منهج السالكين
كتاب الطهارة
كتاب الطهارة
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، الحمد الله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد:
فهذا كتاب مختصر في الفقه، جمعتُ فيه بين المسائل والدلائل؛ لأن العلم معرفة الحق بدليله، والفقه معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح، واقتصرت على الأدلة المشهورة خوفًا من التطويل، وإذا كانت المسألة خلافية اقتصرت على القول الذي ترجَّح عندي تبعًا للأدلة الشرعية.
الأحكام خمسة: الواجب وهو ما أثيب فاعله وعوقب تاركه، والحرام ضده، والمسنون هو ما أثيب فاعله ولم يعاقب تاركه، والمكروه ضده، والمباح وهو الذي فعله وتركه على حد سواء.
ويجب على المكلف أن يتعلم من الفقه كل ما يحتاج إليه في عباداته ومعاملاته، قال - صلى الله عليه وسلم - " مَن يُرد الله به خيرًا يُفَقِّهُ في الدِّين " متفق عليه.
(فصل) قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " بُني الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وحجِّ البيت، وصومِ رمضان " متفق عليه.
فشهادة أن لا إله إلا الله علم العبد واعتقاده والتزامه أنه لا يستحق الألوهية والعبادة إلا الله وحده لا شريك له؛ فيوجب ذلك على العبد إخلاص جميع الدين لله تعالى، وأن تكون عباداته الظاهرة والباطنة كلها لله وحده، وأن لا يشرك به شيئًا في جميع أمور الدين، وهذا أصل دين جميع الرسل وأتباعهم كما قال تعالى: { (((((( ((((((((((( ((( (((((((( ((( ((((((( (((( ((((((( (((((((( ((((((( (( ((((((( (((( (((((( ((((((((((((( (((( } .(1/1)
وشهادة أن محمدًا رسول الله أن يعتقد العبد أن الله أرسل محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الثقلين -الإنس والجن- بشيرًا ونذيرًا، يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته بتصديق خبره وامتثال أمره، وأنه لا سعادة ولا صلاح في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان به وبطاعته، وأنه يجب تقديم محبته على النفس والولد والناس أجمعين، وأن الله أيده بالمعجزات الدالة على رسالته، وبما جبله الله عليه من العلوم الكاملة والأخلاق العالية، وبما اشتمل عليه دينه من الهدى والرحمة والحق والمصالح الدينية والدنيوية، وآيته الكبرى هذا القرآن العظيم بما فيه من الحق في الإخبار والحق والأمر والنهي، والله أعلم.
وأما الصلاة فلها شروط تتقدم عليها، فمنها الطهارة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " رواه البخاري ومسلم. فمن لم يتطهر من الحدث الأكبر والأصغر والنجاسة فلا صلاة له. والطهارة نوعان: أحدهما الطهارة بالماء، وهي الأصل، فكل ماء نزل من السماء أو خرج من الأرض فهو طهور، يطهر من الأحداث والأخباث، ولو تغير طعمه أو لونه أو ريحه بشيء طاهر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " رواه أهل السنن وهو صحيح.
فإن تغير أحد أوصافه بنجاسة فهو نجس يجب اجتنابه، والأصل في الأشياء الطهارة والإباحة، فإذا شك المسلم في نجاسة ماء أو ثوب أو بقعة أو غيرها فهو طاهر، أو تيقن الطهارة أو شك في الحدث فهو طاهر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة: " فلا ينصرف حتى أن يسمع صوتًا أو يجد ريحًا " متفق عليه.
وجميع الأواني مباحة إلا آنية الذهب والفضة وما فيه شيء منهما إلا اليسير من الفضة للحاجة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة " متفق عليه.(1/2)
السلام عليكم ورحمة الله، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.، درسنا في هذا الوقت هو في الفقه، هذه الرسالة "منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين" للشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي -رحمه الله-، الشيخ من أهالي (عنيزة) معروف، ولادته في سنة 307 وتوفي سنة 378.
أكبَّ -رحمه الله- على دراسة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتأثر بها، وسار يتقيد باختيارات وبأقوال شيخ الإسلام، واختصر كثيرًا من كتبه، وسار كأنه تلميذ لشيخ الإسلام؛ لأجل ذلك أنتج علمًا كثيرًا، علق على كتاب (الروض المربع) تعليقا يدل على تعقُّله وعلى اجتهاده، فبَيَّنَ ما فيها من المسائل الراجحة أو المرجوحة في كتب الفقهاء، وألَّفَ رسالة في الفقه أيضًا اسمها (إرشاد أولي البصائر والألباب لما إلى الفقه بأقرب الطرق وأيسر الأسباب)، رتَّبها على السؤال والجواب، وله أيضًا فتاوى مطبوعة باسم (الفتاوى السعدية) كثير منها يتعلق بالفقه.
وله كتب أخرى في غير الفقه ومن جملتها، من جملة كتبه هذه الرسالة، وكأنها مختصرة من الكتب التي تتعلق بفقه الأحكام، ولم يتقيد فيها بمذهب من المذاهب، بل مشى على ما ترجَّح له، وعلى ما يؤيده الدليل. تعرفون أن الكتاب واسع؛ لأنه مثل الكتب التي تتكلم على الأحكام كلها، مثل (زاد المستقنع)، ومثل مختصرات العلماء التي في الفقه مثل (العمدة) لابن قدامة، وكذلك (نيل المرام) النيل الذي شرحه صاحب (منار السبيل)، هذا النيل (نيل المآرب) لمرعي.(1/3)
وغيرها من الكتب، اشتملت على أبواب الفقه كلها، يعني: كتاب الطهارة وما فيها، ثم كتاب السنن وما يتألف بها، ثم ما يتعلق بالزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، ثم البيوع وما يتصل بها، ثم أكثر المعاملات، إلى الوصايا والوقف والهبة والبيع والعتق والمواريث، والنكاح والطلاق والعدد والإيلاء والظهار، والنفقات والجنايات والحدود، والقضاء وأحكامه، والأطعمة وما أشبهها.
لا نتمكن أن نأتي أن نشرحه شرحًا وافيًا، ولكن طريقتنا أن نحلل المسألة، ونشير إلى دليلها باختصار إن لم نذكره، وإذا كانت لا تتضح إلا بالمثال ذكرنا لها مثالا؛ حتى نقطع فيه قدرًا أكثر لنصل إلى نصفه أو ثلثه أو قريبا من ذلك إن شاء الله.
ونحب أن يقرأ علينا أحد الطلاب بابًا ثم نشرح الباب. يقرأ الباب الذي بعده ثم نشرحه وهكذا.
بدأ -رحمه الله- بخطبة الحاجة التي في حديث ابن مسعود الذي رواه أهل السنن، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا كان لأحدكم حاجة فليقل: إن الحمد لله نحمده ونستعينه " إلى آخره، هذه هي خطبة الحاجة التي هي في أول هذا الكتاب، يستفتح بها كثير من العلماء كتبهم امتثالا لهذا الأمر، ويجوز أن يستفتح بغيرها.
بدأ أو افتتح كتابه بالبسملة والحمدلة اقتداء بكتاب العزيز، وعملا بالحديث المشهور: " كل أمرٍ ذي بال لا يبدأ بحمد الله أو لا يبدأ باسم الله فهو أقطع " وأبطر أو أجزم. والمعنى أنه ناقص البركة.
والحمد فُسِّر بتفسيرين: أحده أنه ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، والتفسير الثاني أنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا على الحامد وغيره.
وكرر قوله: "الحمد الله نحمده" ليأتي بعد الاسم بالفعل. الحمد اسم ونحمده فعل، وكذلك "نستعينه" امتثالا لقوله: " وإياك نستعين ". وكذلك قوله: "نستغفره" يعني نطلبه المغفرة التي هي ستر الذنوب ومحو أثرها، "ونتوب إليه" أي: نرجع إليه خائفين راغبين راهبين، التوبة هي الرجوع إلى الله.(1/4)
"ونعوذ بالله": الاستعاذة معناها الالتجاء والاستجارة والاحتماء والاعتصام والاحتراز، أي: نحترز بالله، ونعتصم به، ونستجير به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، فيه الاعتراف بأن الإنسان تصدر من نفسه الشرور والخطايا والسيئات، وأنه لا يعيذه منها إلا الله تعالى.
ثم قال: "من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له" أخذًا من القرآن الكريم في قوله تعالى: { ((((( (((((( (((( ((((( ((((( ((( ((((((( } { ((((( (((((((( (((( ((((( ((((( (((( ((((( (((( } والإضلال هو الوقوع في الضلال الذي هو الضياع، والناس إما ضالون وإما مهتدون. والله تعالى أمرنا بسؤال الهداية بقولنا: " اهدنا الصراط "، ونهانا أو حذرنا من طريق الضالين الذين هم النصارى ونحوهم.
ثم أتى بالشهادتين، وسوف يشرحهما فيما بعد، ثم أتى بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والصلاة -على الصحيح- من الله أنها ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى، ومن الملائكة الاستغفار، ومن الآدميين الدعاء، واقتصر على الصلاة عليه وعلى آله؛ لأن الصحابة يدخلون في الآل، بل الأمة كلهم يدخلون في الآل على القول الراجح، كما يقول الشاعر:
آل النبي هم أتباع ملته
لو لم يكن آله إلا قرابته
من كان من عجم منهم ومن عرب
صلى المُصَلِّي على الطاغي أبي لهب
فإذا قلت: لماذا لم يذكر أصحابه - صلى الله عليه وسلم - آله؟ نقول: إن أصحابه من آله، وإن أتباعهم كلهم وأمتهم وملتهم كلهم من آله. كما قال تعالى: { (((((((((((( ((((( (((((((((( (((((( ((((((((((( (((( } يعني أتباعَه.
والسلام دعاء لهم بالسلامة، وقيل: وسلم بقوله { (((((((((((( (((((((((( (((( } أي سلمهم من الآفات ونحوها.(1/5)
وكلمة "أما بعد" يؤتى بها للانتقال من حال إلى حال، ومن أسلوب إلى أسلوب، وردت كثيرًا في الأحاديث. والإشارة بقوله: "هذا كتاب" إن كان كتبها قبل أن يؤلف كتابا فهو يشير إلى ما تصوره في ذهنه، وتخيله بأنه سيكون بارزًا. وإن كان كتبها هذا بعدما ألف الكتاب إشارة إلى هذه الرسالة كلها. ووصفه بأنه مختصر أي قليل لفظه وكثير معناه. قال عَليٌّ - رضي الله عنه - "خير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل".
"جمعت فيه بين المسائل والدلائل"، المسائل هي الأحكام والوقائع التي تحتاج إلى معرفة حكمها، والدلائل هي الأدلة والنصوص التي يستدل بها من آية أو حديث. وذكر أن هذا هو العلم، العلم معرفة الحق بدليله، فمن عرف الحق فلا بد أن يسأل عن دليله حتى يكون مقتنعًا.
ثم فسر الفقه: الفقه معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.
"الشرعية" يعني التي تؤخذ من الشريعة، "والفرعية" يخرج الأصولية، الأحكام الأصولية هي تُسمى العقائد، وأما الفقه فإنه خاص بالفروع التي هي مسائل العبادات ومسائل المعاملات وما أشبهها، هذا الفرق بين الفرعية والأصلية. يعني هذه الرسالة مشتملة على الفقه الفرعي، فقه الفروع. والأدلة هي البراهين التي يستدل بها.
والكتاب هو القرآن، والسنة هي سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والإجماع ما أجمعت عليه الأمة المحمدية، فإنها لا تجتمع على خطأ، والقياس إلحاق الفروع بالأصول إذا اجتمعت العلة، ولا بد أن يكون القياس صحيحًا. "واقتصرت على الأدلة المشهورة -يعني الأدلة الصحيحة- خوفًا من التطويل، وإذا كانت المسألة خلافية اقتصرت على القول الذي يترجح عندي".
والغالب أنه يختار ما يرجحه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، يرجح بالأدلة الشرعية، أي أنه لا يذكر في المسألة قولين، بل قولا واحدا يكون هو المعتمد عنده -رحمه الله-.(1/6)
ويتردد في أصول الفقه قولهم: واجب، وحرام، ومسنون، ومكروه، ومباح. مذكورة هذه الأحكام في أصول الفقه، وأراد أن يعرفها هنا ليكون القارئ لكتابه عارفًا ما تتضمنه، لأنه يقول: هنا يجب كذا، يحرم كذا، يسن كذا، يكره كذا، يباح كذا وكذا، فأراد أن تعرف هذه الأصول الخمسة.
الواجب: ما أثيب فاعله وعوقب تاركه مثل الصلاة، يقال: إنها واجبة من فعلها فله ثواب من الله لو حسنت نيته، ومن تركها فإنه معاقب ويستحق العقوبة، وكذلك الطهارة، وكذلك الزكاة والصيام والحج هذه واجبات، ويأتي نظيرها أيضًا واجبات أخرى.
والحرام ضده ما أثيب تاركه وعوقب فاعله، مثل المحرمات كالربا والزنا والزور والفتن والغيبة والنميمة وما أشبهها.
والمسنون: عبر عنه بالمستحب: ما أثيب فاعله ولم يعاقب تاركه، الذي يفعله احتسابا يثيبه الله حيث إنه تقرب إليه بشيء من المحبوب، والذي يتركه لا تهاونا بل يتركه لعدم قدرة أو لعدم المناسبة لا يعاقب.
والمكروه ضده، المكروه ما أثيب تاركه ولم يعاقب فاعله، ويمر بنا كثيرًا قوله: يكره كذا، كقولهم في الصلاة: يكره رفع بصره إلى السماء، يكره الالتفات بغير حاجة، يكره التحدث في النفس في الصلاة، يكره العبث القليل في الصلاة، هذه. إذا ترك هذه المكروهات فإنه جائز.
والمباح: هو الذي استوى فعله وتركه، ويأتينا أيضًا في شيء من المعاملات أنها مباحة. قالوا مثلا: يباح تعدد الآي في القراءة في الصلاة، يباح أيضًا التسبيح بالمسبحة مثلا، ويباح كذا وكذا.
ذكر في أول هذه الرسالة أركان الإسلام، أخذها من الحديث: " بني الإسلام على خمس " وذلك لأن الفقهاء التزموا أن يرتبوا الفقه على هذا الحديث. هكذا رتبوا، فالبخاري مثلا بدأ بكتاب الإيمان؛ لأنه تحقيق للشهادتين، ثم كتاب الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج، وإن كان بعض النسخ قدموا الحج على الصيام.(1/7)
كذلك الإمام مسلم بدأ بالتوحيد. الإيمان لأنه بُدئ به هذا الحديث، ثم بالصلاة، ثم بالزكاة، ثم بالصوم، ثم بالحج، على ترتيب هذا الحديث: " بُني الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامِ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وحجِّ البيت، وصومِ رمضان "
ثم إن الفقهاء اقتصروا في الفقه على الصلاة وما بعدها، ولم يذكروا الإيمان؛ لأن الإيمان عقيدة. فقالوا كتب العقائد مفردة لأنه يُكَفَّرُ تاركها والمخالف فيها، فصاروا يفردون كتب العقائد مثل كتب السنة: كتاب (السُنَّة) لأحمد بن حنبل ولابنه عبد الله ولتلميذه الخلال بن عبد الله، وكذلك لابن أبي عاصم، وكذلك كتاب (الإيمان) لابن أبي شيبة ولأبي عبيد ولابن منده، وكذلك كتاب (التوحيد) لابن خزيمة ولابن منده وأشباهها، أفردوا كتب العقائد على حدة، وجعلوا كتب الفقه على حدة.
الأحكام الخمسة: فبدأ الآن بتفسير الشهادتين تفسيرًا مختصرا؛ لأن الموضوع يتعلق بالفقه؛ ولأن الشهادتين تتعلق بالعقيدة، فذكر شهادة أن لا إله إلا الله بقوله: "علم العبد واعتقاده والتزامه أنه لا يستحق العبادة الإلهية والعبادة إلا الله وحده لا شريك له"، يعني هذا هو شهادة أن لا إله إلا الله، إذا قلت: "أشهد" معناه: أقر وأعترف، تحقق أنه لا معبود بحق إلا الله، لا أحد يستحق العبادة إلا الله وحده، وأن كل من عبد غير الله فإن عبادته باطلة، فيوجب ذلك على العبد إخلاص الدين لله.(1/8)
الدين هو ما يدان به، يعني ما يتقرب به، وأن تكون عباداته الظاهرة والباطنة كلها لله، الظاهرة في الصلوات والزكاوات والصدقات، والباطنة كالخوف والرجاء والمحبة وما أشبهها، كلها لله وحده، وأن لا يشرك به شيئا في جميع أمور الدين، فلا يدعو معه غيره، ولا يسعى لسواه، ولا يحب غيره كمحبته، ولا يركع ولا يسجد إلا له، ولا يدعو غيره. هذا أصل دين الرسل كلهم، الرسل وأتباعهم جاءوا وبدءوا عقيدتهم ودعوتهم بالدعوة إلى التوحيد، هذه الآية من سورة الأنبياء، ومع كل رسول أوحى الله إليه " أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " أنت وأمتك، فدل على أنه دين الرسل.
فسر شهادة أن محمدا رسول الله: أن يعتقد العبد أن الله أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الثقلين الجن والإنس، والرسول هو الذي يحمل الرسالة، الذي يحمل رسالة من إنسان إلى إنسان يسمى مرسلا، ويسمى رسولا، إذا أرسل هذا الأمير إلى أمير البلدة الثانية بخطاب، فالذي يحمل هذا الخطاب يسمى رسولا، والخطاب الذي بيده يسمى رسالة.
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - مرسل، يعني مرسل من الله تعالى، والرسالة هي الشريعة والقرآن، والذي أرسله هو ربه، والمرسل إليهم هم الجن والإنس، يعني كل جميع الجن والإنس، وجميع البشر كلهم مرسل إليهم، ورسالته عامة؛ لأنه خاتم الرسل، والبشير هو الذي يبشر بالخير لمن فعله، والنذير هو الذي يخوف من العذاب لمن فعله فيستحقه.
والرسل كلهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - دعوتهم هي توحيد الله وطاعته كما في الآية التي تقدمت، يأمرونهم بأن يصدقوا خبر الله وأن يمتثلوا أمره، ما أخبر الله به من الآخرة وما فيها يصدقونه، وما أمر به من الإرشادات يمتثلونه، يخبرون الأمة أنه لا سعادة ولا صلاح في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان بالله وبطاعته، لا شك أن هذا هو من جمله ما أرسلوا به يخبرون أن لا سعادة لكم، ولا صلاح لكم في دنياكم وفي أخراكم إلا إذا آمنتم بالله وأطعتموه.(1/9)
من حق الرسول -عليه الصلاة والسلام- وجوب تقديم محبته على النفس والمال والولد والناس أجمعين. قال - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " بهذا يقدم طاعته على طاعة كل مخلوق.
الله تعالى أيد رسله بالمعجزات؛ حتى يعلموا بذلك صدقهم، محمد - صلى الله عليه وسلم - أيده الله بمعجزات كبيرة معروفة في سيرته، دالة على صدقه وعلى صحة رسالته، هذه معجزاته الظاهرة، كذلك أيضا جبله الله على كثير من العلوم الكاملة، والأخلاق العالية، هذه أيضا معجزة؛ حيث فتح عليه أبواب العلوم فعلَّم الناس، وبيَّن لهم. أليس ذلك دليل على أنه مرسل من ربه؟ كذلك الأخلاق، { (((((((( (((((((( (((((( ((((((( ((( } أليس ذلك دليل على رسالته؟ أخلاقه لو لم تكن به آية بينة كانت تأتي منها ثمرة؟
كذلك من معجزاته: الدين الذي جاء به؛ فإنه يشتمل على الهدى والرحمة والحق والمصالح الدينية والدنيوية، إذا تأمل تدليله الذي هو شريعته وجدته مشتملا على كل ما فيه صلاح، وعلى كل ما فيه رحمة، وعلى كل ما فيه هدى، كذلك آيته الكبرى ومعجزته العظمى هي هذا القرآن، فإنه تحدى به العرب أن يأتوا بمثله أو ببعض مثله ولم يقدروا، فدل على أنه معجزة -وأي معجزة- بما فيه من الحق والإخبار والمغيبات والأوامر والنواهي.
هذه هي المقدمة التي تتعلق بالتوحيد، بدأ بعد ذلك بأول الأركان الأربعة وهو الصلاة، اقتصر على هذا القدر فيما يتعلق بالتوحيد كمقدمة، وإلا فله كتب كبيرة تتعلق بالتوحيد.(1/10)
الصلاة هي الركن الثاني. شروطها، لا بد لها من شروط، بدأ العلماء بهذه الصلاة؛ لأنها أهم العبادات، ولأنها فرض عين، ولأنها عبادة بدنية، ولأنها حق الله على العباد، وإذا قلت: أكيد لماذا بدءوا بالطهارة قبل الصلاة؟ فالجواب أن الطهارة شرط للصلاة، والشرط يتقدم المشروط، فشروط الصلاة قبلها، أي: تأتي قبلها، من أجل ذلك بدءوا بشروطها، فمن جملة الشروط: الطهارة، ودليل اشتراطها هذا الحديث المتفق عليه: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول " .
الطهور هنا هو الطهارة التي هي رفع الحدث، والأدلة كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ " نذكره في (بلوغ المرام) ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - " مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التهليل والتكبير " والتهليل والتسبيح دليل واضح على الطهور والطهارة أنها شرط للصلاة، ثم الذي لم يتطهر من الحدثين الأصغر والأكبر والنجاسة فلا صلاة له.
وذكر أن الحدث قسمان: أصغر وأكبر، الأكبر يوجب الغسل، والأصغر يوجب الوضوء. والنجاسة يلزم إزالتها، الحدث أمر معنوي يكون بالبدن، يلزم أو يمنع صاحبه من الصلاة والطواف ومس المصحف ونحوه، أمر معنوي وليس أمرا حسيا، فإذا رأيت اثنين أحدهما متطهر والآخر محدث بم تفرق بينهما؟ فدل على أنه أمر معنوي، إذا قام بالإنسان ليس له أن يرفعه.(1/11)
ذكر أن الطهارة نوعان: أحدهما الطهارة بالماء وهي الأصل، وأين النوع الثاني؟ هو الطهارة بالتراب كما سيأتينا في باب التيمم، الطهارة نوعان: الطهارة بالماء، وطهارة بالتراب الذي هو التيمم، ولكن الأصل هو الطهور بالماء، قال الله تعالى: { (((((((((((( (((( ((((((((((( (((((( (((((((( (((( } هذا الماء الذي ينزل من السماء ويستقر في الأرض تحفظه الأرض في جوفها، ثم يستخرج منها هو الطهور، وكذلك قال تعالى: { ((((((((((( ((((((((( ((((( ((((((((((( (((((( ((((((((((((((( ((((( } أخذ من هذا أن الطهارة بالماء هي الأصل.
المؤلف -رحمه الله- يرى أن المياه قسمان: طهور ونجس، ليست ثلاثة. المياه قسمان: طهور ونجس، الحد الفاصل بينهما هو التغير بالنجاسة، فإذا كان الماء لم يتغير بنجاسة فإنه طهور، وإذا تغير بنجاسة فإنه نجس، وليس بينهما واسطة، يقول: كل ماء ينزل من السماء، أو خرج من الأرض بالدلاء مثلا أو المضخات، فهو طهور يطهر من الأحداث والأخباث، والأحداث هي الأمور المعنوية التي ترفع بالغسل والوضوء، والأخباث هي النجاسات العينية كالأبوال ونحوها.
ولو تغير طعمه أو لونه أو ريحه بشيء طاهر فلا يسلب منه الطهورية، ولو كان قليلا، إذا تغير بشيء طاهر فإنه يبقى على طهوريته، واشترطوا أن يبقى له مسمى الماء، أما إذا تغير اسمه بأن سلب اسم الماء ولو أضيف، فإنه لا يسمي طهورا، يسمي مثلا قهوة لا يتطهر بها، شاي لا يتطهر به، أو حبرا لا يتطهر به؛ لأنه سلب اسم الماء، وكذلك إذا غلب عليه بأن سمي مثلا ماء الزعفران، ماء الورس، ماء البنفسج، ماء الورد؛ هذه لا يطلق عليها اسم الماء المطلق، أما إذا كانت هذه الإضافة تفيد اسم الماء المطلق: ماء الآبار، ماء البحار، ماء الأنهار، ماء الأودية، فهذا ماء طهور.(1/12)
إذن المؤلف -رحمه الله- يقول: يتغير، فإنه باق على حالته، على طهوريته، ولا يتغير طعمه أو لونه أو ريحه بشيء طاهر، كأن سقط فيه أوراق مثلا، أو غمست فيه الأيدي ولم يتغير، أو غسل به شيء طاهر ولم يتغير نجاسة، فهو باق على طهوريته.
واستدل بهذا الحديث، وهو حديث بئر بضاعة، " أن الماء طهور لا ينجسه شيء " وحكم بأنه صحيح، وذكروا في الحديث أن بئر بضاعة كان يلقى فيه الجيف والنتن وخرق الحيض والكلاب، ومع ذلك قال: " إن الماء طهور لا ينجسه شيء " وذلك لأنها تستخلف لأنها تنزح بالدلاء، ثم يأتي بدل الماء ماء.
متى يكون الماء نجسا؟ يقول: إن تغير أحد أوصافه بنجاسة، فهو نجس يجب اجتنابه إذا تغير بنجاسة، إذا تغير بميتة، أو تغير بألوان، أو تغير بالدم، أو تغير بغائط، أو بحامض، أو بشيء نجس محكوم بنجاسته، ظهر فيه طعم هذه النجاسة أو لونها أو ريحها؛ وجب اجتنابه، ومن وقع عليه شيء منه لزمه غسله، هذا ما يتعلق بالمياه.
ثم إنه ذكر أن الأصل في الأشياء الطهارة، فلا ينتقل عن الأصل إلا بيقين، فالأصل في الثياب أنها طاهرة حتى نرى بقعة النجاسة كالدم ونحوه، الأصل في هذه الأرض أنها طاهرة حتى تعلم وتتحقق أن هذه البقعة أو موطئ هذا القدم متنجس نجاسة عينية.
الأصل في هذه المياه أنها طاهرة حتى تتحقق أن هذا الماء وقع فيه نجاسة، رأيت أثرها أو شممته أو عرفت طعمه، الأصل في الثياب الطهارة، والأصل في الفرش الطهارة، والأصل في الأواني الطهارة وما أشبهها.
إذا شك المسلم في هذا الماء هل هو طاهر أو نجس؟ نقول: في الأصل الطهور، النجاسة عارضة، نبني على الأصل، وكذلك إذا شك في ثوب إذا كان عنده ثياب، هذا الثوب لا أدري هل هو نجس أو طاهر؟ نقول: الأصل الطهارة، صل وخلا لك ذنب، إذا شك في هذه البقعة هل هي طاهرة أم نجسة؟ الأصل الطهارة، صل ولا يضرك.(1/13)
وكذلك إذا تيقن أنه طاهر وشك في الحدث، تيقنت أنك متوضئ، وأنك على طهر، ثم ترددت هل أنا أحدثت أم لا؟ هل انتقض وضوئي أم لا؟ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: " إن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: لا ينتقض التوضؤ " كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بقاء الأشياء على أصولها حتى يتغير ذلك الأصل.
إذا كنت على طهر، فلا تنتقض طهارتك حتى تتحقق أنك أحدثت، يحدث لكثير من الناس قرقرة في البطن، حركة تسمى القراقر، هذه الحركة لا يلتفت إليها، بل يبني على بقاء الطهارة، فإذا خيل إليه أنه أحدث فلا يلتفت لذلك، ورد أيضا في حديث: " يأتي الشيطان أحدكم فينفخ في مقعدته فيقول إنك أحدثت " إذا أحس بذلك فليقل: كذبت، ليقل في نفسه. باب الآنية
انتهى ما يتعلق بالمياه، وبدأ في الأواني، فلا يبقى منها إلا مسألة واحدة، يقول: الأواني كلها مباحة إلا آنية الذهب والفضة، وما فيه شيء منها إلا اليسير من الفضة للحاجة، الأواني كلها مباحة من نحاس، من صفر، من حديد، من معادن، من أي نوع، من الطين، من الخزف، من الحجارة، من الجلود، كلها طاهرة تستعمل.
استثنيت آنية الذهب والفضة؛ لأنه ورد بها في هذا الحديث قال - صلى الله عليه وسلم - " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " قد تقول: ما نهى إلا عن الشرب والأكل، نقول: إنهما لغيرهما أغلب ما يستعمل الإناء فيهما الأكل والشرب، فإذا نهى عنه مع الضرورة إليهما، فبطريق الأولى أن ينهى عن الاقتناء، أو ينهى عن الوضوء فيه أو منه، أو ينهى عن الطبخ فيه أو ما أشبه ذلك. وذكر العلة: " فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ".
يشير إلى أن الأصل أن الإنسان يدخر أعماله لآخرته، ولا يتعجل لدنياه حتى يجد الثواب عند الله تعالى، وعلل بعضهم بأن المنع منها لكسر قلوب الفقراء، أو أن المنع منها للإسراف، ولعل ذلك مراد جميعا.(1/14)
باب الاستنجاء وآداب قضاء الحاجة
يستحب إذا دخل الخلاء أن يقدم رجله اليسرى ويقول: " بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " وإذا خرج منه قدم اليمنى، وقال: " غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويستتر بحائط أو غيره، ويبعد إن كان في الفضاء، ولا يحل له أن يقضي حاجته في طريق، أو محل جلوس للناس، أو تحت الأشجار المثمرة، أو في محل يؤذي به الناس.
ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها حال قضاء حاجته؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا " متفق عليه.
فإذا قضى حاجته استجمر بثلاثة أحجار ونحوها، تنقي المحل، ثم استنجى بالماء، ويكفي الاقتصار على أحدهما، ولا يستجمر بالروث والعظام؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وكذلك كل ما له حرمة، ويكفي في غسل النجاسات على البدن أو الثوب أو البقعة أو غيرها أن تزول عينها عن المحل؛ لأن الشارع لم يشترط في غسل النجاسة عددا إلا في نجاسة الكلب، فاشترط فيها سبع غسلات إحداها بالتراب.
والأشياء النجسة: بول الآدمي وعذرته، والدم إلا أنه يعفى عن الدم اليسير، ومثله الدم المسفوح من الحيوان المأكول، دون الذي يبقى في اللحم والعروق فإنه طاهر.
ومن النجاسات: بول وروث كل حيوان محرم أكله، والسباع كلها نجسة، وكذلك الميتات إلا ميتة الآدمي، وما لا نفس له سائلة، والسمك والجراد، فإنها طاهرة، قال تعالى: { ((((((((( (((((((((( (((((((((((( ((((((((( } الآية، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا " وقال: " أحل لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال " رواه أحمد وابن ماجه.(1/15)
وأما أرواث الحيوانات المأكولة وأبوالها، فإنها طاهرة ومني الآدمي طاهر، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رطبه ويفرك يابسه. وبول الغلام الصغير الذي لم يأكل الطعام بشهوة يكفي فيه النضح، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام " رواه أبو داود والنسائي.
وإذا زالت عين النجاسة طهرت، ولم يضر بقاء اللون أو الريح، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخولة بنت يسار في دم الحيض: " يكفيك الماء ولا يضرك أثره " .
يتكلم في هذا الباب على آداب قضاء الحاجة؛ لأن ذلك مما تعم به البلوى، وتكلم فيه أيضا على تطهير محل النجاسة، وهو ما يسمى بالاستنجاء، وتكلم فيه أيضا على تطهير النجاسات كلها، ذكر النجاسات، وذكر كيفية تطهيرها، وقد توسع الفقهاء رحمهم الله في هذا الباب وفي هذه الأبواب، وألحقوا بها خصال الفطرة التي حث عليها الشرع بقوله: " الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشعر، وقلم الأظافر، ونتف الآباط " وكذلك تكلم فيه أيضا على الترجل والدهان وما أشبهه.
ولكن المؤلف ترك ذلك اختصارا فأولا يقول: يستحب إذا دخل الخلاء أن يقدم رجله اليسرى، وليقل: "بسم الله"؛ لأن اليسرى تقدم في الأشياء المستقذرة، ولا شك أن أماكن قضاء الحاجة -كدورات المياه ونحوها- أنها مستقذرة، فيقدم لها رجله اليسرى، وإذا خرج أخر اليسرى وقدم اليمنى بخلاف المسجد، فإنه يقدم اليمنى دخولا، ويقدم اليسرى خروجا.
الدعاء بقوله: "بسم الله" ورد في حديث، وذكرت العلة أن التسمية تكون حاجزة بينكم وبين الشياطين. في بعض الأحاديث: " إن هذه الشياطين تلعب بمقاعد بني آدم " وفي حديث آخر: " ستر بيننا وبين الشياطين ذكر اسم الله " فإذا ذكر "بسم الله" عند الدخول كان ذلك حاجزا له، وحاجبا له من هذه الشياطين، شياطين الجن وشياطين الأبالسة.(1/16)
وقوله: " اللهم إني أعوذ بك من الخبُث والخبائث " ورد تفسيرها بأن الخبُث هم الذكران، والخبائث هم الإناث، استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم. قرأ أحدهم الباء ساكنة الخبْث، وقال المراد بالخبث الشر، والخبائث الأشرار سواء من الجن أو من الإنس.
وإذا خرج قدم اليمنى، وقال: " غفرانك الحمد الله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " قال: مناسبة ذكر المغفرة أن الإنسان إذا دخل، وهو مثقل بهذا الأذى، ثم خرج وقد خف تذكر ثقل الذنوب، فقال: "غفرانك" أي: خفف عني الذنوب كما خففت عني هذا الأذى.
وقيل: إن مناسبة طلب المغفرة التقصير في شكر هذه النعمة، أن الله أنعم عليه بالطعام الحلال الطيب، ثم أنعم عليه بإخراجه وإزالته بسهولة وعدم أذى، ولهذا حمد الله وقال: " الحمد الله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " أي منَّ عليَّ، ولم ألق بؤسا ولا ضررا، لا في الأكل ولا في التخلي.
"واعتماده على رجله اليسرى في الجلوس ونصب اليمنى" قيل: لأنه لتكريم اليمنى كي يكون اعتماده على اليسرى، وقيل: إنه أسهل للخروج، يورد ذلك في حديث وإن كان ذلك ليس بحديث، فيه مقال، ليس ذلك بمورود، ولكنه من باب الأفضل.
واستتاره وارد أيضا أنه -عليه الصلاة والسلام- أنه إذا ذهب للخلاء أبعد، وكان يستتر. يحب أن يستتر بجسم حائط أو بشجرة أو بصخرة أو نحو ذلك، حتى إنه مرة لم يجد إلا شجرتين متفرقتين، فأمره الله أن يدني إحداهما إلى الأخرى، قربت حتى صارتا كشجرة واحدة فسترته، ما يدل على أنه يحدث، يستتر إذا جلس على قضاء الحاجة، وذلك أنه على حالة مستقذرة، يندب عليه أن يستر نفسه عن نظر الناظرين، وإذا كان في فضاء يبعد عن الناس؛ حتى لا يؤذيهم بما يخرج منه.
الأماكن التي يجتنب بها قضاء الحاجة(1/17)
يحرم قضاء الحاجة عن التخلي في الطريق؛ لأن الناس يسلكون هذا الطريق، فيتأذون بهذا القذر، وكذلك محل الجلوس، إذا كان مثلا يظل بظل حائط أو بشجرة، فإنهم يتأذون إذا تغوط فيه، وكذلك تحت الشجرة التي عليها ثمار، ربما يتساقط الثمار على ذلك النتن فيقذرها، وكذلك في مكان يؤذي فيه الناس، يتأذى الناس بهذا الفعل.
استقبال القبلة واستدبارها
ورد فيه أحاديث كثيرة، فيصحح شيخ الإسلام أنه لا يجوز استقبالها ولا استدبارها مطلقا، وتبعه السعدي هنا، قال: "لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها عند قضاء الحاجة"، لم يقل: إلا في البيوت، بل أطلق، فدل على أنه باختياره؛ لأنه اختيار شيخ الإسلام، فالأحاديث التي بها أنه - صلى الله عليه وسلم - استقبل القبلة واستدبرها محمولة على العذر، أو محمولة على الخصوصية. عموم هذا الحديث: " إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا " واضح في أن الحكم عام، وأنه لا يجوز أن أحدا يستقبل القبلة بمكان لا صحراء ولا بنيان.
هذا هو القول الصحيح، وعليه إذا دخلت مثلا في الأماكن المبنية في داخل البيوت، فإنك تنحدر قليلا، ففي تمام حديث أبي أيوب هذا: يقول أبو أيوب: " قدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحدر عنها ونستغفر الله - عز وجل - " .
يقول: "فإذا قضى حاجته استجمر بثلاثة أحجار أو نحوها تنقي المحل"، الاستجمار: هو مسح أثر الخارج، أثر البول أو أثر الغائط بالأحجار ونحوها، وسمي استجمارا اشتقاقا من الجمرات، وهي الحجارة الصغيرة؛ لأن الغالب عليها أنها تكون كالجمرات، يعني كجمر النار ونحو هذه الصفة، بها يستجمر بأن يأخذ ثلاثة أحجار، فيمسح بها محل البول -القبل-، أو الدبر.(1/18)
وذكر قوله: "أو نحوها" يدل على أنه يجوز الاستجمار بغيرها، يعني بغير الأحجار، بكل شيء ينقي إلا ما نهي عنه كما سيأتي، والحكمة في الاستجمار أن يذهب جرم النجاسة، وما يلتصق بالبشرة من النجاسة يزيله بهذه الأحجار، يمسح بها الصرحتين والمشربة، وإذا لم يمكن بثلاثة زاد حتى يمكن.
ويسن ختمه على وتر، ورد في الحديث: " من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج " .
الاستنجاء بالماء بعدها أفضل، يعني أن يأتي بالأحجار، ثم بالماء، وذلك لأن الماء يغسل المحل فينظفه، فالاستجمار يزيل العين، والماء ينظف ويغسل الأثر، يكفي الاقتصار على أحدهما إذا أنقى، إذا حصل الإنقاء بالأحجار وإزالة الأثر كله بالأحجار أو نحوها بالاستجمار كفى ذلك.
ويكفي أيضا الاقتصار على الماء، لو لم يستعمل الأحجار، واقتصر على الماء كفى ذلك أيضا؛ لأن الماء ينظف، لكن كأنه يستحب الجمع بينهما، لأنه ذكر الاستجمار ثم الاستنجاء. كأنه يستحب الجمع وهو أفضل أن يبدأ بالاستجمار ثم بالاستنجاء، فإذا اقتصر على أحدهما فالماء أفضل. يقتصر على الماء، فهو أفضل من الاقتصار على الأحجار.
ولا يستجمر بالروث والعظام لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، ثبتت بأحاديث كثيرة أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجوا بالعظم والروث، وقال: " إنهما لا يطهران " .
وفي حديث آخر أنه ألقى الروث، وقال: " هذا رجس " وفي حديث آخر أنه قال: " إنهما طعام إخوانكم من الجن " يعني العظم طعامهم، والروث علف لدوابهم. بكل حال لا يستنجي بها، لا يستنجي مثلا بأوراق المصاحف هذا حرام. ولا بكتب العلم، حرام لما بها من الحرمة، ولا بالطعام ككسر الخبز أو ما أشبهها؛ لما لها من الحرمة.(1/19)
انتهى ما يتعلق بالاستنجاء والاستجمار، بدأ في محو النجاسة، النجاسة التي تقع على البدن، أو على الإناء، أو على الأرض، أو على الفراش، لا بد من غسلها إذا كانت على البدن، على الجسد كالفخذ والبطن والظهر واليد والرجل، أو على الثوب، على القميص، أو على العمامة، أو على السراويل، أو على العباءة، أو على القلنسوة، أو على البقعة الأرض التي يصلي عليها، أو السجادة مثلا، أو على الأواني.
كيف تزول هذه النجاسة ؟
إزالة هذه، إزالة العين، عين النجاسة، إذا زالت العين طهر المحل، يعني صبغة الدم -لونه- مادام أنه إذا غسلته يخرج أثر الدم، فاغسل، فإذا لم يخرج وبقي، ما بقي شيء فإنه قد طهر المحل، وكذلك عين نجاسة البول أو الغائط أو نحوها، فاغسل حتى يزول أثرها وتزول عينها، ولا حاجة إلى عدد إلا في نجاسة الكلب، في نجاسة الكلب أمر بغسلها، ولو لم تظهر عينها سبع مرات ثامنها التراب، أو إحداهما بالتراب كما هو مشهور، ولذلك حكمة معروفة.
الحاصل أن النجاسة على البدن أو على الثوب أو غيره تغسل حتى تزول، فإذا زالت عينها لم يبق لها أثر فإنه يطهر. ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الدم دم الحائض يصيب الثوب، فقال " يكفيك الماء ولا يضرك أثره " إذا غسل الدم الذي على الثوب، ولكن بقيت صبغته في الثوب شيء لا يزيله الماء فإنه قد طهر.
النجاسات تارة يكون المتنجس طرأت عليه النجاسة، فهذا يغسل حتى تزول النجاسة الطارئة كالبقعة التي تنجست إذا غسلت طهرت، ولكن الأعيان النجسة ما تطهر بالغسل، فالميتة إذا غسلتها ما طهرت، والكلب إذا غسلته أو السباع إذا غسلتها ما طهرت؛ وما ذاك إلا أن نجاستها عينية.(1/20)
الأنجاس العينية مثل البول -بول الآدمي-، والغائط -العذرة-، والدم، هذه نجسة لأنها مستقذرة مستقبحة، تنفر النفس منها وتستقبحها، فهي نجاسات، فإذا وقعت على ثوب، فإنها تغسل حتى يزول أثرها، يعفى في الدم عن اليسير، إذا كان الدم يسيرا. نقطة، نقطتين، ثلاث نقط متفرقة على الثوب، يعفى عنها؛ لأنها شيء مما تعم به البلوى، وقع ذلك لبعض الصحابة فلم يعيدوا الصلاة.
الدم المسفوح من الحيوان نجس؛ لأن الله حرمه في قوله: { (((( ((((( (((((((((( } المسفوح هو السائل الذي يسيل من الحيوان حتى ولو كان مأكولا، إذا ذبحت الذبيحة، وسال الدم منها، فإن هذا الدم نجس، أما الدم الذي يبقى في العروق، فإنه يعفى عنه، يعني عروق الذبيحة قد يبقى فيها شيء يتجمد، فلا يسمى مسفوحا، فإنه يعفى عنه ويؤكل تبع اللحم.
من النجاسات بول وروث كل حيوان محرم الأكل كأرواث الحمير والكلاب والسباع وأبوالها، وكذلك كل شيء محرم الأكل كالقطط والسنانير والثعالب، كلها حرام، ونجس بولها، ونجس روثها. السباع مثل الذئاب والفهود والأسود كلها نجسة، يعني نجس روثها، كذلك الميتات، ميتة بهيمة الأنعام، شاة ماتت حتف أنفها نجسة؛ لأن الله حرمها، إلا ميتة الآدمي؛ لقوله ورد في حديث: " المؤمن لا ينجس حيا وميتا " .
كذلك ما لا نفس له سائلة؛ لأنه مما تعم به البلوى، فلا ينجس الماء بموته فيه، الذباب والبعوض والفراش والنحل والنمل والذر والحشرات حتى الكبيرة كالعقرب وما أشبهه والجخابز؛ هذه إذا ذبحت لا يخرج منها دم، فتكون ميتتها طاهرة تسهيلا على المسلمين.
وكذلك ما يؤكل، ولو كان ميتة كالسمك والجراد، فإنه طاهر ورد في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالجراد والحوت -الحوت يعني السمك- وأما الدمان فالكبد والطحال " الكبد كأنها دم متجمد، لكنها ليست دما، والطحال كذلك كأنه دم متجمد.(1/21)
الأرواث أرواث الحيوانات المأكولة وأبوالها طاهرة أيضا؛ لقصة العرنيين الذين أرسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، ولأنها طاهرة مأكولة اللحم. الإبل والبقر والغنم، وكل المأكولات كالصيد والظباء والوعول والأرنب والضب والوعل والوبر وما أشبهها أبوالها وأرواثها طاهرة.
أما مني الآدمي فيه خلاف كثير، والمؤلف كأنه يختار أنه طاهر، وهو المشهور في المذهب، المني هو الماء الأصفر الغليظ اللزج، الذي يخرج من الإنسان عند الجماع، أو عند الاحتلام، وعند الشهوة القوية، وإذا خرج بردت، أو حس الإنسان ببرود الشهوة بعده، يحدث كثيرا من المحتلم، تخرج منه هذه الشهوة في النوم، هذا المني فهو فيه خلاف، منهم من يقول: إنه طاهر، ومنهم من يقول: نجس، والأقرب أنه طاهر، وذلك لأنه المادة التي خلق منها الإنسان، ورد في الحديث تشبيهه بالمخاط والنخام وما أشبهه، وأنه يكفي أن يمسحه بعود أو بأبخرة.
ورد أن عائشة كانت تفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يابسا، وبعضهم يحتاط ويقول: إن كان يابسا فليفرك وإن كان رطبا فليغسل.
بول الآدمي، بول الغلام الصغير الذي لم يأكل الطعام بشهوة يكفي به النضح، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام " رواه أبو داود والنسائي.
النضح هو الغسل الخفيف، يعني: أن يصب عليه الماء دون فرك ودلك، يكفي أن تصب عليه الماء، وتتبعه إياه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرط ألا يكون قد أكل الطعام بشهوة، أي لا يشتهي الطعام فيطلبه، أو يكون غذائه الطعام، أو أكثر غذائه الطعام، أما إذا كان غذاؤه اللبن، فإنه يكفي فيه الرش والنضح.
وقالوا: السبب في ذلك -والله أعلم- أن النفوس تغشى الذكور فيبتلون بحمل الذكر كثيرا، نشأ حجم نجاسته -بوله- صغيرة، أما غائطه فإنه يغسل منه، الاستثناء خاص بالبول، أما الأنثى فيغسل بولها كبول الكبير.(1/22)
يقول: إذا زالت عين النجاسة طهرت، ولم يضر بقاء اللون أو الريح، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لخولة بنت يسار في دم الحيض: " يكفيك الماء ولا يضرك أثره " ذكر أن النجاسة تغسل حتى يزول عينها، حتى تزول عين النجاسة، فإذا كانت النجاسة مثلا على بلاط ثم صب عليها ماء وزال عينها زالت عين النجاسة، طهر المحل.
وكذلك إذا كانت النجاسة على الثوب، نجاسة بول أو غائط، وصببت الماء عليها حتى لم يبق لها عين -عينها يعني جرمها- طهر المحل، وكذلك الدم على الثوب ونحوه يكفي فيه الماء، لكن بعدما تزول أو تخفف عينه.
في الحديث الآخر أنه سئل عن دم الحيض يصيب الثوب فقال: " تحته، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه " أمرها أولا أن تحت المتجمد، تحته بين أصابعها، أو تحته بظفرها، أو بعود أو بعظم أو نحوه؛ حتى يتساقط المتجمد، ثم بعد ذلك تقرصه بالماء، تصب الماء بين أصابعها وتمسكه وتفركه، وتدلكه حتى يزول بالماء، ثم بعد ذلك تغمره بالماء وتنضحه.
بهذا آخر هذا الباب نقتصر عليه، وبعده غدا- إن شاء الله- نقرأ صفة الوضوء ونواقضه والغسل والتيمم، لعلنا نصل إلى الصلاة حتى نسرع في السير، حتى نقطع شوطا من الكتاب.
والآن نبدأ في صفة الوضوء:
باب صفة الوضوء
وهو أن ينوي رفع الحدث، أو الوضوء للصلاة ونحوها، والنية شرط لجميع الأعمال من طهارة وغيرها؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " متفق عليه. ثم يقول: بسم الله، ويغسل كفيه ثلاثا، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا بثلاث غرفات، ثم يغسل وجهه ثلاثا، ويديه مع المرفقين ثلاثا، ويمسح رأسه من مقدمه إلى قفاه بيديه، ثم يعيدهما إلى المحل الذي بدأ منه مرة واحدة، ثم يدخل سبابتيه في أذنيه، ويمسح بإبهاميه ظاهرها، ثم يغسل رجله مع الكعبين ثلاثا ثلاثا.(1/23)
هذا أكمل الوضوء الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - والفرض من ذلك أن يغسلها مرة واحدة، وأن يرتبها على ما ذكره الله بقوله: { ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( ((((( (((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((( } ..الآية، وأن لا يفصل بينهما بفاصل كثير عرفا، بحيث ينبني بعضه على بعض، وكذا كل ما اشترطت له الموالاة.
فإن كان عليه خفان ونحوهما مسح عليهما، إن شاء يوما وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، بشرط أن يلبسهما على طهارة، ولا يمسحهما إلا في الحدث الأصغر، عن أنس مرفوعا: " إذا توضأ أحدكم، ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة " رواه الحاكم وصححه.
فإن كان على أعضاء وضوئه جبيرة على كسر أو دواء على جرح، ويضره الغسل؛ مسحه بالماء في الحدث الأكبر والأصغر حتى يبرأ.
وصفة مسح الخفين أن يمسح أكثر ظاهرهما، وأما الجبيرة فيمسح على جميعها.
هذه صفة الوضوء الذي ذكره الله -تعالى-، قد يقال: كيف يصفونه، ويكثرون من أوصافه مع كونه مذكورا في القرآن؟ فنقول: إنه ذكر في القرآن مجملا، ثم إن الشريعة المجملة وكل تفاصيلها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تعالى: { ((((((((((( (((((((( ((( ((((((( (((((((((( } فكان التفسير هو البيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة السنة، ومن جملة الشريعة، فهذه الأوصاف وإن لم تذكر في القرآن، فإنها مذكورة في السنة.
أولا: النية؛ لهذا الحديث: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " معلوم أن النية ملازمة للإنسان في كل الأفعال، فإنه إذا فعل فعلا فلا بد له من نية، ولهذا مثلا إذا رأيته متوجهًا إلى الغسالات ونحوها، وسألته ماذا تريد؟ قال: أتوضأ، فدل على أنه قد نوى، وعلى هذا فلا يتشدد في النية. تدخَّلَ الشيطان على كثير من الموسوسين، فشط عليهم في أمر النية.(1/24)
فنقول: النية ملازمة، فإما أن ينوي بغسله رفع الحدث، وإما أن ينوي بغسل وجهه رفع المعاش، وإما أن ينوي بغسل أعضائه مثلا النظافة وإزالة الوساخة وما أشبه ذلك، " لكل امرئ ما نوى " فإذا كان لا قرينة تدل على أنه نوى غير رفع الحدث اكتفى بذلك، ولا حاجة إلى أن يحرك بذلك قلبه.
ماذا ينوي؟ ينوي رفْع الحَدَث الذي تقدم أنه أمر معنوي يكون في البدن، يمنع من الصلاة والطواف ومس المصحف، أو ينوي الوضوء للصلاة، وينوي الطهارة للصلاة أو نحوها، ويكفي ذلك، فلا حاجة إلى أن يستحضر النية دائمًا، استحضار ذكرها ليس بلازم، استحضار حكمها لازم، ومعنى استحضار حكمها أن لا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، فلو نوى مثلا غسل وجهه ويديه بنية، ثم قطع النية بعدما ترك الوضوء، وغسل رجليه للنظافة، لم يرتفع حدثه.
أما التسمية فهي واجبة عند بعض العلماء، منهم الإمام أحمد رأى أنها واجبة، ولكن وجوبها خاص بمن تذكر ذلك، فلذلك قال: "تسقط بالنسيان، وتسقط بالجهل"، والأحاديث التي فيها تبلغ درجة الصحة: " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " أو في حديث آخر: " لا صلاة إلا بوضوء، ولا وضوء إلا بذكر اسم الله " أو كما في الحديث، وما رواه أبو داود في مسائله عن أحمد أنه قال: لا يصح في الباب شيء، يريد أنه ليس منها حديث واحد يحكم بأنه صحيح، ولكن مجموعها يرتقي إلى درجة الصحة.
غسل الكفين ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء، أو قبل الغرف بهما إن كان يصب من الأجرام ونحوها سنة؛ وذلك لتنظيف اليدين، الغالب أن اليدين يتسخان، فيسن أن يغسلهما حتى ينظفهما، فإذا اختلط به الماء أصبح نظيفًا.(1/25)
المضمضة والاستنشاق ثلاثًا بثلاث غرفات، عندنا أنها من تمام غسل الوجه، لا يتم غسل الوجه إلا بهما -بالمضمضة والاستنشاق- والأدلة عليهما كثيرة، مثل حديث: " إذا توضأت فتمضمض " ومثل الحديث: " بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا " والأحاديث كثيرة، ومثل الأحاديث الفعلية ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك المضمضة والاستنشاق مرة واحدة هذا هو الصحيح.
الشافعية يرون أنها سنة، ولكن الصحيح أنها واجبة، أنها تابعة لغسل الوجه، التثليث فيهما سُنَّة، الواجب غسلة واحدة، الغرفة الواحدة يجعل بعضها في فمه ثم يستنشق بقيتها، ثم يحرك الماء في فمه ويمجه، ثم يخرج ما استنشقه في أنفه، يدفعه بالنَّفَس، وذلك هو الاستنثار.
الاستنشاق: نشق الماء يعني اجتذابه بالنفس، والاستنثار نثره يعني دفعه بقوة النفس، فلذلك سموه استنشاقًا واستنثارًا، والحركة التي يجتذب بها كونه يقول. يشمه بأنفه ثم بعد ذلك يدفعه بنفسه ليقول: ... هذه لا يمكن كتابتها، لذلك قالوا: إن هذه الحروف التي تنقل أو الحركات التي تنقل قالوا: بالسماع، ولذلك يقولون: ذَكَر بعضهم قوله في بيتين مشهورين:
مررت ببقال يدق قَرَنفلًا
ومسكًا وكافورًا فقلت له شش
يعني: هذا الكلام ..
فقال لي البقال: رُدَّ قَرَنفلي
ومسكي وكافوري فقلت له شش
يعني هذا أخرجه من أنفه، هذا هو الاستنشاق اجتذابه بالنَّفَسِ، والاستنثار إخراج الماء الذي في الأنف.(1/26)
"غسل وجه ركن من أركان الوضوء، والتثليث سنة، والوجه ما تحصل به المواجهة، وحده من منابت الشعر المعتاد إلى الذقن، والذقن هو مجمع اللحيين"، ننتبه إلى أن الذقن اسم لأسفل الوجه، ليس هو اسم للشعر، الشعر اسمه لحية، وأما أسفل الوجه ملتقى اللحيين فيسمى ذقنا، فيقال: ذقن المرأة، وذقن الصبي يعني: أسفل الوجه، ملتقى اللحيين يسمى ذقنا، فيغسل من منابت الشعر إلى الذقن، ويغسل الشعر الخفيف الذي في الوجه كالعارضين، وشعر اللحية يغسل ظاهره إن كان كثيفا ويسن تخليله، وإن كان خفيفا، فإنه يغسل ظاهره وباطنه.
غسل اليدين أيضا ركن، حددهما الله -تعالى- بقوله: { ((((( ((((((((((((( } والمرفق هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، سمي بذلك؛ لأنه يرتفق عليه يعني: يعتمد عليه، يتكأ عليه إذا جلس أو إذا اعتمد، والمرفق داخل في الغسل كما في حديث طلحة بن مصرف " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدار الماء على مرفقيه " والتدليك سنة كما سيأتي.
مسح الرأس أيضا ركن، حده من مقدمه الذي هو منبت الشعر إلى منتهى الشعر وهو القفا، وصفته أن يبدأ بالمقدم، يضع يديه على مقدم الرأس، ثم يمر بهما على شعره -على الرأس- إلى القفا، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، والتدليك ليس بسنة، بل يكفي مسحة واحدة، يعني: الأحاديث التي وردت كلها على الاقتصار على مسحة واحدة؛ وذلك لأنه لا يقصد منه النظافة، وإنما يقصد منه الامتثال.
مسح الأذنين: تابعة للوجه أي للرأس، وقال بعضهم: إن ما أقبل منهما تابع للوجه، وقفاهما تابع للرأس، ولكن المشهور أنهما تابعان للرأس، الحديث قال: " الأذنان من الرأس " .
صفة مسحهما: أن يدخل السبابتين في خرق الأذن، في صماخ الأذن، ثم يمسح ظاهر الأذن بالإبهامين، بإبهاميه ظاهر أذنيه حتى يكون قد مسح أذنيه، وأما الغضاريف التي بداخل الأذن فلا يلزم غسلها للمشقة.(1/27)
غسل الرجلين مع الكعبين أيضا ركن، وهو مجمع على غسلهما إلا عند الرافضة، فإنهم يذهبون إلى المسح، ويستدلون بقراءة الجر: "وأرجلِكم"، وأهل السنة يستدلون بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستدلون بحديث: " ويل للأعقاب من النار " ويستدلون بقراءة النصب: "وأرجلَكم". ويحملون قراءة "أرجلِكم" على الخفض بالمجاورة.
هذا أكمل الوضوء الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - والفرض من ذلك أن يغسلها مرة واحدة، أن يغسل أعضاءه غسلة واحدة، ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، وأنه توضأ مرتين مرتين، وأنه توضأ ثلاثا ثلاثا، وأنه غسل بعض أعضائه ثلاثا، وبعضها مرتين.
الترتيب عندنا أيضا أنه ركن، وهو أن يبدأ بالوجه، ثم باليدين، ثم بالرأس، ثم بالرجلين، فإن قدَّم غسل اليدين قبل الوجه لم يعتد بهما، وإن مسح الرأس قبل أن يغسل ذراعيه لم يعتد بمسحه، لا بد أن يرتبهم على ما ذكر الله، الله تعالى ذكر الوضوء، ثم الأيدي، ثم الرأس، ثم الأرجل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ابدءوا بما بدأ الله به " .
الموالاة أيضا عندنا ركن، الموالاة هي الإسراع، بحيث إنه كلما فرغ من عضو ابتدأ في الذي بعده، ولا يفصل بينهما حتى لا يطول الفصل؛ لأنه -مثلا- لو غسل وجهه، ثم جلس يتحدث حتى نشف وجهه، ثم غسل يديه، ثم جلس يتحدث، وطال الزمان، وغسل ثم يبست، ثم مسح رأسه، ما صدق عليه أنه متوضئ، فالمتوضئ هو الذي يأتي بهذه الأعضاء في مجلس واحد، ولا يفرق بينها، لا يفصل بينها بفاصل كثير الفرقة، بحيث ينبني بعضها على بعض.(1/28)
الوضوء شيء واحد مبني بعضها على بعض فلا يفرقه، كما سيأتينا في الطواف بالبيت أنه أيضا يلزم فيه الموالاة، والتفريق الكثير أيضا يبطله، كما اشترطت له الموالاة كالطواف وكالسعي، اشترطوا لها الموالاة، وكألفاظ الأذان، لو أن المؤذن كبر التكبيرات الأربع، ثم ذهب إلى بيته، ثم رجع وتشهد بشهادات ما صدق عليه أنه أذن، لا بد أن تكون ألفاظ المؤذن متوالية. المسح على الخفين والجبيرة
انتهى من صفة الوضوء، وابتدأ في المسح على الخفين، إن كان عليه خفان ونحوهما مسح عليهما، إن شاء يومًا وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، والمسح على الخفين مشهور، وهو مما نقل بالتواتر، لم ينقل عن أحد من السلف إنكاره إلا عن المبتدعة كالخوارج والروافض ونحوهم.
الرافضة إلى الآن ينكرونه، وأما أهل السنة فإنهم يعتقدونه حتى إنهم جعلوه من العقيدة، ذكروه في كتب العقيدة، كما في الطحاوية وغيره لماذا؟ لأن المخالفين فيه هم المخالفون في العقيدة، ولأنهم مخالفون للنصوص القطعية.
قال الإمام أحمد: "ليس بنفسي من المسح شيء، فيه أربعون حديثًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-" يعني: الأحاديث الثابتة، وأن فيه أكثر، قد سرد صاحب "نصب الراية" ستة وخمسين حديثا يعني: ستة وخمسين صحابيا.
الخف: اسم لنعل من جلود يجعل فوق ظهرها جلد آخر تربط به، ويخرز فيه، ويجعل لها ساق أيضا من جلود، ثم بعد ذلك يعقد على الساق، وتسمى قديما "الزربول"، وهي لغة فصيحة أيضا، وإن كان نوعا من أنواعها.
ومن أنواعها: "الجرموق"، وهو خف طويل يعني: له ساق، ومما يشابهها "البسطار" الذي يلبسه العسكر ونحوهم، فإنه أيضا يستر القدم كلها، ويستر الواجب فرضه إلى نصف الساق، وثلث الساق، فيمسح على هذا كله إذا تمت الشروط.(1/29)
وأما ما يسمى بالشراب، ويعرف بالجوارب، فهذه بالمسح بها خلاف، ذهب الإمام أحمد إلى جواز المسح عليها إذا كانت سميكة، ولم ير ذلك بقية الأئمة، قالوا: لأن الماء يخرقها، فلا يصح عليها إذا كانت منسوجة من القطن أو من الصوف وما أشبهه، ولكن الحاجة داعية إلى ذلك، ولكن بشرط أن تكون سميكة بحيث تستر البشرة، وتحصل بها التدفئة؛ لأن القصد من لبسها تدفئة القدم، ودليل الإمام أحمد فعل الصحابة، قد روى عن أحد عشر صحابيا أنهم مسحوا على الجوارب.
وينتبه على أن كثيرًا من الناس يتساهلون، ويمسحون على الجورب وهو رقيق أو مخرق، وهذا لا يجوز، وأما الخف المخرق فإنه يمسح عليه؛ لأن خفاف الصحابة كانت بها خروق غالبا.
وأما التوقيت: فإنه -أيضا- ثابت، يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام للمسافر إذا كان معه ماء، إذا كان يتوضأ، شروط ذلك أن يلبسهما على طهارة يعني: بعدما تتم الطهارة.
لو لبس اليمنى قبل أن يغسل الرجل اليسرى فهل يمسح أم لا؟ فيه خلاف، والاحتياط ألا يلبس اليمنى حتى يغسل اليسرى، حتى يلبس بعد كمال الطهارة.
المسح خاص بالحدث الأصغر، أما إذا كانت عليه جنابة، فإنه يخلعهما، هذا الحديث عن أنس صحَّحه الحاكم: " إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه، فليمسح عليهما، وليصل فيهما، ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة " فدل على أنه لا يمسح عليهما إذا كان في الحدث الأكبر، وكذلك في حديث صفوان الذي في بلوغ المرام قال: " أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا سفرة ألا ننزع خفافنا ثلاثا إلا من جنابة، لكن من غائط وبول ونوم " .(1/30)
انتهى من المسح على الخفين، بدأ المسح على الجبيرة، إذا كان على أعضاء وضوئه جبيرة على كسر، أو دواء على جرح، ويضره الغسل مسحه بالماء في الحدث الأكبر والأصغر حتى يبرأ، ورد في الجبيرة حديث صاحب الشجة، وقد ضعَّفه بعضهم، لكن روي من طريق أخرى عن ابن عباس يتقوَّى به الحديث ويعلم أنه صحيح: " أن رجلا أصابته شجة في رأسه، فاغتسل فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يكفيه أن يعصب على رأسه خرقة يمسح عليها، فيغسل سائر جسده " وفيه حديث -أيضا- عن علي قال: " انكسر إحدى زندي، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمسح على الجبائر " .
والجبائر يعني: ما يجبر به العضو، فالشجة يوضع عليها شاشة أو نحوها، ويمسح عليها إذا كانت في الرأس، والجرح إذا كان في الجسد -مثلا- وضع عليه لصوق أو نحوه أو لصقة صغيرة، ومسح عليها أجزأ، حتى لو كان في الحدث الأكبر.
وصفة المسح: أن يمرر يديه على خفيه، ويجوز أن يمسح اليمنى بيديه كليهما، ثم يمسح اليسرى بيديه كليهما، وإن مسح بكل يد خفا أجزأه ذلك، وذلك يعني: الذين استحبوا أن يبدءوا باليمنى جعلوه كالوضوء قالوا: المتوضئ يغسل يديه، ثم يغسل رجليه، ولكن مع ذلك يقدم اليمنى، فكذلك فالماسح يقدم مسح اليمنى، لكن لو غسل يديه دفعة واحدة، وغسل رجليه دفعة واحدة أجزأه ذلك، وكذلك إذا مسح ظهر خفيه، الجبيرة يبل يده، ويمسح عليها كلها. اقرأ.
باب نواقض الوضوء
وهي الخارج من السبيلين مطلقا، والدم الكثير ونحوه، وزوال العقل بنوم أو غيره، وأكل لحم الجزور، ومس المرأة بشهوة، ومس الفرج، وتغسيل الميت، والردة، وهي تحبط الأعمال كلها، لقوله تعالى: { (((( (((((( (((((( ((((((( ((((( (((((((((((( (((( ((((((((((( (((((((((((( } وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم " رواه مسلم، وقال في الخفين: " ولكن من غائط وبول ونوم " رواه النسائي والترمذي وصحَّحه.(1/31)
باب ما يوجب الغسل وصفته: ويجب الغسل من الجنابة، وهي إنزال المني بوطء أو غيره، أو بالتقاء الختانين، وخروج دم الحيض والنفاس، وموت غير الشهيد، وإسلام الكافر، قال تعالى: { ((((( ((((((( ((((((( ((((((((((((( } ..الآية، وقال تعالى: { (((( ((((((((((((( (((((( (((((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((((( (((( (((((( (((((((((( (((( } ..الآية أي: إذا اغتسلن، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغسل من تغسيل الميت، وأمر من أسلم أن يغتسل.
وأما صفة غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة، فكان يغسل فرجه أولا، ثم يتوضأ وضوءا كاملا، ثم يحثي الماء على رأسه ثلاثا يُرَوِّيه بذلك، ثم يفيض الماء على سائر جسده، ثم يغسل رجليه بمحل آخر، والفرض من هذا غسل جميع البدن، وما تحت الشعور الخفيفة والكثيفة، والله أعلم.
باب التيمم: وهو النوع الثاني من الطهارة، وهو بدل عن طهارة الماء، إذا تعذَّر استعمال الماء لأعضاء الطهارة، أو بعضها لعدمه أو خوف باستعماله، فيقوم التراب مقام الماء، بأن ينوي رفع ما عليه من الأحداث، ثم يقول: بسم الله، ثم يضرب التراب بيديه مرة واحدة، يمسح بهما جميع وجهه وجميع كفيه، فإن ضرب مرتين فلا بأس.
قال الله تعالى: { (((((( ((((((((( (((((( ((((((((((((( (((((((( (((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( (((((((((((( ((((((( ((( ((((((( (((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((((( (((((((( ((((((( ((((((((((((((( (((((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((( ((((((((((( ((( } وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا؛ فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة " متفق عليه.(1/32)
ومن عليه حدث أصغر لم يحل له أن يصلي، ولا يطوف بالبيت، ولا يمسَّ المصحف، ويزيد من عليه حدث أكبر أنه لا يقرأ شيئا من القرآن، ولا يلبث في المسجد بلا وضوء، وتزيد الحائض والنفساء أنها لا تصوم، ولا يحل وطؤها ولا طلاقها.
باب الحيض: والأصل في الدم الذي يصيب المرأة أنه حيض، بلا حد لسنه ولا قدره ولا تكرره، إلا إن أطبق الدم على المرأة أو صار لا ينقطع عنها إلا يسيرا؛ فإنها تصير مستحاضة، فقد أمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تجلس عادتها، فإن لم يكن لها عادة فإلى تمييزها، فإن لم يكن لها تمييز فإلى عادة النساء الغالبة ستة أيام أو سبعة، والله أعلم.
نواقض الوضوء: هي مبطلاته أو موجبات الوضوء، إذا حصل واحد منها وهو متوضئ بطل الوضوء، أو إذا حصل واحد منها، وأراد الإنسان أن يصلي وجب عليه الوضوء؛ فلذلك تسمي مبطلات ونواقض وموجبات للوضوء.
أكثر ما عدوها ثمانية، كما هو معروف في الكتب المختصرة أنها ثمانية، وبعضها فيه خلاف، أما الخارج من السبيلين فلا خلاف أنه ناقض وفيه تفاصيل، وهي الخارج -مثلا- أن قد يخرج من السبيل غير البول والغائط، كمن يخرج من دبره دود أو نحوه، يعتبر ناقضا من النواقض، وكذلك خروج المني، وخروج المذي وما أشبهه، كل ذلك خارج من السبيلين، وكذلك لو خرج من أحد سبيليه دم يعتبر ناقضا، ولا فرق بين قليله وكثيره.
ومن الخارج من السبيلين الريح، فإنها أيضا ناقض؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق: " لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا " .(1/33)
الثاني: الخارج من البدن إذا كان نجسا، الخارج من البدن قد يكون طاهرًا كالعرق والدموع، وكذلك ما يخرج من الفم أو من الأنف كالنخام أو المخاط وما أشبهه، هذا لا ينقض الوضوء، أما الدم فإنه ناقض؛ وذلك لأنه خارج مستقذر؛ ولأنه ورد في أحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أحدث أحدكم في الصلاة فليمسك بأنفه، ثم ليخرج " فدل على أن من رعف فإنهم عرفوا أنه يخرج، من رعف في الصلاة فإنه يقطع الصلاة، وأن الرعاف يبطل الوضوء، ويبطل الصلاة، والحديث هذا مذكور في "مشكاة المصابيح"، وصحَّحه الألباني في تعليقه عليها.
الدم والصديد، صديد الجروح إذا كان كثيرا، والقيح إذا كان كثيرا، ويعفى في ذلك عن اليسير.
الثالث: زوال العقل، النوم ناقض للوضوء، أي: مظنة للنقض، وليس هو ناقض لنفسه، بل هو مظنة، الحديث الذي فيه: " العين وكاء السهِ، فإذا نامت العينان أطلق الوكاء " فعبر بالسهِ عن الدبر أنه ما دام منتبها فإنه ينتبه لنفسه، فإذا نامت العينان لم يشعر بما يخرج منه، الإغماء زوال العقل، وفي الحديث أنه -عليه السلام- لما أغمي عليه اغتسل، فدل على أنه يبطل الوضوء.
الرابع: أكل لحم الإبل، وخصَّه بعض العلماء باللحم، ولكن الصحيح أنه عام لأجزائها كلها، يعني: من ينكر أكل الكبد، وأكل الطحال، وأكل الكلية، وأكل اللسان وما أشبهه.
الخامس: مس المرأة بشهوة؛ وذلك لأنه يثير الشهوة؛ فيحرك الشهوة، فلا بد أن يخفف ذلك بالوضوء، والعموم لقوله: { (((( ((((((((((( (((((((((((( } . السادس: مس الفرج، والفرج يعبر به عن الدبر والقبل، والمراد أن يمسه بيده، بيده بطنها أو ظهرها.
السابع: تغسيل الميت.
الثامن: الردة، الردة اختصت بأنها تحبط الأعمال كلها؛ لقوله تعالى: { ((((( (((((((((( ((((((( ((( (((((((( (((((((( (((((( ((((((( (((((((((((((( (((((((( ((((((((((((( } ولقوله: { (((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((( } .(1/34)
دليل الخارج من السبيلين وملامسة النساء قوله: { (((( (((((( (((((( ((((((( ((((( (((((((((((( (((( ((((((((((( (((((((((((( } الغائط: هو المكان المنخفض من الأرض، كانوا ينتابونه لقضاء الحاجة، ثم صار يستعمل في الخارج نفسه، والملامسة فسرت بأنها لمس بشهوة، وحديث جابر بن سمرة الذي في صحيح مسلم: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ فقال: إن شئتم. قالوا: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم " فخيَّرهم في لحوم الغنم، وألزمهم في لحوم الإبل، هذا دليل على أنه يتوضأ من لحوم الإبل.
ودليل النوم في حديث صفوان الذي أشرنا إليه قال: " ولكن من غائط وبول ونوم " أورد هذه الآثار كأدلة على هذه النواقض. باب ما يوجب الغسل وصفته
باب ما يوجب الغسل: الغسل هو اغتسال الإنسان يعني: غسل جميع بدنه بالماء، إمرار الماء على جميع بدنه مع الدلك ونحوه.
موجبات الغسل
أولا: الجنابة: وسميت بذلك لأن الجنب كأنه يتجنب أشياء لا يتجنبها غيره؛ يتجنب المساجد، ويتجنب القرآن، ويتجنب مس المصحف؛ فلذلك سمي جنبا، قال تعالى: { ((((( ((((((( ((((((( } كلمة جنب تطلق على الواحد والجماعة، فيقال: هؤلاء جنب، ويقال: هذا جنب.
تعريف الجنابة: أنها إنزال المني بوطء أو غيره أو التقاء الختانين، فالإنزال إذا خرج المني بدفق وصحب خروجه لذة وجب الغسل، سواء بتكرار النظر أو بالمباشرة أو نحو ذلك، الجميع يوجب الغسل. إذا خرج المني.
المني: معروف أنه الماء اللزج الأصفر الذي يخرج من الذكر عند الوطء، وعند الاحتلام، وعند تحرك الشهوة ونحو ذلك، ويصحب أو يعقب خروجه بعض من الفتور ونحوه، فهو من موجبات الغسل.(1/35)
وأما التقاء الختانين، ففيه خلاف إذا لم يكن فيه هناك إنزال، فكان بعض الصحابة كجماعة من الأنصار يرون أنه لا يوجب الغسل إلا الإنزال لقوله في الحديث: " الماء من الماء " ثم ترجَّح لهم أن هذا الحديث منسوخ، وأن الاغتسال يحصل بمجرد إيلاج رأس الذكر، ولو لم يحصل إنزال؛ لهذا الحديث يعني: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " .
والختانان محل ختان الرجل يعني: محل قطع القلفة، وختان المرأة يعني: محل الختان منها، هذان موجبان: إنزال المني، والتقاء الختانين.
الثالث: دم الحيض والنفاس، إذا طهرت الحائض فإن عليها أن تغتسل، أو طهرت النفساء فإن عليها أن تغتسل، خروج دم الحيض ولو قليلا، ثم انقطاعه يوجب الغسل.
الرابع: الموت لغير الشهيد، الشهيد لا يغسل، وغيره يلزم تغسيله.
الخامس: إسلام الكافر، إذا أسلم الكافر وجب أن يغتسل؛ وذلك لأن بدنه نجس، فوجب عليه أن يطهر ذلك البدن بمياه الغسل، لقوله تعالى: { ((((((( ((((((((((((((( (((((( } ولأنه لو اغتسل وهو كافر لم يرتفع حدثه.
الأدلة: قوله: { ((((( ((((((( ((((((( ((((((((((((( } هذا دليل على الجنابة، وقال: "فاطهروا" ولم يذكر نوع التطهر، ولكنه ذكر بآية أخرى، وهي قوله تعالى: { (((( ((((((( (((( (((((((( ((((((( (((((( ((((((((((((( } فذكر أن رفع الجنابة يكون بالاغتسال.
دليل الحائض، الغسل من الحيض قوله تعالى: { (((( ((((((((((((( (((((( (((((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((((( (((( (((((( (((((((((( (((( } تطهرن يعني: اغتسلن، يطهرن يعني: ينقطع دمهن، فإذا تطهرن بالاغتسال، فدل على أنها لا تحل لزوجها حتى تغتسل بعد الحيض، { ((((((( (((((((((( } أي: إذا اغتسلن.(1/36)
في حديث عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من غسل ميتا فليغتسل " فأمر بالغسل من تغسيل الميت، وهذا الأمر قيل: إنه للاستحباب: " من غسل ميتا فليغتسل " ؛ وذلك لأنه ورد فيه أدلة في أنه يكفي الوضوء، قالوا: أقل ما فيه الوضوء، وأن الاغتسال إنما هو سنة، وإذا أمر بالاغتسال من غسل الميت دلَّ على أن غسل الميت واجب، وقد ذكر -أيضا- في حديث ابن عباس الرجل الذي مات وهو محرم فقال: " اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه " وإذا أمر بتغسيل المحرم، فغيره بطريقة أولى.
وأمر من أسلم أن يغتسل في حديث قيس بن عاصم: " أنه لما أسلم أمره أن يغتسل بماء وسدر " فدلَّ على أنه يجب الغسل على من أسلم.
وصفة الغسل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غسل فرجه أولا، ثم توضأ وضوءا شاملا كوضوئه للصلاة، ثم يحثي على رأسه ثلاثا، يُرَوِّيه بذلك يعني: يتروى شعره، وتتروى بشرته، ثم يفيض الماء على سائر جسده، يعم الجسد كله بالماء، ثم يغسل رجليه بمحل آخر إذا كانت في مستنقع الماء.
وذكر بعضهم أن الغسل الكامل يشتمل على عشرة أشياء:
الأول: النية، والثاني: التسمية، والثالث: غسل فرجه، والرابع: دلك يديه بعد غسل فرجه، والخامس: غسل ما لوثه إذا كان على فخذيه شيء من المني ونحوه، والسادس: الوضوء وضوءا كاملا، والسابع: تروية شعر الرأس، والثامن: تعميم الجسد، والتاسع: التيامن، اليتامن يعني: البداءة بالشق الأيمن، والعاشر: غسل القدمين في مكان آخر.
والمجزئ من ذلك غسل جميع البدن، وما تحت الشعر الخفيف والكثيف، الاغتسال في الجنابة لا بد أن يغسل الشعر كله خفيفًا أو كثيفًا، ورد في الحديث أنه قال: " أنقوا البشر، وبلوا الشعر؛ فإن تحت كل شعرة جنابة " ؛ فلذلك يقول عليّ: "لذلك عاديت رأسي" فكان يجزه؛ لأنه يخشى أن يبقى شعرة لا يصل إليها الغسل أو قعرها. باب التيمم(1/37)
أما التيمم فذكر أنه النوع الثاني من الطهارة، تقدم النوع الأول الذي من الطهارة لما قال: "الطهارة نوعان، أحدهما: الطهارة بالماء"، قال هنا: "باب التيمم: وهو النوع الثاني من الطهارة" يعني: الطهارة بالتراب، وهو بدل عن طهارة الماء، وهو رخصة وتوسعة على الأمة، متى؟ إذا تعذر استعمال الماء لأعضاء الطهارة أو بعضها، إما لعدم الماء، أو لخوف ضرر باستعماله، جاز التيمم.
الضرر -مثلا- المريض الذي لا يستطيع أن يصل إلى الدورات -مثلا- له أن يتيمم، أو عليه -مثلا- فيما يسمى بالمغزي لا يستطيع أن يذهب، أو به هذه الأجهزة التي تجعلها المستشفيات في هذه الحالة يعجل إلى التيمم، وكذلك إذا كان عليه لصقات -مثلا- أو نحوه، فإنه إذا كانت اللصقات أو الجبيرة زائدة عن قدر الحاجة تيمم لما زاد، ومسح على الجبيرة ونحوها، وكذلك إذا فقد الماء، لا بد من طلب الماء، إذا تحقق أنه ليس معه ماء، فإنه يتيمم.
وبعض العلماء اشترطوا طلب الماء، ولكن لا بد أن يطلبه، ويفتش في رحله وما حوله، والصحيح أنه إذا تحقق عدمه، فإنه يعدل إلى التيمم، الله -تعالى- يقول: { (((((( ((((((((( (((((( } وكان الصحابة يحملون معهم الماء للوضوء مع أنهم يركبون على الإبل، يحملونه في القرب والمزادات خوفا منهم على أن يكون وضوءهم كاملا، وأن تكون صلاتهم كاملة، ولكن قد يضربون مسافات طويلة لا يستطيعون حمل الماء فيها إلا لقدر شربهم وطعامهم؛ فلذلك أمروا أو أبيح لهم التيمم.
في زماننا هذا حمل الماء سهل لوجود السيارات، فنرى أن على الإنسان الذي يسافر أن عليه أن يصطحب معه ماء في هذه الكيسات وما أشبهها؛ حتى يتيقن ويتحقق أنه قبلت صلاته.(1/38)
كثير من الناس يذهبون معهم بمياه، ومع ذلك يتيممون، وهذا من الخطأ، حتى ذكر لي أن بعضهم يخرج عن خيامه أربعين كيلو أو ثمانين كيلو، ويبنون لهم خياما، ويكون معهم سيارات، وربما يكون معهم برابيل كبيرة ملأى، وربما يكون معهم.. ومع ذلك يتيممون، ولو بدا لأحدهم -مثلا- حاجة يسيرة كملح -مثلا- أو سكر أو شاي أو نحو ذلك لأرسلوا سيارة، فإذا كان كذلك فكيف لا يرسلون سيارة تأتي لهم بالماء إذا انتهى مع توفره؟! ويمكن أن -أيضا- قربهم من مكان مزارع فيها الماء، أو قربهم من بلاد، أو محطات يوجد فيها الماء، فالتساهل في هذا لا يجوز.
يقول: "إذا تعذر استعمال الماء لأعضاء الطهارة" أو بعضها لعدمه- لعدم الماء-، أما مع وجوده فلا، "أو خوف ضرر باستعماله" أي: كالمريض، "فيقوم التراب مقام الماء" يعني: عند العجز ماذا ينوي؟ ينوي رفع ما عليه من الأحداث، يتيمم للحدث الصغير والكبير، يتيمم بدل الوضوء، ويتيمم بدل الغسل؛ لأن الآية عامة، وهي قوله: { (((( ((((((((((( (((((((((((( } يعني: يدخل في الملامسة الجماع الذي يوجب الغسل.
{ (((((( ((((((((( (((((( ((((((((((((( } ينوي رفع ما عليه من الحدث، ثم يقول: بسم الله، يعني: كما أن في الوضوء بسملة، فإن في الغسل بسملة، يقول: بسم الله، ثم يضرب التراب بيده، هنا قال: بيده، والصواب بيديه، يضرب بيديه به مفرجتي الأصابع، مرة واحدة، يمسح بها، والصواب بهما، يمسح بهما جميع وجه، وجميع كفيه.
في حديث عمار أنه خرج لحاجة، فأجنب ولم يجد الماء، قال: " فتمرغت في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ثم صليت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب بيديه مرة واحدة، ومسح بهما وجهه وكفيه " .
هذا أصح ما روي في كيفية التيمم أنه ضربة واحدة، وأنه يمسح وجهه بكفيه ويديه بكفيه، وأن المسح لا يتجاوز الكفين.(1/39)
قلنا: إن في حديث عمار الاقتصار على ضربة واحدة، وقد ورد في حديث عن جابر عند الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين " فعمل بعض العلماء بهذا الحديث، فالشافعية قالوا: تيمموا بضربتين، وقالوا: بمسح اليدين والذراعين إلى المرفقين، وأما الإمام أحمد فاكتفى بضربة واحدة، وبمسح الكفين فقط، وعدم مسح الذراعين، والكل مجتهد، وذلك لأن الآية فيها إطلاق اليدين " وأيديكم "، لم يقل إلى المرافق ولا إلى الكوع، فاقتصر فيها على مسمى اليد، وهي الكف.
المسح يعم جميع وجهه، وجميع كفيه، هذا على ما اختاره ابن سعدي، وهو الذي عليه أصحاب الإمام أحمد، وساق المؤلف هذه الآية من سورة المائدة في قوله تعالى: { (((((( ((((((((( (((((( ((((((((((((( (((((((( (((((((( } " فتيمموا " يعني: اقصدوه، الصعيد: هو وجه الأرض، والطيب يعني: الطاهر النظيف، " فامسحوا " يعني: فاضربوا بأيديكم، وامسحوا بوجوهكم، يعني: امسحوا، ألصقوا المسح بوجوهكم وأيديكم، "منه": الباء للإلصاق، يعني: ألصقوا المسح بوجوهكم وبأيديكم، "منه" يعني: من ذلك الصعيد، { ((( ((((((( (((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((((( } يعني: لا يكلفكم حرجا ومشقة، { (((((((( ((((((( ((((((((((((((( } فالتطهر بالتيمم تطهير معنوي، { (((((((((( ((((((((((( (((((((((( } حيث علمكم ما تحتاجون إليه، " لعلكم تشكرون " الله على فضله.
فهذه الآية دليل على شرعية التيمم، وعلى شرطه، وهو قوله: { (((((( ((((((((( (((((( } كذلك حديث جابر الذي في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب ... " الرعب: هو الخوف والوجل الذي يكون في قلوب الأعداء، إذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر قذف الله في قلوبهم الرعب؛ فتفرقوا وانكسرت شوكتهم.(1/40)
" مسيرة شهر " يعني: السير المعتاد على الإبل ونحوها، " وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورا " هذا الشاهد من الحديث، وفيه أن الأرض كلها مسجد وطهور يعني: يصلى فيها بخلاف الأمم السابقة، فإنهم لا يصلون إلا في ديارهم وكنائسهم وصوامعهم، وكذلك الطهور بالتراب من خصائص هذه الأمة دون غيرها، " فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل " وفي رواية: " فعنده مسجده وطهوره " فليستدل بهذا على أنه يتيمم من جميع بقاع الأرض.
الصحيح أنه لا بد أن يكون طهورًا وطاهرًا طيبا، واشترط أن يكون ترابا، فلا يجوز التيمم من الرمل، ولكن الصحيح أنه يجوز التيمم بالرمل، ومن غير أجزاء الأرض ما عدا الحجارة والرماد فإنه ليس طيبا، والأرض المتنجسة فليست طيبة، وكذلك ما ليس بتراب كدقيق وزجاج أو نحوه لا يصلح أن يصدق عليه أنه تراب.
ثم قال: " وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي " يعني: إذا قاتل الكفار، ثم إنه غنم أموالهم وذراريهم ونساءهم، فإن ذلك يحل لهذه الأمة، وأما الأمم قبلها فإنه لا تحل لهم الغنائم.
" وأعطيت الشفاعة " يريد الشفاعة الكبرى، التي هي أن يشفع لفصل القضاء، " وكان النبي -يعني: من الأنبياء السابقين- يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة " .
فهذه خصائصه، آخرها عموم بعثته، ولكن خصائصه كثيرة، قد ألفت فيها المؤلفات، ومن أمثلة ما ألف فيها "الخصائص الكبرى" للسيوطي في مجلدين.(1/41)
يقول: "من عليه حدث أصغر لم يحل له أن يصلي ولا أن يطوف بالبيت ولا يمس المصحف"، الحدث الأصغر يمنع هذه الثلاثة، يمنع الصلاة فرضها ونفلها، ويمنع الطواف بالبيت، سواء كان الطواف تطوعا أو فريضة، ويمنع مس المصحف، هذا هو الصحيح، استدلالهم على مس المصحف قوله تعالى: { (( (((((((((( (((( ((((((((((((((( (((( } فيه خلاف، ولكن الصحيح أنه دليل؛ وذلك لأن الله -تعالى- ذكر بعده التنزيل قال: { (( (((((((((( (((( ((((((((((((((( (((( (((((((( (((( ((((( (((((((((((((( (((( } فدل على أن هذا التنزيل هو الذي يجب أن لا يمسه إلا المطهرون، والمسألة فيها خلاف، ولكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا يمسه إلا طاهر، والخلاف في الطواف -أيضا- فيه خلاف، ولكن ليس بمشهور، والصحيح أنه لا يطوف بالبيت إلا طاهر.
وهذه الثلاثة -الصلاة والطواف ومس المصحف- يتجنبها من عليه حدث أكبر أو حدث أصغر، من عليه حدث أكبر يزيد أيضا بألا يقرأ شيئًا من القرآن، ورد حديث أنه ذكر عليّ أنه إذا كان جنبا فإنه لا يقرأه، قال: " لا يمنعه من قراءة القرآن شيء إلا الجنابة " والحكمة في ذلك أن يسارع إلى إزالتها وطهارتها حتى يقرأ، حتى ولو كان عن ظهر قلب.
وأما دخول المسجد فلا يجوز إلا لمن كان عابرًا من باب إلى باب أحدهم قوله: { (((( (((((((( ((((((( } وأما إذا توضأ فيجوز له أن يلبث فيه، كان الصحابة إذا كان أحدهم جنبا، وشقَّ عليه أن يغتسل، وشق عليه أن تفوته الحلقات العلمية توضأ، وجاء وجلس في الحلقة حتى تنتهي، ثم ذهب يغتسل.(1/42)
الحائض والنفساء عليها أيضا أنها لا تصلي، تسقط عنها الصلاة، ولا تصوم، ولكنها تقضي الصيام، ولا تطوف بالبيت حتى تطهر، ولا تدخل المسجد حتى بوضوء، وذلك لأنها تعتبر نجسة البدن يعني: نجاسة معنوية؛ لذلك لا تقرأ القرآن ولا تمس المصحف، نجاستها نجاسة معنوية، وأما بدنها فإنه طاهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن حيضتك ليست في يدك " يقوله لعائشة، ولا يجوز وطؤها لقوله تعالى: { ((((((((((((((( (((((((((((( ((( ((((((((((( } وطلاقها -أيضا- لا يجوز وهي حائض، ولكنه يقع، فيعتبر طلاقها طلاق بدعة، ولكنه يقع عند الجمهور. باب الحيض
ثم ختم الباب بأسطر تتعلق بالحيض، يقول: الأصل في الدم الذي يصيب المرأة أنه حيض، يعني: ما يخرج من المرأة يعتبر حيضا، هذا الأصل.
"لا حد لسنه"، بعضهم يقول: إنها لا تحيض إذا كانت أقل من تسع سنين، وبعضهم يقول: يمكن أن تحيض قبل أن تتم التاسعة، أي: في الثامنة، أو قبل أن تتم التاسعة، لكن المعتاد والأكثر أنها لا تحيض قبل التاسعة؛ لقول عائشة: "إذا حاضت الجارية في تسع سنين فهي امرأة".
وكذلك لا حد لقدره، بعضهم يحده بأقل أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما، والصحيح أنه قد يوجد حيض، ولكنه أقل من اليوم والليلة يعني: قد تحيض امرأة نصف يوم أو ثلث يوم، ثم ينقطع، تطهر، وقد يبقى معها الدم نصف شهر أو أكثر، فما دام أن دم الحيض معتاد، فإنه يعتبر دما تترك له الصلاة.
ولا حد -أيضا- لتكرره، يعني: أنه -مثلا- لو أتاها في الشهر مرتين اعتبروه حيضا، ولكن المعتاد والأكثر أن أكثر النساء حيضهن من ستة أيام أو سبعة أيام، والمعتاد أنها تحيض كل شهر حيضة واحدة، والمعتاد أن بقية الشهر يكون طهرًا، يعني: هذا هو الأغلب والأكثر، وإذا وجد أنها حاضت في الشهر مرتين فلا يستنكر ذلك.(1/43)
متى تكون المرأة مستحاضة؟ إذا أطبق الدم عليها يعني: إذا استمر عليها فإنها تكون مستحاضة، كما في حديث فاطمة بنت أبي حبيش قالت: " يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: لا، إنما ذلك عرق " يعني: هذا الدم الذي يجرى مع النساء كثيرا يسمى عرقًا عازلا، عرق يسمى بالعازل، فإذا أطبق عليها، أو كان لا يتوقف إلا يسيرا، يتوقف ساعة أو نصف يوم، ثم يعود ويستمر الشهر كله أو الدهر، فمثل هذه تعتبر مستحاضة.
في الحديث " أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين " سبع، لا ينقطع عنها الدم إلا قليلا، حتى قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنعت لك الكرسف " يعني: قطن فقالت: " إنه أكثر من ذلك " حتى قالت: " إني أثج ثجا " لكثرة ما يخرج منها، فدل على أنه يخرج على بعض النساء، ويكثر فتصير مستحاضة.
المستحاضة لها ثلاث حالات: إما أنها تكون معتادة؛ فتجلس عادتها من كل شهر، المعتادة هي التي مضى عليها -مثلا- عشر سنين أو عشرين سنة، وهي تحيض في الشهر من أوله أسبوع أو نحوه، فمثل هذه إذا أطبق عليها الدم بعد ذلك جلست عادتها الأسبوع الأول من الشهر مثلا أو الأسبوع الوسط أو الأخير، وبقية الشهر تصلي وتصوم، هذه تسمى المعتادة.
الثانية قد لا تكون معتادة إن من النساء من يأتيها الحيض في هذا الشهر في أوله، في الشهر الثاني في وسطه، في الشهر الثالث في آخره، تارة يكون حيضها خمسة أيام، ثم تطهر، تارة يكون ستة، تارة يكون سبعة، بالنسبة لهذه لا تسمى معتادة، فماذا نفعل؟ ترجع إلى التمييز -إذا كانت مميزة- لحديث فاطمة أنه قال: " إن دم الحيض أسود يعرف " .
فإذا كان الدم أسود تعرفه النساء، فإنه دم الحيض، وإذا كان الأحمر الرقيق، فإنه استحاضة، فتجلس أيام الأسود الغليظ، وتصلي أيام الأحمر الرقيق، أو الصفرة والكدرة ونحوها، فهذه تسمى معتادة مميزة، تجلس في التمييز، ثم بقية الدم تصلي فيه وتصوم.(1/44)
أما الثالثة التي لا عادة لها ولا تمييز، عادتها تتقدم وتتأخر، والدم مطبق عليها لا تميز بين دم الحيض من دم الاستحاضة، فهذه تسمى المتحيرة، عليها أنها تجلس عادة نسائها؛ أمها وأختها وعمتها وخالتها، أو تجلس غالب الحيض من كل شهر، أغلب النساء يحضن ستة أو سبعة أيام، فتجلس من كل شهر هذا المقدار حتى ولو كان بعد ذلك عليها الدم الكثير، هذه حالتها، فإذا أرادت أن تصلي فإنها تتلجم وتتحفض بعدما تغسل فرجها وتتوضأ، ثم تصلي ولو تقاطر منها الدم على الحصير كما ورد عن بعض نساء الصحابة.
قالوا: ربما تقاطر الدم منها على الحصير أو على السجادة؛ فدل على أنها يباح لها أن -يعني- أن تصلي ولو كان معها الدم، وكذلك -أيضا- تحرص على أنها تتحفض أثناء الصلاة، والواجب عليها الوضوء لكل صلاة يكاد يخرج منها بين الصلاتين، فلا بد أن تتوضأ لوقت كل صلاة، أما إذا توضأت للظهر، ولم يخرج منها شيء حتى دخل العصر صلت العصر بوضوء الظهر إذا كانت على طهر.
أما النفاس، فالنفاس ورد تحديده أنه أربعون يوما، ولكن الصحيح أنه أيضا قد يزيد بدعوى النساء قد تصل إلى شهرين، وإن كان ذلك نادرا، وقد ينقطع نفاس بعضهن في نصف شهر أو في أسبوع، فإذا انقطع فإنها تغتسل وتصلي، أما وطؤها فقد تقدم أنه لا يجوز وطء الحائض، أما المستحاضة فالصحيح أنه يباح وطؤها، إذا أبيحت لها الصلاة والصيام والقراءة ونحوها أبيح لها الوطء كغيره.
