كتاب العدد
أجمعوا على أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} الآية، 1 وكذا كل فرقة في الحياة كالفسخ لرضاع أو عيب أو اختلاف دين أو عتق.
والمعتدات ثلاثة أقسام:
بالحمل، فعدتها بوضعه ولو بعد ساعة، لقوله تعالى: {أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} 2.
الثاني: بالقرء إذا كانت ذات قرء، لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 3.
الثالث: معتدة بالشهور، لقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} الآية. 4 وذات القروء إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، اعتدت تسعة أشهر للحمل. وعدة الآيسة والمتوفي عنها ولا حمل بها قبل الدخول وبعده، عدتها بالشهور، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} - إلى قوله - {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} 5.
__________
1 سورة الأحزاب آية: 49.
2 سورة الطلاق آية: 4.
3 سورة البقرة آية: 228.
4 سورة الطلاق آية: 4.
5سورة البقرة آية: 234.(1/694)
وكل فرقة بين زوجين فعدتها عدة الطلاق، سواء كانت بخلع أو لعان أو رضاع أو فسخ بعيب أو غير ذلك، في قول الأكثر. وروي عن عثمان وابن عمر وإسحاق وابن المنذر: "أن عدة المختلعة حيضة"، لحديث ابن عباس في امرأة ثابت وفيه: "فجعل عدتها حيضة". رواه النسائي. ولنا: قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} ، 1 وحديث ابن عباس يرويه عكرمة مرسلاً.
والموطوءة بشبهة عدتها عدة المطلقة، وكذلك في نكاح فاسد؛ وبه قال الشافعي، لأنه في شغل الرحم ولحوق النسب كالصحيح.
وإن وُطئت المزوجة بشبهة، لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدتها، والمزنيُّ بها كالموطوءة بشبهة في العدة. وعنه: تستبريء بحيضة، وهو قول مالك. ولا خلاف في وجوبها على المطلقة بعد المسيس. "فإن خلا بها ولم يمسها، وجبت العدة"، روي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن عمر؛ وبه قال عروة وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال الشافعي في الجديد: لا عدة عليها، لقوله: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} . 2 ولنا: إجماع الصحابة. وضعف أحمد ما روي في خلافهم.
"وإن ارتفع حيضها ولم تدر ما رفعه، اعتدت سنة". قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منكر علمناه. وقال الشافعي في أحد قوليه: تتربص أربع سنين، ثم تعتد بثلاثة أشهر. وفي قوله الجديد: تكون في عدة أبداً حتى تحيض أو تبلغ سن الإياس، هذا قول عطاء وأبي عبيد وأهل العراق. وإن عرفت ما رفعه فهي في عدة حتى يعود أو تصير آيسة.
__________
1 سورة البقرة آية: 228.
2 سورة الأحزاب آية: 49.(1/695)
والمستحاضة إن كانت لها عادة أو تمييز محكوم به، فحكمها حكم غير المستحاضة. وإن علمت أن لها في كل شهر حيضة، ولم تعلم موضعها، فعدتها ثلاثة أشهر. وإن شكت في شيء، تربصت حتى تستيقن أن القروء الثلاثة قد انقضت. وإن كان لا تمييز لها، أو ناسية لا تعرف لها وقتاً ولا تمييز، فعنه: ثلاثة أشهر؛ وهو قول أبي عبيد، "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر حمنة أن تجلس في كل شهر ستة أيام أو سبعة". وعنه: تعتد سنة، وهو قول مالك.
والصغيرة التي لم تحض إذا حاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعة، استأنفت العدة، في قول علماء الأمصار، وبعد انقضائها ولو بلحظة، لا تستأنف.
وإن ارتابت في الحمل قبل انقضاء العدة، بقيت في العدة حتى تزول الريبة. وبعد انقضاء العدة والتزوج، فالنكاح صحيح لكن لا يحل وطؤها. وإن كان بعد انقضائها وقبل التزوج، فقيل: لا تتزوج مع الشك، وقيل: بلى.
وأجمعوا على أن عدة الحرة غير الحامل من وفاة زوجها: أربعة أشهر وعشر، مدخول بها أو لا، صغيرة أو كبيرة. وعدة الأمة: شهران وخمسة أيام، في قول عامة أهل العلم، إلا ابن سيرين فإنه قال: ما أراها [إلا] كعدة الحرة، إلا أن تكون قد مضت في ذلك سنّة، فالسنّة أحق أن تتبع.
وإذا مات زوج الرجعية، استأنفت أربعة أشهر وعشراً، حكاه ابن المنذر إجماعاً. والبائن تبني على عدة الطلاق، وقال الثوري: عليها أطول الأجلين.
وأجمعوا على أن الحامل تعتد بالوضع، إلا ابن عباس فإنه قال: "تعتد بأقصى الأجلين"، وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط(1/696)
إذا علم أنه ولد. فإن ألقت مضغة لم تبيّن فيها الخلقة فشهد ثقات من القوابل أن فيها صورة خفية بان بها أنها خلقة آدمي، فهي كالأولى.
وإذا تزوج امرأة لها ولد من غيره، فمات ولدها، فقال أحمد: يعتزل امرأته حتى تحيض حيضة؛ وبه قال مالك وإسحاق، لأنها إن كانت حاملاً حين موته ورثه حملها.
وإن غاب الرجل عن امرأته غيبة يعرف خبره ويأتي كتابه، فليس لها أن تتزوح إجماعاً، إلا أن يتعذر الإنفاق عليها من ماله، فلها أن تطلب الفسخ. وأجمعوا على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى تعلم يقين وفاته. فإن انقطع خبره ولم يعلم له موضع، فإن كان ظاهر غيبته السلامة، كالتجارة وطلب العلم، فلا تزول الزوجية ما لم يعلم موته. وقال مالك والشافعي في القديم: تربص أربع سنين، وتعتد للوفاة، وتحل للأزواج، لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطء بالعنّة وتعذر النفقة بالإعسار، فلأن يجوز هنا لتعذر الجمع أولى. واحتجوا بحديث عمر في المفقود، والمذهب الأول، وخبر عمر فيمن ظاهر غيبته الهلاك. فإن كان ظاهرها الهلاك، كأن يفقد بين أهله ليلاً أو نهاراً، أو يخرج إلى مكان قريب ليقضي حاجته ويرجع، ولا يظهر له خبر، فتربص أربع سنين ثم تعتد للوفاة وتحل للأزواج. قيل لأحمد: تذهب إلى حديث عمر؟ قال: هو أحسنها، يروى عنه من ثمانية وجوه. قيل: زعموا أن عمر رجع، قال: هؤلاء الكذابون. قيل: فروي من وجه ضعيف أن عمر قال بخلافه، قال: لا، إلا أن يكون إنسان يكذب.
وقال ابن المسيب في امرأة المفقود بين الصفين: تربص سنة. وقال الثوري والشافعي في الجديد: لا تتزوج امرأة المفقود حتى يتبين موته أو فراقه. وهل يعتبر أن(1/697)
يطلقها ولي زوجها، ثم تعتد بعد ذلك، لأنه في حديث عمر، أو لا؟ وهو قول ابن عمر وابن عباس.
تجتنب المتوفى عنها: الطيب والزينة والبيتوتة في غير منزلها والكحل بالإثمد والنقاب. أما الطيب فلا خلاف في تحريمه. وأما اجتناب الزينة فواجب في قول عامة أهل العلم. وأما زينة الثياب فيحرم عليها الثياب المصبغة للتحسين، كالمعصفر والمزعفر. فأما ما لا يقصد بصبغه حسنه، كالأسود والأخضر المشبع فلا تمتنع منه، لأنه ليس بزينة.
و"ممن أوجب الإحداد في منزلها: عمر وعثمان"، وبه قال مالك والشافعي. قال ابن عبد البر: وبه يقول جماعة فقهاء الأمصار. وقال: الحسن وعطاء: تعتد حيث شاءت. قال ابن عباس: "نسخت هذه الآية وهي قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} الآية، 1 عدتها عند أهلها". قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى، فتعتد حيث شاءت. ولنا: حديث فريعة أخت أبي سعيد، وهو حديث صحيح، رواه مالك في الموطإ.
ولا سكنى لها إذا كانت حائلاً. وللشافعي قولان. ولنا: أن الله تعالى إنما جعل لها ثمن التركة أو ربعها والمسكن فيها، والباقي للورثة. وليس لهم أن يخرجوها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، للآية، وهي أن يطول لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه، روي عن ابن عباس، وهو قول الأكثرين. والفاحشة تعم الأقوال الفاحشة، لقوله عليه السلام: "إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش "، 2 قاله لعائشة. ولها الخروج في حوائجها نهاراً مطلقة أو متوفي عنها، لقوله: "اخرجي فجذِّي نخلك". 3 رواه أبو داود وغيره.
__________
1 سورة البقرة آية: 240.
2 أحمد (2/159) .
3 مسلم: الطلاق (1483) , والنسائي: الطلاق (3550) , وأبو داود: الطلاق (2297) , وابن ماجة: الطلاق (2034) , وأحمد (3/321) , والدارمي: الطلاق (2288) .(1/698)
وإذا كانت المبتوتة حاملاً، وجبت لها السكنى. وإن لم تكن حاملاً، فعنه: "لا يجب لها"، وهو قول ابن عباس، وبه قال عطاء وإسحاق وغيرهم. قال أبو بكر: لا خلاف عن أحمد أعلمه، "أن العدة تجب من حين الموت والطلاق"، إلا ما رواه إسحاق. وبه قال عمر وابن عباس ومالك والشافعي. وعنه: إن قامت بذلك بينة وإلا من يوم يأتيها الخبر. ولنا: قوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ، 1 وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} . 2 وفي إيجاب الإخلاد مخالفة هذه النصوص.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
اختار الشيخ أن عدة المختلعة حيضة، وكذا بقية الفسوخ. والتي عرفت ما رفع الحيض من مرض أو رضاع أو نحوه، فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به إلا أن تصير آيسة. وعنه: تنتظر زواله، ثم إن حاضت اعتدت به، وإلا اعتدت بسنة؛ ذكره محمد بن نصر المروزي عن مالك، ومن تابعه منهم أحمد. ونقل ابن هانيء أنها تعتد بسنة. واختار الشيخ إن علمت عدم عوده فكآيسة، وإلا اعتدت سنة. وهل تفتقر إلى الرفع للحاكم؟ قال الشيخ: لا يعتبر الحاكم على الأصح.
فلو مضت العدة تزوجت، يعني: امرأة المفقود.
وعدة الموطوءة بشبهة عدة المطلقة، وكذا من نكاحها فاسد. واختار الشيخ أن كل واحدة منهما تستبرأ بحيضة، وكذا المزْنّي بها.
وإذا أراد زوج البائن إسكانها في منزله أو غيره تحصيناً لفراشه ولا محذور فيه لزمها، واختار الشيخ: إن أنفق عليها.
__________
1 سورة الطلاق آية: 4.
2 سورة البقرة آية: 228.(1/699)
كتاب الرضاع
الذي يتعلق به التحريم: خمس رضعات فصاعدا، وهو قول الشافعي. وعنه: أن قليله يحرم، وهو قول مالك، لقوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} . 1 وعنه: بثلاث رضعات، وهو قول أبي عبيد وابن المنذر. ووجه الأولى: قول عائشة: أنزل عشر رضعات، فنسخ خمس وصار إلى خمس رضعات؛ فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك. والآية فسرتها السنة، وصريحه يخص مفهوم ما رووا، يعني: لا تحرم المصّة ولا المصّتان.
واللبن الذي ثاب للمرأة من رجل، ينشر الحرمة إليه وإلى أقاربه. ومن شرطه: أن يكون في الحولين، و"كانت عائشة ترى أن إرضاع الكبير يحرم، لحديث سالم". ولنا: قوله: "إنما الرضاعة من المجاعة ". 2 أخرجاه. وكره أحمد الارتضاع بلبن أهل الفجور والمشركات، قال عمر: "اللبن نسبة، فلا يسقى من يهودية ولا نصرانية". ويكره الارتضاع بلبن الحمقى كيلا يشبهها الولد في الحمق، فإنه قال: "الرضاع يغير الطباع".
__________
1 سورة النساء آية: 23.
2 البخاري: الشهادات (2647) , ومسلم: الرضاع (1455) , والنسائي: النكاح (3312) , وأبو داود: النكاح (2058) , وابن ماجة: النكاح (1945) , والدارمي: النكاح (2256) .(1/700)
كتاب النفقات
نفقة المرأة معتبرة بحال الزوجين جميعاً، فإن كانا موسرين فلهما نفقة الموسرين، وكذلك المتوسطين. وإن كان أحدهما موسراً فعليه نفقة المتوسطين، وقال مالك: يعتبر حال المرأة، لقوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} ، 1 ولقوله: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، 2 والمعروف: الكفاية. وقال الشافعي: الاعتبار بحال الزوج وحده، لقوله تعالى: {لينفق ذو سعة من سعته} الآية. 3 وفي ما ذكرنا جمع بين الدليلين. والشرع ورد بالإنفاق من غير تقدير، فيردّ إلى العرف، وقال الشافعي: نفقة المعسر مدّ ونفقة الموسر مدّان، وقال: يجب فيهما الحب. فإن كانت ممن لا تخدم نفسها وجب لها خادم، لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} . 4 فإن منعها أو أعطاها أقل من كفايتها، فلها أن تأخذ من ماله الواجب بغير إذنه. و"إذا منعها لعسرته، خيّرت بين الصبر وبين فراقه"، روي عن عمر وغيره؛ وبه قال مالك والشافعي. وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تملك فراقه، ولكن يرفع يده عنها لتكتسب. وقال العنبري: يحبس إلى أن ينفق. ولنا: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، 5 وليس الإمساك عن ترك الإنفاق كذلك.
__________
1 سورة البقرة آية: 233.
2 البخاري: النفقات (5364) , ومسلم: الأقضية (1714) , والنسائي: آداب القضاة (5420) , وأبو داود: البيوع (3532) , وابن ماجة: التجارات (2293) , وأحمد (6/39, 6/50, 6/206) , والدارمي: النكاح (2259) .
3 سورة الطلاق آية: 7.
4 سورة النساء آية: 19.
5 سورة البقرة آية: 229.(1/701)
سئل ابن المسيب عن: الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، أيفرّق بينهما؟ قال: نعم. قيل: سنة؟ قال: سنة. ومن ترك الإنفاق الواجب، لم يسقط وكان ديناً في ذمته. وعنه: يسقط، ما لم يفرضها حاكم. ولنا: "أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم: يأمرهم بأن ينفقوا أو يطلّقوا. فإن طلّقوا بعثوا بنفقة ما مضى"، قال ابن المنذر: ثبت ذلك عنه.
ويجبر الرجل على نفقة والديه وولده إذا كانوا فقراء وكان له ما ينفق عليهم، الأصل في وجوب نفقتهم: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الآية، 1 وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ، 2 وقوله: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، 3 وقوله: "أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه". 4 وأما الإجماع فحكاه ابن المنذر.
وتجب نفقة الأم، وحكي عن مالك: لا نفقة عليها ولا لها، لأنها ليست عصبة؛ فإن أعسر الأب وجبت على الأم.
ويجب الإنفاق على الأجداد والجدات وإن علوا، وولد الولد وإن سفلوا، وقال مالك: لا تجب عليهم ولا لهم. ولنا: قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . 5 ويشترط أن يكون المنفق وارثاً ولو كان محجوبا بمعسر أقرب منه، إلا إن كان من غير عمودي النسب إذا حجب. ويتخرج في كل وارث لولا الحجب إذا كان الحاجب معسراً وجهان:
فأما ذوو الأرحام الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب، فإن كانوا من
__________
1 سورة البقرة آية: 233.
2 سورة البقرة آية: 83.
3 البخاري: النفقات (5364) , ومسلم: الأقضية (1714) , والنسائي: آداب القضاة (5420) , وأبو داود: البيوع (3532) , وابن ماجة: التجارات (2293) , وأحمد (6/39, 6/50, 6/206) , والدارمي: النكاح (2259) .
4 الترمذي: الأحكام (1358) , والنسائي: البيوع (4452) , وأبو داود: البيوع (3528, 3529) , وابن ماجة: التجارات (2137, 2290) , وأحمد (6/31, 6/41, 6/126, 6/127, 6/162, 6/173, 6/193, 6/201, 6/202, 6/220) , والدارمي: البيوع (2537) .
5 سورة البقرة آية: 233.(1/702)
غير عمودي النسب فلا نفقة عليهم، قال أحمد: الخالة والعمة لا نفقة عليهما. وقال أبو الخطاب: يخرج فيهم رواية أخرى: أنها تلزمهم عند عدم العصبة وذوي الفرض.
وهل تجب لمن يقدر على الحرفة من الوالدين والمولودين؟ فيه روايتان. وقال أبو حنيفة: ينفق على الغلام حتى يبلغ، وقال مالك: ينفق على النساء حتى يتزوجن. ولنا: قوله: "خذي ما يكفيك وولدك"، 1 ولم يستثن بالغاً ولا صحيحاً. والصبي إذا لم يكن له أب أُجبر وارثه على نفقته على قدر ميراثهم؛ وحكي عن أحمد في الصبي المرضع لا أب له ولا جد: نفقته وأجر رضاعه على الرجال دون النساء، وبه قال إسحاق، لما روي عن عمر "أنه قضى على ابن عم منفوس بنفقته"، احتج به أحمد. وقال مالك والشافعي وابن المنذر: لا نفقة إلا على الوالدين والمولودين. ولنا: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} 2 - إلى قوله - {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . 3 وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيراً، لأنه وارث.
ولا سكنى ولا نفقة للمبتوتة، إلا أن تكون حاملاً، لحديث فاطمة. قال ابن عبد البر: من طريق الحجة وما يلزم منها قول أحمد بن حنبل ومن تابعه أصح وأحجّ، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصاً صريحاً، فأي شيء يعارض هذه الأمثلة؟ لأنه هو المبين عن الله مراده؛ ومعلوم أنه أعلم بتأويل كتاب الله في قوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} 4 إلخ. وأما قول عمر ومن وافقه، فقد خالفه عليّ وابن عباس ومن وافقهما والحجة معهما، ولو لم يخالفه أحد منهم لما قبل قول المخالف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه حجة على
__________
1 البخاري: النفقات (5364) , ومسلم: الأقضية (1714) , والنسائي: آداب القضاة (5420) , وأبو داود: البيوع (3532) , وابن ماجة: التجارات (2293) , وأحمد (6/39, 6/50, 6/206) , والدارمي: النكاح (2259) .
2 سورة البقرة آية: 233.
3 سورة البقرة آية: 233.
4 سورة الطلاق آية: 6.(1/703)
عمر وعلى غيره. ولم يصح عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنّة نبينا لقول امرأة، فإن أحمد أنكره. أما هذا فلا، ولكن لا نقبل في ديننا قول امرأة. وهذا يرده الإجماع على قبول قول المرأة في الرواية، قال إسماعيل بن إسحاق: ونحن نعلم أن عمر لا يقول: لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله، والذي فيه أن لها النفقة إذا كانت حاملاً بقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} ، 1 وأما غير ذوات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أن لا نفقة لهن لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
واختار في الهدي أنها لو تزوجته عالمة بعسره، أو كان موسراً ثم افتقر، أنه لا فسخ لها، قال: ولم تزل الناس تصيبهم الفاقة بعد الإيسار ولم يرفعهم أزواجهم إلى الحكام ليفرقوا بينهم.
ونقل جماعة: تجب لكل وارث، اختاره الشيخ، لأنه من صلة الرحم، وهو عام كعموم الميراث في ذوي الأرحام بل أولى.
قوله: وإن ترك الإنفاق مدة لم يلزمه عوضه، قال الشيخ: من أنفق عليه بإذن حاكم رجع، وبلا إذن فيه خلاف؛ وظاهر كلامه: يستدين عليه بإذن حاكم.
