لي من هذا الحديث إلا أن طواف القدوم في حقهم غير مشروع، لكونهم لم يطوفوا بعد الرجوع من منى إلا طوافاً واحداً، ولو شرع طواف القدوم لطافوا طوافين، ولأن عائشة لم تطف للقدوم حين أدخلت الحج على العمرة، ولم تكن طافت له قبل ذلك؛ لأن طواف القدوم تحية المسجد، فسقط بتعيين الفرض، كتحية المسجد في حق من دخل وقد أقيمت المفروضة.
فصل:
يوم الحج الأكبر يوم النحر، لما تقدم من حديث ابن عمر، سمي بذلك لكثرة أفعال الحج فيه، فإنه يفعل فيه ستة أشياء: الوقوف في المشعر الحرام، ثم الإفاضة إلى منى، ثم الرمي، ثم النحر، ثم الحلق، ثم طواف الزيارة. والسنة: ترتيبها هكذا؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتبها في حديث جابر وغيره، فإن فعل شيئاً قبل شيء، جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيل له يوم النحر، في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير. قال: لا حرج» متفق عليه. فإن فعل ذلك عالماً ذاكراً، ففيه روايتان:
إحداهما: لا شيء عليه للخبر.
والثانية: عليه دم؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . ولأن الحلق كان محرماً قبل التحلل الأول، ولا يحصل إلا بالرمي.(1/526)
فصل:
ثم يرجع إلى منى من يومه، فيمكث بها ليالي أيام التشريق، لما روت عائشة قالت: «أفاض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق» .
وهل المبيت بها واجب أم لا؟ فيه روايتان:
إحداهما: ليس بواجب؛ لقول ابن عباس: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت، ولأنه مبيت بمنى، فلم يجب كليلة عرفة.
والثانية: هو واجب؛ لأن ابن عمر روى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته» . متفق عليه. فيدل على أنه لا رخصة لغيره.
فعلى هذا، إن تركه، فقال أحمد: يطعم شيئاً تمراً أو نحوه، وخففه، وهذا يدل على أنه أي شيء تصدق به أجزأه.
وعنه في ليلة مد، وفي ليلتين مدان.
وعنه: في ليلة درهم، وفي ليلتين درهمان، لما ذكرنا في الشعر.
وعنه: في ليلة نصف درهم، فأما الليلة الثالثة، فلا شيء في تركها؛ لأنها لا تجب إلا على من أدركه الليل بها.
فإن تركها في هذه الحال مع الليلتين الأوليتين، فعليه في الثلاث دم، في إحدى الروايتين.
فصل:
ثم يرمي الجمرات الثلاث في أيام التشريق بعد الزوال، كل جمرة في كل يوم بسبع حصيات، يبتدئ بالجمرة الأولى، وهي أبعدها من مكة، وتلي مسجد الخيف، فيجعلها عن يساره، ويستقبل القبلة ويرميها، كما وصفنا جمرة العقبة. ثم يتقدم عنها إلى موضع لا يصيبه الحصى، فيقف وقوفاً طويلاً، يدعو الله رافعاً يديه، ثم يتقدم إلى الوسطى، فيجعلها عن يمينه ويرميها كذلك ويفعل من الوقوف والدعاء فعله في الأولى، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع على صفة رميه يوم النحر، ولا يقف عندها، لما روت عائشة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرات إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، يقف عند الأولى والثانية،(1/527)
فيطيل المقام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» . رواه أبو داود. ولا يجزئه الرمي إلا بعد الزوال، مرتباً للخبر. فإن نكسه فبدأ بالثالثة، ثم بالثانية، ثم بالأولى لم يعتد له إلا بالأولى. وإن ترك الوقوف والدعاء، فلا شيء عليه؛ لأنه دعاء مشروع، فلم يجب كما في سائر المشاعر.
فصل:
ولا ينقص من سبع. والمشهور عن أحمد أن استيفاءها غير واجب.
وقال: من رمى بست حصيات لا بأس، وخمس حسن، وأقل من خمس لا يرمي أحد وأحب إلي سبع، لما روى سعد قال: «رجعنا من الحجة مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعضنا يقول: رميت بست، وبعضنا يقول: رميت بسبع، فلم يعب في ذلك بعضنا على بعض» . رواه الأثرم. وعنه: أن استيفاء السبع شرط؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمى بسبع، وقال: «خذوا عني مناسككم» فعلى هذه الرواية إن أخل بحصاة من الأولى، لم يصح رمي الثانية، فإن لم يعلم من أي الجمار تركها حسبها من الأولى ليسقط الفرض بيقين، فإن ترك الرمي كله حتى مضت أيام التشريق فعليه دم؛ لأنه ترك نسكاً واجباً.
وإن ترك حصاة أو اثنتين، فعلى الرواية الأولى لا شيء عليه، وعلى الثانية يخرج فيها مثل ما ذكرنا في ليالي منى.
وعنه: من رمى بست ناسياً لا شيء عليه. فإن تعمده تصدق بشيء، وإن أخر رمي يوم إلى آخر أو أخر الرمي كله إلى اليوم الثالث، ترك السنة، ولا شيء عليه، لكنه يقدم بالنية رمي الأول، ثم الثاني ثم الثالث؛ لأن أيام التشريق كلها وقت للرمي، فجاز تأخيره إلى آخر وقته، كتأخير الوقوف بعرفة إلى الليل. وإنما وجب الترتيب بالنية؛ لأنها عبادات يجب الترتيب فيها، مع فعلها في أيامها، فوجب مع فعلها مجموعة، كالصلوات.
فصل:
ويجوز لرعاة الإبل، وأهل سقاية الحاج ترك المبيت بمنى ليالي منى، وترك رمي اليوم الأول، إلى الثاني، أو الثالث، إن أحبوا أن يرموا الجميع في وقت واحد، والرمي في الليل، فيرمون رمي كل يوم في الليلة المستقبلة، لحديث ابن عمر في الرخصة للعباس. وقال عاصم بن عدي: «رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرعاة الإبل أن يرموا يوم النحر، ثم يجمعوا رمي يومين، بعد يوم النحر، يرمونه في أحدهما» . حديث صحيح. ولأنهم يشتغلون بالرعاية، واستقاء الماء، فرخص لهم ذلك. وكل ذي عذر من مرض، أو(1/528)
خوف على نفسه أو ماله، كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم، لكن إذا غربت الشمس عليهم بمنى لزم الرعاة البيتوتة دون أهل السقاية؛ لأن الرعاة رعيهم في النهار، فلا حاجة لهم في الخروج ليلاً فهم كالمريض تسقط عنه الجمعة، وإن حضرها وجبت عليه، وأهل السقاية يستقون بالليل، فلا يلزمهم المبيت.
فصل:
ومن عجز عن الرمي جاز أن يستنيب من يرمي عنه؛ لأن جابراً قال: لبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم، والأفضل أن يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر النائب، فإن رمى عنه، ثم برئ لم يلزمه إعادته؛ لأن الواجب سقط بفعل النائب، وإن أغمي على إنسان، فرمى عنه إنسان، فإن كان أذن له جاز، وإلا فلا.
فصل:
ويسن أن يخطب الإمام يوم النفر، وهو أوسط أيام التشريق، ويعلم الناس حكم التعجيل، والتأخير، وتوديعهم، لما روي عن رجلين من بني بكر، قالا: «رأينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته» ، أخرجه أبو داود. ولأن بالناس حاجة إلى أن يعلمهم ذلك، فشرعت الخطبة فيه، كيوم عرفة.
فصل:
وإذا كان رمي اليوم الثاني، وأحب أن ينفر، نفر قبل غروب الشمس، وسقط عنه المبيت تلك الليلة، والرمي بعدها، وإن غربت وهو في منى، لزمته البيتوتة، والرمي من الغد بعد الزوال؛ لقول الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» رواه الترمذي. واليوم: اسم لبياض النهار. وإن رحل، وخرج ثم عاد إليها لحاجة، فلم يلزمه المبيت، ولا الرمي؛ لأن الرخصة قد حصلت له بالتعجيل. قال بعض أصحابنا: يستحب لمن نفر أن ينزل المحصب، ثم يدخل مكة، لما روى نافع قال: «كان ابن عمر يصلي بها الظهر، والعصر والمغرب، والعشاء، ثم يهجع هجعة، ويذكر ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. وقال ابن عباس وعائشة: «ليس نزول الأبطح بسنة، إنما نزله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليكون أسمح لخروجه» . متفق عليه. وهذا لفظ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.(1/529)
فصل:
ومن أراد المقام بمكة فلا توديع عليه؛ لأن الوداع للمفارق. ومن أراد الخروج لم يجز له ذلك يودع البيت بطواف، لما روى ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض» . متفق عليه. ويجعل الوداع في آخر أمره، ليكون آخر عهده بالبيت، فإن ودع ثم اشتغل بتجارة أو إقامة لزمته إعادته للخبر.
وإن صلى في طريقه، أو اشترى لنفسه شيئاً، لم يعده؛ لأن هذا لا يخرجه عن كونه وداعاً، وإن خرج ولم يودع، لزمه الرجوع ما كان قريباً يمكنه الرجوع، فإن لم يفعل، أو لم يمكنه الرجوع فعليه دم، فإن رجع بعد بلوغه مسافة القصر لم يسقط عنه الدم؛ لأن طوافه لخروجه الثاني، وقد استقر عليه دم الأول. والمرأة كالرجل، إلا إذا كانت حائضاً، أو نفساء، خرجت ولا وداع عليها، ولا فدية للخبر، إلا أن يستحب لها أن تقف على باب المسجد فتدعو بدعاء المودع، وإن نفرت فطهرت قبل مفارقة البنيان لزمها التوديع؛ لأنها في البلد، وإن لم تطهر حتى فارقته فلا رجوع عليها؛ لأنه لم يوجد في حقها ما يوجبه في البلد.
فصل:
ويستحب للمودع أن يقف في الملتزم بين الركن والباب، كما روي «عن عبد الله بن عمر أنه قام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه هكذا، وبسطها بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه أبو داود. ويدعو فيقول: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بيتك، وأعنتني على أداء نسكي، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، فهذا أوان انصرافي إن أذنت لي، غير مستبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغباً عنك، ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في بدني، والصحة في جسمي، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير. وما زاد على ذلك من الدعاء فحسن، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فصل:
ومن ترك طواف الزيارة، فطافه عند الخروج، أجزأ عن طواف الوداع، لأنه يحصل به المقصود منه فأجزأ عنه، كإجزاء طواف العمرة عن طواف القدوم، وصلاة الفرض عن تحية المسجد. وإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -:(1/530)
«وإنما لامرئ ما نوى» وحكمه حكم من ترك طواف الزيارة، يبقى على إحرامه أبداً حتى يرجع فيطوف للزيارة، إلا أن إحرامه عن النساء فحسب؛ لأنه قد حل له بالتحلل الأول كل شيء إلا النساء.
فصل:
وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد، وإن قتل صيداً فجزاؤه واحد.
وعنه: عليه طوافان وسعيان؛ لقول الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وتمامهما بأفعالهما. ولنا قول عائشة: «وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا لهما طوافا واحداً» . متفق عليه. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما قرنت: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» رواه مسلم. ولأنهما عبادتان من جنس، اجتمعتا فدخلت أفعال الصغرى في الكبرى كالطهارتين.
فصل:
أركان الحج: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة، وفي الإحرام والسعي روايتان.
وواجباته: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل، والمبيت بمزدلفة إلى نصف الليل، والرمي، وطواف الوداع، وفي الحلق والمبيت بمنى روايتان.
وسننه: الاغتسال، وطواف القدوم، والرمل، والاضطباع فيه، واستلام الركنين، وتقبيل الحجر، والإسراع، والمشي في مواضعهما، والخطب، والأذكار، والدعاء، والصعود إلى الصفا والمروة.
وأركان العمرة: الطواف، وفي الإحرام والسعي روايتان.
وواجبها: الحلق في إحدى الروايتين.
وسننها: الغسل، والدعاء، والذكر، والسنن التي في الطواف والسعي، فمن ترك ركناً فلم يتم نسكه إلا به، ومن ترك واجباً فعليه دم، ومن ترك سنة فلا شيء عليه.
فصل:
فإذا رجع قال: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقوله إذا قفل. متفق عليه.(1/531)
ويستحب زيارة قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وصاحبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من زارني أو زار قبري كنت له شفيعاً أو شهيداً» رواه أبو داود والطيالسي. ويصلي في مسجد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» متفق عليه.
[باب ما يفسد الحج وحكم الفوات والإحصار]
ومن وطئ في الفرج، فأنزل أو لم ينزل في إحرام الحج قبل التحلل الأول، فقد فسد حجه، وعليه المضي في فاسده، لما روي عن ابن عمر أن رجلاً سأله، فقال: إني واقعت امرأتي، ونحن محرمان، فقال: أفسدت حجك انطلق أنت وأهلك مع الناس فاقضوا ما يقضون، واحلق إذا حلقوا، فإذا كان العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك، واهديا هدياً، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم. وقال ابن عباس وعبد الله بن عمر مثل ذلك رواه سعيد بن منصور، وروي أيضاً عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا مخالف لهم، فكان إجماعاً، ولأنه لا يمكنه التحلل من الإحرام إلا بأفعاله، وعليه القضاء على الفور للخبر، ولأنه حج واجب بالشرع، فكان واجباً على الفور، كحجة الإسلام. ويجب عليهما الإحرام للقضاء من حيث أحرما أولاً أو من قدره، إن سلكا طريقاً غيرها؛ لأنه قضاء لعبادة، فكان على وفقها، كقضاء الصلاة، ويفسد حج المرأة للخبر، ولأنها أحد المتجامعين، فأشبهت الرجل، وعليها القضاء ونفقة القضاء عليها إن كانت مطاوعة كالرجل، وإن كانت مكرهة فعلى الزوج؛ لأنه ألزمها ذلك. فكان موجبه عليه ولا فرق بين العمد والسهو والعلم والجهل للخبر، ولأنه معنى يوجب القضاء، فاستوى فيه ذلك كالفوائت. ولا فرق بين الوطء في القبل والدبر من آدمي أو بهيمة؛ لأنه وطء في فرج أشبه وطء فرج الآدمية.
فصل:
ويتفرقان في القضاء؛ لأن ابن عباس قال: ويتفرقان من حيث يحرمان حتى يقضيا حجهما وفيه وجهان:(1/532)
أحدهما: أنه واجب لأن ابن عباس ذكره حكماً للمجامع، فكان واجباً كالقضاء.
والثاني: لا يجب؛ لأنه حج فلم يجب فيه مفارقة الزوجة كغير القضاء ولأن مقصود الفراق التحرز من إصابتها، وهذا وهم لا يقتضي الوجوب، ومعنى التفرق: اجتناب الركوب معها على بعير واحد، والجلوس معها في خباء، ولكن يكون قريباً منها، يراعي حالها؛ لأنه محرمها.
فصل:
ومن وطئ دون الفرج أو قبَّل أو لمس فلم ينزل، لم يفسد حجه، وإن أنزل ففيه روايتان:
إحداهما: يفسد حجه؛ لأنه إنزال عن مباشرة أشبه الوطء في الفرج، والأخرى: لا يفسد وهي أصح؛ لأنه فعل لا يجب الحد بجنسه، ولا المهر، ولا يتعلق به حكم بدون الإنزال، أشبه النظر، ولا يفسد النسك بغير ما ذكرنا من المحرمات كلها بغير خلاف.
فصل:
ومن وطئ بعد التحلل الأول، وقبل الثاني، لم يفسد حجه؛ لأنها عبادة لها تحللان، فوجود المفسد بعد أولهما لا يفسدها، كالصلاة، ولكنه يخرج إلى الحل، فيحرم ليطوف للزيارة بإحرام صحيح. وإن وطئ المعتمر في عمرته، أفسدها، وعليه إتمامها وقضاؤها كالحج. ويتعلق بالماضي في الفاسد من الأحكام، وتحريم المحرمات، ووجوب الفدية فيها مثل ما يتعلق بالصحيح، سواء لأنه باق على الإحرام فتعلق به ذلك كالصحيح.
فصل:
ومن لم يقف بعرفة حتى طلع الفجر يوم النحر، فقد فاته الحج، لما روى جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع» رواه الأثرم، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة، وهي طواف وسعي وتقصير؛ لأن ذلك يروى عن عمر وابنه وزيد بن ثابت وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، قال عمر لأبي أيوب حين فاته الحج: اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد حللت. وقال ابن أبي موسى: يمضي في حج فاسد، يعني: أنه يلزمه المبيت والرمي، والصحيح الأول؛ لقول الصحابة، ولأن المبيت تبع للوقوف فيسقط بسقوطه، ويجب عليه القضاء على الفور.(1/533)
وعنه لا قضاء عليه إن كانت نفلاً، وإن كانت فرضاً فعلها بالوجوب السابق، قياساً على سائر العبادات، والمذهب الأول؛ لأنه قول الصحابة والمسلمين، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، ولأن الحج يلزم بالشروع، فيلزم قضاؤه كالمنذور، بخلاف غيره.
ويجزئه القضاء عن الحجة الواجبة بغير خلاف؛ لأن الحجة لو تمت لأجزأت عن الواجب فكذلك قضاؤها؛ لأنه يقوم مقام الأداء، ويجب على ما فاته الحج هدي.
وعنه: لا هدي عليه؛ لأنه لو لزمه هدي لزم المحصر هديان، للفوات والإحصار، والصحيح الأول؛ لأنه قول الصحابة المسلمين، ولأنه حل في إحرامه قبل إتمامه فلزمه هدي، كالمحصر، ويخرجه في سنة القضاء، لما روى سليمان بن يسار: أن هبار بن الأسود حج من الشام، فقدم يوم النحر فقال له عمر: انطلق إلى البيت، فطف به سبعاً، وإن كان معك هدي فانحرها، ثم إن كان عام قادم فاحجج، وإن وجدت سعة فاهد، وإن لم تجد فصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعت إن شاء الله تعالى. رواه الأثرم. فعلى هذا العمل؛ لأنه قول منتشر لم يعرف له مخالف، فإن عدم الهدي، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
وقال الخرقي: يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً: لأنه أقرب إلى معادلة الهدي كبدل جزاء الصيد، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أولى.
فصل:
إذا أخطأ الناس العدد، فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم ذلك؛ لأنه لا يؤمن مثل ذلك في القضاء فيشق، وإن وقع لنفر منهم، لم يجزئهم؛ لأنه لتفريطهم، وقد روي أن عمر قال لهبار: ما حبسك؟ قال: كنت أحسب أن اليوم يوم عرفة. فلم يعذر بذلك.
فصل:
وإذا حصر المحرم عدو من المسلمين، فمنعه المضي، فالأفضل التحلل، وترك قتاله؛ لأنه أسهل من قتال المسلمين، وإن كان مشركاً لم يجب قتاله إلا أن يبدأ به؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقاتل الذين أحصروه، وإن غلب على ظن المحرم الظفر، استحب القتال، ليجمع بين الجهاد والحج، وإن غلب على ظنه خلاف ذلك، استحب الانصراف، صيانة للمسلمين عن التغرير، ثم إن وجد طريقاً آمناً، لم يجز له التحلل قرب أو بعد؛ لأنه قادر على أداء نسكه، فأشبه من لم يحصر، فإن كان لا يصل إلا بعد الفوات، مضى وتحلل بعمرة، وفي القضاء روايتان:(1/534)
إحداهما: يجب؛ لأنه فاته الحج، أشبه من أخطأ الطريق.
والثانية: لا قضاء عليه؛ لأنه تحلل بسبب الحصر، أشبه من تحلل قبل الفوات وإن لم يجد طريقاً آمناً فله التحلل؛ لقول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] . ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حصره العدو بالحديبية فتحلل، ولأنه لو لزمه البقاء على الإحرام لحرج؛ لأنه قد يبقى الحصر سنين. وله أن يتحلل وقت الحصر، سواء كان معتمراً أو مفرداً أو قارناً.
وعنه: في المحرم بالحج لا يحل إلا يوم النحر، ليتحقق الفوات؛ لأنه لا ييأس من زوال الحصر. وكذلك من ساق هدياً لا يتحلل إلا يوم النحر؛ لأنه ليس له النحر قبل وقته. والصحيح الأول للآية والخبر، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق هدياً فنحره وحل قبل يوم النحر، ولأن الحج أحد الأنساك، فأشبه العمرة، ولو وقف الحل على يقين الفوات، لم يجر الحل في العمرة؛ لأنها لا تفوت.
فصل:
فإن كان معه هدي، لم يحل حتى ينحره؛ لقول الله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وله ذبحه حين أحصر.
وعنه: إن قدر على الحرم، أو على إرساله إليه، لزمه ذلك ويواطئ رجلاً على اليوم الذي يذبحه فيه، فيحل حينئذ؛ لأنه قادر على الذبح في الحرم، فأشبه المحصر في الحرم، والأول أصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر هديه في الحديبية. وهي من الحل باتفاق أهل السير ولذلك قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] . ولأنه موضع حله، فكان موضع ذبحه كالحرم، ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به؛ لأن الهدي يكون لغيره فلزمته النية، ليميز بينهما، ثم يحلق، لما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج معتمراً فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه، وحلق رأسه بالحديبية» . وهل يجب الحلاق أو التقصير أو لا؟ مبني على الروايتين فيه، هل هو نسك أو لا؟ فإن قلنا: هو نسك حصل الحل به، وبالهدي وبالنية، وإن قلنا: ليس بنسك حصل الحل بهما دونه.
فصل:
وإن لم يجد هدياً، صام عشرة أيام، ثم حل؛ لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدل ينتقل إليه، كدم التمتع. ولا يحل إلا بعد الصيام، كما لا يحل إلا بعد الهدي، فإن(1/535)
نوى التحلل قبله، لم يحل فكان على إحرامه حتى يذبح أو يصوم؛ لأنه أقيم هاهنا مقام أفعال الحج.
فصل:
وليس عليه قضاء.
وعنه: يجب عليه القضاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى عمرة الحديبية، وسميت الثانية عمرة القضية. ولأنه حل من إحرامه قبل إتمامه، فلزمه القضاء كمن فاته الحج.
ووجه الأولى: أنه تطوع جاز التحلل منه، مع صلاح الوقت له، فلم يجب قضاؤه، كما لو دخل في الصوم يعتقده واجباً، فلم يكن. فأما الخبر، فإن الذين صدوا كانوا ألفاً وأربعمائة، والذين اعتمروا معه في القضاء كانوا نفراً يسيراً، ولم يأمر الباقين بالقضاء، والقضية: الصلح الذي جرى بينهم، وهو غير القضاء، ويفارق الفوات، فإنه بتفريطه.
فصل:
فإن لم يحل المحصر حتى زال الحصر، لم يجز له التحلل؛ لأنه زال العذر، وإن زال العذر بعد الفوات، تحلل بعمرة، وعليه هدي للفوات لا للحصر؛ لأنه لم يحل به، وإن فاته الحج مع بقاء الحصر، فله الحل به؛ لأنه إذا حل به قبل الفوات فمعه أولى، وعليه الهدي للحل، ويحتمل أن يلزمه هدي آخر للفوات. وإن حل بالإحصار، ثم زال، وأمكنه الحج من عامه، لزمه ذلك، وإن قلنا بوجوب القضاء، أو كانت الحجة واجبة؛ لأن الحج على الفور وإلا فلا.
ومن كان إحرامه فاسداً، فله التحلل بالإحصار؛ لأنه إذا حل من الصحيح فمن الفاسد أولى، فإن زال الحصر بعد الحل، وأمكنه الحج من عامه، فله القضاء فيه، ولا يتصور القضاء للحج في العام الذي أفسده فيه، إلا في هذا الموضع.
فصل:
ومن صد عن عرفة، وتمكن من البيت، فله أن يتحلل بعمرة؛ لأن له ذلك من غير حصر، فمعه أولى. وعنه: لا يجوز له التحلل، بل يقيم على إحرامه حتى يفوته الحج، ثم يحل بعمرة؛ لأنه إنما جاز له التحلل بعمرة في موضع يمكنه الحج من عامه ليصير متمتعاً [وهذا ممنوع من الحج فلا يمكنه أن يصير متمتعاً] .(1/536)
فصل:
والحصر الخاص: مثل أن يحبسه سلطان، أو غريم ظلماً، أو بحق لا يقدر على إيفائه. والعبد إذا منعه سيده، والزوجة يمنعها زوجها، كالعام في جواز التحلل، لعموم الآية [وتحقق المعنى فيه، فأما من أحصره مرض أو عدم نفقة ففيه روايتان:
إحداهما: له التحلل لعموم الآية] . ولأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من كسر أو عرج، فقد حل وعليه حجة أخرى» رواه النسائي. ولأنه محصر فأشبه من حصره العدو.
والثانية: ليس له التحلل؛ لأن ابن عباس وابن عمر قالا: لا حصر إلا حصر العدو. ولأنه لا يستفيد بالحل الانتقال من حاله، والتخلص من الأذى به، بخلاف حصر العدو.
[باب الهدي]
يستحب لمن أتى مكة أن يهدي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أهدى في حجته مائة بدنة» [رواه البخاري ولم يقل في حجته] ويستحب استسمانها واستحسانها؛ لقول الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] . قال ابن عباس: هو الاستسمان، والاستحسان، والاستعظام، أفضل الهدي والأضاحي الإبل، ثم البقر، ثم الغنم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة» متفق عليه.
ويجوز للمتطوع أن يهدي ما أحب من كبير الحيوان وصغيره، وغير الحيوان، استدلالاً بهذا الحديث، إذ ذكر فيه الدجاجة والبيضة، والأفضل: بهيمة الأنعام؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهدى منها. فإن كانت إبلاً سن إشعارها، بأن تشق صفحة سنامها اليمنى حتى(1/537)
يسيل الدم، ويقلدها نعلاً، أو نحوها، لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة، فأشعرها في صفحة سنامها اليمنى، وسلت الدم عنها بيده» ، رواه مسلم، ولأنها ربما اختلطت بغيرها، أو ضلت فتعرف بذلك فترد، وإن كانت غنماً قلدت آذان القرب والعرى؛ لقول عائشة: «كنت أفتل القلائد للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيقلد الغنم. ويقيم في أهله حلالاً» [أخرجه البخاري ومسلم ونحوه] ولا يشعرها لضعفها، ولأنه يستتر موضع الإشعار. بشعرها وصوفها.
فصل:
ولا يجب الهدي بسوقه مع نيته، كما لا تجب الصدقة بالمال، بخروجه به لذلك، ويبقى على ملكه وتصرفه، ونمائه له حتى ينحره، وإن قلده وأشعره وجب بذلك، كما لو بنى مسجداً وأذن بالصلاة فيه. وإن نذره، أو قال: هذا هدي لله وجب؛ لأنه لفظ يقتضي الإيجاب، فأشبه لفظ الوقف، وله ركوبه عند الحاجة من غير إضرار به؛ لأن أبا هريرة روى «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال: اركبها فقال: يا رسول الله، إنها بدنة. فقال: اركبها ويلك في الثانية أو في الثالثة» ، متفق عليه. وفي حديث آخر قال: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها، حتى تجد ظهراً» رواه أبو داود، فإن نقصها الركوب، ضمنها؛ لأنه تعلق حق غيره بها، وإن ولدت، فولدها بمنزلتها يذبحه معها، لما روي أن علياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رأى رجلاً يسوق بقرة معها ولدها، فقال: لا تشرب من لبنها، إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فانحرها وولدها ولأنه معنى تصير به لله تعالى، فاستتبع الولد، كالعتق، وله أن يشرب من لبنها ما فضل عن ولدها لحديث علي، ولقول الله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الحج: 33] . ولا يجوز أكثر من ذلك للخبر. ولأن اللبن غذاء الولد، فلا يجوز منعه منه. كما لا يجوز منع الأم علفها، فإن لم يمكنه المشي، حمله على ظهرها؛ لأن ابن عمر كان يحمل ولد البدنة عليها، فإن لم يمكنه حمله ولا سوقه، صنع به كما يصنع بالهدي الذي يخشى عطبه، وإن كان عليها صوف في جزه صلاح لها، جزه وتصدق به؛ لأنها تسمن بذلك، فتنفع المساكين، وإن لم يكن في جزه صلاح لم يجز أخذه؛ لأنه جزء منها وينفع الفقراء عند ذبحها، وإن أحصر نحره حيث أحصر؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر هديه بالحديبية، وإن تلف من غير تفريط لم يضمنه؛ لأنه أمانة عنده، فلم يضمنه من غير تفريط كالوديعة، فإن تعيب ذبحه وأجزأه؛ لأنه لا يضمن جميعه، فبعضه أولى.(1/538)
فصل:
وإن عجز عن المشي أو عطب دون محله، نحره موضعه وصبغ نعله الذي في عنقه في دمه، فضرب بها صفحته ليعرفه الفقراء، وخلى بينه وبينهم، ولم يأكل منه هو، ولا أحد من رفقته. لما روى ذؤيب أبو قبيصة: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث معه بالبدن، ثم يقول: إن عطب منها شيئاً فخشيت عليها موتاً فأنجزها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك رواه» مسلم، ولأنه متهم في التفريط فيها ليأكلها، أو يطعمها رفقته فمنعوا من أكلها لذلك. فإن لم يذبحها عند خوفه عليها حتى تلفت ضمنها؛ لأنه فرط فيها، فلزمه ضمانها كالوديعة، إذا رأى من يسرقها فلم يمنعه.
وإن أتلفها ضمنها؛ لأنه أتلف مالاً يتعلق به حق غيره، فضمنه، كالغاصب، ويلزمه أكثر الأمرين من قيمتها، أو هدي مثلها؛ لأنه لزمته الإراقة والتفرقة، وقد فوتهما فلزمه ضمانهما، كما لو أتلف شيئين، وإن كانت قيمتها وفق مثلها، أو أقل، لزمه مثلها، وإن كانت أكثر، اشترى بالفضل هدياً آخر، فإن لم يسع اشترى به لحماً وتصدق به؛ لأنه أقرب إلى المفوت، ويحتمل أن يتصدق بالقيمة، وإن أكل مما منع من أكله، ضمنه بمثله لحماً لما ذكرنا. وإن أتلفها غيره فعليه قيمتها؛ لأنه لا تلزمه الإراقة، فلزمته قيمتها كغيرها، ويشتري بالقيمة مثلها، فإن زادت فالحكم على ما ذكرنا فيما إذا أتلفها صاحبها.
وإن اشترى هدياً فوجده معيباً فله الأرش، ويحتمل أن يكون للمساكين؛ لأنه بدل عن الجزء الفائت من حيوان جعله لله تعالى، فكان للمساكين، كعوض ما أتلف منه بعد الشراء، ويكون حكمه حكم الفاضل عن المثل، ويحتمل أن يكون له؛ لأن النذر إنما صادف المعيب بدون الجزء الفائت، فلم يدخل في نذره، فلا يستحق عليه بدله.
فصل:
ولا يزول ملكه عن الهدي والأضحية بإيجابهما، نص عليه. وله إبدالهما بخير منهما.
وقال أبو الخطاب: يزول ملكه، وليس له بيعه، ولا إبداله؛ لأنه جعله لله تعالى، فأشبه المعتق والموقوف.
ووجه الأول: أن النذور محمولة على أصولها في الفرض، وفي الفرض لا يزول ملكه، وهو الزكاة. وله إخراج البدل، فكذلك في النذور، وأما بيعها بدونها، فلا يجوز؛(1/539)
لأن فيه تفويت حق الفقراء من الجزء الزائد فلم يجز، كما لو أخرج من الزكاة أدنى من الواجب. ولا يجوز إبدالها بمثلها؛ لأنه تفويت لعينها من غير فائدة تحصل.
فصل:
ومن وجب في ذمته هدي فعينه في حيوان تعين؛ لأنه ما وجب به معين جاز أن يتعين به ما في الذمة، كالبيع، ويصير للفقراء، فإن هلك بتفريط، أو غيره رجع الواجب إلى ما في الذمة، كما لو كان له عليه دين، فباعه به طعاماً، فهلك قبل تسليمه، فإن تعيب أو عطب فنحره، لم يجزئه لذلك، وهل يعود المعين إلى صاحبه؟ فيه روايتان:
إحداهما: يعود، ذكره الخرقي. فقال: صنع به ما شاء؛ لأنه إنما عينه عما في ذمته، فإن لم يقع عنه عاد إلى صاحبه، كمن أخرج زكاته فبان أنها غير واجبة عليه.
والأخرى: لا يعود؛ لأنه صارت للمساكين بنذره، فلم تعد إليه، كالذي عينه ابتداء، وهل تعود إلى ذمته، مثل المعين، أو مثل الواجب في الذمة؟ ينظر، فإن تلف بغير تفريط لم يلزمه أكثر مما في الذمة؛ لأن الزائد إنما تعلق بالعين، فسقط بتلفها، وإن تلف بتفريط، لزمه أكثر الأمرين؛ لأنه تعلق بالمعين حق الله تعالى. فإن أتلفه فعليه مثل ما فوته. وإن ولد هذا المتعين تبعه ولده، لما ذكرنا في المعين ابتداء، فإن تعيبت الأم فبطل تعيينها، ففي ولدها وجهان:
أحدهما: يبطل تبعاً كما ثبت تبعاً.
والثاني: لا يبطل؛ لأن بطلانه في الأم لمعنى اختص بها بعد استقرار الحكم في ولدها، فلم يبطل فيه، كما لو ولدت في يد المشتري ثم ردها لعيبها.
فصل:
وإذا ذبح هديه، أو أضحيته إنسان بغير أمره في وقته أجزأ عنه؛ لأنه لا يحتاج إلى قصده، فإذا فعله إنسان بغير إذنه وقع الموقع، ولا ضمان على الذابح؛ لأنه حيوان تعين إراقة دمه على الفور حقاً لله تعالى، فلم يضمنه كالمرتد.
فصل:
ويجوز الأكل من هدي التمتع والقران؛ لأن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كن متمتعات إلا عائشة، فإنها كانت قارنة لإدخالها الحج على عمرتها، وقالت: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، قالت: فدخل علينا بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ فقيل:(1/540)
ذبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أزواجه» . رواه مسلم. ولأنه دم نسك فجاز الأكل منه كالأضحية، ولا يجوز الأكل من واجب سواها؛ لأنه كفارة فلم يجز الأكل منه، ككفارة اليمين، وعنه: له الأكل من الجميع، إلا المنذور، وجزاء الصيد، ولا يجوز الأكل من الهدي المنذور في الذمة؛ لأنه نذر إيصاله إلى مستحقيه، فلم يجز أن يأكل منه، كما لو نذر لهم طعاماً، وما ساقه تطوعاً استحب الأكل منه، سواء عينه أو لم يعينه. لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . وأقل أحوال الأمر الاستحباب. وقال جابر: «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كل بدنة ببضعة. فجعلت في قدر، فأكل منها وحسا من مرقها» . ولأنه دم نسك فأشبه الأضحية. قال ابن عقيل: حكمه في الأكل، والتفريق حكمها. وقال جابر: «كنا لا نأكل من بدننا فوق ثلاث، فرخص لنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا» ، رواه البخاري ومسلم ونحوه. والمستحب الاقتصار على اليسير في الأكل، لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدنه. وإن أطعمها كلها فحسن، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر خمس بدنات، ثم قال: «من شاء اقتطع» رواه أبو داود. وظاهر هذا أنه لم يأكل منها شيئاً، ويجوز للمهدي تفريق اللحم بنفسه، ويجوز إطلاقه للفقراء، استدلالاً بهذا الحديث.
فصل:
إذا نذر هدياً مطلقاً فأقل ما يجزئه شاة، أو سبع بدنة أو بقرة. لأن المطلق يحمل على أصله في الشرع، ولا يجزئ إلا ما يجزئ في الأضحية. ويمنع فيه من العيب ما يمنع فيها. وإن عينه بنذره ابتداء أجزأه ما عينه كبيراً أو صغيراً أو حيواناً أو غيره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فكأنما قرب دجاجة، وكأنما قرب بيضة» وإذا أطلق بالنسبة إلى مكانه، وجب إيصاله إلى فقراء الحرم. لأن ذلك المعهود في الهدي. وإن عين الذبح بمكان غيره في نذره لزمه ذلك، ما لم يكن فيه معصية، لما روي «أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني نذرت أن أنحر ببوانة. قال: هل بها صنم قال: لا. قال: أوف بنذرك» رواه أبو داود.
فصل:
ومن وجب عليه دم أجزأه ذبح شاة، أو سبع بدنة أو بقرة. لقول ابن عباس: في هدي المتعة شاة، أو شرك في دم، فإن ذبح بدنة احتمل أن يكون جميعها واجباً، كما لو اختار التكفير بأعلى الكفارات، واحتمل أن يكون سبعها واجباً وباقيها تطوعاً؛ لأن سبعها يجزئه فأشبه ما لو ذبح شياه.(1/541)
ومن وجب عليه بدنة بنذر، أو قتل نعامة، أو وطء أجزأه بسبع من الغنم؛ لأنها معدولة بسبع، والشياه أطيب لحماً. وقد روي عن ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل فقال: إن علي بدنة، وأنا موسر لها، ولا أجدها، فأشتريها. فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن» . رواه ابن ماجه.
وقال ابن عقيل: إنما يجزئ ذلك مع عدم البدنة؛ لأنها بدل، فيشترط فيه عدم المبدل، والأول أولى لما ذكرناه وإن وجبت عليه بدنة فذبح بقرة أجزأته، لما روى جابر قال: «كنا ننحر البدنة عن سبعة. فقيل له والبقرة؟ فقال: وهل هي إلا من البدن» ! رواه مسلم. وقال ابن عقيل: إن نذر بدنة، لزمه ما نواه، فإن لم ينو شيئاً، ففيه روايتان:
إحداهما: هو مخير على ما ذكرناه.
والثانية: إن لم يجد بدنة أجزأته بقرة.
فإن لم يجد فسبعاً من الغنم.
وعنه: عشر؛ لأنه بدل، فلا يجزئ مع وجود الأصل. فأما من وجب عليه سبع من الغنم، فإنه يجزئه بدنة، أو بقرة؛ لأنها تجزئ عن سبع في حق سبعة، ففي حق واحد أولى.
[باب الأضحية]
وهي سنة مؤكدة، لما روى أنس قال: «ضحى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما» . متفق عليه. قال أبو زيد: الأملح: الأبيض الذي فيه سواد، وقال ابن الأعرابي: هو الأبيض النقي. والتضحية أفضل من الصدقة بقيمتهما؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آثرها على الصدقة. وليست واجبة؛ لأنه روي عن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا لا يضحيان عن أهلهما مخافة أن يرى ذلك واجباً. وروت أم سلمة عن رسول الله قال: «إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن(1/542)
يضحي فلا يأخذ من شعره، ولا من أظافره شيئاً حتى يضحي» . رواه مسلم. وقال القاضي: هذا نهي كراهية، لا تحريم بدليل قول عائشة: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي» . متفق عليه. ويمكن حمل الحديث على ظاهره في التحريم، ولا تعارض بين الحديثين؛ لأن أحدهما في الأضحية والآخر في الهدي المرسل. ولو تعارضا لكان حديث أم سلمة خاصاً في الشعر والظفر، فيجب تقديمه. فإن فعل، استغفر الله تعالى ولا فدية عليه.
فصل:
ولا يجزئ إلا بهيمة الأنعام؛ لقول الله تعالى: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] . ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تذبحوا إلا مسنة، فإن عسر عليكم، فاذبحوا الجذع من الضأن» رواه مسلم. والثنية من البقر هي المسنة. ومن الإبل ما كمل لها خمس سنين. قاله الأصمعي. ويستحب استحسانها، وأفضلها البياض؛ لأنه صفة أضحية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثم ما كان أحسن لوناً.
فصل:
وتجزئ البدنة عن سبعة، وكذلك البقرة لقول جابر: «كنا نتمتع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نذبح البقرة عن سبعة، نشترك فيها» . رواه مسلم. ويجوز أن يشتركوا فيها، سواء أراد جميعهم القربة، أو بعضهم القربة والباقون اللحم لأن كل سبع مقام شاة، ويجوز أن يقسموا أنصباءهم لأن القسمة إفراز حق والحاجة داعية إليه.
فصل:
ويستحب أن ينحر الهدي والأضحية بيده، لحديث أنس. ويجوز أن يستنيب فيه، لما ذكرنا في الهدي، ويجوز أن يستنيب كتابياً؛ لأنه من أهل الذكاة. ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم؛ لأنها قربة، فالأفضل أن لا يليها كافر بالله.
وعنه: لا يجوز أن يليها كافر لذلك. ويستحب لمن استناب أن يحضرها، لما(1/543)
روى أبو سعيد أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لفاطمة: «أحضري أضحيتك، يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها» ويقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر. لحديث أنس، وإن قال: اللهم هذا منك ولك، اللهم تقبل مني أو من فلان فحسن، لما روى جابر: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال على أضحيته: «اللهم هذا منك، ولك عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر» ثم ذبح وفي رواية قال: «بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد وأمة محمد ثم ضحى» . رواه مسلم، وليس عليه أن يقول عن فلان؛ لأن النية تجزئ.
فصل:
وأول وقت الذبح في حق أهل المصر إذا صلى الإمام وخطب يوم النحر، لما روى البراء قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاتنا، ونسك نسكناً فقد أصاب النسك، ومن ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى» متفق عليه. وفي حق غير أهل المصر قدر الصلاة والخطبة؛ لأنه تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة، فاعتبر قدرها. وقال الخرقي: المعتبر قدر الصلاة والخطبة في حق الجميع؛ لأنها عبادة يتعلق آخرها بالوقت، فتعلق أولها بالوقت، كالصوم، فمن ذبح قبل ذلك لم يجزئه، وعليه بدلها إن كانت واجبة، لحديث البراء. وآخر وقتها آخر اليومين الأولين من أيام التشريق؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث» . متفق عليه. قال الخرقي: لا يجوز الذبح ليلاً؛ لقول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 28] . وقال غيره من أصحابنا: يجوز ليلاً لأنه زمن يصح فيه الرمي، فصح فيه الذبح كالنهار، وقال بعضهم: فيه روايتان. فإن فات وقت الذبح، ذبح الواجب قضاء؛ لأنه قد وجب ذبحه، فلم يسقط بفوات وقته. وإن كان تطوعاً فقد فاتته سنة الأضحية.
فصل:
ولا يجزئ في الأضحية معيبة عيباً ينقص لحمها، لما روى البراء قال: قام فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ظلعها، والعجفاء التي لا تنقى» رواه أبو داود، يعني: التي لا مخ فيها، والعوراء البين عورها: التي انخسفت عينها، وذهبت، فنص على هذه الأربعة الناقصة اللحم، وقسنا عليها ما في معناها.(1/544)
ولا تجزئ العضباء، لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضحى بأعضب الأذن، أو القرن» . قال سعيد بن المسيب: العضب النصف فأكثر من ذلك. رواه النسائي. يعني التي ذهب أكثر من نصف أذنها، أو قرنها، وتجزئ الجماء التي لم يخلق لها قرن، والصمعاء: وهي الصغيرة الأذن والبتراء: التي لا ذنب لها، والشرقاء: التي شقت أذنها، والخرقاء: التي انشقت أذنها؛ لأن ذلك لا ينقص لحمها، ولا يمكن التحرز منه، وغيرها أفضل منها؛ لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة، ولا مدابرة، ولا خرقاء، ولا شرقاء» . قال أبو إسحاق السبيعي: المقابلة: قطع طرف الأذن، والمدابرة: القطع من مؤخرة الأذن، والخرقاء: تشق الأذن للمسة، والشرقاء: تشق أذنها السمة. رواه أبو داود. وهذا نهي تنزيه لما ذكرنا.
وقال ابن حامد: لا تجزئ الجماء، ويجزئ الخصي؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين موجوءين، ولأنه يذهب عضو غير مستطاب، يطيب اللحم بذهابه.
فصل:
ويستحب أن يأكل الثلث من الأضحية، ويهدي الثلث، ويتصدق بالثلث، لما روى ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأضحية قال: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث» قال الحافظ أبو موسى: هذا حديث حسن. ولقول ابن عمر: الضحايا والهدايا: ثلث لك وثلث لأهلك، وثلث للمساكين. وإن أطعمها كلها أو أكثرها فحسن، وإن أكلها كلها إلا أوقية تصدق بها جاز، وإن أكلها كلها، ضمن القدر الذي تجب الصدقة به؛ لقول الله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . والأمر يقتضي الوجوب. وإن نذر الأضحية، فله الأكل منها؛ لأن النذر محمول على المعهود قبله، والمعهود من الأضحية الشرعية ذبحها، ولأكل منها، ولا يغير النذر من صفة المنذور إلا الإيجاب.
قال القاضي: ومن أصحابنا من منع الأكل منها، قياساً على الهدي المنذور.
فصل:
ولا يجوز بيع شيء من الهدي، والأضحية، ولا إعطاء الجازر بأجرته شيئاً منها، لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أن أقوم بدنه، وأن أقسم(1/545)
جلودها وجلالها، وأن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا» متفق عليه. ويجوز أن ينتفع بجلدها، ويصنع منه النعال، والخفاف والفراء والأسقية، ويدخر منها، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم» رواه مسلم. ولأن الجلد جزء من الأضحية، فجاز الانتفاع به كاللحم.
فصل:
وإذا أوجب الأضحية بعينها، فالحكم فيها كالحكم في الهدي المعين، في ركوبها، وولدها، ولبنها، وصوفها، وتلفها، وإتلافها، ونقصانها، وذبحها على ما ذكرنا؛ لأن الأضاحي والهدايا معناهما واحد. وإيجابها قوله: هذه أضحيتي، أو هذه لله، ونحوه من القول. ولا يحصل ذلك بالشراء مع النية؛ لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فلم تؤثر فيها النية المفارقة للشراء، كالوقف والعتق، فإن أوجبها ناقصة نقص يمنع الإجزاء، فعليه ذبحها؛ لأن إيجابها كنذر ذبحها، فيلزمه الوفاء به، ولا يكون أضحية؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع لا تجزئ في الأضاحي» ولكنه يتصدق بلحمها، ويثاب عليه، كمن أعتق عبداً عن كفارة به عيب يمنع الإجزاء، ولا يلزمه البدل، إلا أن تكون الأضحية واجبة؛ لأنها تطوع، وإن زال عيبها قبل ذبحها أجزأت عن الأضحية؛ لأن القربة تتعين فيها بالذبح وهي سليمة حينئذ، وإن اشتراها معيبة فأوجبها، ثم علم عيبها، خرج جواز ردها على جواز إبدالها، وقد ذكرناه وله أخذ أرشها، وحكمه حكم أرش الهدي المعيب.
[باب العقيقة]
وهي الذبيحة عن المولود، وهي سنة، لما روى سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى ويحلق رأسه» رواه أبو داود. وليست واجبة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من ولد له مولود، فأحب أن ينسك عنه فليفعل» رواه مالك في الموطأ. والسنة أن يذبح عن الغلام شاتان متساويتان، وعن الجارية شاة، لما روت أم كرز الكعبية قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «عن الغلام شاتان مكافئتان، وعن الجارية شاة» رواه أبو داود. ويستحب ذبحها يوم السابع، ويجزئ فيها من بهيمة الأنعام ما يجزئ في الأضحية، ويمنع فيها من العيب ما يمنع فيها، وسبيلها في الأكل والهدية والصدقة سبيلها، إلا أنه يستحب تفصيلها أعضاء، ولا(1/546)
يكسر لها عظم؛ لأنها أول ذبيحة ذبحت عن المولود، فاستحب أن لا تكسر عظامها، تفاؤلاً بسلامة أعضائه. قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «السنة شاتان مكافئتان عن الغلام، وعن الجارية شاة» . وكان عطاء يقول: تطبخ جدولاً ولا يكسر عظمها، ويأكل ويطعم ويتصدق، وذلك يوم السابع، فإن ذبحها قبل السابع جاز؛ لأنه فعلها بعد سببها، فجاز كتقديم الكفارة قبل الحنث، وإن أخرها عنه، ذبحها في الرابع عشر، فإن فات، ففي إحدى وعشرين، لما روى بريدة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في العقيقة تذبح لسبع، ولأربع عشر، ولإحدى وعشرين» أخرجه الحسين بن يحيى بن عياش القطان. فإن أخرها عنه، ذبحها بعده؛ لأنه قد تحقق سببها.
فصل:
ويستحب حلق رأس الصبي يوم السابع، وتسميته، لحديث سمرة. وإن سماه قبل ذلك جاز، لما روى أنس أنه «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأخ له حين ولد، فحنكه بتمرة، وسماه عبد الله» . متفق عليه. وسمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولده إبراهيم ليلة ولد. متفق عليه. ويستحب تحسين اسمه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم» رواه أبو داود. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» حديث صحيح رواه مسلم ويكره لطخ رأس الصبي بالدم؛ لأنه تنجيس له، وهو من عمل أهل الجاهلية. قال بريدة كنا نلطخ رأس الصبي بدم العقيقة، فلما جاء الإسلام كنا نلطخه بالزعفران.
[باب الذبائح]
لا يحل شيء من الحيوان المقدور عليه بغير ذكاة؛ لقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . إلا السمك وما شبهه مما لا يعيش إلا في الماء، فإنه يباح بغير ذكاة، وإن طفا؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» والجراد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحل لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد والكبد والطحال» ولأن ذكاتهما في العادة لا تمكن، فسقط اعتبارها، وما يعيش من البحري في البر لا يحل إلا بالذكاة؛ لأنه مقدور على ذبحه إلا السرطان فإنه لا ذكاة له، فأشبه الجراد [وقال القاضي: لا يباح بغير ذكاة] . وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن الجراد لا(1/547)
يباح إلا أن يموت بسبب، كتغريقه وطبخه، والأول المذهب. ولو وجد سمكة في بطن أخرى، أو في حوصلة طائر أو جراد أو حباً، أو وجد الحب في روث بعير حل؛ لأنه في محل طاهر، ولا ذكاة له، فأشبه ما مات في الماء، وعنه: ما أكل مرة لا يؤكل ثانية؛ لأنه رجيع، فيكون مستخبثاً. ولو صاد الوثني حوتاً حل، وعنه: لا يحل، والأول أصح لأنه لا ذكاة له، فأشبه ما لو أخذه ميتاً.
فصل:
وللذكاة أربعة شروط:
أهلية المذكي، بأن يكون مسلماً أو كتابياً أو عاقلاً؛ لقول الله تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] وقول سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . يعني: ذبائحهم. ولا تحل ذكاة وثني ولا مجوسي، ولا مرتد، وإن تدين بدين أهل الكتاب؛ لأنه لم يثبت له حكم أهل الكتاب، ومفهوم الآية تحريم ذبائح من سواهم، وفي نصارى بني تغلب روايتان:
أصحهما: حل ذبائحهم، لعموم الآية.
والثانية: تحريمها؛ لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال أصحابنا: ولا تحل ذبيحة من أحد أبويه وثني أو مجوسي؛ لأنه اجتمع فيه ما يقضي الحظر والإباحة، فغلب الحظر. وإن ذبح اليهودي ما حرم عليهم، وهو كل ذي ظفر.
قال قتادة: هو الإبل والنعام والبط، وما ليس بمشقوق الأصابع، أو ذبح بقرة أو شاة، لم يحرم علينا منه شيء في ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، واختيار ابن حامد؛ لأنه من أهل الذكاة ذبح ما يحل لنا فأشبه المسلم.
واختار أبو الحسن التميمي أنه يحرم علينا ما يحرم عليه من الشحم، وذي الظفر؛ لأنه لم يبح لذابحه، فلم يبح لغيره كالدم، ويعتبر العقل، فلا تحل ذكاة مجنون، ولا سكران ولا طفل غير عاقل؛ لأنه أمر يعتبر له العقل والدين، فاعتبر له العقل كالغسل، وكذلك لو رمى هدفاً فذبح صيداً، لم يحل. ويصح من العدل والفاسق، والذكر والأنثى، والصبي العاقل والأعمى، لما روى كعب بن مالك «أن جارية له كانت ترعى غنماً بسلع، فأصيب منها شاة، فأدركتها فذكتها بحجر، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكلها» . رواه البخاري. وقال ابن عباس: من ذبح من ذكر وأنثى وصغير وكبير، وذكر اسم الله عليه فكل.(1/548)
فصل:
الشرط الثاني: الآلة وهو أن يذبح بمحدد، أي شيء كان من حديد أو حجر أو خشب أو قصب إلا السن والظفر، فإنه لا يباح الذبح بهما، لما روى رافع بن خديج قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ليس السن والظفر، وسأخبركم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة» متفق عليه. فإن ذبح بعظم غير السن، أبيح في ظاهر كلامه، لدخوله في عموم اللفظ. وعنه: لا يباح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل تحريم الذبح بالسن، لكونه عظماً. ويستحب تحديد الآلة، لما روى شداد بن أوس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته» رواه مسلم.
فصل:
الشرط الثالث: أن يسمي الله؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . وحديث رافع، فإن تركها عمداً لم تحل ذبيحته، وإن تركها سهواً حلت لما روى راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال، وإن لم يسم الله تعالى إذا لم يتعمد» أخرجه سعيد.
وعنه: لا تسقط التسمية في عمد، ولا سهو للآية والخبر، وعنه: لا تجب في الحالين، لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً من الأعراب يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا أنتم وكلوا» رواه البخاري، والمذهب الأول.
وإن شك في تسمية الذابح حل لحديث عائشة، ولأن حال المسلم تحمل على الصحة، كالذبح في المحل.
والتسمية: قول بسم الله، وإن كان بغير العربية، وموضعها عند الذبح، يجوز تقديمها عليه بالزمن اليسير. وإن سمى على شاة وذبح أخرى لم تبح؛ لأنه لم يذكر اسم الله عليها. وإن سمى على قطيع وذبح منه شاة لم تبح، وإن سمى على شاة، ثم ألقى السكين وأخذ أخرى، أو تحدث ثم ذبحها حلت؛ لأنه سمى عليها. وتقوم إشارة الأخرس مقام تسميته، كسائر ما يعتبر فيه النطق.(1/549)
فصل:
الشرط الرابع: المحل، وهو الحلق واللبة، لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه نادى: «النحر في اللبة والحلق لمن قدر» . أخرجه سعيد. وروي مرفوعاً عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويشترط قطع الحلقوم، وهما مجرى الطعام والنفس.
وعنه: يشترط فري الودجين، أو أحدهما، وهما عرقان محيطان بالحلقوم، لما روى أبو هريرة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شريطة الشيطان» وهي التي تذبح فيقطع الجلد، ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود.
والأول أولى؛ لأنه قطع لا تبقى الحياة معه في محل الذبح، وإن قطع الأوداج وحدها، فينبغي أن تحل استدلالاً بالحديث والمعنى، والأولى قطع الجميع؛ لأنه أوحى وأبلغ من سيلان الدم وتنظيف اللحم منه.
فصل:
والسنة نحر الإبل قائمة، معقولة يدها اليسرى؛ لقول الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] ومر ابن عمر «على رجل قد أناخ بدنته لينحرها، فقال: ابعثها قياماً مقيدة. سنة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. ثم يجؤها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر؛ لقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ونحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدنة. ويذبح سائر الحيوان؛ لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . وذبح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكبشين اللذين ضحى بهما. فإن ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح جاز؛ لأنه لم يتجاوز محل الذبح، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» ويستحب توجيه الذبيحة إلى القبلة؛ لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يستحب ذلك، ولأنها أولى الجهات بالاستقبال.
فصل:
فإن ذبحها من قفاها، فأتت السكين على موضع ذبحها وفيها حياة مستقرة حلت؛ لأنها ماتت بالذبح، وكذلك ما جرح من غير مذبحه. والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع والمريضة ما أدرك ذكاتها، وفيها حياة مستقرة حلت؛ لقول الله(1/550)
تعالى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] . ولحديث جارية كعب: «إذا أصيبت منها شاة، فأدركتها فذكتها بحجر، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأكلها» وما لم يبق فيه إلا مثل حركة المذبوح لا يباح؛ لأنه صار في حكم الميت، وكذلك لو ذبحها بعد ذبح الوثني لها لم تبح.
فصل:
ويكره أن يبين الرأس بالذبح، وقطع عضو مما ذكى، أو سلخه حتى تزهق نفسه؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق ولا يحرم المقطوع؛ لأن إبانته حصلت بعد ذبحها وحلها. ولو ذبحها، فسقطت في ماء، أو تردت تردياً يقتلها مثله، فقال أكثر أصحابنا: لا تحرم لما ذكرنا.
وقال الخرقي: تحرم، وهو المنصوص عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعدي بن حاتم: «فإن وقعت في الماء فلا تأكل» ولأن ذلك يعين على زهوق نفسها، فيحصل بسبب مبيح ومحرم.
فصل:
وإذا ذبح حاملاً، فخرج جنينها ميتاً، أو فيه حركة كحركة المذبوح أبيح، لما روى أبو سعيد قال: «قيل يا رسول الله: إن أحدنا ينحر الناقة، ويذبح البقرة والشاة. فيجد في بطنها الجنين، أيأكله أم يلقيه؟ قال: كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه» رواه أبو داود، ولأنه متصل بها يتغذى بغذائها فكانت ذكاتها ذكاة له، كسائر أجزائها. ويستحب أن يذبحه ليخرج دمه الذي في بطنه، نص عليه. وإن خرج وفيه حياة مستقرة لم يبح إلا بالذكاة؛ لأنه مستقل بحياته، فأشبه ما ولدته قبل ذبحها.