انتهينا من الشرط الأول من شروط الصلاة أو من شرطين من شروط الصلاة، وهما الطهارة وإزالة النجاسة، فعرفنا أن الطهارة التي هي إزالة النجاسات شرط من شروط الصلاة، وأن الطهارة التي هي رفع الحدث الأكبر أو الأصغر بالوضوء أو بالغسل شرط من شروط الصلاة، وكذلك ما ينوب منابهما كالتيمم ونحوه،
والآن نبدأ في بقية شروط الصلاة. نعم.
كتاب الصلاة
شروط الصلاة(1/45)
وقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- كتاب الصلاة: تقدم أن الطهارة من شروطها، ومن شروطها دخول الوقت، والأصل فيه حديث جبريل أنه أمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الوقت وآخره وقال: " يا محمد الصلاة بين هذين الوقتين " رواه أحمد والنسائي والترمذي، وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم تحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس " رواه مسلم.
ويُدْرَك وقت الصلاة بإدراك ركعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " متفق عليه.
ولا يحل تأخيرها أو تأخير بعضها عن وقتها لعذر أو غيره، إلا إذا أخرها ليجمعها مع غيرها، فإنه يجوز لعذر من سفر أو مطر أو مرض أو نحوها، والأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها إلا العشاء إذا لم يشق، وإلا الظهر في شدة الحر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم " متفق عليه.
ومن فاتته الصلاة وجب عليه المبادرة إلى قضائها مرتبة، فإن نسي الترتيب أو جهله أو خاف فوت الصلاة سقط الترتيب.
ومن شروطها: ستر العورة بثوب مباح لا يصف البشرة، والعورة ثلاثة أنواع: مغلظة: وهي عورة المرأة الحرة البالغة، فإن جميع بدنها عورة في الصلاة إلا وجهها، ومخففة: وهي عورة ابن سبع سنين إلى عشر، فإنها الفرجان، ومتوسطة: وهي عورة من عداهم من السرة إلى الركبة، قال تعالى: { ( ((((((((( ((((((( ((((((( ((((((((((( ((((( ((((( (((((((( } .(1/46)
ومنها: استقبال القبلة، قال تعالى: { (((((( (((((( (((((((( ((((((( (((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((((( } فإن عجز عن استقبالها لمرض أو لغيره سقط -كما تسقط جميع الواجبات بالعجز عنها-، قال تعالى: { ((((((((((( (((( ((( (((((((((((((( } وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - " يصلي في السفر النافلة على راحلته حيث توجهت به " متفق عليه. وفي لفظ: " غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة " .
ومن شروطها: النية، وتصح الصلاة في كل موضع إلا في محل نجس أو مغصوب أو في مقبرة أو حمام أو أعطان إبل، وفي سنن الترمذي مرفوعا: " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " .
لنتكلم على شروط الصلاة الباقية، أي: تقدم منها شرطان: الطهارة من الحدث، والطهارة من الخبث.
الشرط الثالث: دخول الوقت، فلا يدخل في الصلاة إلا بعدما يدخل وقتها، زمان محدد لإيقاع العبادة، ومن جملتها الصلاة فإن لها زمانا محددا، لا تصح إلا فيه، فلو قدمها لم تصح، ولو أخرها لم تصح إلا قضاء.
وقد دلَّ على الوقت الكتاب والسنة كقوله تعالى: { (((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( } - يعني: الفجر والعصر - { ((((((((( ((((( (((((((( } أي: المغرب والعشاء، وكقوله تعالى: { ((((((((((( (((( ((((( ((((((((( ((((((( ((((((((((( (((( } أي: الفجر والمغرب والعشاء، ثم قال: { ((((((((( ((((((( ((((((((((( (((( } "عشيا": العصر، "وحين تظهرون": الظهر. وغيرها من الآيات.(1/47)
أما السنة: ففي الحديث أن جبريل أمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما في أول الوقت، واليوم الثاني في آخر الوقت، وقال: " يا محمد الصلاة بين هذين الوقتين " ذكر أن الحديث في المسند وبعض السنن، قال في تفصيله: أنه في اليوم الأول أَمَّه حين زالت الشمس للظهر، وفي اليوم الثاني حين كان ظل الشيء مثله بعد فيء الزوال، وأَمَّه في العصر في اليوم الأول حيث كان ظل الشيء مثله، وفي اليوم الثاني حين كان ظل الشمس مثليه، وفي المغرب حيث وجب في اليوم الأول، وفي اليوم الثاني حين غرب الشفق قرب الغروب، وفي العشاء في اليوم الأول حين غرب الشفق، وفي اليوم الثاني بعد مضي نصف الليل أو ثلثه، وفي اليوم الأول في الفجر حين طلع الفجر، وفي اليوم الثاني حين ++أشر جلده وقرب الإشراق، وقال: " الصلاة بين هذين " .
وحديث ابن عمر، وفيه تحديد الأوقات لقوله - صلى الله عليه وسلم - " وقت الظهر إذا زالت الشمس " ما معنى زالت؟ أي: مالت بعدما كانت في الشرق مالت إلى جهة الغرب، وعلامة ذلك أن يبدأ الظل في الزيادة إذا طلعت، فإن لكل شيء ظل، ثم لا يزال الظل ينقض حتى تكون الشمس في نحر الظهيرة فوق الرأس فيقف، ثم إذا ابتدأ الظل في الزيادة فهذا هو وقت الزوال.
انصب لك عصا، وانظر ترى أن الظل لا يزال ينقص، ينقص، فإذا وقفت الشمس وقفت العصا في ظلها، فإذا زالت ولو قليلا وجد لها ظل في جهة الشرق، ثم لا يزال يزيد هذا الظل إلى أن تغرب، فابتداء الظل في الزيادة هو وقت الظهر، يقول: " وكان ظل الشيء كطوله، ما لم تحضر العصر " يعني: ويمتد حتى يكون ظل كل شيء مثله، ولكن لا يحسب الظل الموجود وقت الزوال؛ لأن الشمس في الصيف تستوي فوق الرأس في أحد البروج، وهي برج الجوزاء، وبرج السرطان وبرج الأسد، هذه البروج تكون الشمس في وسط السماء، فلا يكون هناك للظل وجود في وقت زوال الشمس إلا قليلا.(1/48)
وأما بقية البروج فيوجد للشمس ظل وقت الزوال؛ لأن برج الجدي تكون الشمس في جهة الجنوب، فإذا جاءت في وسط السماء وجد ظل في جهة الشمال، قد يصير ظلك ثمانية أقدام في وسط النهار، فإذا وقفت -مثلا- في برج السرطان، وصارت الشمس فوقك لن يكن لك ظل، وإذا وقفت وسط النهار في برج الجدي الشمس هناك يوجد لك ظل قدره ثمانية أقدام.
فالحاصل أن هذا الظل الموجود في وقت الزوال لا يحسب، إنما يحسب الظل الذي بعده الذي تزيد به، فإذا زاد الظل بعد الزوال بمثل الإنسان، إذا كان طول الإنسان -مثلا- طوله ثمانون سم، إذا كان -مثلا- طوله مائة وعشرون سم أو مائة وأربعون، فينظر الطول، فإذا زاد ظله بعد الزوال بطوله خرج وقت الظهر، ودخل وقت العصر.
وقت العصر ما لم تصفر الشمس، يعنى: الشمس إذا قربت الغروب بردت وذهب حرها، وصارت كأنها صفراء بحيث إن الذي ينظرها لا يشق عليه نظرها، ليس كمثلها لما كانت في وقت العصر أو في وقت الظهر، لا يستطيع الإنسان أن ينظر إليها بعينه؛ فلذلك إذا اصفرت خرج وقت العصر، يعني: وقت الاختيار، ولكن العصر -أيضا- له وقت اضطرار يعني: بادئ اضطرارها يبقى وقت اضطرار ووقت ضرورة يمتد إلى غروبها، ودليله قوله - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " يعني: فقد أدرك الوقت، وصارت صلاته أداء لا قضاء.
ووقت المغرب إذا غربت الشمس، فلتدع إذا غربت، تحقق غروبها، إلى متى؟ ما لم يغب الشفق، وما الشفق؟ الشفق الحمرة التي تكون في جهة المغرب، إذا غربت الشمس واختفت تشاهد حمرتها، فإذا زالت ذهب وقت المغرب، ودخل وقت العشاء، إلى متى؟ إلى نصف الليل، يعني: وقت الاختيار إلى نصف الليل، وأما بقية الليل فإنه وقت لها، ولكنه وقت اضطرار يعني: يمتد وقت العشاء إلى طلوع الفجر، ولكن النصف الأخير يعتبر وقت ضرورة، فأصبح العصر لها وقتان: وقت اختيار، ووقت اضطرار، والعشاء لها وقتان: وقت اختيار، ووقت اضطرار.(1/49)
ووقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، ينتهي بطلوع الشمس، والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - " من أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر " أي: فقد أدركها وصارت أداء، يقول: "ويدرك وقت الصلاة بإدراك ركعة"، وقت الصلاة إذا أدرك ركعة في الوقت فقد أدرك الوقت، وأصبح صلاته أداء، فإذا أدرك من العصر ركعة قبل غروب الشمس صارت صلاته أداء، فإذا أدرك من الفجر ركعة قبل أن تطلع الشمس صارت صلاته أداء، يكلمها بعد الطلوع، فإذا أدرك من العشاء ركعة قبل طلوع الفجر صارت صلاته أداء، وهكذا يقال في المغرب وفي الظهر.
هذا الحديث متفق عليه: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " لكن هذا الحديث هل المراد به من أدرك ركعة في الوقت أو من أدرك ركعة مع الجماعة؟ فيه قولان، إذا قيل: إن المراد الجماعة فمعناه -مثلا- أنك إذا دخلت والجماعة يصلون الركعة الأخيرة وصليتها معهم أدركت فضل الجماعة خمسا وعشرين درجة أو سبعا وعشرين.
فإن دخلت وهم قد قاموا من الركوع في الركعة الأخيرة، فاتتك الأربع، فاتتك الركعات كلها، ما أدركت إلا آخر الصلاة من سجدات التشهد، فإنك والحال هذه ما تكون مدركا للجماعة؛ لأن الحديث يقول: " من أدرك ركعة من الصلاة -يعني: مع الجماعة- فقد أدرك الصلاة " أي: فقد أدرك الجماعة، أو من أدرك ركعة من الصلاة في وقتها فقد أدرك الصلاة في وقتها.
ما حكم تأخير الصلاة أو تأخير بعضها عن وقتها؟ لا يجوز، لا يجوز تأخير الصلاة ولا تأخير بعضها عن وقتها لا لعذر ولا لغيره، والدليل أن الله -تعالى- أمر بأدائها في حال المسايفة رجالا أو ركبانا قال: { (((((( (((((((( ((((((((( (((( (((((((((( } فدل على أنه لا يجوز تأخيرها حتى ولو حال المسايفة -حال القتال-، وأمر بصلاتها صلاة خوف حتى أسقط بعض الواجبات، أو غيَّر فيها بعض التغييرات محافظة على وقتها، فلو جاز تأخيرها لعذر لجاز ذلك في وقت الخوف، وفي وقت المسايفة.(1/50)
فإن قلت: أليس النبي - صلى الله عليه وسلم - أخَّر صلاة العصر وهو يقاتل في غزوة الخندق، وقال: " حبسونا عن الصلاة الوسطى -صلاة العصر- حتى غابت الشمس " فيقال: صحيح، ولكن كأنه لم ينبه المسلمين أن يصلوا في حال المسايفة، ورجا أنه ينفصل القتال قبل المغيب فلأجل ذلك استمروا يقاتلون حتى غربت الشمس، فصلاها بعد الغروب.
يجوز تأخيرها إذا كانت مما يجمع مع ما بعدها لعذر كسفر أو مرض، فإذا دخل عليه وقت الظهر وهو مسافر ويسير، ويحب مواصلة السير جاز له أن يؤخرها حتى ينزل لصلاة العصر، فيصلي الاثنتين مجموعتين، وإذا دخل عليه وقت المغرب وهو يسير في الطريق جاز له أن يؤخر المغرب حتى ينزل مرة واحدة لصلاة العشاء، فيصلي الصلاتين جمعا.
وكذلك المريض الذي يشق عليه أن يتوضأ لوقت كل صلاة، فيجوز له الجمع جمع التقديم أو جمع التأخير، فيتوضأ للظهر -مثلا- ويقدم العصر، أو يؤخر الظهر حتى يأتي وقت العصر، ويتوضأ لهما وضوءا واحدا إذا كان يشق عليه، أو يشق عليه إجلاس أو ما أشبه ذلك.
وهكذا أيضا الجمع للمطر، المطر الذي يؤذي الناس يجوز الجمع له، إذا كان المطر مستمرا بحيث لا يقدر أحد أن يسير إلى المسجد، أو كان بينه وبين المسجد مستنقعات وحمأ وطين ومزلة أقدام، يخشى -مثلا- أنهم إذا لم يجمعوا شقَّ عليهم أن يحضروا لصلاة العشاء ونحوها.
هل تقديم الصلاة أفضل أم تأخيرها؟ إن تقديمها أفضل يعني: الصلاة في أول وقتها أفضل؛ وذلك لأنه دليل المبادرة والمسارعة قال تعالى: { (((((((((((( (((((((((((( ((( ((((((((((((( (((((( ((((( (((((((((( (((( } فأفاد بأن المسارعة ينده بها، فالذي يؤدي الصلاة في أول وقتها من المسارعين، اختلف في بعض الصلوات، أما صلاة العشاء، فتأخيرها أفضل إلا مع المشقة، ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - مرة أخَّرها حتى جاء نصف الليل أو قريب منه، ثم قال: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالصلاة في هذه الساعة " .(1/51)
أما صلاة الظهر في شدة الحر، فوردت أحاديث في تأخيرها حتى تنكسر ثورة الشمس وشدة الحر، وعلل بقوله: " إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم " يعني: من زفيرها ومن وهجها، وثبت أنهم كانوا مرة في سفر، فأراد أن يؤذن بلال فقال: " أبرد، ثم أراد أن يؤذن، فقال: أبرد " قال الراوي: " حتى رأينا فيء التلول " التلول: جمع تل، وهو الكثيب يعني: المرتفع من الرمل تسمى تلول يعني: أخرها حتى صارت لتلك التلول ظل مما يدل على أنه أخرها، والعلة أنهم إذا صلوا في شدة الحر لم يطمئنوا في صلاتهم؛ ولكن هذه العلة قد تكون مفقودة في هذه الأزمنة لوجود المكيفات، والمراوح الهوائية الكهربائية ونحوها التي تخفف الحر؛ فلذلك يجوز أن تصلى في وقت واحد.
من فاتته الصلاة وجب عليه قضاؤها، ولا يجوز تأخيرها، بل يبادر بقضائها، بقضاء الفوائت على الفور، إذا فاتته -مثلا- لإغماء أو فاتته لشغل أو فاتته لنوم، كأنما ثلاث صلوات أو أربع صلوات، فإنه يبادر بقضائها، أو فاتته لتفريط في مرض أو نحوه بادر بقضائها، ثم يقضيها مرتبة.
فإذا -مثلا- نام قبل الظهر، ولن يستيقظ إلا في آخر الليل، فاته أربع صلوات فيقضيها مرتبة؛ فيبدأ بالظهر أربعا، ثم يأتي بعدها العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، لكن لو خاف أن يطلع الفجر قبل أن يصلي الفجر، فعليه أن يصلي الفجر، ثم يصلي ما بقي، فلو -مثلا- أنه ما استيقظ إلا بعدما طلع الفجر، قلنا له: صلِّ الظهر وصل العصر، وخاف أن تطلع الشمس يصلي الفجر حتى تؤدى في وقتها، ثم بعد ذلك يقضي المغرب والعشاء، ولو بعد طلوع الشمس.
نقول: إذا نسي الترتيب سقط، أو جهله، لا يدري ما أول الصلوات التي تركها، أو خاف فوت الصلاة -كما مثلنا-، خاف أن تطلع الشمس قبل أن يصلي الفجر في وقتها، فيصلي الفجر في وقتها، ثم يصلي بعدها بقية الصلوات التي فاتته.
هذا آخر ما يتعلق بشرط الوقت، وهو الشرط الثالث.
لنتكلم عن شروط الصلاة الباقية:(1/52)
أما الشرط الرابع: وهو ستر العورة، والستر لا شك أنه واجب على المسلم، بل على العاقل في الصلاة وفي غير الصلاة؛ لقوله تعالى: { ((((((((( ((((((( (((( (((((((((( (((((((((( (((((((( (((((((( ((((((((((((( (((((((( } { ( ((((((((( ((((((( ((((((( ((((((((((( ((((( ((((( (((((((( } زينتكم يعني: لباسكم، فلا بد أن يستر العورة في الصلاة، لا بد أن يكون الستر ثوبا مباحا، كلمه الثوب لا تختص بالأكمام، والقميص الذي له جيب وأكمام، هذا يسمى بضاعة أو قميصا، وأما كلمة الثوب فيدخل فيها الرداء كرداء المحرم يسمى ثوبا، والإزار كإزار المحرم يسمى ثوبا، والسراويل تسمى ثوبا، والعباءة تسمى ثيابا، والعمامة على الرأس تسمى ثوبا، فالحاصل أنه لا بد أن يستر عورته بثوب، ولا بد أن يكون مباحا، فإذا كان مغصوبا فلا تصح الصلاة عند بعض العلماء، وعند بعضهم أنها تصح ويأثم.
ولا بد ألا يصف البشرة، يخرج ماذا؟ يخرج الشفاف الرقيق الذي توصف من ورائه البشرة، إذا رأيت -مثلا- الشعر من وراء الثوب، أو رأيت بياض الجلد، أو سواده، أو حمرته، فإذا كان شفافا فلا تصح الصلاة فيه.
العورة ثلاثة أنواع: مغلظة ومخففة ومتوسطة كعورة المرأة الحرة البالغة، الحرة يخرج الأمة، البالغة يخرج الصغيرة التي دون سبع سنين أو دون تسع سنين، جميع بدنها في الصلاة عورة إلا وجهها، الصلاة لا تخرج إلا وجهها، تستر كفيها وتستر قدميها. ثبت قوله- صلى الله عليه وسلم-: " لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار " أي: صلاة امرأة قد حاضت، يعني: كلفت. وقالت أم سلمة: " أتصلي إحدانا في الدرع الواحد؟ فقال: نعم إذا كان سابغا يغطي ظهور قدميها " فاشترط أن يغطي ظهور قدميها.(1/53)
أما المخففة: فهي عورة ابن سبع سنين، يعني: صبي أو صبية إلى عشر سنين، عورته الفرجان، يعني: ليس الفخذ -مثلا- ولا السرة بعورة في الصبي الصغير، أما من عداهم كالرجل الذي -يعني- قد بلغ، وكذلك الأمة من السرة إلى الركبة، والدليل حديث علي قال: " لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي أو ميت " وفي حديث جَرْهَد: " الفخذ عورة " نهاية الفخذ إلى الركبة، وأخذت الركبة تابعة له؛ وذلك لأنه عضو واحد، وورد -أيضا- في حديث آخر أن ما بين السرة والركبة عورة.
الشرط الخامس: استقبال القبلة، قال تعالى: { (((((( (((((( (((((((( ((((((( (((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((( ((( ((((((( ((((((((( ((((((((((( } "شطره "يعني: جهته، والمسجد الحرام أي: الكعبة والبيت الحرام، هذا الشرط لا بد أن يتحقق قبل أن يدخل في الصلاة، فإن عجز عن استقبالها لمرض أو غيره سقط، فالمريض على السرير الذي لا يستطيع أن يتحرك يصلي حيثما كان وجهه، كما أنها تسقط عنه جميع الواجبات، العاجز يسقط عنه الركوع والسجود -مثلا-، يصلي على حسب حاله، ويسقط عنه القيام إذا عجز عنه؛ لقوله تعالى: { ((((((((((( (((( ((( (((((((((((((( } .
فالحاصل أنه لا بد من استقبال القبلة إلا عند العجز عنها لمرض أو نحوه، يستثنى من ذلك الصلاة على الراحلة في السفر، ولكنها النافلة " كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصلي على راحلة حيثما توجهت به " يصلي صلاة الليل، أو صلاة الوتر، أو صلاة التطوع، فالرواتب في السفر، النافلة على راحلته حيثما كان وجهه.
واختلف هل يستقبل القبلة عند التحريم؟ والصحيح أنه لا يلزمه بل يصلي كل صلاة تحريمها وركوعها وسجودها، ولو كان وجهه مخالفا للقبلة، يستثني من ذلك الفريضة، تقول له: إنه لا يصلي عليها المكتوبة.(1/54)
الشرط السادس: النية، النية شرط للعبادات كلها، الصيام لا بد له من نية، والطهارة لا بد لها من نية، والصلاة لا بد لها من نية، والنية محلها القلب، ويكفي فيها العزم على الشيء، فهذه ستة شروط: رفع الحدث، وإزالة النجاسة، ودخول الوقت، واستقبال القبلة، وستر العورة، والنية، وبقي ثلاثة شروط مشهورة هي: الإسلام والعقل والتمييز، لم يذكروها؛ لأنها تتكرر في كل العبادات.
مواضع الصلاة:
يعني: ما تصح فيها الصلاة، يعني: المساجد، تصح في كل الأرض إلا في المحل النجس الذي عليه أثر النجاسة، ورد في الحديث: " نهي عن الصلاة في سبعة مواطن: المجزرة، والمزبلة، وقارعة الطريق، وأعطان الإبل، والحمام، وفوق ظهر بيت الله -تعالى- والمقبرة " هذه الأماكن لا تصح الصلاة فيها، أما المجزرة والمزبلة؛ فلأنها مظنة النجاسة، وأما المقبرة؛ فإنها مخافة الغلو في أهل القبور، حتى ولو كانوا أنبياء، الحديث " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " والحمام؛ لأنه محل كشف العورة، ومحل النجاسات إلقاء النجاسات وما يشبهها، وأعطان الإبل قيل: لأنها مأوى الشياطين؛ لأنه ورد: " أن على رغاء كل بعير شيطان " .
وأما المغصوب إذا كان -مثلا- اغتصب أرضا أو اغتصب بيتا، فصلاته فيه لا تجزئ عند أكثر الحنابلة، والقول الثاني أنها تجزئ مع الإثم، يعني: أنا لا نأمره بالإعادة إذا تاب، إن هذا هو الصحيح، الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام.
والصحيح أن الأشياء الباقية النجسة، وما أشبهها كلها داخلة في المنهي عنه.
باب صفة الصلاة
يستحب أن يأتي إليها بسكينة ووقار، فإذا دخل المسجد قال: " باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك " ويقدم رجله اليمنى لدخول المسجد، واليسرى للخروج منه، ويقول هذا الذكر إلا أنه يقول: " وافتح لي أبواب فضلك " كما ورد ذلك في الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة.(1/55)
فإذا قام إلى الصلاة قال: "الله أكبر"، ورفع يديه إلى حذو منكبيه، أو إلى شحمتي أذنيه في أربعة مواضع: عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول، كما صحَّت بذلك الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويضع يده اليمنى على اليسرى تحت سرته أو فوقها أو على صدره، ويقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " أو غيره من الاستفتاحات الواردة عن النبي- صلى الله عليه وسلم-.
ثم يتعوذ، ويبسمل، ويقرأ الفاتحة، ويقرأ معها في الركعتين الأوليين من الرباعية والثلاثية سورة، تكون في الفجر من طوال المفصل، وفي المغرب من قصاره، وفي الباقي من أوساطه، يجهر في القراءة ليلا، ويسر بها نهارا إلا الجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء فإنه يجهر.
ثم يكبر للركوع، ويضع يديه على ركبتيه، ويجعل رأسه حيال ظهره، ويقول: "سبحان ربي العظيم" ويكرره، وإن قال مع ذلك في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" فحسن، ثم يرفع رأسه قائلا: "سمع الله لمن حمده"، إن كان إماما أو منفردا، ويقول أيضا: " ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ملء السماء، وملء والأرض، وملء ما شئت من شيء بعد " .
ثم يسجد على أعضائه السبعة كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: " أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه والكفين والركبتين وأطراف القدمين " متفق عليه، ويقول: "سبحان ربي الأعلى".
ثم يكبر ويجلس على رجله اليسرى، وينصب اليمنى، وهو الافتراش، وجميع جلسات الصلاة في افتراش إلا في التشهد الأخير، فإنه يتورك بأن يجلس على الأرض، ويخرج رجله اليسرى من الخلف الأيمن ويقول: " رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني وعافني " ثم يسجد الثانية كالأولى.(1/56)
ثم ينهض مكبرا على صدور قدميه ويصلي الركعة الثانية كالأولى، ثم يجلس للتشهد الأول وصفته: " التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " .
ثم يقوم لبقية صلاته، ويقتصر في الذي بعد التشهد على الفاتحة، ثم يتشهد في الجلوس الأخير وهو المذكور، ويقول أيضا: " اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد " " أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " ويدعو بما أحب، ثم يسلم عن يمينه، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله.
والأركان القولية من المذكورات: تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة على غير مأموم، والتشهد الأخير، والسلام، وباقي أفعالها أركان فعلية إلا التشهد الأول، فإنه من واجبات الصلاة كالتكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وقوله: "سبحان ربي العظيم" في الركوع و"سبحان ربي الأعلى" مرة في السجود و"ربي اغفر لي بين السجدتين" مرة مرة، وما زاد فهو مسموع، وقوله: "سمع الله لمن حمده" للإمام والمنفرد، و"ربنا لك الحمد" للكل، فهذه الواجبات تسقط بالسهو ويجبرها بسجوده، والأركان لا تسقط سهوا ولا جهلا ولا عمدا والباقي سنن وأقوال وأفعال مكملة للصلاة.
ومن أركانها: الطمأنينة في جميع أركانها وعن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم-: قال: " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " متفق عليه، وقال- صلى الله عليه وسلم-: " صلوا كما رأيتموني أصلي " متفق عليه.(1/57)
فإذا فرغ من صلاته استغفر ثلاثا وقال: " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين ويقول: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " تمام المائة.
والرواتب المؤكدة التابعة للمكتوبات عشر، وهي المذكورة في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " حفظت عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عشر ركعات، ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح " متفق عليه.
هنا وصف الصلاة -رحمه الله- صفة كاملة يعني: مقنعة لمن أراد الاتفاق، حتى إنه أتى فيها بالسنن، وأتى فيها بالمستحبات.
فأولا: في الطريق إليها يأتي إليها بسكينة ووقار، ورد ذلك في حديث يعني: حتى في طريقه يمشي ولا يسرع ولا يكثر الحركة حتى قال في الحديث: " إذا أتى أحدكم إلى الصلاة فلا يشبكن بأصابعه، فإنه في صلاة " إذا دخل المسجد دعا بقوله: " باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي، وافتح لي أبواب رحمتك " .
هذا ذكر، ثم دعاء، فالذكر قوله: " باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله " لأن الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- سبب من أسباب قبول الدعاء، الدعاء قوله: " اللهم اغفر لي، وافتح لي أبواب رحمتك " لما كان داخلا إلى المسجد كان بحاجة إلى سؤال الرحمة، فقال: " افتح لي أبواب رحمتك " وإذا خرج فإنه يقول: " باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم اغفر لي، وافتح لي أبواب فضلك " وذلك لأنه في حاجة إلى طلب الرزق.
وفي دخوله يقدم رجله اليمنى، وفي خروجه يقدم اليسرى لتكون اليمنى أول ما يدخل وآخر ما يخرج، كما أنه إذا دخل بيت الخلاء قدم اليسرى دخولا، وقدم اليمنى خروجا تكريما لليمين.(1/58)
وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر، لا يجزئ غيرها خلافا لبعض الحنفية الذين يقولون: إنه يجزئ كل كلمة تدل على التعظيم، أما الجمهور فقالوا: لا بد من التكبير لقوله- صلى الله عليه وسلم-: " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " .
رفع اليدين: ذكر أنه في أربعة مواضع إذا افتتح الصلاة عند تكبيرة الإحرام، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع من الركوع، وإذا قام من التشهد الأول، يرفع يديه كلتيهما، منتهى الرفع، قيل: إنه إلى المنكبين، وقيل: إلى شحمتي الأذنين، وقيل: إلى فروع الأذنين، والكل جائز، يعني: هو مهيأ؛ وذلك لأن الرفع ورد مطلقا؛ لأنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وإذا ركع، وإذا رفع من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود، هكذا في حديث ابن عمر، وخالف في ذلك الحنفية، فلا يرفعون إلا في التحريمة، وخالف في ذلك الإباضية من المبتدعة، ولا عبرة بخلافهم، وكذلك الرافضة ونحوهم.
بعدما يكبر ويرفع يديه، يقبض اليدين، يقبض اليسرى باليمنى، ثم هذا القبض يعتبر من السنن، قيل: إنه يضعهما تحت سرته أو فوق سرته أو على صدره، ورد في ذلك آثار، ولكن الأرجح أنه على صدره؛ ليكون ذلك من باب الاهتمام، فإن من اهتم بشيء فإنه يقبض عليه، فكأنه مهتم بقلبه؛ فيقبض قلبه بيديه حتى يكون أجمع له، وأبعد عن تشتت القلب.
بعد ذلك يستفتح، اختار الإمام أحمد هذا الاستفتاح " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " في صحيح مسلم أن عمر كان يجهر به، وكذلك -أيضا- روته عائشة، ولكن ما هو في صحيح مسلم، بل في السنن، فهو ثناء مختصر جامع؛ فلذلك اختاره الإمام أحمد، بدأه بالتسبيح، ثم بالحمد الذي هو الثناء على الله، ثم بالبركة التي هي كثرة الخير، ثم بالعلو " تعالى جدك " يعني: حظك وما تستحقه، ثم بالتوحيد " ولا إله غيرك " .(1/59)
وهناك استفتاحات أخرى مثل قوله: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس " هذا مروي في الصحيحين عن أبي هريرة.
هذا الاستفتاح عنه -عليه الصلاة والسلام- في آخر الليل كما في الصحيح عن عائشة أنه كان يقول: " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " ومثله حديث علي الطويل أنه كان يقول: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين.. " إلخ، لكنه طويل، مروي في سنن أبي داود وغيره.
يقول الإمام أحمد: إنه يستحب أن ينوِّع، وكذلك يقول شيخ الإسلام، أن يأتي بهذا مرة، وبهذا مرة؛ حتى لا يكون شيء من السنة مهجورا.
ثم بعد الاستفتاح يتعوذ لقوله تعالى: { ((((((( (((((((( ((((((((((((( (((((((((((( (((((( (((( (((((((((((( (((((((((( (((( } يعني: إذا أردت القراءة بعد ذلك يبسمل، ولا يجهر بالبسملة في الجهرية، فإنه- صلى الله عليه وسلم- والصحابة لم يكونوا يجهرون بها، يقول أنس: " صليت خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يجهر بـ بسم الله الرحمن الرحيم " وفي رواية: " كانوا يقرءون يستفتحون بـ { (((((((((( (( ((((( (((((((((((((( ((( } " لا يقرءون: بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها، أي: كانوا يسرون بها.(1/60)
قراءة الفاتحة ركن، قال - صلى الله عليه وسلم - " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " ولكنهم خصوها بالإمام والمنفرد، وجعلوا المأموم قراءته تابعة لقراءة إمامه، بعد الفاتحة يقرأ سورة كاملة، يفضل أن يقرأ سورة، وإن قرأ بعض سورة أجزأ لقوله: { ((((((((((((( ((( (((((((( (((( ((((((((((((( } هذا في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء، في كل ركعة من الأوليين من هذه الصلوات الأربع، يقرأ بعد الفاتحة سورة، وإن قرأ بعضها أجزأ، سواء من أولها، أو من آخرها، أو من وسطها، ولكن الأفضل سورة كاملة.
هكذا ذكروا في الفجر من طوال المفصل، طوال المفصل من "ق" إلى "المرسلات" يعني: ثلاثة أجزاء، وفي المغرب من قصار المفصل، قصاره من الضحى إلى آخره، وفي الباقي من أوساطه، أوساطه من "عم" إلى { (((((((((( ((((( (((((((( ((( } ، الظهر والعصر والعشاء يقرأ بأوساطه، يجهر في القراءة ليلا، ويسر في نهاره، في النهار، المغرب والعشاء والفجر ليلية؛ فيجهر فيها، قالوا: إن السبب كون الإنسان قد فرغ، والليل ينقطع فيه الشواغل، فهو بحاجة إلى سماع القرآن، وأما النهار فإنه منشغل، فيقرأ لنفسه.
صلاة الجمعة والعيد والخسوف والاستسقاء نهارية، ولكن يجهر فيها؛ وذلك لأنها تجمع خلقا كثيرا، فاحتيج إلى إسماعهم، قد لا يكون بعضهم يسمع القرآن إلا في ذلك الوقت؛ لأنه لا يسمع السور بعد القراءة والانتهاء منها.
يكبر للركوع، يضع يديه على ركبتيه، ويفرج أصابعه، ويلقم كل يد ركبة، ويجعلها -مثلا- حيال ظهره، وفي حديث عائشة: " إنه كان إذا ركع لم يصوب رأسه، ولا يشخصه " يعني: لم يدله، ولم يرفعه، ولكن بين ذلك، يسوي رأسه وظهره بحيث لو وضع قدح على ظهره لاستقر، يقول في الركوع: " سبحان ربي العظيم " ثلاث مرات عند الكمال، وتجزئ مرة واحدة.(1/61)
يستحب في الركوع والسجود بعد التسبيح قوله: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي " في حديث عائشة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقولها بعدما نزل عليهم { ((((((((( (((((((( ((((((( (((((((((((((((( ((((((( ((((( (((((((( ((( } يقول في ركوعه وسجوده: " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي " بعد ذلك يرفع رأسه من الركوع قائلا: " سمع الله لمن حمد " التسبيح يختص بالإمام والمنفرد.
وأما المأموم فإنه يرفع ولا يقول: "سمع الله"؛ وذلك لأن الإمام يُسمِع من خلفه حتى ينبههم فيحمدوا، الجميع يقولون: " ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد " وفيه زيادة في بعض الروايات أنهم يقولون: " أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد " وإن زاد بقوله: " لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " فحسن، بعدما ينتهي، ورد في هذا الحديث أنه كان يطيل الرفع حتى يقول القائل: قد نسي الركن الذي بعده الركوع وهو الرفع، يطيله حتى يقول القائل: قد نسي، يعني: يقول: طالت.
بعد ذلك يسجد على أعضائه السبعة يقول - صلى الله عليه وسلم - " أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، وأشار إلى أنفه كأنه وضع يده على جبهته، ومسح على أنفه " فالجبهة والأنف عضو واحد، واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين، هذه هي أعضاء السجود، يسن أن يمكنها، وألا يخل بشيء منها يتعاهد بقدميه؛ لأن بعض الناس يرفع قدميه، ولا يمكنهما.(1/62)
السجود محل للدعاء لقوله- صلى الله عليه وسلم-: " فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم " لكن ورد أنه يسبح فيه بقول: "سبحان ربي الأعلى"، قالوا: " لما نزل { ((((((( (((((( ((((((( ((((((((( ((( } قال: اجعلوها في سجودكم " " ولما نزل { ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((((( (((( } قال: اجعلوها في ركوعكم " يقولها مرة، هذا القدر مجزئ، والكمال أدناه ثلاث، وأعلاه بحق الإمام عشر؛ لحديث أنس أنه صلى خلف عمر بن عبد العزيز فقال: " إنه أشبهكم بصلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- لما كان أميرا على المدينة، قالوا: فحذونا تسبيحه في الركوع والسجود عشرا عشرا " .
بعد السجود يكبر ويجلس على رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويسمى هذا افتراشا، فالمفترش هو أن يعرض اليسرى، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويجعل بطون أصابعها إلى الأرض، ورءوس أصابعها إلى القبلة، هذا هو الأفضل، وجميع جلسات الصلاة افتراش إلا في التشهد الأخير، فإنه يتورك -يعني- إن تمكن، أما إذا كان هناك زحام في الصفوف فإنه يفترش أيضا، التورك أن يجلس على الأرض، ويخرج رجليه عن يمينه، وتكون اليمنى منتصبة، واليسرى -يعني- مبسوطة.
بين السجدتين يقول: " ربي اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني، واجبرني، وعافني " كما روي ذلك مرفوعا، وإن زاد في الدعاء، وكرر هذا الدعاء فلا بأس.
السجدة الثانية كالأولى، يقول فيها ما يقول في السجدة الأولى، بعدها ينهض مكبرا على صدور قدميه، يختار المؤلف أنه لا يجلس للاستراحة، بل ينهض مكبرا من السجود على صدور قدميه، وكأنها لم تثبت عنده أو أنها خاصة بالكبير؛ لأنها ما رويت إلا عن مالك بن حويرث، وما ذكرها إلا في آخر حياة النبي- صلى الله عليه وسلم-، فلعلها لحاجة أو لكبر أو مرض أو نحوه؛ لذلك لم يذهب إليها إلا الشافعي في رواية، والإمام أحمد رجع إليها، يعني: عمل بها أخيرا، لعله لحاجة.(1/63)
الركعة الثانية كالأولى إلا أنه ليس فيها استفتاح ولا تعوذ، فلينهض، ثم يبسمل، ويقرأ الفاتحة، ويصلي الركعة كاملة، بعد الركعتين يجلس للتشهد، وجلسته إذا كان التشهد الأول فإنه -كما تقدم- يجلس مفترشا، واختار المؤلف تشهد ابن مسعود، هذا التشهد الذي ساقه هو تشهد ابن مسعود، قال: لأنه لم يختلط عليه فيه، الذين رووه لم يختلفوا ولو بحرف؛ ولأنه يقول: " علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد وكفي بين كفيه " يعني: أنه اهتم به حتى علمه كما يعلمه السورة من القرآن.
وقد روي التشهد عن عمر وعن جابر وعن ابن عباس، وفيه زيادة أو نقص كلمات، ففي تشهد عمر " التحيات لله الزاكيات " وفي تشهد جابر أو ابن عباس " التحيات لله المباركات الطيبات " يعني: زيادة كلمة أو نقص كلمة، والكل جائز بعدما يتشهد التشهد الأول يقول: " عبده ورسوله " يقوم لبقية صلاته إذا كانت رباعية بقي عليه ركعتان، فيقوم للركعتين، وإن كانت ثلاثية قام للركعة التي بقيت، إذا قام فإنه يقتصر في القراءة على الفاتحة، في الركعتين الأخيرتين لا يزيد فيهما عن الفاتحة.
في حديث سعد أنه كان يمد في الأوليين، ويحذف في الأخريين، يمد في الأوليين يعني: الركعتين الأوليين يمد فيهما، ويطيل فيهما، وإن قرأ فيهما زيادة جاز، روي ذلك في حديث أبي سعيد الذي في صحيح مسلم.(1/64)
وبعدما يصلي الركعتين الأخيرتين، أو الركعة الأخيرة، يجلس للتشهد الأخير، يتشهد له فيأتي بهذا التشهد "التحيات لله.. " إلى آخره، ثم يأتي بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وردت بصفات، واختار المؤلف منها هذه الصفة، والصفات متقاربة، والاختلاف إنما هو في قوله: " كما صليت على " في بعض الروايات " كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم " وفي رواية " كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم " وفي حديث آخر: " كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد " وفي رواية " كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " اختار المؤلف " كما صليت على آل إبراهيم " .
جمع بين محمد وآله، واقتصر على آل إبراهيم؛ وذلك لأنه أخذه من الآية الكريمة في سورة "هود" وهي قوله تعالى: { (((((((( (((( (((((((((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( ((((((( ((((((( ((((((( (((( } ؛ ولهذا ختم هذا الدعاء وهذه الصلاة بقوله: " إنك حميد مجيد " كما ختمت الآية بـ { ((((((( ((((((( ((((((( (((( } ومن هذه الآية أخذ بعض العلماء أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - معناها الرحمة؛ لأنه قال: { (((((((( (((( (((((((((((((( } وهنا قال: "كما صليت، كما باركت".
بعد هذا الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يأتي بهذه الاستعاذة، ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال " ؛ لذلك قال: يقول: " أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال " ويستحضر هذه المعاني، وفيه إثبات عذاب القبر، وأنه يستعاذ منه، وفيه الخوف من الفتنة، الفتنة في الدنيا، والفتنة عند الممات، وفيه التحذير من فتنة الدجال، بعدها يدعو بما أحب، وورد في حديث أنه يختار من الدعاء ما أحب، أو أعجبه إليه.(1/65)
بعدها التسليم عن يمينه وعن يساره، يختار المؤلف وجوب التسليمتين بأن يقول: " السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله " زيادة "وبركاته" وردت في سنن أبي داود، ولكن يظهر أنه لم يكن يأتي بها دائما، بل يأتي بها أحيانا، والذين رووا " السلام عليكم ورحمة الله " خمسة عشر صحابيا، كما ذكر ذلك ابن القيم. أركان الصلاة
بعد ذلك انتهى من صفة الصلاة، ذكر أن الصلاة فيها أركان قولية وأركان فعلية، وركن الشيء هو جزء ماهيته، ركن الشيء هو جزء ماهيته، يعني: بعض من أبعاضه، فإنك -مثلا- تقول: هذا المسجد مشتمل على أركان، وهي أجزاء منه، فهذا الجدار ركن، وهذا الجدار ركن، وهذه الأعمدة ركن، أليست أجزاء منه؟ أليس الجدار جزء من المسجد؟، يعني: بعضا منه، فركن الشيء جزء ماهيته، ماهية المسجد هي أرضه وسقفه وحيطانه وعمده، هذه ماهيته، كذلك أيضا تقول في الإنسان، تقول: الإنسان له أركان، فرأسه ركن منه، وهو جزء منه، ويده ركن، ورجله ركن، فركن الشيء جزء ماهيته.
أركان الصلاة أجزاؤها التي تتكون منها، قولية أو فعلية، تكبيرة الإحرام ركن قولي، وقراءة الفاتحة على غير المأموم ركن قولي، والتشهد الأخير ركن قولي، يعني: لفظي، والسلام ركن قولي، هذه أربعة أركان قولية، وباقي أركانها فعلية.
باقي أفعالها أركان فعلية، يعني: الركوع ركن، فعلي والرفع ركن فعلي، والسجود ركن فعلي، والجلوس بين السجدتين ركن فعلي، والطمأنينة ركن فعلي، والجلوس للتشهد الأخير ركن فعلي، والقيام مع القدرة ركن فعلي.
التشهد الأول جعلوه من الواجبات التي تجبر بسجود السهو، وكذلك التكبيرات يعني: التكبيرات الثلاث غير التحريمية، يعني: تكبير الركوع، وتكبير السجود، وتكبير الرفع من الركوع من السجود كلها من الواجبات تجبر بالسجود.(1/66)
الواجبات في الصلاة تجبر بسجود السهو، والواجبات في الحج تجبر بدم، وأما الأركان في الحج فلا بد منها، والأركان في الصلاة لا بد منها، من ترك منها شيئا بطلت ركعته.
واجبات الصلاة التي تجبر بسجود السهو: التشهد الأول، والتكبيرات، والتسبيح في الركوع، والتسبيح في السجود مرة مرة، وقول: "ربي اغفر لي" بين السجدتين مرة مرة، هذه واجباته، والتشهد الأول وجلوسه، وكذلك التسميع " سمع الله لمن حمده " للإمام والمنفرد، وكذلك " ربنا ولك الحمد " من الواجبات كلها التي تجبر بسجود السهو، هذه الواجبات تسقط بالسهو، ويجبرها سجود السهو.
وأما الأركان فإنها لا تسقط سهوا ولا جهلا ولا عمدا، بل إن تركها سهوا أتى بركعة، إذا تركها في الركعة بطلت ركعته، وأما إذا تركها عمدا فإنه يعتبر متلاعبا، والباقي سنن وأقوال وأفعال مكملة، يعني: رفع اليدين، ووضعهما على الصدر، ووضعهما على الركبتين، ووضعهما -يعني- وضم أصابعه، وكذلك سنن الأقوال كالاستفتاح والاستعاذة، هذه سنن أقوال.
ومن أركان الصلاة الطمأنينة، في جميع أجزاء الصلاة، في جميع أركانها، الطمأنينة يعني: الرقود والثبوت في الركن، هذا هو الطمأنينة يقول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: " ثم اركع حتى تطمئن راكعا " يعني: تستقر، " ثم ارفع حتى تعتدل قائما " يعني: تثبت، " ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا " يعني: تثبت وترقد، " ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا " فكرر "تطمئن"، وفيه رد على الأحناف الذين يقولون: إن الطمأنينة ليست واجبة، وليست ركنا، بل يجعلونها مستحبة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أبطل صلاة المسيء الذي لم يطمئن فقال: " ارجع فصل، فإنك لم تصل " .(1/67)
بعدما يفرغ من صلاته، يأتي بالأذكار، ذكر أنه يستغفر ثلاثا: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله؛ وذلك لأنه يشعر من نفسه أنه مقصر؛ فيكون استغفاره جبرا للتقصير الذي في صلاته وللسهو ونحوه، بعدها يقول: " اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " هذا -أيضا- من الأذكار التي يأتي بها بعد السلام، وكذلك يقول: " لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله المنُّ، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " أو يقول: " اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " ويقول: " اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " .
بعد ذلك يأتي بالذكر المستمر، وهو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ثلاثا وثلاثين، ويختم المائة بقوله: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير " ؛ لأنه إذا قال: سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر ثلاثا وثلاثين، في كل واحدة أصبحت تسعا وتسعين، وتمام المائة هذه التهليلة.
بعدها الرواتب، الرواتب المؤكدة التابعة للمكتوبات عشر على وجه حديث ابن عمر، ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح في بيته أيضا، هكذا اقتصر على هذه العشر.
ولكن ورد الترغيب في زيادة عليها، فورد أنه - صلى الله عليه وسلم - أحيانا يصلي أربعا قبل الظهر، وورد أيضا أنها أربع؛ وذلك لأن الوقت كأنه وقت استراحة يندب، ولأنه بعيد العهد بالصلاة يعني: من الصبح إلى الظهر غالبا لم يؤد فيها صلاة استحب أن يصلي أربعا بسلامين، ثم يصلي بعدها -أيضا- أربعا بسلامين، وأجاز بعضهم أن يصلي أربعا بسلام واحد، ولكن الأولى أن يكون بسلامين.(1/68)
ذكرت عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " في كل ركعتين تحية " يعني: متطوعا، وأما كونه يصلي في بيته فلعل ذلك كان أقرب إلى أنه يصليها منفردا، أو ينقطع عن الناس، أو أن ذلك أقرب إلى الإخلاص، فإن تيسَّر أنه يصليها في بيته فهو أفضل، وإن شقَّ عليه، أو خاف أن يغفل عنها لو دخل بيته، غالبا قد يغفل؛ فلذلك يعني: ذلك يجوز أن يصليها في المسجد.
أما لم يذكر بقية النوافل، وهو محل تلفت، فورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " رحم الله امرءا صلى أربعا قبل العصر " يعني: بسلامين، دعاء له بالرحمة، وأما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لها فلم يثبت، لكنه رغَّب فيها بهذا الحديث، كذلك -أيضا- ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، صلوا قبل المغرب ركعتين، لمن شاء " يعني: قال: " لمن شاء " حتى لا يقال: إنها فريضة، أو إنها لازمة، هكذا علل بعض العلماء.
وسمعت بعض مشايخنا يقول: إن هناك أيضا بعض من السلف كانوا يزيدون على الرواتب عشرين ركعة، ورأيت ذلك في بعض كتب الشافعية، قالوا: يصلي قبل الظهر ستا، وبعدها ستا، وقبل العصر أربعا، وبعد المغرب ستا، وبعد العشاء ستا، فيكون قد زاد على العشر بعشرين؛ لأنه ست، وست، وست، وست، أربع وعشرون، وأربع، ثمانية وعشرون، وركعتان، هذه ثلاثون، ركعتا الفجر.
وبالجملة فالصلاة مرغب في التطوع فيها، والإنسان يحرص على أن يتقرب منها بما يحب، وقد ثبت أنه -عليه السلام- قال لربيعة: " أعني على نفسك بكثرة السجود " وبهذا ننتهي من صفة الصلاة، وفي الغد -إن شاء الله- نقرأ باب سجود السهو وما بعده.
قرأنا الليلة الماضية صفة الصلاة، صفة مختصرة ذكر فيها الأدلة، ولم يتوسع في الخلافات ولا في الأقاويل، ومن أراد الاطلاع على ما هو أوسع فإن العلماء -رحمهم الله- وصفوا صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- وذكروا ما بلغهم فيها.(1/69)
فلابن القيم في آخر كتاب الصلاة "ذكر عن صفة صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم-" ذكر أنه بيان مختصر مع كونه يذكر ما فيه خلاف، وله أيضا في "زاد المعاد" وصف لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أيضا يذكر أو يشير إلى المسائل الخلافية، ويذكر وجه الخلاف، وما يترجح عنده، يعني: فمن أراد التوسع فليرجع إلى الكتب التي يتوسع فيها، والآن نستمع إلى القراءة.
باب السجود: السهو والتلاوة والشكر
وهو مشروع إذا زاد الإنسان في صلاة ركوعا أو سجودا أو قياما أو قعودا سهوا، أو نقص شيئا من الأركان، يأتي به ويسجد، أو ترك واجبا من واجبات الصلاة سهوا، أو شك في زيادة أو نقصان، وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قام عن التشهد الأول، فسجد وسلم من ركعتين من الظهر أو العصر، ثم ذكَّروه، فتمَّم، وسجد للسهو، وصلى الظهر خمسا فقيل له: " أزيدت الصلاة ؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: صليت خمسا. فسجد سجدتين بعدما سلم " متفق عليه.
وقال: " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا؟ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى تماما كانت ترغيما للشيطان " رواه أحمد ومسلم، وله أن يسجد قبل السلام أو بعده.
وسن للقارئ والمستمع إذا تلا آية سجدة أن يسجد في الصلاة أو خارجها سجدة واحدة، وكذلك إذا تجددت له نعمة، أو اندفعت عنه نقمة سجد لله شكرا، وحكم سجود الشكر كسجود التلاوة.
هذا الباب يذكره الفقهاء بعد صفة الصلاة؛ لأنه يعتبر من تمام الصلاة، يعني: سجود السهو من تمام الصلاة، ولما كان سجودا زائدا ألحقوا به ما يشبهه، فألحقوا به سجود التلاوة، وسجود الشكر. سجود السهو
سجود السهو: سجدتان في آخر الصلاة، وشرعيتهما دليل على أفضلية السجود، وأنه أفضل أنواع وأفضل أركان الصلاة؛ فلذلك جبرت الصلاة بالسجود إذا حصل فيها شيء من الخلل.(1/70)
مشروع سجود السهو في زيادة، أو نقصان، أو شك، فالزيادة كما لو ركع في الركعة الواحدة مرة ركوعين يعني: ركع، ثم رفع، ثم نسي فركع، فمثل هذا يعتبر أتى بركن زائد؛ فيجبره بسجود السهو، وكذلك لو سجد في الركعة ثلاث سجدات، اعتبر قد زاد ركنا، وكذلك لو قام إلى خامسة، اعتبر قد زاد قياما، وكذلك زيادته جلسة غير جلسة الاستراحة، مثلا إذا قام، وجلس ساهيا يعتقد أنه بين السجدتين، فإنه يعتبر قد زاد جلوسا أو قعودا، وكذلك إذا نقص.
أما إذا نقص ركنا فلا تقم الصلاة إلا بذلك الركن؛ فيأتي به، ويسجد، فلو -مثلا- أنه ركع، ومن ركوعه انحطَّ ساجدا، وترك الرفع، فقد ترك ركنا وهو الرفع، فلا بد أن يقوم، ويأتي به، ثم يأتي بما بعده، وكذلك لو سجد سجدة واحدة، ثم قام وترك الجلسة التي بين السجدتين والسجدة الثانية، فلا بد أن يرجع من قيامه، ويجلس بين السجدتين، ثم يسجد السجدة الثانية، ثم يقوم ويسجد للسهو؛ لأنه ترك ركنا فأتى به.
أما الواجبات التي هي تقدم أنها ثمانية التكبيرات -غير الأولى-، وتسبيح الركوع، وتسبيح السجود، وقول: "ربي اغفر لي"، والتسميع قول: " سمع الله لمن حمد " وقوله: " ربنا ولك الحمد " والتشهد الأول وجلوسه له، فهذه إذا ترك شيئا منها فإنه يجبر بالسهو، بسجود السهو، ولو لم يأت به ترك واجبا من واجبات الصلاة.
يعني: -مثلا- إن ترك التشهد الأول وجلسته، وقام للثالثة، واستمر في قيامه، وأتم الصلاة، يسجد في آخرها، وهكذا في الشك إذا شك، هل أنا سبَّحت في الركوع أو ما سبحت؟ بعضا وأحيانا قد يقول وهو راكع: " سبحان ربي الأعلى " سهوا، ثم يرفع، فيكون قد ترك تسبيح الركوع، وهو " سبحان ربي العظيم " وكذلك في السجود، أحيانا يقول في السجود: " سبحان ربي العظيم " سهوا، فعليه إذا لم يتدارك ذلك أن يسجد للسهو، وكذلك إذا شك في زيادة، توهم -مثلا- أنه كرر السجود مرتين، ثلاث مرات، أو الركوع مرتين، وإن لم يكن مستيقنا فيسجد، هذه هي الحالات.(1/71)
ذهب الإمام أحمد إلى أنه يجوز أن يكون السجود كله قبل السلام، أو كله بعد السلام، ولكن يختار أنه قبل السلام إلا في ثلاث حالات: إذا سلم عن نقص، أو بنى الإمام على غالب ظنه، أو ذكره بعد السلام، فدليله فيما إذا سلم عن نقص قصة ذي اليدين، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين، ثم سلم معتقدا أنه قد تمَّ، فذكَّره ذو اليدين، فقام وصلى التمام وسلم، ثم سجد، فها هنا سلم عن نقص، فسلم بعد التمام، وسلم أخرى بعد السجدتين، ففي هذه الصلاة سلم ثلاث مرات، سلم قبل أن تتم الصلاة معتقدا تمامها، ثم سلم بعدما أتمها، ثم سلم بعدما سجد، فهذه قصة ذي اليدين.
كذلك إذ بنى الإمام على غالب ظنه، في حديث في صحيح مسلم، عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا شك أحدكم في صلاته، فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد " فأمره إذا بنى على غالب ظنه، أي: أنه شك هل صليت اثنتين أو ثلاث؟ الغالب والأرجح أنها ثلاث، الأرجح عندي أنها ثلاث، يجعلها ثلاثا، ويأتي بالرابعة، ويسلم ثم يسجد، هذا ما إذا بنى على غالب ظنه؛ لحديث ابن مسعود، أما إذا لم يتذكر إلا بعد السلام فهو معذور، قد ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم- انصرف من الصلاة، صلى فيها خمسا، فلما انصرف قيل له: " أزيدت الصلاة قال: لا، وما ذاك؟ قالوا: صليت خمسا، فانصرف، وسجد سجدتين وهو جالس " .
ثبت أنه قام عن التشهد الأول، يعني: ترك التشهد الأول، ولم يعد إليه، فسجد قبل السلام، وسلم من الركعتين من الظهر أو العصر، يقول أبو هريرة: " حتى صلاة العشاء " فهي قصة ذي اليدين، ثم ذكَّروه، فتمم وسجد للسهو بعد السلام، وصلى الظهر خمسا، فقيل له: " أزيد في الصلاة، أزيدت الصلاة؟ قال: وما ذاك؟، قالوا: صليت خمسا، فانحرف وسجد سجدتين بعدما سلم " من هذه سجد فيها بعد ما سلم أو قبل أن يسلم.(1/72)
كذلك حديث أبي سعيد: " إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، أثلاثا أم أربعا؛ فليطرح الشك، وليبن على ما استيقن، ثم ليسجد قبل أن يسلم " في هذا قال: " قبل أن يسلم " ؛ وذلك لأنه ما بنى على غالب ظنه، بل بنى على ما استيقن، يعني: في أثناء صلاته شك، هل صليت ركعتين أو ثلاثا، ليس يترجح عنده أحد الاحتمالين، بل متوقف، اليقين في الثانية، والثالثة مشكوك فيها، يبني على ما استيقن، وهو الثنتين، ويتم على الثنتين، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن كان صلى خمسا، فالسجدتان تشفع ثلاثة أي: أن المطلوب أن تكون الصلاة شافعة، يعني: فخمس وسجدتان كأنها ست، وإن كان صلى تماما أربعا كانت السجدتان ترغيما للشيطان، إلصاقا لأنفه في الرغام، وهو التراب يعني: إذلالا له وإهانة.
الحاصل أن له أن يسجد قبل السلام أو بعده، ولكن المختار كما ذكرنا أنه قبله؛ لأنه جزء من الصلاة ولقوله في الحديث: " تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم " يدل على أن التسليم تحليل للصلاة، فلا يسلم قبل أن تتم صلاته؛ لأن السجدتين أصبحتا من الصلاة، ولكن حيث روي السجود بعد السلام، قالوا: يجوز، وإن كان الإمام أحمد يتبع النص؛ فيقول: السجود كله قبل السلام إلا فيما ورد، وهو ثلاث هذه الحالات.
اشتهر في بعض المذاهب، وكذلك في بعض الكتب المتأخرة أنه إذا كان عن زيادة فإنه يسجد بعد السلام، ذكر ذلك بعض المؤلفين، قالوا: إذا كان سجود السهو عن زيادة فإنه يؤخره، فيسلم قبل أن يسجد، ولكن لم يذكروا على ذلك دليلا، فالأدلة التي ذكرنا دليل لما ذهب إليه أحمد، يعني: ينتبه إلى أن هذه الكلمة قولهم: "إنه إذا كان عن زيادة فإنه بعد السلام" ليس عليها دليل واضح. سجود التلاوة(1/73)
أما سجود التلاوة فإنه السجود عند الآيات التي فيها سجدة، وأكثر ما روي خمس عشرة سجدة: "الأعراف"، و"الرعد"، و"النحل"، و"الإسراء"، و"مريم"، وأول "الحج"، وآخر "الحج"، و"الفرقان"، و"النمل"، و"السجدة"، و"ص"، و"فصلت"، و"النجم"، و"الانشقاق"، و"العلق"، هذه السور وردت فيها سجدات، وفي بعضها خلاف، ففي سجدتي الحج خلاف، حيث إن بعض العلماء قال: إن السجدة الأخيرة مقرون فيها السجود والركوع { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((((( ((((((((((((( } { ((((((((((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((((((( (((( } والأمر هنا بالصلاة، ومثل قوله: { ((((((((((( (((((((((( ((((( } يعني: المصلين، لكن استندوا إلى حديث مأثور قيل: " يا رسول الله، فضلت الحج بسجدتين؟ قال: نعم، من لم يسجدهما فلا يقرأهما " وهذا تأكيد، وإن كان الحديث فيه مقال، لكنه ضعف ينجبر.
سجدة "ص" قد ذهب الإمام أحمد إلا أنها ليست من العزائم، واستدل بحديث ابن عباس: " ص ليست من عزائم السجود، قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها " وإذا كانت كذلك فورد في حديث: " سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا " فقالوا: إذا كانت سجدة شكر، فإنها لا تسجد في الصلاة، ولكنها تسجد خارج الصلاة، ولكن ما دام أن هناك قول بأنها من السجدات، فإنها تسجد.
أما السجدات الأخيرة الثلاثة "النجم والانشقاق والعلق" فخالف فيها بعض العلماء كالمالكية، ورووا حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لم يسجد بعد الهجرة في المفصل " ولكن هذا الحديث ليس بمتقنٍ، الذي قاله بنى على ظنه، قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة العشاء سورة الانشقاق، وسجد فيها، نقل ذلك أبو هريرة، وكذلك غيره، فالصحيح أن فيها سجدات.(1/74)
سجود التلاوة يكون في الصلاة وفي خارج الصلاة، والدعاء فيه يقول كما أثر: " اللهم إني لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، وعليك توكلت " أخذا من حديث رواه أبو داود عن علي، كذلك حديث آخر فيه أنه يقول: " سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق بصره وسمعه بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين " مروي هذا أيضا في باب الأحاديث، كذلك قصة الذي سجد عند شجرة، قال: " فسجدت الشجرة، فسمعتها تقول: اللهم اكتب لي بها أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا " قال الراوي: " رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- سجد " وأتى بهذا الدعاء الذي قاله له ذلك الراوي، والحاصل أنه يقول فيه ما تيسر.
قوله: "هو سنة لقارئ ومستمع" يؤخذ منه أنه سنة، وليس بواجب، ورد في حديث أثر عن عمر أنه قال: " إن الله لم يكتب علينا السجود - يعني: لم يفرضه- من أحب فليسجد، ومن لا فلا حرج " ، هنا قال: "للقارئ والمستمع"، المستمع هو المنصت المتابع للقارئ، إذا كان القارئ يقرأ، وهنا مجموعة ينصتون ويستمعون له، فإذا سجد فليسجدوا، وإن لم يسجد فلا يسجدوا؛ لأنه كإمامهم، أما لو أن إنسانا يسمع من بعيد، ولم يكن ينصت فلا يشرع له السجود، السجود خاص بالمستمعين الذين ينصتون. سجود الشكر
سجود الشكر: سجدة واحدة، ويسن إطالتها، تشرع إذا تجددت له نعمة، أو اندفعت عنه نقمة، سجد لله شكرا.
حكم سجود الشكر كسجود التلاوة، يعني: أنه سنة، ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لما جاءه خبر فتح بعض البلاد، أو انتصار بعض جيشه سجد لله شكرا، وثبت أيضا أنه لما بُشِّر بدفع العذاب عن أمته سجد لله شكرا، ولما سأل ربه وأعطاه نصف أمته، يعني: في الجنة، أو نصف أهل الجنة سجد لله شكرا، وأبو بكر لما جاءه خبر قتل مسيلمة سجد لله شكرا.
والمراد بالنعمة، النعمة الظاهرة، يعني: النعمة الواضحة، أما جنس النعم المتجددة، فإنها كثيرة { ((((( ((((((((( (((((((( (((( (( ((((((((((( } اقرأ.(1/75)
باب "مفسدات الصلاة ومكروهاتها "
تبطل الصلاة بترك ركن أو شرط وهو يقدر عليه عمدا أو سهوا أو جهلا، وبترك واجب عمدا، وبالكلام عمدا، وبالقهقهة وبالحركة الكثيرة عرفا، المتوالية لغير ضرورة؛ لأنه في الأول تَرَك ما لا تتم العبادة إلا به، وبالأخيرات فعل ما ينهى عنه فيها.
ويكره الالتفات في الصلاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الالتفات في الصلاة فقال: " هو اختلاس، يختلسه الشيطان من صلاة العبد " رواه البخاري. ويكره العبث، ووضع اليد على الخاصرة، وتشبيك أصابعه وفرقعتها، وأن يجلس فيها مقعيا كإقعاء الكلب، وأن يستقبل ما يلهيه، أو يدخلها وقلبه مشتغل بمدافعه الأخبثين، أو بحضرة طعام كما قال: النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان " متفق عليه، ونهى النبي-صلى الله عليه وسلم- أن يفترش الرجل ذراعيه في السجود.
من الفقهاء بعدما يذكرون الصلاة، وما يتصل بها يذكرون ما يكره فيها، أو ما يبطلها، أو ما ينقص أجرها، والقصد من ذلك أن يصلي العبد صلاة تامة، يأتي فيها بكامل الأجزاء حتى تقبل صلاته، ويثاب عليها ثوابا كاملا.
إذا ترك منها ركنا، أو ترك شرطا، وهو يقدر عليه عمدا، أو سهوا، أو جهلا، لم تتم صلاته، فمن ترك ركنا يعني: كركوع عمدا بطلت صلاته؛ لأنه متلاعب، وكذلك لو تركه سهوا أو جهلا، ولم يأت به لم تتم صلاته، لا تتم حتى يأتي بذلك الركن، لم يذكره إلا بعدما وصل إليه بالركعة التي بعده ألغى الركعة الأولى، وأقام التي بعدها، وصارت الركعة الثانية هي الأولى.(1/76)
فمثلا: لو أنه كبر في الأولى، ثم لم يركع، بل من القيام سجد سجدتين بينهما جلسة، ثم قام، ولما كمل القراءة تذكر أنهما ركعا في الأولى، ألغى الأولى، وصارت الثانية هي الأولى حتى تتم الصلاة، فلا بد أن يأتي به، فإن لم يأت به فصلاته باطلة لو سلم، وهو لم يأت به فصلاته باطلة، ولو كان سهوا، ولو كان جهلا، وهكذا إذا كان إماما أو منفردا، ترك الفاتحة من ركعة، أو ترك القيام في ركعة مع القدرة، فلا يعتد بتلك الركعة التي ترك فيها هذا الركن.
وأما الواجبات فلا تبطل الصلاة إلا إذا تركه عمدا، فلو -مثلا- أنه ترك التشهد الأول عمدا بطلت؛ لأنه متلاعب، وكذلك لو ترك التسميع إن كان إماما أو منفردا، أو التحميد " ربنا ولك الحمد " أو التسبيحات عمدا بطلت، أما إذا كان سهوا، فتقدم أنه يسجد للسهو.
كذلك إذا تكلم عمدا، تكلم عمدا لغير مصلحة الصلاة، فإنها تبطل، في حديث عن زيد بن أرقم قال: " كنا نتكلم في الصلاة، يأمر أحدنا أخاه بحاجته حتى نزلت { (((((((((( (( (((((((((( ((((( } فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام " .
وفي حديث معاوية بن الحكم " صلى مع النبي-صلى الله عليه وسلم- وهو جاهل، فعطس رجل في الصلاة، فقال له: يرحمك الله -وهو في الصلاة-، فرماه الناس بأبصارهم، فتكلم وقال: واثكل أمياه، ما لكم تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم يسكتونه، فسكت، فدعاه النبي-صلى الله عليه وسلم- بعد أداء الصلاة وقال له: إن صلاتنا هذه لا يصح فيها شيء من كلام الناس " ولم يأمره بالإعادة؛ لأنه جاهل.
ولذلك قال الشيخ: "بالكلام عمدا "يعني: عن علم، لا عن سهو أو جهل، وأما الكلام لمصلحة الصلاة فلا يبطلها، فقد تكلم ذو اليدين -كما ذكرنا- لمصلحة الصلاة، وتكلم بعض الجماعة الذين خرجوا وقالوا: قصرت الصلاة، وهم سرعان الناس.(1/77)
وتبطل أيضا بالقهقهة، وهي الضحك، الضحك الذي يكون فيه القهقهة هذا يبطل الصلاة، مع أنه ذهب بعض الحنفية إلى أنه يبطل الوضوء، ولكن الصحيح أنه يبطل الصلاة، ولا يبطل الوضوء، وأما التبسم من غير القهقهة فلا يبطل الصلاة، وإن كان يكره في الصلاة.
وتبطل بالحركات الكثيرة عرفا، المتوالية لغير ضرورة؛ وذلك لأن الذي يكثر الحركة يظهر منه لمن رآه أنه كأنه ليس في صلاة، فإذا رأيته -مثلا- يعدل عمامته، أو يعدل قلنسوته، وينظر في ساعته -مثلا-، ثم يحرك خاتمه، ثم يقدم رجله، ثم يقدم عباءته، ثم يتقدم قليلا بيديه أو برجليه، ثم يرفع يديه ويخفضها، مثل هذا ليس يصلي لكثرة عمله وعبثه.
فالصلاة لا بد فيها من الخشوع لقوله: { ((((((((( (((( ((( (((((((((( (((((((((( ((( } لما نزلت خشع الصحابة، ونظروا إلى مواضع سجودهم وأخبتوا، أما إذا كان لضرورة فلا مانع أو لحاجة، قد روي أن بعض الصحابة كان مسافرا، ومعه بعير شرود، فكبر يصلي، ولما كبر يصلي نازعه الجمل، فمشى وهو يصلي، وهو ممسك بخطامه، أخذ يمشي وهو يصلي، ويركع، ويسجد؛ حتى لا يذهب عنه جمله، فقيل له: لماذا ؟ فقال: لو تركته لشرد، وكيف أفعل؟ ليس معي ما أركبه، سأنقطع في هذه البرية.
ومن الأفعال أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - فتح الباب لعائشة، وأنه صلى وهو يحمل أمامة بنت أبي العاص إذا قام حملها، وإذا ركع أو سجد وضعها، وهذه تعتبر حركة خفيفة.
فالحاصل أنه يقول: "لأنه في الأول ترك ما لا تتم العبادة إلا به" للأول، يعني: الأركان، ترك الركن أو ترك الشرط، الشرط مثل: استقبال القبلة أو ستر العورة، في الأول يعني: الركن ترك ما لا تتم العبادة إلا به، وفي الأخيرات يعني: الكلام والقهقهة والحركة فعل ما ينهى عنه، هذه الأشياء منهي عنها.(1/78)
انتهى مما يبطل الصلاة، وذكر الآن ما يكره في الصلاة، فقال: "يكره الالتفات"، متى يكون الالتفات مبطلا؟ يقولون: إذا انحرف عن القبلة انحرافا كليا، فإذا كان وجهه للقبلة وصدره، ثم انحرف عن القبلة إلى جهة الجنوب انحرافا بقدميه، فمثل هذا قد ترك شرطا؛ فتبطل صلاته، ولو عاد.
فأما إذا لوى وجهه من هنا أو من هنا، فإن هذا مكروه، ولكنه لا يبطل الصلاة، فقد التفتت الصحابة لما أن النبي-صلى الله عليه وسلم- كان مريضا، وكشف سقف النافذة، وأطل بوجهه فالتفتوا ورأوه، هذا الالتفات لا يبطل الصلاة.
كذلك قصة أبي بكر لما تقدم يصلي أخذ الناس يصفقون، فالتفت فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرفع يديه ورجع، ولم تبطل صلاته بهذا الالتفات.
كذلك في حديث أنه -عليه السلام- " بعث رجلا عينا فصلى، وجعل يلتفت، وينظر مجيء ذلك الرجل " فدل على أن الالتفات لا يبطلها، ولكنه يكره، دليل كراهته هذا الحديث.
سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الاختلاس والالتفات في الصلاة، قال: " هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد " .
الاختلاس هو: الأخذ بخفية، أخذ الشيء بخلسة وبخفية، يعني: أن الشيطان يسرق من صلاة العبد، ويأخذ منها بخفية، حتى ينقصها، فمن ذلك هذا الالتفات، فإنه ينقص صلاته، وفي حديث آخر أنه -عليه السلام- قال: " إن أحدكم إذا صلى فإن الله ينصب وجهه إليه، فلا يلتفت، فإنه إذا التفت أعرض عنه " .
ومن المكروهات العبث، ذكرنا أن الحركة الكثيرة تبطل الصلاة، وأما العبث اليسير فلا يبطلها، ولكنه يكره، العبث يعني: تحريك الأصابع -مثلا- مرة، أو تحريك العمامة وما أشبه ذلك، ووضع اليد على الخاصرة، الخاصرة هي رأس الورك يعني: كونه يضع يده على خاصرته، هذا يعتبر شيئا من العبث، قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يصلي الرجل مختصرا، وفسر ذلك بوضع اليد على الخاصرة، كما ذكره صاحب البلوغ.(1/79)
كذلك تشبيك الأصابع، إدخال بعضها في بعض، فإنه يعتبر أيضا عبثا؛ وذلك لأنه مأمور بأن يضع يديه على صدره، أو على بطنه، فكونه يخرجها ويشبكها يعتبر شيئا من العبث.
كذلك الفرقعة، فرقعة الأصابع: تحريكها حتى تصوت، هذا أيضا يعتبر من العبث سواء شبكها ولواها، أو لوى بعضها حتى يظهر لها صوت، هذه الفرقعة أيضا تعتبر من العبث.
كذلك أن يجلس مقعيا كإقعاء الكلب، ذكر النووي للإقعاء تفسيرين:
تفسير أن ينصب قدميه، ويجلس على إليتيه، ويسمى هذا مقعيا؛ نصب قدميه وركزهما وجعل إليتيه على عقبيه، هذا قيل: إنه تفسير للإقعاء، أنه -عليه السلام - نهى عن إقعاء، كإقعاء الكلب.
وكذلك أيضا ثبت من حديث عائشة قالت: " وكان ينهى عن عقبة الشيطان " وفسرت عقبة الشيطان: بأن ينصب قدميه، ويجلس عليهما، وقيل: إن إقعاء الكلب أن ينصب ساقيه ويجلس على إليتيه، يجلس على قدميه وينصب ساقيه، ويجلس على إليتيه، ويضع يديه على الأرض، هذا فُسر به أيضا الإقعاء، وكلاهما منهي عنه في الصلاة.
استقبال ما يلهيه أي ما يشغل باله:
ثبت أنه -عليه السلام- صلى مرة وقد سترت عائشة سهوة -يعني فُرجة- بقرام، يعنى بستارة فيها شيء من الخطوط فقال: " أميطي عني قرامك، فإن تماثيله ألهتني آنفا عن صلاتي " أو تصاليبه؛ كان في هذه الخطوط. كذلك صلى مرة وعليه خميصة لها أعلام -يعني خطوط-، فلما صلى خلعها وقال: " اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي " نظر إلى خطوطها، فكأنه انشغل بها أو فكر فيها قليلا، فجعل ذلك مما يشغل عن الصلاة فأبعدها.(1/80)
فإذا كان أمامك شيء فيه خطوط، أو فيه كتابات مثلا، أو فيه تماثيل، أو ما أشبه ذلك فإنك تزيلها، حتى لا يكون هناك ما يشغلك، لكن قالوا: إذا كانت معتادة، وأصبحت معروفة معتادة لا ينشغل بها، فلعله يتسامح بها كالكتابات التي في المسجد النبوي ونحوه لا حيلة في إزالتها، وكثير من الناس يركع يقرأها فينشغل بقراءتها عن الإقبال على الصلاة، والمصلي مأمور بأن ينظر إلى موضع سجوده.
كذلك لا يدخل الصلاة وهو منشغل قلبه بمدافعة الأخبثين، أو بحضرة الطعام؛ لأنه إذا كان يدافع البول أو الغائط لم يطمئن في صلاته، ولم يقر قرارة، بل يكون في شدة، عليه قبل أن يدخل الصلاة أن يتخلى، وأن يذهب ما يشوش عليه من هذين الأخبثين -البول والغائط-؛ حتى يدخل الصلاة بطمأنينة.
كذلك إذا كان قلبه متعلقا بالطعام -كالصائم مثلا- الذي هو شديد الجوع إذا كان الطعام فيه قلة، كما في العهد الأول، فإن ابن عمر كان يتعشى وهو يسمع قراءة الإمام؛ لأنه كان يصوم، والغالب أن نفسه تتوق إلى ذلك الطعام، والغالب أنه يصوم في شدة الحر، وفي النهار الطويل، وقد يصوم من غير سحور، وقد يكون السحور أيضا قليلا، فتتوق نفسه إلى الطعام، ولو صلى قبل أن يأكل لكان قلبه منشغلا.
لكن في هذه الأزمنة الناس لا يحسون بالجوع غالبا، والأطعمة فيها كثرة، وفيها وفرة، فلا يكون القلب منشغلا بها.
وفي الحديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يفترش الرجل ذراعيه بالسجود " وفي بعض الروايات: افتراش الكلب أو انبساط الكلب " إذا سجد أحدكم فلا يبسط ذراعيه انبساط الكلب " مأمور بأن يكون سجوده على الكف لا على الذراع، فإذا بسط ذراعيه -مدهما على الأرض- أشبه بسط الكلب، هذه المكروهات الثلاث.
باب صلاة التطوع(1/81)
وأوكدها صلاة الكسوف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها وأمر بها، وتصلى على صفة حديث عائشة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاة الكسوف بقراءته، فصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات " متفق عليه.
وصلاة الوتر سنة مؤكدة، داوم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حضرا وسفرا، وحث الناس عليه، وأقله ركعة، وأكثره إحدى عشرة ركعة، ووقته من صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، والأفضل أن تكون آخر صلاته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " متفق عليه. وقال: " من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل؛ فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل " رواه مسلم.
وصلاة الاستسقاء سنة إذا اضطر الناس لفقد الماء، وتفعل كصلاة العيد في الصحراء، ويخرج إليها متخشعا متذللا متضرعا، فيصلي ركعتين ثم يخطب خطبة واحدة، يكثر فيها الاستغفار وقراءة الآيات التي فيها الأمر به، ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة، وينبغي قبل الخروج إليها فعل الأسباب التي تدفع الشر وتنزل الرحمة كالاستغفار والتوبة، والخروج من المظالم، والإحسان إلى الخلق، وغيرها من الأسباب التي جعلها الله جالبة للرحمة دافعة للنقمة. والله أعلم.
وأوقات النهى عن النوافل المطلقة:
من الفجر إلى أن ترتفع الشمس قيد رمح، ومن صلاة العصر إلى الغروب، ومن قيام الشمس في كبد السماء إلى أن تزول.
التطوع يعني التنفل بالصلاة:
قد يدخل في التطوع غير التطوع بالصلاة كالتطوع بالنفقات، والتطوع بالجهاد، والتطوع بالأذكار وما أشبهها. صلاة الكسوف(1/82)
ولكن هذا الباب معقود لتطوعات الصلاة؛ ولهذا قال: آكدها صلاة الكسوف؛ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما وقع الكسوف خرج فزعا يجر رداءه وقال: " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإن كسوفهما آية من آيات الله، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة " أمرنا بأن نفزع إلى الصلاة عند الكسوف، والمراد بالكسوف هنا: انمحاق نور الشمس أو القمر في وقت مخصوص، فإذا ظهر هذا الكسوف الذي هو انمحاق يسمى كسوفا وخسوفا. وقيل: إن الخسوف للقمر، والكسوف للشمس؛ فإذا وجدا فإنهم يصلون، فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها.
وفي صفتها عدة أحاديث أشهرها هذا الحديث حديث عائشة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر لصلاة الكسوف لقراءتها، ولو كانت نهارا يقرأ فيها جهرا، وصلاها أربع ركعات وأربع سجدات " يعني ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجدتان، هذا أصح ما ورد فيها.
ولكن قد وردت أيضا في صحيح مسلم: أنه صلى في كل ركعة ثلاث ركوعات، يعني قام، ثم ركع، ثم قام، ثم ركع، ثم قام، ثم ركع، ثم قام، ثم سجد فركع ثلاث ركوعات.
وفي حديث آخر أيضا في صحيح مسلم: " أنه صلى ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات " وفي سنن أبى داود: " أن في كل ركعة خمس ركوعات " ولكن بعض العلماء طعن في هذه الأحاديث، ولم يصححها شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضهم جعلها موقوفة، يعني أن الصواب أنها من فعل الصحابة لا من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وبعضهم صححها، ومنهم شيخنا الشيخ ابن باز يرى أنها صحيحة، وتحمل على التعدد بصحة أسانيدها، تحمل على أنه صلى مرة بركوع، ركوعين، ومرة ثلاث ركوعات، ومرة أربعا، ولا منافاة بين ذلك، فإن الكسوف غالبا يحدث كل سنة مرة، أو مرتين ما دام أنها سنة الله، فلا يقال: إنها وقعت مرة واحدة في عشر سنين. صلاة الوتر(1/83)
ثم ذكر صلاة الوتر، ولم يذكر صلاة التهجد، وصلاة الليل -لا شك- أنها سنة مؤكدة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحافظ على سنته، على صلاته بالليل.
وتقول عائشة: " ما أنتم إلا من نبيكم، وما نبيكم إلا منكم، والله ما ترك قيام الليل حتى مات " وذكرت أنه كان يصلي كل ليلة عدد من الصلوات، فيصلي أحيانا ثلاث عشرة ركعة، وأحيانا إحدى عشرة ركعة، وأنه يطيل صلاة الليل، والحاصل أنه كان يحافظ على صلاة الليل، أحيانا يقوم نصف الليل، وأحيانا يقوم الليل كله، وأحيانا يقوم أكثر الليل.
الوتر: هي الركعة الأخيرة، هي التي تسمى الوتر، أو الوتر هو العدد الفرد، فإذا صلى الإنسان ركعة سميناها وترا، أو صلى ثلاثا سميناها وترا، أو خمسا فهي وتر، أو سبعا فهي وتر، أو تسعا فهي وتر، أو إحدى عشرة فهي وتر، أو ثلاث عشرة فهي وتر.
الوتر: هو العدد الفردي، أما إذا صلى اثنتين، أو أربعا، أو ستا، أو ثماني، فإنها شفع.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم على صلاة الوتر حضرا وسفرا، ما كان يتركها، ولا كان يخل بها، وقد ذكرنا أنه كان يوتر أحيانا وهو على راحلته لغير القبلة، حيثما توجهت به، وهو دليل على أن الوتر ليست فريضة، بل هي نافلة؛ لأنه كان لا يصلي على الراحلة الفرائض كما تقدم بقوله، غير أنه كان لا يصلي عليها المكتوبة.
أما الوتر فكان يصليها على راحلته، ووجهه أحيانا لغير القبلة، ويصليها وهو راكب، لا يتمكن الراكب من القيام، ولا من الركوع قائما، فيدل على أنها سنة مؤكدة، حيث حافظ عليها في السفر، مع أن السفر مظنة المشقة، كانوا يسيرون نصف الليل، وكانوا يسيرون إلى منتصف النهار، كل ذلك من ... ++ المشقة، ومع ذلك ما ترك الوتر، بل حث الناس عليه.
ورد في حديث أنه قال: " أوتروا يا أهل القرآن، من لم يوتر فليس منا " أهل القرآن هم الأمة المحمدية كلهم، ليس المراد القراء.(1/84)
ففعله وقوله دليل على آكديتها، أقل الوتر ركعة، وأدنى الكمال ثلاث، كما يقرأ فيها بـ "سبح" و { (((( ((((((((((( (((((((((((((( ((( } و { (((( (((( (((( (((((( ((( } كما ورد في حديث أُبي.
وأكثر ما ينبغي المداومة عليه إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، كما ثبت ذلك أيضا عن عائشة، وعن ابن عباس، والأصل أن يسلم كل ركعتين؛ ففي حديث ابن عباس: أنه قال: " صلى ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، ثم أوتر " .
ذكر أنه صلى ست تسليمات، ثم بعد ذلك أوتر، يعني صلى الوتر، فيدل على أنه أحيانا يصلي إحدى عشر، وهو الأغلب، وأحيانا يصلي ثلاث عشرة، كما ذكر ذلك ابن عباس، ولم يحدد لأمته عددا، بل أباح لهم أن يصلوا ما شاءوا، وما دام الإنسان عنده القدرة يصلي، ولو مائة ركعة، والله تعالى ما حدد لقوله: { (((((((((( (( (((((((((( ((((( } وفي قوله: { (((((( (((( ((((((( ((((((((( (((((((( (((((((( ((((((((((( (((((((( } وفي قوله: { ((((((((((( (((((((((( ((((((((((( ((((((( (((((((((( (((( } ولم يحدد لهم.
وكذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما حدد لهم عددا بل قال: " صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى " .
صلى ركعتين، ركعتين، ركعتين، ركعتين، ولو صلى عشرين، أو ثلاثين، فإذا قارب الصبح أوتر بواحدة، وقت صلاة العشاء ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر خرج وقت العشاء، خرج وقت الوتر، إذا طلع الفجر خرج وقت العشاء، وقت الوتر.
قد ذكرنا أن وقت العشاء يمتد إلى طلوع الفجر، الذي هو وقت الاضطرار، وكذلك وقت الوتر في حديث: " إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت صلاة الليل والوتر، فأوتروا قبل أن تصبحوا " .(1/85)
صلاة آخر الليل هي الأفضل، وصلاة الوتر، ركعة الوتر هي آخر الصلاة " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " يعنى ركعة، " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " يعني: اختموا صلاتكم بوتر، أي بركعة.
ففي الحديث: " من خاف ألا يقوم من آخر الليل فليوتر أولا، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك أفضل " .
أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة أن يوتر أول الليل؛ ليأخذ بالحذر، وذلك لأن أبا هريرة ذكروا أنه كان في أول الليل يبيت يدرس الحديث؛ لأنه من حفاظ الحديث، فيذاكر الأحاديث، ويكررها حتى يحفظها، يبيت أول الليل يدرس الحديث، فأمره أن يوتر أول الليل حتى لا يغلبه النوم في آخر الليل.
وكذلك أوصى أبا ذر أن يوتر أول الليل، وأما من يطمع أن يقوم آخر الليل كعمر بن الخطاب، وأبي بكر وغيره، فإنهم كانوا يوترون آخر الليل؛ لأن آخر الليل وقت النزول الإلهي فهو أفضل. صلاة الاستسقاء
ذكر بعده "صلاة الاستسقاء"، وصلاة الاستسقاء هي: طلب السقيا، أي أن يسقيهم الله تعالى إذا اضطر الناس لفقد الماء إذا غارت الآبار، وجفت الأرض، ويبست الأشجار، فإن الناس يستسقون، يعلمون أن ربهم سبحانه هو الذي يملك السقيا، ويملك النفع، وهو الذي يسقيهم؛ فلذلك تسمى صلاة الاستسقاء، إذا قحط المطر، وتأخر عن إبّانه.
صفتها: كصلاة العيد، تُفعل في الصحراء إذا تيسر، في هذه البلاد أحيانا تفعل في المساجد؛ لأن الصحراء تكون بعيدة على بعض الناس، ولكن الأفضل أن تكون في الصحراء كصلاة العيد.
ثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- خرج إليها متخشعا متذللا متضرعا.
التخشع: هو الانكسار، كذلك التذلل: إظهار الذل، وإظهار الضعف، وكذلك التضرع: إظهار الضراعة التي هي الاستكانة بين يدي ربه.
صلاة الاستسقاء ركعتان مثل صلاة العيد ركعتين، إلا أنه لا يخطب فيها إلا خطبة واحدة؛ صلاة العيد -كما سيأتي- خطبتان.(1/86)
في هذه الخطبة يكثر بها الاستغفار، يقرأ فيها الآيات التي فيها الأمر بالاستغفار؛ كقوله: { (((((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((((( ((((( (((((((( (((( (((((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((( } .
وقوله: { (((((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((((( ((((( (((((((( (((( (((((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((( } { (((((( (((((( (((((((((( (((( } فإن إرسال السماء مدرارا يعنى بالمطر.
الآيات التي بها الأمر بالاستغفار:
{ (((((( ((((((((((((((( (((((((( } { ((((( ((((( (((( ((((((((((((( (((((( ((((((((((((((( (((( } يستشهد بها، ثم يلح بالدعاء، ويدعو بما تيسر من الأدعية، ولا يستبطئ الإجابة قد تتأخر الإجابة، فلا ينقطعون عن الاستغاثة، ولا عن الاستسقاء، ويكررون ذلك إلى أن يرحمهم الله تعالى.
في صلاة الاستسقاء ينبغي أن يقدم قبلها شيئا من الأسباب التي تسبب إجابة الدعاء؛ لأن إجابة الدعاء لها أسباب، وكذلك إعطاء الإنسان مسائله، كذلك هناك أسباب تدفع الشر، وتنزل الرحمة، منها: كثرة الاستغفار، وكثرة الدعاء؛ مثل قوله: { (((((((( (((((((( ((( (((((((((( (((((((( ((((( (((((((((( (((((((( } { ((((((( (( ((((((((((((( ((( ((((((((( (((( ((((((((((( } { ((((((((((((( ((((( (((((( ((((((((((((( (((((( } { ((((((( (((((((((( (((((((((( ((((( (((( (((((((( ((((( } .
وكذلك التوبة، فاستغفروا الله، ونتوب إليه: "اللهم تب علينا"، ويكثر من التوبة، وكذلك القراءة والذكر وما أشبهها، الخروج من المظالم من أسباب استجابة الدعاء؛ لأن المظالم من أسباب الحرمان.
ويحث الإمام في خطب الجمعة الناس على أن يتخلوا من المظالم، وأن يردوا إلى كل إنسان ما ظلم منه، وما أخذ منه، وأن يستسمحوه حتى لا يدعو بعضهم على بعض، حتى لا يعاقبوا جميعا.(1/87)
كذلك الإحسان إلى الخلق يعنى إيصال الخير إليهم بالصدقات وما أشبهها، فيتصدق على الفقراء؛ قد ذكروا أن الصدقة تدفع الشر، وكانوا يأمرون بالصدقة قبل أن يخرجوا إلى الاستسقاء؛ لتكون وسيلة من الوسائل التي تجاب بها الدعوة، ويترحم الله تعالى بها عباده.
وكذلك الإحسان إلى الخلق بغير الصدقة، يعنى لنفعهم، وبالشفاعة لهم، وبالدلالة على الخير، وبنصحهم، وبتوجيههم، وبإرشادهم، وإنقاذهم من الشرور وما أشبه ذلك، وأهم شيء: حثهم على أكل الحلال، وتحذيرهم من أكل الحرام، فإنه من أسباب رد الدعاء، وكذلك الإلحاح بالدعاء. أوقات النهي
ذكر بعد ذلك: أوقات النهي التي ينهى بها عن النوافل المطلقة، كلمة المطلقة تخرج ذوات الأسباب، يعنى أن هناك صلوات مقيدة، فتفعل في هذه الأوقات، فمثلا قضاء الفوائت يصلى في كل وقت.
وفي الحديث: " من نام عن صلاته، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها " يعنى ولو في وقت نهي، كذلك إعادة الصلاة.
في الحديث: " أنه - صلى الله عليه وسلم - أحضر رجلين بعد الفجر، قال: ما بكما؟ ألم تصليا؟ قد صلينا في رحالنا. قال: إذا صليتما، وأتيتما ونحن نصلي فصليا معنا تكن لكما نافلة " مع أنهما قد صليا الفجر، فأباح لهما أن يصليا، يعيدا الفجر نافلة .
صلاة الجنازة تصلى في كل وقت لأنها ليست ++ ... ولا سجود، ولأنه في الحديث يقول: " لا ينبغي لجنازة مسلم، أو لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله " .
اختلف في بعض الصلوات، فاختلف في ركعتي الطواف، فنقل عن عمر، وابن عمر، وابن الزبير أنهم لا يصلونها في وقت النهى إذا طافوا تأخروا، طاف عمر، وأخر صلاة الركعتين حتى طلعت الشمس وانتشرت، ولكن الجمهور قال: إنها تصلى ولو في وقت النهي.
الأمر بها لقوله: " لا تمنعوا أحدا طاف في هذا البيت، وصلى أية ساعة " .(1/88)
اختلف في تحية المسجد، وهي مما طال الخلاف فيه، وما كثر فيه الخوض، حتى ذكر الشوكاني أن كثيرا من العلماء ينهون عن دخول المسجد بعد العصر، أو بعد الفجر يقول: إنك إن دخلت فجلست بدون صلاة خالفت قوله: " ولا يجلس حتى يصلي " وإن صليت خالفت قوله: " لا صلاة بعد العصر، حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " فينهون عن الدخول في هذا الاختلاف.
وبعضهم يقول: يصلي في الأوقات المتسعة؛ لأن وقت النهي بعد العصر، وبعد الفجر وقت موسع ووقت مضيق، فيصلى تحية المسجد وركعتي سنة الوضوء في الوقت الموسع، الذي هو بعد العصر إلى قرب الغروب، وبعد الفجر إلى قرب الطلوع، فأما إذا تديرت الشمس إلى الغروب، فلا يصلى لا تحية مسجد، ولا غيرها؛ لورود النهي.
وأنه قال: " تلك صلاة المنافق؛ يعقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " يكون هذا كأنه قول متوسط أنك تصليها بين الوقت المتسع، وبين الوقت الضيق لو دخلت قرب الغروب، وقرب الطلوع، فلا تصلي حتى يخرج وقت النهي، وكذلك قبيل الظهر إذا كانت الشمس في كبد السماء إلى أن تزول. اقرأ بعد هذا.
باب صلاة الجماعة والإمامة
وهي فرض عين للصلوات الخمس على الرجال حضرا أو سفرا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لقد هممت أن آمر بالصلاة أن تقام، ثم آمر رجلا أن يؤم الناس، ثم أنطلق بحزم من حطب إلى أناس يتخلفون عنها، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " متفق عليه.
وأقلها إمام ومأموم، وكلما كان أكثر فهو أحب إلى الله، وقال - صلى الله عليه وسلم - " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " متفق عليه.
وقال: " إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة، فصليا معهم، فإنها لكما نافلة " رواه أهل السنن.(1/89)
وعن أبى هريرة مرفوعا: " إنما جُعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون " رواه أبو داود، وأصله في الصحيحين.
وقال: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا، ولا يؤمنّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه " رواه مسلم.
وينبغي أن يتقدم الإمام ويتراصّ المأمومون، ويكمل الصف الأول فالأول، ومن صلى ركعة وهو فذ خلف الصف لغير عذر أعاد صلاته.
وقال ابن عباس: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فكنت عن يساره، فأخذ برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه " متفق عليه.
وقال: " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا؛ فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا " متفق عليه.
وفي الترمذي: " إذا أتى أحدكم الصلاة والإمام على حال، فليصنع كما يصنع الإمام " .
صلاة الجماعة من شعائر الإسلام، ولأجلها بنيت المساجد، ولأجلها شرع الأئمة، وشُرع المؤذنون، وفيها تجتمع الكلمة، وفيها يتلاقى المسلمون بعضهم ببعض حيث يتفقون، ويتقابلون كل يوم خمس مرات في هذا المسجد، أو في ذلك المسجد، فهي من شعائر الإسلام.
يختار المؤلف أنها فرض عين، ويختار أكثر العلماء أنها واجبة، وذهب بعضهم إلى أنها سنة، وروي ذلك في مذهب الشافعية أنها سنة، ويستدلون بحديث الفضل، وهو قوله: " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " قالوا: لو كانت باطلة ما كان فيها فضل، فدل على أنها صحيحة مجزئة.(1/90)
ولكن نحن نقول: إنها واجبة، وإنها فيها فضل، ولا ينافي تفصيلها أن يكون الذي يتخلف عنها يعاقب.
اختيار شيخ الإسلام كما اختار ابن سعدي أنها فرض عين، ومعناه أنه لا يصح لأحد أن يصلي في بيته، وهو يقدر على الجماعة، وقد سمع المؤذن فلا صلاة له، ويستدل بحديث في "بلوغ المرام" قوله: " من سمع النداء فلم يجب، فلا صلاة له إلا من عذر " .