__________
1 سورة الطلاق آية: 6.(1/704)
باب من أحق بكفالة الطفل
لا تثبت الكفالة لطفل، ولا لفاسق، لأنه ينشأ على طريقته، ولا لكافر على مسلم. وقال أبو ثور: حديث أبي رافع بن سنان لا يثبته أهل النقل. قال ابن المنذر: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم علم أنها تختار أباها بدعوته، فكان خاصاً. والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت، لا نعلم فيه خلافاً.
وإذا بلغ سبع سنين خيّر بين أبويه، وقال مالك لا يخيّر، لأنه ربما اختار من يترك تأديبه. ولنا: "أنه صلى الله عليه وسلم خيّر غلاما بين أبيه وأمه". رواه أبو داود، ولأنه إجماع الصحابة. "فإن عدم الأب، أو كان لا حضانة له، خيّر بين أمه وبين العصبات"، فعله عليّ (. وإذا بلغت الجارية سبعاً فالأب أحق بها. وقال مالك: الأم أحق بها حتى تتزوج. وقال الشافعي: تخيّر. فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن الأم إذا تزوجت سقطت حضانتها. وعن أحمد: لا تزول الحضانة عن الجارية لتزويج أمها، لحديث ابنة حمزة؛ والأول هو الصحيح، لقوله: "أنت أحق به ما لم تنكحي". 1 "وأما ابنة حمزة فقضى بها للخالة، لأن زوجها من أهل الحضانة". وإن عدمت الأم واجتمع أم أب وخالة، فأم الأب أحق، وعنه: الخالة. والأخت أحق من الخالة. وقال ابن سريج: تقدم الخالة.
وللرجال من العصبات مدخل في الحضانة "لأنه لم ينكر على عليّ وجعفر".
__________
1 أبو داود: الطلاق (2276) , وأحمد (2/182) .(1/705)
وعلى ملاّك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسوهم بالمعروف. ولا يكلف من العمل ما لا يطيق. وإذا تولى طعاماً استحب له أن يجلسه يأكل معه، فإن لم يفعل استحب له أن يطعمه منه. ولا يجبر المملوك على المخارجة. ويزوج المملوك إن احتاج، لقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية. 1 فإن امتنع السيد مما يجب عليه، وطلب العبد البيع، أجبر عليه. ومن ملك بهيمة لزمه القيام عليها والإنفاق عليها ما تحتاج إليه.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
لو لم تلائم أخلاق العبد أخلاق سيده، لزمه إخراجه عن ملكه. وليس لابن العم حضانة، واختار في الهدي: أن له، ويسلمها إلى ثقة يختارها هو أو إلى محرم، لأنه أولى من أجنبي وحاكم. وكذا قال فيمن تزوجت وليس للولد غيرها.
__________
1 سورة النور آية: 32.(1/706)
كتاب الجنايات
الأكثر يرون القتل ينقسم إلى: عمد، وشبه عمد، وخطإ. وأنكر مالك شبهه، وقال: ليس في كتاب الله، وجعله من قسم العمد. ولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن ديّة الخطإ شبه العمد، ما كان بالسوط والعصا: مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها". رواه أبو داود.
فالعمد: أن يقتله بما يغلب على الظن موته به، عالماً بكونه معصوماً، مثل أن يجرحه بسكين، أو يغرزه بمسلة أو ما في معناه، مما يجرح من الحديد أو الخشب أو القصب أو العظم، إذا جرح به جرحاً كبيراً فمات؛ فهو عمد بلا خلاف علمناه. فأما إن جرحه جرحاً صغيراً، كشرط الحجام أو غرزه بإبرة أو شوكة، أو جرحه جرحاً صغيراً بكبير في غير مقتل، فمات في الحال، ففي كونه عمداً وجهان. وإن قطع سلعة من أجنبي بغير إذنه [فمات] ، فعليه القود. وكذلك إن ضربه بمثقل كبير، أو بما يغلب على الظن موته به، أو يلقيه من شاهق، أو يكرر الضرب بصغير. وعن عطاء: العمد ما كان بالسلاح. وقال أبو حنيفة: لا قود إلا أن يقتله بالنار. وعنه في مثقل الحديد روايتان، واحتج بالحديث المتقدم قال: فأوجب الدية دون القصاص. ولنا: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، 1 وفي الصحيحين: "إن يهودياً قتل جارية بحجر، فقتله رسول الله بين حجرين". 2 والحديث محمول على المثقل
__________
1 سورة البقرة آية: 178.
2 البخاري: الخصومات (2413) , ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1672) , والترمذي: الديات (1394) , والنسائي: القسامة (4779) , وأبو داود: الديات (4529) , وابن ماجة: الديات (2666) , وأحمد (3/171, 3/203) .(1/707)
الصغير، لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر، فدل على أنه أراد ما يشبههما. وإنما حد الموجب للقصاص هنا بفوق عمود الفسطاط "لأنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن: المرأة التي ضربت جارتها بعمود الفسطاط، فقتلتها وجنينها؟ قضى في الجنين بغرة، وقضى بالدية على عاقلتها"، والعاقلة لا تحمل العمد؛ فدل على أنها التي تتخذها العرب لبيوتها، وفيها رقة.
وشبه العمد: أن يقصد الجناية بما لا يقتل غالباً فيقتل، فلا قود فيه. والدية على العاقلة في قول أكثر أهل العلم، وجعله مالك عمداً موجباً للقصاص. ولنا: حديث المرأتين المتقدم، والحديث الأول. وقولهم: هذا قسم ثالث، قلنا: نعم، هذا ثبت بالسنة، والأولان بالكتاب. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن قتل الخطإ أن يرمي شيئاً فيصيب غيره.
والأصل في وجوب الدية والكفارة قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} الآية، 1 وسواء كان المقتول مسلماً أو كافرًا له عهد، لقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية. 2 ولا قصاص في شيء من هذا، لأن الله تعالى لم يذكره.
ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعْل كل واحد منهم لو انفرد وجب القصاص عليه، وعنه: لا يقتلون به، وتجب الدية. ولنا: إجماع الصحابة. ولا خلاف أنه لا قصاص على صبي ومجنون ومن زال عقله بسبب يعذر فيه. وفي السكران روايتان. والمرتد لا يجب بقتله قصاص ولا دية ولا كفارة، لأنه مباح الدم، أشبه الحربي.
__________
1 سورة النساء آية: 92.
2 سورة النساء آية: 92.(1/708)
ويقتل العبد المسلم بالعبد المسلم وإن اختلفت القيمة، وعنه: لا. ولنا: قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} الآية. 1 ويجري القصاص بينهما فيما دون النفس، وعنه: لا. ولنا: قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية. 2 ويقتل الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر، وعنه: يقتل الرجل بالمرأة ويعطى أولياؤه نصف الدية. ولنا: قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، 3 وقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} ، 4 وحديث اليهودي الذي رض رأس الجارية.
ولا يقتل مسلم بكافر، في قول الأكثر. وقال النخعي والشعبي: يقتل بالذمي، قال أحمد: سبحان الله! هذا عجب! يصير المجوسي مثل المسلم؟ ما هذا القول؟ واستشنعه وقال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقتل مسلم بكافر "، 5 وهو يقول: يقتل؛ فأي شيء أشد من هذا؟!
ولا يقتل حر بعبد، وروي عن ابن المسيب والثوري وأصحاب الرأي: يقتل به، لعموم الآية والأخبار. ولنا: قول عليّ: "من السّنّة أن لا يُقتل حرّ بعبد". وعن ابن عباس مرفوعاً مثله، رواه الدارقطني. ولا يقتل السيد بعبده في قول الأكثر. ولا يقتل الأب بولده ولا ولد ولده وإن نزل، سواء في ذلك ولد البنين والبنات. وقال ابن المنذر: يقتل به، لظاهر آي الكتاب. ولنا: قوله: " لا يُقتل والد بولده". 6 رواه النسائي وابن ماجة. قال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض
__________
1 سورة البقرة آية: 178.
2 سورة المائدة آية: 45.
3 سورة المائدة آية: 45.
4 سورة البقرة آية: 178.
5 البخاري: العلم (111) , والترمذي: الديات (1412) , والنسائي: القسامة (4735) , وأبو داود: الديات (4530) , وابن ماجة: الديات (2658) , وأحمد (1/79, 1/122) , والدارمي: الديات (2356) .
6 الترمذي: الديات (1400) , وابن ماجة: الديات (2662) , وأحمد (1/49) , ومالك: العقول (1620) .(1/709)
عندهم، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد، حتى يكون الإسناد في مثله تكليفاً.
وقتل الغيلة وغيره سواء، وقال مالك: يقتل به. وليس لولي الدم أن يعفو عنه، وذلك إلى السلطان. وإذا كان من يستحق القصاص واحداً غير مكلف، فالقصاص له، وليس لغيره استيفاؤه. ويحبس القاتل حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون ويقدم الغائب.
وليس لبعض الأولياء الاستيفاء دون بعض، فإن فعل فلا قصاص عليه، وعليه لشركائه حقهم من الدية. وإن عفا بعضهم سقط القصاص. وقال الليث والأوزاعي: ليس للنساء عفو، وللباقين حقهم من الدية، لا نعلم فيه خلافاً، لحديث عمر رواه أبو داود. فإن كان القاتل العافي مطلقاً أو إلى مال، فعليه القصاص، وروي عن الحسن: لا يقتل. ولنا: قوله: {فمن اعتدى بعد ذلك فله عذب أليم} . 1 قال ابن عباس وغيره: "أي: بعد أخذ الدية".
وإن كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً فليس للبالغ العاقل استيفاء حتى يصيرا مكلفين. وعنه: للكبار استيفاؤه، لأن الحسن قتل ابن ملجم وفي الورثة صغار، فلم ينكر. وقيل: قتله لكفره، وقيل: لسعيه في الأرض بالفساد. وإذا وجب القصاص على حامل أو حملت بعد وجوبه، لم تقتل حتى تضع وتسقيه اللبأ، لا نعلم فيه خلافاً. ثم إن لم يكن له من يرضعه، لم تقتل حتى يجيء أوان فطامه، لحديث الغامدية. وأجمعوا على أن العفو عن القصاص أفضل، لقوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} 2.
__________
1 سورة البقرة آية: 178.
2 سورة المائدة آية: 45.(1/710)
والواجب بقتل العمد: القصاص أو الدية، وعنه: موجبه القصاص عيناً، لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} . 1 والمشهور: أحد شيئين، وأن الخيرة إلى الولي إن اختار الدية فله، لقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} الآية. 2 ومن أقيد بغيره في النفس أقيد به في ما دونها، ومن لا فلا. وعنه: لا قصاص بين العبيد في الأطراف لأنها أموال.
ويشترط له ثلاثة شروط:
أحدها: الأمن من الحيف، بأن يكون القطع من المفصل، أو له حد ينتهي إليه، كمارن الأنف وهو ما لان منه.
الثاني: المماثلة، فتؤخذ اليمنى واليسرى والسفلى من الشفتين بمثلها.
الثالث: استواؤهما في الصحة والكمال، فلا تؤخذ صحيحة بشلاء، ولا كاملة الأصابع بناقصة.
ويجب القصاص في كل جرح ينتهي إلى عظم يمكن استيفاؤه من غير زيادة. ولا يقتص من الطرف إلا بعد برئه.
__________
1 سورة البقرة آية: 178.
2 سورة البقرة آية: 178.(1/711)
كتاب الديات
أجمعوا على أن دية العمد في مال القاتل، وإن كان شبه عمد أو خطأ أو ما جرى مجراه، فعلى العاقلة.
وأما الكفارة، ففي مال القاتل لا يدخلها تحمل. ولا يلزم القاتل شيء من دية الخطإ. ولو شهر سيفاً في وجه إنسان، أو أدلاه من شاهق فمات روعة أو ذهب عقله، فعليه ديته. وإن صاح بصبي أو مجنون صيحة شديدة فخرّ من سطح أو نحوه فمات أو ذهب عقله، أو تغفل عاقل فصاح به، فعليه ديته تحملها العاقلة. ومن اضطر إلى طعام إنسان أو شرابه وليس به مثل ضرورته فمنعه حتى مات، ضمنه. ومن أدّب ولده أو امرأته، أو المعلم صبيه، أو السلطان رعيته، ولم يسرف فتلف، لم يضمن. وإن أمر إنساناً أن يصعد شجرة أو ينزل بئراً فهلك، لم يضمنه.
ولا خلاف أن الإبل أصول في الدية، وأن دية الحر المسلم: مائة. ولا يختلف المذهب أن أصولها: الإبل والذهب والورق والبقر والغنم. فمن الإبل: مائة، ومن البقر: مائتان، ومن الغنم: ألفا شاة، أو ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف درهم.
فإن كان القتل عمداً وشبهه، وجبت أرباعاً: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون(1/712)
جذعة. وعنه: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. وإن كانت خطأ وجبت أخماساً.
وأجمعوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل، ودية الجنين الحر المسلم إذا سقط ميتاً من الضربة غرة عبد أو أمة قيمته: خمس من الإبل. وإن سقط حياً ثم مات فديته دية حر إذا كان لستة أشهر، فإن كان لدونها فغرة. وإن شربت الحامل دواء فألقت جنيناً، فعليها غرة لا ترث منها، بغير خلاف. وإن جنى على بهيمة فألقت جنينها، ففيه ما في نقصها. وإن جنى العبد خطأ، خيّر سيده بين فدائه بالأقل من قيمته، أو أرش جنايته، أو تسليمه ليباع في الجناية.
والشجاج عشر: خمس لا توقيت فيها: أولها: الحارصة وهي: التي تشق الجلد قليلاً ولا تظهر دماً. ثم البازلة: التي يسيل منها الدم. ثم الباضعة: التي تشق اللحم بعد الجلد. ثم المتلاحمة: التي تأخذ في اللحم دخولاً كثيراً. ثم السمحاق: التي تصل إلى قشرة رقيقة فوق العظم. فلم يرد فيها توقيت، فالواجب الحكومة كجراحات البدن.
وخمس فيها مقدر: أولها: الموضحة: التي توضح العظم أي: تبرزه، ففيها: خمس من الإبل. ثم الهاشمة: التي تهشم العظم، ففيها: عشر من الإبل. ثم المنقلة وهي: التي توضح وتهشم وتزيل العظام عن مواضعها، فتحتاج إلى نقل العظم ليلتئم، ففيها: خمسة عشر. ثم المأمومة: التي تصل إلى جلدة الدماغ، ففيها: ثلث الدية. وفي الجائفة: ثلث الدية، وهي: التي تصل إلى باطن الجوف.
والحكومة: أن يقوّم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به، ثمَّ يقوّم وهي به قد برئت، فما نقص منه فله مثله من الدية؛ ولا نعلم خلافاً أن هذا تفسير(1/713)
الحكومة. ولا يقوّم إلا بعد برء الجرح، فإن لم ينقص في تلك الحال قوّم حال جريان الدم.
والعاقلة: العصبات من النسب، قريبهم وبعيدهم إلا عمودي نسبه. وعنه: أنهم منهم، سموا: "العاقلة"، لأنهم يمنعون عنه، والعقل: المنع. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة والذي لم يبلغ لا يعقلان، وأن الفقير لا يلزمه شيء. وخطأ الإمام والحاكم في أحكامه في بيت المال، وعنه: على عاقلته، لحديث عمر. ومن لا عاقلة له، فهل تجب في بيت المال؟ على روايتين.
"ولا تحمل العاقلة عمداً، ولا عبداً، ولا صلحاً، ولا اعترافاً"، قاله ابن عباس، ولم يعرف له مخالف من الصحابة. ولا تحمل ما دون ثلث الدية. وما يحمله كل واحد منهم غير مقدر، فيرجع إلى اجتهاد الحاكم، فيحمل كل إنسان ما يسهل. وعمد الصبي والمجنون تحمله العاقلة، وعنه: أن الصبي العاقل عمده في ماله.(1/714)
باب القسامة
قال القاضي: يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم"، ولأن للإنسان أن يحلف على غالب ظنه.
واختلفت الرواية عن أحمد في اللوث:
فروي عنه: أنه العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه.
الثانية: أن اللوث أن يغلب على الظن صدق المدعي مثل العداوة، أو يتفرق جماعة عن قتيل فيكون لوثاً في حق كل واحد منهم.
الثالثة: أن يزدحموا في مضيق فيوجد بينهم قتيل.
الرابعة: أن يوجد قتيل لا يوجد بقربه إلا رجل معه سيف أو سكين ملطخ بالدم.
الخامسة: أن يقتتل فئتان فيتفرقون عن قتيل من إحداهما فاللوث على الأخرى.
السادسة: أن يشهد بالقتل عبيد أو نساء، وفي الفاسق والصبيان روايتان.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف ":
اختار الشيخ: الدالّ يلزمه القود إن تعمد وإلا الدية، وأن الآمر لا يرث. قوله: أن يقتل في دار الحرب من يظنه حربياً، قال الشيخ: محل هذا في المسلم المعذور، كالأسير أو لا يمكنه الهجرة والخروج من صفهم، فأما الذي يقف في صف قتالهم باختياره فلا يضمن بحال. وقال: ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة تمنع قتل الحرّ به، وقوى قتله به. وروى عبادة عنه:(1/715)
صلى الله عليه وسلم: "منزل الرجل حريمه، فمن دخل عليك حريمك فاقتله"، ولهذا ذكر في المغني: أن الولي إن اعترف بذلك فلا قود ولا دية، واحتج بقول عمر، قال في الفروع: كلامهم وكلام أحمد يدل على أنه لا فرق بين كونه محصناً أو لا. وصرح به بعض المتأخرين كشيخنا وغيره، لأنه ليس بحد، وإنما هو عقوبة على فاعله، وإلا لاعتبرت شروط الحر. وسأله أبو الحارث: وجده يفجر بها، له قتله؟ قال: قد روي عن عمر وعثمان. وكل من ورث المال ورث القصاص.
واختار الشيخ: تختص العصبة. ولا يستوفى القصاص إلا بحضرة السلطان. واختار الشيخ: يجوز بغير حضوره إذا كان في النفس، ولا يستوفى القصاص في النفس إلا بالسيف. وعنه: يفعل به كما فعل، اختاره الشيخ، وقال: هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل. وقال: استيفاء الإنسان حقه من الدم عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل؛ لكن هنا الإحسان لا يكون إحساناً إلا بعد العدل، وهو أن لا يحصل بالعدل ضرر، فإذا حصل ضرر كان ظلماً من العافي إما لنفسه وإما لغيره، فلا يشرع.
واختار أن العفو لا يصح في قتله الغيلة، لتعذر الاحتراز كالقتل مكابرة. واختار القصاص في كل شيء من الجراح والكسر يقدر على القصاص منه، للأخبار. وقال: ثبت عن الخلفاء الراشدين. وإن غصب صغيراً فنهشته حيّة أو أصابته صاعقة ففيه الدية. قال الشيخ: مثله كل سبب يختص البقعة، كالوباء وانهدام السقف عليه ونحوهما. ولو أمر عاقلاً أن ينزل بئراً أو يصعد شجرة فهلك بذلك لم يضمنه، كما لو استأجره لذلك، ولو أمر من لا يميز بذلك.(1/716)
وذكر 1 الأكثر: لو أمر غير مكلف بذلك ضمنه، قال في الفروع: ولعل مراد الشيخ: ما جرى به عرف وعادة، كقرابة وصحبة وتعليم ونحوه، فهذا متجه، وإلا ضمنه. قوله: وفي جراحه أي: العبد إن لم يكن مقدراً من الحر ما نقصه، وعنه: يضمن ما نقص مطلقاً، اختاره الشيخ. واختار أن اللوث [يثبت] 2 بشهادة النساء والصبيان وفسقة وعدل واحد ونحو ذلك.
__________
1 بين هذه الجملة والتي قبلها بياض في المخطوطة والمطبوعة.