فصل:
وإذا ند بعيره أو غيره، فلم يقدر عليه، صار حكمه حكم الصيد، لما روى رافع بن خديج قال: «كنا مع النبي في غزاة، فأصاب القوم غنماً وإبلاً، فند بعير من الإبل، فرماه رجل بسهم، فحبسه الله به، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا» متفق عليه. ولأنه تعذر ذكاته في الحلق، فأشبه الصيد. ولو تردى في بئر، فلم يقدر على ذبحه، فجرحه في أي موضع قدر عليه من جسده، أبيح لما ذكرناه إلا أن يكون رأسه في الماء، أو في شيء يموت به غير الذبح، فلا يباح لأننا لا نعلم أن الذبح قتله.(1/551)
[باب الصيد]
وهو مباح لقول الله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . قال ابن عباس: هي الكلاب المعلمة والبازي، وكل ما تعلم الصيد.
فصل:
من صاد صيداً فذكاه حل بكل حال، لحديث أبي ثعلبة. وإن أدرك ميتاً حل بشروط سبعة.
أحدها: أهلية الصائد على ما ذكرنا في الذكاة؛ لأن الاصطياد كالذكاة، وقائم مقامها.
الثاني: التسمية عند إرسال الجارح أو السهم لما ذكرنا في الذكاة، ولا يعفى عنهما في عمد ولا سهو؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك وسميت فكل، وإن وجدت معه غيره فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسم على الآخر» متفق عليه.
وعنه: يعفى عنها في السهو، لما ذكرنا في الذكاة.
وعنه: يعفى عن السهو في إرسال السهم؛ لأنه آلته فهو كسكينة، ولا يعفى عنه في إرسال الكلب، للحديث، والأول المذهب.
الشرط الثالث: إرسال الجارح؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك، وسميت فكل» ولأن إرسالها أقيم مقام الذبح، فاعتبر وجوده، فإن استرسل الكلب بنفسه، لم يبح صيده فإن سمى صاحبه وزجره، فزاد في عدوه حل صيده؛ لأنه أثر فيه، فصار كإرساله، وإن لم يزد في عدوه لم يبح؛ لأنه لم يؤثر.
الشرط الرابع: أن يكون الجارح معلماً؛ لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] . ولما روى أبو ثعلبة الخشني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما صدت بكلبك المعلم، وذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم فأدركت ذكاته فكل» متفق عليه.(1/552)
ويعتبر في تعليمه إن كان سبعاً ثلاثة أشياء: أن يسترسل إذا أرسل، وأن ينزجر إذا زجر، ولا يأكل إذا أمسك.
وهل يعتبر تكرار ذلك منه، فيه وجهان:
أحدهما: يعتبر ثلاثاً، ذكره القاضي؛ لأن ترك الأكل في المرة الواحدة يحتمل أنه لشبع أو عارض، فيعتبر تكراره، ليعلم أنه لتعلمه.
والثاني: لا يعتبر، ذكره أبو جعفر الشريف، وأبو الخطاب؛ لأنه تعلم صنعة، فلم يعتبر تكراره كسائر الصنائع، وأما الطائر كالبازي والصقر، فيعتبر أن يسترسل إذا أرسله، ويجيبه إذا دعاه، ولا يعتبر ترك الأكل؛ لأن تعليمه بأكله، وكل حيوان يقبل التعليم يحل صيده، لعموم الآية إلا الكلب الأسود البهيم، فإنه لا يحل اقتناؤه ولا صيده؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتله، وقال: «إنه شيطان» وما وجب قتله حرم اقتناؤه وتعليمه، فوجب أن لا يحل صيده.
الشرط الخامس: أن يرسله على صيد، فإن أرسله على غير شيء، أو على إنسان، أو حجر أو بهيمة، فأصاب صيداً لم يحل؛ لأنه لم يرسله على صيد، فأشبه ما استرسل بنفسه، ويحتمل أن يحل كما لو أرسله على صيد، فصاد غيره، وإن أرسله على صيد فأصاب غيره، أو قتل جماعة حلت للخبر، ولأنه أرسله على صيد فحل ما صاده، كما لو أرسله على كبار فتفرقت عن صغار فصادها. ولو سمع حساً أو رأى سواداً، فظنه صيداً، فأرسل عليه كلبه أو سهمه فأصاب صيداً حل؛ لأنه قصد الصيد، وإن لم يظنه صيداً لم يبح صيده؛ لأن صحة قصده تبنى على ظنه، سواء كان الذي رآه صيداً، أو لم يكن.
الشرط السادس: أن يجرح الصيد، فإن قتله بخنقه، أو صدمته لم يحل لأنه قتله بغير جرح، أشبه ما لو رمى بالبندق والحجر.
وقال ابن حامد: يباح لعموم قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وعموم الخبر.
الشرط السابع: أن يختص السباع، وهو ترك الأكل من الصيد، وفيه روايتان:
إحداهما: هو شرط، فمتى أكل الجارح من الصيد لم يحل، لما روى عدي بن حاتم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك، وإن قتل إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» متفق عليه.(1/553)
والثانية: لا يحرم، لما روى أبو ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل وإن أكل» رواه أبو داود. والأولى أولى؛ لأن حديثنا أصح، ولا يحرم المتقدم من صيوده؛ لأنها وجدت مع اجتماع شروط التعلم فيه، فلا تحريم بالاحتمال، وإن شرب من دم الحيوان، لم يحرم رواية واحدة؛ لأنه لم يأكل، ولأن الدم لا ينفع الصائد، فلا يخرج بشربه عن أن يكون ممسكاً على صائده.
فصل:
وما أصاب فم الكلب، وجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب، كغيره من المحال ويحتمل أن لا يجب؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ولم يأمر بالغسل، ولأنه يشق إيجاب غسله فسقط.
فصل:
ويباح الصيد بغير الحيوان؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكل» ولأن أبا قتادة شد على حمار وحشي فقتله، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما هي طعمة أطعمكموها الله» متفق عليهما. فما كان محدداً كالسهم والسيف، حل ما قتل به إذا اجتمعت الشروط، كالمعلم من الجوارح، وما لم يكن محدداً كالشباك، والأشراك والعصي والحجارة والبندق، فما أدرك ذكاته حل، وما لم يدرك ذكاته لم يحل، كغير المعلم؛ لأنه لم يقتل بجروحه، فيكون قتيله منخنقة أو موقوذة. ولو قتل المحدد الصيد بعرضه أو ثقله لم يبح لذلك، ولما روى عدي قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيد المعراض، فقال: ما خزق فكل، وما قتل بعرضه فهو وقيذ فلا تأكل» متفق عليه. ولو نصب المناجل لصيد وسمى، فجرحت الصيد وقتلته أبيح لأنها آلة محددة فأشبهت السهم، ولو وقع السهم على الأرض ثم وثب فقتل الصيد، أو أعانته الريح، ولولاها ما وصل حل لحديث أبي ثعلبة.
فصل:
إذا اجتمع في الصيد مبيح ومحرم، مثل أن يقتله بمثقل ومحدد، أو بسهم مسموم، أو بسهم مسلم، وبسهم مجوسي، أو سهم غير مسمى عليه، أو كلب مسلم وكلب مجوسي، أو غير مسمى عليه، أو غير معلم، أو اشتركا في إرسال الجارحة عليه، أو وجد مع كلبه كلباً لا يعرف مرسله، أو لا يعرف حاله، أو وجد مع سهمه سهماً كذلك لم يبح الصيد؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك وسميت فكل وإن وجدت معه غيره فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك ولم تسم على الآخر» ولأن(1/554)
الأصل الحظر، فإذا شككنا في المبيح رد إلى أصله. وإن علم أن كلبه أو سهمه القاتل دون الآخر، مثل أن يجرح في المقتل، والآخر في غيره، أو يكون الآخر رد عليه الصيد أبيح لعدم الاشتباه، وكذلك إن علم أن شريك كلبه أو سهمه مما يباح صيده حل لذلك. ولو خرج الصيد، فوقع في ماء، أو تردى تردياً يقتله لم يبح لذلك. وقد روى عدي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا رميت الصيد، فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل» متفق عليه.
فصل:
ولو صاد المسلم بكلب المجوسي حل، وعنه: لا يحل؛ لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] . والأول المذهب؛ لأن هذا آلة فأشبه ما لو صاد بقوسه وسهمه. ولو صاد المجوسي بكلب مسلم لم يبح، كما لو صاد بقوسه.
فصل:
وإن رمى صيداً، أو أرسل كلبه عليه، فغاب عنه، ثم وجده ميتاً وسهمه فيه، أو وجده مع كلبه ولا أثر به، يحتمل أن يقتله غيره حل، لحديث عدي، وعنه: إن غاب نهاراً حل، وإن غاب ليلاً لم يحل.
وعنه: إن غاب يسيراً أكله، وإن غاب كثيراً لم يأكله؛ لأنه يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والأول أولى للخبر، ولأنه قد وجد سبب إباحته يقيناً، والمعارض مشكوك فيه، فلا يزول عن اليقين بالشك. وإن شك في سهمه، أو من قتل به، أو وجد به أثر يحتمل أنه قتله، أو وجد غريقاً لم يبح للخبر، ولأنه شك في حله فوجب رده إلى أصله.
فصل:
إذا أدرك الصيد، وفيه حياة غير مستقرة، فتركه حتى مات حل لأن عقره قد ذبحه، وكذلك إن لم يبق من الزمان ما يتمكن من ذبحه فيه، وإن وجد فيه حياة مستقرة في زمن يمكن ذبحه فيه، فلم يذبحه حتى مات لم يحل لأنه صار مقدوراً على ذبحه، فلم يبح بغيره، كغير الصيد، فإن لم يكن معه ما يذكيه به، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يباح لذلك.
والثانية: يرسل عليه صائده حتى يقتله فيحل، اختارها الخرقي. لأنه صيد قتله صائده قبل إمكان ذبحه، فأشبه الذي قتله قبل إدراكه.(1/555)
فصل:
إذا ضرب صيداً فأبان منه عضواً، وبقيت فيه حياة مستقرة، فالعضو حرام لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» رواه أبو داود. وإن قطعه نصفين أو قطع رأسه، حل جميعه؛ لأنه مات بضربته، وإن قطع منه عضواً وبقي في سائره حياة غير مستقرة حل جميعه؛ لأنها ذكاة لبعضه فكانت ذكاة لجميعه، كما لو أبان رأسه. وقد استحسن أبو عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قول الحسن: لا بأس بالطريدة، قال أبو عبد الله: الطريدة: الغزال، يمر بالعسكر فيضربه القوم بأسيافهم، فيأخذ كل واحد منهم قطعة. قال الحسن: ما زال الناس يفعلون ذلك في مغازيهم، وعن أبي عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه لا يؤكل منه ما أبين في حياته، يؤكل سائره، للخبر. وإن بقي معلقاً بجلده حل رواية واحدة؛ لأنه متصل بجملته، أشبه سائر أعضائه.
فصل:
وإذا أثبت الصيد برميته أو شبكته أو غيرهما من آلات الصيد ملكه، فإن انفلت من الشبكة زال ملكه عنه؛ لأنه لم يستقر، فزال بانفلاته، فإن أخذ الشبكة معه، فصاده آخر رد الشبكة على صاحبها، وملك الصيد إلا أن يكون غير ممتنع بها، فيكون لصاحبها؛ لأنها التي أمسكته. ومن أمسك صيداً، واستقرت يده عليه ثم انفلت لم يزل ملكه عنه لأن اليد استقرت عليه، فلم تزل عنه بانفلاته كبهيمة، فإن أرسله، وقال: قد أعتقتك، لم يزل ملكه عنه؛ لأنه ليس بمحل للعتق.
فصل:
وإن أثبت الصيد بسهمه، فرماه آخر فقتله حرم؛ لأنه صار مقدوراً عليه، فلم يبح بغير الذبح، وعلى الثاني قيمته مجروحاً لصاحبه؛ لأنه أتلفه عليه إلا أن يكون سهم الثاني ذبحه فيحل؛ لأنه ذكاه، فإن ادعى كل واحد منهما أنه الأول حلف كل واحد منهما، وبرئ من الضمان؛ لأن الأصل براءة ذمته، وإن اتفقا على السابق، وأنكر الثاني كون الأول أثبته، فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء امتناعه، ويحرم على الأول اعترافه بتحريمه، ويحل للثاني. وإن رمياه فوجداه مثبتاً، لم يعلما من أثبته منهما، فهو بينهما، وإن وجداه ميتاً، ولم يعلما هل أثبته الأول أم لا؟ حل؛ لأن الأصل بقاء امتناعه والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب ما يحل وما يحرم من الحيوان]
باب ما يحل ويحرم الحيوان ثلاثة أقسام: أهلي، فيباح منه بهيمة الأنعام؛ لقول الله تعالى:(1/556)
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] والخيل كلها، لما روى جابر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل» . وقالت أسماء: «نحرنا فرساً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأكلناه، ونحن بالمدينة» . متفق عليهما، والدجاج لما روى أبو موسى، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأكل لحم الدجاج» . متفق عليه. والإوز والبط؛ لأنها طيبات، فتدخل في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وتحرم الحمر، لحديث جابر. والبغال؛ لأنها متولدة منها، والمتولد بين الوحشي والأهلي كذلك، وما تولد بين حلال وحرام، كالسمع والعسبار كذلك. وتحرم الكلاب والسنانير؛ لأنها من السباع، وتأكل الخبائث.
فصل:
القسم الثاني: الوحشي، فيباح منه الحمر، لحديث أبي قتادة. والأرانب، لما روى أنس «أنه أخذ أرنباً، فذبحها أبو طلحة، وبعث بوركها إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقبله» . متفق عليه. والضباع لما روى جابر قال: «سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع، فقال: هو صيد ويجعل فيه كبش إذ صادفه المحرم» . رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
والضباب، لما روى ابن عباس قال: «أتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بضب، فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه فاحتزه خالد فأكله، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينظر إليه» متفق عليه.
ويباح البقر والظباء والنعام والأوبار واليرابيع؛ لأنها مستطابة، قضت الصحابة فيها بالجزاء على المحرم، وتباح الزرافة، نص عليه؛ لأنها من الطيبات المستحسنات.
وعنه في اليربوع: أنه محرم؛ لأنه يشبه الفأرة، وفي الثعلب روايتان:
إحداهما: يحرم؛ لأنه من السباع.
والثانية: يحل؛ لأنه يفدى من الإحرام، وفي سنور البر روايتان لذلك.
ويباح من الطير الحمام وأنواعه، والعصافير والقنابر والحجل والقطا، والحبارى والكركي، والكروان، وغراب الزرع، والزاغ وأشباهها مما يلتقط الحب، أو يفدى من الإحرام، وقد روى سفينة قال: «أكلت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحم حبارى» . رواه أبو داود.
وفي الهدهد والصرد روايتان:
إحداهما: يباح؛ لأنها تشبه المباح.
والثانية: يحرم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن قتل الهدهد والصرد» رواه أبو داود وابن ماجه. وكل طير لا يصيد بمخلبه، ولا يأكل الجيف، ولا يستخبث، فهو حلال.(1/557)
فصل:
يحرم الخنزير، لنص الله تعالى على تحريمه، وكل ذي ناب من السباع، كالكلب والأسد والفهد، والنمر والذئب، وابن آوى والنمس، وابن عرس، والفيل والقرد، لما روى أبو ثعلبة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كل ذي ناب من السباع» . متفق عليه. وتحريم سباع الطير، كالعقاب والبازي والصقر والشاهين، والحدأة والبومة، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» رواه مسلم وأبو داود.
ويحرم ما يأكل الجيف، كالنسر والرخم، وغراب البين، والأبقع والعقعق؛ لأنها مستخبثة لأكلها الخبائث، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم» ذكر منها الحدأة والغراب. وما أبيح قتله، لم يبح أكله.
وتحرم الخبائث كلها، كالفأر والجراذين والأوزاغ والعظا والورل، والقنفذ والحرباء والصراصير والجعلان والخنافس والحيات والعقارب والدود والوطواط والخفاش والزنابير واليعاسيب والذباب والبق والبراغيث والقمل وأشباهها؛ لقول الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] وقد روى أبو هريرة «أن القنفذ ذكر عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هو خبيثة من الخبائث» رواه أبو داود. وما لم يذكره يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به، فيلحق به بالإباحة والتحريم؛ لأن القياس حجة، وما لم يكن شبيهاً بشيء منها فهو حلال؛ لقول الله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] . خرج من عمومها ما قام الدليل على تحريمه، والباقي يبقى على الأصل.
فصل:
القسم الثالث: حيوان البحر يباح جميعه؛ لقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] إلا الضفدع؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلها، ولأنها مستخبثة. وكره أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التمساح؛ لأنه ذو ناب، فيحتمل أنه محرم؛ لأنه سبع ويحتمل أنه مباح للآية. وقال ابن حامد: يحرم الكوسج؛ لأنه ذو ناب، وقال أبو علي النجاد: لا يؤكل من البحري ما يحرم نظيره في البر، ككلب الماء وخنزيره وإنسانه، والأول أولى. وقد قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كلب الماء: يذبحه، وركب الحسن بن علي على سرج عليه جلد كلب ماء.(1/558)
فصل:
وكره أحمد لحوم الجلالة وألبانها.
قال القاضي: هي أكثر علفها النجاسة، فإن كان أكثره الطاهر فليست جلالة، قال: ولحمها ولبنها حرام. وفي بيضها روايتان.
وقال ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى إن أكلها غير محرم، لعموم قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1] . والأولى ظاهر المذهب، لما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أكل الجلالة وألبانها» . رواه أبو داود. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الإبل الجلالة أن يؤكل لحمها، ولا يشرب لبنها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس حتى تعلف أربعين ليلة» . رواه الخلال ويزول تحريمها، وكراهتها بحبسها عن أكل النجاسات ويحبس البعير أربعين ليلة للخبر والبقرة في معناه، ويحبس الطائر ثلاثاً لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً.
وعن أحمد: أن الجميع يحبس ثلاثا لخبر ابن عمر.
فصل:
وما سقي من الزروع والثمار بالنجاسات أو سمد بها نجس، كالجلالة؛ لأنه يتغذى بالنجاسات، وتترقى فيه أجزاؤها، فأشبه الجلالة، ويطهر بسقيها بالطهارات، كالجلالة إذا أكلت الطهارات.
فصل:
وتحرم الميتة والدم للآية، وتحرم النجاسات كلها؛ لأنها من الخبائث، وتحرم السموم المضرة، كما يحرم عليه إتلاف شيء من جسده.
فصل:
فإن اضطر إلى شيء مما حرم عليه، أبيح تناوله؛ لقول الله تعالى: {إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] وفي قدر ما يباح روايتان:(1/559)
إحداهما: قدر ما يسد رمقه، اختارها الخرقي؛ لأنه يخرج بأكله عن كونه مضطراً، فتزول الإباحة بزواله.
والثانية: له الشبع؛ لأنه طعام جاز له سد الرمق منه، فجاز له الشبع، كالحلال.
وهل يجب عليه أكل ما يسد رمقه، فيه وجهان:
أحدهما: يجب لقول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] .
والثاني: لا يجب؛ لأنه تجنب ما حرم عليه. وقد روي عن عبد الله بن حذافة صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ملك الروم حبسه، ومعه لحم خنزير مشوي، وماء ممزوج بخمر ثلاثة أيام، فأبى أن يأكله، وقال: لقد أحله الله لي، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام، ومن اضطر إلى طعام من ليس به مثل ضرورته لزمه بذله له؛ لأن في منعه منه إعانة على قتله، وإن بذله بثمن مثله لمن يقدر على ثمنه لزمه أخذه، ولم تحل له الميتة؛ لأنه غير مضطر، وإن امتنع من بذله إلا بأكثر من ثمن مثله فاشتراه به لم يلزمه إلا ثمن مثله؛ لأنه اضطر إلى بذل الزيادة بغير حق، فلم يلزمه كالمكره، وإن منعه منه بالكلية فله قتاله عليه؛ لأنه صار أحق به من مالكه وإن وجد المضطر ميتة، وطعاماً لغائب، فطابت نفسه بأكل الميتة فهي أولى؛ لأن إباحتها ثبتت بالنص، فكانت أولى مما ثبت بالاجتهاد، وإن لم تطب نفسه بأكلها أكل طعام الغير؛ لأنه مضطر إليه.
وإن وجد المحرم ميتة وصيداً فكذلك؛ لأن المحرم إذا ذبح الصيد صار ميتة، ولزمه الجزاء، فيجتمع فيه تحريمان، ومن لم يجد إلا آدمياً معصوماً لم يبح له قتله؛ لأنه لا يحل وقاية نفسه بأخيه، ولا يحل له قطع شيء من نفسه ليأكله؛ لأنه يتلفه يقيناً ليحصل ما هو موهوم. وإن وجد آدمياً مباح الدم، فله قتله وأكله؛ لأن إتلافه مباح، وإن وجد ميتاً معصوماً، فالأولى إباحته، لدخوله في عموم الآية؛ ولأن فيه حفظ الحي، فأشبه غير المعصوم، اختار هذا أبو الخطاب.
وقال غيره من أصحابنا: لا يباح؛ لأن كسر عظم الميت ككسر عظم الحي، وإن وجد المضطر خمراً لم يبح شربها؛ لأنها لا تدفع جوعاً ولا عطشاً، ولا فيها شفاء، لما روت أم سلمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» وإن وجد ماء ممزوجاً بخمر يدفع العطش فله الشرب منه؛ لأنه يدفع به الهلاك.
وإن غُص بلقمة، ولم يجد مائعاً يدفعها به، وخاف الهلاك فله دفعه بها لأنه يحصل بها.(1/560)
فصل:
ومن مر بثمرة لا حائط لها، ولا ناطر، ففيه ثلاث روايات:
إحداهن: أنه يأكل ولا يحمل، لما روي عن أبي زينب، قال: سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سمرة، وأبي برزة، فكانوا يمرون بالثمار، فيأكلون في أفواههم. وقال عمر: يأكل ولا يتخذ خبنة.
والثانية: يباح ما سقط، ولا يرمي بحجر ولا يضرب، لما روى رافع أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا ترم وكُلْ ما وقع» حديث صحيح.
والثالثة: له الأكل إن كان جائعاً، ولا يأكل إن لم يكن جائعاً، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه سئل عن الثمر المعلق، فقال: ما أصاب منه ذي الحاجة، غير متخذ خبنة، فلا شيء عليه، ومن خرج منه بشيء فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» هذا حديث حسن وفي الزرع روايتان:
إحداهما: هو كالثمرة؛ لأن العادة جارية بأكل الفريك والباقلاء ونحوهما.
والثانية: لا يباح؛ لأن الفاكهة خلقت للأكل رطبة والنفوس إليها أميل بخلاف الزرع، وما كان محوطاً أو له ناطر، فليس له الدخول بحال؛ لقول ابن عباس: إذا كان عليها حائط، فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن حائط فلا بأس.
وفي لبن الماشية روايتان:
إحداهما: هو كالثمرة، لما روى الحسن عن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فيها صاحبها، فليستأذنه فإن أذن، فليحتلب وليشرب وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثاً، فإن لم يجب، فليحتلب وليشرب، ولا يحمل» حديث صحيح.
والثانية: لا يحل له الحلب؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» متفق عليه.(1/561)
[كتاب البيع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كتاب البيع البيع حلال، لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وهو نوعان.
أحدهما: الإيجاب والقبول، فيقول البائع: بعتك أو ملكتك أو لفظاً بمعناهما، ثم يقول المشتري: ابتعت أو قبلت أو نحوهما، فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الماضي، فقال: ابتعت هذا منك بكذا، فقال: بعتك صح، لأن المعنى حاصل، فأشبه التعبير بلفظ آخر، وإن تقدم بلفظ الطلب، فقال: بعني، فقال: بعتك صح، لأنه تقدم القبول، أشبه لفظ الماضي.
وعنه: لا يصح، لأنه لو تأخر عن الإيجاب لم يصح، فلم يصح متقدماً، كلفظ الاستفهام. وإن أتى بلفظ الاستفهام، فقال: أبعتني ثوبك؟ فقال: بعتك، لم يصح متقدماً، ولا متأخراً، لأنه ليس بقبول ولا استدعاء.
الثاني: المعاطاة مثل أن يقول: أعطني بهذا خبزاً، فيعطيه ما يرضيه، أو يقول: خذ هذا الثوب بدينار، فيأخذه فيصح، لأن الشرع ورد بالبيع، وعلق عليه أحكاماً، ولم يعين له لفظاً، فعلم أنه ردهم إلى ما تعارفوه بينهم بيعاً، والناس في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك. وحكي عن القاضي: أنه يصح في الأشياء اليسيرة دون الكثيرة، لأن العرف إنما جرى به في اليسير، والحكم في الهبة والهدية والصدقة، كالحكم في البيع، وذلك لاستواء الجميع في المعنى.
فصل
ويشترط له الرضى، لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29](2/3)
إلا فيما يجب، فإن أكره على بيع غير واجب، لم يصح لعدم الرضى المشترط، وإن أكره على بيع واجب صح، لأنه قول حمل عليه بحق، فصح كإسلام المرتد. ولا يصح من غير عاقل، كالطفل والمجنون والسكران، والنائم والمبرسم، لأنه قول يعتبر له الرضى، فلم يصح من غير عاقل كالإقرار.
[باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز]
كل عين مملوكة يباح نفعها واقتناؤها من غير ضرورة يجوز بيعها، كالمأكول والمشروب، والملبوس والمركوب، والعقار والعبيد والإماء، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] . وقد «اشترى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جابر بعيراً» ، «ومن أعرابي فرساً» . «ووكل عروة بن الجعد في شراء شاة» ، وباع مدبراً وحلساً وقدحاً، وأقر أصحابه على بيع هذه الأعيان وشرائها.
ويجوز بيع دود القز وبزره، لأنه منتفع به، وبيع النحل في كوارته ومنفرداً عنها إذا رئي وعلم قدره، وبيع الطير الذي يقصد صوته كالهزار والبلبل والببغة، لأنه يشتمل على منفعة مباحة، أشبه الأنعام. ويجوز بيع الهر وسباع البهائم، والطير التي تصلح للصيد، كالفهد والبازي ونحوهما غير الكلب في إحدى الروايتين، وهي اختيار الخرقي والأخرى: لا يجوز وقال أبو بكر وابن أبي موسى: لا يجوز بيعها لنجاستها، فأشبهت الكلب والأول أصح، لأنه حيوان أبيح نفعه واقتناؤه من غير وعيد في جنسه، فجاز بيعه، كالحمار وبهذا يبطل ما ذكراه ويجوز بيع الجحش الصغير، والفهد الصغير، وفرخ البازي، لأنه يصير إلى حال ينفع، فأشبه طفل العبيد. وما ينفع من بيض الطير لمصيره فرخاً فهو كفرخه، لأن مآله إلى النفع.
وقال القاضي: لا يجوز بيعه، لعدم نفعه في الحال. قال أحمد: أكره بيع القرد، قال ابن عقيل: هذا محمول على بيعه للإطافة به واللعب وأما بيعه لحفظ المتاع فيجوز، لأنه منتفع به. وقال أحمد: أكره بيع لبن الآدميات، فيحتمل التحريم، لأنه مائع خارج من آدمية، أشبه العرق ويحتمل كراهية التنزيه، لأنه طاهر منتفع به، أشبه لبن الشاة.
فصل:
ويجوز بيع العبد المرتد، لأنه مملوك منتفع به، وخشية هلاكه لا يمنع بيعه كالمريض، فإن علم المشتري حاله، فلا شيء له، لأنه رضي بعيبه، وإن لم يعلم فله(2/4)
الرد أو الأرش، قتل أو أسلم كالمعيب. ويصح بيع العبد الجاني عمداً أو خطأ على النفس أو ما دونها، لأنه حق تعلق برقبته غير متحتم، فأشبه القتل بالردة، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فهي كالردة، وإن كانت موجه للمال فهو على السيد، لأنه رضي بالتزام ما عليه، فإن كان معسراً فللمجني عليه رقبة العبد، إن شاء فسخ العقد ورجع به، وإن شاء رجع على البائع بالأرش. وإن كان قاتلاً في المحاربة، فكذلك في قول بعض أصحابنا، لأنه ينتفع به إلى قتله ويعتقه، فيجر ولاء ولده، فصح بيعه كالزمن وحكمه حكم المرتد.
وقال القاضي: لا يصح بيعه، لأنه متحتم القتل، فلا منفعة فيه، فأشبه الميت.
فصل:
وفي بيع رباع مكة وإجارتها روايتان:
إحداهما: يجوز لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من صفوان بن أمية داراً بأربعة آلاف، واشترى معاوية من حكيم بن حزام دارين بمكة، ولأنها أرض حية لم ترد عليها صدقة محرمة، فجاز بيعها كغيرها.
والثانية: لا يجوز، لأنها فتحت عنوة، ولم تقسم بين الغانمين، فصارت وقفاً على المسلمين، فحرم بيعها كسواد العراق.
والدليل على فتحها عنوة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من نهار» . متفق عليه. وقالت أم هانئ: «يا رسول الله إني أجرت حموين لي، فزعم ابن أم هانئ علي أنه قاتلهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد أجرنا من أجرت» حديث صحيح وقتل ابن خطل ومقيس بن صبابة، ولو فتحت صلحاً لم يجز قتل أهلها.
فصل:
ولا يجوز بيع الشام، وسواد العراق ونحوهما مما فتح عنوة، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقفه على المسلمين، وأقره في يد أربابه بالخراج الذي ضربه يكون أجرة له في كل عام، ولم يقدر مدتها لعموم المصلحة فيها، وقد اشتهر ذلك في قصص نقلت عنه.(2/5)
وعن أحمد: أنه كره بيعها، لأنه يأخذ ثمن الوقف، وأجاز شراءها، لأنه كالاستنقاذ لها، فجاز كشراء الأسير، وتجوز إجارتها لأنها مستأجرة في يد أربابها، وإجارة المستأجر جائزة، فأما المساكن في المدائن فيجوز بيعها، لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اقتطعوا الخطط في الكوفة والبصرة في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وبنوها مساكن، وتبايعوها من غير نكير فكان إجماعاً.
فصل:
قال أحمد: لا أعلم في بيع المصحف رخصة، ورخص في شرائه وقال: هو أهون، وذلك لأن ابن عمر وابن عباس وأبا موسى كرهوا بيعه، ولأنه يشتمل على كلام الله تعالى، فيجب صيانته عن الابتذال، والشراء أسهل، لأنه استنقاذ له فلم يكره كشراء الأسير. وقال أبو الخطاب: يجوز بيعها مع الكراهة، وفي شرائها وإبدالها روايتان، فإن بيعت لكافر لم يصح رواية واحدة، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى على المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» حديث صحيح متفق عليه فلم يجز تمليكهم إياه، وتمكينهم منه، ولأنه يمنع من استدامة ملكه، فمنع ابتداء، كنكاح المسلمة.
فصل:
ولا يجوز بيع الخمر والميتة، والخنزير والأصنام. لما روى جابر قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «إن الله ورسوله حرم بيع الخمرة والميتة، والخنزير والأصنام» متفق عليه.
ولا يجوز بيع ما لا نفع فيه، كالحشرات، وسباع البهائم، والطير التي لا يصاد بها، وما لا يؤكل من الطير، ولا بيضه، لأنه لا نفع فيها، فأشبهت الخنزير. ولا يجوز بيع الحر لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ذكر منهم رجلاً باع حراً، فأكل ثمنه» . رواه البخاري. ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك، كالمباحات قبل حيازتها، لأنها غير مملوكة أشبهت الحر. ولا يجوز بيع الدم، ولا السرجين النجس، لأنه مجمع على تحريمه، ونجاسته، أشبه الميتة. ولا يجوز بيع شحم الميتة، لأنه منها. وفي حديث جابر قيل: «يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة؟ فإنه تدهن بها الجلود، وتطلى بها السفن، ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو(2/6)
حرام» . متفق عليه وما نجس من الأدهان كالزيت، فظاهر المذهب تحريم بيعها قياساً على شحم الميتة، ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه» رواه أبو داود وعنه: يباع لكافر، ويعلم بحاله، لأنه يعتقد حله. وفي جواز الاستصباح بها روايتان:
إحداهما: لا يجوز لأنه دهن نجس، أشبه شحم الميتة.
والثانية: يجوز، لأنه أمكن الانتفاع بها من غير ضرر، أشبه الانتفاع بالجلد اليابس. قال أبو الخطاب: ويتخرج على جواز الاستصباح بها جواز بيعها. قال القاضي: ولا تطهر بالغسل، لأنه لا يتأتى فيها العصر، ويتخرج أنها تطهر بصبها في ماء كثير، ثم تُترك حتى تطفو فتؤخذ، والعصر: إنما يعتبر فيما يتأتى العصر فيه، بدليل الخشب والأحجار، اختاره أبو الخطاب، فأما غير الأدهان، كالخل، واللبن، فلا تطهر وجهاً واحداً.
فصل:
ولا يجوز بيع الكلب، وإن كان معلماً، لما روى أبو مسعود الأنصاري، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب» ، وقال «ثمن الكلب خبيث» متفق عليهما. ولا غرم على قاتله، لأنه لا قيمة له، وقد أساء من قتل كلباً يباح اقتناؤه، ولا يباح اقتناء كلب، إلا لصيد، أو حفظ ماشية، أو حرث، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية، أو صيد، أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراط» متفق عليه. ويجوز تربية الجرو الصغير لذلك، لأنه قصد به ما يباح، فيأخذ حكمه، كالجحش الصغير، ولأنه لو لم يقتن غير المعلم، لم يمكن تعليمه، وتعذر اقتناء المعلم وفيه وجه آخر، أنه لا يجوز اقتناؤه، لأنه ليس من الثلاثة، فإن اقتنى كلب الصيد، من لا يصيد به جاز للحديث. وفيه وجه آخر أنه لا يجوز، لأن اقتناءه لغير حاجة أشبه من اقتناه للماشية، ولا ماشية له.
فصل:
ولا يجوز بيع معدوم، لما روى أبو هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر»(2/7)
رواه مسلم.
وبيع المعدوم بيع غرر، ولأن تحريم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، تنبيه على تحريم بيعها قبل وجودها، فلا يجوز بيع الثمرة قبل خلقها، ولا بيع الماء العد الذي له مادة، كماء العيون والآبار، لأنه بيع لما يتجدد، وهو في الحال معدوم.
فصل:
ولا يجوز بيع ما لا يُقدر على تسليمه، كالطير في الهواء، والسمك في الماء، والعبد الآبق، والجمل الشارد، والفرس العائر، والمغصوب في يد الغاصب، لحديث أبي هريرة. وقال ابن مسعود: لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر. ولأن القصد بالبيع تمليك التصرف، ولا يمكن ذلك فيما لا يقدر على تسليمه، فإن باع طيراً له في برج مغلق الباب، أو سمكاً له في بركة معدة للصيد وكان معروفاً بالرؤية مقدوراً على تناوله بلا تعب جاز بيعه، لعدم الغرر فيه. وإن اختل بعض ذلك لم يجز. وإن باع الآبق لقادر عليه، أو المغصوب لغاصبه، أو لقادر على أخذه منه جاز لذلك وإلا فلا.
فصل:
ولا يجوز بيع ما تُجهل صفته، كالحمل في البطن، واللبن في الضرع والبيض في الدجاج، والنوى في التمر، لحديث أبي هريرة: وروى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المجر» والمجر: شراء ما في الأرحام. وعن أبي هريرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع المضامين والملاقيح» قال أبو عبيدة: الملاقيح: ما في البطون، وهي الأجنة، والمضامين: ما في أصلاب الفحول. وما سواه يقاس عليه. وروي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يباع صوف على ظهر، أو لبن في ضرع» رواه ابن ماجة.
وعنه: في بيع الصوف على الظهر روايتان:
إحداهما: لا يجوز للخبر، ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالبيع، كأعضائه.
والثانية: يجوز بشرط جزه في الحال، لأنه معلوم ممكن تسليمه، فجاز بيعه كالزرع في الأرض.(2/8)
فصل:
ولا يجوز بيع الأعيان من غير رؤية أو صفة يحصل بها معرفة المبيع في ظاهر المذهب، لحديث أبي هريرة، ولأنه مجهول عند العاقد، فلم يصح بيعه، كالنوى في التمر، فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع، كداخل الثوب، وشعر الجارية. وعنه: يجوز لأنه عقد معاوضة، فأشبه النكاح، فعلى هذا هل يثبت له خيار الرؤية؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا خيار له لأنه عقد معاوضة صح من الغيبة، فأشبه النكاح.
والثانية: يثبت له الخيار عند الرؤية في الفسخ والإمضاء، لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه» ويكون خياره على الفور، للحديث، وقيل: يتقيد بالمجلس، لأنه خيار ثابت بمقتضى العقد، فتقيد بالمجلس، كخيار المجلس، فإن اختار إمضاء العقد قبل الرؤية لم يلزم، لأنه تعلق بالرؤية، ولأنه يؤدي إلى إلزام العقد في مجهول الصفة. وإن اختار الفسخ انفسخ، لأن الفسخ يصح في مجهول الصفة، ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين جميعاً، لأن الرضا معتبر منهما، فتعتبر الرؤية التي هي مظنة له منهما جميعاً.
فصل:
فإن رأيا المبيع، ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه صح في صحيح المذهب.
وعنه: لا يصح، لأن ما كان شرطاً يعتبر وجوده حال العقد كالشاهدة في النكاح.
ولنا أنه معلوم عندهما، أشبه ما لو شاهداه حال العقد، أو اشترى منه داراً كبيرة، وهو في طرفها، والشرط العلم، وهو مقارن للعقد، ثم إن وجد المبيع لم يتغير لزم، وإن وجده ناقصاً فله الخيار لأن ذلك كالعيب، وإن اختلفا في التغيير فالقول قول المشتري، لأن الثمن يلزمه، فلا يلزمه إلا ما اعترف به. وإن عقدا بعد الرؤية بزمن يفسد فيه ظاهراً، لم يصح لأنه غير معلوم. وإن احتمل الأمرين، ولم يظهر التغير فالعقد صحيح، لأنه الأصل سلامته.
فصل:
ويصح البيع بالصفة في صحيح المذهب إذا ذكر أوصاف السلم، لأنه لما عدمت المشاهدة للمبيع وجب استقصاء صفاته كالسلم، وإذا وجد على الصفة لزم العقد، وإن وجده على خلافها فله الفسخ، فإن اختلفا في التغير فالقول قول المشتري لما ذكرناه.(2/9)
وعنه: لا يصح البيع بالصفة، لأنه لا يمكن استقصاؤها.
والمذهب الأول، لأنه مبيع معلوم بالصفة، فصح بيعه كالمسلم فيه. وبيع الأعمى، وشراؤه بالصفة كبيع البصير بها، فإن عدمت الصفة، وأمكنه معرفة المبيع بذوق أو شم صح بيعه وإلا لم يصح، لأنه مجهول في حقه.
فصل:
ولا يجوز بيع عبد من عبيد ولا شاة من قطيع، ولا ثوب من أثواب ولا أحد هذين العبدين، لأنه غرر، فيدخل في الخبر، ولأنه يختلف فيفضي إلى التنازع ويجوز بيع قفيز من صبرة، ورطل زيت من دن أو ركوة، لأن أجزاءه لا تختلف، فلا يفضي إلى التنازع، فإن باع جريباً من ضيعة يعلمان جربانها صح، وكان المبيع مشاعاً منها، وإن كانت عشرة أجربة فالمبيع عشرها، وإن لم يعلما جربانها لم يصح، لأنه لا يعلم قدره منها، فيكون مجهولاً.
فصل:
وما لا تختلف أجزاؤه، كصبر الطعام، وزق الزيت، يكتفى برؤية بعضه، لأنها تزيل الجهالة، لتساوي أجزائه، ولأنه تتعذر رؤية جميعه فاكتفي ببعضه كأساسات الحيطان، وما تشق رؤيته، كالذي مأكوله في جوفه يكتفى برؤية ظاهره لذلك وكذلك أساسات الحيطان وطي الآبار وشبهها ويجوز بيع الباقلا والجوز واللوز في قشريه والحب في سنبله، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحب حتى يشتد» رواه أبو داود. فمفهومه جواز بيع المشتد، ولأنه مستور بما خلق فيه فجاز بيعه، كالذي مأكوله في جوفه، ولأن قشره الأعلى من مصلحته، لأنه يحفظ رطوبته، وادخار الحب في سنبله أبقى له، فجاز بيعه فيه، كالسلت والأرز، وما لا تشق رؤية جميعه ويشترط رؤية جميعه على ما أسلفناه.
فصل:
إذا قال: بعتك هذه الصبرة صح، وإن لم يعلم قدرها، لأن ابن عمر قال: «كنا نبتاع الطعام من الركبان جزافاً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . متفق عليه. ولأن غرر ذلك مُنْتَفٍ بالمشاهدة فاكتفي بها. وإن باعه نصفها أو ثلثها أو جزءاً منها مشاعاً صح لأن من عرف شيئاً عرف جزأه. وإن قال: بعتكها كل قفيز بدرهم صح، لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، والثمن معلوم لإشارته إلى من يعلم مبلغه بجهة، لا تتعلق بالمتعاقدين، وهو(2/10)
كيل الصبرة فجاز كما لو باعه مرابحة لكل عشرة درهم. ولو قال: بعتك بعض هذه الصبرة لم يصح، لأنه البعض مجهول. ولو قال: بعتك منها كل قفيز بدرهم لم يصح، لأنه باعه بعضها، ولو قال: بعتكها على أن أزيدك قفيزاً لم يصح، لأن الزائد مجهول، فإن قال: على أن أزيدك قفيزاً من هذه الأخرى صح لأن معناه بعتكها وقفيزاً من هذه، وإن قال على أن أزيدك من هذه أو أنقصك قفيزاً لم يصح، لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه، وإن قال: بعتكها كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزاً من هذه الأخرى، وهما يعلمان قدر قفزانها صح لأنهما إذا علماها عشرة، فمعناه: بعتك كل قفيز، وعشراً بدرهم، وإن لم يعلما قدرها لم يصح لجهالة الثمن، لأنه يصير قفيزاً وشيئاً لا يعلمان قدره بدرهم، لجهلهما بكمية قفزانها، وكذلك إن قال: على أن أنقصك قفيزاً. وإن جعلا للقفيز الزائد ثمناً مفرداً صح في الحالين.
فصل:
ويكتفى بالرؤية فيما لا تتساوى أجزاؤه، كالأرض والثوب، والقطيع من الغنم، لما ذكرنا في الصبرة، وفيه نحو من مسائلها. ولو قال: بعتك من الدار من هاهنا إلى هاهنا جاز، لأنه معلوم. وإن قال: عشرة أذرع ابتداؤها من هاهنا لم يصح، لأنه لا يدري إلى أين ينتهي. ولو قال: بعتك نصف داري مما يلي دارك لم تصح، نص عليه لذلك. وإن قال: بعتك من هذا الثوب من أوله إلى هاهنا صح، لأنه معلوم. وقال القاضي: إن كان ينقصه القطع لم يصح لعجزه عن التسليم إلا بضرر، والأول أصح، لأن التسليم ممكن، والضرر لا يمنع الصحة إذا التزمه، كما لو باعه نصفاً مشاعاً، أو نصف حيوان.
فصل:
ويشترط لصحة المبيع معرفة الثمن، لأنه أحد العوضين، فيشترط العلم به، كالمبيع ورأس مال السلم. وإن باعه بثمن مطلق في موضع فيه نقد معين انصرف إليه، وإن لم يكن فيه نقد معين لم يصح لجهالته. وإن باعه سلعة برقمها أو بما باع به فلان، وهما لا يعلمان ذلك، أو أحدهما، أو بما ينقطع به السعر لم يصح، لأنه مجهول. وإن قال: بعتك بألف درهم ذهباً وفضة لم يصح، لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما. وإن باعه بعشرة نقداً أو بخمس عشرة نسيئة، أو بعشرة صحاحاً، أو بعشرين مكسرة لم يصح، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة» حديث صحيح.(2/11)
وهو هذا. ولأنه لم يعقد على ثمن بعينه، أشبه إذا قال: بعتك أحد هذين العبدين. ويتخرج أنه يصح بناء على قوله في الإجارة، وقيل: معنى " بيعتين في بيعة " أن يقول: بعتك هذا بمائة على أن تبيعني دارك بألف، أو على أن تصرفها لي بذهب. وأياً ما كان فهو غير صحيح. وإن باع بثمن معين تعين، لأنه عوض، فتعين بالتعيين، كالمبيع فعلى هذا إن وجده مغصوباً بطل العقد، وإن وجده معيباً فرده انفسخ العقد لرد المعقود عليه، فأشبه رد المبيع. وعن أحمد: أن الثمن لا يتعين إلا بالقبض، فتنعكس هذه الأحكام. وإن باعه بثمن في الذمة لم يتعين، فإذا قبضه فوجده مغصوباً لم يبطل العقد، وإن رده لم ينفسخ، لأن الثمن في الذمة.
فصل:
ولا يجوز بيع الملامسة والمنابذة، لما روى أبو سعيد الخدري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين: الملامسة والمنابذة» . والمنابذة: أن يقول: إذا نبذت إلي هذا الثوب فقد وجب البيع. والملامسة: أن يمسه بيده ولا ينشره. متفق عليه. ولأنه إذا علق البيع على نبذ الثوب ولمسه، فقد علقه على شرط، وهو غير جائز. وإذا باعه قبل نشره فقد باعه مجهولاً، فيكون غرراً ولا يجوز بيع الحصاة، لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحصاة» . رواه مسلم. وهو أن يقول: ارم هذه الحصاة فعلى أي ثوب وقعت، فهو لك بكذا. وقيل: هو أن يقول: بعتك من هذه الضيعة بقدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا. وكلاهما غير صحيح، لأنه غرر، ولا يجوز بيع حبل الحبلة، لما روى ابن عمر قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع حبل الحبلة» متفق عليه. قال أبو عبيدة: هو بيع ما يلد حمل الناقة.
وقيل: هو بيع السلعة بثمن إلى أن يلد حمل الناقة، وكلاهما لا يجوز، لأنه على التفسير الأول: بيع معدوم مجهول، وعلى الثاني: بيع بثمن إلى أجل مجهول. ولا يجوز تعليق البيع على شرط مستقبل كمجيء المطر، وقدوم زيد، وطلوع الشمس، لأنه غرر، ولأنه عقد معاوضة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل، كالنكاح.
فصل:
ولا يجوز بيع العنب والعصير لمن يتخذه خمراً، ولا السلاح لأهل الحرب، أو(2/12)
لمن يقاتل به في الفتنة، ولا الأقداح لمن يشرب فيها الخمر، لأنه معونة على المعصية فلم يجز، كإجارة داره لبيع الخمر. ولا يجوز بيع العبد المسلم لكافر، لأنه يمنع من استدامة ملكه عليه فلم يصح عقده عليه، كالنكاح فإن أسلم في يده، أو يد موروثه، ثم انتقل إليه بالإرث أجبر على إزالة ملكه عنه، لأن في تركه في ملكه صغاراً، فإن باعه، أو وهبه لمسلم أو أعتقه جاز. وإن كاتبه ففيه وجهان:
أحدهما: يجوز، لأنه يصير كالخارج عن ملكه في التصرفات.
والثاني: لا يجوز، لأنه لا يزيل الملك فلم يقبل، كالتزويج.
وإن ابتاع الكافر مسلماً، يعتق عليه بالشراء، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يصح، لأنه عقد يملك به المسلم.
والثانية: يجوز لأن ملكه يزول حال ثبوته، فلا يحصل به صغار، وإن حصل فقد حصل له من الكمال بالحرية، فوق ما لحقه برق لحظة. وإن قال الكافر لمسلم: أعتق عبدك عني وعلي ثمنه ففيه وجهان، بناء على ما ذكرناه، لأنه بقدر بيعه للكافر، وتوكيل البائع في عتقه.
فصل:
ولا يجوز أن يفرق في البيع بين ذوي رحم محرم قبل البلوغ، لما روى أبو أيوب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» حديث حسن.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «وهب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما فعل غلامك؟ فأخبرته، فقال: رده رده» رواه الترمذي. وقال حديث حسن. فإن فرق بينهما فالبيع باطل، رضيت الأم ذلك أم كرهته، نص عليه، لأنه فيه إسقاطاً لحق الولد. وهل يجوز التفريق بينهما بعد البلوغ؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز لعموم الخبر.
والثانية: يجوز لأن «سلمة بن الأكوع أتى أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بامرأة وابنتها في غزوة فنفله أبو بكر ابنتها، ثم استوهبها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من سلمة فوهبها له» . رواه مسلم. وهذا تفريق. ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهديت له أختان مارية وسيرين، فأمسك مارية ووهب أختها لحسان بن ثابت» .(2/13)
فصل:
ولا يجوز أن يبيع عيناً لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها، لما روى حكيم بن حزام أنه قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الرجل يأتيني يلتمس من البيع ما ليس عندي، فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تبع ما ليس عندك» حديث صحيح. ولأنه بيع ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء فإن باع مال غيره بغير إذنه، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يصح لذلك.
والثانية: يصح، ويقف على إجازة المالك، فإن أجازه جاز، وإن أبطله بطل، لما «روى عروة بن الجعد البارقي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه ديناراً ليشتري به شاة، فاشترى به شاتين، ثم باع إحداهما بدينار في الطريق، قال: فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدينار وبالشاة فأخبرته، فقال: بارك الله لك في صفقة يمينك» رواه الإمام أحمد والأثرم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه فوقف على إجازته كالوصية. وإن اشترى بعين مال غيره شيئاً بغير إذنه فهو كبيعه، فإن اشترى له شيئاً بغير إذنه بثمن في ذمته، ثم نقد ثمنه من مال الغير صح الشراء لأنه تصرف في ذمته لا في مال غيره، ويقف على إجازة المشتري له، لأنه قصد الشراء له، فإن أجازه لزمه وإن لم يجزه لزم من اشتراه، لأنه لا يلزمه ما لم يأذن فيه، والبيع صحيح فيلزم المشتري، فإن باع مال غيره، وهو حاضر، فلم ينكر ذلك فهو كبيعه في غيبته، فإن السكوت ليس بإذن، فإنه محتمل كغير الإذن، فلا يتعين كونه إذناً والله أعلم.
[باب بيع النجش والتلقي وبيع الحاضر لباد وبيعه على بيع غيره والعينة]
وهي بيوع محرمه، لما روى أبو هريرة أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد» متفق عليه. ومعنى النجش: أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغتر به المشتري، ويقتدي به فهو حرام، لأنه خداع، والشراء صحيح. وعنه: أنه باطل، لأن النهي يقتضي الفساد، والأولى أصح لأن النهي عاد إلى غير العقد، فلم يؤثر فيه، وللمشتري الخيار إن غبن غبناً يخرج عن العادة، سواء كان بمواطأة من البائع، أو لم يكن، لأنه غبن للتغرير(2/14)
بالعاقد، فأثبت الخيار، كتلقي الركبان، ولو قال البائع: أعطيت بهذه السلعة كذا كاذباً، فاشتراها المشتري لذلك فالبيع صحيح، وله الخيار لما ذكرناه.
فصل:
وتلقي الركبان: أن يخرج الرجل من المصر يتلقى الجلب قبل دخوله، فيشتريه، فيحرم للخبر، ولأنه يخدعهم ويغبنهم، فأشبه النجش، والشراء صحيح. وعنه: أنه باطل للنهي، والمذهب الأول، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى السوق فهو بالخيار» رواه مسلم.
والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح، ولأن النهي لضرب من الخديعة، أمكن استدراكها بالخيار، فأشبه بيع المصراة وللبائع الخيار إن غبن غبناً يخرج عن العادة، فإن لم يغبن فلا خيار له. ويحتمل أن له الخيار للخبر، والأول المذهب، لأنه إنما يثبت لدفع الضرر عن البائع، ولا ضرر مع عدم الغبن، والحديث يحمل على هذا، وجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له الخيار إذا هبط السوق يفهم منه الإشارة إلى معرفته بالغبن، فإن خرج لحاجة غير قصد التلقي، فقال القاضي: لا يجوز له الشراء لوجود معنى النهي، ويحتمل الجواز، لعدم دخوله في الخبر. والبيع للركبان كالشراء منهم، لأن النهي عن تلقيهم لدفع الغبن، والشراء والبيع فيه واحد.
فصل:
وبيع الحاضر للبادي: هو أن يخرج الحاضر إلى جلاب السلع، فيقول أنا أبيع لك، فهو حرام للخبر، ولأن فيه تضييقاً على المسلمين، إذ لو ترك الجالب يبيع متاعه باعه برخص، فإذا تولاه الحاضر لم يبعه برخص، وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك بقوله: «لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» .
وعنه: لا بأس به، وحمل الخبر على أنه اختص بأول الإسلام، لما كان عليهم من الضيق، والمذهب الأول للخبر والمعنى. قال أصحابنا: إنما يحرم بشروط خمسة: أحدها أن يكون الحاضر قد قصد البادي، ليتولى ذلك، والثاني: أن يكون البادي جاهلاً بالسعر، لأنه إذا كان عالماً به، فهو كالحاضر.
والثالث: أن يكون جلب السلعة لبيعها، فإن جلبها ليدخرها، فلا ضرر على الناس(2/15)
في بيع الحاضر له، ذكر الخرقي هذه الثلاثة.
وذكر القاضي شرطين آخرين: أن يقصد بيعها بسعر يومها، ويتضرر الناس بتأخير بيعه، فإذا اجتمعت هذه الشروط، فالبيع باطل للنهي عنه. وعنه: أنه صحيح، لأن النهي عنه لمعنى في غيره، فأما شراء الحاضر للبادي فصحيح، لأنه لا ضيق على الناس فيه، وإذا شرع ما يدفع به الضرر عن أهل المصر لا يلزم شرع ما يتضرر به أهل البدو، فإن الخلق في نظر الشارع على السواء.
فصل:
وأما البيع على بيع أخيه، فهو أن يقول لمن اشترى شيئاً في مدة الخيار: أنا أبيعك مثله بدون هذا الثمن، أو أجود منه بهذا الثمن، فيفسخ العقد، ويشتري سلعته، فيحرم للخبر، ولأن فيه إفساداً أو إنجاشاً. وإن فسخ البيع، واشترى سلعته فالشراء باطل للنهي عنه، وشراؤه على شراء أخيه، كبيعه على بيعه ويحتمل أن البيع صحيح، لأن النهي لمعنى في غير العقد.
فصل:
فأما سومه على سوم أخيه فننظر فيه، فإن كان البائع أنعم للمشتري البيع بثمن معلوم، حرم على غيره سومه، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يسم الرجل على سوم أخيه» رواه مسلم. وإن لم ينعم له جاز سومها، لما روى أنس «أن رجلاً شكا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشدة والجهد، فقال له: ما بقي لك شيء، قال: بلى قدح وحلس، فأتاه بهما فقال: من يبتاعهما؟ فقال رجل: أنا أبتاعهما بدرهم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يزيد على درهم؟ فأعطاه رجل درهمين، فباعهما منه» . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ولأن «فاطمة بنت قيس ذكرت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن معاوية وأبا جهم خطباها، فأمرها أن تنكح أسامة» . متفق عليه. فإن ظهرت منه أمارة الرضى منى غير تصريح به، فقال القاضي: لا تحرم المساومة لخبر فاطمة، ويحتمل أن تحرم لعموم النهي، وليس في خبر فاطمة أمارة على الرضى.
فصل:
فأما بيع العينة فهو أن يبيع سلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن حالاً، فلا يجوز لما روى سعيد، عن غندر، عن شعبة، عن أبي إسحاق عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل قالت: دخلت على عائشة أنا وأم ولد زيد بن أرقم، فقالت(2/16)
أم ولد زيد: إني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة درهم، فقالت لها: بئس ما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن يتوب. ولا تقول مثل هذا إلا توقيفاً سمعته من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن ذلك ذريعة إلى الربا، لأنه أدخل السلعة، ليستبيح بيع ألف بخمسمائة والذرائع معتبرة. فإن اشتراها بسلعة، جاز لأنه لا ربا بين الأثمان والعروض إن اشتراها بنقد غير الذي باعها به، فقال أصحابنا: يجوز لأن التفاضل بينهما جائز، ويحتمل التحريم، لأن النساء بينهما محرم، وإن اشتراها من غير المشتري أو اشتراها أبو البائع أو ابنه جاز. وإن نقصت السلعة لتغير صفتها جاز لبائعها شراؤها بأقل من الثمن، لأن نقص الثمن لنقصان السلعة. وإن نقصت لتغير السوق، أو زادت لم يجز شراؤها بأقل لما ذكرناه.
فصل:
فإن باعها بثمن حال نقده، ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة لم يجز نص عليه، لأنها في معنى التي قبلها سواء.
فصل:
وإن باع طعاماً إلى أجل بثمن، فلما حل الأجل أخذ منه بالثمن طعاماً لم يجز، لأنه ذريعة إلى بيع طعام بطعام نسيئة، فهو في معنى ما تقدم. وكل شيئين حرم النساء فيهما لم يجز أخذ أحدهما عن الآخر قبل قبض ثمنه، وقياس قول أصحابنا في مسألة العينة، أنه يجوز هاهنا أخذ ما يجوز التفاضل بينه وبين الطعام المبيع.