وفسر العذر بالخوف أو المرض، فيقول: " فلا صلاة له " دل على أنه لا تقبل صلاته؛ ذلك لأنه سمع المؤذن يناديه فلم يجبه.
فهذا متمسك من قالوا: إن هذا ... ، وأما من قالوا: إنها واجبة من الواجبات بمحافظة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وكذلك أمره بإيجابة المؤذن، يعني الحضور إليه، " لما سأله ذلك الأعمى: هل لي من رخصة ؟ قال: تسمع المؤذن ؟ قال: نعم. قال: تسمع النداء ؟ قال: نعم. قال: فأجب " ، وفي رواية: " لا أجد لك رخصة " .
فرضيتها على الرجال دون النساء:
" وبيوتهن خير لهن " ولكن لو صلين في المسجد فلا يمنعن، ورد في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن " .
كذلك أيضا الجماعة تلزم حتى ولو كانوا مسافرين؛ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حضرت الصلاة أمر المنادي فنادى، أمره فأذن، ثم اجتمعوا وصلوا خلفه، ولم يصلوا في رحالهم إلا إذا كانوا متفرقين، فإنهم يصلون جماعات.
هذا الحديث أوله: " لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا فيؤم الناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى أناس لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " استدل به على أنهم عاصون، ذنبهم كبير يستحقون الحرق، منعه -في بعض الروايات-: " لولا ما فيها من النساء، والذرية " .
وفي بعض الروايات في سنن أبى داود: " أنطلق إلى أناس يصلون في بيوتهم " دل على أنهم يصلون، ولكن ما يحضرون مع الجماعة، فاستحقوا هذا الوعيد؛ لأن يحرق عليهم بيوتهم.(1/91)
أقل الجماعة: اثنان؛ في حديث سنن ابن ماجة: " اثنان فما فوقهم جماعة إمام ومأموم " وكلما كان العدد أكثر كان أحب إلى الله.
في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله " .
المعنى: أنه إذا فاتته الصلاة فليحرص على أن يجد واحدا يصلي معه، أو جماعة.
وهذا يرد على ما ذهب إليه الحنفية والشافعية من أن المتأخرين إذا جاءوا بعد الصلاة صلوا فرادى؛ تشاهدون الباكستانيين ونحوهم إذا دخلوا المسجد بعدما صلينا صلى هذا وحده، وهذا وحده، وهذا وحده، ما يجتمعون يصلون جماعة، هذا قولٌ في مذهب الشافعي، وفي مذهب أبي حنيفة.
نقول: لو كان الشافعي سمع هذا الحديث لما حاد عنه، أو لعل هذا القول لم يثبت عنه. إذا كان الرسول يقول: " صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده " وكذلك هذا الحديث: " وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " أليس إذا صلى هذا وحده، وهذا وحده نسميه فذا؟ أليس إذا قدموا واحدا منهم يصلي بهم جماعة إذن فهؤلاء جماعة؟ ولو كان المسجد قد صُلي فيه.
كذلك هذين الرجلين اللذين صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الفجر فانصرف، فرأى رجلين في مسجد الخير، فجيء بهما -ترتعد فرائصهما، يعني من الخوف- " ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالوا: قد صلينا في رحالنا. فقال: إذا صليتما في رحالكما، فلما أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة " .
هذه تسمى إعادة الصلاة، صلوا في رحالهم، وكانت رحالهم بعيدة؛ لأنهم متفرقون، هؤلاء صلوا في رحالهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أطال الصلاة، فأدركوها معهم.(1/92)
قوله في حديث أبي هريرة: " إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فإذا كبر الإمام فكبروا، ولا تكبروا حتى يكبر " أي لا تسبقوه بالتكبير، فإنه من كبر قبل أن يكبر الإمام للتحريم، لم تنعقد صلاته، ولم يكن مع الإمام، " وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع " أي لا تسبقه بالركوع، الركوع لا بد أن يكون بعده. " وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد " .
دل على أنه لا يقولون: سمع الله، " فإذا سجد فاسجدوا، ولا تسجدوا حتى يسجد " دل على أنهم لا يجوز لهم أن يسابقوه بالسجود، بل يتابعونه. ثبت في أحاديث عن الصحابة أنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسجد وهم قيام، ويضع وجهه على الأرض، ثم يتبعونه.
قوله: " إذا صلى قائما فصلوا قياما، وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا أجمعون " روي هذا في عدة أحاديث: في حديث عن أبي هريرة، وفي حديث عن عائشة، وفي حديث عن جابر أنه قال: " إذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " .
ولكن ذهب بعض العلماء -مثل البخاري- إلى أنه إذا صلى جالسا فإنهم يصلون قياما، وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم في آخر حياته وهو جالس، وأبو بكر إلى جانبه قائما، والناس قيام، وقال: هذا آخر الأمرين، وإنما يعمل بالأخير من فعله، أو من قوله -عليه الصلاة السلام-.
وفي مذهب أحمد أنه إذا ابتدأ بهم الصلاة، ثم اعتل أتموا خلفه قياما وجوبا، وإذا ابتدأ الصلاة بهم قاعدا، استحب لهم أن يصلوا خلفه قعودا، ولو كانوا قادرين على القيام عملا بهذه الأحاديث، فإذا صلى قائما فصلوا قعودا. حديث إسناد أبي داود، وأصله في الصحيحين.(1/93)
أما من يقدم للإمامة فيقول: " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " واختلف أيهم أفضل: القارئ أو الفقيه؟ والغالب في عهد الصحابة أن من قرأ فإنه يفقه، لكن قد يوجد في هذه الأزمنة من يحفظ كثيرا من الآيات، أو من السور، ولكنه لا يعرف أحكام الصلاة، فإذا كان لا يعرف أحكام الصلاة ربما يزيد فيها، وربما ينقص فتختل صلاته، فالفقيه أولى منه، وإن كان يؤمر القارئ، أو يؤمر المسلم مطلقا بأن يتفقه في صلاته.
" فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة " يعني أعلمهم بالأحكام، والسنة لا يراد بها السنة النبوية، ولكن الأمر أعم، يعنى أعلمهم بالأحكام، وأكثرهم علما. " فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة " ؛ وذلك لأنهم كانوا يهاجرون متتابعين بعضهم قبل بعض، والمعروف أن الذي يتقدم هجرة يكون أكثر عبادة، أو يكون أكثر علما؛ لأنه حصل على مدة طويلة تعلم فيها العلم. " فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا " يعني أكبرهم؛ لأن الكبير له حق الاحترام.
ويقول: " لا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه " .
سلطانه: إذا كانت الولاية له، وهو الذي يتقدم، صاحب المسجد مثلا، إمام المسجد الراتب، ما يتقدم أحد، ولو كان أفضل منه، وكذلك أيضا صاحب البيت، وصاحب الولاية يكون أولى بالإمامة إلا إذا أذن غيره. " ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه " تكرمته: يعني فراشه الذي يفترشه لنفسه، لا تجلس عليه إلا بإذنه.
يقول: ينبغي أن يتقدم الإمام أمام المأمومين نحو مقدار متر أو نحوه، حتى يتمكنوا من السجود وراءه، ويأمرهم بتسوية الصفوف، ويأمرهم أن يتراصوا؛ حتى لا يكون بينهم فرج يدخل من بينها الشيطان، ويأمرهم بتكميل الصف الأول، فالأول.
ثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يقول: " صفوا كما تصفوا الملائكة عند ربها، يكملون الصفوف الأول، ويتراصون في الصف " .(1/94)
" ومن صلى ركعة، وهو فذ خلف الصف لغير عذر أعاد " ورد في الحديث أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: " لا صلاة لمنفرد خلف الصف " " ورأى رجلا يصلي وحده خلف الصف فأمره بأن يعيد " .
ذهب شيخ الإسلام إلى أنه يجوز ذلك للعذر، إذا لم يجد مكانا بذل ما استطاع؛ حتى لا تفوت عليه الجماعة، وأما إذا كان يستطيع فإنه يحرص على أن يقرب بين الرجال حتى يجد فرجة.
في بعض الأحاديث أنه قال: " هلاّ التمست فرجة أو اجتررت رجلا " وكره بعض المشايخ؛ لأن ذلك من التصرف في المتقدم، ولكن إذا تأخر بدون اجتذاب نبهه بنحنحة، أو نحوها فلا بأس، حتى يكون معه حتى تتم صلاته، وإن لم يستطع وبذل جهد ... ++ ما استطاع، لعلها تصح.
يقول ابن عباس: " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فكنت عن يساره، فأخذ برأسي من ورائي فجعلني عن يمينه " .
يدل على أنه لا يجوز أن يصف أحد عن يسار الإمام إذا لم يكن عن يمينه أحد، أما إذا كان عن يمينه أحد فيجوز، ثبت أن ابن مسعود صلى بين علقمة والأسود، أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، ونقل ذلك مرفوعا.
فأما أن يكونوا كلهم عن يساره فلا، ابن عباس صلى عن يساره، فأقامه وجذبه وأداره خلفه حتى جعله عن يمينه.
قوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة، وعليكم السكينة والوقار " .
نهاهم إذا جاءوا إلى المسجد أن يسعوا، بل إذا أتيت إلى المسجد، فإنك تمشى بتؤدة وسكينة ووقار، ولا تسرعوا ولا تتركوا++ حتى تكثروا الخطوات، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا، يعني أدركت ركعة أو ركعتين فصلها مع الإمام، ثم إذا سلم فأتم ما فاتك.(1/95)
وفي الترمذي: " إذا أتى أحدكم الصلاة، والإمام على حال فليصنع كما يصنع الإمام " وفي حديث عند أبي داود قال: " إذا أتيتم ونحن سجود فاسجدوا معنا، ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة " فإذا أتيت والإمام ساجد فلا تقف، لا +تلتف بل كبر واسجد معه، ولا تعد تلك الركعة، أما إذا أدركته وهو راكع، وركعت معه، فإنك تكون قد أدركت هذه الركعة.
والآن نواصل القراءة.
باب الصلاة لأهل الأعذار
والمريض يعفى عنه حضور الجماعة، وإذا كان القيام يزيد في مرضه صلى جالسا، فإن لم يطق فعلى جنبه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين: " صلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك " رواه البخاري.
وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين العشائين في وقت إحداهما، وكذلك المسافر يجوز له الجمع ويُسن له القصر للصلاة الرباعية إلى ركعتين، وله الفطر في رمضان.
وتجوز صلاة الخوف على كل صفة صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنها: حديث صالح بن خوات عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: " أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، وصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم " متفق عليه.
وإذا اشتد الخوف صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون بالركوع والسجود، وكذلك كل خائف على نفسه، يصلي على حسب حاله، ويفعل كل ما يحتاجه إلى فعله من هرب، أو غيره.
قال - صلى الله عليه وسلم - " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " متفق عليه.(1/96)
هذا الباب صلاة أهل الأعذار؛ منهم المسافر والمريض والخائف، فالمسافر عذره مشقة السفر، والمريض عذره مشقة المرض، والخائف مشقة الخوف، الخوف المزعج الذي يحمله على ألا يقرّ في صلاته، ولا يطمئن فيها، هؤلاء هم أهل الأعذار. صلاة المريض والمسافر
العادة أنهم يبدءون بالمسافر؛ لأن أحكام السفر كثيرة، ولكن المؤلف بدأ بالمريض، ولعله أن السفر في هذه الأزمنة خفت المئونة فيه، والمريض اشتدت المئونة فيه كثيرا، فلذلك بدأ به.
فأولا تسقط عنه الجماعة، يُعفى عنه حضور الجماعة، وقد تقدم في باب قبله أن الجماعة فرض عين للصلوات الخمس على الرجال حضرا وسفرا، وهاهنا استثنى المريض، وعذره المشقة؛ فإنه يصعب عليه أن يقوم، ولكن إذا كان مستطيعا فهو أفضل له؛ ففي حديث ابن مسعود قال: " ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وإنه ليؤتى بالرجل يُهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف " فدل على أنهم يتجشمون المشقة مع المرض، ويؤتى بأحدهم يعضد له رجلان، حتى يصف مع الجماعة؛ حرصا على فضل الجماعة، ولكن لا تكلف نفس إلا وسعها.
كذلك المريض يسقط عنه القيام إذا كان يشق عليه، أو يزيد في مرضه، فيصلي جالسا، وقد يسقط عنه الجلوس إذا كان لا يستطيع، أن يصلي على جنبه، أو يصلي مستلقيا؛ وذلك لأن الصلاة شرعت لإقامة ذكر الله تعالى، ولا يكون فيها ما يضر بالمصلي، ولا ما ينفر عن العبادة.
ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: " أتريد أن تكون فتانا؟ " وقال: " إن منكم منفرين " فإلزام المريض بأن يقوم وهو عاجز فيه تكليف، فلذلك سقط عنه القيام إذا عجز عنه.
هذا الحديث قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران لما اشتكى أنه مريض -به مرض البواسير- فقال: " صلِّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، أو فجالسا -في رواية-، فإن لم تستطع فعلى جنبك " وهو حكم عام لكل مريض بأي نوع من أنواع المرض، أنه يبدأ بالقيام إذا كان يطيقه.(1/97)
أولا يذهب إلى المسجد إذا كان يطيقه، فإذا لم يطقه وأطاق الصلاة في البيت قائما صلى قائما في البيت، فإذا لم يطق القيام صلى جالسا، وإذا لم يطق صلى على جنبه. وكيفية جلوسه: أن يُصلى متربعا، فإن صلى مفترشا فلا بأس، يعني في حالة القيام والقراءة يكون متربعا، وإذا أراد السجود، أو الركوع فإنه يفترش.
كذلك مسألة الجمع:
يجوز للمريض أن يجمع الصلاتين، قد يشق عليه الوضوء لكل صلاة، يشتكى كثير من المرضى الذين ينامون في المستشفيات، أو المرافقون لهم أنه يشق عليه أن يذهب إلى المتوضأ -الحمام- كل وقت، فهل يجوز له أن يتوضأ مرة ويصلي الصلاتين في وقت إحداهما ؟
فنقول: نعم، إذا كان الوضوء لكل صلاة يشق عليه يصح أن يتيمم، وإذا كان الذهاب إلى الطهارة في كل وقت يشق عليه، أو الجلوس يشق عليه جمع الصلاتين، جمع الظهرين في وقت إحداهما، والعشائين في وقت إحداهما.
وهل يقدم، يجمع جمع تقديم، أو جمع تأخير؟ يختار شيخ الإسلام أنه يفعل الأرفق به، فإذا كان الأرفق به تقديم العصر صلاها مع الظهر، وتقديم العشاء صلاها مع وقت المغرب، وإذا كان الأرفق به التأخير كذلك أخر الظهر إلى العصر، أو أخر المغرب إلى العشاء.
انتهى من المريض وابتدأ في المسافر، وكأنه لم يعرّف السفر، ولم يحدد مدة السفر، ولا مسافة السفر في هذه الرسالة، واقتصر على تعريف السفر، كلمة السفر، كلمة المسافر، متى يكون الإنسان مسافرا؟(1/98)
قيل: السفر هو ما لا يقطع إلا بمشقة وكلفة. وقيل: السفر ما احتاج إلى زاد ومزاد. وقيل: السفر ما يلزم منه غيبة طويلة، بحيث إذا قدم يُلاقى ويُهنأ ويُحيّى. هذه تعريفات لاسم السفر. ومنهم من حدده بالمسافة، فقال: مسافته ثمانية وأربعون ميلا، والميل قريب من ألف وسبعمائة مترا، يعني نحو 2 كيلو إلا ربع أو قريب منه، فيكون قريبا من خمسة وثمانين كيلو، أو تسعين. هكذا حدده بعضهم، وأكثرهم حدده باليوم، أنه مسيرة يومين قاصدين، وقالوا: إن مسيرة اليوم لا تسمى سفرا.
وذهب بعض المحققين -كشيخ الإسلام- إلى أنه لا يحدد بمسافة، ورأى أن تحديده بالزمان لا بالمسافة، وأنه إذا سافر مسيرة يوم ونصف، ولو لم يقطع إلا عشرين ميلا سمي مسافرا.
يوم ونصف، يومان أو أكثر، وإذا سافر وقطع مثلا أربعين ميلا أو مائة ميل أو مائتين ميلا، ولكنه رجع في يومه أو في ليلته لم يُسم مسافرا، هذا هو اختيار شيخ الإسلام كما ذكره برسالة السفر المطبوعة في المجلد الرابع والعشرين.
وفي زمانه ضرب مثلا بالفرس السابق، فقال: لو ركب إنسان فرسا سابقا، وقطع مائة ميل، أو مائتين، ثم رجع في يومه، فلا يقصر، ولا يفطر، ولا يجمع، ولا يسمى مسافرا؛ لأن المدة قصيرة، يوم وليلة أو أقل.
ولو ركب دابة بطيئة، وقطع مسافة عشرين ميلا، ولم يقطعها إلا في يوم ونصف، أو يومين، ما رجع إلى أهله إلا بعد يومين سميناه مسافرا، فكأنه يعتبر المدة هي التي يقصر، أو التي يجمع فيها. إذن الرسالة ما تعرضت لتحديد المسافة، وكأنه أخذ اسم مسافر.
متى يسمى مسافرا؟(1/99)
السفر: هو ما لا يقطع إلا بكلفة وبمدة طويلة وبمشقة، وعلى هذا فإن الإنسان في هذه الأزمنة لا يقصر في كل سفر؛ فمثلا لو ذهب إلى القصيم ورجع في يومه فلا يسمى مسافرا، أو إلى الأحساء ورجع في يومه فلا يسمى مسافرا. أما لو ذهب إلى أرماح وهي قربية، ولكن ما رجع إلا بعد يوم ونصف أو بعد يومين، فإنه يسمى مسافرا، وكذلك لو ذهب إلى نزهة -مثلا- أربعين كيلو، أو ثمانين كيلو، وبقى يومين أو ثلاثة أيام سميناه مسافرا. فالمسافر يجوز له الجمع، ويفعل أيضا الأرفق به.
ففي حديث معاذ: " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، أخّر الظهر حتى يصليها مع العصر جمعا -أي تأخير-، وإذا ارتحل قبل أن تغرب الشمس، أخّر المغرب حتى ينزل لوقت العشاء فيصلى المغرب والعشاء تأخيرا " .
وكذلك ذكر أنه اختلف في جمع التقديم؛ ففي أكثر الأحاديث أنه إذا زالت الشمس، وهو نازل صلى الظهر فقط، ثم ركب وسار حتى ينزل وقت العصر، فلا يجمع جمع تقديم، ما يقدم، ولكن ثبت في غزوة "تبوك" أنه -أحيانا- يقدم، فإذا زالت الشمس وهو نازل، ولكنه سوف يرحل قدّم العصر، وصلاها وقت الظهر، وإذا غربت الشمس وهو نازل، ولكنه سيرحل قدّم العشاء وصلاها مع المغرب جمع تقديم.
فعرفنا أنه يفعل الأرفق به؛ لأنه قد يشق عليه أن ينزل كل وقت، يعنى يشق أنه إذا كان سائرا، فمثلا ارتحل قبل الظهر بنصف ساعة، احتاج مثلا أن يصلي الظهر، ثم أن يصلي العصر، يكفيه وقفة واحدة، إما في وقت الظهر فيجمعها، أو في وقت العصر فيجمعها جمع تأخير حتى لا ينقطع؛ لأنه في حاجة لمواصلة السير، فالوقفة الثانية قد تقطعه، فيقف وقفة واحدة فيصلي بها الصلاتين، هذه هي العلة.(1/100)
قوله: "ويُسن له القصر للصلاة الرباعية إلى ركعتين"، كلمة "يُسن" تدل على أنه سنة لا واجب، أن القصر سنة، ولكنه يكون أفضل من الإتمام، وأن الإتمام جائز، الإتمام كأنه يصليها أربعة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في منى ركعتين ركعتين، وكذلك أبو بكر وعمر، ثم إن عثمان أتم؛ صار يصلي في منى أربع، الظهر أربع، العصر أربع، العشاء أربع، وتابعه من معه من الصحابة؛ فكان ابن عمر إذا صلى مع الجماعة صلى أربعا، وإذا صلى وحده صلى ركعتين.
وأما ابن مسعود فإنه كان يصلي بجماعة فيصلي أربعا، فقيل له: ألست تحفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلى ركعتين؟ فقال: الخلاف شر. فاختار أن يوافق عثمان مع قوله: ليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
نقول بعد ذلك: إن القصر أفضل إذا كان مسافرا، إذا كان على أهبة السفر النازل نحو منى على أهبة السفر؛ لأنه ينزل في الخيام مثلا، أو في قباب أو ما أشبه ذلك نزولا مؤقتا، وكذلك في عرفة، وكذلك في المزدلفة، وكذلك نزولهم قبل ذلك بالأبطح كانوا يصلون ركعتين؛ لأنهم على أهبة السفر، ثم الإقامة مدة حتى يتم، ذهب بعضهم إلى أنه يقصر ما لم يعزم على الإقامة، كما ذكر ذلك ابن القيم وآخرون، قالوا: إذا عزم على أربعة أيام فإنه يتم، ولعل الأرجح أنه ما دام على أهبة السفر، ويعمل كما يعمل المسافر، فإنه يقصر، ولو طالت المدة.
كيف يكون إذا كان نازلا مثلا في خيمة، أو في قبة، أو ما نزل، بل متاعه على دابته، أو في سيارته، إذا أراد الأكل نصب له قدرا، أو أوقد له قِدرا خارج البلد اعتبر مسافرا، ولو طالت المدة، ولو زادت عن الأربعة أيام، أو العشرة؛ لأنه يعمل كما يعمل المسافر في خيمته، أو في بيت شعر، أو في قبة صغيرة، شأنه شأن المسافرين.(1/101)
أما إذا استقر في البلد، فإنه لا يكون فرق بينه وبين أهل البلد؛ إذا نزل مثلا في فندق يتمتع بما يتمتع به المقيمون، فعنده المكيفات، وعنده الأنوار، وعنده السُّرر، وعنده الفرش، وعنده آلة الوقود، وعنده الثلاجات والطباخات وما أشبهها، ما الفرق بينه وبين المقيم؟ أو كذلك نزل في شقة مثلا، أو نحو ذلك، فمثل هذا نرى أنه مقيم، ولو أقل من ثلاثة أيام فيتم، ويصلي مع الجماعة ولا يترخص، وذلك للفرق بينه وبين المسافر الذي يلاقي المشقة.
قد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " السفر قطعة من العذاب " ، ومثل هذا لا يكلفه هذا الأمر، وليس عليه مشقة، ثم قال: وله الفطر في رمضان، هكذا ذكر هذه الجملة، وسوف نؤخر الكلام عليها إلى كتاب الصيام -إن شاء الله-. صلاة الخوف
ذكر بعد ذلك صلاة الخوف: رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدة صفات، بست صفات أو بأكثر منها، وأكثر من استوفاها ابن جرير، يعني فيما اطّلعتُ عليه في كتاب التفسير في سورة النساء.
ذكر عدة الروايات التي فيها صفات صلاة الخوف، وكذلك أيضا الذين توسعوا في ذكر الصفات كالبيهقي ونحوه.
وكل صفة ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجب أن يصليها على تلك الصفة، فمنها صلاة ذات الرقاع، صلاته في غزوة ذات الرقاع التي رواها صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أبهم الذي صلى، وهو سهل بن أبي حزمة.(1/102)
يقول سهل: إنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، وأن طائفة صُبغت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وطائفة وجاه العدو، يعني مقابلة العدو؛ مخافة أن العدو ينتهز انشغالهم بالصلاة، فيغير عليهم، فهذه الطائفة وقفت تحميهم حتى لا يأتيهم العدو، فصلى بالطائفة الذين معه ركعة، ثم قام وأشار إليهم أن يصلوا لأنفسهم ركعة، فتموا لأنفسهم ركعة وسلموا، وانصرفوا قبل الإمام، وقاموا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الذين كانوا يحرسونهم، فصفوا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما تكاملوا وراءه، صلى بهم بالركعة التي بقيت له، ثم جلس وأشار إليهم أن يتموا فأتموا لأنفسهم ركعة، ثم لما علم بأنهم أتموا لأنفسهم ركعة سلم بهم.
قد يقال: إن في هذه الصلاة إشكال، أو إشكالات منها: كيف فهموا هذا الأمر؟ فيقال: لعله قال لهم: إذا صليت بكم ركعة فأتموا لأنفسكم، ومنها أنه قد يطيل وقوفه، فإنه مثلا لما صلى بهم ركعة، وقام، وهم خلفه ركعوا لأنفسهم، ثم سجدوا، ثم سلموا، وهو لا يزال قائما، ثم ذهبوا، ثم وقفوا وجاه العدو، ثم جاء هؤلاء، ثم صلوا وتصفوا وتكاملوا خلفه، لا شك أنه تطول مدة وقوفه يمكن أن ذلك قد يستغرق مثلا عشرين دقيقة أو خمس عشرة دقيقة، وهو واقف ينتظرهم متى يصلي هؤلاء؟ متى يذهب هؤلاء؟ متى يقوم هؤلاء؟ متى يأتي هؤلاء؟ يستدعي وقتا، ولكنه صبر على هذا الوقوف.
ثم -أيضا- إنه لما صلى بهم الركعة التي بقيت، كيف فهموا أنه أمرهم بالإتمام؟ لأنه أشار إليهم بيده أن قوموا وأتموا، أو علمهم قبل ذلك أن إذا صليت بكم الركعة التي بقيت عليّ، فقوموا وأتموا لأنفسكم، ففعلوا ذلك امتثالا.(1/103)
يقول الإمام أحمد: هذه الصفة أقرب إلى القرآن، فإن الله -تعالى- قال في صلاة الخوف: { ((((((( ((((( ((((((( (((((((((( (((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((((( (((((( (((((((((((((((( (((((((((((((( ((((((( ((((((((( } -يعني صلوا- { (((((((((((((( ((( (((((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((((( (((( ((((((((( ((((((((((((( (((((( } .
فدل على أنهم انقسموا قسمين: طائفة صلوا معه وسجدوا وأتموا لأنفسهم، وطائفة جاءت بعد ذلك، وهم لم يصلوا، فصلوا معه.
يقول: وإذا اشتد الخوف، صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وإلى غيرها، قال الله تعالى: { (((((((((( ((((( (((((((((((( ((((((((((((( (((((((((((( (((((((((( (( (((((((((( ((((( (((((( (((((((( ((((((((( (((( (((((((((( } ورجالا: يعني راجلين، يعني على أرجلكم، وركبانا يعني: راكبين على الخيل، أو على الإبل.
وفي هذه الحال يصلون، ولا يفوتون الوقت، فإن الوقت أهم، يعني مهمته أشد، فيصلون ويومئون في الأركان، يومئ أحدهم يصلي لنفسه، يومئ بالركوع، ويومئ بالسجود، ويحاول أيضا استكمال الواجبات القولية، والقراءة، وما أشبه ذلك، ويسقط عنهم استقبال القبلة، يعني تحريها، وذلك للحاجة الشديدة.
يومئون بالركوع والسجود، فيجعلون السجود أكثر من الركوع، ومع ذلك يفعل ما يحتاجون إلى فعله، وهو في الصلاة، فيضرب أحدهم بالسيف، ويرمي بالسهم، ويلحق بالكافر، يسرع في إدراكه مثلا، أو يهرب منهم، أو نحو ذلك، يفعلون ما يستطيعونه، ويدخل في ذلك الهارب والطالب، فالهارب الذي يطرده العدو، ويخشى أن تفوته الصلاة، يصلي وهو هارب يسعى، والطالب كذلك إذا كان يهرب هارب من المشركين، ويخشى أن يفوته، صلى وهو يومئ إيماء حتى لا يفوته.
استدل بهذا الحديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " وكذلك بالآية الكريمة { ((((((((((( (((( ((( (((((((((((((( } .
باب صلاة الجمعة(1/104)
كل من لزمته الجماعة لزمته الجمعة، إذا كان مستوطنا ببناء، ومن شروطها: فعلها في وقتها، وأن تكون بقرية، وأن يتقدمها خطبتان.
وعن جابر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش، يقول: صباحكم ومساكم. ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " رواه مسلم.
وفي لفظ له: " كانت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة، يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول على إثر ذلك، وقد علا صوته " وفي رواية له: " من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له " وقال: " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه " رواه مسلم.
ويستحب أن يخطب على منبر، فإذا صعد أقبل على الناس فسلم عليهم، ثم يجلس، ويؤذن المؤذن، ثم يقوم، فيخطب، ثم يجلس، ثم يخطب الخطبة الثانية، ثم تقام الصلاة، فيصلي بهم ركعتين يجهر بهما في القراءة؛ يقرأ في الأول بسبح، وفي الثانية بالغاشية، أو بالجمعة والمنافقون.
ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل، ويتطيب، ويلبس أحسن ثيابه، ويبكر إليها، وفي الصحيحين: " إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت " " ودخل رجل يوم الجمعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: صليت ؟ قال: لا. قال: قم فصل ركعتين " متفق عليه.
هذا باب صلاة الجمعة؛ فقد اختصره المؤلف -رحمه الله- وننبه على بعض المسائل المهمة التي لم يذكرها، فمنها: أهمية هذه الصلاة، ومنها: من تلزمه ممن بعيد عنها، ومنها: اشتراطها العدد، كم يكون العدد الذين تلزمهم الجمعة ؟
فأما أهميتها باختصار:(1/105)
فدليلها أنه - صلى الله عليه وسلم - حث عليها وحذر من التخلف عنها، فثبت عنه أنه قال: " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين " ودعهم أي تركهم، لينتهين عن تركهم الجمعة، أي صلاة الجمعة وعدهم الله بأن يختم على قلوبهم.
كذلك أيضا قال - صلى الله عليه وسلم - " من ترك ثلاث جمع تهاونا، طبع الله على قلبه " وهو نظير الأول: " ليختمن الله على قلوبهم " .
فإن الطبع والختم متقاربان، ولكنه في هذا الحديث حدد ثلاث جمع، لأن الجمعة قد يُعفى عنها، وقد تكون -مثلا- لجهل، أو لتهاون، أو نحو ذلك، كذلك الثانية، فإذا تابع ثلاث جمع دل على تساهله بهذه الشعيرة.
الحكمة فيها:
أولا: تحصيل الأجر، تحصيل الأجر بالخطوات إلى المساجد، وتحصيل الأجر بالانتظار، انتظار الإمام حتى يأتي، وتحصيل الأجر بالأعمال التي يعملها، يعني يصلي ما كتب له، وبأن يقرأ مثلا أو ينصت لمن يقرأ، وكل ذلك أجر فإن الإنسان في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، والملائكة تستغفر له: اللهم اغفر له اللهم ارحمه مالم يؤذ أو يحدث.
وثانيا: الاستفادة، لا شك أن الخطب التي تكون في الجمع والأعياد تشتمل على فوائد وتعليمات وأحكام ومواعظ وإرشادات، فينقلب الذي يحضرها وقد تزود علما وقد حصل على فوائد لم يكن يعرفها.
ثالثا: من الحكم التعارف وهو أن أهل القرية إذا اجتمعوا كل أسبوع ولقي بعضهم بعضا وتبادلوا التحية وتعارفوا عرف بعضهم بعضا وسلم بعضهم على بعض وتفقد بعضهم حال أخيه، وعرف من في هذا الوطن من المسلمين الذين يشاركونه في اسم الإسلام، فهذا التعارف من مقاصد الشريعة.(1/106)
شرع الله تعالى الاجتماع للصلوات كل يوم، اجتماع أهل الحي في المسجد الواحد، وشرع أيضا الاجتماع الأسبوعي وهو اجتماعهم في المسجد الجامع لأهل القرية كلهم، وشرع الاجتماع السنوي لصلاة العيد لأهل البلد أيضا، وشرع الاجتماع العام الذي هو الاجتماع في المواسم في مكة، الذي يعم المسلمين كلهم، وكل هذه الاجتماعات فيها مصالح عظيمة، وهنا نقول: إن الأصل منع التعدد للجُمع،وإن أهل البلد يصلون في جامع واحد، وإذا كان ضيقا حرصوا على توسعته وكلما زاد عددهم حرصوا على توسعته حتى لا يتفرقوا ففي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يجتمعون في المسجد النبوي، يأتون من العوالي من مسيرة ساعة أو ساعتين حتى يصلوا في المسجد النبوي، ولم يكن في عهده تعدد للجوامع السبب أنه يحب أن أهل المدينة كلهم يصلون جماعة واحدة مجتمعين جماعة واحدة في مسجد واحد؛ ليحصل منهم التعارف وليحصل منهم التآلف، وما أشبه ذلك هذا هو الأصل.
ولذلك ذهب كثير من الأئمة إلى أنه إذا أقيمت جمعتان بطلت الثانية، التي في البلد بطلت الثانية التي أقيمت بعد الأولى أو منع إقامة الجمعة في مسجد متجدد وصحت في المسجد القديم، ولهذا كان كثير من مشايخنا لا يركنون إلى الصلاة في الجوامع الجديدة، كان الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- لا يصلي إلا في المسجد الجامع الكبير، يتخطى من منزله أكثر من أربعة جوامع يمر عليها ويقول: ما تطيب نفسي إلا بالصلاة في هذا لأنه المسجد القديم؛ لأنه المسجد الأول في هذه البلاد، وإذا قرأنا في كتب الفقهاء وجدناهم يشددون فيمنعون إقامة جمعتين في بلد إلا عند الضرورة، في هذه الأزمنة تساهلت اللجنة في الترخيص في كثير من المساجد وإقامة جمعة فيها مع قرب المساجد الأخرى عندها؛ ولكنهم لا يرخصون في إقامة جمعة في مسجد حتى يضيق المسجد الذي يليه بالمصلين، إذا كان يضيق ولا يمكن توسعته رخصوا في المسجد الآخر، وأما إذا لم يكن يضيق بل فيه متسع فلا يرخصون.(1/107)
وكذلك من تلزمه صلاة الجمعة، منهم من يقول: تلزم من يسمع النداء ومنهم من يقول: تلزم من بينه وبين المسجد فرسخ، ومنهم من يقول: تلزم من يؤويه الليل إلى أهله، أما الذين قالوا: لا تلزم إلا من يسمع النداء فقالوا: إن النداء إذا كان في مرتفع والأصوات هادئة والمؤذن صيّت رفيع الصوت فإن صوته يبلغ أكثر من فرسخ أو يبلغ الفرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، قد ذكرنا أن الميل قريب من كيلوين إلا ربع، فيكون الفرسخ سبع كيلو، ومعناه أنه يلزم من بينه وبين المسجد سبعة كيلو أن يأتي إليه راجلا أو راكبا، هذا قول.
والقول الثاني قالوا: إنها تلزم من بينه وبين من يؤويه الليل، من آواه الليل إلى أهله، ومعنى ذلك أنه إذا صلى الجمعة وصار إذا ذهب إلى أهله راجلا وصلهم قبل الليل فهو من أهل الجمعة، وهذا قد يستلزم أنه يلزم أن الجمعة تلزم من بينه وبين المسجد مسيرة أربع ساعات،أو نحوها؛ لأنه قد يقال: إن مسيره أربع ساعات أو خمس ساعات في النهار الطويل فدل على أن السلف -رحمهم الله- كانوا يشددون في أمر الجمعة فيلزمون البعيد الذي بينه وبين المسجد أربع ساعات أن يأتي على رجليه، وفي هذه الأزمنة تساهل كثيرون بهذه الشعيرة، نسمع وتسمعون أن كثيرا منهم يذهبون إما يوم الجمعة وإما يوم الخميس سفر نزهة كما يقولون، ثم ينزلون في طرف البلاد، يمكن بينهم وبين البلد إما ديار أو غيرها من القرى ثلاث كيلو أو أربع كيلو، ومع ذلك يصلون قصرا ويتركون هذه الجمعة، لا شك أن هذا قد يخاف عليهم؛ لأنهم يدخلون فيمن ترك الجمعة تهاونا، عندهم سيارات يستطيعون مثلا أن يركبوا سيارتهم أو سياراتهم مسافة ربع ساعة أو نصف ساعة توصلهم إلى المساجد، ويصلون الجمعة لا شك أن تركهم لها تهاون.(1/108)
يقول المؤلف: بقي مسألة وهي العدد المشترط للجمعة؛ أكثر الفقهاء على أنه لا بد من أربعين وذلك؛ لأن الجمعة من الجمع والعدد القليل لا يسمى جمعا، يعني جمعا كاجتماع، فإذا كانوا عددا قليلا فإنهم يصلون ظهرا، واستدلوا بحديث كعب بن مالك ذكر " أن أول جمعة بالمدينة أقاموها كان عددهم أربعين " فبذلك اشتهر هذا القول، أنها لا بد أن يكون أهل المسجد أربعين؛ فلذلك إن رأوا أنهم إذا لم يتموا أربعين صلوا ظهرا، هذا قول، وذهب آخرون كالمالكية إلى أنها تصح باثني عشر، واستدلوا بأن في حديث جابر في قصة نزول قوله تعالى: { ((((((( (((((((( ((((((((( (((( ((((((( ((((((((((( ((((((((( } ذكر أنه قدمت عير تحمل طعاما فلما سمعوا بها وهم في المسجد خرجوا حتى لم يبق إلا اثني عشر، لكنهم خرجوا ورجعوا، خرجوا ينظرون إلى هذه العير ثم رجعوا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - { ((((((((((( ((((((((( (((( ((( ((((( (((( (((((( ((((( ((((((((( (((((( ((((((((((((( } فالحاصل أنها دليل على أنها تصح باثني عشر، ولكن قد يقال: إن الذين خرجوا ينظرون، لم تفتهم الصلاة بل رجعوا.(1/109)
وهناك قول ثالث: إنها تصح بسبعة، ومروي عن شيخ الإسلام وإن لم أره مصرحا في كتبه أنها تصح بثلاثة، ذكر ذلك صاحب الاختيارات ونقله صاحب الإنصاف، أنها تصح بثلاثة: إمام ومؤذن ومستمع وهذا لعله خاص بإذا كانوا بعيدين، بعيدين عن البلاد الأخرى، وكانوا أيضا مستقرين ثابتين في هذا، أقرب مسجد يبعد عنهم يبعد مثلا نصف يوم وهم مستقرون فيرخص لهم في هذه الحال فإنه مع ذلك فالأولى العمل بالعدد الكثير، نقول: كل من لزمته الجماعة لزمته الجمعة، ذكرنا أن الجماعة تلزم الرجال فلا تلزم النساء، وتلزم الصحيح فلا تلزم المريض، وزادوا هنا شرطا آخر، وهو الحرية، فقالوا: العبد مشغول بخدمة سيده والجمعة تحتاج إلى مسافة، فتسقط الجمعة عن العبد، والصحيح أنها لا تسقط، وأما الحديث الذي ذكر في بلوغ المرام: الجمعة حق واجب على مسلم إلا أربعة وعد منهم العبد والمريض والمسافر والمرأة فهذا الحديث لعله خاص بما إذا كان العبد منشغلا، أو كانت المسافة بعيدة، وأما إذا كانت قريبا فإنه يلزمه.
والمؤلف يقول: من لزمته الجماعة لزمته الجمعة، والعبد تلزمه الجماعة، يلزم سيده أن يرخص له يذهب لصلاة الجمعة صلاة الجماعة.(1/110)
ويزاد شرط ثالث وهو أن يكونوا مستوطنين، فلا تلزم البوادي الذين يحلون ويرتحلون، أهل بيوت الشعر، وذلك، لأنهم غير مستقرين، ولا تلزم المسافرين، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسافر أسفارا طويلة قد تستغرق شهرا أو أربعين يوما أو نحو ذلك ولم يجمع، ومن شروطها فعلها في وقتها، ووقتها مختلف فيه، إذا قيل: إنه من طلوع من وقت النهي، يعني ارتفاع الشمس قيد رمح، إلى آخر وقت الظهر، ودخول وقت العصر، إذا كان ظل الشيء مثليه، هذا نقل عن بعض السلف، ولكن الجمهور أن وقتها وقت الظهر وقد يرخص في تقديمها قليلا، يعني تقديم الأذان وتقديم بعض الخطبة قبل الزوال يجوز ثبت عن الصحابة أنهم كانوا ينصرفون من صلاة الجمعة، يتتبعون الفيء من التبكير، كان يبكر بهم فيتتبعون الفيء أو الظل.
كذلك من شروطها أن تكون بقرية كما ذكرنا، يعني مستوطنين، وأن يتقدمها خطبتان، بعد ذلك ذكر المؤلف هذا الحديث يقول: عن جابر قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم " .
الغرض من إيراد هذا الحديث بيان أن الخطبة ينبغي أن تكون حماسية وأن يكون حال إلقائه يظهر عليه أثر الشدة وأثر التفاعل ويحمر وجهه وتحمر عيناه ويرفع صوته، ويظهر الشدة كأنه غضبان، ويتمثل بأنه يخوف الناس، يخوفهم من العذاب صبحكم العذاب، مساكم العذاب، كما يحذر الذي ينذر بالجيش جيش العدو، هذا من صفات الخطبة.(1/111)
كذلك أيضا مما تشتمل عليه هذه الجملة ينبغي أن تشتمل عليها الخطبة الثانية والخطبة الأولى، أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ذلك يفهم منه أنه يأتي بهذه الجملة كل جمعة، لما فيها من المعاني الجليلة، تذكير بكتاب الله تعالى ، وتذكير بهدي وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحث على التمسك بها، ونهي عن المحدثات والبدع، وأنها شر الأمور، ويخبر أيضا بأن في صدر خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحمد الله ويثني عليه وهذا هو المعتاد، ما كان يبدأ خطبته إلا بالحمد، لم يبدأها بغير الحمد، هذا هو المعتاد، يحمد الله ويثني عليه، ثم يقول.على إثر ذلك وقد علا صوته إلى آخره.
وأما رواية " من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له " فهذه وردت في خطبة الحاجة، حديث ابن مسعود المشهور " إذا كان لأحدكم حاجة فليقل: إن الحمد لله ... " إلى آخره.
أما حديث: " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه " فهذا يستدل به على أنه يطيل في الصلاة، وأنه يقصر في الخطبة، ولكن ما المراد بالتقصير ؟، وما المراد بالإطالة، طول الخطبة وقصر الخطبة، يقول العلماء: إن الطول والقصر أمر نسبي، ويقولون: إن خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - طويلة، ولأجل طولها يقسمها إلى قسمين يجلس بينهما فهو يطيل في الخطبة، فإذا تعب وسئم جلس، واستراح هنيهة ثم ابتدأ في الخطبة الثانية، فالقسم والجلوس دليل على الإطالة، فإذا الطول والقصر أمر نسبي، فإذا رأينا مثلا من تطول خطبته ساعتين قلنا: هذا يطيل، وإذا رأينا من تكون خطبته نصف ساعة قلنا: هذا يقصر، الإطالة هي الطول الممل الذي يكل ويمل فيه المصلون والمستمعون، العادة أن المستمعين إذا طالت الخطبة يستثقلونها، فهذا هو القصد أن نصف ساعة أو ثلثي ساعة تعتبر قصيرة وأن ساعة، وأن ساعة ونصف أو ساعتين تعتبر طويلة.(1/112)
فيقول: ويستحب أن يخطب على منبر، والحكمة في ذلك أن يرتفع ويقابل المصلين، ويكون ذلك أيضا أندى لصوته، وذلك قبل وجود الأجهزة المكبرة، وبعد وجودها أيضا، يقابل المصلين حتى يكون ذلك أقرب إلى مشاهدته ومشاهدتهم، إذا صعد أقبل على الناس وسلم عليهم، ويردون عليه، إذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ردوا عليه بمثل ذلك، يجلس بعد السلام وقت الأذان، الجمعة لها أذانان، أذان قبل الصلاة بساعة أو بساعة ونصف لتنبيه الناس، وهو الذي شرعه أو أمر به عثمان لما رأى غفلة الناس، والأذان الذي كان على العهد النبوي هو الأذان حين يجلس الخطيب فيجلس حتى يؤذن المؤذن، ثم يقوم فيخطب ثم يجلس ثم يخطب الخطبة الثانية، أي يفصل بينهما بجلسة، وهذه الجلسة للاستراحة، وكان هذا دليل على أنه عليه السلام كان يطيل، فيمكن أن تكون خطبته أو كل من خطبتيه مثلا نصف ساعة، أو ثلث ساعة، كل من خطبتيه، فلذلك يجلس بينهما.
ويمكن أن تكون أكثر من ذلك، بعد ذلك تقام الصلاة ، يصلي بهم ركعتين كما هو معروف، يجهر فيهما بالقراءة، والحكمة في ذلك أنه يحضر الجمعة خلق كثير، وقد يكون كثير منهم جهلة فجهر بالقراءة، فيها ولو كانت نهارية حتى يسمعهم ما قد يخفى عليهم، أو قد لا يسمعونه إلا في يوم الجمعة، وقراءته بسبح والغاشية، لأن فيها الأمر بالتذكير، في سورة سبح { ((((((((( ((( (((((((( (((((((((((( ((( (((((((((( ((( (((((((( (((( ((((((((((((((( ((((((((( (((( } يذكرهم بأن من يتذكر هو الخاشي هو الذي يخشى الله، { (((((((((( ((( (((((((( (((( } وفي سورة الغاشية { ((((((((( (((((((( ((((( ((((((((( (((( } فدل على أن حكمة هاتين السورتين لما فيهما من الأمر بالتذكير وأن خطبة الجمعة فيها تذكير، وأما استحباب سورة الجمعة والمنافقين فمروي عن الإمام أحمد ويقولون: إنه مما انفرد به، من مفردات المذهب، ولهذا يقول الناظم:
المفردات
إن صلاة الجمعة يقرأ فيها(1/113)
سورتها وسورة تليها
سورتها يعني سورة الجمعة، والحكمة في سورة الجمعة الأمر فيها لقوله: { ((((( ((((((( ((((((((((( ((( (((((( (((((((((((( } إلى آخر السورة، والحكمة في سورة المنافقون، الأمر بالذكر { (( (((((((((( ((((((((((((( (((( ((((((((((((( ((( (((((( (((( } من ذكر الله الصلاة، ومن الصلاة صلاة الجمعة.
يستحب لمن أتي الجمعة أن يغتسل، هكذا قال: إنه يستحب، وقد ذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه واجب، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " غسل الجمعة واجب على كل محتلم " ولقوله: " من أتى الجمعة فليغتسل " .(1/114)
في الغسل ثلاثة مذاهب: قول متشدد، وقول متساهل، وقول متوسط. فالقول المتشدد هم الذين أوجبوه، واستدلوا بهذه الأحاديث، والقول المتساهل فهم: الذين قالوا: كلها سواء الغسل وتركه، وقد يستدلون بحديث: " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل " حديث سمرة، والذي توسطوا قالوا: يجب في حال دون حال: ونظروا إلى الحكمة في حديث عن عائشة قالت: " كان الناس يأتون إلى صلاة الجمعة بثياب دنسة وهم أهل عمل وأبدانهم متسخة، وثيابهم متسخة " فإذا صفوا في جانب بعضهم، تأذى البعض من بعضهم، وكان المسجد أيضا مظلما، وليس فيه نوافذ، وليس فيه مكيفات، وليس فيه هواء، فيشتد الحر، وينزل العرق فتتسخ الأبدان وتتسخ الثياب، ويؤذونهم إلى جانبهم فلما اشتكوا اشتكى كثير منهم وقالوا: نتأذى من هؤلاء العمال؛ لأن أكثر أهل المدينة أهل عمل، إما عمل في حروفهم، وإما عمل في تجارتهم، وإما عمل في حرف أو نحوها، وأكثرهم فقراء، لا يجد إلا الثوب الذي على جسده، وقد يبقى الثوب عليه مثلا نصف سنة، قد لا يغسله إلا في الشهر مرة أو الشهرين، فيتسخ فيتضرر، فلأجل ذلك أمروا بأن يغتسلوا في يوم الجمعة حتى يذهب شيء من الوسخ الذي على الأبدان، وأمروا بأن يتطيبوا حتى يكون ذلك الطيب مخففا للروائح، وأمروا بأن يلبسوا أحسن الثياب، حتى يكون ذلك مخففا لزوال الأوساخ التي تكون عليها، وأمروا بالتبكير، أن يذهبوا مبكرين.(1/115)
وأمروا في حالة الخطبة بالإنصات في الحديث: " إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت " ورد من حديث " من مس الحصى فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له " يعني في حالة الخطبة، مأمور أن تسكت وتنصت وتستمع، حتى لو رأيت إنسانا يتكلم تكلمت وقلت: أنصت، فقد لغوت، إنما تشير إليه إشارة خفيفة،، ومس الحصى يعني تسوية الأرض، يعنى الأرض التي كانوا يصلون عليها فيها حصباء، فتسويتها لا تجوز في حالة الخطبة، بل يسويها قبل ابتداء الخطبة أو نحو ذلك، ومن دخل والإمام يخطب أمره الإمام بأن يصلي ركعتين إذا جلس، " دخل رجل يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فقال: صليت يا فلان ؟ قال: لا. قال: قم فصلي ركعتين " فأفاد بأنه يصلي ولو كان حال الخطبة.
اقرأ باب العيدين.
باب صلاة العيدين
" أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس بالخروج إليها حتى العواتق والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين ، ويعتزل الحيض المصلى " متفق عليه .
ووقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى الزوال ، والسنة فعلها بالصحراء وتعجيل الأضحى وتأخير الفطر ، والفطر في الفطر خاصة قبل الصلاة بتمرات وترا ، وأن يتنظف ويتطيب لها ، ويلبس أحسن ثيابه ، ويذهب من طريق ويرجع من أخرى ، فيصلي بهم ركعتين بلا أذان ولا إقامة ، يكبر في الأولى سبعا بتكبيرة الإحرام ، وبالثانية خمسا سوى تكبيرة الإحرام ، يرفع يديه مع كل تكبيرة ، ويحمد الله ، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بين كل تكبيرتين ، ثم يقرأ الفاتحة وسورة ، يجهر بالقراءة فيها ، فإذا سلم خطب بهم خطبتين كخطبتي الجمعة ، إلا أنه يذكر في كل خطبة الأحكام المناسبة للوقت ، ويستحب التكبير مطلق ليلتي العيدين ، وفي كل عشر ذي الحجة ، والمقيد عقب المكتوبات من صلاة فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق: الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، الله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد .(1/116)
العيد: اسم لما يعود ويتكرر، إما بعود السنة ، أو الأسبوع أو الشهر ، وسمي عيد لأنه يعود ويتكرر ، وقيل: سمي عيدا لأن عودة التفاؤل بعودته ، أو لأنه مع عودته يصحبه فرح وبشرى وسرور ، ولأجل ذلك الأعياد تعتبر أيام فرح ، ولهذا يتبادل فيها التهاني ، قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما ، فقال: " قد أبدلكما الله بهما يومين خير منهما: يوم عيد الفطر وعيد ، الأضحى " فأعياد المسلمين ليست مجرد لهو ولعب وطرب وغناء ، وطبول ولكنها صلاة وذكر وشكر ، أما أعياد الكفار فإنها مشتملة على اللهو واللعب ، ليس في أعيادهم صلاة ، اختصت أعياد المسلمين بأن فيها هذه الصلاة ويفتتح يوم العيد بالصلاة وليلة العيد بالتكبير ، أليس ذلك دليل على أنها أعياد إسلام ، وأعياد ذكر ، وأعياد عبادة ، فينكر على من يجعلها أيام لهو وسهو ، أو أيام طرب وأيام غناء ، وخمر وزمر .
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخروج إلى العيد أن يخرج الناس إليها ، وكان يصليها في الصحراء ، في البقيع ، أمرهم بأن يخرجوا كلهم ،وأخذوا من ذلك أنها واجبة على الأعيان ، حتى أخرج العواتق ، يعني الأبكار من النساء ، وحتى أمر بإخراج الحيض ، مع أنه لا صلاة عليهن ، وقال: " يشهدن الخير ودعوة المسلمين ، ويعتزل الحيض المصلى " يجلسن خلف المصلين ، يشهدن الدعاء والذكر ونحو ذلك ، حتى أمر بإخراج كل امرأة ، وسئل: " إن إحدانا ليس لها جلبابا فقال: لتلبسها صاحبتها أو أختها من جلبابها " وصل إلى هذا الحد من التأكيد .
وقتها: من ارتفاع الشمس قيد رمح ، يعني: خروج وقت النهي ، إلى الزوال فإذا زالت الشمس ولم يصلوها صلوها من الغد ، في مثل وقتها ، إذا ما أتاهم الخبر ، خبر العيد إلا بعد الزوال صلوها من الغد ، في الحديث: " أنه - صلى الله عليه وسلم - مرة جاءهم خبر من رأى الهلال البارحة فأمرهم بالإفطار ، وأن يخرجوا غدا إلى مصلاهم " .(1/117)
السنة فعلها في الصحراء، دون المساجد التي في البلد إلا عند الحاجة ، ثبت " أن عليا - رضي الله عنه - بالكوفة لما كثر الناس فيها وصار فيهم ضعفة ومرضى ، وكبار أسنان خلف رجلا يصلي بهم في مسجد الكوفة ، وصلى هو بالباقين في الصحراء: خرج بهم إلى خارج البلاد " مع أنها مدينة كبيرة ، هذا دليل على أنه إذا كان هناك مشقة على بعضهم صلوا في الجوامع .
يسن تعجيل الأضحى ، التبكير بصلاة الأضحى لماذا ؟ حتى يبادروا إلى ذبح أضاحيهم ، ويكون أول أكلهم منها .
ويسن تأخير الفطر يعني صلاة عيد الفطر تؤخر يعني يكون الفرق بينهما عشر دقائق أو قريب منها يؤخرها ، ويسن أن يفطر قبلها فيأكل تمرات ، وترا حتى يتحقق الفطر حسا ومعنى ، يأكلها وترا أي ثلاث تمرات أو خمس أو سبع ، أو تسع ، يفضل أن تكون وترا ، تمرات ، وهكذا وردت السنة .
يتنظف لها كما يتنظف للجمعة ، ويتطيب لها ويلبس أحسن ثيابه ، كما يتنظف للجمعة كما سمعنا ، السنة مخالفة الطريق ، أن يذهب من طريق ويرجع من طريق آخر هكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب للعيد يخالف الطريق ، الحكمة تكثير مواضع العبادة أن تشهد له هذه وهذه ، وقيل: الحكمة غيظ المنافقين ، إذا ذهب المؤمن من هنا ورجع من هنا اغتاظ هؤلاء وهؤلاء أو الحكمة الرفق بالمساكين الذين هنا والذين هنا ، فمر بهم فإنه يتفقد أحوال هؤلاء وأحوال هؤلاء ، أو الله أعلم بالحكمة .(1/118)
صلاتهم ركعتين ، صلاة العيدين يصلي ركعتين ، بلا أذان ولا إقامة ، يخرجون بلا أذان يعني لأن الوقت محدد ولا حاجة إلى إقامة لأنهم إذا رأوا الإمام مقبلا عرفوا أنه سوف يصلي من حين يرونه مقبلا يقومون على التأهب بغير قيام ، فلا حاجة إلى إقامة ، اختصت العيد وكذلك صلاة الاستسقاء بأنه يفتتح الأولى بسبع تكبيرات بسبع تكبيرات والثانية اقتصر بخمس ، والسبع زائدة على تحسب منها تكبيرة الإحرام ، وأما الخمس فلا تحسب منها تكبيرة القيام ، يرفع يديه مع كل تكبيرة ، روي ذلك عن ابن عمر أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة من تكبيرات العيد وفي تكبيرات الجنازة .
ماذا يقول بين التكبيرتين؟
يسكت بين كل تكبيرتين ، يحمد الله ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - نقل أنه يقول: " سبحان الله والحمد لله والله أكبر " ونقل أنه يقول: " الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، وتعالى الله جبارا قديرا ، وصلى الله وسلم على محمد النبي وسلم تسليما كثيرا " وقد يكون هذا طويلا وسكتاته خفيفة لكن يقول بعدها إذا قال: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، أو وصلى الله وسلم على وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا يقول من ذلك ما تيسر ، والقراءة جهرية ولو كانت في النهار ، يقرأ الفاتحة ويقرأ سورة ، وقيل: ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورتي سبح والغاشية ، وثبت أيضا أنه قرأ سورتي ق واقتربت الساعة ، وإن كان فيها طول ولكنهم يتحملون ، يتحملوا طول هاتين السورتين مما يدل على أنه كان يطيل بهم ، ويصبرون فالحاصل أنه يقرأ سورتين طويلتين أو متوسطتين ، بعد ذلك يخطب بهم خطبتين كخطبتي الجمعة .(1/119)
قوله: كخطبتي الجمعة يفهم منه أنه لا يبتدئهما بالتكبير ، خلافا لما اشتهر بكتب الفقهاء أنه يبدأهما بالتكبير ، المشهور عندهم أنه يقول الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر تسع تكبيرات في الأولى وسبعا في الثانية ، تكبيرات النسك ، ولهم أدلة على ذلك مذكورة في كتاب المغني وفي غيره من الكتب ، ولكن أنكر ذلك المحققون كابن القيم وشيخه ، وقالوا: ما ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- افتتح خطبة إلا بالحمد ، وعلى هذا فيفتتحها بالحمد ثم يجعل التكبير بعد ذلك ، والحكمة من التكبير أنه مأمور به ، في هذه الأيام ، كما سيأتي ، يذكر في كل خطبة الأحكام المناسبة للوقت ، ففي خطبة عيد الفطر يذكر زكاة الفطر وأحكامها ، ويذكر أيضا مناسبة ختم الشهر ومناسبة العيد هذا وما أشبهه ، وفي خطبة عيد النحر يتكلم عن الأضحية ، ويذكر شيئا من أحكامها والمجزي منها وغير المجزي ، ووقت ذبحها ، وكيفية توزيعها ، وما أشبه ذلك .(1/120)
يسن التكبير المطلق لليلتي العيدين ، التكبير المطلق هو الذي ليس محددا بوقت ، قال الله تعالى في آيات الصيام: { ((((((((((((((( (((((((((( (((((((((((((((( (((( (((((( ((( ((((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((( } فأخذوا من هذا أنه يستحب ويتأكد في ليلة عيد الفطر بعد إكمال العدة أن يظهروا التكبير وأن يرفعوه علامة على انقضاء الشهر وعلامة على أن الله وفقهم لذلك واعترافا بكبرياء الله تعالى ، وفي ليلة عيد النحر أخذوها أيضا من قوله -تعالى- في آيات الحج: { ((((((((( ((((((((( (((((( (((((((((((((( (((( (((((( ((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((((((( (((( } فختم هذه الآيات بالتكبير ، ( لتكبروا الله على ما هداكم ) فهذا دليل شرعية التكبير في ليلتي العيدين ، وهي عشر ذي الحجة ، من حين يدخل شهر ذي الحجة العشر كلها إلى صلاة العيد ، يستحب التكبير المطلق ، أخذوه من قوله تعالى: { ((((((((((((( (((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((( } فسرت بأنها أيام العشر .
والتكبير المقيد عقب الصلوات المكتوبات من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق ، سموه مقيدا؛ لأنه يكون عقب الصلوات أخذوا دليله من قول الله تعالى: { ( ((((((((((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((( } فقالوا: هذه الأيام المعدودات هي أيام التشريق ، وأدخلوا فيها هذين اليومين يوم العيد ويوم عرفة ، ونقلوا ذلك أيضا عن السلف -رحمهم الله- أنهم كانوا يكبرون في هذه الأيام ، أي يعني عقب الصلوات.
ونقلوا ذلك أيضا عن السلف -رحمهم الله- أنهم كانوا يكبرون في هذه الأيام أي يعني عقب الصلوات ، بالنسبة إلى غير الحاج يبدأ التكبير المقيد من فجر يوم عرفة ، وبالنسبة للحاج يبدأ التكبير من ظهر يوم النحر؛ لأنه قبل ذلك كان مشغولا بالتلبية.(1/121)
ذكر صفة التكبير ، أنه يكبر ثلاثة ثم يهلل ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، وإن اقتصر على تكبيرتين فلا بأس وهو أشهر ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد فيجمع بين التكبير الذي هو تعظيم لله ويجمع بين التهليل وبين التحميد وذلك هو أفضل الذكر .
وبهذا ننتهي من كتاب الصلاة والآن نواصل القراءة .
كتاب الجنائز
قال -رحمه الله-: كتاب الجنائز
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " رواه مسلم . وقال: " اقرءوا على موتاكم يس " رواه النسائي وأبو داود .
وتجهيز الميت كتغسيله وتكفينه والصلاة عليه وحمله ودفنه فرض كفاية . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أسرعوا بالجنازة ، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم " .
وقال: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " رواه أحمد والترمذي.
والواجب في الكفن ثوب يستر جميعه ، سوى رأس المحرم ووجه المحرمة .
وصفة الصلاة عليه أن يكبر فيقرأ الفاتحة ثم يكبر فيصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يكبر فيدعو للميت فيقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وذكرانا وأنثانا وصغيرنا وكبيرنا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ، ومن توفيته فتوفه على الإيمان ،اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده ، واغفر لنا وله ، وإن كان صغيرا قال بعد الدعاء العام: اللهم اجعله فرطا لوالديه ، وذخرا وشفيعا مجابا، اللهم ثقل به موازينهما وأعظم به أجورهما واجعله في كفالة إبراهيم وقه برحمتك عذاب الجحيم ، ثم يكبر ويسلم .(1/122)
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه " رواه مسلم .
وقال: " من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان ، قيل وما القيراطان ؟ قال: مثل الجبلين العظيمين " متفق عليه . " ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه " رواه مسلم .
وكان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " رواه أبو داود وصححه .
ويستحب تعزية المصاب بالميت ، " وبكى النبي - صلى الله عليه وسلم - على الميت وقال: إنها رحمة " مع أنه لعن النائحة والمستمعة ، وقال: " زوروا القبور فإنها تذكر بالآخرة " رواه مسلم .
وينبغي لمن زارها أن يقول: السلام عليكم أهل دار قوم مؤمنين ، وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ، نسأل الله لنا ولكم العافية .
وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لمسلم نفعه ذلك ، والله أعلم .
إلحاق الجنائز بالصلاة، لأن أهم ما يعمل بالميت الصلاة عليه ؛ ولأنها تسمى صلاة ويشترط لها أكثر شروط الصلاة ، فلأجل ذلك جعلوها تابعة لكتاب الصلاة ولما كان يتعلق بالجنائز كثير من الأحكام ، جمعوها تحت هذا العنوان: كتاب الجنائز ، وإلا كان يقتصرون على الصلاة على الميت ، ويذكرون بقية الأحكام ، تبع الوصايا أو غيرها من الموضوعات .(1/123)
الجنازة: اسم للميت إذا كان على السرير يسمى جنازة ، وأما إذا لم يكن عليه جنازة فإنه يسمى سريرا ، واشتقاقها من جنز إذا رفع، وكأنهم يرفعونه على متونهم وذلك هو الجنوز ، الأصل أن الميت يحمل على نعشه على الرقاب ثم يتبعه الناس ، ويسيرون خلفه إلى المقابر ، يتعلق بالجنائز أحكام قبل الموت وأحكام بعدها كثيرة ، يذكر الفقهاء مثلا والعلماء أحكاما مثل: حكم تمني الموت هل يجوز أم لا يجوز ؟ ويصححون الأحاديث التي فيها أنه لا يجوز إلا إذا خشي الفتنة ، والأولى أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي . ولا يتمناه؛ لأنه ورد في الحديث: " لا يتمنين أحد منكم الموت لضر نزل به " ويعني لضر أو لمرض أو نحو ذلك ، وأما ما حكى الله -تعالى- عن مريم من قولها: { (((((((((((( (((( (((((( (((((( ((((((( ((((((( (((((((( (((( } فإن إنما خافت من العار ، خافت أن تتهم ، ويلصق بها تهمة أنها قد زنت وأتت بولد من غير أب ، فجعل الله براءتها أن ولدها برأها وتكلم وهو في المهد ، فإذا خاف الإنسان من نفسه فتنة ، أن يقع في فتنة أو يتهم بها ، أو نحو ذلك جاز أن يتمنى الموت ، وإلا فالأصل ألا يتمناه ، وأن يتمنى الحياة السعيدة ، الحياة الطيبة ، وقد ذكروا أن بقية عمر المؤمن لا قيمة له .
ومن المسائل التي بحثوا فيها قبل ذكر الجنائز حكم التداوي ، هل يجوز التداوي؟ أو تركه أفضل ؟
فالمريض معروف أنه إذا مرض وسئم من المرض ، وطال به المرض فإنه يسوءه ذلك لأنه يعوقه عن الأعمال ؛ ولأنه يتعبه ويرهقه ، فهو يحب زوال هذا المرض ، فأبيح له أن يستعمل العلاج ، الذي يبرأ به هذا المرض أو يخف ، أو يستعمله حتى تطيب نفسه ، ولو مات ولم يرد ذلك عنه ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به وقال: " تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام ، فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له شفاء " .(1/124)
وبعضهم يفصل فيقول: إن وثق بالتوكل وعلم أن قلبه لا يضعف فالصبر والتحمل على المرض أفضل ، إلى أن يقدر الله قدره ، فأما إن ضعف قلبه ، وضعف توكله ، فالعلاج أفضل ، حتى يزول الألم أو يقدر الله ما يشاء .
يقول: أولا بحثوا أيضا في عيادة المريض: إذا مرض الإنسان فإنه يستحب لأصدقائه وأحبابه أن يعودوه في مرضه ، وإذا عادوه فإنهم ينفسون له في الأجل ويذكرونه التوبة ، ويذكرونه الوصية ، وإذا نفسوا له في الأجل بشروه بأنه سوف يشفى ، وسوف يقوم ويعيد الله إليه صحته وحالته الأولى، وإن كان ذلك لا يرد قدرا ، وكذلك أيضا يجتهدون في الدعاء له بالشفاء العاجل فربما أن الله تعالى يستجيب دعوتهم ، وإن كان الله قد قدر ما قدره ، والأحاديث والآثار في عيادة المرضى كثيرة مكتوبة في كتب الآداب ، إذا زاره أو عاده أخوه أو صديقه ، فإنه يذكره بالتوبة ، حتى يختم عمله وعمره بالتوبة ؛ لتكون آخر عمله ، يذكره أيضا بالوصية ، فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحث على كتابة الوصية فيقول: " ما من مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " .(1/125)
وذلك؛ لأن الموت قد يأتي فجأة ، فيكون ذلك الميت قد فرط فيما عنده ، أضاع الأمانات التي عنده أو أضاع أمواله التي عند غيره ، أو أضاع مثلا الأوقاف ، التي على يديه ، ولم يكتبها أو فرط في حقوق تلزمه ، فإذا عليه أن يكتب في صحته حتى ولو كان نشيطا ، حتى ولو كان في مقتبل عمره ، وفي أقوى الصحة ، لا يغفل عن كتابة الوصية ، فإن الموت قد يأته فجأة ، قد يحدث عليه حادثا ، أو موت فجأة أو سكتة ، أو نحو ذلك ، وفي بعض الأحاديث: " في آخر الزمان يكثر موت الفجأة " ولعله في هذه الأزمنة كثرت من يموت بالحوادث، فإن هذا موت فجأة ، فالإنسان يركب سيارته ولا يدري هل يسلم أم لا ، وإن كان مأمورا بفعل الأسباب من التؤدة والتأني والتوقي للأسباب وللآفات ، وما أشبهها ، فكتابة الوصية لا تقرب الأجل ، بل هي من الحزم ، كذلك أيضا مما بحثوا فيه ذكر الموت دائما ، ففي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أكثروا ذكر هاذم اللذات " هكذا روي " هاذم اللذات " بالذال ورواه بعضهم بالدال هادم ، المعنى أنه مكدر اللذات ، أكثروا ذكر الموت.(1/126)
وفي بعض الروايات قال: " فإنه ما ذكر في قليل إلا كثره ، ولا في كثير إلا قلله " يعني إذا ذكره الفقير الذي هو في حالة بؤس وفي حالة قلة ذات يد ، تذكر أنه سيموت ، قنع بما آتاه الله ، قنع بالرزق الذي وفق له ، ولم يشتد شرهه ، ولم يشتد طلبه ، وقال: " قد أفلح من رزق كفافا وقنعه الله بما آتاه " وكذلك إذا ذكره الذي عنده التجارات والأموال الكثيرة ، زهده فيها وحثه على أن يقدم لآخرته ، ويتذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " يقول ابن آدم: مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فإنك ذاهب وتاركه " وقال - صلى الله عليه وسلم - مرة لأصحابه: " أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه ؟ أو أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ فقالوا: كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه . قال: فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر " .(1/127)
والحاصل أن في ذكر الموت ما يزهد الإنسان في الدنيا ويرغبه في الآخرة ، ويحثه على الاستعداد للموت ، حتى يأتيه أجله وهو على أتم استعداد ، ولا يأتيه وهو مفرط ، فإن الذين يطيلون الآمال يؤملون آمالا طويلة ، أنهم سيعيشون كذا وكذا ، وأنهم سوف يكتسبون ويتصدقون ، ونحو ذلك هؤلاء قد تقطع عليهم آمالهم ، فلا يحصلون على ما فعلوا أو ما أملوا ، إذا نُزل بالميت استحب بعضهم وهو مشهور أن يوجه إلى القبلة ، ورووا عن حذيفة أنه قال: وجهوني ، وإن كان أنكر ذلك بعضهم كسعيد بن جبير وابن المسيب ، وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر بعض الكبائر ، كبائر الذنوب فقال: فعد منها قوله: " واستحلال الكعبة ، قبلتكم ، قبلتكم أحياء وأمواتا " يعني ومن الكبائر استحلال الكعبة ، يعني استحلال حرمة بيت الله الذي هو قبلتكم أحياء وأمواتا ، كيف يكون قبلتكم أمواتا ؟ يعني توجهون إليها ، فيندب إذا احتضر أن يوجه وجهه إلى القبلة ، ويكون على جنبه الأيمن ، وكذلك إذا وضع في قبره ، يجعل وجهه إلى القبلة ، ويكون على جنبه الأيمن.
كذلك أيضا التلقين للشهادة ، في هذا الحديث قال النبي صلى اله عليه وسلم: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " يلقنه برفق بأن يقول: قل: لا إله إلا الله مرة ، فإن تكلم بعدها أعادها حتى تكون آخر كلامه ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة " هكذا حث عليه الصلاة والسلام ، وإذا قلت: فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان آخر كلامه قوله: " بالرفيق الأعلى ، ثم قضى " فالجواب أن معنى لا إله إلا الله الاعتراف بأن الله تعالى هو الإله الحق ، والاعتراف بأنه المستحق للعبادة ، فإذا أتى بهذه الكلمة أو بما يدل عليها من اعترافه بربوبية الله وإلاهيته أو اعترافه بأنه أهل العبادة ، وأنه أهل أن يطاع ويعبد ، ويرغب إليه ، ويدعى فإن ذلك كاف .(1/128)
فقوله: " اللهم فالرفيق الأعلى " فيه اعتراف بأن الله تعالى هو المدعو وحده وأنه الذي يملك الثواب ، وأنه الذي يعطي عبده ما طلبه ، وأنه إذا حصل له الرفيق الأعلى الذي هو الملأ الأعلى فإنه في غاية السعادة ، فهذا معنى لا إله إلا الله أو معنى التوحيد .
أما حديث " اقرءوا على موتاكم يس " رواه النسائي وأبو داود ، ضعفه بعضهم، ولكن يظهر أن له شواهد يتقوى بها ، فيعمل به متى ؟ بعض الجهلة يقولون: بعد الموت أو عند القبر ، أنه أنها تقرأ بعد الموت ، والصحيح أنها تقرأ قبل الموت ، أي ما دام فيه حياة ، يسمع ويفهم ويتعظ ويتذكر ، فهذا أو فهاهنا محل قراءتها ، يحضر القارئ وهو في آخر حياة ذلك المريض ، ويقرأها من حفظه أو من المصحف لماذا ؟ لأن فيها بشرى ، فيها بشارة بمثل قوله تعالى: { ((((( (((((((( (((((((((( ((((( ((((((((( ((((((( ((((((((((( (((( ((((( (((((( ((( (((((( ((((((((((( (((( ((((((((((((((( (((( } وفيها أيضا قوله تعالى عن أهل الجنة: { (((( ((((((((( (((((((((( (((((((((( ((( (((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((((((((( ((( ((((((( ((((( (((((((((((( ((((((((((( (((( } إلى آخرها .(1/129)
ففيها هذه البشارة فيقوى قلبه ويفرح بذلك ويتعلق قلبه بربه ، فقوله: " اقرءوا على موتاكم " أي: على الذين في الموت ، يعني الذين قرب موتهم وظهرت عليهم أماراته ، هو مثل قوله في الحديث الذي قبله: " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " فكلا الحديثين في المحتضر ، إذا حضر أجله وقرب ، فإنه يلقن وتقرأ عليه هذه السورة ، بعض الجهلة حملوا الحديثين على غير ظاهرهما، على غير المراد منهما ، فأخذ كثير من الجهلة التلقين بعد الموت أو بعد الدفن، ورووا في ذلك أحاديث أو حديثا ضعيفا ، رواه الطبراني وذكره صاحب سبل السلام عند شرحه لهذا الحديث أو للحديث الأول مطولا: " إذا دفنتم الميت ، وسويتم عليه التراب ، فقفوا عند قبره ، وقولوا: يا فلان بن فلانة فإنه ينتبه ، ثم قولوا: يا فلان بن فلانة فإنه يرفع رأسه ، ثم قولوا: يا فلان ابن فلانة ، فإنه يجلس ويقول: أرشدني أرشدك الله " إلى آخر الحديث .
من الغريب أنه راج على كثير من الجهلة فصاروا يستعملون التلقين بعد الدفن يستعمل في كثير من البلاد الإسلامية ، في الشام وفي العراق وفي إفريقيا وفي غيرها ، يعملون بهذا الحديث مع أن الحديث ضعيف ، حتى قالوا في آخره: يا رسول الله فإن لم نعرف اسم أمه ؟ قال: ادعوه باسم أمه حواء . وكل ذلك دليل على غرابته ، فلا يعمل به ، يعني التلقين بعد الموت بدعة .(1/130)
بعدما يتوفى ويتم موته ، يسن أن يسجى ، ثبت عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته سجي بثوب حبرة يعني فيه خطوط ، تسجيته حتى تبرد أعضاؤه ، ويجعل على بطنه زجاجة أو شيئا ليس بثقيل جدا ، حتى يمنعه من الربو ، لا ينتفخ بطنه ، بعد ذلك يسرعون في تجهيزه ، يقول: تجهيز الميت كتغسيله وتكفينه والصلاة عليه وحمله ودفنه فرض كفاية ، فرض الكفاية: هو الذي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين ، فلازم لمن حوله أن يقوموا بهذا ، فإن تركوه حتى أنتن مثلا ، أو أكلته الوحوش أثموا ، إذا علموا وقدروا ، وكذلك إذا دفن قبل أن يجهز ، فإنه يعتبر أيضا تفريط ويكون ذلك عن جهل ، كما ذكر أن بعض البوادي ، البوادي الذين قرب الرياض البوادي لا يعرفون شيئا إذا مات ميتهم ، حفروا له حفرة دون أن يكون فيها لحد ، وألقوه بثيابه فيها دون تغسيل ودون تكفين ودون صلاة يعتبرونه كجيفة من الجيف ، يوارونها حتى لا يتأذون برائحتها هكذا كانوا ، وهذا من أثار الجهل ، ولا شك أن في ذلك إثم كبير .(1/131)
أول شيء يبدأ بتغسيله ، المؤلف -رحمه الله- لم يذكر التغسيل ولم يذكر صفته ، وهو من أهم ما يعمل به ، ولعله تركه؛ لأنه شيء معروف ومشهور ، ومع ذلك فإن الكثير لا يعرفونه ، بل يعتقدون أنه يغسل يعمم بالماء مجرد إمرار أو نحوه ، يذكر أن كثيرا من الإخوان قبل عشر سنين أن الأموات الذين يموتون في المستشفيات يأتي عامل من العمال ، وأغلبهم ليسوا بمسلمين ، ثم يجرد عريانا ثم يصب عليه الماء بالليل مجرد صب ، يصب عليه مرتين حتى يعموه ، ثم بعد ذلك يلفوه في كفنه ويغسلوه ويقولوا حصل التغسيل ، دون أن يعملوا بما ورد من السنة ، وهذا تفريط إلى أن وفق الله بعض الإخوة الذين بنوا هذه المغاسل ، مغاسل الأموات المشهورة الآن ، اشتهرت ، وكذلك شجعوا على تعلم هذا العمل ، فتعلمه كثير من الإخوان من الشباب والكبار والصغار ذكورا وإناثا وأتقنوا تعلمه ، فصاروا بذلك قد حفظوا هذه السنة ، وعملوا بها ، لا شك أن هذا من أهم الأعمال ، الاهتمام بتغسيل الميت .
الفقهاء ما تركوا ذلك بل علمونا بالكيفية ، وهي أيضا ثابتة في الأحاديث ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم عطية ومن معها من النساء في تغسيل ابنته زينب: " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ، بماء وسدر واجعلن في الغسلة الأخيرة كافورا " .
فهذا إرشاد إلى الكيفية ، أنه ليس مجرد أن يعمه الماء بل لا بد أن يغسل تغسيلا له أثره ، كذلك ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يغسلون الموتى تغسيلا كاملا ، ثم بعد ذلك يطيبونه بطيب وأنواع من الطيب تسمى الحنوط حتى روي عن بعض السلف كأنس أنه طلي بالمسك كله من مفرقه إلى قدمه ، طلوه بالمسك والطيب، وعن بعضهم أنهم قالوا افعلوا بموتاكم كما تفعلون بعرائسكم ، العروس يُهتم بها ليلة الزفاف وتلبس أحسن الثياب ، وكذلك أيضا تطيب بأحسن الأطياب ، فيقولون: إن الميت قادم على ربه فعليكم أن تجملوه وأن تنظفوه وأن تطيبوه بقدر ما تستطيعون .(1/132)
أما صفة التغسيل فبالغ العلماء والفقهاء -رحمهم الله- في ذكرها ، فقالوا: أولا يجرد إلا العورة من السرة إلى الركبة يستر ، ولا يجوز كشفه ، وأما بقية جسده فإنه يجرد ، واستدلوا بما روي أن " لما أرادوا تغسيل النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: لا ندري أنجرده كما نجرد موتانا ، فأتاهم من أخبرهم بأنه يغسل في ثيابه " فدل على أنهم يجردون الموتى ، ينزعون عنهم الثياب ، كذلك بعد تجريده وستر عورته يغسل بخرقة ، الغاسل يلف على يديه خرقة ، ثم يغسل بها فرجه ، فيلف على يده اليسرى خرقة ويصب الماء من تحت الستارة ويغسل فرجه بهذه الخرقة حتى ينظفه ، وينظف آثار النجاسة إن كان هناك نجاسة على القبل أو الدبر ، وبعدما ينظفه يلف على يده خرقة أخرى أو ليفة أو نحوها يغسل بها أو يدلك بها بقية جسده .(1/133)
أما المضمضة والاستنشاق فلا يستعملها ، مخافة أنه إذا دخل الماء إلى جوفه فإنه يحرك بطنه ، فيخرج منه شيء مما في بطنه فيشق بعد ذلك تنظيفه ، مرة أخرى ، بل يدخل إصبعه مبلولة ويدلك بها أسنانه وكذلك في منخريه فينظفهما، ولا يدخلهما الماء ، أما بقية أعضائه فإنه يغسلها ، يبدأ بأعضاء الوضوء ، في حديث أم عطية قال - صلى الله عليه وسلم - " ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها " هكذا أمر ، فالبدء بأعضاء الوضوء بأن يغسل وجهه كما يغسل في الوضوء ثم يغسل يديه من رءوس الأصابع إلى المرفقين ، ثم يمسح برأسه وبأذنيه ، ثم يغسل رجليه ، ثم بعد ذلك يبدأ بغسله ، فيبدأ بالشق الأيمن ، واختلف هل يفرغ من الشق كله ، أو كلما غسل عضوا غسل نظيره ؟ يعني أنه إذا غسل منكبه الأيمن ، انتقل إلى الأيسر ، إذا غسل عضده الأيمن انتقل إلى الأيسر ، إذا غسل جنبه الأيمن غسل الأيسر إلى آخر جسده ، أو يغسل جسده كله ، أي: يمينه كله إلى رجليه ، ويساره بعد كل ذلك إلى رجليه ، والأقرب أنه لا يكلف نفسه ، بل يجعله على جنبه الأيسر ويغسل الأيمن كله ثم بعد ذلك يغسل الأيسر كله ، حتى لا يشق ذلك عليه ، ذكروا أنه يغسل بماء وسدر ، ففي حديث أم عطية: " اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر " .(1/134)
وفي حديث ابن عباس في الذي وقصته ناقته وهو محرم بعرفة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تحنطوه و لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " فذكر الماء والسدر ، وذلك؛ لأنه لأن السدر ، منظف في ذلك الوقت ، ما يتيسر له إلا ورق السدر ، السدر المعروف ورقه إذا يبس يسحق ، حتى يكون دقيقا ثم يخلط بماء ويكون له رغوة ، وينظف الثياب ، كما ينظف التايد ، أو غيره من الصابون ، فإذا دلكوا هذا الماء أو صبوا ذلك السدر في الماء وصار له رغوة فهذه الرغوة يغسل بها الشعر ، شعر رأسه وشعر لحيته ؛ لأن السدر يكون له سفالة ، هذه السفالة التي تكون في أسفله ، لو دخلت بين الشعر لصعب بعد ذلك تخليصها ، فيقتصرون على الرغوة رغوة السدر ، بعدما يغسلونه مرة لليمين ، ثم مرة لليسار يعيدون مرة ثانية ، أو ثالثة يختمون على وتر ثلاثا أو خمسا أو سبعا ، هذا هو الأفضل ، وإن كان نظيفا ليس في بدنه وسخ ولا دم ولا شيء اكتفي بغسله مرة واحدة ، وإن زيد إلى ثلاثة أو خمسة أو ما أشبه ذلك.(1/135)
فالحاصل أنه غسله للتنظيف ، ولو كان قد اغتسل قبل أن يموت مثلا ، بخمس دقائق وتنظف ، فإن ذلك لا يمنع أن يغسل ، كما تقدم في باب الغسل أن من موجبات الغسل الموت، فالموت من موجبات الغسل ، لا بد من تغسيله ، وبعدما يفرغون من تغسيله يجعلون في الغسلة الأخيرة كافورا ، وهو هذا الأجر المعروف ، يسحق ، ثم يخلط بالماء ، ثم يغسل في الغسلة الأخيرة لماذا ؟ لأنه يصلب الأعضاء يعنى أعضاء الإنسان الأعصاب واليدين ونحوها قد تسترخي بالموت ، فإذا غسل بهذا الصابون فإن الأعصاب تشتد حتى لا تتثنى هكذا ذكروا ، يجعلن في الغسلة الأخيرة كافورا ، أما الحنوط فبعد ذلك ، بعد أن يتم غسله يحنط ، بأن يجمع هذا الحنوط الذي هو من مسك ، وورد وريحان أنواع من الطيب تجمع وتسحق وتجعل في علبة ويؤخذ منها ، فيذر على مواضع من جسده على عينيه مثلا ، وعلى حلقه وعلى إبطيه ، وبين أليتيه ، وبطون ركبتيه ، وبطون مرفقيه ، يعني مرافقه ، وإن طيب كله فلا بأس ، هذا يسمى الحنوط ، إلا المحرم في حديث ابن عباس قوله: " ولا تحنطوه " لأن المحرم لا يطيب ، فلا يتطيب وهو محرم ، فإذا مات فهو باق على إحرامه ، لا يطيب ولا يغطى رأسه ، ويقول: هذا كيفية تغسيله .(1/136)
أما قوله - صلى الله عليه وسلم - " أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم " ما المراد بالإسراع ؟ حمله بعضهم على سرعة السير ، يعني: إذا حملتموها فأسرعوا في السير ، وقالو: إنهم كانوا إذا حملوا الجنازة فأنهم يسرعون حتى كأنهم يخبون خبا أو يرملون رملا ، أن سيرهم يشبه الرمل من سرعتهم ، ولكن ورد أيضا حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - " مر عليه بجنازة وهي تمخض مخض الزق فقال: أربعوا ، أو لا تسرعوا " ومعنى تمخض: يعني أنهم من سرعة سيرهم أنها تضطرب وتتحرك كما يتحرك الزق ، السقاء المنفوخ ، فيكون هذا دليلا على أنه لا يسرع الإسراع الشديد ؛ ولأن ذلك قد يتعبهم ويرهقهم ، والصحيح أن هذا الحديث ، قوله: " أسرعوا بالجنازة " المراد به التجهيز ، أسرعوا في تجهيزها ولا تتثاقلوا ، ولا تتوانوا بها حتى تقدموها إلى الخير إذا كانت صالحة فإنكم تقدمونها إلى الخير ، القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، فأنتم تقدمونها إلى تلك الروضة ، التي ينال فيها كرامته ، وينال فيها أول جزائه وثوابه ، فهذا معنى تقدمونها إليه ، وإن تك غير صالحة فشر تضعونه عن رقابكم ، إذا كانت غير صالحة فإنكم تستريحون من هذا العمل ومن هذه العملية .
وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: " إذا وضعت الجنازة على السرير واحتملها الرجال على رقابهم فإنها تصيح وتقول إن كانت صالحة قالت: قدموني قدموني ، وإن كانت سوى ذلك قالت: يا ويلها أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه الإنسان لصعق " .(1/137)
فأفاد أن قوله: قدموني يعني الإسراع في تقديمها إلى القبر ، وكذلك أيضا ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله " أي بعد موته يسمى جيفة قد فارقته الروح فلا تحبسوا جيفته أي جنازته بين ظهراني أهله بل أسرعوا بها وادفنوها وكذلك أيضا ثبت قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: " يا علي ثلاث لا تؤخرهن: الصلاة إذا حضر وقتها ، والجنازة إذا وجدت ، والأيم إذا وجدت لها كفؤا " فذكر من جملتها الجنازة إذا حضرت فلا تؤخر ، كذلك أيضا على ورثته الإسراع بقضاء دينه ، فيقول - صلى الله عليه وسلم - " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه " وكان -عليه الصلاة والسلام- " إذا آتاه ميت سأل هل عليه دين ؟ فإذا قالوا: ليس عليه دين صلى عليه ، وإلا لم يصل عليه " حتى يتكفل بالوفاء عنه أحد أصحابه ولما تكفل أبو طلحة بتحمل دينارين عن ميت وقضاهما ، قال: " الآن بردت عليه جلدته " .
بعد ذلك الكفن ، الواجب في الكفن ثوب يستر جميعه ، هذا هو الواجب ثوب يعني لفافة تستره من رأسه إلى قدمه يستر الرأس وتستر القدمان، هذا هو أقل شيء للرجل أو المرأة ، ولكن الأفضل للرجل ثلاثة ثياب ، وذكروا أنه قبل ذلك يجعل على عورته خرقة تشد الحنوط الذي بين أليتيه وعلى عورته شبيهة بالتبان ، التبان هو السراويل بلا أكمام يعني خرقة يضعها على أليتيه وتكون مشقوقة الطرف ثم يدخل شقتيها بين فخذيه حتى تستر عورته قبله ودبره.(1/138)
ثم يعمد على الشقين ويدخلهما تحته ويربط بعضهما ببعض من خلفه، فتكون بذلك قد سترت عورته ، ثم توضع الخرقة الأولى ويوضع عليها شيء من الحنوط ثم الثانية فوقها، ثم الثالثة فوقها، ثم يوضع الميت عليها ويرد طرف الخرقة على جنبه الأيمن، وطرفها الثاني على جنبه الأيسر، ثم الثانية والثالثة كذلك ثم العقد والخرق فوق ذلك، وتكون سبع خرق دقيقة تربط إحداهما وراء قدميه والأخرى وراء رأسه ، والخمس في وسطه على صدره وعلى بطنه وعلى أليتيه، وعلى فخذيه، وعلى ساقيه معروفة عند المغسلين.
هذه الخرق الدقيقة التي يعقدونها عليه ثم يعقدون أطرافها، وإذا وضع في القبر تحل هذه العقد فقط تحل العقدة وتبقى الخرقة على حالتها؛ لأنه عادة ينتفخ فإذا حلت لن ترده هذا هو السبب .
أما المرأة فإنها تكفن في خمسة، في خمسة أثواب: الأول: إزار كإزار المحرم يلف على العورة. والثاني: قميص يعني خرقة يشق وسطها للرأس ويجعل نصفها فراشا ونصفها لحافا ، وتكون ساترة من الرقبة إلى القدمين . والثالث: خمار يلف به الرأس هذه ثلاث. والرابع والخامس لفافتان كلفافتي الرجل إحداهما فوق الأخرى، وهذا هو الكفن.
يستثنى المحرم لا يغطى رأسه ، وكذلك المحرمة لا يغطى وجهها هكذا نص الفقهاء ، وبعضهم قال: ما دام أنها سوف تقدم للرجال فلا بد أنها تغطى حتى تستر عن نظر الرجال، ولو كانت محرمة وهذا هو الصحيح.
وإذا وضع في قبره فلا يكشف وجهه هذا هو الصحيح، وما روي عن بعضهم أنه يكشف وجه المحرم لا أذكر له دليلا.
بعد ذلك يقدم للصلاة عليه، يفضل أن الذي يتولى الصلاة عليه وصيه، فإذا أوصى قال: يصلي عليَّ فلان فإنه يختار ويقدم، وإذا لم يوص صلى عليه من هو معروف بالفقه والعلم.
صفة الصلاة عليه:(1/139)
ذكر هنا أربع تكبيرات أن يكبر الأولى، فيقرأ الفاتحة بالتسمية ثبت " أن ابن عباس قرأ في صلاة الجنازة الفاتحة وأسمع من خلفه، وقال: لتعلموا أنها سنة " فأفاد بأنها من السنة يعني من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد جعلوها ركنا.
قالوا: أركان الصلاة على الجنازة أربعة: الفاتحة والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والتكبيرات والدعاء للميت، فلا بد من هذه كلها، فالفاتحة تعتبر ركنا كما أنها ركن في الصلاة العادية.
بعد الثانية يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كالصلاة عليه في آخر التشهد: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد إلى قوله: وبارك على محمد إلى قوله إنك حميد مجيد.
بعد التكبيرة الثالثة يأتي بهذا الدعاء. الدعاء ينقسم إلى قسمين دعاء عام ، ودعاء خاص فالدعاء العام إذا قال: " اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وشاهدنا وغائبنا وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا وأنت على كل شيء قدير ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان " .
هذا هو الدعاء العام ، يؤتى به في الدعاء في الصلاة على الصغير وعلى الكبير ؛ لأنه يذكر فيه كل مسلم ، أما الدعاء الخاص فهو الذي ذكره هنا، وهو حديث عمرو بن عوف ذكر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة قال: فحفظت من دعائه قوله: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونَقِّه من الذنوب أو نَقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وأدخله الجنة ، وقِهِ من عذاب القبر وعذاب النار " .
هذا ما روي في هذا الحديث وفي بعضها زيادات، ويستحب أن يقول: اللهم قه من عذاب القبر وعذاب النار وأفسح له في قبره، ونور له فيه؛ لمناسبة ذلك.(1/140)
وروى الشافعي أيضا زيادة أدعية مثل قوله: " اللهم إنه عبدك وابن عبدك مُنْزَل بجوارك وأنت خير مُنْزَل به ولا نعلم إلا خيرا " ومثل قوله: " اللهم أنت ربه وأنت خلقته وأنت قبضت روحه وأنت أعلم بسره وعلانيته جئنا شفعاء إليك فاغفر له، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه " يختار من الدعاء ما يناسبه.
روى أبو داود عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء " ولم يحدد. دل على أنهم مأمورون بأن يجتهدوا في الدعاء ويخلصوا له مما تيسر ، أما إذا كان طفلا إذا كان الميت صغيرا فيستعمل الدعاء العام: " اللهم اغفر لحينا وميتنا " إلى آخره، ثم بعد ذلك يأتي بهذا الدعاء: اللهم اجعله فرطا لوالديه وذخرا.
الفرط: هو الذي يذهب قدام الوالدين يهيئ لهم المورد ، قال - صلى الله عليه وسلم - " أنا فرطكم على الحوض " يعني أتقدمكم أهيئ لكم المشرب عادة العرب إذا وردوا علي الماء أقبلوا على الماء، ومعهم دوابهم أرسلوا واحدا معه حبل ودلو يهيئ لهم الماء يسمونه الفرَط ، كأنه تقدمهم؛ فلذلك يدعى أن يكون هذا الطفل فرطا لأبويه يعني مقدما ليصلح لهم أو يهيئ لهم المنزل الذي يأتونه وهو الثواب في الآخرة فيدعى للميت بقول: اللهم اجعله ذخرا، اللهم اجعله فرطا لوالديه وذخرا .
يعني زخرا عند الله وشفيعا مجابا؛ لأنه ورد أيضا أن الأطفال يشفعون لآبائهم إذا ماتوا صغارا ، ونقول: اللهم ثقل به موازينهما ، ففي حديث أبي عبد الرحمن الطويل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ورأيت رجلا من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه " فدل على أن الأفراط الذين ماتوا وهم صغار يكونوا سببا في ثقل موازين أبويهما وعظم أجورهما ، وفي بعض الروايات " وألحقه بصالح سلف المؤمنين واجعله في كفالة إبراهيم وقِهِ برحمتك عذاب الجحيم " .(1/141)
في حديث سمرة في الرؤيا التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ... فأتينا على رجل طويل وعنده أطفال كثير ، أكثر ما رأيت فقيل لي: أما الرجل فإنه إبراهيم وأما الأطفال فإنهم أولاد المسلمين الذين ماتوا صغارا وهم تحت كفالة إبراهيم " .
ثم يكبر ويسلم ، يعني هكذا ذكروا اقتصر الشيخ -رحمه الله- على أربع تكبيرات قد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - كبر أحيانا خمسة وكذلك بعض الصحابة كبر بعضهم سبعا على ميت، وقال: إنه بدري ، فدل على أنه يجوز الزيادة على أربع ولكن المشهور الاقتصار على أربع لصلاته - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي صلاة غائب يقول: " صفنا وراءه وكبر أربعا " في الغائبين لا يستنكر إذا زاد على أربع كخمس أو ست في بعض الأحوال أو لبعض الأشخاص يعني بعض الأشخاص يناسبهم.