2 ساقط في المطبوعة.(1/717)
باب الحدود
لا يجب الحد إلا على بالغ، عاقل، عالم بالتحريم. ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه، إلا السيد فله جلد رقيقه. وعنه: يملك القتل والقطع. وحد المحصن: الرجم. وهل يجلد قبله؟ على روايتين. وغيره: يجلد مائة ويغرب عاماً. ويجب أن يحضر طائفة من المؤمنين، و"الطائفة: واحد فما فوقه"، قاله ابن عباس ومجاهد. واللوطي كالزاني، وعنه: الرجم بكل حال، لأنه إجماع الصحابة "فإنهم أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في الكيفية". ومن أتى بهيمة فحده حد اللوطي. وعنه: "يعزر ولا حد عليه"، روي عن ابن عباس، وهو قول مالك والشافعي، لأنه لم يصح فيه نص. وفي وجوب قتلها روايتان، وكره أحمد أكل لحمها.
فإن ثبت الزنى بإقرار، اعتبر أربع مرات، وقال مالك والشافعي وابن المنذر: يحد بإقراره مرة، لحديث أنيس. ولا ينزع عن إقراره حتى يتم، فإن رجع أو هرب كف عنه؛ وبه قال مالك والشافعي. وإذا ثبتت الشهادة بالزنى فصدقهم، لم يسقط الحد، وقال أبو حنيفة: يسقط، لأن صحة البينة يشترط لها الإنكار. ولو وطئ في نكاح مجمع على بطلانه فعليه الحد، وقال أبو حنيفة: لا حد عليه للشبهة.
وإن استأجر أمة للزنى أو غيره فزنى بها، حُدّ، وقال أبو حنيفة: لا، للشبهة.
ويستحب للإمام أو الحاكم الذي يثبت عنده الإقرار التعريض له(1/718)
بالرجوع إذا تم، والوقوف عن إتمامه إذا لم يتم، "لأنه صلى الله عليه وسلم أعرض عن ماعز"، وعن أبي داود: "أنه أُتي بجارية سوداء سرقت، فقال لها: أسرقتِ؟ قولي: لا، فقالت: لا. فخلى سبيلها" ويكره لمن علم حاله أن يحثه على الإقرار.
وقد أجمع العلماء على وجوب الحد على من قذف محصناً، وأن حده ثمانون إن كان حراً، للآية، وإن كان عبداً فحده أربعون، في قول الأكثر. ويشترط مطالبة المقذوف، وأن يأتي ببيّنة.(1/719)
باب القطع في السرقة
الأصل فيه الكتاب والسنّة والإجماع، وهي أخذ المال على وجه الاختفاء؛ فلا قطع على منتهب ولا مختلس ولا غاصب ولا جاحد وديعة، وعنه: روايتان في جاحد العارية. وكذلك الطرّار الذي يشق الجيب، فيه روايتان. وإذا سرق من الثمر المعلق، فعليه غرامة مثليه، للخبر؛ قال أحمد: لا أعلم شيئاً يدفعه.
ولا يقطع بالسرقة من مال ابنه أو أبيه، والأم والأب في ذلك سواء وإن علوا وإن سفلوا، ولا العبد من مال سيده، ولا من مال له فيه شرك. ولا قطع إلا بمطالبة المالك أو دعواه، وقال مالك وابن المنذر: لا يشترط، لعموم الآية.
ولا خلاف أن أول ما يقطع يده اليمنى، وإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى، إلا ما حكي عن عطاء: تقطع يده اليسرى، لقوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . 1 فإن عاد حُبس ولم يقطع، وعنه: تقطع يده اليسرى في الثالثة، ورجله اليمنى في الرابعة؛ وهو قول مالك والشافعي وابن المنذر. ويجتمع القطع والضمان، وقال الثوري: لا يجتمعان. وقال مالك: لا غرم على معسر.
__________
1 سورة المائدة آية: 38.(1/720)
باب حد المحاربين
الأصل فيهم: قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً} الآية. 1 "نزلت في قطّاع الطريق" في قول ابن عباس وكثير من العلماء. وحكي عن ابن عمر: "أنها نزلت في المرتدّين"، قال أنس: "نزلت في العرنيّين الذين استاقوا إبل الصدقة وارتدّوا"، ولنا: قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} ؛ 2 والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة.
ولهم ثلاثة شروط:
(أحدها) : أن يكون في الصحراء، وبه قال الثوري وإسحاق، لأن قطع الطريق لا يكون إلا في الصحراء. وقال الأوزاعي والليث والشافعي: الحضر والصحراء واحد، لأن الآية تعم كل محارب.
(الثاني) : أن يكون معهم سلاح، ولو بالعصي والحجارة.
(الثالث) : أن يجاهروا، فإن أخذو مختفين فهم سراق، وإن اختطفوا وهربوا فهم منتهبون لا قطع عليهم. وحكم الردء حكم المباشر، وبه قال مالك.
والنفي: أن يترك لا يأوي إلى بلد، وعنه: نفيه: تعزيره بما يردعه، وقيل:
__________
1 سورة المائدة آية: 33.
2 سورة المائدة آية: 34.(1/721)
نفيه حبسه، وقال ابن سريج: يحبسهم في غير بلدهم، وهذا مثل قول مالك، لأن تشريدهم يخرجهم إلى قطع الطريق.
ومن أريدت نفسه أو حرمته أو ماله فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يكون، فإن لم يحصل إلا بالقتل فله ذلك، ولا شيء عليه. وإن قُتل كان شهيداً.
وهل يلزمه الدفع عن نفسه؟ على روايتين.
قال ابن سيرين: ما أعلم أحداً ترك قتال الحرورية واللصوص تأثماً، إلا أن يجبن. ويلزمه الدفع عن حرمته ولا يلزمه عن ماله. فإن أريدت نفسه فالأولى في الفتنة ترك الدفع، ولغيره الدفع عنه، لقوله: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" 1.
__________
1 البخاري: المظالم والغصب (2443) , والترمذي: الفتن (2255) , وأحمد (3/99, 3/201) .(1/722)
باب قتال أهل البغي
الأصل فيه: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية. 1 من اتفق المسلمون على إمامته ثبتت إمامته ووجبت معونته، وفي معناه: من ثبتت إمامته بعهد من إمام قبله، وكذلك لو خرج رجل فقهر الناس حتى بايعوه صار إماماً، يحرم الخروج عليه، كعبد الملك بن مروان؛ فيدخل في عموم قوله: "من خرج على أمتي وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف" 2.
ومن هنا إلى كتاب الأطعمة من "الإنصاف":
لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه. واختار الشيخ أنه لا يجوز إلا بقرينة، كتطلب الإمام له ليقتله. وقال: إن عصى الرقيق علانية، أقام السيد عليه الحد، وإن عصى سراً فينبغي أن لا يجب إقامته، بل يخير بين ستره واستتابته بحسب المصلحة. وقال: إن تعدى أهل مكة على الركب، دفعوا عن أنفسهم كما يدفع الصائل، ولغيرهم أن يدفع معهم، بل قد يجب إن احتيج إليه. وتردَّد في الأشهر الحرم، هل تعصم شيئا من الحدود والجنايات؟ واختار ابن القيم في الهدي: أنها تعصم، وفيه: أن الطائفة الممتنعة بالحرم من مبايعة الإمام لا تقاتل.
__________
1 سورة الحجرات آية: 9.
2 مسلم: الإمارة (1848) , والنسائي: تحريم الدم (4114) , وابن ماجة: الفتن (3948) , وأحمد (2/296, 2/306, 2/488) .(1/723)
وإن وطيء ذات محرم، فقال أحمد: يقتل ويؤخذ ماله، لخبر البراء، قيل له: فالمرأة؟ قال: كلاهما في معنى واحد. قوله: أو وطئ في نكاح مجمع على بطلانه، وإن جهل البطلان فلا حد عليه.
وإن حملت من لا زوج لها ولا سيد، لم تحد بمجرده. وعنه: تحد إذا لم تدّع شبهة، اختاره الشيخ. قوله: وهل حد القذف حق لله ... إلخ؟ وحكى الشيخ الإجماع: أنه لا يجوز أن يعرض له إلا بطلب.
واختار وجوب الحد بأكل الحشيشة سكر أو لم يسكر، وضررها من بعض الوجوه أعظم من ضرر الخمر، وإنما حدث أكلها في آخر المائة السادسة أو قريباً منها مع ظهور سيف جنكس خان. قوله: حده ثمانون، وعنه: أربعون، وجوز الشيخ الثمانين للمصلحة. قال: ويقتل الشارب في الرابعة عند الحاجة إلى قتله، إذا لم ينته الناس بدونه. وإن أكره على شربها حل له، قال الشيخ: يرخص أكثر العلماء فيما يكره عليه من المحرمات لحق الله، كأكل الميتة وشرب الخمر، وقال: يحد بالرائحة إذا لم يدَّع شبهة. وقال: لا نزاع بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيراً بليغاً.
وقال في الخلوة بأجنبية، واتخاذ الطواف بالصخرة ديناً، وقول: انذروا لي، واستعينوا بي: إن أصرّ ولم يتب قُتل.
وعن أحمد: لا يشترط في القطع مطالبة المسروق منه بالمال، اختارها الشيخ. وقال: الخوارج يقتلون ابتداء، ويجهز على جريحهم، وقال: جمهور العلماء: يفرقون بينهم وبين البغاة المتأولين، وهو المعروف عن الصحابة؛ وعليه عامة الفقهاء. وإن أظهر قوم رأي الخوارج لم يتعرض لهم. وعنه: الحرورية إذا دعوا إلى ما هم عليه فقاتلْهم.(1/724)
وسئل عن: قتل الجهمي؟ فقال: أرى قتل الداعية منهم، وقال مالك: عمرو بن عبيد يستتاب، فإن تاب وإلا قُتل. قال أحمد: أرى ذلك إذا جحد العلم، وكان عمرو لا يقر بالعلم، وهذا كافر.
وقال الشيخ: أجمعوا على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة متواترة من شرائع الإسلام، يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله، كالمحاربين وأولى. وقال: الرافضة شر من الخوارج اتفاقاً. وقال: في قتل الواحد منهما ونحوهما وكفره روايتان، والصحيح جواز قتله كالداعية ونحوه، وقال: مذهب الأئمة أحمد وغيره: التفصيل بين النوع والعين.
قوله: وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة ... إلخ، قال الشيخ: إن جهل قدر ما نهبه كل طائفة من الأخرى تساوتا، كمن جهل قدر المحرّم من ماله أخرج نصفه، والباقي له.
قوله: من أشرك بالله ... إلخ، قال الشيخ: أو كان مبغضاً لرسوله أو لما جاء به، اتفاقاً، أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، إجماعاً. قوله: وما أتلفه من شيء ضمنه، وعنه: إن فعله في دار الحرب أو في جماعة مرتدة ممتنعة لا يضمن، اختاره الشيخ. وقال: التنجيم كالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، من السحر، ويحرم إجماعاً. وأقرَّ أولهم وآخرهم أن الله يدفع عن أهل العبادة والدعاء ببركة ما زعموا أن الأفلاك توجبه، وأن لهم من ثواب الدارين ما لا تقوى الأفلاك أن تجلبه.(1/725)
كتاب الأطعمة
الأصل فيها: الحل، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} 1.
يحل كل طعام طاهر لا مضرة فيه، من الحبوب والثمار. والحيوانات مباحة، لعموم النصوص، إلا الحمر الأهلية. قال أحمد: خمسة وعشرون من الصحابة كرهوها، قال ابن عبد البر: لا خلاف اليوم في تحريمها، وحكي عن ابن عباس وعائشة "أن ما خلا المذكور في قوله: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الآية، 2 فهو حلال". وألبان الحمر محرمة في قول الأكثر، ورخص فيها عطاء وطاووس.
وما له ناب يفترس به، كالذئب والكلب والسنور، إلا الضبع، حرام في قول الأكثر، ورخص في ذلك الشعبي وبعض أصحاب مالك، لعموم الآية. ولنا: قوله "أكل كل ذي ناب من السباع حرام". 3 وقال أبو ثعلبة: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع". 4 متفق عليه. قال ابن عبد البر: هذا نص صريح يخص العموم. وقال: لا أعلم خلافاً في أن القرد لا يؤكل، ولا يجوز بيعه، وما له مخلب من الطير يصيد به، في قول الأكثر. وقال مالك والليث: لا يحرم من الطير شيء، واحتجوا بعموم الآية، وقول أبي الدرداء وابن عباس: "ما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه".
__________
1 سورة البقرة آية: 29.
2 سورة الأنعام آية: 145.
3 البخاري: الذبائح والصيد (5527) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1932) , والترمذي: الأطعمة (1477) والسير (1560) , والنسائي: الصيد والذبائح (4325, 4326, 4342) , وأبو داود: الأطعمة (3802) , وابن ماجة: الصيد (3232) , وأحمد (4/193, 4/194, 4/195) ، ومالك: الصيد (1075) , والدارمي: الأضاحي (1980, 1981) .
4 البخاري: الذبائح والصيد (5527) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1932, 1936) , والترمذي: الأطعمة (1477) والسير (1560) , والنسائي: الصيد والذبائح (4325, 4326, 4342) , وأبو داود: الأطعمة (3802) , وابن ماجة: الصيد (3232) , وأحمد (4/193, 4/194، 4/195) ، ومالك: الصيد (1075) , والدارمي: الأضاحي (1980, 1981) .(1/726)
ولنا: "نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير"، رواه أبو داود. والخمس الفواسق محرمة: الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور، "لأنه أباح قتلها في الحرم". ولا يجوز قتل الصيد المأكول فيه، ولأن ما يجوز أكله لا يقتل إذا قدر عليه بل يذبح، وما يأكل الجيف كالنسر والرخم. وسئل أحمد عن: العقعق؟ فقال: إن لم يكن يأكل الجيف فلا بأس به، وما يستخبث كالقنفذ والحية والحشرات، ورخص الشافعي في القنفذ. ولنا: قوله: "هو خبيثة من الخبائث". 1 رواه أبو داود.
وما استطابته العرب فهو حلال، وما استخبثته فهو حرام، قال ابن عبد البر: الوزغ مجمع على تحريمه، وفي الثعلب والوبر وسنور البر واليربوع روايتان. والفيل محرم لأن له ناباً، والضبع مباحة، وحرمها مالك لأنها سبع. ولنا: حديث جابر: "أمرنا بأكل الضبع"، 2 قلت: صيد؟ قال: نعم. احتج به أحمد، وصححه الترمذي. قال ابن عبد البر: لا يعارض حديث النهي عن كل ذي ناب، لأنه أصح منه. قلنا: هذا تخصيص لا معارض ولا يعتبر ما ذكر في التخصيص لتخصيص عموم الكتاب بأخبار الآحاد.
والضب مباح في قول الأكثر، وقال أبو حنيفة: هو حرام، لنهيه عن أكل الضب، وهو حديث لا يثبت. و"أباحه قول عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة"، ولم يعرف عن صحابي خلافه، فيكون إجماعاً. وفي الهدهد والصرد روايتان.
وتحرم الجلالة التي أكثر علفها النجاسة، وبيضها ولبنها، وعنه: يكره ولا يحرم حتى تحبس. و"كان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثاً"، وقال عطاء: تحبس الناقة والبقرة أربعين يوماً.
__________
1 أبو داود: الأطعمة (3799) , وأحمد (2/381) .
2 الترمذي: الأطعمة (1791) , والنسائي: مناسك الحج (2836) والصيد والذبائح (4323) , وأبو داود: الأطعمة (3801) , وابن ماجة: المناسك (3085) والصيد (3236) , وأحمد (3/297, 3/318, 3/322) , والدارمي: المناسك (1941) .(1/727)
ومن اضطر إلى محرم أكل ما يسدّ رمقه، وهل له الشبع؟ على روايتين. ويجب الأكل على المضطر، وقيل: لا، لقصة عبد الله بن حذافة. وإذا اشتدت المخمصة في زمن مجاعة وعنده قدر كفايته من غير فضلة، لم يلزمه دفع ما معه ولو لم يضطر في تلك الحال، لأن هذا مفض إلى هلاك نفسه وعياله. وقد نهى الله عن الإلقاء باليد إلى التهلكة. ولا يجوز التداوي بشيء محرم.
و"من مرّ بثمر في شجرة لا حائط عليها ولا ناظر، فله أن يأكل منها، ولا يحمل"، وعنه: لا يحل إلا لحاجة. والأول قول عمر وابن عباس وغيرهما، لحديث عمرو بن شعيب، حسنه الترمذي. وأكثر الفقهاء على الثاني، ولنا: قول مَن سمينا من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف منهم. فإن كانت محوطة، لم يجز الدخول، قال ابن عباس: "إن كان عليها حائط، فهو حريم، فلا تأكل".
وفي الزرع وشرب لبن الماشية روايتان: إحداهما: يجوز، لحديث سمرة في الماشية، صححه الترمذي، وقال: العمل عليه عند بعض أهل العلم. والثانية: لا يجوز، لحديث عمر المتفق عليه: "لا يحلب أحد ماشية أحد إلا بإذنه" 1 الحديث. قال أحمد: أكره أكل الطين، ولا يصح فيه حديث، إلا أنه يضرّ بالبدن.
ويكره أكل البصل والثوم والكراث وكل ذي رائحة كريهة، لقوله: "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس، فإن أكله لم يقرب المسجد"، 2 وليس أكلها محرماً، لحديث أبي أيوب في الطعام الذي فيه الثوم، حسنه الترمذي. فإن أتى المسجد كره ولم يحرم، وعنه: يأثم، لأن ظاهر النهي التحريم.
ويجب على المسلم ضيافة المسلم الذي يجتاز به، يوماً وليلة، فإن أبى فللضيف طلبه به عند الحاكم. قال أحمد: الضيافة على المسلمين كل من نزل به ضيف، قيل: فإن ضاف الرجل ضيف كافر؟ قال النبي
__________
1 البخاري: في اللقطة (2435) , ومسلم: اللقطة (1726) , وأبو داود: الجهاد (2623) , وابن ماجة: التجارات (2302) , وأحمد (2/4, 2/6, 2/57) , ومالك: الجامع (1812) .
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (564) , والنسائي: المساجد (707) , وأحمد (3/374, 3/387) .(1/728)
صلى الله عليه وسلم: " الضيف حق واجب على كل مسلم". 1 وقال الشافعي: الضيف مستحب غير واجب، والواجب يوم وليلة، والكمال ثلاثة أيام. وقيل: الواجب: ثلاثة، ولا يأخذ شيئاً إلا بعلم أهله. وعنه: يأخذ بغير علمهم، لحديث عقبة بن عامر المتفق عليه، وفيه: "فإن لم يفعلوا، فخذوا منهم حق الضيف". 2 قال أحمد: هي مؤكدة، وكأنها على أهل القرى، فأما مثلنا الآن فكأنه ليس مثلهم، وذلك لأن أهل القرى ليس عادتهم بيع القوت. وكره أحمد الخبز الكبار، وقال: ليس فيه بركة. وذكر له حديث سلمان: "بركة الطعام الوضوء قبله وبعده"، فقال: ما حدث به إلا قيس بن الربيع، وهو منكر الحديث. قيل له: لِم كره سفيان غسل اليد عند الطعام؟ قال: لأنه من زي العجم، قيل: لِم كره سفيان أن يجعل الرغيف تحت القصعة؟ قال: كره أن يستعمل الطعام. قيل: "إن أسامة قدم إليهم خبزاً فكسره، قال: لئلا يعرفوا كم يأكلون. قيل: تكره الأكل متكئاً؟ قال: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا آكل متكئاً"؟ ولأبي داود عن ابن عمر: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل الرجل وهو منبطح" 3.