فصل:
ومن اشترى مكيلاً أو موزوناً لم يجز له بيعه حتى يقبضه في ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والخرقي، وما عداهما يجوز بيعه قبل القبض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه» . وقال ابن عمر: «رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيعوه حتى يؤوه إلى رحالهم» . متفق عليهما. وهذا لا يخلو من كونه مكيلاً أو موزوناً، والحديث يدل بصريحه على منع بيعه قبل قبضه، وبمفهومه على حل بيع ما عداه. وعن أحمد: أن المنع من البيع قبل القبض يخص المطعوم، لاختصاص الحديث به، وما ليس بمطعوم من المكيلات والموزونات يجوز بيعه قبل(2/17)
القبض. وعنه: أن المنع يختص ما ليس بمتعين، كقفيز من صبرة، ورطل زيت من دن. وما بيع صبرة، أو جزافاً جاز بيعه قبل قبضه، وهو قول القاضي وأصحابه، لأنه يتعلق به حق توفية بخلاف غيره. وعنه: أن كل مبيع لا يجوز بيعه قبل قبضه. لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار» رواه أبو داود.
وقال ابن عباس: أحسب كل شيء بمنزلة الطعام. ولأنه لم يتم ملكه عليه أشبه المكيل، والمذهب الأول. وما بيع بصفة أو برؤية متقدمة فهو كالمكيل، لأنه لا يتعلق به حق توفية، فأشبه المكيل والموزون، وما حرم بيعه قبل قبضه لم يجز بيعه لبائعه، لعموم النهي، ولا الشركة فيه، لأنه بيع لبعضه، ولا التولية، لأنه بيع بمثل الثمن الأول. فأما الثمن في الذمة، فيجوز بيعه لمن هو في ذمته لما روى ابن عمر قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير، ونبيع بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم، فسألنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: لا بأس إذا افترقتما وليس بينكما شيء» رواه أبو داود، ولا يجوز بيعه لغير من هو في ذمته، لأنه معجوز عن تسليمه، فأشبه بيع المغصوب لغير غاصبه، وما كان من الدين مستقرا كالقرض فهو كالثمن، وما كان غير مستقراً كالمسلم فيه لم يجز بيعه بحال، لا لصاحبه ولا لغيره، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» رواه أبو داود.
فصل:
وكل عقد ينفسخ بتلف عوضه قبل قبضه كالإجارة، والصلح حكمه حكم البيع فيما ذكرناه، وما لا ينفسخ كالخلع، والعتق على مال والصلح عن دم العمد جاز التصرف في عوضه قبل قبضه، طعاماً كان أو غيره، وكذلك أرش الجناية، وقيمة المتلف، والمملوك بإرث أو وصية أو غنيمة إذا تعين ملكه فيه، لأنه لا يتوهم غرر الفسخ بهلاك المعقود عليه جاز بيعه كالوديعة، والصداق كذلك. قاله القاضي لأنه لا ينفسخ العقد بتلفه، فهو كعوض الخلع. وقال الشريف وأبو الخطاب: هو كالمبيع، لأنه يخشى رجوعه بانفساخ النكاح بالردة فأشبه المبيع.
فصل:
وقبض كل شيء بحسبه، المكيل المبيع مكايلة قبضه كيله، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله» رواه مسلم. وإن بيع جزافاً فقبضه نقله لما روى ابن عمر قال: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا(2/18)
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . رواه مسلم. وقبض الذهب والفضة والجوهر باليد، وسائر ما ينقل قبضه نقله. وقبض الحيوان أخذه بزمامه، أو تمشيته من مكانه، وما لا ينقل قبضه التخلية بين مشتريه وبينه، لا حائل دونه، لأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف، كالإحياء والإحراز، والعادة ما ذكرناه، وعنه: أن القبض في جميع الأشياء بالتخلية. مع التميز، لأنه قبض فيما لا ينقل فكان قبضاً في غيره.
فصل:
وما يعتبر له القبض إذا تلف قبل قبضه إذا انفسخ العقد، وهو من مال البائع، لأنه تلف قبل تمام ملك المشتري عليه، فأشبه ما تلف قبل تمام البيع. وإن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن، لأنه تلف بتصرفه، فاستقر الثمن عليه كما لو قبضه. وإن أتلفه أجنبي لم ينفسخ العقد، لأن له بدلاً يرجع إليه، فلم ينفسخ العقد، كما لو تعيب. ويخير المشتري بين الفسخ والرجوع على البائع بالثمن، لأنه تلف بغير فعل المشتري، أشبه ما لو تلف بفعل الله تعالى، وبين إتمام العقد والرجوع ببدله، لأن الملك له، وإن أتلفه البائع احتمل أن يبطل العقد، لأنه يضمنه إذا تلف في يده بالثمن، فكذلك إذا أتلفه. وقال أصحابنا: الحكم فيه حكم ما لو أتلفه أجنبي، وإن تعيب قبل قبضه، فهو كما لو تعيب قبل بيعه، لأنه من ضمان البائع.
فصل:
وإذا باع شاة بشعير، فأكلته قبل قبضه ولم تكن يد بائعها عليها انفسخ البيع، لأن الثمن هلك قبل القبض بغير فعل آدمي، فإن كانت يده عليها، فهو كإتلافه له، وإن باعها مشتريها ثم هلك الشعير قبل قبضه انفسخ العقد الأول، ولم يبطل الثاني، لأن ذلك كان قبل فسخ العقد، وعلى بائعها الثاني قيمتها، لأنه تعذر عليه ردها، وهكذا إن كان بدله شقصاً فأخذه الشفيع انفسخ البيع الأول، وعلى المشتري رد قيمة الشقص، ويأخذ من الشفيع قيمة الطعام، لأنه الذي اشترى به الشقص.
فصل:
وما لا يحتاج إلى قبض إذا تلف، فهو من مال المشتري. لما روى حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه. قال: «مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً، فهو من مال المشتري» . ذكره البخاري. وهذا ينصرف إلى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن يمنعه البائع قبضه فيضمنه، لأنه تلف تحت يد عادية، أشبه ما لو تلف تحت يد الغاصب، وسواء حبسه على قبض الثمن أو غيره إلا أن يكون قد اشترط عليه الرهن في البيع.(2/19)
[باب تفريق الصفقة]
إذا باع ما يجوز بيعه، وما لا يجوز بيعه صفقة واحدة، كعبد وحر، وخل وخمر، وعبده وعبد غيره، أو دار له ولغيره ففيه روايتان:
إحداهما: تفرق الصفقة، فتجوز فيما يجوز بيعه بقسطه من الثمن، ويبطل فيما لا يجوز، لأن كل واحد منهما، له حكم منفرد، فإذا اجتمعا بقيا على حكمهما، كما لو باع شقصاً وسيفاً.
والثانية: يبطل فيهما، لأنه عقد واحد جمع حلالاً وحراماً فبطل، كالجمع بين الأختين، ويحتمل أن يصح فيما يجوز فيما ينقسم الثمن فيه على الأجزاء، كدار له ولغيره ونحوها، والقفيزين المتساويين، لأن الثمن فيما يجوز بيعه معلوم، ويبطل العقد فيما عدا هذا كالعبدين، لأن ثمن ما يجوز بيعه مجهول، لكون الثمن ينقسم عليهما بالقيمة، وقسط الحلال منهما مجهول لو صرح به، فقال: بعتك هذا العبد بقسطه من الثمن لم يصح، فكذا هاهنا. فإن قلنا يصح، وعلم المشتري الحال فلا خيار له، لأنه دخل على بصيرة ولا خيار للبائع بحال، وإن لم يعلم المشتري الحال فله الخيار، لأن عليه ضرراً في تفريق الصفقة، وإن اشترى معلوماً ومجهولاً بطل العقد فيهما، لأن ما يخص المعلوم من الثمن مجهول. ولو باع قفيزين من الحلال بثمن واحد، فتلف أحدهما قبل قبضه لم ينفسخ العقد في الباقي منهما، سواء كانا من جنس واحد أو جنسين، لأن حدوث الجهل بثمن الباقي منهما لا يوجب جهالة المبيع حال العقد. قال القاضي: ويثبت للمشتري خيار الفسخ، لتفريق الصفقة عليه فأشبه ما قبلها.
فصل
فإن جمع بين عقدين مختلفي الحكم، كبيع وإجارة، أو صرف بعوض واحد صح فيهما، لأن اختلاف حكم العقدين لا يمنع الصحة، كما لو جمع بين ما فيه شفعة، وما لا شفعة فيه، وفيه وجه آخر لا يصح، لأن حكمهما مختلف، وليس أحدهما أولى من الآخر فبطل فيهما، فإن البيع فيه خيار. ولا يشترط التقابض فيه في المجلس، ولا ينفسخ العقد بتلف المبيع والصرف، ويشترط له التقابض، وينفسخ العقد بتلف العين في الإجارة، وإن جمع بين نكاح وبيع بعوض واحد، فقال: زوجتك ابنتي، وبعتك داري بمائة صح في النكاح، لأنه لا يفسد بفساد العوض، وفي البيع وجهان. وإن جمع بين بيع وكتابة، فقال لعبده: بعتك عبدي هذا، وكاتبتك بمائة بطل البيع وجهاً واحداً، لأنه باع عبده لعبده فلم يصح، كبيعه إياه من غير كتابة، وهل تبطل الكتابة؟ يخرج على الروايتين في تفريق الصفقة.(2/20)
فصل
ولو باع رجلان عبداً لهما بثمن واحد صح لأن حصة كل واحد منهما من الثمن معلومة. ولو كان لكل واحد منهما قفيز، وكانا من جنس واحد فباعاهما صفقة واحدة صح لذلك. وإن كان المبيع مما لا ينقسم الثمن عليه، مثل إن كان لكل واحد منهما عبد فباعاهما صفقة واحدة، أو وكلا رجلاً فباعهما أو وكل أحدهما الآخر فباعهما بثمن واحد لم يصح، لأن كل واحد منهما مبيع بحصته من الثمن فلم يصح، كما لو صرح به، ويحتمل أن يصح بناء على تفريق الصفقة، أو كما لو كاتب عبدين كتابة واحدة بعوض واحد.
[باب الثنيا في البيع]
باب الثنيا إذا باع حائطاً واستثنى شجرة بعينها، أو قطيعاً واستثنى شاةً بعينها صح لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن الثنيا، إلا أن تعلم» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. وهذه معلومة، وإن استثنى شجرة أو شاة يختارها لم يصح للخبر. وإن استثنى آصعاً معلومة أو باع نخلة، واستثنى أرطالاً معلومة، فعنه: أنه يصح للخبر. والمذهب أنه لا يصح، لأن المبيع إنما علم بالمشاهدة، والاستثناء يغير حكم المشاهدة، فإنه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة، ولو باعه الصبرة إلا قفيزاً لم يصح لذلك. وإن باعه قفيزاً من هذه الصبرة إلا مكوكاً صح، لأن القفيز معلوم، والمكوك منه معلوم. وإن باعه داراً إلا ذراعاً، وهما يعلمان ذرعانها جاز، وكان مشاعاً منها، وإلا لم يجز، كما لو باعه ذراعاً منها، وإن باعه سمسماً إلا كسبه، أو قطناً إلا حبه، أو شاة إلا شحمها، أو فخذها لم يصح، لأنه مجهول فيدخل في الخبر. وإن استثنى حملها، فعنه أن يصح، لأن ابن عمر أعتق جارية، واستثنى ما في بطنها.
وعنه: لا يصح، وهو أصح للخبر. فإن باع جارية حاملاً بحر، وقلنا: يصح استثناء الحمل صح هاهنا، وإن قلنا: لا يصح ثم، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، لأنه استثناه في الحقيقة.
والثاني: يصح، لأنه قد يقع مستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه بالشرط، بدليل بيع الأمة المزوجة.
وإن باع حيواناً مأكولاً واستثنى رأسه وجلده وسواقطه صح. نص عليه، لأنها ثنيا معلومة وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين هاجر إلى المدينة مر براع فذهب أبو بكر وعامر بن فهيرة، فاشتريا منه شاة، وشرطا له سلبها» . فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر(2/21)
وعليه قيمة ذلك لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قضى في رجل اشترى ناقة، وشرط ثنياها فقال: اذهبوا معه إلى السوق، فإن بلغت أقصى ثمنها، فأعطوه حساب ثنياها من ثمنها. وعن الشعبي قال: قضى زيد بن ثابت، وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بقرة باعها رجل، واشترط رأسها بالشروى. يعني أن يعطيه رأساً مثل رأس.
فصل:
ومن باع شيئاً، واستثنى منفعته مدة معلومة، كجمل اشترط ركوبه إلى موضع معين، وداراً استثنى سكناها شهراً، وعبداً استثنى خدمته سنة صح لما روى جابر: أنه «باع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جملاً واشترط ظهره إلى المدينة» . متفق عليه. ولأنها ثنيا معلومة، فتدخل في خبر أبي هريرة، فإن عرض المشتري على البائع عوضها لم يلزمه قبوله، لأن حقه تعلق بعينها، فأشبه ما لو استأجرها، وإن أراد البائع إجارتها تلك المدة، فقال ابن عقيل: يصح في قياس المذهب، لأنه استحق نفعها فملك إجارتها كالمستأجر. وإن أتلف المشتري العين، فعليه قيمة المنفعة، لتفويته حق غيره. وإن تلف بغير تفريط، فكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقتضي ذلك بعمومه، ويحتمل أن لا يضمن، لأن البائع لم يملك المنفعة من جهة المشتري، فلم يلزمه عوضها له، كما لو تلفت النخلة المبيعة مؤبرة بثمرتها والحائط الذي استثني منه شجرة، ويحمل كلام أحمد على من فرط. وإن باع المشتري العين صح وتكون المنفعة مستثناة في يد المشتري، فإن لم يعلم به فله الخيار، لأنه عيب، فهو كالتزويج في الأمة، ومن باع أمة واستثنى وطأها لم يصح، لأنه لا يحل إلا في تزويج، أو في ملك يمين، ومن استثنى مدة غير معلومة لم يصح للخبر.
[باب الشروط في البيع]
وهي على أربعة أضرب:
أحدها: ما هو من مقتضى البيع، كالتسليم والرد بالعيب فهذا لا أثر له، لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد.
الثاني: ما هو من مصلحته، كالخيار والأجل والرهن والضمين، فهذا شرط صحيح لازم، ورد الشرع به نذكره في مواضعه.
الثالث: شرط ينافي مقتضى العقد وهو نوعان:
أحدهما: ما لم يبن على التغليب والسراية، كشرط أن لا يملك، ولا يتصرف، ولا يسلم أو لا يعتق، أو إن أعتق فالولاء له أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو إن(2/22)
خسر فيه، فعلى البائع فهذا شرط باطل، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة لما أرادت شراء بريرة، فاشترط أهلها ولاءها: «اشتريها فأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق ثم قال: من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط» متفق عليه.
وهل يفسد البيع به؟ فيه روايتان:
إحداهما: لا يفسد، لحديث بريرة.
والثانية: يفسد، لأنه إذا فسد الشرط وجب رد ما في مقابلته من الثمن، وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً.
النوع الثاني: أن يشتريه بشرط أن يعتقه ففيه روايتان:
إحداهما: الشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى البيع، فأشبه ما قبله.
والثانية: يصح لأن عائشة اشترت بريرة لتعتقها، فأجازه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعلى هذا إن امتنع المشتري من العتق أجبر عليه في أحد الوجهين، لأنه عتق مستحق عليه، فأجبر عليه كما لو نذر عتقه.
والثاني: لا يجبر عليه لأن الشرط لا يوجب فعل المشروط، كما لو شرط رهناً أو ضميناً لم يجبر، ولكن يثبت للبائع خيار الفسخ كمشترط الرهن، فإن مات العبد رجع البائع على المشتري بما نقصه شرط العتق، وإن كان المبيع أمة فأحبلها أعتقها وأجزأه لأن الرق باق فيها.
الرابع: ما لا ينافي مقتضى العقد، ولا هو من مصلحته، وهو نوعان:
أحدهما: أن يشرط عقداً آخر، مثل أن يبيعه بشرط أن يبيعه عيناً أخرى أو يؤجره أو يسلفه، أو يشتري منه، أو يستسلف، فهذا شرط فاسد يفسد العقد به، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح. ونهى عن بيعتين في بيعة وهذا منه.
الثاني: أن يشترط المشتري منفعة البائع في المبيع، فيصح إذا كانت معلومة، مثل أن يشتري ثوباً، ويشترط على بائعه خياطه قميصاً، أو فلعة ويشترط حذوها نعلاً، أو حطباً ويشترط حمله، لأن محمد بن مسلمة اشترى من نبطي جرزة حطب وشرط عليه حملها، واشتهر ذلك فلم ينكر، ولأنه بيع، وإجارة فصح، كما لو باعه عبده وأجره داره في عقد واحد. وقال الخرقي: إن شرط مشتري الرطبة جزها على بائعها بطل(2/23)
العقد، فيحتمل أن يخص قوله بهذه الصورة وشبهها لإفضائه إلى التنازع، فإن البائع يريد قطعها من أعلاها، لتبقى له منها بقية، والمشتري يريد، الاستقصاء عليها، ويحتمل أن يعدى حكمها إلى كل عقد شرط فيه منفعة البائع، لأنه شرط عقداً في عقد، فأشبه ما قبله. وقال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي رواية في المذهب، والمذهب جوازه. فإن شرط شرطين، مثل أن اشترط خياطة الثوب وقصارته، وفي الحطب حمله وتكسيره، أو اشترط منفعة البائع، واشترط البائع منفعة المبيع مدة معلومة فسد العقد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا شرطان في بيع» وإن شرط منفعة معلومة لم يصح لإفضائه إلى التنازع.
فصل:
فإن شرط في البيع أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يصح، لأنه شرطان في بيع، لأنه شرط أن يبعه إياه، وأن يعطيه إياه بالثمن ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد، لأنه شرط أن لا يبيعه لغيره.
والثانية: يصح، لأنه يروى عن ابن مسعود أنه اشترى أمة بهذا الشرط. وإن قلنا بفساده فهل يفسد [به] البيع؟ فيه روايتان.
فصل:
وكل موضع فسد العقد لم يحصل به ملك وإن قبض، لأنه مقبوض بعقد فاسد، فأشبه ما لو كان الثمن ميتة، ولا ينفذ تصرف المشتري فيه، وعليه رده بنمائه المنفصل والمتصل، وأجرة مثله مدة مقامه في يديه، ويضمنه إن تلف أو نقص بما يضمن به المغصوب، لأنه ملك غيره حصل في يده بغير إذن الشرع، أشبه المغصوب، ولا حد عليه إن وطئ للشبهة، وعليه مهر مثلها، وأرش بكارتها إن كانت بكراً، والولد حر، لأنه من وطء شبهة، ويلحق نسبة به لذلك، ولا تصير به الجارية أم ولد، لأنها ولدت في غير ملك. وإن حكمنا بفساد الشرط وحده، فقال القاضي: يرجع المشتري بما نقص، لأنه إنما سمح به، لأجل الشرط، فإذا لم يحصل رجع بما سمح به.
فصل:
ولا يحل البيع بعد النداء للجمعة قبل الصلاة لمن تجب عليه الجمعة، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] . فإن باع لم يصح للنهي ويجوز ذلك لمن لا تجب عليه الجمعة، لأن الخطاب بالسعي لم يتناوله، فكذلك النهي والنداء الذي تعلق به السعي والنهي هو(2/24)
الثاني الذي يكون عند صعود الإمام المنبر، لأنه الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتعلق الحكم به، وإنما زاد الأول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وفي النكاح والإجارة وجهان:
أحدهما: حكمهما حكم البيع، لأنهما عقدا معاوضة.
والثاني: يصحان، لأنهما غير منصوص عليهما وليسا في معنى المنصوص عليه، لأنهما لا يكثران، فلا تؤدي إباحتهما إلى ترك الجمعة بخلاف البيع.
فصل:
ولا يحل التسعير، لما روى أنس قال: «غلا السعر على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله قد غلا السعر فسعر لنا، فقال: إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق إني لأرجو أن ألقى الله، وليس أحد يطلبني بمظلمة» قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
ولأنه ظلم للبائع بإجباره على البيع سلعته سلعته بغير حق، أو منعه من بيعها بما يتفق عليه المتعاقدان، وهو من أسباب الغلاء، لأنه يقطع الجلب، ويمنع الناس من البيع فيرتفع السعر.
فصل:
والاحتكار محرم، لما روى سعيد بن المسيب، عن معمر بن عبد الله أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من احتكر فهو خاطئ» رواه مسلم وأبو داود.
والاحتكار المحرم: ما جمع أربعة أوصاف، أن يشتري قوتاً يضيق به على الناس في بلد فيه ضيق، فأما الجالب فليس بمحتكر، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» ولأنه لا ضرر على الناس على جلبه. ومن استغل من أرضه شيئاً فهو كالجالب. ولا يمنع من احتكار الزيت، وما ليس بقوت، لأن سعيد بن المسيب راوي الحديث كان يحتكر الزيت ومن اشترى في حال الرخص على وجه لا يضيق على أحد، فليس بمحتكر، لأنه لا ضرر فيه، بل ربما كان نفعاً.
فصل:
وبيع التلجئة: وهو أن يخاف الرجل ظالماً يأخذ ماله، فيواطئ رجلاً يظهر بيعه(2/25)
إياه ليحتمي بذلك، ولا يردان بيعاً حقيقياً فلا يصح لأنهما ما قصداه فهو كبيع المكره.
[باب الخيار في البيع]
وهو على ضربين:
أحدهما: خيار المجلس، فلكل واحد من المتبايعين الخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا بأبدانهما، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البيعان في الخيار ما لم يتفرقا» متفق عليه. والتفرق: أن يمشي أحدهما عن صاحبه بحيث إذا كلمه الكلام المعتاد في المجلس لا يسمعه، لأن ابن عمر كان إذا بايع رجلاً، فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة، ثم رجع وهو راوي الحديث، وأعلم بمعناه، ولأن الشرع ورد بالتفرق مطلقاً فوجب أن يحتمل على التفرق المعهود، وهو يحصل بما ذكرناه. فإن لم يتفرقا بل بني بينهما حاجز، أو أرخي بينهما ستر أو نحوه أو ناما أو قاما عن مجلسهما فمشيا معاً، فهما على خيارهما، لأنهما لم يتفرقا. وإن فر أحدهما من صاحبه بطل خيارهما، لأن ابن عمر كان يفارق صاحبه بغير أمره، ولأن الرضى في الفرقة غير معتبر، كما لا يعتبر الرضى في الفسخ، وإن أكرها على التفريق ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل الخيار، لأنه لا يعتبر الرضى من أحد الجانبين، فكذلك منهما.
والثاني: لا يبطل لأنه معنى يلزم به البيع فلا يلزم به مع الإكراه كالتخاير، فعلى هذا يكون الخيار لهما في المجلس الذي زال عنهما الإكراه فيه حتى يفارقاه، فإن أكره أحدهما بطل خيار الآخر، كما لو هرب منه، وللمكره الخيار في أحد الوجهين.
فصل:
فإن تبايعا على أن لا خيار بينهما، أو قالا: بعد البيع اخترنا إمضاء العقد، أو أجزنا العقد، ففيه روايتان:
إحداهما: هما على خيارهما، لعموم الخبر.
والثانية: لا خيار لهما، لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خير أحدهما صاحبه، فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع» .(2/26)
وفي لفظ: «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع كان على خيار، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع» متفق عليهما وفي لفظ «أو يقول أحدهما لصاحبه اختر» . رواه البخاري. وهذه زيادة يجب قبولها، فإن قال أحدهما لصاحبه: اختر فسكت، فخيار الساكت بحاله، لأنه لم يوجد منه ما يبطله، وفي خيار القائل وجهان:
أحدهما: يبطل للخبر، ولأنه جعل الخيار لغيره، فلم يبقى له شيء.
والثاني: لا يبطل كما لو قال لزوجته: اختاري فسكتت لم يبطل خياره في الطلاق.
فصل:
ويثبت خيار المجلس في كل بيع للخبر، ولأنه شرع للنظر في الحظ، وهذا يوجد في كل بيع. وعنه: لا يثبت في الصرف والسلم، وما يشرط فيه القبض في المجلس، لأنه لا يثبت فيه خيار الشرط.
فصل:
الضرب الثاني: خيار الشرط، نحو أن يشترط الخيار في البيع مدة معلومة، فيجوز بالإجماع، ويثبت فيما يتفقان عليه من المدة المعلومة، وإن زادت على ثلاث، لأنه حق يعتمد الشرط، فجاز ذلك فيه كالأجل، ويجوز شرطه لأحدهما دون صاحبه، ولأحدهما أكثر من صاحبه، لأنه ثبت بشرطهما فكان على حسبه. ولو اشترى شيئين صفقة واحدة، وشرط الخيار في أحدهما بعينه صح وإن شرطه في غير معين منهما، أو لأحد المتبايعين غير معين لم يصح لأنه مجهول، فأشبه بيع أحد العبدين. وإن شرط الخيار الأجنبي صح، وكان مشترطاً لنفسه موكلاً لغيره فيه، لأنه أمكن تصحيحه على هذا الوجه فتعين. ولمشترط الخيار الفسخ بغير رضى الأجنبي، وللأجنبي الفسخ إلا أن يعزله المشترط، ولو شرط الخيار للعبد المبيع صح لأنه كالأجنبي. وقال القاضي: إن جعل الأجنبي وكيلاً فيه صح. وإن أطلق الخيار لفلان، أو قال: هو لفلان دوني لم يصح، لأن الخيار جعل لتحصيل الحظ للمتعاقدين بنظرهما، فلا يكون لمن لا حظ له. وإن كان العاقد وكيلاً، فشرط الخيار للمالك صح، لأن الحظ له. وإن جعله للأجنبي لم يصح، لأنه ليس له توكيل غيره، وإن شرط لنفسه صح، لأن له النظر في تحصيل الحظ. وإن قال: بعتك على أن أستأمر فلاناً في مدة معلومة صح، وله الفسخ قبل استئماره، لأن ذلك كناية عن الخيار، وإن لم يجعل له مدة معلومة، فهو كالخيار المجهول.(2/27)
فصل:
وإذا شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو غروبها، أو إلى الغد، أو إلى الليل صح، لأنه وقت معلوم، ولا يدخل الغد، ولا الليل في مدة الخيار، لأن إلى للغاية وموضوعها لفراغ الشيء وانتهائه. وإن شرطاه ثلاثاً، أو ساعات معلومة فابتدأ مدته من حين العقد، لأنها مدة ملحقة بالعقد، فكان بدؤها منه كالأجل، ولأن جعله من حين التفريق يفضي إلى جهالته، لأنه لا يدرى متى يفترقان، ويحتمل أن يكون بدء مدته من حين التفريق، لأن الخيار ثابت في المجلس حكماً فلا حاجة إلى إثباته بالشرط، فعلى هذا إن جعلا بدأه من العقد صح، لأن بدايته ونهايته معلومان. ويحتمل أن لا يصح، لأن ثبوت الخيار بالمجلس يمنع ثبوته بغيره، وعلى الوجه الأول لو جعلا بدأه من التفريق لم يصح لجهالته.
فصل:
فإن شرطا خياراً مجهولاً لم يصح، لأنها مدة ملحقة بالعقد، فلم تصح مجهولة كالتأجيل، وهل يفسد العقد به؟ على روايتين. وعنه: أنه يصح مجهولاً لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» رواه الترمذي: وقال حديث حسن صحيح. فعلى هذا إن كان الخيار مطلقاً مثل أن يقول: لك الخيار متى شئت، أو إلى الأبد، فهما على خيارهما أبداً أو يقطعاه، وإن قال: إلى أن يقدم زيد، أو ينزل المطر ثبت الخيار إلى زمن اشتراطه، أو يقطعاه قبله. وإن شرطاه إلى الحصاد أو الجذاذ، ففيه روايتان:
إحداهما: هو مجهول، لأن زمن ذلك يختلف، فيكون كقدوم زيد.
والثانية: يصح لأن مدة الحصاد تتقارب في العادة في البلد الواحد، فعفي عن الاختلاف فيه. وإن شرطه إلى العطاء يريد وقت العطاء صح لأنه معلوم، وإن أراد نفس العطاء فهو مجهول، لأنه يتقدم ويتأخر، وإن شرط الخيار شهراً يوماً يثبت ويوماً لا ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت في اليوم لأول، لأنه معلوم يلي العقد، ويبطل فيما بعده، لأنه إذا لزم لم يعد إلى الجواز، ويحتمل أن يبطل الشرط كله، لأنه شرط واحد، فإذا فسد في البعض فسد في الكل.(2/28)
فصل:
ولمن له الخيار الفسخ من غير حضور صاحبه ولا رضاه، لأنه عقد جعل إلى اختياره، فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه، كالطلاق. ومتى انقضت مدته قبل الفسخ لزم العقد على كل حال، لأنها مدة ملحقة بالعقد، فبطلت بانتهائها كالأجل، ويبطل الخيار بالتخاير، كما يبطل خيار المجلس به، ولو ألحقا بالعقد خياراً بعد لزومه لم يلحقه، لأنه عقد لازم، فلم يصر جائزاً بقولهما كالنكاح، وإن فعلا ذلك في مدة الخيار جاز، لأنه جائز فجاز إبقاؤه على جوازه.
فصل:
وينتقل الملك إلى المشتري في بيع الخيار بنفس العقد.
وعنه: لا ينتقل إلا بعد انقضائه، لأنه عقد قاصر لا يفيد التصرف، فلم ينقل الملك، كالهبة قبل القبض، والأول ظاهر المذهب، لأن البيع سبب لنقل الملك، فنقل عقيبه كالمطلق، ولأنه تمليك، فأشبه المطلق. وليس منع التصرف لقصور السبب، بل لتعلق حق البائع بالمبيع، وما يحصل من غلة المبيع في مدة الخيار، ونمائه المنفصل، فهو للمشتري سواء فسخا العقد أو أمضياه لأنه نماء ملكه الداخل في ضمانه، ولأنه من ضمانه فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان» وعلى الرواية الأخرى هو للبائع، والحكم في ضمانه كالحكم في ضمان المبيع المطلق.
فصل:
وليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار، لأنه ليس بملك للبائع، فيتصرف فيه، ولا انقطعت عنه علاقته، فيتصرف فيه المشتري، فإن تصرفا بغير العتق، لم ينفذ تصرفهما لذلك. وعنه في تصرف المشتري: أنه موقوف، إن فسخ البائع بطل، وإن لم يفسخ صح لعدم المبطل له، ذكرها ابن أبي موسى. وإن كان الخيار للمشتري وحده صح لذلك، وإن أعتق المشتري العبد عتق، لأنه عتق من مالك تام الملك، جائز التصرف، فنفذ كما بعد المدة، فإن قلنا: الملك للبائع نفذ عتقه، ولا ينفذ عتق من لا ملك له، لأنه عتق من غير مالك، فأشبه الأجنبي. وفي الوقف وجهان:
أحدهما: هو كالعتق، لأنه تصرف يبطل الشفعة، والصحيح: أنه لا ينفذ، لأنه لا يبنى على التغليب، ولا يسري إلى ملك الغير، أشبه البيع.
فصل:
فإن وطئ المشتري الجارية، فلا حد عليه ولا مهر، وإن ولدت منه فالولد حر،(2/29)
ولا تلزمه قيمته، وتصير أم ولد، لأنه وطئ مملوكته. وإن وطئ البائع فعليه المهر لأنه وطئ في غير ملك. وإن علم التحريم فولده رقيق، لا يلحقه نسبه كما لو وطئ بعد المدة. وإن جهل التحريم فلا حد عليه، وولده أحرار، وعليه قيمتهم يوم الولادة، لأنه يعتقد أنه يحبلها في ملكه، فأشبه المغرور من أمة، ولا تصير أم ولد بحال. قال بعض أصحابنا: وعليه الحد إن علم التحريم، وأن البيع لا ينفسخ به، وذكر أن أحمد نص عليه، لأن وطأه لم يصادف ملكاً، ولا شبهة ملك. والصحيح أنه لا حد عليه، لأن أهل العلم اختلفوا في ملكه لها، وحل وطئها، وهذه شبهة يدرأ الحد بها. ولأن ملكه يحصل بوطئه، فيحصل تمام وطئه في ملكه، فلا يجب الحد به. وإن قلنا بالرواية الأخرى انعكست هذه الأحكام.
فصل:
وطء البائع فسخ للبيع، لأنه دليل على الاسترجاع، فأشبه من أسلم على أكثر من أربع، فوطئ إحداهن كان اختياراً لها. ووطء المشتري رضى بالمبيع، وإبطال لخياره لذلك، وسائر التصرفات المختصة بالملك، كالعتق والكتابة والبيع والوقف، والهبة، والمباشرة، واللمس لشهوة، وركوب الدابة لسفر أو حاجة، والحمل عليها، وشرب لبنها، وسكنى الدار وحصاد الزرع ونحوه إن وجد من المشتري بطل خياره، لأنه يبطل بالتصريح بالرضى فبطل بدلالته كخيار المعتقة، يبطل بتمكينها زوجها من وطئها. وإن تصرف البائع بذلك، ففيه وجهان:
أحدهما: هو فسخ للبيع لذلك. والآخر لا يكون فسخاً، لأن الملك انتقل عنه، فلم يكن تصرفه استرجاعاً، كمن وجد ماله عند مفلس فتصرف فيه. وقال أبو الخطاب: هل يكون تصرف البائع فسخاً للبيع، وتصرف المشتري رضى بالبيع، وفسخاً لخياره؟ على وجهين. وأما ركوب المشتري الدابة لينظر سيرها، وطحنه على الرحى ليختبرها، فلا يبطل الخيار، لأن الاختيار هو المقصود بالخيار. وإن استخدم العبد ليختبره لم يبطل خياره لذلك، وإن استخدمه لغير ذلك ففيه روايتان:
إحداهما: يبطل خياره، لأنه تصرف منه، أشبه الركوب للدابة.
والثانية: لا يبطل، لأنه لا يختص الملك، أشبه النظر. وإن قبلت الجارية المشتري لشهوة لم يبطل خياره، لأنها قبلة لأحد المتابعين، فلم يبطل خياره، كقبلتها للبائع، ولأنا لو أبطلنا خياره بهذا أبطلناه من غير رضاه بالمبيع، ولا دلالة عليه. ويحتمل أن يبطل خياره إذا لم يمنعها، لأن إقراره عليه رضى به.(2/30)
فصل:
وإن أعتق المشتري الجارية، أو استولدها، أو أتلفت المبيع، أو تلف في يده لم يبطل خيار البائع، لأنه لم يوجد منه رضى بإبطاله. وله أن يفسخ ويرجع ببدل المبيع، وهو مثله إن كان مثلياً وإلا قيمته يوم أتلفه. وعنه: أن خياره يبطل بذلك، اختارها الخرقي، لأنه خيار فسخ، فبطل بتلف المبيع، كخيار الرد بالعيب.
فصل:
وإن مات أحد المتبايعين بطل خياره، ولم يثبت لورثته، لأنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه، فلم يورث، كخيار الرجوع في الهبة. ويتخرج أن يورث قياساً على الأجل في الثمن. وإن جن أو أغمي عليه، قام وليه مقامه، لأنه قد تعذر منه الاختيار مع بقاء ملكه. وإن خرس ولم يفهم إشارته، فهو كالمجنون وإن فهمت إشارته قام مقام لفظه. وإن مات في خيار المجلس بطل خياره، وفي خيار صاحبه وجهان:
أحدهما: يبطل لأن الموت أعظم الفرق.
والثاني: لا يبطل، لأن الفرقة بالأبدان لم تحصل.
[باب الربا]
الربا محرم، لقول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وما بعدها من الآيات، وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لعن الله آكل الربا، وموكله وشاهديه وكاتبه» متفق عليه. وهو على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة، والأعيان على الربا فيها ستة مذكورة في حديث عبادة بن الصامت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الذهب بالذهب مثلاً بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلاً بمثل، والبر بالبر مثلاً بمثل، والشعير بالشعير مثلاً بمثل، والملح بالملح مثلاً بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد» رواه مسلم.(2/31)
واختلفت الرواية في علة الربا ثلاث روايات. فأشهرهن: أن علته في الذهب والفضة الوزن والجنس، وفي غيرهما الكيل والجنس، لما روي عن عمار أنه قال: العبد خير من العبدين، والثوب خير من الثوبين، فما كان يداً بيد فلا بأس به، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن. ولأنه لو كانت العلة الطعم لجرى الربا في الماء، لأنه مطعوم، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] فعلى هذا يحرم التفاضل في كل مكيل، أو موزون من جنس، سواء كان مطعوماً كالقطنيات، أو غير مطعوم كالأشنان والحديد. ويجري الربا فيما كان جنسه مكيلاً أو موزوناً، وإن تعذر الكيل فيه أو الوزن، إما لقلته، كالتمرة والقبضة وإما دون الأرزة من الذهب والفضة، وإما لعظمه كالزبرة العظيمة، وإما للعادة كلحم الطير، لأنه من جنس فيه الربا، فجرى فيه الربا كالزبرة العظيمة. وما نسج من القطن والكتان لا ربا فيه نص عليه، لحديث عمار وما عمل من الحديد ونحوه ما كان يقصد وزنه جرى فيه الربا، لأنه تقصد زنته، فجرى فيه الربا، كلحم الطير، وما لا تقصد زنته لا يجري فيه الربا كالثياب. والرواية الثانية: العلة في الذهب والفضة: الثمينة غالباً، وفيها عداهما كونه مطعوم جنس، لما روى معمر بن عبد الله أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل» . رواه مسلم. ولأنه لو كان الوزن علة فلم يجز إسلام النقد في الموزنات، لأن اجتماع المالين في أحد وصفي علة ربا الفضل يمنع النساء، بدليل إسلام المكيل في المكيل، فعلى هذه الرواية يحرم التفاضل في كل مطعوم بيع بجنسه من الأقوات، والأدام والفواكه والأدوية والأدهان المطيبة وغيرها. وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً، كالبطيخ والرمان والبيض ونحوها. والرواية الثالثة: العلة كونه مطعوم جنس مكيلاً أو موزوناً، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل» . والمماثلة المعتبرة هي المماثلة في الكيل والوزن، فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن، ولا يحرم فيما لا يطعم كالأشنان والحديد، ولا فيما لا يكال كالبطيخ والرمان.
فصل:
وما يجري فيه الربا اعتبرت المماثلة فيه في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل، والشعير بالشعير كيلاً بكيل» رواه الأثرم. ولا يجوز بيع مكيل بجنسه وزناً، ولا موزون كيلاً للخبر، ولأنه لا يلزم من تساويهما في أحد المعيارين التساوي في الآخر، لتفاوتهما في الثقل والخفة، ولا يجوز بيع بعضه ببعض جزافاً من الطرفين، ولا من(2/32)
أحدهما، لما روى جابر قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الصبرة لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر» رواه مسلم. ولأن المماثلة لا تعلم بدون الكيل من الطرفين، فوجب ذلك. وما لا يكال ولا يوزن يعتبر التماثل فيه بالوزن، لأنه أحصر، ومنه ما لا يتأتى كيله.
فصل:
والمرجع في الكيل والوزن إلى عادة أهل الحجاز، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة» وما لا عرف له بالحجاز يعتبر بأشبه الأشياء به بالحجاز في أحد الوجهين، لأن الحوادث ترد إلى أقرب الأشياء شبهاً بها وهو القياس. والثاني ترد إلى عرفه في موضعه، لأن ما لا حد له في الشرع يرد إلى العرف، كالقبض والحرز.
فصل:
والجيد والرديء، والتبر والمضروب، والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع متماثلاً وتحريمه متفاضلاً، للخبر وفي بعض ألفاظه «الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها» رواه أبو داود. وفي لفظ «جيدها ورديئها سواء» .
فصل:
ولا يحرم التفاضل إلا في الجنس الواحد، للخبر والإجماع، وكل شيئين اتفقا في الاسم الخاص من أصل الخلقة فهما جنس، كأنواع التمر وأنواع البر. وإن اختلفا في الاسم من أصل الخلقة فهما جنسان، كالستة المذكورة في الخبر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم الزيادة فيها إذا بيع منها شيء بما يوافقه في الاسم، وأباحها إذا بيع بما يخالفه في الاسم، فدل على أن ما اتفقا في الاسم جنس، وما اختلفا فيه جنسان. وعنه: أن البر والشعير جنس، لأن معمر بن عبد الله قال لغلامه فيهما لا تأخذن إلا مثلاً بمثل، «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الطعام إلا مثلاً بمثل» رواه مسلم. والمذهب الأول، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الأعيان الستة «فإذا اختلفت هذه الأصناف الستة فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد» رواه مسلم. وقال «لا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما يداً(2/33)
بيد» . رواه أبو داود وحديث معمر لا بد فيه من إضمار الجنس الواحد.
فصل:
والمتخذ من أموال الربا معتبر بأصله فما أصله جنس واحد فهو جنس واحد، وإن اختلفت أسماؤه. وما أصله أجناس فهو أجناس، وإن اتفقت أسماؤه، فدقيق الحنطة والشعير جنسان، ودهن اللوز والجوز جنسان، وزيت الزيتون والبطم جنسان، وكذلك خل العنب وخل التمر. وعنه: أنهما جنسان، والأول أصح، لأنهما فرعا أصلين مختلفين، فكانا جنسين كالأدقة، وفي اللحم ثلاث روايات:
إحداهن: أنه كله جنس واحد، لأنه اشترك في الاسم الواحد حال حدوث الربا فيه، وكان جنساً واحداً كالتمر.
والثانية: أنه أربعة أجناس لحم الأنعام، ولحم الوحش، ولحم الطير، ولحم دواب الماء، لأنها تختلف منفعتها والقصد إلى أكلها، فكانت أجناساً.
والثالثة: أنها أجناس، فكانت أجناساً، كالتمر الهندي والبرني، وبهذا ينتقض دليل الرواية الأولى، والثانية لا أصل لها، فعلى هذه الرواية لحم بهيمة الأنعام كلها ثلاثة أجناس، ولحم بقر الوحش والأهلية جنسان، وكل ما انفرد باسم وصفة فهو جنس. وقال ابن أبي موسى: لا خلاف عن أحمد أن لحم الطير والسمك جنسان، وفي الألبان من القول نحو مما في اللحم، لأنها من الحيوانات يتفق اسمها فأشبهت اللحم.
فصل:
واللحم والشحم والكبد والطحال والرئة والكلية والقلب والكرش أجناس، لأنها مختلفة في الاسم والخلقة. قال بعض أصحابنا: الشحم والألية جنسان لذلك، وقالوا: اللحم الأحمر والأبيض الذي على الظهر والجنبين جنس، لاتفاقهما في الدسم المقصد ويحتمل أن يكون الشحم الذي يذوب بالنار كله جنساً واحداً لاتفاقهما في اللون والصفة والذوب بالنار. وقد قال الله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] . فاستثناه من الشحم.
فصل:
ولا يجوز بيع ما فيه ربا بعضه ببعض، ومعهما أو مع أحدهما، من غير جنسه،(2/34)
كمد بر ودرهم بمد ودرهم، أو بمدين أو درهمين. وعنه، ما يدل على الجواز إذا كان مع كل واحد منهما من غير جنسه، أو كان المفرد أكثر ليكون الزائد في مقابلة غير الجنس، والأول المذهب، لما روى فضالة بن عبيد قال: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها بتسعة دنانير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا حتى تميز بينهما» . رواه أبو داود.
ولأن الصفقة إذا جمعت شيئين مختلفي القيمة انقسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما بدليل ما لو اشترى شقصاً وسيفاً، فإن الشفيع يأخذ الشقص بقسطه من الثمن. وإذا قسم الثمن على القيمة أدى إلى الربا، لأنه إذا باع مداً، قيمته درهمان ودرهماً بمدين، فقيمتهما ثلاثة، حصل في مقابلة الجيد مد وثلث. فأما إذا باع نوعين مختلفي القيمة من جنس بنوع واحد من ذلك الجنس، كدرهم صحيح، ودرهم قراضة بصحيحين، فقال القاضي: الحكم فيها كالتي قبلها لذلك، وقال أبو بكر: يجوز، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الفضة بالفضة مثلاً بمثل» ولأن الجودة ساقطة فيما قوبل بجنسه لما تقدم. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: منع ذلك في النقد وتجويزه في غيره، لأنه لا يمكن التحرز من اختلاط النوعين.
فصل:
ولا يجوز بيع خالصه بمشروبه، كحنطة فيها شعير، أو زوان بخالصة، أو غير خالصة، أو لبن مشوب بخالص أو مشوب أو عسل في شمعه بمثله إلا أن يكون الخلط يسيراً لا وقع له، كيسير التراب والزوان، ودقيق التراب الذي لا يظهر في الكيل، لأنه لا يخل بالتماثل، ولا يمكن التحرز منه.
فصل:
وما اشتمل على جنسين بأصل الخلقة، كالتمر فيه النوى، فلا بأس ببيع بعضه ببعض، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أباح بيع التمر بالتمر، وقد علم أن في كل واحد نوى. ولو نزع النوى، ثم ترك مع التمر صار كمسألة مد عجوة لزوال التبعية، لو نزع من أحدهما نواه، ثم باعه بتمر فيه نواه فكذلك. وإن باع النوى بمثله، والمنزوع بمثله جاز لأنه جنس متماثل. وإن باع المنزوع وحده بالنوى جاز فيه التفاضل، لأنهما جنسان. وإن باع النوى بتمر فيه نواه ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز، لأنه في مسألة مد عجوة.
والثانية: يجوز، لأن ما فيه الربا غير مقصود في أحد الجانبين، فلم يمنع كبيع دار مموه سقفها بذهب، بذهب. وكذلك يخرج في بيع شاة لبون بلبن، أو ذات صوف بصوف، أو لبون بمثلها، فإن كانت محلوبة اللبن جاز وجهاً واحداً، لأن الباقي لا أثر له، فهو كالتمويه في السقف، ويجوز بيع شاة ذات صوف بمثلها وجهاً واحداً، لأن ذلك لو حرم لحرم بيع الغنم بالغنم. قال أبو بكر: يجوز بيع نخلة مثمرة بمثلها وبتمر،(2/35)
لأن التمر عليها غير مقصود، ومنعه القاضي لكون الثمرة معلومة، يجوز إفرادها بالبيع بخلاف اللبن، ومنع القاضي بيع اللحم بجنسه إلا منزوع العظام لأن العظم من غير جنس اللحم، فأشبه الشمع في العسل ويحتمل الجواز، لأن العظم من أصل الخلقة، فأشبه النوى في التمر بخلاف الشمع.
فصل:
وما فيه خلط غير مقصود لمصلحته، كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر، والملح في الخبز. والشيرج في الخبيص ونحوه لا يمنع بيعه بمثله، لأنه لمصلحته، فأشبه رطوبة تمر الرطب. ولا يجوز بيعه بخالص كخل الزبيب بخل العنب والخبز الرطب باليابس كما لا يجوز بيع الرطب بالتمر.
فصل:
ولا يجوز بيع نيئه بمطبوخه، لأن النار تذهب برطوبته، وتعقد أجزاءه، فتمنع تساويهما. ويجوز بيع مطبوخه بمثله إذا لم يظهر عمل النار في أحدهما أكثر من الآخر، لتساويهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان في ثاني الحال، كالخبز بالخبز، والشواء والسكر والعسل المصفى بالنار بمثله.
فصل:
ولا يجوز بيع حبه بدقيقه، وعنه: الجواز إذا تساويا وزناً، لأن الدقيق أجزاء الحب، فجاز بيعه به، كما قبل الطحن، والمذهب الأول، لأن البر ودقيقه مكيلان ولا بيع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً، ولا يمكن التساوي في الكيل، لأن الطحن فرق أجزاء الدقيق ونشرها، ويجوز بيع كل واحد من الدقيق والسويق بمثله إذا تساويا في الكيل والنعومة، ولما ذكرنا في المطبوخ بمثله، ولا يجوز إذا تفاوتا في النعومة، لأنه يمنع تساويهما في الكيل إلا على قولنا: يجوز بيع الحب بدقيقه وزناً.
فصل:
ولا يجوز بيع أصله بعصيره كالزيتون بزيته، والسمسم بالشيرج، والعنب بعصيره، لأنه لا يتحقق التماثل بين العصير، وما في أصله منه. ويجوز بيع العصير بالعصير لما ذكرنا في المطبوخ. ولا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه لما روى سعيد بن المسيب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع اللحم بالحيوان» . رواه مالك في " الموطأ " ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه، فلم يجز كالزيتون بالزيت. وإن باع اللحم بحيوان لا يؤكل جاز لعدم ما ذكر، وإن باعه بحيوان مأكول غير أصله، وقلنا: هما جنس واحد لم يجز وإلا جاز.(2/36)
فصل:
ويجوز بيع اللبن باللبن، حليبين كانا أو رائباً وحليباً، لأن الرائب لبن خالص، إنما فيه حموضة. ولا يجوز بيع لبن بما استخرج منه من زبد وسمن ومخيض، ولا زبد بسمن، لأنه مستخرج منه، أشبه الزيتون بالزيت. وعنه: يجوز بيع الزبد باللبن إذا كان أكثر من الزبد الذي في اللبن، والسمن مثله، وهكذا كمسألة مد عجوة، والظاهر تحريمه. ولا بيع لبن مائع بجامد، لأنهما يتفاضلان ويجوز بيع السمن والزبد والمخيض واللباء والجبن، والمصل بمثله إذا تساويا في الرطوبة والنشافة، ولم ينفرد أحدهما بمس النار له. ويجوز بيع السمن بالمخيض متفاضلاً، لأنه ليس في أحدهما شيء من الآخر. وبيع الزبد بالمخيض نص عليه. لأن اللبن في الزبد يسير غير مقصود، أشبه الملح في الشيرج. ولا يجوز بيع شيء من هذه الأنواع بنوع لم ينزع زبده، كالجبن والمصل، لما ذكرنا في بيعه باللبن.
فصل:
ولا يجوز بيع رطبه بيابسه، «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الرطب بالتمر» . متفق عليه. وعن سعد بن أبي وقاص أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: «أينقص الرطب إذا يبس؟ فقالوا نعم، فنهاه عن ذلك» أخرجه أبو داود. فنهى وعلل بأنه ينقص عن يابسه، فدل على أن كل رطب يحرم بيعه بيابسه. ويجوز بيع رطبه برطبه، لأن مفهوم نهيه عن بيع الرطب بالتمر إباحة بيعه بمثله، ولأنهما تساويا في الحال على وجه لا يتفرد أحدهما بالنقصان، فجاز بيعه به، كاللبن باللبن، وذكر الخرقي أن اللحم لا يباع باللحم إلا إذا تناهى جفافه فدل على أن كل رطب لا يجوز بيعه بمثله، اختارها أبو حفص لأنهما لم يتساويا حال الكمال. والمذهب والجواز: وقال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي رواية عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
فصل:
ويجوز بيع العرايا، وهو: بيع الرطب على رؤوس النخل خرصاً بالتمر على وجه الأرض. لما روى أبو هريرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص العرية في خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق» متفق عليه. وإنما يجوز بشروط خمسة.
أحدها: أن يكون دون خمسة أوسق. وعنه يجوز في الخمسة، لأن الرخصة ثبتت(2/37)
في العرية، ثم نهى عما زاد على الخمسة، وشك الراوي في الخمسة، فردت إلى أصل الرخصة. والمذهب الأول، لأن الأصل تحريم بيع الرطب بالتمر فيما دون الخمسة بالخبر، والخمسة مشكوك فيها، فترد إلى الأصل.
الثاني: أن يكون مشتريها محتاجا ً إلى أكلها رطباً. لما روى محمود بن لبيد قال: «قلت لزيد بن ثابت: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرطب يأتي، ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا [العرية] برخصها من التمر [يأكلونه] رطباً» . متفق عليه.
والرخصة الثابتة لحاجة لا تثبت مع عدمها فإن تركها حتى تتمر بطل البيع لعدم الحاجة.
الثالث: أن لا يكون له نقد يشتري به للخبر.
الرابع: أن يشتريها بخرصها للخبر، ولأن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في العرايا أن تباع بخرصها كيلاً» متفق عليه.
ولا بد أن يكون التمر معلوماً بالكيل للخبر، وفي معنى الخرص روايتان:
إحداهما: أن ينتظر كم يجيء منها تمراً، فيبيعها بمثله، لأنه يخرص في الزكاة كذلك.
والثانية: يبيعها بمثل ما فيها من الرطب، لأن الأصل اعتبار المماثلة في الحال بالكيل، فإذا خولف الدليل في أحدهما، وأمكن أن لا يخالف في الآخر وجب. ولا يجوز بيعها برطب ولا تمر على نخل خرصاً.
الخامس: أن يتقابضا قبل تفرقهما، لأن البيع تمر بتمر، فاعتبرت فيه أحكامه إلا ما استثناه الشرع، والقبض فيما على النخل بالتخلية، وفي التمر باكتياله، فإن كان حاضراً في مجلس البيع اكتاله، وإن كان غائباً مشيا إلى التمر فتسلما. وإن قبضه أو لا، ثم مشيا إلى النخلة، فتسلمها جاز. واشترط الخرقي كون النخلة موهوبة لبائعها، لأن العرية اسم لذلك.(2/38)
واشترط أبو بكر والقاضي حاجة البائع إلى بيعها، وحديث زيد بن ثابت يرد ذلك مع أن اشتراطه يبطل الرخصة، إذ لا تتفق الحاجتان مع سائر الشروط، فتذهب الرخصة، فعلى قولنا يجوز لرجلين شراء عريتين من واحد وعلى قولهما لا يجوز إلا أن ينقصا بمجموعهما عن خمسة أوسق، ولا يجوز لوحد شراء عريتين فيهما جميعاً خمسة أوسق، لأنه في معنى شرائهما في عقد واحد.
فصل:
قال ابن حامد: لا يجوز بيع العرايا في غير ثمرة النخل، لما روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه» . وهذا حديث حسن، ولأن غير التمر لا يساويه في كثرة اقتياته، وسهولة خرصه، فلا يقاس عليه غيره. وقال القاضي: يجوز في جميع الثمار، لأن حاجة الناس إلى رطبها كحاجتهم إلى الرطب. ويحتمل الجواز في التمر والعنب خاصة، لتساويهما في وجوب الزكاة فيهما، وورود الشرع بخرصهما وكونهما مقتاتين دون غيرهما.
فصل:
في ربا النسيئة كل مالين اتفقا في علة ربا الفضل، كالمكلين والموزونين أو المطعومين على الرواية الأخرى لا يجوز بيع أحدهما بالآخر نساء، ولا التفرق قبل القبض، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يداً بيد» وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذهب بالورق رباً، إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء» متفق عليه.
وما اختلفت علتهما، كالمكيل والموزون إذا لم يتفقا في الطعم جاز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة، وفي النساء فيهما روايتان. وما لم يوجد فيه علة ربا الفضل، كالثياب والحيوان، ففيه روايات أربع.
إحداهن: يجوز النساء فيهما، لما روي عن عبد الله بن عمرو قال: «أمرني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أستسلف إبلاً، فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى مجيء المصدق» . من " المسند ".
والثانية: لا يجوز، لما روى سمرة قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» . قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
والثالثة: يحرم النساء في الجنس الواحد، لهذا الخبر، ويباح في الجنسين عملاً بمفهومه.(2/39)
والرابعة: يباح مع التساوي، ويحرم مع التفاضل في الجنس الواحد، لما روى جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحيوان اثنان بواحد لا يصلح نساء، ولا بأس به يداً بيد» قال الترمذي: هذا حديث حسن.
وعن ابن عمر أن رجلاً قال: «يا رسول الله. أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس به إذاً كان يداً بيد» رواه أحمد في " المسند " ولا خلاف في جواز الشراء بالأثمان نساء من سائر الأموال موزوناً أو غيره، لأنها رؤوس الأموال، فالحاجة داعية إلى الشراء بها نساء وناجزاً.
فصل:
فإن تفرقا قبل القبض، فيما يشترط القبض فيه بطل العقد، فإن تفرقا قبل قبض بعضه بطل في غير المقبوض، وفي المقبوض وجهان بناء على تفريق الصفقة. وما وجب التماثل فيه إذا بيع عيناً بعين، فوجد في أحدهما عيباً من غير جنسه بطل البيع، لأنه يفوت التماثل المشترط، وإن كان البيع في الذمة جاز إبداله قبل التفرق. وهل يجوز بعد التفرق؟ فيه روايتان:
إحداهما: يجوز إذا أخذ البدل في مجلس الرد، لأن قبض بدله يقوم مقامه.
والثانية: يبطل العقد برده، لأنهما تفرقا قبل العوض، وإن كان عيبه لمعنى لا ينقص ذاته، كالسواد في الفضة، والخشونة فيها فالعقد صحيح، وليس له أخذ الأرش، لأنه يخل بالتماثل، وله الخيار بين فسخ العقد، أو الإمساك، وليس له البدل إن كان البيع عيناً بعين. وإن كان البيع في الذمة فحكمه حكم القسم الذي قبله، فأما ما لا يجب التماثل فيه فله أخذ أرشه، لأن التفاضل فيه جائزة، وحكمه فيما سوى ذلك حكم ما قبله.