وكذلك لو كانت الصلاة على كبير وصغير فإنه يندب أن يكبر خمسا حتى يكون الدعاء للميت الصغير بعد الرابعة، أما إذا كان اقتصر على أربع فإنه يقف بعد الرابعة قليلا واختلفوا ماذا يقول ؟ وذكر النووي أنه يقول: اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله ، وهو الدعاء الذي ذكره المؤلف في آخر الدعاء ، يعني أنه لا يسلم بعد الرابعة مباشرة بل يقف قليلا، قد كان كثير من السلف يقف بعد الرابعة قليلا حتى يخيل إلى الناس أنهم سوف يأتون بخامسة فيدعون، لا شك أن هذا الوقوف لا بد فيه من دعاء ليس هو وقوف مع سكوت، أما التسليم فالجمهور على أنه يقتصر على تسليمة واحدة يقصد بها الخروج من الصلاة، لكن لو سلم تسليمتين قياسا على بقية الصلوات فلا يستنكر ذلك لوروده في بعض الأقوال.(1/142)
يندب كثرة المصلين على الميت، فكلما كانوا أكثر كان أقرب إلى مغفرة الذنب وأقرب إلى الشفاعة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه " أربعون حثا على كثرة المصلين، وفي حديث آخر أنه عليه السلام قال: " من صلى عليه مائة مسلم من أهل التوحيد غفر له " أو كما قال ، مائة رجل أو مائة مسلم حتى ولو كان بعضهم من الإناث، وكان النساء يشهدن الصلاة على الجنائز إذا لم تكن في المقابر ، ولما مات عبد الرحمن بن عوف طلبت عائشة أن يُصَلَّى عليه في المسجد حتى تشترك في الصلاة عليه هي وأمهات المؤمنين .
يندب للمسلم أن يحرص على الصلاة على الجنائز وعلى اتباعها، فكما أن من حق أخيك عليك أن تعوده في مرضه فكذلك من حقه ، ومن حق أقربائه أن تشهد جنازته، أن تصلي عليه وأن تشيعه حتى يتم تجهيزه ، وحتى يتم دفنه ولك في ذلك أجر هذا الحديث متفق عليه رواه أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان، قالوا: وما قيراطان يا رسول الله ؟ قال: مثل الجبل العظيم من الأجر " .(1/143)
يعني أن له أجرا كبيرا كأنه يحصل له ما يساوي هذا الجبل ، ولا نعلم ما كيفية هذا القيراط ولا من أي شيء ولكنه مقدار من الأجر ، والعادة أنهم كانوا يصلون على الأموات في البقيع قرب المقبرة لكنها دونها فيأتون ثم يصفون هناك ويصلون عليه ثم يحملونه إلى القبر، ولكن قد لا يتيسر لكل أحد أن يشيعه ويذهب إلى المقابر فلأجل ذلك اختير الصلاة عليه في المساجد التي يجتمع فيها المصلون، فليس كل منهم يتفرغ لتشييعه واتباعه ، ولكن من شيَّعه واتبعه حتى يدفن فله هذا الأجر، الأجر من الله -تعالى- مع ما فيه من أداء حق من حق أخيه المسلم ؛ ولأن فيه أيضا من حق أقربائه فإنهم إذا رأوك تشيعه وتتبعه عرفوا بذلك مودتك وصداقتك ومحبتك لهم وذلك مما يسبب المحبة للمسلمين من بعضهم لبعض.
تكلم العلماء هنا على حمل الجنازة الأصل أنهم كانوا يحملونها على الرقاب كما ذكرنا في بعض الأحاديث ، يقال: يسن التربيع في حمله، وما كيفية التربيع ؟ العادة أن الذي يحمله أربعة ، فالتربيع هو أنك تبدأ بطرف العمود الأيسر المقدم فتضعه على منكبك الأيمن وتحمله قليلا ، ثم إذا أخذه منك آخر تأخرت وحملت طرفه المؤخر الأيسر أيضا على منكبك الأيمن ، ثم انتقلت إلى مقدم طرف السرير الأيمن تحمله على منكبك الأيسر ثم تتأخر ، وتحمل مؤخره على منكبك الأيسر ، فتكون كأنك قد حملت الجنازة حملت أولا ربعا ، ثم ربعا ، ثم ربعا ، ثم ربعا فهذا هو معنى قولهم: يسن التربيع في حمله.(1/144)
وأباح بعضهم أن يحمله بين العمودين: العمودان هما المقدمتان يعني لو حمل ما بينهما أو حمل في الوسط فكل ذلك جائز ومن السنة ، وكما ورد تكلموا أيضا على المشيعين، في ذلك الوقت كان المشيعون مشاة غالبا، وقد يكون بعضهم ركبانا يركب أحدهم على فرس أو على حمار ، أو على بعير ، فقالوا: يسن أن يكون الركبان خلفها والمشاة أمامها، ويجوز العكس، وكان كثير من الصحابة أحيانا يمشون قدام الجنازة وأحيانا يمشون خلفها والمشي خلفها أولى؛ لأن ذلك هو الاتباع " إذا وضعت الجنازة على السرير واتبعها الرجال " .
وضعها في القبر: كما ذكرنا أن ينزل من قِبَل رجلي القبر، يدلون رأسه من قبل رجلي القبر، لا يدلون رجليه أولا مخافة أن يتحرك بطنه ويخرج منه شيء فيسن أن يدلى على رأسه ثم يوضع على جنبه الأيمن ويوجه إلى القبلة كما ذكرنا، ثم يوضع اللبن عليه، واللحد أفضل من الشق ، اللحد هو المعروف الآن، والشق أن يشق في وسط القبر حفرة ويوضع عليها اللبن ورعاء ، وذلك جائز ولكن اللحد أفضل وفي حديث سعد أنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: " ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما فعل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
يسن عند إدخاله أن يقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله ، محافظة على السنة؛ لأن هذا من السنة بسم الله وعلى ملة رسول الله ، يسن إذا انتهوا من صف اللبن ووضعوا عليه الطين البداءة بالدفن ويسن أن تحثو عليه ثلاث حثيات إن تيسر من قبل رأسه تأخذ قبضة من التراب وتلقيها بسم الله وعلى ملة رسول الله، بسم الله وعلى ملة رسول الله. ثلاث مرات هكذا استحبوا وإن زدت فوق ذلك فلا بأس بعد ذلك إذا سوي القبر يندب أو لا يجوز أن يجصص ، " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه " رواه مسلم.(1/145)
الجص هو هذا المعروف الأبيض ، وقريب منه ما يسمى بالجبس فإنه يبيضه، والسبب في ذلك أنه إذا بيض فقد يكون لافتا للأنظار، ومن رآه اعتقد بأن له ميزة وأن له خاصية فربما يؤدي ذلك إلى تعظيمه أو إلى تخصيصه بشيء، لا يجوز فلذلك نهى أن تجصص القبور ، وكذلك نهى أن يبنى على القبر؛ لأنه إذا بني عليه ورفع لفت الأنظار ، وكان أيضا سببا في تعظيمه أو عبادته من دون الله؛ فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل عليا وقال: " لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " يعني سويته بالقبور ، ورأيته مشرفا يعني مرتفعا عن بقية القبور فَسَوِّه ببقية القبور ، وأن يقعد عليه.
ورد فيه حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يقعد على قبر " ؛ وذلك لأن قعوده عليه فيه امتهان لأخيه المسلم، ولو كان ميتا، ولو كان لا يشعر بذلك بل عليه أن يحترمه حيا وميتا ، " كان - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " رواه أبو داود وصححه.
أي بعد ما يتم دفنه، وينتهون منه يقوم عند رأسه ويقول: اللهم أنطقه بالحق اللهم ثبته بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، اللهم لقنه حجته ، اللهم ثبته على الصراط، وما أشبه ذلك فهذه الدعوات تثبيت له ، وتذكير له تدعو له بأن يذكره الله -تعالى- حجته يعني عندما يفتن ويُسْأَل في قبره: مَن ربك؟ ما دينك؟ إلى آخره .
يقول: فإنه الآن يُسأل، أي في هذه الحال بدأ سؤاله الذي هو سؤال فتنة القبر ونعيمه ونحو ذلك .(1/146)
بعد ذلك تسن تعزية الميت المصاب، تعزية المصاب بالميت متى يبدأ المعزي من حين الموت اعتاد كثير من الناس أنهم لا يبدءون بالتعزية إلا بعد الدفن فتجدهم يقبلون ذلك الولي الأخ أو الابن أو نحو ذلك ويعزونه ، نقول: إن الأصل أن من مات له ميت فإنه في تلك الحال يعزى ويصلى ويدعى لميته ويترحم عليه فيقول مثلا: جبر الله مصابك وأحسن عزاءك وغفر لميتك ، ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فعليك بالصبر والاحتساب.
ويستعمل ما روي من ألفاظ التعزية كقوله: " إن في الله خلفا لكل فائت ودركا من كل هالك فبالله ثقوا وإياه فارجعوا فإن المصاب من حرم الثواب " ويحثهم على الاسترجاع وهو أن يقولوا: " إنا لله وإنا إليه راجعون " ويحثهم على الصبر والصبر عند الصدمة الأولى كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام.
أما البكاء على الميت ففي هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - بكى على الميت " لما رفع إليه طفل ابن بنته ونفسه تقعقع ففاضت عيناه فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، إنما يرحم الله من عباده الرحماء " فبكى على الميت وقال: إنها رحمة ، ولما مات ابنه إبراهيم بكى أيضا وقال: " العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإن بفراقك يا إبراهيم لمحزونون " ففرق بين البكاء وبين غيره .(1/147)
ولما أنه حضر عند بعض أصحابه ثم بكى وبكوا كأنهم استغربوا ذلك فقال: " إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن قلب ولكن يعذب بهذا أو يرحم يعني اللسان " كأنه يحثهم على الصبر والتسلي وعدم رفع الصوت، وكان ينهى عن النياحة " لعن النائحة والمستنيحة " " وبرء من الصالقة والشاقة والحالقة " برء منهم: الصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة ، والشاقة التي تشق ثوبها، والحالقة التي تحلق شعرها أو تنتفه وليس خاصا بالنساء ، ولكن كان هو الأغلب، وقال - صلى الله عليه وسلم - " ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية " وخص الجيوب؛ لأن عادتهم إذا جاءهم خبر ميت فإن المرأة ونحوها تمسك جيببها وتشقه حزنا على ما حصل لها من فوات هذا الميت.
كذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بزيارة القبور وقال: " زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة " وكان قد نهاهم عن زيارة القبور؛ لما كانوا حديثوا عهد بإسلامهم؛ لما كانوا في أول الأمر مخافة الفتنة؛ مخافة الغلو في القبور فرَخص لهم بعد ذلك في زيارة القبور لأمرين: أنها تذكر الآخرة ، وأنهم يدعون للأموات ويترحمون عليهم ، واستثني من ذلك النساء فإنهن لا يزرن القبور.
والرخصة خاصة بالرجال النهي عام ثم ورد التخصيص للرجال ، ونهى النساء عن ذلك وقال: " لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " خص النساء؛ لأن المرأة ضعيفة عندما تزور القبر فقد لا تتحمل ، وقد تصيح أو تنوح أو تتذكر قريبها أو نحو ذلك، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى نسوة متوجهة إلى المقبرة في تشييع ميت فقال لهن: " هل تدلين فيمن يدلي ؟ قلن: لا ، قال: هل تدفن أو كما قال ؟ قلن: لا ، فقال: ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تؤذين الأموات وتفتن الأحياء " فأمرهن بالرجوع قبل أن يصلن إلى القبور.(1/148)
وروى أبو داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " رأى فاطمة جاءت من قِبَل البقيع فسألها أين ذهبت ؟ فقالت: إلى أهل الميت ذلك أعزيهم في ميتهم فقال لعلك بلغت معهم الكداء ؟ قالت: معاذ الله لقد سمعتك تنهى عن ذلك ، فقال: لو بلغت مهم الكداء ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك " هكذا في سنن أبي داود فيفيد أن الإذن خاص بالرجال.
زيارة القبور قيل: إنها كل أسبوع أو كل شهر وبعضهم يقول: كلما أحس في قلبه بقساوة زارها حتى يجدد العهد بالأموات، وحتى يلين قلبه، وحتى يدعو، وليس لذلك حد محدود ولا يوم محدد ينبغي لمن زارها أن يقول: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم نسأل الله لنا ولكم العافية " يجوز تقديمها أو تأخيرها.
ومن ذلك أنه يدعو لهم ويقول: اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد يدعو لهم بالرحمة ، كذلك لا يغفل أهل الميت عن ميتهم بل ينبغي أن يدعوا له ، وأن يتصدقوا عنه وأن يتقربوا له بأي قربة حتى ينفعه؛ لأنه قد انقطع عمله ، وهو بحاجة إلى من يهدي له شيئا، ولذلك يقول: "أي قربة فعلها وجعل ثوابها لمسلم نفعه ذلك" لأنه لو كان ذلك المسلم ميتا نفعه ذلك.(1/149)
في هذه المسألة كلام طويل وخلاف بين العلماء المتقدمين والمتأخرين فمنهم من يقول: إن الميت لا ينتفع بشيء من عمل الحي ، ويستدلون بقوله: { ((((( (((((( (((((((((( (((( ((( (((((( (((( } والصحيح أن المراد ليس له ملك إلا ما سعى، فأما إذا أهديت له عملا ، فإن ذلك ينفعه فمن ذلك الصلاة عليه تنفعه، ومن ذلك الصدقة عنه ، في حديث " أن رجلا قال: يا رسول الله إن أمي افتلتت عليها نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت أفأتصدق عنها ؟ قال: نعم " فأمره بأن يتصدق عنها، وكذلك الحج والعمرة تنفع عن الميت، فقد ثبت أنه عليه السلام: " لما استأذنه رجل في أبيه الذي لا يثبت على الراحلة أو أمه قال له: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم . قال: فاقضوا الله، فالله أحق بالوفاء " .
فأمره بأن يحج ويعتمر عن أبويه كل ذلك دليل على أن ذلك ما ينفع الميت إذا أهدي له عمل، واختلف في إهداء الأعمال البدنية ، والصحيح أنه يصل إليه الثواب فلو مثلا صليت ركعتين وجعلت ثوابها لميت نفعه ذلك على عموم كلام الفقهاء؛ وكذلك أيضا لو صمت عنه بل قد ورد نص في الصيام صريحا قال - صلى الله عليه وسلم - " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " .
والأحاديث واضحة في ذلك ، وعلى كل حال الصحيح الذي نختاره أنه يصل إليه كل عمل سواء كان عمليا بدنيا قوليا كل ذلك ينتفع به إذا أهداه له قريبه أو غير قريبه من المسلمين، وبهذا نكون انتهينا من كتاب الجنائز، ونقرأ إن شاء الله في الأسبوع الآتي الزكاة وما بعدها ، والله أعلم، وصلى الله وسلم على محمد.
قسم العبادات ويشتمل على الصلاة والزكاة والصوم والحج، وألحق به بعضهم الجهاد، وأهمه الصلاة ثم الزكاة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله تعالى، فلذلك صار الفقهاء على هذا الترتيب فبدءوا بالصلاة لأهميتها؛ ولأنها تتعلق بالأبدان؛ وأتبعوها بالزكاة ؛ لأنها حق المال انتهينا من الصلاة ، وما يتعلق بها والآن نواصل القراءة:
كتاب الزكاة(1/150)
وهي واجبة على كل مسلم حر ملك نصابا، ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول إلا الخارج من الأرض، وما كان تابعا للأصل كنماء النصاب وربح التجارة فإن حولهما حول أصلهما، ولا تجب الزكاة إلا في أربعة أنواع: السائمة من بهيمة الأنعام ، والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة.
فأما السائمة فالأصل فيها حديث أنس أن أبا بكر -رضي الله عنهما- كتب له " هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين والتي أمر الله بها رسوله في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ست وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقة الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها.
وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة فليس فيها صدقة، إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين مُتَفَرِّق ولا يُفَرَّق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار.(1/151)
وفي الرقة ربع العشر فإن لم يكن إلا تسعون ومائة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليس عنده جذعة، وعنده حقة فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليس عنده الحقة وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين " رواه البخاري .
وفي حديث معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة " رواه أهل السنن .
وأما صدقة الأثمان فإنه ليس فيها شيء حتى تبلغ مائة درهم وفيها ربع العشر وأما صدقة الخارج من الأرض من الحبوب والثمار فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " متفق عليه.
والوسق ستون صاعا فيكون النصاب للحبوب والثمار ثلاثمائة صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر " رواه البخاري .
وعن سهل بن أبي حثمة قال: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع " رواه أهل السنن.
وأما عروض التجارة وهي كل ما أعد للبيع والشراء؛ لأجل الربح فإنه يقوم إذا حال الحول بالأحظ للمساكين من ذهب وفضة ويجب فيه ربع العشر، ومن كان له دين ومال لا يرجو وجوده كالذي على مماطل أو معسر لا وفاء له فلا زكاة فيه، وإلا ففيه الزكاة ، ويجب الإخراج من وسط المال ولا يجزئ من الأدْوَن ولا يلزم الخيار إلا أن يشاء ربه.
وفي حديث أبي هريرة مرفوعا " وفي الركاز الخمس " متفق عليه.(1/152)
قال -رحمه الله- تعالى: كتاب الزكاة ألحقها بالصلاة؛ لأنها قرينتها في كتاب الله تعالى قلما تذكر الصلاة إلا وتتبعها الزكاة؛ فهي إذن من فرائض الإسلام وهي حق المال ، ولما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - منع كثير من العرب الزكاة فأكثرهم منعها بخلا وادعوا أنها خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم منعها جحدا فعزم أبو بكر على القتال.
فكأن بعض الصحابة توقفوا في قتالهم مع كونهم يشهدون الشهادتين ، فعزم أبو بكر على قتالهم قال له عمر: " كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه - والله لأقاتلن من فَرَّقَ بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال " .
فكأنه استدل بقوله: " إلا بحقها " أي إلا بحق لا إله إلا الله أي ومن حقها الإتيان بمستلزماتها ومكملاتها ، ومنها الزكاة فإنها شعيرة من شعائر الإسلام، وهي -كما قال أبو بكر- حق المال ، يقول عمر - رضي الله عنه - فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق فاتفق الصحابة على قتال مانعي الزكاة ثم استدلوا أيضا بأدلة فمن القرآن: قول الله تعالى: { ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( } فأمر بقتالهم حتى يتوبوا يعني من الشرك ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، ومثلها قوله تعالى في نفس السورة: { ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((( ((((((((( } فجعلهم إخوة لهم ولكن بهذا الشرط التوبة والصلاة والزكاة ؛ لذلك اتفقوا على قتالهم.(1/153)
واستدلوا أيضا من الحديث بحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ... . " إلى آخره.
ففي هذه الرواية اشترط الصلاة والزكاة في القتال أي: يقاتلهم حتى يأتوا بالصلاة والزكاة مع الشهادتين ، وثبت أيضا أنه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر فريضة الصلاة ثم فريضة الزكاة قال في الزكاة: " من أداها طيبة بها نفسه فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا لا يحل لمحمد وآل محمد منها شيء " وكأنه لم يفعل؛ لأنه لم يوجد من يمنعها يعني ولو وجد من منعها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخذها منها وأخذ شطر ماله تنكيلا .
شرع الله تعالى هذه الزكاة أولا: تطهيرا للمال ، وثانيا: تنمية له ، وثالثا: مواساة للمستضعفين ؛ ولأجل ذلك جعلها الله تعالى حقا في هذه الأموال فقال تعالى: { ((((((((((( (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((( } فهكذا في سورة المعارج وفي سورة الذاريات: { (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((( } حق، هذا الحق هو الزكاة ، وبيَّن أهله أنهم السائل والمحروم يعني الفقراء ونحوهم ، فإذا كان في الأموال حق فلا تبرأ الذمة إلا بأداء هذا الحق أداء إلى مستحقه، وإلا فإن المانع له مستحق للعقاب؛ كذلك علم الله تعالى أن في الخلق من هو بحاجة فليس الخلق كلهم خلقوا أغنياء ففيهم المستضعفون وفيهم الفقراء وفيهم العَجَزَة ، وفيهم الكسالى ، وفيهم الضعفاء، وفيهم المساكين وفيهم المديونين فجعل في أموال الأغنياء حقا لهؤلاء من باب المواساة.(1/154)
فلو أن الأموال استبد بها الأثرياء ، وخزنوها وأمسكوها ولم يخرجوا منها شيئا لتضرر أولئك ، الله تعالى فاوت بين خلقه فاوت بينهم ، فمنهم من يسر له الأسباب وهيأها له وأعانه على الاكتساب، وأعطاه من الأموال ما يدخره ، وما يكون سببا في ثروته وفي غناه ، وأعطاه من الذكاء والفطنة والقدرة على الاكتساب وعلى تحصيل الأموال ما يستطيع أن ينمي الأموال مع أن هناك من هو دونه من هم مثله ؛ ولكن لم يتيسر لهم هذا الأمر الذي هو الاكتساب إذن كسب الأموال وجمعها ليس هو بطريقة الذكاء ولا العقل ولا الاحتيال ولكن بالأسباب مع التوفيق ؛ ولذلك يقول الشاعر:
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ومن الدليل على القضاء وكونه
بتخوم أقطار السماء تعلق
ضدان مفترقان أي تفرق
بؤس الرفيق وطيب عيش الأحمق
أي هناك أحمق مغفل تأتيه الدنيا وتتراكم عليه وتكثر عليه، وهناك أناس أذكياء أقوياء أصحاء عقلاء لا تأتيهم الدنيا بل يكونوا فقراء ، وقد يكون ذلك من الله تعالى في بعض الأحاديث: " إن الله يزوي الدنيا عن أحبابه -أو يحميه يحمي أحبابه أو حبيبه- عن الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه عن الطعام والشراب " يعني علم الله أنه لو أتته لو أعطي من هذه الدنيا لما صلحت حاله.(1/155)
وذكر ابن رجب في باب في شرح الأربعين حديثا قدسيا لفظه: " أن الله يقول: إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك " الله تعالى هو الذي يختار لعباده فمنهم من إذا أغناه الله شكر وقام بحق هذه النعمة وأعطى ما يجب عليه فيها، ومنهم من إذا أغناه أشر وبطر وكفر النعمة وتعدى حده، وكذلك منهم من إذا أغناه الله لجأ إلى ربه واستضعفه ودعاه واستضعف لله وخشع واستكان ، ومنهم من إذا افتقر سَبَّ القدر سَبَّ حظه وأخذ يعترض على ربه ويعترض على القضاء، وربما أيضا أوقعه فقره في مسائل وفي مشاكل وفي شرك أو نحو ذلك إذن ، فالخلق خَلَقَهُم الله على هذا وفرَّق ما بينهم وجعل منهم من هو هكذا ، ومنهم من هو هكذا.
ومعلوم أيضا أن هذه الأموال التي يسهلها الله لبعض الناس ثم يرزقه القيام بحقها أن ذلك من حسن حظه إذا استغنى ، ولم يدفعه غناه إلى ما لا تحمد عاقبته بل شكر نعمة الله، وأدى حقوقها ومنهم من يرزقه الله المال الكثير فيمسكه ويبخل به ، ولا يؤدي حقه ، ولقد يكون ذلك أيضا سببا في تلفه، فإن الأثر المشهور أن الملكين يقول أحدهما: " اللهم أعطي منفقا خلفا ، ويقول الآخر: اللهم أعطي ممسكا تلفا " فالغنى في الحقيقة الذي يحمد صاحبه هو الذي يؤدي حقوقه ، ومعلوم أيضا أن العامة والفقراء ونحوهم يحترمون أصحاب الأموال ، ويُجِلُّونهم ويروْنَ لهم قَدْرَهم ولو كانوا ما كانوا من عوام الناس هذه طبيعة في المخلوقين أنهم يميلون إلى ذلك حتى يقول بعضهم:
رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال
رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب
ويقول الشاعر:
أجلَّك قوم حين صرت إلى الغنى
إذا مالت الدنيا إلى المرء رَغَّبَتْ
وليس الغنى إلا مَن زَيَّنَ الفتى
وكل غني في العيون جليل
إليه ومال الناس حيث تميل
عشية يقري أو غداة يميل(1/156)
فلما أن الله تعالى فاوت بين الناس جعل في هذه الأموال هذا الحق المعلوم وأمر بإخراجه وبإعطائه لمستحقه وأمر بأخذه من أهلة وصرفه في وجوهه فقال تعالى لنبيه: { (((( (((( ((((((((((((( (((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( ((((( } من هذه الآية أخذوا أن الزكاة فيها هاتان الفائدتان: أولا أنها تطهير. وثانيا أنها تزكية كيف تكون تطهيرا ؟ أي تطهير للمال عن المكاسب الرديئة فإن المال ، ولا بد قد يختلط به شيء من الكسب الذي فيه شبهة، فربما يغش في سلعة ، وربما يخدع بائع ، وربما يختلس شيئا وربما يخفي عيبا ونحو ذلك، فهذه المكاسب الرديئة تطهرها هذه الزكاة، وتنقيه من دَرَن هذه الشبهة التي وقعت في ماله.
كذلك الفائدة الثانية التي هي تزكية المال يعني تنميته يعني أن المال إذا أديت زكاته نما وكثر قدرا من الله -تعالى- قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: " وما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا " إذا تصدق فإن الله تعالى يخلف عليه دليل ذلك قوله تعالى: { (((((( (((((((((( (((( (((((( (((((( ((((((((((( (((((( (((((( ((((((((((((( (((( } وعد من الله أنه يخلف ما أنفقت في وجوه الخير إما خلفا دينيا أو دنيويا ، الديني مضاعفة الأجر والدنيوي أن يعطيك بدله، وأن يجزيك بأن يزيد وينمو مالك هكذا أخبر الله كما أخبر أيضا بأنه يجازي أهل الصدقة في قوله: { (((((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((((((((( (((( } .
هذا الجزاء لا بد أن يتحقق بإذن الله أنه يجزي أهل الصدقة من عنده كما يشاء ، وبكل حال فالصدقة من أظهر وأفضل الشعائر التي شرعها الله تعالى ، والتي أمر بها سواء صدقة الفريضة أو صدقة التطوع وفيها أحكام كثيرة مذكورة في الكتب المطولة .
حكم الزكاة: واجبة في المال .
شروط وجوبها خمسة:(1/157)
أولا: أن يكون المالك مسلما ، فلا تجب على الكفار وذلك؛ لأن الكفار لا يطهرون بهذه الزكاة ولا ينمى مالهم فالزكاة خاصة بالمسلمين؛ لأنها عبادة .
الشرط الثاني: أن يكون حرا فلا تجب على العبد ؛ وذلك لأن العبد لا يملك بل هو وما في يديه لسيده .
والشرط الثالث: ملك النصاب وسيأتي تقدير الأنصبة في الحديث الذي ساقه المؤلف فمن كان ماله أقل من النصاب فلا زكاة عليه ، وما ذاك إلا أن الله تعالى إنما فرضها على الأغنياء والذي ملكه دون النصاب لا يسمى غنيا هو أهل لأن يعطى في حديث معاذ لما بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وقال: " وأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنياءهم وترد على فقراءهم " الذي لا يملك إلا أقل من النصاب لا يسمى غنيا .
والشرط الرابع: مضي الحول لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول.
ولا بد أيضا من شرط خامس: وهو استقرار الملك إذا ملك النصاب فلا بد أن يكون الملك مستقرا ، فإذا كان الملك غير مستقر فلا زكاة فيه، وإذا قلت ما صورة الاستقرار ؟ يتضح من نذكر لك مثال أو مثالين:
المثال الأول: صداق المرأة قبل الدخول غير مستقر؛ لأنه يمكن أن يسقط بالخلع يمكن أن يسقط نصفه بالطلاق، فإذا دخل بها الزوج استقر الملك وملكته كله ، فقبل الدخول ليس بمستقر عرضة للسقوط .
والمثال الثاني: ثمن المكاتب المكاتب العبد الذي يشتري نفسه من سيده بمال في الذمة ، يتكسب حتى يعطيه هذا الثمن الذي إذا قال: أنا أشتري نفسي بعشرين ألفا هذه العشرين ما تزكى؛ لأنها غير مستقرة يمكن أن يعجز العبد فيعود رقيقا ، هذا مثال لاستقرار النصاب .(1/158)
استثنوا من الحول الخارج من الأرض فلا يشترط له حول، بل إذا استحصلوا عليه أخرجوا زكاته لقول الله -تعالى-: { (((((((((( ((((((( (((((( (((((((((( } الزروع مثلا تبقى في الأرض خمسة أشهر أو أربعة أشهر ثم بعد ذلك تحصد لا يشترط لها الحول بل إذا حصد الزرع ، وصفوه أخرجوا زكاته ، وإن لم يحل عليه الحول ، ولا نصف الحول .
الثاني: ما كان تابعا للأصل كنماء النصاب ، وربح التجارة فإن حولهما حول أصلهما هذا أيضا لا يشترط له الحول ، نماء النصاب يكون في الماشية فمثلا إذا كان الأصل نصابا فالنماء لا يشترط له النصاب ، فلو كان عنده خمس من الإبل يعني ملكها في شهر محرم للسوم سائمة ، ولما كان في شهر ذي الحجة ولدت الخمس بخمس أصبحت عشر فهل عليه نصاب أو نصابان ؟ نصابان أصبح عنده عشر، ولو أن الأولاد ما لها إلا شهر أو أقل من شهر ، النماء تابع للأصل، ومثله مثلا الغنم لو كان عنده مائة وعشرون من الغنم فيها شاتان ، وقبل تمام الحول بشهر ولدت بمائة أصبحت مائتان وعشرون فيها ثلاث شياه ، ولو أن أولادها ما تم لهم إلا نصف شهر أو شهر النماء الذي هو الأولاد يتبع الأصل .
وكذلك ربح التجارة يتبع أيضا أصله ، وصورة ذلك لو أن إنسانا فتح دكانا في شهر محرم ورأس ماله خمسة آلاف ، ثم إنه ربح في شهر محرم خمسة ، وفي شهر صفر خمسة ، وفي شهر ربيع خمسة وربيع خمسة ، ولما انتهت السنة بانتهاء ذي الحجة وإذا معه خمسون ألف بدل الخمسة أصبحت خمسين بعضها اكتسبه في شهر ذي الحجة وبعضها في شهر ذي القعدة ، وبعضها في شوال ، وبعضها في رمضان وبعضها في شعبان فكم يزكي ؟ يزكي خمسين ولا يقول هذه ما ربحتها إلا اليوم أو أمس أو في هذا الشهر نقول: إن هذه التجارة تجارة واحدة ، وإن الربح يتبع أصله ، ربح التجارة تابع لأصلها حيث إن أصلها نصاب .(1/159)
يقول: لا تجب الزكاة إلا في أربعة أشياء: أربعة أنواع السائمة من بهيمة الأنعام يخرج ماذا ؟ يخرج المعلوفة فإنه لا زكاة فيها، السوم هو الرعي يعني إذا كانت ترعى من الأرض بأفواهها أكثر السنة فإنها سائمة قال تعالى: { (((((((( ((((( (((( ((((((((( (((((((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((( ((((( (((((((((((( } إلى قوله: { ((((( (((((((((( (((( } لما ذكر ما أخرجه الله أنه أنزل من السماء ماء ، وأنه يخرج به ما تسيمون فيه أنعامكم ، ففي قوله: { ((((( (((((((((( (((( } أي ترعون بهائمكم ، فالسوم هو الرعي ومنه أيضا قوله: { (((((((((((( (((((((((((((( } يعني: المرعية التي ترعى على بعض التفاسير .
اشترطوا أن تكون السائمة ترعى أكثر من ستة أشهر ، فإذا كانت ترعى مثلا ستة أشهر ونصف ويعلفها خمسة أشهر ونصف ففيها زكاة ، أما إذا كان يعلفها ستة أشهر وترعى ستة أشهر ، فإنها لا زكاة فيها إذا كانت نصف السنة ما تأكل إلا ما يعطيها محجورة مثلا في هذا السور، أو في هذا البستان لا تأكل إلا العلف الذي يقوتها فهذه لا زكاة فيها ، ولو كثرت ولو بلغت مئات ، وذلك لأنها ما تمت النعمة ، النعمة ما تتم إلا إذا كانت ترعى بأفواهها مما ينبت الله تعالى من الأعشاب .
الثاني: الخارج من الأرض ويريد به ما ينبته الله تعالى من الثمار، ومن الحبوب ونحوها.
والثالث: الأثمان ، الأثمان هي قيم السلع الدراهم والدنانير، فالدراهم التي تصنع من الفضة والدنانير نقود تصنع من الذهب ، وتسمى أثمانا ؛ لأنها هي أثمان السلع كل سلعة تقدر بالنقود فيقال مثلا: ثمن هذا الكتاب خمسة دراهم ، ثمن هذا الكأس: درهمان ؛ لذلك سميت أثمانا كانوا لا يتعاملون يعني بالأثمان إلا الدراهم والدنانير وإن كان يجوز جعل الأثمان من غيرها، يجوز مثلا أن تقول: اشتريت هذه الناقة بعشرين صاع من الأرز كما تقول اشتريتها بمائة ريال، ولكن الأصل أن الأثمان من النقدين .(1/160)
الرابع: عروض التجارة سميت بذلك ؛ لأنها تعرض ثم تزول التاجر يعرض هذه السلع فإذا اشتريت اشترى بدلها وعرضها ، ثم إذا باعها واشترى غيرها وعرضها فكل يوم يعرض سلعا جديدة يبيعها ثم يستبدلها فهذا سبب تسميتها عروضا والتجارة هي الأرباح يعني ما يطلب فيه الربح التاجر هو الذي يتجر لأجل الربح يشتري السلع لا لأجل الاقتناء ولا لأجل الاستهلاك، ولكن لأجل الاستفادة لأجل أن يبعها ويربح فيها .
يقول: فأما السائمة فالأصل فيها حديث أنس هذا الحديث هو أصح ما روي في هذا الباب رواه البخاري عن أنس ورواه أيضا غير البخاري، فالبخاري قطعه في عشرة مواضع من كتابه يعني في كل باب يذكر منه قطعة وغيره كأبي داود وغيره ساقوه بتمامه كتبها أبو بكر - رضي الله عنه - لأنس لما بعثه مزكيا لما بعثه على الصدقة كتب فيه: " هذه فريضة الله ، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ... " .
قوله: " التي فرضها " يستفاد منه أن الحديث مرفوع أن أبا بكر ما قالها من نفسه بل رواها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .(1/161)
ثم قال: " والتي أمر الله بها رسوله " يعني أن الرسول أيضا لم يعتمد بها على قوله بل اعتمد فيها على أمر الله تعالى له ، فإن قوله: { (((( (((( ((((((((((((( (((((((( } أمره الله -تعالى- بأن يأخذ، وقدَّرَ له ما يأخذ فحدد له الأنصبة وحددها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بدأ بزكاة الإبل، وما ذاك إلا أنها أغلب الأموال عند العرب في ذلك الوقت وأنفسها وأكثر ما يقتنونه وأكثر ما يستعملونه يركبون ويحلبون ويأكلون الإبل ، وكانوا ينتفعون بها في منافع كثيرة، قال تعالى: { ((((((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((( } هذه منافع أي أنهم يركبون منها ويأكلون ، وقال تعالى: { (((((((( ((((( (((( ((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((((((((( (((((( (((((((((( (((((((( ((((((((((((( } أخبر أن من جلودها بيوتا ، وقال: { (((((( (((((((((((( (((((((((((((( ((((((((((((((( (((((((( (((((((((( (((((( ((((( (((( } .(1/162)
فأخبر أيضا بأن من جزتها وصوفها ووبرها ما فيه هذه المنافع، فكانوا يخرزون جلودها أحذية ودلاء وقربا ومزادات وأوعية وجربا جمع جراب ، وكانوا ينسجون أيضا من جلودها أكياسا من الشعر والوبر ونحوه وحبالا ينتفعون بها ، ففيها منافع زيادة على شرب اللبن ، وزيادة على أكل اللحوم ، وزيادة على الركوب والتنقل فهي أكثر أموالهم وأنْفَسها وأغلبها ؛ فلذلك بدأ بالزكاة حيث قال: " في أربع وعشرين وما دونها الغنم أو من الغنم ... " يعني: الغنم زكاة للإبل إذا كانت أربعة وعشرين فأقل لعدم احتمال أن تزكى منها ، في كل خمس شاة ، ففي الخمس شاة ، والشاة: اسم لواحدة من الغنم، تَصْدُق كلمة الشاة على الأنثى من الضأن ، وتسمى: نعجة ، والذكر من الضأن ويسمى كبشا ، والأنثى من المعز وتسمى عنزا ، والذكر من المعز ، ويسمى تيسا ، والشاة تصدق على الجميع ففي الخمس شاة ، وفي العشر شاتان ، وفي خمسة عشر ثلاث شياه ، وفي العشرين أربع شياه ، والذي بين الفرضين يسمى وقصا يعني: أن الخمس فيها شاة ، والست والسبع والثماني والتسع ما فيها إلا شاة ، فإذا تمت عشر ففيها شاتان، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض ، أي ما بين خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين هذا يسمى وقصا، فالوقص لا شيء فيه ، يعني من عنده خمس وعشرون عليه بنت مخاض، ومن عنده خمس وثلاثون عليه بنت مخاض أنثى ، وسميت بنت مخاض ؛ لأن أمها غالبا قد حملت ، والمخض هو الحمل ، الماخض هي الحامل ، أي أن أمها قد صارت ماخضا ، ويقدرون عمرها بسنة ، ما تم لها سنة يعني بنت المخاض ما تم لها سنة ، ودخلت في الثانية.(1/163)
فإن لم يكن عنده بنت مخاض فابن لبون ذكر، أي يصح أن يدفع ابن لبون ، وهذا مما يؤخذ فيه الذكور ذلك ؛ لأن ابن اللبون أكبر ، فهو أغلى ولكنه أقل ثمنا؛ لأنه ذكر يعني الغالي هم الإناث ، ابن اللبون وبنت اللبون ما تم له سنتان ؛ لأن الغالب أن أمه قد ولدت فهي ذات لبن ، وليس شرطا أن تكون أمه موجودة ، وليس شرطا أن تكون أمه ذات لبن، وإنما عرف بأغلب أوصافه، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون ، يعني ما بين ست وثلاثين إلى خمس وأربعين هذا وقص ، إذا تمت خمسا وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، عرفنا أن بنت اللبون هي التي تم لها سنتان، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة.
الحقة: ما تم لها ثلاث سنين وتسمى طروقة الجمل ؛ لأن العادة أن الجمل يطرقها؛ لأنها قاربت أن تحبل أما مادامت صغيرة فلا يطرقها الجمل لصغرها إذا استحقت أن طرق الجمل أو استحقت أن يحمل عليها وتركب، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة ، وهي التي نبتت ثناياها وسقط باعها سميت بذلك من الجذع الذي هو النبات ، وهي ما تم لها أربع سنين ، فبنت المخاض لا تدفع إلا مرة واحدة في خمس وعشرين إلى خمس وثلاثين.(1/164)
والجذعة ما تدفع إلا مرة واحدة في ستين إلى خمس وسبعين، فإذا زادت على خمس وسبعين بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها حقتان طروقة الجمل، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها إذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون وإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقة الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة إذا زادت على مائة وعشرين صار الوقص عشرا ، فإذا صارت مائة وثلاثين ففيها بنتا لبون وحقة ؛ لأنها أربعين وأربعين وخمسين ، فإذا صارت مائة وأربعين ففيها حقتان وبنت لبون ؛ لأنها خمسين وخمسين وأربعين ، فإذا كانت مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق لأنها خمسين وخمسين وخمسين، فإذا صارت مائة وستين ففيها أربع بنات لبون ؛ لأنها أربعين وأربعين وأربعين وأربعين وهكذا ، فإذا وصلت إلى مائتين استقرت الفريضة فإن شاء أخرج أربع حقاق، وإن شاء أخرج خمس بنات لبون ؛ لأن المائتين خمس أربعينات وأربع خمسينات.
يقول: من لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس عليه صدقة لقلتها إلا أن يشاء ربها انتهى من زكاة الغنم من زكاة الإبل، وبدأ في زكاة الغنم ولم يذكر في هذا الحديث زكاة البقر لقلتها عند العرب إنما العرب يغالون في الإبل والغنم ، ولا يزالون إلى اليوم في سائمتها عرضنا أنه شرط أن السوام شرط إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة إذا تمت أربعين فقد تمت النصاب ففيها شاة ولا تزال كذلك إلى مائة وعشرين ، من عنده أربعون عليه شاة من عنده ثمانون عليه شاة ، من عنده مائة وعشرون ليس عليه إلا شاة ، من عنده مائة وإحدى وعشرون عليه شاتان إذا زادت على مائة وعشرين ففيها شاتان إلى مائتين ، من عنده مائة وإحدى وعشرون عليه شاتان من عنده مائتان عليه شاتان إذا زادت واحدة مائتين وواحدة ففيها ثلاث شياة إلى أربعمائة.(1/165)
من عنده مائة وأحدى وعشرون ليس عليه إلا ثلاث شياه. مائة وواحدة مائتان وواحدة زكاته ثلاث شياه. ثلاثمائة زكاتها ثلاث شياه. أربعمائة إلا واحدة زكاتها ثلاث شياه. أي ما بين مائتين وواحدة إلى أربعمائة إلا واحدة ليس فيه إلا ثلاث شياه ، فإذا تمت أربعمائة وصلت أربع شياه. خمسمائة خمسة شياه. ستمائة ست شياه ، وهكذا ففيها ثلاث شياه فإذا كانت سائمة يعني ناقصة عن أربعين، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها.
إذا كانت تسعًا وثلاثين ما فيها مواساة. قوله: " ولا يجمع بين مُتَفرِّق ولا يُفَرَّق بين مجتمع خشية الصدقة " يتضح هذا بالمثال فلو كان إنسان مثلًا عنده خمسون شاة أو ثلاثة واحد عنده أربعين وواحد عنده أربعين وواحد عنده أربعين فقط. جاءهم المصدق يأخذ من هذا شاة وهذا شاة وهذا شاة فلو قالوا: هلموا نجتمع إذا أقبل المزكي نجتمع نجمعها كلها تصير مائة وعشرين، لا يأخذ منا إلا شاة واحدة فهل يجوز هذا، هذه حيلة. لا يجمع بين متفرق خشية الصدقة.
كذلك لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة. لا يفرق بين مجتمع لو أن اثنين عندهم مثلًا مختلطين عندهم سبعين من الغنم، فلما أقبل العامل قالوا: سوف نتفرق. سوف نقتسم أنت لك خمسة وثلاثون وأنا عندي خمس وثلاثون إذا جاءنا ما يأخذ منا شيء فهل يجوز هذا ؟ لا يجوز ذلك؛ لأنه فرار من الزكاة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية.
إذا كانا خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. كيف تكون الخلطة. إذا اختلطا جميع الحول. اثنين مختلطين في جميع الحول. الراعي واحد والمرعى واحد والمبيت واحد والمسقى واحد يسقونها في حوض واحد ويحلبونها في مكان واحد، فمثل هؤلاء تكون زكاتهم واحدة إذا كانوا مثلًا ثلاثة واحد له أربعين وواحد له أربعين وواحد له أربعين اختلطوا جميع السنة ما عليهم إلا شاة كيف هذه الشاة كيف يفعلون؟ يتراجعون.(1/166)
إذا أخرجوها من غنمك يا زيد قدروها مثلًا كل واحد منهم حمل ثلث الثمن. أنت يا زيد ليس عليك الشاة ونعطيك ثلثي الثمن منا، يتراجعان بينهما بالسوية.
يقول: ولا يخرج في الصدقة هرمة. الهرمة هي كبيرة السن، والهزيلة ؛ وذلك لأنها قليلة الثمن فيكون في ذلك ظلم وضرر على الفقراء، ولا ذات عوار أي لا يخرج ذات عوار يعني ما فيها عيب ، العوار هو العيب، ومنه العيوب الظاهرة ، العيوب التي تخل بالشاة إذا اشتريت للضحية: العوراء البين عورها ، والعرجاء البين ضلعها، والهزيلة التي لا نصطفيها والكثيرة أو العائبة التي فيها عيب ينقص ثمنها. هذه التي لا تخرج.
بعد ذلك ذكر زكاة الفضة قال: وفي الرقة ربع العشر. الرقة هي الفضة ويعبر عنها بالدراهم؛ ولهذا قال: فإن لم يكن إلا تسعون ومائة يعني: تسعون ومائة درهم، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها فعرف بذلك أن نصاب الفضة مائتا درهم، والدرهم قطعة من الفضة كانوا يتعاملون بها. قطعة صغيرة من الفضة يتعاملون بها قد تكون قريبة مما يعرف بالقرش الصغير الذي هو ربع القرش أو عشر هلل ، قريبًا منه.
فإذا كان عنده من الفضة مائتا درهم، فإن عليه الزكاة فيها إذا حال عليها الحول وقدرها العلماء بالريال الفضي. ريال الفضة السعودي ستة وخمسين ريال من الفضة بالريال العربي السعودي، وقدروها بالريال الفرنسي باثنين وعشرين ريالًا فرنسيًا. الريال الفرنسي موجود والريال الفضي موجود، ولكن العملة الآن بغيرهما بهذه الأوراق.
وقد اختُلِفَ هل هذه الأوراق أسناد أو أنها نقود. فالذين جعلوها أسنادًا قالوا: إنها عِوَض والذين جعلوها نقودًا قالوا: إنها قِيَم ، فالذين جعلوها أسنادا قالوا: ننزلها منزلة ما هي بدل عنها فمن كان عنده ستة وخمسون ريالًا من الورق وحال عليها الحول اعتبر غنيًا، واعتبر كأنه من الأغنياء عليه الزكاة على هذا القول.(1/167)
وأما الذين جعلوها نقودًا بأصلها وبرأسها فقالوا: تقدر قيمتها والآن قيمتها أنقص عند الصرافين من قيمة الفضة، فلو مثلًا أردت أن تحصل على ريال فضي لما حصلته إلا بعشرة أو خمسة عشر من الأوراق النقدية؛ لأنه يتنافس فيه. فلذلك يجوزون المبادلة بينهما والمفاضلة ، يجوزون أن تصرف ريالا فضة بخمسة عشر ريالا من الأوراق، ولو كان هذا اسمه ريالا عربيا وهذا اسمه ريال عربي. هذا ريال سعودي وهذا ريال سعودي ولكن القيمة تختلف فعلى هذا يمكن إذا قلنا: إن الريال الفضي بعشرة ريالات من الأوراق يكون نصابه في الأوراق خمسمائة وستين يعني ستة وخمسين. عشرة فإذا كان الذي يملك خمسمائة وستين وحال عليها الحول فإنه يعتبر غنيًا عليه الزكاة فيها، وإن كان الناس في هذه الأزمنة لا يعتبرون الغني إلا بكثرة المال ويقولون: ستمائة أو خمسمائة وستين هذه يمكن أنه يشتري بها مرة واحدة طعامًا أو كسوة فكيف يكون غنيًا؟ نقول: ما دام أنه لم يحتج إليها طوال السنة فإنه دليل على أنه عنده غيرها ما يكفيه فيعتبر غنيًا.
ورجع بعد ذلك إلى ما يتعلق بالإبل: " ومن بلغت عنده من الإبل صدقة جذعة وليس عنده وعنده حقة فإنه تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسر فعلها أو عشرين درهمًا " عرفنا أن الجذعة ما تم لها أربع سنين، والحقة ما تم لها ثلاث سنين، فإذا كان عنده صدقة الجذعة، ولم يجد الجذعة دفع الحقة ودفع معها الفرق، والفرق في ذلك الوقت شاتان أو عشرون درهمًا. في هذه الأزمنة قد تختلف قد تكون الشاتان تساوي الحقة أو تقرب منها.
فلذلك ينظر في القِيَم وكذلك العشرون درهمًا في هذه الأزمنة قد لا تساوي العشرون درهم قد لا تأتي بسخلة ولكن ينظر إلى القيمة.(1/168)
أخذوا من هذا جواز دفع القيمة، والعمل عليها الآن أن العمال عمال الزكاة يرفعون أو يقدرون بنت المخاض بكذا وبنت اللبون بكذا والحقة بكذا والجذعة بكذا والشاة بكذا يقدرونها ؛ لأنهم يذهبون على السيارات ويشق عليهم أن يحملوا معهم هذه الأغنام التي يأخذونها أو هذه الإبل ونحوها.
إن بلغت عنده الصدقة حقة وليست عنده الحقة وعنده الجذعة يعني عكس المسألة التي قبلها فإنه تقبل منه جذعة ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين يعني يعطيه الفرق بينهما وجعلوا هذا فارقًا بين الأسنان كلها قالوا: من يجد بنت مخاض ودفع بنت لبون فإنه يعطيه المصدق الفرق، ومن دفع بنت مخاض بدل بنت لبون فإنه يدفع معها الفرق وهكذا . انتهى حديث أنس.
استدل أيضًا بحديث معاذ في زكاة البقر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن -وكان البقر فيها كثيرًا- أمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعًا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة " هكذا فلا زكاة في البقر حتى يتم نصابها ثلاثين ويخير صاحبها أن يدفع تبيعًا أو تبيعة .
التبيع: ما تم له سنة وزاد ، أنه يجوز أن يدفع الزكاة تبيع أو تبيعة فإذا وصلت أربعين فإنه يدفع مسنة، والمسنة ما تم لها سنتان أي: ما بين الثلاثين والأربعين وَقْصٌ ، ليس فيه شيء ثم إذا تمت خمسين لا تزيد المسنة ، ولا تزيد الزكاة إلى ستين، فإذا تمت ستين ففيها تبيعان أو تبيعتان ؛ لأن الستين ثلاثون وثلاثون، فإذا تمت سبعين ففيها مسنة وتبيع؛ لأن السبعين ثلاثون وأربعون فإذا تمت ثمانين ففيها مسنتان؛ لأن الثمانين أربعون وأربعون، فإذا تمت تسعين ففيها ثلاثة أتبعة؛ لأن التسعين ثلاثون وثلاثون وثلاثون ، فإذا تمت مائة ففيها تبيعان ومسنة؛ لأن المائة ثلاثون وثلاثون وأربعون، وهكذا في كل أربعين مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع انتهى من زكاة بهيمة الأنعام. زكاة الأثمان(1/169)
ذكر بعد ذلك صدقة الأثمان. عرفنا أن الأثمان: الذهب والفضة يقول: إنه ليس فيها شيء حتى تبلغ مائتي درهم ، وفيها ربع العشر؛ وذلك لأن الأصل أنها يمكن أن تنمى يستطيع صاحبها أن ينميها ففيها الزكاة ، ولو كانت مخزونة فإذا قال: كيف أؤدي زكاتها كل سنة وهي لا ربح فيها، ولا يحصل فيها زيادة إذا كنت أدفع منها كل سنة زكاة ، زكاة ، زكاة تنقضي؟ نقول: لماذا تفسدها ؟ لماذا تخزنها ؟ هي قابلة لأن تنميها إما أنك تنميها بنفسك وتَتَّجَر فيها، وإما أنك تعطيها من يَتَّجَر فيها بجزء من ربحها، فما دام أنها موجودة عندك، فإن فيها الزكاة، ولو لم يكن لها زيادة ونماء.
هذه زكاة الفضة، أما زكاة الذهب فالذهب أيضًا يزكى ولو كان مرصودًا ولم يذكر المؤلف نصابه. قد ورد في الحديث أن نصابه عشرون مثقالًا أو عشرون دينارًا، والدينار قطعة من الذهب يتعامل بها وتقدر بأربعة أسباع الجنيه السعودي.
الدينار العربي القديم أربعة أسباع الجنيه السعودي، وقدروا عشرين مثقالًا بخمسة وثمانين غرام المعروف على خمسة وثمانين جرام هذه نصاب الذهب هذا إذا كان غير مضروب، أما إذا كان مضروبًا فإن نصابه أحد عشر جنيهًا وثلاثة أسباع الجنيه أو نصف الجنيه إحدى عشر جنيهًا ونصف هذا إذا كان مضروبًا يعني أنه من النقود أما غير المضروب فيراد به مثلًا ما هو تبر أو مقطع أو نصوف أو حلي، كل ذلك يسمى ذهبًا ففيه الزكاة.
ولم يتعرض المؤلف لزكاة الحلي، وكأنه اشتبه عليه الأمر فيها، أو رأى فيها خلافًا قويًا، أو أجراها على ما كان عليه أهل المذهب، فترك الكلام عليها وهي مما يهم أن يتكلم فيها:(1/170)
زكاة الحلي يراد بها ما يُلْبَس من حلي الذهب أو من حلي الفضة، أي ما تتحلى به النساء؛ لأن التحلي خاص بالنساء، أما الرجل فلا يلبس الحلي، الرجل يمكن يلبس خاتم فضة مثلًا، أو يرخص له بطبيعة السيف ونحوها من الأدوات، أما المرأة فإنها بحاجة إلى أن تلبس حليًا تتجمل به عند زوجها وكذلك عند الُخَّطاب ونحوه. تتجمل بهذا الذهب.
فأبيح لها ما جرت العادة بلبسه، فما يلبس في الرقبة يسمى قلائد، وقد يتوسعون فيها بما يسمى الرشارش حتى تصل إلى الثدي أو تحت الثدي ويلبس أيضًا في الأيدي في الأصابع الخواتيم، ويلبس في الذراع الأسورة. السوار هو ما يكون في الذراع. الأسورة وتسمى غوايش، ويسميها بعضهم بنادر إن هذه من الحلي. ويلبس في الأذن الأقراط واحدها قرط، ويسميها بعضهم فُرص ويتوسعون أيضًا الآن فيلبسون في أوساط البطن ما يسمى بالحزام. إن كانوا أيضًا يلبسون في الأرجل ما يسمى بالخلاخل، وهي الزيادة الخفية التي ذكرها الله تعالى في قوله: { (((( (((((((((( (((((((((((((( (((((((((( ((( ((((((((( ((( ((((((((((( } فهذا الحلي هل يزكى أم لا ؟ فأكثر الفقهاء قالوا: إنه لا يُزَكَّى وما ذاك إلا أنه مُعَدٌّ للاستعمال؛ ولأنه لا يتنامى؛ ولأن المرأة تقتنيه؛ لتتجمل به فهو ملحق بثيابها وبأكسيتها وملحق أيضًا بالأواني التي تستعمل للطبخ وللشرب وما أشبه ذلك ولو كانت ثمينة، ومُلْحَق بما يستعمل من الفُرُش ومن الوسائد وما أشبهها فهو مستعمل هكذا قالوا.(1/171)
وإذا كان كذلك فلا زكاة فيه كسائر المستعملات سيما وهو لا يتنامى ، يُسْتَدَل أيضًا بأن خمسة من الصحابة نقل عنهم أنهم لا يزكون الحلي منهم عائشة كانت تحلى بنات أخيها ولا تزكيهم ، بنات محمد بن أبي بكر، ولا تزكيه، ومنها أختها أسماء كان عندها حلي لها ولبناتها ولا تزكيه، ومنهم جابر روى عنه أنه قال: " ليس في الحلي زكاة " هكذا روى عنه موقوفًا، وهو الصحيح، ورواه بعضهم مرفوعًا، ولكنه خطأ، جماعة من الصحابة يعني ذهبوا إلى أن الحلي لا زكاة فيه قياسًا له على سائر المستعملات.
ثم نصر هذا القول كثير من العلماء وكتب فيه الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع واختار أنه لا يُزَكَّى وكتب فيه الدكتور إبراهيم الصبيحي، واختار أيضًا أنه لا يزكى وكتب فيه بعض الأخوة مثل أفراح بن هلال ومثل عبد الله الطيار وكلامهم فيه متوقف.
واختار شيخنا الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين أنه يزكى ويستدلون بحديث عبد الله بن عمرو " أن امرأة دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يد ابنتها مَسَكَتَان من ذهب فقال: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا . قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار فألقتهما وقالت: هما لله ورسوله " وهكذا ورد هذا الحديث مروي من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فلما كان هذا الحديث مقبولًا يقبله من يقبل أحاديث عمرو بن شعيب ويحتج به قالوا: لا عذر لنا في ترك العمل به لصحته وصراحته.
وأجاب الذين قالوا: إنه لا يزكى منهم شيخنا الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- يختار أنها لا تزكى أجابوا بالمقال الذي في عمرو بن شعيب وأجاب بعضهم بأن هذه الزكاة مجملة لا يدرى ما هي يمكن أن زكاته عاريته، يمكن أن زكاته ضمه إلى غيره، يمكن أن زكاته أن يستعمل فيما اشترى لأجله، أو ما أشبه ذلك، وهي توخيات لكن قالوا: إنه مجمل ولا ندري هل بلغ النصاب أم لا سورين قد يكونا على بنت طفلة قد يكون عمرها مثلًا خمس سنين فهل تبلغ النصاب أم لا ؟(1/172)
فأفادني هذا أن زكاة مجملة فقال بعضهم: إنه يراد بها ما ذكر من أن الزكاة هنا هي العارية ومما استدلوا به أيضًا على وجوب الزكاة حديث عن عائشة الصحيح المروي في السنن وفي المسند قالت: " دخل عليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يدي فتخات من فضة. -الفتخات واحدة فتخة، وهي الخواتيم من فضة- فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: أردت أن أتجمل لك به. فقال: أتؤدين زكاته؟ قالت: لا . قال: هو حظك من النار " أو كما قال .
هذا أيضًا مما استدلوا به، وهو صريح حديث واضح لا طعن فيه وصحيح ولكنه مشكل أيضًا من حيث أنه لم يعين عدد الزكاة، ولم يعين النصاب ولا غيره، فلعل زكاته عاريته أو نحو ذلك ولكن المشايخ قالوا: لا نأخذ بالتأويلات ونرد اللفظ الصريح؛ فلأجل ذلك يختارون ويرجحون أنه يزكى إذا بلغ النصاب.
ومما استدلوا به أيضًا الآيات الكريمة في سورة التوبة { ((((((((((( ((((((((((( ((((((((( (((((((((((( (((( ((((((((((((( ((( ((((((( (((( (((((((((((( ((((((((( ((((((( (((( } وقال ابن عباس: كل مال أديت زكاته فإنه ليس بكنز، فالله تعالى عذب في هذه الآية الذين يكنزون الذهب والفضة.
وإن كان المفسرون أو أكثرهم حملوها على المكنوز الذي هو في الصناديق أو ما أشبهها، ولكن الغالب أن كثيرًا من هذا الحلي يلقى في الصناديق أكثر الزمان، وحيث إن النساء في هذه الأزمنة تباهين في هذا وأكثرن منه فصارت المرأة تشتري بما قيمته مائة ألف أو مائتان أو أكثر أو أقل ولا تلبسه إلا في المناسبات تلبسه في السنة مرة أو مرتين أو مرارًا يسيرة في الأعياد أو في الحفلات ثم تغلق عليه، فأصبح في هذا شيء من الإسراف.
فلأجل ذلك يترجح أنه يزكى عملًا بهذه الأدلة التي استدل بها مشايخنا وعملًا بأنه من جملة الكنز أو داخلا فيما تضمنته هذه الآية ونقف على صدقة الخارج من الأرض لنواصل القراءة فيها غدًا إن شاء الله.(1/173)
وقفنا على زكاة الخارج من الأرض ويراد به الثمار والحبوب التي تنبت بالسقى وتنمو، وهي من رزق الله تعالى. الله تعالى جعل الأرض رخاء تنبت ما يأكلون.
لو كانت الأرض ذهبا أو فضة لو كانت كلها من ذهب أو من فضة لما عاش عليها دابة ولا إنسان، ولكن الله جعلها قابلة للإنبات ، وأنزل من السماء هذا الماء وأسكنه في الأرض وجعل في الأرض مستودعات تخزن فيها المياه إذا كثرت تبتلعها الأرض وتمسكها حتى يستخرجها الناس عند الحاجة إليها لشربهم ولسقي دوابهم ولسقي حروثهم وأشجارهم التي فيها معاشهم وبها حياتهم.
هذا الخارج من الأرض تارة يحتاج إلى سقي وإلى مؤونة وإلى كلفة في السقي فتكون زكاته أقل، وتارة لا يحتاج إلى سقي بل ينبت بنفسه ويستقي بعروقه أو نحو ذلك فتكون زكاته أكثر؛ لأن المؤونة فيه أقل . أكثر الفقهاء على أن الزكاة بالخارج تختص بالحبوب والثمار التي تكال وتُدخر، وأنه لا زكاة فيما سوى ذلك؛ وذلك لأنها إذا كانت لا تدخر فلا تتم بها النعمة، أما التي تدخر فإنه ينتفع بها في الحال، وفي المآل بخلاف التي لا تدخر فمثلًا الفواكه التي تؤكل وهي رطبة ولا تدخر هذه لا ينتفع بها إلا في الحال.
هذا هو القول الراجح والمشهور وهناك من يقول من العلماء كالحنفية: إن فيها زكاة، إن كل شيء ينبت وفيه منفعة وفيه غذاء أو نفع فإنه يزكى ويستدلون ، يستدل الحنفية بقوله - صلى الله عليه وسلم - " فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بالنضح والدلاء نصف العشر " .(1/174)
فقالوا: كلمة " فيما سقت السماء " عام يدخل فيها مثلًا الفواكه فتكون فيها زكاة واستدلوا أيضًا بقوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((( (((((((((((((( (((((((((((( (((((((((((( (((((((( ((((((((((( ((((((( ((( (((((((((( (((((( (((((((( (((((((((( ((((((( (((((( (((((((((( } على القول بأن حقه هو الزكاة، قالوا: الأمر يعود إلى أقرب مذكور ، الآية ذكر فيها النخل والزرع وهما زَكَوِيَّان؛ لأن ثمرهما يكال ويدخر، وذكر فيها الزيتون والرمان والغالب أنهما لا يدخران.
الرمان يفسد إذا طال زمانه فلا يدخر، والزيتون يمكن أن يصبغ ويمكن أن يصبر ويعتصر منه الزيت ، زيت الزيتون، ولكن نفسه لا يدخر أصلًا ومع ذلك فالآية يعقبها { (((((((((((((( (((((((((((( (((((((((((( (((((((( ((((((((((( ((((((( ((( (((((((((( } يعني يعود إلى أقرب مذكور { (((((( (((((((( (((((((((( ((((((( (((((( (((((((((( } فهو دليل على أن فيه زكاة، أن الرمان فيه زكاة، وأن الزيتون فيه زكاة، هذا ما استدلوا به، وعلى هذا القول تخرج الزكاة من كل خارج من الأرض ، كل ما سقت السماء كان عثريًا ، وكل ما سقى بالنضج ونحوه، فيلزمون أصحاب البقول بالزكاة منها أو من ثمنها.
البقول: مثل الخص والفجل والرجلة والنعنخة وأشباهها من هذه البقول ، وكذلك أيضًا الفواكه يخرجون الزكاة من البطيخ ومن التفاخ والموز والبرتقال والمشمش والخوخ، وما أشبهها وذلك؛ لأنها من جملة ما يسقى وما ينبت. هذا هو قول الحنفية ونحوهم وقالوا: إنها من جملة الأموال فتدخل في قوله: { (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((( } وتدخل في قوله: { (((( (((( ((((((((((((( (((((((( } .(1/175)
وأيضًا تدخل في قوله: " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " فإن أكثر الذين يزرعون هذه البقول يبيعون منها بكميات طائلة يبيعون مثلًا من البطيخ بعشرات الألوف بأنواعه ، البطيخ بأنواعه ومنه الجح والهنادوه والشمام وما أشبهها ويبيعون أيضًا من الفواكه من الرمان مثلًا ومن الخوخ والمشمش والكمثرى وما أشبهها يبيعون منها بكميات كثيرة.
فإذا أسقطنا منها الزكاة فقد أسقطنا حقًا للفقراء مذكور في هذه الآية { (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((( } هذا وجه من أوجب الزكاة في كل خارج من الأرض حتى أوجبوها أيضًا في الخضار يعني إما منها وإما من قيمتها.
الخضار التي تطبخ وتؤكل مثل الدباء والباذنجان أو تؤكل بدون طبخ كالخيار والطروح، وهذه قالوا: إنها كلها من جملة الخارج من الأرض فتؤدى زكاتها، والقول الثاني: إنها لا تخرج إلا مما يكال ويدخر، ومعنى يكال يعني يعبر بالوزن أو بالمكيال فجعلوا الكيل والوزن يعني والادخار هو السبب.
الادخار معناه الاحتفاظ بها في المآل بحيث ينتفع بها في الحال وفي المآل فمثلًا التمور تكال وتدخر تؤكل في الحال، وتؤكل بعد الحال يعني أكلها في الحال رطب ولكنها تصير تمرًا ويجفف ويخزن ويكنز وينتفع به فهو زكوى.
الزبيب مثله وهو العنب يؤكل عنبًا رطبًا ويزبب ويترك في شجره حتى يصير زبيبًا ثم بعد ذلك يجفف ثم يدخر ويؤكل زبيبًا فهو من جملة ما ينتفع به في الحال وفي المآل، كذلك الحبوب بأنواعها سواء كانت قوتًا كالبر والأرز والدخن والشعير والذرة أو لم تكن قوتًا ولكنها تكال وتدخر.(1/176)
الأباذير التي تبذر كالحبة السوداء والحلب والرشاد وكذلك الحبوب الأخرى مثل القهوة، الهيل ، القرنفل ، الزنجبيل وأشباهها هذه تدخر ينتفع بها في الحال وفي المآل. أما إذا كانت تفسد إذا خزنت كالبصل ، البصل في الأصل إذا خزن فإنه يفسد إذا طالت مدته، وإن كان يصبر في هذه الأزمنة ، ويحتفظ به فلا تخرج منه الزكاة على هذا القول.
فالحاصل أن القول الذي اختاره أكثر الفقهاء ومنهم ابن سعدي أنها خاصة بالحبوب والثمار وأن الحبوب يعم ما كان قوتًا يعني يؤكل كالبر والشعير والأرز والدخن ونحوه ويعم ما ليس بقوت كالأباذير التي ليست قوتًا ولكنها دواء ونحوه كالحلب والأدوية كالحبة السوداء ، وما أشبهها أن الجميع يكال ويدخر ففيه الزكاة.
ثم لا بد من النصاب، هذا هو القول الراجح، أنه لا بد أن تبلغ نصابًا وهناك من يقول: لا يشترط النصاب قول عند الحنفية لا يشترطون النصاب ويستدلون بعموم الحديث الذي ذكرنا " فيما سقت السماء أو كان عثريًا العشر " قالوا: يعم القليل والكثير. إذا زرع عثريًا ، أو زرع ما يسقى وحصده وله عشرة آصع أو عشرون صاع دخل في الحديث " فيما سقت السماء أو كان عثريًا العشر " ولكن القول الصحيح أنه لا بد من النصاب؛ وذلك لأن الزكاة شرعت لأجل المواساة والقليل لا مواساة فيه، فإذا كان محصوله مثلا عشرين صاع أو مائة صاع قليلة بالنسبة إلى محصول غيره ، فلا يكون فيها زكاة؛ لأنها بقدر قوته وقوت عياله.
والدليل على اشتراط الأنصباء هذا الحديث عن أبي سعيد الذي في الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " ذكر التمر كمثال وإلا غيره مثله: خمسة أوسق من البر ، خمسة أوسق من الدخن ، خمسة أوسق من الذرة.(1/177)
وأشباه ذلك من كل شيء يكال. جعل التمر كمثال فيلحق به كل ما يكال كالزبيب مثلًا ونحوه الوسق ستون صاعًا، الأصل أن الوسق هو مكيس يجعل فوق ظهر البعير إذا جعل عليه عدلين عن جانبيه يجعل فوق ذلك وسق في الوسط يقدر بأنه أكثر شيء ستون صاعًا ثم استقر أن الوسق ستون صاعًا فيكون النصاب للحبوب والثمار ثلاثمائة صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني ستين في خمسة بثلاثمائة.
والصاع النبوي هو مثل صاعنا الآن إلا أنه لا يجعل له علاوة صاعنا يجعل له علاوة فوقه، وأما في ذلك الوقت فكانوا يمسحونه مسحًا ولا يجعلون له علاوة فقدروه بأنه أقل من صاعنا بالخمس وخمس الخمس، ثم قدره بعضهم بالكيلو فأقل ما قيل فيه أن الصاع النبوي اثنين كيلو وأربعين جرام يعني أكثر من ثلثي الصاع. الصاع الذي عندنا في الأصل أنه ثلاث كيلو، ولكن لما اعتبروا الصاع النبوي وجدوه بهذا القدر، وكانوا يعبرون الصاع بالوزن كان عندنا في هذه البلاد، وفي غيرها الكيل بالصاع والوزن بالوزنة.
والوزنة معيار معروف عندهم زنته خمسون ريالًا فرنسية، قدرنا الصاع وإذا هو مائة. الصاع مائة ريال فرنسي يعني وزن مائة إذا كان هذا يعني هو الوزن المعتاد، لكن اضمحلت الوزنة، وجاء بدلها هذا الكيلو فيحتاج إلى معرفة مقداره بهذه المكاييل. على هذا من بلغ عنده هذا النصاب فعليه زكاة فيه، ومن نقص عنه فلا زكاة عليه.(1/178)
فهذا الحديث الذي ذكرنا " فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا العشر، وفيما سقى بالنضح نصف العشر " المراد بالسماء المطر، ما سقت السماء يعني ما سقاه المطر، ويسمى بعلا بعولًا يعني إذا قرب نزول المطر يذهب أناس إلى بعض الأماكن ، ويبذرون فيها ويحرثونها ويسوونها، فيأتي المطر ويسقيها فتنبت وتنمو إلى أن تنضج ولا يشتغلون فيها إلا بالبذر وبالحصاد فهذه ليس فيها كلفة ففيها العشر من كل مائة صاع عشرة آصع لهذه تسمى ما سقت السماء، ويوجد أيضًا في بعض البلاد النخيل التي تشرب من السماء أو تشرب من عروقها، وكذلك الأشجار كثير من الأشجار وتسمى عثرية.
العثرى هو الذي يشرب بعروقه يوجد في أطراف المملكة وفي خارج المملكة في العراق كثيرًا ، وكذلك في بعض نواحي المملكة قرب الأردن في وادي السرحان يوجد أنهم يغرسون شجرة كالنخلة مثلًا ثم إنها تصل بعروقها إلى الماء وتعيش فتسمى عثرية، وكذلك الذي يسقى بالعيون لا كلفة عليهم أيضًا هناك في كثير من البلاد في الشام وفي اليمن وفي العراق وفي مصر يسقونها بالعيون عندهم عيون جارية كالنيل الذي في مصر وغيره الوادي يمشي. دائمًا هذا النيل وكذلك العيون يفجرونها ويسقون أشجارهم بدون مؤونة فهذه لا كلفة فيها.
المراد بالنضح السقى بالدلاء القديمة إن كانوا يسقون على النواضح وهي الدواب من الإبل والبقر والخيل والحمير ونحوها يعلقون الرشا في ظهرها ثم تجره حتى يخرج وينصب في مصب مهيأ له في المصبات التي يسمونها الألزية هذا يسمى السقى بالنضح ويسمى أيضًا الدلو الكبير يسمى الغرب غربًا وجمعها غروب، والنواضح هي الإبل أو البقر التي تجر هذه الدلاء يسمونها نواضح ما سقى بالنضح ففيه نصف العشر.(1/179)
جاءت أيضًا الدواليب ولكنها تحتاج إلى بقر أو إبل تديرها يجعل لها ناعورة وتعلق فيها دلاء على هيئة أسطال تمتلئ ثم تستدير وتخرج وتنصب في المصبات. هذه أيضًا مؤونة ثم جاءت بعد هذه المضخات هذه الماكينات فإنها أيضًا تحتاج إلى مؤونة تحتاج إلى زيت وتحتاج إلى وقود وتحتاج إلى قيمة وإلى إصلاحات فكلها تحتاج إلى مؤونة ففيما سقى بها نصف العشر.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نضجت الثمار أو الحبوب يرسل من يخرصها على أهلها فكان يقول: " إذا خرصتم فَدَعُوا الثلث، فإن لم تَدَعُوا الثلث فدعوا الربع " ولكن هذا خاص بالنخل؛ لأن العادة أنه يذهب كثير منه هدايا وعطايا ومنح وأكلا ، فأمرهم بأن يتركوا منه الثلث طعامًا لأهله وهدايا فإن كان الثلث كثير فليقتصروا على الربع إن هذا يمكن أن يكون أيضًا في العنب.
العنب أيضًا يخرص لأنه يزبب فيقول أيضًا: إذا خرصتم العنب فإن العنب كثيرًا ما يؤكل وهو عنب ويدفع مثلًا منه للضيوف والأقارب كهدايا فيذهب كثير منه فلذلك إذا خرص فإنه يترك لأهله الثلث، فإن كان الثلث كثير ترك لهم الربع. زكاة عروض التجارة
ذكر بعد ذلك زكاة عروض التجارة ذكرنا أنها كل ما يعرض للبيع من كبير أو صغير من عقار أو منقول. كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح فإنه يقوم إذا حال الحول بالأحظ للمساكين من ذهب أو فضة ، ويجب فيه ربع العشر يدخل في ذلك العقار الذين يتاجرون في العقار، يشتري الأرض لأجل أن يبيعها بعد أيام وبعد يومين وبعد شهر بربح يشتري العمارات أو الفيللا لأجل الربح يشتريها ثم يعرضها للبيع؛ لأجل أن يربح فيها يبيعها بربح ففيها زكاة كذلك المنقولات؛ ولو كانت ثقيلة كالسيارات أصحاب المعارض الذين يشترون ثم يبيعون يوردون ثم يبيعون، وكذلك أصحاب الماكينات وأصحاب المضخات وأصحاب الثلاجات، وما أشبهها كل هؤلاء يشترون السلع لأجل الربح فيها فتقوم ويزكى ثمنها.(1/180)
كل سنة يزكون ما عندهم يضمون إليه النقود التي عندهم ويقدرون كم قيمة هذه السلع ثم إذا قَوَّمُوها كم تساوي ؟ فإنهم يزكون ثمنها ويقول: إن تقديرها بالأحظ للفقراء المساكين فإذا كان الأحظ لهم تقديرها بالدراهم قدرناها بالدراهم وإذا كان الأحظ تقديرها بالدنانير بالذهب قدرناها بالذهب فلو كانت مثلًا إذا قدرناها بالدراهم ما ساوت إلا مائة وتسعين أقل من النصاب ، وإذا قدرناها بالذهب ساوت اثنا عشر جنيه فالأحظ للفقراء تقديرها بالذهب حتى يكون فيها زكاة وكذلك العكس لو ثمنًا مثلًا، هذه السلع ثمناها بالجنيه عشرة جنيهات وثمناها بالدراهم ساوت ألفين، الأحظ تثمينها بالدراهم؛ لأنها أكثر وأحظ للفقراء يعني أجلب للمنفعة أحظ لهم فهذه ونحوها مما تقدر به.
ثم معلوم أنها قد يقل ثمنها عن وقت الشراء، وقد يرتفع ثمنها عن وقت الشراء فبأي شيء تقدر؟ إذا اشترى مثلًا هذه الأكياس أو هذه الكراتين أو هذه العلب للبيع اشتراها بمائة وبقيت في مستودعه ستة اشهر وحال الحول نظرنا كم قيمتها الآن، فإن كانت قيمتها الآن رخيصة ما تساوي إلا ثلاثين أو ثمانين يزكى قيمتها التي تساوي الآن، فإن كانت قد ارتفعت يساوي الكيس مائة وخمسين أو مائة وستين يزكى ما تساويه الآن، ولا يزكى الثمن الذي اشترى به؛ لأنها تتغير السلع، وإذا كان يبيع بالجملة برخص ويبيع بالتفريق بغلاء فبأي شيء يقدرها ؟ يقدرها ببيع الجملة، وذلك؛ لأنها من الجملة قدرنا أن إنسانا اشترى أنه قبل كما يعبرون التقبيل فيثمنها بالذي تسوى ببيع الجملة، ولا ينظر إلى ثمنها الذي اشتراها به؛ لأنها تتغير.(1/181)
نعرف أن هذه هي أغلب أموال الناس التجارات الآن أغلب أموال الناس وهي التي تكون فيها الزكاوات كثيرًا. فلجميع أنواع التجار غالبًا تجاراتهم هي العروض فمنهم من تجارته بالعقار فيقدرها ويزكيها ومنهم من تجارته مثلًا في السيارات كأصحاب المعارض فيقدرها ومنهم من تجارته في قطع الغيار للسيارات ونحوها فيقدرها عند الحول، ومنهم تجارته مثلًا في الأدوات الكهربائية ومنهم من تجارته في الأكسية والألبسة ونحوها، ومنهم من تجارته في الأطعمة والمواد الغذائية، ومنهم من تجارته في الأواني والمواعين، وما أشبهها، ومنهم من تجارته في الفرش واللحف، وما أشبهها.
ومنهم من تجارته في الكتب والرسائل إلى غير ذلك كما هو معروف فلو أنا أسقطنا الزكاة عن هؤلاء قَلَّتِ المنفعةُ وقَلَّتِ الزكاةُ التي تصرف للمساكين ولم يأتهم إلا زكاة النقدين وهي قليلة ، أو زكاة المواشي، أو زكاة الخارج من الأرض فعلى هذا نعرف أنها زكوية يقينًا.
وقد أجمع على ذلك علماء الأمة ، علماء الأمة مجمعون على أن عروض التجارة فيها زكاة، ولا أعلم أحدًا خالف في ذلك قبل الشيخ الألباني -عفا الله عنه- فإنه نشر في بعض تعاليقه أن زكاة العروض لا تجب، وليس فيها زكاة واجبة وليس عليهم إلا أن يتصدقوا تبرعًا، فخالف الإجماع، وسبب ذلك أنه تكلم على حديث سمرة الذي رواه الحسن عن سمرة: " كان يأمرنا أن نُخْرِج الصدقة من الذي نُعِدُّ للبيع " فلما لم يكن هذا الحديث صحيحًا على شرطه كأنه لم يطلع على حديث آخر فيه زكاة العروض فقال: "إذا لم يثبت هذا الحديث لم يثبت في العروض حديث " فلا زكاة فيها من أراد أن يتصدق تصدق تطوعًا وإلا فلا " .(1/182)
وخالف الإجماع ثم خالف أيضًا الآيات الصريحة مثل قوله تعالى: { (((( (((( ((((((((((((( (((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( ((((( } أليست عروض التجارة هي أغلب الأموال؟ لا شك أنها أغلب أموال الناس قديمًا وحديثًا، والله قد أمر بالأخذ وكذلك قوله تعالى: { ((((((((((( (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((( } وفي آية أخرى { (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((( } .
أليس أموالهم تدخل فيها هذه الأموال التي هي عروض التجارة ؟ لا شك أنها بطريق الأولى أن تدخل فإذا أسقطنا منها الزكاة فماذا بقي؟ { (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((( } كذلك أيضًا ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث لأصحاب الأموال من يجمع الزكاة من التجار يقينًا . الحديث الذي في الصحيح عن أبي هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر على الزكاة، زكاة أهل المدينة، فجاء فقيل: منع ابن جميل ، وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب. -هؤلاء ماذا يملكون ليسوا أصحاب حروث ليس عندهم حروث- فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله " العادة أن الغني من كان فقيرًا فاستغنى الغالب أنه بالتجارة ثم قال: " أما خالد فإنكم تظلمون خالدًا إنه قد احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله ، وأما العباس فهي علي ومثلها معها " .
كل هؤلاء ما عندهم إلا التجارة لكن خالدًا عنده هذه الأشياء قد سَبَّلَها فعنده سيوف قد جعلها وقفًا وعنده دروع قد جعلها وقفًا للقتال ، وعنده رماح قد جعلها وقفًا، وعنده خناجر قد جعلها وقفًا ، فلم يكن عنده شيء يزكيه. هذه ما عرضها للبيع إنما أوقفها احتبس أدراعه وأعتاده وخيله ونحوها في سبيل الله، لم يجعلها تجارة فاعتذر عنها.(1/183)
وأما العباس فكان أيضًا يتعاطى بالتجارة لما هاجر إلى المدينة لم يكن عنده إلا التجارة ليس صاحب ماشية وليس صاحب بستان ما عنده إلا التجارة إذن فهذا دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل من يقبض من التجار الذين هم أصحاب التجارات يطلب منهم زكواتهم أليس ذلك دليل، ولكنه فات على الشيخ الألباني -عفا الله عنه- وجزم بذلك في تعليقه على هذا الحديث في تخريجه لأحاديث كتاب سيد سابق.
فالحاصل أن إجماع الأمة من كل مذهب على أن عروض التجارة فيها زكاة ، وأنها كل ما أعد للبيع والشراء، ولو لم يصح حديث سمرة فقد صح فيه فعل الصحابة، وصح العمل عليها حتى ذكروا أن عمر - رضي الله عنه - في خلافته مر عليه أحد الموالي يحمل جلودًا فأوقفه، وقال: هل أديت زكاتها ؟ فقال: ما عندي إلا هذه ولا تبلغ نصابًا جلود ذهب بها يبيعها لو بلغت النصاب لأخذ زكاتها دليل على أنهم يأخذون الزكاة من كل شيء يباع.
بعد ذلك تكلم على زكاة الدَّيْن ، ومن كان له دين ومال لا يرجو وجوده كالذي على مماطل أو معسر لا وفاء له فلا زكاة فيه، وإلا ففيه الزكاة.
الدَّيْن قسموه إلى قسمين تارة يكون على ملي يقدر صاحبه على أن يأخذه متى أراد ولكنه ليس بحاجته وتركه عند هذا الرجل، واعتبره كأمانة، سواء كان الذي هو عنده يتجر به أو قد أنفقه، أو نحو ذلك فهو ليس بحاجته فتركه عنده فهذا يزكيه كل عام؛ لأنه قادر على أخذه؛ لأنه مال مملوك له، واعتبر كأنه وديعة فيزكيه كما يزكي الودائع والأمانات، وكما تزكى الحسابات التي في البنوك وفي المصارف يعتبر كأمانة.
أما إذا كان الدين على مماطل أو على معسر فمثل هذا لا يزكيه؛ لأنه قد يبقى عشر سنين أو عشرين سنة ، ولو ألزمناه بزكاته لفني ، لأفنته الزكاة إذا كان مثلًا أنه في ذمته له خمسة آلاف وبقيت عشرين سنة كل سنة يخرج زكاتها من الألف خمس وعشرين فإنها تفنى شيئًا فشيئًا؛ فلأجل ذلك لا زكاة فيما كان على مماطل.(1/184)
يعني المماطل هو الذي عنده مال ولكنه لا يوفى. مماطل قد ورد في الحديث قوله -عليه الصلاة والسلام-: " مطل الغنى ظلم " مطله يعني تأخيره للوفاء ظلم ، المعسر هو الفقير الذي ليس عنده شيء قد أمر الله بإمهاله وإنظاره في قوله تعالى: { ((((( ((((( ((( (((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( } فإذا كان ليس عنده وفاء فلا زكاة فيه.
أما إذا رده إذا أوفاه فقيل إنه يستقبل به حولًا، والقول الآخر وهو الأقرب أنه يزكيه عن سنة واحدة ويعتبره كأنه ماله حال عليه الحول، وقبضه فيخرج زكاته عن سنة واحدة ولو بقي عشر سنين. هذا الدين الذي على مماطل أو على معسر. ويسأل أيضًا بعض النساء عن أنها قد تترك صداقها عند زوجها عشرين سنة أو ثلاثين سنة إما الصداق الذي يسمى مؤخر ، وإما أنها تتركه ليست بحاجة الزوج ينفقه. يستنفقه ويكتبه في ذمته. قد يكون قادرًا على الوفاء، ولكنها ليست في حاجته، فإذا أدخله في ماله، فإنه يزكيه في زكاة ماله، ويكتب لها رأس المال، فإذا طلبته أعطاها رأس المال بدون نقص، ولا يلزمها أن تزكيه وهو عنده، وهي لا تنتفع به ؛ لأنه أدخله مع ماله زكاة مع جملة ماله .
قوله: ويجب الإخراج من وسط المال، ولا يجوز من الأدْوَن ولا يلزم الخيار إلا أن يشاء ربه. لعله يريد بالمال هنا المواشي أو الثمار والحبوب ونحوها. أن الزكاة تكون من الوسط وقد تقدم في حديث أنس قوله: " ولا يخرج في الزكاة هرمة ولا ذات عوار ... " لأن فيها ظلما للمساكين، إذا أخرج هرمة وسَقَط المال والدون منه ففيه ضرر على الفقراء؛ لأنهم ما آتاهم شيء ينتفعون به، وكذلك لا يخرجون من خياره إلا إذا اختار، العامل لا يلزمهم أن يأخذ من خيار المال ونفائسه فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: " فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " .(1/185)
فقوله: " كرائم أموالهم " يعني نفائسها فلا يأخذ الشاة اللبون أو مثلًا الشاة السمينة ونحوها أو بنت لبون سمينة من خيار المال، ومن نفائسه ولا يأخذ الهزيلة والضعيفة والمريضة وما أشبهها لا من الخيار ولا من الأدون بل من الوسط وكذلك يقال في الثمار مثل التمور.
التمور منها ما هو خيار قيمة الكيلو مثلًا عشرين ريال أو ثلاثين كالسكري ومنها ما هو دون قيمة الكيلو نصف ريال أو قريبًا منه، ومنها ما هو وسط قيمته خمسة ريالات أو ثلاثة ريالات أو نحو ذلك وهو الغالب فيأخذ من الوسط، تدفع الزكاة من الوسط لا من الخيار ، الذي يضر المالك ولا من الأدون الذي يضر الفقراء، فإن اختار صاحب المال وأخرج من خياره فقد أجزأ ذلك.
قوله - صلى الله عليه وسلم - " وفي الركاز الخمس " .
الركاز ما وجد من دفن الجاهلية فيه الخمس قليله وكثيره يعني إذا عثر على كنز مدفون في الأرض، وعرف أنه للكفار سواء الذين قبل الإسلام أو كفار من غير العرب كالذي يوجد مثلًا مجهولًا مكنوزًا قديمًا يرى عليه أنه ليس للمسلمين أما إذا رؤي أنه من علامات الإسلام وجد عليه ذكر اسم الله أو ذكر اسم دولة إسلامية، فإن هذا الكنز يعتبر لقطة يعمل به كما يعمل باللقطة، وأما إذا عرف أنه من دفن الجاهلية أو من دفن الكفار، فإنه يلحق بالغنائم التي يغنمها المسلمون من الكفار، ومعلوم أنه يخرج منها الخمس من القليل أو الكثير؛ لقوله تعالى: { ( (((((((((((((( ((((((( ((((((((( (((( (((((( (((((( (( ((((((((( } إلى آخرها فيصرف كمصرف الفيء الذي ذكر الله.
نواصل القراءة:
باب زكاة الفطر(1/186)
عن ابن عمر قال: " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة " متفق عليه . وتجب عن نفسه وعمن تلزمه مؤنته إذا كان ذلك فاضلًا عن قوت يومه وليلته ، صاعًا من تمر أو شعير أو أقط أو زبيب أو بر.
والأفضل فيها الأنفع ولا يحل تأخيرها عن يوم العيد وقد " فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " رواه أبو داود وابن ماجه.
وقال - صلى الله عليه وسلم - " سبعة يظللهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه " متفق عليه.
ألحق الفقهاء هذا الباب بالزكاة؛ لأنه مال يدفع للمساكين فهو شبيه بالزكاة وبعضهم يلحقه بالصيام؛ لأنه سببه؛ لأن الصيام سببه ، ولكن الأولى إلحاقه بكتاب الزكاة سميت زكاة الفطر تسمية بسببها أي سبب وجوبها هو الفطر من رمضان. صدقة يتصدق بها في آخر رمضان في حديث ابن عمر يقول: " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... " كلمة فرض قيل المراد بها الفرض الذي هو الإيجاب يعني أوجبها وألزم بها، وقيل فرضها يعني قدرها.
الفرض: التقدير ومنه سميت الفرائض؛ لأنها مقدرة يعني أنصبة مقدرة أي: قدر زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير.(1/187)
اقتصر هنا على صفتين التمر والشعير، وذلك لأنهما الأغلب يعني في ذلك الزمان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - التمر متوفر؛ لأن المدينة ذات نخل ، والشعير متوفر ؛ لأنه أقل ثمنًا، وكانوا فقراء يشترون ما هو أقل ثمنًا وإلا فالبر موجود، ولكنه أرفع ثمنًا على العبد والحر والذكر والأنثى والكبير والصغير من المسلمين يعني وجوبها على كل فرد من المسلمين، ولهذا قال: " عمن تمولون ... . " في بعض الروايات ، أي: عمن تنفقون عنهم فيخرج الزكاة زكاة الفطر عن أهل بيته وعن مماليكه، إذا كان عنده مماليك وعن أولاده ذكورًا وإناثًا صغارًا وكبارًا وعن زوجته وعمن ينفق عليهم من أبويه أو إخوته أو نحوهم وتختص بالمسلمين، من المسلمين.
فإن كان عنده مملوك ليس بمسلم فلا زكاة عليه لا فطرة عنه، ومثله في هذه الأزمنة الخدام. الخادمة النصرانية والبوذية وكذلك السائق، وكذلك الخادم إذا كان عنده غير مسلم لا يصوم ولا يتطوع يستخدمه بأجره في قيادة سيارة أو في تجارة أو حرفة أو نحو ذلك ، ولو كان ينفق عليه، فإنه لا زكاة له، لا فطرة عليه. هكذا قال من المسلمين.(1/188)
يقول: وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، يعني هذا وقتها، الأفضل في وقتها يوم العيد، قبل الصلاة، يؤدونها إلى مستحقيها، لكن رخص بأن تقدم قبل العيد بيوم أو يومين، فإن حصرها في صباح العيد قبل الصلاة فيه شيء من الضيق، ولكن هو الأفضل إذا تيسر، يقول تجب عن نفسه، وعمن تلزمه مئونته، يعني عن كل من ينفق عليهم طوال رمضان حتى ولو متبرعًا، إذا أنفق على بعض جيرانه مثلًا أو على بعض أصدقائه نفقة رمضان كلها، يعني سحورًا وفطورًا وعشاء، فإنه يخرج عنهم، عمن تلزمه كلمة تلزمه تدل على أنها خاصة بمن تلزمه، وأما إذا تبرع، فإنه لا يلزمه ذلك، ولكن يستحب له لعموم قوله: عمن تمولون، ولا بد أن يكون عنده ما يفضل عن قوت يومه وليلته، فإذا كان القوت لا يقدر على شيء، وإنما عنده قوت يوم العيد وليلة العيد أو وصباح العيد، فليس عليه شيء ليس عليه فطرة؛ وذلك لأن الفطرة مواساة، وهذا فقير فإذا ملك صاعًا زائدًا على قوت يومه وليلته أخرجه، الفطرة صاع من تمر أو من شعير أو من أقط أو زبيب أو بر، يختار كثير من الصحابة التمر؛ لأنه أسهل تناولًا، ثم البر لأنه أغلى ثمنًا، وأنفع يعني في ذلك الزمان، الزبيب في هذه الأزمنة قد يكون أرفع قيمة الكيلو مثلًا يساوي سبعة، والأقط قد يكون أيضًا أرفع، ولكنه قليل وقليل أيضًا من يقتاته، الشعير يجزي، ولو كان في هذه الأزمنة لا تأكله إلا الدواب كعلف.
الأفضل فيها الأنفع، يعني ما كان أنفع للفقراء. يقول: لا يحل تأخيرها عن يوم العيد؛ لأنه مر بنا أن من أخرها فإنها تعتبر صدقة من الصدقات يقول: فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحكمة: طهرة للصائم من اللغو والرفث؛ لأن الصائم قد يعترض في صيامه شيء من اللغو والرفث فتكون طهرة له.(1/189)
اللغو: الكلام السيئ والرفث الكلام المتعلق بالعورات وطعمة للمساكين. ورد في الحديث أنه قال: " أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم " لأنه يوم فرح ويوم ابتهاج، والفقراء عادة يضطرون إلى أنهم يطوفون يسألون الناس قوت عيالهم، فيشرع في هذه الليالي ليلة العيد أو ليلة قبلها أن يتصدق الناس على كل فقير، ويغنوهم عن السؤال حتى لا يذلوا أنفسهم يوم العيد وما بعده. " من أداها قبل الصلاة قبل صلاة العيد، هي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات " هكذا رواه أبو داود وابن ماجه وفي بعض الروايات أنها تجزي في يوم العيد؛ ذلك لأنه وقتها فإذا أداها تعتبر صدقة، ولكنها أيضًا مجزئة عنه، فإن كثيرًا من الناس قد لا يتمكن من أداها في يوم العيد ولا في ليلة العيد ، قد لا يتمكنون فتجزي كثيرا من الناس أيضا قد تفوته. قد يفوته يوم العيد لم يخرجها فيه فيقضيها بعده مع إثمه بالتقصير.
أورد المؤلف حديث أبي هريرة: " سبعة يظلهم الله في ظله " الشاهد منه السادس: قوله: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " القصد من هذا الحث على صدقة التطوع. الخصال الباقية ليس هذا موضع شرحها. الحديث مشتمل على هؤلاء السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، وفي بعض الروايات في ظل عرشه حينما يشتد الحر في الموقف، فيظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، هؤلاء منهم هذا الذي هو صاحب الصدقة تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه .(1/190)
والمراد بالصدقة هنا صدقة التطوع ففيه الحث على صدقة التطوع، وقد اختلف أيما أفضل الإسرار بها أو إظهارها؟. الله تعالى ذكر ذلك فقال تعالى: { ((( ((((((((( (((((((((((( ((((((((( (((( ((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((((((((( (((((( (((((( (((((( } فإظهارها قد يكون فيه مصلحة. المصلحة هي ألا يظن بهذا الإنسان البخل، فإنه لو مثلًا لم يره أحد يتصدق؛ لقالوا: هذا بخيل لا يخرج شيئًا، يمنع الحقوق. يمنع الصدقات، وقيل: إن في إظهارها وإشهارها حثا للناس على المسابقة إلى الصدقة. إذا علموا أنه تصدق فلان بكذا، فإن الآخرين أيضًا يقولون لماذا لا نتصدق مثله؟ فيتصدق الثاني والثالث وهلم جرا، فيكثر الذين يتصدقون على المساكين، وإن كان ذلك فيه شيء من المنافسة، ولكنها منافسة صالحة، أما إذا خاف على نفسه الرياء، فإنه لا يجوز أن يظهرها مراءاة، قال الله تعالى: { ((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((( (((((((( } يعني مراءاة الناس، وهي هذه الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار، أنه يقول: " ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيه، فقال الله كذبت، وقالت الملائكة كذبت، ولكنك تصدقت ليقال: جواد " فقد قيل أو ليقال: كريم، يعني ما تصدق إلا أن يمدح بين الناس، ويقال هذا كريم هذا سخي هذا منفق، هذا جواد، فليس له إلا ما نوى .