ويستحب التسمية عند الطعام والحمد عند آخره، ولأحمد عن أبي هريرة، مرفوعاً: "الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر"، 4 قال: معناه: إذا أكل وشرب يشكر الله ويحمده على ما رزقه. ولأبي داود عن عائشة مرفوعاً: "إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل: "بسم الله أوله وآخره". ويستحب الأكل بثلاث أصابع، لحديث كعب بن مالك: كان صلى الله عليه وسلم يأكل بثلاث أصابع. ولا يمسح يده حتى يلعقها". 5 رواه أحمد، وذكر له حديث: "يأكل بكفه كلها"، فلم يصححه ولم ير
__________
1 أبو داود: الأطعمة (3750) , وأحمد (4/132, 4/133) , والدارمي: الأطعمة (2037) .
2 البخاري: المظالم والغصب (2461) , ومسلم: اللقطة (1727) , والترمذي: السير (1589) , وأبو داود: الأطعمة (3752) , وابن ماجة: الأدب (3676) , وأحمد (4/149) .
3 أبو داود: الأطعمة (3774) , وابن ماجة: الأطعمة (3370) .
4 أحمد (2/289) .
5 الترمذي: الأطعمة (1858) , وأبو داود: الأطعمة (3767) , وابن ماجة: الأطعمة (3264) , وأحمد (6/143) , والدارمي: الأطعمة (2020) .(1/729)
إلا ثلاث أصابع. وسئل عن: حديث عائشة: "لا تقطعوا اللحم بالسكين"؟ 1 فقال: ليس بصحيح، وحديث عمرو بن أمية بخلافه: "كان يحتز من لحم الشاة، فقام إلى الصلاة وطرح السكين". 2 وسئل عن: حديث: "اكفف جشاءك! فإن أكثر الناس شبعاً اليوم أكثرهم جوعاً يوم القيامة"؟ فقال: ليس بصحيح. و"لم يكن صلى الله عليه وسلم ينفخ في طعام ولا شراب، ولا يتنفس في الإناء".
وسئل أحمد عن: غسل اليد بالنخالة؟ فقال: لا بأس به. وسئل عن: الرجل يأتي القوم وهم على طعام فجأة فدعوه، يأكل؟ قال: نعم، وما بأس. ولأبي داود عن جابر، مرفوعاً: "أثيبوا أخاكم. قيل: يا رسول الله، وما إثابته؟ قال: إن الرجل إذا دخل بيته وأكل طعامه وشرب شرابه، فادعوا له؛ فذلك إثابته" 3.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قوله: وما يأكل الجيف، وعنه: يكره. وجعل الشيخ روايتي الجلالة فيه، وقال: عامة أجوبة أحمد ليس فيها تحريم. وقال: إذا كان ما يأكلها من الدواب السباع فيه نزاع أو لم يحرموه، والخبر في الصحيحين، فمن الطير أولى.
قوله: وما يستخبث. قال الشيخ: وعند أحمد وقدماء الأصحاب لا أثر لاستخباث العرب وإن لم يحرمه الشرع حل، واختاره. وقال: أول من قال يحرم الخرقي، وإن مراده: ما يأكل الجيف، لأنه تبع الشافعي وهو حرّمه بهذه العلة. ويباح أكل دود الفاكهة معها. وعلل أحمد القنفذ بأنه بلغه أنه مسخ، أي لما مسخ على صورته دل على خبثه، قاله الشيخ. وقال أحمد عن تفتيش التمر المدوّد: لا بأس به إذا علمه. ويجوز أن يعلف النجاسة الحيوان
__________
1 الترمذي: الصوم (688) , والنسائي: الصيام (2130) .
2 البخاري: الوضوء (208) , ومسلم: الحيض (355) , والترمذي: الأطعمة (1836) , والدارمي: الطهارة (727) .
3 أبو داود: الأطعمة (3853) .(1/730)
الذي لا يذبح أو لا يحلب قريباً، واحتج أحمد بكسب الحجام، والذين عجنوا من آبار ثمود. وعن أحمد: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أذن القلب"، وكره أكل الغدة. وكره أحمد حباً ديس بالحمر. ويجب تقديم السؤال عن الأكل المحرم، وقال الشيخ: لا يجب ولا يأثم.
قوله: وإن لم يجد إلا طعاماً لم يبذل، فإن كان مالكه مضطراً فهو أحق به، وهل له الإيثار؟ ذكر في الهدي في غزوة الطائف: أنه يجوز، وأنه غاية الجود. قوله: وإلا لزمه بذله بقيمته. واختار الشيخ: يجب بذله مجاناً كالمنفعة.
والواجب للضيف كفايته، وأوجب الشيخ المعروف عادة، قال: كزوجة وقريب. قال: ومن امتنع من الطيبات بلا سبب شرعي، فمذموم مبتدع.(1/731)
باب الذكاة
لا يباح المقدور عليه بغير ذكاة، إلا الجراد وشبهه، وما لا يعيش إلا في الماء، وكره الطافي طاووس وغيره. ولنا: قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم} 1 قال ابن عباس: "طعامه ما مات فيه"، وما رواه أبو داود عن جابر، مرفوعاً: "ما مات فيه وطفا، فلا تأكلوه"، 2 فهو موقوف عليه، قاله أبو داود. وعن أحمد: لا يؤكل الجراد إلا أن يموت بسبب، وسهل أحمد في إلقاء الجراد في النار.
ويشترط للذكاة أربعة شروط:
(أحدها) : أهلية الذابح، وهو أن يكون عاقلاً، مسلماً أو كتابياً. وقال الشافعي: لا يعتبر العقل.
(الثاني) : الآلة، وهو أن يذبح بمحدود، من حديد أو حجر أو قصب أو غيره، إلا السن والظفر؛ فأما العظم غير السن، فمقتضى إطلاق أحمد والشافعي: أنه يجوز، وقال النخعي: لا يذكى بالعظم، لقوله: "أما السن فعظم".
(الثالث) : قطع الحلقوم والمريء، وعنه: والودجين؛ وبه قال مالك، لحديث أبي هريرة: "نهى عن شريطة الشيطان" 3 الحديث، وهو محمول على من لم يقطع المريء. ولا خلاف في استحباب نحر الإبل، وذبح ما سواها،
__________
1 سورة المائدة آية: 96.
2 أبو داود: الأطعمة (3815) , وابن ماجة: الصيد (3247) .
3 أبو داود: الضحايا (2826) , وأحمد (1/289) .(1/732)
قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ، 1 وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ؛ 2 فإن ذبح الإبل ونحر ما سواها أجزأ، في قول الأكثر. وحكي عن داود: لا يباح. وحكي عن مالك: لا يجزئ في الإبل إلا النحر. ولنا: قوله: "أمرر الدم بما شئت". وقال ابن المنذر: أجمعوا على إباحة ذبيحة المرأة والصبي.
فإن عجز عن الذكاة، مثل أن يند البعير، أو يتردى في بئر فلا يقدر على ذبحه، كالصيد إذا جرحه في أي موضع أمكن فقتله حل، إلا أن يموت بغيره، هذا قول الأكثر. وقال مالك: لا يحل إلا أن يذكَّى. قال أحمد: لعل مالكاً لم يسمع حديث رافع، وهو الذي فيه: "ما غلبكم فاصنعوا هكذا". متفق عليه. وإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت، وإن فعله عمداً فعلى وجهين: قيل: لا تؤكل، حكي عن مالك وإسحاق، وعنه: ما يدل على إباحتها مطلقاً، فإنه قال: "لو ضرب رأس بطة بالسيف أو شاة يريد بذلك الذبيحة، كان له أن يأكل". وروي عن علي وعمران بن حصين، وبه قال الثوري.
والمنخنقة والموقوذة ونحوها، وما أصابها مرض فماتت بذلك، فهي حرام، إلا أن تدرك ذكاتها، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} ؛ 3 فإن أدركها وفيها حياة مستقرة بحيث يمكن ذبحها، حلت لعموم الآية. قال ابن عباس في ذئب عدا على شاة فوضع قصبها بالأرض، فأدركها فذبحها بحجر، قال: "يلقي
__________
1 سورة الكوثر آية: 2.
2 سورة البقرة آية: 67.
3 سورة المائدة آية: 3.(1/733)
ما أصاب الأرض منها ويأكل سائرها"، قال أحمد: إذا مصعت بذنبها، وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو. وعنه: إذا شق الذئب بطنها وخرج قصبها لا يؤكل، وهذا قول أبي يوسف؛ والأول أصح، لعموم الآية، و"لأنه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل في حديث جارية كعب".
(الرابع) : أن يذكر اسم الله عز وجل عند الذبح فيقول: "بسم الله"، لا يقوم غيرها مقامها. وثبت "أنه صلى الله عليه وسلم يقول: بسم الله والله أكبر". ولا خلاف أن التسمية تجزئ. وإن سبح أو هلل أو كبر أو حمد، احتمل الإجزاء وعدمه. والأخرس يومئ برأسه إلى السماء، قال ابن المنذر: أجمعوا على إباحة ذبيحة الأخرس، يدل عليه حديث: "الأعجمية لما قال لها: أين الله؟ أشارت برأسها إلى السماء ". قال ابن المنذر: ولا أعلم أحداً كره ذبيحة الجنب.
فإن ترك التسمية عمدًا لم تبَح، وإن تركها ساهياً أبيحت، وعنه: لا تباح، وعنه: تباح في الحالين. المشهور عن أحمد: "أنها شرط، تسقط بالسهو". روي عن ابن عباس؛ وبه قال مالك وإسحاق والثوري، وعنه: ليست شرطاً في عمد ولا سهو، وبه قال الشافعي. قال أحمد: "إنما قال الله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ} ، 1 يعني: الميتة"، وذكر ذلك عن ابن عباس. وعنه: تجب في العمد والسهو، للآية، وهي محمولة على العمد، لقوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} . 2وإن لم يعلم أسمّى الذابح أم لا، فهي حلال.
وذكاة الجنين ذكاة أمه إذا خرج ميتا أو تحرك حركة المذبوح، وإن
__________
1 سورة الأنعام آية: 121.
2 سورة الأنعام آية: 121.(1/734)
كان فيه حياة مستقرة لم يبح إلا بذبحه، أشعر أو لا. قال ابن المنذر: كان الناس على إباحته، لا نعلم أحداً خالف ما قالوا، إلى أن جاء النعمان فقال: لا يحل، لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة لنفسين. و"استحب أحمد ذبحه إذا خرج ميتاً ليخرج الدم الذي في جوفه"، وذكر ذلك عن ابن عمر. ويستحب أن يستقبل بها القبلة. و"كره ابن عمر أكل ما ذبح لغير القبلة"، والأكثرون على أنه لا يكره. ويكره الذبح بآلة كالّة، لقوله: "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" 1 الحديث. ويكره أن تحد السكين والحيوان يبصره، "ورأى ابن عمر رجلاً وضع رجله على شاة وهو يحد السكين، فضربه". ويكره أن يذبح شاة والأخرى تنظر إليه، وأن يكسر العنق أو يسلخ حتى تبرد. قال عمر: "لا تعجلوا الأنفس حتى تزهق". قال البخاري: قال ابن عمر وابن عباس: "إذا قطع الرأس فلا بأس به، فأما إن قطع شيئاً من الحيوان وفيه حياة مستقرة، فهو ميتة".
قال أحمد: لا تؤكل المصبورة ولا المجثومة التي يجعل فيها الروح غرضاً، والمصبورة مثله، إلا أن المجثومة لا تكون إلا في الطائر والأرنب وشبهها. ومن ذبح حيواناً فوجد في بطنه جراداً لم يحرم، وعنه: يحرم، وقال في موضع آخر: "رخص أبو بكر الصديق في الطافي"، وهذا أشد، يعني: الجراد.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
ذكر الشيخ: لو لم يقصد الأكل، أو قصد حل ميتة، لم يبح، نقل صالح وجماعة اعتبار إرادة التذكية. وقال الشيخ: "كل من تديّن بدين أهل الكتاب فهو منهم، سواء كان أبوه أو جده قد دخل في دينهم أو لا، وسواء كان دخوله
__________
1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) , والترمذي: الديات (1409) , والنسائي: الضحايا (4405, 4411, 4412, 4413, 4414) , وأبو داود: الضحايا (2815) , وابن ماجة: الذبائح (3170) , وأحمد (4/123, 4/124, 4/125) , والدارمي: الأضاحي (1970) .(1/735)
بعد النسخ والتبديل أو قبله"، وهو المنصوص عن أحمد، وهو الثابت عن الصحابة بلا نزاع بينهم. وذكر الطحاوي أنه إجماع قديم. وقال ابن القيم بعد ذكر قوله: "ليس السن والظفر": هذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام، إما لنجاسة بعينها وإما لتنجيسه على مؤمني الجن. وذكر الشيخ وجهاً: يكفي قطع ثلاثة من الأربعة، وقال: إنه الأقوى. وسئل: عمن قطع الحلقوم والودجين لكن فوق الجوزة؟ فقال: هذه فيها نزاع، والصحيح: أنها تحل.
وقال بعد ذكر كلامهم في شروط تذكية المريضة ونحوها: الأظهر أنه لا يشترط شيء من هذه الأقوال، بل متى ذبح فخرج الدم الأحمر الذي يخرج من المذكى في العادة ليس هو دم الميت، فإنه يحل أكله وإن لم يتحرك. وقال في موضع آخر: يحل إذا ذكّي قبل موته. وقال: الإحسان واجب على كل حال حتى في حال إزهاق النفوس، ناطقها وبهيمها. وقال: تحرم ذبيحة الكتابي إذا ذبحها لغير الله.(1/736)
كتاب الصيد
الأصل في إباحته: الكتاب والسنة والإجماع. من صاد صيداً فأدركه حياً حياة مستقرة، لم يحل إلا بالذكاة. فإن كان الزمان لا يتسع لذكاته فمات، حلَّ، قال قتادة: يأكله ما لم يتوانَ في ذكاته أو يتركه عمداً. وقال أبو حنيفة: لا يحل، فإن لم يجد ما يذكيه به أرسل الصائد له حتى يقتله. وعنه: لا يحل، وهو قول الأكثر. وإن أدركه متحركاً كحركة المذبوح، لم يحتج إلى ذكاة.
ومتى أدركه ميتاً [حلَّ] 1 بشروط أربعة:
(أحدها) : أن يكون من أهل الذكاة، وما لا يفتقر إلى ذكاة كالحوت والجراد فيباح إذا صاده من لا تحل ذبيحته، إجماعاً، إلا أن مالكاً والليث وأبا ثور شذوا في الجراد. فلم ير أكله إذا صاده المجوسي: مالك والليث، وأباح أبو ثور صيد المجوسي وذبيحته. وإن أرسل كلبه المعلّم فاسترسل معه معلم آخر بنفسه، لم يحل في قول الأكثر.
(الثاني) : الآلة، وهي نوعان: محدود، فيشترط له ما يشترط لآلة الذكاة، ولا بد أن يجرحه. فإن [قتله] 2 بثقله لم يبح، لأنه وقيذ. وإن صاد
__________
1 من النسخة الخطية.
2 من النسخة الخطية.(1/737)
بالمعراض، أكل ما قتل بحده دون عرضه. المعراض: عود محدد ربما جعل في رأسه حديدة. وقال الأوزاعي وأهل الشام: يباح ما قتل بحده وعرضه. ولنا: حديث عدي، متفق عليه. وإن رمى صيداً فغاب، ثم وجده ميتاً لا أثر به غير سهمه، حلّ. وعنه: إن كان الجراح موجبة حل، وإلا فلا. وعنه: إن وجده من يومه حل، وإلا فلا. وكره الثوري أكل ما غاب لأن ابن عباس قال: "كل ما أصميت، وما أنميت فلا تأكل". الإصماء: أن يموت في الحال، والإنماء: أن يغيب عنك. ولنا: حديث عدي، متفق عليه. وإن ضربه فأبان منه عضواً وبقيته فيه حياة مستقرة، لم يبح ما أبان منه، وإن بقي معلقا بجلده حل. وإن أبانه ومات في الحال، حلّ الجميع. قال أحمد: قوله: " ما أبين من حيّ فهو كميته ": 1 إذا قطعت وهي حيّة تمشي وتذهب.
النوع الثاني: الجارحة، فيباح ما قتلته إذا كانت معلّمة، إلا الكلب الأسود البهيم، والبهيم: الذي لا يخالط لونه سواد. قال أحمد: ما أعلم أحداً يرخص فيه، يعني: من السلف. وأباح صيده: مالك والشافعي، لعموم الآية والخبر. ولنا: أنه محرم اقتناؤه وتعليمه، فلم يبَح.
والذي يصيد بنابه، تعليمه: أن يسترسل إذا أُرسل وينزجر إذا زُجر، وإذا أُرسل لم يأكل. وعن مالك: لا يشترط الأكل، لحديث أبي ثعلبة: "إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله عليه، فكُلْ، وإن أكل ". 2 رواه أبو داود. ولنا: حديث عدي، وهو أولى لأنه أصح. والانزجار إنما يعتبر قبل إرساله على الصيد أو رؤيته، أما بعد ذلك فلا يعتبر. قال شيخنا: ولا أحسب هذه الخصال تعتبر في غير الكلب، لأن الفهد لا يكاد يجيب داعياً وإن عد متعلماً، فيكون التعليم في حقه بما يعدّه أهل العرف معلماً. "فإن أكل بعد تعلّمه لم يبَح
__________
1 ابن ماجة: الصيد (3217) .
2 البخاري: الوضوء (175) والبيوع (2054) والذبائح والصيد (5475, 5476, 5477, 5483, 5485, 5486, 5487) والتوحيد (7397) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1465, 1469, 1470, 1471) , والنسائي: الصيد والذبائح (4263, 4264, 4265 4267، 4268، 4269، 4270، 4272، 4273، 4274، 4275) ، وأبو داود: الصيد (2847) , وابن ماجة: الصيد (3208, 3212, 3213, 3214, 3215) , وأحمد (4/256, 4/257, 4/258, 4/376, 4/379, 4/380) , والدارمي: الصيد (2002) .(1/738)
ما أكل منه"، فيروى عن ابن عباس وغيره. وعنه: "يحل"، روي عن ابن عمر وغيره، وبه قال مالك، لعموم الآية. والآية لا تتناول هذا، لأنه أمسك على نفسه، وحديث أبي ثعلبة قال أحمد: يختلفون عن هشيم فيه، وقال: حديث الشعبي هذا أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: حديث عدي. الشعبي يقول: كان جاري وربيطي فحدثني. وإن شرب من دمه لم يحرم، وكرهه الثوري. ولنا: عموم الآية والأخبار. وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم وجوارح الطير حكمه حكم الكلب، وحكي عن ابن عمر: "لا يجوز الصيد إلا بالكلب لقوله: {مُكَلِّبِينَ} ". ولنا: أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن: صيد البازي؟ فقال: "إذا أمسك عليك، فكلْ". 1 والجوارح في الآية: الكواسب، قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} ، 2 والتكليب: الإغراء. ولا يعتبر في الطير ترك الأكل، وقال الشافعي: يعتبر. ولنا: إجماع الصحابة، فذكرنا "عن أربعة منهم إباحة ما أكل [منه] 3 الكلب، وخالفهم ابن عباس في الكلب ووافقهم في الصقر قال: لأنك تستطيع أن تضرب الكلب، ولا تستطيع أن تضرب الصقر"، ولم ينقل عن أحد في عصرهم خلافهم. وحديث مجالد: "إن أكل الكلب والبازي فلا تأكل"، فمجالد ضعيف، قال أحمد: كم من أعجوبة لمجالد! ولا بد أن يجرح. وقال الشافعي: يباح، لعموم الآية والخبر. ولنا: أن الله حرم الموقوذة، وقوله: "ما أنهر الدم". وهل يجب غسل ما أصاب فم الكلب؟ على وجهين.
__________
1 البخاري: الذبائح والصيد (5475) , ومسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1929) , والترمذي: الصيد (1465, 1469, 1470, 1471) , والنسائي: الصيد والذبائح (4263, 4264, 4265, 4267, 4268, 4269, 4270, 4272, 4273, 4274, 4275) , وأبو داود: الصيد (2847, 2848، 2849، 2850، 2851، 2853، 2854) ، وابن ماجة: الكفارات (2113) والصيد (3208, 3212, 3214, 3215) , وأحمد (4/256, 4/257, 4/376, 4/377, 4/378) , والدارمي: الصيد (2002) .