[باب بيع الأصول]
من باع نخلاً مؤبراً فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، فتكون له، وإن لم تؤبر، فهي للمشتري إلا أن يشترطها البائع فتكون له، لما روى ابن عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع» متفق عليه. فجعل المؤبرة للبائع، فدل على أن غير المؤبرة للمبتاع، ولأنها قبل التأبير نماء كامن لظهوره غاية، فتبع الأصل قبل ظهوره ولم يتبعه بعده كالحمل، وطلع الفحال كغيره، ويحتمل أنه للبائع قبل تشققه لأنه يوجد كذلك والطلع ظاهر، فهو كالتين. والصحيح: الأول للخبر، لأن المقصود فيما داخل الطلع للتلقيح ولم يظهر فيتبع الأصل، كطلع(2/40)
الإناث. فإن أبر بعض الحائط دون بعض، فما أبر للبائع، وما لم يؤبر للمشتري في ظاهر كلام أحمد وقول أبي بكر للخبر، وقال ابن حامد: الكل للبائع: لأن اشتراكهما في الثمرة يؤدي إلى الضرر، واختلاف الأيدي، فجعلنا ما لم يظهر تبعاً للظاهر، كأساسيات الحيطان تتبع الظاهر منها، ولم يجعل الظاهر تبعاً للباطن، كما لا تتبع الحيطان الأساس في منع البيع للجهالة. وإن كان المبيع حائطين لم يتبع أحدهما صاحبه، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة، لانفراد أحدهما عن الآخر، وإن أبر نوع من الحائط لم يتبع النوع الآخر في قول القاضي، لأن النوعين يختلفان في التأبير. وقال أبو الخطاب: يتبعه لئلا يفضي إلى سوء المشاركة في الجنس الواحد، وإن أبر بعض ما في الحائط، فأفرد بالبيع ما لم يؤبر فهو للمشتري، لأنه لم يؤبر منه شيء، وإن أبر بعض الحائط فباعه ثم أطلع الباقي في يد المشتري، فالطلع له، لأنه حادث في مكة فكان له، كما لو لم يؤبر منه شيء.
فصل:
وكل عقد ناقل للأصل، كجعله صداقاً، وعوض خلع، أو أجرة أو هبة، كالبيع فيما ذكرنا، لأنه عقد يزيل الملك عن الأصل، فأزاله عن الثمرة قبل الظهور كالبيع.
فصل:
وسائر الشجر على ستة أضرب:
أحدهما: ما يقصد زهره كالورد، والقطن الذي يبقى أعواماً، فهو كالنخل إن تفتحت أكمامه، وتشقق جوزه فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري، كالطلع سواء.
الضرب الثاني: ما له ثمرة بارزة كالعنب والتين، فما كان منه ظاهراً فهو للبائع، لأنها ثمرة ظاهرة، فهي كالطلع المؤبر، وما ظهر بعد العقد فهو للمشتري، لأنه حدث في ملكه.
الثالث: ما له قشر لا يزال إلا عند الأكل، كالرمان والموز، فهو للبائع إن كان ظهر، لأن قشره من مصلحته، فهو كأجزاء الثمرة.
الرابع: ما له قشران، كالجوز واللوز، فهو للبائع بنفس الظهور لأن قشره لا يزايله في الغالب إلا بعد جذاذه، فهو كالرمان، وقال بعض أصحابنا: إن تشقق قشره الأعلى فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري، لأنه لا يدخر في قشره الأعلى بخلاف الرمان. الخامس: ما يظهر ثمره في نوره، ثم يتناثر نوره فيظهر كالتفاح والمشمش، فما تناثر نوره فهو للبائع، وما لم يتناثر فهو للمشتري، لأنه لا يظهر إلا بعد تناثر نوره،(2/41)
فكان كتأبير النخل، ويحتمل أنه للبائع بظهور نوره، لأن استتار الثمرة بالنور، كاستتار ثمرة النخل بعد التأبير بالقشر الأبيض.
السادس: ما يقصد ورقه كالتوت، فيحتمل أنه للمشتري بكل حالة قياساً على سائر الورق، ويحتمل أنه إن تفتح فهو للبائع، وإلا فهو للمشتري، لأنه هاهنا كالثمر.
فصل:
وإذا اشترى شجراً عليه ثمرة للبائع، لم يكلف نقلها إلا أوان جذاذها، لأن نقل المبيع على حسب العادة، ولهذا لو اشترى متاعاً ليلاً لم يكلف نقله حتى يصبح، ولو باع متاعاً كثيراً في دار، لم يكلف تفريغها إلا على العادة، ولم يلزمه جمع دواب البلد لنقله دفعة واحدة، فإذا بلغ الجذاذ كلف نقله، وإن كان بقاؤه أنفع له، لأنه أمكن نقله عادة، وإن أصاب الشجر عطش خيف هلاكه ببقائه عليه، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يلزم قطعه، لأنهما دخلا في العقد على ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ.
والثاني: يلزم قطعه، لأن المشتري رضي بذلك إذا لم يضر به، وهذا فيه ضرر كثير. وإن أراد أحدهما سقي ما له لمصلحته، فله ذلك، وإن أضر بصاحبه، لأنه رضي بالضرر لعلمه أنه لا بد من السقي، وإن سقى لغير مصلحة لم يمكن منه، لأنه سفه.
فصل
وإن باع أرضاً بحقوقها دخل ما فيها من غراس وبناء في البيع، وإن لم يقل بحقوقها ففيه وجهان:
أحدهما: يدخل أيضاً لأنه متصل بها للبقاء فهو كأجزائها.
والثاني: لا يدخل، لأن الأرض اسم للعرصة دون ما فيها. وإن قال: بعتك هذا البستان دخل الجميع في البيع، لأن البستان اسم للأرض ذات الشجر.
وإن باع الأرض وفيها زرع لا يحصد إلا مرة، كالحنطة والشعير والجزر والفجل لم يدخل في البيع، لأنه نماء ظاهر لفصله غاية فلم يدخل في بيع الأرض كالطلع المؤبر وسواء كان نابتاً أو بذراً لأن البذر مودع في الأرض فلم يدخل في بيعها، كالركاز، ويكون الزرع مبقى إلى حين الحصاد، كما أن الثمرة تبقى إلى حين الجذاذ، فإن أراد البائع قطعه قبل وقته لينتفع بالأرض لم يكن له ذلك، لأن منفعة الأرض إنما حصلت مستثناة عن مقتضى العقد، ضرورة إبقاء الزرع، فتقدرت ببقائه، كما لو باع داراً فيها متاع لا ينقل في العادة إلا في شهر، فيكلف نقله في يوم، لينتفع بها في بقيته. والحصاد على البائع، وعليه إزالة ما يبقى من عروقه المضرة بالأرض، وتسوية حفره،(2/42)
لأنه حصل بفعله لاستصلاح ملكه، فأشبه من باع داراً فيها حجر للبائع، فقلعه وتحفرت الأرض، وإن اشترطها المشتري في البيع كانت له، كالثمرة المؤبرة، ولا تضر جهالته، لأنه دخل في البيع تبعاً للأرض، فأشبه الثمرة بعد تأبيرها. وإن لم يعلم المشتري بالبذر فله الخيار، لأنه عيب في حقه لما يفوت عليه من نفع الأرض، فإن قال البائع: أنا أحوله على وجه لا يضر وفعل سقط الخيار، لزوال العيب، وإن اشترى نخلاً إذا طلع مؤبر لم يعلم تأبيره، فله الخيار أيضاً. وإن بذل البائع قطعه لم يسقط الخيار، لأن الضرر لا يزول بقطعه، لأنه يفوت عليها [ثمرتها] عاماً.
فصل
وإن كان في الأرض ما له أصل يجز، مرة بعد أخرى، فالجزة الظاهرة عند البيع للبائع، والأصول للمشتري، سواء كان مما يبقى عاماً كالهندبا، أو أكثر كالرطبة، لأن أصوله تركت للبقاء، فهي كالشجرة. وما ظهر منه وجرت العادة بأخذه، فهو كالثمرة المؤبرة وعلى البائع قطعه في الحال لأنه لا حد له ينتهي إليه، ولأنه يطول والزيادة للمشتري، وما تتكرر ثمرته مع بقاء أصله كالقثاء، والباذنجان، والبطيخ، أو يقصد زهره كالبنفسج ونحوه فكذلك: الأصول للمشتري، وثمرته الظاهرة وزهره للبائع، لأنه تؤخذ ثمرته مع بقاء أصله، فهو كالبقول.
فصل
وإن كان في الأرض حجارة مدفونة، أو ركاز لم يدخل في البيع، لأنه ليس من أجزائها، إنما هو مودع فيها للنقل عنها، فهو كالقماش. فإن كانت الأحجار من نفس الأرض، أو أساسات الحيطان، أو كان فيها معدن باطن، كمعدن الذهب والفضة دخل في البيع، لأنه من أجزائها، أو متروك للبقاء فيها فهو كالبناء.
فصل
وإن باعه داراً دخل فيها ما اتصل بها، كالرفوف المسمرة، والخوابي المدفونة فيها للانتفاع بها، والحجر السفلاني من الرحى المنصوب، والأبواب المنصوبة وفي الحجر الفوقاني والمفتاح وجهان:
أحدهما: يدخل، لأنه من مصلحة ما هو داخل في البيع، فهو كالباب.
والثاني: لا يدخل، لأنه ينفرد عنه، فهو كالدلو، وما هو منفصل عنها مما ليس من مصلحتها، كالدلو والحبل والبكرة والقفل لم يدخل في البيع، لأنه منفصل عنها غير مختص بمصلحتها، أشبه الفرش التي فيها.(2/43)
وإن باعه قرية لم تدخل مزارعها في البيع إلا بذكرها، لأن القرية اسم للأبنية دون المزارع.
[باب بيع الثمار]
لا يجوز بيع الثمار والزرع قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع. لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها» متفق عليه. وفي لفظ: «نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة» رواه مسلم. ولأن في بيعه عزراً من غير حاجة فلم يجز كما لو شرط التبقية، فإن باعها بشرط القطع جاز، لأنه يأخذها قبل تلفها، فيأمن الغرر. وإن باعها لمالك الأصل ففيه وجهان:
أحدهما: يصح لأنها تحصل لمالك الأصل فجاز، كما لو باعهما معاً.
والثاني: لا يصح، لأنه أفردها بالعقد أشبه ما لو باعها لغيره، وإنما يصح إذا باعهما لأنها تدخل تبعاً كالحمل مع أمه. وإذا بدا الصلاح جاز بيعها بشرط القطع مطلقاً وبشرط التبقية للخبر، ولأنه أمن العاهة، فجاز بيعه كسائر الأموال.
فصل:
وبدو الصلاح في ثمرة النخل أن يحمر، أو يصفر، وفي العنب أن يسود أو يتموه، وفي الحب أن يشتد أو يبيض، وفي سائر الثمار أن يبدو فيه النضج، أو يطيب أكله، لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب» . متفق عليه. ونهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، قيل: وما تزهو؟ قال: تحمار، أو تصفار. «ونهى عن بيع الحب حتى يشتد، وعن بيع العنب حتى يسود» . رواه الترمذي.
وإذا بدا الصلاح في نوع جاز بيع ما في البستان منه وعنه: لا يباع إلا ما بدا صلاحه للخبر. والأول أظهر، لأن ذلك يؤدي إلى الضرر والمشقة وسوء المشاركة، وفي سائر الجنس وجهان. مضى توجيههما في التأبير. ولا يختلف المذهب أن بدو الصلاح في بعض الشجرة صلاح لجميعها، وأن بدو صلاح جنس ليس بصلاح لجنس آخر، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة، وإن بدا صلاح ثمرة بستان لم يكن صلاحاً لثمرة غيره، وعنه: يكون صلاحاً فيما قاربه، لأنهما يتقاربان في الإدراك، والمذهب: الأول، لأنه لا يفضي إلى سوء المشاركة وإن بدا الصلاح في ثمرة بستان، فأفرد بالبيع ما لم يبد صلاحه لم يجز، لأنه لم يبد صلاح شيء من المبيع، أشبه البستان الآخر وفيه وجه آخر: أنه يجوز، لأنه يجوز بيعه مع غيره، فجاز منفرداً كالذي بدا صلاحه.(2/44)
فصل:
وإذا ابتاع ثمراً أو زرعاً بعد صلاحه لم يكلف قطعه قبل أوان الحصاد والجذاذ، لأن ذلك العادة في نقله فحمل البيع عليه، لما ذكرنا في الثمرة المؤبر، وإن احتاجت إلى سقي لزم البائع سقيها، لأن عليه تسليمها في أوان حصادها ولا يحصل إلا بالسقي فلزمه، بخلاف ثمرة البائع المؤبرة على أصول المشتري لا يلزمه سقيها لأنه لا يلزمه تسليمها وإن تلفت بجائحة من السماء، فهي من ضمان البائع لما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح» . وفي لفظ قال: «إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟» رواهما مسلم. ولأنها تؤخذ حالاً فحالاً فكانت من ضمان البائع، كالمنافع في الإجارة. والجائحة: ما لا صنع لآدمي فيها. فإن أتلفها آدمي، فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين الإمساك ومطالبة المتلف بالقيمة، وظاهر المذهب أنه لا فرق بين القليل والكثير، إلا أن يكون التالف يسيراً جرت العادة بتلف مثله. قال أحمد: لا أقول في عشر تمرات، ولا عشرين تمرة، ولا أدري ما الثلث وذلك لأن الشرع أمر بوضع الجوائح، ولم يجعل له حداً فوجب رده إلى ما يتعارفه الناس جائحة. وعنه: أن ما دون الثلث من ضمان المشتري، لأن الثمرة لا بد من تلف شيء منها فلا بد من حد فاصل. والثلث يصلح ضابطاً، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والثلث كثير» ، وإن بلغت الثمرة أو الزرع أوان الحصاد فلم ينقل حتى هلك، فهو من ضمان المشتري، لأنه لزمه النقل فكان التفريط منه فاختص الضمان به. وإن اختلفا في التلف أو في قدره فالقول قول البائع، لأنه غارم، ولأن الأصل السلامة. ولو اشترى الثمرة من الشجرة، أو الزرع مع الأرض زال الضمان عن البائع بمجرد العقد، لأنه حصل التسليم الكامل بتسليم الأصل، فأشبه بيع الدار.
فصل:
وإذا اشترى ثمرة شجرة فحدثت ثمرة أخرى، فاختلطتا ولم تتميزا، أو حنطة فانثالت عليها أخرى لم يبطل البيع، لأن المبيع باق انضاف إليه غيره فأشبه ما لو اشتبه العبد المبيع بغيره، ويشتركان كل واحدة بقدر ماله إن علم قدره، وإلا وقف حتى يصطلحا، ويحتمل أن يبطل العقد لتعذر تسليم المستحق، فأشبه تلف المبيع. ولو باع(2/45)
الأصل وعليه ثمرة له، فحدثت للمشتري ثمرة اختلطت بها لم يبطل العقد، لأن المبيع هو الشجرة. ولم يختلط بغيره، ويشتركان في الثمرة كما بينا. ولو باع ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، وتركها حتى بدا صلاحها، أو جزة من الرطبة فطالت حيلة فالعقد باطل من أصله. نص عليه لأن الحيل لا تجوز في الدين، وإن لم تكن حيلة، ففيه روايتان:
إحداهما: يبطل العقد، لأن البقية معنى حرم اشتراطه لحق الله تعالى، فأبطل العقد حقيقته، كالنسيئة في الربويات.
والثانية: لا يبطل، لأنها زيادة في عين المبيع فلم يبطل بها البيع، كسمن العبد. قال القاضي: والزيادة للمشتري لذلك. وعن أحمد: أنهما يشتركان في الزيادة على كلتا الروايتين، لحصولها في ملك المشتري، بسبب الأصل الذي للبائع. وعنه: يتصدقان بها، قال القاضي: هذا على سبيل الاستحباب، لاشتباه الأمر فيها فينظر كم قيمتها قبل بدو صلاحها وبعده؟ فيشتركان فيها أو يتصدقان بها، وإن جهلت القيمة وقف الأمر حتى يصطلحا.
فصل:
وإذا كانت شجرة تحمل حملين، فباع أحدهما عالماً أنه يحدث الآخر فيختلط بالأول فالبيع باطل، لأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، لأن العادة فيه الترك، فيختلط بالآخر ويتعذر التسليم.
فصل:
ولا يجوز بيع الرطبة ونحوها مما يثبت أصله في الأرض، ويؤخذ ما يظهر منه بالقطع دفعة بعد أخرى، إلا أن يبيع الظاهر بشرط القطع في الحال، لأن ما في الأرض مغيب، وما يحدث منه معدوم، فلم يجز بيعه، كالذي يحدث من الثمرة. وإذا باع القثاء والباذنجان ونحوها لقطة لقطة جاز، ويكون للمشتري جميع اللقطة، وما حدث للبائع.
قال القاضي: ويجوز بيع أصولها، صغاراً كانت أو كباراً، مثمرة أو غير مثمرة، لأنه أصل تكرر منه الثمر فأشبه الشجر يكون حكمه حكم الشجر في أن ما كان من ثمرته ظاهراً عند البيع، فهو للبائع، وما لم يظهر فهو للمشتري. ولا يجوز بيع الفجل والجزر نحوهما في الأرض، لأن المقصود منها مغيب فأشبه بيع النوى في التمر.(2/46)
[باب بيع المصراة]
لا يحل بيع المصراة، فإن باعها فالبيع صحيح، فإن كانت من بهيمة الأنعام ولم يعلم المشتري ثم علم، فهو مخير بين إمساكها وردها، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاع فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر» . متفق عليه. ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن به، فأثبت الخيار كتسويد الشعر. قال أبو الخطاب: متى علم التصرية فله الخيار، لأنه علم سبب الرد فملكه، كما لو علم العيب. وقال القاضي: لا يثبت له الرد إلا عند انقضاء ثلاثة أيام، لأن اللبن قد يختلف لاختلاف المكان، وتغير العلف فإذا مضت الثلاثة بانت التصرية، ويثبت الخيار على الفور. وقال ابن أبي موسى: إذا علم التصرية فله الخيار إلى تمام ثلاثة أيام من حين البيع، لما روى أبو هريرة: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ورد معها صاعاً من تمر» . رواه مسلم.
فصل
:
ويلزمه مع ردها صاعاً من تمر بدلاً عن اللبن الموجود حال العقد للخبر. ويكون جيداً غير معيب، لأنه واجب بإطلاق الشرع، فأشبه الواجب في الفطرة، وإن ردها قبل حلبها لم يلزمه شيء، لأنه بدل اللبن، ولم يأخذه، وإن ردها بعد حلبها، ولبنها موجود غير متغير ففيه وجهان:
أحدهما: يرده ولا شيء عليه، لأنه بحاله لا عيب فيه.
والثاني: عليه صاع تمر، ولا يلزم البائع قبول اللبن، لأنه يسرع إليه التغير، وكونه الضرع أحفظ له، فإن تغير اللبن فعليه الثمن، ولا يلزم البائع قبول اللبن لتغيره.
وقال القاضي: يلزمه قبوله لأن النقص فيه حصل باستعلام المبيع. فإن لم يقدر على التمر، فقيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد، لأنه بمنزلة عين أتلفها، ولو رضي بالتصرية وأصاب عيناً سواها فله ردها، لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد بما سواه وعليه مع الرد صاع تمر، لأنه عوض للبن التصرية، فيكون عوضاً له مطلقاً ويحتمل أن لا يلزمه هاهنا إلا مثل اللبن، لبن الأصل وجوب ضمان اللبن بمثله خولف فيما إذا رد المصراة من أجل التصرية للخبر، ففيما إذا ردها لعيب آخر يبقى على الأصل كما لو كانت غير مصراة وفيها لبن. وإن اشترى شاة غير مصراة، فحدث لها لبن فاحتلبه، ثم(2/47)
ردها بعيب، فلا شيء عليه، لأن اللبن حدث في ملكه، وإن كان فيها لبن يسير لا يخلو الضرع من مثله، فلا شيء فيه، لأن مثل هذا لا عبرة به. وإن كان كثيراً فعليه مثله، لأن الأصل ضمان اللبن بمثله، فلا يبطل بمخالفته في لبن التصرية، وإن كان باقياً انبنى على رد لبن التصرية، لما ذكرنا، فإن قلنا: لا يرده فبقاؤه كتلفه. وهل له رد المبيع؟ يخرج على الروايتين فيمن اشترى ثوباً فقطعه، ثم علم عيبه.
فصل
:
فإن كانت المصراة أمة، أو أتاناً، ففيه وجهان:
أحدهما: لا رد له، لأن لبنها لا عوض له، ولا يقصد قصد لبن الأنعام.
والثاني: له الرد، لأن الثمن يختلف بذلك، لأن لبن الأمة يحسن ثدييها، ويرغب فيها ظئراً، ولبن الأتان يراد لولدها، فإن حلبها فلا شيء عليه للبنها، لأنه لا قيمة له.
فصل
:
وكل تدليس بما يختلف به الثمن يثبت خيار الرد قياساً على التصرية، كتجعيد شعر الجارية، وتسويده وتحمير وجهها، وجمع الماء على الرحى وقت عرضها وعلى المشتري. فإن حصل ذلك بغير قصد، كاجتماع اللبن في الضرع بغير تصرية واحمرار وجه الجارية لخجل، أو تعب فهو كالتدليس، لأن الخيار ثبت لدفع الضرر عن المشتري، فلم يختلف بالقصد وعدمه، كالعيب. وإن رضي المشتري بالمدلس، فلا أرش له، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير بين إمساك المصراة بغير شيء، وردها مع التمر.
فصل
:
وإن دلس بما لا يختلف به الثمن، كتبييض الشعر، وتسبيطه، فلا خيار للمشتري، لأنه لا ضرر في ذلك. وإن علف شاة فظنها المشتري حاملاً، أو سود أنامل العبد ليظنه كاتباً، أو حداداً، أو كانت الشاة عظيمة الضرع خلقة، فظنها كثيرة اللبن فلا خيار له، لأن ذلك لا ينحصر فيما ظنه المشتري، فإن سواد الأنامل قد يكون لولع، أو خدمة كاتب، أو حداد، أو شروعه في ذلك، وانتفاخ البطن قد يكون للأكل، فظن المشتري غير ذلك طمع لا يثبت له خياراً.
[باب الرد بالعيب]
من علم بسلعته عيباً لم يحل له بيعها حتى يبينه، لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه له» رواه ابن ماجة. فإن باع ولم يبين فالبيع صحيح، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صحح بيع المصراة مع نهيه عنه. وحكي(2/48)
عن أبي بكر: أن البيع باطل لظاهر النهي، ومن اشترى معيباً أو مصراة أو مدلساً يعلم حاله، فلا خيار له، لأنه بذل الثمن فيه راضياً به عوضاً، فأشبه ما لا عيب فيه. وإن لم يعلم فله الخيار بين رده وأخذ الثمن، لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم يسلم له، فثبت له الرجوع بالثمن، كما في المصراة - وبين إمساكه المعيب وأخذ أرشه، لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن. فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله. كما لو تلف في يده. ومعنى الأرش: أن ينظر بين قيمته سليماً ومعيباً فيؤخذ قدره من الثمن. فإذا نقصه العيب عشر قيمته فأرشه عشر ثمنه لأن ذلك هو المقابل للجزء الفائت.
فصل
فإن نما المبيع المعيب نماء متصلاً كالسمن والكبر، والتعلم والحمل والثمرة قبل الظهور، وأراد الرد، رده بزيادته، لأنها لا تنفرد عن الأصل في الملك فلم يجز رده دونها. وإن كانت منفصلة، كالكسب واللبن وما يوهب له، والولد المنفصل، والثمرة الظاهرة رد الأصل وأمسك النماء. وعنه: ليس له رده دون نمائه، والأول المذهب لما روت عائشة: «أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستغله ما شاء الله ثم وجد به عيباً فرده. فقال يا رسول الله: إنه استغل غلامي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الخراج بالضمان» رواه أبو داود. إلا أن الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه، لأن فيه تفريقاً بينهما، وذكر الشريف: أن له ردها، لأنه موضع حاجة، أشبه من ولدت حراً فباعها دونه، والأول أولى، لأن الجمع ممكن بأخذ الأرش أو ردهما معاً. فإن كان المبيع حاملاً فولدت عند المشتري، ثم ردها رد الولد معها، لأنه من جملة المبيع، والولادة نماء متصل.
فصل
وإن تعيب المبيع عند المشتري ففيه روايتان:
إحداهما: له أرش العيب وليس له رده، لأن في رده ضرراً، فلا يزال الضرر بالضرر.
والثانية: يرده، وأرش العيب الحادث عنده، ويأخذ الثمن، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر برد المصراة بعد أخذ لبنها، ورد عوضه، ولأن جواز الرد كان ثابتاً، فلا يزول إلا بدليل، ولا نص في منع الرد، ولا قياس فيبقى بحاله. فإن دلس البائع العيب فتعيب عند المشتري، أو تلف بفعله أو غيره، فالمنصوص أنه يرجع بالثمن ولا شيء عليه، لأنه مغرور، والقياس يقتضي التسوية بين المدلس وغيره، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب على مشتري المصراة عوض لبنها مع التدليس، وجعل الخراج بالضمان، ولم يفرق بين مدلس وغيره.(2/49)
وعن أحمد: في المبيع إذا كان صانعاً، أو كاتباً فنسي عند المشتري يرده بالعيب، ولا شيء معه. وهذا يحتمل أن يكون فيمن دلس العيب دون غيره، لأن الصناعة والكتابة متقومة تضمن في الغصب. وعلله القاضي: أنه ليس بنقص في العين، ويمكن تذكره فيعود.
فصل
وما تعيَّب قبل قبضه، وهو مما يدخل في ضمان المشتري، فهو كالعيب الحادث في يده. وإن كان مما ضمانه على البائع، فهو كالعيب القديم، لأن من ضمن جملة المبيع ضمن أجزاءه.
فصل
وإن وطئ المشتري الأمة ففيه روايتان:
إحداهما: ليس له ردها وله الأرش، لأن الوطء يجري مجرى الجناية، لا يخلو من عقر أو عقوبة.
والثانية: له ردها إن كانت ثيباً ولا شيء معها، لأنها معنى لا ينقص عينها، ولا قيمتها، ولا يتضمن الرضاء بالعيب، فأشبه الاستخدام. وإن كانت بكراً فهو كتعيبها عنده، فإن ردها رد أرش نقصها كما لو عابت عنده.
فصل
فإن لم يعلم بالعيب حتى هلك المبيع بقتل أو غيره أو أعتقه أو وقفه، أو أبق أو باعه، أو وهبه فله الأرش، لأنه تعذر عليه الرد. وإن فعل ذلك مع علمه بالعيب فلا أرش له، لرضاه به معيباً. ذكره القاضي. وقال أبو الخطاب في المبيع والهبة: رواية أخرى: له الأرش، ولم يعتبر علمه، وهو قياس المذهب، لأننا جوزنا له إمساكه بالأرش، وتصرفه فيه كإمساكه. وإن باعه قبل العلم، ثم رجع إليه ببيع أو غيره فله رده أو أرشه، لأن ذلك امتنع عليه، لخروجه من ملكه، وبرجوعه إليه عاد الإمكان.
فصل
وإن باع بعضه أو وهبه فله أرش الباقي، فأما أرش ما باع فينبني على ما قلنا في بيع الجميع وفي جواز رد الباقي بحصته من الثمن روايتان:
إحداهما: يجوز. ذكره الخرقي، لأن رده ممكن.
والأخرى: لا يجوز. لأن فيه تبعيض الصفقة على البائع فلم يجز. كما لو كان المبيع عينين ينقصهما التفريق. ولو اشترى شيئين فوجد بأحدهما عيباً، فله ردهما معاً أو(2/50)
إمساكهما، وأخذ الأرش، فإن أراد رد المعيب وحده ففيه الروايتان، إلا أن يكونا مما ينقصهما التفريق، كمصراعي باب، وزوجي خف، أو ممن لا يحل التفريق بينهما، كالأخوين فليس له إلا ردهما أو إمساكهما مع الأرش، لأن في رد أحدهما تفريقاً محرماً، أو إضراراً بالبائع، لنقصان قيمة المردود بالتفريق. وإن تلف أحد المبيعين ووجد بالآخر عيباً، فعلى الروايتين. وإن اختلفا في قيمة التالف فالقول قول المشتري، لأنه كالغارم، فهو كالمستعير والغاصب، وإن كانا معيبين باقيين، فأراد رد أحدهما وحده، فهي كالتي قبلها. وقال القاضي: ليس له رد أحدهما، لأنه أمكنه ردهما معاً. ولو كان المبيع عيناً واحدة فأراد رد بعضها، لم يملك ذلك وجهاً واحداً، لأن فيه تشقيص المبيع على البائع، وإلحاقاً لضرر الشركة به.
فصل
وإن اشترى اثنان شيئاً فوجداه معيباً فرضيه أحدهما، ففيها روايتان:
إحداهما: للآخر رده نصيبه، لأنه جميع ما ملكه بالعقد فملك رده بذلك، كما لو انفرد.
والأخرى: ليس له رد، لأن المبيع خرج عن ملك البائع كاملاً فلم يملك المشتري رده مشقصاً. كما لو اشترى العين كلها ثم رد بعضها. ولو ورث اثنان خيار عيب في سلعة، فرضي أحدهما سقط رد الآخر، لأن العقد عليها واحد، بخلاف شراء الاثنين، فإنه عقدان. وإن اشترى واحد من اثنين شيئاً، فوجده معيباً، فله رد نصيب أحدهما عليه منفرداً، لأنه يرد عليه جميع ما باعه.
فصل
ومن اشترى معيباً فزال عيبه قبل رده، مثل أن يشتري أمة مزوجة فطلقها الزوج، فلا خيار له، نص عليه أحمد، لأن الضرر زال. ولو اشترى مصراة فصار لبنها عادة، فلا خيار له. وإن قال البائع: أنا أزيل العيب، مثل أن يشتري أرضاً فيها حجارة تضرها، فقال البائع: أنا أقلعها في مدة لا [أجرة] لها، أو اشترى أرضاً فيها بذر للبائع، فقال: أنا أحوله سقط الرد، لأن الضرر يزول من غير ضرر.
فصل
ذكر القاضي ما يدل على أن في خيار العيب روايتين:
إحداهما: هو على التراخي، لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق، فكان على التراخي، كخيار القصاص. فعلى هذا هو على خيار ما لم يوجد منه ما يدل على الرضى من التصرف على ما ذكرنا في باب الخيار.(2/51)
والثانية: هو على الفور، لأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة. ولو حلب لبنها الحادث أو ركبها ليردها أو ليختبرها لم يكن رضى، لأنه حق له إلى أن يرد، فلم يمنع منه.
فصل
وله الرد من غير رضى صاحبه ولا حضوره، لأنه رفع عقد جعل إليه فلم يعتبر ذلك فيه، كالطلاق. ويجوز من غير حكم حاكم، لأنه مجمع عليه، فلم يحتج إلى حاكم، كفسخ المعتقة للنكاح.
فصل
والعيوب هي النقائص المعدودة عيباً، فما خفي منها رجع إلى أهل الخبرة به. فمن العيوب في الخلقة المرض، والجنون والجذام والبرص والعمى والعور، والعرج والعفل والقرع، والصمم والخرس، والأصبع الزائدة والناقصة، والحول والخوص والسبل، وهو زيادة في الأجفان والبخر والخصا والتخنيث، وكونه خنثى والحمق البات، والتزوج في الرقيق. فأما عدم الختان فليس بعيب في الصغير، لأنه لم يفت وقته، ولا في الكبير المجلوب، لأن ذلك عادتهم، وهو عيب في الكبير المولود في الإسلام، لأن عادتهم الختان والكبير يخاف عليه، فأما العيوب المنسوبة إلى فعله كالسرقة والإباق والبول في الفراش، فإن كانت من مميز جاوز العشر فهي عيب، لأنه يذهب بمال سيده أو يفسد فراشه، وليس عيباً في الصغير، لأنه لا يكون لضعف بنيته أو عقله والزنا عيب. لأنه يوجب الحدود وكذلك شرب المسكر، والحمل عيب في الأمة، لأنه يخاف منه عليها، وليس بعيب في غيرها، لعدم ذلك. والثيوبة وكون الأمة لا تحيض ليس بعيب، لأن الإطلاق لا يقتضي وجود ذلك ولا عدمه، وكذلك كونها محرمة على المشتري بنسب أو رضاع أو إحرام أو عدة، لأن ما يختص بالمشتري لا ينقص ثمنها، وسائر ذلك يزول عن قرب. ومعرفة الغناء والحجامة ليس بعيب، لأن النقص فعل ذلك لا العلم به. والكفر وكونه ولد زنا ليس بعيب، لأن الأصل في الرقيق الكفر، ولا يقصد فيهم النسب، وكون الجارية لا تحسن الطبخ والخبز ليس بعيب، لأن هذه صناعة، والجهل به كالجهل بسائر الصنائع.(2/52)
فصل
وإن شرط في المبيع صفة مقصودة، مثل أن شرط الأمة بكراً أو جعدة أو العبد كاتباً أو ذا صناعة أو فحلاً، أو خصياً أو مسلماً، أو الدابة هملاجة، أو الفهد صيوداً، أو الشاة لبوناً، فبان خلاف ذلك فله الرد، لأنه لم يسلم له ما بذل الثمن فيه، فملك الرد، كما لو وجده معيباً. وإن شرط الأمة سبطة أو جاهلة، فبانت جعدة أو عالمة فلا خيار له، لأنها زيادة، وإن شرطها ثيباً فبانت بكراً فكذلك، ويحتمل أن له الخيار، لأنه قد يشترط الثيوبة لعجزه عن البكر، وإن شرطها كافرة فبانت مسلمة، ففيه وجهان:
أحدهما: لا خيار له، لأنها زيادة.
والثاني: له الخيار، لأنه يتعلق به غرض صحيح، وهو صلاحها للمسلم والكافر، وإن شرطها حاملاً صح.
وقال القاضي: قياس المذهب أنه لا يصح، لأن الحمل لا حكم له، والصحيح الأول، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حكم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها» . ولأن الحمل يثبت الرد في المعيبة، ويوجب النفقة للمبتوتة، ويمنع كون الدم فيه حيضاً، والطلاق فيه بدعة، ويجوز الفطر في رمضان للخوف عليه، ويمنع إقامة الحد والقصاص. وإن شرط في الطير أنه مصوت، أو في الديك أنه يصيح في وقت من الليل صح، لأن ذلك عادة له، فجرى مجرى الصيد في الفهد، وقال بعض أصحابنا: لا يصح، لأنه يجوز أن يوجد وأن لا يوجد. وإن شرط أن يجيء من مسافة ذكرها صح، لأن ذلك عادة، وفيه قصد صحيح لتبليغ الأخبار، فهو كالصيد في الفهد.
وقال القاضي: لا يصح، لأنه تعذيب للحيوان. وإن شرط الغناء في الأمة، وفي الكبش أنه مناطح، وفي الديك أنه مقاتل لم يصح لأنه منهي عنه، فهو كالزنا في الأمة.
فصل
وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه فوجده معيباً فله الرد. وعنه: لا شيء له، لأنه لا تدليس من البائع، ولا يمكنه معرفة باطنه، والأول: أصح، لأن عقد البيع اقتضى السلامة، فإذا بان معيباً ملك رده كالعبد. وإن كان مما لا قيمة له، كبيض الدجاج، والجوز الخرب، والرمان الفاسد رجع بالثمن كله، لأن هذا ليس بمال فبيعه فاسد، كالحشرات. وإن كان الفساد في بعضه رجع بقسطه. وإن كان مما لمكسوره قيمة، كجوز الهند وبيض النعام، فقال الخرقي: يرجع بالثمن وعليه أرش الكسر، كما لو كان المبيع ثوباً فقطعه، واختار القاضي: أنه إن كان الكسر لا يزيد على ما يحصل به استعلام(2/53)
المبيع، رده ولا شيء عليه، لأن ذلك حصل ضرورة استعلام المبيع، والبائع سلطه عليه فلم يمنع الرد، كحلب لبن المصراة، وإن زاد على ذلك خرج فيه روايتان، كسائر المعيب الذي يعيب عنده.
فصل
وإن اشترى ثوباً لا ينقصه نشره فنشره فله رده بالعيب، وإن كان ذلك ينقصه فهو كجوز الهند. وإن صبغ الثوب ثم وجده معيباً فله الأرش لا غير. وعنه: يرده ويكون شريكاً للبائع بقيمة الصبغ. وعنه: يرده ويأخذ زيادته بالصبغ. والأول: المذهب، لأن إجبار البائع على بذل ثمن الصبغ إجبار على المعاوضة، فلم يجز لقول الله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] [النساء: 29] .
فصل
وإذا اشترط البائع البراءة من كل عيب لم يبرأ لأن البراءة مرفق في البيع لا يثبت إلا بالشرط، فلم يثبت مع الجهالة كالأجل، وعنه: يبرأ، إلا أن يكون البائع علم بالعيب فكتمه، لما روي أن ابن عمر باع عبداً من زيد بن ثابت بشرط البراءة بثمانمائة درهم، فأصاب به عيباً، فأراد رده على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان، فقال عثمان لابن عمر: أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب، فقال: لا، فرده عليه. وهذه القصة اشتهرت فلم تنكر، فكانت إجماعاً، ويتخرج أن يبرأ مطلقاً بناء على قوله في صحة البراءة من المجهول، ولأنه إسقاط حق من مجهول لا تسليم فيه، فصح كالعتاق. وإن قلنا بفساد الشرط فالبيع صحيح، لأن ابن عمر باع بشرط البراءة، فأجمعوا على صحته، ويتخرج فساده بناء على الشروط الفاسدة.
[باب بيع المرابحة والمواضعة والتولية والإقالة]
بيع المرابحة: أن يخبر برأس ماله ثم يبيع به ويربح، فيقول: رأس مالي فيه مائة، بعتكه بها وربح عشرة، فهذا جائز غير مكروه، لأن الثمن معلوم. وإن قال: بعتك بها وربح درهم في كل عشرة، أو قال ده يازده، أو ده دواز ده، فهو صحيح أيضاً جائز غير مكروه لأن الثمن معلوم. فهي كالتي قبلها، لكن كرهه أحمد، لأن ابن عمر وابن عباس كرهاه، لأنه بيع الأعاجم ولأن الثمن قد لا يعلم في الحال.
فصل:
ولا يخبر إلا بما يلزم من الثمن، وما يزاد فيه في مدة الخيار يخبر به، لأنه من الثمن. وما حط عنه في الخيار نقصه لذلك. وما كان بعد لزوم العقد لا يخبر به، لأنه(2/54)
تبرع من أحد المتعاقدين لا يلزمه، فلم يخبر به كما لو وهبه شيئاً. وإن تمت العين ولم يزد على رأس المال، فإن كان النماء منفصلاً لم تنقص به العين، فله أخذه ويخبر برأس المال، لأنه في مقابلة العين دون نمائها. وعنه: أنه يبين ذلك، لأنه أبعد من اللبس. وإن عمل في العين عملاً من قصارة، أو خياطة أو حمل، أخبر بالحال على وجهه، سواء عمله بنفسه أو بالأجرة، قال أحمد: يبين ما اشتراه به وما لزمه. فإن ضم ذلك إلى رأس المال وأخبر أنه اشترى به لم يجز، لأنه كذب، وإن قال: تحصل علي بكذا لم يجز فيما عمله بنفسه، لأنه كذب. وجاز فيما استأجر عليه في أحد الوجهين، لأنه صادق، والآخر: لا يجوز، وهو ظاهر كلام أحمد، لأن فيه تلبيساً فلعل المشتري لو علم الحال لم يرغب فيه، لكون ذلك العمل مما لا حاجة به إليه، فأشبه ما أنفق عليه في مؤنته وكسوته، فإنه لا يجوز الإخبار به، وجهاً واحداً وكذلك كري مخزنه وحافظه، إلا أن يخبر بالحال على وجهه، فإن ذلك لا يزيد في ثمنه.
فصل:
فإن نقص المبيع لمرض، أو تلف جزء، أو تعيب أو وجد به عيباً، أو جني عليه فأخذ أرشه، أخبر بالحال على وجهه. وقال أبو الخطاب: يحط الأرش من الثمن، ويخبر بما بقي، فيقول: تقوم علي بكذا. والأول أولى، لأنه أبعد من اللبس والفرق بين الأرش والكسب أن الأرش عوض ثمن، فهو كثمن جزء بيع منه، والكسب لم ينقص به المبيع. ولو جنى العبد ففداه المشتري لم يرد ذلك في رأس المال، لأنه ليس من الثمن ولا زاد به المبيع. وإن نقص المبيع لتغير الأسعار فقال أصحابنا: لا يلزمه الخبر به، لأنه صادق بدونه. والأولى: أنه يلزمه، لأن المشتري لو علم ذلك لم يرضى به، فجرى مجرى نقصه بعيب. وإن حط بعض رأس المال، وأخبر بالباقي لم يجز، لأنه كذب وتغرير بالمشتري.
فصل:
فإن اشترى اثنان شيئاً وتقاسماه، فقال أحمد: لا يبيع أحدهما مرابحة، إلا أن يقول: اشتريناه جماعة ثم تقاسمناه. وإن اشترى شيئين بثمن واحد، ثم أراد بيع أحدهما، أو اشترى شجرة مثمرة، فأخذ ثمرتها، أو شاة فأخذ صوفها، أو لبنها الذي كان فيها، ثم أراد بيع الأصل مرابحة أخبر بالحال على وجهه، ولا يجوز بيعه بحصته من الثمن، لأن قسمة الثمن طريقه الظن، واحتمال الخطأ فيه كثير، ومبنى المرابحة على الأمانة فلم يجز هذا فيه. فإن كان المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالأجزاء، كالمكيل والموزون من جنس جاز بيعه بحصته من الثمن، لأنه ينقسم على أجزائه، وجزؤه معلوم يقيناً. وإن أسلم في ثوبين صفقة واحدة ثمناً واحداً، فأخذهما على الصفة،(2/55)
فالقياس جواز بيع أحدهما بحصته من الثمن، لأن الثمن منقسم عليهما نصفين، وما زاد على الصفة في أحدهما لم يقابله شيء من الثمن، فجرى مجرى النماء الحادث بعد الشراء.
فصل:
فإن اشتراه من أبيه، أو ممن لا تقبل شهادته له لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره، لأنه متهم في حقهم أنه يحابيهم، وإن اشتراه من غلام دكانه أو غيره حيلة لم يجز بيعه مرابحة، وإن لم يكن حيلة جاز، لأنه لا تهمة في حقه.
فصل:
وإن اشترى شيئاً ثم باعه بربح، ثم اشتراه، فأعجب أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يخبر بالحال على وجهه، أو يطرح الربح من الثمن الثاني، ويخبر بما بقي، لأن هذا مذهب ابن سيرين، ولأن الربح أحد نوعي النماء، فيخبر به في المرابحة كالولد والثمرة، ولعل هذا من أحمد على سبيل الاستحباب، لأنه أبلغ في البيان. ويجوز الإخبار بالثمن الثاني وحده، لأنه الثمن الذي حصل به هذا الملك، فجاز الخبر به وحده كما لو خسر فيها.
فصل:
فإن بان للمشتري أن البائع أخبر بأكثر من رأس المال فالبيع صحيح لأنه زاد في الثمن فلم يمنع صحته كالتصرية، ويرجع عليه بالزيادة وحظها بالربح، لأنه باع برأس ماله وما قرره من الربح. فإذا بان رأس المال كان معيباً به وبقدره من الربح. وإن اختار المشتري رد المبيع، وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له، لأنه رضي المبيع بثمن حصل له بدونه، فلم يكن له خيار، كما لو اشترى معيباً فبان صحيحاً، فأما البائع فلا خيار له، لأنه باع برأس ماله وقدره من الربح، وحصل به ما عقد به، وفي سائر ما يلزمه الإخبار بالحال على وجهه، فلم يفعل يخير المشتري بين أخذه بما اشترى به وبين الفسخ، لأنه ليس للمبيع ثمن غير ما عقد به، وإن اشتراه بثمن مؤجل فلم يتبين، فعنه أنه مخير بين الفسخ، وأخذه بالثمن حالا لأن البائع لم يرض بذمة المشتري، فلا يلزمه الرضى بها، وعنه: يخير بين الفسخ وأخذه بالثمن مؤجلاً، لأنه الثمن الذي اشترى به البائع، والتأجيل صفة له فأشبه المخبر بزيادة في القدر، وإن علم ذلك بعد تلف المبيع، حبس المال بقدر الأجل.
فصل:
وإن أخبر بالثمن ثم قال غلطت والثمن أكثر، ففيه ثلاث روايات:(2/56)
إحداهن: لا يقبل قوله إلا ببينة، لأنه مقر على نفسه فلم يقبل قوله في الغلط إلا ببينة، كالمضارب يقر بربح.
والثانية: إن كان معروفاً بالصدق قبل قوله وإلا فلا، لأنه لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه، والقول قول الأمين مع يمينه.
والثالثة: لا يقبل قوله، وإن أقام بينة ما لم يصدقه المشتري لإقراره ابتدأ بكذب بينته، فأشبه ما لو أقر بدين. فإن قلنا بقبول بينته، فقال المشتري: أحلفوه أنه وقت البيع لم يعلم أن ثمنها أكثر، فعلى البائع اليمين، فإن نكل أو أقر لم يكن له غير ما وقع عليه العقد، لأنه عقد بهذا الثمن عالماً، فلم يكن له غيره، كالمشتري إذا علم العيب حال الشراء، وإن حلف خير المشتري بين فسخ العقد، لأنه لم يرضه بأكثر مما بذله وبين قبوله مع إعطائه ما غلط به حظه من الربح، لأن البائع إنما باعها بهذا الثمن ظناً أنه رأس المال، فعليه ضرر بالنقصان منه. فإذا أخذها المشتري بذلك فلا خيار للبائع، لأنه قد زال عنه الضرر بالتزام المشتري ما غلط به، وإن اختار الفسخ فقال البائع: أنا أسقط الزيادة عنك سقط الفسخ، لأنه قد بذلها له بالثمن الذي وقع عليه العقد وتراضيا به.
فصل:
وبيع التولية: هو البيع بمثل الثمن الذي اشترى به، وحكمه حكم المرابحة فيما ذكرنا، ويصح بلفظ البيع، ولفظ التولية، لأنه مؤد لمعناه. قال أحمد: ولا بأس ببيع الرقم، وهو الثمن الذي يكتب على الثوب، ولا بد من علمه حال العقد، ليكون معلوماً. فإن لم يعلم فالبيع باطل، لأن الثمن مجهول. وقال: المساومة عندي أسهل من المرابحة، لأن بيع المرابحة يعتبر به أمانة واسترسال من المشتري، ويحتاج إلى تحري الصدق واجتناب الريبة. وقال في رجلين اشتريا ثوباً بعشرين، ثم اشترى أحدهما من صاحبه باثنين وعشرين: فإنه يخير في المرابحة بإحدى وعشرين، لأنه اشترى نصفه بعشرة، ونصفه بأحد عشر.
فصل:
وبيع المواضعة: أن يخبر برأس المال، ثم يبيع به ووضعه كذا، أو يقول: ووضيعة درهم من كل عشرة. وحكمه حكم المرابحة في تفصيله، فإذا قال: رأس مالي فيه مائة بعتك بها ووضيعة درهم من كل عشرة، فالثمن تسعون. لأن المحطوط العشر، وعشر المائة عشرة، وإن قال بوضيعة درهم لكل عشرة، كان الحط من كل أحد عشرة درهماً، درهماً، والباقي تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءاً من درهم، لأنه إذا(2/57)
قال: لكل عشرة درهم، كان الدرهم من غيرها، فيكون من كل أحد عشرة درهماً درهم، وإذا قال: من كل عشرة كان الحط منها فيكون عشرها.
فصل:
وإذا اشترى نصف عبد بعشرة، واشترى آخر نصفه بعشرين، ثم باعاه بثمن واحد مساومة، فالثمن بينهما نصفان، لأنه عوض عنه فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه. وإن باعاه مرابحة، فكذلك في إحدى الروايتين لذلك. والأخرى: هو بينهما على قدر رؤوس أموالهما، لأن بيع المرابحة يقتضي كون الثمن في مقابلة كل واحد منهما، وقيل: المذهب رواية واحدة أنه بينهما نصفان. والقول الآخر وجه خرجه أبو بكر.
فصل:
وإقالة النادم في البيع مستحبة، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «من أقال نادماً بيعته أقال الله عثرته يوم القيامة» أخرجه أبو داود. وهي فسخ في أصح الروايتين. وعنه: أنها بيع، لأنها نقل الملك بعوض على وجه التراضي فكانت بيعاً، كالأول، والأولى أولى، لأن الإقالة في السلم تجوز إجماعاً.
وبيع السلم لا يجوز قبل قبضه، ولأن الإقالة الرفع والإزالة، ومنه: أقاله الله عثرته. وذلك هو الفسخ، ولأنها تتقدر بالثمن الأول، وتحصل بلفظ لا ينعقد به البيع فكانت فسخاً كالرد بالعيب. فعلى هذا تجوز في المبيع قبل قبضه، ولا تجب بها شفعة، وتتقدر بالثمن الأول، ومن حلف لا يبيع، فأقال لا يحنث، وعلى الأخرى تنعكس هذه الأحكام، إلا بمثل الثمن، فإنه على وجهين أصحهما أن تتقدر به، لأنها خصت بمثل الثمن كالتولية، فإن قال بأكثر منه لم يصح وكان الملك باقياً للمشتري، لأنهما تفاضلا فيما يعتبر فيه التماثل، فلم يصح كبيع درهم بدرهمين.
[باب اختلاف المتبايعين]
إذا اختلفا في قدر الثمن والسلعة قائمة تحالفا. لما روى ابن مسعود عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا اختلف البيعان وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع» رواه ابن ماجة. وفي لفظ «تحالفا» وكان البائع يدعي عقداً بثمن(2/58)
كثير ينكره المشتري، والمشتري يدعي عقداً ينكره البائع، والقول قول المنكر مع يمينه. ويبدأ بيمين البائع، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل القول ما قال البائع، وكان جنبته أقوى، لأنهما إذا تحالفا رجع المبيع إليه، فكانت البداية به أولى. كصاحب اليد. ويجب الجمع في اليمين بين النفي والإثبات، لأنه يدعي عقداً وينكر آخر فيحلف عليهما، ويقدم النفي فيقول: والله ما بعته بكذا، ولقد بعته بكذا، لأن الأصل في اليمين أنها للنفي، ويكفيه يمين واحدة، لأنه أقرب إلى فصل القضاء فإن نكل أحدهما لزمه ما قال صاحبه، وإن رضي أحدهما بما قال الآخر فلا يمين. وإن حلفا ثم رضي أحدهما بما قال الآخر أجبر على القبول، لأنه قد وصل إليه ما ادعاه، وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما الفسخ، ويحتمل أن الفسخ للحاكم، لأن العقد صحيح، وإنما يفسخ لتعذر إمضائه في الحكم فأشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان. والأول: المذهب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أو يترادان البيع» فجعله إليهما. وفي سياقه أن ابن مسعود رواه للأشعث بن قيس. وقد اختلف في ثمن مبيع، فقال الأشعث: فإني أرى أن أرد البيع. ولأنه فسخ لاستدراك الظلامة، أشبه رد المعيب.
فصل
وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً، لأنه فسخ لاستدراك الظلامة، فأشبه رد المعيب. واختار أبو الخطاب أن المشتري إن كان ظالماً، ففسخ البائع ينفذ ظاهراً وباطناً، لعجزه عن استيفاء حقه فملك الفسخ، كما لو أفلس المشتري. وإن كان البائع ظالماً لم ينفذ فسخه باطناً، لأنه يمكنه إمضاء العقد فلم ينفذ فسخه، ولم يملك التصرف في المبيع، لأنه غاصب.
فصل
وإن اختلفا بعد تلف المبيع ففيه روايتان:
إحداهما: يحالفان ويفسخان البيع، لأن المعنى الذي شرع له التحالف حال قيام السلعة موجود حال تلفها فيشرع، ويجب رد قيمة السلعة، فإن اختلفا في قيمتها وجب قيمة مثلها، موصوفاً بصفاتها، وإن زادت على ما ادعاه البائع، لأن الثمن سقط ووجبت القيمة. فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه، لأنه غارم.
والثانية: القول قول المشتري مع يمينه، اختارها أبو بكر، لقوله في الحديث: «فالبيع قائم بعينه» . فمفهومه أن لا يشرع التحالف مع تلفها، ولأنهما اتفقا على انتقال المبيع إلى المشتري بثمن، واختلفا في الزائد الذي يدعيه البائع وينكره المشتري، والقول قول المنكر، وإنما ترك هذا مع قيام السلعة لإمكان التراد، ولا يمكن رد السلعة(2/59)
بعد تلفها، وإن تقايلا المبيع، أو رد بعيب، ثم اختلفا في الثمن، فقال البائع: هو قليل، وقال المشتري: هو كثير، فالقول قول البائع، لأن البيع قد انفسخ والبائع منكر لما يدعيه المشتري لا غير. وإن مات المتبايعان، فورثتهما بمنزلتهما، لأنها يمين في المال، فقام الوارث فيها مقام الموروث، كاليمين في الدعوى. وإن كان المبيع بين وكيلين تحالفا لأنهما عاقدان، فتحالفا كالمالكين.
فصل
وإن اختلفا في قدر المبيع، فقال: بعتك هذا العبد بألف، فقال: بل هو والجارية، فالقول قول البائع نص عليه، لأنه ينكر بيع الجارية فاختصت اليمين به. كما لو اختلفا في أصل العقد. وإن قال: بعتك هذا العبد، فقال: بل بعتني هذا الثوب، حلف كل واحد منهما على ما أنكره خاصة، ثم إن كان العبد في يد البائع فليس للمشتري أخذه، لأنه لا يدعيه، وإن كان في يد المشتري فليس للبائع أخذه لذلك، إلا أن يتعذر عليه ثمنه فيفسخ البيع ويأخذه، والثوب يقر في يد البائع، ويرد إليه إن كان عند المشتري. وإن قامت بينة بالعقدين ثبتا. وإن قامت بينة أحدهما ثبت، ويحلف المنكر للآخر ويبطل حكمه.
فصل
وإن اختلفا في صفة الثمن رجع إلى نقد البلد، نص عليه، فإن كان فيه نقود رجع إلى أوسطها، وعلى من القول قوله اليمين، لأن الظاهر صدقه، فكان القول قوله، كالمنكر، وقال القاضي: يتحالفان.
فصل
وإن اختلفا في أجل، أو شرط، أو رهن، أو ضمين ونحوه، ففيه روايتان:
إحداهما: القول قول من ينكره مع يمينه، لأنه منكر فأشبه منكر العقد من أصله.
والثانية: يتحالفان لأنهما اختلفا في صفة العقد، فأشبه ما لو اختلفا في قدر الثمن، وإن اختلفا فيما يفسد العقد فالقول قول من ينفيه، لأن ظاهر حال المسلم تعاطي الصحيح. وإن قال أحدهما: كنت مكرهاً، أو مجنوناً فالقول قول الآخر، لأن الأصل معه، وإن قال: كنت صغيراً فكذلك، نص عليه، لأنهما اختلفا فيما يفسد العقد، فقدم قول من يدعي صحته، ويحتمل أن القول قول مدعي الصغر، لأنه الأصل، وإن قال عبد: بعتك بغير إذن سيدي، فأنكره المشتري، فالقول قول المشتري، لأن الأصل الصحة، وإن أنكره السيد فالقول قوله، لأن الأصل معه، ولا دليل على خلافه. وإن قال أحد المتصارفين: تفرقنا قبل القبض، أو ادعى فسخ العقد، وأنكره الآخر، فالقول(2/60)
قول مدعي الصحة، لأن الأصل معه. وإن اختلفا في عيب يحدث مثله، فادعى كل واحد منهما أنه حدث عند صاحبه، ففيه روايتان:
إحداهما: القول قول البائع، لأن الأصل عدم العيب.
والثاني: القول قول المشتري، لأن الأصل عدم القبض للجزء الفائت، وعدم استحقاق ما يقابله من الثمن. وإن رد بعيب، فقال البائع: ليس هذا المبيع فالقول قوله، لأن الأصل سلامة المبيع وبقاء العقد. وإن قبض المسلم فيه أو المبيع بالكيل، ثم قال: غلطت علي في الكيل، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول البائع، لأن الأصل السلامة من الغلط.
والثاني: القول قول المشتري، لأن الأصل عدم القبض لما أنكر قبضه، وإن كان قبضه جزافاً، فالقول قوله في قدره، وجهاً واحداً.
فصل
وإن باعه بثمن معين، وقال: كل واحد منهما لا أسلم ما بعته حتى أقبض عوضه، جعل بينهما عدل يقبض منهما، ويسلم إليهما معاً، لأنهما سواء في تعلق حقوقهما بالعين، وإن كان البيع بثمن في الذمة أجبر البائع على تسليم المبيع أولاً، لتعلق حق المشتري بعينه، فقدم على ما تعلق بالذمة، كأرش الجناية مع الدين، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن. فإن كان معسراً أو ماله غائب في مسافة القصر، فللبائع فسخ المشتري على تسليم الثمن. فإن كان معسراً أو ماله غائب في مسافة القصر، فللبائع فسخ البيع، لأن عليه ضرراً في تأخير الثمن، فجاز له الرجوع إلى عين ماله، كما لو أفلس المشتري. وإن كان الثمن حاضراً أجبر على دفعه في الحال، وإن كان في داره أو دكانه حجر عليه في المبيع، وفي سائر ماله حتى يسلمه، لئلا يتصرف في المبيع، فيضر بالبائع. وإن كان غائباً دون مسافة القصر ففيه وجهان:
أحدهما: جاز له الفسخ، لأنه تعذر الثمن للإعسار أشبه الفلس.