أما إذا أمن نفسه أنه لا يزيده مدح الناس ولا ذمهم، ورأى أنه إذا أظهرها اقتدى به غيره ، فإنفاقها جائز للآية الكريمة: { ((( ((((((((( (((((((((((( ((((((((( (((( } وقد كان كثير من السلف، بل وكثير من أبناء الصحابة يحرصون على إسرار الصدقة حتى إنهم يعطون الفقراء وهم لا يشعرون، يعني يعطونهم من الصدقة من الأقوات وما أشبهها، ولا يدري الفقير من أين يأتيه هذا المال، وهذا القوت وهذا الغذاء ونحوه لحرصهم على إخفاء الصدقات الذي هو أبلغ في الإخلاص وأبعد عن الرياء. لنقف هنا !(1/191)
وهنا بعض الأسئلة يرغب بعض أهلها أن نجيب عنها ما بيننا وبين حلول وقت الأذان.
" بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
س: فهذا أخ يقول: فضيلة الشيخ يوجد كثير من الناس يشتري أرضًا ويعرضها للبيع، وقبل أن يحول عليها الحول يبيعها ويشتري أرضًا أخرى، وهكذا فكيف يزكي مع أنه يعترف بأنه يعمل هذا العمل للتخلص من الزكاة؟
ج: لا يجوز الفرار من الزكاة، فإذا كان يعمل هذا العمل، فإنه يزكي قيمة الأرض الثانية التي اشتراها إلا إذا جزم بأنه سيعمرها، فتسقط زكاتها، أما إذا اشترى أرضًا لأجل الربح في قيمتها، ثم بقيت نصف سنة، ثم باعها واشترى بثمنها أرضًا أخرى؛ لأجل الربح فيها فإذا حال الحول يزكي قيمة الأرض الأخرى، ولو لم تبع .
أما إذا ما عرضها للبيع، بل اشتراها وتركها قال لا حاجة لي في ثمنها، ولست بائعًا لها، وأتركها إلى أن أحتاج ثمنها أو أعمرها أو نحو ذلك فلا زكاة فيها.
س: وهذا يقول: من كان يبيع سيارات بالتقسيط، فكيف يزكي قيمة السيارة إذا حال عليها الحول ؟
ج: يعتبر هذا من أصحاب الديون، فيزكي الدين الحال ويزكي ما وصل إليه من الأقساط، أما الدين الذين لم يحل ولا يستطيع أن يأخذه قبل حلوله فلا يزكيه حتى يقبضه أو حتى يحل.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، إني أشرف سنويًا على زكاة الفطر في أحد الجوامع في أحد الأحياء القديمة، وقد سجلت عندي أسماء العوائل المستحقة لزكاة الفطر، وأنا أعطيهم ما يكفي العائلة لمدة سنة كاملة حسب ترتيب أعمل به، ولكن اكتشفت بعض العوائل تقوم ببيعه، والسؤال هنا:
هل يجوز لآخذ زكاة الفطر ألا يقوم ببيعه، وهل يعطى في السنة القادمة ؟. أفيدونا جزاكم الله خيرًا.(1/192)
ج: يجوز بيعها ما دام أنه يأتيهم صدقات زائدة عن قدر قوتهم وعن قدر حاجتهم، وأنهم بحاجة إلى أشياء أخرى ككسوة ونحوها، فلا مانع من أن يبيعه، ولكن ينظر في من هو أشد حاجة. عرفت مثلًا أن هؤلاء يأتيهم ما يكفيهم وأنهم يبيعون الزائد، فاطلب أناسًا آخرين بحاجة يعني تتحقق أنهم يأكلون هذه الصدقة وينفقونها على عيالهم ولا يبيعونها، بل يأكلونها هذا هو الأفضل.
س: وهذا يقول: ما سقي بمياه الصرف الصحي المنقاة هل يسمى عثريًا ؟
ج: ما دام أنه يسقى بلا مئونة، فإنه يعني يعتبر عثريًا أو يعتبر مسقيًا بلا مئونة. ما سقى بالسماء أو بالعيون أو كان عثريًا.
س: وهذا يقول: لدي محل قطع غيار سيارات، وأشتري من التجار بسعر جملة، وأبيع بسعر القطعة الواحدة، فهل تكون الزكاة بسعر جملة وقت الزكاة أو بسعر القطعة الواحدة أرجو الإجابة ؟
ج: بسعر الجملة، لو تبيعها أنت بالجملة هناك فرق بين بيعك وشرائك، فمثلًا أنت تشتري بالجملة القطعة بمائة، ثم تبيعها بالتفريد القطعة بمائة وعشرين، ولو مثلًا جاءك من يشتري جملة، وأنت اشتريت بمائة ما تبيع بمائة، رأس مالك، بل لا بد أن تربح، فتقول أبيع بمائة وعشرين لأجل الجملة أو أبيع بمائة وعشرة؛ لذلك نقول: قدرها بما تبيعه أنت بالجملة، لا ما تشتريه فرق بين شرائك وبيعك.
س: وهذه امرأة تقول: إنها ورثت عن أبيها، ولكن هذه الأموال لم تحصل عليها إلا بعد سنتين أو ثلاث سنين نتيجة لأنها عقار تأخر بيعه، فهل تزكي أم لا ؟ وهل تزكي سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات والله يحفظكم ؟
ج: تزكي سنة واحدة كالديون التي ذكرنا أنها إذا قبضت زكيت عن سنة واحدة إذا كانت على مماطل أو معسر، نعتبر أن هذا مال لم يقدر صاحبه على تحصيله، فإذا قدر على تحصيله، وكان قد ملك اعتبرناه قد حال عليه الحول من زمان، فيؤدي زكاته سنة واحدة.(1/193)
س: وهذا يقول: هل يجوز لمن عنده نخل، ويخرج زكاته من ثمن بيع الثمرة إذا باعها، ولا يخرجها من الثمرة فهل يجوز ذلك ؟
ج: قد اختلف في إخراج القيمة، والصحيح أنه جائز إذا باعها؛ لأن -الآن- كثيرًا من أهل النخيل يبيعونه رطبًا، وكذلك أهل العنب يبيعونه عنبًا، فيقولون ما بقي عندنا شيء نخرج الزكاة منه إلا قوتنا الذي ادخرناه لأولادنا والبقية بعناه بقيمة كذا وكذا، فالأفضل الأصل أنهم يخرجون قيمته. يخرجون الزكاة من القيمة. نعم.
س: وهذا يقول: بعض الناس في بعض البلاد يخرجون زكاة الفطر نقودًا فما حكم ذلك ؟
ج: نحن نقول: لا يجزئ. هو جائز في مذهب الحنفية، يعني إخراج القيمة، والجمهور على أنه لا يجزئ؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرضها من الطعام مع أن النقود موجودة في زمانه، فلو كانت جائزة لأمر بأن يتصدق بها أي بالقيمة، فلما لم يأمر بها وجعلها طعامًا تعين الطعام، وذكرنا أنه ورد التحديد في خمسة أنواع، يختار بعض المشايخ وبعض العلماء أنها تخرج من قوت البلد من غالب القوت المعتاد نعم.
س: وهذه امرأة تقول: إنها لم تزكي حليها خمس سنوات، وهي الآن تريد أن تزكي فماذا تعمل ؟
ج: ذكرنا أن في المسألة خلاف بالأمس، وأن هناك من يرى وهناك من ألف كتبًا في أنه لا زكاة فيها في الحلي، ولما كان فيها هذا الخلاف، نقول: عفا الله عما سلف، وعليها أن تستقبل الزكاة في المستقبل، ولا يلزمها أن تزكي السنوات الماضية، لأنه قد يضر بها إذا ألزمناها أن تخرج زكاة عشر سنين أو عشرين سنة، قد يكلفها فتخرج زكاة سنة واحدة هذه السنة وما بعدها.
س: وهذا يقول فضيلة الشيخ عندي أرضين، إحداهما في منطقة من الرياض ومقدم بواحدة منها على البنك العقاري، وأرغب في بيعها وشراء أرض في منطقة أخرى مستقبلًا، إن شاء الله وقد أقوم ببناء إحداهما في المستقبل، إذا كان الحي صالحا للسكن، فهل أزكي الأرضين أم أزكي واحدة فقط وأيهما أزكي؟. أرجو الإجابة.(1/194)
ج: ما دام أنك لم تعزم على البيع وأنك قد رهنتها عند البنك فنرى أنها لا زكاة فيها، فإذا عزمت على البيع وبدأت الإعلان عنها، وعزمت على بيعها نرى أنه تبدأ الحول في ذلك الوقت، فتخرج زكاتها من حين إذا تم الحول، أما التي لم تعدها للبيع أو أنت متردد أو عازم على عمارتها، فإنه لا زكاة فيها.
س: وهذا يقول: توفي أبي -رحمه الله- وله نخل قيمة تمره، يقوم بستة آلاف تقريبًا، وهذا المال سيوزع بين الورثة فهل فيه زكاة ؟
ج: نعم هذا يعتبر من المال الزكوي التمر فيه زكاة، وإذا كان يبلغ هذا المبلغ ففيه الزكاة، ولو كان سوف يوزع. الأصل أنه لا تسقط الزكاة منه، وقد بلغ هذا المبلغ.
س: هذا يقول ما حكم من يشتري سيارة بالتقسيط بسعر زائد على سعرها المعروف ثم يبيعها لرجل آخر نقدًا بسعر أقل من أجل أن يحصل على سيولة لعمل مشروع ما ؟
ج: هذا هو الدين ويسمى التورق يعرف عند الفقهاء بالتورق، وهو أن يشتري السلعة لا لاستعمالها، ولكن ليبيعها وينتفع بالورق الذي هو الدراهم، وقد منعه بعض العلماء كابن القيم وغيره، وقالوا: التورق أخية الربا، ولكن الجمهور على جوازه للضرورة؛ لأنه ليس كل أحد يجد من يقرضه، ولأنه قد يحتاج، ويضطر إلى وفاء دين، أو إلى زواج أو إلى شراء سكن نقدًا، وله دخل لا يكفي، فيشتري هذه السلعة كالسيارة مثلًا ويبيعها، ويقسط ثمنها، يشتريها مثلًا بثمانين ألف، وهي تساوي ستين، يبيعها بستين، ثم ينتفع بالستين، ويقسط الثمانين.
هذا من الضروريات جائز للحاجة.
س: وهذا يقول: أنا وضعت أموالي في مساهمة عقارية، فهل فيها زكاة وكيف أزكيها؟
ج: ينظر في هذه المساهمة، هل أعلن عن بيعها، وابتدئ في البيع أم أن الذين اشتروها جمدوها، وقالوا: لا نبيعها حتى تصل إليها الرغبة أو نحو ذلك، فكأنهم لا يريدون بيعها إلا بعد سنة أو سنتين، ففي مثل هذه الحال نرى أنها لا زكاة فيها حتى تعرض للبيع.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ هل في الماس زكاة ؟(1/195)
ج: يظهر أن جميع ما يتحلى به من ذهب أو فضة أو الماس أو لؤلؤ أو جواهر نفيسة أو نحو ذلك ملحقة بالحلي، فيكون فيها الزكاة كما أن في الحلي الذي هو الذهب والفضة الزكاة على ما أختاره مشايخنا.
س: وهذا يقول: اشتريت سيارة أهِمُّ بالتجارة بها تارة ثم أهم باستعمالها تارة، ولم أبعها لي سنتان، فهل فيها زكاة ؟
ج: ليس فيها زكاة حتى تعرضها للبيع، أما إذا كنت مثلًا تستعملها، أو لم تعرضها للبيع، ولم تعزم على بيعها، فليست من عروض التجارة.
س: وهذا يقول إذا أخذت زكاة الفطر، فهل يجوز لي أن أزكي عني وعن أولادي منها ؟
ج: نعم يجوز الفقير إذا اجتمع عنده أموال من الزكاة من زكاة الفطر أخرج زكاة عياله منها لأنه ورد في الحديث " أما غنيكم فينفق من ماله، وأما فقيركم أو الفقير فيأتيه أكثر مما يخرج أو مما ينفق " والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
س: ضمن قسم العبادات الزكاة، وهي عبادة مالية قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، قد تقول: إن العبادات مشتقة من التعبد الذي هو التذلل، فإن العبادات البدنية فيها تذلل كالصوم والحج والصلاة والجهاد وما أشبهها يعني، تذلل وخضوع، فكيف يكون التذلل في الزكاة؟.
ج: أن الإنسان يحرص غالبًا على اكتساب المال وعلى جمعه، ليسد به حاجته، وليغني به فاقته، فإذا علم أن لله تعالى فيه حقًا، فإنه يخرج ذلك الحق تقربًا إلى الله، فعند إخراجه يشعر من نفسه بأنه متذلل ومستضعف، وأنه بحاجة إلى أن يجزل الله أجره، ويعظم ثوابه، ويكثر الأجر الذي يترتب على هذه العبادة، فيكون بذلك متعبدًا لله، ولو كانت عبادة مالية .(1/196)
والمال فيه أنواع كثيرة من العبادات، ففيه إنفاقه في الجهاد عبادة وإنفاقه في الحج إذا حج بنفسه، وأنفق من ماله أو أنفق على الحجاج عبادة، كذلك إنفاقه في الكفارات عبادة ، إنفاقه في الوفاء بالنذور عبادة كذلك أيضًا إنفاقه على الأولاد عبادة إذا احتسب الأجر لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنك لن تنفق نفقه تحتسبها إلا أجرت عليها حتى اللقمة تضعها في في امرأتك " فنفقته على زوجته ونفقته على أبويه ونفقته على أولاده ، ونفقته على نفسه، يعتبر كل ذلك من العبادات، فعرف بذلك أن العبادات ليست خاصة بالعبادات البدنية، بل تلحق بها العبادات المالية ، وقرأنا في كتاب الزكاة ما يتعلق بفرضيتها، والأصناف التي تجب فيها وهي الأربعة بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة، وقرأنا أيضًا زكاة الفطر وسبب تسميتها ومقدارها .
والآن نواصل القراءة من حيث وصلنا:
باب أهل الزكاة ومن لا تدفع له
وقال -رحمه الله-: باب أهل الزكاة، ومن لا تدفع له.(1/197)
لا تدفع الزكاة إلا للثمانية الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: { ( ((((((( (((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((((((( (((((((((((((((( ((((((((( (((((((((((((((( ((((((((((( ((((( ((((((((((( (((((((((((((((( ((((( ((((((( (((( ((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((( (((((( ((((((( ((((((( (((( } ويجوز الاقتصار على واحد منهم، لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ، " فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " متفق عليه ولا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب ولا لآل محمد، وهم بنو هاشم ومواليهم ولا لمن تجب عليه نفقته وقت جريانها ولا لكافر، فأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وغيرهم، ولكن كلما كانت أنفع نفعًا عامًا أو خاصًا، فهي أكمل، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من سأل الناس أموالهم تكثرا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقل أو ليستكثر " رواه مسلم، وقال لعمر - رضي الله عنه - " ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لَا فلا تتبعه نفسك " رواه مسلم.
هذا آخر أبواب الزكاة، في أهل الزكاة، وفيمن لا تحل له الزكاة، وفي صدقة الفطر، وكذلك في حكم التسول، لا تدفع الزكاة إلا للثمانية الذين ذكرهم الله في هذه الآية، ثبت أن رجلًا جاء يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزكاة فقال: " إن الله لم يرضى فيها بقسمي ولا بقسم أحد حتى تولى قسمها، فإن كنت من أهلها الذين سماهم الله أعطيناك " وثبت بهذا أن الله تعالى هو الذي تولى قسم الزكاة كما أنه الذي فرض الفرائض، فيقتصر على هذه الأصناف .(1/198)
كلمة "إنما" تفيد الحصر، أي لا تصلح إلا للأصناف الثمانية المذكورة، بدأ الله -تعالى- بالفقراء والمساكين؛ وذلك لأنهم الأغلب والأكثر ، ولأنه قد يقتصر عليهم فالفقراء أشد حاجة، ذلك لأن الفقر مشتق من الفقار الذي هو انكسار الظهر، والظهر يسمى فقارًا وكأن الفقير من شدة حاجته مكسور الظهر بحيث لا يستطيع تكسبًا، ولا يستطيع تقلبًا، وأما المسكين فإنه مشتق من السكون؛ وذلك لأنه لحاجته كأنه ساكن الحركة، لا يستطيع تقلبًا ولا تكسبًا .
فإذا ذكرا معًا الفقير والمسكين، فالفقير أشد حاجة، قال بعضهم: إنه الذي كسبه يكفيه أقل من نصف المدة، أقل من نصف الشهر، إذا كان راتبه مثلًا أو دخله من صنعة أو نحوها، يكفيه أربعة عشر يومًا، أو ثلاثة عشر يومًا، أقل من نصف الشهر، سميناه فقيرًا بقية الشهر يقترض، وبقية الشهر يتصدق عليه، فإذا كان يكفيه دخله عشرين يومًا أو ثمانية عشر أو نحو ذلك أقل من الشهر سميناه مسكينًا بقية الشهر، يقترض أو يتصدق عليه هذا تفريقهم بين الفقير والمسكين .(1/199)
وكثيرًا ما يذكر الله تعالى الفقراء يحث على الصدقة عليهم، ويصفهم بأوصاف يستحقون بها الصدقة، قال تعالى: { ((( ((((((((( (((((((((((( ((((((((( (((( ((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((((((((( (((((( (((((( (((((( } فاقتصر على الفقراء، ثم قال للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض إلى آخر الآية، واقتصر على الفقراء ، وفي آية أخرى قال تعالى: { (((((((((((((( (((((((((((((((( ((((((((( ((((((((((( ((( ((((((((((( } إلى آخره ، اقتصر على الفقراء في هذه الآيات، وقد يقتصر أحيانًا على المساكين، كقوله تعالى: { (((( ((((((((((( (((((( ((((((( ((((((((((((( (((( } { (((( (((((( (((((( ((((((( ((((((((((((( (((( } { (((( (((((((((( ((( (((((((((( (((( } { ((((((((((((((( ((((((((( (((((((( (((((((((( } { ((((( (((( (((((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( } هاهنا اقتصر على المساكين، ولا شك أنه يدخل فيهم الفقراء، فإنهم أولى بالإطعام، وأولى بالصدقة، ولكن نظرًا للأغلب، فإنه إذا اقتصر على المساكين دخل فيهم الفقراء، وإذا اقتصر أيضًا على الفقراء دخل فيهم بالتبعية المساكين .(1/200)
أما العاملون عليها فهم الجباة الذي يجمعونها، يجبون الزكاة ويجمعونها من أهلها، ويسمون العمال والعاملين إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يبعث من يجبي الصدقات من أهلها، وبالأخص من البوادي؛ وذلك لأن أغلب أموال الناس في ذلك الزمان بهيمة الأنعام، فكانوا يحتاج إلى من يذهب إليهم ليجمعها، فيعطي الذين يذهبون أجرتهم أو حقًا مقابل تعبهم ومقابل عملهم، ولكنه يحثهم على الأمانة، يحثهم على ألا يخونوا وألا يخفوا شيئًا من الصدقة، فتارة يفوضهم ويقول لهم: أعطوا من رأيتم مستحقين للزكاة من الفقراء، فإذا أتيتم إلى البوادي هذا غني عنده زكاة غنم وإبل، وهذا فقير ليس عنده شيء، فلكم أن تأخذوا من هذا الغنى وتعطوا هذا الفقير، وما بقي معكم، فإنكم تأتون به إلينا لنتولى توزيعه ونعطيكم حق أتعابكم وأجرتكم، يحثهم على ذلك، ورد في حديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هدايا العمال غلول " .(1/201)
ومعناه أن العامل لا يقبل هدية من أحد عن الزكاة، وكذلك لا يقبل ضيافة مخافة أنه إذا قبل ضيافة، أو قبل هدية يتغاضى عن صاحبها، وإذا لم يُهد له أو لم يكرمه، ولم يضيفه ظلمه وزاد عليه، وأخذ منه ما لا يستحق، بل يكون عفيفًا، يكون بعيدًا عن أن يستضيف أحدًا أو يقبل من أحدهم هدية، فإذا أهدي إليهم فلا يقبلوا الهدايا، وفي قصة ابن اللتبية بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - مزكيًا للأغنام والإبل، فجاء وقال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقام خطيبًا، وقال: " ما بال أحدكم نبعثه على ما ولانا الله، فيأتي ويقول: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا " ثم أخذ يوبخهم على عدم الغلول، فقال: " لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء فيقول يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك شيئًا قد أبلغتك ، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة لها ثغاء " وأخذ يعدد من أصناف المال، فكأنه يعرض بأن هذا الفعل يعتبر غلولًا، والله -تعالى- يقول: { ((((( ((((( ((((((((( ((( (((((( ((((( (((((((( (((((( ((((( (((( (((((( ((((((((((((( } يعني عقوبة له أنه يحمل ما غله ، ويأتي به حتى يتمنى التخلص منه، فاعتبر هذا هدية ، واعتبره غلولًا كيف كان غلولًا، وهو هدية أو كيف كان ظلمًا، لأنه إذا أهدى إليه تغاضى معهم .(1/202)
فإذا جاء إلى أناس وزكاتهم مثلًا ، زكاتهم عشر من الغنم وخمس من الإبل المتوسطة ، فأهدوا إليه شاة أو ضيفوه ، وأكرموه ، فإنه يستحي منهم فيأخذ من الغنم رديئها ومن الإبل رديئها ، يأخذ منهم دون ما يجب عليهم؛ لأنهم أكرموه وأهدوا له، فبدل ما يأخذ الشاة التي قيمتها أربعمائة، يأخذ ما قيمتها مائتان، وهكذا أليس هذا ظلم للفقراء، هذا اعتبر غلول، فإذا إذا لم يقبل هديتهم، فإنه يأخذ الواجب، وقد تقدم أنه يأخذ الأوسط ، فلا يأخذ الأردأ والأدون، ولا يأخذ الخيار والنفيس ، فإذا كان هذا العامل مثلًا إذا لم يهدوا له، ولم يكرموه ظلمهم وأخذ كرائم أموالهم اعتبر ظالمًا، وإذا أكرموه وأهدوا له تغاضى معهم، وأخذ رديء أموالهم ظلم الفقراء، فهذا ما يستحقه العامل .
في زماننا هذا الحكومة -أيدها الله- تفرض للعمال رواتب، تفرض لهم الراتب شهريا كسائر الموظفين، فإذا كان كذلك فإنه لا يحق لهم أن يخفوا شيئًا من هذه الزكوات، بل يعتبرون كوكلاء يجمعونها ويدخلونها لبيت المال، ولا يحل لهم منها شيء لا قليل ولا كثير؛ وذلك لأن الحق الذي فرض الله لهم، إنما هو إذا لم يكن لهم شيء مسمى من الدولة، فإذا قال لهم: لا نعطيكم شيئا، ولكن خذوا حقكم مما تجمعون خذوا قدر ما تستحقونه من إعاشتكم ومن مكافأتكم ، لم يفرض لهم شيئًا، فيأخذون بقدر حقهم، لا ظلم على العامل، ولا ظلم على الموكل . أما إذا فرض لهم، فليس لهم أن يتجاوزوه .(1/203)
الرابع: المؤلفة قلوبهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة قلوبهم تأليفًا لهم، إما قائد يرجى إسلامه أو يرجى إسلام نظيره، أو يرجى كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو يرجى أنه يتولى جباية الزكاة من قومه، إذا لم يعط فإنه لا يجبي الزكاة، بل يجحدها أو يمنعها، فهؤلاء رؤساء في قومهم سادة مطاعين يعطون تأليفًا لهم حتى يؤمن شرهم، ويكف وحتى يقوى إيمانهم وحتى يكونوا ناصحين ومخلصين لولي الأمر هذا سبب إعطائهم ، لما كان في عهد عمر - رضي الله عنه - وقوي الإسلام وتمكن، وصار القادة والسادة الذين في أول الإسلام يخاف من شرهم ، صاروا كأحاد الناس، لم يعطهم من الزكاة، وقال إن الله قد نصر الإسلام، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر .
تذكرون قصة عيينة بن حصن لما وفد إلى المدينة، وكان ابن أخيه الحر بن قيس من جلساء عمر - رضي الله عنه - وكان جلساء عمر، هم القراء شبابًا كانوا أو شيبًا كانوا هم جلساءه، فقال عيينة لابن أخيه لك يد عند هذا الأمير، فاشفع لي حتى أدخل عليه، وكان قد اشتكى أن عمر لم يعطهم ما كان يعطيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليه فقال بصوت جهوري: هه يا ابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل ، كلمة نابية جافية من أحد أجلاف العرب، غضب عمر، وكاد أن يبطش به، ولكن ابن أخيه حثه على العفو، وقرأ عليه قول الله تعالى: { (((( (((((((((( (((((((( (((((((((((( (((((((((( (((( (((((((((((((( ((((( } فوالله ما جاوزها، وكان وقافًا لكتاب الله، عيينة بن حصن هذا كان من المؤلفة قلوبهم، أمير من الأمراء، هو والأقرع بن حابس في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لما انتصر على هوازن، وقسم غنائمهم قسم الإبل، فأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى أميرًا أو شاعرًا من شعراء بني سليم، وهو العباس بن مرداس أقل من المائة فأنشأ يقول:(1/204)
أتجعل نهبي ونهب العبيد
وما كان حصن ولا حابس
وما كنت دون امرئ منهما
بين عيينة والأقرع
يفوقان مرداسا في مجمع
ومن يخفض اليوم لا يرفع
يعرض لهذين الأقرع وعيينة، فدل على أنهما ممن كان يتألفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاء عهد عمر قطع هذا التأليف، وأسقط حقهم، اتصل بي مرة من البحرين أحد الجهلة من أهل السنة، ولكنه انخدع بمن عندهم من الرافضة الذين طعنوا في عمر، فقالوا: عمر أسقط حقًا في كتاب الله ، أسقط حق المؤلفة قلوبهم ، وهو في القرآن فجعلوا ذلك طعنًا طعنوا به في عمر - رضي الله عنه - فعجبت لهذا الذي صدقهم، فقلت له:- إن التأليف يستعمل عند الحاجة إليه، فهو ما طمس الآية ما طمس حقهم الذي في الآية، بل الآية موجودة، ولكنه رأى أن التأليف له مناسبة، وله وقت فإذا لم يحتج إلى التأليف لقوة الإسلام، فلا حاجة إلى إعطائهم لأن هذه الصدقات تجمع من الناس لمن يستحقها، وهؤلاء أثرياء وأغنياء لا حاجة إلى تأليفهم ما دام الإسلام قويًا.(1/205)
الخامس: قوله: { ((((( ((((((((((( } ويراد به المكاتبون ، العبد الذي يشتري نفسه من سيده بثمن مؤجل، ثم يخلي بينه ويبن الحرفة، فيبدأ يحترف، ويتكسب وكلما حل نجم أعطاه، فقد لا يقدر على تحصيل ذلك النجم أو ذلك القسط لتلك السنة لعجز أو لقلة مصالح، فيتصدق عليه يعطى من الزكاة، حتى يخلص نفسه، ويفك رقة، يجوز لمن كان عنده زكاة كثيرة أن يشتري رقيقًا ويعتقه؛ لأن هذا من الرقاب . السادس: { (((((((((((((((( } قسم الغارم إلى قسمين: غارم لإصلاح ذات البين، وغارم لنفسه لحاجته، والغارم لحاجته هو المدين الذي استدان، وتحمل دينًا لهذا ولهذا ولهذا، وكثرت الديون التي عليه، فلم يف بها ماله، ولو كان مظهره مظهر الأغنياء، ولو كان ينفق ويكرم مثلًا ويطعم ويلبس فاخر الثياب ويركب فاخر السيارات، وما أشبه ذلك، ولكن تراكمت عليه الديون، فلم يستطع وفاءها، فهو من الغارمين، ومع ذلك يرشد إلى أنه لا يحل له هذا الإسراف ما دام أنه مدين، وأن عليه أن يحرص على إبراء ذمته ووفاء الدين الذي عليه حتى لا يبقى مطالبًا بحقوق الناس .
قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الدين يعني، يحذر من أن الإنسان يستدين إلا لضرورة حتى أنه كان لا يصلي على الميت إذا كان عليه دين، لم يخلف عنه وفاء إلا إذا تحمله أحد أصحابه إلا في آخر الأمر كان يتحمل الديون عن الأموات، ويوفيها من بيت المال، ويقول: " أنا أولى بالمسلمين من أنفسهم، من ترك مالًا فلورثته ومن ترك دينًا فإلّى وعليّ " والحاصل أن الغارم ذكرنا أنه قسمان: الغارم لنفسه، وهو الذي يستدين، ولا يقدر على الوفاء، والثاني الغارم لإصلاح ذات البين .(1/206)
وصورة ذلك إذا وقع بين طائفتين قتال، جئت إليهم وأصلحت بينهم، وقلت: أنا أتحمل لكم أيها القبيلة بألف، وأتحمل لكم أيها القبيلة الأخرى بألفين على أن تسقطوا حقوقكم هذه الآلاف التي تحملتها، ما نكلفك تدفعها من مالك، ولو كنت ثريًا وغنيًا؛ لأن في هذا تكليفك بها فيه شيء من الإجحاف بأموال ذوي الجاه، فلذلك تستحق أن تأخذها من الزكوات في حديث قبيصة قال: " تحملت حمالة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أسأله من الزكاة فقال: اجلس عندنا حتى تأتينا الزكاة أو الصدقات، فنأمر لك بها " لأنه تحمل حمالة لإصلاح ذات البين .
السابع: قوله: { ((((( ((((((( (((( } أكثر العلماء على أنه يراد به الجهاد، أي أنه يصرف في سبيل الله، فيجهز به الغازي الذي ليس له راتب مثلًا، وكذلك أيضًا يدفع في العتاد، يشترى بالزكاة مثلا عتادًا كسلاح ودروع وأدوات للقتال، وما أشبه ذلك ونفقات للمقاتلين، إذا لم يكن لهم ما يكفيهم، كل ذلك داخل في سبيل الله، أكثر ما ترد هذه الكلمة للجهاد ، { (((( (((((((((( ((((((((( ((((((((( ((( ((((((( (((( } { (((((((((((( ((( ((((((( (((( ((((((((( (((((((((((((((( } ونحو ذلك .(1/207)
لكن ذكر بعض العلماء أن الكلمة عامة، وأن سبيل الله في الأصل هو كل أمر يوصل إلى رضاه، كل شيء يوصل إلى ما يحبه الله، فإنه من سبيل الله، فأدخلوا في ذلك كثيرًا من الأعمال الخيرية، فأدخلوا فيه بناء المساجد، وقالوا: هي من سبيل الله، وأدخلوا فيه بناء المدارس، وعمل القناطر وإصلاح الطرق مثلا التي يحتاج إليها المسلمون وليس هناك مالية تكفيها، وكذلك أيضًا القيام بالدعوة، الدعاة الذين ليس لهم قدرة على أن يتكفلوا بالدعوة، وكذلك المعلمون مثلًا عند الحاجة إليهم ومعلمو القرآن، وهكذا أيضًا نشر العلم الذي يدخل فيه مثلًا طبع الكتب ، وطبع الأشرطة الإسلامية وما أشبه ذلك ونشرها، فقالوا: هذه كلها داخلة في سبيل الله ، فإذا لم يوجد من يتبرع بها، فإنه يمول صاحبها من الزكاة هكذا قالوا، ولكن الأكثرون قالوا: لا تمول من الزكاة وليست من سبيل الله، فسبيل الله خاص بالمجاهدين وبالجهاد، وعلى كل حال إذا تعطلت هذه الأشياء، تعطلت الدعوة، وتعطل الدعاة، وتعطل نشر العلم، وتعطل حفظ القرآن وتحفيظه، ولم يوجد من يقوم بذلك، ولم يوجد من ينفق على ذلك إلا من الزكاة، فعند ذلك يجوز .
ولكن إذا وجد من يتبرع لبناء المساجد، ويتبرع بإعاشه الدعاة مثلًا، ويتبرع بطبع الكتب، وما أشبه ذلك، فإنها لا تصرف من الزكاة .
الثامن: ابن السبيل، عرفوه بأنه المسافر المنقطع الذي سافر من بلاده، ووصل إلى بلاد أخرى، ولكنه انقطع عن الوصول إلى أهله، ولم يستطع الرجوع إليهم، ولو كان له مال ، لو كان غنيًا في بلده، ولكن لا يستطيع أن يصل إليه شيء من ماله ، يتصور هذا في الأزمنة القديمة، أما في هذه الأزمنة، فإن في إمكانه أن يتصل بأولاده مثلًا، ويأمرهم بأن يرسلوا له مالًا بواسطة البنوك أو بواسطة المصارف، فيصل إليه ما يكفيه، ولكن إذا وجد منقطع سواء له مال في بلده، ولا يقدر عليه أو ليس له مال، فإنه يدخل فيه ابن السبيل .(1/208)
هذه الثمانية الأصناف يقول -رحمه الله-: ويجوز الاقتصار على واحد منهم، يعني لو كان عندك زكاة، فصرفتها كلها إلى الفقراء أجزأ، أو صرفتها للغارمين أجزأ أو صرفتها مثلًا لأبناء السبيل أو صرفتها للمجاهدين كلها، أجزأ ذلك لأنها وقعت موقعها، وذهب بعض العلماء إلى أنها تقسم ثمانية كل من كان عنده زكاة، فإنه يقسمها ثمانية أسهم حتى يعم الثمانية ، والصحيح أن ذلك ليس بلازم، واستدل بهذا الحديث لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن، قال له: " إنك تأتي قوما من أهل كتاب " إلى قوله " فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " اقتصر هنا على الفقراء، فدل على أن من أداها إلى الفقراء فقد برئت ذمته، ولا تحل الزكاة لغني، ورد ذلك بحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب " ؛ وذلك أنه أتاه رجلان، فنظر فيهما ورآهما جلدين فقال: " إن شئتما أعطيتكما ولا تحل الزكاة لغني ولا لقوي مكتسب " .
فاشترط في القوي أن يكون مكتسبًا، لأن هناك من يكون قوي البدن، ولكنه لا يستطيع الاكتساب، ولا يعرف التكسب، ولا يحسن تنمية المال ولا الاحتراف ولا الاشتغال فيكون فقيرًا، الغني قيل: إنه من عنده مال يزكى؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمهم إلى قسمين، قال: " تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم " .(1/209)
فالذي عنده مال فيه زكاة اسمه غني، والذي ليس عنده مال فيه زكاة اسمه فقير الذي ماله أقل من الزكوي، هذا تحديدهم قديمًا، حددوه بربع النصاب، فقالوا: الغني هو الذي يملك خمسين درهمًا، وهي ربع النصاب الصحيح أن هذا لا يخضع لتعريف، بل كل زمان يقاس أهله به، ففي زماننا لو أن إنسانًا يملك ألفًا أو نصف الألف، لا يعد غنيًا؛ لأن الألف لو بدت حاجة لأنفقها، لو نزل به ضيف ما كفته ضيافة، لو احتاج إلى كسوة ما كفته لكسوة أهله ولكسوة نفسه، فلا يعد غنيًا في هذه الحال ، ألف فكيف بخمسين درهمًا، فالخمسين في ذلك الوقت قد يكون لها وقعا .
وكذلك أيضًا في الزمان الأول الذي أدركناه، أدركنا مثلًا زمنًا السلع فيه رخيصة ومتوفرة، حتى أن أحد أعمامي ذكر أنه حج، وليس معه إلا ريالان، أنفق منهما حتى الفدية وجدها بأقل من الريال، والبقية نفقته وأكله في ذهابه وإيابه ريالان؛ وذلك من نحو أكثر من تسعين سنة ريالان فرنسيان، فالزمان يختلف، يقول: لا تحل لآل محمد ولا لمواليهم، آل النبي - صلى الله عليه وسلم - هم بنو هاشم هكذا اقتصر عليهم الشيخ، وكثير من العلماء قالوا: أيضًا، وبنو المطلب وذلك لأن عبد مناف أبو هاشم أولاده أربعة هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل .(1/210)
فأما بنو هاشم فهم الذين منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بنو المطلب من ذرية عبد مناف لما حصر بنو هاشم في الشعب، دخل معهم بنو المطلب، وقالوا: أنتم إخواننا ولا نرضى أن نتخلى عنكم، فلذلك ـ أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصدقة، أعطاهم من الخمس من الفيء ومن الغنيمة، وجعل لهم هذا الحظ، وجعلهم من ذوي القربة المذكورين في قوله تعالى: { (((((( (( ((((((((( (((((((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((((((((( (((((((((((((((( (((((((( (((((((((( } ولم يعط بني نوفل ولا بني عبد شمس لماذا ؟. لأنهم لم يناصروهم، فقال في بني المطلب: " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام " اختلف العلماء هل يحرمون من الزكاة فقيرهم أو يعطون من الزكاة ؟. فكثير منهم قالوا: ما دام أن الرسول -عليه السلام- لم يولهم على الزكاة، ولم يعطهم من الزكاة، واقتصر على إعطائهم من خمس الخمس ومن الفيء، فإن ذلك دليل على أنهم مثل بني هاشم .
والراجح أنهم ليسوا مماثلين لهم، وأن الحكم يختص ببني هاشم، وأن بني هاشم هم الذين يسمون بذوي القربى، ذوي القربى هم بنو هاشم، وقد اختلف أيضًا اختلاف آخر في ذوي القربى، فذهب بعضهم إلى أن ذوي القربى هم أقارب الخليفة، ولو لم يكونوا من بني هاشم، فلما كانت الخلافة في بني أمية كانوا يستبدون بهذا الكسب الذي هو سهم ذوي القربى، فيقولون نحن ذوي القربى، ولما آلت الخلافة إلى بني العباس، فبنو العباس من بني هاشم استعادوا سهمهم الذي هو سهم ذوي القربى .(1/211)
والحاصل أن بني هاشم لا يعطون من الزكاة، وقد علل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها " أوساخ الناس " فلا تحل لهم حتى أن الحسن مرة أخذ تمرة من صدقة، ووضعها في فمه، فلم يتركها النبي -عليه السلام- حتى أخرجها وعليها ريقه، وألقاها في الصدقة بقوله: " كخ كخ إنها لا تحل لنا " مع كونه طفلًا ولما وجد تمرة في الطريق، قال: " لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها " خشية أن تكون من الصدقة، تمرة واحدة في الطريق، فكل ذلك دليل على تورعه -عليه الصلاة والسلام- ثم علل بقوله: " إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم عن الصدقة " اختلف الآن هل يعطون أو لا يعطون؛ وذلك لأنهم الآن قد يكونوا محرومين من بيت المال، ومن خمس الخمس ومن الفيء، ولا يأتيهم شيء، ويعتلي كثيرا منهم غرامات وديون ويحتاجون إلى أن يعطوا ما يخفف عنهم، وقد لا يجدون من يعطيهم إلا من الزكاة، فلذلك رخص لهم عند الحاجة، ولطول الزمان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ثلاثين جدًا، فكيف يصيرون من ذوي القربى مع بعد النسب، لذلك رأى بعض العلماء أنهم يعطون عند الحاجة .
أما الموالي فدليله حديث أبي رافع لما قال له رجل: اصحبني حتى تصيب من الصدقة، فاستشار النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إنها لا تحل لنا الصدقة وإن مولى القوم منهم " والصحيح أنها خاصة بالأقارب يعني الذين في ذلك العهد، فأما المتأخرون فإنهم ولو إذا احتاجوا يعطون ما يسد حاجتهم، يقول: "لا تجب الزكاة" ولا لمن تجب عليه نفقته وقت جريانها، أي: لا يحل له أن يعطي الزكاة من تجب عليه نفقته، لا يعطيها من تجب عليه نفقته وقت إخراجها وقت وجوبها .(1/212)
مثال ذلك أن يعطيها أبويه ، لو افتقر أبواه لألزمناه بأن ينفق عليهما، أن يعطيها زوجته يجب عليه أن ينفق على زوجته، ولو كان فقيرًا، فلا يجعل الزكاة عوضًا عن النفقة الواجبة عليه ، أما إذا كان وقت جريانها لا يرثه، ولا تجب عليه نفقته، فإنه يجزيه، فلو كان لك أولاد ولك أخ فقير، فإنك تعطي أخاك؛ لأنه لا تجب عليك نفقته؛ لأنه لا يرثك، له أولاد، ولك أولاد، أما إذا لم يكن لك أولاد، فإنك إذا افتقر أنفقت عليه؛ لأنك ترثه ويرثك .(1/213)
فالحاصل أنها تعطى لمن لا تجب عليه النفقة، وهو القريب الذي نفقته تجب عليه؛ لئلا يجعلها حاجزًا أو حيلة لإسقاط النفقة ، ولا لكافر وكان له قريب كافر، ولو كان مسكينًا، ولو كان فقيرًا، فلا حق له في الزكاة، يقول: فأما صدقة التطوع، فيجوز دفعها إلى هؤلاء وغيرهم صدقة التطوع، تدفع إلى بني هاشم، وإلى الموالي وإلى من تجب عليه نفقتهم كإخوانه ونحوهم وإلى الفقير، ولو كان قويًا؛ لأنها تطوع ثم يقول: ولكن كلما كانت أنفع نفعًا عامًا أو خاصًا، فهو أكمل صدقة التطوع، ينبغي أن تعطيها لمن هو بحاجة إليها، ولمن إذا أعطيته ظهر نفعها وظهر تأثيرها، وكانوا يستحبون الصدقة في أوقات الحاجة صدقة التطوع ، إذا لم تكف الزكوات للمساكين وللغارمين ونحوهم استحب أن يتبرع من صدقة زائدة على صدقة الفرض، وكذلك في أوقات الحاجة ورمضان الذي تضاعف فيه الزكوات، ثم ذكر بعد ذلك حكم التسول، فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر " قيده بـ "تكثرًا" يعني: عنده ما يكفيه، فيسأل زيادة يستجدي ويستعطي، يسأل الناس، ويظهر أنه فقير، وأنه ذو حاجة، وهو عنده ما يكفيه، فمثل هذا حرام عليه، ولذلك قال: " فإنما يسأل جمرًا " أي: كأنه يأكل نارًا، والعياذ بالله، وفي حديث آخر أنه -عليه السلام- قال: " لا تزال المسألة بالرجل حتى يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم " ؛ وذلك لأن تعرضه للناس وإظهاره أمامهم الفاقة خدوش يخدش بها وجهه، فكأنه يزيل بشرة وجهه ولحم وجهه والعياذ بالله .(1/214)
المسألة تحل لذي الحاجة في حديث قبيصة الذي ذكرنا، قال: " لا تحل المسألة إلا لثلاثة رجل تحمل حمالة ورجل أصابته جائحة " يعني ما اجتاح ماله، يعني أصابته مصيبة، اجتاحت ماله كحريق مثلًا أو موت في دوابه أو نحو ذلك، " فحلت له المسألة حتى يصيب كفافا أو سدادًا، ورجل أصابته فاقه يعني فقر حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه، فيقولوا: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادًا من عيش أو قواما من عيش " وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: " ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك " .
كان هذا أنه - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا يأتيه أموال زائدة كخراج أو جزية أو عشر معشرات أو صدقات تطوع، فيعطي بعض أصحابه، فيعطي من جملة من يعطيه عمر، لأنه كان سخيًا كريمًا، فإذا أعطاه، قال: لو أعطيته أفقر مني، قد يوجد من هو أفقر مني؛ لأن عمر زاهد، وعمر أيضًا متكسب، فأخبر بأن هذا ليس من الزكوات، ولكنه من مال بيت المال، فقال: " ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف " يعني: ما استشرفت نفسك ولا سائل، ما استجديت تقول: أعطوني أنا محتاج، وأنا مستحق فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك ، إذا لم تعط منه شيئًا، فلا تشتغل به ولا تعطه ولا تتبعه نفسك، ولا تقل ما أعطاني الأمير ولا ما أعطاني الملك، ولا ما أعطاني الخليفة، بل اقنع بما ترزق .
ومن هذا الحديث يؤخذ أنه إذا أتاك من بيت المال شيئًا، وأنت لم تطلبه، فلك أن تأخذه، ولو كنت لا تستحقه إذا رأوا أنك أهله مكافأة على جهدك وعلى نشاطك في العمل وما أشبه ذلك، فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك. نقرأ
كتاب الصيام(1/215)
الأصل فيه قوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( ((((((((((( ((((( (((((( ((((( ((((((((( ((( (((((((((( } الآيات، ويجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم برؤيا هلال أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا، قال - صلى الله عليه وسلم - " إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له " متفق عليه، وفي لفظ: " فاقدروا له ثلاثين " وفي لفظ: " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " رواه البخاري، ويصام برؤيه عدل لهلاله، ولا يقبل في بقية الشهور إلا عدلان، ويجب تبييت النية لصيام الفرض، وأما النفل، فيجوز بنية من النهار، والمريض الذي يتضرر الصوم والمسافر لهما الفطر والصيام، والحائض والنفساء يحرم عليها الصيام، وعليهما القضاء، والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينًا، والعاجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه يطعم عن كل يوم مسكينًا، ومن أفطر فعليه القضاء فقط إذا كان فطره بأكل أو بشرب أو قيء عمدًا أو حجامة أو إمناء بمباشرة إلا من أفطر بجماع، فإنه يقضي ويعتق رقبة فإن لم يجد فيصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فيطعم ستين مسكينًا، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " متفق عليه.
وقال: " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " متفق عليه، وقال: " تسحروا فإن في السحور بركة " متفق عليه وقال: " إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإن لم يجد فليفطر على ماء، فإنه طهور " رواه الخمسة. وقال - صلى الله عليه وسلم - " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري .(1/216)
وقال: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " متفق عليه. وسئل عن صوم يوم عرفة ، فقال: " يكفر السنة الماضية والباقية " وسئل عن صيام عاشوراء فقال: " يكفر السنة الماضية " وسئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: " ذاك يوم ولدت فيه وبعثت فيه أو أنزل علي فيه " رواه مسلم. وقال: " من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " رواه مسلم. وقال أبو ذر " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " رواه النسائي والترمذي .
" ونهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم النحر " متفق عليه. وقال: " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله - عز وجل - " رواه مسلم، وقال: " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده " متفق عليه، وقال: " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه .
وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، واعتكف من بعده أزواجه متفق عليه. وقال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " متفق عليه.(1/217)
كتاب الصيام لما كان الصيام إنما يكون في السنة مرة شهر، وكانت أحكامه مشتهرة اختصره الشيخ -رحمه الله- واقتصر على جمل من أحكامه، ولم يفصل فيه التفصيل الذي يوجد في كتب الفقهاء، يقول الأصل فيه، يعني في وجوبه قول الله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( ((((((((((( ((((( (((((( ((((( ((((((((( ((( (((((((((( } الآيات من سورة البقرة، يعني الله تعالى أوجبه بهذه الآيات، وفيها قوله: { ((((( (((((( ((((((( ((((((((( (((((((((((( } وفيها قوله: { (((( ((((((((( ((((((((((( ((((( (((((((( } والآيات التي بينته، قد ذكر الله الصيام في آيات أخرى، كقوله: { (((((((((((((((( (((((((((((((((( } الواجب هو صيام شهر رمضان الذي هو ركن من أركان الإسلام وما عداه، فإنه تطوع لأن الله خصه بقوله: { (((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((( ((((((((((((( } الوجوب يختص بالمسلم فلا يجب على كافر.
ومن شروطه: أن يكون بالغًا، فلا يجب على الصغير دون البلوغ لأن فيه مشقة، ومن شروطه أن يكون عاقلًا، فلا يجب على المجنون لكونه ليس له عقل يحجزه عن المفطرات، قادر على الصوم برؤية هلاله.
الصيام يجب بشيئين: برؤية الهلال أو بإكمال الشهر ثلاثين يومًا. إكمال شعبان، فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم - " إذا رأيتموه يعني هلال رمضان، فصوموا وإذا رأيتموه -يعني: هلال شوال- فأفطروا فإن غم عليكم هلال رمضان فاقدروا له " متفق عليه .(1/218)
اختلف في معنى فاقدروا له، فذهب الإمام أحمد في الرواية المشهورة إلى أن المراد ضيقوا عليه، أي: قدروه تسعة وعشرين يومًا، هكذا قال فاقدروا له، والصحيح أن المراد ما ذكر في الرواية الأخرى، فاقدروا له ثلاثين، وفي رواية: " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " على القول الأول يصام يوم الشك، اليوم الثلاثين من شعبان، إذا حال دونه غيم أو قتر؛ لأنه من باب الاحتياط، كان كثير من السلف يصومونه، إذا لم ير الهلال لأجل غيم أو قتر ليلة الثلاثين منهم ابن عمر وعائشة ، وتقول لأن أصوم يومًا من شعبان أفضل من أن أفطر يومًا من رمضان .
والقول الثاني: أنه لا يصام يوم الثلاثين إلا إذا رؤي، حتى ولو كان هناك غيم أو قتر، وهذا هو الراجح؛ لقوله: " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " ويصام برؤية عدل لهلاله إذا رآه واحد عدل، قبل صومه ذلك؛ لأنه ليس له دوافع، فيقبل صومه إذا كان عدلًا، يقبل قوله، ففي حديث ابن عمر: " تراءى الناس الهلال، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فأمر بصيامه " .
وفي حديث آخر: " قدم أعرابي فقال: إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله قال نعم، فأمر الناس بالصيام " ولا يقبل في بقية الشهور إلا عدلان، يعني هلال شوال، يكون له الإفطار، فلا يقبل فيه إلا عدلان، وكذلك هلال ذي الحجة، يعني هلال الحج، لا يقبل في رؤيته إلا عدلان، وكذلك هلال المحرم إذا أراد أن يصوم العاشر أو التاسع والعاشر، لا يقبل فيه إلا عدلان ، وقد تساهل كثير من الناس في رؤيته، فظهر كذب كثير من الذين يدعون أنهم يرون هلال شوال برؤية منازله، الله تعالى أخبر بأن له منازل في قوله: { (((((((((((( ((((((((((( ((((((((( } فإذا تحقق أن هذا الرائي كاذب، فلا تقبل روايته بعد ذلك، ولا يكون عدلًا.(1/219)
من شروط الرائي: أن يكون عدلًا، والعدالة لها أوصاف كثيرة مذكورة في كتب الفقه، يقول: يجب تبييت النية لصيام الفرض. ورد حديث عن حفصة -رضي الله عنها- قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " .
والصحيح أنه يكفي أن يقوم للسحور. فقيامه للسحور نية ، وقيل أيضا: يكفي لرمضان نية واحدة؛ لأن المسلم ما دام أنه مقيم وسليم، فإنه لا يظن به أنه يترك الصوم، فهو قد نوى، ولو لم يقل: إني نويت يكفي أنه عازم على الصيام أنت في رمضان، لو جاءك إنسان يعرف أنك مقيم، وأنك بالغ عاقل قادر، وقال لك أتصوم غدًا ألست تنكر عليه؟. يتهمك أو يشك في صومك. يشك في صومك، وأنت مسلم عاقل، وهل أحد يفطر في رمضان بلا عذر؟.
فهذا دليل على أن الإنسان قد عزم على الصيام، فلا حاجة إلى أن يحرك قلبه بالنية، ولا حاجة إلا أن يقول: نويت أن أصوم غدًا، بل يكفي عزمه وتصمميه على الصوم وعزمه على أن لا يفطر.(1/220)
يمكن يتصور هذا بعض الصور، مثلًا: إنسان عزم على أنه يسافر غدًا، وأنه سوف يفطر في الليل عزم وجمع أثاثه (متاعه) ولما أصبح وهو لم يعزم على الصوم، عازم على الفطر لم يتيسر له السفر. في هذه الحال مضى عليه جزء من نهاره، وهو ما نوى، فنقول له أمسك، ولكن اقض هذا اليوم؛ لأنك أصبحت مفطرًا، أما لو عزمت على الصوم وقلت: سوف أصوم غدًا، وإن تيسر لي أني أسافر أفطرت بعدما أفاق البلد، ففي هذه الحال يجوز لك الفطر، ويجوز لك إتمام الصوم، فأما إذا عزمت على الفطر وقلت: سوف أفطر لأني أسافر، ثم لم يتيسر لك السفر، وأمسكت ذلك اليوم، قلت: ما دمت أني لم أسافر، فسوف أتم يومي لأني ما أكلت فيه، نقول: عليك أن تتمه وتقضيه. لا بد للصوم من نية من أول النهار إلى آخره، بخلاف النفل، تقول عائشة: " دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا، قال: فإني إذًا صائم " أصبح مفطرًا، وظن أنه يجد عند أهله طعامًا، ولما لم يجد عزم النية على الصوم من الضحى، إني إذًا صائم .
فيصح النفل بالنية من النهار بشرطين: الأول: ألا يكون قد أكل في أول النهار. الثاني: أن يكون ما بقي من النهار أكثر مما مضى، فإذا لم ينو مثلًا إلا بعد الظهر، فلا يفيده؛ لأن النهار قد مضى، وورد أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - صام يومًا تطوعًا، ثم دخل على أهله فأخبروه بأنه أهدي إليهم طعام قال: " أرنيه فلقد أصبحت صائمًا فأكل " ورد أيضًا " أن المتطوع أمير نفسه، إن شاء أتم صيامه، وإن شاء لم يتم " .(1/221)
يقول: المريض الذي لم يتضرر بالصوم والمسافر لهما الفطر والصوم، إذا قال المريض: أنا يضرني الصوم، لكني سوف أتحمل وأصبر على الضرر، جاز له ذلك وإن كان الأفضل له أن يأخذ برخصة الله. المسافر له الفطر والصوم، فإذا قال: أنا سوف أصوم مع المشقة سوف ألاقي مشقة في هذا السفر وصعوبة، ولكني سوف أصبر عليها، وأتحمل المشقة، أعظم للأجر جاز ذلك، ولكن الأخذ بالرخصة أفضل.
فيه عدة أحاديث منها حديث أبي موسى وغيره في الرجل الذي كان في سفر، فرأى النبي - صلى الله عليه وسلم - زحامًا ورجلًا قد ظلل عليه، قال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: " ليس من البر الصيام في السفر " وفي رواية " عليكم برخصة الله التي رخص لكم " هذا رجل صام في السفر، ولقي مشقة لم ينتصف النهار، وإذا هو متعب وإذا الناس ينظرون إليه وقد ظلل عليه تحت شجرة، وكأنه بحاجة إلى من يرشه بالماء، ومن يظلل عليه، ومن يأتيه بحاجته، فهذا قد أضر نفسه؛ فلذلك قال: " عليكم برخصة الله " .
ومع ذلك يجوز ففي حديث أبي الدرداء الذي في الصحيح قال: " كنا في سفر في حر شديد حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة " تحمل الصوم في هذا الحر الشديد طلبًا للأجر، فدل على أنه يجوز، ولكن عند المشقة الفطر أفضل، في حديث جابر في سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة زمن الفتح صاموا ثمانية أيام ومعه عشرة آلاف كلهم يصومون ولما وصلوا إلى قديد أو إلى عسفان قالوا له: إن الناس قد شق عليهم الصيام فعند ذلك أمر بالفطر. أمر بالإفطار، وعلل بأنه أقوى لهم، قال: " إنكم قد قربتم من عدوكم والفطر أقوى لكم " يعني: أفطروا حتى تتقووا على قتال عدوكم، فهذا دليل على أن الفطر أفضل، إذا كان هناك مشقة، فإذا لم يكن هناك مشقة، فقيل: إنه بالخيار.(1/222)
في حديث أنس قال: " كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فمنا الصائم ومنا المفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولم يعب المفطر على الصائم " يرون أن من به قوة وجلد، فإنه يصوم ومن معه ظرف فإنه يفطر. هذا يظهر أنه في التطوع، وبكل حال نختار أنه إذا كان هناك مشقة على المسافر، فالفطر له وإذا لم يكن هناك مشقة، فالصوم أفضل له، وإن أفطر مع عدم المشقة جاز، وإن صام وتكلف المشقة جاز.
" الحائض والنفساء يحرم عليها الصيام" وذلك تعبد، يعني: ولو لم يكن هناك حاجة إلى الإفطار، ولكن لما كان معها هذا الدم حرم عليهما الصيام، وعليهما القضاء. الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا، وأما إذا كان الخوف على الولد، فإنها تقضي وتطعم عن كل يوم مسكينًا. إذا خافت على جنينها مثلًا أنها إذا لم تأكل تضرر الجنين، أو خافت على رضيعها أنها إذا لم تأكل فإنه يقل اللبن، فيلحقه الجوع، فإنها تفطر.
أما إذا كانت لا تخاف عليه، أو تجد من يرضعه أو ترضعه باللبن الصناعي فلا تفطر. العاجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه يطعم عن كل يوم مسكينًا. الكبير الذي لا يستطيع الصيام والمريض الذي مرضه لا يرجى برؤه، يطعم عن كل يوم مسكينًا، ذكروا عن أنس - رضي الله عنه - أنه لما كبر وزاد عمره عن المائة كان يفطر، ولكن إذا كان أول ليلة من رمضان جمع ثلاثين مسكينًا، وعشاهم وأطعمهم، واكتفى بذلك عن الصيام، يطعمهم يومًا واحدًا.(1/223)
ليس بحاجة أن يطعم كل يوم، بل إذا قدم الإطعام أطعمهم جاز أو أخر الإطعام وأطعمهم في آخر الشهر. من أفطر فعليه القضاء فقط، إذا أفطر بسبب من الأسباب إذا أفطر مثلًا بأكل. أفطر مثلًا لسفر أو مرض أو نحو ذلك أو بشرب، يعني جهل مثلًا أو لعذر، فعليه القضاء فقط. القيء إذا كان عمدًا، فإنه يفطر في حديث: " من استقاء، فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه " فإذا خرج القيء بدون اختياره، بل قهريًا، فلا يفطر، وأما إذا تسبب عصر بطنه مثلًا، أو أدخل يده في حلقه حتى أخرج القيء، فإنه يقضي اختار المؤلف أن الحجامة تفطر لأن حديث: " أفطر الحاجم والمحجوم " رواه عدد من الصحابة حتى قيل: إنه متواتر العدد الكثير الذين رووه، ولو كانت الطرق لا تخلوا من ضعف، لكن بعضها يقوي بعضًا يشد بعضها بعضًا، وأما الأحاديث التي فيها: أنه - صلى الله عليه وسلم - " احتجم وهو صائم " " احتجم وهو محرم " " واحتجم وهو صائم " فطعن الإمام أحمد في ذكر الصيام، وقال أصحاب ابن عباس اقتصروا على الإحرام أصحابه خواصه ، ولم يرو إلا عن عكرمة، وعكرمة يضعف في الحديث ؛ ولذلك لم يرو عنه مسلم، فطعنوا في هذا الحديث، ولو كان في صحيح البخاري ، والذين صححوه قالوا: إن له عذرا، إنه مسافر ، والمسافر له الإفطار؛ لأنه ما أحرم في البلد فدل على أنه كان مسافرًا، فالحاصل أن في المسألة مناقشة كثيرة .(1/224)
الإمام أحمد هو الذي اختار أن الحاجم والمحجوم يفطران ، وأما الأئمة الثلاثة، فقالوا لا يفطران، ولكل اجتهاده أو إمناء بالمباشرة إذا باشر أو قبل فأمنى، فإنه يقضي أما إذا أفطر بجماع، فإنه عليه القضاء وعليه الكفارة مثل كفارة الظهار. تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، هذا هو الذي يجب على من أفطر بجماع، واختلف هل يجب على المرأة إذا مكنته من نفسها، فأكثر الفقهاء قالوا: ما دام أنها مكلفة، فإن عليها مثل ما عليه، أما إذا لم تمكنه ولكنه قهرها وغصبها، فإن الكفارة عليه وحده؛ لأنها مكرهة.(1/225)
أما من نسي ففي هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه " بحثوا فيما إذا رأيت إنسانًا يأكل، وهو صائم أو يشرب، وهو صائم هل تذكره أم لا تذكره؟ ، الصحيح أنك تذكره لأن هذا من باب الأمر بالمعروف، ولأنه يحب أن يتذكر لا يحب أن يختل صومه، ولو كان صيامه تامًا، وإنما أطعمه الله وسقاه، فمن باب تذكيره ومن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تذكره بصومه. " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " فيه أنه لا يستحب الوصال ، وهو أن يؤخر الإفطار إلى السحور ، ولكنه لا يحرم فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - واصل بأصحابه لما لم ينتهوا يومين ثم يوماً، ثم رأوا الهلال ، ولكن تعجيل للفطر أفضل ، وذلك لأن يقدمه قبل الصلاة ، يأكل ما تيسر قبل الصلاة ليكون ذلك مبادرًا إلى ما أحله الله ، فأحب الناس إلى الله أعجلهم فطرًا، ولا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ، حديث " تسحروا، فإن في السحور بركة " قيل: إن الحكمة فيه أنه يقوي على العبادة، ويقوي على الأعمال الأخرى، ويقوي أيضًا على الأعمال البدنية التي هي أعمال الدنيا، ويحبب الصيام، أما إذا لم يتسحر، فإنه يهزل، ويضعف بدنه، وينهار ، وينخذل عن الأعمال الخيرية، ويغلب عليه الكسل والخمول والضعف، فلذلك حث على السحور بما تيسر، ويؤخره أيضًا يسن أن يكون في آخر جزء من الليل .(1/226)
قوله: " إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنه لم يجد فعلى ماء فليفطر على ماء، فإنه طهور " يعني يسن أن يكون فطره على تمرات، لأن فيها هذه الحلاوة، تقول عائشة: " كان - صلى الله عليه وسلم - يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حثا حثوات من ماء " أي جرعات من الماء، وفي حديث سلمان الطويل: " يعطي الله هذه الثواب من فطر صائمًا على مزقة لبن أو شربة ماء أو تمرة " يدل على أن ذلك كله مما يفطر عليه ، على الصائم أن يحفظ صيامه، فلا يجرحه بالأعمال التي تنقص أجره ، أورد قوله - صلى الله عليه وسلم - " من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " قول الزور الكلام السيء ، بمعنى كذب وإفك وسباب وسخرية وقذف وعيب وسلب ونحو ذلك، يجب أن يطهر لسانه وفي حديث أيضًا " إذا سابه أحد أو شاتمه، فليقل: إني صائم " وكان كثير من السلف يحفظون صيامهم، يجلسون في بيوتهم، ويقولون: نحفظ صيامنا .
العمل به، يعني: العمل بالزور، وهو مثلًا شهادة الزور، أو القتل والقتال، أو ما أشبه ذلك، وكذلك الجهل، يعني العمل على الجهل والتجاهل ، قوله: " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " هذا فيه أن الذي مات يقضى عنه الصوم متى؟ إذا كان فرط إذا مات إنسان، وعليه صيام نظرنا، فإن كان فرط، فإنه يقضي عنه، وإن لم يفرط فلا قضاء عليه ولا كفارة .(1/227)
صورة ذلك إذا أفطر في رمضان لسفر أو مرض، ثم بعد ذلك تمكن في شهر شوال وقدر قام وشفى وسلم من المرض ، واستطاع أن يصوم، ولكنه أهمل وفرط، ثم جاءه الأجل، ومات، فإنه يقضى عنه يقضى عدد الأيام التي فرط فيها، فإذا كانت أيامه مثلًا عشرة أيام شفي أو أقام سبعة أيام، ثم عاوده المرض أو عاد إلى السفر هذه السبعة ما صامها، ولو صامها لكان قادرًا ، ثم مات فإنه تقضى عنه السبعة، أما الثلاثة التي ما تمكن منها، فلا تقضى عنه تسقط عنه، كذلك أيضًا لو تمادى به المرض. مرض مثلًا في رمضان وأفطر رمضان كله، واستمر به المرض في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة مثلًا، ومات في المحرم، وهو على فراشه، فمثل هذا لا يلزمهم قضاء عنه ولا كفارة وما ذاك إلا لأنه لم يتمكن. صيام التطوع
تكلم على صيام التطوع، فمن ذلك قوله: سئل يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفه، فقال: " يكفر السنة الماضية والباقية " وسئل عن صيام عاشوراء، فقال: " يكفر السنة الماضية " .(1/228)
يوم عرفة هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، وسمي بذلك لأن الحجاج يقفون فيه في عرفة، وغير الحجاج يحبون أن يشاركوهم في عمل يحصل لهم به أجر وأفضل ما يشاركون به صوم ذلك اليوم، ولما كان ذلك اليوم يومًا فاضلًا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فضله بقوله: " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة " وأخبر بأنه " ما رئي الشيطان في يوم أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام " فغير الحجاج يشرع لهم صومه تقربًا إلى الله لفضله، أما الحجاج ، فيتقون بالإفطار لأنهم ضيوف الله ، كما ورد في بعض الآثار، فالله -تعالى- أكرم من أن يجيع ضيوفه، أو يتعبدهم بالجوع، ولأن الفطر أنشط لهم على الدعاء وعلى الأعمال الصالحة، فيفطرون، ولو لم يكن عليهم مشقة في الصيام أخبر بفضله بأن يكفر سنتين، يعني لعل المراد من صغائر الذنوب، فإن الكبائر تحتاج إلى توبة؛ ولذلك ورد في تكفير الأعمال في قوله -عليه الصلاة والسلام-: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " فجعل تكفيرها يختص بالصغائر .
وقد تكفر الكبائر إذا علم الله -تعالى- نية العبد وإخلاصه وصدقه وتوبته كفر الله عنه الخطايا، أما يوم عاشوراء، فهو العاشر من شهر محرم ويسمى محرم عاشوراء لأجل أن فيه هذا اليوم وقد وقع فيه اختلاف كثير في هذا اليوم اختلفت الأحاديث فيه، ففي بعضها أنه كانت تصومه قريش قبل الإسلام، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه، وفي بعضها أنه لم يكن يصومه حتى أتى المدينة، فوجد اليهود يصومونه، وفي بعضها أنه فرض في أول سنة من الهجرة، ثم في السنة الثانية أصبح غير مفروض، ولكنه سنة من السنن، يعني ليس بفرض بعد أن كان فرضًا، ثم وقع في هذا اليوم أكاذيب من طائفتين طائفة الرافضة وطائفة الناصبة.(1/229)
فالطائفة الرافضة جعلوه يومًا نحسا يوماً مشئومًا فصاروا فيه يخمشون وجوههم ويضربون صدورهم ويمزقون ثيابهم وينتفون شعورهم لأنه اليوم الذي تقل فيه الحسين، فيفعلون ذلك حزنًا على الحسين، وكذبوا فيه أكاذيب وترهات لا يصدقها من عنده أدنى مسكة من عقل .
وقابلهم النواصب، فكذبوا فيه أيضًا أكاذيب، وجعلوه يوم شرف ويوم فضل، وابتدعوا فيه أو روو فيه أكاذيب في التوسعة على العيال مثلًا وفي لبس أحسن الثياب وفي التجمل وفي الاكتحال وفي الادهان وما أشبه ذلك، وكلها كذب ولم يصح فيه إلا الصوم، وفي آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على أن يصام قبله يوم، وهو اليوم التاسع أو بعده يوم، هو الحادي عشر مخالفة لليهود. يقول: " سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، وأنزل علي فيه " .
ورد في صوم يوم الاثنين فضيلتان: هذه الفضيلة وهي اليوم الذي أنزل فيه الوحي والذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه تعرض فيه الأعمال، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم الخميس والاثنين، ويقول: " إنه تعرض فيهما الأعمال ، وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " يكون صوم الاثنين من الأيام التي تستحب الصوم فيها وصيام ست من شوال، ورد فيه عدة أحاديث، أصحها حديث أبي أيوب الذي رواه مسلم: " من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر " وشوال هو الشهر الذي بعد رمضان.(1/230)
هذه الست سنة صيامها لورود الأحاديث الكثيرة في فضل صيامها، والتعليل بأن صيامها مع صيام رمضان كأنه صيام الدهر كله، بمعنى أن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها، فإذا صام رمضان كان عن عشرة أشهر، وستة أيام عن ستين يومًا، فهذه اثنا عشر شهرًا، فيصبح كأنه صام الدهر لم يذكروا أنها تتوالى، بل يصح أن تكون متفرقة، وأن تكون من أول الشهر أو من وسطه أو من آخره، الجميع لا بأس به حيث أطلق أنها من شهر شوال، ولكنه يفضل المبادرة والمسابقة والمسارعة، وأن تكون من أول الشهر حتى يحتاط الإنسان؛ لأنه لا يدري ما يعرض له، وإذا لم يتمكن من صيامها من شوال، فله أن يصومها من شهر ذي القعدة .
مثاله: لو أن امرأة نفست في رمضان، ولم تطهر إلا في عشر من شوال، وصامت عشرين من شوال عن رمضان، وصامت عشرة من ذي القعدة عن تكملة رمضان، فهل تذهب عليها هذه الست، وتقول: ذهب رمضان، ماذا أصوم تتدارك، تصومها من ذي القعدة، وما ذاك إلا أن القصد صيام شهر وستة أيام، ليس كل أحد يستطيع أن يصوم رمضان دائمًا، فقد يمرض الإنسان ويصوم شوال، وقد يسافر فيفطر في رمضان، ويصوم بدله شوال، فعلى هذا يصومها من ذي القعدة، أو مما بعده حتى تحفظ له هذه الأيام.
من المندوب أيضًا صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أوصى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض أصحابه كأبي هريرة وأبي ذر، وأوصى بها أولًا عبد الله بن عمرو بن العاص، أمره بأن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، حتى يكون كأنه صام الدهر، لأنه صام الثلاثة كأنه صام ثلاثين، فيكون صام الشهر كله، ليكون ذلك من المسابقة إلى الأعمال، فكان كثير منهم يحافظون عليها كأبي هريرة، يقول: " أوصاني - صلى الله عليه وسلم - بثلاث لا أدعهن ما بقيت: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام " فكان لا يدعهن محافظة على الأعمال .(1/231)
وقال أبو ذر: " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصوم من الشهر ثلاثة أيام ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " هذه الأيام الثلاثة تسمى أيام البيض، وذلك لأن لياليها بيض، القمر فيها يكون طالعًا من أول الليل إلى آخر الليل، فكأن الليل أبيض والنهار أبيض فتسمى الليالي البيض أو أيام الليالي البيض استحب صيامها إن تيسرت، فإذا فاتت على المرأة مثلًا في عادتها، فإنها تصوم قبلها أو بعدها، كذلك أيضًا قد ثبت أن ابن عمر كان يصوم ثلاثة الأيام من أول الشهر، فقال له: ألا تنتظر إلى أيام البيض؟ فقال: وما يدريني أني أدركها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصاه بقوله: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " وكان يقول أيضًا: " إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح " .
أفضل الصيام الذي أوصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمرو بن العاص أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، وقال: " هذا صيام داود " نصف الدهر، حافظ عليه عبد الله، ولم يخل به حتى توفى كراهة أن يترك شيئًا فارق عليه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - .
أما الأيام التي نهى عن صيامها فمنها يوم العيدين، صيام يومي العيدين حرام، كثرت الأحاديث في النهي عن صيام يومي الفطر والنحر، وذلك لأنهما عيد للمسلمين، وعلى المسلم أن يظهر الفرح في هذين اليومين، فيفطر فيهما ويتناول مما أحل الله له من الطعام، فلذلك ليس للنهي صارف عن التحريم في عدة أحاديث، كذلك ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أيام التشريق أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله - عز وجل - " وهذا دليل على أنها لا تصام أيام منى، هي أيام التشريق، سميت أيام التشريق؛ لأن الناس فيها ينشرون اللحوم لحوم الأضاحي ولحوم الهدايا، ينشرونها حتى تشرق الشمس عليها، حتى تجف، يأكلونها قديدًا، فسميت أيام التشريق.(1/232)
أخبر أنها أيام أكل وشرب، أي لا يجوز صيامها. رخص في صيامها في منى لمن لم يجد الهدي، ولم يتيسر له أن يصوم قبل العيد ثلاثًا، فيصوم الثلاثة بعد يوم العيد ثلاثة أيام التشريق حتى يكون قد صام ثلاثة أيام في الحج، ويصوم سبعة إذا رجع.
صوم يوم الجمعة وردت أحاديث كثيرة في النهي عن تخصيصه. " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده " وذلك لأنه عيد الأسبوع، ولأن فيه عمل ألا وهو هذه الصلاة الذي يأتونها من بعيد، يأتون إليها ويتكلفون من بعيد لذلك لما كان عيد الأسبوع كره صومه، ولكن المكروه هو إفراده أما إذا صامه مع غيره فلا بأس.(1/233)
أما حديث مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، ولو ألا يجد أحدكم إلا لحاء شجرة فليمضغه " فهذا الحديث أشكل على بعض العلماء، فقالوا: لا يجوز صوم يوم السبت إلا في رمضان أو في قضاء رمضان، ولكن الصحيح أن قوله: " فيما افترض عليكم " أي فيما شرع لكم، يجوز أن تصوموه، فيما هو مشروع ومندوب، فكأن النهي عن تخصيص يوم السبت بالصيام، وذلك لأنه عيد اليهود بدل يوم الجمعة عندنا عندهم يوم السبت فصيامه، كأن فيه موافقة لهم على تعظيمه أو احترامه قد نهاهم الله عن العدوان فيه بقوله: { (( ((((((((( ((( ((((((((( } فأما إذا لم يخصص، فلا بأس فإذا صامه في أيام الست مع أيام الست كان فيها يوم السبت، فلا بأس وكذلك إذا صامه في أيام البيض كان هو أحد أيام البيض، فلا مانع من ذلك أيضًا، وكذلك إذا كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، فأفطر يوم الجمعة، وصام يوم السبت، فلا بأس بذلك، وكذلك إذا صادف يوم عرفه أنه يوم السبت أو يوم عاشوراء أنه يوم السبت، فإنه يصام على أنه يوم عرفة لا على أنه يوم السبت، نبه على ذلك شيخ الإسلام في أوائل كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، حيث أن الكتاب موضوعه في النهي عن موافقة أصاب الجحيم، فقال: إذا كانوا يعظمون يوم السبت فلا يجوز تخصيصه تعظيمًا لهم، ولكن إذا صامه لمناسبة، ولسبب فلا يكون موافقًا لهم.
مما يتعلق برمضان فضيلته. فضائله. في هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه " .(1/234)
اشترط في هذا كله " إيمانًا واحتسابًا " الإيمان هو التصديق الجازم بأنه عمل فاضل سواء الصيام أو القيام، والاحتساب هو طلب الأجر أي محتسبًا للأجر، فيخرج من صامه مجاراة للناس، ويخرج من صامه رياء وتمدحًا، ويخرج من صامه عادة لا عبادة، وكذلك القيام قيامه أو قيام ليلة القدر ، وقوله غفر له ما تقدم من ذنبه، الأرجح أن المغفرة تختص بالصغائر، وقد تناول الكبائر إذا قوى السبب، لما انتهى مما يتعلق بالصيام ذكر بعده الاعتكاف، قال: " وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، واعتكف من بعده أزواجه " . الاعتكاف
الاعتكاف: هو لزوم المسجد لطاعة الله، أن يلزم مسجدًا من المساجد؛ ليتفرغ للعبادة وينقطع عن الدنيا وعن الانشغال بها، ويقبل على الله -تعالى- ويعرف بعضهم تعريفًا حقيقيًا في قوله: الاعتكاف هو قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، ومعنى قطع العلائق عن الخلائق يعني الانقطاع عن العوام. الانقطاع عن مخالطتهم وعن مجالستهم للاتصال بخدمة الخالق، أي للتفرغ لخدمة الله -تعالى- يعني عبادته وطاعته. ذكر الله الاعتكاف في قوله تعالى: { ((( (((((((( (((((((( (((((((((((((( (((((((((((((((( } وفي قوله تعالى: { (((( (((((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((( ((((((((((((( } .(1/235)
وكان أهل الجاهلية والمشركون يعكفون عند معبوداتهم، قال تعالى: { (((((((((((( (((((((( (((((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((( (((((( ((((((((((( (((((( ((((((((( (((((( } وحكى عن قوم إبراهيم أنهم قالوا: { (((((((( (((((((((( (((((((( ((((( (((((((((( (((( } فهذا العكوف إقامة طويلة عند تلك المعبودات، فشرع الله تعالى للأمة إقامة في المساجد للتفرغ للعبادة، وخص بالمساجد لا يجوز في غيرها لماذا ؟ لأن ذلك يفوت الصلوات مع الجماعة، لأنه إذا اعتكف في بيته، فإما أن يخرج كل يوم خمس مرات، وكثرة الخروج تنافى الاعتكاف الذي هو طول المقام. وإما أن يترك الصلاة، فيترك واجبًا من واجبات الإسلام صلاة الجماعة، لازمه النبي - صلى الله عليه وسلم - كل رمضان يعتكف العشر الأواخر إلا أنه مرة تركها لما اعتكف معه ثلاث من نسائه، وضربن له الأقبية فترك الاعتكاف تلك السنة واعتكف عشرًا من شوال من باب القضاء، وذكروا أيضًا أنه كان يعتكف العشر الأوسط قبل أن يأتيه الخبر أن ليلة القدر في العشر الأواخر اعتكافه التماسًا لليلة القدر التي من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، رجاء أن يوافقها.
بعد ذلك ذكر شد الرحال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى " الرحال هنا الرواحل التي يسافر عليها، والمعنى: أنه لا يجوز أن يسافر لأي بقعة على وجه الأرض يتعبد فيها لأجل فضل تختص به إلا هذه المساجد، فبقية بقاع الأرض ليس لها مزية، لا يسافر لبقعة من البقاع غير هذه المساجد سواء كانت تلك البقاع مسجدًا أو قبرًا أو مشهدًا أو جبلًا أو نحو ذلك.(1/236)
ولا ينافي ذلك السفر لطلب العلم، فإنه ليس لاحترام بقعة أو السفر لزيارة الأصدقاء، فإنه ليس لاحترام بقعة أو السفر لأجل تجارة أو صلة أو نحو ذلك فهذا جائز ، الممنوع هو السفر لأجل بقعة، يتعبد فيها يظن أنها أفضل من غيرها، وأن لها مزية وأن العبادة فيها مضاعفة، أو يسافر لأجل مقبرة يرى أن أهلها المقبورين فيها لهم فضل، ولهم مكانة ولهم شرف، فكل ذلك مما نهى عنه، وكان شيخ الإسلام يستدل بهذا الحديث على النهي عن السفر لزيارة القبر النبوي ، ويقول: من سافر للمدينة فلتكن نيته المسجد ، لأن المسجد هو الذي تشد إليه الرحال، وأما القبر فلا تشد له الرحال حتى قبور الأنبياء، لا يجوز أن تسافر لأجل أن تزور قبر الخليل أو قبر النبي أيوب مثلًا أو غير ذلك من القبور، فإن هذا شد رحل لبقعة تعتقد فيها، ولعل السبب في ذلك هو خوف الغلو في هذه البقعة، واعتقاد مزيتها مما يؤدي ذلك إلى أن تعظم تعظيمًا، لا يصلح ويصرف للقبر أو لصاحب القبر شيء من حق الله تعالى.
والآن انتهينا من الصيام ونبدأ في كتاب الحج:
كتاب الحج
الأصل فيه قوله تعالى: { (((( ((((( (((((((( (((( (((((((((( (((( ((((((((((( (((((((( ((((((( } والاستطاعة واحد من شروطه، وهي ملك الزاد والراحلة بعد ضرورات الإنسان وحوائجه الأصيلة، ومن الاستطاعة أن يكون للمرأة محرم إذا احتاجت إلى سفر .(1/237)
وحديث جابر في حج النبي - صلى الله عليه وسلم - يشتمل على أعظم أحكام الحج، وهو ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " مكث في المدينة تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف أصنع ؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد: لبيك الله لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله صلى الله عليهم شيئًا منه ، ولزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلبيته، قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج لسنا نعرف العمرة، حتى إذ أتينا البيت معه استلم الركن، فطاف سبعًا، فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ { ((((((((((((( ((( ((((((( (((((((((((( ((((((( } فصلى ركعتين فجعل المقام بينه وبين البيت .
- وفي رواية أنه - قرأ في الركعتين { (((( (((( (((( (((((( ((( } و { (((( ((((((((((( (((((((((((((( ((( } ثم رجع إلى الركن واستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ { ( (((( (((((((( (((((((((((((( ((( (((((((((( (((( } أبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا، فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره .(1/238)
وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل ومشى إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى، حتى إذا صعدتا مشى، حتى أتى المروة ففعل على المروة، كما فعل على الصفا حتى كان آخر طواف على المروة .
فقال: لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدى، فليحل وليجعلها عمرة، فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعه واحدة بالأخرى وقال: دخلت العمرة في الحج مرتين، لا بل لأبد أبد ، وقدم علي من اليمن ببدن للنبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد فاطمة ممن حل، ولبست صبيغًا واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: إن أبي أمرني بهذا .
قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرشًا على فاطمة للذي صنعت، مستفتيًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت عليها، فقال: صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإني معي الهدي، فلا تحل قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة، قال: فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي .(1/239)
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى عُرنة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحّلت له .
فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعًا في بني سعد، فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس، اللهم أشهد اللهم أشهد ثلاث مرات، ثم أذن بلال ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقتة القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه .(1/240)
ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس السكينة السكينة كلما أتى حبلًا من الحبال أرخى لها قليلًا، حتى تصعد حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده .
فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن العباس حتى أتى بطن محسرٍ فحرك قليلًا ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخزف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده، ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنه ببضعة، فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقتها، ثم ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت بمكة الظهر .
فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم، فقالوا انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوا فشرب منه " رواه مسلم.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل المناسك، ويقول للناس: " خذوا عني مناسككم " فأكمل ما يكون من الحج الاقتداء فيه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضي الله عنهم.
الحج ركن من أركان الإسلام، ولكن الله -تعالى- ما فرضه إلا على المستطيع. الأصل فيه قوله تعالى: { (((( ((((( (((((((( (((( (((((((((( } وفي قراءة: "حَجُّ البيت من استطاع إليه سبيلًا" فلم يفرضه على كل أحد، ولكن على المستطيع وفسرت الاستطاعة بأن يملك زادًا وراحلة بعد حوائجه الأصلية وضرورات الإنسان.(1/241)
الزاد: هو الذي يبلغه ذهابًا وإيابًا النفقة والراحلة التي يركبها وتؤديه ذهابًا وإيابًا، أو يجد أجرة يستأجر بها ما يركب به فكان السفر قديمًا على الإبل؛ لأنها التي تحمل الأثقال { (((((((((( ((((((((((((( (((((( (((((( (((( (((((((((( (((((((((( (((( ((((((( ((((((((( } فكان من وجد راحلة يعني من الإبل التي تحمل مثله زائدًا على حوائجه الأصلية، فإنه يلزمه الحج، أما في هذه الأزمنة فوجدت هذه المراكب الجديدة التي يسرها الله: المراكب الجوية الطائرات والمراكب البرية السيارات والمراكب البحرية الباخرات ، هذه مما سهلت على الناس ؛ لهذا أصبحت المئونة أقل والصعوبة أسهل مما كانت عليه في أول الأمر، لذلك يقال: إن الحج تيسر بدل ما كان صعبًا ، في قوله: { (((( (((((((((( (((((((((( (((( ((((((( ((((((((( } فالحاصل أنهم اشترطوا للحج خمسة شروط أو ستة ، الإسلام فلا يجب على الكفار، والبلوغ فلا يجب على الصغير، والحرية فلا يجب على المملوك ؛ لأنه مشغول بخدمة سيده ، والاستطاعة التي هي القدرة على الوصول، والأمن أمن الطريق ؛ لأنه إذا كان مخوفًا فيه قطاع طريق، فإنه يصعب عليه أن يسلكه .
والشرط السادس خاص بالمرأة، وهو وجود المحرم، فإذا تمت الشروط: الإسلام والعقل والبلوغ والاستطاعة وأمن الطريق وجب .(1/242)
وهل يجب على الفور أو على التراخي؟ ذهبت الشافعية إلى أنه على التراخي، واستدلوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخره إلى سنة عشر، ولو كان على الفور ما أخره والجمهور على أنه على الفور واستدلوا بأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: " تعجلوا الحج -يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " وأما تأخيره - صلى الله عليه وسلم - فإنه لعذر، فالسنة التي حصل فيها فتح مكة هو منشغل بالجهاد وبالحصار وبقسم الغنائم ، وكذلك كان أهل الجاهلية يحجون والمشركون كثير ، أما سنة تسع ، فإن المشركين يحجون فيها ومعهم عادات ، فأراد أن يطهر البيت قبل أن يحج ، فأرسل أبا بكر حاجًا، ومعه بعض الصحابة وأمرهم أن ينادوا: " ألا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " فلما كانت السنة العاشرة، وإذا البلاد قد أمنت، وإذا المسلمون قد عرفوا حرمة البيت، فحج في تلك السنة وبين للناس مناسكهم، وسميت حجة الوداع لأنه ودع الناس فيها.
اشتراط المحرم للمرأة عند حدوث الخوف، وذلك لأنها قديمًا إذا سافرت على الراحلة على البعير لم يؤمن أن يعرض لها قطاع الطريق، ويعرض لها أهل شر وأهل فساد، وهي لا تقدر أن ترد عن نفسها، فلذلك اشترط لها المحرم، وذهب المالكية إلى أنه يجوز لها أن تحج مع نسوة ثقات، وذلك لأن المالكية أغلبهم في المغرب في الأندلس وفي جهات إفريقيا بعيدة، ويشق عليهم أن يحجوا كل عام، فلذلك لا يحج منهم إلا أفراد قلة، فقالوا إذا تيسر للمرأة حج، ولم يكن لها محرم، فإن عليها أن تحج مع نسوة ثقات معهن محارمهن ، والجمهور قالوا: لا.(1/243)
لكن في هذه الأزمنة قد يتسامح في ذلك، وذلك لعدم الخلوة المحذورة ولقصر المدة. الخلوة هي كون المرأة مثلًا تسافر مسيرة شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر، وهي راكبة على البعير، يمد بها بعيرها يومًا هنا ويومًا هنا، يخلو بها إنسان ليس بمحرم، أما في هذه الأزمنة فإذا ركبت في الطائرة مثلًا أو في الباخرة أو في الحافلة، ركبت بين نساء ولم يكن أحد يتعرض لها ولا يميزها، واستقرت في مركبها إلى أن تنزل دون أن يتفطن لها، ودون أن يعرفها أحد ودون أن يخلو بها أحد .
فالخلوة في هذه الأزمنة قليلة، ومع ذلك لا يزال الشرط باقيًا، لكن عند الضرورة الخادمات اللاتي يقدمن بلا محارم، فيشترط أهلهن عليكم أن تحجوا بهن إذا حجت مع حافلة، مع حملة يميزون الرجال عن النساء، ويجعلون لهن مستقرًا خاصًا، فلعل ذلك حائز للحاجة، أما إذا كان الحج لا يحتاج إلى سفر كما لو كانت في مكة، فمكة قريبة لا تحتاج إلى محرم. حديث جابر في صفة حج النبي - صلى الله عليه وسلم -
حديث جابر هذا ساقه المؤلف -رحمه الله- كأنه يكتفي به عن صفة الحج، فيقول جابر - رضي الله عنه - " مكث النبي الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة تسع سنين لم يحج " أي: لم يتيسر له، فقبل الفتح كان أهل مكة منعوه حتى منعوه، وقد أحرم بالعمرة في سنة ست ، وبعد الفتح انشغل فلم يتيسر له إلا هذه السنة.
أذن في الناس بالعاشرة في السنة العاشرة أمر أن يؤذن وينادى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاج، يعني هذا العام قدم المدينة بشر كثير ممن حول المدينة من أهل القرى ومن البوادي، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدوا به، لكونه إمامهم في الحج وإمامهم في العبادة، كلهم يحب أن يقتدي به، فلما عزم على الحج خرج للحج، وكان خروجه لخمس بقين من ذي القعدة، واختلف في يوم الخروج، فقيل: إنه يوم الخميس، وقيل غير لك .(1/244)
واختلف في ذلك ابن القيم وابن حزم تكلم على الحجة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن القيم في زاد المعاد، واستوفى ما يقال حولها في نحو أكثر من مائة وخمسين صفحة، كلها تتعلق بحج النبي - صلى الله عليه وسلم - في زاد المعاد.
لما خرجوا نزلوا في ذي الحليفة، وهي ميقات أهل المدينة ، وتسمى الآن أبيار علي، ويذكر شيخ الإسلام أن هذه التسمية، لا أصل لها، وذلك لأن الرافضة يدعون أن عليًا قاتل فيها الجن. أن هناك بئرًا قاتل فيها الجن علي، وأن ذلك من فضائله فالأصل في تسميتها ذو الخليفة، لأن فيها شجر ونبات يسمى الحلفة، وتصغر الحليفة، ذو الحليفة أي ذات الحلفة. بينها وبين المسجد النبوي ستة أميال. سار، صلى الظهر بالمدينة أربعًا وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، وبات بذي الحليفة، وبات الذين معه من الحجاج في ذي الحليفة، وكان من جملتهم أبو بكر - رضي الله عنه - وكان معه امرأته أسماء بنت عميس فصادف أنها حامل... فولدت تلك الليلة ولدت محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر تسأله ماذا تفعل، فأمرها بأن تحرم، ولو كانت نفساء، وأمرها بأن تتحفظ وتستثفر بثوت، وتلبي كما يلبي الحجاج .
والظاهر أن الدم انقطع عنها في نصف شهر، وذلك لأنها رجعت معهم، فيدل على أن النفاس قد ينقطع في نصف شهر، وذلك لأنها ولدت مثلًا في خمس وعشرين من ذي القعدة ثم لا بد أنها طافت طواف الحج طواف الحج لا بد من طوافه ، فلا تخرج حتى تطوف ، فلعلها طهرت في اليوم العاشر أو الحادي عشر أو الثاني عشر أو الثالث عشر.(1/245)
النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من منى في اليوم الثالث عشر ، وأبو بكر معه ، وكذلك أيضًا خرج من مكة في صباح اليوم الرابع عشر فلا بد أنها طافت في هذه الأيام ، فيدل على أن النفاس قد ينقطع في أقل من عشرين يوما ، قال لها: " اغتسلي " أخذوا من هذا سنية الاغتسال للإحرام حتى ولو كان الإنسان لا يصلي كالمرأة الحائض ، أنها تغتسل فإذا شرع الاغتسال حتى للحائض والنفساء، فغيرهما بطريق الأولى، لكن في هذه الأزمنة قد يخف أمره يعني لو اغتسلت مثلًا في الرياض وتنظفت ثم ركبت الطائرة أو ركبت السيارة ووصلت بعد ثمان ساعات أو عشر ساعات عن طريق البر . أو بعد ساعة أو ساعة ونصف عن طريق الجو لا يمكنك أن تتسخ.
الاغتسال القصد منه حصول النظافة ، فيكفي يكفي الوضوء في ذلك المكان للإحرام ، فالحاصل أنه أمرها بالاغتسال ، فدل على شرعيته والاستثفار هو التحفظ به، أي لتجعله على عورتها حتى يمسك الدم، قوله: " فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ثم ركب " .
الصلاة هنا هي الفجر، صلى صلاة الصبح ثم ركب القصواء، وهي ناقته التي حج عليها ناقته مشهورة، وتسمى سابقة الحاج قبل أن تكون له، اختلف متى لبى ففي حديث جابر هذا ذكر أنه لما " استوت به ناقته على البيداء أهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك " والبيداء هي المكان المتسع بعد ذي الحليفة كأنه لما استوى على البيداء، وصار في تلك الصحراء الواسعة رفع صوته بالتلبية ، وروي عن عبد الله بن عمر قال: " بيداؤكم هذه التي تكذبون فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد أهل في مصلاه " .
والصحيح أنه أهل لما صلى الركعتين التي أحرم بعدهما فسمعه أناس فنقلوا ذلك، ثم لما ركب ناقته، واستوت به أهل مرة ثانية، فسمعه آخر ثم لما وصل إلى البيداء، أهل فعند ذلك سمعه الجمع كله فضج الناس بالتلبية.(1/246)
الإهلال هو رفع الصوت، ومنه سمى الهلال؛ لأنه الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم مستبشرين به، وقول أهل بالتوحيد لأن تلبيته مشتملة على التواحيد، كرر فيها ما يدل على التوحيد، وذلك لنسخ التلبية الجاهلية تلبية المشركين، كان فيها شرك، كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، فلما أهل كرر التوحيد، فقال: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك " لبيك هذه مرة " لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك " فكرر قوله: " لا شريك لك " إبطالًا لقولهم: إلا شريكًا هو لك، هكذا كانت التلبية التي لباها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أهل الناس بهذا الدين يهلون به يعني الناس الذين معه كانوا يلبون بتلبية أخرى منهم من يوافقه، ومنهم من يضيف إليها. بعضهم يقول: لبيك وسعديك والخير بيديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، نحن عبادك الوافدون إليك، الراغبون فيما لديك، وبعضهم يقول: لبيك حقًا حقًا، تعبدًا ورقًا، وبعضهم يقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة، وبعضهم يقول: لبيك والرغباء إليك والعمل، ويقرهم على ذلك، ولكنه لازم تلبيته ما رد عليهم شيئًا، لزم تلبيته .
يقول جابر: " لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة " فلم نذكر العمرة، إنما هذا حج، وذلك لأنهم قبل الإسلام، ما كانوا يعتمرون مع الحج، بل يعتمرون في غير أشهر الحج يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فظنوا أنها لا تجوز العمرة مع الحج، فصاروا لا يعرفون إلا الحج، كلهم إنما أحرموا بالحج، ولكن ثبت عن ابن عمر وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرهم قال: " من شاء أن يحرم بحج فليحرم، ومن شاء أن يحرم بعمرة فليفعل، ومن شاء أن يحرم بحج وعمرة فليفعل فقالت عائشة: فكنت ممن أهل بعمرة " فدل على أن هناك من أهل بعمرة مفردة.(1/247)
يقول: " حتى إذا أتينا البيت معه " يعني لما وصلوا إلى مكة، " استلم الركن " ويراد بالركن هنا الحجر الأسود، بدأ به وهذا يدل على سنيته، وأجمل الطواف هنا ولم يذكر كيفية الطواف، ولا الدعاء في الطواف. أجمله إلا أنه ذكر أنه رمل ثلاثًا ومشى أربعة أشواط، وفي بعض الروايات في حديث ابن عمر: " خبا ثلاثًا ومشى أربعًا " .