2 سورة الأنعام آية: 60.
3 زيادة من المخطوطة.(1/739)
(الثالث) : أن يرسل الآلة، فإن استرسل بنفسه لم يبح وإن زجره، إلا أن يزيد عَدْوَه بزجره فيحل، وبه قال مالك والشافعي. وقال الأوزاعي: يؤكل إذا جرح. وقال إسحاق: يؤكل إذا سمى عند انفلاته. ولنا: قوله: "إذا أرسلت كلبك".
(الرابع) : التسمية، وهي شرط لإباحة الصيد، ولا تسقط سهواً؛ وهو قول الشعبي وأبي ثور. وأباحه مالك مع النسيان، وعنه: إن نسي على السهم أبيح دون الجارحة. وكره الشيخ الرمي بالنبل، لـ"نهي عثمان عنها"، قاله في الإنصاف.(1/740)
كتاب الأيمان
الأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. لا تصح اليمين من غير مكلف، ولا تنعقد يمين مكره، وبه قال مالك والشافعي. وتصح من كافر، وتلزمه الكفارة بالحنث. وقال الثوري: لا تنعقد. ولنا: "أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف فأمر بالوفاء به"، ولأنه من أهل القسم، لقوله: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} 1.
والأيمان خمسة:
(أحدها) : واجب، وهي التي ينجي بها إنساناً معصوماً من هلكة.
(والثاني) : مندوب، وهو ما تعلق به مصلحة من إصلاح أو دفع شر.
(الثالث) : المباح، مثل الحلف على فعل مباح أو تركه.
(الرابع) : مكروه، [وهو الحلف على مكروه] ، 2 وتركه مندوب، لقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} الآية. 3 والحلف في البيع والشراء، لقوله: "الحلف مَنْفَقَة للسلعة ... إلخ" 4.
(الخامس) : المحرّم، وهو الحلف الكاذب. ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرّم حرم حلّها. وإن كانت على مندوب كره. وإن كانت على مباح فيباح. فإن قيل: كيف يباح وقد قال تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا
__________
1 سورة المائدة الآية رقم: 106.
2 زيادة من المخطوطة.
3 سورة البقرة آية: 224.
4 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235, 2/242, 2/413) .(1/741)
الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ؟ 1 قلنا: هذا في الأيمان في العهود والمواثيق، بدليل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} 2 - إلى قوله - {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . 3 والعهد يجب الوفاء به بغير يمين، فمع اليمين أولى، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} ، 4 وقال: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، 5 ولهذا نهى عن نقض اليمين، والنهي يقتضي التحريم، وذمهم عليه، ومثّله بالتي نقضت غزلها. ولا خلاف أن الحل المختلف فيه لا يدخله شيء من هذا.
وإن كانت على فعل مكروه أو ترك مندوب فحلها مندوب، لقوله: "إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً، فكفِّر ... إلخ". 6 وإن كانت على فعل محرم أو ترك واجب، وجب حلها.
واليمين التي تجب بها الكفارة هي اليمين بالله، أو صفة من صفاته. ولا نعلم خلافاً في وجوب الكفارة إذا حلف باسم الله لا يسمَّى به سواه، وأما ما يسمَّى به غيره وإطلاقه ينصرف إلى الله، كالعظيم والرحيم والرب والمولى، فإن نوى اسم الله أو أطلق كان يميناً؛ وهذا مذهب الشافعي. وأما ما لا يعدّ من أسمائه، كالعالم والشاكر، فإن لم ينو به الله أو نوى غيره لم يكن يميناً، وإن نواه كان يميناً. فيختلف هذا والذي قبله في الإطلاق: ففي الأول يكون يميناً، وفي الثاني لا يكون. وقال الشافعي في هذا القسم: لا يكون يميناً وإن قصد به الله. وإن قال: "وحق الله"، فهي يمين مكفرة، وبه قال مالك
__________
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة النحل آية: 91.
3 سورة النحل آية: 92.
4 سورة النحل آية: 91.
5 سورة المائدة الآية رقم: 1.
6 البخاري: الأيمان والنذور (6622) , ومسلم: الأيمان (1652) , والترمذي: النذور والأيمان (1529) , والنسائي: الأيمان والنذور (3782, 3783, 3784) وآداب القضاة (5384) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2929) والأيمان والنذور (3277) , وأحمد (5/61, 5/62, 5/63) ، والدارمي: النذور والأيمان (2346) .(1/742)
والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا، وحق الله: طاعته. ولنا: أن له حقوقاً يستحقها لنفسه، من البقاء والعظمة والجلال. وقد اقترن العرف بالحلف بها، فينصرف إلى صفة الله. وإن قال: "وعهد الله" فيمين، وبه قال مالك. وقال ابن المنذر: لا، إلا بالنية. وقال أبو حنيفة: ليس بيمين. ولنا: أن عهد الله يحتمل كلامه الذي هو صفته، وقد ثبت له عرف الاستعمال. وإن قال: "وأمانة الله: فيمين، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا تنعقد إلا أن ينوي صفة الله، لأنها تطلق على الفرائض والودائع والحقوق. ولنا: أن أمانة الله صفة من صفاته.
والقسم بالصفات ينقسم كالقسم بالأسماء، ثلاثة أقسام:
(أحدها) : ما لا يحتمل غير الذات، كعزة الله وعظمته وجلاله، فتنعقد بها اليمين، في قولهم جميعاً. وورد القسم بها، كقول الخارج من النار: "وعزّتك لا أسأل غيرها"، 1 وفي القرآن: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 2.
(الثاني) : صفة للذات، إلا أنه يعبر به عن غيرها، كعلم الله وقدرته، كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا، اللهم أريتنا قدرتك فأرنا عفوك. فالقسم بهذا يمين. وقال أبو حنيفة: إذا قال: "وعلْم الله" ليس يمينا.
(الثالث) : ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله، لكن ينصرف بإضافته إليه لفظاً أو نية، كالعهد والميثاق والأمانة، فلا يكون يميناً إلا بإضافته أو نيته. ويكره الحلف بالأمانة، لقوله: "من حلف بالأمانة فليس منّا". 3 رواه أبو داود.
وإن قال: "لعمرو الله" كان يميناً، وقال الشافعي: لا، إلا أن يقصد اليمين،
__________
1 البخاري: الأذان (806) , ومسلم: الإيمان (182, 183, 185, 194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) وتفسير القرآن (3148) , والنسائي: التطبيق (1140) , وابن ماجة: الزهد (4280, 4309) , وأحمد (2/275, 3/5, 3/11, 3/20, 3/25, 3/48, 3/56, 3/77, 3/90، 3/94) ، والدارمي: الرقاق (2801, 2803, 2817) .
2 سورة ص آية: 82.
3 أبو داود: الأيمان والنذور (3253) , وأحمد (5/352) .(1/743)
لأنها لا تكون يميناً إلا بتقدير خبر محذوف، كأنه قال: "لعمرو الله ما أقسم به" فيكون مجازاً، والمجاز لا ينصرف إليه الإطلاق. ولنا: أنه أقسم بصفة، وقيل: معناه: "وحق الله". وإن قال: "لعمري"، أو "لعمرك" فليس بيمين، في قول الأكثر. وقال الحسن: في قول: "لعمري" كفارة.
وإن حلف بكلام الله أو بالمصحف أو بالقرآن، فيمين فيها كفارة واحدة، وعنه: بكل آية كفارة. وكان قتادة يحلف بالمصحف، ولم يكرهه أحمد وإسحاق، لأنه قصد الحلف بالمكتوب فيه. وإن قال: "أحلف بالله" أو "أشهد بالله" أو "أقسم لله" أو "أعزم بالله" كان يميناً، لا نعلم فيه خلافاً؛ قال الله: {فيقسمان بالله} ، 1 ويقول الملاعن: "أشهد بالله". وإن لم يذكر اسم الله لم يكن يميناً، وعنه: يكون يمينا. وقال الشافعي: ليس بيمين وإن نوى. ولنا: قوله لأبي بكر: "لا تقسم بالله"، لما قال: أقسمت عليك".
وحروف القسم ثلاثة:
(الباء) : وتدخل على المظهر والمضمر، كقولك: "بالله وبك".
و (الواو) : وتدخل على المظهر خاصة.
و (التاء) : وتختص باسم الله دون سائر الأسماء الحسنى.
ويجوز القسم بغير حرف، كقوله: الله لأفعلنَّ، بالجر والنصب، وكذا بالرفع، إلا أن يكون من أهل العربية ولا ينوي. وإن قال: "لاها الله"، ونوى اليمين كان يميناً، لقول أبي بكر في سلب أبي قتادة. ويكره [الحلف] 2 بغير الله، ويحتمل أن يكون محرماً. قال ابن عبد البر: هذا أمر مجمع عليه. وقيل: يجوز لأن الله أقسم بمخلوقاته، وقوله: "أفلح وأبيه، إن صدق"، 3 وقوله في حديث أبي العشراء: "وأبيك، لو طعنت
__________
1 سورة المائدة آية: 106.
2 من المخطوطة.
3 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) والأيمان والنذور (3252) , وأحمد (1/162) , ومالك: النداء للصلاة (425) , والدارمي: الصلاة (1578) .(1/744)
في فخذها أجزأك". 1 ولنا: قوله: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت". 2 متفق عليه. وعن ابن عمر، مرفوعاً: " من حلف بغير الله فقد أشرك". 3 حسّنه الترمذي. فأما قسم الله فله أن يقسم بما شاء ولا وجه للقياس. وأما قوله: "أفلح وأبيه"، فقال ابن عبد البر: هذه لفظة غير محفوظة من وجه صحيح. وحديث أبي العشراء، قال أحمد: لو كان يثبت، يعني: أنه لم يثبت. والحلف بغير الله تعظيم يشبه تعظيم الرب تبارك وتعالى، ولهذا سمي شركاً.
ويشترط لوجوب الكفارة ثلاثة شروط:
(أحدها) : أن [تكون] 4 اليمين منعقدة، وهي التي يمكن فيها البر والحنث. قال ابن عبد البر: اليمين التي فيها الكفارة بالإجماع التي على المستقبل، كمن حلف ليضربنّ غلامه أو لا يضربه. وذهبت طائفة إلى أن الحنث إذا كان طاعة لا يوجب الكفارة. وقال قوم: من حلف على فعل معصية فتركُها كفّارتها، قال سعيد بن جبير: اللغو: أن يحلف على ما لا ينبغي، يعني: لا كفارة. ولأبي داود من حديث عمرو بن شعيب، وفيه: "تركها كفّارتها"، ولنا: قوله: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيراَ منها، فليأت الذي هو خير، وليكفِّر"، 5 وحديث أبي موسى أخرجه البخاري. وحديثهم لا يعارض، لأن أحاديثنا أصح وأثبت. ويحتمل أن تركها كفارة لإثم الحلف.
واليمين الغموس لا كفارة لها، في قول الأكثر. فإن حلف على غيره فأحنثه، فالكفارة على الحالف. وإن قال: "أسألك بالله لتفعلنّ" وأراد اليمين فيمين، وإن أراد الشفاعة فليس بيمين.
__________
1 الترمذي: الأطعمة (1481) , والنسائي: الضحايا (4408) , وأبو داود: الضحايا (2825) , وابن ماجة: الذبائح (3184) , وأحمد (4/334) , والدارمي: الأضاحي (1972) .
2 البخاري: الأيمان والنذور (6646) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1533, 1534, 1535) , والنسائي: الأيمان والنذور (3766, 3767, 3768) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وابن ماجة: الكفارات (2094) , وأحمد (2/7, 2/8, 2/11, 2/17, 2/20، 2/34، 2/69، 2/76، 2/86، 2/98، 2/125، 2/142) ، ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341) .
3 سنن الترمذي: كتاب النذور والأيمان (1535) , وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور (3251) , ومسند أحمد (2/67, 2/69, 2/86, 2/125) .
4 من المخطوطة.
مسلم: الأيمان (1650) , والترمذي: النذور والأيمان (1530) , ومالك: النذور والأيمان (1034) .(1/745)
ولغو اليمين: أن يحلف على شيء يظنه فيبين بخلافه، وأكثر أهل العلم على عدم الكفارة، وعنه: ليس من اللغو، وفيه الكفارة. قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن لغو اليمين لا كفارة فيه.
(الثاني) : أن يكون مختاراً لا مكرهاً، وبه قال مالك والشافعي. وإن سبقت اليمين على لسانه لا يعقد عليها قلبه، فلا كفارة، وممن قال: "إنها لغو اليمين": عمر وعائشة وغيرها.
(الثالث) : أن يفعل أو يترك ما حلف على فعله أو تركه ذاكراً، فإن نسي فلا كفارة، وعنه: بلى. وظاهر المذهب: الأولى، إلا في الطلاق والعتاق، وعنه: لا يحنث فيهما أيضاً. وهو قول عطاء وإسحاق وظاهر مذهب الشافعي. والجاهل كالناسي.
فإن حلف فقال: "إن شاء الله" لم يحنث إذا اتصل باليمين، وبه قال مالك وغيره. وعنه: يجوز إن لم يطل الفصل، لقوله: "والله لأغزونّ قريشاً، ثم سكت. ثم قال: إن شاء الله". 1 وعن الحسن وعطاء: [يصح] 2 ما دام في المجلس. ويشترط أن يستثني بلسانه، لا نعلم فيه خلافاً.
ويشترط: قصد الاستثناء، وهو مذهب الشافعي، ويصح في كل يمين مكفرة، كالظهار والنذر.
و"إن حرَّم أمته أو شيئاً من الحلال، لم يحرم، وعليه كفارة يمين"، يروى عن أبي بكر وعمر وغيرهما. وقال مالك والشافعي: لا كفارة عليه. ولنا: قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآيتين. 3 وإن قال: هو
__________
1 أبو داود: الأيمان والنذور (3285) .
2 من المخطوطة.
3 سورة التحريم آية: 1.(1/746)
يهودي أو بريء من الإسلام أو النبي إن فعل، فقد فعل محرّماً، لقوله: "من حلف على ملة غير الإسلام كاذباً متعمداً، فهو كما قال"، 1 وفي لفظ: "وإن كان صادقاً، لم يرجع إلى الإسلام سالماً"، 2 وعليه كفارة إن فعل، وعنه: لا كفارة؛ وهو قول مالك والشافعي. وإن قال: عليَّ نذر أو يمين إن فعلت كذا، فعليه كفارة، لقوله: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين ". 3 صححه الترمذي.
والكفارة تجمع تخييراً وترتيباً: فالتخيير: بين الإطعام والكسوة والتحرير. فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة قبل الحنث أو بعده. وعنه: لا يشترط التتابع، لأنه لم يذكر؛ والأول ظاهر المذهب، لأن في قراءة أبيّ وابن مسعود "ثلاثة أيام متتابعات"، وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ قبل [الحنث] . 4 والأول قول أكثر أهل العلم، روي عن عمر وابنه وغيرهما. قال ابن عبد البر: العجب من أصحاب أبي حنيفة، أجازوا تقديم الزكاة من غير أن يرووا فيها مثل هذه الآثار في تقديم الكفارة، وأبَوْه في الكفارة مع كثرة الرواية فيها؛ والحجة في السنة ومن خالفها محجوج بها.
ومن كرر أيماناً قبل التكفير، فكفارة واحدة، وعنه: لكل يمين كفارة. وإذا قال: "حلفت" ولم يحلف، فقال أحمد: هي كذبة لا يمين، وعنه: عليه كفارة. وثبت "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإبرار المقسم أو القسم"، وهذا، والله أعلم، على الندب، بدليل قوله لأبي بكر: "لا تقسم". ويحتمل أن يجب إذا لم يكن فيه ضرر، وامتناعه من إبرار أبي بكر للضرر. ويستحب إجابة من حلف بالله، لقوله: "من استعاذ بالله فأعيذوه" 5 الحديث، رواه النسائي.
__________
1 البخاري: الأدب (6047) , ومسلم: الإيمان (110) , والترمذي: النذور والأيمان (1543) , والنسائي: الأيمان والنذور (3770, 3771, 3813) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3257) , وابن ماجة: الكفارات (2098) , وأحمد (4/33, 4/34) .
2 البخاري: الصوم (1900) , وأحمد (2/145) , والدارمي: الصوم (1684) .
3 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/395, 2/491, 2/499) .
4 من المخطوطة.
5 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الأدب (5109) , وأحمد (2/68) .(1/747)
باب جامع الأيمان
يرجع في الأيمان إلى النية، فإن لم تكن، رجع إلى سبب اليمين، مثل أن ينوي بالعامِّ الخاصَّ أو عكسه، وبه قال مالك. وقال الشافعي: لا عبرة بالنية والسبب فيما خالف اللفظ. ولنا: قوله: " وإنما لكل امرئ ما نوى". 1 فإن لم تكن له نية، رجع إلى السبب. فإذا حلف ليقضينه غداً فقضاه، لم يحنث إذا قصد ألا يتجاوزه، وقال الشافعي: يحنث. وإذا حلف أن لا يشرب له الماء من العطش، يقصد قطع منته، حنث بأكل خبزه وكل ما فيه المنة، لقوله تعالى: {وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} 2 أي: لا تظلمون شيئاً.
__________
1 البخاري: بدء الوحي (1) , ومسلم: الإمارة (1907) , والترمذي: فضائل الجهاد (1647) , والنسائي: الطهارة (75) , وأبو داود: الطلاق (2201) , وابن ماجة: الزهد (4227) , وأحمد (1/25) .
2 سورة النساء آية: 77.(1/748)
باب النذر
الأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع. لا يستحب النذر، للنهي عنه، وهو نهي كراهة لا تحريم، لأنه مدَح الموفين به. والنذر كاليمين، وموجبه موجبها، إلا في لزوم الوفاء به إذا كان قربة، دليله: قوله لمن نذرت المشي ولم تطقه: "ولتكفّر يمينها"، وفي رواية: "ولتصم ثلاثة أيام". 1 قال أحمد: إليه أذهب. ولمسلم عن عقبة، مرفوعاً: "كفارة النذر كفارة يمين"، 2 وقال ابن عباس للتي نذرت ذبح ابنها: "كفّري يمينك". فإن قال: "لله عليّ نذر" وجب به كفّارة يمين، في قول الأكثر، لا نعلم فيه مخالفاًً، إلا الشافعي فقال: لا تنعقد. ولنا: حديث عقبة المتقدم، وفيه: "إذا لم يسمّ". ونذر اللجاج والغضب الذي يقصد به الحض والمنع، فهي يمين يخيّر بين فعله وبين كفارة يمين، لحديث عمران، رفعه: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين". 3 رواه سعيد. وعن أحمد: أن الكفارة تتعين للخبر.
ونذر المباح يخيّر بين فعله والكفارة، وقال مالك والشافعي: لا ينعقد، لحديث: "لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله"، 4 ولحديث أبي اسرائيل رواه البخاري، وحديث المرأة التي نذرت أن تمشي إلى البيت، فقال: "مروها أن تركب". صححه الترمذي، وحديث الأنصاري الذي نذر مثلها متفق عليه، ولم يأمره بالكفارة. ولنا: ما تقدم من نذر الغضب، وحديث المرأة، فعند
__________
1 البخاري: الحج (1866) , ومسلم: النذر (1644) , والترمذي: النذور والأيمان (1544) , والنسائي: الأيمان والنذور (3814, 3815) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3293) , وابن ماجة: الكفارات (2134) , وأحمد (4/143, 4/145, 4/149, 4/151, 4/201) , والدارمي: النذور والأيمان (2334) .
2 مسلم: النذر (1645) , والترمذي: النذور والأيمان (1528) , والنسائي: الأيمان والنذور (3832) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3323) , وأحمد (4/144, 4/146, 4/147, 4/148, 4/156) .