والثاني: لا يفسخ، ولكن يحجر على المشتري، لأنه في حكم الحاضر، أشبه الذي في البلد. والصحيح عندي أنه لا يجب عليه تسليم المبيع ما لم يحضر الثمن ويمكن أخذه لأن في تسليمه بدون ذلك ضرراً وخطراً بفوات الثمن عليه يلزمه تسليم عوضه قياساً على العوض الآخر.(2/61)
[كتاب السلم]
السلم: أن يسلم عيناً حاضرة في عوض موصوف في الذمة إلى أجل، وهو نوع من البيع ينعقد بلفظ البيع والسلف، وتعتبره في شروط البيع، ويزيد بشروط ستة:
أحدهما: أن يكون مما ينضبط بالصفات التي يختلف الثمن باختلافها ظاهراً، لأنه بيع بالصفة فيشترط إمكان ضبطها، فيصح السلم في المكيل والموزون والمزروع لما روى ابن عباس عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قدم المدينة، وهم يسلفون الثمار السنتين والثلاث، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، أو وزن معلوم إلى أجل معلوم» متفق عليه. وقال عبد الله بن أبي أوفى وعبد الرحمن بن أبزى: «كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب فقيل: أكان لهم زرع أم لم يكن؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك» . رواه البخاري. فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر، وقسنا عليه ما يضبط بالصفة، لأنه في معناه، ويصح في الخبر واللبأ والشواء، لأن عمل النار فيه معتاد ممكن ضبطه بالنشافة والرطوبة فصح السلف فيه، كالمجفف بالشمس وقال القاضي: لا يصح الشواء واللحم المطبوخ، لأن عمل النار فيه فيختلف فلا ينضبط.
فصل:
ولا يصح فيما لا ينضبط، كالجوهر واللؤلؤ والزبرجد والياقوت والعقيق ونحوها، لأنها تختلف اختلافاً متبايناً بالكبر والصغر، وحسن التدوير، وزيادة ضوئها، ولا يمكن(2/62)
تقديرها ببيض العصفور ونحوه، لأنها تختلف. وفي الحوامل من الحيوان، والشاة اللبون، والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط وجهان:
أحدهما: لا يصح أن يسلم فيه، لأن الصفة لا تأتي عليه، والولد واللبن مجهول.
والثاني: يصح، لأن الحمل واللبن لا حكم لهما مع الأم بدليل البيع، والأواني يمكن ضبطها بسعة رأسها وأسفلها، وعلو حائطها فهي كالأواني المربعة، وما فيه خلط من غيره ينقسم أربعة أقسام:
أحدها: ما خلطه لمصلحته، وهو غير مقصود في نفسه، كالإنفحة في الجبن، والملح في الخبز والشيرج، والماء في خل التمر فيصح السلم فيه لأنه يسير للمصلحة.
الثاني: أخلاط متميزة مقصودة كثوب منسوج من شيئين فيصح السلم فيه لأن ضبطه ممكن، وفي معناه النبل والنشاب.
وقال القاضي: لا يصح السلم فيهما، لأن فيه أخلاطاً ويختلف طرفاه ووسطه، فأشبه القسي، والأول أصح، لأن أخلاطه متميزة ممكن ضبطها، والاختلاف فيه يسير معلوم بالعادة، فهو كالثياب من جنسين بخلاف القسي.
الثالث: المغشوش كاللبن المشوب، والحنطة فيها الزوان فلا يصح السلم فيه، لأن غشه يمنع العلم المقصود فيه، فيكون فيه غرر.
الرابع: أخلاط مقصودة غير متميزة، كالغالية والند والمعاجين فلا يصح السلم فيه، لأن الصفة لا تأتي عليه، وفي معناه القسي المشتملة على الخشب والقرن والقصب والغزل والتوز فلا يصح السلم فيها للعجز عن مقادير ذلك، وتميز ما فيه منها، وفيه وجه آخر أنه يصح السلم فيها كالثياب.
[فصل في السلم في الحيوان]
فصل:
وفي الحيوان روايتان:
أظهرهما: صحة السلم فيه، لأن أبا رافع قال: «استسلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رجل بكراً» رواه مسلم. ولأنه يثبت في الذمة صداقاً، فصح السلم فيه كالثياب.
والثانية: لا يصح، لأنه يختلف اختلافاً متبايناً مع ذكر أوصافه الظاهرة، فربما تساوى العبدان في الصفات المعتبرة، وأحدهما يساوي أمثال صاحبه. وإن استقصى صفاته كلها تعذر تسليمه. وفي المعدود من الجوز والبيض، والبطيخ والرمان والبقل ونحوه روايتان:(2/63)
إحداهما: لا يصح لذلك.
والثانية: يصح لأن التفاوت يسير، ويمكن ضبطه بعضه بالصغر والكبر، وبعضه بالوزن. وفي الرؤوس والأطراف والجلود من الخلاف مثل ما ذكرنا فيما قبله.
فصل:
الشرط الثاني: معرفة قدره بالكيل إن كان مكيلاً، وبالوزن إن كان موزوناً، وبالذرع إن كان مذروعاً، لحديث ابن عباس، لأنه عوض غير مشاهد، يثبت في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن. ويجب أن يكون ما يقدر به معلوماً عند العامة، فإن قدره بإناء، أو صنجة بعينها غير معلومة لم يصح، لأنه قد يهلك، فيجهل قدره، وهذا غرر لا يحتاج العقد إليه. وإن أسلم في المكيل وزناً، وفي الموزون كيلاً، فعنه: لا يصح، لأنه مبيع اشترط معرفة قدره، فلم يجز بغير ما هو مقدر كالربويات. وعنه: ما يدل على الجواز، لأنه يخرجه عن الجهالة وهو الغرض، ولا بد من تقدير المذروع بالذرع، فأما المعدود فيقدر بالعدد، وقيل بالوزن، لأنه يتباين، والأولى أولى، لأنه يقدر به عنده العامة، والتفاوت يسير، ويضبط بالصغر والكبر، ولهذا لا تقع القيمة بين الجوزتين والبيضتين. فإن كان يتفاوت كثيراً، كالرمان والبطيخ والسفرجل والبقول قدره بالوزن، لأنه أضبط لكثرة تفاوته وتباينه، ولا يمكن ضبطه بالكيل، لتجافيه في المكيال، ولا بالحزم، لأنه يختلف، ويمكن حزم الكبير والصغير، فتعين بالوزن لتقديره.
فصل:
الشرط الثالث: أن يجعلا له أجلاً معلوماً، فإن أسلم حالاً لم يصح، لحديث ابن عباس، ولأن السلم إنما جاز رخصته للمرافق، ولا يحصل المرفق إلا بالأجل، فلا يصح بدونه، كالكتابة، فإن كان بلفظ البيع صح حالاً، قال القاضي: ويجوز التفرق قبل قبض رأس المال، لأنه بيع، ويحتمل أن لا يجوز لأنه بيع دين بدين. ويشترط في الأجل ثلاث أمور:
أحدها: كونه معلوماً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] وللخبر. فإن جعله إلى المحرم أو يوم منه، أو عيد الفطر ونحوها، جاز لقول الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] وإن قدره بغير ذلك مما يعرفه الناس، ككانون وعيد للكفار يعرفه المسلمون، جاز لأنه معلوم لا يختلف. وقال ابن أبي موسى: لا يصح،(2/64)
؛ لأنه لا يعرفه كثير من الناس. وإن كان مما لا يعرفه المسلمون، كالشعانين وعيد الفطر، لم يصح، وجهاً واحداً؛ لأن المسلمين لا يعرفونه، ولا يجوز تقليد أهل الذمة، فبقي مجهولاً. وإن جعلا الأجل إلى مدة معلومة كشهر معين تعلق بأولها. ولو قال: محله في رمضان، فكذلك؛ لأنه لو قال لزوجته: أنت طالق في رمضان، طلقت في أوله، ولو احتمل غير الأول لم يقع الطلاق بالشك. وإن جعله اسماً يتناول شيئين كربيع، تعلق بأولها كما لو علقه بشهر، وإن قال: ثلاثة أشهر، انصرف إلى الهلالية؛ لأنها الشهور في لسان الشرع، فإن كان أثناء شهر، كمل بالعدد ثلاثين، والباقي بالأهلة.
الأمر الثاني: أن يكون مما لا يختلف، فإن جعله إلى الحصاد والجذاذ والموسم، لم يصح؛ لأن ابن عباس قال: لا تتبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا إلا إلى شهر معلوم. ولأن ذلك يختلف ويقرب ويبعد، فلم يجز جعله أجلاً، كقدوم زيد. وعنه: أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس؛ لأن ابن عمر كان يبتاع إلى العطاء، ولأنه لا يتفاوت تفاوتاً كثيراً، فإن أسلم إلى العطاء يريد به وقته، وكان معلوماً، جاز، وإن أراد نفس العطاء، لم يصح؛ لأنه يختلف.
الأمر الثالث: أن تكون مدة لها وقع في الثمن، كالشهر ونصفه ونحوه فأما اليوم ونحوه، فلا يصح التأجيل به؛ لأن الأجل إنما اعتبر ليتحقق المرفق ولا يتحقق إلا بمدة طويلة. فإن أسلم في جنس إلى أجلين أو آجال، مثل أن يسلم في خبز أو لحم، يأخذ كل يوم أرطالاً معلومة، جاز؛ لأن كل بيع جاز إلى أجل جاز إلى آجال، كبيوع الأعيان. ويجوز أن يسلم في جنسين إلى أجل واحد كما ذكرنا.
فصل
الشرط الرابع: أن يكون المسلم فيه عام الوجود في محله، مأمون الانقطاع فيه؛ لأن القدرة على التسليم شرط ولا تتحقق إلا بذلك، فلو أسلم في العنب إلى شباط، لم يصح؛ لأنه لا يوجد فيه إلا نادراً. ولا يصح السلم في ثمرة بستان بعينه، ولا قرية صغيرة، لما روي «أن زيد بن سعنة أسلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانين ديناراً في تمر مكيل مسمى من تمر حائط بني فلان، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى» رواه ابن ماجه. ولأنه لا يؤمن تلفه، فلم يصح، كما لو قدره بمكيال معين، ولا يصح السلم في عين لذلك، ولأن الأعيان لا تثبت في الذمة.(2/65)
فصل
الشرط الخامس: أن يضبط بصفاته التي يختلف الثمن بها ظاهراً، فيذكر الجنس والنوع، والجودة والرداءة، والكبر والصغر، والطول والقصر والعرض والسمك، والنعومة والخشونة، واللين والصلابة، والرقة والصفاقة، والذكورية والأنوثية، والسن والبكارة، والثيوبة واللون والبلد، والرطوبة واليبوسة، ونحو ذلك مما يقبل هذه الصفات، ويختلف بها، ويرجع فيما لا يعلم منها تفسير أهل الخبرة، فإن شرط الأجود منها، لم يصح؛ لأنه يتعذر عليه الوصول إليه، فإن وصل إليه كان نادراً. وإن شرط الأردأ ففيه وجهان:
أحدهما: لا يصح لذلك.
والثاني: يصح؛ لأنه يمكنه تسليم السلم، أو خير منه من جنسه، فيلزم المسلم قبوله. وإن أسلم في جارية وابنتها، لم يصح؛ لأنه يتعذر وجودهما على ما وصف، وإن استقصى صفات السلم بحيث يتعذر وجوده، لم يصح؛ لأنه يعجز تسليمه.
فصل
الشرط السادس: أن يقبض رأس مال السلم في مجلس العقد قبل تفرقهما؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم» والإسلاف: التقديم، ولأنه إنما سمي سلماً وسلفاً، لما فيه من تقديم رأس المال، فإذا تأخر لم يكن سلماً، فلم يصح، ولأنه يصير بيع دين بدين، فإن تفرقا قبل قبضه، بطل. وإن تفرقا قبل قبض بعضه. بطل فيما لم يقبض، وفي المقبوض وجهان، بناء على تفريق الصفقة، ويجوز أن يكون في الذمة، ثم يعينه في المجلس ويسلمه.
ويجب أن يكون معلوماً، كالثمن في البيع، فإن كان معيناً، فظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي برؤيته؛ لأنه عوض معين، أشبه ثمن المبيع.
وقال القاضي: لا بد من وصفه، لقول أحمد: ويصف الثمن، ولأنه عقد لا يمكن إتمامه، وتسليم المعقود عليه في الحال، ولا يؤمن انفساخه، فوجب معرفة رأس المال بالصفات، ليرد بدله، كالقرض في الشركة، فعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال إلا ما يجوز أن يكون مسلماً فيه؛ لأنه يعتبر ضبط صفاته، فأشبه المسلم فيه.
[ما يجوز فيه السلم وما لا يجوز]
فصل
وكل مالين جاز النساء بينهما، جاز إسلام أحدهما في الآخر، وما لا فلا، فعلى قولنا يجوز النساء في العروض، يصح إسلام عرض في عرض وفي ثمن، فإن أسلم(2/66)
عرضاً في آخر بصفته، فجاءه به عند المحل، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه قبوله؛ لأنه أتاه بالمسلم فيه على صفته، فلزمه قبوله كغيره.
والثاني: لا يلزمه قبوله؛ لأنه يفضي إلى كون الثمن هو المثمن. وإن أسلم صغيراً في كبير، فحل السلم، وقد صار الصغير على صفته الكبير، فعلى الوجهين.
فصل
ولا يشترط وجود المسلم فيه قبل المحل، لا حين العقد ولا بعده؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فلم ينههم عنه، وفي الثمار ما ينقطع في أثناء السنة، فلو حرم لبينه، ولأنه يثبت في الذمة ويوجد عند المحل، فصح السلم فيه، كالموجود في جميع المدة.
فصل
ولا يشترط ذكر مكان الإيفاء؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر في حديث ابن عباس، ولا في حديث زيد بن سعنة، ولأنه عقد معاوضة، أشبه البيع. ويكون الإيفاء في مكان العقد، كالبيع، فإن كان السلم في موضع لا يمكن الوفاء فيه، كالبرية، تعين ذكر مكان الإيفاء، ولأنه لا بد من مكان، ولا قرينة تعين، فوجب تعيينه بالقول. وإن كان في موضع يمكن الوفاء فيه، فشرطه كان تأكيداً، وإن شرطا مكاناً سواه، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأنه ينافي مقتضى العقد.
والثانية: يصح؛ لأنه عقد بيع، فصح شرط مكان الإيفاء فيه كالبيع، وبهذا ينتقض دليل الأولى.
فصل
ويجب تسليم السلم عند المحل على أقل ما وصف به، سليماً من العيوب والغش، فإن كان في البر قليل من تراب، أو دقيق تبن لا يأخذ حظاً من الكيل، وجب قبوله؛ لأنه دون حقه. وإن أحضره بصفته، وجب قبوله، وإن تضمن ضرراً؛ لأنه حقه، فوجب قبوله كالوديعة، فإن امتنع دفعه إلى الحاكم، وبرئ لذلك، فإن كان أجود من حقه في الصفة، لزم قبوله؛ لأنه زاده خيراً، وإن طلب عن الزيادة عوضاً لم يجز؛ لأنها صفة، ولا يجوز إفراد الصفات بالبيع. وإن جاءه بأردأ من حقه، لم يجب قبوله، وجاز أخذه، وإن أعطاه عوضاً عن الجودة الفائتة، لم يجز لذلك، ولأنه بيع جزء من السلم قبل قبضه. وإن أعطاه غير المسلم فيه، لم يجز أخذه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى(2/67)
غيره» رواه أبو داود. ولأنه بيع للسلم قبل قبضه، فلم يجز كما لو أخذ عنه ثمناً، وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى فيمن أسلم في بر، فرضي مكنه شعيراً مثل كيله: جاز، ولعل هذا بناء على رواية كون البر والشعير جنساً، والصحيح غيرها. وإن أعطاه غير نوع السلم، جاز قبوله، ولا يلزم.
وقال القاضي: يلزم قبوله إذا لم يكن أدنى من النوع الذي شرطه؛ لأنه من جنسه، فأشبه الزائد في الصفة من نوع واحد، والأول أصح؛ لأنه لم يأتِ بالشروط، فلم يلزم قبوله كالأدنى بخلاف الزائد في الصفة، فإنه أحضر المشروط مع زيادة، ولأن أحد النوعين يصلح لما لا يصلح له الآخر بخلاف الصفة.
فصل
فإن أحضره قبل محله، أو في مكان الوفاء، فاتفقا على أخذه، جاز. إن أعطاه عوضاً عن ذلك أو نقصه من السلم، لم يجز؛ لأنه بيع الأجل والحمل. وإن عرضه عليه، فأبى أخذه لغرض صحيح، مثل أن تلزمه مؤنة لحفظه أو حمله أو عليه مشقة، أو يخاف تلفه، أو أخذه منه، لم يلزمه أخذه. وإن أباه لغير غرض صحيح، لزمه؛ لأنه زاد خيراً، فإن امتنع رفع الأمر إلى الحاكم، ليأخذه، لما روي أن أنساً كاتب عبداً له على مال، فجاءه به قبل الأجل، فأبى أن يأخذه، فأتى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأخذه منه، وقال: اذهب فقد عتقت. ولأنه زاده خيراً.
فصل
وإذا قبضه بما قدره به من كيل أو غيره، برئ صاحبه. وإن قبضه جزافاً، قدره، فأخذ قدر حقه، ورد الفضل، أو طالب بتمام حقه، إن كان ناقصاً. وهل له التصرف في قدر حقه قبل تقديره؟ على وجهين:
أحدهما: له ذلك؛ لأنه قدر حقه وقد أخذه، ودخل في ضمانه.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه لم يقبضه القبض المعتبر. وإن اختلفا في القبض، فالقول قول المسلم؛ لأنه منكر. وإن اختلفا في حلول الأجل، فالقول قول المسلم إليه؛ لأنه منكر.(2/68)
فصل
وإن تعذر تسليم السلم عند المحل، فللمسلم الخيار بين أن يصبر إلى أن يوجد، وبين فسخ العقد، والرجوع برأس ماله، إن كان موجوداً، أو مثله، إن كان مثلياً، أو قيمته إن لم يكن مثلياً، وقيل: ينفسخ العقد بالتعذر؛ لأن المسلم في ثمرة هذا العام وقد هلكت، فانفسخ العقد، كما لو اشترى قفيزاً من صبرة، فهلكت. والأول أصح؛ لأن السلم في الذمة لا في عين، وإنما لزمه الدفع من ثمرة هذا العام، لتمكنه من دفع الواجب منها، فإن تعذر البعض، فله الخيرة بين الصبر بالباقي، وبين الفسخ في الجميع. وله أخذ الموجود، والفسخ في الباقي في أصح الوجهين؛ لأنه فسخ في بعض المعقود عليه أشبه البيع، وفي الآخر: لا يجوز؛ لأن السلم يقل فيه الثمن لأجل التأجيل، فإذا فسخ في البعض، بقي البعض بالباقي من الثمن، وبمنفعة الجزء الذي فسخ فيه، فلم يجز، كما لو شرطه في ابتداء العقد. وتجوز الإقالة في السلم كله إجماعاً وتجوز في بعضه؛ لأن الإقالة معروف، جاز في الكل، فجاز في البعض كالإبراء.
وعنه: لا يجوز، لما ذكرنا في الفسخ، والأول أصح؛ لأن باقي الثمن يستحق باقي العوض. وإذا فسخ العقد، رجع بالثمن، أو ببدله إن كان معدوماً. وليس له صرفه في عقد آخر قبل قبضه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» .
وقال القاضي: يجوز أخذ العوض عنه؛ لأنه عوض مستقر في الذمة، فأشبه القرض. فعلى هذا يصير حكمه حكم القرض على ما سيأتي.
فصل
ولا يجوز بيع السلم قبل قبضه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن بيع ما لم يضمن» . رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، ولفظه: لا يحل، ولأنه مبيع لم يدخل في ضمانه، فلم يجز بيعه، كالطعام قبل قبضه. ولا يجوز التولية فيه، ولا الشركة، لما ذكرنا في الطعام، ولا الحوالة به؛ لأنها إنما تجوز بدين مستقر، والسلم بعوض الفسخ. ولا تجوز الحوالة على من عليه سلم؛ لأنها معاوضة بالسلم قبل قبضه. ولا يجوز بيع السلم من بائعه قبل قبضه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» ولأنه بيع للمسلم فيه، فلم يجز كبيعه من غيره.
فصل
وإذا قبضه فوجده معيبا، فله رده وطلب حقه؛ لأن العقد يقتضي السلامة وقد أخذ المعيب عما في الذمة، فإذا رده، رجع إلى ما في الذمة. وإن حدث فيه عيب عنده، فهو كما لو حدث العيب في المبيع بعد قبضه على ما مضى.(2/69)
[باب القرض]
ويسمى سلفاً، وأجمع المسلمون على جوازه واستحبابه للمقرض. وروى ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة» رواه ابن ماجه. ويصح بلفظ القرض، وبكل لفظ يؤدي معناه. نحو أن يقول: ملكتك هذا على أن ترد بدله، فإن لم يذكر البدل، فهو هبة. وإذا اختلفا، فالقول قول المملك؛ لأن الظاهر معه؛ لأن التمليك بغير عوض هبة، ويثبت الملك في القرض بالقبض؛ لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه، كالهبة. ولا خيار فيه؛ لأن المقرض دخل على بصيرة أن الحظ لغيره، فهو كالواهب. ويصح شرط الرهن فيه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رهن درعه على شعير أخذه لأهله» متفق عليه.
وإن شرط فيه الأجل، لم يتأجل، ووقع حالاً؛ لأن التأجيل في الحال عدة وتبرع، فلا يلزم، كتأجيل العارية. ولو أقرضه تفاريق، ثم طالبه به جملة، لزم المقترض ذلك لما قلناه. فإذا أراد المقرض الرجوع في عين ماله، وبذل المقترض مثله، فالقول قول المقترض؛ لأن الملك قد زال عن العين بعوض. فأشبه البيع اللازم. وإن أراد المقترض رد عين المال، لزم المقرض قبوله؛ لأنه بصفة حقه، فلزمه قبوله. كما لو دفع إليه المثل.
[فصل فيما يصح قرضه]
فصل
ويصح قرض كل ما يصح السلم فيه؛ لأنه يُملك بالبيع، ويُضبط بالصفة، فصح قرضه كالمكيل، إلا بني آدم، فإن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كره قرضهم، فيحتمل التحريم. اختاره القاضي؛ لأنه لم ينقل، ولا هو من المرافق، ولأنه يفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها، ثم يردها، ويحتمل الجواز؛ لأن السلم فيه صحيح، فصح قرضهم كالبهائم. فأما ما لا يصح السلم فيه، كالجواهر، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز. ذكره أبو خطاب؛ لأن القرض يقتضي رد المثل وهذا لا مثل له.
والثاني: يجوز، قاله القاضي؛ لأن ما لا مثل له تجب قيمته. والجواهر كغيرها في القيمة.(2/70)
ولا يجوز القرض إلا في معلوم القدر، فإن أقرضه فضة لا يعلم وزنها، أو مكيلاً لا يعلم كيله، لم يجز؛ لأن القرض يقتضي رد المثل، وإذا لم يعلم، لم يتمكن من القضاء.
فصل
ويجب رد المثل في المثليات؛ لأنه يجب مثله في الإتلاف، ففي القرض أولى. فإن أعوز المثل، فعليه قيمته حين أعوز؛ لأنها حينئذ ثبت في الذمة. وفي غير المثلي وجهان:
أحدهما: يرد القيمة؛ لأن ما أوجب المثل في المثلي أوجب القيمة في غيره، كالإتلاف.
والثاني: يرد المثل؛ لما روى أبو رافع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استسلف من رجل بَكراً، فقدمت عليه إبل للصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكره، فرجع إليه أبو رافع، فقال: يا رسول الله لم أجد فيها إلا خياراً رباعياً، فقال: أعطه إياه، فإن من خير الناس أحسنهم قضاء» رواه مسلم. ولأن ما يثبت في الذمة في السلم ثبت في القرض كالمثلي، بخلاف الإتلاف، فإنه عدوان، فأوجب القيمة؛ لأنه أحصر. والقرض ثبت للرفق، فهو أسهل. فعلى هذا يعتبر مثله في الصفات تقريباً، فإن قلنا: يرد القيمة اعتبرت حين القرض؛ لأنها حينئذ تجب.
فصل
ويجوز قرض الخبز، ورد مثله عدداً بغير وزن في الشيء اليسير. وعنه: لا يجوز إلا بالوزن، قياساً على الموزونات. ووجه الأول ما روت «عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إن الجيران يقترضون الخبز والخمير، ويردون زيادة ونقصاناً. فقال: لا بأس، إنما ذلك من مرافق الناس» وعن «معاذ: أنه سئل عن اقتراض الخبز والخمير فقال: سبحان الله! إنما هذا من مكارم الأخلاق، فخذ الكبير وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاء، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول ذلك» . رواهما أبو بكر في الشافي.(2/71)
فصل
فإن أقرضه فلوساً، أو مكسرة، فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها، فعليه قيمتها يوم أخذها، نص عليه؛ لأنه منع إنفاقها، فأشبه تلف أجزائها. فإن لم تترك المعاملة بها، لكن رخصت، فليس له إلا مثلها؛ لأنها لم تتلف، إنما تغير سعرها، فأشبهت الحنطة إذا رخصت.
فصل
ولا يجوز أن يشترط في القرض شرطًا يجر به نفعاً، مثل أن يشترط رد أجود منه أو أكثر، أو أن يبيعه، أو أن يشتري منه، أو يؤجره، أو يستأجر منه، أو يهدي له، أو يعمل له عملاً ونحوه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نهى عن بيع وسلف» . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وعن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم نهوا عن قرض جر منفعة؛ ولأنه عقد إرفاق، وشرط ذلك يخرجه عن موضوعه. وإن شرط أن يوفيه في بلد آخر، أو يكتب له به سفتجة إلى بلد في حمله إليه نفع، لم يجز لذلك، فإن لم يكن لحمله مؤنة، فعنه: الجواز؛ لأن هذا ليس بزيادة قدر ولا صفة، فلم يفسد به القرض، كشرط الأجل. وعنه: في السفتجة مطلقاً روايتان؛ لأنها مصلحة لهما جميعاً. وإن شرط رد دون ما أخذ، لم يجز لأنه ينافي مقتضاه، وهو رد المثل، فأشبه شرط الزيادة. ويحتمل أن لا يبطله؛ لأن نفع المقترض لا يمنع منه؛ لأن القرض إنما شرع رفقاً به، فأشبه شرط الأجل، بخلاف الزيادة. وكل موضوع بطل الشرط فيه، ففي القرض وجهان:
أحدهما: يبطل؛ لأنه قد روي «كل قرض جر منفعة، فهو ربا» .
والثاني: لا يبطل؛ لأن القصد إرفاق المقترض. فإذا بطل الشرط، بقي الإرفاق بحاله.
فصل
وإن وفى خيراً منه في القدر، أو الصفة من غير شرط، ولا مواطأة، جاز؛ لحديث أبي رافع. وإن كتب له به سفتجة، أو قضاه في بلد آخر، أو أهدى إليه هدية بعد الوفاء، فلا بأس لذلك. وقال ابن أبي موسى: إن زاده مرة، لم يجز أن يأخذ في المرة الثانية زيادة، قولاً واحداً. ولا يكره قرض المعروف، لحسن القضاء. وذكر القاضي وجهاً في كراهته؛ لأنه يطمع في حسن عادته. والأول أصح؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان معروفاً بحسن القضاء، فلم يكن قرضه مكروهاً، ولأن خير الناس أحسنهم قضاء، ففي كراهة قرضه تضييق على خير الناس، وذوي المروءات.(2/72)
فصل
وإن أهدى له قبل الوفاء من غير عادة، أو استأجر منه بأكثر من الأجرة، أو أجره شيئاً بأقل، أو استعمله عملاً، فهو خبيث إلا أن يحسبه من دينه، كما روى الأثرم: أن رجلاً كان له على سماك عشرون درهماً، فجعل يهدي إليه السمك ويقومه، حتى بلغ ثلاثة عشر درهماً، فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم. وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» فإن كان بينهما عادة بذلك قبل القرض أو كافأه، فلا بأس؛ لهذا الحديث.
فصل
وإن أفلس غريمه، فأقرضه ليوفيه كل شهر شيئاً منه، جاز؛ لأنه إنما انتفع باستيفاء ما يستحق استيفاؤه. ولو كان له طعام عليه، فأقرضه ما يشتريه به ويوفيه، جاز لذلك. ولو أراد تنفيذ نفقة إلى عياله، فأقرضها رجلاً ليوفيها لهم، فلا بأس؛ لأنه مصلحة لهما، لا ضرر فيه، ولا يرد الشرع بتحريم ذلك.
قال القاضي:
ويجوز قرض مال اليتيم للمصلحة
، مثل أن يقرضه في بلد ليوفيه في بلد آخر، ليربح خطر الطريق. وفي معنى هذا: قرض الرجل فلّاحه حباً يزرعه في أرضه، أو ثمناً يشتري به بقراً وغيرها؛ لأنه مصلحة لهما. وقال ابن أبي موسى: هذا خبيث.
فصل
وإذا قال المقرض: إذا مت، فأنت في حل، فهي وصية صحيحة. وإن قال: إن مت، فأنت في حل، لم يصح؛ لأنه إبراء علق على شرط. وإن قال: اقترض لي مائة ولك عشرة، صح؛ لأنها جعالة على ما بذله من جاهه. وإن قال: تكفل عني بمائة ولك عشرة، لم يجز؛ لأنه يلزمه أداء ما كفل به، فيصير له على المكفول، فيصير بمنزلة من أقرضه مائة، فيصير قرضاً جر نفعاً. ولو أقرضه تسعين عدداً بمائة عدداً، وزنهما واحد، وكانت لا تتفق برؤوسها، فلا بأس به؛ لأنه لا تفاوت بينهما في قيمة ولا وزن، وإن كانت تتفق في موضع برؤوسها، لم يجز؛ لأنها زيادة.(2/73)
فصل
وإن أقرضه نصف دينار، فأتاه بدينار صحيح، وقال: خذ نصفه وفاء، ونصفه وديعة، أو سلماً، جاز. وإن امتنع من أخذه، لم يلزمه؛ لأن عليه ضرراً في الشركة. والسلم عقد يعتبر فيه الرضى، ولو أقرضه نصفاً قراضة على أن يوفيه نصفاً صحيحاً، لم يجز؛ لأنه شرط زيادة، والله أعلم.
[باب الرهن]
وهو المال يجعل وثيقة بالدين المستوفى منه إن تعذر وفاؤه من المدين ويجوز في السفر؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وفي الحضر؛ لما روت عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] : «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه» متفق عليه؛ ولأنه وثيقة جازت في السفر، فتجوز في الحضر كالضمان والشهادة.
فصل
ويجوز الرهن بعوض القرض؛ للآية. وبثمن المبيع؛ للخبر. وكل دين يمكن استيفاؤه منه؛ كالأجرة، والمهر، وعوض الخلع، ومال الصلح، وأرش الجناية والعيب، وبدل المتلف. قياساً على الثمن، وعوض القرض وفي دين السلم روايتان:
إحداهما: يصح الرهن به للآية والمعنى.
والأخرى: لا يجوز؛ لأنه لا يأمن هلاك الرهن بعدوان، فيصير مستوفياً حقه من غير المسلم فيه. وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء، فلا يصرفه إلى غيره» .
[الرهن بمال الكتابة]
فصل
ولا يجوز الرهن بمال الكتابة؛ لأنه غير لازم. فإن للعبد تعجيز نفسه، ولا يمكن استيفاؤه من الرهن، لأنه لو عجز، صار هو والرهن لسيده. ولا يجوز بما يحمل العاقلة من الدية قبل الحول؛ لأنه لم يجب، ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب، فإنه يحتمل حدوث ما يمنع وجوبه. ويجوز الرهن به بعد الحول؛ لأنه دين مستقر. ولا يجوز بالجعل في الجعالة قبل العمل؛ لعدم الوجوب، ويجوز بعده.
وقال القاضي: يحتمل جواز الرهن به قبل العمل؛ لأن مآله إلى الوجوب. ولا يصح(2/74)
الرهن بما ليس بثابت في الذمة، كالثمن المتعين، والأجرة المتعينة، والمنافع المعينة. نحو أن يقول: أجرتك داري هذه شهراً؛ لأن العين لا يمكن استيفاؤها من الرهن، ويبطل العقد بتلفها. وقياس هذا أنه لا يصح الرهن بالأعيان المضمونة، كالمغصوب والعارية والمقبوض على وجه السوم؛ لتعذر استيفاء العين من الرهن. وإن جعله بقيمتها كان رهناً بما لم يجب. ولا يعلم أن مآله إلى الوجوب.
وقال القاضي: قياس المذهب صحة الرهن بها؛ لصحة الكفالة بها.
فصل
ويصح الرهن بالحق بعد ثبوته. لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . ومع ثبوته وهو أن يشترط الرهن في عقد البيع أو القرض؛ لأن الحاجة داعية إليه. فإنه لو لم يشترطه، لم يلزم الغريم الرهن. وإن رهن قبل الحق، لم يصح في ظاهر المذهب. اختاره أبو بكر والقاضي؛ لأنه تابع للدين، فلا يجوز قبله كالشهادة. واختار أبو الخطاب: صحته. فإذا دفع إليه رهناً على عشرة دراهم يقرضه إياه، ثم أقرضه، لزم الرهن؛ لأنه وثيقة بحق، فجاز عقدها قبله كالضمان.
فصل
ولا يلزم الرهن من جهة المرتهن؛ لأن العقد لِحَظِّهِ وحده، فكان له فسخه كالمضمون له. ويلزمه من جهة الراهن؛ لأن الحظ لغيره فلزمه من جهته، كالضمان في حق الضامن، ولأنه وثيقة فأشبه الضمان. ولا يلزم إلا بالقبض؛ لقول الله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . ولأنه عقد إرفاق، فافتقر إلى القبض كالقرض. وعنه في غير المكيل والموزون: أنه يلزم بمجرد العقد، قياساً على البيع. والأول: المذهب؛ لأن البيع معاوضة، وهذا إرفاق، فهو أشبه بالقرض. وإذا كان الرهن في يد الراهن، لم يجز قبضه إلا بإذنه؛ لأنه له قبل القبض، فلا يملك المرتهن إسقاط حقه بغير إذنه، كالموهوب. وإن كان في يد المرتهن، فظاهر كلامه لزومه، بمجرد العقد؛ لأن يده ثابتة عليه، وإنما يعتبر الحكم فقط، فلم يحتج إلى قبض، كما لو منع الوديعة صارت مضمونة. وقال القاضي وأصحابه: لا يلزمه حتى تمضي مدة يتأتى قبضه فيها، ولو كان غائباً، لا يصير مقبوضاً حتى يوافيه هو أو وكيله، ثم تمضي مدة يمكن قبضه فيها؛ لأن(2/75)
العقد يفتقر إلى القبض، ولا يحصل القبض إلا بفعله، أو إمكانه، ثم هل يفتقر إلى إذن الراهن في القبض، على وجهين:
أحدهما: لا يفتقر إليه؛ لأن إقراره عليه كإذنه فيه.
والثاني: يفتقر؛ لأنه قبض يلزم به عقد غير لازم، فافتقر إلى الإذن كما لو لم يكن في يده.
فصل
وإذا أذن في القبض، ثم رجع عنه قبل القبض، أو قبل مضي مدة يتأتى القبض فيها، لما في يده، فهو كمن لم يأذن؛ لأن الإذن قد زال. وإن أذن فيه ثم جن أو أغمي عليه، زال الإذن؛ لخروجه عن كونه من أهله. ويقوم ولي المجنون مقامه، إن رأى الحظ في القبض، أذن فيه، وإلا فلا. وإن تصرف الراهن في الرهن قبل قبضه، بعتق أو هبة أو بيع أو جعله مهراً، بطل الرهن؛ لأن هذه التصرفات تمنع الرهن، فانفسخ بها. وإن رهنه، بطل الأول؛ لأن المقصود منه ينافي الأول. وإن دبره، أو أجره أو زوج الأمة، لم يبطل الرهن؛ لأن هذه التصرفات لا تمنع البيع، فلا تمنع صحة الرهن. وإن كاتب العبد ـ وقلنا: يصح رهن المكاتب ـ لم يبطل بكتابته؛ لأنه لا ينافيها. وإن قلنا: لا يصح رهنه، بطل بها لتنافيها.
فصل
وإن مات أحد المتراهنين، لم يبطل الرهن؛ لأنه عقد لا يبطله الجنون، أو مآله إلى اللزوم، فلم يبطله الموت كبيع الخيار. ويقوم وارث الميت مقامه في الإقباض والقبض، فإن لم يكن على الراهن دين سوى دين الرهن، فلوارثه إقباضه. وإن كان عليه دين سواه، فليس له إقباضه؛ لأنه لا يملك تخصيص بعض الغرماء برهن. وعنه: له إقباضه؛ لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة، بخلاف غيره. والأول أولى؛ لأن حقوق الغرماء تعلقت بالتركة قبل لزوم حقه، فلم يجز تخصيصه بغير رضاهم، كما لو أفلس الراهن، فإن أذن الغرماء في إقباضه، جاز؛ لأن الحق لهم، فإذا قبضه، لزم، سواء مات قبل الإذن في القبض أو بعده.
فصل
وإن حجر على الراهن قبل القبض، لم يملك إقباضه فإن كان الحجر لسفه، قام وليه مقامه كما لو جن، وإن كان لفلس، لم يجز لأحد إقباضه إلا بإذن الغرماء؛ لأن فيه تخصيص المرتهن بثمنه دونهم.(2/76)
فصل
ومتى امتنع الراهن من إقباضه، وقلنا: إن القبض ليس بشرط في لزومه أجبره الحاكم. وإن قلنا: هو شرط، لم يجبره، وبقي الدين بغير رهن. وهكذا إن انفسخ الرهن قبل القبض، إلا أن يكون مشروطاً في بيع، فيكون للبائع الخيار بين فسخ البيع وإمضائه؛ لأنه لم يسلم له ما شرط، فأشبه ما لو شرط صفة في المبيع فبان بخلافها. وإن قبض الرهن، فوجد معيباً، فله الخيار؛ لأنه لم يسلم له ما شرطه. فإن رضيه معيباً، فلا أرش له؛ لأن الرهن إنما لزم فيما قبض دون الجزء الفائت. وإن حدث العيب، أو تلف الرهن في يد المرتهن، فلا خيار له؛ لأن الراهن وفى له بما شرط، فإن تعب عنده، ثم أصاب به عيباً قديماً، فله رده، وفسخ البيع؛ لأن العيب الحادث عنده لا يجب ضمانه على المرتهن وخرجه القاضي على الروايتين في البيع. وإن علم بالعيب بعد تلفه، لم يملك فسخ البيع؛ لأنه قد تعذر عليه رد الرهن، لهلاكه.
فصل
ولا ينفك شيء من الرهن حتى يقضي جميع ديونه؛ لأنه وثيقة به، فكان وثيقة بكل جزء منه كالضمان. فإن رهن شيئا من رجلين، أو رهن رجلان رجلاً شيئاً، فبرئ أحدهما، أو برئ الراهن من دين أحدهما، انفك نصف الراهن؛ لأن الصفقة التي في أحد طرفيها عقدان فلا يقف انفكاك أحدهما على فكاك الآخر، كما لو فرق بين العقدين. وإن أراد الراهن مقاسمة المرتهن في الأولى، أو أراد الراهنان القسمة في الثانية ولا ضرر فيها، كالحبوب والأدهان، أجبر الممتنع عليها، وإن كان فيها ضرر، لم يجبر عليها، كغير الرهن، ويبقى الرهن مشاعاً.
فصل
واستدامة القبض كابتدائه في الخلاف في اشتراطه للآية، ولأنها إحدى حالتي الرهن، فأشبهت الابتداء، فإن قلنا باشتراطه، فأخرجه المرتهن عن يده باختياره إلى الراهن، زال لزومه، وبقي كالذي لم يقبض، مثل أن أجره إياه، أو أودعه، أو أعاره أو غير ذلك. فإن رده الراهن إليه، عاد اللزوم بحكم العقد السابق؛ لأنه أقبضه باختياره، فلزم به كالأول. وإن أزيلت يد المرتهن بعدوان، كغضب ونحوه، فالرهن بحاله؛ لأن يده ثابتة حكماً، فكأنها لم تزل.
فصل
والرهن أمانة في يد المرتهن، إن تلفت بغير تعد منه، لم يضمنه، ولم يسقط شيء من دينه؛ لما روى الأثرم عن سعيد بن المسيب قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرهن لا(2/77)
يغلق، والرهن ممن رهنه» . ولأنه وثيقة بدين ليس بعوض عنه، فلم يسقط بهلاكه كالضامن. وإن كان الرهن فاسداً، لم يضمنه؛ لأن ما لا يضمن بالعقد الصحيح، لا يضمن بالعقد الفاسد. وإن وقت الرهن، فتلف بعد الوقت، ضمنه؛ لأنه مقبوض بغير عقد. وإن رهنه مغصوباً، لم يعلم به المرتهن، فهل للمالك تضمين المرتهن؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يضمنه؛ لأنه دخل على أنه أمين.
والثاني: يضمنه؛ لأنه قبضه من يد ضامنه، فإذا ضمنه رجع على الراهن في أحد الوجهين؛ لأنه غره. والثاني: لا يرجع؛ لأن التلف حصل في يده فاستقر الضمان عليه، وإن ضمن الراهن، فهل يرجع على المرتهن؟ على وجهين إن قلنا: يرجع المرتهن، لم يرجع الراهن، وإن قلنا: لا يرجع ثم رجع هاهنا وإن انفك الرهن بقضاء أو إبراء، بقي الرهن أمانة؛ لأن قبضه حصل بإذن مالكه، لا لتخصيص القابض بنفعه فأشبه الوديعة.
فصل
إذا حل الدين فوفاه الراهن، انفك الرهن. وإن لم يوفه وكان قد أذن في بيع الرهن، بيع واستوفي الدين من ثمنه. وما بقي فله. وإن لم يأذن، طولب بالإيفاء أو ببيعه، فإن أبى أو كان غائباً، فعل الحاكم ما يراه من إجباره على البيع، أو القضاء، أو بيع الرهن بنفسه، أو بأمينه، والله أعلم.
[باب ما يصح رهنه وما لا يصح]
يصح رهن كل عين يصح بيعها؛ لأن مقصود الرهن الاستيثاق بالدين باستيفائه من ثمنه عند تعذر استيفائه من الراهن، وهذا يحصل مما يجوز بيعه. ويصح رهن المتاع؛ لأنه يجوز بيعه، فجاز رهنه كالمفرز، ثم إن اتفقا على جعله في يد المرتهن، أو يد عدل وديعة للمالك، أو بأجرة، جاز. وإن اختلفا، جعله الحاكم في يد عدل وديعة لهما، أو يؤجره لهما محبوساً قدر الرهن للمرتهن، وإن رهن نصيبه من جزء من المشاع وكان مما لا ينقسم، جاز. وإن جازت قسمته، احتمل جواز رهنه؛ لأنه يصح بيعه، واحتمل أن لا يصح؛ لاحتمال أن يقتسماه، فيحصل المرهون في حصة الشريك. ويصح رهن العبد المرتد والجاني؛ لأنه يجوز بيعهما. وفي رهن القاتل في المحاربة وجهان، بناء على بيعه. ويصح رهن المدبر في ظاهر المذهب، لظهوره في بيعه. ويصح رهن من علق عتقه بصفة توجد بعد حلول الدين، لإمكان استيفائه من ثمنه. وإن كانت الصفة توجد قبل حلول الدين، لم يجز رهنه؛ لأنه لا يمكن استيفاؤه من ثمنه. وإن كانت(2/78)
تحتمل الأمرين، احتمل أن يصح رهنه؛ لأن الأصل بقاء العقد، والعتق قبله مشكوك فيه، فهو كالمدبر واحتمل أن لا يصح رهنه؛ لأنه يحتمل العتق قبل حلول الحق، وهذا غرر لا حاجة إليه. فإن مات سيد المدبر وهو يخرج من الثلث، أو وجدت الصفة، عتق، وبطل الرهن. ولا يصح رهن المكاتب؛ لتعذر استدامة قبضه. ويتخرج أن يصح إن قلنا: استدامة القبض غير مشترطة، وأنه يصح بيعه، ويكون ما يؤديه من نجوم كتابته، رهناً معه. وإن عتق، بقي ما أداه رهناً، كالقن إذا مات بعد الكسب، وجميع هذه المعاني عيوب، لها حكم غيرها من العيوب.
فصل
ويصح رهن ما يسرع إليه الفساد؛ لأنه مما يجوز بيعه، وإيفاء الدين من ثمنه، فأشبه الثياب، فإن كان الدين يحل قبل فساده، بيع وقضي من ثمنه. وإن كان يفسد قبل الحلول، وكان مما يمكن إصلاحه بالتجفيف، كالعنب، جفف. ومؤنة تجفيفه على الراهن؛ لأنه من مؤنة حفظه، فأشبه نفقة الحيوان. وإن كان مما لا يجفف، فشرطا بيعه، وجعل ثمنه رهناً، فعلا ذلك. وإن لم يشرطاه، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح الرهن ويباع كما لو شرطاه؛ لأن الحال يقتضي ذلك لكون المالك لا يعرض ملكه للتلف، فحمل مطلق العقد عليه، كما يحمل على تجفيف العنب.
والثاني: لا يصح؛ لأن البيع إزالة ملكه قبل حلول الحق، فلم يجبر عليه كغيره. وإن شرط أن لا يباع، فسد وجهاً واحداً؛ لأنه إن وفى بشرطه، لم يمكن إيفاء الدين من ثمنه، وإن رهنه عصيراً، صح لذلك، فإن تخمر خرج من الرهن؛ لأنه لا قيمة له. فإن عاد خلاً، عاد رهناً لأن العقد كان صحيحاً، فلما طرأ عليه معنى أخرجه عن حكمه، ثم زال المعنى، عاد الحكم كما لو ارتد أحد الزوجين، ثم عاد في العدة عادت الزوجية. وإن كان استحالته قبل القبض، لم يعد رهناً؛ لأنه ضعيف، فأشبه الردة قبل الدخول.
فصل
ويصح رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع الأخضر مطلقاً وبشرط التبقية؛ لأن الغرر يقل فيه، لاختصاصه بالوثيقة مع بقاء الدين بحاله، بخلاف البيع، قال القاضي: ويصح رهن المبيع المكيل والموزون قبل قبضه؛ لأن قبضه مستحق للمشتري، فيمكنه قبضه، ثم يقبضه. وإنما منع من بيعه، لئلا يربح فيما لم يضمنه وهو منهي عنه. وإن رهن ثمرة إلى محل تحدث فيه أخرى لا تتميز، فالرهن باطل؛ لأنه مجهول حين حلول(2/79)
الحق، فلا يمكن إمضاء الرهن على مقتضاه. وإن رهنها بدين حال، أو شرط قطعها عند خوف اختلاطها، جاز؛ لأنه لا غرر فيه، فإن لم يقطعها حتى اختلطت، لم يبطل الرهن؛ لأنه وقع صحيحاً، لكن إن سمح الراهن ببيع الجميع، أو اتفقا على قدر منه، جاز. وإن اختلفا وتشاحا، فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأنه منكر.
فصل
ويصح رهن الجارية دون ولدها؛ لأن الرهن لا يزيل الملك، فلا يحصل التفريق فيه. فإن احتيج إلى بيعها، بيع ولدها معها؛ لأن التفريق بينهما محرم، والجمع بينهما في البيع جائز، فتعين. وللمرتهن من الثمن بقدر قيمة الجارية منه، وكونها ذات ولد عيب؛ لأنه ينقص من ثمنها.
فصل
ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه، غير ما ذكرنا، كالوقف وأم الولد، والكلب ونحوها؛ لأنه لا يمكن إيفاء الدين منه وهو المقصود. ولا يصح رهن ما لا يقدر على تسليمه. ولا المجهول الذي لا يجوز بيعه؛ لأن الصفات مقصودة في الرهن لإيفاء الدين، كما تقصد في البيع للوفاء بالثمن. ولا رهن مال غيره بغير إذنه، ويتخرج جوازه ويقف على إجازة مالكه، كبيعه. فإن رهن عيناً يظنها لغيره وكانت ملكه، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه صادف ملكه.
والثاني: لا يصح؛ لأنه عقده معتقداً فساده. ولا يصح رهن الرهون من غير إذن المرتهن؛ لأنه لا يملك بيعه في الدين الثاني، فإن رهنه عند المرتهن بدين آخر، مثل أن رهنه عبداً على ألف، ثم استدان منه ديناً آخر، وجعل العبد رهناً بهما، لم يصح؛ لأنه رهن مستحق بدين، فلم يجز رهنه بغيره كما لو رهنه عند غير المرتهن.
فصل
ولا يصح رهن ما لا يجوز بيعه من أرض الشام والعراق ونحوهما مما فتح عنوة في ظاهر المذهب؛ لأنها وقف. وما فيها من بناء من ترابها، فحكمه حكمها. وما جدد فيها من غراس وبناء من غراس وبناء من غير ترابها، إن أفرده بالرهن، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يصح؛ لأنه تابع لما لا يجوز رهنه، فهو كأساسات الحيطان.
والثانية: يجوز؛ لأنه مملوك غير موقوف، وإن رهنه مع الأرض، بطل في الأرض، والغراس والبناء وجهان بناء على تفريق الصفقة.(2/80)
فصل
وفي رهن المصحف، روايتان، كبيعه. وإن رهنه أو رهن كتب الحديث، أو عبداً مسلماً لكافر، لم يصح؛ لأنه لا يصح بيعه له، ويحتمل أن يصح إذا شرطا كونه في يد مسلم، ويبيعه الحاكم إذا امتنع مالكه؛ لأن الرهن لا ينقل الملك إلى الكافر، بخلاف البيع، ولا يجوز رهن المنافع؛ لأنها تهلك إلى حلول الحق. ولو رهنه أجرة داره شهراً، لم يصح؛ لأنه مجهول. ولو رهن المكاتب من يعتق عليه، لم يصح؛ لأنه لا يملك بيعه.
[باب ما يدخل في الرهن وما يملكه الراهن وما يلزمه]
باب ما يدخل في الرهن وما لا يدخل وما يملكه الراهن، وما لا يملكه وما يلزمه وما لا يلزمه جميع نماء الرهن المنفصل يدخل في الرهن ويباع معه؛ لأنه عقد وارد على الأصل، فثبت حكمه في نمائه كالبيع، أو نماء حادث من غير الرهن، أشبه المتصل. ولو ارتهن أرضاً، فنبت فيها شجر، دخل في الرهن؛ لأنه من نمائها، سواء نبت بنفسه أو بفعل الراهن. ويدخل فيه الصوف واللبن الموجودان، والحادثان، لدخولهما في البيع. وإن رهنه أرضاً ذات شجر، أو شجراً مثمراً، فحكمه في ذلك حكم البيع. وإن رهنه داراً فخربت، فأنقاضها رهن؛ لأنها من أجزائها. وإن رهنه شجراً، لم تدخل أرضه في الرهن؛ لأنها أصل فلا تدخل تبعاً.
فصل
ولا يملك الراهن التصرف في الرهن، باستخدام ولا سكنى، ولا إجارة ولا إعارة، ولا غيرها بغير رضى المرتهن، ولا يملك المرتهن ذلك بغير رضى الراهن. فإن لم يتفقا على التصرف، كانت منافعه معطلة تهلك تحت يد المرتهن حتى يفك؛ لأن الرهن عين محبوسة على استيفاء حق، فأشبهت المبيع المحبوس على ثمنه. وإن اتفقا على إجارته أو إعارته، جاز في قول الخرقي وأبي الخطاب؛ لأن يد المستأجر والمستعير نائبة عن يد المرتهن في الحفظ، فجاز، كما لو جعلاه في يد عدل. ولا فائدة في تعطيل المنافع؛ لأنه تضييع مال نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه. وقال أبو بكر: لا يجوز إجارته. فإن فعلا بطل الرهن؛ لأن الرهن يقتضي الحبس عند المرتهن أو نائبه. فمتى وجد عقد يقتضي زوال الحبس، بطل الرهن. وقال ابن أبي موسى: إن أجره المرتهن، أو أعاره بإذن الراهن، جاز. وإن فعل ذلك الراهن بإذن المرتهن، فكذلك في أحد الوجهين. وفي الآخر يخرج من الرهن؛ لأن المستأجر قائم مقام الراهن، فصار كما لو سكنه الراهن.
فصل
ولا يمنع الراهن من إصلاح الرهن، كمداواته بما لا يضر، وفصده وحجمه عند(2/81)
حاجته إليه، وودج الدابة وتبزيغها، وإطراق الإناث عند حاجتها؛ لأنه إصلاح لماله من غير ضرر، فلم يمنع منه كالعلف. وإن أراد قطع شيء من بدنه، لخبيثة فيه، وقال أهل الخبرة: الأحوط قطعها، فله فعله. وإن ساووا الخوف في قطعها، وتركها، فامتنع أحدهما من قطعها، فله ذلك؛ لأن فيه خطراً بحقه. وللراهن مداواة الماشية من الجرب بما لا ضرر فيه، كالقطران بالزيت اليسير، وإن خيف ضرره كالكثير لم يملكه. وليس له قطع الأصبع الزائدة والسلعة؛ لأنه يخاف منه الضرر، وتركها لا يضر، وليس له الختان إن كان لا يبرأ منه قبل محل الحق؛ لأنه ينقص ثمنه، وإن كان يبرأ قبله والزمان معتدل، لم يمنع منه؛ لأنه يزيد به الثمن، ولا يضر المرتهن. وليس للمرتهن فعل شيء من ذلك بغير رضى الراهن.
فصل
ولا يملك الراهن بيع الرهن، ولا هبته، ولا جعله مهراً، ولا أجرة ولا كتابة العبد، ولا وقفه؛ لأنه تصرف يبطل به حق المرتهن من الوثيقة، فلم يصح من الراهن بنفسه، كالفسخ. وفي الوقف وجه آخر: أنه يصح؛ لأنه يلزم لحق الله تعالى، أشبه العتق. والأول: الصحيح؛ لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير، فلم يصح كالهبة.
ولا يصح تزويج الرقيق. وقال القاضي: له تزويج الأمة. ويمنع الزوج وطأها، والأول: أصح؛ لأنه ينقص ثمنها فلم يصح، كتزويج العبد.
فصل
ولا يجوز له عتق الرهن؛ لأن فيه إضراراً بالمرتهن، وإسقاط حقه اللازم، فإن فعل، نفذ عتقه، نص عليه؛ لأنه محبوس، لاستيفاء حق فنفذ فيه عتق المالك، كالمحبوس على ثمنه. وعنه: لا ينفذ عتق المعسر؛ لأنه عتق في ملكه، يبطل به حق غيره، فاختلف فيه الموسر والمعسر، كالعتق في العبد المشترك. فإن أعتق الموسر، فعليه قيمته تجعل مكانه رهناً؛ لأنه أبطل حق الوثيقة بغير إذن المرتهن، فلزمته قيمته، كما لو قتله. وإن أعتق المعسر، فالقيمة في ذمته، إن أيسر قبل حلول الحق، أخذت منه رهناً، وإن أيسر بعد حلول الحق، طولب به خاصة؛ لأن ذمته تبرأ به من الحقين معاً وتعتبر القيمة حين الإعتاق؛ لأنه حال الإتلاف.
فصل
وليس للراهن وطء الجارية. وإن كانت لا تحبل؛ لأن من حرم وطؤها يستوي فيه من تحبل، ومن لا تحبل، كالمستبرأة. فإن وطئ فلا حد عليه لأنها ملكه. فإن نقصها لكونها بكراً أو أفضاها، فعليه ما نقصها، إن شاء جعله رهناً، وإن شاء جعله قصاصاً من(2/82)
الحق. وإذا لم تحمل منه، فهي رهن بحالها، كما لو استخدمها. وإن ولدت منه، فولده حر، وصارت أم ولد له؛ لأنه أحبلها بحر في ملكه. وتخرج من الرهن، موسراً كان، أو معسراً رواية واحدة؛ لأن الإحبال أقوى من العتق، ولذلك ينفذ إحبال المجنون، دون عتقه. وعليه قيمتها يوم إحبالها؛ لأنه وقت إتلافها. وإن تلفت بسبب الحمل، فعليه قيمتها؛ لأنها تلفت بسبب كان منه.
فصل
وكل ما منع الراهن منه، لحق المرتهن، إذا أذن فيه، جاز له فعله؛ لأن المنع لحقه، فجاز بإذنه، فإن رجع عن الإذن قبل الفعل، سقط حكم الإذن. فإن لم يعلم بالرجوع حتى فعل، فهل يسقط الإذن؟ فيه وجهان؛ بناء على عزل الوكيل بغير علمه. فإن تصرف بإذنه فيما ينافي الرهن من البيع والعتق ونحوهما، صح تصرفه وبطل الرهن؛ لأنه لا يجتمع مع ما ينافيه، إلا البيع، فله ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يبيعه بعد حلول الحق فيتعلق حق المرتهن بالثمن، ويجب قضاء الدين منه إلا أن يقضيه غيره؛ لأن مقتضى الرهن بيعه، واستيفاء الحق من ثمنه.
الثاني: أن يبيعه قبل حلول الحق بإذن مطلق، فيبطل الرهن ويسقط حق المرتهن من الوثيقة؛ لأنه تصرف في عين الرهن تصرفاً لا يستحقه المرتهن، فأبطله كالعتق.
والثالث: أن يشترط جعل الثمن رهناً، ويجعل دينه من ثمنه، فيصح البيع والشرط؛ لأنه لو شرط ذلك بعد حلول الحق، جاز، فكذلك قبله. وإن أذن له في الوطء والتزويج، جاز؛ لأنه منع منه لحقه، فجاز بإذنه، فإن فعل لم يبطل الرهن؛ لأنه لا ينافيه. فإن أفضى إلى الحمل أو التلف، فلا شيء على الراهن؛ لأنه مأذون في سببه، وإن أذن له في ضربها، فتلفت به، فلا ضمان عليه؛ لأنه تولد من المأذون فيه، كتولد الحمل من الوطء.