الرمل هو الإسراع في المشي مع مقاربة الخطى، وفعله لأجل إغاظة المشركين. فعله بعمرة القضية، ثم أصبح سنة يقول: ثم نفذ إلى مقام إبراهيم. المقام المعروف الذي شرق البيت، ثم قرأ هذه الآية من سورة البقرة { ((((((((((((( ((( ((((((( (((((((((((( ((((((( } ليشير أنه سوف يصلي في هذا، فصلى فيه ركعتين جعل المقام بينه وبين البيت.
أي صلى شرق المقام، قرأ في هاتين الركعتين سورتي الإخلاص لما فيهما من تجديد العقيدة، حتى يؤكد أن طوافه بالبيت لله لا أنه تعظيم للبيت أو عبادة للبيت، وإنما هو عبادة لرب البيت { ((((((((((((((( (((( (((((( (((((((((( ((( } بعدما صلى الركعتين رجع إلى الركن الذي هو الحجر، واستلمه. هذه يقولون: سنة قد أميتت، وهي أنك إذا انتهيت من ركعتي الطواف، ترجع إلى الحجر، وتستلمه، ثم تخرج إلى الصفا . قليل من يفعل ذلك، وإذا لم يتيسر لك استلامه تشير إليه. بعد ذلك خرج إلى الصفا باب هناك قديم يسمى باب الصفا، يخرج إلى الصفا، يقول:
" فلما دنا من الصفا " أي قرب منه أو رقا عليه قرأ هذه الآية: { ( (((( (((((((( (((((((((((((( ((( (((((((((( (((( }
شعائر الله هي المشاعر التي جعلها محل عبادة، فالصفا والمروة محل عبادة.(1/248)
قوله: " أبدأ بما بدأ الله به " الله تعالى قدم الصفا { ( (((( (((((((( (((((((((((((( } بدأ بالصفا، فرقا عليه، فدل على سنية البدء بما بدأ الله، واستدلوا بهذا على أنه يشرع أن يبدأ بكل شيء بدأ الله به، استدلوا به على ترتيب أعضاء الوضوء ترتيب أعضاء الوضوء. وحد الله وكبره لما رقا على الصفا، أخذ يهلل ويكبر، ومن ذلك قوله: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده صدق وعده، أو أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء قبله ولا بعده " .
دعا بعد ذلك وكرر هذا التهليل ثلاث مرات؛ لأن هذا بدء عبادة؛ فناسب أن يبدأها بهذا الذكر. بعد ذلك نزل متوجهًا إلى المروة يمشي مشيًا عاديًا حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى. كان بين الصفا والمروة واد أدركناه قبل أربعين سنة أو قبل خمس وأربعين سنة، فجرى منخفض، فكانوا إذا نزلوا فيه يسعون حتى ينتهوا منه ، والآن قد سوى وجعلوا علاماته وهي الأعلام الخضر علمين أخضرين، يعني نجفات خضر، فما بينهما هو محل مجرى الوادي. ذكروا أن هاجر أم إسماعيل لما نزلت الوادي أسرعت السير؛ لأنها لما نزلت خفي عليها ولدها فصار سنة الإسراع، فيما بين العلمين، فإذا لما أنه صعد من الوادي مشى حتى أتى المروة، يقول: " فعل على المروة كما فعل على الصفا " يعني أنه ذكر الله وكبره، وهلله ووحده، يقول: حتى كان آخر طوافه على المروة، الشوط السابع تم بالمروة.
بعد ذلك خرج إلى الصفا، باب هناك قديما يسمى باب الصفا، يخرج إلى الصفا يقول:
فإذا لما أنه صعد من الوادي مشى، حتى أتى المروة يقول: " فلما دنا من الصفا " يخرج منه أو رقى عليه، قرأ هذه الآية { ( (((( (((((((( (((((((((((((( ((( (((((((((( (((( }(1/249)
شعائر الله هي المشاعر التي جعلها محل عبادة، فالصفا والمروة محل عبادة، قوله: " أبدأ بما بدأ الله به " الله تعالى قدم الصفا. { ( (((( (((((((( (((((((((((((( } بدأ بالصفا فرقى عليه، فدل على سنية البدء بما بدأ الله به، واستدلوا بهذا على أنه يشرع أن يبدأ بكل شيء بدأ الله به. استدلوا به على ترتيب أعضاء الوضوء، " ووحد الله وكبره " لما رقى على الصفا أخذ يهلل، ويكبر، ومن ذلك قوله: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده صدق وعده، وأنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء قبله ولا بعده " .
دعا بعد ذلك، وكرر هذا التهليل ثلاث مرات؛ لأن هذا بدء عبادة، فناسب أن يبدأها بهذا الذكر، بعد ذلك نزل متوجها إلى المروة يمشي مشيا عاديا، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى. كان بين الصفا والمروة واد أدركناه قبل أربعين سنة، أو قبل خمسة وأربعين سنة مجرى منخفض، فكانوا إذا نزلوا فيه يسعون حتى ينتهوا منه، والآن وقد سوي جعلوا علامته، وهي الأعلام الخضر علمين أخضرين يعني: نجفات خضر، فما بينهما هو محل مجرى الوادي. ذكروا أن هاجر أم إسماعيل لما نزلت في الوادي أسرعت السير؛ لأنها لما نزلت خافت على ولدها، فصار سنة الإسراع فيما بين العلمين.(1/250)
" فعل على المروة، كما فعل على الصفا " يعني: أنه ذكر الله، وكبره، وهلله ووحده، يقول: " حتى كان آخر طوافه على المروة الشوط السابع تم بالمروة " ولما انتهى منها كان قد انتهى من أعمال العمرة، فقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة " وهذا دليل على أنه فضل التمتع ، الذي هو الإحرام بالعمرة ، وأمر من لم يكن معه هدي أن يتحلل " من كان منكم ليس معه هدي ، فليتحلل ، وليجعلها عمرة " هكذا أخبرهم، أحل أكثرهم الذين ليس معهم هدي ، أما الذين معهم هدي كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وأبو طلحة، وأشباهم من الأثرياء الذين معهم هدي، فإنهم بقوا على إحرامهم لم يتحللوا.
أما الذين ليس معهم هدي، فإنهم تحللوا، فقصروا من رؤوسهم، ولبسوا الثياب، وتطيبوا وجامعوا النساء، رفع عنهم كل محظور، وتمتعوا بالمباحات، من اليوم الذي قدموا فيه، وهو اليوم الرابع، أو الخامس من شهر ذي الحجة، وبقوا كذلك إلى اليوم الثامن من ذي الحجة، الذي يسمى يوم التروية. قام سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: " يا رسول الله أرأيت عمرتنا هذه؟ -وهي فسخ الحج إلى العمرة- ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد، وشبك بين أصابعه، وقال: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " يعني: كانوا يعتمرون قبل الإسلام عمرة مستقلة، فأخبر بأنه يجوز إدخال الحج على العمرة، ويصير الإنسان قادما، ويحرم بالعمرة والحج جميعا، فتدخل العمرة في أعمال الحج، " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " " لا، بل لأبد الأباد " أي هذا الفسخ ليس خاصا بهؤلاء.(1/251)
علي كان في الجنوب قدم من اليمن، ومعه بدن، معه ثلاثون بدنة والنبي - صلى الله عليه وسلم - قدم من المدينة ومعه سبعون، فأصبح الذي مع علي والرسول مائة بدنة، لما قدم علي وجد فاطمة قد حلت، ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت، وتطيبت، وفرشت في البيت، المسكن الذي كانت فيه، ونفحته بالطيب وظنت أن عليا سوف يتحلل، فلما جاءها وجدها على هذه الحال، فأنكرها، وذهب محرشا عليها للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: هل رأيتم حال (شأن) فاطمة التي صنعت. ذكر ذلك لما قالت: إن أبي أمرني بهذا، لما ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبره، يقول: " فأخبرته بالذي أنكرته عليها، قال: صدقت " .
ماذا قلت حين فرضت ؟ بأي شيء أحرمت يا علي ؟ فأخبر بأنه أحرم إحراما معلقا، يعني: إني قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا دليل على جواز الإحرام إحراما معلقا على فعل الغير، فإذا تيسر معرفة ما أهل به ذلك الإنسان، وإلا، فله الخيار أن يجعلها عمرة، أو حجة يقول: " لما قال: إني أهللت بما أهل به.. قال إني معي الهدي " يعني: وأنت معك هدي أيضا، أشركه بهديه، فلا تحل، كان جماعة الهدي الذي قدم بها علي، والذي أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة.(1/252)
فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن كان معه هدي ، فبقوا على حلهم يوم التروية اليوم الثامن، توجهوا إلى منى أحرموا إحراما جديدا من الأبطح كإحرامهم من ذي الحليفة، وتوجهوا محرمين إلى منى، مهلين بالحج " ركب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأبطح إلى منى، ونزل بمنى، وصلى بها الصلوات الخمس الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد بها حتى طلعت الشمس، صباح يوم التاسع، وأرسل من يبني له قبة بنمرة، قبة من شعر تضرب له، فصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوجها إلى عرفة، وكانت قريش لا تتجاوز مزدلفة، ويسمون أنفسهم الحمس، ويقولون: نحن أهل مكة لا نخرج من حدود الحرم، فظنوا أنه سوف يفعل كفعلهم ، لا تشك قريش أنه واقف عند المشعر الحرام ، يعني المزدلفة، ولكنه تجاوز، قريش كانت تزعم في الجاهلية أنها تقف بمزدلفة " أجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تجاوز مزدلفة حتى أتى عرفة " -في هذه النسخة عرنة، والصواب " حتى أتى عرفة- فوجد القبة قد ضربت له بنمرة " .(1/253)
وهذا دليل أن نمرة جزء من عرفة، وأن عرفة مكان واسع، فعلى هذا من وقف بنمرة على الصحيح ، فإنه قد وقف بعرفة ، فالحاصل أنه " نزل في تلك القبة ، وبقي حتى زاغت الشمس، فلما زاغت الشمس (مالت) أمر بالقصواء، فرحلت له، فركب حتى أتى بطن الوادي - يعني: وادي نمرة- وخطب الناس وهو على راحلته " ذكروا هذه الخطبة: " إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم " بعد أن قال: " أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، أي شهر هذا؟ شهر حرام، أي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، فقال إن دماءكم، وأموالكم ... حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا " تأكيدا لهم على ألا يعتدي أحد على أحد، ثم قال: " ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع " يعني: أمور الجاهلية ألغاها الإسلام، ومن ذلك عادات الجاهلية، وهي -مثلا- طوافهم بالبيت عراة وذبحهم، وأسواقهم واجتماعاتهم، كلها ألغاها، ودماء الجاهلية التي كانت بينهم أمر بإلغائها، بوضعها، بينهم كانت دماء، وقتال.(1/254)
قال: " أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - يعني: من بني هاشم- كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل " فقال: لا أحد يطالب بشيء من دماء الجاهلية، كذلك قال: " ربا الجاهلية موضوع " ذلك؛ لأنه كانت بينهم معاملات ربوية " وأول ربا أضع من الربا ربا العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - " يعني: أبطل الديون الربوية موضوع كله، ثم أوصاهم بالنساء: " اتقوا الله في النساء " يعني: الزوجات، " فإنكن أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله " حثا لهم على أن يحسنوا إلى النساء، ولا يظلموهن، وذكر حقهم وحقهن " لكم عليهن أن يحفظنكم، ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه " ولا يأذن يعني: لا يدخلن بيوتكم، ويجلسن على فرشكم أحدا تكرهونه " فإن فعلن، فاضربوهن ضربا غير مبرح " يعني: لو أدخلت رجلا حتى ولو من أقاربها بغير إذن زوجها، فإن له المنع " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " هذا مذكور في القرآن { ((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((( (((((((((((((( ((((((((((((((( } يعني: على الزوج.
" وقد تركت فيكم ما لم تضلوا بعدي إن اعتصمتم به كتاب الله " وفي رواية " وسنتي " يعني: تمسكوا به، وبعد ذلك قال: " وأنتم مسئولون عني " تسألون ماذا تقولون ؟ " ما أنتم قائلون؟ فنطقوا، وقالوا: نشهد أنك قد بلغت ، وأديت، ونصحت " شهدوا له بالبلاغ ، " فقال: بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس، اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات " .(1/255)
بعد ذلك أذن بلال لصلاة الظهر والعصر جمع تقديم، " صلى بهم الظهر، ثم أقام، فصلى العصر جمعا وقصرا، ولم يصل بينهما " وذلك ليطول الوقت وقت الوقوف، " بعد ذلك ركب، حتى أتى الموقف الذي هو عند الصخرات في حبل الرحمة، فجعل بطن القصواء إلى الصخرات " ناقته إلى الصخرات الكبار " وجعل حبل المشاة بين يديه " الرمل الذي عند شمال، أو شمال الجبل جعله بين يديه يعني: قدماه " واستقبل القبلة، ولم يزل واقفا على ناقته رافعا يديه، يدعو حتى إنه سقط مرة الخطام، فتناوله بيده اليسرى، واليمنى مرفوعة، أو بيده اليمنى واليسرى مرفوعة، لم يزل يدعو حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص " يعني: قيل إن القرص، هو الشمس وقيل إنه الصفرة التي تكون بعد الغروب " أردف أسامة بن زيد خلفه على القصواء " ورخص لهم بأن يذهبوا متجهين إلى المزدلفة " ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام " .(1/256)
يعني أنه أخذ يجر الزمام " حتى أن رأسها ليصيب مورك الرحل " يعني: عصا الرحل من شدة ما يمسكها حتى لا تسرع؛ لأنهم يسرعون لما أنهم انصرفوا، وينادي، ويقول -بصوته-: " أيها الناس السكينة السكينة " يعني: لا تتضايقوا، ولا تزدحموا " كلما أتى حبلا من الحبال " الكثب الرملية كلما أتى كثيبا " أرخى لها حتى تصعد " صار كذلك حتى أتى المزدلفة. يقول: " حتى أتى المزدلفة ، وصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد، وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا " يعني: لم يتطوع بينهما، وهذا الصحيح أنهما بإقامتين، " نام تلك الليلة حتى أصبح، وصلى الصبح ذلك اليوم صباح العيد مبكرا، حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، بعد ذلك ركب القصواء " التي هي الناقة التي حج عليها " حتى أتى المشعر " المشعر الذي هو الجبل الذي في وسط مزدلفة " استقبل القبلة، ووقف، ودعا الله، وكبره، وهلل حتى أسفر جدا " لم يزل واقفا حتى أسفر " دفع قبل أن تطلع الشمس " يعني: مخالفة للمشركين كانوا لا يدفعون حتى تشرق الشمس على سبير فيقولون: أشرق سبير كيما نغير.
" لما انصرف من المزدلفة أردف الفضل ابن العباس، وسار حتى أتى بطن محسر (الوادي الذي بين منى ومزدلفة) فأسرع قليلا " لأنه الوادي الذي تحسر فيه فيل أصحاب الفيل " سلك الطريق الوسطى، التي تخرج على الجمرة الكبرى " الطريق الأوسط الذي يسمى الآن طريق الجمرة " حتى أتى جمره العقبة ، وهي التي عند الشجرة، وكانت في أصل الجبل، رماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة يقول: الله أكبر، الله أكبر، مثل حصى الخذف " الحصى الذي يقذف به الإنسان بين أصابعه " رمى من بطن الوادي، جعل مكة عن يساره، ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة " .(1/257)
" بعد ذلك انصرف إلى المنحر، إلى بدنه، نحر بيده ثلاثا وستين من البدن " هذا دليل على استحباب أن يتولى نحرها بيده " بعد ذلك أعطى عليا، ونحر ما غبر " يعني: ما بقي، وأشركه بهديه بعد ذلك " أمر بأن يقطع من كل بدنة بضعة- قطعة لحم- فجعلت في قدر وطبخت حتى نضجت، فأكل من لحمها، هو وعلي، وشرب من مرقها حتى يتحقق قول الله -تعالى- { ((((((((( ((((((( ((((((((((((( } شرب من مرقها، وأكل من لحمها، بعد ذلك أفاض إلى البيت؛ ليكمل حجه، فصلى بمكة الظهر وطاف بالبيت، إما قبل صلاته، وإما بعدها " كان بني عبد المطلب هم الذين يسقون على زمزم، فقال لهم: " انزعوا بني عبد المطلب " العباس وخدمه " فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم، لنزعت معكم " لو أنه نازع معهم يعني: اجتذب دلوا، نازعهم الناس، كل منهم يقول: سوف أقتدي بالرسول. " فناولوه دلوا، وشرب منه " إلى هنا انتهى الحديث.
والحاصل أنه يقتدى به - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأفعال؛ حيث إنه كان يقول: " خذوا عني مناسككم " فأكمل ما يكون به الحج الاقتداء به، عليه الصلاة والسلام.
ونكمل بعد الحج، غدا إن شاء الله.
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد، وعلى آله وصحبه.(1/258)
ابتدأنا في الحج وساق المؤلف -رحمه الله- حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأنه اكتفى به عن أن يذكر ما على الحاج، وهو حديث جامع، لكن لم يذكر فيه بعض الأشياء، ونبهنا على بعض الأشياء التي تلحق به، فمنها ذكر المواقيت " أحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من ميقات أهل المدينة " وهو ( ذو الحليفة ) وقد وقت لأهل كل قطر ميقاتا في جهتهم، فميقات أهل نجد: قرن المنازل، وميقات أهل اليمن، يلملم، أو ما يسمى بالسعدية وميقات أهل الشام: الجحفة، ثم ميقات أهل العراق، حدث بعدما فتحت العراق في عهد عمر - رضي الله عنه - ما يسمى بذات عرق، وأما أهل مكة، فإن ميقاتهم من مكة للحج، وأما العمرة، فعمرتهم من أدنى الحل مع أن أهل مكة، لا يطالبون بعمرة ؛ لأن العمرة ما يسافر لها، وهم في بلادهم، فلا يحتاجون إلى سفر، فعمرتهم الطواف، ومما يلحق بالحديث اختيار المناسك، فقد اشتمل الحديث على قول جابر: " لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة "(1/259)
يعني: أنهم محرمون كلهم، أو جلهم بالحج، أي مفردين لكن في حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرهم وأن منهم من أهل بالحج، ومنهم من أهل بالعمرة، ومنهم من جمع، أهل بالحج والعمرة، وهو القارن، واختلف أي الأنساك أفضل؟ فذهب الشافعي ومالك إلى اختيار القران، وهو الذي أحرم به النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: إن الله لا يختار لنبيه إلا ما هو الأفضل، وذهب الشافعي في رواية، وأحمد في رواية إلى تفضيل الإفراد، وقالوا: إنه أفضل، حيث إن فيه الإتيان بحج كامل في سفر، ثم إنشاء سفر آخر للعمرة، وكانوا يستحبون أن تكون العمرة في سفر مستقل، والحج في سفر مستقل، وهو الذي كان يأمر به عمر -رضى الله عنه- كان ينهاهم عن أن يعتمروا مع حجهم، حتى ينشئوا عمرة في أثناء السنة، مخافة أنهم إذا اعتمروا مع حجهم في سفر واحد، تعطل البيت، فيريد أن يمنعهم من العمرة مع الحج، حتى يعتمر بعضهم في محرم، ويعتمر آخرون في صفر، ويعتمر آخرون في ربيع، وآخرون في جماد، وآخرون في رجب، وهكذا هذا الذي قصده عمر من منعهم أن يحرموا بالحج والعمرة، أو يتمتعوا بالحج إلى العمرة، ولكل اختياره.(1/260)
أما الإمام أحمد -رحمه الله- فإنه يفضل التمتع، ويفضل لمن أحرم مفردا أن يفسخ، وأن يكون إحرامه بعمرة، ثم بحجة يعني: متمتعا، ويقول: إنه آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم اشتمل حديث جابر على الرمل في طواف القدوم، وذكرنا أنه سنة، وليس بواجب وسببه لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعمرة القضية، وأهل مكة لم يسلموا، قالوا لسفهائهم: يقدم عليكم قوم، قد وهنتهم حمى يثرب، يريدون بذلك أن يحقروا شأنهم عند عوامهم، حتى لا يرون لهم هيبة، حتى لا يهابوهم، فلما علم بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يظهروا القوة والجلد، فأمرهم بالرمل، أمرهم أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا أربعة، ولم يمنعهم أن يرملوا السبعة كلها إلا الإبقاء عليهم، يعني: الشفقة حتى لا يتضرروا، ولا يتعبوا، ولما أمرهم بالرمل في تلك العمرة رأى أن الرمل -أيضا- أصبح سنة، فرمل في قدومه ثلاثة أشواط، ومشى أربعة.
ولم يذكر جابر الاضطباع، وقد ثبت أنه -عليه الصلاة والسلام- أمرهم بالاضطباع، وهو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر؛ وذلك ليكون أنشط لهم في الرمل ، وفي الطواف، فيكون الاضطباع -أيضا- خاصا بطواف القدوم، ويكون الاضطباع في الأشواط السبعة كلها، وإذا انتهى من الأشواط ، فإنه يعيد الرداء إلى ما كان عليه؛ ليستر منكبيه.
كذلك لم يذكر بقية الحج، يعني: رجوع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد، يوم النحر من مكة إلى منى، لا شك أنه رجع، بعدما طاف وسعى يوم النحر، كذلك مبيته بمنى ثلاث ليال، يعني: ثلاثة أيام التشريق بعد يوم النحر ، كذلك رميه للجمرات في ثلاثة الأيام، كذلك طوافه للوداع، ولعله ترك ذلك؛ لكونه أصبح مشهورا، ومعروفا.
والآن نواصل القراءة:
أركان الحج وواجباته(1/261)
فقال -رحمه الله-: وكان - صلى الله عليه وسلم - يفعل المناسك، ويقول للناس: " خذوا عني مناسككم " فأكمل ما يكون من الحج، الاقتداء فيه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه -رضى الله عنهم- ولو اقتصر الحاج على الأركان الأربعة التي: هي الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي، والواجبات: التي هي الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الغروب، والمبيت ليلة النحر بمزدلفة، وليالي أيام التشريق بمنى، ورمي الجمار والحلق، أو التقصير لأجزأه ذلك.
والفرق بين ترك الركن في الحج، وترك الواجب أن تارك الركن لا يصح حجه، حتى يفعله على صفته الشرعية، وتارك الواجب حجه صحيح، وعليه إثم ودم لتركه، ويخير من يريد الإحرام بين التمتع، وهو أفضل، والقران والإفراد، فالتمتع هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج من عامه، وعليه هدي إن لم يكن من حاضري المسجد الحرام، والإفراد هو أن يحرم بالحج من الميقات مفردا، والقران أن يحرم بهما معا، أو يحرم بالعمرة، ثم يدخل الحج عليها، قبل الشروع في طوافها، ويضطر المتمتع إلى هذه الصفة، إذا خاف فوات الوقوف بعرفة إذا اشتغل بعمرته، وإذا حاضت المرأة، أو نفست، وعرفت أنها لا تطهر قبل وقت الوقوف بعرفة، والمفرد والقارن فعلهما واحد، وعلى القارن هدي دون المفرد.
ويجتنب المحرم جميع محظورات الإحرام من حلق الشعر، وتقليم الأظفار، ولبس المخيط، إن كان رجلا، وتغطية رأسه إن كان رجلا، ومن الطيب رجلا وامرأة، وكذلك يحرم على المحرم قتل صيد البر الوحشي المأكول، والدلالة عليه والإعانة على قتله.(1/262)
وأعظم محظورات الإحرام: الجماع؛ لأن تحريمه مغلظ مفسد للنسك موجب لفدية بدنة، وأما فدية الأذى إذا غطى رأسه، أو لبس المخيط، أو غطت المرأة وجهها، أو لبست القفازين، أو استعمال الطيب، فيخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، وإذا قتل الصيد خير بين ذبح مثله، إن كان له مثل من النعم، وبين تقويم المثل بمحل الإتلاف، فيشتري به طعاما، فيطعمه لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوما، وأما دم المتعة والقران، فيجب فيه ما يجزئ في الأضحية، فإن لم يجد صام عشرة أيام: ثلاثة في الحج، ويجوز أن يصوم أيام التشريق منها، وسبعة إذا رجع، وكذا حكم من ترك واجبا، أو وجبت عليه الفدية لمباشرة.
وكل هدي، أو إطعام يتعلق بحرم، أو إحرام، فلمساكين الحرم من مقيم وآفاقي، ويجزئ الصوم بكل مكان، ودم النسك كالمتعة والقران. والهدي المستحب أن يأكل منه، ويهدي، ويتصدق والدم الواجب لفعل محظور، أو ترك الواجب، ويسمى دم جبران لا يأكل منه شيئا، بل يتصدق بجميعه؛ لأنه يجري مجرى الكفارات.
وشروط الطواف مطلقا: النية، وأن يبدأ به من الحجر، ويسن له أن يستلمه، ويقبله، فإن لم يستطع أشار إليه، ويقول عند ذلك: بسم الله ، الله أكبر اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - ويجعل البيت عن يساره، ويكمل الأشواط السبعة، وأن يتطهر من الحدث والخبث، والطهارة بسائر الأنساك غير الطواف سنة غير واجبة، وقد ورد في الحديث " الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح به الكلام " ويسن له أن يضطبع في طواف القدوم، بأن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفه على عاتقه الأيسر، وأن يرمل في الثلاثة أشواط الأوائل منه، ويمشي في الباقي.(1/263)
وكل طواف سوى هذا لا يسن فيه رمل ولا اضبطاع، وشروط السعي النية، وتكميل السبعة، والابتداء من الصفا، والمشروع أن يكثر الإنسان في طوافه وسعيه، وجميع مناسكه من ذكر الله ودعائه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله " وعن أبي هريرة -رضى الله عنه- قال: " لما فتح الله على رسوله مكة، قام في الناس فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما حلت لي ساعة من نهار، وإنها لن تحل لأحد بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله ، فإنا نجعله في قبورنا وفي بيوتنا ، فقال: إلا الإذخر " متفق عليه. وقال: " المدينة حرام ما بين عَيْر إلى ثور " رواه مسلم.
وقال: " خمس من الدواب كلهن فاسق ، يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " متفق عليه.
في هذا تكميل لما في المناسك، مما هو توضيح لما مر في حديث جابر ، أو إضافات وتكميلات . المناسك التي يفعلها الحاج ، أو المعتمر تنقسم إلى:
أركان، وواجبات، وسنن ، فلا بد أن يأتي بالأركان، ولا يتم حجه، أو عمرته إلا بها، وأما الواجبات، فإذا تركها، فإنها تجبر بدم، وأما السنن، فلا شيء فيها، لا شيء في تركها، لكن الإتيان بها والمحافظة عليها أكمل، وأكثر ثوابا، فالأركان أربعة - أركان الحج كما هو معروف-: الإحرام والوقوف بعرفة والطواف بالبيت الذي هو طواف الزيارة والسعي بين الصفا والمروة، هذه عند الإمام أحمد كلها أركان، وعند غيره فيها خلاف.(1/264)
بالنسبة إلى الواجبات سبعة: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الليل ، والمبيت بمزدلفة إلى ما بعد نصف الليل، والمبيت بمنى أيام منى، ورمي الجمار، والحلق، أو التقصير ، وطواف الوداع هذه الواجبات أما بقية المناسك ، فإنها سنن . وإن كان بعض العلماء جعل منها ما هو أركان، فالمبيت بمنى ليلة عرفة سنة عندنا، وهناك من أوجبه، والتلبية سنة عند أكثر العلماء، وهناك من جعلها ركنا، والأدعية، وكذلك الأذكار سنن.
وكذلك في الطواف فيه سنن -مثلا- الدعاء فيه واستلام الحجر، أو تقبيله من السنن، وكذلك استلام الركن اليماني من السنن ، واختلف في ركعتي الطواف عند الإمام أحمد -أيضا- أنها من السنن، وجعلها تابعة للطواف لا بد أن يكمل حجه بالأركان والواجبات.
يقول: لو اقتصر الحاج على الأركان الأربعة: وهي الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي، وعلى الواجبات: وهي الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الغروب، والمبيت بمزدلفة ليلة النحر، والمبيت بمنى ليالي التشريق، ورمي الجمار والحلق، أو التقصير؛ وطواف الوداع ما ذكره، ولكنه واجب عندنا.. لأجزئه ذلك، يعني: ترك بقية الأفعال: ترك الرمل مثلا، وترك الاضبطاع ، وترك التلبية ، وترك الدعاء ، وترك استلام الحجر، أو نحوه، وترك الصلاة خلف المقام، وترك الرقي على الصفا، والرقي على المروة، وترك رفع اليدين والدعاء، وما أشبه ذلك يعتبر أن هذه من السنن والمكملات .(1/265)
الفرق بين ترك الركن في الحج، وترك الواجب: تارك الركن لا يصح حجه، حتى يفعله على صفته الشرعية، وتارك الواجب حجه صحيح وعليه إثم وعليه دم لتركه، فالذي يترك الإحرام ما دخل في النسك؛ لأن الإحرام هو النية، هو نية النسك، فإذا وقف بعرفة بغير إحرام لم يكن حاجا، لا بد أن يكون محرما، والذي يحرم للحج، ولكن لا يطوف بعرفة ما يتم حجه. ومعناه أنه -مثلا- لو بقي في المزدلفة ، أو بقي في منى يوم عرفة، ولم يصل إلى عرفة ، ولم يقف فيها، ولو قليلا -يوم عرفة وليلة النحر- لم يتم حجه ورد الحديث قال - صلى الله عليه وسلم - " الحج عرفة " بمعنى أن معظم الحج وركن الحج، الذي يفوت هو يوم عرفة ، وأما البقية، فإنها لا تفوت الطواف بالبيت، الذي هو طواف الزيارة، أو طواف الإفاضة ركن، ولكنه لا يفوت إن طافه في يوم العيد، فهو أفضل، وأن طافه بأيام التشريق جاز، وإن طافه بعد ذلك، ولو -مثلا- في اليوم الخامس عشر، أو العشرين أدرك ذلك. السعي -أيضا- واجب على القول الصحيح، ومع ذلك لا يفوت ، يمكن إدراكه، ومحله بعد الطواف السعي ، لا بد أن يكون بعد الطواف المشروع، هذا هو القول الراجح.
والصحيح -أيضا- أنه لا يقدم على الطواف إلا للجاهل، إذا كان ناسيا، أو جاهلا، فسعى قبل الطواف، فإن ذلك يجزئه للحديث الذي ورد فقال: " لم أشعر، بل سعيت قبل أن أطوف، قال: لا حرج " .
والجمهور وجمهور الصحابة اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنه قدم الحج ، قدم في الحج وفي العمرة الطواف، بدأ بالطواف، فلما كمله أتى بعده بالسعي قالوا: لأن الطواف هو الأصل، وهو الذي أكثر الله من ذكره قال -تعالى- { ((((((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( (((( } وقال: { ((( (((((((( (((((((( (((((((((((((( (((((((((((((((( } وقال: { ((((((((( (((((((( (((((((((((((( ((((((((((((((((( } منها تحية مكة الطواف بالبيت، فيبدأ به.(1/266)
لذا نعتبر أن من قدم السعي ، وهو عارف بأنه لا يقدم ، فإنه يعيد السعي بعد الطواف، كذلك معلوم أن السنن مكملات كما ذكرنا، والواجبات مكملات، ولكن السنن، ولا شيء فيها، والواجبات تجبر بدم، الذي يحرم بعدما جاوز الميقات، يعتبر قد ترك نسكا، لماذا حددت هذه المواقيت؟ لماذا نص عليها؟
ليكون الإحرام منها، فإذا جاوزها، وأحرم بعدها، فقد ترك نسكا، ومن ترك نسكا، فعليه دم.
كذلك لو انصرف من عرفة قبل الغروب لخالف السنة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بقوا بعرفة، حتى غربت الشمس، فإذا انصرف قبل الغروب، فقد خالفهم، فيعتبر قد ترك واجبا، فعليه دم.
كذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه باتوا بالمزدلفة ليلة النحر، حتى أصبحوا إلا أنه رخص للضعفة والظعن أن ينصرفوا قبله ، في آخر الليل بعدما غرب القمر، رخص لهم، وذلك قبل الفجر بساعة، أو بساعتين حتى يرموا قبل حطمة الناس، هذا دل على أن المبيت يكون إلى نصف الليل، أو ثلثي الليل، فمن نفر في النصف الأخير من الليل، فقد أدى الواجب، ومن انصرف قبل أن ينتصف الليل، فقد ترك الواجب.
كذلك أيام منى الإقامة في منى من شعائر الحج، ومن المشعر، فلا بد أن الحجاج يقيمون في منى أيام منى، على الأقل يومين لقوله -تعالى-: { ((((( (((((((( ((( (((((((((( (((( (((((( (((((((( ((((( (((((((( (((( (((((( (((((((( (((((( (((((((( } .(1/267)
فالذين لا يقيمون بمنى في أيام منى، قد تركوا واجبا من الواجبات، فعليهم دم، واختلف في القدر المجزئ، فقال بعضهم: الليل يكفي، والأصل أن منى مقر الحجاج ليل، ونهارا، ولا يخرجون منها إلا لحاجة كالذين يذهبون للطواف، ثم يرجعون، أو الذين لهم عذر كالسقاة والرعاة، فقد رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للرعاة أن يذهبوا عند الإبل، عند الرواحل يرعونها، وأسقط عنهم المبيت، ورخص للسقاة الذين يسقون الحاج من زمزم، رخص لهم أن يبيتوا بمكة، ويتركوا المبيت بمنى؛ لحاجة الحاج إلى من ينزع لهم الماء ، فدل على أنه تختص الرخصة بمن له عذر ، فأما من لا عذر له، فلا بد أن يقيم بمنى ليلا ونهارا، هذا هو الأرجح، ولكن الواجب يتأتى بالليل، أن يكون في الليل في منى، وإذا امتلأت منى، فإن لهم أن ينزلوا في أقرب ما يجدونه منها، أقرب شيء من منى، فإذا امتلأت نزلوا في أدنى المزدلفة، وجاء بعدهم، فنزل بعدهم وجاء من بعدهم، فنزل وراءهم، ولو إلى نصف مزدلفة ذلك؛ لأنهم لم يجدوا مكانا فجلسوا، أو سكنوا في أقرب ما يمكنهم، بمنزلة ما لو امتلئ المسجد يوم الجمعة، فإن الذين يأتون يصفون عند الأبواب، ولا يصفون بعيدا ولو سامعين الصوت، بل يصفون قريبا قريبا، فهكذا إذا امتلأت منى يصفون، أو يسكنون في أقرب ما يمكنهم بهذه.(1/268)
كذلك -أيضا- رمي الجمار من الواجبات أيضا، فيوم النحر: ذكر في حديث جابر، أنه رمى جمرة العقبة، ولم يرم غيرها في ذلك اليوم، ورماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، أما الأيام الثلاثة لمن لم يتعجل، فإنه لا بد من رمي ثلاث جمرات، كل واحدة بسبع ووقت الرمي يبدأ من الزوال، أي بعد زوال الشمس، وينتهي على الصحيح بغروب الشمس ؛ وذلك لأن غروب الشمس يبدأ بها يوما آخر، فيكون هذا هو وقت الرمي، يرمي الجمرات مرتبا، يبدأ بالصغرى بسبع حصيات، ثم بالوسطى، ثم بالكبرى هذا في اليوم الأول، وهكذا في الثاني، وهكذا في الثالث إن لم يتعجل، ورخص بعض مشياخنا في الرمي ليلا امتدادا لليوم الذي قبله، واستدلوا بالرواية التي قال فيها أحد الرواة: " رميت بعدما أمسيت ، قال: لا حرج " وإن كان الشراح قالوا: إنه في يوم العيد، والمراد بالمساء آخر النهار، ولكن حملهم على ذلك المشقة ، فإذا لم يتمكن يوم العيد أن يرمي في النهار، ورمى في الليل، بعدما غربت الشمس أجزأه، وكذلك باليوم الحادي عشر إذا لم يتمكن، واستمر إما لزحام، وإما لانشغال، وإما لتعب، ورمى في الليل أجزأه.
أما اليوم الثاني عشر، فإن كان ممن يريد أن يتعجل، فلا بد أن يرمي قبل الغروب، ويخرج من منى، قبل أن تغرب الشمس، أما إذا كان لا يتعجل، بل يقيم في اليوم الثالث عشر، فله أن يرمي ليلا، أي في ليلة الثالث عشر، أما اليوم الثالث عشر، فإنه يرمي في الوقت المحدد: من الزوال إلى الغروب، ولا يؤخره إلى الليل؛ وذلك لأن الليل به تنتهي أيام التشريق، وبه تنتهي أيام الحج، وأيام الموسم.(1/269)
أما الحلق، فإنه يعتبر عبادة وقربة من القربات، ولو أنه إزالة شعر، ولو أنه فعل للنظافة، ولكنه قربة من العبادات؛ فلأجل ذلك لا بد منه، والحلق أفضل من التقصير، فقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - للمحلقين ثلاثا والمقصرين مرة ؛ وذلك لأن الحلق أتم في الامتثال، وإذا قيل بالتقصير، التقصير لا بد أن يعم فيها الرأس، لا بد أن يدور على الرأس، ويأخذ ما أمكنه من شعر الرأس، فإن كان شعره طويلا جمعه، وأخذ من رأسه من هنا ومن هنا، وإن كان قصيرا استدار عليه بالمقراض، وأخذ منه من كل جوانبه، حتى يحتاط، ويعلم أنه قد أخذ منه كله.
طواف الوداع: واجب، ولكنه يسقط عن الحائض والنفساء؛ وذلك للمشقة، وأما غيرهما، فلا يسقط، ومن تركه، فعليه دم كسائر الواجبات، ويفعل عند العزم على السفر، ويكون هو آخر أعمال الحج، ولا يقيم بعده، إن أقام بعده يوما، أو ليلة، فلا بد من إعادته، وكذلك إذا اتجر بعده إذا باع واشترى واستربح، فإنه يعيده. كذلك إذا خرج، وتذكر هو في الطريق، وأمكنه أن يرجع، فإنه يرجع، ما لم تشق عليه الرجعة، يجوز له أن يرجع لطواف الوداع، ولو من الرياض فضلا عن جدة والمدينة والطائف، يعني: المشقة كانت موجودة، ولكنها خفت في هذه الأزمنة، فسهل الرجوع، لكن لو رجع إلي بلاد خارج المملكة، وشق عليه الرجوع، فإن عليه دم.
يقول: الفرق بين ترك الركن، وترك الواجب : أن تارك الركن لا يصح حجه، حتى يفعله على صفته الشرعية، وتارك الواجب حجه صحيح، وعليه إثم؛ يعني: للنقص ودم لتركه، يقول: عند الميقات يخير من يريد الإحرام بين التمتع والقران والإفراد، واختيار المؤلف: التمتع، وهو أفضل يقول الإمام أحمد: عندي فيه ثمانية عشر حديثا صحاحا حسانا، يعني: في التمتع، أو في اختياره، أو في فسخ الحج إلى العمرة، وأنه آخر الأمرين.(1/270)
صفة التمتع: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج من عامه، وعليه دم، إن لم يكن من حاضري المسجد الحرام، هذه صفه التمتع، فلا بد من شروط.
الشرط الأول:
أن تكون عمرته في أشهر الحج " شوال وذو القعدة وعاشرا من ذي الحجة" فأن كانت عمرته في رمضان، فلا يسمى متمتعا.
الشرط الثاني:
أن يحج في ذلك العام ، فلو اعتمر مثلا في ذي القعدة، أو في أول ذي الحجة، ولكنه ما تيسر له الحج، ومنعه مانع، فلا دم عليه ولا يسمى متمتعا.
الشرط الثالث:
ألا يسافر بين الحج والعمرة مسافة طويلة، يعني: سفر قصر، فلو -مثلا- أنه اعتمر في شهر ذي القعدة، ثم رجع إلى أهله في الرياض مثلا، أو في القرى البعيدة، ثم رجع إلى مكة قرب الحج، وأحرم بالحج، فلا يسمى متمتعا.
الشرط الرابع:
ألا يكون من أهل مكة، ولو اعتمر في أشهر الحج لقوله -تعالى-: { ((((((( ((((( (((( (((((( ((((((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((( } هذه شروط وجوب الدم، أن تكون عمرته في أشهر الحج ، أن يحج من عامه، أن لا يسافر بينها مسافة القصر، ألا يكون من حاضري المسجد الحرام، فهذه إذا تمت الشروط، فهو متمتع، وعليه دم، وإذا قلت: لماذا سمي متمتعا؟(1/271)
التمتع في اللغة: الانتفاع، سمي متمتعا؛ لأنه انتفع بأي شيء انتفع؟ انتفع بحصول نسكين في سفر واحد، حيث سقط عنه أحد السفرين، الأصل -مثلا- أن يسافر للعمرة سفرا مستقلا، ثم يسافر للحج سفرا مستقلا، فإذا جمع بينهما في سفر، فقد سقط عنه أحد السفرين، فسمي متمتعا، يعني: منتفعا، هذا انتفاع حصل في سفر واحد، بما يعادل الحج والعمرة جميعا، وأراح نفسه، وعن التكلف وعن تجشم المشقة، وعن نفقة أخرى وما أشبه ذلك، فكان من تكملة ذلك أن يذبح هذا الهدي، أن يذبحه تكميلا لنسكه، فلأجل ذلك إذا سافر للحج سفرا وللعمرة سفرا، ولو في أشهر الحج فما حصل له الانتفاع، الذي هو التمتع، فيسقط عنه الدم، ويكون أجره أكثر، الذي يسافر للحج سفرا، وللعمرة سفرا، أكثر وأعظم أجرا من الذي يسافر سفرا واحدا يحصل فيه على حج وعمرة، ولو ذبح الهدي؛ وذلك لأن الأجر على قدر النصب وعلى قدر المشقة.
كذلك عرفنا سبب تسميته تمتعا، كثير من الناس يختار التمتع، فيختار هذه الصفة مع أن السفر مرتين: مرة للحج ومرة للعمرة أفضل، ولكن لما سمع أن أفضل الأنساك التمتع، ظن أنه أفضل مطلقا.(1/272)
يقول: صفة الإفراد أن يحرم بالحج من الميقات مفردا، وهو ألا يؤدي إلا الحج، ولا يكون له إلا أجر حجة؛ ينشئ سفرا من بلاده، ويمر بالميقات، ويحرم بالحج، ويبقى بمكة حتى يكمل حجه، ولا يعتمر مع حجته، ويقول: سوف أعتمر في رمضان، سوف أعتمر بعد حين، العمرة وقتها واسع، فهذا هو المفرد، وقد ذكرنا أن هناك من يختاره حتى ينشئ للعمرة سفرا آخر، أما القران هو أن يحرم بالحج والعمرة جميعا؛ فيقول لبيك عمرة وحجة، وقد تقدم في حديث جابر قوله - صلى الله عليه وسلم - " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " فإنه أخبر بأن الحج والعمرة يتداخلان، وكانت عائشة ممن أحرم بالحج والعمرة جميعا؛ لأنها لما أحرمت معتمرة، وحاضت، وخافت أن يفوتها الحج أحرمت بالحج، وصارت قارنة، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن طوافك بالبيت وبالصفا والمروة يكفيك عن حجك وعمرتك " وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا؛ وذلك لأنه معه الهدي، ولقد ذكرنا أنه لما طاف -في حديث جابر- لما طاف وسعى قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي " فمنع الذين معهم هدي أن يتحللوا، وأمر الذين لا هدي معهم أن يتحللوا؛ وذلك لأن الهدى يمنع التحلل لقوله -تعالى- { (((( ((((((((((( ((((((((((( (((((( (((((((( (((((((((( ((((((((( } فيقول: " إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر " فبقي على إحرامه حتى نحر هديه، وحلق رأسه يوم العيد، فتحلل.
ومن القران -أيضا- أن يحرم بعمرة، ثم يدخل عليها الحج، قبل الشروع في طوافها، وهو الذي فعلته عائشة، فإنها أحرمت بالعمرة، ولما كانوا في سرف حاضت فقيل: إنها بقيت على إحرامها، ولما كان يوم التروية خافت ألا تطهر، حتى يفوت يوم عرفة، فأمرها، فأحرمت بالحج مع عمرتها، أدخلت الحج على العمرة، وهذا جائز، ويسمى إدخال الأكبر على الأصغر، الحج هو الأكبر فيصح إدخاله على الأصغر التي هي العمرة.(1/273)
وأما من أحرم بالحج مفردا، فليس له أن يدخل عليه عمرة، لا تدخل الأصغر على الأكبر، إذا شرع في طواف العمرة، وهو معتمر متمتع، فإنه يكملها، ويتحلل، ولا يقول: سوف أدخل عليها حجة؛ لأنه شرع في أسباب التحلل، يضطر إلى هذه الصفة، يضطر المتمتع إلى هذه الصفة إذا خاف فوات الوقوف بعرفة، كما حصل لعائشة، فإنها بقيت على عمرتها، ولما كان في يوم التروية خافت أن يفوت الوقوف بعرفة، قبل أن تطهر، فاضطرت إلى إدخال الحج على العمرة.
إذا حاضت المرأة، أو نفست، وعرفت أنها لا تطهر قبل وقوف.. قبل يوم عرفة أدخلت على عمرتها حجا، وصارت قارنة، وكذلك -مثلا -لو جاء إنسان معتمرا، وكان متأخرا، وخاف أنه إذا ذهب إلى مكة يشتغل بأداء نسك العمرة طوافا وسعيا، وتقصيرا، وإحراما ثانيا، أنه يفوته الوقوف بعرفة، ففي هذه الحال يدخل الحج على العمرة، ويصير قارنا، ويذهب إلى عرفة، حتى لا يفوته الوقوف يقول: القارن والمفرد فعلهما واحد لا فرق بين فعلهما، إلا أن القارن عليه دم؛ وذلك لأنه حصل له أجر حج وعمرة ، أحرم بهما جميعا، فصار منتفعا بسقوط أحد السفرين، وأحد العملين، فالقارن يسمى متمتعا، فعليه دم كما على المتمتع دون المفرد، فلا دم عليه.(1/274)
يجتنب المحرم محظورات الإحرام جميعا، فلا يحلق شعر رأسه، ولو قليلا، ولا ينتفه لقوله -تعالى- { (((( ((((((((((( ((((((((((( } وذلك لأن الحلق يسمى ترفها، ولا يقلم أظفاره؛ لأن التقليم -أيضا- من الترفه، ولا يلبس المخيط، إذا كان رجلا، فثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يلبس القميص ولا عمامة ولا البرانس ولا الخفاف " يعني: خاص بالرجل، ولا يغطي رأسه، تغطية الرأس من المحظورات إذا كان رجلا، ولا يتطيب رجلا، أو امرأة هذه محظورات الإحرام: الحلق، والتقليم ، ولبس المخيط، وتغطية الرأس والطيب، فديتها واحدة وما هي؟ ورد في فدية حلق الرأس التخيير في قوله -تعالى- { (((((((((( (((( ((((((( (((( (((((((( (((( (((((( } وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، ففسر الصيام بأنه ثلاثة أيام، والإطعام بأنه ستة مساكين، والذبح النسك بأنه شاة، إن هذا ورد في حلق الرأس في قصة كعب بن عجرة، وألحقوا بها التقليم، فإذا قلم ثلاثة أظفار فأكثر، فإن عليه الفدية.
ويخير بين هذه الثلاثة، وكذلك إذا غطى رأسه بعمامة، أو نحوها متعمدا، فإنه يفدي، أو لبس مخيطا غير السراويل، إذا لم يجد الإزار لبس قميصا، أو جبة، فإن عليه الفدية، إذا كان متعمدا، والناسي معذور. كذلك -أيضا- إذا تطيب رجلا، أو امرأة، فإن عليه الفدية. فدية هذه الخمس واحدة الحلق والتقصير، وتغطية الرأس، ولبس المخيط.. الحلق، والتقليم، وتغطية الرأس، ولبس المخيط، والطيب.
من حلق شعر رأسه أكثر الشعر، فإنه لا بد أن يأتي بواحدة، له الخيار: إما أن يصوم ثلاثة أيام، أو يذبح شاة، أو يطعم ستة مساكين. من قلم ثلاثة من أظافر يديه، أو رجليه، فإن له الخيار إما أن يفدي بنسك، أو بصيام، أو بإطعام، وكذلك من لبس المخيط ونحوه.(1/275)
يحرم على المحرم قتل الصيد البري قال -تعالى-: { (( ((((((((((( ((((((((( ((((((((( (((((( } والمراد بالصيد: هو كل حيوان متوحش طبعا، طبيعته التوحش من المأكولات كالظباء، والوعول، حمر الوحش، بقر الوحش، غنم الوحش، كذلك -أيضا- الصيد الصغير: كالضب، واليربوع والوابر، والأرنب ..وما أشبهه، والدلالة عليه، لا يجوز أن يدل عليه حلالا ، والإعانة على قتله، هذه محظورات الإحرام. محظورات الإحرام
محظورات الإحرام تسعة، تقدم منها ستة، وبقي ثلاثة: عقد النكاح، والجماع، والمباشرة أعظم محظورات الإحرام.
الجماع لقوله -تعالى- { ((((( (((((( ((((((( (((((((( (((( (((((( } الرفث: الجماع تحريمه مغلظ، ويفسد النسك، ويوجب الفدية ببدنة، إذا وطئ وهو محرم، فإنه مع ذلك يكمل، إذا كانوا محرمين يمضيان في نسكهما، ويكملانه، ولو كان فاسدا، ويقضيانه بالمرة العام الثاني، وعليهما بدنة عن هذا الفعل.
فدية الأذى إذا غطى رأسه، ولبس المخيط ما ذكرنا من أنه يخير بين صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، ذكر من جملة المحظورات: تغطية المرأة وجهها، والصحيح أنها إذا احتاجت إلى تغطية وجهها، فلا فدية عليها، قالت عائشة: " كنا إذا كنا محرمات، وحاذنا الرجال، سدلت إحدانا جلباباها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه " ولم تذكر أنهن يتحاشين أن يمس بشرة الوجه، إذا سدلته على وجهها، فإنه يمس الأنف، ويمس الجبين، ويمس الذقن.
فإذا تستر وجهها أمام الرجال ولا فدية عليها؛ لأن عائشة ما ذكرت الفدية، لكن إذا لبست القفازين الذين هم شراب اليدين، فلا مانع من أن تلبسهما عند الحاجة، وعليها الفدية، وكذلك إذا تطيبت كالرجل.(1/276)
أما فدية الصيد، فقد قال -تعالى- { ((((( ((((((((( (((((( (((((((((((( (((((((((( ((((((( ((( (((((( (((( ((((((((( } يعني: أن يخرج جزاءه وهو المثل إن كان له مثل من النعم، يعني: من بهيمة الأنعام، فإذا لم يكن له مثل، فإنه يقوم، كم ثمنه في محل الإتلاف؟ فإذا قدر -مثلا- بمائة ريال يشتري بها طعاما، فيطعمه لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، فإذا عجز، فإنه يصوم عن طعام كل يوم.. عن إطعام كل مسكين يوما، هذه فدية المحظورات.
يقول: وأما دم المتعة والقران المذكور في قوله -تعالى-: { ((((( (((((((( (((((((((((((( ((((( ((((((((( ((((( (((((((((((( (((( (((((((((( } فأقله شاة يجب فيه ما يجزئ في الأضحية؛ أي: واحدة من الغنم من ذكور، أو إناث من الضأن، أو المعز بشرط سلامتها من العيوب، التي لا تجزئ في الأضاحي، فإذا لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، يفضل أن تكون السبعة قبل يوم العيد، أن يصوم السابع والثامن والتاسع، ويفطر يوم العبد، ويوما بعده، فإذا لم يتيسر له الصيام قبل العيد، صام الثلاثة التي بعد العيد، وهي أيام التشريق، رخص في صيامها للعذر.
من ترك واجبا، ولم يجد الدم، أو وجبت عليه الفدية للمباشرة ، المباشرة -مثلا- فيما دون الفرج: التقبيل.. ونحوه، فيه فدية، فإنه إذا لم يجد الفدية التي هي شاة أجزأ أن يصوم عشرة أيام،
يقول: أي واحدة من الغنم من ذكور، أو إناث من الضأن، أو المعز بشرط سلامتها من العيوب، التي لا تجزئ في الأضاحي، فإذا لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، يفضل أن تكون السبعة قبل يوم العيد، أن يصوم السابع والثامن والتاسع، ويفطر يوم العبد، ويوما بعده، فإذا لم يتيسر له الصيام قبل العيد، صام الثلاثة التي بعد العيد، وهي أيام التشريق.
رخص في صيامها للعذر.(1/277)
من ترك واجبا، ولم يجد الدم، أو وجبت عليه الفدية للمباشرة ، المباشرة -مثلا- فيما دون الفرج: التقبيل.. ونحوه، فيه فدية، فإنه إذا لم يجد الفدية التي هي شاة أجزأ أن يصوم عشرة أيام.
يقول: كل هدي، أو إطعام يتعلق بحرم، أو إحرام، فلمساكين الحرم من مقيمين أو آفاقي؛ لقوله -تعالى-: { ((((((( ((((((( (((((((((((( } فإذا لزمه ذبيحة، فإنها تذبح، وتطعم لمساكين الحرم، سواء الآفاقي الذي قدم وسكن مكة، أو الذي من أهلها خاصا بالمساكين؛ لقوله -تعالى -: { (((( ((((((((( ((((((( (((((((((( } مع قوله: { ((((((( (((((((((((( }
يعني: فدية ترك الواجب، ترك الواجبات ذبيحة لمساكين الحرم، ولا يأكل منها، وكذلك فدية جزاء الصيد لمساكين الحرم أيضا، وكذلك فدية الإحصار { (((((( (((((((((((( ((((( (((((((((((( (((( (((((((((( } والذي يمنع من الوصول إلى مكة، فإنه يذبح ما استيسر من الهدى، وكذلك من وجب عليه دم؛ لكونه لم يتمكن من إتمام نسكه، عليه أن يذبح، ويفرقه في مساكين الحرم.
أما دم القران والتمتع، فإنه يأكل منه؛ لقوله..، وكذلك الهدي المطلق لقوله -تعالى- { ((((((((( ((((((( ((((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( (((( } الصيام يصح بكل مكان؛ لأنه لا يتعدى، دم النسك كالمتعة والهدي والقران يستحب أن يأكل منه، ويهدي، ويتصدق.
الدم الواجب لفعل محظور يعني: مثلا أنه غطى رأسه، أو تطيب، أو ترك واجبا يسمى: دم الجبران، لا يأكل منه، بل يتصدق بجميعه؛ لأنه يجري مجرى الكفارات، يتصدق به على مساكين الحرم. شروط الطواف وأحكامه
للطواف شروط: الطواف هنا يراد به جميع أنواع الطواف؛ لأن الطواف تارة يكون ركنا، كطواف الزيارة، وتارة يكون واجبا كطواف الوداع، وتارة يكون سنة كطواف التطوع، له شروط:
منها النية: استدارتك حول الكعبة لا بد أن تكون بنية، فالذي يستدير حول الكعبة للتفرج وللنظر وللتفقد، ما يسمى طائفا، فلا بد أن ينوي من حين يبتدئ.(1/278)
الشرط الثاني: أن يبدأ به من الحجر الأسود، أن يحازي الحجر بجميع بدنه، ثم يستمر في الطواف.
الشرط الثالث: الموالاة، وهو ألا يقطع الطواف، لا يطوف شوطا أو شوطين، ثم يخرج بدون عذر، أو ينام ، بل يوالي الطواف حتى ينتهي منه، يجوز أن يقطعه لعذر، كأن ينقض وضوءه، فيذهب فيجدد الوضوء بسرعة، ثم يرجع، ويكمل ما بقي عليه. يجوز -مثلا- إذا تعب، إذا كان كبيرا، أو مريضا، وطاف شوطين، أو ثلاثة، وجلس يستريح قليلا، ثم واصل لا ينقطع طوافه.
السنن:
يسن أن يستقبل الحجر، أن يقبله، يقبل الحجر، وذلك بأن يضع شفتيه عليه، مجرد وضع من غير تصويت، فإذا لم يستطع، فإنه يستلمه بيده، ويقبل يده، فإذا لم يصل إليه، استلمه بعود، بمحجن، أو بعصا، وقبل المحجن، فإذا لم يستطع ذلك كله؛ لشدة الزحام؛ يكتفي بالإشارة إليه، يقول عند ذلك: بسم الله، والله أكبر، وعند ابتدائه: اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - هذا من السنن، والطواف ليس له دعاء معين، بل يدعو بما تيسر إن حفظ دعاء ودعا به أجزأه، وكذلك إن اشتغل بالذكر والتسبيح والتحميد أجزأه، وإن اشتغل بقرآن ، بقراءة ما يحفظه من القرآن أجزأه ، يفضل أنه لا يسكت، بل يذكر الله، ويدعوه، ويقرأ القرآن .
ولا يتعين دعاء مخصص، حفظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الركنين دعا بقوله: { (((((((( (((((((( ((( (((((((((( (((((((( ((((( (((((((((( (((((((( ((((((( ((((((( (((((((( ((((( } بين الركنين اليمانيين، وحفظ -أيضا- هذا الدعاء: " اللهم إيمانا بك.. " إلى آخره.
من شروط الطواف: أن يجعل البيت عن يساره، فلا يصح أن يطوف وهو عن يمينه، ولا خلف ظهره، ولو مشى القهقرى والبيت عن يمينه ما صح .
من الشروط -أيضا- تكميل سبعة أشواط، فلا يجزئه إذا طاف ستة، أو نحو ذلك.(1/279)
من الشروط -أيضا- الطهارة من الحدث والخبث، فلا يطوف، وهو محدث، أو جنب، وكذلك حامل النجاسة، لا يجوز أن يطوف، وهو يحمل نجاسة، الطهارة في سائر الأنساك سنة، يعني: لا يلزم أن يسعى، وهو متطهر، بل يسعى، وهو محدث يجوز ، لكن يستحب أن يتطهر، وكذلك الوقوف والرمي وسائر الأنساك، ورد في الحديث، وإن كان فيه مقال: " الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام، فمن تكلم، فلا يتكلم إلا بخير " أخذ من قوله: "صلاة" أنه يشترط له الطهارة.
ذكرنا أن الاضبطاع في طواف القدوم سنة، وصفته أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفه على عاتقه الأيسر، هناك أطراف سوى طرفيه، طرفي الرداء على عاتقه الأيسر، يعني: على المنكب، وشرع لأجل النشاط في الطواف، وبالأخص الرمل.
من السنن: أن يرمل في الثلاثة الأشواط الأوائل، ويخص طواف القدوم، ويمشي في الأربعة الباقية، أما بقية الطوافات: طواف الوداع، وطواف الزيارة وطواف التطوع، فلا حاجة إلى رمل، ولا اضطباع. انتهى ما يتعلق بالطواف. شروط السعي
بدأ بالسعي، اشترط للسعي النية، وتكميل سبعة، والابتداء من الصفا، هذه شروط السعي، فإن بدأ من المروة، فلا يعد الشوط الأول، فلا بد أن ينوي من حين يبدأ لا يكون سعيه مجرد رياضة، أو مجرد تفرج. ولا بد من السبعة.(1/280)
يقول: المشروع في الطواف والسعي وجميع المناسك، يشرع أن يكثر الإنسان من ذكر الله؛ وذلك لأن الله -تعالى- حث على الإكثار من ذكر الله، فقال -تعالى-: { ( ((((((((((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((( } وقال: { ((((((((((((( (((( ((((( (((((((((((( ((((((((((( } وقال: { ((((((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((( (((( (((((( ((((((( } وقال: { ((((((((((((( (((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((( } { ((((((((((((( (((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((( (((((( ((( ((((((((( ((((( ((((((((( ((((((((((( } فذكر الله -تعالى- هو كل ما يذكر به، فيدخل فيه التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة والاستغفار والدعاء، وما أشبه ذلك كله من ذكر الله -تعالى-، فيسن أن يأتي بهذا الذكر كاملا، ويرفع يديه في الأماكن، التي يدعو فيها، فإذا كان يدعو في الطواف، أو السعي رفع يديه؛ لأن ذلك من مظان إجابة الدعاء.
وكذلك يسن أن يدعو بعد رمي الجمرة الأولى، وبعد رمي الجمرة الوسطى، يرفع يديه، ويدعو، ويطيل الدعاء بحسب ما يتحمله، كما نقل ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن اشتغل بالقراءة، كما تقدم أجزأه ذلك، هذا الحديث روي مرفوعا، وروي موقوفا على عائشة: " إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله " يعني: أن الطواف بالبيت ليس عبادة للبيت، ولكنه ذكر لله، تذكيرا بالله، أي شرع من أجل أن يذكر الله. انتهى مما يتعلق بالطواف بدأ في السعي...
اشترط للسعي النية ، وتكملة سبعة والابتداء من الصفا ، هذه شروط السعي. فإن بدأ من المروة فلا يعد الشوط الأول ، فلا بد أن ينوي من حين يبدأ ، لا يكون سعيه مجرد رياضة أو مجرد تفرج ، ولا بد من السبعة.
يقول: المشروع في الطواف والسعي وجميع المناسك:(1/281)
يشرع أن يكثر الإنسان من ذكر الله ؛ وذلك لأن الله تعالى حث على الإكثار من ذكر الله فقال تعالى: { ( ((((((((((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((( } وقال { ((((((((((((( (((( ((((( (((((((((((( ((((((((((( } وقال: { ((((((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((((( (((( (((((( ((((((( } .
وقال: { ((((((((((((( (((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((( } { ((((((((((((( (((((( (((( (((( ((((((( (((((((((((( (((((( ((( ((((((((( ((((( ((((((((( ((((((((((( } فذكر الله تعالى هو كل ما يذكر به ، فيدخل فيه التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة والاستغفار والدعاء وما أشبه ذلك ، كله من ذكر الله تعالى فيسن أن يأتي بهذا الذكر كاملا ، ويرفع يديه في الأماكن التي يدعو فيها ؛ فإذا كان يدعو في الطواف أو السعي رفع يديه؛ لأن ذلك من مظان إجابة الدعاء.
وكذلك يسن أن يدعو بعد رمي الجمرة الأولى ورمي الجمرة الوسطى ، يرفع يديه ويدعو ويطيل الدعاء بحسب ما يتحمله ، كما نقل ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإن اشتغل بالقراءة كما تقدم أجزأه ذلك ، هذا الحديث روي مرفوعا وروي موقوفا على عائشة: " إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " يعني أن الطواف بالبيت ليس عبادة للبيت ، ولكنه ذكر لله ، تذكير بالله أي: شرع لأجل أن يذكر الله وكذلك بالصفا والمروة تذكير بالله ، وكذلك رمي الجمار لإقامة ذكر الله؛ ولهذا يكبر مع كل حصاة ، ولهذا يدعو الله بعد انتهائه من الجمرتين الأوليين يدعو الله فكل ذلك من ذكر الله -تعالى-.(1/282)
كذلك في الحديث يقول: لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - .... يقول أبو هريرة: " لما فتح الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكة قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه... " ؛ وذلك لأنها لما فتحت مكة ودخلها المسلمون ظن بعضهم أن حرمتها قد زالت وأنه يجوز فيها ما يجوز في غيرها فاعتدى رجل من هذيل على آخر وقتله بثأر قديم فسمع بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام فخطب الناس وقال: " إن الله حبس عن مكة الفيل " يعني: أصحاب الفيل الذين أرسل عليهم طيرا أبابيل حبسهم عن مكة " وسلط عليها رسوله والمؤمنين؛ لأنهم على حق ؛ ولأنهم جاءوا لتطهيرها " " وإنها لم تحل لأحد كان قبلي " ما أحلها الله لأحد " وإنما أحلت لي ساعة من نهار " ذلك اليوم الذي قاتل فيه ، أحلت له ثم عادت حرمتها يقول: " إنها لن تحل لأحد بعدي " وفي رواية: " قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس " .
ثم ذكر ما يحرم فيها فقال: " لا ينفر صيدها " إذا كان لا ينفر فبطريق الأولى أنه لا يقتل ويدخل في الصيد الحمام والعصافير والوعول ولو دخلتها مثلا ، والصيد كله لا ينفر بل يترك فيها ، ومن دخلها ومعه صيد فإنه يخليه ، لو دخل إنسان ومعه ظبي أو حمام خلى سبيله ، ولم يتعرض له " ولا يختلى شوكها " في رواية: " ولا يختلى خلاها " والمراد بالخلاء: المرعى أي: لا يجز المرعى والنبات والعشب الذي في أرضها بل يترك تأكله الدواب بأفواهها .
وكذلك الشجر " لا يعضد شجرها " أي: لا يقطع شجرها الذي ينبت بنفسه ، وأما الذي ينبته الآدمي فإنه ملكه ، إذا أنبت شجرة كنخلة مثلا ، أو عنبة ، أو تينة ، أو نحوها فإنه يملك التصرف فيها .(1/283)
ثم قال: " ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين " ؛ لأن قتله يعتبر ظلما " إما أن يدي وإما أن يقتل " إما أن يقتص ، من قتل له قتيل يطلب القصاص ، وإما أن يأخذ الدية ، " فهو بخير النظرين " لما ذكر منع الخلاء " لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها " كانوا بحاجة إلى شجر يقال له: الإذخر " فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله ؛ فإنه لقيلهم ولبيوتهم ، فقال: إلا الإذخر " شجر أو نبات أعواده دقيقة يجزونه ويجعلونه في القبور بين اللبنات ، ويجعلونه في السقوف بين الخشب ، ويوقد به القين ، يعني: الحداد ، يوقد به ماء النار حتى يحتمي الكير .
فهم ينتفعون به فاستثنوه ، نجعله في قبورنا وبيوتنا ، بعد ذلك ذكر حرمة المدينة ، قال: " المدينة حرام ما بين عير إلى ثور " اختلفوا في: هل في المدينة جبل يقال له: ثور ؟ أنكر ذلك ابن عبد الوهاب وقال: ثور إنما يعرف بمكة ولكن صحح بعض المحققين أنه جبل صغير خلف أحد يسمى: ثور .
وعير في جنوب المدينة ما بين عير الذي في جنوبها ، في طرفها من الجنوب، وثور الذي وراء أحد وما بين لابتيها، اللابتان: الحرتان ، الشرقية والغربية ، الحرة هي أرض تركبها شجرة سوداء ، فما بينهما يعتبر حرما ، ولكن ليس فيه فدية ، إذا قتل فيه صيدا فليس فيه فدية ، أو قطع شجرة ، ولكنه يمنع ، يمنع من قطع الشجر ويمنع من قتل الصيد .
كذلك ذكر حديث قتل الفواسق ، يقول: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " معلوم أن قتل ما ليس بمأكول ليس فيه فدية ، لو أن إنسانا مثلا قتل كلبا غير عقور فلا فدية عليه ، أو قتل عقابا ، أو نسرا ، أو صقرا فلا فدية عليه ؛ لأن هذا ليس بصيد . ومع ذلك لا يأتي من السفر فيقتل هذه الأشياء ! استدل بعضهم على النهي بقوله: { ((((( ((((((((( ((((( (((((((( } .(1/284)
فقالوا: من دخله حتى ولو من غير المأكول فإنه آمن ، وأما هذه الخمس فإن قتلها لأجل الأذى ، أي: أنها مؤذية بطبعها فتقتل لكف الأذى ، الغراب كان يؤذي ، وأذاه أنه يقع على ظهر الإبل الرواحل وينقر الدفر الذي فيها والقروح التي فيها بعد الرحل ، إذا رحلوا على الإبل فمن آثار طول الرحل تتقرح القروح ويسمى الدفر الذي في ظهرها يأتي هذا الغراب فيقع على ظهر البعير ثم ينقره حتى ربما يموت من أثر نقره ؛ لأنه يأكل منه والبعير قد لا يستطيع أن يناله بفمه فيؤلمه ، هذا ضرر هذا الغراب ما ذكروا له إلا أنه يؤذي دوابهم ورواحلهم .
أما الحدأة وهي تسمى الحديّة وهي في نحو الغراب ، يعني: بالكبر قريبة من الغراب لونها أحمر ، وأذاها أنها تختطف اللحوم ، التي ينشرونها عندما يذبحون الهدايا ونحوها ، يشرقون اللحوم فتختطفه ، وربما تختطف أيضا غيرها ، تختطف الثياب ، تختطف الثياب التي لونها أحمر تعتقدها فيها طعام أو نحوه ، فلأجل ذلك أمر بقتلها في الحرم وفي الإحرام .
أما العقرب فمعروف أنها مؤذية؛ لأنها من ذوات السموم ، وكذلك الفأرة ، الفأرة أيضا مؤذية؛ لأنها تخرق الأسقية ، وتسقط في الأدهان ، وقد تفسدها على أهلها ، أكثر أذاها أنها تخرق الأواني وتفسدها على أهلها .
وأما الكلب العقور فيراد به كل ما يعقر الناس ، فيدخل فيه السباع. الكلب المعروف هذا قد لا يكون عقورا ، ولكن إذا وجد أنه يعقر الناس ويعدو عليهم ويشق الثياب سمي عقورا ، وأما إذا لم يكن يعدو فلا يسمى عقورا ، أما الذئاب فإنها تعقر وكذلك الأسود ، وكذلك النمور ، كل هذه تسمى كلابا فتقتل .
فالحاصل أن المؤلف -رحمه الله- ذكر هذه الاشياء كتكملة لهذه المناسك وبقي مما يتعلق به باب الهدي نكمله غدا - إن شاء الله - ونبدأ في البيوع والله أعلم وصلى الله على محمد .(1/285)
بعد الانتهاء من الحج يذكر الفقهاء باب الهدي والأضاحي والعقيقة ؛ وذلك لأن أكثرها يتعلق بالحج ، أو يتعلق بيوم الحج وهو الأضاحي ، فالهدي غالبا أنه يكون تابعا للحج أو تابعا للعمرة، يعني تابع لمكان الحج ويكون في مكان الحج .
والأضاحي تكون في يوم الحج أو في أيام الحج ، ثم ألحقوا بها العقيقة ، ولو لم تكن في أيام الحج ؛ وذلك لمشابهتها للأضحية وللفدية وللهدي في شروطها وأحكامها .
كثير من العلماء يؤخرون باب الأضاحي إلى الأطعمة في آخر الكتاب ، كما فعل صاحب المغني وغيره من العلماء المتقدمين والمتأخرين رأوا أنها من الأطعمة وأنها تابعة للذبائح وللصيد ونحوه فجعلوها معها ولكل اجتهاده ولكن مناسبتها باب الحج أولى .
ونقرأ الآن باب الهدي:
باب الهدي والأضحية والعقيقة
قال -رحمه الله-: تقدم ما يجب من الهدي وما سواه سنة وكذلك الأضحية والعقيقة ، ولا يجزئ فيها إلا الجزع من الضأن ، وهو ما تم له نصف سنة ، والثني من الإبل ما له خمس سنين ، ومن البقر ما له سنتان ، ومن المعز ما له سنة ، قال - صلى الله عليه وسلم - " أربع لا تجوز في الضحايا: العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ضلعها ، والكبيرة التي لا تنقي " صحيح رواه الخمسة .
وينبغي أن تكون كريمة كاملة الصفات ، وكلما كانت أكمل فهي أحب إلى الله وأعظم لأجر صاحبها .
وقال جابر: " نحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " رواه مسلم ، وتسن العقيقة في حق الأب عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة.
قال - صلى الله عليه وسلم - " كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى " صحيح رواه الخمسة ، ويأكل من المذكورات ويهدي ويتصدق ، ولا يعطي الجزار أجرته منها ، بل يعطيه هدية أو صدقة.(1/286)
لم يتكلم المؤلف عن الهدي ، وقد كان العرب قبل الإسلام يهدون إلى البيت إذا توجه أحدهم إلى البيت أهدى معه بعضا من بهيمة الأنعام ، وجعلها هدية للبيت ولسكان البيت ولعمار البيت الحرام ، وبقيت هذه سنة ، يعني: أنها سنة باقية قبل الإسلام وبعده ، والدليل على سنيتها الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قول الله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( (( ((((((((( (((((((((( (((( (((( ((((((((( ((((((((((( (((( (((((((((( (((( (((((((((((((( } دل على أنهم كانوا يهدون ، وأنه لا يجوز أن تستحل الهدي ولا تستحل القلائد ، الهدي هو أنه إذا توجه إلى البيت عزل معه بعضا من ماله إما من إبل أو بقر أو غنم ، ثم يشعر الإبل ويقلدها ، الإشعار هو أن يشق صفحة سنامها حتى يخرج منها دم ثم يأخذ من وبرها من ذروة السنام وبرا ويبله حتى يحمر ثم يعقده في ذروة السنام علامة على أنها مهداة إلى البيت ، حتى لا يتعرض لها أحد .
وكذلك التقليد ... يعمد إلى حبال من وبر أو من شعر ثم يربطها في رقابها ، وقد يعلق في الرقبة نعلين ، كل ذلك ميزة لها ؛ فلذلك حرم الله الاعتداء عليها ، { (( ((((((((( (((((((((( (((( } يعني المشاعر التي تقام فيها المناسك ، { (((( ((((((((( ((((((((((( } لا تستحلوه { (((( (((((((((( } الذي يهدى إلى البيت ، إذا رأيت هديا مهدى إلى البيت عرفته بأنه مشعر بهذا الشعار ، وأنه مقلد فلا تتعرض له ، لا يجوز أن تركبه ولا أن تحلبه ، بل اترك حلابه لولده ، ولا أن تذبحها ولا أن تغتصبها ، ولا أن تتملكها ؛ لأنها مهداة إلى البيت لتعظيم حرمات الله تعالى .(1/287)
ولا يجوز استحلال القلائد ، لا يجوز لأحد أن يحل القلادة التي في رقبتها ؛ وذلك لأنها ميزة لها وعلامة ، والآية الثانية قوله تعالى: { ( (((((( (((( (((((((((((( (((((((((( ((((((((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((((((((( } قياما للناس بمعنى أنهم يحترمونها ، إذا رأوا الهدي احترموه ، إذا رأوا القلائد احترموها فلا يتعرضون لها ، ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لما توجه إلى مكة في سنة ست ساق معه الهدي وقلدها ، ولما وصل إلى الحديبية صده المشركون " ولما صدوه ومنعوه أنزل الله تعالى: { (((( ((((((((( ((((((((( ((((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((( ((( (((((((( ((((((((( } صدوا الهدي وردوه أن يبلغ محل ذبحه.
وقال تعالى: { (((( ((((((((((( ((((((((((( (((((( (((((((( (((((((((( ((((((((( } أي: محل ذبحه ، وكذلك في عمرة القضية ، ساق النبي - صلى الله عليه وسلم - معه هديا سنة سبع ولما اعتمر نحره وأباح من يأكل منه ومن يأحذ منه وكذلك لما حج أبو بكر أرسل معه النبي - صلى الله عليه وسلم - هديا وبقي بالمدينة ولم يحرم عليه شيء كان حلالا له ، وذلك الهدي غنم ، تقول عائشة: " أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما " وتقول: " فتلت قلائد هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي فقلدها وأرسلها وأقام بالمدينة ولم يحرم عليه شيء كان له حلالا " وفي حجة الوداع ساق معه من المدينة سبعين بدنة وقلدها ، وكذلك جاء علي بثلاثين بدنة من اليمن ، وتمت مائة بدنة ، ولما قيل له لماذا لم تتحلل قال: "إني قلدت هديي ولبدت راسي فلا أحل حتى أنحر" فبقي على إحرامه حتى نحر الهدي يوم النحر ، إن هذا الهدي كانوا يهدونه كثيرا ولكن في هذه الأزمنة قل من يهديه .(1/288)
وذلك لأنهم رأوا كثرة الذبائح التي هي ذبائح الفدية ، ورأوا أنها أكثرها لا يستفاد منه وكثير منها لا يستفاد منه ، فرأوا أنه لا حاجة إلى الهدي ، لكن يجوز الإهداء في غير وقت الحج ، فمثلا إذا اعتمر إنسان في رمضان وساق معه خمس بدن أو بدنة ، أو أربعا ، أو عشرا وقلدها ، فإذا انتهى من عمرته وقصر أو حلق ذبحها وتركها لمساكين الحرم فله ذلك ؛ ففي حديث في حجة الوداع أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نحر تلك البدن قال: " من شاء اقتطع " يعني: ترك لهم الحرية ، يأتي هذا فيقتطع قطعة من الفحذ ، ويقتطع هذا قطعة من الظهر ، ويقتطع هذا قطعة من البطن ... وهكذا حتى اقتطعوها .
يقول علي - رضي الله عنه - " أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بُدْنِهِ وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين " فقسمها كلها على المساكين ، لحومها معلوم أنها تؤكل ، جلودها تدبغ وتستعمل ، جلالها كذلك أيضا تستعمل ، وكانوا يجعلون على ظهر البعير جلالا ؛ حتى لا تؤذيه الطيور التي تقع على ظهره وتنقره ، فتصدق حتى بجلالها .
يقول: تقدم ما يجب من الهدي ... الذي تقدم هو هدي التمتع وهدي القران أنه واجب ، وكذلك أيضا ما يسمى: بدم الجبران وهو الذي يترك واجبا ، أن عليه دم يسمى دم الجبران .
وكذلك أيضا فدية المحظور ، من فعل محظورا من محظورات الإحرام واختار أن يفدي بدم فيسمى فدية المحظور، وكذلك تقدم أيضا جزاء الصيد، المذكور في قوله: { (((((((((( ((((((( ((( (((((( (((( ((((((((( } هذا هو الذي تقدم ، وهو واجب ، وما سواه سنة ، يعني الهدي الذي يتبرع به ويتطوع به سنة ، وكذلك الأضحية سنة ، ليست واجبة ولكنها فاضلة ، وكذلك العقيقة سنة ليست واجبة وإن كان بعض العلماء قد أوجبها كما يأتي .(1/289)
ثم يقول: لا يجزئ فيها إلا الجزع من الضأن والثني من غيره ، فالجزع من الضأن هو الذي تم له ستة أشهر ، يسمى جذعا؛ لأن ثديته قد بدت ، الثنية الأولى أو الثانية من تحت ، وأما الثني من غيره ، من الإبل ما تم له خمس سنين ؛ لأنه في تلك الحال يتم نمو بدنها، أما قبل ذلك فإنها تكون صغيرة ، وإن كانت أطيب للحم ولكن لصغرها تقل قيمتها ويقل لحمها ؛ فلذلك إذا أراد أن تكون هديا أو تكون أضحية أو نحو ذلك فإنه لا بد أن تتم خمس سنين .
ومن البقر ما تم له سنتين ، ما تم سنتين ؛ لأنها حينئذ تكون قد تمت وقاربت أنها تلد وأنها يكون فيها لبن وأنها تكون قيمتها كاملة ، ومن المعز ما تم له سنة؛ لأنها قبل ذلك تكون صغيرة وقليلة اللحم وقليلة القيمة .
ثم ذكر ما لا يجزي ، تكلم العلماء كما تسمعون في خطب العيد على ما لا يجزي ، وذكروا أشياء كثيرة ، فهذا الحديث ذكر فيه أربعة ، يقول - صلى الله عليه وسلم - " أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها ... " وهي التي ذهب ضوء بصرها فلا تبصر إلا بعين واحدة ، وبطريق الأولى إذا ذهبت عيناها فإنها لا تجزي أما إذا كان في عينها بياض لا يمنع النظر فإن ذلك لا يردها .
وكذلك المريضة بنوع من المرض ، أنواع المرض كثيرة ، ولكن إذا عرف أنها مريضة فإنها لا تجزي ؛ لأنها تقل قيمتها ، وكذلك أيضا لا يرغب في لحمها . " العرجاء البين ظلعها " وعرفت بأنها التي لا تطيق المشي مع الصحاح ، إذا مشت مع الغنم تخلفت ولم تدركهن ، فهي عائبة ، فيها هذا العيب . " الكبيرة التي لا تنقي " ويعبر عنها بالهتماء التي ذهبت ثناياها من أصلها من الكبر ، العادة أنها إذا كبرت فإنها تتآكل ثناياها ، الثنايا التي في مقدم فمها ، فلا يبقى فيها إلا شيء يسير ، فيقال لها: هتماء . ذهبت ثناياها من أصلها .(1/290)
وقوله: " لا تنقي " أي ليس بها نقي يعني: مخ ، وعبر بعضهم بالهزيلة التي لا مخ فيها ، وهي نوع آخر ولو كانت لم تذهب ثناياها ، ولو كانت غير كبيرة إذا لم يكن فيها مخ ولا نقي فإنها لا تجزي .
واختلف في غير ذلك مثل: ما قطع من أذنها أكثر من النصف أو ما قطع من قرنها أكثر من النصف ، وتسمى العضباء ، ورد فيها أحاديث ، ولكن كأن أكثر العلماء لم يصححوا تلك الأحاديث وقالوا: لأن هذا لا يقلل من قيمتها .
وكذلك المقابلة والمدابرة وهي التي شقت أذنها من أمام أو من خلف ، إن شقا مستطيلا أو شقا عرضيا ، ذهب بعضهم إلى أنها لا تجزئ؛ لأن هذا يصح عيبا ، ولكن لما لم يكن يزيد في القيمة أو ينقص القيمة رأى بعضهم أنه لا أهمية له وأن الأحاديث التي فيه لا تخلو من مقال ، وبهذه المناسبة نبحث في قطع آذان الدواب الموجودة الآن ... ما حكمه ؟
تشاهدون كثيرا من الأغنام المستجلبة من سوريا ومن غيرها تجب آذانها مع النصف ومع الثلثين ، ويدعون أن ذلك زينة ، وأن هذا يضاعف قيمتها ، بدلا من أن تكون قيمتها مثلا خمسمائة تصير قيمتها ألفا أو ألفين ، أو أكثر أو أقل .
نقول: أرى أن ذلك من المثلة ، لكن يذكر بعضهم أن آذانها طويلة ، وأنها من طولها تتثنى أمام فمها عند الرعي ، فتردها عن المرعى مثلا ، أو عن الشرب ، هكذا يعللون ، فإذا كان كذلك فيقطع منها شيء يسير ، بحيث لا يمنعها ... حتى لا يمنعها من الشرب أو من الرعي ، ولون من الدواب تستطيع أن ترفع آذانها عند الشرب ونحوه ، إن هم قطعوها استئصالا أو قطع النصف أو الثلثين فإن ذلك مثلة قد يدخل في قول الله تعالى عن إبليس: { (((((((((((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((((((((( } وهذه الآية فسرت بما كانوا يفعلونه علامة على البحائر والسوائب ونحوها .(1/291)
يستحب وينبغي في الأضاحي اختيار الأفضل أن تكون كريمة كاملة الصفات ، يستحب استسمانها واستحسانها والمغالاة في أثمانها ؛ لأن ذلك دليل على أنه جادت نفسه بها لله تعالى ولو كانت رديئة الثمن ، وكلما كانت أكمل فهي أحب إلى الله تعالى وأعظم لأجر صاحبها ؛ وذلك:
أولا: أنها تؤكل .
وثانيا: أنها تدل على طيب نفسه .
ورد فيها بعض الأحاديث الكثيرة تذكر في خطب العيد ، ومنها: الحديث الذي قالوا فيه: " يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم . قالوا فما لنا فيها ؟ قال: بكل شعرة حسنة . قيل والصوف ؟ قال: وبكل شعرة من الصوف حسنة . " وكذلك الحديث الذي يقول فيه: " إن الدم يقع من الله بمكان قبل أن يقع في الأرض فطيبوا بها نفسا. وإنه ليأتي يوم القيامة بقرونها وبأظلافها " يعني يأتي بها كدليل أو شاهد على أنه قد تقرب إلى الله تعالى بها .
في حديث جابر يقول: " نحرنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " ؛ وذلك لأن المشركين لما صدوهم عن البيت ولم يكملوا عمرتهم كان عليهم هدي لقوله تعالى: { (((((( (((((((((((( ((((( (((((((((((( (((( (((((((((( } فاشتروا أو نحروا ما معهم من الهدي ، فنحروا البدنة عن سبعة والمائة عن سبعمائة ... هكذا ، وكذلك البقرة ، البقرة عن سبعة ، وإن كانت البدنة أغلى ثمنا ، ولكن البقرة أيضا ذات لحم كثير أكثر أو قريبا من البدنة .
وأما الشاة الواحدة من الغنم فإنها تذبح عن واحد ، ولكن ثبت في حديث جابر وحديث البراء وغيره أنهم كانوا يذبحون الشاة عن الرجل وعن أهل بيته ، تجزئ الشاة عنه وعن أهل بيته ولو كانوا كثيرا ، وكذلك أيضا كثر الكلام في الذبح عن الأموات ، الأضحية عن الميت هل هي مشروعة أم غير مشروعة ؟(1/292)
الأصل والآثار والأحاديث أنها عن الرجل وعن أهل بيته ، ولكن لما كانت صدقة وكان الميت يصله أجر الصدقة وصل إليه أجر الأضحية ، ولما ورد فيها أن بكل شعرة حسنة ، وأنه يأتي بقرونها وبأظلافها ، وأنه يسن استحسانها واستسمانها كان فعلها عن الميت صدقة فيصل إليه أجرها ؛ ولأجل ذلك كان كثير من الناس يجعلون في وصاياهم أضاحي ، فإذا أوصى قال: اذبحوا لي أضحية عني وعن أبويّ مثلا ، أو أضحيتين أو نحو ذلك ، فكان ذلك مشروعا ذكره الفقهاء ، فذكره شيخ الإسلام في بعض كتبه ، وذكره صاحب الكشاف (كشاف القناع) وهو أوسع المراجع لكتب الحنابلة وكذلك شرح المنتهى ، فانتشر وكثر مع أن الأفضل أن الإنسان يضحي عن نفسه وعن أهل بيته .
قوله يخص الأضحية عن والديه ... جاء إذن ولكن هو وأهل بيته أولى أن يضحي عنهم ، وله أن يشرك فيه أبويه أو غيرهم أن يقول هذه أضحية عني وعن أهل بيتي ، أو هذه أضحية عن والدي أو أمواتي أو نحو ذلك ، وقد كثر الخوض في هذه المسألة وتكلم فيها أو ألف فيها ابن محمود رسالة ، فيها الإنكار على الذين يضحون عن الأموات وينسون أنفسهم ، وكأنه يميل إلى أنها ليست مشروعة عن الميت .
ثم رد عليه المشايخ ، رد عليه شيخنا الشيخ: عبد الله بن حميد -رحمه الله- برسالة مطبوعة: ( غاية المقصود في التنبيه على أوهام ابن محمود ) ، ورد عليه أيضا زميلنا الشيخ علي بن فواز -رحمه الله- ، ورد عليه ردود مختصرة الشيخ إسماعيل الأنصاري ، والشيخ عبد العزيز بن رشيد ، وتعقبه ابن رشيد وتعقبه أيضا الأنصاري ، وذلك تكلف ، ولكن يعني إكثار الناس من الأضاحي عن الأموات وترك الأحياء ليس بسنة إلا إذا كانت وصية ؛ فإن الوصايا لا بد من تنفيذها .(1/293)
بعد ذلك قال: وتسن العقيقة في حق الأب ... العقيقة هي الذبيحة تذبح عن المولود ، سنة وهي في حق الأب لا في حق الأم ؛ وذلك لأن الأب هو الذي ينسب إليه المولود ، وأيضا هو الذي ينفق على أولاده ، فيكون هو الذي يعق عنهم ، كانت العقيقة هكذا اسمها في الجاهلية ، فبقيت على هذا الاسم ، لكن ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن العقيقة فقال: " لا أحب العقوق " فكأنه كره الاسم ، ثم قال: " من أحب أن ينسك على ولده فليفعل " فسماها نسيكة .
ولكن ورد حديث أو أحاديث في تسميتها عقيقة ، ومنها الحديث المشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - " أمر بالعقيقة عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة " الغلام يعني الذكر يذبح عنه شاتان مكافئتان ، والجارية الأنثى يكتفى بشاة واحدة ، والسنة أن تكون كاملة مجزئة في الأضاحي سالمة من العيوب .
ثم ذكر هذا الحديث حديث سمرة: " كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى " والحديث صححه الترمذي ورواه الخمسة ، وهو الحديث الذي قالوا إن الحسن سمعه من سمرة .
أخذ بعضهم منه أنها واجبة؛ لأنه قال مرتهن كأنه رهينة ، فيدل على أنه ملزم بأن تذبح عنه ، فإذا لم تذبح عنه بقي مرهونا ، فلا بد من فك الرهن . " مرتهن بعقيقته " .
والسنة أن تذبح يوم سابعه أي: بعد أسبوع ، وإذا لم يتيسر فبعد أسبوعين أي في اليوم الرابع عشر ، وإذا لم يتيسر فبعد ثلاثة أسابيع أي: في اليوم الحادي والعشرين ، ورد ذلك عن عائشة ، فإذا لم يتيسر في الثلاثة أسابيع بعدها ذبحها متى تيسر فلا تعتبر السبعة بعد ذلك بل متى تيسرت ولو بعد شهر أو شهرين أو سنة أو سنتين .
وأما حلق رأسه فثبت أنه عليه السلام حلق رأس الحسن وتصدق بوزنه ورِقا أو قال لأمه: " تصدقي بوزنه ورِقا يعني فضة " .(1/294)
فيحلق رأسه حلقا رفيقا؛ لأنه قد لا يتحمل إذا كان ذكرا ويسمى في ذلك اليوم ، ويجوز تسميته قبل السابع ، ثبت أنه عليه السلام أنه قال: " إنه ولد لي الليلة ولد وسميته باسم أبي إبراهيم " فسماه بعد ولادته فورا ، ويجوز أيضا تأخير الاسم عن اليوم السابع ، والحاصل أن العقيقة ذهب بعضهم إلى وجوبها لهذا الحديث ، ولكن الصحيح أنها سنة ، ذكرنا قوله " من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل " .
يقول: ويأكل من المذكورات ويهدي ويتصدق ، هذه السنة ، السنة أن يأكل منها ويهدي ويتصدق ، الأكل له ولأهل بيته والهدية لأصدقائه وجيرانه ، والصدقة على المساكين والمستضعفين ، الهدية لو مثلا جعلها كوليمة ودعا إليها رفقاءه وأصحابه ، كان ذلك أنفع وأشهر؛ لأن في ذلك إحياءا للسنة ، ولا يعطي الجزار أجرته منها ، ذكرنا قول علي - رضي الله عنه - " أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بُدْنِهِ وأن أقسم لحومها وجلودها وجلالها على المساكين ولا أعطي في جزارتها شيئا منها وقال: نحن نعطيه من عندنا " يعني الجزار الذي يذبحها ويسلخها ويوزعها ويقسم لحمها لا يعطى أجرته منها ، بل يعطى من غيرها ، وإن أعطاه منها فينويه صدقة إن كان من أهل الصدقة ، أو هدية إن لم يكن من أهل الصدقة ، يأخذ منها كهدية . انتهى هذا الباب . بعده نقرأ في البيوع ! .
كتاب البيوع
شروط البيع
قال -رحمه الله- كتاب البيوع الأصل فيها الحل ؛ قال تعالى: { (((((((( (((( (((((((((( (((((((( (((((((((((( } فجميع الأعيان من عقار وحيوان وأثاث وغيرها يجوز إيقاع العقود عليها إذا تمت شروط البيع ، فمن أعظم الشروط الرضا ؛ لقوله تعالى: { (((( ((( ((((((( ((((((((( ((( ((((((( (((((((( } إلا أن يكون فيه غرر وجهالة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن بيع الغرر " رواه مسلم .(1/295)
فيدخل فيه بيع الآبق والشارد ، وأن يقول: بعتك إحدى السلعتين ، أو بمقدار ما تبلغ الحصاة من الأرض ونحوه ، أو ما تحمل أمته أو شجرته ، أو ما في بطن الحامل ، وسواء كان الغرر في الثمن أو المثمن ، وأن يكون العاقد مالكا للشيء أو له عليه ولاية وهو بالغ عاقل رشيد .
ومن شروط البيع أيضا:
ألا يكون فيه ربا ؛ عن عبادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح ، مثلا بمثل سواء بسواء فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " رواه مسلم .
فلا يباع مكيل بمكيل من جنسه إلا بهذين الشرطين ، ولا موزون بجنسه إلا كذلك ، وإن بيع مكيل بمكيل من غير جنسه أو موزون بموزون من غير جنسه جاز ، بشرط التقابض قبل التفرق وإن بيع مكيل بموزون أو عكسه جاز ، ولو كان القبض بعد التفرق والجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل .
كما " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المزابنة ، وهو شراء التمر بالتمر في رؤوس النخل " متفق عليه .
" ورخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق للمحتاج للرطب ولا ثمن عنده يشتري به بخرصها " رواه مسلم .
ومن الشروط ألا يقع العقد على محرم شرعا ، إما لعينه كما " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الخمر والميتة والأصنام " متفق عليه .
وإما لما يترتب عليه من قطيعة المسلم كما " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البيع على بيع المسلم والشراء على شرائه والنجش " متفق عليه .
ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التفريق بين ذوي الرحم في الرقيق ، ومن ذلك إذا كان المشتري يعلم أنه يفعل المعصية بما اشتراه ، كاشتراء الجوز والبيض للقمار ، أو السلاح للفتنة ، وعلى قطاع الطريق .(1/296)
ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تلقي الجلب فقال: " لا تلقوا الجلب فمن تلقى فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار " رواه مسلم ، وقال: " من غشنا ليس منا " رواه مسلم . ومثل الربا الصريح التحايل عليه بالعينة بأن يبيع سلعة بمائة إلى أجل، ثم يشتريها من مشتريها بأقل منها نقدا أو بالعكس ، أو بالتحيل على قلب الدَّين ، أو التحيل على الربا بالقرض ؛ بأن يقرضه مائة ويشترط الانتفاع بشيء من ماله ، أو إعطائه عن ذلك عوضا ، فكل قرض جر نفعا فهو ربا .
ومن التحايل بيع حلي فضة معه غيره بفضة ، أو مد عجوة ودرهم بدرهم ، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع التمر بالرطب فقال: " أينقص عن ذلك إذا جف قالوا: نعم . فنهى عن ذلك " رواه الخمسة .
" ونهى عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر " رواه مسلم . وأما بيع ما في الذمة فإن كان على من هو عليه جاز وذلك بشرط قبض عوضه قبل التفرق ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء " رواه الخمسة .
وإن كان على غيره لا يصح ؛ لأنه من الغرر.