3 النسائي: الصيام (2116) , وأحمد (4/321) .
4 البخاري: الصوم (1960) , ومسلم: الصيام (1136) , وأحمد (6/359) .(1/749)
أبي داود: "أنه أمرها بالكفارة"، ويكون الراوي ذكر البعض وترك البعض، أو ترك ذكر الكفارة إحالة على ما علم.
فإن نذر مكروهاً كالطلاق فهو مكروه، ويستحب أن يكفّر ولا يفعل، والخلاف فيه كالذي قبله.
فإن نذر معصية لم يجز الوفاء به ويكفّر، إلا أن ينذر ذبح ولده، فعليه كفارة، وعنه: ذبح كبش. وقال الشافعي: لا كفارة فيه. ولنا: قوله: "لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين". ورواه أبو داود والترمذي وقال: غريب رواه سعيد، ولحديث: "النذر حلفة، وكفارته كفارة يمين". ولو نذر الصدقة بكل مالِه أخرج ثلثه، ولا كفارة عليه. وبه قال مالك. وقال ربيعة: يتصدق بقدر الزكاة. وقال الشافعي: يتصدق بماله كله. ولنا: حديث أبي لبابة أنه قال: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي، فقال: يجزيك الثلث"، وقوله لكعب: "أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك". 1 متفق عليه، ولأبي داود: "يجزئ عنك الثلث"، قالوا: ليس هذا بنذر، إنما أرادوا الصدقة كما قال سعد، فأمره بالاقتصار على الثلث، قلنا قوله: "يجزيك الثلث" يدل على أنه أتى بما يقتضي الإيجاب، وإلا لما لزمه شيء يجزئ عنه بعضه، ومنعه من الصدقة بزيادة على الثلث دليل على أنه ليس بقربة. ونذر التبرر مطلقاً أو معلقاً يلزم الوفاء به، إجماعاً. والمطلق كذلك، في قول الأكثر.
وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يلزم، لأن غلام ثعلب قال: النذر عند العرب وعد بشرط. وكذلك نذر طاعة لا أصل لها في الوجوب، كالاعتكاف وعيادة المريض، يلزم عند الأكثر. وعن أبي حنيفة: لا يلزم، لأنه لا يجب بالنذر ما لا يجب نظيره شرعاً. ولنا: قوله: "من نذر أن يطيع الله، فليطعْه". 2 وذمه الذين
__________
1 البخاري: الوصايا (2758) , والنسائي: الأيمان والنذور (3824, 3825, 3826) , وأبو داود: الطلاق (2202) والأيمان والنذور (3317, 3319, 3321) والسنة (4600) , وأحمد (3/454, 3/455, 3/456, 6/386, 6/387, 6/390) .
2 البخاري: الأيمان والنذور (6696) , والترمذي: النذور والأيمان (1526) , والنسائي: الأيمان والنذور (3806, 3807, 3808) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجة: الكفارات (2126) , وأحمد (6/36, 6/41, 6/208, 6/224) , ومالك: النذور والأيمان (1031) , والدارمي: النذور والأيمان (2338) .(1/750)
لا يوفون بالنذر. وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ} الآية. 1 وما ذكرتم عن غلام ثعلب لا يصح، فإن العرب تسمى الملتزم نذراً وإن لم يكن بشرط. وإن نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى لزم، وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يثبت في وجوب المشي إليهما، لأن البر بإتيان بيت الله فرض، والبر بإتيانهما نفل. وإن نذر الصلاة في المسجد الحرام لم يجزه في غيره، وإن نذر في الأقصى أجزأته في المسجد الحرام.
ومن نذر حجاً أو صياماً أو صدقة أو عتقاً أو غير ذلك من الطاعات ومات، فعله الوليّ عنه، وعنه: لا يصلى عن الميت، وأما سائر الأعمال فينوب الوليّ عنه، وليس بواجب ولكن يستحب على سبيل الصلة. وأفتى بذلك ابن عباس "في امرأة نذرت أن تمشي إلى قباء فماتت، فأمر أن تمشي ابنتها عنها". وروى سعيد "أن عائشة اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن بعد ما مات". وقال مالك: لا يمشي أحد عن أحد، ولا يصوم ولا يصلي، وكذلك سائر أعمال البدن. وقال الشافعي: يقضي عنه الحج. وقال أهل الظاهر: يجب القضاء على الولي، للأخبار.
و"إن نذر أن يطوف على أربع طاف طوافين"، نص عليه، وقاله ابن عباس.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال الشيخ: الأحكام تتعلق بما أراده الناس بالألفاظ الملحونة، كقوله حلفت بالله، رفعاً ونصباً. وكقول: الكافر: "أشهد أن محمدٌ رسولَ الله" صار برفع الأول ونصب الثاني. ومن رام جعل جميع الناس في لفظ واحد بحسب عادة قوم بينهم، رام ما لا يمكن عقلاً ولا يصح شرعاً.
نص أحمد على كراهة
__________
1 سورة التوبة آية: 75.(1/751)
الحلف بالعتق والطلاق، وفي تحريمه وجهان، اختار الشيخ التحريم، واختار في موضع آخر: لا يحرم بل يكره. قوله: ولغو اليمين: أن يحلف على شيء يظنه فيبين بخلافه، وعنه: ليس لغواً وفيه كفارة. قال الشيخ ما معناه: الروايتان: في كل يمين حتى في عتق وطلاق؛ ومن قطع بحنثه في الطلاق والعتق هو ذهول، بل فيه الروايتان، ومحله إذا عقد على زمن ماض. قال الشيخ: وكذا على مستقبل ظاناً صدقه فلم يكن، كمن حلف على غيره يظن أنه يطيعه فلم يفعل، أو ظن المحلوف عليه خلاف نية الحالف ونحو ذلك. وقال: إن المسألة على روايتين، كمن طلق من ظنها أجنبية فبانت امرأته ونحوهما، مما يتعارض فيه التعيين والقصد.
قوله: وإن فعله ناسياً فلا كفارة، وعنه: لا حنث ويمينه باقية، اختاره الشيخ. ولا يعتبر قصد الاستثناء، اختاره الشيخ. ولو أراد تحقيقاً لإرادته لعموم المشيئة، ومثله إن أراد الله وقصد المشيئة، لا إن أراد المحبة والأمر، ذكره الشيخ.
ولو شك في الاستثناء فالأصل عدمه، قال الشيخ: إلا مَن عادته الاستثناء، واحتج بالمستحاضة تعمل بالعادة والتمييز ولم تجلس أقل الحيض، والأصل: وجوب العادة. قال: ولو حلف لا يعذر كفّر، للقسم لا لعذره، مع أنها لا ترفع الإثم. قال أحمد: لا يكثر الحلف فإنه مكروه، وقيل: يستحب لمصلحة كزيادة طمأنينته وتوكيد الأمر وغيره، ومنه قوله لعمر عن العصر: "والله ما صليتها"، تطييباً لقلبه. وقاله في الهدي قال: و"قد حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعاً وأمره الله به في سورة "يونس"(1/752)
و"سبأ" و"التغابن"". ولا تغير اليمين حكم المحلوف عليه، قال الشيخ: لم يقل أحد إنها توجب إيجاباً، أو تحرم تحريماً لا ترفعه الكفارة.
قال: والعقود والعهود متقاربة أو متفقة، فإذا قال: "أعاهد الله أني أحج" فهذا نذر ويمين، وإن قال: "لا أكلم زيداً" فيمين وعهد، لا نذر. فالأيمان إن تضمنت معنى النذر - وهو أن يلتزم لله قربة - لزمه الوفاء، وهو عقد وعهد ومعاهدة لله، لأنه التزم لله ما يطلبه منه. وإن تضمنت معنى العقود التي بين الناس، فمعاقدة ومعاهدة يلزم الوفاء بها. وإن قال: "لعمري " فهو لغو، نصَّ عليه.
ولا يجب إبرار القسم كإجابة سؤال بالله، وقيل: يلزم، قال الشيخ: إنما يجب على معيّن، فلا يجب إجابة سائل مقسم على الناس.
وتوقف في تحريم النذر ولا يضر قوله على مذهب من يلزم أو لا أقل من يرى الكفارة، ذكره الشيخ، لأن الشرع لا يتغير بتوكيد. قال: وإن قصد لزوم الجزاء مع الشرط لزمه مطلقاً عند أحمد. نقل الجماعة فيمن حلف بالمشي إلى بيت الله أو حجه: إن أراد يمينا كفّر، وإن أراد نذراً فعلى حديث عقبة.
وقال الشيخ: إذا حلف بمباح أو معصية فلا شيء عليه، كنذرهما. فإن ما لم يلزم بنذره لا يلزم به شيء إذا حلف به، فإن إيجاب النذر أقوى من إيجاب اليمين.
قوله: إلا أن ينذر ذبح ولده ... إلخ، وعنه: إن قصد اليمين فيمين، وإلا فنذر معصية، فيذبح في مسألة الذبح كبشاً، اختاره الشيخ.
قوله: وإن نذر الصدقة بماله ... إلخ. نقل الأثرم فيمن نذر ماله في المساكين، أيكون الثلث من الصامت أم من جميع ما يملك؟ قال: إنما يكون هذا على قدر ما نوى، أو على قدر مخرج يمينه. والأموال تختلف عند الناس، قال(1/753)
في الفروع: ويتوجه على اختيار شيخنا كل أحد بحسب عزمه.
وعنده: من نذر صوم الدهر كان له صوم يوم وإفطار يوم. وقال: القادر على فعل المنذور يلزمه، وإلا فله أن يكفّر.
ولا يلزم الوفاء بالوعد، لأنه يحرم بلا استثناء، لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . 1 وذكر الشيخ وجهاً: أنه يلزم، واختاره. وقال القرافي: اتفق الفقهاء على الاستدلال بالآية، وهو في غاية الإشكال؛ فإن "إلا" ليست للتعليق، و"أنْ" المفتوحة ليست للتعليق، فما بقي في الآية شيء يدل على التعليق بمطابقة ولا التزام، وطول الأيام يحاولون الاستدلال بها ولا يكاد يفطن له ولا يفطنون لهذا المستثنى من أي شيء هو وما هو المستثنى منه، فتأمله.
والجواب: أن هذا استثناء من الأحوال، والمستثنى حالة محذوفة قبل "أن" الناصبة وعامله فيها، أعني: الحال عامله في "أن". وتقريره: 2 {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً?} 3 في حالة من الأحوال، إلا متعلّقاً بـ"إن شاء 4 الله"، ثم حذفت معلقاً والباء من أن فيكون النهي المتقدم مع "إلا" المتأخرة قد حصرت القول في هذه الحال دون سائر الأحوال؛ فتختص هذه الحال بالإباحة وغيرها بالتحريم. وترك المحرم واجب، وليس شيء هناك يترك به الحرام إلا هذه، فتكون واجبة. وأما مدرك التعلق فهو قولنا: معلقاً، فإنه يدل على أنه تعلق في تلك الحالة، كما إذا قال: لا تخرج إلا ضاحكاً، فإنه يفيد الأمر بالضحك للخروج، وانتظم معلقاً مع "أن" بالباء المحذوفة، واتجه الأمر بالتعليق على المشيئة من هذه الصيغة عند الوعد بالأفعال.
__________
1 سورة آية: 23-24.
2 في المطبوعة: تقريره في (لا تقولن ... ) .
3 سورة الكهف آية: 23.
4 في المطبوعة: (بأن يشاء) .(1/754)
كتاب القضاء
الأصل في مشروعيته: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ، 1 وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية 2.
وأما السنة، فقوله: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر". 3 متفق عليه. وأجمعوا على مشروعية نصب القضاة.
وهو فرض كفاية، وفيه فضل عظيم لمن قوي على القيام به وأدى الحق فيه، وفيه خطر كبير ووزر كبير لمن لم يؤد الحق فيه؛ ولذلك كان السلف يمتنعون منه.
ويجب على الإمام أن ينصب في كل إقليم قاضياً، ويختار أفضل من يجد. وإن وجد غيره كره له طلبه، بغير خلاف، لقوله: "لا تسأل الإمارة" 4 الحديث متفق عليه.
وله طلب الرزق لنفسه وأمنائه مع الحاجة، في قول أكثر أهل العلم.
ولا يجوز أن يوليه على أن يحكم بمذهب إمام بعينهن لا نعلم فيه خلافاً.
وإذا ولى الإمام قاضياً ثم مات، لم ينعزل القاضي، "لأن الخلفاء ولّوا حكاماً فلم ينعزلوا بموتهم". وكذلك لا ينعزل إذا عزل الإمام. فأما إن عزله الإمام
__________
1 سورة المائدة آية: 49.
2 سورة النساء آية: 65.
3 البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) , ومسلم: الأقضية (1716) , والترمذي: الأحكام (1326) , والنسائي: آداب القضاة (5381) , وأبو داود: الأقضية (3574) , وابن ماجة: الأحكام (2314) , وأحمد (4/198, 4/204) .
4 البخاري: كفارات الأيمان (6722) , ومسلم: الأيمان (1652) , والترمذي: النذور والأيمان (1529) , والنسائي: آداب القضاة (5384) , وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2929) , وأحمد (5/62, 5/63) , والدارمي: النذور والأيمان (2346) .(1/755)
الذي ولاه أو غيره انعزل، "لأن عمر كان يولي الولاة ثم يعزلهم، ومن لم يعزله عزله عثمان بعده، إلا القليل".
وإذا تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء وحكماه بينهما، جاز ونفذ حكمه، وقيل: لا يلزمه إلا بتراضيهما، ولا يكون إلا بعد المعرفة بحكمه. ولنا: حديث أبي شريح وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا". ولا يجوز نقض حكمه، وقيل: للحاكم نقضه إذا خالف رأيه.(1/756)
باب أدب القاضي
ينبغي أن يكون قوياً من غير عنف، ليِّناً من غير ضعف، حليماً متأنياً، ذا فطنة. قال عمر بن عبد العزيز: "سبع إن فات القاضي منها واحدة كان فيه وصمة: العقل، والفقه، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحلم".
وله أن ينتهر الخصم إذا التوى، ويصيح عليه. وإن قال: "حكمت عليَّ بغير حق" فله تأديبه، وله العفو. ويستعين بالله، ويتوكل سراً عليه، ويدعوه أن يعصمه من الزلل ويوفقه لما يرضيه.
ولا يكره القضاء في المسجد، ويبدأ بالأول فالأول. ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه والدخول عليه. ويحضر مجلسه الفقهاء ويشاورهم.
ولا يقضي وهو غضبان، ولا حاقن، ولا في شدة الجوع والعطش والهمّ والوجع والبرد المؤلم والحر المزعج والنعاس. ولا يحل له أن يرتشي، ولا يقبل هدية إلا ممن كان يهاديه قبل ولايته، بشرط ألا يكون له حكومة، ويرد الرشوة والهدية إلى ربها، ويحتمل أن يجعلها في بيت المال، "لأنه لم يأمر ابن اللتبية أن يردها". قال أحمد: إذا أهدى البطريق لصاحب الجيش، لم تكن له دون سائر الجيش.
ويكره أن يتولى البيع والشراء بنفسه، ويوكل فيه من لا يعلم أنه وكيله. وإن احتاج لم يكره، "لأن أبا بكر قصد السوق يتجر، حتى فرضوا له".(1/757)
باب طرق الحكم وصفته
...
باب طريق الحكم وصفته
إذا جلس له 1 خصمان، فله أن يقول: من المدعي منكما؟ أو يسكت حتى يبتدئ. ويستحب أن يجلسا بين يديه، لما روى أبو داود "أنه صلى الله عليه وسلم قضى أن يجلس الخصمان بين يدي الحاكم". ولا يقول لأحدهما: "تكلم"، لأنه تفضيل له. فإن ذهب المدعى عليه يتكلم، منعه حتى يفرغ المدعي. ثم يقول له: ما تقول فيما ادعاه؟ فإن أقر لم يحكم إلا بمسألة المدعي، ويحتمل أن يجوز له ذلك.
والحكم: أن يقول: "ألزمتك"، أو "قضيت عليك"، أو "اخرج إليه منه". وللمدعي أن يقول: "لي بينة"، فإن لم يقل، قال الحاكم: "ألك بينة؟ " لقوله للحضرمي: "ألك بينة؟ قال: لا. قال: فلك يمينه". 2 صححه الترمذي. فإن قال: "لي بيّنة" أمره بإحضارها، وقيل: لا يأمره. فإذا حضرت، لم يسألها الحاكم حتى يسأله المدعي ذلك. فإذا سمعها وكانت صحيحة، حكم بها إذا سأله المدعي. ولا خلاف أنه يجوز له الحكم بالإقرار والبيّنة في مجلسه، إذا سمعه معه شاهدان. فإن لم يسمعه معه أحد أو شاهد واحد فله الحكم، نص عليه.
وليس له الحكم بعلمه في غير مجلسه، وعنه: ما يدل على جوازه. وقيل: لا يحكم في حق الله بعلمه، بخلاف حق الآدميين. ولنا: قوله: "أقضي على نحو ما أسمع"، 3 فدل على أنه لا يقضي بما يعلم. وكلامه لهند فتيا،
__________
1 في المطبوعة: إليه.
2 مسلم: الإيمان (139) , والترمذي: الأحكام (1340) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3245) والأقضية (3623) , وأحمد (4/317) .
3 البخاري: الحيل (6967) , ومسلم: الأقضية (1713) , والنسائي: آداب القضاة (5401) , وأبو(1/758)
لا حكم. وما ذكروه من قصة عمر مع أبي سفيان إنكار لمنكر رآه، لا حكم، بدليل أنه ما وجد منه دعوى ولا إنكار بشروطهما.
فإن قال: "ما لي بيّنة"، فالقول قول المنكر مع يمينه. فإن سأل إحلافه أحلفه. فإن حُلّف أو حلف من غير سؤال المدعي لم يعتدّ بيمينه. وإن نكل قضى عليه بالنكول، وقيل: تردّ على الخصم، فإن نكل صرفهما. وإن ادعى بيّنة بعد قوله: "ما لي بينة" لم تقبل، ويحتمل أن تقبل، لأنه يجوز أن ينسى أو لا يعلمها. وإن قال: "لي بيّنة، وأريد يمينه"، فإن كانت غائبة فله إحلافه، وإن كانت حاضرة لم يملك إحلافه، لقوله: "شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك". 1 فإذا قال المدعي: "أريد يمينه، لا أريد إقامتها"، فله ذلك. فإن حلف المدعى عليه، ثم أراد المدعي إقامتها، لم يملك ذلك، في أحد الوجهين.
وإن حلف المنكر، ثم أحضر المدعي بيّنة، حكم بها. فإن طلب حبس المدعى عليه، وإقامة كفيل إلى إقامة بيّنته البعيدة لم يقبل منه، لأنه لم يثبت له حق. وإن قال: لي حساب أريد أن أنظر فيه، لم يلزم المدعي إنظاره، وقيل: يمهل ثلاثاً. فإن ادعى عليه عيناً في يده فأقر بها لغيره، جعله الخصم فيها. وهل يحلف المدعي؟ على وجهين. ولا تصح الدعوى إلا محررة تحريراً تعلم به، إلا في الوصية والإقرار، فإنه يصح بالمجهول. فإن كان أثماناً، فلا بد من ذكر الجنس والقدر والنوع. وإن كان عيناً، حاضرة عيّنها بالإشارة. وإن كانت غائبة، ذكر صفاتها إن كانت تنضبط، وإلا قيمتها. وإن كانت تالفة من ذوات الأمثال، ذكر قدرها وجنسها وصفتها.
ولا يقضي على غائب إلا في حقوق الآدميين. فإن قامت
__________
1 البخاري: الرهن (2516) , ومسلم: الإيمان (138) , والترمذي: البيوع (1269) وتفسير القرآن (2996) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3243) , وابن ماجة: الأحكام (2323) , وأحمد (1/377, 1/379, 1/416, 1/426, 1/442, 1/460) .(1/759)
بسرقة حكم بالمال دون القطع. وإن كان في البلد، لم تسمع البينة حتى يحضر؛ فإن امتنع سمعت.