فصل
ويلزم الراهن مؤنة الرهن كلها، من نفقة وكسوة وعلف، وحرز وحافظ وسقي، وتسوية وجذاذ وتجفيف. لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه» وهذا من غرمه. ولأنه ملكه فكانت نفقته عليه، كالذي في يده. فإن(2/83)
احتاج إلى دواء، أو فتح عرق، لم يلزمه؛ لأن الشفاء بيد الله تعالى، وقد يحيا بدونه، بخلاف النفقة، ولا يجبر على إطراق الماشية؛ لأنه ليس مما يحتاج إليه لبقائها، وليس عليه ما يتضمن زيادة الرهن. فإن احتاجت إلى راع لزمه؛ لأنه لا قوام لها بدونه. فإن أراد السفر بها ليرعاها ولها في مكانها مرعى تتماسك به، فللمرتهن منعه؛ لأن فيه إخراجها عن يده ونظره، وإن أجدب مكانها، فللراهن السفر بها لأنه موضع حاجة. فإن اتفقا على السفر بها، واختلفا في مكانها، قدمنا قول من يطلب الأصلح، فإن استويا، قدم قول المرتهن؛ لأنه أحق باليد.
فصل
وليس للمرتهن أن ينتفع من الرهن بشيء بغير إذن الراهن، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه» ومنافعه من غنمه، ولأن المنافع ملك للراهن، فلم يجز أخذها بغير إذنه، كغير الرهن، إلا ما كان مركوباً أو محلوباً ففيه روايتان:
إحداهما: هو كغيره لما ذكرناه.
والثانية: للمرتهن الإنفاق عليه، ويركب ويحلب بقدر نفقته، متحرياً للعدل في ذلك، سواء تعذر الإنفاق من المالك أو لم يتعذر. لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن يركب بنفقته، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه البخاري. وفي لفظ: «فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته، ويركب» . فإن أنفق متبرعاً، فلا شيء له. رواية واحدة. وليس له استخدام العبد بقدر نفقته. وعنه: له ذلك إذا امتنع مالكه من الإنفاق عليه، كالمركوب والمحلوب. قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة. والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء؛ لأن القياس يقتضي ذلك، خولف في المركوب والمحلوب للأثر، ففي غيره يبقى على القياس.
فصل
وإن أنفق المرتهن على الرهن متبرعاً، لم يرجع، وإن أنفق بإذن الراهن بنية الرجوع، رجع بما أنفق؛ لأنه نائب عنه، فأشبه الوكيل، وإن أنفق بغير إذنه، معتقداً للرجوع نظرنا، فإن كان مما لا يلزم الراهن، كعمارة الدار، لم يرجع بشيء؛ لأنه تبرع بما لا يلزمه، فلم يرجع به كغير المرتهن، وإن كان مما يلزمه، كنفقة الحيوان، وكفن العبد، فهل يرجع به؟ على روايتين، بناء على من قضى دينه بغير إذنه.
فصل
فإذا أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع به بغير عوض، والرهن في قرض، لم يجز؛(2/84)
لأنه يصير قرضاً منفعة، وإن كان في غير قرض، جاز لعدم لذلك. وإن أذن له في الانتفاع بعوض، مثل أن أجره إياه، فإن حاباه في الأجرة، فهو كالانتفاع بغير عوض، وإن لم يحابه فيها، جاز في القرض وغيره، لكونه ما انتفع بالقرض، إنما انتفع بالإجارة. وقال القاضي: ومتى استأجره المرتهن أو استعاره، خرج من الرهن في مدتهما؛ لأنه طرأ عليه عقد أوجب استحقاقه في الإجارة برضاهما، فإذا انقضى العقد عاد الرهن بحكم العقد السابق، والصحيح أنه لا يخرج بذلك عن الرهن؛ لأن القبض مستدام فلا تنافي بين العقدين، لكنه في العارية، يصير مضموناً، لكون العارية مضمونة.
فصل
وإن انتفع به بغير إذن الراهن، فعليه أجرة ذلك في ذمته. فإن كان الدين من جنسها تقاصت هي وقدرها من الدين وتساقطا، وإن تلف الرهن ضمنه؛ لأنه تعدى فيه فضمنه كالوديعة.
[باب جناية الرهن والجناية عليه]
إذا جنى الرهن على أجنبي، تعلق حق المجني عليه برقبته، وقدم على المرتهن؛ لأنه يقدم على المالك، فأولى أن يقدم على المرتهن. فإن سقط حق المجني عليه بعفو أو فداء، بقي حق المرتهن؛ لأنه لم يبطل دائماً، وإنما قدم حق المجني عليه لقوته؛ فإذا زال، ظهر حق المرتهن، وإن كان الحق قصاصاً في النفس، اقتص منه، وبطل الرهن، وإن كان في الطرف، اقتص له وبقي الرهن في باقيه. وإن كان مالاً أو قصاصاً، فعفي عنه إلى مال فأمكن إيفاء حقه، ببيع بعضه، بيع منه بقدر ما يقضي به حقه، وباقيه رهن. وإن لم يمكن إلا ببيع جميعه، بيع، فإن استغرق ثمنه، بطل الرهن، وإن فضل منه شيء، تعلق به حق المرتهن. وإن كان أرش الجناية عليه أكثر من ثمنه، فطلب المجني عليه تسليمه للبيع، وأراد الراهن فداءه، فله ذلك؛ لأن حق المجني عليه في قيمته لا في عينه، ويفديه بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش جنايته في أحد الوجهين؛ لأن ما يدفعه عوض عنه، فلم يلزمه أكثر من قيمته، وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه؛ لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته، وفي الآخر يلزمه أرش الجناية كلها أو تسليمه؛ لأنه ربما رغب فيه راغب فاشتراه بأكثر من قيمته فينتفع به المجني عليه. وإن أبى الراهن فداءه، فللمرتهن فداؤه بمثل ما يفديه به الراهن، وحكمه في الرجوع بذلك حكم ما يقضي به دينه، فإن شرط جعله رهناً بالفداء مع الدين الأول، لم يصح؛ لأنه رهن فلم يجز رهنه بدين سواه، وأجازه القاضي؛ لأن المجني عليه يملك إبطال الرهن بالبيع، فصار كالجائز قبل القبض. والزيادة في دين الرهن قبل لزومه جائزة. ولأن الحق متعلق به، وإنما ينتقل من الجناية إلى الرهن. بخلاف غيره.(2/85)
فصل
فإن جنى على سيده جناية لا توجب قصاصاً، فهي هدر؛ لأنه مال لسيده فلا يثبت له في ماله، كما لو لم يكن رهناً. وإن كانت موجبة للقود فيما دون النفس، فعفي على مال، سقطت مطلقاً لذلك. وإن أحب القصاص، فله ذلك؛ لأن القصاص يجب للزجر، والحاجة تدعو إلى زجره عن سيده. وإن كانت على النفس، فللورثة القصاص. وليس لهم العفو على مال في أحد الوجهين، لما ذكرنا في السيد، ولأنهم يقومون مقام الموروث، ولم يكن له العفو على مال، فكذلك وارثه، والثاني: لهم ذلك؛ لأن الجناية حصلت في ملك غيرهم فأشبه الجناية على أجنبي.
فصل
فإن جنى على موروث سيده، ولم ينتقل الحق إلى سيده، فهي جناية على أجنبي، وإن انتقل إليه، وكانت الجناية موجبة للقصاص في طرف، فمات المجني عليه، فللسيد القصاص والعفو على مال؛ لأن المجني عليه ملك ذلك فملكه وارثه. وإن كانت على النفس فكذلك في أحد الوجهين. والثاني: ليس له العفو على مال، كما لو كانت الجناية على نفسه. وأصلهما: هل يثبت للموروث ثم ينتقل إلى الوارث، أم للوارث ابتداء؟ فيه روايتان. فإن قلنا: يثبت للموروث ابتداء، فليس له العفو على مال كالجناية على طرف نفسه، وإن قلنا: يثبت للموروث فله العفو على مال؛ لأن الحق ينتقل إليه على الصفة التي كان لموروثه، لكون الاستدامة أقوى من الابتداء. وإن كانت الجناية موجبة للمال، أو كان الموروث قد عفي على مال، ثبت ذلك للسيد. لذلك فيقدم به على المرتهن.
فصل
وإن جنى على عبد لسيده غير مرهون، فحكمه حكم الجناية على طرف سيده. وإن كان مرهوناً عند مرتهن القاتل بحق واحد، والجناية موجبة للمال، أو عفا السيد على مال، ذهب هدراً. كما لو مات حتف أنفه. وإن كان رهناً بحق آخر، تعلق دين المقتول برقبة القاتل. إن كانت قيمة المقتول أكثر من قيمة القاتل، أو مساوية لها. وإن كانت أقل تعلق برقبة القاتل بقدر قيمة المقتول، فأي الدينين حل أولاً، بيع فيه، فيستوفى من ثمنه، وباقيه رهن بالآخر، وإن كان المقتول رهناً عند غير مرتهن القاتل، وكانت الجناية موجبة للقصاص، فللسيد الخيرة بين القصاص والعفو على مال؛ لأنه يتعلق به حق غيره، ويثبت المال في رقبة العبد. فإن كان لا يستغرق قيمته، بيع منه بقدر أرش الجناية ويكون رهناً عند مرتهن المجني عليه، وباقيه رهن بدينه. وإن لم يمكن بيع بعضه، بيع كله، وقسم ثمنه بينهما على حسب ذلك، وإن كانت الجناية تستغرق قيمته، فالثاني أحق به. وهل يباع، أو ينقل فيجعل رهناً عنده؟ فيه وجهان:(2/86)
أحدهما: لا يباع لعدم الفائدة في بيعه.
والثاني: يباع؛ لأنه ربما زاد فيه مزايد فاشتراه بأكثر من قيمته، فكل موضع قلنا: للسيد القصاص أو لوارثه، فاقتص، فقال بعض أصحابنا: عليه قيمته، تجعل مكانه، لأنه أتلف الرهن باختياره، ويحتمل أن لا يجب عليه شيء؛ لأنه اقتص بإذن الشارع، فلم يلزمه شيء، كالأجنبي.
فصل
وجنايته بإذن سيده كجنايته بغير إذنه، إلا أن يكون صبياً، أو أعجمياً لا يعلم تحريم الجناية، فيكون السيد هو الجاني يتعلق به القصاص والدية، كالمباشر لها، ولا يباع العبد فيها، وقيل: يباع إذا كان معسراً؛ لأنه باشر الجناية والأول أصح؛ لأن العبد آلة، ولو تعلقت به الجناية، بيع فيها وإن كان سيده موسراً.
فصل
وإن جنى على الرهن، فالخصم الراهن؛ لأنه مالكه ومالك بدله، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص، فله أن يقتص، أو يعفو، فإن اقتص، ففيه وجهان:
أحدهما: عليه قيمته تجعل مكانه؛ لأنه أتلف مالاً استحق بسبب إتلاف [الرهن] فغرم قيمته، كما لو كانت الجناية موجبة للمال.
والثاني: لا شيء عليه؛ لأنه لم يجب بالجناية مال، ولا استحق بحال، وليس على الراهن السعي للمرتهن في اكتساب مال، وإن عفا على مال، أو كانت الجناية موجبة للمال، كان رهناً مكانه. فإن عفا الراهن عن المال، لم يصح عفوه؛ لأنه محل تعلق به حق المرتهن، فلم يصح عفو الراهن عنه. كما لو قبضه المرتهن، وقال أبو الخطاب: يصح وتؤخذ منه قيمته وتكون رهناً؛ لأنه أتلفه بعفوه. وقال القاضي: تؤخذ قيمته من الجاني، فتجعل مكانه، فإذا زال الرهن، ردت إلى الجاني، كما لو أقر على عبده المرهون بالجناية، وإن عفا الراهن عن الجناية الموجبة للقصاص إلى غير مال، انبنى على موجب العمد. فإن قلنا: أحد شيئين، فهو كالعفو عن المال، وإن قلنا: القصاص، فهو كالاقتصاص، فيه وجهان.
فصل
إذا أقر الراهن أن العبد كان جنى قبل رهنه، فكذبه المرتهن، وولي الجناية، لم يسمع قوله، وإن صدقه ولي الجناية وحده، قبل إقراره على نفسه دون المرتهن، فيلزمه أرش الجناية؛ لأنه حال بين المجني عليه، وبين رقبة الجاني بفعله، فأشبه ما لو قتله،(2/87)
فإن كان معسراً، فمتى انفك الرهن، كان المجني عليه أحق برقبته، وعلى المرتهن اليمين أنه لا يعلم ذلك، فإن نكل، قضي عليه. وفيه وجه آخر، أنه يقبل إقرار الراهن؛ لأنه غير متهم؛ لأنه يقر بما يخرج الرهن من ملكه، وعليه اليمين؛ لأنه يبطل بإقراره حق المرتهن فيه، وإن أقر أنه كان أعتقه، عتق؛ لأنه يملك عتقه، فملك الإقرار به، فيخرج العبد من الرهن، ويؤخذ من الراهن قيمته، تجعل مكانه، ولا يقبل قوله في تقديم عتقه؛ لأنه يسقط به حق المرتهن من عوضه.
فصل
وإن أقر رجل بالجناية على الرهن، فكذبه الراهن والمرتهن، فلا شيء لهما. وإن صدقه الراهن وحده فله الأرش، ولا حق للمرتهن فيه لإقراره بذلك. وإن صدقه المرتهن وحده، أخذ الأرش فجعل رهناً عنده، فإذا خرج من الرهن، رجع إلى الجاني، ولا حق للراهن فيه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
[باب الشروط في الرهن]
يصح شرط جعل الرهن في يد عدل، فيقوم قبضه مقام قبض المرتهن؛ لأنه قبض في عقد، فجاز التوكيل فيه، كقبض الموهوب، وما دام العدل حاله، فليس لأحدهما، ولا للحاكم نقله عن يده؛ لأنهما رضياه ابتداء، وإن اتفقا على نقله، جاز؛ لأن الحق لهما لا يعدوهما. وإن تغيرت حاله بفسق، أو ضعف عن الحفظ، أو عداوة لهما، أو لأحدهما، فمن طلب نقله منهما فله ذلك؛ لأنه متهم في حقه، ففي بقائه في يده ضرر، ثم إن اتفقا على من يضعانه عنده، جاز، وإن اختلفا، وضعه الحاكم في يد عدل، وإن اختلفا في تغير حاله، بعث الحاكم وعمل بما يظهر له، وإن مات العدل، لم يكن لوارثه إمساكه إلا بتراضيهما؛ لأنهما ما ائتمناه، وإن رده العدل عليهما، لزمهما قبوله؛ لأنه متطوع بحفظه، فلم يلزمه المقام عليه، فإن امتنعا أجبرهما الحاكم، فإن تغيبا، أو كانا غائبين، نصب الحاكم أميناً يقبضه لهما؛ لأن للحاكم ولاية على الغائب الممتنع من الحق، وإن دفعه الحاكم إلى أمين من غير امتناعهما، ولا غيبتهما، ضمن الحاكم والأمين معاً؛ لأنه لا ولاية له على غير الممتنع والغائب، فإن امتنعا، أو غابا، فلم يجد الحاكم ضمن؛ لأنه يقوم مقامهما. وكذلك لو أودعه من غير امتناعهما، ولا غيبتهما، ضمن هو والقابض معاً. وإن امتنع أحدهما، ولم يجد حاكماً، لم يكن له دفعه إلى الآخر، فإن فعل ضمن؛ لأنه يمسكه لنفسه. والعدل يمسكه لهما، فإن رده إلى يده، زال الضمان.(2/88)
فصل
وإن شرط جعله في يد اثنين، صح الشرط، ولم يكن لأحدهما الانفراد بحفظه؛ لأن المتراهنين لم يرضيا إلا بحفظهما معاً، فلم يجز لأحدهما الانفراد به، كالوصيين، فإن سلمه أحدهما إلى صاحبه، ضمن نصفه؛ لأنه القدر الذي تعدى فيه، فإن مات أحدهما أو تغير حاله، أقيم مقامه عدل.
فصل
وكل من جاز توكيله، جاز جعل الرهن على يديه، مسلماً كان أو كافراً، عدلاً أو فاسقاً، ذكراً أو أنثى؛ لأنه جاز توكيله في غير الرهن، فجاز فيه، كالعدل. ولا يجوز أن يكون صبياً أو مجنوناً؛ لأنه غير جائز التصرف، فإن فعلا، كان قبضه له وعدمه واحداً. وإن كان عبداً، فله حفظه بإذن سيده، ولا يجوز بغير إذنه؛ لأن منافعه لسيده، فلا يجوز تضييعها في الحفظ من غير إذنه، وإن كان مكاتباً وكان بغير جعل، لم يجز؛ لأنه ليس له التبرع، وإن كان بجعل جاز؛ لأن له الكسب بغير إذن سيده، فإن لم يشرط جعله في يد أحد، فهو في يد المرتهن؛ لأنه المستوجب للعقد، فكان القبض له كالمتهب، فإن قبضه ثم تغيرت حاله في الثقة، أو الحفظ، أو حدث بينهما عداوة، فللراهن دفعه إلى الحاكم، ليزيل يده، ويجعل في يد عدل؛ لأنه لم يرض بحفظه في هذه الحال. وإن اختلفا في تغير حاله، بحث الحاكم، وعمل بما بان له، وإن مات المرتهن، نقل عن الوارث إلى عدل؛ لأن الراهن لم يرض بحفظه.
فصل
إذا شرط أن يبيعه المرتهن، أو العدل عند حلول الحق، صح شرطه؛ لأن ما صح توكيل غيرهما فيه، صح توكيلهما فيه، كبيع عين أخرى. فإن عزلهما الراهن، صح عزله؛ لأن الوكالة عقد جائز، فلم يلزم المقام عليهما، كما لو وكل غيرهما، أو وكلهما في بيع غيره، ولو مات المرتهن، لم يكن لوارثه البيع؛ لأنه لم يؤذن له، ويتخرج أنه لا يملك عزلهما؛ لأنه يفتح باب الحيلة، فإن عزل المرتهن العدل عن البيع، لم يملكه إلا في الحال الذي يملكه الراهن؛ لأنه وكيله خاصة، وإن أذنا له في بيع الرهن، فتلف بجناية قيمته مكانه، فقال القاضي: قياس المذهب أن له بيعها؛ لأنه يجوز له بيع نمائه تبعاً، فبيع قيمته أولى، والصحيح أنه لا يملك بيعها؛ لأنه لم يؤذن له فيه، ولا هي تبع لما أذن فيه، بخلاف النماء.
فصل
وإن أذنا له في البيع بنقد، لم يكن له خلافهما؛ لأنه وكيلهما، وإن أطلقا أو(2/89)
اختلفا، باع بنقد البلد؛ لأن الحظ فيه، فإن كان فيه نقود، باع بأغلبها، فإن تساوت، باع بما يرى الحظ فيه؛ لأن الغرض تحصيل الحظ، فإن تساوت، باع بجنس الدين؛ لأنه يمكن القضاء منه، فإن لم يكن فيها جنس الدين، عين له الحاكم ما يبيع به. وحكمه حكم الوكيل في وجوب الاحتياط في الثمن على ما سنذكره، فإذا باع وقبض الثمن، فتلف في يده من غير تعد، فلا ضمان عليه؛ لأنه أمين وهو من ضمان الراهن؛ لأنه ملكه. فإن أنكر الراهن تلفه، فالقول قول العدل مع يمينه؛ لأنه أمين فهو كالمودع. فإن قال: ما قبضته من المشتري، فالقول قول العدل لذلك، ويحتمل أن لا يقبل قوله؛ لأن هذا إبراء للمشتري. وإن خرج الرهن مستحقاً، فالعهدة على الراهن دون العدل؛ لأنه وكيل، وإن استحق بعد تلف الثمن في يد العدل، رجع المشتري على الراهن دون العدل؛ لأنه قبض منه على أنه أمين في قبضه، وتسليمه إلى المرتهن، وإن كان الثمن باقياً في يد العدل، أو المرتهن، رجع المشتري فيه؛ لأنه عين ماله قبض بغير حق، وإن وجد المشتري بالمبيع عيباً فرده بعد قبض المرتهن ثمنه، لم يرجع عليه؛ لأنه قبضه بحق ولا على العدل؛ لأنه أمين، ويرجع على الراهن، إلا أن يكون العدل لم يعلم المشتري أنه وكيل، فيكون رجوعه عليه، ثم يرجع هو على الراهن، فإن تلف المبيع في يد المشتري، ثم بان مستحقاً، فلمالكه تضمين من شاء من الراهن والعدل والمرتهن؛ لأن كل واحد منهم قبض ماله بغير حق، ويستقر الضمان على المشتري؛ لأن التلف حصل في يده، ويرجع على الراهن بالثمن الذي أخذ منه، وإذا باع العدل الرهن بيعاً فاسداً، وجب رده، فإن تعذر رده، فللمرتهن تضمين من شاء من العدل والمشتري أقل الأمرين، من قيمة الرهن، أو قدر الدين؛ لأنه يقبض ذلك مستوفياً لحقه، لا رهناً، فلم يكن له أكثر من دينه، وما بقي للراهن يرجع به على من شاء منهما، وإن وفى الراهن المرتهن، رجع بقيمته على من شاء منهما، ويستقر الضمان على المشتري، لحصول التلف في يده.
فصل
وإذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن، فأنكره، ففيه وجهان:
أحدهما: القول قول العدل؛ لأنه أمين. فإذا حلف برئ ويرجع المرتهن على الراهن.
والثاني: القول قول المرتهن؛ لأنه منكر. والعدل إنما هو أمينه في الحفظ، لا في دفع الثمن إليه. فإذا حلف، رجع على من شاء منهما، فإذا رجع على العدل، لم يرجع العدل على الراهن؛ لأنه يقر ببراءة ذمته منه، ويدعي أن المرتهن ظلمه وغصبه. وإن(2/90)
رجع على الراهن، رجع الراهن على العدل، لتفريطه في القضاء بغير بينة، إلا أن يكون قضاؤه بحضرة الراهن، أو ببينة فماتت، أو غابت فلا يرجع عليه، لعدم تفريطه، وعنه: لا يرجع على العدل بحال؛ لأنه أمين، ولو غصب المرتهن الرهن من العدل ثم رده إليه، زال الضمان؛ لأنه رده إلى وكيل الراهن في إمساكه، فأشبه ما لو أذن له في دفعه إليه. ولو كان الرهن في يده، فتعدى فيه، ثم زال التعدي، لم يزل الضمان؛ لأن استئمانه زال بذلك، فلم يعد بفعله.
فصل
وإذا رهن أمة رجلاً، وشرط جعلها في يد امرأة، أو ذي رحم لها، أو ذي زوجة أو أمة، جاز؛ لأنه لا يفضي إلى الخلوة بها. وإن لم يكن كذلك، فسد الرهن، لإفضائه إلى خلوة الأجنبي بها، ولو اقترض ذمي من مسلم مالاً، ثم رهنه خمراً، لم يصح؛ لأنها ليست مالاً، وإن باعها الذمي أو وكيله، وأتاه بثمنها، فله أخذه، فإن امتنع، لزمه، وقيل له: إما أن تقبض، أو أن تبرئ؛ لأن أهل الذمة إذا تقابضوا في العقود الفاسدة، جرى مجرى الصحيح.
فصل
فإن شرط ما ينافي مقتضى الرهن، نحو أن يشترط أن لا يسلمه، أو لا يباع عند الحلول، أو لا يستوفى الدين من ثمنه، أو شرط أن يبيعه بما شاء، أو لا يبيعه إلا بما يرضيه، فسد الشرط؛ لأن المقصود مع الوفاء به مفقود. وإن شرط أنه متى حل الحق، ولم توفني، فالرهن لي بالدين، أو بثمن سماه، فسد؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يغلق الرهن» رواه الأثرم. ومعناه: استحقاق المرتهن له لعجز الراهن عن فكاكه، ولأنه علق البيع على شرط مستقبل، فلم يصح، كما لو علقه على قدوم زيد. وإن قال: أرهنك على أن تزيدني في الأجل، لم يصح؛ لأن الدين الحال لا يتأجل، وإذا لم يثبت الأجل فسد الرهن؛ لأنه في مقابلته. وإن شرط أن ينتفع المرتهن بالرهن في دين القرض، لم يجز، وإن كان بدين مستقر في مقابلة تأخيره عن أجله، لم يجز؛ لأنه بيع للأجل، وإن كان في بيع، فعن أحمد جوازه إذا جعل المنفعة معلومة، كخدمة شهر ونحوه، فيكون بيعاً وإجارة. وإن لم تكن معلومة، بطل الشرط للجهالة، وبطل البيع لجهالة ثمنه، وما عدا هذا، فهو إباحة لا يلزم الوفاء به، وإن قال: رهنتك ثوبي هذا يوماً، ويوماً لا أوقته، فالرهن فاسد؛ لأن ينافي مقتضاه، وكل شرط يسقط به دين الرهن يفسده، وما لا يؤثر في ضرر أحدهما كاشتراط جعل الأمة في يد أجنبي عزب، لا يفسده. وفي سائر الشروط الفاسدة وجهان:(2/91)
أحدهما: يفسد بها الرهن.
والآخر: لا يفسد بناء على الشروط الفاسدة في البيع، ويحتمل أن ما ينقص المرتهن، يبطله وجهاً واحداً، وفي سائرها وجهان:
أحدهما: يبطل الرهن؛ لأنه شرط فاسد، فأبطله كالأول.
والثاني: لا يبطله؛ لأنه زائد، فإذا بطل، بقي العقد بأحكامه.
[باب اختلاف المتراهنين]
إذا قال: رهنتني كذا فأنكر، أو اختلفا في قدر الدين، أو قدر الرهن، فقال: رهنتني هذين، قال: بل هذا وحده، أو قال: رهنتني هذا بجميع الدين قال: بل نصفه، أو قال: رهنتنيه بالحال، قال: بل بالمؤجل، فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر. والأصل عدم ما أنكره، ولأن القول قوله في أصل العقد، فكذلك في صفته، فإن قال: رهنتني عبدك هذا. قال: بل ثوبي هذا؛ لم يثبت الرهن في الثوب؛ لرد المرتهن له، وحلف الراهن على العبد، وخرج بيمينه. وإن قال: أرسلت وكيلك فرهن عبدك على ألفين قبضها مني، فقال: ما أذنت له في رهنه إلا بألف، سئل الرسول، فإن صدق الراهن، حلف على أنه ما رهنه إلا بألف، ولا قبض غيرها، ولا يمين على الراهن؛ لأن الدعوى على غيره. وإن صدق المرتهن، حلف الراهن، وعلى الرسول ألف؛ لأنه أقر بقبضها، ويبقى العبد رهناً على ألف واحدة. ومن توجهت عليه اليمين فنكل، فهو كالمقر سواء.
فصل
فإن قال: رهنتني عبدك هذا بألف، فقال: بل بعتكه بها، أو قال: بعتنيه بألف، فقال: بل رهنتكه بها، حلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه، فسقط، ويأخذ السيد عبده، وتبقى الألف بغير رهن.
فصل
وإن قال الراهن: قبضت الرهن بغير إذني فقال: بل بإذنك، فالقول قول الراهن؛ لأنه منكر. وإن قال: أذنت لك، ثم رجعت قبل القبض، فأنكر المرتهن، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدم الرجوع، وإن كان الرهن في يد الراهن، فقال المرتهن: قبضته ثم غصبتنيه، فأنكر الراهن، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن أقر بتقبيضه، ثم قال: أحلفوه لي أنه قبض بحق، ففيه وجهان:
أحدهما: يحلف؛ لأن ما ادعاه محتمل.(2/92)
والثاني: لا يحلف؛ لأنه مكذب لنفسه. وإن رهنه عصيراً، ثم وجد خمراً، فقال المرتهن: إنما أقبضني خمراً، فلي فسخ البيع. وقال الراهن: بل كان عصيراً، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فالقول قول الراهن؛ لأنه يدعي سلامة العقد، وصحة القبض، فظاهر حال المسلم استعمال الصحيح، فكان القول قول من يدعيه، كما لو اختلفا في شرط يفسد المبيع. ويحتمل أن القول قول المرتهن بناء على اختلاف المتبايعين في حدوث العيب. ولو كان الرهن حيواناً فمات، واختلفا في حياته وقت الرهن، أو القبض، فحكمه حكم العصير. وإن أنكر المرتهن قبضه، فالقول قوله؛ لأن الأصل معه. وإن وجده معيباً واختلفا في حدوثه، ففيه وجهان مبنيان على الروايتين في البيع.
فصل
إذا كان لرجل على آخر ألف برهن، وألف بغير رهن، فقضاه ألفاً وقال: قضيت دين الرهن، فقال: هي عن الألف الآخر، فالقول قول الراهن، سواء اختلفا في لفظه أو نيته؛ لأنها تنتقل منه، فكان القول قوله في صفة النقل، وهو أعلم بنيته. ولو دفعها بغير لفظ ولا نية، فله صرفها إلى أيهما شاء، كما لو دفع زكاة أحد الألفين، فإن أبرأه المرتهن من أحدهما، فالقول قول المرتهن لذلك. وإن أطلق، فله صرفها إلى أيهما شاء. ذكره أبو بكر.
فصل
وإن كان عليه ألفان لرجلين، فادعى كل واحد منهما أنه رهنه عبده بدينه فأنكرهما، حلف لهما. وإن صدق أحدهما، أو قال: هو السابق، سلمه إليه وحلف للآخر. وإن نكل والعبد في يد أحدهما، فعليه للآخر قيمته تجعل رهناً؛ لأنه فوته على الثاني بإقراره للأول، أو بتسليمه إليه. وقال القاضي: هل يرجح صاحب اليد أو المقر له؟ يحتمل وجهين. فإن قال: لا أعلم المرتهن منهما، أو السابق، حلف على ذلك، والقول قول من هو في يده منهما مع يمينه. وإن كان في أيديهما، أو يد غيرهما، فالحكم في ذلك كالحكم فيما إذا ادعيا ملكه.
فصل
فإن ادعى على رجلين أنهما رهناه عبدهما بدينه فأنكراه، فالقول قولهما. وإن شهد كل واحد منهما على الآخر، قبلت شهادته؛ لأنه لا يجلب بهذه الشهادة نفعاً، ولا يدفع بها ضرراً. وإن أقر أحدهما وحده، لزم في نصيبه، وتسمع شهادته على صاحبه لما ذكرناه.(2/93)
فصل
وإن ادعى المرتهن هلاك الرهن بغير تفريط، فالقول قوله؛ لأنه أمين فأشبه المودع. وإن ادعى الرد، ففيه وجهان:
أحدهما: يقبل قوله لذلك.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه قبضه لنفسه، فلم يقبل قوله في الرد كالمستأجر. وإن أعتق الراهن الجارية، أو وطئها، فادعى أنه بإذن المرتهن فأنكره، فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل معه، فإن نكل، قضى عليه. وإن صدقه فأتت بولد، فأنكر المرتهن مدة الحمل، فالقول قوله؛ لأن الأصل عدمها، وإن وطئها المرتهن بإذن الراهن، وادعى الجهالة، وكان مثله يجهل ذلك، فلا حد عليه؛ لأن الحد يدرأ بالشبهات. ولا مهر؛ لأنه حق للسيد فسقط بإذنه، والولد حر يلحق نسبه؛ لأنه من وطء شبهة، ولا تصير أم ولد؛ لأنه لا ملك له فيها. وإن لم تكن له شبهة، فعليه الحد والمهر وولده رقيق.(2/94)
[كتاب التفليس]
ومن لزمه دين مؤجل، لم يجز مطالبته به؛ لأنه لا يلزمه أداؤه قبل أجله، ولا يجوز الحجر عليه به؛ لأنه لا يستحق المطالبة به، فلم يملك منعه من ماله بسببه، فإن أراد سفراً يحل دينه قبل قدومه منه، فلغريمه منعه، إلا برهن أو ضمين مليء؛ لأنه ليس له تأخير الحق عن محله، وفي السفر تأخيره. وإن لم يكن كذلك، ففيه روايتان:
إحداهما: له منعه؛ لأن قدومه عند المحل غير متيقن ولا ظاهر، فملك منعه منه كالأول.
والثانية: ليس له منعه؛ لأنه لا يملك المطالبة به في الحال، ولا يعلم أن السفر مانع منها عند الحلول، فأشبه السفر القصير. وإن كان الدين حالاً، والغريم معسراً، لم تجز مطالبته، لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ولا يملك حبسه ولا ملازمته؛ لأنه دين لا يملك المطالبة به، فلم يملك به ذلك، كالمؤجل. فإن كان ذا صنعة، ففيه روايتان:
إحداهما: يجبر على إجارة نفسه؛ لما «روي أن رجلاً دخل المدينة، وذكر أن وراءه مالاً، فداينه الناس، ولم يكن وراءه مال، فسماه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سرقا، وباعه بخمسة أبعر» ، وروى الدارقطني نحوه وفيه أربعة أبعرة. والحر لا يباع، فعلم أنه باع منافعه، ولأن الإجارة عقد معاوضة، فجاز أن يجبر عليه، كبيع ماله، وإجارة أم ولده.
والثانية: لا يجبر؛ لما روى أبو سعيد: «أن رجلاً أصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تصدقوا عليه فتصدقوا عليه، فلم يبلغ وفاء دينه، فقال النبي(2/95)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» رواه مسلم. ولأنه نوع تكسب، فلم يجبر عليه كالتجارة.
فصل
وإن كان موسراً، فلغريمه مطالبته، وعليه قضاؤه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم» متفق عليه. فإن أبى، فله حبسه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لي الواجد يحل عقوبته وعرضه» من المسند. فإن لم يقضه، باع الحاكم ماله وقضى دينه، لما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن أسيفع جهينة رضي من دينه وأمانته أن يقال: سابق الحاج، فادان معرضاً، فمن كان له عليه مال فليحضر، فإنا بائعو ماله وقاسموه بين غرمائه رواه مالك في الموطأ بنحوه، فإن غيب ماله، حبسه وعزره حتى يظهره. ولا يجوز الحجر عليه مع إمكان الوفاء، لعدم الحاجة إليه. وإن تعذر الوفاء، وخيف من تصرفه في ماله، حجر عليه إذا طلبه الغرماء، لئلا يدخل الضرر عليهم.
فصل
فإن ادعى الإعسار من لم يعرف له مال، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل عدمه. وإن عرف له مال، أو كان الحق لزمه في مقابلة مال، كثمن مبيع، أو قرض، لم يقبل قوله إلا ببينة؛ لأن الأصل بقاء المال، ويحبس حتى يقيم البينة. فإن قال: غريمي يعلم إعساري، فعلى غريمه اليمين أنه لا يعلم ذلك. وإن أقام البينة على تلف المال، فعليه اليمين معها أنه معسر؛ لأنه صار بهذه البينة كمن لم يعرف له مال. وإن شهدت بإعساره، فادعى غريمه أن له مالاً باطناً، لم يلزمه يمين؛ لأنه أقام البينة على ما ادعى، وتسمع البينة على التلف. وإن لم يكن ذا خبرة باطنة؛ لأنه أمر يعرف بالمشاهدة ولا تسمع على الإعسار إلا من أهل الخبرة بحاله؛ لأنه من الأمور الباطنة. فإن كان في يده مال فأقر به لغيره، سئل المقر له، فإن كذبه، بيع في الدين، وإن صدقه، سلم إليه. فإن قال الغريم: أحلفوه أنه صادق لم يستحلف؛ لأنه لو رجع عن الإقرار، لم يقبل منه. وإن طلب يمين المقر له؛ لأنه لو رجع قبل رجوعه.
فصل
فإن كان ماله لا يفي بدينه، فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه، لزمته إجابتهم؛ لما روى «كعب بن مالك: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ، وباع ماله» رواه سعيد بن منصور بنحوه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، ولأن فيه دفعاً للضرر عن الغرماء، فلزم ذلك كقضائهم. ويستحب الإشهاد على الحجر، ليعلم الناس حاله، فلا يعاملوه إلا على بصيرة، ويتعلق بالحجر عليه أربعة أحكام:(2/96)
أحدها: منع تصرفه في ماله، فلا يصح بيعه ولا هبته، ولا وقفه، ولا غير ذلك؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم، فمنع تصرفه، كالحجر للسفه. وفي العتق روايتان:
إحداهما: لا يصح لذلك، ولأن حق الغرماء تعلق بماله، فمنع صحة عتقه، كما لو كان مريضاً.
والثانية: يصح؛ لأنه عتق من مالك رشيد صحيح، أشبه عتق الراهن. وإن أقر بدين، أو عين في يده، كالقصار والحائك يقر بثوب، لم يقبل إقراره لذلك، ويلزم في حقه، يتبع به بعد فك الحجر عنه، وإن توجهت عليه يمين فنكل عنها، فهو كإقراره. وإن تصرف في ذمته بشراء، أو اقتراض أو ضمان، أو كفالة، صح؛ لأنه أهل للتصرف، والحجر إنما تعلق بماله دون ذمته. ولا يشارك أصحاب هذه الديون الغرماء؛ لأن من علم منهم بفلسه فقد رضي بذلك، ومن لم يعلم، فهو مفرط. ويبيعونه بعد فك الحجر عنه كالمقر له، وهل للبائع والمقرض الرجوع في أعيان أموالهما إن وجداها؟ على وجهين:
أحدهما: لهما ذلك، للخبر، ولأنه باعه في وقت الفسخ، فلم يسقط حقه منه، كما لو تزوجت المرأة معسراً بنفقتها.
والثاني: لا فسخ لهما؛ لأنهما دخلا على بصيرة بخراب الذمة، أشبها من اشترى معيباً يعلم عيبه.
وإن جنى المفلس جناية توجب مالاً، لزمه وشارك صاحبه الغرماء؛ لأنه حق ثبت بغير رضى مستحقه، فوجب قضاؤه من المال كجناية عبده وإن ثبت عليه حق بسبب قبل الفلس ببينة، شارك صاحبه الغرماء؛ لأنه غريم قديم، فهو كغيره.
فصل
الحكم الثاني: أنه يتعلق حقوق الغرماء بعين ماله، فليس لبعضهم الاختصاص بشيء منه سوى ما سنذكره. ولو قضى المفلس أو الحاكم بعضهم وحده، لم يصح. لأنهم شركاؤه فلم يجز اختصاصه دونهم. ولو جنى عليه جناية أوجبت مالاً، أو ورث مالا تعلقت حقوقهم به. وإن أوجبت قصاصاً لم يملكوا إجباره على العفو إلى مال؛ لأن فيه ضرراً بتفويت القصاص الواجب لحكمة الإحياء، ولا يجبر على قبول هبة، ولا صدقة، ولا قرض عرض عليه، ولا المرأة على التزوج؛ لأنه فيه ضرراً بلحوق المنة، أو التزوج من غير رغبة. ولو باع بشرط الخيار، لم يجبر على ما فيه الحظ من رد، أو إمضاء؛ لأن الفلس يمنعه إحداث العقود، لا إمضاؤها وليس للغرماء الخيار؛ لأن الخيار لم يشرط لهم. وإن وهب هبة بشرط الثواب، لزم قبوله؛ لأنه عوض عن مال، فلزم(2/97)
قبوله، كثمن المبيع. ولا يملك إسقاط ثمن مبيع ولا أجرة، ولا أخذه رديئاً، ولا قبض المسلم فيه صفته، إلا بإذن الغرماء، لما ذكرناه. وإن ادعى مالاً له به شاهد، حلف وثبت المال، وتعلقت حقوقهم به، وإن نكل لم يكن للغرماء أن يحلفوا؛ لأن دعواهم لهذا المال غير مسموعة، فلا يثبت بأيمانهم، كالأجانب، ولأنهم لو حلفوا لحلفوا على إثبات مال لغيرهم، وكذلك الحكم في غرماء الميت، إذا لم يحلف الوارث، لم يحلفوا لما ذكرنا.
فصل
والحكم الثالث: أن للحاكم بيع ماله، وقضاء دينه. ويستحب أن يحضره عند البيع؛ لأنه أعرف بثمن ماله، وجيده ورديئه، فيتكلم عليه، وهو أطيب لقلبه، ويحضر الغرماء؛ لأنه أبعد من التهمة، ربما رغب بعضهم بشراء شيء، فزاد في ثمنه، أو وجد عين ماله فأخذها، فإن لم يفعل جاز؛ لأن ذلك موكول إليه، ويقيم منادياً ينادي على المتاع. فإن عين المفلس والغرماء منادياً ثقة، أمضاه الحاكم. وإن لم يكن ثقة رده؛ لأن للحاكم نظراً، فإنه ربما ظهر غريم آخر. وإن اختلفوا في المنادي، قدم الحاكم أوثقهما وأعرفهما، فإن تطوع بالنداء ثقة، لم يستأجر؛ لأن فيه بذل الأجرة من غير حاجة، وإن عدم، بذلك الأجرة من مال المفلس؛ لأن البيع حق عليه، ويقدم على الغرماء بها؛ لأنه لو لم يعط، لم يناد. وكذلك أجرة من يحفظ المتاع والثمن، ويحمله ويباع كل شيء في سوقه؛ لأن أهل السوق أعرف بقيمة المتاع وأرغب، وطلابه فيه أكثر. فإن باعه في غيره بثمن مثله، جاز؛ لأنه ربما أداه اجتهاده إلى ذلك لمصلحة فيه، ويبدأ ببيع ما يسرع إليه الفساد؛ لأن في تأخيره هلاكه، ثم بالحيوان؛ لأنه يحتاج إلى العلف، ويخشى عليه التلف، ثم بالأثاث؛ لأنه يخشى تلفه، وتناله اليد، ثم بالعقار؛ لأنه أبعد تلفاً، وتأخيره أكثر لطالبيه، فيزداد ثمنه. ومن وجد من الغرماء عين ماله، فهو أحق بها. ومن اكترى من المفلس داراً، أو ظهراً بعينه قبل الحجر عليه، فهو أحق به؛ لأنه استحق عينه قبل إفلاسه، فأشبه ما لو اشترى منه عبداً. وإن اكترى منه ظهراً في الذمة، فهو أسوة الغرماء؛ لأن دينه في الذمة أشبه سائر الغرماء، وإن كان في المتاع رهن أو جان، قدم الراهن والمجني عليه بثمنه؛ لأن المرتهن لم يرض بمجرد الذمة، بخلاف سائر الغرماء، وحق المجني عليه يقدم على حق المرتهن، فعلى غيره أولى. وإن فضل منه فضل، رده على التركة، وإن لم يف بحقهما، فلا شيء للمجني عليه؛ لأنه لا حق له في غير الجاني، ويضرب المرتهن مع الغرماء بباقي دينه؛ لأن حقه متعلق بالذمة مع تعلقه بالعين، وإن بيع له متاع، فهلك ثمنه، أو استحق المبيع، رجع المشتري بثمنه. وهل يقدم على الغرماء؟ فيه وجهان:(2/98)
أحدهما: يقدم؛ لأن في تقديمه مصلحة، فإنه لو لم يقدم، تجنب الناس شراء ماله خوفاً من الاستحقاق، فيقل ثمنه، فقدم به، كأجرة المنادي.
والثاني: لا يقدم؛ لأنه حق لزمه بغير رضى صاحبه، أشبه أرش جنايته، ثم يقسم ما اجتمع من ماله بين الغرماء على قدر ديونهم. فإن ظهر غريم بعد القسمة، نقضت وشاركهم؛ لأنه غريم، لو كان حاضراً لشاركهم، فإذا ظهر بعد ذلك، قاسمهم كما لو ظهر للميت غريم بعد قسم ماله. وإن أكرى داره عاماً، وقبض أجرتها فقسمت، ثم انهدمت الدار، رجع المكتري على المفلس بأجرة ما بقي وشاركهم فيما اقتسموه؛ لأنه دين وجب بسبب قبل الحجر، فشارك به الغرماء كما لو انهدمت قبل القسمة.
فصل
الحكم الرابع: أن من وجد عين ماله عنده، فهو أحق به؛ لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجد متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس، فهو أحق به» متفق عليه. وله الخيار بين أخذه أو تركه، وله أسوة الغرماء، سواء كانت السلعة مساوية لثمنها، أو أقل أو أكثر؛ لأن الإعسار ثبت للفسخ فلا يوجبه كالعيب، ولا يفتقر إلى حاكم؛ للخبر، ولأنه فسخ ثبت بنص السنة، فلم يفتقر إلى حاكم، كفسخ النكاح بالعتق تحت العبد. وفيه وجهان:
أحدهما: أن الخيار على التراخي؛ لأنه رجوع لا يسقط إلى عوض، كان على التراخي كالرجوع في الهبة.
والثاني: هو على الفور. اختاره القاضي؛ لأن في تأخيره إضراراً بالغرماء، لتأخير حقوقهم، ولأنه خيار يثبت في المبيع، لنقص في العوض، أشبه الرد بالعيب، فإن حكم حاكم بسقوط الخيار، فقال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ينقض حكمه؛ لأنه يخالف صريح السنة، ويحتمل أن لا ينقض؛ لأنه مختلف فيه. ولو بذل الغرماء لصاحب السلعة ثمنها ليتركها، لم يلزمه قبول؛ للخبر، ولأنه تبرع بدفع الحق من غير من هو عليه، فلم يجبر المستحق على قبوله، كما لو أعسر بنفقة زوجته فبذلها غيره. وسواء ملكها المفلس ببيع أو قرض، لعموم الخبر. ولو أصدق امرأة مالاً، وأفلست قبل دخوله بها، ثم ارتدت أو طلقها، ووجد عين ماله فهو أحق بها. ولو استأجر شيئاً فأفلس قبل مضي شيء من المدة، فللمؤجر الرجوع فيه؛ لأنه وجد عين ماله، وإن كان بعد مضي المدة، فهو غريم بالأجرة، وإن كان بعد مضي شيء منها، فهو غريم؛ لأن المدة كالمبيع، ومضي بعضها، كتلف بعضه. وقال القاضي: له الفسخ. فإن كان للمفلس زرع فعليه تبقيته بأجرة مثله.(2/99)
فصل
ولا يملك الرجوع إلا بشروط خمسة:
أحدها: أن يجدها سالمة. فإن تلف بعضها، أو باعه المفلس، أو وهبه، أو وقفه، فله أسوة الغرماء؛ لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من أدرك متاعه بعينه فهو أحق به» والذي تلف بعضه لم توجد عينه. فإن كان المبيع عبدين، أو ثوبين، فتلف أحدهما أو بعضه، ففي السالم منهما روايتان:
إحداهما: له الرجوع فيه بقسطه؛ لأنه وجده بعينه.
والثانية: لا يرجع؛ لأنه لم يجد المبيع بعينه، أشبه العين الواحدة. وإن كان المبيع شجرة مثمرة، فتلفت ثمرتها، فله أسوة الغرماء؛ لأنهما كالعين الواحدة، إلا أن تكون الثمرة مؤبرة حين البيع، فاشترطها المبتاع، فهما كالعينين؛ لأن الثمرة لا تتبع الأصل، فهي كالولد المنفصل. وإن نقص المبيع صفة، مثل أن هزل، أو نسي صناعة، أو كبر، أو كان ثوباً فخلق، لم يمنع الرجوع؛ لأن فقد الصفة لا يخرجه عن كونه عين المال، فيتخير بين أخذه ناقصاً، أو يكون أسوة الغرماء بكل الثمن. وإن فقئت عينه، فهو كتلف بعضه، وإن شج، أو جرح، أو افتضت البكر، فكذلك في قول أبي بكر؛ لأنه نقص جزء ينقص قيمته، فأشبه ما لو فقئت عينه. وقال القاضي: قياس المذهب أن له الرجوع؛ لأنه فقد صفة، فهو كالهزال، ثم إن كان لا أرش له لكونه حصل بفعل الله تعالى، أو فعل المفلس، فلا شيء للبائع مع الرجوع، وإن كان له أرش، فللبائع إذا رجع أن يضرب مع الغرماء بحصة ما نقص من ثمنه، فينظر ما نقص من قيمته فيرجع بقسطه من الثمن؛ لأنه مضمون على المشتري للبائع بالثمن والأرش للمفلس على الجاني.
فصل
فإن كان المبيع زيتاً، فخلطه بزيت آخر، أو لت به سويقاً، أو صبغاً فصبغ به ثوباً، أو مسامير فسمر بها باباً، أو حجراً فبنى به، أو لوحاً فجعله في سفينة، أو سقف أو نحو ذلك، لم يكن له الرجوع؛ لأنه لا يقدر على أخذ عين ماله في بعض الصور، ولا يقدر في بعضها إلا بإتلاف مال المفلس، ولا يزال الضرر بالضرر. وإن كانت حنطة، فطحنها أو زرعها، أو دقيقاً فخبزه، أو زيتاً فعمله صابوناً، أو غزلاً فنسجه، أو ثوباً فجعله قميصاً، أو حباً فصار زرعاً، أو بيضاً فصار فرخاً، أو نوى فنبت شجراً، أو نحوه مما يزيل اسمه، فلا رجوع له؛ لأنه لم يجد متاعه بعينه، لتعذر اسمه وصفته.(2/100)
فصل
وإن اشترى ثوباً فصبغه أو قصره، أو سويقاً فلته بزيت، فلصاحبهما الرجوع فيهما؛ لأن عين مالهما قائمة مشاهدة، لم يتغير اسمها، ولا صفتها، ويصير المفلس شريكهما بما زاد عن قيمتهما؛ لأن ما حصل من زيادة القيمة بالصبغ وغيره، فهي للمفلس؛ لأنها حصلت بفعله في ملكه. وإن نقص الثوب، لم يمنع الرجوع؛ لأنه نقص صفة، فهو كالهزال. وإن لم يزد بالقصارة، سقط حكمها، لعدم أثرها في الزيادة. وإن اشترى أرضاً فزرعها، ثم أفلس، فللبائع الرجوع فيها، لما ذكرنا، ويكون الزرع مبقى إلى الحصاد بغير أجرة؛ لأن العوض في مقابلة الأرض، لا في مقابلة المنفعة فإذا فسخ، عادت إليه الرقبة دون المنفعة المستثناة شرعاً، كما لو باعه أمة فزوجها ثم رجع فيها دون منفعة بضعها.
فصل
الشرط الثاني: أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً، فإن قبض بعضه، فلا رجوع له، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته بعينها عند رجل قد أفلس، ولم يكن قبض من ثمنها شيئاً، فهي له، وإن كان قد قبض من ثمنها شيئاً، فهو أسوة الغرماء» رواه أبو داود، ولأن في الرجوع بالباقي تبعيض الصفقة على المفلس، فلم يجز، كما لو لم يقبض شيئاً.
فصل
الشرط الثالث: أن لا يتعلق بها حق غير المفلس، فإن خرجت عن ملكه ببيع أو غيره، لم يرجع؛ لأنه تعلق بها حق غيره، أشبه ما لو أعتقها. وإن رهنها، سقط الرجوع لذلك، وإن تعلق بها أرش جناية، سقط الرجوع؛ لأنه يقدم على حق المرتهن، فهو أولى بالمنع، ويتوجه أن لا يمنع؛ لأنه لا يمنع تصرف المشتري بخلاف الرهن، فعلى هذا إن شاء رجع فيه ناقصه بعيب الجناية، وإن شاء فله أسوة الغرماء، فإن كان دين الرهن، أو أرش الجناية بقدر بعضه، منع الرجوع في الجميع؛ لأنه معنى منع الرجوع في بعضها، فمنعه في جميعها، كبيع بعضها. وقال القاضي: يرجع في باقيها بقسطه؛ لأنه لا مانع فيه، وإن كان المبيع شقصاً مشفوعاً، ففيه وجهان:
أحدهما: للبائع الرجوع، اختاره ابن حامد؛ للخبر، ولأنه إذا رجع فيه، عاد(2/101)
الشقص إليه، فزال الضرر عن المبيع، لعدم شركه غير البائع.
والثاني: الشفيع أحق؛ لأن حقه آكد بدليل أنه ينزع الشقص من المشتري، وممن نقله إليه المشتري، بخلاف البائع. وإن باعه المفلس أو وهبه، ثم عاد إليه، ففيه وجهان:
أحدهما: له الرجوع للخبر، ولأنه وجد عين ماله خالياً عن حق غيره، أشبه إذا لم يبعه.
والثاني: لا يرجع؛ لأن هذا الملك لم ينتقل إليه منه، فلم يملك فسخه. وإن كان المبيع صيداً، فوجده البائع بعد أن أحرم، سقط الرجوع؛ لأنه تملك للصيد، فلم يجز مع الإحرام كشرائه.
فصل
الشرط الرابع: كون المفلس حياً، فإن مات فالبائع أسوة الغرماء، لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فإن مات فصاحب المتاع أسوى الغرماء رواه أبو داود. وفي لفظ: «أيما امرئ مات وعنده مال امرئ بعينه، اقتضى من ثمنه شيئاً، أو لم يقتض فهو أسوة الغرماء» رواه ابن ماجه. ولأن الملك انتقل عن المفلس، فسقط الرجوع فيه كما لو باعه.
فصل
الشرط الخامس: أن لا يزيد زيادة متصلة، كالسمن والكبر، وتعلم صنعة، فإن وجد ذلك، منع الرجوع، ذكره الخرقي؛ لأنه فسخ بسبب حادث، فمنعته الزيادة المتصلة، كالرجوع في الصداق للطلاق قبل الدخول. وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: له الرجوع للخبر، ولأنه فسخ فلم تمنعه الزيادة، كالرد بالعيب. فأما الزيادة المنفصلة، كالولد والثمرة الظاهرة والكسب، فلا يمنع الرجوع؛ لأنه يمكن الرجوع في العين دونها، والزيادة للمفلس في ظاهر المذهب؛ لأنها نماء ملكه المنفصل، فكانت له، كما لو ردها بعيب، ورجعت إلى الزوج بالطلاق، ولأن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» رواه أبو داود. يدل على أن النماء للمشتري، لكون الضمان عليه. وقال أبو بكر: هي للبائع قياساً على المتصلة، والفرق ظاهر؛ لأن المتصلة تتبع في الفسوخ دون المنفصلة.
فصل
فإن باعها حائلاً فحملت، فالحمل زيادة متصلة؛ لأنه يتبع أمه في العقود والفسوخ، ولا يمكن الرجوع فيها دونه، فهو كالسمن، ويحتمل أن يرجع فيها دون(2/102)
ولدها، يتربص به حتى تضع؛ لأنه جزء لانفصاله غاية، فأشبه الثمرة. وإن أفلس بعد وضعها، فهو زيادة منفصلة، له الرجوع في الأم دون الولد، إلا أن تكون أمة، فلا يجوز التفريق بينهما، ويخير بين دفع قيمة الولد ليملكهما، وبين بيعهما معاً، فيكون له من الثمن ما يخص الأم. وإن باعها حاملاً، فلم تزد قيمتها، فله الرجوع، وإن زادت القيمة لكبر الحمل أو وضعه، فهي زيادة متصلة. وإن زاد أحدهما خرج على الروايتين فيما إذا كان المبيع عينين، فتلفت إحداهما. وقال القاضي: له الرجوع فيهما على كل حال. ومن جعل الحمل لا حكم له، جعل حكمها حكم المبيعة حائلاً سواء.
فصل
فإن باع نخلاً حائلاً فأطلعت، ثم أفلس المشتري قبل تأبيرها، فالطلع زيادة متصلة؛ لأنها تتبع في البيع. وقال ابن حامد: حكمها حكم المنفصل؛ لأنه يمكن فصله، وإفراده بالبيع بخلاف السمن، وإن أفلس بعد تأبيرها، فهي زيادة منفصلة، تكون للمفلس متروكة إلى الجذاذ، كما لو اشترى النخل، وكذلك الحكم في سائر الشجر، وفي الأرض ينبت فيها الزرع، فإن اتفق المفلس والغرماء على تبقيته أو قطعه، فلهم ذلك، وإن اختلفوا، وله قيمته مقطوعاً، قدم قول من طلب القطع؛ لأنه أقل عذراً، ولأن الطالب للقطع، إما غريم يطلب حقه، أو مفلس يطلب تبرئة ذمته، فإن أقر المفلس للبائع بالطلع، لم يقبل إقراره؛ لأنه يسقط به حق الغرماء، فلم يقبل كإقراره بغريم آخر، وعلى الغرماء اليمين؛ لأنهم لا يعلمون برجوع البائع قبل التأبير؛ لأن اليمين تثبت في جنبهم ابتداء. وإن أقر الغرماء، لم يقبل؛ لأن الملك للمفلس، ويحلف المفلس، ويثبت الطلع له، ينفرد به دونهم، لإقرارهم أنه لا حق لهم فيه، وله تخصيص بعضهم به، وقسمته بينهم، فمن أباه قيل له: إما أن تأخذه أو تبرئه؛ لأنه للمفلس حكماً، فقد قضاهم ما ثبت له، فلزمهم، قبوله، كما لو أدى المكاتب نجومه، فادعى سيده تحريمه. فإن قبضوا الثمرة بعينها، لزمهم ردها إلى البائع لإقرارهم له بها، وإن قبضوا ثمنها، لم يلزمهم رده؛ لأنهم إنما اعترفوا له بالعين له بالثمن. وإن شهد الغرماء للبائع بالطلع، وهم عدول، قبلت شهادتهم لأنهم غير متهمين.
فصل
وإن اشترى أرضاً فغرسها، أو بنى فيها، ثم أفلس، فللبائع الرجوع في الأرض، ثم إن طلب المفلس والغرماء، قلع الغراس والبناء، فلهم ذلك، وعليهم ضمان ما نقصها القلع وتسوية الحفر؛ لأنه نقص حصل بفعلهم، لتخليص ملكهم، فأشبه المشتري مع الشفيع. وإن أبوا القلع، فللبائع دفع قيمته ويملكه؛ لأنه حصل لغيره في ملكه بحق، فملك ذلك، كالشفيع، فإن أبى ذلك سقط الرجوع؛ لأن فيه ضرراً على المشتري، ولأن(2/103)
عين ماله مشغولة بملك غيره، أشبه الحجر المبني عليه، هذا قول ابن حامد.