عرفنا أنهم بعد العبادات ألحقوها بقسم المعاملات ، وهو البيع وغيره ، يعني والمكاسب كلها ، قالوا: لأن الإنسان بحاجة إلى أن يقتات ، وأن يكتسب ، وأن يحصل على ما يغني به نفسه من المال الحلال ، فلا بد أن يعرف كيفية التكسب ، فجعلوا هذا الكسب ... جعلوا فيه البيوع والإجارات ، والرهون والوكالات والشركات ، والودائع والهبات والاوقاف ، والوصايا والمواريث ... جعلوها في هذا القسم ، حتى يحصل الإنسان على معرفة كيفية التكسب .(1/297)
ولم يحتاجوا إلى معرفة الحِرف ؛ وذلك لأن الحرف غير منحصرة ، يعني: وتعلمها يكون بالفعل ، تعلم الحرف بالدراسة ، الحرف والصناعات ، فلا يحتاجون إلى أن يذكروا أحكامها ؛ لأن الأصل فيها الحل ، فالإنسان يتعلم الحرف يتعلم مثلا البناء والغرس والعمل في المباني ، وكذلك يتعلم الحرف اليدوية مع كثرتها كحدادة أو نجارة أو هندسة أو عمل في ورش ، أو ما أشبه ذلك هذه تتعلم بالفعل ، يحتاج الذي يتعلمها إلى دراسة وما أشبهها .
فأما المبايعات والمعاملات فإنها تحتاج إلى حكم ؛ فلأجل ذلك تعرض لها الشرع وبين أحكامها .
تعريف البيع:
قالوا هو كما في زاد المستقنع: مبادلة مال ولو في الذمة ، أو منفعة مباحة على كممر بمثل أحدهما على التأبيد غير ربا وقرض .
مبادلة مال يعني: أخذ مال بدل مال أو منفعة كممر ، بمثل أحدهما يعني: منفعة بمال أو منفعة بمنفعة ، بمثل أحدهما على التأبيد يخرج القرض ، أو يخرج العارية ، غير ربا وقرض .
وذكروا له في شرح الزاد تسع صور ؛ وذلك لأن المبادلة إما أن تكون على عين أو على دين أو على منفعة ، والثلاثة تضرب في ثلاثة فتكون تسعة ، فتقول مثلا: عين بعين كهذه الشاة بهذه الدراهم ، عين بدين كهذه الشاة بمائة في الذمة ، عين بمنفعة كهذه الشاة بلا إجدار ، عين بمنفعة هذه العين بثلاثة .
ثانيا: دين بعين ، دين بدين ، دين بمنفعة .
ثالثا: منفعة بعين ، منفعة بدين ، منفعة بمنفعة .
فأصبحت تسع صور . وتمثيلها ظاهر ؛ إذا عرفت أن الدين هو الذي يلتزم في الذمة غيرمعين ، وأن العين هو المعين ، معين يشار إليه فإذا قلت: هذا الكتاب بهذا الريال فهي عين بعين ، وإذا قلت: هذا الكتاب بخمسة في الذمة فهو عين بدين ، وإذا قلت: مثلا أشتري منك كتابا في ذمتك بعشرة في ذمتي فهو دين بدين .(1/298)
ولكن ورد النهي عن بيع الدين بالدين فلا بد أن يحل أحدهما قبل التفرق ، وإذا قلت: مثلا هذا الكيس بحفر هذه البئر فهو عين بمنفعة ، أو حفر هذا البئر بخياطة هذا الثوب منفعة بمنفعة ، هذه أنواع المبايعات .
الأصل في المعاملات الإباحة إلا ما دل عليه الدليل فالنبي - صلى الله عليه وسلم - تركهم على مبايعاتهم إلا أنه نهى عن بعض الأشياء التي فيها ضرر ، ما نهى إلا عن الأشياء التي فيها غرر أو ضرر وإلا فالأصل الإباحة ، قال تعالى: { (((((((( (((( (((((((((( (((((((( (((((((((((( } فجميع الأعيان من عقار وحيوان وأثاث وغيرها يجوز إيقاع العقود عليها إذا تمت شروط البيع .
العقار اسم لما لا ينقل كالدور والأراضي والبساتين ، تسمى عقارا كأنها معقورة لا تتجاوز مكانها ، والحيوان اسم للبهائم ، الدواب ، يشمل الإبل والبقر والغنم ، وكذلك الطيور؛ لأنها حيوان ، الأساس يشمل الأمتعة التي ينتفع بها ، الفرش والأكسية والثياب والأقداح ، والأواني والأطعمة وما أشبهها ، الأساس غالبا اسم لما يستعمل .
يجوز إيقاع العقود عليها يعني يجوز بيعها كما هو الواقع ، لكن إذا تمت شروط البيع .
قد ذكر صاحب زاد المستقنع سبعة شروط ، ولكن المؤلف ذكر بعضها مفرقة ، فمن أهم الشروط الرضا ، لا بد من رضا المتبايعين ؛ لقول الله تعالى: { (((( ((( ((((((( ((((((((( ((( ((((((( (((((((( } فيخرج بيع المكره ، إذا أكره على البيع فلا ينعقد البيع ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه " فالمكره ما طابت نفسه ، كذلك أيضا من الشروط: معرفة المبيع ، ومن الشروط معرفة الثمن ، فلا يصح البيع على مجهول ، فلا يجوز بيع الغرر ولا بيع الجهالة .(1/299)
ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الغرر ، مثل المؤلف -رحمه الله- بهذه الأمثلة: بيع العبد الآبق ، والجمل الشارد والسمك في الماء ، والطير في الهواء ، ذكروا من شروط البيع: القدرة على التسليم فقالوا: لا بد أن يكون البائع قادرا على تسليم المبيع إلى المشتري ، فلا يجوز أن يبيع شيئا غير قادر على تسليمه فإذا كان مثلا الطير غير مضبوط ولكنه في مكان محاط به ، في حجرة مثلا مغلقة النوافذ ومغلقة الأبواب ، يستطيع أن يمسكه ويسلمه للمشتري جاز ذلك .
وأما إذا كان في الهواء فلا يجوز؛ لأنه قد لا يقدر على إمساكه فيكون غررا ، وكذلك الجمل الشارد ، يعني في ذلك الزمان إذا شرد الجمل فقد لا يستطيعون اللحاق به ، فلا يجوز بيعه ما دام شاردا غير مقدور عليه ، وكذلك العبد إذا أبق ، يعني هرب من سيده ، من الذي يقدر عليه ؟ قد لا يستطيع اللحاق به ، كذلك قوله: بعتك إحدى السلعتين ، إذا كانتا مختلفتين فلا يجوز البيع ، أما إذا كانتا متفقتين كأن يقول: بعتك كيس من هذه الأكياس ، والأكياس مستوية ، مستوية الوزن ، والكيل والنوع ، إذا كانت أكياسا مثلا من بر أو من رز متساوية ، جاز أن يقول: خذ كيسا من هذه الأكياس بمائة .
فأما إذا قال: بعتك إحدى السلعتين والسلعتان متفاوتتان ، يعني مثلا كيس بر وكيس قهوة ويقول: بعتك أحد الكيسين ... معلوم التفاوت بينهما ، فلا يجوز إلا أن يعين المبيع بأنه هذا الكيس بعينه ، كذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة ، وما بيع الحصاة ؟
قال بعضهم: إنه أن يقول: ارم بهذه الحصاة فعلى أي شاة تقع فهي لك بمائة ، قد تقع على شاة بألف وقد تقع على شاة بخمسة أو بخمسين ، أو يقول مثلا: خذ هذا الحجر وارم به في هذه الأرض فما بلغ فهو لك من الأرض بألف ، أو بعشرين ألفا ، قد يكون رجمه ضعيفا فلا يبلغ إلا عشرة أمتار ، وقد يبلغ خمسين متر ، يعني أحيانا ، فيكون هذا غرر وضرر .(1/300)
إذا قال: بعتك حمل هذه الشاة قد يكون حمل الشاة ميتا ، قد يكون حمل الشاة توأما فيكون ضررا على هذا أوعلى هذا ، بعتك ما تحمل به هذه الشجرة ، هذه النخلة أو هذه العنبة ، قد يفسد حملها وقد يكون قليلا وقد يكون كثيرا فيحصل ضرر على هذا أو على هذا ، بعتك ما في بطن هذه الأمة أو ما في بطن هذه الناقة قد يكون ميتا ، قد يكون توأما فيحصل بذلك ضرر على هذا أو على هذا ، فيندم أحدهما ، كذلك الغرر في الثمن ، إذا قال مثلا: بعتك بما في يدك من الدراهم ، اشتريته بما في يدي أو بما في مخبئي ، ولا يدرى كم هو ... مائة أو ألف أو ألفين فيها أيضا غرر ؛ قد لا يكون في يده إلا قليل ، قد يكون الذي في يده ذهبا فيكون كثيرا أو فضة ... لا بد أن يكون الغرر منتفيا عن المبيع وعن الثمن ، هذا من الشروط.
ومن الشروط أيضا: أن يكون العاقد مالكا للشيء ، أو له عليه ولاية ، وهو بالغ عاقل رشيد ، يخرج ماذا ؟ لا يبيع شاة غيره . إلا إذا وكله ، لا تبع بيت غيرك إلا إذا وكلك ، فمن باع ملك غيره لم ينعقد ، ولو رأى أن فيه غبطة ، لو قال: رأيت إنسانا بذل مالا كثيرا فبعته أرضك ، أو بعته بيتك ؛ لأنه بذل مالا كثيرا فأنا أريد الخير لك ، فإذا قال: ما وكلتك ولا أرغب البيع ولا أحبه . بطل البيع .
أما إذا قال: قد أجزتك فإنه يجوز ، فيتوقف لزوم البيع على إجازة المالك لهذا المتصرف ، يشترط أيضا في البيع: أن يكون العاقد جائز التصرف ، فإذا كان العاقد سواء البائع أو المشتري سفيها أو مجنونا ، أو صغيرا فلا يصح البيع ؛ وذلك لأنه يجهل الحكم وربما ينخدع فلا يصح بيعه ، مر بنا من شروطه: الرضا ، والعلم ، والقدرة على التسليم ، ومن شروطه أيضا: أهلية المشتري أو البائع ... هذه أربعة .
يقول: ومن الشروط السلامة من الربا ويريد بذلك ربا الفضل وبطريق الأولى: ربا النسيئة ؛ لأن الربا ينقسم إلى قسمين:
فربا الفضل هو أن يبيع جنسا بجنسه متفاضلا.(1/301)
وربا النسيئة أن يبيعه بجنسه أو بغير جنسه وأحدهما غائب ؛ سمي نسيئة؛ لأنه من النسأ الذي هو التأخير ، وذكر حديث عبادة الذي هو في ربا الفضل ، قوله: - صلى الله عليه وسلم - " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح " هذه الأصناف عدها سبعة ، اثنان منها من النقود: الذهب والفضة وأربعة من الأطعمة أو نحوها ، البر والشعير والتمر والملح ، من الأطعمة أو نحوها ، هذه الأصناف الستة هي التي ورد فيها النهي عن المبادلة فيها متفاضلا ، " مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " .
ونذكر أمثلة من الأحاديث ففي حديث عن بلال أنه جاء بتمر جنيب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال: لا . إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة ، فقال لا تفعل . بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا " .
نعلق على هذا الحديث ما يوضحه . فالنبي - عليه الصلاة والسلام - أرسله ليأتي من تمر خيبر بطعام له ، فجاء بتمر جيد نفيس حسن ، فاستغرب النبي - صلى الله عليه وسلم - " هل تمر خيبر كله مثل هذا ؟ فقال لا بل هذا نبيع صاعين من التمر المجموع بصاع من هذا " صاع بصاعين ، أو صاعين بثلاثة آصع ، نبيع التمر المجموع المخلوط الذي هو رديء وجيد ، بهذ الصافي ولكن مع التفاضل فقال: لا تفعل . إذا أردت الجيد فبع الجمع بالدراهم ، الجمع التمر المجموع بع مثلا هذا الذي هو عشرة آصع بعه بخمسة ريال ثم اشتر بالخمسة تمرا جنيبا ، تمرا جيدا ، ولا تبع تمرا بتمر متفاضلا ، إذن فهو يقول من أراد أن يبيع تمرا بتمر فلا بد أن يكون متساويا ، ولو اختلفت القيمة .(1/302)
لا تبع مثلا كيلو من السكري بعشرة كيلو من الخضر مثلا وتقول: هذا غال وهذا رخيص بل كيلو بكيلو ، أو صاع بصاع ، وكذلك أنواع البر ، البر أيضا يتفاوت في القيمة ، ومع ذلك لا يجوز إلا صاعا بصاع ، لا يجوز فيه التفاضل، ولو اختلفت القيمة ، وكذلك الشعير ، إذا بيع شعير بشعير فلا بد أن يكون متفقا في المكيال ، صاع بصاع أو كيلو بكيلو ، وكذلك الملح ، لا بد أن يكون متساويا ، ولو اختلفت القيمة ولو اختلف الطعم ، ما دام اسمه كله ملح .
وكذلك الذهب ، فلا يباع ذهب إلا بذهب مماثل ، يعني مثلا خمسة جرام بخمسة جرام ، أو مائة جرام بمائة جرام ، إذا أراد أن يشتري ذهبا بذهب ، إذا أرادت المرأة مثلا أن تبيع ذهبا قديما وتشتري ذهبا جديدا فلا تقول: أعطني مثلا مائة جرام بمائة وعشرين جراما مستعملا ؛ هذا ربا ، لو قال مثلا البائع أعطيك مائة بمائة وعشرين نقول: لا يجوز ؛ هذا عين الربا .
الحيلة في هذا أن تبيع الذهب المستعمل بدراهم ثم تشتري بالدراهم ذهبا جديدا ، مثل قوله: " بع الجمع دراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبا " فكذلك بع الذهب بدراهم واشتر بالدراهم ذهبا جديدا ، ومثله الفضة ... إذا كان مثلا خواتيم من فضة مستعملة فلا بد أن تكون مثلا بمثل ، يعني خواتيم بخواتيم مماثلة ، وكذلك لو بيعت بدراهم ، فلا تباع إلا بوزنها ، وزنا بوزن مثلا بمثل .
النص في هذا الحديث على ستة . هل يلحق بها غيرها ؟ اختلف العلماء في ذلك ، فذهبت الظاهرية إلى أن الربا يقتصر على هذه الستة ، فلا يزاد عليها فيجوز بيع صاع من الرز بصاعين من الرز ،؛ لأنه ما ذكر في هذا الحديث ، أو صاع من الدخن بصاعين ، أو كيلو من اللحم بكيلوين ، ولو كان كله لحما واحدا ، لحم بعير . يجوز عندهم ذلك .
هذا قول الظاهرية ، أما الإمام أحمد وكذلك الحنفية فألحقوا بها كل ما يكال ويوزن ، وهو ما ذكره المؤلف ، يقول فلا يباع مكيل بمكيل من جنسه إلا بهذين الشرطين ، ولا موزون بجنسه إلا كذلك .(1/303)
الشرطان ما هما ؟ التقابض والتماثل ، مثلا بمثل يدا بيد ، فاختار أن كل ما يكال فإنه ربوي ، فعندنا مثلا الرز يباع بالكيل ، والزبيب يباع بالكيل قديما وإن كان يوزن الآن ، وكذلك الدخن والذرة والقهوة مثلا والهيجل والقرنفل والزنجبيل والحلب وما شابه هذه الأشياء كلها تباع بالكيل ، وكذلك الأقط والألبان والأدهان تباع بالكيل فكلها ربوية فلا يجوز أن تبيع مثلا: صاع دهن بصاعين ، ولا صاع دخن بصاعين ،؛ لأن العلة واحدة وهي أنها مكيلة فألحقناها بالأربعة المكيلة المذكورة في الحديث .
وأما الذهب والفضة فقالوا: إن العلة فيهما كونهما موزوني جنس ، فألحقوا بهما الموزونات ، فقالوا: كل شيء يباع وزنا فإنه يكون ربويا ، فاللحوم موزونة تباع وزنا ، فتكون ربوية ، فلا يجوز أن تبيع كيلو لحم كيلوين أو كيلو ونصف إذا كانا من جنس واحد ، لحم جمل بلحم جمل مثلا بمثل ، كيلو بكيلو ، ولو كان هذا هزيل وهذا سمين لا يجوز التفاضل .
لحم غنم بلحم غنم ، لحم ضأن بلحم ضأن كيلو بكيلو ، وكذلك الألبان والأدهان لبن غنم بلبن غنم مثلا بمثل ، دهن غنم بدهن غنم مثلا بمثل ، إذا باع هذا فإنه لا بد من التماثل ، وكذلك ذكرنا أن الالبان والأدهان من المكيل وأما اللحوم فإنها من الموزون .
ومن الموزونات مثلا: الأصواف ، القطن يباع وزنا ، فإذا تفاوتت قيمة هذا القطن من هذا الشجر وهذا القطن من هذا الشجر وهذا أغلى وهذا أرخص فلا بد من التماثل ، أن يباع رطل برطل أو كيلو بكيلو وكذلك الأصواف ، الصوف ونحوه .(1/304)
وكذلك الحديد والرصاص والنحاس وما أشبهها ، كل هذه تباع وزنا، فالربا يكون فيما يكال وفيما يوزن ، وأما المعدود والمزروع فلا يكون ربويا على هذا القول فيجوز أن تبيع الخضار مثلا التي لا تباع متفاوتة ، فيجوز أن تشتري مثلا حبة من البطيخ بحبتين أو بثلاث ، أو مثلا التفاح مثلا عشر حبات بعشرين حبة ، أو الشمام والهندوخ وما أشبه ذلك وكذلك الخضار كالقرع والكوسة والخيار وما أشبه ذلك ، يقول: إن هذه ليست ربوية ؛ وذلك لأنها تباع بالعدد فلا تدخل في الكيل والوزن ، ولو أنها الآن تباع بالوزن ، فالآن يبيعون مثلا البرتقال بالوزن وهو الأول في الأول كان يباع بالعدد ، وكذلك التفاح يباع بالوزن وهو قديما كان يباع بالعدد ، والحاصل أن الأشياء التي تباع بالوزن قديما ربوية ، وأما التي تباع بالعدد ولو أصبحت موزونة فإنها تكون غير ربوية .
هناك قول ثان ... الحقيقة يعني مباحث الربا أطال فيها العلماء ، واختلفوا فيها احتلافا كثيرا ، ذكرنا لكم هذا القول الذي هو عند الإمام أحمد وأبي حنيفة ، هناك قول ثان: أن العلة في الذهب والفضة الثمنية ، كونها أثمانا للسلع ، فلا يدخل في ذلك الحلي ، فعلى هذا يجوز أن تشتري الحلي بالنقود ، ولو متفاضلا ولو متفاوتا ؛ لأن العلة الثمنية ؛ وذلك لأن الحلي ليس أثمانا بل هو سلعة ، الرشارف مثلا والقلائد والأسورة وما أشبهها لا يقال لها: أثمانا بل هي سلع .
بخلاف الدينار والدولار والجنيه الإسترليني مثلا ، والجنيه السعودي والجنيه الإفرنجي وما أشبهها هذه تسمى أثمانا ، فالعلة في الذهب والفضة أنها أثمان فعلى هذا: الموزونات يجوز التفاضل فيها ، ولكن قالوا إن العلة في البقية ، الأربعة الباقية أنها مطعومة فقالوا على هذا القول: كل شيء مطعوم فإنه ربوي .(1/305)
الربوي الذي هو من الأطعمة فالمكيلات إذا كانت مطعومة فإنها ربوية ، وغير المطعومة فليست ربوية ، معلوم أن التفاح والموز والبرتقال وما أشبه ذلك أنها مطعومة تطعم وتؤكل ، فتكون على هذا القول ربوية ، فلا تباع بعضها ببعض إلا متماثلة ، تكون مثلا كيلو مشمش بكيلو مشمش كيلو كمثرى بكيلو كمثرى ، مثلا بمثل وما أشبه ذلك ، وأما إذا لم تكن مطعومة ولو كانت مكيلة فإنها ليست ربوية ، فمثلا الأبازير ونحوها ليست مطعومة فيجوز فيها التفاضل ، فيجوز أن يباع مثلا ورق السدر الذي هو صابون متفاضلا ، ولو كان يكال؛ لأنه ليس بمطعوم ، والأشنان مثلا ، والورد، زهر الورد ولو كان يكال ولو كان مثلا موزونا؛ لأنه ليس بمطعوم ؛ لأن العلة عندهم الثمنية أو الطعم . هذا قول من الأقوال.
ومن الأقوال أن العلة في الأربعة كونها من القوت ، أو ما يصلح به القوت ، وهذا القول عند المالكية وكثير من العلماء يقربه ويقول: لعله أقرب ؛ فكل شيء يصلح أن يكون قوتا فإنه ربوي ، والذي ليس قوتا فإنه ليس بربوي ، فمثلا القهوة والهيل والزنجبيل والقرنفل ليست قوتا ، لا تتخذ قوتا ولكن مثلا: الشيء الذي يصلح قوتا فإنه ربوي الفول مثلا ، يؤكل ويصير قوتا ، وكثير من البذورات تصلح أن تكون قوتا ، تلحق بالشعير وتلحق بالبر وما أشبه ذلك ، وكذلك الخضار تصير قوتا فتكون ربوية وما ليس بقوت فإنه أيضا ربوي .
يقول: إن بيع مكيل بمكيل من غير جنسه فلا بد من التقابض ولا يشترط التماثل ، صورة ذلك إذا بيع بر برز ، ما الذي يشترط ؟ التقابض دون التماثل صاع رز بصاعين بر أو العكس يجوز ؛ لعدم الجنسية ، الجنس مختلف ، ولكن العلة واحدة ما هي ؟ الكيل . أو الطعم أو القوت ، فالعلة واحدة فيه ، ومع ذلك اختلف الجنس ، فيجوز صاع بر بصاعين من الشعير أو بصاعين من الأرز أو بصاعين من التمر .(1/306)
وكذلك موزون بموزون من غير جنسه ، إذا قيل مثلا: باختلاف اللحوم جاز اختلافها فتبيع مثلا: كيلو من لحم السمك بكيلوين من لحم الإبل ، يجوز لاختلاف الجنس ، ولكن ما الذي يشترط ؟ التقابض .
أن يكون يدا بيد . دليله في هذا الحديث يقول: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " إذا بيع مكيل بمكيل ولكن مختلف يعني ملح ببر صاع بر بعشرة آصع ملح يجوز، ولكن التقابض لا بد منه ، مثلا صاع بر بصاعين تمر يجوز ولكن لا بد أن يكون يدا بيد ، هذا معنى قوله " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم " فالذي يحذر منه هو بيع تمر بتمر متفاضلا ، إذا بيع تمر بتمر فلا بد من شرطين: التماثل والتقابض ، وأما إذا بيع تمر بزبيب فإن الجنس اختلف فيجب التقابض ويجوز التفاضل .
يقول: بشرط التقابض قبل التفرق ، لو كان أحدهما غائبا فأرسلوا من يأتي به فإذا أتى به أحضره فقال: أجلسه مثلا، هذا الكيس من التمر وهذا الكيس من البر هذا بهذا ، ولو كان أحدهما أكثر من الآخر إن بيع مكيل بموزون أو عكسه ، جاز ولو كان القبض قبل التفرق . لماذا ؟ لاختلاف العلة .
فيكون في هذه الحال العلة مختلفة ، مثاله: لحم ببر ، العلة في اللحم ماهي ؟ الوزن , العلة في البر الكيل ، فلما اختلفت العلة صار مكيل بموزون موزون بمكيل جاز التفرق وجاز التفاضل ، فتقبض مثلا اللحم ولو تأخر قبض البر أو بالعكس ، جاز القبض بعد التفرق .
ثم ذكر قاعدة: الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل ، هذه قاعدة من قواعد الفقهاء ، الجهل بالتماثل هو أن يقع الشك ، في هذين الكيسين كيس بر وكيس بر ، كيس رز وكيس رز ولا ندري ما مقدار هذا ولا مقدار هذا؟ يمكن أن أحدهما أكثر من الآخر ، هذا جهل ، جهل بالتماثل ، يقولون: ننزله منزلة العلم بالتفاضل ، منزلة ما لو عرفنا مثلا ان هذا عشرة وهذا إحدى عشر ، فلا يجوز .(1/307)
العلم بالتفاضل يعني علمنا يقينا أن أحدهما أكثر من الآخر ، فإذا جهلنا تماثلهما وتساويهما فإننا لا نبيعهما حتى نتحقق التماثل .
إن بيع مكيل بموزون أو عكسه جاز، ولو كان القبض قبل التفرق لماذا ؟ لاختلاف العلة.
فيكون في هذه الحال العلة مختلفة. مثاله: لحم ببر العلة في اللحمة ما هي ؟ الوزن. العلة في البر الكيل. فلما اختلفت العلة صار المكيل بموزون. موزون بمكيل جاز التفرق وجاز التفاضل فتطلب.
مثلا: اللحم ولو تأخر قبض البر أو بالعكس جاز القبض بعد التفرق، ثم ذكر قاعدة الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، هذه قاعدة من قواعد الفقهاء الجهل بالتماثل هو أن يقع الشك في هذين الكيسين كيس بر وكيس بر. كيس رز وكيس رز ولا ندري ما مقدار هذا ولا مقدار هذا؟ يمكن أن أحدهما أكثر من الآخر. هذا جهل، جهل بالتماثل يقول: ننزله منزلة العلم بالتفاضل منزلة، فلو عرفنا مثلا أن هذا عشر وهذا أحد عشر. هذا يجوز العلم بالتفاضل يعني: علمنا يقينا أن أحدهما أكثر من الآخر فإذا جهلنا تماثلهما وتساويهما فإننا لا نبيعهما حتى نتحقق التماثل بالكيل أو الوزن أو بالمعيار الشرعي يقول: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة " واشتقاقها من الزبن وهو الدفع وهي شراء التمر بالتمر في رؤوس النخل تمر في الأرض وتمر في رأس النخلة تقول: هذا بهذا لا يجوز؛ وذلك لعدم اليقين بمساواة هذا لهذا. هذا ما كلناه وإنما ننظر إليه.
استثنوا من ذلك العرايا ـ العرايا هي التي تباع برؤوس النخل؛ لأجل أن تؤكل رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نهى عن المزابنة رخص في العرايا بخمسة شروط مذكورة في كتب الفقه
أولا: أن تباع بخرصها كم مقدار هذه النخلة ؟ مقدارها خمسون صاعا. هذا التمر الذي نبيعها خمسون بخمسين تمر جاف بتمر في رؤوس النخل هذا الشرط أن تباع بخرصها.
الثاني: أن تكون أقل من خمسة أوسق يعني: أقل من ثلاثمائة صاع.
الثالث: أن يكون المشتري للنخلة محتاجا للرطب.(1/308)
الرابع: ألا يكون معه دراهم يشتري بها، إذا كان معه دراهم نقول له: اشتر النخلة بالدراهم لا تشتريها بتمر.
الخامس: الحلول والتقابض. أن يحضر التمر في أصل النخلة فيقول: هذا التمر خمسين كيلو بهذه النخلة التي مقدارها خمسين كيلو صاحب النخل يحب التمر؛ لأنه أطعم وأحسن وصاحب التمر يحب الرطب؛ لأنه أشهى فيباع تمر برطب في رؤوس النخل بهذه الشروط عرفنا أنها مستثناة من المزابنة وأن شروطها هذه الخمسة أولا: الخرص والتقدير ؛ لأنه لا يمكن كيلها وثانيا: أن تكون أقل من خمسة أوسق وثالثا: أن يكون محتاجا للرطب ورابعا: ألا يجد الثمن وخامسا: القبض قبل التفرق. يبقى أن نقتصر على هذا إلى ما بعدها من الشروط، ألا يقع العقد على محرم نكمله -إن شاء الله- في الأسبوع القادم.
ابتدأنا في القسم الثاني من أقسام الفقه وهو كتاب البيوع وآخره كتاب العتق، وأول القسم الثالث كتاب النكاح، وآخره كتاب النفقات، وأول القسم الثالث: كتاب الجنايات إلى آخر الكتاب القسم الرابع كتاب الجنات أي أن القسم الأول: هو العبادات والقسم الثاني: المعاملات والقسم الثالث: العقود والأنكحة والقسم الرابع: الجنايات. ذكرنا أن البيع يصح بشروط:
منها: التراضي. قال -تعالى-: { (((( ((( ((((((( ((((((((( ((( ((((((( (((((((( } .
الثاني: أن يكون العاقد جائز التصرف يخرج السفيه ونحوه.
الثالث: أن يكون المبيع مما ينتفع به مطلقا يعني: من الأموال التي ينتفع بها في كل الأحوال.
الرابع: أن يكون البائع مالكا للمبيع أو مأذونا له فيه. الخامس: أن يكون مقدورا على تسليمه. السادس: أن يكون الثمن معلوما. السابع: أن يكون المبيع معلوما. هذه شروط البيع، وهنا أيضا ألحق بها شرطين شرط ثامن: وهو ألا يكون المبيع من الربويات بين الربا، وشرط تاسع: وهو إلا يقع العقد على محرم شرعا.(1/309)
من الشروط القديمة أن يكون المبيع مباحا مباح الانتفاع به بكل حال فيخرج ما لا يجوز بيعه مثل: المحرمات. كالكلاب والسباع والخمور وآلات الغناء والصور وما أشبهها فإن بيعها باطل ؛ لأنها محرمة والذي يشتريها يستعملها لمحرم والذي يبيعها يعين بها على محرم، كذلك إذا كان محرما شرعا إذا كان التحريم شرعا ليس تحريما عقليا؛ لأن تحريم الخمور مثلا والميتات والخنازير تحريم عقلي يؤيده العقل لو لم يأت به الشرع، ولكن تحريم الربا وتحريم العينة وما أشبهها، هذه محرم شرعا.
فإذا كان المبيع محرما في الشرع أو محرما في العقل فإن العقد عليه باطل في حديث جابر قال: " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الخمر والميتة والأصنام " الخمر محرم شرعا والعقل يؤيد تحريمه والميتة محرمة شرعا وطبعا، والأصنام محرمة شرعا ؛ لأنه لا نفع فيها كذلك الذي يحرم لما يترتب عليه من القطعية بين المسلمين كقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يبع بعضكم على بيع بعض " نهى أن يبيع أحد على بيع أخيه أو يشتري على شراء أخيه لماذا ؟ ؛ لأنه يسبب التقاطع والتشاحن.
صورة البيع على بيع أخيه: إذا رأيت أخاك باع سلعة باع ثوبا بعشرة قبل أن يتفرقا دعوت المشتري وقلت: أنا أبيعك بتسعة فإنه يسخط عليك أخوك وجارك ويحقد عليك وتصير بينكما عداوة إلا إذا كان بيع مزايدة أو بيع مناقصة.
بيع المناقصة: أن تعلن مثلا شركة عن رغبتها في سيارات فيأتيهم هذا فيقول: عندي سيارات سعرها ستون، فيأتي آخر يقول: عندي سيارات سعرها تسعة وخمسون، ويأتي آخر فيقول: عندي سيارات سعرها ثمانية وخمسون هذا بيع المناقصة، وكذلك شراء المزايدة، إذا عرضت في السوق سلعة فقال هذا: أنا أشتريها بعشرين، فقال الثاني: بل بواحد وعشرين، وقال الثالث: بل باثنين وعشرين، هذا يسمى بيع المزايدة.(1/310)
قد ثبت " أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسأل، فقال: ألا تملك شيئا فأخبر بأن عنده قدح وإناء قال: ائتني بهما فقال: من يشتريهما؟ فقال رجل: بدرهم فقال: من يزيد على درهم ؟ فقال آخر: بدرهمين، ثم باعهما بالمزايدة، ثم أمره أن يشتري فأسا وحبلا وأن يحتطب وأن يبيع وأن يغني نفسه " .
فالحاصل أن هذا بيع مزايدة أما عدم المزايدة فمثلا إذا رأيت أخاك اشترى ثوبا بعشرة محتاجا إليه وبعدما تم البيع إلا أنهما لم يتفرقا قلت لصاحبه: أنا أشتريه بأحد عشر لما أنك زدته انتزعه وباعه عليك هذا لا يجوز ؛ لأنه يسبب بينكما البغضاء هذا صورة البيع على بيع أخيه والشراء على شراء أخيه، كذلك ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تدابروا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا ولا تناجشوا " ما معنى ولا تناجشوا؟ أو ما هو النجاش ؟ النجاش هو الزيادة في السلعة من غير أن يريد شرائها، إما أن يريد نفع البائع أو ضرر المشتري الناجش خاطئ.
إذا مثلا عرض هذا الكتاب وقيمته عادة خمسة دراهم هناك إنسان بحاجة إليه ولكنه لا يعرف القيمة، فجاء إنسان وأخذ يزيد فيه فقال: بستة صاحبها الذي أراد، قال: بسبعة هذا الناجش قال: بثمانية وصاحبها قال: بتسعة، قال الناجش: بعشرة، قال: صاحبه بأحد عشر قيمته خمسة، هذا الناجش يعرف أنه ليس يشتريه وليس له حاجة به ولكن يريد نفع البائع يريد أن يزيد فيه حتى ينفع البائع فهذا حرام أو يريد ضرر المشتري.(1/311)
النجش حرام كذلك ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التفريق بين المرأة وولدها فقال: " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته " ويكون هذا في المملوكة إذا كان لها ولد فباع المملوكة في بلاد وباع ولدها في بلاد أخرى، أو باع ولدها في طرف البلاد وباعها في طرف البلاد الآخر البعيد فتفرقا لا شك أنها ستحنو على ولدها وتشفق عليه وأنها ستضرر بفراقه، وسيغلب عليها الرحمة والبكاء والرقة فلا تهنأ بعيش، فهذا البائع هو الذي أثم لتفريقهما.
وفي حديث آخر " أن عليا - رضي الله عنه - دخل بأخوين طفلين أو شابين كما مملوكين فباع أحدهما هنا وباع الآخر هنا فرق بينهما فلامه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: اذهب واسترجعهما ولا تبعهما إلا جميعا " ما داما أخوين شقيقين مثلا مشفقين كل منهما يحب أخاه فلا يجوز أن تفرق بينهما.
يستدل بحديث: " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته " أنه يدخل فيه، وإن لم يكن بيعا، الرجل إذ طلق امرأته ومعها ولد وانتزع ولده منها وهى تشفق عليه وحجبها عنه وحجبه عنها فإن هذا داخل في الوعيد التفريق بين الوالدة وولدها.
يقول: ومما يحرم بيعه إذا كان المشتري يعلم أنه يفعل المعصية بهذه السلعة فلا يجوز البيع عليه ؛ لأن في ذلك مساعدة على الإثم والعدوان والله -تعالى- يقول: { (((( (((((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((((((( } فإذا رأيته يشتري الجوزة والبيض اللي هو القمار كأن يلعبون القمار بالبيض فيقول: إذا غلبته عليه غلبت بكذا وإذا غلبت عليه كذا، وكذلك الجوز القمار وهو الميسر وهو قرين الخمر في التحريم فلا يجوز أن تبيعه جوزا أو بيضا ليلعب بها القمار، كذلك إذا عرفت أنه يبيع هذا العنب ليعصره خمرا تعرف وتتحقق أنه يعصره خمرا فلا يجوز أن تبيعه حتى لا تساعده على المنكر.(1/312)
كذلك إذا رأيت أنه يشتري هذه السلاح في فتنة بين المسلمين يقاتل المسلمين فلا تبع له سلاحا يقاتل به المسلمين، كذلك ولا تبع لقطاع الطريق سلاحا -ولو سكينا- إذا عرفت أنه سيقف على الطريق ويقطع الطريق ويأخذ من مر به.
يقول: ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن تلقي الجلب وفي رواية قال: " لا تلقوا الجلب، أو لا تلقوا الركبان " ويراد بهم أهل السلع الذين قدموا لبيعها لا تلقاهم قبل أن يصلوا إلى السوق فتخدعهم وتشتري منهم ؛ لأنهم يجهلون السوق فربما يكون بيعهم لك رخيص وهى تساوي أكثر فيكون ذلك خدعا لهم، فمن تلقي فاشتري منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار، إذا تلقاهم أحد واشترى منهم غنما مثلا وأكياسا أو سيارات أو سلعا أو أواني، وهم قد جلبوها ليبيعوها فجاءهم إنسان قبل أن يصلوا إلى المكان الذي تجلب فيه فاشتري منهم فلما وصلوا السوق وجدوه قد خدعهم وقد باعوا إليه برخص ففي هذه الحال لهم الخيار لهم الخيار يعني: لهم أن ينتزعوه ويقولون: أنت خدعتنا.(1/313)
كذلك أيضا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الغش مر ببر صبرة من بر كومة من بر قد عرضها صاحبها للبيع فأدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - يده فيها فنالت بللا أي: رطوبة فقال: " ما هذا يا صاحب الصبرة؟، فقال: أصابته السماء ... " يعني: المطر أي: أن هذا من آثار المطر " قال: هلا جعلته أعلاه ... " هذا الرطب اجعله في أعلاه كي يراه الناس " من غشنا فليس منا " ؛ لأن هذا اعتبره غشا ؛ لأنه إذا أراد أن يبيع أخذ من الأسفل من هذا المبتل الرطب الذي يكون معيبا وباعه كأنه نظيف فيكون هذا غشا، وأنواع الغش كثيرة: إخفاء العيب أو خلطه بما لا يتميز معه في اللحوم مثلا إدخال العظام إلى العصب وما بينها، كذلك أيضا في القمح والبر إدخال الشيء الذي فيه عيب في أسفلها، كذلك مثلا البن والهيل ونحوه إدخال الرديء في أسفلها، كذلك في الخضار ونحوه يجعل الرديء في أسفل الأواني وجعل الجيد في أعلاها يعتبر هذا من الغش.
ومثل الربا الصريح التحايل عليه بالعينة ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا... " فذكر من جملة ما عابهم به تبايع العينة، ومما يدل عليها أيضا حديث عائشة: " دخلت عليها أم ولد زيد بن أرقم فقالت: إني بعت زيدا غلاما بثمانمائة إلى العطاء، ثم اشتريته منه بستمائة، نقدا فقالت: بئس ما بعت وبئس ما اشتريت أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده إلا أن يتوب " .
هذه صورة العينة باعت العبد بثمانمائة دينا، ثم اشترته بستمائة نقدا فكتبت على زيد ثمانمائة وأعطته ستمائة فعاد إليها عبدها فكأنها أعطته الست بثمان فهذه صورة العينة إذا اشتريت مثلا السيارة بستين ألفا دينا، ثم بعتها على صاحبها بخمسين ألفا نقدا أعطاك خمسين ألفا، سيارته رجعت إليه وكتب في ذمتك ستين ألفا، فكأن هذه الخمسين ستون هذا ربا، ما أعطاك إلا هذه الخمسين.(1/314)
وسئل ابن عباس عن رجل اشترى حريرة بمائة دينا، ثم باعها على صاحبها بخمسين نقدا فقال ابن عباس: دراهم بدراهم أكثر منها دخلت بينهما حريرة، هذه هي صورة العينة أن يبيع سلعة بمائة إلى أجل، ثم يشتريها من مشتريها بأقل منها نقدا هذه صورة العينة.
واختلف في عكسها عكس مسألة العينة أن يكون عندك مثلا سلعة فتبيعها تبيعها مثلا بستمائة مثلا، ثم تشتريها بأربعمائة تبيعها مثلا بستمائة نقدا، ثم تشتريها بسبعمائة دينا تقول: مثلا هذا السيف أنا بحاجة إلى دراهم وبحاجة إلى السيف أبيعك هذا السيف بثمانمائة إلى مدة، ثم أشتريه منك بستمائة نقدا سيفك رجع إليك وكتب في ذمتك ثمانمائة ولم يأتك إلا ستمائة فهذه الستمائة كأنها بثمانمائة.
كذلك التحايل على قلب الدين، إذا حل الدين على إنسان وكان معسرا جاء إليه وقال: أعطني ديني، قال: ما عندي، قال: أبيعك سلعة أخرى، ثم تبيعها وتوفيني الدين، مثلا عشرين ألفا حال وهو لا يجد الحال فقلت: مثلا أبيعك هذه الأكياس بثلاثين ألفا مؤجلة بعها في السوق وأعطني ديني أخذ ثلاثين ألفا، ذهب وباعها بعشرين ألفا ورد أو هات العشرين القديمة، انقلب الدين، أكياسك رجعت إليك أو ما رجعت، لكن بدل ما الدين عشرين أصبح ثلاثين، إذا حلت الثلاثين تأتي أيضا تقول: أعطني أبيعك سلعة أخرى، أبيعك هذه السيارة بخمسين ألفا، يشتريها بخمسين ألفا دين يروح يبيعها بثلاثين ويعطيك إياها أصبح الدين بعد العشرين خمسين، وهكذا هذا قلب الدين.(1/315)
الله -تعالى- يقول: { ((((( ((((( ((( (((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( } كذلك التحايل على الربا بأن يقرضه مائة، ويشترط الانتفاع بشيء من ماله يقول: أقرضك مثلا مائة أو ألفا أو خمسين ألفا بشرط أنك تعطيني سيارتك شهرا أستعملها أو بيتك شهر شهرين أسكنه أنت أقرضته والقرض مما يبتغى منه وجه الله فيكون هذا ربا، "كل قرض جر نفعا فهو ربا" أو تقول: مثلا بعني هذه الشاة بمائة وأقرضك مع المائة مائة أخرى الشاة قيمتها مثلا مائة وخمسين وهو محتاج إلى المائتين فأنت تقول: بعنيها بمائة وأعطيك مائة أخرى قرضا ما أقرضته إلا ليبيعك الشاة رخيصة، هذا أيضا قرض جر نفعا.
وكذلك إعطاؤه عن ذلك عوضا، إذا قلت مثلا: أقرضك مائة بشرط أن تعطيني عوضا أن تعطيني عوضا سواء منفعة أو عينا أن تعطيني لحما أو فاكهة من بستانك، أو نحو رطب أو نحو ذلك، هذا قرض جر نفعا "كل قرض جر نفعا فهو ربا"، ومن التحايل بيع حلي فضة معه غيره بفضة هذه تسمى مسألة: "مد عجوة"، مثلوا لها بمد عجوة ودرهم بدرهمين العجوة تمر معروف بالمدينة، فإذا قلت مثلا: أشتري منك مد عجوة بدرهم وبدرهمين لا حاجة إلى الدرهم، المد عجوة بدرهم لماذا تدخل درهما آخر؟ أو مد عجوة ودرهم بمدي عجوة لا حاجة إلى المد الثاني، مد بمد ولا حاجة إلى الدرهم أو بمد ودرهم يعني: مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم هذه مسألة مد عجوة.
دليله أن فضالة بن عبيد اشترى قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز، الدنانير ذهب والقلادة فيها ذهب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تباع حتى تفصل، افصل الذهب وبعه أو تشتريه بمثله والخرز تشتريه بمثله بقيمته " نهى عنه ؛ لأنه اشترى ذهب وخرز بذهب فقاسوا عليه أن يبيع ربويا بمثله ومع أحدهما أو مع كل منهما من غير جنسه دليله: " ذهب وخرز بذهب " حتى لو كان ذهب وخرز بذهب وخرز ما يجوز لا بد أن يكون الذهب بذهب متماثلا يدا بيد والخرز بقيمته.(1/316)
كذلك أيضا مد عجوة بثمانية دراهم لا تدخل معه مدا آخر، التمثيل هنا فيه نقص، قوله: أو مد عجوة ودرهم بدرهم سواء بدرهمين مد عجوة ودرهم بدرهمين ؛ لأنه يكون الدرهم مقابل للدرهم والدرهم الثاني مقابل مد عجوة، سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع التمر بالرطب فقال: " أينقص الرطب إذا جف قالوا: نعم فنهى عن ذلك " معلوم أنه إذا بيع التمر بالتمر فلا بد أن يكون مثلا بمثل متساوي، ومعلوم أن الرطب ما دام رطبا فإنه وزنه ثقيل ؛ لأنه متشبع بهذا الماء، فإذا جف وصار تمرا خف وزنه، وكذلك أيضا يضمر ويخف كيله فلذلك لا يباع تمر برطب إلا مثلا بمثل ولا يباع تمر برطب؛ وذلك لعدم التحقق من التساوي، ونهى عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر، الصبرة الكومة كومة من التمر لا يدرى ما قدرها؟ قد تكون عشرين كيلو، أو خمسين كيلو تمرا فتشتريها بتمر معلوم، اشتريت منك هذه الكومة خمسين كيلو بتمر آخر لا يجوز حتى تعلم مقدار تلك الصبرة ومقدار وزنها فتبيعها تمرا بتمر مثلا بمثل يدا بيد.
بيع ما في الذمة إن كان على من هو عليه جاز، وصورة ذلك إذا كان في ذمتك لي شاة أو كيس أو عشرين صاع بعتك ما في ذمتك قد حل بعتك الدين. الأكياس. الكيس الذي في ذمتك والصاع التي في ذمتك بخمسين ريال، بعتك الشاة التي في ذمتك والجمل الذي في ذمتك بمائة ريال، إذا كان البيع على من هو في ذمته جاز ولكن لا بد من شرط قبض عوضه قبل التفرق حتى لا يكون بيع دين بدين، فإذا كانت مثلا الشاة التي في ذمتك غائبة واشتريتها بمائة غائبة أصبح دينا بدين فلا بد أن تسلم العوض أن تسلم العوض قبل التفرق تسلم المائة قبل التفرق.
في حديث عن ابن عمر قال: كنا نبيع الإبل بالبقيع فنبيع بالدراهم ونأخذ الدنانير ونبيع بالدنانير ونأخذ الدراهم فسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لا بأس أن تباع بسعر يومها إذا لم يتفرقا وبينهما شيء واضح " .(1/317)
المثال يقول مثلا: نبيع البعير بعشرة دنانير ولكن ما يسر مع صاحبه الذي اشتراه دنانير ذهب، فيعطينا قيمة الدنانير دراهم الدرهم في ذلك الوقت يساوي نصف السدس في الدينار صار في الدينار اثنا عشر درهم فإذا باع مثلا بعشرة دنانير فإنه يأخذ بدلها مائة وعشرين درهما، الدينار باثني عشر فهذا صرف بعين وذمة العين الدراهم حاضرة والذمة الدنانير غائبة، فكأنه يقول: أشتري منك الدنانير التي في ذمتي بدراهم نقد في ذمتي لك، ثمن الشاة أو ثمن البعير عشرة دنانير وليس عندي إلا دراهم فقيمتها كم قيمتها الآن في الأسواق؟ قيمة الدينار اثنا عشر، قيمة العشرة مائة وعشرين خذ المائة والعشرين، هذا جائز يعني: بيع ما في الذمة لمن هو عليه.
نمثل أيضا بالجنيه إذا كان في ذمتي لك جنيه سعودي طلبت الجنيه فقال: ما عندي الجنيه ولكن عندي دراهم سعودية سألته كم قيمة الجنيه السعودي؟ فقالوا: قيمته خمسمائة ريال سعودي فقال: أنا أعطيك صرفه قيمته الآن خمسمائة نقدها لك في المنزل، هاهنا ما حصل حضور العوضين ولكن أحدهما في الذمة والآخر نقد، فإذا لم تتبعا فرقا بينكما شيئا فلا بأس، أما إذا كان على غير من هو عليه فلا يصح ؛ لأنه من الغرر، إذا كان مثلا عند فلان لي عشرة جنيهات أبيعكها مثلا الجنيه بخمسمائة هذا بيع فيه غرر؛ لأن صاحبها غائب ولا يدري هل هي ثابتة أم لا؟ وهل هي موجودة عنده أم لا ؟ فمثل هذا من الغرر بيعها لمن هي عليه، ومثلوا الآن بالدراهم والدنانير، وأنا مثلت أيضا بالبهائم فأقول: إذا كان في ذمتك في ذمة زيد لك شاة في الذمة صفتها كذا وسنها كذا ولونها كذا ولكنها في الذمة، فهل يجوز أن أشتريها منك وهى في ذمة زيد؟ لا ؛ لأن هذا غرر لا يدري من أين هي، وهل هي موجودة أم لا؟.(1/318)
ومثل هذا أيضا يقع أن كثيرا في هذه الأزمنة يطلب منحة أرض، فإذا أعطي المنحة هذه المنحة يقع عليها رقم ولا يدري هل هي بالشرق أم في الغرب؟ ولا يدري ما محلها ولا ما مكانها هل يجوز أن يبيعها قبل أن يعلم موضعها؟ لا يجوز؛ لأن هذا من بيع الغرر.
نقرأ الآن:
باب بيع الأصول والثمار
قال - صلى الله عليه وسلم - " من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع " متفق عليه، وكذلك سائر الأشجار إذا كان ثمره باديا، ومثله إذا ظهر الزرع الذي لا يحصد إلا مرة واحدة، فإن كان يحصد مرارا فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها: نهى البائع والمبتاع، وسئل عن صلاحها فقال: " حتى تذهب عاهته " وفي لفظ: " حتى تحمارّ أو تصفارّ " ونهى عن بيع الحب حتى يشتد رواه أهل السنن، وقال: " لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيء بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " رواه مسلم.
في هذا بيع الأصول والثمار هي الثوابت ويعبر عنها اصطلاحا أو حاليا بالعقار، فالبستان من الأصول والأراضي من الأصول والدور من الأصول وما يتبعها، فمثلا البيوت التي بنيت فيها مثلا أسسها وقواعدها وحيطانها هذه من الأصول، البساتين فيها أشجارها فيها النخيل وفيها الأعناب وفيها التين وفيها الزيتون مثلا، وفيها الخوخ وهى الأشجار الباقية، هذه أيضا من الأصول، أما الثمار فالمراد بها الثمرة التي تؤخذ من الأشجار كرطب النخل وزبيب العنب مثلا وثمر التين ثمر الزيتون ثمر التوت، ثمر الرمان والطماطم وما أشبه هذه من الثمار.(1/319)
متى تباع الأصول؟ وكيف تباع ؟ متى تباع الثمار؟ وكيف تباع؟ اختصر المؤلف هذا الباب، واقتصر على هذه الأدلة وفيها الكفاية. قوله - صلى الله عليه وسلم - " من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع " التأبير هو التلقيح، عادة أهل النخيل إذا أخرج طلعه إذا خرج الطلع فإنهم يلقحونه، يأخذون من الفحال شماريخ ويجعلونها في وسط شماريخ النخل حتى تتماسك ولا تتساقط وتصلح فهذا هو التأيير.
إذا خرج الطلع فإنهم يلقحونه يأخذون من الفحال شماريخ ويجعلونها في وسط شماريخ النخل حتى تتماسك ولا تتساقط وتصلح فهذا هو التأبير، فإذا أبر النخل ظهر ثمره، ثم إنه باع البستان بنخله، فهذه الثمرة تبقى للبائع حتى يصرمها، لكن إن اشترط المشتري، وقال: أنا لا أشتريه إلا إذا بعتني الثمر مع النخل فله شرطه " فالمسلمون على شروطهم " وكذلك سائر الأشجار إذا كان ثمرها باديا، فإذا باع هذا البستان وفيه الأترج قد نضج والرمان قد نضج والتين قد نضج يعني: قد ظهر ثمره قد ظهر ثمره بدا فإن هذه الثمرة الظاهرة للبائع، وعندهم في ذلك تفاصيل.
الحاصل أن الثمرة إذا أظهرت، ثمر العنب تدلى ولو أنه صغير، ثم باعه فلا يتبعه الثمر، كذلك ثمر التين ظهر ولو كان صغيرا فلا يباع فلا يتبعه في البيع إلا إذا اشترطه، وهكذا ثمر الرمان والزيتون وكل الأشجار التي فيها ثمار، مقصوده إذا كان ثمره باديا، أما إذا ما ظهر بل هو باق في زهره، هناك بعض الأشجار أول ما تنتج زهر، ثم بعد الزهر الثمر، فإذا كان الزهر فقط فلا يكون الثمر للبائع بل للمشتري، كذلك إذا ظهر الزرع الذي لا يحصد إلا مرة مثل البر والذرة والدخن والشعير هذا لا يحصد إلا مرة، وأما ما يحصد مرارا كالبرسيم فإنه إذا باعه فالجذة الظاهرة للبائع والأصول للمشتري.(1/320)
يقول: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ذكروا أنهم كانوا يشترون التمر وهو بلح لا يزال صغيرا، فإذا قرب الحصاد قرب الصرام، قال البائع: أصابه قتام أصابه كذا فتكثر الخصومات يترافعون، فيقول المشتري: أنا اشتريت منه على أنه سيصير صالحا والآن فسد أو تساقط أو أصابه هذا الغبار أوأصابه كذا وكذا، فالآن أريد نقودي لا أريد الثمر فكثر الترافع، فعند ذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، كلمة الثمار: يدخل فيها الرطب والعنب والزيتون والرمان والتفاح والخوخ وسائر الثمار تدخل في الثمار فلا يجوز بيعها حتى تصلح، علامة الصلاح في التمر أن تحمر أو تصفر، تعرفون ثمر النخيل أول ما يطلع وهو أخضر، ولكن إذا قرب نضجه فبعضه ينقلب أحمر وبعضه ينقلب أصفر، فإذا اصفر أو احمر فإن ذلك علامة بدو صلاحه فيصح بيعه.
وأما العنب فبعضه ينقلب أسود وبعضه يبقى على كونه أخضر ولكن يبدو صلاحه ويطيب أكله، وأما بقية الثمار فإذا بدا صلاحه وابتدأ يطيب أكله جاز بيعه وقبل ذلك لا يجوز ونهى عن بيع الحب حتى يشتد؛ لأن البر أو الشعير؛ وذلك لأنه قبل أن يشتد عرضة للفساد أو للظمأ يعني: قد يقصر في سقيه بعدما يبيعه، ثم يضمر ويهلك أو يضمر ولا يصير فيه إلا اليسير فتحصل المشادة والمنازعات، أما قوله - صلى الله عليه وسلم - " لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " فهذه المسألة اسمها مسألة وضع الجوائح اختلف فيها وكثر الكلام فيها بين العلماء.(1/321)
صورتها: إذا اشتريت ثمر هذا النخل بعدما بدا صلاحه اشتريت عشر نخلات كل نخلة بها مثلا اثني عشر كيلو ؟ قد بدا صلاحها وسلمت له الثمن وتصرف في الثمن، ثم من القضاء والقدر جاء الجراد فأكله، أو جاء البرد فأسقطه، أو جاءت ريح فنسفته، أو جاءت صاعقة فأحرقته، أصابته آفة سماوية لا صنع لآدمي فيها ففي هذه الحال هل ترى تسترجع منه دراهمك ؟ وتقول: أعطني دراهمي أنا اشتريت النخل الثمر ولم يحصل لي ثمر، أو الدراهم له وأنت تتحمل ذلك، ظاهر الحديث أنه يذهب على البائع: " لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة لا يحل لك أن تأخذ منه شيئا -يعني: لا تأخذ من المشتري شيئا- بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " أنت يا صاحب البستان قد أقدمت أنك متعرض للأخطار، في بستانك مائة نخلة أصابتها هذه الجائحة كلها هذه العشر من جملتها تحمل؛ لأنك متحمل للأخطار، أما هو فقد بذل لك الدراهم على أن تحصل له هذه الثمرة ولم تحصل له.
فمقتضى هذا الحديث أنك ترد عليه دراهمه ذهب إلى ذلك الإمام أحمد ولأجل ذلك ابن سعدي اختارها على مذهب أحمد حيث أقر الحديث، أما الأئمة الثلاثة فقالوا: إن البيع صحيح وإنك قد بعته وسلمت له النخل وخليت بينه وبينه ليتصرف فيه فجاء القدر فأتلفه فهو يتحمل كما أنك تتحمل، المشتري هو الذي بذل الثمن وقد دخلت في ملكه حيث خليت بينه وبينه، وقد رووا في ذلك حديثا: أن رجلا أصيب في ثمار اشتراها فكثر دينه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يبلغ ما عنده، فقال: لأصحاب الدين خذوا ما وجدتم فليس لكم إلا ذلك " .(1/322)
في هذا الحديث رجل اشترى ثمارا فأصيب فيها يعني: ثمار اشتراها فأصيب فيها ولم يضع الجائحة بل أمر الناس بأن يتصدقوا عليه فدل على أنه يكون شريكا لصاحب النخل في هذه الثمار التي أصابته؛ لأن هذه مصيبة حصلت على البائع وحصلت على المشتري، كذلك في حديث آخر أن رجلا باع ثمرة على إنسان فأصابتها جائحة فطلبوا منه أن يتسامح عنه فحلف ألا يفعل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ... تألى ألا يفعل خيرا ... فقال يا رسول الله: له ما يريد ... " فالحاصل أنه لم يقل: ما لك شيء بل طلب منه أن يسقطه، فيقول هذا الحديث: " لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة... " محمول على بيعها قبل بدو الصلاح ؛ لأنه -عليه السلام - كان قد - كانوا يتبايعون قبل أن يبدو الصلاح، ثم بعد ذلك وبعدما نهاهم استقر الأمر على أنه إذا باعها قبل بدو الصلاح دخلت في ملك المشتري؛ لأن هذا هو الأقرب إذا خلى بينه وبينه.
نقرأ.
باب الخيار وغيره
إذا وقع العقد صار لازما إلا لسبب من الأسباب الشرعية؛ فمنها خيار المجلس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع " متفق عليه.
ومنها خيار الشرط: إذا شرطا الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة قال - صلى الله عليه وسلم - " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " رواه أهل السنن.(1/323)
ومنها: إذا غبن غبنا يخرج عن العادة؛ إما بنجش أو تلقي جلب أو غيرها، ومنها: خيار التدليس بأن يدلس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن كتصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام قال - صلى الله عليه وسلم - " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر " متفق عليه، وفي لفظ: " فهو بالخيار ثلاثة أيام " وإذا اشترى معيبا لم يعلم عيبه فله الخيار بين رده وإمساكه، فإن تعذر رده تعين أرشه، وإذا اختلفا في الثمن تحالفا ولكل منهما الفسخ، وقال - صلى الله عليه وسلم - " من أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته " رواه أبو داود وابن ماجه.
يصح السلم في كل ما ينضبط بالصفة إذا ضبطه بجميع صفاته التي يختلف بها الثمن وذكر أجله وأعطاه الثمن قبل التفرق عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " متفق عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم - " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " رواه البخاري.
الخيار: هو طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الفسخ، كل من البائع أو المشتري قد يحتاج إلى الخيار فيختار البيع أو يختار الفسخ وهكذا عرفوه، إذا وقع العقد لازما إذا وقع العقد صار لازما إلا لسبب من الأسباب. تعرفون أن العقود منها ما يصير عقدا لازما ومنها ما يصير عقدا جائزا، فاللازم لا يتمكن أحدهما من فسخه بعد لزومه إلا برضا الآخر من ذلك عقد البيع فإنه عقد لازم.(1/324)
فمثلا إذا اشتريت هذه الأرض بعدما رأيتها وبعدما علمت طولها وعرضها، اشتريتها ولم تسلم الثمن وتفرقتما ولم يحصل فيها بيع ولا عيوب لم يحصل عيب ولا نقص ولا خلل ولا غش إلى غير ذلك فبعد التفرق يسمى العقد لازما، فلو قلت مثلا: أنا لا أريدها ألزمك الشرع، ولو ما دفعت عربونا، ولو ما دفعت ثمنا ما دمت قد أقسمت عليها إلا أن هناك ما يحتاج إلى قبض أو حق توفية فلا يلزم إلا بحق التوفية.
مثلا إذا اشتريت هذه الصبرة من الطعام، اشتريتها كل صاع بخمسة، ثم لم تكلها ولم تزنها وإنما التزمت، التزمت أني أشتري كل صاع بخمسة متى يكون العقد لازما لا يكون لازما إلا بعد الكيل، فإذا كالها صاحبها أو وزنها وعرف قدرها ولم تسلم الثمن وتفرقا المتبايعان لزم البيع ووجب ولم يتمكن أحدهما من الفسخ.
فلو ندم البائع وقال: أنا آسف على سلعتي وعلى صبرتي لن يقدر على استرجاعها، ولو ندم المشتري وقال: أنا آسف على دراهمي ولا حاجة لي في هذه الصبرة ولا في هذا الطعام أنا مستغني عنه لم يقدر على استرجاع دراهمه ولا على رد السلعة ولو لم يسلم هذا معنى كون العقد لازما ذكر أنه يصير غير لازم بسبب من الأسباب الشرعية، ذكروا أن أقسام الخيار ثمانية: وبعضهم جعلها سبعة:
الأول: خيار المجلس
والثاني: خيار الشرط.
والثالث: خيار التدليس.
والرابع: خيار الغبن.
والخامس: خيار العيب.
والسادس: خيار الاختلاف، الاختلاف بين المتبايعين،
والسابع: خيار التخبير. إذا أخبره بثمن قد كذب فيه أو خدعه.
والثامن: خيار الخلف في الصفة.(1/325)
ذكر المؤلف بعدها خيار المجلس المراد به مكان البيع سواء إن كانا جالسين أو قائمين أو راكبين ما داما لم يتفرقا فإنهما في حكم خيار المجلس متى يلزم ؟ إذا تفرقا " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعا " قوله: " وكانا جميعا " أي: ما داما جميعا يرى أحدهما الآخر فإذا اختفى أحدهما خرج من الباب، أو مثلا دخل في غرفة أخرى أو صعد في سطح، أو ولى بحيث لا يسمعه إذا صوت له كلاما عاديا لزم البيع أصبح هذا تفرقا التفرق بالأبدان. هذا هو القول الصحيح.
وقد أنكر مالك وكذلك أبو حنيفة خيار المجلس وحملوا الحديث على التفرق بالأقوال وهو خلاف الظاهر؛ لأن الحديث كان فيه " وكانا جميعا " كذلك قوله: " أو يخير أحدهما صاحبه، أو يخير أحدهما الآخر " .
معناه أن يقول له: أبيعك بشرط ألا خيار. أجزم بالبيع أبيعك جزما من الآن لا خيار، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع يعني: لزم فأصبح يلزم بأحد أمرين ـ إسقاط الخيار أو التفرق، فإسقاط الخيار هو أن يقول: بعتك ولا خيار لي من الآن فقال: اشتريت ولا خيار لي من الآن وجب البيع، الخيار خيار المجلس: لكل من المتبايعين، لو اشتريت مثلا السيارة بأربعين ألفا، ثم ندمت أنت في المجلس فلك أن تردها، ولو قد دفعت الدراهم.
ولو اشتريت السيارة بأربعين ألفا وسلمت الدراهم، ثم ندم البائع فله أن يرد عليك دراهمك ويقول: أنا قد ندمت أريد سيارتي فالخيار لكل منهما هذا خيار الشرط لا خيار المجلس. الثاني: خيار الشرط أورد الحديث وهو قوله: - صلى الله عليه وسلم - " المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حالا " والحديث عام في الشروط في البيع والشروط في النكاح والشروط في سائر العقود.(1/326)
والمؤلف أسقط باب الشروط في البيع، غيره من المؤلفين يذكرون باب الشروط في البيع ويعرفون أن الشرط إلزام أحد المتعاقدين الآخر بسبب العقد ما له فيه منفعة، فإذًا من ذلك شرط الخيار، فيقول مثلا: بعتك السيارة بأربعين ولي الخيار خمسة أيام يقول: اشتريتها في هذه الخمسة الأيام ندم البائع وقال: خذ دراهمك ورد سيارتي، أنا محتاج إليها لا أستغني عنها أو اشترط المشتري: اشتريت السيارة ولي الخيار خمسة أيام أقلبها وأنظر فيها وأفتشها، أخذ السيارة بعد يومين أو ثلاثة أيام رأى أنها لا تناسبه ولا حاجة إليها ردها يلزم البائع قبولها هذا خيار سواء الشرط للبائع أو للمشتري.
لو قال مثلا البائع: لي الخيار خمسة أيام إذا ندمت أخذت سيارتي وقال المشتري: لي الخيار خمسة أيام إذا ندمت رددت عليك سيارتك وأخذت دراهمي لهما أو لأحدهما مدة معلومة لا بد من تحديدها، ولو شهرا أو نصف شهر أو أسبوعا مدة معلومة " المسلمون على شروطهم " .
يستثنى في ذلك إذا شرط شرطا حراما أحل حراما قد ثبت قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط " ومثل بحديث بقوله: " الولاء لمن أعتق " - لما أن قوم - لما أن عائشة أعتقت بريرة واشترط أهلها أن الولاء لها، فقال -عليه السلام-: " الولاء لمن أعتق " هذا شرط باطل الولاء لمن أعتق هم ما أعتقوا هم باعوها هذا شرط أحل حرام، وكذلك إذا حرم حلالا، إذا كان الشرط يحرم حلالا، كأن يشترط عليه ألا يركب السيارة مثلا أو ألا يطأ الجارية أو ما أشبه ذلك فإن هذا شرط حرم حلالا.(1/327)
الثالث: إذا غبن غبنا يخرج عن العادة: إما بنجش أو تلقي جلب أو غيرهما. قد تقدم أن الناجش هو الذي يزيد في السلعة ولا يريد شرائها، كما إذا عرضت السيارة للبيع وهنا واحد محتاج إليها يشتريها، ولو زاد ثمنها فجاء واحد يزايد قيمتها عشرين زود فيها حتى وصلت إلى ثلاثين معروف أنه ما يريدها ولكن يريد أن يضر هذا المشتري أو ينفع البائع اتضح بعد ذلك أنهم مغبون بعشرة آلاف بالثلث فله الخيار بزيادة الناجش.
وكذلك المغبون بتلقي الجلب: إذا مثلا تلقاه إنسان واشترى منه شاة بمائة ولما وصل إلى السوق وجدها تساوي مائة وعشرين فإن له الخيار.
الرابع خيار التدليس: التدليس هو إظهار السلعة في مظهر له ما يجلب إليه خيار التدليس، فمثلا إذا باع الثوب الخلق وقد غسله وأظهره أنه جديد واتضح أنه غسيل مرارا فهذا تدليس، وكذلك المثل بالمصراة.
المصراة: هي الشاة يترك حلبها يوما أو يومين، فإذا جلبها وإذا في ضرعها لبن كثير فيظن أن هذه عادتها فيزيد في الثمن وهذا تدليس، هذا اللبن ليس دائما إنما لأجل أنها متروك حلبها كتصرية اللبن في ضرع بهيمة الأنعام يقول - صلى الله عليه وسلم - " لا تصروا الإبل والغنم... -"لا تصروها" يعني: لا تتركوا حلبها- فمن ابتاعها بعد... -أي: وهى مصراة- فهو في بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر " قالوا: له الخيار ثلاثة أيام، فإذا مرت الثلاث فلا يجوز له الرد بعد إذا مرت الثلاث فإنه يردها، ويرد معها صاعا من تمر، هذا الصاع قيمة اللبن الموجود فيها حالة الشراء؛ لأن اللبن الذي في اليوم الثاني واليوم الثالث للمشتري؛ لأنها في ملكه في ذلك الوقت لو ماتت في الثلاثة أيام لذهبت على المشتري لقوله - صلى الله عليه وسلم - " الخراج بالضمان " الحاصل أن له الخيار ثلاثة أيام، فإن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر هذه المصراة ؛ لأن هذا تدليس.(1/328)
الخامس: خيار العيب إذا اشترى معيبا لم يعلم عيبه فله الخيار بين رده وإمساكه فإن تعذر رده تعين أرشه، صورة ذلك إذا ظهر أن في الشاة عيب كونها مثلا عوراء لم يفطن لها أو كونها مريضة لم يفطن لها، ظهر مثلا أن البيت فيه عيب فيه تصدع في الحيطان أو السقف لم يفطن له المشتري، هذا العيب له أن يرده المشتري فيقول: اقبل سلعتك وجدنا فيها عيبا وجدنا في الكيس مثلا ترابا أو وجدنا فيه شعيرا أو ما أشبه ذلك اقبل سلعتك ورد علي دراهمي، فإذا قدر مثلا أن الرد متعذر أن الشاة ماتت بسب المرض عند المشتري وذبحها أو أكلها فماذا يفعل ؟ له أن يطالب البائع بأرش العيب ـ أرش العيب ـ يقول: الشاة معيبة، أنا اشتريتها بمائة وتبين أن فيها عيب لا تساوي إلا خمسين أعطني الأرش ما هو الأرش؟ قسط ما بين قيمة الصحة والعيب قيمتها صحيحة المائة وقيمتها معيبة خمسين. الأرش خمسون يردها البائع على المشتري بعد أن فاتته - بعد أن ماتت-.
وكذلك الكيس، مثلا الكيس الذي اشتراه وجده مخلوطا بشعير لم يتفطن له فأكله فله أن يطالب بالأرش، قيمته لو كان برا خالصا خمسون، وقيمته مخلوطا بهذا الشعير الذي في وسطه أربعون، الأرش عشرة. السادس: خيار اختلاف المتبايعين، إذا اختلفا في الثمن تحالفا ولكل منهما الفسخ، فإذا قال المشتري: اشتريت البيت بخمسمائة ألف فقال البائع: بل بعتك بستمائة ولم يكن عندهما بينة، في هذه الحالة يتحالفان فيبدأ بيمين البائع فيقول: والله ما بعته بخمسمائة وإنما بعته بستمائة، ثم يحلف المشتري والله ما اشتريته بستمائة وإنما اشتريته بخمسمائة ففي هذه الحال يتراجعان: خذ بيتك ورد علي دراهمي هذه صورة الاختلاف.(1/329)
الإقالة: يقول - صلى الله عليه وسلم - " من أقال مسلما بيعته أقال الله عثرته " وفي رواية: " من أقال نادما بيعته ... " إذا إنسان مثلا اشترى منك كتابا بخمسين، ثم بعدما اشتراه وذهب إلى بيته وجد الكتاب عنده وأنه ليس له حاجة به وأنه بحاجة إلى الخمسين جاء إليك وقال: اقبل كتابك أنا ندمت، أقلني بيعتي، إذا أقلته فإنك على أجر من أقال ؛ لأنه نادم " من أقال نادما بيعته أقال الله عثرته " لك أن تقول: البيع صحيح قد بعتك كما بعت غيرك استلمت الثمن قد صرفت الثمن فليس عندي ولا أرد عليك ثمنك ولا أقبل كتابك، الكتاب لك إن أردت أن تبيعه، إن أردت أن تقتنيه، يدخل هذا في جميع السلع، إذا ندم البائع أو ندم المشتري. ندم البائع مثلا: إذا باع سيارته بأربعين ألفا، ثم استلم الثمن، ثم بعد فكر وإذا هو لا يستغني عن هذه السيارة ولا يجد مثلها فجاء إليك وقال: أنا ندمت رد علي سيارتي وخد دراهمك البيع قد لزم ولا أقدر أن ألزمك ولكني نادم لك أن تفعل فيه خيرا وتقيله بعده باب السلم.
يقول: "يصح السلم في كل ما ينضبط بالصفة" إذا تم ضبطه بجميع صفاته التي يختلف بها الثمن وذكر أجله وأعطاه الثمن قبل التفرق. اختصر كثيرا المؤلف في باب السلم فنذكر تعريفه، ونذكر بعض أمثلته ونذكر الحاجة إليه من غير إطالة؛ لأن الإطالة قد تفوت علينا وقتا فنقول: السلم عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، هذا التعريف كأنه يتضمن شروطا، فتعريفه أيضا أنه بيع شيء غائب مؤجل بثمن حاضر يقع هذا أو يحتاجه مثلا: أهل البساتين وكذلك أيضا بعض التجار يحتاجون إلى السلم.(1/330)
فصورته في البساتين أو في الزروع، إنسان يريد أن يزرع هذه الأرض ولكنه بحاجة إلى دراهم، فيأتي إليك وعندك دراهم فيقول: أبيعك في ذمتي خمسمائة صاع من البر الذي صفته كذا وكذا كل صاع بريالين مقدما، تعطيني الدراهم الآن ألفا وأعطيك البر بعد الحصاد بعد نصف سنة أو بعد خمسة أشهر هذا هو السلم، يعرفونه بأنه ما عجل ثمنه وأجل مثمنه، الثمن معجل والمثمن غائب فيه منفعة للطرفين.
المشتري حصل له بيع رخيص، اشترى الصاع بريالين مع أنه الآن يساوي ثلاثة أو أربعة والبائع، حصلت له هذه الدراهم ينتفع بها يقول: هذه الدراهم خمسمائة أنتفع بها الآن أشتري بها بذور أعطي منها العمال أشتري منها أدوات، أدوات الحصاد وما أشبه ذلك، وإذا حصدت زرعي أعطيته خمسمائة ولي الباقي وأنا رابح فكل منهما رابح، ومثلها أيضا صاحب النخل، النخل يحتاج مثلا إلى سقي، يحتاج إلى سفر ويحتاج إلى تلقيح ويحتاج إلى تركيب ويحتاج إلى حرث، وصاحبه ما عنده دراهم ليشتري الماكينة وليشتري حراثة وليشتري.. ..، فيأتي إليك وعندك دراهم فيقول: أبيعك مثلا خمسة آلاف كيلو من التمر الجاف الذي لونه كذا كل كيلو بريال، تسلم لي الدراهم الآن عشرين ألفا وأسلم لك التمر بعد نصف سنة يجوز؛ وذلك ؛ لأنه ينتفع بتلك الدراهم وأنت إذا جاءك التمر تبيع الكيلو مثلا بثلاثة أو بأربعة أو بريالين تربح ؛ لأنه جاءك رخيص هذا هو السلم يصح في كل ما ينضبط بالصفة كل شيء ينضبط بالصفة الأول أن الشيء الذي تدخله الصناعة لا ينضبط بالصفة؛ فلأجل ذلك قالوا: لا يصح السلم في الأواني ؛ لأنها تدخلها الصناعة الأواني كلها.
ولكن في نظري الآن أنها يصح فيها السلم؛ لأنها الآن تنضبط بالصفة ؛ لأنها الآن تصنع بالماكينة ما تصنع بالأيدي. قديما يصنعون القدر والصحن والقدح والأواني الصغيرة يصنعونها بأيديهم، وتختلف هذه ثقيلة وهذه خفيفة، وهذه حديدها صافي وهذه غير صافي فيقع اختلاف.(1/331)
فأما الآن فما دام أنها تصنع بالماكينة فيصح السلم فيها حتى السيارات، يصح كل المصنوعات أصغرها مثلا الإبر والملاعق والسكاكين الآن يبيعونها بالسلم، فيتفق التاجر مثلا مع الشركة المنتجة على أنني أشتري منكم ألفا أو مائة ألف من نوع هذه السكين ثمنها مقدم وتدفع وترسلها لي مثلا بعد خمسة أشهر أو بعد ثلاثة أشهر، يشتريها منه رخيصا ويقدم الثمن له، هذا سلم مضبوط السكين الذي نوعها كذا وكذا، وأكبرها مثلا السيارات أو الطائرات أو المكينات، أشتري منكم مثلا مائة سيارة أو ألف سيارة من نوع كذا وكذا قيمتها الآن، السيارة بأربعين، ولكنك تشتريها سيارة بثلاثين وتقدم ثمنها وتأتيك في الوقت المحدد، ثمنها أخذوه لينتفعوا به وليشتروا به وليدفعوه في حوائجهم وأنت جاءتك بعد خمسة أشهر رخيصة تربح في كل سيارة عشرة آلاف هذا بيع السلم.(1/332)
يقول: "إذا ضبطه بجميع صفاته" إذا ضبط نوع السيارة كذا ولونها كذا وحديدها كذا وأدواتها كذا وموديلها كذا؛ لأن الثمن يختلف باختلاف الصفات فلا بد من ذكر الأجل بعد خمسة أشهر بعد ثمانية أشهر ولا بد من دفع الثمن مقدما قبل التفرق، تسليم الثمن بمجلس العقد هذا هو السلم، يقول ابن عباس - رضي الله عنه - قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " ؛ وذلك لأن أغلب ما كانوا يسلفون فيه المكيل والموزون فيسلفون في القطن مثلا وهو موزون ويسلفون في الصوف وهو موزون، فيشتري مثلا صاحب الغنم يشتري منه مائة أو مائتي رطل من الصوف من الصوف، ما عنده الآن صوف، ولكن ينبت الصوف بعد خمسة أشهر بعد ستة أشهر يأخذ الصوف من الغنم، ويأتي به بعد خمسة أشهر فلا بد أن يكون صوف أغنام ضأن لونه كذا ونوعه كذا أو شعر المعز هذا وزنه معلوم، يباع وزنا أو قطنا من الشجر مثلا عشرين رطلا من القطن أو ما أشبهه، كذلك أيضا الكيل كيل معلوم. التمر كان يكال، ذكرت لكم في الربا أن المكيل هو الذي يكال يعتبر في المدينة أنه يكيلونه التمور يبيعونها بالكيل والزبيب بالكيل وما أشبهه.
فإذا قال: إذا اشتريت منك مثلا مائة صاع من زبيب تؤديها لي بعد خمسة أشهر، الصاع ثمنه ريال لو كان موجودا الآن لكان ثمنه خمسة أو ثلاثة ولكن هو حاجة إلى الدراهم وأنت بحاجة إلى الربح ولست بحاجة إلى هذه الدراهم، فتشتري منه هذا الزبيب مثلا في ذمته إذا حل فإنه يوفيه لك سواء عنده شجر عنب أو ليس عنده، وهكذا التمور ونحوها يسلفون في الثمار.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته , , , باب السلم(1/333)
بعده باب السَّلَم، يقول: يصح السَّلَم في كل ما ينضبط بالصفة إذا ضبطه بجميع صفاته التي يختلف بها الثمن، وذكر أجله، وأعطاه الثمن قبل التفرق، فيتفق التاجر مثلا مع الشركة المنتجة على أنني أشتري منكم ألفا، أو مائة ألف من نوع هذه السكين ثمنها مقدم، وترسلونها لي مثلا بعد خمسة أشهر، أو بعد ثلاثة أشهر، يشتريها منهم رخيص، ويقدم الثمن لهم، هذا سلم.
مضبوطة: السكين الذي نوعها كذا و كذا، وأكبرها مثلا السيارات، أو الطائرات، أو الماكينات، أشتري منكم مثلا مائة سيارة، أو ألف سيارة من نوع كذا وكذا، قيمتها الآن السيارة بأربعين، ولكنك تشتريها السيارة بثلاثين، وتقدم ثمنها، وتأتيك في الوقت المحدد، ثمنها أخذوه لينتفعوا به، وليشتروا به، ويدفعوه في حوائجهم، وأنت جاءتك بعد خمسة أشهر رخيصة، تربح في كل سيارة عشرة آلاف، هذا بيع السَّلَم.
يقول: إذا ضبطه بجميع صفاته. فضبط نوع السيارة كذا، ولونها كذا، وحديدها كذا، أدواتها كذا، وموديلها كذا؛ لأن الثمن يختلف باختلاف الصفات، فلا بد من ذكر الأجل بعد خمسة أشهر، بعد ثلاثة أشهر، ولا بد من دفع الثمن مقدما قبل التفرق، تسليم الثمن بمجلس العقد هذا هو السَّلَم.
يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: قَدِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: " مَن أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم " وذلك لأن أغلب ما كانوا يسلفون فيه المكيل والموزون، فيسلفون في القطن مثلا وهو موزون، ويسلفون في الصوف وهو موزون، فيشتري مثلا من صاحب الغنم، يشتري منه مائتي رطل من الصوف، ما عنده الآن صوف، ولكن ينبت الصوف بعد خمسة أشهر، بعد ستة أشهر، يأخذ الصوف من الغنم، ويأتي به بعد خمسة أشهر، فلا بد أن يقول: صوف أغنام ضأن لونه كذا، ونوعه كذا، أو شعر؛ شعر الماعز، فهذا وزنه معلوم، يباع وزنا، أو قطن من الشجر مثلا عشرين رطلا من القطن، أو ما أشبهه.(1/334)
كذلك أيضا الكيل، كيل معلوم، التمر كان يكال, ذكرت لكم في الربا أن المكيل هو الذي يكال، يعتبر في المدينة أنهم يكيلونه، فالتمور يبيعونها بالكيل، والزبيب بالكيل، وما أشبهه، فإذا قال: اشتريت منك مثلا مائة صاع من زبيب تؤديها لي بعد خمسة أشهر، الصاع ثمنه ريال، لو كان موجودا الآن لكان ثمنه خمسة، أو ثلاثة، ولكن هو بحاجة إلى الدراهم وأنت بحاجة إلى الربح، ولست بحاجة إلى هذه الدراهم فتشتري منه هذا الزبيب مثلا في ذمته، إذا حلَّ فإنه يوفِّيك، سواء كان عنده شجر عنب، أو ليس عنده، وهكذا التمور ونحوها.
يسلفون في الثمار، الثمار: هي ثمر النخل، وثمر زبيب العنب مثلا وثمر التين؛ لأنه أيضا يُدَّخَر، وأشباه ذلك من الثمار، وكذلك أيضا الثمار التي لا تُدَّخَر كالتين والخوخ والمشمش مثلا لا تدخر؛ ولكن أنها ثمار تشترى، بعضهم يقدم سنة، وبعضهم سنتين، يقول: اشتريت منك تؤديني بعد سنتين, تؤديني التمر بعد سنتين، وتشتريه بربع الثمن، وبعضهم سنة, فالحاصل أنه -عليه السلام- حدد لهم " من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم " مائة صاع مائتين " أو وزن معلوم " كأن يباع في ذلك الوقت بالرطل فيقول: مائة رطل، أو مائتي رطل، إلى أجل معلوم خمسة أشهر، ستة أشهر، سنة، سنتين، لا بد من تحديد ذلك.
كذلك أيضا ذكر هذا الحديث " من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله " هذا فيه تحذير من التهاون في الديون؛ سواء كان دَيْن السلم أو غيره، فصاحب السلم إذا أخذ منك مثلا مائة ألف على أنه يعطيك بعد سنة خمس سيارات من نوع كذا وكذا، ما قصد إلا أن يأخذ دراهمك، ويأكلها، وينتفع بها، وإذا جاء الأجل، تمَّت السنة قال: ما عندي, ما عندي سيارة، ولا أقدر، فافعل ما تريد.
هذا أخذها ليتلفها، أخذ أموال الناس يريد إتلافها، فإن الله تعالى سيسلط عليه الفقر والفاقة؛ حيث إنه كذب، ولم تكن نيته إلا أكل أموال الناس بالباطل.(1/335)
باب الرهن والضمان والكفالة
قال -رحمه الله-: باب الرهن، والضمان، والكفالة، وهذه وثائق بالحقوق الثابتة، فالرهن يصح بكل عين يصح بيعها، فتبقى أمانة عند المرتهن، لا يضمنها إلا إن تعدى، أو فرط، كسائر الأمانات، فإن حصل الوفاء التام انفك الرهن، وإن لم يحصل وطلب صاحب الحق بيع الرهن وجب بيعه والوفاء من ثمنه، وما بقي من الثمن بعد وفاء الحق فلربه، وإن بقي من الدَّين شيء يبقى دَيْنا مرسلا بلا رهن؛ وإن أتلف الرهن أحد فعليه ضمانه، ويكون رهنا، ونماؤه تبع له ومؤنته على ربه وليس للراهن الانتفاع به إلا بإذن الآخَر، أو بإذن الشارع، في قوله - صلى الله عليه وسلم - " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة " رواه البخاري. والضمان: أن يضمن الحق عن الذي عليه، والكفالة: أن يلتزم بإحضار بدن الخصم، قال - صلى الله عليه وسلم - " الزعيم غارم " فكل منهما ضامن إلا إن قام بما التزم به، أو أبرأه صاحب الحق، أو برئ الأصيل، والله أعلم.
الدين يحتاج إلى توثقة يحتاج إلى أن يتوثق صاحبه من الدين، ومن وصول الحق إليه فمن الوثائق الكتابة قال تعالى: { ((((( ((((((((((( (((((((( (((((( (((((( ((((((( ((((((((((((( } فالكتابة تصير وثيقة عند صاحب الدَّين عند مالكه.
ومن الوثائق الإشهاد قال تعالى: { ((((((((((((((((( ((((((((((( ((( (((((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((((((( (((((((( ((((((((((((((( } فالشهود يكونون أيضا وثيقة، عندما يشتري منك بدين، وتخشى أن ينكر، أو يجحد، تُشْهِد عليه شاهدين، أو شاهدا وامرأتين على أنه اشترى مني كذا وكذا بدين، حتى يكون هذا وثيقة لا يضيع حقك.(1/336)
فإذا لم تكتب، ولم تُشْهِد، فإنك تتوثق بالرَّهْن، قال تعالى: { ( ((((( ((((((( (((((( (((((( (((((( ((((((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((( } الرهن تعريفه: توثقة عين بدين يمكن استيفاؤه منها، أو من ثمنها. يعني أنه يكون وثيقة، فمثلا إذا كان الدَّين دراهم خمسمائة مثلا فقلت: أعطني رهنا، فأعطاك سيفا، هذا السيف وثيقة تمسكه، فإذا حلَّ الدَّين أعطني ديني، فقد حل، فإذا قال: ما عندي، فإنك تبيع الرهن، أو تعطيه الحاكم يبيعه، ويعطيك دراهمك، وباقي ثمن السيف لصاحبه، فإن بيع السيف مثلا بأربعمائة، والدَّين خمسمائة فإن المائة الباقية تبقى في ذمة المدين ليس فيها وثيقة, تبقى في ذمته ليس فيها رهن، فالحاصل أن الرهن وثيقة يتوثق بها المالك حتى لا يضيع عليه ماله، وحتى لا يمطل به هذا المستدين، والمطل: هو التأخير, فالحاصل أن الرهن وثيقة.
الضمان: قد لا يجد رهنا فتقول: أعطني مَن يضمن لي ديني. فيأتيك بزيد، فيقول زيد: أنا ضمين لك إذا حلَّ الدَّين ولم يعطك فإني أضمنه وأعطيك. فهذا أيضا يعتبر وثيقة؛ لأن الضمين، ويسمى الزعيم، يغرم كما في الحديث: " الزعيم غارم " كما سيأتي.
فإذا لم تجد مَنْ يضمن لك حقك قلت: أعطني الكفيل. الكفيل ما مهمته؟ الكفيل يحضر لك المدين في وقتِ حلول الدَّين يقول: أنا لا أضمنه، ولكن علَيَّ إحضاره، فإن لم أحضره فعلَيَّ الدَّين، وإذا أحضرته وسلمته برئت. هذا الفرق بينهم، فالرهن عين مالية. والضمين رجل يتحمل لك دينك إن أعطاك المدين وإلا أعطاك هو. والكفيل يتضمن لك إحضار صاحب الدين ويسلمه لك وتبرأ ذمته.
يقول: الرهن يصح بكل عين يصح بيعها. فيخرج ما لا يصح بيعه، فإنه لا يكون وثيقة. مثلا في باب العتق، أم الولد لا يصح بيعها إذا كان له أمة وقد وطئها، فولدت منه، فأصبحت أم ولد، يستخدمها، ولكنه لا يقدر على بيعها، فلا تصح رهنا؛ لأن الرهن لا بد أن يباع عند تأخر الدين، وأم الولد لا يصح بيعها.(1/337)
وكذلك إذا كان لا يصح بيعها لكونها محرمة، يعني كالخمر مثلا والأصنام التي لا يصح بيعها، أما إذا كان يصح بيعها؛ فإنها يصح رهنها، تبقى أمانة عند المرتهن لقوله تعالى: " فرهان مقبوضة " يقول: خذ هذا السيف رهنا تمسكه أنت يا صاحب الدين ، يكون أمانة عندك، فلو سُرِق لم تضمنه إذا لم تفرط . أو مثلا رهنك أكياسا من بُرٍّ، عنده لك مثلا خمسمائة من الريالات أعطاك خمسة أكياس من البر رهينة, خمسة أكياس هذه قُدِّر مثلا أنها احترقت أو سُرِقَت لا تضمنها؛ لأنها أمانة عندك وأنت ما فرطت فيها، احترقت من جنس ما احترق، فهي أمانة عند المرتهن لا يضمنها إلا إن تعدى أو فرط.
ما الفرق بين التعدي والتفريط ؟ التعدي الاستعمال، والتفريط الإهمال، فمثلا ترك الباب مفتوحا، وجاءت الدواب، وأكلت الأكياس، وأكلت البُرَّ، يضمن؛ لأنه فرط، فكان عليه أن يحفظها.
أمَّا لو مثلا أن الرهن ثوب ثم إنه لبسه، ولما لبسه مثلا اخلولق، أو تخرق، يضمنه، أو مثلا الرهن بعير, أو سيارة، ثم إنه شغَّلها، وحَمَل عليها، فتعطلت، أو انقلبت، أو احترقت، أو مات البعير بسبب حمله عليه، أليس هذا تعديا يضمن؟ أما إذا حفظها في مثل حرزها ولم يتعدَّ، ولم يفرط، وتلفت فإنه لا يضمن كسائر الأمانات، الودائع ما تضمن إلا بالتعدي أو التفريط.
الحاصل أن الرهن يبقي وثيقة عند المرتهن، فإن حصل الوفاء التام، إن حل الدين المؤجل لمدة سنة، وحل الدين،وجاءك، وأوفاك أعطه سيفه أو أعطه كيسه, حصل الوفاء التام انفك الرهن، فإن حل الدين، ولم يحصل الوفاء، لك أن تقول: أعطني الدين فقد حل أجله. ما عندي، أو تمادى، أو مطل، فإذا طلب المرتهن بيع الرهن وجب بيعه؛ لأنه ما حفظه إلا لأجل أن يحصل له دينه عند حلول أجله، فيقول: إن أعطيتني، وإلا بعته.(1/338)
والأصل أنه يعرضه على الحاكم أو القاضي ويبيعه الحاكم ويوفي الدين، فإذا باعه، وأوفى الدين من ثمنه، السيف مثلا باعه بألف، والدين بخمسمائة، الخمسمائة الباقية لصاحب السيف؛ لأنه ماله، وفي الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يَغْلَق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه " غنمه يعني فائدته بقية ثمنه، وغرمه يعني نفقته، أو خسارته، فإن بقي بعد من الثمن شيء فلربه وصاحبه، وإن بقي من الدين شيء إذا باعه مثلا بأربعمائة وبقيت مائة المائة، تبقى في ذمة المدين بلا رهن، تبقى دينا مرسلا بلا رهن , وإن أتلف الرهن أحد فعليه ضمانه يكون رهنا، إذا جاء إنسان واصطدم بالشاة المرهونة وماتت، هذا الصادم يغرم ثمنها، يأتي بشاة بدلها، أو يأتي بثمنها، ويكون ثمنها رهنا بدلها عند المرتهن.
نماء الرهن تبع له إذا قدر مثلا أن الشاة ولدت ولدها يصير معها رهنا معها، أو قدر مثلا أن البيت المرهون أجر إيجاره يصير رهنا معه إيجاره لمالكه، وكذلك مثلا إذا كان الرهن عبدا، ثم إن العبد اكتسب, اشتغل واكتسب واحترف وحصل على كسب كسبه يصير رهنا معه، نماؤه تبع له، مؤونته على الراهن لا على المرتهن.
فإذا كان الرهن أكياسا، واحتاجت إلى مستودع، وصاحب المستودع يريد إيجارا، إيجارها على الراهن؛ لأنه مالكها، أو الرهن مثلا غنم، واحتاجت إلى راعٍ، أجرة الراعي على مَن؟ على الراهن؛ لأنه مالك الغنم، فأولادها مثلا له، وأجرتها عليه، إذا احتاجت مثلا إلى علف فإنه يحسب على الراهن، وليس للراهن الانتفاع به إلا بإذن المرتهن، لو قال الراهن: أعطني السيارة أحمل عليها. وهي مرهونة، قال المرتهن: خذها، في هذه الحال ينفك الرهن، فإذا ردَّها عادت إلى كونها رهنا, فإذا لم يعطك فلا تستعملها، ولا تركبها، ولا تحمل عليها.(1/339)
هذا الحديث قد صححه الجماعة؛ لأنه من صحيح البخاري، قوله - صلى الله عليه وسلم - " الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يُشْرَب بنفقته إذا كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة " قد اختلف في العمل بهذا الحديث، فعمل به الإمام أحمد وقال: إن الراهن قد ترك هذه الشاة عند المرتهن، هذه الشاة فيها لبن، وهي بحاجة إلى علف، المرتهن يعلفها، هل يترك اللبن؟ يحلبها، يكون لبنها مقابل علفها، عليه العلف والنفقة وله اللبن، وكذلك إذا كان الرهن بعيرا يحتاج إلى علف، قال المرتهن: أنا سوف أعلفه وأحمل عليه وأركبه عند الحاجة. يجوز على مقتضى هذا الحديث.
أما الأئمة الثلاثة فقالوا: لا، بل إذا أنفقت عليه فاحسب نفقتك، واجعلها دينا، وإذا ركبته فادفع إيجارا على ركوبك، وإذا أنفقت على الشاة فاحسب نفقتك عليها، واجعلها دينا في ذمتك، وإذا حلبتها فهذا الحلاب لك أن تسقطه من دينك، تثمنه وتسقطه من دينك، ولا يكون لك، واستدلوا بالحديث الذي ذكرنا، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه " ومعنى يغلق يعني لا يذهب عن الراهن؛ لأنه ملك الراهن فله غنمه وفائدته وثمرته ونتيجته، وعليه غرمه إذا فات.
فكما أن الرهن إذا كان نخلة فثمرتها رهن معها للراهن، وسقيها على الراهن هو الذي يسقيها والمرتهن يجعلها وثيقة إن حصلت له دينه وإلا باع النخلة، أو باع النخل، سقيه على مالكه وهو الراهن، وثمرته، كذلك أيضا للراهن والمرتهن جعله وثيقة، فقالوا: كذلك الشاة، وكذلك البعير، لا ينتفع به المرتهن، فإن انتفع به فإنه يحسب أجرته.
والحاصل أن المسألة خلافية؛ لكن تفرض فيما إذا قدر أن هذه الشاة يبيع لبنها، وهي بحاجة إلى نفقة، ونفقتها مقاربة لقيمة اللبن، وراهنها بعيد، لا يمكن أن يأتي كل يوم ويقول: أعطني علفا للشاة . فيقول: أعلفها وأحلبها. انتهى من الرهن.(1/340)
الضمان: يقول: أنْ يضمن الحق عن الذي عليه، أن يقول: دينك عليَّ إن أعطاك صاحبك، وإلا أنا أعطيك. فإذا حل الدين والمدين معسر، أو المدين غائب فصاحب الدين يطالب الضامن، يقول: أعطني وإلا حبستك، وإلا شكوتك؛ لأنك ضمنت حقي. فالضامن متعرض للشكاية، ومتعرض للغرامة؛ لأنه ملتزم بأن يغرم لصاحب الدين إذا لم يوفه المدين، وللضمان أيضا شروط معروفة . الضامن في الحقيقة أنه ملتزم، ولهذا يقول بعضهم:
ضاد الضمان بصاد الصك ملتصق
فإن ضمنت فحاء الحبس في الوسط
لأنك متعرض للحبس إذا لم تعطِ.