ويعتبر في البيّنة: العدالة ظاهراً وباطناً، وعنه: تقبل شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة. ولا يقبل في الجرح والتعديل والترجمة والرسالة إلا قول عدلين، وعنه: يقبل واحد "لأنه صلى الله عليه وسلم أمر زيداً أن يتعلم كتاب يهود". وعن أحمد: لا يقضي على غائب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، لقوله لعلي: "لا تقض للأول حتى تسمع الآخر". 1 صححه الترمذي. ولنا: حديث هند وحديث عليّ نقول به. إذا تقاضى إليه رجلان لم يجز الحكم قبل سماع كلامهما، وهو يقتضي حضورهما.
وكذا الحكم في المشتهر في البلد والميت والصبي والمجنون. وهل يحلف المدعي أنه لم يبرأ إليه منه ولا من شيء منه؟ على روايتين. ثم إذا قدم الغائب، أو بلغ الصبي، أو زال الجنون، فهو على حجته. وإذا قضى على الغائب سلم إلى المدعي، ويحتمل أن لا يدفع إليه حتى يقيم كفيلاً.
وإذا اختلفا في دار في يد أحدهما، فأقام المدعي بيّنة أنها ملكه منذ شهر أو أمس، فهل تسمع؟ على وجهين. ومن كان له على إنسان حق لا يملك أخذه بالحاكم، لم يجز أن يأخذ قدر حقه. وحكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته في الباطن. قال ابن المنذر تفرد أبو حنيفة، فقال: لو استأجرت المرأة شاهدين فشهدا بطلاق زوجها، وهما يعلمان كذبها، فحكم الحاكم بطلاقها، حل لها أن تتزوج وحل لأحد الشاهدين نكاحها. قال ابن المنذر: يكره للقاضي أن يفتي في الأحكام، كان شريح يقول: أنا أقضي ولا أفتي.
__________
1 الترمذي: الأحكام (1331) , وأبو داود: الأقضية (3582) .(1/760)
باب حكم كتاب القاضي إلى القضي
...
باب حكم كتاب القاضي إلى القاضي
الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {إني ألقي إلي كتاب كريم} 1.
وأما السنة، فـ"إنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملوك الأطراف وإلى عماله".
يقبل في المال وما يقصد به المال، كالقرض والغصب، ولا يقبل في حد الله. وهل يقبل فيما عدا ذلك، مثل النكاح والطلاق؟ على روايتين.
ويجوز أن يكتب إلى معيّن وإلى من يصل إليه من القضاة.
ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان، وحكي عن الحسن وسوار والعنبري أنهم قالوا: إذا عرف خطه وختمه قبله، وهو قول أبي ثور.
__________
1 سورة النمل آية: 29.(1/761)
باب القسمة
الأصل فيها: قوله تعالى: {أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} ، 1 وقوله: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} الآية 2.
هي نوعان:
(قسمة تراض) : وهي ما فيه ضرر أو رد عوض من أحدهما، كالدور الصغار التي لا يمكن قسمها، لا يجوز فيها إلا ما يجوز في البيع. وهل يلزم بالقرعة إذا قسمها حاكم أو رضوا بقاسم؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزم، والثاني: لا يلزم إلا بالتراضي.
وإن تراضيا بغير قرعة جاز ذلك. وكذلك لو خيّر أحدهما صاحبه فاختار، ويلزم ههنا بالتفرق والتراضي. والضرر المانع: نقص القيمة، وعنه: ما لا يمكن أحدهما الانتفاع بنصيبه مفردا، فيما كان ينتفع به مع الشركة، والأول ظاهر كلام الشافعي، لأن النقص ضرر وهو منفي شرعاً. وقال مالك: يجبر الممتنع ولو استضر.
الثاني: (قسمة الإجبار) : وهي ما لا ضرر فيه ولا رد عوض، وهذه إفراز حق لا بيع. وإن كان في القسمة تقويم لم يجز أقل من قاسمين، وإلا أجزأ واحد.
__________
1 سورة القمر آية: 28.
2 سورة النساء آية: 8.(1/762)
باب الدعوات والبينات
...
باب الدعاوى والبينات
إذا تداعيا عيناً في يد أحدهما، فهي له مع يمينه. وإن تنازع صاحب الدار والخياط الإبرة والمقص، فهما للخياط. وإن تنازعا عرصة فيها شجر أو بناء لأحدهما، فهي له. وإن تنازع الزوجان أو ورثتهما في قماش البيت، فما يصلح للرجال فللرجال، وما يصلح للنساء للمرأة، وما يصلح لهما بينهما. وإذا لم يكن لأحد يد حكمية بل تنازعا في غير قماش بينهما، فلا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له، بل إن كان في يد أحدهما فهو له، وإن كان في أيديهما فهو بينهما، وإن كانت في يد غيرهما اقترعا، واليمين على من حكمنا له بها في كل المواضع إذا لم يكن بيّنة.
وإن كان لأحدهما بيّنة حكم له بها ولم يحلف، وهو قول أهل الفتيا. وقال شريح والنخعي: يحلف. وقال الشافعي: إذا كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه في دعوى القضاء والإبراء، أحلف المشهود له، وهذا حسن. وإن كان لكل منهما بيّنة، حكم بها للمدعي. وعنه: إن شهدت بيّنة المدعى عليه أنها نتجت في ملكه أو قطيعة من الإمام قدمت. وتسمى بينة المدعي بيّنة الخارج، وبيّنة المدعى عليه بيّنة الداخل. وعنه: أن بيّنة الداخل تقدم بكل حال، وهو قول الشافعي وأبي عبيد وقال: هو قول أهل المدينة وأهل الشام، وأيهما قدّم لم يستحلف صاحبها، وقيل: بلى.
وإن كانت العين في يديهما تحالفا، وقسمت بينهما، لا نعلم فيه خلافاً، لما روى أبو موسى: "أن رجلين اختصما في بعير، فأقام كل واحد(1/763)
منهما شاهدين؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبعير بينهما نصفين". 1 رواه أبو داود. ولا يرجح أحدهما بكثرة العدد، ولا اشتهار العدالة؛ وهو قول الشافعي. وقال مالك: ترجح، وإن تساوتا قسمت بينهما بغير يمين، وعنه: بلى، كمن لا بيّنة لهما. وعنه: يقرع بينهما. والأول أصح، لخبر أبي موسى.
وإن تداعيا عيناً في يد غيرهما، أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها، لحديث أبي هريرة: "أن رجلين تداعيا عيناً لم يكن لواحد منهما بيّنة، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستهما على اليمين، أحبّا أم كرها". رواه أبو داود، فإن كان لكل منهما بيّنة، فعنه: "تسقط، ويقترعان"، روي عن ابن عمر وابن الزبير. وبه قال إسحاق وأبو عبيد، لما روى الشافعي عن ابن المسيب: "أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة، وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة، فأسهم النبي صلى الله عليه وسلم بينهما". وعنه: "تستعمل البينات، وتقسم العين بينهما"، وهو قول قتادة وحماد، لحديث أبي موسى، وقيل: يقدم أحدهما بالقرعة، وهو قول الشافعي.
__________
1 النسائي: آداب القضاة (5424) , وأبو داود: الأقضية (3613) , وابن ماجة: الأحكام (2330) , وأحمد (4/402) .(1/764)
باب تعارض البيّنتين
إذا أتلف ثوباً فشهدت بيّنة أن قيمته ثلاثون، وشهدت أخرى أن قيمته عشرون، لزمه أقل القيمتين؛ وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه ثلاثون.
ولو ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها: ماتت فورثناها، ثم مات ابني فورثته. وقال أخوها: بل مات ابنها فورثتْه، ثم ماتت فورثناها. حلف كل على إبطال دعوى صاحبه، وكان ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة: لزوجها واحد وأخيها نصفين. وإن أقام كل منهما بيّنة، تعارضتا وسقطتا.(1/765)
كتاب الشهادات
الأصل فيها: الكتاب والسنة والإجماع. قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} الآية، 1وغيرها، وقوله: "شاهداك أو يمينه" 2.
تحمُّل الشهادة وأداؤها فرض كفاية، وهل يأثم بالامتناع إذا دعي مع وجود غيره؟ قيل: يأثم، لقوله: {وَلا يَأْبَ {الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} ، 3 وقيل: لا.
ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة، وكذا من لم تتعين عليه، في الأصح. ومن عنده شهادة في حد، أبيح إقامتها ولم يستحب. وللحاكم أن يعرض له بالوقوف عنها، لقصة عمر. ومن كانت عنده شهادة لإنسان، لم يقمها قبل سؤاله. فإن لم يعلم، استحب إعلامه، وله إقامتها قبل ذلك.
وتجوز الشهادة لمن عرف المشهود عليه يقيناً، وقد يحصل بالسماع؛ ولهذا قبلت رواية الأعمى، ورواية من روى عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غير محارمهن. فإن لم يعرف المشهود عليه وعرفه إياه من يعرفه، فعنه: لا يشهد، وحمل على الاستحباب، لتجويزه الشهادة بالاستفاضة. وقال: لا تشهد على امرأة إلا بإذن زوجها، وهذا يحتمل ألا يدخل عليها بيتها إلا بإذنه لِـ"نهيه صلى الله عليه وسلم أن يستأذن على النساء إلا بإذن أزواجهن". رواه أحمد.
__________
1 سورة البقرة آية: 282.
2 البخاري: الرهن (2516) , ومسلم: الإيمان (138) , والترمذي: البيوع (1269) وتفسير القرآن (2996) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3243) , وابن ماجة: الأحكام (2323) , وأحمد (1/377, 1/379, 1/416, 1/426, 1/442, 1/460) .
3 سورة البقرة آية: 282.(1/766)
وإذا عرف خطه ولم يذكرها، فهل يجوز له أن يشهد؟ على روايتين.
وأجمعوا على صحة الشهادة بالاستفاضة على النسب، واختلفوا فيما سواه، فقال أصحابنا: تجوز في تسعة أشياء: النكاح، والملك المطلق، والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء، والولاية، والعزل. وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح والموت. ولنا: أن هذه تتعذر الشهادة عليها غالباً لمشاهدتها أو مشاهدة أسبابها، فجازت كالنسب. قال مالك: ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسماع.
وقال: السماع في الأجناس والولاء جائز. قيل لأحمد: أتشهد أن فلانة امرأة فلان، ولم يُشهد؟ قال: نعم، إذا كان مستفيضاً. فأشهد أن فاطمة بنت رسول الله، وأن خديجة وعائشة زوجتاه، وكل أحد يشهد بذلك من غير مشاهدة.
ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم، وقيل: تسمع من عدلين، وهو قول المتأخرين من الشافعية. وإذا مات رجل فادعى آخر أنه وارثه، فشهد شاهدان أنه وارثه، لا يعلمان له وارثاً غيره، سلّم المال إليه ولو لم يكونا من أهل الخبرة. فإن قالا: لا نعلم له غيره في هذه البلد، احتمل أن يسلّم المال إليه، واحتمل ألا يسلّم. فالأول قول أبي حنيفة، والاحتمال الثاني قول مالك والشافعي.
وتجوز شهادة المستخفي، وهو قول الشافعي، وعنه: لا. وقال مالك: إن كان المشهود عليه ضعيفاً يخدع لم يقبل عليه، وإلا قبلت. ومن سمع من يقر بحق، أو سمع حاكماً يحكم، أو يشهد على حكمه، جاز(1/767)
أن يشهد، وعنه: لا حتى يشهده. وعنه: إن سمعه يقر بقرض لا يشهد، وإن سمعه يقر بديْن شهد، لأن المقترض يجوز أن يكون أوفاه.
وحق الآدمي المعيّن لا تسمع الشهادة به إلا بعد الدعوى، والذي على غير معيّن كالوقف أو حق خالص لله كالحدود الخالصة والزكاة أو الكفارة، فلا يفتقر إلى تقدم الدعوى، كما "شهد أبو بكرة وأصحابه وأبو هريرة على قدامة".(1/768)
باب شروط من تقبل شهاداته
...
باب شروط من تقبل شهادته
وهي ستة:
أحدها: (البلوغ) : فلا تقبل شهادة الصبيان، وعنه: تقبل ممن هو في حال العدالة، وعنه: لا تقبل إلا في الجراح إذا شهدوا قبل الافتراق. قال إبراهيم: كانوا يجيزون شهادة بعضهم على بعض.
الثاني: (العقل) .
الثالث: (الكلام) :فلا شهادة لأخرس، قيل لأحمد: فإن كتبها؟ قال: لا أدري. وقال مالك والشافعي: تقبل إذا فهمت إشارته.
الرابع: (الإسلام) : إلا في الوصية في السفر، وقيل: تقبل شهادة بعضهم على بعض، ثم اختلف من قاله؛ فمنهم من قال: الكفر ملّة واحدة، فتقبل شهادة اليهودي على النصراني وعكسه، قاله الثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وعن إسحاق وأبي عبيد: لا تقبل شهادة كل ملة بعضها على بعض.
الخامس: (الحفظ) : فلا شهادة لمغفل، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان.
السادس: (العدالة) : وهي استواء أحواله في دينه، وقيل: من لم تظهر منه ريبة. وظاهر قول الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي حنيفة وأصحابه: قبول شهادة أهل الأهواء، ويتخرج قبول شهادة أهل الذمة على شهادة أهل الأهواء إذا لم يتدين بالشهادة الموافقة على مخالفيه، كالخطابية.
وكل لعب فيه قمار فهو محرم، وهو من الميسر، وأما الذي لا عوض فيه، فمنه محرم كاللعب بالنرد، والشطرنج كالنرد في التحريم. فأما اللعب بالحراب كما فعل الحبشة وما في معناه إذا لم يتضمن ضرراً ولا شغلا عن فرض، فالأصل إباحته.
والملاهي ثلاثة:(1/769)
محرم، وهو ضرب الأوتار والنايات والمزامير والعود والطنبور والمعرقة والرباب ونحوها.
ومباح، وهو الدف. فأما الضرب بالقضيب، فيكره إذا انضم إليه مكروه أو محرم، كالتصفيق والغناء والرقص.
واختلف أصحابنا في حكم الغناء، فقال بعضهم: مباح إذا لم يكن معه منكر، لحديث الجاريتين. وقال الشافعي: مكروه غير محرم. وذهب آخرون إلى تحريمه، واحتجوا بقول ابن الحنفية في قوله: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ?} ، 1 قال: الغناء. ويقول ابن مسعود وابن عباس في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} : 2 "إنه الغناء".
والحداء الذي تساق به الإبل مباح، وكذلك سائر أنواع الإنشاد ما لم يخرج إلى حد الغناء. والشعر كالكلام، حسنه حسن وقبيحه قبيح، وليس في إباحته الشعر خلاف، وقد قاله الصحابة والعلماء.
ولا يعتبر في التوبة إصلاح العمل، وعنه: يعتبر إصلاح العمل سنة.
وشهادة ولد الزنى جائزة في قول الأكثر، وكذا شهادة الإنسان على فعل نفسه، كالمرضعة والقاسم والحاكم. وكذا شهادة البدوي على القروي.
ويمنع قبول شهادة القرابة، فلا تقبل شهادة والد لولده وعكسه، ولو ولد بنات، وعنه: تقبل شهادة الابن لأبيه لا عكسه، وعنه: تقبل شهادة كل منهما فيما لا تهمة فيه، كالنكاح والقصاص والمال إذا كان مستغنياً عنه، وبه قال إسحاق وابن المنذر، لعموم الآيات. وتقبل شهادة بعضهم على بعض في الأصح.
ولا تقبل شهادة أحد الزوجين لصاحبه، وبه قال مال، وعنه: تقبل؛ وبه
__________
1 سورة الحج آية: 30.
2 سورة لقمان آية: 6.(1/770)
قال الشافعي. قال ابن المنذر: أجمعوا على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وقال مالك: لا تقبل شهادة الصديق الملاطف، ولا تقبل ممن يجر بها إلى نفسه نفعاً، كالوارث لموروثه بالجرح قبل الاندمال، ولا شهادة الشفيع ببيع ما له فيه شفعة، ولا شهادة الغرماء بديْن المفلس، ولا شهادة الموصى له للميت، ولا الوكيل لموكله بما هو موكل فيه، ولا الشريك لشريكه، لا نعلم فيه خلافاً أي: الشريك، ولا شهادة الوصي للموصى إليهم إذا كانوا في حجره، في قول الأكثر، وأجازها شريح وأبو ثور، إذا كان الخصم غيره.
ولا تقبل شهادة من يدفع بها عن نفسه ضرراً، قال الزهري: مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم، ولا ظنين وهو: المتهم. ولا تقبل شهادته على عدوه، في قول أكثر أهل العلم، لحديث: "ولا ذي غمر على أخيه". 1 وإن شهد الفاسق فردّت، ثم تاب فأعادها، لم تقبل للتهمة، وبه قال الشافعي، وقال المزني وأبو ثور: لا يشترط في التحمل العدالة ولا البلوغ ولا الإسلام. و"كان ناس يروون عنه صلى الله عليه وسلم بعد أن كبروا، مثل الحسنين 2 وابن الزبير"، وعن مالك: ترد فيمن أسلم وبلغ.
والمشهود به خمسة أقسام:
(أحدها) : الزنى، فلا يقبل فيه إلا أربعة، وأجمعوا على اشتراط عدالتهم باطناً وظاهراً، والأكثر على اشتراط كونهم رجالاً أحراراً. وهل يثبت الإقرار بالزنى بشاهدين أو أربعة؟ على روايتين.
(الثاني) : القصاص وسائر الحدود، فلا يقبل إلا رجلان حرّان، إلا ما روي عن عطاء وحماد أنه يقبل فيه رجل وامرأتان. ولا تقبل الشهادة على القتل إلا مع زوال الشبهة في لفظ الشهادة نحو: ضربه فقتله.
__________
1 أبو داود: الأقضية (3600) , وأحمد (2/204, 2/208) .
2 في الأصل: (كالحسن والحسين) وتناهما تغليباً.(1/771)
(الثالث) : ما ليس بمال ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال غالباً، كالنكاح والطلاق والوكالة في غير المال والوصية وما أشبه ذلك، فلا يقبل فيه إلا رجلان. وعنه في النكاح والرجعة والعتق: يقبل رجل وامرأتان. وعنه في العتق: شاهد ويمين المدعي. وعنه في الإعسار: لا يثبت إلا بثلاثة، لحديث قبيصة. وقال القاضي: حديثه في حل المسألة، لا في الإعسار.
(الرابع) : المال وما يقصد به المال، كالبيع والقرض والرهن وجناية الخطإ، يقبل شاهد ويمين.
(الخامس) : ما لا يطلع عليه الرجال، كعيوب النساء تحت الثياب والرضاع والاستهلال والبكارة والثيوبة ونحوه، فيقبل فيه شهادة امرأة واحدة، وعنه: لا يقبل أقل من امرأتين.
ولا نعلم خلافاً في قبول النساء المنفردات في الجملة.
والشهادة على الشهادة جائزة إجماعاً، في المال وما يقصد به المال. وقال مالك: يقبل في الحدود وفي كل حق. وشروطها تعذر شهادة الأصل بموت أو مرض أو غيبة إلى مسافة القصر. وعنه: لا تقبل إلا أن يموت شاهد الأصل، ولا يجوز له أن يشهد حتى يسترعيه. وثبتت شهادة شاهدي الأصل بشاهدين يشهدان عليهما. وقال ابن بطة: لا بد من أربعة، على كل واحد اثنان. قال أحمد: شاهد على شاهد يجوز، لم يزل الناس على هذا، شريح فمن دونه، إلا أن أبا حنيفة أنكره.