وقال القاضي: يحتمل أن له الرجوع؛ لأن شغل ملكه بملك غيره لا يمنع الرجوع إذا كان أصلاً، كالثوب إذا صبغ، فإذا رجع، فاتفق الجميع على البيع، بيع، وأعطي كل واحد حقه، وإن أبى بعضهم احتمل أن يجبر عليه؛ لأنه معنى ينفصل به أحدهما عن صاحبه، أشبه بيع الثوب المصبوغ، واحتمل أن لا يجبر صاحب الأرض، ويباع الشجر وحده؛ لأنه ممكن بخلاف الصبغ.
فصل
وإن اشترى غراساً فغرسه، ثم أفلس فلم يزد، فللبائع الرجوع فيه، ويقلعه، ويضمن النقص، فإن أتى قلعه فبذل المفلس والغرماء قيمته ليملكوه، فلهم ذلك كالتي قبلها، وإن أرادوا قلعه، فلهم ذلك، ولا ضمان عليهم؛ لأن المفلس اشتراه مقلوعاً، فلم يلزمهم مع رده لذلك شيء آخر، ولا إبقاءه في أرضهم بغير استحقاق. وإن زاد سقط الرجوع في قول الخرقي، وعلى رواية الميموني يحتمل ذلك أيضاً؛ لأن النماء فيه قد حصل من أرض المفلس، فلم يملك البائع أخذه، ويحتمل أن له الرجوع، كما لو سمن العبد من طعامه. وإن اشترى من رجل أرضاً، ومن آخر غرساً، فغرسه فيها، فلصاحب الأرض الرجوع، وفي صاحب الغرس التفصيل الذي ذكرناه، فإن رجعا معاً، فالحكم فيهما، كما لو كان الغرس في أرض المفلس.
فصل
وإن أفلس، وعليه دين مؤجل لم يحل؛ لأنه التأجيل حق له، فلم يبطل بفلسه، كسائر حقوقه، قال القاضي: لا يحل رواية واحدة. وقال أبو الخطاب: فيه رواية أخرى أنه يحل؛ لأن الفلس معنى يوجب تعلق الدين بماله، فأسقط الأجل كالموت، فإن قلنا: لا يحل اختص أصحاب الديون الحالة بماله دونه؛ لأنه لا يستحق استيفاء حقه قبل أجله، وإن حل دينه قبل القسمة، شاركهم لمساواته إياهم في استيفائه، فأشبه من تجدد له دين بجناية المفلس عليه، وإن أدرك بعض المال، شاركهم فيه لذلك، فإن كان المؤجل برهن خص به؛ لأن حقه تعلق بعينه، فإن وجد عين ماله، فقال أحمد: يكون موقوفاً إلى أن يحل فيختار الفسخ أو الترك؛ لأن حقه تعلق بالعين، فقدم على غيره كالمرتهن، فإن كان ماله سلماً، فأدرك عين ماله، رجع فيها، وإن لم يدركها، وحل دينه قبل القسمة، ضرب بالمسلم فيه، وأخذ بقسطه من جنس حقه إن كان في المال وإلا اشترى به من جنس حقه، ودفع إليه، ولا يجوز أن يأخذ غير ما أسلم فيه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره» رواه ابن ماجه وأبو داود.(2/104)
فصل
فإن مات إنسان، وعليه دين مؤجل، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يحل، اختارها الخرقي، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك حقاً فلورثته» والتأجيل حق له. فينتقل إلى ورثته؛ لأنه لا يحل به ماله، فلا يحل ما عليه كالجنون.
والثاني: يحل؛ لأن بقاءه ضرر على الميت لبقاء ذمته مرتهنة به، وعلى الوارث لمنعه التصرف في التركة، وعلى الغريم تأخير حقه، وربما تلفت التركة، وعلى كلتا الروايتين يتعلق الحق بالتركة، كتعلق الأرش بالجاني، ويمنع الوارث التصرف فيها إلا برضى الغريم، أو توثيق الحق بضمين مليء، أو رهن يفيء بالحق إن كان مؤجلاً، فإنهم قد يكونون أملياء، فيؤدي تصرفهم إلى فوات الحق، فإن تصرفوا قبل ذلك، صح تصرفهم كتصرف السيد في الجاني، ويلزمهم أقل الأمرين من قضاء الدين، أو قيمة التركة؛ لأنه لا يلزمهم أكثر من وفاء الدين، ولا أكثر من التركة، ولهذا لو كانت باقية، لم يلزمهم أكثر من تسليمها. وإن تلفت التركة قبل التصرف فيها والتوثيق منها، سقط الحق كما لو تلف الجاني. وإن قضى الورثة الدين من غير التركة أو منها، جاز. وإن أبى الجميع، باع الحاكم من التركة ما يقضي به الدين. وإن مات المفلس وعليه دين مؤجل، فوثق الورثة للمؤجل، اختص أصحاب الحالة بالتركة، وإن أبوا ذلك، حل دينه فشاركهم، لئلا يفضي إلى إسقاط دينه بالكية.
فصل
وإذا حجر على المفلس، وهو ذو كسب يفيء بمؤنته ومؤنة من تلزمه مؤنته، فلذلك في كسبه؛ لأن ماله لا يخرج فيما لا حاجة إلى إخراجه فيه. وإن لم يف كسبه بمؤنته، كملناها من ماله. وإن لم يكن ذا كسب، أنفق عليه وعلى من تلزمه مؤنته من ماله بالمعروف في مدة الحجر؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وفيمن يعوله من تكون نفقته ديناً، كالزوجة. وإذا قدم نفقة نفسه على نفقة الزوجة، وجب تقديمها على سائر الديون، ولأن تجهيز الميت يقدم على دينه اتفاقاً، فنفقة الحي أولى؛ لأن حرمته آكد من حرمة الميت. ويقدم نفقة من تلزمه مؤنته من أقاربه؛ لأنهم جروا مجراه، وكذلك عتقوا عليه إذا ملكهم. وكذلك نفقة زوجته؛ لأنها آكد من نفقة أقاربه، وتجب كسوتهم أيضاً؛ لأن ذلك مما لا بد منه، ويكون ذلك من أدنى ما ينفق على مثلهم، أو(2/105)
يكتسي مثلهم، فإن كانت له ثياب هي أرفع من كسوة مثله، بيعت واشتري لهم كسوة مثلهم، ورد الفضل على الغرماء. وإن مات منهم ميت، كفن من ماله؛ لأنه يجري مجرى كسوة الحي، ويكفن في ثلاثة أثواب كغيره، ويحتمل أن يكفن في ثوب واحد؛ لأن الزائد فضل يستغنى عنه. ولا تباع داره التي لا غناء له عن سكناها؛ لأنه لا بد منه أشبه الكسوة، فإن كانت واسعة، يكفيه بعضها بيع الفاضل منها إن أمكن وإلا بيعت كلها، واشتري له مسكن مثله، وإن لم يكن له مسكن، استؤجر له مسكن؛ لأن ذلك مما لا بد منه. ورد الفضل على الغرماء ولا يباع خادمه الذي لا يستغني عن خدمته. وإن كان مسكنه وخادمه وثيابه أعيان أموال الناس، أفلس بها ووجدوها، فلهم أخذها؛ للخبر، ولأن حقوقهم تعلقت بالعين، فكانت أقوى من غيرها. ويحتمل أن من لم يكن له مسكن، ولا خادم، فاستدان ما اشتراهما به، وأفلس بذلك الدين أن يباع مسكنه وخادمه؛ لأنهما بأموال الغرماء، فتبقيتهما له إضرار بهم، وفتح باب الحيلة للمفاليس في استدانة ما يشترون به ذلك فيبقى لهم.
فصل
وإذا قسم ماله بين غرمائه، ففيه وجهان:
أحدهما: يزول الحجر عنه؛ لأن المعنى الذي حجر عليه من أجله حفظ المال، وقد زال ذلك، فيزول الحجر، لزوال سببه.
والثاني: لا يزول إلا بفك الحاكم له؛ لأنه حجر ثبت بالحاكم فلا يزول إلا به، كالحجر على السفيه. وإذا فك الحجر عنه فلزمته ديون ثم حجر عليه ثانياً، شارك غرماء الحجر الأول غرماء الحجر الثاني، إلا أن الأولين يضربون ببقية ديونهم، والآخرون يضربون بجميع ديونهم.
[باب الحجر]
يحجر على الإنسان لحق نفسه لثلاثة أمور: صغر، وجنون، وسفه؛ لقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .(2/106)
فدل على أن لا تسلم إليهم قبل الرشد، وقوله: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] . ولأن إطلاقهم في التصرف يفضي إلى ضياع أموالهم، وفيه ضرر عليهم. ويتولى الأب مال الصبي والمجنون؛ لأنها ولاية على الصغير، فقدم فيها الأب، كولاية النكاح. ثم وصيه بعده؛ لأنه نائبه. فأشبه وكيله في الحياة، ثم الحاكم؛ لأن الولاية من جهة القرابة قد سقطت، فثبت للسلطان، كولاية النكاح. ولا تثبت لغيرهم؛ لأن المال محل الخيانة، ومن سواهم قاصر الشفقة، غير مأمون على المال، فلم يله كالأجنبي. ومن شرط ثبوت الولاية العدالة بلا خلاف؛ لأن في تفويضها إلى الفاسق تضييعاً لماله، فلم يجز، كتفويضها إلى سفيه.
[تصرفات الولي في مال المحجور عليه]
فصل
وليس لوليه التصرف في ماله بما لا حظ له فيه، كالعتق والهبة والتبرعات والمحاباة، لقول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا ضرار» من المسند. وفي هذه إضرار، فلا يملكه ولا يأكل من ماله إن كان غنياً؛ لقوله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6] . ومن كان فقيراً جاز لقول الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] وليس له إلا أقل الأمرين من أجرته، أو قدر كفايته؛ لأنه لا يستحقه بالعمل والحاجة معاً، فلم يملك إلا ما وجدا فيه. ثم إن كان أباً، فلا شيء عليه؛ لأن له أن يأخذ من مال ولده، وإن كان غيره ففيه روايتان:
إحداهما: يضمن عوض ما أكله إذا أيسر؛ لأنه استباحة للحاجة، فلزمه عوضه كالمضطر.
والثانية: لا شيء عليه؛ لأن الله تعالى أمر بالأكل ولم يذكر عوضاً، ولأنه أجيز له الأكل بحق الولاية، فلم يضمنه، كرزق الإمام من بيت المال. وإذا كان خلط مال اليتيم بماله أرفق له، مثل أن يكون ألين في الخبز، وأمكن في الأدم، خلطه. وإن كان إفراده خيراً له أفرده؛ لقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] .(2/107)
فصل
وله أن يتجر بماله؛ لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي يتيماً فليتجر بماله، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» رواه الترمذي. ولأنه أحظ لليتيم؛ لتكون نفقته من ربحه، كما يفعل البالغ في ماله، ولا يتجر إلا في المواضع الآمنة. لئلا يغرر بماله، والربح كله لليتيم؛ لأن المضارب إنما يستحق بعقد، وليس له أن يعقد مع نفسه لنفسه. فإن أعطاه لمن يضارب له به، جاز؛ لأن العلاء بن عبد الرحمن روى عن أبيه عن جده: أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة. ولأن ذلك يفعله الإنسان في مال نفسه طلباً للحظ، وللمضارب من الربح ما وافقه الولي عليه؛ لأن الولي نائبه فيما فيه مصلحته، وهذا من مصلحته، فجاز كفعله له في ماله.
فصل
ويجوز أن يشتري له العقار؛ لأن الحظ فيه يحصل منه الفضل ويبقى الأصل، فهو أحظ من التجارة، وأقل غرراً، وله أن يبنيه؛ لأنه في معنى الشراء، قال أصحابنا: ويبنيه بالآجر والطين، ليسلم الآجر عند انهدامه. والصحيح أنه يبنيه بما جرت عادة أهل بلده؛ لأنه أحظ وأقل ضرراً. ولا يجوز تحمل ضرر عاجل، لتوهم نفع عند الهدم فالظاهر أنه لا ينهدم إلا بعد زوال ملكه عنه. ولا يجوز بيع عقاره لغير حاجة، لما فيه من تفويت الحظ الحاصل به، ويجوز للحاجة. قال أصحابنا: لا يجوز إلا لحاجة إلى نفقة، أو قضاء دين، أو غبطة لزيادة كثيرة في ثمنه، كالثلث فما فوقه، والمنصوص: أن للوصي بيعه إذا كان نظراً لهم من غير تقييد بهذين. وقد يكون الحظ في بيعه لغير هذا، لكونه في مكان لا غلة له، أو له غلة يسيرة، فيبيعه ويشتري بثمنه ما يكثر عليه، أو يكون له عقاران، يعمر أحدهما بثمن الآخر، فلا وجه لتقييده بهذين.
فصل
ولا يجوز أن يودع ماله إلا لحاجة، ولا يقرضه إلا لحظه، مثل أن يخاف هلاكه، أو نقصانه ببقائه، فيقرضه ليستوفيه كاملاً، لا يقرضه إلا لمليء يأمن جحده، أو مطله. ويأخذ بالعوض رهنا استيثاقاً له، وإن لم يأخذ، جاز في ظاهر كلامه، وإن أراد الولي السفر لم يكن له المسافرة بماله؛ لأنه يخاطر به، لكنه يقرضه، أو يودعه أميناً، والقرض أولى؛ لأنه مضمون بخلاف الوديعة.
فصل
وله كتابة رقيقه وعتقه على مال، للحظ فيه، مثل أن يكاتبه، أو يعتقه بمثلي قيمته؛ لأنها معاوضة فتجوز للحظ فيها كالبيع، ولا يجوز ذلك بمثل قيمته؛ لأنه لا حظ(2/108)
فيه. قال أبو بكر: يتوجه جواز العتق بغير عوض للحظ، مثل أن يكون له جارية وابنتها تساويان مائة؛ لأجل اجتماعهما، وتساوي إحداهما مفردة مائتين، فتساوي قيمة الباقية مثلي قيمتها مجتمعتين.
فصل
وينفق عليه نفقة مثله بالمعروف من غير إسراف ولا إقتار؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] . ويقعده في المكتب بغير إذن الحاكم، ويؤدي أجرته؛ لأن من مصالحه العامة فجرى مجرى نفقته. ويشتري له الأضحية إن كان موسراً؛ لأن فيه توسعة للنفقة عليه في يوم جرت فيه العادة بها، وتطييباً لقلبه، فجرى مجرى رفيع الثياب لمن عادته ذلك.
فصل
وللأب بيع ماله بماله؛ لأنه غير متهم عليه، لكمال شفقته، وليس ذلك للوصي ولا للحاكم؛ لأنهما متهمان في طلب الحظ لأنفسهما، فلم يجز ذلك لهما.
[فصل في اختلاف الولي والحجور عليه]
فصل
وإذا زال الحجر عنه فادعى وليه الإنفاق عليه، أو تلف ماله، فالقول قوله؛ لأنه أمين عليه، فقبل قوله، كالمودع. وإن ادعى أنه لا حظ له في بيع عقار لم يقبل إلا ببينة. وإن قال الولي: أنفقت عليك عامين، فقال: ما مات أبي إلا منذ عام، فالقول قول الغلام؛ لأن الأصل حياة أبيه، وقد اختلفا فيما ليس الوصي أميناً فيه، فكان القول قول مدعي الأصل.
[فصل فيما ينفك به الحجر]
فصل
وإن بلغ الصبي، وعقل المجنون، ورشد، انفك الحجر عنهما من غير حاكم، ولا يفك قبل ذلك، لقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . وقسنا عليهم المجنون؛ لأنه في معناهم. والبلوغ للغلام بأحد ثلاثة أشياء:
أحدها: إنزال المني، لقول الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] . وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى(2/109)
يحتلم» . رواه أبو داود.
والثاني: كمال خمسة عشر سنة؛ لما روى «ابن عمر قال: عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني في القتال، وعرضت عليه وأنا ابن خمسة عشر فأجازني» متفق عليه.
والثالث: إنبات الشعر الخشن حول القبل؛ لما روى «عطية القرظي. قال: عرضت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم قريظة، فشكوا في فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ينظر إلي هل أنبت؟ فنظروا فلم يجدوني أنبت، فخلوا عني وألحقوني بالذرية.» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح. ولأنه خارج يلازمه البلوغ غالبا يستوي فيه الذكر والأنثى، فكان بلوغاً كالاحتلام، وبلوغ الجارية بهذه الثلاث. وتزيد بشيئين: الحيض؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار.» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن، ولأنه خارج يلازم البلوغ غالباً، أشبه المني. والثاني: الحمل؛ لأنه لا يكون إلا من المني. فإذا ولدت المرأة، حكمنا ببلوغها حين حكمنا بحملها. فإن كان خنثى مشكل، فحيضه علم على بلوغه، وكونه امرأة، وخروج المني من ذكره، علم على بلوغه، وكونه رجلاً؛ لأن الحيض من الرجل ومني الرجل من المرأة مستحيل، أو نادر. وقال القاضي: ليس ذلك بدليل، لجواز أن يكون من خلقة زائدة، لكن إن اجتمعا، فقد بلغ؛ لأنه إن كان رجلاً فقد أمنى، وإن كانت امرأة فقد حاضت.
فصل
ويستوي الذكر والأنثى في أنه ينفك عنه الحجر برشده وبلوغه، للآية؛ ولأن المرأة أحد نوعي الآدميين، فأشبهت الرجل. وعنه: لا يدفع إليها مالها حتى تلد، أو تتزوج ويمضي عليها حول في بيت الزوج؛ لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن لم تتزوج، فقال القاضي: عندي أن يدفع إليها مالها إذا عنست، وبرزت للرجال.
[فصل في تعريف الرشد وما يعرف به]
فصل
والرشد: الصلاح في المال؛ لأن ابن عباس قال في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6](2/110)
قال: إصلاحاً في أموالهم، ولأن الحجر عليه، لحفظ ماله، فيزول بصلاحه، كالعدل. ولأن الفسق معنى، لو طرأ بعد الرشد، لم يوجب الحجر، فلم يمنع من الرشد، كالمرض. فإن كان فسقه يؤثر في تلف ماله، كشراء الخمر ودفعها في الغناء والقمار، فليس برشيد؛ لأنه مفسد لماله.
فصل
وإنما يعرف رشده باختباره؛ لقول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] . يعني: اختبروهم. واختبارهم: تفويض التصرفات التي يتصرف فيها أمثالهم إليهم، من تجارة أو نيابة. ويفوض إلى المرأة ما يفوض إلى ربة البيت، من استئجار الغزالات، وتوكيلها في شراء الكتان، والاستيفاء عليهن. ووقت الاختيار قبل البلوغ في ظاهر المذهب؛ لقوله سبحانه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] . ولأن تأخيره يؤدي إلى الحجر على البالغ الرشيد حتى يختبره، ولا يختبر إلا المراهق المميز الذي يعرف البيع والشراء، فإذا تصرف بإذن وليه، صح تصرفه؛ لأنه متصرف بأمر الله تعالى، فصح تصرفه كالرشيد. وفيه رواية أخرى لا يختبر إلا بعد البلوغ؛ لأنه قبله ليس بأهل للتصرف؛ لأنه لم يوجد البلوغ الذي هو مظنة العقل، فكان عقله بمنزلة المعدوم. وفي تصرف الصبي المميزة بإذن وليه روايتان. بناء على هذا. فأما غير المأذون، فلا يصح تصرفه إلا في الشيء اليسير؛ لأن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله.
فصل
ومن لم يؤنس منه رشد، لم يدفع إليه ماله، ولم ينفك الحجر عنه، وإن صار شيخاً، للآية. ولأنه غير مصلح لماله، فلم يدفع إليه، كالمجنون. وإن فك الحجر عنه فعاود السفه، أعيد عله الحجر؛ لما روى عروة بن الزبير: أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعاً، فأتى الزبير فقال: إني قد ابتعت بيعاً، وإن علياً يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان فيسأله الحجر علي، فقال الزبير: أنا شريكك في البيع، فأتى علي عثمان فقال: إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه، فقال الزبير: أنا شريكه، فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير؟ وهذه قصة يشتهر مثلها، ولم تنكر فتكون إجماعاً. ولأن السفه يقتضي الحجر لو قارن، فيقتضيه إذا طرأ، كالجنون. ولا يحجر عليه إلا الإمام، أو(2/111)
نائبه؛ لأن علياً سأل عثمان الحجر على ابن جعفر، ولم يفعله بنفسه. ولأن معرفة التبذير تحتاج إلى نظر؛ لأن الغبن قد يكون تبذيراً، وقد يكون غير تبذير، فيحتاج إلى نائب الإمام، كالحجر للفلس، ولأنه مختلف فيه، أشبه الحجر للفلس، ولا يلي عليه إلا الإمام، أو نائبه؛ لأنه حجر ثبت به، فكان هو الولي، كحجر المفلس.
فصل
ويستحب الإشهاد عليه والجهار بالحجر، لتجتنب معاملته. فمن عامله ببيع، أو قرض، لم يصح، ولم يثبت به الملك. فإن وجد المعامل له مالاً، أخذه. وإن أتلفه السفيه، فهو من ضمان مالكه، علم أو لم يعلم؛ لأنه سلطه عليه برضاه. وإن غصب مالاً أو أتلفه، ضمنه؛ لأن صاحبه لم يرض ذلك، ولأن الحجر على الصبي والمجنون لا يسقط عنهما ضمان المتلف، فهذا أولى. وإن أودع مالاً فتلف، لم يضمنه، سواء فرط في الحفظ أو لم يفرط؛ لأنه تلف بتفريط صاحبه بتسليمه إليه. وإن أتلفه، ففيه وجهان:
أحدهما: يضمنه؛ لأن صاحبه لم يرض إتلافه، أشبه المغصوب.
والثاني: لا يضمنه؛ لأن صاحبه فرط في التسليم إليه. وإن أقر بمال، لم يلزمه حال حجره؛ لأنه حجر عليه لحظه، فلم يقبل إقراره بالمال، كالصبي والمجنون. ولأن قبول إقراره يبطل معنى الحجر؛ لأنه يداين الناس، ويقر لهم. قال أصحابنا: ويلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه، كالمفلس. وفيه نظر؛ لأن الحجر عليه لعدم رشده، فهو كالصبي. ولأن ثبوت إقراره في ذمته لا يفيد الحجر معه إلا تأخير الضرر إلى أكمل حالتيه إلا أن يريدوا أن يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى: فإن ما كان ثابتاً في ذمته لا يسقط بالحجر عليه. وإن أقر بحد أو قصاص، لزمه؛ لأنه محجور عليه في ماله لا في نفسه. فإن عفا ولي القصاص إلى ماله، ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن من ثبت له القصاص ثبتت له الخبرة. كما لو ثبت ببينة.
والثاني: لا يصح، لئلا يواطئ من يقر له بالقصاص، ليعفو على مال يأخذه. وإن أقر بنسب قبل؛ لأنه ليس بمال، وينفق على الغلام من بيت المال؛ لأن إقرار السفيه بما يوجب المال غير مقبول. وإن طلق امرأته، صح؛ لأن الحجر يحفظ المال، والطلاق يوفره ولا يضيعه. فإن خالع، جاز؛ لأنه إذا جاز الطلاق بغير مال فبالمال أولى ولا تدفع المرأة إليه المال، فإن فعلت، لم يصح القبض، ولم تبرأ منه إلا بالدفع إلى وليه. وإن تلف، كان من ضمانها.(2/112)
[فصل في تصرفات المحجور عليه]
فصل
وإن أذن له في النكاح، صح منه؛ لأن حاجته تدعوه إلى ذلك. وليس بآلة للتبذير. وقال القاضي: يصح من غير إذن الولي؛ لما ذكرنا. وإن أذن له في البيع، ففيه وجهان:
أحدهما: يصح منه؛ لأنه عقد معاوضة فصح منه بالإذن. كالنكاح.
والثاني: لا يصح؛ لأن المقصود منه المال وهو محجور عليه فيه. ولأن الحجر عليه لتبذيره، فالإذن له إذن فيما لا مصلحة فيه. وإن حلف، انعقدت يمينه؛ لأنه مكلف. ويكفر بالصوم؛ لأنه ممنوع من التصرف في المال فأشبه العبد. وإن أحرم بالحج، صح. لأنه من أهل العبادات، فإن كان فرضاً، لزمه إتمامه ويجب الإنفاق عليه إلى أن يفرغ منه؛ لأنه مال يحتاج إليه لأداء الفرض فوجب. وإن كان تطوعاً لا تزيد نفقته على نفقة الإقامة، أو تزيد وله كسب، إذا أضافه إليه، أمكنه الحج، لزمه إتمامه. وإن لم يكن كذلك، ففيه وجهان:
أحدهما: على الولي تحليله؛ لأن في إتمامه تضييعاً للمال فيما لا يلزمه.
والثاني: ليس له تحليله، بناء على إحرام العبد بغير إذن سيده، ويتحلل بالصوم كالعبد.
فصل
وإن وجب له القصاص، فله استيفاؤه؛ لأن القصد التشفي ودرك الثأر، وله العفو على مال؛ لأنه تحصيل. فإن عفا إلى غير مال، وقلنا: الواجب القصاص عيناً، سقط إلى غير شيء. وإن قلنا: الواجب أحد شيئين، وجبت الدية؛ لأنه ليس له إسقاط المال.
فصل
ولا ينفذ عتقه؛ لأنه إتلاف لماله. وحكي عنه: أنه يصح؛ لأنه مكلف مالك، أشبه الراهن. ويصح تدبيره ووصيته؛ لأنه محض مصلحة، لتقربه به إلى الله تعالى عند غناه عن المال. وإن نذر عبادة بدنية انعقد نذره؛ لأنه لا حجر عليه في بدنه. وإن نذر صدقة مال، لم يصح، ويكفر عن نذره بالصيام. وقياس قول أصحابنا: أنه يلزمه الوفاء به عند فك حجره كالإقرار.
فصل
وهل للمرأة الرشيدة التبرع من مالها بغير إذن زوجها؟ فيه روايتان:
إحداهما: لها ذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .(2/113)
وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن» وقبوله لصدقتهن حين تصدقن، ولأن من وجب دفع ماله إليه لرشده، نفذ تصرف فيه بغير إذن غيره كالرجل. وعنه: لا تهب شيئاً إلا بإذن زوجها، ولا ينفذ عتقها؛ لما روى عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها» . رواه أبو داود، وكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عام في القليل والكثير. وقال أصحابنا: لها التبرع بالثلث فما دون، وما زاد فعلى روايتين.
فصل
وهل لها الصدقة من ماله بالشيء اليسير بغير إذنه؟ فيه روايتان:
إحداهما: لها ذلك؛ لأن عائشة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها، وله مثله بما كسب، ولها بما أنفقت، وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم شيء» وعن «أسماء أنها قالت: يا رسول الله، ليس لي شيء إلا ما أدخل علي الزبير، فهل علي جناح أن أرضخ مما أدخل علي؟ قال: ارضخي ما استطعت، ولا توعي، فيوعي الله عليك» متفق عليهما.
ولأن العادة السماح بذلك، فجرى مجرى صريح الإذن.
والثانية: لا يجوز؛ لما روى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تنفق المرأة شيئاً من بيتها إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام، قال: ذلك أفضل أموالنا» رواه سعيد والترمذي. ولأنه تبرع بمال غيرها، فلم يجز، كالصدقة بثيابه والله تعالى أعلم.(2/114)
[كتاب الصلح]
وهو ضربان:
أحدهما: الصلح في الأموال وذلك نوعان:
أحدهما: الصلح على الإنكار. مثل أن يدعي على إنسان عيناً في يده، أو ديناً في ذمته، لمعاملة أو جناية، أو إتلاف أو غصب، أو تفريط في وديعة، أو مضاربة ونحو ذلك، فينكره ثم يصالحه بمال، فإنه يصح إذا كان المنكر معتقداً بطلان الدعوى، فيدفع المال افتداءً ليمينه، ودفعاً للخصومة عن نفسه. والمدعي يعتقد صحتها، فيأخذه عوضاً عن حقه الثابت له؛ لأنه يصح مع الأجنبي، فيصح بين الخصمين، كالصلح في الإقرار ويكون بيعاً في حق المدعي؛ لأنه يأخذ المال عوضاً عن حقه. فيلزمه حكم إقراره، حتى لو كان العوض شقصاً، وجب الشفعة. وإن وجد به عيباً، فله رده ويكون إبراء في حق المنكر، لاعتقاده أن ملكه للمدعى لم يتجدد بالصلح، وأنه إنما دفع المال افتداء لنفسه لا عوضاً، فلو كان المدعى شقصاً، لم تجب فيه شفعة. ولو وجد به عيباً، لم يملك رده، كمن اشترى عبداً قد أقر بحريته، فإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه فالصلح باطل في الباطن، وما يأخذه بالصلح حرام؛ لأنه يأكل مال أخيه بباطله، ويستخرجه منه بشره، وهو في الظاهر صحيح؛ لأن ظاهر حال المسلمين الصحة والحق، فإن صالح عن المنكر أجنبي، صح. فإن كان بإذنه، فهو وكيله وقائم مقامه. وإن كان بغير إذنه، فهو افتداء له، وإبراء لذمته من الدين أو الدعوى، وذلك جائز بغير إذنه، بدليل أن أبا قتادة قضى دين الميت. ولا إذن له. لكن إن كان بغير إذنه لم يرجع(2/115)
عليه؛ لأن الدين لم يثبت عليه، ولأنه أدى عنه ما يلزمه أداؤه، فكان متبرعاً، وإن كان بإذنه، رجع عليه. لأنه وكيله.
وإن صالح الأجنبي عن نفسه ليصير الحق له من غير اعتراف للمدعي بصحة الدعوى، لم يصح؛ لأنه يشتري ملك غيره. وإن اعترف بصحة دعواه، والمدعى دين، لم يصح؛ لأن بيع الدين لا يصح مع الإقرار، فمع الإنكار أولى. وإن كان عيناً لا يقدر المصالح على تخليصها، لم يصح؛ لأن بيعها لا يصح مع الإقرار، فمع الإنكار أولى. وإن كان يقدر على استنقاذها، صح؛ لأنه اشترى منه ماله الممكن تسلمه، فصح كما قلنا في بيع المغصوب. ثم إن قدر على انتزاعها، استقر الصلح، وإن عجز، فله الفسخ؛ لأنه لم يسلم له المعقود عليه، فرجع في بدله. فإن قال الأجنبي للمدعي: أنا وكيل المنكر في صلحك، وهو معترف لك في الباطن، جاحد في الظاهر فصالحه، لم يصح؛ لأن الصلح في هذه الحال لا يصح من المنكر، فكذلك من وكيله. وقال القاضي: يصح. ومتى صدقه المنكر، ملك العين، ولزمه ما أدى عنه. وإن أنكر، حلف وبرئ. وإن دفع المدعي إلى المنكر مالاً ليقر له ففعل، ثبت الحق، وبطل الصلح؛ لأنه يجب عليه الإقرار بالحق. فلم يحل له أخذ العوض عما وجب عليه. ولو صالح امرأة لتقر له بالزوجية، أو بالرق، لم يصح لذلك، ولأنه يحرم عليها بذل نفسها لمن يطأها بعوض. وإن بذلت عوضاً للمدعي عن دعواه، صح؛ لأنها تدفع شره عن نفسها، ويأخذ العوض عن حقه فيها، كعوض الخلع. وقيل: لا يصح في الزوجية؛ لأن الزوج لا يأخذ عوضاً عن الزوجية في غير الخلع. ولو صالح شاهداً ليترك الشهادة عليه، أو سارقاً، لئلا يرفعه إلى السلطان، فالصلح باطل؛ لأنه لا يحل أخذ العوض عن ترك الشهادة الواجبة، وليس رفعه إلى السلطان حقاً يجوز الاعتياض عنه.
فصل
النوع الثاني: الصلح مع الاعتراف، وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يعترف له بدين فيبرئه من بعضه، ويستوفي باقيه، فلا بأس بذلك؛ لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه، ولا من استيفائه. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولو شفع فيه شافع، لم يأثم؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلم غرماء جابر، فوضعوا عنه الشطر. وكلم كعب بن مالك، فوضع عن غريمه الشطر. ويجوز للقاضي فعل ذلك؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله. وإن أمكن الغريم الوفاء، فامتنع حتى أبرئ من بعضه، لم يجز؛ لأنه هضم للحق، وأكل مال بالباطل. ولو قال الغريم: أبرأتك من بعضه، بشرط أن توفيني بقيته، أو على أن توفيني، أو لتوفيني باقيه لم يصح؛ لأنه جعل إبراءه عوضاً عما أعطاه، فيكون معاوضاً(2/116)
لبعض حقه ببعض، ولا يصح بلفظ الصلح؛ لأن معنى صالحني عن المائة بخمسين، أي بعني، وذلك غير جائز، لما ذكرنا، ولأنه ربا. ولو صالحه عن مائة مؤجلة بخمسين حالة، لم يجز لذلك؛ لأن بيع الحلول غير جائز. وإن صالحه عن الحالة بأقل منها مؤجلة، لم يصح؛ لأن الحال لا يتأجل بالتأجيل، وما يسقطه لا مقابل له، إلا أن يسقطه اختياراً منه بغير عوض، ولو اعترف له بداره، فصالحه على أن يسكنه فيها مدة، أو يبني عليها غرفة، ونحو ذلك، لم يصح؛ لأنه لا عوض له.
فصل
القسم الثاني: أن يعترف له بعين في يده، فيهب له بعضها، ويستوفي باقيها، فيصح، لما ذكرنا في الإبراء إذا فعل هذا اختياراً من غير منع الغريم، ووهب له بغير شرط، كما ذكرنا في الإبراء.
فصل
القسم الثالث: أن يعترف له بعين، أو دين، فيصالحه على غيره. وذلك ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يعترف له بنقد، فيصالحه على نقد، فهذا صرف يعتبر له شروطه.
الثاني: أن يعترف له بنقد، فيصالحه على عرض، أو بعرض فيصالحه على نقد أو عرض، فهذا بيع تثبت فيه أحكامه كلها.
الثالث: أن يعترف له بنقد أو عرض، فيصالحه على منفعة كسكنى دار، أو خدمة، فهذا إجارة تثبت فيه أحكامها. ولو تلفت العين التي صالح عليها، بطل الصلح. فإن كان قد مضى بعض المدة، بطل فيما بقي بقسطه. ولو اعترفت المرأة بدين فصالحته على أن تزوجه نفسها، صح، وكان صداقاً لها، ولو اعترفت له بعيب في مبيع، فصالحته على نكاحها، صح. فإن زال العيب، رجعت بأرشه؛ لأنه الصداق ولم يسم الخرقي الصلح في الإنكار صلحاً.
فصل
وإذا اعترف له بشيء، لم يجز أن يصالح بأكثر منه من جنسه؛ لأن الزائد لا مقابل له. ولو اعترف بقتل خطأ فصالحه بأكثر من الدية من جنسها، لم يجز. وإن كان من غير جنسها، جاز؛ لأنه معاوضة. ولو أتلف شيئاً قيمته مائة، فصالحه على مائة وعشرة، لم يجز لذلك. وإن صالحه على عرض جاز، وإن كثر؛ لأنه بيع. ولو أجل العوض الواجب بالإتلاف، لم يصر مؤجلاً بتأجيله.(2/117)
[فصل في صلح المكاتب والمأذون له من العبيد والصبيان]
فصل
وصلح المكاتب والمأذون له، من العبيد والصبيان من دين لهم ببعضه، لا يصح إلا إذا كان لهم به بينة، أو أقر لهم به؛ لأنه تبرع وليس لهم التبرع. فإن كان على الإنكار، صح؛ لأن استيفاءهم للبعض عند العجز عن استيفاء الكل أولى من تركه.
[فصل في الصلح عن المجهول]
فصل
ويصح الصلح عن المجهول الذي لا سبيل إلى معرفته، عيناً كان أو ديناً؛ لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في رجلين اختصما إليه في مواريث درست: استهما وتوخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه» رواه أبو دواد. وسواء كان الجهل من الجانبين كالحقوق الدارسة، أو ممن عليه الحق، لأن الحاجة تدعو إليه. فأما ما يمكن معرفته، فلا يجوز، قال أحمد: إن صالحوا امرأة من ثمنها، لم يصح. ولو قال الوارث لبعضهم: نخرجك عن الميراث بألف، أكره ذلك، حتى يعرفه. ويعلم ما هو؟ إنما يصالح الرجل عن الشيء لا يعرفه، ولا يدري ما هو؟ أو يكون رجلاً يعلم ماله على الآخر، والآخر لا يعرفه فيصالحه. فأما إذا علم فلم يصالحه إنما يريد أن يهضم حقه. ولأن هذا لا حاجة إليه، فلم يجز كبيع المجهول.
[باب الصلح فيما ليس بمال]
يصح الصلح عن دم العمد بما يزيد على الدية وينقص عنها؛ لأن المال لم يتعين فإن خرج العوض حراً أو مستحقاً، رجع بقيمته. ولو صالح عن دار فخرج العوض مستحقاً، رجع في الدار؛ لأنه بيع، فإذا فسد عوضه تبينا فساده، والصلح في الدم إسقاط، فلم يعد بعد سقوطه، ورجع ببدل العوض وهو القيمة.
[فصل حقوق الارتفاق والجوار]
فصل
وإذا أراد أن يجري في أرض غيره ماء، له غنى عن إجرائه فيها، لم يجز إلا برضاه لأن فيه تصرفاً في أرض غيره بغير إذنه، فلم يجز، كالزرع فيها، فإن صالحه على موضع القناة، جاز، إذا بينا موضعها وطولها وعرضها لأنه بيع لموضع من أرضه، ولا حاجة إلى بيان عمقها؛ لأن قرارها لمشتريها يعمق ما شاء، وإن شرط أن أرضهما لرب الأرض، كان إجارة، يفتقر إلى معرفة عمقها، ومدتها كإجارتها للزرع، فإن كان رب الأرض مستأجراً لها، جاز أن يصالح على إجراء ماء فيها في ساقية محفورة مدة لا تتجاوز مدة إجارته، وليس له حفر ساقية؛ لأنه إحداث شيء لم تتناوله الإجارة، وكذلك إن كانت الأرض وقفاً عليه. وإن صالح رجلاً على أن يجري على سطحه، أو أرضه ماء المطر، جاز، إذا كان السطح الذي يجري ماؤه معلوماً؛ لأن الماء يختلف بصغره،(2/118)
وكبره، ومعرفة موضع الميزاب الذي يجري الماء إليه؛ لأن ضرره يختلف. ولا يفتقر إلى ذكر المدة؛ لأن الحاجة تدعو إلى هذا، ولأن هذا لا يستوفي به منافع السطح، بخلاف الساقية. ومن كانت له أرض، لها ماء، لا طريق له، إلا في أرض جاره، وفي إجرائه ضرر بجاره، لم يجز إلا بإذنه؛ لأنه لا يملك الإضرار به، بالتصرف في ملكه، بغير إذنه، وإن لم يكن فيه ضرر، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يجوز، لما تقدم.
والثانية: يجوز؛ لما روي أن الضحاك بن خليفة، ساق خليجاً من العريض، فأراد أن يمر به على محمد بن مسلمة فمنعه، فقال له عمر: لم تمنع جارك ما ينفعه ولا يضرك، تشربه أولاً وآخراً؟ فقال له محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يمر به، ففعل. رواه سعيد بن منصور. ولأنه نفع لا ضرر فيه، فأشبه الاستظلال بحائطه.
فصل
ولا يجوز أن يشرع إلى الطريق النافذ جناحاً، وهو الروشن، على أطراف خشب مدفونة في الحائط، ولا ساباطاً، وهو المستولي على هواء الطريق على حائطين؛ لأنه بناء في ملك غيره، بغير إذنه، فلم يجز، كالبناء في أرض الطريق، ولا ميزاباً، ولا يبني فيها دكة لذلك، ولأنه يضر بالمارة، أشبه بناء بيت، ولا يباح ذلك بإذن الإمام؛ لأنه ليس له الإذن فيما يضر المسلمين، وسواء أضر في الحال، أو لم يضر؛ لأن هذا يراد للدوام، وقد يحدث الضرر فيه. وقال ابن عقيل: يجوز أن يأذن الإمام فيما لا ضرر فيه؛ لأنه نائب عن المسلمين، فجرى مجرى إذنه في الجلوس.
فصل
ولا يجوز أن يفعل هذا في ملك إنسان، ولا درب غير نافذ، إلا بإذن أهله؛ لأنه حقهم، فلم يجز التصرف فيه بذلك، بغير إذنهم، فإن صالحه المالك، أو أهل الدرب بشيء معلوم، جاز؛ لأنه يجوز بإذنهم بغير عوض، فجاز بعوض، كما في القرار. وقال القاضي: لا يصح الصلح عن الجناح والساباط؛ لأنه بيع للهواء دون القرار.
فصل
وإذا حصلت أغصان شجرته في هواء ملك غيره، فطالبه بإزالتها، لزمه ذلك؛ لأن هواء ملكه ملكه، فإن لم يزله، فلمالك الأرض إزالتها، بالقطع وغيره، كما لو دخلت بهيمة جاره داره، ملك إخراجها، فإن صالحه على تركها بعوض، جاز عند ابن حامد، وابن عقيل؛ لأن الجهالة هاهنا لا تمنع التسليم، فلم تمنع الصحة، كالصلح عن(2/119)
المواريث الدارسة، ولأن هذا مما يحتاج إليه، ويسامح فيه، فجرى سمن المستأجر للركوب، وهزاله. وقال القاضي: يصح في اليابس، المعتمد على حائط، ولا يصح في الرطب؛ لأنه يزيد ويتغير، ولا في غير المعتمد؛ لأنه لا قرار له. وقال أبو الخطاب: لا يصح في الجميع؛ لأن الرطب يزيد ويتغير، واليابس ينقص ويذهب. وإن صالحه بجزء من ثمرتها معلوم، ففيه وجهان:
أحدهما: المنع؛ للجهالة فيه وفي عوضه.
والثاني: يجوز؛ لأن هذا يكثر في الأملاك المتجاورة، وفي القطع إتلاف وإضرار، فدعت الحاجة إلى الصلح بجزء من الثمرة؛ لأنه أسهل، ولو امتدت عروق شجرة، حتى أثرت في بناء غيره، أو بئره، فعليه إزالته؛ لأن قرار ملك الإنسان ملكه، فهو كهوائه، ولو مال حائطه إلى ملك جاره، أو طريق، لزمه إزالته.
فصل
ليس للإنسان أن يفتح في حائط جاره طاقاً، ولا يغرز فيه وتداً، ولا مسماراً، ولا يحدث عليه حائطاً، ولا سترة بغير إذنه؛ لأنه يصرف في ملك غيره، بما يضر به، فلم يجز، كهدمه. وليس له وضع خشبة عليه، إن كان يضر بالحائط، أو يضعف عن حمله؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وإن كان لا يضر، وبه غنى عنه، لم يجز عند أكثر أصحابنا؛ لأنه تصرف في ملك غيره، بما يستغني عنه، فلم يجز، كفتح الطاق، وغرز المسمار، وأجازه ابن عقيل لخبر أبي هريرة. ولأن ما أبيح لا تعتبر له حقيقة الحاجة، كانتزاع الشقص المشفوع، والفسخ بالعيب. وإن احتاج إليه، بحيث لا يمكنه التسقيف إلا به جاز؛ لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنع أحدكم جاره، أن يضع خشبة على جداره» متفق عليه. ولأنه انتفاع، لا ضرر فيه، دعت الحاجة إليه، فوجب بذله، كفضل الماء لبهائم غيره، وذكر القاضي، وأبو الخطاب: أنه لا يجوز، إلا لمن ليس له إلا حائط واحد، ولجاره ثلاثة، وقد يتعذر التسقيف على الحائطين غير المتقابلين، فالتفريق تحكم، فأما وضع الخشب في حائط المسجد مع الشرطين، ففيه روايتان:
إحداهما: يجوز؛ لأن تجويزه في ملك الآدمي المبني حقه على الضيق، تنبيه على جوازه في حق الله، المبني على المسامحة والسهولة.
والثانية: المنع، اختارها أبو بكر؛ لأن الأصل المنع، خولف في الآدمي المعين، فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل، ويتخرج من هذه الرواية، أن يمنع من وضعه في ملك الجار إلا بإذنه؛ لما ذكرنا للرواية الأولى، فإن صالحه المالك على وضع خشبه(2/120)
بعوض في الموضع الذي يجوز له وضعه، لم يجز؛ لأنه يأخذ عوض ما يجب عليه بذله، وإن كان في غيره، جاز، سواء كانت إجارة في مدة معلومة، أو على التأبيد، بشرط كون الخشب معلوماً برؤية، أو صفة، والبناء معلوم، والآلة معلومة، ومتى زال الخشب، لسقوط الحائط أو غيره، فله إعادته؛ لأنه استحق بقاءه بعوض، ولو كان له رسم طرح خشب، فصالحه المالك بعوض، على أن لا يعيده عليه، أو ليزيله عنه، جاز؛ لأنه لما جاز أن يصالح على وضعه، جاز على نزعه.
فصل
فإن كان له دار، بابها في زقاق غير نافذ، وظهرها إلى الشارع، فله فتح باب إلى الشارع؛ لأن له حقاً في الاستطراق فيه، وإن كان بابها إلى الشارع لم يكن له فتح باب إلى الزقاق للاستطراق؛ لأنه لا يجوز له أن يجعل لنفسه حق الاستطراق، في مكان مملوك لأهله، لاحق له فيه، ويحتمل الجواز لما نذكره في الفصل الذي يليه، وله أن يفتح مكاناً للضوء والنظر لا يصلح للاستطراق؛ لأن له رفع جميع حائطه، فرفع بعضه أولى. وإن فتحه باباً، يصلح للاستطراق، وقال: لا أجعله طريقاً، بل أغلقه وأسمره، ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لما ذكرنا.
والثاني: لا يجوز؛ لأن الباب دليل على الاستطراق فيجعل لنفسه حقاً. وإن كان له داران، باب إحداهما أو بابهما في زقاقين غير نافذين، بينهما حائط، فأنفذ إحداهما إلى الأخرى، جاز في أحد الوجهين؛ لأن رفع الحائط من بينهما، وجعلهما داراً واحدة، فرفع بعضه أولى.
والثاني: لا يجوز؛ لأنه يجعل الزقاقين، ويجعل الاستطراق في كل واحد منهما من دار، لاحق لها فيه. وكل موضع لا يجوز إذا صالح أهل الدرب بعوض، أو أذنوا له بغير عوض، جاز لأن المنع لحقهم، فجاز لهم أخذ العوض عنه، كسائر حقوقهم.
فصل
فإن كان بابه في زقاق، غير نافذ، فأراد تقديمه نحو أوله، جاز؛ لأنه يترك بعض حقه، وإن قدمه نحو آخره، لم يجز؛ لأنه يجعل لنفسه الاستطراق في موضع، لم يكن له ويحتمل الجواز؛ لأن له رفع حائطه كله، فيملك رفع بعضه، ولأن ما يلي حائطه فيئاً له، فملك فتح الباب فيه، كحالة ابتداء البناء، فإن له في ابتداء البناء جعل بابه حيث شاء، فتركه له لا يسقط حقه منه. ولو تنازع صاحبا البابين في الدرب، ففيه وجهان:(2/121)
أحدهما: يحكم بالدرب من أوله إلى الباب الأول لهما؛ لأن يدهما عليه، واستطراقهما فيه، وسائر الدرب للآخر؛ لأن اليد له لاستطراقه وحده.
والثاني: هو بينهما؛ لأن لهما جميعا يداً وتصرفاً، فعلى الوجه الأول لصاحب الباب الصدراني جعل آخر الدرب دهليزاً يختص به عن سائر أهل الدرب؛ لأنه ملكه خاصة، وعلى الثاني لا يجوز؛ لأنه مشترك بين الجميع.
فصل
إذا كان بينهما حائط مشترك، فانهدم، فدعا أحدهما صاحبه إلى عمارته فأبى، أجبر؛ لأنه إنفاق على ملك مشترك يزيل الضرر عنهما، فأجبر عليه كإطعام العبد المشترك، ولأن في تركه ضرراً فأجبر عليه كالقسمة، فإن لم يفعل، باع الحاكم ماله، وأنفق عليه، فإن لم يكن له مال، اقترض عليه وأنفق، وإن أنفق الشريك بإذنه، أو إذن الحاكم، رجع عليه بالنفقة والحائط بينهما، كما كان قبل انهدامه، وعنه: لا يجبر؛ لأنه إنفاق على ملك لا يجب لو انفرد به، فلم يجب مع الاشتراك، كزرع الأرض، وإن أراد شريكه بناءه، لم يمنع؛ لأنه يعيد رسماً في مشترك، فلم يمنع كوضع الخشب الذي له رسم، فإن بناه بآلته، عاد بينهما كما كان برسومه وحقوقه؛ لأنه عاد بعينه، وليس للباني فيه إلا أثر تأليفه، وإن بناه بآلة من عنده، فهو للباني ليس لشريكه الانتفاع به، وللباني نقضه إن شاء؛ لأنه ملكه خاصة. ولو بذل له شريكه نصف قيمته لئلا ينقضه، لم يجبر على قبولها؛ لأنه لما لم يجبر على إنشائه، لم يجبر على إبقائه، وعلى الرواية الأولى يجبر على تركه؛ لأنه يجبر على إنشائه، فيجبر على إبقائه. فإن كان للشريك على الحائط رسم انتفاع قلنا للباني: إما أن تأخذ منه نصف القيمة، وتمكنه من إعادة رسمه، وأما أن تأخذ بناءك ليبني معك؛ لأن القرار مشترك بينهما، فلم يجز أن يسقط حق شريكه.
فصل
وإن كان السفل لأحدهما، والعلو للآخر، فانهدم السقف الذي بينهما، فالحكم فيه كالحائط المشترك سواء؛ لأنه ينفعهما فهو كالحائط بينهما، وأيهما هدم الحائط أو السقف، فعليه إعادته إلا أن يخاف سقوطه، ويجب هدمه، فيصير كالمنهدم بنفسه. وإن انهدمت حيطان صاحب السفل، لم يملك صاحبه إجبار صاحب العلو على مباناته؛ لأنه ملكه خاصة، وعنه: يجبر؛ لأنهما ينتفعان به، فأشبه الحائط المشترك. وهل لصاحب العلو إجبار صاحب على بنائه؟ على روايتين. وليس لصاحب السفل منع صاحب العلو من بنائه إن أراده، فإن بناه بآلته، فهو على ما كان لا يملك أحدهما نقضه، وإن بناه بغير(2/122)
آلته، قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ينتفع به صاحب السفل حتى يؤدي القيمة، فيحتمل أن ليس له السكنى؛ لأن فائدة الحيطان أكثرها للسكنى، ويحتمل أنه ليس له طرح الخشب، ونصب الوتد ونحوه دون السكنى؛ لأن ذلك هو الانتفاع بالحائط مباشرة ولبانيه نقضه لأنه ملكه، ولا يجبر على إبقائه بالقيمة؛ لأنه لا يجبر على ابتدائه.
فصل
فإن كان بينهما دولاب، أو ناعورة يحتاج إلى عمارة، فذلك كالحائط المنهدم سواء. وإن كان بينهما قناة أو عين، ففي إجبار الممتنع من عمارتها روايتان. فإن بناها أحدهما، لم يملك منع صاحبه من نصيبه؛ لأنه ليس له فيها إلا أثر الفعل.
فصل
ليس للمالك التصرف في ملكه بما يضر جاره، نحو أن يبنيه حماماً بين الدور، أو مخبزاً بين العطارين، أو يجعله دار قصارة تهز الحيطان، أو يحفر بئراً تجتذب ماء بئر جاره؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه والدارقطني بنحوه، ولأنه تصرف يضر بجيرانه، فمنع منه، كالدق الذي يهز الحيطان.
وليس له سقي أرضه بما يهدم حيطانهم، وإن كان له سطح أعلى من سطح جاره، فعلى الأعلى بناء سترة بين ملكيهما، ليدفع عنه ضرر نظره إذا صعد سطحه.
[باب الحوالة]
وهو نقل الدين من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه ليست بيعاً، بدليل جوازها في الدين بالدين وجواز التفرق قبل القبض، واختصاصها بالجنس الواحد واسم خاص، فلا يدخلها خيار؛ لأنها ليست بيعاً ولا في معناه؛ لكونها لم تبن على المغابنة. والأصل فيها قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» متفق عليه. ولا تصح إلا بشروط أربعة:
أحدها: أن يحيل على دين مستقر؛ لأن مقتضاها إلزام المحال عليه الدين مطلقاً، ولا يثبت ذلك فيما هو بعرض السقوط، ولا يعتبر استقرار المحال به، لجواز أداء غير المستقر. فلا تجوز الحوالة بدين السلم ولا عليه؛ لأنه لا تجوز المعاوضة عنه به، ولا عنه. ولو أحال الزوج زوجته قبل الدخول بصداقها، صح، وإن أحالت المرأة به عليه، لم يصح؛ لأنه غير مستقر. وإن أحال المشتري البائع بثمن المبيع في مدة الخيار، صح، وإن أحال البائع به عليه، لم يصح لذلك. وإن أحال الكاتب سيده بنجم، فدخل عليه، صح، وإن أحال سيده به عليه، لم يصح لذلك. وإن أحيل على المكاتب بدين(2/123)
غير مال الكتابة، صح؛ لأن حكمه حكم الأحرار في المداينات. وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه. فهو توكيل في الاقتراض، وإن أحال على من له عليه دين، فهو كتوكيل في الاستيفاء، وإن أحال من عليه دين على من لا عليه دين، فهو ملتمس إيفاء دينه وليس شيء من ذلك حوالة؛ إذ الحوالة تحول الحق وانتقاله، ولا حق هاهنا يتحول، وإنما جاز التوكيل بلفظ الحوالة لاشتراكهما في معنى، وهو تحول المطالبة من الموكل إلى الوكيل، كتحولها من المحيل إلى المحتال.
فصل
الشرط الثاني: تماثل الحقين؛ لأنها تحويل الحق، فيعتبر تحوله على صفته، ويعتبر التماثل في ثلاثة أشياء: الجنس، فلو أحال من عليه أحد النقدين بالآخر، لم يصح. والصفة، فلو أحال عن المصرية بأميرية، أو عن المكسرة بصحاح، لم يصح. والحلول والتأجيل، فإن كان أحدهما حالاً والآخر مؤجلاً، أو أجل أحدهما مخالفاً لأجل الآخر، لم يصح. وإن صحت الحوالة، فتراضيا على خير مما أحيل به، أو دونه أو تعجيله، تأخيره، أو الاعتياض عنه، جاز؛ لأنه دين ثابت، فجاز فيه ذلك كغير المحال به.
فصل
الشرط الثالث: أن يكون بمال معلوم على مال معلوم؛ لأنه يعتبر فيهما التسليم والتماثل والجهالة تمنعها. ولا يصح فيما لا يصح السلم فيه؛ لأنه لا يثبت في الذمة، وإنما تجب قيمته بالإتلاف. ويصح في كل ما يثبت مثله في الذمة بالإتلاف، من الأثمان والحبوب والأدهان، وفيما يصح السلم فيه غير ذلك، كالمذروع والمعدود وجهان:
أحدهما: لا تصح الحوالة به؛ لأن المثل لا يتحرر فيه، ولهذا لا يضمن بمثله.
والثاني: يصح؛ لأنه يثبت في الذمة، ويحتمل أن يبنى الحكم فيه على القرض، إن قلنا: يقضى في هذا بمثله، صحت الحوالة به؛ لأنه يثبت في الذمة بغير السلم، وإلا فلا؛ لأنه لا يثبت في الذمة إلا بالسلم، ولا تصح الحوالة في السلم. وإن كان عليه إبل من قرض وله مثل ذلك على آخر، صحت الحوالة بها؛ لأنه إن ثبت في الذمة مثلها صحت الحوالة، وإن ثبت قيمتها فالحوالة بها صحيحة. وإن كان له إبل من دية، فأحال بها على من له عليه مثلها، من دية أخرى، صح ويلزمه إعطاؤه أدنى ما يتناوله الاسم. وقال أبو الخطاب: فيه وجه آخر، أنه لا يصح. وإن كان عليه إبل من الدية، وله مثلها قرضاً، فأحال بها، ففيه وجهان:(2/124)
أحدهما: يصح؛ لأن الخيرة في التسليم إلى المحيل، وقد رضي بتسليم ما له في ذمة المقترض.
والثاني: لا يصح؛ لأن الواجب في القرض في إحدى الروايتين القيمة، فقد اختلف الجنس. وإن أحال المقرض من له الدية بها، لم يصح، وجهاً واحداً؛ لأننا إن قلنا: الواجب القيمة، فالجنس مختلف، إن قلنا: يجب المثل، فللمقرض مثل ما أقرض في صفاته وقيمته، والذي عليه الدية لا يلزمه ذلك.
فصل
الشرط الرابع: أن يحيل برضاه؛ لأن الحق عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة بعينها، ولا يعتبر رضى المحال عليه؛ لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه، كما لو وكله في الاستيفاء منه. وأما المحتال، فإن كان المحال عليه مليئاً، وهو الموسر غير المماطل، لم يعتبر رضاه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع» ولأن للمحيل إيفاء الحق بنفسه وبوكيله، وقد أقام المحال عليه مقامه في الإيفاء، فلم يكن للمحتال الامتناع. وإن لم يكن مليئاً، لم يلزمه أن يحتال؛ للحديث. ولأن عليه ضرراً في قبولها، فلم يلزمه. كما لو بذل له دون حقه في الصفة، فإن رضي بها مع ذلك، صحت، كما لو رضي بدون حقه.