ومتى رجع شهود المال بعد الحكم، لزمهم الضمان، ولم ينقض الحكم. وإن رجع شهود العتق غرموا القيمة. وإن رجع شهود الطلاق قبل الدخول غرموا نصف المسمى. وإذا عين العدل شهادته بحضرة الحاكم فزاد فيها أو نقص، قبلت منه ما لم يحكم بشهادته.(1/772)
والحقوق على ضربين:
أحدهما: 1 ما هو حق الآدمي وهو على ضربين:
أحدهما: مال أو مقصود به المال، كالبيع والقرض والصلح.
الثاني: ما ليس بمال ولا مقصود منه المال، وهو كل ما لا يثبت إلا بشاهدين، كالقصاص، ففيه روايتان: إحداهما: لا يستحلف المدعى عليه. قال أحمد: لم أسمع من مضي جوّز الأيمان، إلا في الأموال خاصة. والثانية: يستحلف في الطلاق والقصاص. وقال الشافعي: يستحلف في كل حق لآدمي.
وحقوق الله لا يستحلف فيها، بلا خلاف في الحدود، وأما الزكاة، فإذا ادعى الساعي أن الحول تم أو النصاب، فقال أحمد: لا يستحلف الناس على صدقاتهم. وقال الشافعي: يستحلف. ومن حلف على فعل نفسه أو دعوى عليه في الإثبات، حلف على البت وعلى نفي فعل الغير، فإنها على نفي العلم. وقال الشافعي والنخعي كلها على نفي العلم. ومن توجهت عليه يمين لجماعة فقال: أحلف يميناً واحدة، فرضوا جاز، وإلا حلف لكل واحد يميناً. ولا تدخل اليمين النيابة، فلا يحلف الولي عن الصغير والمجنون.
__________
1 لم يذكر الثاني، ولعله من قوله: وحقوق الله "الطبعة السلفية".(1/773)
كتاب الإقرار
يصح من كل مكلف مختار، غير محجور عليه. وإن أكره على وزن مال، فباع داره لذلك صح. ومن أقر بحق ثم ادعى إكراهاً، لم يقبل إلا ببيّنة، إلا أن يكون دلالة، كالقيد والحبس، فقوله مع يمينه. ويصح إقرار المريض المرض المخوف، بغير المال. وإن أقر بمال لمن لا يرثه صح، حكاه ابن المنذر إجماعاً. ولا يحاصّ المقر له غرماء الصحة، وقيل: بلى؛ وهو قول مالك والشافعي وأبي عبيد، وذكر أنه قول أكثر أهل المدينة. وإن أقر لوارث، لم يقبل إلاّ ببيّنة، وقال عطاء والحسن وإسحاق: تقبل. وقال مالك: يصح إذا لم يتهم، إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل، فيصح في قول الجميع، إلا الشعبي. وإن أقر لوارث وأجنبي، فهل يصح في حق الأجنبي؟ على وجهين.
وإن أقر لوارث فصار عند الموت غير وارث لم يصح، وعكسه يصح. وإن أقرّ بوارث صح، وعنه: لا. وإن أقر بطلاقها في صحته، يعني: وهو مريض، لم يسقط ميراثها. ويصح إقراره بإحبال الأمة.
ويصح الإقرار لكل من يثبت له الحق، فإذا أقر لعبد صح، ولو كذب سيده. وإن تزوج مجهولة فأقرت بالرق، لم يقبل إقرارها. وإن أقر الورثة على موروثهم بديْن، لزمهم قضاؤه من التركة. فإن أقر به بعضهم، لزمه بقدر ميراثه. وإن أقر لكبير عاقل فلم يصدّقه، بطل إقراره، وقيل: يؤخذ المال حتى يظهر مالكه 1.
__________
1 في المطبوعة: (مالك) .(1/774)
باب ما يحصل به الإقرار
إذا ادعى عليه ألفاً، فقال: "نعم" أو "صدقتَ"، كان مقراً. وقوله: "أنا أقر" ليس بإقرار. وإن قال::أنا مقر"، فاحتمالان. ولو قال: "بعتك إن شاء الله"، أو "زوجتك إن شاء الله"، فقال ابن شاقلا: لا أعلم خلافاً عنه في أنه إذا قيل له: قبلت هذا النكاح؟ قال: "نعم، إن شاء الله"، أن النكاح واقع.
وإن قال له: علي ألف إن شهد به فلان، لم يكن مقراً. وإن قال: إن شهد به فلان فهو صادق، احتمل وجهين. وإن قال له: عليّ ألف قد استوفاه، أو ثمن خمر، أو تكفلت به على أني بالخيار، لزمه ولا يقبل قوله.
ولا يقبل رجوع المقر إلا في الحد. وإن قال: له عندي رهن، وقال المالك: وديعة، فالقول قول المالك. وإن قال: له عندي ألف، وفسره بديْن أو وديعة، قبل منه، لا نعلم فيه خلافاً.(1/775)
باب الإقرار بالمجمل
إذا قال: له عليَّ شيء، قيل: فسّره. فإن أبى حُبس. وإن فسّره بحق شفعة أو مال قُبل. وإن فسّره بما ليس بمال، كخمر وميتة لم يقبل، وبكلب أو حد قذف فوجهان.
ومن هنا إلى آخر الباب: من "الإنصاف":
قال الشيخ: ما يستفيده بالولاية لا حد له شرعاً، بل يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف. وقال: من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قُتل. وإن قال: "ينبغي"، كان جاهلاً ضالاً. ومن كان متبعاً لإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل، أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى، فقد أحسن، ولم يُقدح في عدالته بلا نزاع.
وقال: في هذه الحال يجوز عند أئمة الإسلام، وقال: بل يجب، ولا ينعزل قبل علمه بالعزل، رجحه الشيخ، وقال: هو المنصوص عن أحمد، لأن في الولاية حقا لله.
قال ابن حزم: أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا مفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله. يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعاً، وبقول أو وجه من غير نظر في الترجيح، إجماعاً. ويجب أن يعمل بموجب اعتقاده في ما لَه أو عليه، إجماعاً، قاله الشيخ. وقال: الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل وتنفيذ(1/776)
الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله، وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان.
ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره. فيولى للعدم أنفع الفاسقَيْن وأقلهما شراً، وأعدل المقلدَيْن وأعرفهما بالتقليد.
وقال: إن حكّم أحدهما خصمه أو حاكما، فأفتى في مسألة اجتهادية جاز. وقال في عمل الولاية بعد ذكر التحكيم: وكذلك يجوز أن يتولى متقدمو الأسواق والمساجد، والوساطات، والصلح عند الفورة والمخاصمة، وصلاة الجنازة، وتفويض الأموال إلى الوصايا، وتفرقة زكاته بنفسه، وإقامة الحد على رقيقه، وخروج طائفة إلى الجهاد تلصصاً وبياتاً، وعمارة المساجد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشباه ذلك.
وفعل الحاكم حكم، كتزويج يتيمة، وشراء عين غائبة، وعقد نكاح بلا ولي، وغيره، ذكر الشيخ أنه أصح الوجهين، وقال: فإذا قال: حكمت بصحته نفذ اتفاقاً، وإن كان ممن لا يصلح نقض أحكامه، واختار الشيخ: لا ينقض الصواب منها.
ولو ادعى شهادة له عند آخر، لم تسمع دعواه، ولم يعد عليه، ولم يحلف، خلافاً للشيخ. وقال: لو قال: أنا أعلمها ولا أؤديها فظاهر، ولو نكل لزمه ما ادعى به، إن قيل: كتمانها موجب لضمان ما تلف، ولا يبعد كما يضمن في ترك الإطعام الواجب، اختار فيمن كسب مالاً محرماً برضى الدافع ثم تاب، كثمن خمر ومهر بغي وحلوان كاهن، أن له ما سلف. وقال أيضاً: لا ينتفع ولا يرده لقبضه عوضه، ويتصدق به وللفقراء أكله، ولولي الأمر أن يعطيه لأعوانه. وقال أيضاً فيمن تاب: إن علم صاحبه دفعه إليه، وإلا دفعه في المصالح، وله مع حاجته أخذ كفايته.
ولا تجوز الهدية لمن شفع عند السلطان ونحوه، لأنها كالأجرة، والشفاعة من المصالح العامة، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه؛(1/777)
وفيه حديث شريح في السنن. ونص أحمد فيمن عنده وديعة فأداها فأهديت إليه هدية: لا يقبلها إلا بنية المكافأة. وإن قال المعزول: كنت حكمت في ولايتي لفلان بحق قُبل، وقيده في الفروع بالعدل.
وقال الشيخ: كتابه في غير عمله أو بعد عزله كخبره. قال: ونظيره أمير الجهاد، وأمين الصدقة، وناظر الوقف. وتسمع البيّنة والدعوى في كل حق لآدمي غير معيّن، كالوقف على الفقراء أو مسجد، قال الشيخ: وكذا عقوبة كذاب مفتر على الناس. ثم ذكر كلام القاضي في احتيال الحنفية على سماع البيّنة من غير وجود مدعى عليه، خوفاً من حدوث خصم مستقبل، قال الشيخ: دخل جماعة معهم في هذا الاحتيال، وسموه الخصم المستحق، وأما على أصلنا وأصل مالك: فإما أن تمنع الدعوى على غير خصم فتثبت الحقوق بالشهادات على الشهادات، وهو كما ذكره من ذكره من أصحابنا، وإما أن تسمع الدعوى والبيّنة بلا خصم، كما ذكره طائفة؛ وهو مقتضى كلام أحمد، لأنا نسمع البيّنة على الغائب والممتنع وكذا على الحاضر في البلد في المنصوص فمع عدم خصم أولى.
قوله: وإن نكل قضي عليه، وقيل: ترد اليمين على المدعي، واختاره ابن القيم بإذن الناكل. وقال الشيخ: مع علم مدع وحده بالمدعى به لهم ردها، وإذا لم يحلف لم يأخذ، كالدعوى على ورثة ميت حقاً يتعلق بالتركة. وإن كان المدعى عليه هو العالم بالمدعى به دون المدعي، مثل أن يدعي الورثة والوصي على غريم الميت فينكر، فلا يحلف المدعي. قال: وأما إن كان المدعي يدعي العلم والمنكر يدعي العلم، فهنا يتوجه القولان. واختار أن المدعي يحلف ابتداء مع اللوث، وأن الدعوى في التهمة كسرقة يعاقب المدعى عليه الفاجر، وأنه لا يجوز إطلاقه، ويحبس المستور ليبين أمره. وقال: إن تحليف كل مدعى عليه وإرساله ليس مذهباً للإمام، واحتج بقصة(1/778)
النعمان بن بشير، قال القاضي: يحبسه. والأول ظاهر كلام أحمد والقاضي، ويشهد له قوله: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} الآية، 1حملناه على الحبس في التهمة. واختار الشيخ تعزير مدع بسرقة ونحوها على من تعلم براءته.
قوله: ولا تصح الدعوى إلا محررة، واختار الشيخ أن مسألة الدعوى وفروعها ضعيفة، لحديث الحضرمي، وأن الثبوت المحض يصح بلا مدعى عليه.
وقال: إذا قيل: لا تسمع إلا محررَّة، فالواجب أن من ادعى مجملاً، استفصله الحاكم. وقال: المدعى عليه قد يكون متهماً، كـ"دعوى الأنصار قتل صاحبهم، ودعوى المسروق منه على بني أبيرق"، ثم المجهول قد يكون مطلقاً وقد ينحصر. قال: ولا يعتبر في الشهادة قوله، وإن الديْن باق في ذمته، إجماعاً. وقال الآمدي: لو ادعت أن زوجها أقرَّ أنها أخته من الرضاعة وأقامت بيّنة، لم تقبل لأنها شهادة على الإقرار لا على الرضاع، قال الشيخ: لعل مأخذه أنها ادعت بالإقرار لا بالمقر به، ولكن هذه الشهادة تسمع بغير دعوى، لما فيها من حق الله، على أن الدعوى بالإقرار فيها نظر، فإن الدعوى بها تصديق المقر. قوله: ولم يمكنه أخذه بحاكم، واختار الشيخ جواز الأخذ، ولو قدر على أخذه بحاكم في الحق الثابت بإقرار أو بيّنة أو كان سبب الحق ظاهراً.
وقال: إن غصب ماله جاز له الأخذ بقدر حقه، وليس من هذا الباب. وقال: أمور الدين والعبادات المشتركة لا يحكم فيها إلا الله ورسوله، إجماعاً. وقال: إذا رفعا إليه عقداً فاسداً عنده، وأقرا بأنه نافذ الحكم، حكم بصحته، فهو كالبينة إن عينا الحاكم.
يجوز كتاب القاضي في ما حكم به في المسافة البعيدة والقريبة، وعند
__________
1 سورة النور آية: 8.(1/779)
الشيخ، في حق الله تعالى. ويجوز فيما ثبت عنده الحكم به في المسافة البعيدة فقط، وعنه: فوق يوم، وعند الشيخ: وأقل من يوم كخبره. وقال: كتابه في غير عمله أو بعد عزله كخبره على ما تقدم. وإذا عرف المكتوب إليه خطه وختمه، جاز قبوله. وعند الشيخ: من عرف خطه بإنشاء أو إقرار أو عقد أو شهادة، عمل به كميت، فإن حضر وأنكر فكاعترافه بالصوت وإنكاره مضمونه.
وقال: تنازع الفقهاء في كتاب الحاكم، هل يحتاج إلى شاهدين أم واحد؟ أو يكتفي بالكتاب المختوم؟ أم يقبل الكتاب بلا ختم ولا شاهد؟ على أربعة أقوال معروفة في مذهب أحمد وغيره. وقال: الخط كاللفظ إذا عرف أنه خطه. وقال: إنه مذهب الجمهور، وهو يعرف أن هذا خطه كما يعرف أن هذا صوته، مع إمكان الاشتباه. وجوّز الجمهور الشهادة على الصوت، قال في المغني: المحضر شرح ثبوت الحق عنده لا الحكم، وقيل: ما ضمن الحاكم ببيّنة سجل، وما سواه محضر.
ومن دعا شريكه إلى البيع في قسمة التراضي أُجبر، فإن أبى بيع عليهما، وكذا حكم الإجارة ولو في وقف، ذكره الشيخ في الوقف. وإن تراضيا على قسمة المنافع بالمهايآت جاز، فإن رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته فله ذلك، وبعدها يغرم ما انفرد به. قال الشيخ: لا تنفسخ حتى تنقض الدور ويستوفي كل واحد حقه، ولو انتقلت كانتقال وقف، فإن كان إلى مدة لزمت الورثة والمشتري، قاله الشيخ.
وقسم الإجبار يقسمه الحاكم إن ثبت ملكهما عنده، اختاره الشيخ، كبيع مرهون وعبد جان. وقال: كلام أحمد في بيع ما لا يقسم وقسم ثمنه عام فيما ثبت أنه ملكهما وفيما لم يثبت كجميع الأموال التي تباع. قال: ومثله لو جاءته(1/780)
امرأة فزعمت أنها لا ولي لها، هل يزوجها بلا بيّنة. ونقل حرب في من أقام بيّنة بسهم من ضيعة بيد قوم فهربوا، يقسم عليهم ويدفع إليه حقه، قال الشيخ: وإن لم يثبت ملك الغائب. قال: وأجرة شاهد يخرج لقسم البلاد ووكيل وأمين. الحفظ على مالك وفلاح كأملاك، فإذا فهم الفلاح بقدر ما عليه أو يستحقه الضيف حل لهم. وإن لم يأخذ الوكيل لنفسه إلا قدر أجرة عمله بالمعروف والزيادة يأخذها المقطع، فالمقطع هو الذي ظلم الفلاحين.
وإن تلف ثوب فشهدت بيّنة أن قيمته عشرون، وأخرى ثلاثون، أخذ بالأقل، وقيل: بالأكثر، قاله الشيخ في نظيرها فيمن أجر حصة موليه، فقالت بيّنة: أجرها بأجرة مثلها، وقالت بيّنة مثلها، وقالت بيّنة بنصف أجرة المثل. وجّوز أخذ الأجرة على الشهادة مع الحاجة. قوله: ومن كانت عنده شهادة لآدمي لم يقمها حتى يسأله، قال الشيخ: الطلب العرفي أو الحال كاللفظي، علمها أو لا. وقال: إذا أداها قبل الطلب قام بالواجب وكان أفضل، كمن عنده أمانة أداها عند الحاجة. قوله: ولا تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم. وقال الشيخ: أو ممن تطمئن إليه النفس ولو واحداً. وقال: الشاهد يشهد بما سمع، فإذا قامت بينة بتعيين ما دخل في اللفظ قُبل. وإذا مات رجل فادعى آخر أنه وارثه، فشهد اثنان أنهما لا يعلمان له وارثاً، سلّم المال إليه، قال الشيخ: لا بد أن تقيد المسألة بأن لا يكون الميت ابن سبيل ولا غريباً.
وتقبل شهادة أهل الكتاب على الوصية في السفر بشرطه، قال الشيخ: هو نص القرآن، ومفهومه: أن غير أهل الكتاب لا تقبل شهادتهم، وعنه: تقبل من الكافر مطلقاً. وعنه: تقبل شهادتهم للحميل، وعنه: تقبل للحميل وموضع(1/781)
الضرورة. 1 وعنه: تقبل سفراً، ذكرها الشيخ.
وقال: كما تقبل شهادة النساء في الحدود إذا اجتمعن في عرس أو حمام. وعنه: تقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، اختاره الشيخ: وقال: ترد شهادته بكذبة واحدة. وقال: يحرم محاكاة النفس للضحك، ويعزر هو ومن يأمر به. ولو شهد أحد الغانمين بشيء من المغنم قبل القسمة فقال الشيخ: في قبولها نظر، لأنها تجر نفعاً. وقال في قوم في ديوان أجروا شيئاً: لا تقبل شهادة أحد منهم على مستأجره، لأنهم وكلاء أو ولاة، ولا شهادة ديوان الأموال السلطانية على الخصوم.
قوله: ما ليس بمال ولا يقصد به المال، كالنكاح والرجعة والخلع، ثم ذكر أشياء، ثم قال: وعنه: يقبل في ذلك كله رجل وامرأتان، وعنه: يقبل فيه رجل ويمين، اختارها الشيخ. وتثبت شهادة شاهدي الأصل بشاهدين يشهدان عليهما، سواء شهدا على كل واحد منهما أو شهد على كل واحد منهما شاهد من شهود الفرع. قال أحمد: لم يزل الناس على هذا، وثبوت شهادة شاهد على شاهد من المفردات، ولا تقبل الشهادة إلا بلفظ [الشهادة] ، 2 وعنه: تصح ويحكم بها. اختارها الشيخ، وقال: لا يعرف عن صحابي ولا تابعي اشتراط لفظ الشهادة، وفي الكتاب والسنة إطلاق لفظ الشهادة على الخبر المجرد. وقال: قصة مروان مع زيد تدل على أن القاضي إذا رأى التغليظ فامتنع، أدى ما ادعى به، وإلا لم يكن للتغليظ فائدة. وقال: الإقرار قد يكون إنشاء، كقوله: {قالوا أقررنا} ، 3 فلو أقر
__________
1 في المطبوعة: (ضرورة) .
2 زيادة في المخطوطة.
3 زيادة في المخطوطة.(1/782)
به وأراد إنشاء تمليكه صح، ولو ادعى أنه حين البيع كان صبياً أو غير ذلك، وأنكر المشتري، [فالقول قول المشتري] . 1 قال الشيخ: وهكذا يجيء في الإقرار وسائر التصرفات، مثل دعوى البلوغ بعد تصرف الولي، أو تزويج ولي أبعد منه. وقال: الإقرار مع استدراك متصل، وإن المتقارب في الاستثناء متواصل.
آخره، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وجد بآخر الأصل المخطوط الذي اعتمدنا عليه في الطبع ما نصه:
بلغ مقابله في ملكه عبد الرحمن بن أحمد بن قاسم، غفر الله له ولوالديه.
__________
1 زيادة في المخطوطة.(1/783)