[فصل في آثار الحوالة]
فصل
إذا صحت الحوالة برئ المحيل من الدين. لأنه قد تحول من ذمته، فإن تعذر الاستيفاء من المحال عليه، لموت أو فلس حادث، أو مطل، لم يرجع على المحيل، كما لو أبرأه. وإن كان مفلساً حين الحوالة، ولم يرض المحتال بالحوالة، فحقه باق على المحيل؛ لأنه لا يلزمه الاحتيال على مفلس. وإن رضي مع العلم بحاله، لم يرجع؛ لأن الذمة برئت من الحق، فلم يعد إلى الشغل، كما لو كان مليئاً. وإن رضي مع الجهل بحاله، ففيه روايتان:
إحداهما: لا يرجع، لذلك.
والثانية: يرجع؛ لأن الفلس عيب في المحال عليه، فكان له الرجوع كما لو اشترى معيباً ثم علم عيبه. وإن شرط ملاءة المحال عليه، فله شرطه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون على شروطهم» رواه أبو داود " والمسلمون " ولأنه شرط شرطاً مقصوداً، فإذا بان خلافه، ملك الرد. كما لو شرطه في المبيع.(2/125)
فصل
إذا اشترى عبداً، فأحال البائع بثمنه، أو أحال البائع عليه بثمنه، فبان حراً أو مستحقاً، فالحوالة باطلة؛ لأن البيع باطل، ولا دين على المشتري يحيل به ولا يحال به عليه، فإن اتفق المحيل والمحال عليه على ذلك، وكذبهما المحتال، لم يسمع قولهما، كما لو باعا عبداً ثم أقرا بحريته، ولا تسمع لهما بينة؛ لأنهما أكذباها بدخولهما في البيع، وإن أقامها العبد سُمِعَتْ، وبطلت الحوالة. وإن صدقهما المحتال في حرية العبد، وادعى أن الحوالة بدين آخر، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل صحة الحوالة، فكان صدقه أظهر، فإن أقاما بينة بذلك، سمعت؛ لأنهما لم يكذباها.
فصل
وإن اشترى عبداً وأحال البائع بثمنه، ثم وجده معيباً فرده قبل قبض المحتال من المحال عليه، بطلت الحوالة لأنها بالثمن، وقد سقط بالفسخ، ذكره القاضي. ويحتمل أن لا يبطل؛ لأن المشتري نقل حقه إلى ما في ذمة المحال عليه، فلم يبطل بالفسخ، كما لو أعطاه عن الثمن ثوباً ثم فسخ العقد، لم يرجع في الثوب. وإن كان الرد بعد قبض المحتال، لم تبطل؛ لأن ذمة المحال عليه برئت بالقبض منه، ويرجع المشتري على البائع، وإن اشترى عبداً فأحال البائع عليه أجنبياً بالثمن، فرده المشتري بعيب، لم تبطل الحوالة؛ لأن ذمة المشتري برئت بالحوالة من البائع، فصار كأنه قبض منه، وتعلق به هاهنا حق غير المتعاقدين، وهو المحتال بخلاف التي قبلها، ويرجع المشتري على البائع بالثمن.
فصل
وإذا أمر رجلاً بقبض دين له من غريمه، ثم اختلفا، فقال أحدهما: كانت وكالة بلفظها، وقال الآخر: كانت حوالة بلفظها، فالقول قول مدعي الوكالة؛ لأنه يدعي بقاء الحق على ما كان، وينكر انتقاله. وإن اتفقا على أنه قال: أحلتك بالألف، وقال أحدهما: كانت حوالة حقيقية، وقال الآخر: كانت وكالة بلفظ الحوالة، ففيه ووجهان:
أحدهما: القول قول مدعي الوكالة لذلك.
والثاني: القول قول مدعي الحوالة؛ لأن الظاهر معه، لموافقته الحقيقة، ودعوى الآخر المجاز، وإن قال: أحلتك بدينك، فهي حوالة بكل حال.
فصل
وإذا قال المدين لغريمه: قد أحلت بدينك فلاناً فأنكر، فالقول قوله مع يمينه. فإن أقام المدين بينة بذلك، سمعت ليسقط عنه حق المحيل. فإن كانت بحالها، فادعى(2/126)
أجنبي على المدين أن رب الدين أحاله به، فأنكره فأقام الأجنبي بينة، ثبت في حقه وحق الغائب؛ لأن البينة يقضى بها على الغائب، ولزم دفع الدين إليه، فإن لم تكن له بينة، فاعترف المدين له بصحة دعواه، ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الدفع إليه؛ لاعترافه له بوجوب حقه عليه، وانتقال دينه إليه، فأشبه ما لو قامت به بينة.
والثاني: لا يلزمه الدفع إليه؛ لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه، فكان له الاحتياط في تخليص نفسه، كما لو ادعى الوكالة، فإن دفعه إليه، ثم أنكر المحيل الحوالة، وحلف ورجع على المحال عليه، فأخذ منه، لم يرجع المحال عليه على المحتال؛ لأنه معترف له أنه استوفى حقه، وإنما المحيل ظلمه. وإن أنكر المدين الحوالة، انبنى على الوجهين، إن قلنا: يلزمه الدفع مع الإقرار، لزمته اليمين على الإنكار، وتكون على العلم؛ لأنها على نفي فعل الغير. وإن قلنا: لا يلزمه الدفع مع الإقرار، لم تلزمه اليمين مع الإنكار، لعدم فائدتها. وليس للمحتال الرجوع على المحيل، لاعترافه ببراءة ذمته، ويسأل المحيل، فإن صدق المحتال، ثبتت الحوالة؛ لأن رضى المحال عليه غير معتبر، وإن كذبه، حلف له، وسقطت الحوالة. وإن نكل المحال عليه عن اليمين فقضى عليه، واستوفى منه، ثم أنكر المحيل الحوالة، فله أن يستوفي من المحال عليه؛ لأنه معترف له بالألف، مدع أن المحتال ظلمه.
فصل
فإن كان عليه دين، فادعى رجل أنه وكيل ربه في قبضه، فصدقه، لم يلزمه دفعه إليه لما ذكرنا في الحوالة. وإن أنكر، لم تلزمه اليمين؛ لأنه لا يلزمه الدفع مع الإقرار، فلم تلزمه اليمين مع الإنكار. فإن دفعه إليه، فأنكر رب الدين الوكالة، حلف ورجع على الدافع، ثم رجع الدافع على الوكيل، إن لم يكن اعترف بصدقه؛ لأنه لم يثبت أنه وكيل، وإن كان اعترف له، لم يرجع عليه؛ لأنه اعترف بصحة دعواه، وأن الموكل ظلمه، فلم يرجع على غير ظلمه وإن كان المدفوع وديعة، فوجده ربها، أخذها، وإن تلفت في يد الوكيل تلزمه مطالبة من شاء منهما، فإن طالب الوكيل، لم يرجع على أحد؛ لأن التلف حصل في يده، فاستقر الضمان عليه. وإن طالب المودع، وكان قد اعترف بالوكالة، لم يرجع على أحد لما ذكرناه في الدين، وإن لم يكن اعترف للوكيل رجع عليه.
فصل
فإن كان عند رجل دين أو وديعة، فجاء رجل، فادعى أنه وارث صاحبهما، وقد(2/127)
مات ولا وارث له سواه، فصدقه، لزمه الدفع إليه، لأنه لا يخشى تبعة، وإن كذبه، فعليه اليمين أنه لا يعلم ذلك؛ لأنه لزمه الدفع مع الإقرار، فلزمته اليمين مع الإنكار.
فصل
فإن كان لرجل ألف على اثنين، كل واحد منهما ضامن لصاحبه، فأحاله أحدهما بها، برئا منها؛ لأن الحوالة كالتقبيض. وإن أحال صاحب الألف به على أحدهما، صحت الحوالة؛ لأنها مستقرة في ذمة كل واحد منهما. وإن أحال عليهما جميعاً، ليستوفي من كل واحد منهما نصفها، صحت؛ لأن ذلك للمحيل، فملك الحوالة به، وإن أحل عليهما ليستوفي من أيهما شاء، صحت أيضاً؛ لأنه لا فضل في نوع ولا عدد ولا أجل، وإنما هو زيادة استيثاق، فأشبه حوالة المعسر على المليء، ولهذا لو أحالاه على واحد، صح(2/128)
[كتاب الضمان]
وهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام دينه، فإذا قال لرجل: أنا ضامن ما لك على فلان، أو أنا به زعيم أو كفيل أو قبيل أو حميل، أو هو علي، صار ضامناً له، وثبت في ذمته مع بقائه في ذمة المدين، ولصاحب الدين مطالبة من شاء منهما؛ لقول الله تعالى: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» حديث حسن رواه أبو داود والترمذي، وروى سلمة بن الأكوع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ برجل ليصلي عليه فقال: هل عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران، قال: هل ترك لهما وفاء فقالوا: لا فتأخر فقيل: لم لا تصلي عليه؟ فقال: "ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة إلا إن قام أحدكم فضمنه" فقام أبو قتادة فقال: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي» .
رواه البخاري، ولا يبرأ المضمون عنه بمجرد الضمان في الحياة، رواية واحدة، وفي الميت روايتان: إحداهما: يبرأ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على الميت حين ضمنه أبو قتادة.
والثانية: لا يبرأ، وهي أصح لما روى جابر، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سأل أبا قتادة عن الدينارين اللذين ضمنهما، فقال: قد قضيتهما، فقال: الآن بردت جلدته» .
رواه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه وثيقة بدين، فلم يسقطه كالرهن، وكحال الحياة، ومتى برئ الغريم بأداء أو إبراء، برئ الضامن؛ لأنه تبع، فزال بزوال أصله كالرهن، وإن أبرأ الضامن، لم يبرأ المضمون عنه؛ لأن الوثيقة انحلت من غير استيفاء، فلم يسقط الدين كالرهن.
[فصل فيمن يصح منه الضمان]
فصل:
ولا يصح إلا من جائز التصرف، فأما المحجور عليه لصغر أو جنون أو سفه(2/129)
فلا يصح ضمانه؛ لأنه تبرع بالتزام مال، فلم يصح منهم، كنذر الصدقة، وخرج بعض أصحابنا ضمان الصبي بإذن وليه، على الروايتين في صحة بيعه، وقال القاضي: يصح ضمان السفيه، ويتبع به بعد فك حجره، وهذا بعيد؛ لأن الضمان مجرد ضرر وتضييع مال، فلم يصح منهما كالعتق، ولا يصح ضمان العبد والمكاتب بغير إذن سيدهما؛ لأنه التزام مال، فلم يصح منهما بغير إذن كالنكاح.
ويصح بإذنه؛ لأن المنع لحقه، فزال بإذنه، ويؤديه المكاتب مما في يده، وهل يتعلق برقبة العبد أو بذمة سيده؟ على وجهين.
[فصل فيما يصح ضمانه]
فصل:
ويصح ضمان دين الميت المفلس وغيره، لحديث أبي قتادة، ولا يعتبر رضى المضمون له ولا المضمون عنه، للخبر، ولا معرفة الضامن لهما؛ لأنه لا يعتبر رضاهما، فأشبها الأجانب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل أبا قتادة عن معرفتهما، ويحتمل أن تعتبر معرفتهما، ليؤدي إلى أحدهما، ويرجع على الآخر بما غرم عنه، ويحتمل أن تعتبر معرفة المضمون له؛ ليؤدي إليه، ولا تعتبر معرفة المضمون عنه، لعدم المعاملة بينه وبينه، ولا يصح إلا برضى الضامن؛ لأنه التزام مال، فلم يصح من غير رضى الملتزم كالنذر.
فصل:
ويصح ضمان الدين اللازم، لخبر أبي قتادة، وضمان الجعل في الجعالة، لقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وضمان كل حق مالي لازم، أو مآله إلى اللزوم، كالثمن في مدة الخيار وبعدها، والأجرة والصداق قبل الدخول وبعده، وأرش الجناية نقداً أو حيواناً؛ لأنها حقوق مالية لازمة، أو مآلها إلى اللزوم، فصح ضمانها كالدين والجعل، ويصح ضمان الأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري؛ لأنها مضمونة على من هي في يده، فأشبهت الدين، ويصح ضمان عهدة المبيع عن كل واحد منهما لصاحبه، وهو أن يضمن الثمن الواجب بالبيع قبل تسليمه، وإن ظهر فيه عيب أو استحق أو وجد ذلك في البيع، غرمه الضامن؛ لأن ذلك لازم، فإنه إنما يتعلق بالضامن حكم لعيب أو غصب ونحوهما، وهذا كان موجوداً حال الضمان، فصح ضمانه كالدين، وإن استحق الرجوع لأمر حادث، كتلف المبيع قبل قبضه، أو أخذه بشفعة، فلا شيء على الضامن، وإن ضمن البائع أو غيره للمشتري قيمة ما يحدثه من بناء أو غراس، أو ما يلزمه من أجرة إن خرج المبيع مستحقاً، صح، ويرجع على الضامن بما لزمه من(2/130)
ذلك؛ لأنه يستند إلى أمر وجودي، ويصح أن يضمن الضامن ضامن ثالث؛ لأن دينه ثابت، فصح كالأول، ويصير الثاني فرعاً للضامن، حكمه معه حكم الضامن مع الأصيل.
فصل:
ولا يصح ضمان الأمانات كالوديعة ونحوها؛ لأنها غير مضمونة على من هي في يده، فكذلك على ضامنه، وإن ضمن لصاحبها ما يلزم بالتعدي، فيها صح، نص عليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنها تصير مضمونة على المضمون عنه، ولا يصح ضمان مال الكتابة، وعنه: يصح؛ لأنه يجوز أن يضمن عنه دين آخر، والمذهب الأول؛ لأن مال الكتابة غير لازم، ولا يفضي إلى اللزوم، ولأنه يملك تعجيز نفسه، ولأن الضمان لتوثيق الحق، وما لا يلزم لا يمكن توثيقه، وفي ضمان مال السلم روايتان: إحداهما: يصح؛ لأنه دين لازم فأشبه القرض.
والثانية: لا يصح؛ لأنه يُفضي إلى استيفائه من غير المسلم إليه، فأشبه الحوالة.
فصل:
ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وحمل البعير يختلف، فهو غير معلوم، وقد ضمنه قبل وجوبه، ولأنه التزام حق من غير معاوضة، فأشبه النذر، وإن قال: ألق متاعك في البحر، وعلي ضمانه صح؛ لأنه استدعاء إتلاف بعوض لغرض صحيح، فصح كقوله: اعتق عبدك وعلي ثمنه.
فصل:
ويصح ضمان الحالّ مؤجلاً؛ لأن الغريم يلزمه أداؤه في جميع الأزمنة، فجاز للضامن التزام ذلك في بعضه، كبعض الدين، وإن ضمن المؤجل حالاً لم يلزمه؛ لأنه لا يلزم الأصيل، فلا يلزم الضامن، ويقع الضمان مؤجلاً على صفته في ذمة الضامن، وإن ضمن الدين المؤجل، وقلنا: إن الدين يحل بالموت فمات أحداهما، حل عليه الدين، وبقي في ذمة الآخر إلى أجله، ولا يملك ورثة الضامن الرجوع على المضمون عنه قبل الأجل؛ لأنه لم يحل.
فصل:
وإذا قضى الضامن الدين بإذن المضمون عنه، رجع عليه؛ لأنه قضى دينه بإذنه(2/131)
فهو كوكيله، وإن ضمن بإذنه، رجع عليه؛ لأنه تضمن الإذن في الأداء، فأشبه ما لو أذن فيه صريحاً، وإن ضمن بغير إذنه وقضى بغير إذنه معتقداً للرجوع، ففيه روايتان: إحداهما: يرجع أيضاً؛ لأنه قضاء مبرئ من دين واجب لم يتبرع به، فكان على من هو عليه، كما لو قضاه الحاكم عند امتناعه.
والثانية: لا يرجع؛ لأنه تبرع فلم يرجع به، كما لو بنى داره أو علف دابته بغير إذنه، فإن اختلفا في الإذن، فالقول قول من ينكره؛ لأن الأصل عدمه.
فصل:
ويرجع الضامن بأقل الأمرين مما قضى، أو قدر الدين؛ لأنه إن قضاه بأقل منه، فإنما يرجع بما غرم، وإن أدى أكثر منه، فالزائد لا يجب أداؤه، فقد تبرع به، وإن دفع عن الدين عرضاً، رجع بأقل الأمرين عن قيمته، أو قدر الدين، وإن قضى المؤجل قبل أجله، لم يرجع قبل الأجل؛ لأنه تبرع بالتعجيل، وإن أحال به الغريم، رجع بأقل الأمرين مما أحال به أو دينه، سواء قبض الغريم من المحال عليه أم لم يقبض؛ لأن الحوالة كالتقبيض، وإن ضمن الضامن ضامن آخر، فقضى الدين، رجع على الضامن، ثم رجع الضامن على المضمون عنه، وإن قضاه الضامن، رجع على الأصيل وحده، فإن كان الأول، ضمن بلا إذن، والثاني ضمن بإذن، رجع الثاني على الأول، ولم يرجع الأول على أحد في إحدى الروايتين.
فصل:
وإن ضمن بإذنه، فطولب بالدين، فله مطالبة المضمون عنه بتخليصه؛ لأنه لزمه الأداء بأمره، ولا يملك المطالبة قبل ذلك؛ لأنه لا يملك الرجوع قبل الغرامة، فلا يملك المطالبة قبل أن يطالب، وإن ضمن بغير إذنه، لم يملك المطالبة به؛ لأنه لا دين له، ولا هو وكيل صاحب الدين، ولا لزمه الأداء بإذن الغريم، فأشبه الأجانب.
فصل:
وإذا دفع المضمون عنه قدر الدين إلى الضامن عوضاً عما يقضيه في الثاني، لم يصح؛ لأنه جعله عوضاً عما يجب عليه في الثاني فلم يصح، كما لو دفع إليه شيئاً عن بيع لم يعقده، ويكون ما قبضه مضموناً عليه؛ لأنه قبضه على وجه البدل، فأشبه المقبوض ببيع فاسد، وفيه وجه أنه يصح؛ لأن الرجوع بسببين، ضمان وغرم، فإذا وجد أحدهما، جاز تعجيل المال، كتعجيل الزكاة.
فإن قضى الدين، استقر ملكه على ما قبض، وإن برئ قبل القضاء، وجب رد ما أخذ، كما يجب رد الثمن إذا لم يتم البيع.(2/132)
[فصل في اختلاف الضامن والمضمون عنه]
فصل:
وإذا ادعى الضامن القضاء، فأنكره المضمون له، فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل معه، وله مطالبة من شاء منهما.
فإن استوفى من الضامن، لم يرجع على المضمون عنه إلا بأحد القضاءين؛ لأنه يدعي أن المضمون عنه ظلمه بالأخذ الثاني، فلا يرجع به على غيره، وفيما يرجع به وجهان: أحدهما: بالقضاء الأول؛ لأنه قضاء صحيح، والثاني ظلم.
والوجه الثاني: يرجع بالقضاء الثاني؛ لأنه الذي أبرأ الذمة ظاهراً، فأما إن استوفى من المضمون عنه، فهل للضامن الرجوع عليه؟ ينظر، فإن كذبه المضمون عنه في القضاء، لم يرجع؛ لأنه لم يثبت صدقه، وإن صدقه وكان قد فرط في القضاء، لم يرجع بشيء؛ لأنه أذن له في قضاء مبرئ لم يوجد، وإن لم يفرط رجع، وسنذكر التفريط في الوكالة إن شاء الله.
فإن اعترف المضمون له بالقضاء، فأنكر المضمون عنه لم يلتفت إلى إنكاره؛ لأن الدين حق للمضمون له، فإذا أقر أنه صار للضامن، ولأنه يثبت القضاء بالإقرار، فملك الرجوع به، كما لو ثبت ببينة، وفيه وجه آخر: أن القول قول المضمون عنه لأنه منكر.
[باب الكفالة]
تصح الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحاكم بحق يصح ضمانه؛ لأنه حق لازم، فصحت الكفالة به كالدين، ولا تصح بمن عليه حد أو قصاص؛ لأنها تراد للاستيثاق بالحق، وهذا مما يدرأ بالشبهات، ولا تصح بالمكاتب؛ لأنه لا يلزمه الحضور، فلا يلزم غيره إحضاره كالأجانب وتصح الكفالة بالأعيان المضمونة، كالغصوب والعواري؛ لأنه يصح ضمانها، ولا تصح في الأمانات إلا بشرط التعدي فيها كضمانها سواء.
فصل:
وإذا صحت الكفالة، فتعذر إحضار المكفول به، لزمه ما عليه؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» ولأنها أحد نوعي الكفالة، فوجب الغرم بها كالضمان.
فإن غاب المكفول به، أمهل كفيله قدر ما يمضي إليه فيعيده؛ لأن ما لزم تسليمه لم يلزم إلا بمكان التسليم، فإن مضى زمن الإمكان، ولم يفعل، لزمه ما عليه، أو بذل العين التي كفل بها، فإن مات، أو تلفت العين بفعل الله تعالى، سقطت الكفالة؛ لأن الحضور سقط عن المكفول به، فبرئ كفيله، كما يبرأ الضامن ببراءة المضمون عنه، ويحتمل أن لا(2/133)
يسقط، ويطالب بما عليه، وإن سلم المكفول نفسه، أو برئ من الحق بأداء، أو إبراء، برئ كفيله؛ لأن الحق سقط عن الأصيل، فبرئ الكفيل كالضمان، وإن أبرأ الكفيل، صح كما يصح إبراء الضامن، ولا يبرأ المكفول به كالضمان، وإن قال رجل: أبرئ الكفيل، وأنا كفيل بمن تكفل به، ففيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأنه نقل الضمان إلى نفسه، فصح، كما لو أحال الضامن المضمون له على آخر.
والثاني: لا يصح؛ لأنه شرط في الكفالة أن يبرئ الكفيل، وهو شرط فاسد، فمنع صحة العقد.
فصل:
وإذا قال: أنا كفيل بفلان، أو بنفسه، أو بدنه، أو وجهه، صحت الكفالة، وإن كفل ببعض جسده، فقال القاضي: لا يصح؛ لأن ما لا يسري إذا خص به بعض الجسد، لم يصح كالبيع، وقال غيره: إن كفل بعضو لا تبقى الحياة بدونه، كالرأس والقلب والظهر، صحت؛ لأنه لا يمكن تسليمه بدون تسليم البدن، فأشبه الوجه، وإن كفل بغيرها، كاليد والرجل، ففيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأن تسليمه بدون البدن ممكن.
والثاني: يصح لأنه لا يمكن تسليمه على صفته، دون البدن، فأشبه الوجه.
[تعليق الكفالة على شرط أو إضافتها لوقت]
فصل:
إذا علق الكفالة والضمان على شرط، أو وقتهما، فقال: أنا كفيل بفلان شهراً، أو إن قدم الحاج، أو زيد، فأنا كفيل بفلان، أو ضامن ما عليه، فقال القاضي: لا يصح؛ لأنه إثبات حق لآدمي، فلم يجز ذلك فيه، كالبيع.
وقال أبو الخطاب والشريف أبو جعفر: يصح؛ لأنه ضمان أو كفالة، فصح تعليقه على شرط، كضمان العهدة، فعلى هذا لو قال: كفلت بفلان، على أني إن جئت به، وإلا فأنا كفيل بفلان، أو ضامن ما عليه، صح فيهما عندهما، ولم يصح عند القاضي؛ لأن الأول مؤقت، والثاني معلق على شرط.
[فصل في الكفالة بالبدن]
فصل:
وتصح الكفالة ببدن الكفيل، كما يصح ضمان دين الضامن، وتجوز حالة ومؤجلة كالضمان، ولا تجوز إلى أجل مجهول؛ لأنه حق لآدمي، فلم يجز إلى أجل مجهول كالبيع، وتجوز الكفالة مطلقة ومقيدة بالتسليم في مكان بعينه، فإن أطلق، ففي أي(2/134)
موضع أحضره سلمه إليه على وجه لا ضرر فيه برئ.
إن كان عليه ضرر لم يبرأ بتسليمه، وكذلك إذا سلمه قبل المحل، قياساً على من سلم المسلم فيه قبل محله، أو غير مكانه، وإن كفل واحد لاثنين، فسلمه إلى أحدهما، أو أبرأه أحدهما لم يبرأ من الآخر؛ لأنه حق لاثنين فلم يبرأ بأداء حق أحدهما، كالضمان، وإن كفل اثنان لرجل فأبرأ أحدهما، لم يبرأ الآخر كما في الضمان، وإن سلمه أحدهما لم يبرأ الآخر؛ لأنه برئ من غير استيفاء الحق، فلم يبرأ صاحبه، كما لو برئ بالإبراء، ويحتمل أن يبرأ، كما لو أدى أحد الضامنين الدين، وإن قال الكفيل أو الضامن: برئت مما كفلت به، لم يكن إقراراً بقبض الحق؛ لأنه قد يبرأ بغير ذلك.
فصل:
إذا طولب الكفيل بإحضار المكفول به، لزمه أن يحضر معه؛ لأنه وكيل في إحضاره، فإن أراد إحضاره من غير طلب، والكفالة بإذنه، لزمه الحضور معه؛ لأنه شغل ذمته من أجله بإذنه، فكان عليه تخليصه، كما لو استعار عبده فرهنه، وإن كفل بغير إذنه، لم يلزمه الحضور معه؛ لأنه لم يشغل ذمته، ولا له قبله حق.
فصل:
إذا كفل إنساناً أو ضمنه، ثم قال: لم يكن عليه حق، فالقول قول خصمه؛ لأن ذلك لا يكون إلا بمن عليه حق، فإقراره به إقرار بالحق، وهل يلزم الخصم اليمين؟ فيه وجهان، مضى توجيههما فيمن أقر بتقبيض الرهن، ثم أنكره، وطلب يمين المرتهن، والله أعلم.(2/135)
[كتاب الوكالة]
يصح التوكيل في الشراء؛ لقول الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] ولما روى عروة بن الجعد قال: «أعطاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديناراً أشتري له به شاة» رواه البخاري أو أضحية، ولأن الحاجة داعية إليها، فإنه لا يمكن كل أحد شراء ما يحتاج إليه، فدعت الضرورة إليها، وتجوز في سائر عقود المعاملات، قياساً على الشراء، وفي تملك المباحات، كإحياء الموات والاصطياد؛ لأنه تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز التوكيل فيه كالشراء، وتجوز في عقد النكاح؛ «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكل عمر بن أمية الضمري، فتزوج له أم حبيبة،» وتجوز في الطلاق والعتاق والخلع والرجعة؛ لأنها في معنى النكاح، ويجوز في إثبات الأموال والحكومة فيها، حاضراً كان الموكل أو غائباً؛ لما روي أن علياً وكل عقيلاً عند أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقال: وما قضي عليه فعلي، وما قضي له فلي، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان وقال: إن للخصومة قحماً، يعني: مهالك وهذه قضايا في مظنة الشهرة، ولم تنكر فكانت إجماعاً، ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك، بأن يكون له حق، أو(2/136)
عليه، ولا يحسن الخصومة، أو لا يحب حضورها، ويجوز التوكيل في الإقرار؛ لأنه إثبات حق، فأشبه البيع، ويجوز في إثبات القصاص، وحد القذف، واستيفائهما في حضرة الموكل وغيبته؛ لأنه حق آدمي أشبه المال. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز استيفاؤهما في غيبته، وقد أومأ إليه أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بأنه يجوز أن يعفو الموكل، فيكون ذلك شبهة، ويجوز التوكيل في حقوق الله تعالى المالية؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث عماله لقبض الصدقات وتفريقها، وفي إثبات الحدود واستيفائها؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» متفق عليه، ولا تجوز في العبادات البدنية؛ لأن المقصود، فعلها ببدنه، فلا تحصل من فعل غيره إلا في الحج، لما سبق في بابه.
فصل:
ولا تجوز في الأيمان والنذور، ولأنها تتعلق بعين الحالف، فلا تدخلها النيابة، ولا في الإيلاء واللعان والقسامة؛ لأنها أيمان، ولا في الشهادة؛ لأن غيره لا يقوم مقامه في مشاهدته، ولا في الاغتنام؛ لأنه يتعلق بالحضور، فإذا حضر النائب كان السهم له، ولا في الالتقاط؛ لأنه بأخذه يصير لملتقطه.
فصل:
ولا يصح التوكيل في شيء مما لا يصح تصرفه فيه؛ لأن من لا يملك التصرف بنفسه، فبنائبه أولى.
فلا يصح توكيل طفل ولا مجنون ولا سفيه لذلك، ولا توكيل المرأة في النكاح، ولا الفاسق في تزويج ابنته، ولا المسلم لذمي في شراء خمر لذلك.
فأما من يتصرف بالإذن، كالعبد والصبي والوكيل، فإن أذن لهم في التوكيل جاز، وإن نهوا عنه، لم يجز، وإن أطلق لهم الإذن، فلهم التوكيل فيما لا يتولون مثله بأنفسهم، أو يعجزون عنه لكثرته؛ لأن تفويضه إليهم مع العلم بهذا، إذن في التوكيل، وفيما سوى ذلك روايتان: إحداهما: لا يجوز لهم التوكيل؛ لأنهم يتصرفون بالإذن، فاختص بما أذن فيه، ولم يؤذن في التوكيل.
والثانية: يجوز؛ لأنهم يملكون التصرف بأنفسهم، فملكوه بنائبهم كالمالك الرشيد.
فإن قال لوكيله: اصنع ما شئت، ملك التوكيل؛ لأنه مما يشاء، وولي اليتيم كالوكيل فيما ذكرناه، ويملك الولي في النكاح التوكيل فيه من غير إذن المرأة؛ لأن ولايته من غير جهتها، فلم يعتبر إذنها في توكيله كالأب، وخرج القاضي ولايته الإجبار على الروايتين في الوكيل، والفرق بينهما ظاهر.(2/137)
فصل:
ومن ملك التصرف لنفسه، جاز له أن يتوكل فيه، ومن لا فلا فيجوز توكيل الفاسق في قبول النكاح، ولا يجوز في الإيجاب؛ لأنه يجوز أن يقبل النكاح لنفسه، وقال القاضي: لا يجوز فيهما؛ لأن من لا يجوز أن يكون وكيلاً في إيجابه لا يكون لا يكون وكيلاً في قبوله كالمرأة، ويجوز توكيل المرأة في الطلاق؛ لأنه يجوز توكيلها في طلاق نفسها، فجاز في غيرها ولا يجوز للعبد والمكاتب التوكيل إلا بإذن سيدهما، ولا الصبي إلا بإذن وليه، وإن كان مأذوناً له في التجارة؛ لأن التوكيل ليس من التجارة، فلا يحصل الإذن فيه إلا بالإذن فيهما.
فصل:
وتصح الوكالة بكل لفظ دل على الإذن، وبكل قول أو فعل دل على القبول، مثل أن يأذن له في بيع شيء فيبيعه، ويجوز القبول على الفور والتراخي، نحو أن يبلغه أن فلاناً وكله منذ عام، فيقول: قبلت؛ لأنه إذن في التصرف، فجاز ذلك فيه، كالإذن في الطعام، ويجوز تعليقها على شرط، نحو أن يقول: إذا قدم الحاج، فأنت وكيلي في كذا، أو فبع ثوبي.
فصل:
ولا تصح إلا في تصرف معلوم، فإن وكله في كل قليل وكثير، لم يصح؛ لأنه يدخل فيه كل شيء، فيعظم الغرر، وإن كان وكله في بيع ماله كله، أو ما شاء منه، أو قبض ديونه كلها، أو الإبراء منها أو ما شاء منها صح؛ لأنه يعرف ماله ودينه، فيعرف أقصى ما يبيع ويقبض، فيقل الغرر، وإن قال: اشتر لي ما شئت، أو عبداً بما شئت، فقال أبو الخطاب: لا يصح حتى يذكر النوع وقدر الثمن؛ لأن ما يمكن شراؤه يكثر فيكثر الغرر: وإن قدر له أكثر الثمن وأقله، صح؛ لأنه يقل الغرر، وقال القاضي: إذا ذكر النوع، لم يحتج إلى تقدير الثمن؛ لأنه إذن في أعلاه، وقد روي عن أحمد فيمن قال: ما اشتريت من شيء فهو بيننا، إن هذا جائز، وأعجبه، وهذا توكيل في شراء كل شيء، ولأنه إذن في التصرف، فجاز من غير تعيين، كالإذن في التجارة.
فصل:
ولا يملك من التصرف إلا ما يقتضيه إذن الموكل نطقاً أو عرفاً؛ لأن تصرفه بالإذن، فاختص ما تناوله الإذن، فإن وكله في الخصومة، لم يملك الإقرار ولا الإبراء ولا الصلح؛ لأن إذنه لا يقتضي شيئاً من ذلك، وإن وكله في تثبيت حق، لم يملك قبضه؛ لأنه لم يتناوله النطق ولا العرف، فإنه قد يرضى للتثبت من لا يأمنه على القبض.(2/138)
وإن وكل في القبض، فهل يملك تثبيته؟ فيه وجهان: أحدهما: يملكه؛ لأنه طريق القبض، فكان التوكيل في القبض توكيلاً فيه.
والثاني: لا يملكه، لما ذكرنا في التي قبلها، وإن وكله في البيع، لم يملك الإبراء من ثمنه، ويملك تسليم المبيع؛ لأن العرف يتناوله، ولأنه من تمام العقد وحقوقه، ولا يتهم فيه، ولا يملك قبض الثمن؛ لأن اللفظ لا يتناوله، وقد يرضى للبيع من لا يرضاه للقبض، إلا أن تقتضيه الحال، بأن يكون بحيث لو ترك ضاع.
فصل:
فإن وكله في البيع في وقت، لم يملكه قبله، ولا بعده؛ لأنه قد يختص غرضه به في زمن لحاجته فيه، وإن وكله في بيعه لرجل، ولم يملك بيعه لغيره؛ لأنه قد يقصد نفعه، أو نفع المبيع بإيصاله إليه، وإن وكله في بيعه في مكان، الثمن فيه أكثر وأجود، لم يملكه في غيره؛ لأنه قد يفوت غرضه، وإن تساوت الأمكنة، أو قدر له ثمن، ملك ذلك؛ لأن الغرض فيهما واحد، فالإذن في أحدهما إذن في الآخر، وإن وكله في بيع فاسد، لم يملكه؛ لأنه منهي عنه، ولا يملك الصحيح؛ لأنه لم يأذن له فيه، وإن قدر له الثمن في البيع لم يملك البيع بأقل منه؛ لأنه لا يأذن له فيه نطقاً ولا عرفاً، ويملك البيع بأكثر منه، وسواء كانت الزيادة من جنس الثمن أو غيره؛ لأنه مأذون فيه عرفاً؛ لأنها تنفعه ولا تضره، وإن باع بعضه بدون ثمن جميعه، لم يجز، وإن باعه بجميعه، صح، لما ذكرناه، وله بيع باقيه؛ لأنه إذن فيه، ويحتمل أن لا يملكه؛ لأنه حصل غرضه ببيع بعضه، فلا يبقى الإذن في باقيه، وإن وكله في شراء شيء، لم يملك شراء بعضه؛ لأن اللفظ لا يقتضيه، وإن قال له: بعه بمائة درهم، فباعه بعرض يساوي أكثر منها، لم يجز؛ لأنه لم يأذن فيه نطقاً ولا عرفاً، وإن باعه بمائة دينار، أو بتسعين درهماً وعشرة دنانير، ففيه وجهان: أحدهما: لا ينفذ؛ لأنه خالفه في الجنس، كالتي قبلها.
والثاني: ينفذ؛ لأنه مأذون فيه عرفاً؛ لأنه يرضى الدينار مكان الدرهم عرفاً، وإن وكله في بيع عبيد أو شرائهم، ملك ذلك صفقة واحدة وصفقات؛ لأن العرف جار بكلا الأمرين، وإن أمره بصفقة واحدة، لم يملك التفريق.
فإن اشتراهم صفقة واحدة من رجلين جاز؛ لأن الصفقة من جهته واحدة.
فصل:
وإن وكله في البيع وأطلق، لم يملك البيع بأقل من ثمن المثل؛ لأن إذنه تقيد(2/139)
بذلك عرفاً، لكون غير ذلك تضييعاً لماله، وهو لا يرضاه، ولو حضر من يطلبه بأكثر من ثمن المثل، لم يجز بيعه بثمن المثل؛ لأنه تضييع لمال أمكن تحصليه، وإن باع بثمن المثل، فحضر من يزيد في مدة الخيار، لم يلزمه الفسخ؛ لأنها زيادة منهي عنها، ولا يأمن رجوع صاحبها عنها، فإن باع بأقل من ثمن المثل أو بأقل مما قدر له، فعنه: البيع باطل؛ لأنه غير مأذون فيه، وعنه: يصح، ويضمن الوكيل النقص؛ لأنه فوته، ويصح البيع؛ لأن الضرر يزول بالتضمين، ولا عبرة بما يتغابن الناس به، كدرهم في عشرة؛ لأنه لا يمكن التحرز منه، وهل يلزم الوكيل جميع النقص أم بين ما يتغابن الناس به، وما لا يتغابنون به؟ على وجهين، وكل موضع قلنا: لا يملك البيع والشراء، فحكمه فيه حكم الأجنبي، وقد ذكرناه؛ لأن هذا غير مأذون فيه.
فصل:
وإن وكله في الشراء فأطلق، لم يجز أن يشتري بأكثر من ثمن المثل، لما ذكرنا، وإن اشترى بأقل من ثمن المثل، أو أقل مما قدر له، صح؛ لأنه مأذون فيه عرفاً.
فإن قال: لا تشتره بأقل من مائة، لم يملك مخالفته؛ لأن نصه مقدم على دلالة العرف، وإن قال: اشتره بمائة، ولا تشتره بخمسين، فله شراؤه بما فوق الخمسين؛ لأنه باق على دلالة العرف، وإن قال: اشتر لي عبداً وصفه بمائة، فاشتراه بدونها جاز، وإن خالف الصفة، لم يلزم الموكل، وإن لم يصفه، فاشترى عبداً يساوي مائة بأقل منها، جاز، وإن لم يساو المائة، لم يلزم الموكل، وإن ساوى ما اشتراه به؛ لأنه خالف غرضه، وإن قال: اشتر لي شاة بدينار، فاشترى شاتين تساوي إحداهما ديناراً، صح؛ لحديث عروة، ولأنه ممتثل للأمر بإحداهما، والثانية زيادة نفع، وإن لم تساو ديناراً، لم يصح.
فإن باع الوكيل شاة، وبقيت التي تساوي ديناراً، فظاهر كلام أحمد صحته، لحديث عروة، ولأنه وفى بغرضه فأشبه إذا زاد على ثمن المثل.
فصل:
وإن وكله في الشراء نسيئة، فاشترى نقداً، لم يلزم الموكل؛ لأنه لم يؤذن له فيه، وإن وكله في الشراء بنقد، فاشترى بنسيئة أكثر من ثمن النقد، لم يجز لذلك، وإن كان بمثل ثمن النقد، وكان فيه ضرر، مثل أن يستضر بحفظ ثمنه، فكذلك، وإن لم يستضر به، لزمه؛ لأنه زاده خيراً، وإن أذن له في البيع بنقد لم يملك بيعه نسيئة، وإن أذن له في البيع نسيئة، فباع بنقد، فهي كمسألة الشراء سواء، وإن عين له نقداً، لم يبع إلا به، وإن أطلق، لم يبع إلا بنقد البلد؛ لأن الإطلاق ينصرف إليه.
فإن كان فيه نقدان، باع بأغلبهما، وإن قدر له أجلاً، لم تجز الزيادة عليه؛ لأنه لم يرض بها، وإن أطلق الأجل، جاز، وحمل على العرف في مثله؛ لأن مطلق الوكالة يحمل على المتعارف، ولا يملك(2/140)
الوكيل في البيع والشراء شرط الخيار للعاقد معه؛ لأنه لا حظ للموكل فيه، وله شرط الخيار لنفسه ولموكله، ولأنه احتياط له.
فصل:
إذا قال: اشتر لي بعين هذا الثمن، فاشترى له في ذمته، لم يقع للموكل؛ لأنه لم يرض بالتزام شيء في ذمته، فلم يجز إلزامه، وإن قال: اشتر لي في ذمتك، ثم انقد هذا فيه، فاشتراه بعينه، صح للموكل؛ لأنه أمره بعقد يلزمه به دينار مع بقاء الدينار وتلفه، فعقد له عقداً لا يلزمه مع تلفه، فزاده خيراً، ويحتمل أن لا يصح؛ لأنه أراد عقداً لا يبطل باستحقاقه، ولا تلفه ففوت ذلك، وإن أطلق، فله الأمران؛ لأن العرف جار بهما.
فصل:
وإن وكله في شراء موصوف، لم يجز أن يشتري معيباً؛ لأن إطلاق البيع يقضي السلامة، ولذلك يرد بالعيب، فإن اشترى معيباً يعلم عيبه، لم يقع للموكل؛ لأنه مخالف له، وإن لم يعلم بالعيب، فالبيع صحيح، كما لو اشترى لنفسه، فإن علم الموكل فرضي به، فليس للوكيل رده؛ لأن الرد لحقه، فسقط برضاه، وللوكيل الرد قبل علمه؛ لأنها ظلامة حصلت بعقده، فملك دفعها، كالمشتري لنفسه، ولا يلزمه التأخير؛ لأنه حق تعجل له، وله أن يرضى به، ويسقط خياره، فإذا حضر الموكل، فرضي به، استقر العقد، وإن اختار الرد، فله ذلك؛ لأن الشراء له، ولم يرض بالعيب، فإن أنكر البائع كون الشراء للموكل، فالقول قوله، ويرد المبيع على الوكيل في أحد الوجهين؛ لأنه اتباع المعيب، ومنعه الرد لرضاه بعينه، والثاني: ليس له الرد عليه؛ لأنه غير البائع، وللمشتري أرش العيب؛ لأنه فات الرد به من غير رضاه.
فإن تعذر ذلك من البائع، لزم الوكيل؛ لأنه ألزمه المبيع، وإن قال البائع: موكلك قد علم بالعيب فرضي به، فالقول قول الوكيل مع يمينه؛ أنه لا يعلم ذلك؛ لأن الأصل عدمه، فإن قال: أخر الرد حتى يعلم موكلك، لم يلزمه التأخير.
فإن أخر، وقلنا: الرد على الفور لم يسقط خياره، ذكره القاضي؛ لأنه لم يرض به، ويحتمل أن يسقط لتركه الرد مع إمكانه، فإن رده، فقال الموكل: قد كنت رضيته معيباً: فصدقه البائع، انبنى على عزل الوكيل قبل علمه؛ لأن هذا كذلك، وإن أنكره البائع، فالقول قوله، أنه لا يعلم ذلك، وإن وكله في شراء شيء عينه، فاشتراه فوجده معيباً ففيه وجهان: أحدهما: يملك الرد؛ لأنه معيب لم يرض به العاقد.
والثاني: لا يملكه بغير رضى الموكل؛ لأنه قطع نظره واجتهاده بالتعيين.
فإن قلنا: يملكه فحكمه حكم غير المعين.(2/141)
فصل:
إذا وكله في قبض حقه من زيد، فمات زيد، لم يملك القبض من وارثه؛ لأنه لم يتناوله إذنه نطقاً؛ لأنهم غيره، ولا عرفاً؛ لأنه قد يرضى بقاء حقه عندهم دونه، وإن قال: اقبض حقي الذي قبل زيد، فله القبض من وارثه؛ لأن لفظه يتناول قبض الحق من غير تعرض للمقبوض منه، وإن وكل وكيلين في تصرف، لم يكن لأحدهما الانفراد به؛ لأنه لم يرض بأحدهما، وإن وكله في قضاء دين تقيد بالإشهاد؛ لأنه لا يحصل الاحتياط إلا به، فإن قضاه بغير بينة، فأنكر الغريم، ضمن لتفريطه، وإن شهد ببينة عادلة، فماتت أو غابت، لم يضمن؛ لأنه لا تفريط منه، وإن قضاه بحضرة الموكل من غير إشهاد، ففيه وجهان: أحدهما: يضمن؛ لأنه ترك التحفظ.
والثاني: لا يضمن؛ لأنه إذا كان المؤدى عنه حاضراً، فهو التارك للتحفظ، وإن قضاه ببينة مختلف فيها، ففيه وجهان: أحدهما: يضمن؛ لأنه ترك التحفظ.
والثاني: لا يضمن؛ لأنها بينة شرعية، أشبهت المجمع عليها.
فصل:
إذا اشترى لموكله، ثبت الملك للموكل؛ لأنه قبل العقد لغيره، فوجب أن ينقل الملك إلى ذلك الغير، كما لو تزوج لغيره، ويثبت الثمن في ذمته أصلاً، وفي ذمة الوكيل تبعاً، وللبائع مطالبة من شاء منهما، كالضمان في أحد الوجهين، وفي الآخر لا يثبت إلا في ذمة الموكل، وليس له مطالبة غيره.
فإن دفع الثمن فوجد به البائع عيباً، فرده على الوكيل، فتلف في يده، فلا شيء عليه؛ لأنه أمين، وللبائع المطالبة بالثمن؛ لأنه دين له، فأشبه سائر ديونه، وللوكيل المطالبة به؛ لأنه نائب للمالك فيه.
فصل:
والوكالة عقد جائز من الطرفين، لكل واحد منهما فسخها؛ لأنه إذن في التصرف، فملك كل واحد منهما إبطاله، كالإذن في أكل طعامه، وإن أذن لوكيله في توكيل آخر، فهما وكيلان للموكل، لا ينعزل أحدهم بعزل الآخر، ولا يملك الأول عزل الثاني؛ لأنه ليس بوكيله، وإن أذنه في توكيله عن نفسه، فالثاني وكيل الوكيل ينعزل ببطلان وكالة الأول وعزله له؛ لأنه فرعه.
فثبت فيه ذلك، كالوكيل مع موكله، وللموكل عزله وحده؛ لأنه متصرف له فملك عزله كالأول.(2/142)
فصل:
وإذا خرج الموكل عن أهلية التصرف، لموت أو جنون أو حجر أو فسق في ولاية النكاح، بطلت الوكالة؛ لأنه فرعه، فيزول بزوال أصله.
فإن وجد ذلك أو عزل الوكيل، فهل ينعزل قبل علمه؟ فيه روايتان: إحداهما: ينعزل؛ لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضاه، فلم يفتقر إلى علمه كالطلاق.
والثانية: لا ينعزل؛ لأنه أمر فلا يسقط قبل علمه بالنهي، كأمر الشارع، وإن أزال الموكل ملكه عن ما وكله فيه، بإعتاق أو بيع أو طلاق التي وكله في طلاقها، بطلت الوكالة؛ لأنه أبطل محليته، وإن وطئ الزوجة، أو دبر العبد أو كاتبه، بطلت الوكالة؛ لأن ذلك يدل على رجوعه، إذ لا يجتمع مقصود هذه التصرفات مع البيع، والوطء يدل على رغبته في زوجته، وإن وكله في الشراء بدينار فتلف، بطلت الوكالة، فإن تلف بتفريطه فغرمه هو أو غيره، لم يملك الشراء ببدله؛ لأن الوكالة بطلت بتلفه.
فصل:
ولا تبطل بالنوم والسكر والإغماء؛ لأنه تثبت الولاية عليه، ولا بالردة لأنها لا تمنع ابتداء وكالته، فلا تمنع استدامتها، ولا بالتعدي فيما وكل فيه، كلبس الثوب، وركوب الدابة؛ لأن العقد يتضمن أمانة وتصرفاً.
فإذا بطلت الأمانة، بقي التصرف كالرهن المتضمن وثيقة وأمانة، وإن وكله في بيع عبد، ثم باعه المالك بيعاً فاسداً، لم تبطل الوكالة؛ لأن ملكه فيه لم يزل، ولا يؤول إلى الزوال وإن وكل زوجته ثم طلقها، لم تنعزل؛ لأن الطلاق لا ينافي الوكالة، ولا يمنع ابتداءها، وإن وكل عبده ثم أعتقه، أو باعه، فكذلك، ويحتمل أن ينعزل؛ لأن أمره لعبده استخدام، وليس بتوكيل في الحقيقة.
فصل:
ويجوز التوكيل بجعل؛ لأنه تصرف لغيره لا يلزمه، فجاز أخذ العوض عنه، كرد الآبق، وإذا وكله في البيع بجعل فباع، استحق الجعل قبل قبض الثمن؛ لأن البيع يتحقق قبل قبضه.
فإن قال في التوكيل: فإذا سلمت إلي الثمن، فلك كذا، وقف استحقاقه على التسليم إليه، لاشتراطه إياه، وإن قال: بع هذا بعشرة، فما زاد فهو لك، صح وله الزيادة؛ لأن ابن عباس كان لا يرى بذلك بأساً.
فصل:
وليس للوكيل في بيع شيء بيعه لنفسه، ولا للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه؛ لأن العرف في العقد أن يعقد مع غيره، فحمل التوكيل عليه، ولأنه تلحقه تهمة(2/143)
ويتنافى الغرضان، فلم يجز كما لو نهاه، وعنه: يجوز؛ لأنه امتثل أمره، وحصل غرضه، فصح كما لو باع أجنبياً، وإنما يصح بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، ويتولى النداء غيره لتنتفي التهمة.
قال القاضي: ويحتمل أن لا يشترط ذلك، وكذلك الحكم في بيعه لوكيله، أو طفل يلي عليه أو ولده أو والده، أو مكاتبه أو تزويجه لابنته إذا وكله أن يتزوج له؛ لأنه يتهم في حقه، ويترك الاستقصاء عليهم، وإن أذن له الموكل في هذا، جاز لانتفاء التهمة مع صريح الإذن، وإن وكله رجل في بيع عبده، ووكله آخر في شرائه، فله أن يتولى طرفي العقد، كما يجوز للأب ذلك في حق ولده الصغير.
فصل:
فإذا وكل عبداً في شراء عبد من سيده، جاز لأنه يجوز أن يشتري من غير سيده، فجاز منه كالأجنبي، وإن وكله في شراء نفسه، جاز لأنه يجوز أن يشتري غيره، فجاز أن يشتري نفسه، كالأجنبي، فإن قال السيد: ما اشتريت نفسك إلا لنفسك، عتق لإقرار سيده بحريته، والقول قول السيد في الثمن؛ لأن الظاهر ممن باشر العقد أنه له، ولو وكله سيده في إعتاق نفسه، أو وكل غريمه في إبراء نفسه، صح؛ لأنه وكيله في إسقاط حق نفسه، فجاز كتوكيل الزوجة في طلاقها، وإن وكل غريمه في إبراء غرمائه، لم يملك إبراء نفسه، كما لو وكله في حبسهم لم يملك حبس نفسه، وإن وكله في تفرقة صدقة، لم يملك صرفها إلى نفسه؛ لأنه مأمور بإعطاء غيره، قال أصحابنا: لا يملك إعطاء ولده ووالده؛ لأنهم كنفسه، ويحتمل جواز ذلك؛ لأن لفظه يعمهم، ولا قرينة تخرجهم.
فصل:
والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما تلف تحت يده بغير تفريط، بجعل وبغير جعل؛ لأنه نائب المالك، أشبه المودع، والقول قوله فيما يدعيه من تلف، وعدم تفريط وخيانة لذلك، والقول قوله في الرد، إن كان متطوعاً؛ لأنه قبض المال لنفع مالكه، فهو كالمودع، وإن كان بجعل، ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قوله؛ لأنه أمين أشبه المودع.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه قبضه لنفع نفسه، أشبه المستعير.
وإن قال: بعت وقبضت الثمن، فتلف في يدي، ففيه وجهان، ذكرناهما في الرهن، وإن اختلفا في أصل الوكالة، فالقول قول من ينكرها؛ لأن الأصل عدمها، وإن اختلفا في دفع المال إلى الوكيل، فالقول قوله لذلك، فإن أنكره، ثم اعترف به، ثم ادعى تلفه أو رده، لم يقبل؛ لأن خيانته ثبتت بجحده، وكذلك الحكم في المودع، وإن أقام بدعواه ببينة، ففيه وجهان:(2/144)
أحدهما: تقبل؛ لأنها شهدت بما لو أقر به لثبت، فقبلت: كما لو لم ينكر.
والثاني: لا تقبل؛ لأنه مكذب بها بجحده، فإن كان جحوده: إنك لا تستحق علي شيئاً، لتلفه أو رده، وإن اختلفا في صفة الوكالة، فقال: وكلتني في بيع هذا، فقال: بل في بيع هذا، أو قال: وكلتني في بيعه بعشرين، قال: بل بثلاثين، أو قال: وكلتني في بيعه نسيئة، قال: بل نقداً، فالقول قول الموكل؛ لأنه منكر للعقد الذي يدعيه الوكيل، فأشبه ما لو أنكر أصل الوكالة، ولأنهما اختلفا في صفة قول الموكل، فكان القول قوله، كما لو اختلف الزوجان في صفة الطلاق، ونص أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المضارب على أن القول قوله، والوكيل في معناه؛ لأنه أمين في التصرف، فكان القول قوله في صفته، كما لو اختلفا في بيع الثوب المأذون في بيعه، وإن قال: اشتريت هذا لك بعشرة قال: بل بخمسة، فالحكم فيه كذلك، وإن قال: اشتريت هذه الجارية لك بإذنك بعشرة فأنكر الإذن في شرائها، فالقول قول الموكل، فيحلف ويبطل البيع إن كان بعين المال، ويرد الجارية على البائع إن صدق الوكيل في أنه وكيل، وإن أنكر الشراء لغيره، فالقول قوله، وعلى الوكيل غرامة الثمن لموكله، وتبقى الجارية في يده، ولا تحل له؛ لأنها ليست ملكاً له، فإذا أراد استحلالها، اشتراها ممن هي له في الباطن، فإن أبى بيعها استحب للحاكم أن يرفق به، ليبيعه إياها، ولا يجبر؛ لأنه عقد مراضاة، فإن أبى فقد حصلت في يده لغيره، وله في ذمة صاحبها ثمنها، فأقرب الوجوه فيها أن يأذن الحاكم له في بيعها، ويوفيه حقه من ثمنها؛ لأن الحاكم باعها في وفاء دينه، فإن قال صاحبها: إن كانت لي، فقد بعتكها بعشرين، فقال القاضي: لا يصح؛ لأنه بيع معلق على شرط، ويحتمل أن يصح؛ لأن هذا شرط واقع يعلمانه، فلا يضر جعله شرطاً، كما لو قال: إن كانت جارية فقد بعتكها.
فصل:
فإن قال: تزوجت لك فلانة بإذنك فصدقته المرأة، وأنكره، فالقول قول المنكر؛ لأن الأصل معه ولا يستحلف؛ لأن الوكيل يدعي حقاً لغيره، وإن ادعته المرأة، استحلف؛ لأنها تدعي صداقها عليه فإن حلف، برئ من الصداق، ولم يلزم الوكيل في أحد الوجهين؛ لأن حقوق العقد تتعلق بالموكل، فإن كان الوكيل ضمنه لها، فلها مطالبته به، وليس لها نكاح غيره، لاعترافها أنها زوجته، فتؤخذ بإقرارها، ولا يكلف الطلاق؛ لأنه لم يثبت في حقه نكاح، ويحتمل أن يكلفه، لإزالة احتمال؛ لأنه يحتمل صحة، دعواها، فينزل منزلة النكاح الفاسد، ولو مات أحدهما، لم يرثه الآخر؛ لأنه لم يثبت صداقها فترث، وهو ينكر أنها زوجته فلا يرثها.(2/145)
[باب الشركة]
يجوز عقد الشركة في الجملة، لما روى أبو هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يقول الله تعالى: أنا ثالث الشركين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه، خرجت من بينهما» رواه أبو داود.
وتكره شركة الذمي إلا أن يكون المسلم يتولى البيع والشراء، لما روى الخلال بإسناده عن عطاء قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مشاركة اليهودي والنصراني إلا أن يكون البيع والشراء بيد المسلم» ولأنه لا يأمن معاملتهم بالربا، والعقود الفاسدة.
فصل:
والشركة على أربعة أضرب: أحدها: شركة العنان، وهو أن يشترك اثنان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما، والربح بينهما، فإذا صحت، فما تلف من المالين، فهو من ضمانهما، وإن خسرا، كانت الخسارة بينهما على قدر المالين؛ لأنهما صارا كمال واحد في ربحه، فكذلك في خسرانه، والربح بينهما على ما شرطاه؛ لأن العمل يستحق به الربح، وقد يتفاضلان فيه؛ لقوة أحدهما وحذقه، فجاز أن يجعل له حظ من الربح كالمضارب.
فصل:
وتصح الشركة على الدراهم والدنانير؛ لأنهما أثمان البياعات، وقيم الأموال، ولا تصح بالعروض في إحدى الروايتين؛ لأن قيمة أحدهما ربما تزيد قبل بيعه، فيشاركه الآخر في نماء العين التي هي ملكه، والثانية: تصح الشركة بها ويجعل رأس المال قيمتها وقت العقد؛ لأن مقصودها نفوذ تصرفهما في المال المشترك، وكون ربحه بينهما، وهذا ممكن في العروض، والحكم في النقرة والمغشوش والفلوس، كالحكم في العروض؛ لأن قيمتها تزيد وتنقص، فأشبهت العروض، ولا تجوز الشركة بمجهول ولا جزاف؛ لأنه لا يمكن الرجوع به عند المفاضلة، ولا بدين ولا غائب؛ لأنه مما لا يجوز والتصرف فيه، وهو مقصود الشركة.(2/146)