الكفالة: أن يلتزم بإحضار بدن الخصم المدين، إذا قال: أنا أدينك مائة، أو ألفا، ولكني أخشى أنك تذهب، وتتغيب إذا حل الدين، فيقول: أنا أعطيك كفيلا، هذا الكفيل أيش مهمته؟ مهمته يحضر الغريم إذا حل الدين، يأتي به ويسلمه للدائن، ويقول: يا دائن هذا غريمك أنا برئت منه. إذا سلمه لك، وأحضره لك فإنه قد برئ منه، فقوله - صلى الله عليه وسلم - " الزعيم غارم " يدخل في الزعيم الضمين والكفيل؛ لأن الكفيل إذا ما أحضره غرم، فإذا أحضره برئ، وأما الضمين فلا يبرأ إلا بتسليم الثمن، إن سلمه المدين برئ الضامن، وإلا يسلمه الضامن، والدائن صاحب الدين يطالب أيهما يطالب الضامن؛ لأنه ملتزم بحقه ويطالب الغريم؛ لأن الدين في ذمته، فكل منهما ضامن؛ الكفيل والضمين، إلا إن قام بما التزم به، أو أبرأه صاحب الحق، أو برئ الأصيل إذا قام بما التزم به، يعني أوفى الدين، سواء أوفاه الضامن، أو أوفاه الغريم، برئ كل منهما، أو أبرأه صاحب الحق، قال: أسقطت الحق عن الغريم يبرأ الضامن. أو قال: أبرأتك يا ضامن، رضيت بالغريم. برئ الضامن، أو برئ الأصيل، الأصيل الذي هو الغريم برئ، فيبرأ كلٌّ منهما.
نقرأ !
باب الحجر لفلس أو غيره(1/341)
ومن له الحق فعليه أن ينظر المعسر، وينبغي له أن ييسر على الموسر، ومن عليه الحق فعليه الوفاء كاملا بالقدر والصفات، قال - صلى الله عليه وسلم - " مطل الغني ظلم، وإذا أحيل بدينه على مليء فليحتل " متفق عليه. وهذا من المياسرة، فالمليء هو القادر على الوفاء الذي ليس مماطلا، ويمكن تحضيره لمجلس الحكم، وإذا كانت الديون أكثر من مال الإنسان، وطلب الغرماء أو بعضهم من الحاكم أن يحجر عليه، حجر عليه، ومنعه من التصرف في جميع ماله، ثم يصفي ماله، ويقسمه على الغرماء بقدر ديونهم، ولا يقدم منهم إلا صاحب الرهن برهنه، وقال - صلى الله عليه وسلم - " مَن أدرك ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره " متفق عليه.
ويجب على ولي الصغير، والسفيه، والمجنون أن يمنعهم من التصرف في مالهم الذي يضرهم، قال تعالى: { (((( ((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( ((((((( (((((( (((( (((((( (((((((( } وعليه ألا يقرب مالهم إلا بالتي هي أحسن من حفظه، والتصرف النافع لهم، والصرف عليهم منه ما يحتاجون إليه، ووليهم أبوهم الرشيد، فإن لم يكن جعل الحاكم الولاية لأشفق من يكون من أقاربه، وأعرفهم، وآمنهم { ((((( ((((( ((((((( (((((((((((((((( ((((( ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((((((( } وهو الأقل من أجرة مثله، أو كفايته. والله أعلم.
باب الصلح: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلَّ حراما، أو حرَّم حلالا " رواه أبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح، وصححه الحاكم. فإذا صالحه عن عين بعين أخرى، أو بدين جاز، وإن كان له عليه دين فصالحه عنه بعين، أو بدين قبضه قبل التفرق جاز، أو صالحه على منفعة في عقاره أو غيره معلومة، أو صالحه عن الدين المؤجل ببعضه حالًّا، أو كان له عليه دين لا يعلمان مقداره فصالحه على شيء صح ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم - " لا يمنعن جارٌ جاره أن يغرز خشبه على جداره " رواه البخاري.(1/342)
الحجر: منع الإنسان من التصرف في ماله؛ فإن كان لمصلحته فهو حجر السفه، وإن كان لمصلحة غيره فهو حجر الفلس، الفلس: هو الفقر, المفلس: هو الفقير الذي ليس عنده مال، كأنه لا يملك إلا الفلوس التي هي الهلل، وما أشبهه يعني لقلة قيمتها، يقول: مَن له الحق فعليه أن ينظر المعسر، إذا كان لك دين وصاحبه معسر؛ فإن عليك الإنظار قال تعالى: { ((((( ((((( ((( (((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( } يعني أنظره، وأخره، وأمهله إلى أن يرزقه الله { (((((((((( (((( (((((( (((((( ((((((( ((( } ولا تشدد عليه إذا كان تعرف أنه معسر، أما إذا كنت شاكّا فيه، تظن أن عنده مالا، فإن لك المطالبة بحبسه، أو بالحجر عليه، أو نحو ذلك.
ينبغي له أن ييسر على الموسر, ييسر على الموسر يعني أن لا يشدد عليه، ولو كان موسرا يطلب منه، ينبغي للموسر أيضا ألا يماطل أن يعطي الحق كاملا، من عليه الحق عليه الوفاء كاملا بالقدر والصفات، فإذا كان عليك دين وأنت قادر فعليك أن توفيه في حينه، بصفته، ولا تماطل، ولا تؤخر، فإن ذلك ظلم.
قال - صلى الله عليه وسلم - " مطل الغني ظلم " المطل: هو التطويل تطويل الشيء، فكأن الغريم الذي يماطل يمدد الأجل بدل ما يحل الدين بعد شهر تدفعه شهرا ثانٍ، وثالث، ورابع، وخامس، هذا مطل " مطل الغني ظلم " وخص الغني؛ لأن الفقير معذور ما عنده شيء " مطل الغني ظلم، وإذا أحيل بدينه على مليء فليحتل " .(1/343)
المؤلف ما ذكر باب الحوالة، وهي: نقل الدين من ذمة إلى ذمة. فإذا كان لك دين عند زيد، وزيد له دين عند عمرو، وجئت وقلت: يا زيد، أعطني ديني، فقال: أحلتك على عمرو , متى تقبل الإحالة؟ إذا كان عمرو مليئا، إذا كان مليئا يعني غنيا قادرا على الوفاء، فإنك تحتال، وتذهب إلى عمرو وتقول: أحالني عليك زيد فأعطني دينه الذي في ذمتك له " من أحيل على مليء بدينه فليحتل " يقول: وهذا من المياسرة. يعني من التسيير عليه لا تكلفه أنه يذهب ما دام أن عَمْرا مليء، وأنك ستقبض دينك منه، فلا تكلفه من المياسرة.
متى يكون مليئا ؟ المليء: هو القادر على الوفاء الذي ليس مماطلا، قادر على الوفاء بماله، وليس مماطلا، ويمكن أن تحضره لمجلس الحكم، وصفه بثلاث صفات: أولها: القدرة المالية ، وثانيها: عدم المماطلة، قد يوجد إنسان غني، ولكن ما يهمه يماطل ويؤخر، ولو كان غنيّا، ومطل الغني ظلم، وثالثها: القدرة على إحضاره إلى القاضي، أما كان مثلا وزيرا، أو شريفا، كبيرا ذا شهرة، أو أميرا، لا يمكن أنك تقدر على إحضاره للقاضي، أو لا يحضر معك لمنزلته، فلك أن تقول: لا أقبل الحوالة عليه، لا أقبل؛ لأنه مماطل، وإذا كان مماطلا؛ فكيف تحليني على من لا يعطني حقي؟! أو إذا اشتكيته ما يحضر معي عند القاضي.
بدأ بالحجر، قال: وإذا كانت الديون أكثر من مال الإنسان، وطلب الغرماء أو بعضهم من الحاكم أن يحجر عليه, حجر عليه ومنعه من التصرف في جميع ماله، ثم يصفي ماله، ويقسمه على الغرماء بقدر ديونهم، لا يخلو؛ إما أن يكون ماله الذي يستغني عنه بقدر ديونه، أو أكثر من ديونه، ففي هذه الحال يلزمه الحاكم أن يوفي ديونه.(1/344)
عليك ديون عندك مال بقدرها، أوفِ الدين، ولا تماطل، مالك أكثر من دينك، أو مالك بقدر دينك، عليك أن توفي الدين، وإلا سجناك. فإذا كان ليس له مال أصلا، فهذا لا يحجر عليه، ولا يلزم؛ لأنه ليس عنده مال أصلا، ما عنده إلا مسكنه الذي يسكن فيه، أو قوته الذي يتقوت به مثلا ما عنده فضل، فليس لأحد أن يشتكيه، أما إذا كان عنده مال، ولكن أقل من الدين, الدين مثلا خمسمائة ألف، والمال الذي عنده يقارب مائة ألف، ففي هذه الحال يحجر عليه.
ما معنى الحجر عليه ؟ يمنع الناس أن يشتروا منه، أو يستدينوا منه، أو يدينوه، ويقول: احجروا على فلان سلعه التي في دكانه، ولا تتركوه يبيع منها شيئا، ولا أحد يشتري منه، ولا أحد يبيع عليه، ومن باع عليه فلا يدخل في جملة الغرماء المتقدمين . بعدما يحجر عليه، ويشهر ذلك، ويعلن عنه، يمنعه من التصرف في ماله يصفي الحاكم ماله، يجمِّع السلع التي في دكانه مثلا أو التي في بيته، ويستغني عنها، ويبيعها الحاكم.
فإذا باعها بمائة ألف قسَّمها على الغرماء، كل واحد كم يعطيه؟ الخمس؛ لأننا لو فرضنا أن الدين خمسمائة والمال مائة؛ فالذي له خمسون يعطيه عشرة، والذي له مائة يعطيه عشرين فكل واحد يعطيه الخمس؛ لأن نسبة المال إلى الدين الخمس، الدين خمسمائة ألف، والمال مائة يقسمها عليهم إلا إذا كان منهم واحد صاحب رهن واحد منهم، عنده مثلا خمسة أكياس من البُر رهن ودينه ثلاثمائة فيكون أحق تباع الخمسة الأكياس، ويعطى دينه من ثمنها، فإن أوفته؛ فهي بقدر ما له، وإن بقي له شيء؛ فإنه يشارك الغرماء في سهامهم، يعطى خمس الباقي، إذا فرضنا مثلا أن دينه ثلاثمائة، بيعت الأكياس بمائتين، وبقي له مائة، هذه المائة يشارك فيها الغرماء، فيعطى خمسها.(1/345)
كذلك إذا كان إنسانٌ باعه سيارة، ولم يقبض من ثمنها شيئا، ولم تتغير صفتها، باعها بعشرين ألف، والسيارة موجودة، وأفلس الرجل، وجمعت أمواله، يقول صاحب السيارة: أنا أقبل سيارتي، ولو أنه قد استعملها شهرا، أو نصف شهر أعطني سيارتي؛ لأنني ما وصلني من الثمن شيء، فأنا أحق بها، هذا معنى قوله: من أدرك ماله عند رجل قد أفلس فهو أحق به من غيره أيّا كان ذلك المال، أما إذا كان قد أتلف بعضه، وكان مثلا اشترى منك هذا المفلس كيسي أرز على أنه قد يبيعها، ثم إنه باع واحدا منه، والباقي باقي، فلك أن تأخذ الكيس الباقي بثمنه الذي بعته، والذي باعه تساهم مع الغرماء فيه، انتهى حجر الفلس.
بقي حجر السفه: الصغير، والسفيه، والمجنون لا يسلطون على الأموال لأنهم يتلفونها، ولا يعرفون التصرف, لا يجوز أن يتصرفوا في المال، ولا يمكنوا في المال, المال له حرمة، يمنعون من التصرف، يجب على وليهم أن يمنعهم من التصرف الذي يضرهم، الحجر عليهم من مصلحتهم؛ لأنه حفظ لأموالهم، الله تعالى يقول: { (((( ((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( ((((((( (((((( (((( (((((( (((((((( } .
فيؤمَر الولي بأن يحفظ أموالهم حتى يدركوا ويبلغوا, فإذا بلغوا ورشدوا، يقول الله تعالى: { (((((( ((((( ((((((((( ((((((((((( (((((( (((((((((( ((((((((( ((((((( (((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( } الرشد ما هو؟ الصلاح في المال, الرشد: هو الصلاح في المال, فإذا رشد، وحسن تصرفه، وصار ما يغبن، ولا يبذل المال في حرام، ولا يشتري به ملاهٍ، ولا يشتري به سفها، ولا يسرف؛ فإنه أحق بماله, الولي عليه أن يحفظ أموالهم إلا بالتي هي أحسن { (((( ((((((((((( ((((( ((((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((( } فيحفظه، ويتصرف فيه التصرف النافع، وينميه، وينفق عليهم منه ما يحتاجون, يصرف عليهم حاجتهم.(1/346)
ولي المجنون والسفيه أبوهم إذا كان رشيدا، فإن لم يكن أبوهم؛ فوليهم أقرب مَن يكون من أقاربهم، إذا كان صالحا، والحاكم هو الذي يجعل الولاية لأشفق مَن يكون من أقاربه، يقول: هذا قريبك، وأنت أشفق عليه، فأنت وليه، أشفقهم، وأعرفهم، وآمنهم. يقول الله تعالى: { ((((( ((((( ((((((( (((((((((((((((( ((((( ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((((((( } يعني إذا قُدِّر أن الولي أخذ يتصرف في أموالهم، وينميها, ينمي أموالهم في تجارة، ويربح فيها، وهو فقير، فإنه يأخذ من أرباح الأموال ما يُغنيه ويسدُّ حاجته، فإن كانت حاجته لا تكفي إلا بأن يأخذ كثيرا؛ فلا يأخذ إلا قدر أجرته, نفرض مثلا أن هذا المال الذي لهذا اليتيم أنه مائة ألف، لو أن إنسانا يشتغل فيه كل سنة، يقول: أنا أحفظه وأنميه، ولي على حفظه وتنميته مثلا كل سنة عشرة آلاف.
الولي يقول: أنا أولى به ما دام أنه مال قريبي، ولكني فقير. نقول: كم يكفيك ؟ فيقول: خمسة آلاف تكفيني. نقول: اقتصر عليها، ولو كان غيرك يطلب عشرة ، فإذا قال ما يكفيني إلا خمسة عشر ألفا ؟ فإنا نقول: اقتصر على أجرة غيرك وهو العشرة، ولا تزد؛ لأن لو كان يتصرف فيه غيرك ما أخذ إلا عشرة, فأنت تتصرف مثل تصرف ذلك، ولا تأخذ إلا أجرتك، فالحاصل أنه إن كفاه خمسة آلاف اقتصر عليها، وإن لم يكفه إلا خمسة عشر؛ فيقتصر على عشرة، هذا معنى قوله: { ((((( ((((( ((((((( (((((((((((((((( ((((( ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((((((((( } المعروف: هو الأقل من أجرة مثله أو كفايته, أجرة مثله العشرة أو كفايته الخمسة إذا كانت أقل. باب الصلح(1/347)
يقول: باب الصلح، الصلح: هو مثلا إذا كان لك دين عند إنسان، وقد نسيت الوثائق، وهو أيضا نسي الوثائق، ولا يدري كم هو هذا الدين، فتقول: سوف نصطلح ونتبايح، أعطني مثلا خمسين وأسمح، سواء كان ديني مائة، أو أربعين. فيقول: أنا أعطيك الخمسين ، وأسمح عنك، وأبيحك، سواء كان دينك مائة أو عشرة، سمحت بالخمسين. هذا صلح، وكذلك إذا كان ذلك المدين مماطلا، وعنده لك دين، ولكنك لا تقدر على شكايته؛ فتصطلح معه على نصف الدين، أو على ثلثيه، فيعطيك الصلح.
هذا الصلح قد يكون عينا، وقد يكون مالا, قد يكون دينك مثلا مائة ألف؛ فيعطيك قطعة أرض، تقول: أخذت هذه القطعة الأرض عن المائة ألف، ولو كانت لا تساوي إلا خمسين ألفا، أو عشرة آلاف؛ لأني شبه الآيس.
فالحاصل أن الصلح جائز يقول - صلى الله عليه وسلم - " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحلَّ حراما أو حرَّم حلالا " لو أنه كاذب, لو أن أحدهما كاذب، فإنه يكون قد أحل حراما, فإذا جاءك إنسان؛ وهو كاذب، وقال: عندك لي مائة يكذب، ويعرف أنه كاذب، وأنت نسيت, تقول: أنا نسيت، إن كان عندي لك شيء، ولكن أعطيك خمسين، وتسمح عني، وأسمح عنك, أليس هذا الكاذب أكل حراما؟ حرام عليه، فأنت مثلا لو كنت تعلم أن عندك له مائة تعرفها يقينا، وهو يقول: عندك لي دين ولا أدري ما هو؟ خمسين، ستين، سبعين، ما أدري ما هو، ولكنك تعلم أنه مائة, فجحدته، وقلت: ما أدري, ما أدري كم عندي، فقال: أعطني خمسين، وأسمح عنك، واسمح عني, فأعطيته خمسين، وأنت تعلم أن الدين مائة, أليس هذا حرام؟! هذا الشرع, هذا معنى قوله: " أحل حراما أو حرَّم حلالا " .
فإن صالحه عن عين بعين أخرى، أو بدين جاز، إذا قال مثلا: عندك لي شاة ولكن أعطني عنها سخلة صلحا, أو عندك لي قطعة أرض، ولكن أعطني عنها هذه الغرفة جاز، ولو كان أحدهما دين غائب.(1/348)
الدين هو الغائب, وإن كان عليه دين فصالحه عنه بعين جاز, إذا قال عندي لك مثلا مائة، ولكن ليس عندي، ولكن أصطلح وإياك على هذا الكيس خذه صلحا, هذا صلح بعين، أو بدين قبضه قبل التفرق أصطلح معك، عندي لك دين من الدراهم مثلا أو من البُرِّ؛ ولكن ليس عندي؛ ولكن أصالحك عنه بخمسين غائبة، فهل يجوز؟ لا يجوز إلا إذا أحضرها قبل التفرق، وقت الصلح كانت غائبة دينا؛ ولكن أحضرها قبل التفرق، فيجوز.
عندك لي ألف، ما عندي؟ ما أقدر أوفيك؛ ولكن أصطلح معك على أن تسكن هذه الغرفة خمسة أشهر مقابل الألف, صالحه على منفعة في عقاره، في داره، أو على أن تسقي إبلك مثلا من ماكينتي، الماكينة التي تضخ الماء, وأسقي بها النخل, اسق إبلك التي هي مثلا مائة بعير كل يومين لمدة شهر، هذا صلح أيضا على منفعة في عقاره، أو في غيره، ولكن تلك المنفعة معلومة, سكنى، أو سقيا، أو ما أشبه، ذلك بدل الدين الذي عندك تسقي إبله, بدل الدين الذي عندك تسكنه في دارك.
أو صالحه عن الدين المؤجل ببعضه حالا, صورة ذلك, صورته إذا كان الدين يحل في رمضان وهو ألف، فقال: أنا بحاجة إلى ثمانمائة الآن، أعطني ثمانمائة عن الألف، هل يجوز؟ نعم، صالح عن المؤجل ببعضه حالّا، ويسمى هذا مسألة: أسقط وتعجل.
ذكروا أن بني النضير لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجليهم, قالوا: يا محمد لنا ديون عند أصحابك، عند فلان لي ألف, عند فلان لي مائة, عند فلان لي أربعين, فقال: " أسقطوا وتعجلوا " ؛ لأنها ما بعد حلت, ما تحلُّ إلا بعد شهر، أو بعد سنة, أو بعد سنتين " أسقطوا وتعجلوا " فالذي له ألف ما تحل إلا بعد سنة يأخذ بدلها ثمانمائة، والذي له مائة ما تحل إلا بعد نصف سنة يأخذ بدلها ثمانين، هذه مسألة: أسقط وتعجل.(1/349)
أو كان له عليه دين لا يعلمان مقداره، كلاهما لا يدري، فصالحه على شيء صح, إذا قال مثلا: عندي لك دين، ولا أدري كم هو؟ قال: أنا كذلك ما أدري، هل هو ألف؟ أو عشرة؟ أو مائة؟ أو ريال؟ ما أدري, لكن عندي لك دين، ولكن نصطلح. فتصالحا على شيء، اصطلحوا على مائة، أو على كيس، أو على شاة، أو على سكنى دار، أو ما أشبه ذلك.
أما هذا الحديث " لا يمنعن جار جاره أن يغرس خشبه في جداره " فهذا يتعلق بالجوار؛ لأن الصلح غالبا يجعلون معه حسن الجوار، هذا الحديث فيما إذا كان الجار يريد أن يسقف بيته، ولا يستطيع أن يسقفه إلا أن يمد الخشب، ويجعله على جدار الجار, فلا يجوز له أن يمنعه، ولو أنه يضره .
في هذه الأزمنة العادة أنهم صاروا يبنون بهذه الصبات، وكل منهم يقيم له الصبات التي تليه ولا ينتفع بجداره، لكن كثيرا ما يكون الجدار حاجزا بينهم، فيصطلحون على أن نصفه على هذا ونصفه على هذا، أو نحو ذلك، وهذا أيضا من الصلح.
باب الوكالة والشركة والمساقاة والمزارعة(1/350)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوكل في حوائجه الخاصة، وحوائج المسلمين المتعلقة به، فهي عقد جائز من الطرفين تدخل في جميع الأشياء التي تصح النيابة فيها من حقوق الله، كتفريق الزكاة، والكفارة، ونحوها، ومن حقوق الآدميين كالعقود، والفسوخ، وغيرها، وما لا تدخله النيابة من الأمور التي تتعين على الإنسان، وتتعلق ببدنه خاصة كالصلاة، والطهارة، والحلف، والقسم بين الزوجات، ونحوها، لا تجوز الوكالة فيها، ولا يتصرف الوكيل في غير ما أذن له فيه نطقا، أو عرفا. ويجوز التوكيل بجُعْل، أو غيره، وهو كسائر الأمناء لا ضمان عليهم إلا بالتعدي، أو التفريط، ويقبل قولهم في عدم ذلك باليمين، ومن ادعى الرد من الأمناء، فإن كان بجعل لم يقبل إلا ببينة، وإن كان متبرعا قبل قوله بيمينه، وقال - صلى الله عليه وسلم - " يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خانه خرجت من بينهما " رواه أبو داود. فالشركة بجميع أنواعها كلها جائزة، ويكون الملك فيها والربح بحسب ما يتفقان عليه إذا كان جزءا مشاعا معلوما.
فدخل في هذا شركة العنان: وهي أن يكون من كل منهما مال، وعمل. وشركة المضاربة: بأن يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل. وشركة الوجوه: بما يأخذان بوجوههما من الناس. وشركة الأبدان: بأن يشتركا بما يكتسبان بأبدانهما من المباحات من حشيش ونحوه، وما يتقبلانه من الأعمال. وشركة المفاوضة: وهي الجامعة لجميع ذلك.
وكلها جائزة ويفسدها إذا دخلها الظلم والغرر لأحدهما، كأن يكون لأحدهما ربح وقت معين، وللآخر ربح وقت آخر، أو ربح إحدى السلعتين، أو إحدى السفرتين، وما يشبه ذلك كما يفسد ذلك المساقاة والمزارعة.(1/351)
وقال رافع بن خديج: " كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما على الماذيانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا, ويسلم هذا ويهلك هذا, ولم يكن للناس كراء إلا هذا؛ فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به " رواه مسلم . " وعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع " متفق عليه.
فالمساقاة على الشجر: بأن يدفعها للعامل، ويقوم عليها بجزء مشاع معلوم من الثمرة، والمزارعة: بأن يدفع الأرض لمن يزرعها بجزء مشاع معلوم من الزرع، وعلى كل منهما ما جرت العادة به، والشرط الذي لا جهالة فيه، ولو دفع دابته إلى آخر يعمل عليها، وما حصل بينهما جاز.
جمع المؤلف هذه الأبواب الأربعة في باب واحد، وهي متقاربة إلا الوكالة, الوكالة: هي ليست من جنس الشركة، أما الشركة، والمساقاة، والمزارعة فقريب بعضها من بعض.
تعريف الوكالة: استنابة جائز التصرف غيره فيما تدخله النيابة, ويعبرون عن المفوَّض بالوكيل وعن المفوِّض بالموكِّل، فإذا رأيت كتابة الموكِّل فلا تقرأها الموكَّل، لا يأتون بكلمة الموكَّل يأتون بدله بالوكيل، فإذا رأيت كتابة الموكل؛ فاقرأها الموكِّل بكسر الكاف.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوكل في حوائجه الخاصة، وحوائج المسلمين المتعلقة به. يوكل في حوائجه؛ يوكل من يشتري له سلعة ، كما وكل عروةَ البارقي أن يشتري له شاة ؛ هذه وكالة وحوائج المسلمين المتعلقة به, كونه مثلا يوكل من يقبض الصدقات, يوكل أيضا من يقيم الحدود بقوله مثلا: " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " وكالة في إقامة حد الحوائج المتعلقة بالمسلمين، ويوكل من يقبض الزكوات ويفرقها.(1/352)
الوكالة: عقد جائز من الطرفين, عقد جائز بمعنى أنه يجوز فسخه متى شاء الموكل عزل الوكيل, متى شاء الوكيل عزل نفسه؛ لأنه غالبا متبرع، أما إذا كان بأجرة فماذا نسميه؟ نسميه أجيرا, أما إذا كان متبرعا فهو وكيل.
فالحاصل أنها عقد جائز من الطرفين، يعني من طرف الموكل، ومن طرف الوكيل، وكل منهما يجوز له أن يخلعها, تدخل في جميع الأشياء التي تصح النيابة فيها من حقوق الله، كتفريق الزكاة، والكفارة، ونحوها، ومن حقوق الآدميين، كالعقود، والفسوخ، وغيرها.
فمن حقوق الله التي تدخلها النيابة الحج، الوكالة في الحج، بأن توكل من يحج عن أبيك، أو يحج عن ميتك هذا عبادة، ومع ذلك تدخلها النيابة، وكذلك تفريق الزكاة؛ توكل تعطي من يفرق زكاتك، فيأخذ هذه الزكاة يفرقها على المستحقين، وكذلك الكفارة ؛ عليك كفارة إطعام ستين مسكينا، أو عشرة مساكين تعطيها واحدا يفرقها على المساكين، تقول: وكلتك تفرقها. هذه من حقوق الله.
حقوق الآدميين كثيرة توكله مثلا يقبض دينك، توكله يحفظ مالك, توكله يبيع سلعتك, توكله يأخذ لك سلعة، يشتري لك سلعة، أو سيارة، أو ما أشبه ذلك, الوكالة تدخل في هذا كله.
كذلك أيضا العقود، العقود والفسوخ, الفسوخ: توكله مثلا يطلق امرأتك، أو يزوج ابنتك، أو نحو ذلك، يجوز, فيجوز مثلا أن تقول: أنا غائب وقد وكلتك يا فلان أن تزوج ابنتي إذا جاءك من يخطبها كفئا. فيقول للخطيب: زوجتك ابنة موكلي، ونحو ذلك، أو كذلك الزوج يقول: وكلتك تقبل النكاح لي من فلانة. فيقول مثلا الوكيل:.. يقول الموكل: زوجت موكلك زيد ابنتي. فيقول الوكيل: قبلت النكاح لموكلي زيد. يجوز ذلك، أو مثلا في الطلاق يقول: وكلتك أن تطلق امرأتي في الشهر الفلاني، وكلتك تراجعها بعد الطلاق، وأشباه ذلك. فهذا معنى قوله: العقود والفسوخ وغيرها.(1/353)
وكذلك في إقامة الحدود الحاكم يقيم الحدود، وكلتك تقطع يد هذا السارق، وكلتك تجلد هذا الزاني، أو ترجم هذا الزاني مثلا أو ما أشبه ذلك.
أما ما لا تدخله النيابة من الأمور التي تتعين على الإنسان، وتتعلق ببدنه خاصة، كالصلاة، والطهارة، والحلف، والقسم بين الزوجات، ونحوها، لا تجوز الوكالة فيها، هذه لا تصلح الوكالة فيها، وذلك؛ لأنها تتعلق بالبدن، أو تتعلق بالذمة، فلا يقول مثلا: وكلتك تصلي عني؛ لأن الصلاة عبادة تتعلق بالبدن، فلا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، العبادة هذه عبادة بدنية تتعلق ببدن المكلف، فإن قدر عليها وإلا سقطت، فلا يقول: وكلتك تصوم عني، أو تصلي عني، أو تتطهر عني. فإن هذا كله عبث، ولا يجوز، والذين يقولونه في الغالب أنهم فسقة.
يذكر لنا بعض الإخوان أنه عندما يمر على بعض الفسقة ويقول لهم: اذهبوا صلوا. يقولون: وكلناك تصلي عنا، وأنت بالنيابة عنا. هؤلاء هم الفسقة، فلا يجوز.
كذلك الحلف ما يحلف أحد عن أحد؛ لأن الحلف يتعلق بالذمة فلا يجوز لأحد أن يحلف ويقول: أحلف عن فلان. كذلك القسم بين الزوجات، معلوم أن الزوجة أنها حق الزوج، عليها المؤانسة، والمبيت عندها، فلا يوكل من يبيت عند الزوجة، ولا من يطأها؛ لأن هذا يحل حراما، القسم بين الزوجات.
الحاصل أن الوكالة تصح فيما تدخله النيابة دون ما لا تصح، كذلك لا يتصرف الوكيل في غير ما أذن له فيه نطقا أو عرفا، فإذا أذن لك أن تقبض الدين، وقبضته فهل تتصرف فيه وتنميه وتتجر فيه؟ ما وكلك اقتصر على القبض، وكلك مثلا أنك تخاصم، فلان عنده لي دين، وكلتك تخاصمه عند القاضي خاصمته وفلجته هل تقبض الدين؟ ما وكلك إلا على الخصومة، لا تتجاوزها اقتصر على ما وكلك فيه نطقا أو عرفا.(1/354)
هل يجوز الوكالة بالجعل بالأجرة؟ يجوز التوكيل بجعل أو بغيره، يقول: وكلتك تخاصم فلانا، وإذا خصمته فلك مائة، أو لك نصف الدين، أو ربعه، أو نحو ذلك، أجرة على خصومتك. وكذلك وكلتك تبيع هذه الأكياس، ولك من كل كيس تبيعه ريال، أو ريالان، أو نحو ذلك.
الوكيل كسائر الأمناء، لا ضمان عليهم إلا بالتعدي، أو التفريط إذا مثلا وكلته وقبض دينك، ثم تلف عنده، هو أمين ما يضمن، وكلته مثلا يشتري لك بعيرا، ثم اشترى بعيرا، وركبه، وتلف البعير تحته يضمن؛ لأنه تعدى، وكلته يشتري لك ثوبا، ثم اشترى ثوبا فلبسه، ولما لبسه تمزق، أو مر بعود فمزقه، يضمن؛ لأن هذا تعدٍ.
قد ذكرت لكم قريبا الفرق بين التعدي والتفريط، فإذا تعدى أو فرط؛ فإنه يضمن، ويقبل قولهم بعدم ذلك باليمين، يحلف إنني ما فرطت، إنني ما لبست الثوب، ولا ركبت البعير، وإنني ما أهملت الأكياس مثلا , وأني حفظتها في حرزها، حافظ للدراهم.
ومن ادعى الرد من الأمناء؛ فإن كان بجعل لم يقبل إلا ببنية، إذا قال مثلا: رديت إليك وديعتك. عندي لك وديعة أمانة، أو وكلتني أقبض دينك، وأعطيتك إياه، أنا موكل في الدراهم، وكلتك وأعطيتك مثلا من كل مائة خمسة، فالآن ما أقبل كلامك إلا ببنية، ائتني ببينة تشهد أنك سلمت لي الأمانة التي تحفظها بجعل، أو سلمت لي الدين؛ فإذا أتى ببينة؛ قبل، وإذا لم يأت ببينة؛ فاليمين على المنكر.
أما إذا كان متبرعا ما له مصلحة وكيل في الخصومة، ولا مصلحة له وكيل في حفظ هذه الأكياس متبرعا، وكيل في قبض الدراهم والديون متبرعا، ثم ادعى أنها تلفت، يقبل قوله بيمينه بدون بينة، انتهى من الوكالة.
بدأ بالشركة وهي مهمة، نقتصر منها على تعريفاتها، يقول - صلى الله عليه وسلم - " قال الله تعالى: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما " الشركة هي، تعريفها أنها: اجتماع في استحقاق أو تصرف.(1/355)
فالاجتماع في الاستحقاق مثل قوله تعالى { ((((( ((((((((( (((((((( ((( ((((((( (((((( (((((((((( ((( ((((((((( } الورثة شركاء في المال يستحقونه جميعا، شركاء في هذا البيت، شركاء في هذا الجمل، شركاء في هذه السيارة.
وأما التصرف فهو مثلا إذا جمعوا مالا وقالوا: نريد أن نتصرف فيه. فهذا اشتراك في تصرف. الشركة بجميع أنواعها كلها جائزة، يقول: إنها عقد جائز متى طلب أحدهما الفسخ فإنه يفسخ، وكلها مباحة، ويكون الملك فيها والربح بحسب ما يتفقان عليه، الربح بينهما، ورأس المال بينهما على ما يتفقان عليه إذا كان جزءا مشاعا معلوما، الجزء المشاع هو أن يكون مثلا الثلث، الربع، النصف، أو ما أشبه ذلك، بجزء مشاع معلوم.
فذكر أنها خمسة: شركة العنان: وهي أن يشترك بدنان بماليهما المعلوم ليعملا فيه ببدنيهما بجزء معلوم النسبة، بجزء معلوم من الربح لكل منهما، أو لواحد منهما، أو نحو ذلك، لا بد أن يكون المال من الاثنين، والعمل من الاثنين، هذا يدفع مثلا عشرة آلاف، وهذا يدفع عشرة آلاف، ويشترون بضاعة، ويفتحون دكانا، هذه شركة عنان، كأنهما فرسي عنان متساويان، يشتغل هذا ساعتين وهذا ساعتين، أو يشتغلان جميعا يحضران جميعا، أو يشتغل هذا أول النهار، وهذا آخر النهار، ويتفقان على الربح، أو يقول مثلا: أنت وكيل على المشتريات تشتري، وأنا وكيل على البيع أصرف، يجوز ذلك، أو أنت وكيل على الأسفار تسافر تجلب السلع، وأنا أصرفها في البلاد، والربح بيننا. أو لي ثلاثة الأرباع؛ لأني أسافر وأخاطر، ولك الربع، أو لي الثلثان، ولك الثلث. يجوز ذلك، هذه شركة العنان المال والعمل منهما معا.(1/356)
شركة المضاربة: أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر. عندك مال، عندك مثلا عشرة آلاف، ولكنك لا تتفرغ تصرفها، وأنا ليس عندي عمل، وليس عندي مال مثلا فآخذ هذه العشرة، وأنميها، وأتجر فيها، مني العمل ومنك المال، أشتري، وأبيع، وأتصرف، فإذا تمت السنة نظرنا كم الربح، واقتسمناه، لي النصف ولك النصف، لك ربح مالك، ولي ربح عملي. هذه تسمى المضاربة، يعني قد يكون إنسان عنده أموال، ولكنه ما يتفرغ وينميها، وآخر متفرغ وقادر على التنمية، وقادر على التصريف ولكن ما عنده مال فيجتمعان فيكون من هذا المال ومن هذا العمل.
شركة الوجوه: وهي المداينة. كلنا ما عندنا مال، ولا عندنا رأس مال، ولكن الناس يعرفونا، نشتري منهم دين ونبيع، أنا أشتري من فلان، وأنت تشتري من فلان، أنا أشتري مثلا الأقمشة، وأنت تشتري الأحذية، ونبيع ونتصرف، وإذا تصرفنا أوفينا هذا وأوفينا هذا، والربح بيننا. هذه شركة الوجوه .
شركة الأبدان: ما عندهم مال؛ ولكن عندهم حرفة يحترفان ويشتغلان فيشتركان في الكسب مثل العمال، عمال مثلا في البناء يشتركون مثلا في الدهان، يشتركون في البلاط، يشتركون في الكهرباء تركيب مثلا يشتركان في السباكة، كلاهما مثلا عمله مستقل، فيقولون نتقبل، هذا مثلا يروح لفلان، وهذا يروح عند فلان، وهذا يشتغل في هذه العمارة، وهذا يشتغل في هذه الفيلا، والكسب بينهم. هذه تسمى شركة الأبدان.
وكذلك في المباحات تصح في الاحتشاش مثلا يجلبون الحشيش، ويبيعونه، يحتش ويبيع، وهذا يحتش ويبيع، والربح بينهما، أو في الحطب يحتطبان مثلا أو في الصيد يصيد هذا ويبيع، ويصيد هذا ويبيع، والربح بينهما، هذه شركة الأبدان. يشتركان بما يكتسبان بأبدانهما من المباحات من حشيش ونحوه وما يتقبلان من الأعمال، مقاولات ما يتقبلان من الأعمال.(1/357)
شركة المفاوضة: وهي الجامعة لجميع ذلك، يقول: جامعة للجميع، يفوض كل منهما الآخر أنا وإياك متفاوضان نأتي بمال، ونحتطب، ونستدين، ونعمل بأبداننا، والمال بيننا، ورأس المال والكسب بيننا، متى تفسد؟ يفسدها إذا دخلها الظلم والغرر لأحدهما، الظلم: هو أن يخون أحدهما؛ لأن كلا منهما أمين مأمون، فإذا خان أخطأ، ثم عثر عليه فسدت، حرام قرأنا الحديث " ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما " .
وكذلك الغرر، إذا غرَّر بصاحبه، إذا خدعه؛ لأنه أمين. فإذا قال: أنا أحسن التصرف، أعطني مائة ألف، وسوف أربح فيها؛ لأني أحسن التصرف. ثم أخذها وأتلفها، فقال: تلفت خسرت، أليس هذا غرر به؟ وخدعه حتى أخذ ماله، فيكون آثما وله مطالبته، كأن يكون لأحدهما ربح، وقت معين وللآخر ربح وقت آخر هذا أيضا غرر فلو قال مثلا: لي ربح شهر ولك ربح شهر ما يجوز، أو مثلا: لي ربح الثياب، ولك ربح النعال ما يجوز؛ بل كلاهما الربح بينهما هذا وهذا، أو مثلا: لي ربح السلع التي نجلبها مثلا من مصر ولك ربح السلع التي نجلبها من الهند مثلا هذا غرر أيضا إذا قال مثلا: لي ربح إحدى السلعتين الثوب، ولك ربح النعل لي ربح إحدى السفرتين هذا أيضا غرر.
يقول: كما يفسد بذلك المساقاة والمزارعة. المساقاة: هي أن يكون لك شجر، ولكنك لا تقدر على سقيه، فتقول: يا فلان اسق شجري هذا ولك نصف الثمر، أو ثلث الثمر، عليك السقي وعلي الشجر، فإذا دخلها الغرر فسدت، إذا مثلا أهملها، أو خان، أو أخذ شيئا لا يستحقه.
المزارعة: أن يكون عندك أرض لا تقدر على زرعها وفيها ماكينة مثلا وهذا إنسان متفرغ يحسن يزرع، فتقول: ازرع أرضي قمحا ولك ثلث الزرع، أو ربعه، أو نحو ذلك، عليك العمل وعلَيَّ الأرض، فإذا خان مثلا وأخفى شيئا فهذه الخيانة حرام؛ لأنه أمين، فلا يحل له أن يخفي، فتفسد بذلك.(1/358)
يقول رافع بن خديج - رضي الله عنه - " كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماديانات " بما الباء ساقطة منها " بما على الماديانات، وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع " فالماديانات هي مجاري الماء، وأقبال الجداول يعني حافات السواقي، الساقي يسمى جدول، وهو مجرى الماء، معلوم أن الزرع الذي في حافات الساقي يكون يشرب دائما فيكون نباته كثيرا، يمكن الحبة فيها مائة سنبلة، أو ستين سنبلة، فإذا قال: أجرتك هذه الأرض ولي النبات الذي على هذه الماذيانات، أو على هذه الأقبال ولي زرع هذه البقعة؛ لأنه يعلم أنها بقعة طيبة، ولك زرع الباقي، فربما يظلم أحدهما يكون مثلا العامل ما يحصل له إلا زرع ليس فيه إلا سنبل قليل، أو سنبل قصير، فذلك بلا شك غرر، فلذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا؛ لأنه سبب في أن يهلك هذا ويسلم هذا، يسلم هذا، ويهلك هذا، ربما أن هذه البقعة التي اشترطها للعامل ما يكون فيها زرع؛ فيكون تعبه خسارة، هذا كراء الناس أولا لم يكن للناس كراء إلا هذا، فهذا الذي زجر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
فأما إذا قال: ازرعها ولك النصف، ولك الثلث، من هذا، ومن هذا، ومن هذا. أليس في هذا مصلحة؟ ليس فيه ضرر، شيء معلوم، لك نصف الزرع، لك ثلثه، لك ثلثاه، يجوز ذلك، أمَّا إذا قال: لك زرع هذه البقعة ولي زرع هذه البقعة، فهذا غرر.(1/359)
يقول: أما إذا كان بشيء معلوم مضمون فلا بأس به. لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر كان الصحابة منشغلين بالجهاد، لا يتفرغون لحرث ، ولا لسقي، ولا لزبر، وكان اليهود أهل عمل، فقالوا: يا محمد دعنا نحرث، ونزرع، ونسقي كأجراء، ولك النصف ولنا النصف، " فصالح أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر، أو زرع " وأقرهم فيها كعمال، وصار كل سنة يرسل من يخرص النخل، فإذا خرصه يرسل مثلا عبد الله بن رواحة فيقول: هذه النخلة تقارب خمسين صاعا. فإذا قالوا: كثير، كثير. قال: أعطونا خمسا وعشرين ولكم الباقي. فإذا كانت مثلا ستين أعطونا خمسة وعشرين، ولكم خمسة وثلاثين، فقالوا: هذا هو العدل، خرصها خمسة وعشرين، أعطونا خمسة وعشرين، ولكم الزائد إن كانت كثيرا، فإن كان يخرصها عليهم، فالحاصل أنه يأخذ منهم نصف الزرع، ونصف الثمر، ونصف الزبيب مثلا ونصف التمر، وأشباه ذلك.
المساقاة على الشجر أن يدفعها للعامل، ويقوم عليها بجزء مشاع معلوم من الثمرة، هذه المساقاة يسلم له الشجر، ويقول: اسقه سنة، النخل ما يحمل إلا كل سنة، كذلك العنب، كذلك التوت، والرمان، وما أشبهه، اسقه ولك النصف، أو الثلث، أو الثلثان، أيها العامل، العامل يقوم عليها ويسقيها، وله جزء مشاع ، مشاع يعني شائع في الثمر كله، ما يقول: لك ثمرة هذه النخلة ولي ثمرة هذه النخلة؛ لأنها ربما كانت هذه أكثر، وهذه أقل فلا بد أن يكون مشاعا معلوما من الثمرة .
أما المزارعة: فهي أن يدفع الأرض لمن يزرعها بجزء مشاع معلوم من الزرع, ازرعها ولي نصف الزرع، ولك النصف قل أو كثر، مشاع معلوم من الزرع، وعلى كل منهما ما جرت العادة به؛ العامل عليه يحرث الأرض، وعليه يسويها وعليه يصلح الجداول السواقي مثلا وعليه يخرج الماء، وعليه يجريه، وعليه الحصاد، وعليه التركيب، وما أشبه ذلك. والمالك عليه الماكينة مثلا وعليه الحيطان إذا احتاج إلى حائط، وما أشبه ذلك، على كل منهما ما جرت العادة به.(1/360)
والشرط الذي لا جهالة فيه، إذا كان الشرط معلوما ليس فيه جهالة؛ فإنه جائز، ولو دفع دابته إلى آخر يعمل عليها وما حصل بينهما جاز، هذه أيضا تسمى مؤاجرة، أو سيارته قال: هذه السيارة اعمل عليها ولك - سيارة الأجرة مثلا لك نصف الدخل لتعبك ولي نصفه أجرة سيارتي مثلا يجوز، فكل هذا من الأشياء التي شرعت لأجل المصلحة بين العباد.
نقف على باب الإحياء، ونواصل -إن شاء الله- غدا فيما بعده، وإن كان المقام يستدعي طولا، ولكن نقتصر على ما يوضح المعنى -إن شاء الله- وهو واضح، والله أعلم، وصلى الله على محمد. بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
قرأنا جانبا من المعاملات، وهي: عقود المبايعات وما يتصل بها.
منها ما هو عقد لازم ، ومنها ما هو عقد جائز؛ فعقد البيع لازم إلا إذا كان فيه خيار، وبعد تمام شروطه وانتفاء أسباب الخيار يصبح عقدا لازما، وسواء كان بيع منقول أو بيع عقار، وكذلك عقد الرهن لازم في حق الراهن جائز في حق المرتهن.
الراهن لا يقدر على استرجاعه، والمرتهن يجوز أن يسقط رهنه أو حقه من الرهن، كذلك عقد الحجر أن يحجر الإمام أو يحجر الشرع على إنسان عقد لازم.
أما عقد الوكالة فإنه عقد جائز، وكذلك عقد الشركة بأنواعها عقد جائز، وعقد المساقاة وعقد المزارعة عقد جائز يجوز لكل منهما فسخه؛ وذلك لأنه شبيه بالمصالحة إلا أن عقد المزارعة والمساقاة فيه خلاف؛ حيث هناك من يلزم الوفاء به؛ وذلك لأنه قد يترتب على فسخه ضرر على أحد المتعاقدين.
كما إذا زارعه على هذه الأرض وبعد ما زرعها وكبر الزرع طرده، والمالك قال: لا حق لك. فإنه والحال هذه يتضرر؛ حيث أشرف على هذه الثمرة ولكنهم يقولون: له أجرة مثله والزرع للمالك.(1/361)
وكذلك إذا طرده في الثمر له أجرة مثله، والثمر للمالك؛ لأنه عين ماله، وأما الصلح فإنه إذا تم يصبح عقدا لازما إذا تم الصلح بين اثنين؛ فإنه يصبح عقدا لازما لا يستطيع أحدهما أن يفسخه؛ فاللازم: هو الذي يتم وإذا تم لا يتمكنون من فسخه كالنكاح. وأما الجائز فهو الذي يتمكن كل منهما من فسخه كالوكالة.
والآن نواصل القراءة:
باب إحياء الموات
وقال رحمه الله باب إحياء الموات وهي: الأرض البائرة التي لا يعلم لها مالك؛ فمن أحياها بحائط، أو حفر بئر، أو إجراء ماء إليها، أو منع ما لا تزرع معه: ملكها بجميع ما فيها إلا المعادن الظاهرة؛ لحديث ابن عمر: " من أحيا أرضا ليست لأحد فهو أحق بها " رواه البخاري.
وإذا تحجر مواتا بأن أدار حولها أحجارا، أو حفر بئرا لم يصل إلى مائها، أو أقطع أرضا فهو أحق بها ولا يملكها حتى يحييها بما تقدم.
باب "الجعالة والإجارة" وهما: جعل مال معلوم لمن يعمل له عملا معلوما أو مجهولا في الجعالة، ومعلوما في الإجارة أو على منفعة في الذمة؛ فمن فعل ما جعل عليه فيهما استحق العوض وإلا فلا، إلا إذا تعذر العمل في الإجارة؛ فإنه يتقسط العوض.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره " رواه مسلم.
والجعالة أوسع من الإجارة؛ لأنها تجوز على أعمال القرب؛ لأن العمل فيها يكون معلوما أو مجهولا، ولأنها عقد جائز بخلاف الإجارة.
وتجوز إجارة العين المؤجرة على من يقوم مقامه لا بأكثر ضررا منه؛ ولا ضمان فيهما بدون تعد ولا تفريط، وفي الحديث: " أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه " رواه ابن ماجة.
باب "اللقطة واللقيط" وهي على ثلاثة أضرب: أحدها ما تقل قيمته كالسوط، والرغيف، ونحوهما فيملك بلا تعريف.(1/362)
والثاني: الضوال التي تمتنع من صغار السباع: كالإبل فلا تملك بالالتقاط مطلقا.
والثالث: ما سوى ذلك فيجوز التقاطه، ويملكه إذا عرفه سنة كاملة.
وعن زيد بن خالد الجهني قال: " جاء رجل إلى النبي الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة؛ فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها. قال فضالة الغنم؟ قال: هي لك أو لأخيك أو للذئب. قال: فضالة الإبل؟ قال: ما لك ولها! معها سقاؤها، وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها " متفق عليه.
والتقاط اللقيط والقيام به فرض كفاية، فإذا تعذر بيت المال فعلى من علم بحاله.
باب "المسابقة والمغالبة" وهي ثلاثة أنواع: نوع يجوز بعوض وغيره، وهي: مسابقة الخيل، والإبل، والسهام. ونوع يجوز بلا عوض، ولا يجوز بعوض، وهي جميع المغالبات بغير الثلاثة المذكورة، وبغير النرد، والشطرنج، ونحوهما فتحرم مطلقا وهو النوع الثالث؛ لحديث: " لا سبق إلا في خف، أو حافر، أو نصل " رواه أحمد والثلاثة.
وأما ما سواها فإنها داخلة في القمار والميسر.
باب الغصب: وهو الاستيلاء على مال الغير بغير حق، وهو محرم؛ لحديث: " من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين " متفق عليه. وعليه رده لصاحبه ولو غرم أضعافه، وعليه نفقته وأجرته مدة مقامه بيده، وضمانه إذا تلف مطلقا، وزيادته لربه، وإن كانت أرضا فغرس أو بنى فيها فلربه قلعه؛ لحديث: " ليس لعرق ظالم فيه حق " رواه أبو داود.
ومن انتقلت إليه العين من الغاصب وهو عالم فحكمه حكم الغاصب.
باب "العارية والوديعة" وهي: إباحة المنافع، وهي مستحبة في المعروف، قال - صلى الله عليه وسلم - " كل معروف صدقة " .
وإن شرط ضمانها ضمنها، وإن تعدى أو فرط فيها ضمنها، وإلا فلا. ومن أودع وديعة فعليه حفظها في حرز مثلها، ولا ينتفع بها بغير إذن ربها.(1/363)
باب "الشفعة" وهي: استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه ببيع ونحوه، وهي خاصة في العقار الذي لم يقسم؛ لحديث جابر -رضى الله عنه-: " قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة " متفق عليه.
ولا يحل التحيل لإسقاطها، فإن تحيل لم تسقط؛ لحديث: " إنما الأعمال بالنيات " .
يكفي !
هذه الأبواب كلها تتعلق بالمعاملات التي هي مما تملك به الأموال، سواء من العقار أو من المنقول.
فقوله: باب إحياء الموات. عرفها بأنها: الأرض الداثرة التي لا يعلم لها مالك، ويعرفها في "زاد المستقنع" بأنها: الأرض المنفكة عن الاختصاصات وملك المعصوم.
وتسمى الأرض البور التي لا ملك فيها لأحد. إذا أتيت إلى أرض داثرة ليس فيها علامة ملك لأحد، وليس فيها آثار ملك، وليست لأحد قبلك قد سبق أنه ملكها، فتملكها بالإحياء؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من أحيا أرضا ميتة فهي له " فسرها بأنها ميتة -أي: ليس فيها علامة ملك- أرض ميتة، أرض موات من أحياها ملكها.
بأي شيء يكون الإحياء ؟
إذا أحاط عليها حائطا يمنع من الدواب -يعني: قدره -مثلا- متر ونصف أو نحوه، أو يستر من وراءه يستر الواقف إذا وقف في داخله-؛ فإن هذا يعتبر تملكا؛ هذا الحائط الذي أحاطه عليها، ولو كانت مثلا ميلا في ميل يملكها، أو حفر بئرا حفر فيها بئرا لكن البئر لا يملك إلا حريمها -يعني: حماها- فالجديدة حريمها خمسة وعشرون ذراعا من كل جانب.
فإن كانت بئرا قديمة أثرية ولكن لا يعرف لها مالك فحريمها خمسون ذراعا من كل جانب؛ هذا إذا كانت بئرا لأجل الشرب، أو لأجل السقي، أو لأجل ملك البقعة؛ أما إذا كانت لأجل الزرع أن يزرع عليها فذكروا أن حريمها ثلاثمائة ذراع من كل جانب.(1/364)
والذراع الأصل أنه ذراع اليد، ولكنهم ذكروا أنه أطول ما يمكن، وقدروه بأربعة وخمسين سم الذراع -يعني: أكثر من نصف المتر بقليل- فهذا نوع إحياء إحياؤها بحفر البئر.
الثالث: إحياؤها بالسقي وليس السقي أن يسقيها بماء المطر، فالذي -مثلا- يزرع أرضا يبذرها، وينزل المطر عليها، وينبت زرعه، هذا لا يملكها؛ لأن هذا المطر من الله ليس بجهده.
وكونه -مثلا- بذر وحرث لا يملكها، لو جاء غيره في السنة الآتية وبذر فيها فهو أحق ببذره، كذلك لو جاء مثلا بـ ++ وصبه فيها ما يملكها.
إذا متى يملكها؟ إذا أجراه في جدول... إذا أجرى الماء على الأرض في السواقي، ثم أسقى هذه الأرض، ولو كانت كيلو في كيلو ملكها؛ وذلك لأنه تعب في إيصال الماء إليها.
وكذلك الرابع: لو وجدها مثلا فيها مستنقعات من امتداد البحار، أو الأنهار التي تجري ولا أحد ينتفع بها، وفيها هذه المستنقعات فعمل على حبس هذا الماء عنها حجز بينها وبين البحر، أو بينها وبين النهر حتى حسر الماء عنها فيملكها لذلك؛ لأنه تعب في حبس الماء عنها.
وكذلك لو وجدها أرضا جبلية لا ينتفع بها، فأزال الحجارة التي فيها وسواها، وتعب في تسويتها، وإن كانوا قديما لا يستطيعون ، ولكن حديثا فالآلات الحافرة هذه تزيل كثيرا من الجبال الصخرية التي ليس صخرها شديدا، ثم بعد إصلاحها يبني فيها -مثلا- أو يحرث فيها، أو نحو ذلك يملكها.
فهذه أربعة: بناء الحائط، وحفر البئر، وإيصال الماء إليها، وحبس الماء عنها، أو المستنقع، أو الإصلاح، أو ما أشبه ذلك؛ يملكها بجميع ما فيها إلا المعادن، المعادن الظاهرة لا يملكها، فإذا كان فيها -مثلا- ملح معدن ملح ينتفع الناس به، ويأخذون منه؛ فلا يملكه.(1/365)
وكذلك لو كان فيها معدن جص -القصة التي تبيض بها الحيطان- فلا يملكه، كذلك لو كان فيها معادن نفط، أو نحوه فلا يملكه؛ لأن هذي معادن عامة يأخذ منها كل بحاجته، وهكذا جميع المعادن التي توجد في داخل الأرض: معدن نحاس، أو صفر، أو حديد، أو ما أشبه ذلك.
هذه المعادن لا تملك بالإحياء إذا كانت ظاهرة، بل هي عامة للمسلمين، أما لو ظهر في أرضه معدن أرض له قد حوطها وأحاطها، واحتاط عليها وملكها، وحفر فيها فوجد فيها معدنا حتى ولو نفيسا، ولو معدن ذهب، أو فضة، أو جوهر، أو نحو ذلك فإنه يملكه؛ لأنه في أرضه الخاصة، قوله - صلى الله عليه وسلم - " من أحيا أرضا ليست لأحد فهو أحق بها " .
عام في أنواع الإحياء التي ذكرنا: بالحفر، أو بالحيطان، أو ما أشبهه؛ فهو أحق بها، هذا هو الإحياء.
هناك نوع ثان يسمى التحجر، التحجر: هو أن يبني جدارا قدر ذراع يحيطها بهذا الجدار، فيسمى هذا تحجرا ولا يسمى ملكا.
وكذلك لو حفر فيها بئرا، ولم يصل إلى الماء، لكنه حفر حتى حفر -مثلا- ثلاثة أمتار أو أربعة، ثم توقف؛ يسمى متحجرا تحجرها فهو أحق بها، وكذلك ورثته.
وكذلك لو أدار حولها أحجارا؛ هذا يسمى -أيضا- تحجرا، لا يملكها بحيث يتصرف فيها أو يبيعها، لكن له الأحقية ولوارثه بعده الأحقية والأقدمية، فإن تركها جاز لغيره أن يحييها، ولو قال: أبيعها. لم يملك بيعها؛ لأنه ما تملكها.
الثالث: الإقطاع، الإقطاع يكون من الحاكم، من الخليفة؛ وصفته إذا كانت الأراضي بورا وخشي الحاكم أن يحصل فيها منافسة، أو يحصل فيها شيء من المسابقات التي يحصل بها ضرر؛ فإنه يمنع إحياءها إلا بإذنه -بإذن الإمام- فعندئذ من أراد منها شيئا فإنه يقدم الطلب على الإمام فيمنحه، فتسمى منحته إقطاعا.(1/366)
يقال: أقطع الإمام فلانا أرضا زراعية، أقطعه أرضا سكنية -بمعنى: منحه وخوله- فلا يملك؛ فهذا الإقطاع لا يملك بها حتى يحيي، ولكن المقطع أحق؛ ولهذا يشترطون عليه أنك تحييها مثلا في سنتين، أو ثلاث سنوات، فإن لم تفعل وطلبها مستحق منحت للثاني.
هذه صفة المنيحة أو المنحة أو الإقطاع، إذا أقطعه الإمام فهو أحق بهذه الأرض، ويحددها له ويعطيه بقدر حاجته، فإن كان قويا وعنده إمكانيات أقطعه ولو عشرة كيلو، وإن كان متوسطا أقطعه -مثلا- كيلو أو قريبا منه، وإن كان أقل من ذلك أقطعه مائة متر، أو مائتين، أو نحو ذلك.
فالحاصل أن المقطع أحق بها، ولكن لا يملكها حتى يحييها. انتهينا من هذا الباب. باب الجعالة والإجارة
باب "الجعالة والإجارة" جعلهما في باب وإن كان بينهما اختلاف، قوله: وهي جعل مال معلوم لمن يعمل له عملا معلوما، أو مجهولا في الجعالة، ومعلوما في الإجارة.
عرفوا الإجارة بأنها: عقد على منفعة معلومة من عين معينة، أو موصوفة في الذمة، أو عمل معلوم بعوض معلوم، عقد على عين أو عمل؛ فإذا كان العقد على العين، أو على العمل فلا يستحق الأجرة حتى يحصل عليه.
العقد هنا على المنفعة مثل: سكنى الدار منفعة ينتفع بها الساكن بعوض معلوم: أجرتك الدار سنة بعشرة آلاف. هذا عقد على منفعة بعوض معلوم؛ فإذًا العقد هنا على المنفعة لا على العين.
إذا كان العقد على العين على الدار فهو بيع، وإذا كان على السكنى فهو إجارة عقد على منفعة، ثم لا بد أن تكون تلك المنفعة مباحة، فإذا كانت محرمة فلا تصح، فإذا أجره الدار ليعمل فيها خمرا فهي منفعة محرمة، أو ليجعلها مأوى لقطاع الطريق ونحوهم فهي محرمة.
كذلك لا بد أيضا أن يكون العمل مباحا، فالعقد -مثلا- بين المرأة والرجل على منفعة الزنا عقد على منفعة محرمة، العقد مثلا على ضرب الطبول ونحوها منفعة محرمة، العقد على المزامير وما أشبهها منفعة محرمة.(1/367)
فالعقد لا بد أن يكون على منفعة مباحة، وأن تكون المنفعة معينة معلومة -معلومة يعني: مقدرة محددة-، وأن تكون من عين معينة: كسكنى هذه الدار، وركوب هذا البعير أو هذه السيارة مثلا، والانتفاع بهذه الخيمة، الطبخ في هذا القدر، القطع بهذه الفأس أو بهذا المنجل، أو ما أشبه ذلك.
يعتبر هذا كله إجارة كل عين فيها منفعة يصح تأجيرها، إذا لم يجد من يتبرع استأجر، إذا لم يجد من يتبرع له بثوب جديد يلبسه في الحفلات وفي الأعياد جاز أن يستأجر ثوبا جديدا.
مثلا: يستأجرون الآن في الحفلات -مثلا- الفرش، ويستأجرون الخيام مثلا، ويستأجرون شبكات الأنوار مثلا، يستأجرون القدور للطبخ فيها، والأواني للشرب فيها أو للأكل فيها بأجرة؛ لأن هذه أجرة معينة مدتها معلومة فتصح تلك الأجرة؛ لأنه يقول: لست بحاجة إلى شرائها دائما، قد لا أحتاج إليها إلا يوما في السنة، أو يوما في السنتين، أستأجرها وأردها إلى مالكها، ولا حاجة لي في شرائها، وقد لا يجد ثمن الشراء فيحتاج إلى أن يستأجرها كالذين مثلا يؤجرون السيارات، تكون الأجرة معلومة يوميا كذا وكذا، أو الكيلو كذا وكذا، يعني: المنفعة معلومة، والأجرة معلومة العوض؛ هذه هي الإجارة.
فإذا كان العمل مجهولا فإنه يسمى جعالة، إذا قال مثلا: من رد علي لقطة -لقطة لك ضائعة، مثلا: خواتيم ذهب، أو أسورة من ذهب ضلت منك الذي يجدها تعطيه كذا وكذا، هذه تعتبر من الجعالة، كذلك إذا كان العمل غير محدد، كأن تقول -مثلا-: من بنى لي مترا في هذه الحائط فله كذا وكذا له مائة أو نصف المائة، ومن حفر من هذه البئر مترا فله مائة أو كذا؛ هذه أيضا تعتبر من الجعالة؛ حيث إن العقد مع غير معين ، يعني: الفرق بين الجعالة والإجارة الإجارة تكون مع معين: أجرتك -يا فلان- سيارتي أو بيتي. وأما الجعالة: من رد لي لقطتي، من رد لي ضالتي فله مائة ضالة كناقة -مثلا-، أو ضالة كدراهم لقطة من ردها فله مائة.(1/368)
نسمي هذه جعالة، من بنى من هذا الجدار مترا فله مائة. نسمي هذه جعالة، من حفر من هذه البئر مترا فله مائة أو خمسون. تعتبر هذه -أيضا- جعالة؛ لأنها غير معينة.
فإذا اجتمع جماعة وحفروا مترا من هذه البئر اقتسموا المائة، أو اجتمعوا فبنوا مترا اقتسموا المائة -مثلا-، فإن انفرد واحد فهو أحق بها، فإن فعلها إنسان قبل أن يبلغه الخبر فهو متبرع.
مر إنسان على جدار ساقط، فقال: سأحسن في صاحبه وأبنيه تبرعا. وبعدما كمل بناءه جاء الخبر: أن صاحبه جعل لمن بناه ألفا. ما يستحقها؛ لأنه متبرع، لكن إن أعطاه صاحبه تبرعا فله ذلك.
والحاصل: أن الجعالة جعل مال معلوم لمن يعمل له عملا مجهولا أو معلوما، كمتر حفر أو نحو ذلك، المجهول مثل: رد اللقطة، أو رد الضالة، والمعلوم مثل: حفر البئر أو بناء الحائط.
أما الإجارة فلا بد أن يكون العمل معلوما: كالطبخ في القدر مثلا ، والقطع بالفأس، وسكنى الدار، ولبس الثوب، واستعمال الخيمة -مثلا-؛ هذا عمل معلوم.
وإن اتفقا على أن يكون الكسب بينهما إذا قال -مثلا-: أعطني منجلا أقطع به حشيشا، أو فأسا أقطع بها حطبا، والكسب بيني وبينك جاز ذلك، أو أعطني سيفا أقاتل به والغنيمة بيني وبينك جاز ذلك؛ لأن هذا ولو كان مجهولا لكن مآله إلى العلم.
عرفنا أنها إما على عمل وإما على منفعة، فسكنى الدار تسمى منفعة، وبناء الجدار يسمى عملا، وكذلك ركوب البعير، وحلب الشاة -مثلا- والحمل على السيارة؛ هذه تسمى منفعة.
المنفعة تارة تكون في العين، وتارة تكون في الذمة، فالمنفعة في الذمة هي ما يتقبله الإنسان من الأعمال في الذمة، كأن يقول -مثلا-: استأجرتك أن تخيط لي هذا الثوب. الخياطة عمل في الذمة، أو تغسله مثلا، أو تخرز لي هذه القربة، أو تدبغ لي هذا الجلد. هذه كلها منفعة يتقبلها ذلك المستأجر في الذمة.
المنفعة قد تكون في الذمة، وقد تكون في عين.(1/369)
فالمنفعة في العين: سكنى الدار، وسكنى الخيمة، والطبخ في القدر، والحمل على الدابة، أو الحمل على السيارة.
والمنفعة التي في الذمة: كالأعمال التي يتقبلها بنفسه ويلتزم بها: كخياطة ثوب، أو قصارته، أو غسله، أو كيه، أو دباغة جلد -مثلا- أو خرازته قربة، أو خرازته نعالا مثلا ، ومثله -أيضا- عمل الطباخين يعتبر عملا في الذمة؛ لأنه يذبح الشاة -مثلا- ويقطعها ويطبخها وله أجرة معينة.
هذا عمل في الذمة، لا بد أن يفي بالعمل الموصوف الذي يوصف له عمل -أيضا- في الذمة، فمن فعل ما جعل عليه فيهما استحق الجعل هذا الجعل الذي جعل له يملكه يستحقه.
متى يستحقه؟ إذا انتهى من العمل، فإن لم ينته من العمل فلا يستحقه، فلو قدر -مثلا- أنك أسكنته في هذه الدار لمدة سنة وبعد ما مر شهر أخرجته منها ما تستحق أجرة؛ لأنك ما مكنته من العمل الذي ألزمته به.
ولو مثلا أجرته على أن يخيط هذا الثوب، فخاط نصفه، ثم تركه، هل يستحق أجرة؟ ما يستحق، لا يستحقها إلا بعد الانتهاء من العمل، وهكذا لو استأجرته أن يحفر هذه البئر إلى الماء، ثم إنه حفر نصفها وتركها لا يستحق شيئا؛ وذلك لأن الأجرة على الانتهاء من العمل وهكذا؛ فالعوض لا يستحقه إلا بعد الانتهاء من العمل كله، فإن لم يفعل فلا.
أما إذا تعذر العمل في الإجارة فإنه يتقسط العوض، تعذر -مثلا- استأجر سيارة، ثم إن السيارة خربت في أثناء الطريق، وقد استأجرها بمائة في أثناء الطريق خربت، استأجر سيارة أخرى توصله بخمسين؛ فالسيارة الأولى يستحق صاحبها نصف الأجرة لأنه قطع عليها نصف المدة.
وكذلك لو استأجر أرضا ليزرعها، ثم بعدما انتصفت السنة جف الماء -انقطع ماؤها-؛ انفسخت الإجارة في الباقي. فأجرها نصف سنة، ومضى ثلاثة أشهر وهو يسقي منها، فانقطع الماء؛ انفسخت في الباقي سواء عمله في الأرض، أو عمله في أرض أخرى.(1/370)
كأن يستخرج الماء من هذه البئر، ويجتذبه إلى أرض أخرى يسقي بها شجرا، فانقطع الماء؛ يستحق نصف الأجرة لأنه تعذر لا من قبل المالك، أمر من الله تعالى، فيتقسط العوض، أورد لنا هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته " .
هذا صحيح؛ لا أحد يقدر أن يخاصم الله تعالى. " رجل أعطى بي ثم غدر " الغدر هو الخلف، أعطى بي يعني: تعهد عاهد وتعهد، وقال لإنسان: لك عهد الله، لك ميثاقه أنني أوفيك في كذا، أو لا آخذ منك إلا قدر كذا أو كذا، ثم إنه غدر.
الغدر من صفات المنافقين؛ " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها " ذكر منها قوله: " وإذا عاهد غدر " فهذا معنى قوله: " أعطى بي ثم غدر " .
وفي حديث آخر أنه -عليه السلام- قال: " يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان " .
فالغدر كذب؛ وذلك لأنه يتوثق منك وتتوثق منه، ثم لا يفي بذلك. " رجل باع حرا فأكل ثمنه " أكل حراما؛ لأن بيع الحر حرام لأنه أتى إنسانا وظلمه، وقال: هذا مملوكي هذا عبدي، وباعه والناس ينظرون علنا، وأكل ثمنه؛ فإن هذا حرام.
الثالث: رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره، وهذا -أيضا- حرام؛ استأجره ولم يعطه أجره، يقع هذا كثيرا -والعياذ بالله- في هذه الأزمنة بالنسبة للعمالة يستقدمونهم كعمال، ويفرضون لهم هناك مثلا أن أجرتك ألف، فإذا جاء هنا لم يعطه إلا ستمائة مثلا أو نحوها، أليس هذا خيانة، وهذا كذب؟(1/371)
استأجر أجيرا واستوفى عمله، فالعمالة يعملون في شركات -مثلا- أو في مؤسسات أو في تموينات أو ما أشبه ذلك، ومع ذلك لا يعطونهم الذي اتفقوا عليه، حتى ذكر لي قبل يومين أحد العمال أنه جاء على كفالة شركة، وقد فرضوا له راتبا أربعمائة، وفرضوا له -أيضا- سكنى ونفقة، أن ينفقوا عليه وأن يسكنوه، ثم إنهم جعلوه خادما في مسجد، ولم يعطوه إلا غرفة صغيرة، ولكنها تكنه، أما الأجرة فبخسوه ولم يعطوه إلا مائتين وخمسين، أليس هذا ظلم؟
وقالوا: أكلك فيها. وماذا كسب؟ مائتان وخمسون أكله فيها وقد فرضوا له أربعمائة ليس فيها الأكل، لا شك أن هؤلاء ممن الله تعالى خصمهم.
يقول: الجعالة أوسع من الإجارة؛ لأنها تجوز على أعمل القرب، تجوز على أعمل القرب، يعني: مثل الحج إذا جعلت لمن يحج عن ميتك كذا وكذا، جعلت لمن يذبح أضحيتك أو فديتك كذا وكذا، من يذبحها ومن يوزعها مع أنها من القرب، أو لمن يبني هذا المسجد -بناء المسجد من القرب- يبنيه بأجرة كذا وكذا.
وكذلك فالأعمال أعمال القرب لا تصح فيها الأجرة؛ ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا " .
فجعلوا الأذان من القربات؛ فلا يصح أن يقول: أؤذن لكم بكذا وكذا، أو أؤمكم وأصلي بكم بكذا وكذا، يفرض على أهل الحي أو على المصلين أجرة على أنه يصلي بهم أو يؤذن لهم، استثنوا من ذلك الرزق من بيت المال؛ لا يصح أجرة ولكن يصح جعالة.
إذا قال -مثلا- صاحب المسجد: من أذن بهذا المسجد فإننا نتبرع له بكذا وكذا دون أن يكون هناك أجرة؛ فإنه يأخذها من استقام في إمامة المسجد، أو في خدمة المسجد -مثلا-، أو في حراسة المسجد، أو في حراسة المدرسة الخيرية، أو ما أشبه ذلك فله كذا وكذا تسمى هذه جعالة.
الجعالة تصح على أعمال القرب؛ لأن العمل يكون فيها، يكون معلوما أو مجهولا، قد يكون مجهولا كأن يكون -مثلا- الحراسة تارة نصف الليل، أو تارة الليل كله، أو ما أشبه ذلك.(1/372)
ثم هي عقد جائز، الجعالة عقد جائز؛ لأنه يصح أن يبطله فيقول: أبطلت بناء هذا الحائط، وحفر هذه البئر، وسقي هذا الشجر؛ ولأنها مع غير معين، والإجارة مع معين.
يقول: وتجوز إجارة العين المؤجرة على من يقوم مقامه، لا بأكثر منه ضررا. الصواب: لا بأكثر ضررا منه، صورة ذلك: إذا استأجرت سيارة تحمل عليها قَدْر -مثلا- ثلاثمائة أو أربعمائة كيلو، سيارة صغيرة تحمل عليها عائلتك ونحوهم، استأجرتها شهرا، وانتهيت منها في عشرة أيام؛ لك أن تؤجرها على من يحمل عليها مثل حملك ثلاثمائة كيلو أو أقل، لا على من هو أكثر منك أربعمائة كيلو، أو ثلاثمائة وخمسين، أو ما أشبه ذلك، فلا يجوز.
كذلك -مثلا- إذا استأجرت هذه الشقة لمدة سنة، وانتهيت منها في نصف السنة، نصف السنة الباقي لك تقدر أن تؤجره، ولكن على من هو مثلك لا على من هو أكثر منك ضررا، فتؤجره على من يسكن، لا تؤجره -مثلا- على حداد أو على نجار أو على صاحب بقر مثلا ؛ لأن البقر -مثلا- أو الخيل أو نحوه قد تحفر الأرض أو ما أشبه ذلك، أو يتسخ المكان.
فالحاصل: أنه يجوز أن يؤجرها على من هو مثله لا على من هو أكثر منه ضررا، ويقال: هكذا مع بقية الأشياء التي تؤجر، يعني: الخيام والقدور والأواني وما أشبهها.
يقول: ولا ضمان فيها بدون تعد ولا تفريط. سقطت الواو من "ولا " بدون تعد ولا تفريط: إذا -مثلا- أنه استأجر السيارة، ثم خربت بدون أن يحمل كثيرا، أو بدون أن يهملها؛ فإنه لا ضمان عليه، أما إذا حملها ما لا تطيق، فهذا ماذا نسميه؟ تعد.
أو مثلا أهملها في مكان بعيد، فجاء اللصوص وأخذوا منها أدوات، وخربوا -مثلا- عجلاتها وما أشبهها؛ فإنه والحال هذه يعتبر مفرطا فيضمن.
أو -مثلا- لما انتهى من الدار تركها مفتوحة، فجاء العابثون وعبثوا بها، فكسروا بلاطها وكسروا غسالاتها -مثلا-، وكسروا أنوارها وما أشبه ذلك، أو اختطفوا منها أشياء من أنوار كهربائية، وأدوات وما أشبه ذلك، أليس هذا تفريطا؟ يضمن.(1/373)
أما إذا تلفت بالاستعمال -يعني: تمزقت الفرش بالاستعمال- معلوم أنه يجلس عليها، ويجلس عليها زواره، الفرش -مثلا- أو الكنب، أو ما أشبهه فالاستعمال مباح له.
ختم هذا الباب بقوله - صلى الله عليه وسلم - " أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه " حث على المستأجر أن يدفع الإيجار، وكذلك على صاحب العمل أن يعطي العامل أجرته.
العامل الذي يعمل عندك في حراسة مثلا ، أو في مساعدة في متجر، أو في ورشة مثلا ؛ هذا العامل إذا انتهى عمله فإنك تعطيه أجره، فإن كان بالشهر فتعطيه أجره في آخر يوم من الشهر، وإن كان باليوم فتعطيه أجره إذا طلبه يوميا، وإن لم يطلبه قال: دعه عندك. فلك أن تتركه. باب اللقطة
الباب الذي بعده باب "اللقطة" وهي: مال أو مختص ضل عن ربه وتتبعه همة أوساط الناس.
الفرق بين المال والمختص: المال هو الذي يجوز بيعه، والمختص هو الذي لا يجوز بيعه، ولكن صاحبه أولى به: ككلب الصيد لا يجوز بيعه، ولكن صاحبه أحق به، وكذلك جلد الميتة على القول بأنه لا يطهر. صاحبه أحق به، يسمى مختصا، وأما المال فهو الذي يملك.
كذلك -أيضا- من المختص الأوقاف الكتب المسبلة، ولكن اختصاصها لفلان، إذا وجدتها فإنك تردها عليه.
ذكر أن اللقطة ثلاثة أضرب:
الأول: ما تقل قيمته فيملك بلا تعريف، فإذا وجدت رغيفا -يعني: قطعة خبز- تملكها بلا تعريف، أو وجدت حبلا صغيرا أو خيطا، أو وجدت عصا عادية ساقطة في الأرض؛ ثبت " أنه - صلى الله عليه وسلم - وجد تمرة في الطريق فرفعها وقال: لولا أن تكون من الزكاة لأكلتها " .
فمثل هذا يتسامح فيه؛ لأنه إذا فقده صاحبه عادة لا يسعى في طلبه، إذا سقطت منه تمرة لا يرجع إليها، ويقول: من وجد التمرة؟ تذهب عليه ولا يهمه، وهكذا الرغيف، يعني: كسرة خبز أو نحوها.(1/374)
الثاني: الضوال وهي: التي تمتنع من صغار السباع: الإبل والبقر عادة تمتنع من السبع، فإذا وجدتها فلا تتعرض لها كما يأتينا في الحديث، أما الغنم فإنها لا تمتنع من السبع، فإذا وجدتها بالبرية فخذها واحتفظ بها لصحابها.
يقول الثالث: ما سوى ذلك ما عدا ذلك من بقية الأموال فيجوز التقاطه، وهل الأفضل التقاطه أو تركه؟ إذا وجدت دراهم -مثلا- ساقطة في الطريق هل الأفضل أن تأخذها أو تتركها؟ إن كنت تؤمل أن صاحبها سيرجع فاتركها، وإن كنت تخاف أن هناك من يأخذها ويخفيها، وأنت تأخذها وتعرفها فخذها، وإن استوى الأمران فلك الخيار، فإذا كان المكان فيه كثرة غوغاء أو كثرة أناس، وأن من وجدها يغلب على أنه سيخيفها كثرة من لا يرى++ فالأفضل لك أن تأخذها، وأن تحرص على تعريفها.
التعريف سنة إذا كان لها قيمة: كأن وجدت مثلا مائة ريال أو ألف، أو وجدت مثلا قطع ذهب: أسورة مثلا ، أو وجدت متاعا له قيمة وجدت كقماش له قيمة، قيمته لا تقل عن مائة أو خمسين أو نحو ذلك تتبعه همة الأوساط من الناس.
الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الفقراء والضعفاء هؤلاء قد يهمهم فقد الريال أو الخمسة فيطلبونها، وأوساط الناس يهتم -مثلا- من الخمسين ولا يهتم من العشرة، وأكابر الناس لا يهمه ولو سقط منه ألف أو ألفان لا تضره ولا يهمه؛ فنجعل الوسط هم العبرة، إذا كان تتبعه همة أوساط الناس فإنه يعرف سنة، وبعد سنة يملكها.
وفي الباب هذا الحديث عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسأله عن اللقطة؛ فقال: اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة، فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها " كأن اللقطة هنا هي النقود.(1/375)
وقد يدخل فيها الحلي وما أشبهه؛ وذلك لأن النقود هي التي تحتاج إلى عفاص، والعفاص: هو الخرقة التي تكون فيها، عادة أنها تكون في وعاء في خرقة -مثلا- أو في جراب، أو في الآن ما يسمى بالأبواك فهذا يسمى عفاصها، أي: وعاءها الذي هي فيه.
الوكاء: الخيط التي تربط فيه فيقول: اعرف ذلك اكتب أوصافها أنها -مثلا- في خرقة قماش، أو في قطعة جلد أو في جراب من أدم أو في -مثلا- ما يسمى بالجعبة اكتبها، واكتب وكاءها -الخيط- أنه خيط شعر -مثلا- أو مطاط أو ما أشبهه، اكتبه واكتب عددها أنها -مثلا- ألف أو مائة، واكتب -أيضا- فئتها أنها من فئة المائة، أو من فئة الخمسين، أو من فئة العشرة، فإذا كتبت ذلك فعرفها.
التعريف في الأسواق وعند أبواب المساجد، ما يجوز التعريف في المساجد، عند أبواب المساجد وفي المجتمعات وفي الحفلات: من له لقطة، من له مال، من له ضالة. ولا تذكر أوصافها حتى لا يطمع فيها من ليس بصاحب لها، فإذا جاء صاحبها فلا بد أن يذكر أوصافها لك، فيقول: عفاصها لونه كذا، وعددها كذا وكذا، فإذا تطابق وصفه مع ما عندك فإنك تعرف أنه صاحبها فحينئذ تسلمها له، فإذا لم تجده فإنها تدخل في ملكك بعد السنة؛ لقوله: " فشأنك بها " .
ولكن اكتب أوصافها لو جاء بعد خمس سنين أو عشر فإنه صاحبها، وهو أحق بها وأملك بها.
كثيرا ما يسأل بعضهم أنه وجدها وكتمها ولم يعرفها إلا بعد شهرين أو ثلاثة أشهر، صاحبها إذا لم يسمع الخبر عنها في الأسبوع الأول، أو في الأسبوعين ظن أن الذي أخذها سيجحدها فيقطع الرجاء ولا يطلبها، فالأولى أن يعرف بها في الأسبوع الأول كل يوم مرتين أو ثلاث مرات، وفي الشهر الأول يعرف بها كل يوم، وفي الشهر الثاني كل يومين، وفي بقية الأشهر يعرف كل أسبوع مرتين حتى تنتهي السنة.(1/376)
يمكن في آخر السنة يقتصر على التعريف في الجمع، وفي المجتمعات وما أشبه ذلك، وأجرة المعرف منها، يدفع أجرته منها، فإن عرفها هو ثم جاء صاحبها فيعطيها منها أجرته. سأله عن ضالة الغنم؛ فقال: " لك أو لأخيك أو للذئب " يعني لا تتركها سيما إذا كانت في أرض مسبعة.
ومن رعى غنما في أرضِ مسبعةٍ
ونام عنها تولى رعيها الأسد
فلا تتركها عليك أن تأخذها وتحفظها لصاحبها، لكن في هذه الأزمنة -بالأخص في هذه البلاد- كأن السباع قلَّت؛ لأنه بواسطة هذه الأسلحة وبواسطة السيارات أخذوا يلاحقونها، وقتلوها و خفت، فيمكن أن تبقى الغنم يومين أو ثلاثة أيام لم يأتها سبع، لكن معلوم -أيضا- أنها عرضة للموت بالظمأ، إذا بقيت شدة الصيف يومين ثلاثة أيام قد تموت من الظمأ فأخذها أولى.
أما ضالة الإبل فقال: " ما لك ولها معها سقاؤها وحذاؤها سقاؤها " يعنى: بطنها إذا شربت ملأت بطنها فتمكث أسبوعا، أو خمسة أيام ما تحتاج إلى الماء، حذاؤها: خفافها خفها تقطع البراري، وتمتنع من السباع: " ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها " .
انتهى من اللقطة. ذكر -أيضا- اللقيط، اللقيط: هو طفل لا يعرف نسبه ولا رقه، نبذ أو ضل، يعني: إذا وجدت طفلا ولو -مثلا- ابن يوم أو ابن ساعة منبوذا في زاوية وهو حي فأَخْذه فرض كفاية؛ وذلك لأنه نفس محترمة، فمن أخذه وأرضعه ورباه فإن له أجرا؛ حيث أحيا نفسا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا فيحرص على أخذه.
وكذلك لو كان كبيرا لو كان ابن شهرين، أو ابن خمسة أشهر، أو ابن سنة، ولكن إذا ترك مات؛ فإنه يؤخذ.
التقاط اللقيط والقيام به فرض كفاية، يعني ونفقته من بيت المال، فإن تعذر نفقته من بيت المال فالنفقة على من علم حاله من المسلمين، فإذا أخذته وأنت عاجز فعلى المحسنين أن يعطوك نفقته حتى يترعرع، فإذا جاءك إنسان وقال، هذا ولدي. وأقام بينة أو قامت قرائن؛ فإنك تسلمه له. باب المسابقة والمغالبة(1/377)
يقول: باب "المسابقة والمغالبة" قد أدخلوا هذا الباب مع أنه قد تقول: ما مناسبته؟ هذا الباب يدخل فيه المسابقة على الخيل، والمسابقة على الرمي، والمسابقة على الإبل، والمسابقة على الأقدام، وكذلك -أيضا- المسابقة بالمصارعة -المصارعة يعني: أيهما يقوى يصرع الآخر- وتسمى المغالبة.
وفي هذه الأزمنة -أيضا- ما يسمى بالمباريات الرياضية المسابقة فيها، والمغالبة القصد منها أصلا التمرن على القوة على قوة السير، وعلى سرعة الجري، فيمرن الفرس على سرعة الجري أيهما أسرع، وأيهما أكثر جريا، وكذلك يمرن البعير على سرعة السير وعلى قوته.
وكذلك -أيضا- هو إذا سابق على قدميه يتمرن ويكتسب قوة ورياضة بدنية، وكذلك إذا تسابقوا بالرمي أيهم يصيب الهدف إذا نصبوا هدفا ثم أخذوا يرمونه بالسهام، قديما كان الرمي بالسهام التي تجعل في القوس، والآن بالرصاص المعروف، والحكم واحد.
فإذا نصبوا هدفا من أصابه فله كذا. في هذه الحال يصح ويكون له العوض، وذلك ليتدربوا، وفي التدرب قوة تقوية البدن على الطلب وعلى الهرب، وكذلك التقوية على إصابة الهدف حتى إذا تقابل مع العدو وإذا هو قد عرف كيفية الرمي واستطاع أن يصيب من يرميه من العدو ولا يصاب، فمثل هذا جائز وفيه منفعة، وقد تكلم عليه العلماء قديما.
ولعلكم قرأتم أو بعضكم كتاب الفروسية لابن القيم؛ فإنه تكلم فيه على هذه المسابقات، وعلى الخيل وركوب الخيل وما أشبهها، والجري عليها وركوب الإبل، والمسابقة في الرمي وما أشبه ذلك.
يقول: وهي ثلاثة أنواع: نوع يجوز بعوض وبغير عوض وهي المسابقة على الخيل، والإبل، والسهام؛ ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - سابق على الخيل وكانت قسمين: قسم مضمرة، وقسم غير مضمرة، فالمضمرة جعل لها اثني عشرة ميلا -الميل: يقترب من كيلوين إلا ربع- وغير المضمرة ميلا واحدا؛ وذلك لأن المضمرة خفيفة قوية وخفيفة.(1/378)
التضمير: أنهم يعلفونها حتى تسمن، فإذا سمنت وقويت عضلاتها اكتسبت شحما ضمروها -يعني: قطعوا عنها العلف ثلاثة أيام حتى تخف ويخف بطنها، ولكن جرمها قوي، ثم علفوها في اليوم الأخير علفا يسد الجوع بقدرها-، فإذا سعت وإذا هي خفيفة وقوية فلا يهمها، ولو سعت نصف يوم هذه المضمرة.
أما العادية فإنها غير المضمرة، ويجعل للسابق عوضا: أيكم سبق فله مائة أو ألف على هذه الخيل، كذلك المسابقة على الإبل، وتسمى النجائب -النجيب: هي الذلول المذللة-، المسابقة عليها -أيضا- تصح بعوض: من سبق بعيره أو جمله أو ناقته فله مائة، وللثاني -مثلا- خمسون، وللثالثة أربعون وهكذا، كذلك السهام -يعني-: الرمي- من أصاب الهدف أصابه في وسطه فله مائة، ثم الثاني كذلك له خمسون، وهكذا ... هذه مسابقة نافعة؛ لأن فيها تدرب على الكر والفر والرمي.
النوع الثاني: يجوز بلا عوض ولا يجوز بعوض جميع المغالبات غير المسابقات المذكورة، يعني: المسابقة على الأقدام، المسابقة على السيارات أو على الدراجات نارية أو عادية -مثلا-، أو على.. مثلوا بالسفن السفن البحرية المسابقة عليها -أيضا- جائزة، ولكن بدون عوض يتسابقون لأجل التمرن بدون أن يكون فيه عوض.
أما المغالبة بالنرد والشطرنج فإنها محرمة لأنها من الملاهي، وهي من القمار، مغالبة أهل اللعب بما يسمى بالبالوت أو ما أشبهه: من غلب فله كذا؛ هذه محرمة لأنها عوض على حرام، وكذلك الشطرنج -اللعبة المعروفة- التي هي آلة لهو ذكروا أن عليا - رضي الله عنه - مر على قوم يلعبون بالشطرنج فالتفت إليهم وقال: "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون".
شبهها بالأصنام ومع ذلك وللأسف يكب عليها كثير فيقطعون عليها ليلهم، وكذلك جميع المغالبات هذه بما يسمى بالآلات التي يلعبون بها حتى السلة وما أشبه ذلك، أما المغالبة بالمباريات الكروية اللعب هذا، فإذا كان اللعب لأجل التدرب فيمكن أنه يباح فيها العوض من باب التشجيع.(1/379)
النوع الثالث: يعني عرفنا أن النوع الثالث المحرم النرد والشطرنج.
أصبحت ثلاثة: نوع فيه عوض: الخيل، والسهام، والإبل. ونوع بلا عوض: المسابقة على الأقدام، وعلى السفن، وعلى السيارات وما أشبهها. ونوع محرم: النرد، والشطرنج، وآلات اللعب، أورد الحديث: " لا سَبَقَ إلا في نصل أو خف أو حافر " .
الفرق بين السَبْق والسَبَق:
السَبْق: هو المسابقة وتسمى السباق. والسَبَق: هو العوض، المال الذي يدفع للسابق يسمى سَبَقا، أي: لا عوض إلا في مسابقة على خف -يعني: الإبل-، أو حافر -يعني: الخيل-، أو نصل -يعني: السهام الرمي-، أما ما سواها فإنها داخلة في القمار والميسر، يعني: إن كانت بالنرد والشطرنج فهي محرمة من جهتين، وإن كانت بالسباق على الأقدام وعلى السيارات وما أشبهها فإنها داخلة في الميسر. باب الغصب
ذكر بعد ذلك باب "الغصب"، وهو: الاستيلاء على مال الغير بغير حق. "على مال الغير" عبر بـ (مال) وإن كان يدخل فيه المختص كما تقدم في اللقطة، يعني: لا يجوز أن يغتصب كلب الصيد، ولا جلد الميتة المدبوغ أو غير المدبوغ من صاحبه الذي اختص به.
يعم ذلك غصب المنقول وغصب غير المنقول، فغصب المنقول: أن يغصب إنسانا ويأخذ منه دراهمه قهرا، أو سيارته قهرا -مثلا-، وغصب غير المنقول: أن يأتيه في أرضه أو في بيته فيخرجه فيقول: لا أرض لك، لا بيت لك، اخرج، أخرج عفشك. هذا غصب ولو -مثلا- أنه ما دخله، لو جاء ظالم من الظلمة، وقال لصاحب هذا المنزل: اخرج من البيت وإلا قتلتك. خاف من البيت وخرج وترك متاعه فيه، يسمى هذا غاصبا ولو أنه ما استلمه، ولو أنه ما دخله.(1/380)
فالغصب: هو الاستيلاء على حق الغير بغير حق. لماذا قالوا بغير حق؟ لأن هناك استيلاء بحق وهو الاستيلاء على مال اليتيم، فالاستيلاء على مال الغير بحق كالوكيل على مال اليتيم هذا بحق، وكذلك على مال المفلس كما تقدم استيلاء بحق، أما بغير حق؛ فإنه محرم ويعم ذلك الأرض؛ يقول - صلى الله عليه وسلم - " من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين " شبرا.
هذا الحديث متفق عليه، ذكروا في سببه أن سعيد بن زيد وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة اتهمته امرأة يقال لها: "أروى" بأنه أخذ من أرضها، فعند ذلك ترافعوا إلى عمر أو إلى عثمان، فقال: أنا آخذ من أرضها وقد سمعت ما سمعت؟!
ماذا سمعت؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أخذ شبرا من الأرض ظلما طوقه من سبع أرضين " فعند ذلك أعفوه من البينة، وقالوا: لم تظلم. وهي التي دعا عليها بقوله: اللهم أطل عمرها، وأعم بصرها، واقتلها في أرضها. فأصابتها دعوة سعيد.
يقول: الغاصب ماذا يلزمه؟ يلزمه رده، ما تتم توبته إلا برد المغصوب على صاحبه، ولو غرم أضعافه، لو تصرف فيه فإنه يرده، فلو -مثلا- غصب خشبا وأصلحه أبوابا، وغرم عليه قيمته مرتين، نقول: هذه الأعيان ملك المغصوب فردها عليه ولو أصلحتها ما تحل لك.
ولو -مثلا- غصب جلدا مدبوغا ثم إنه خرزه قربة أو جرابا أو عكة -تعب عليه- يلزمه رده رد عينه، ولو خسر عليه ولا شيء له، غصب أرضا، ثم إنه حفر فيها، وغرس فيها، وبنى فيها، وتعب فيها، ما تبرأ ذمته إلا بردها، وله عين ماله: انقض بناءك، اهدم جدرانك وحيطانك، اقلع شجرك، لك عين مالك.
شجرك الذي سقيته اقلعه، واترك الأرض وردها على صاحبها، هذا يلزمه ولو غرم أضعافه، وعليه نفقته وأجرته مدة مقامه بيده، إذا غصب شاة فلا يتركها تموت ينفق عليها، فإذا حلبها فعليه قيمة اللبن.(1/381)
وكذلك إذا غصب شيئا له أجرة: غصب دارا ولم يسكنها فيلزم بأجرتها مدة بقائها بيده، إذا غصب -مثلا- سيارة ولكنه أوقفها يلزم بأجرتها مدة بقائها عنده ولو لم يستعملها؛ وذلك أنه فوت منفعتها على صاحبها، أجرتها مدة بقائها بيده إذا تلفت يضمنها.
إذا ماتت الشاة عنده -مثلا-، أو فسدت الخضر: اغتصب منه خضرا وتركها حتى فسدت، أو فواكه يضمنها لصاحبها، فإذا زاد يلزمه رد الزيادة، فإذا غصب شاة وولدت الشاة يردها وولدها، وإذا أخذ جزتها يردها وقيمة الجزة مثلا.
إذا غصب أرضا فغرس أو بنى فلربه قلعه، صاحب الأرض يلزمه فيقول له: اقلع شجرك، اهدم بناءك، ويستدلون بالحديث: " ليس لعرق ظالم حق " يعني: هذا العرق عرق هذه الشجرة ظالم في هذه الأرض، ليس له حق في التملك: " ليس لعرق ظالم حق " .
من انتقلت إليه العين من الغاصب وهو عالم فحكمه حكم الغاصب، مثلا اشتريت البيت المغصوب وأنت تعلم أنه مغصوب أنت شريك له، تعتبر أنت غاصبا، أو مثلا- اشتريت الأمة المغصوبة حرام عليك أن تطأها وأنت تعلم أنها مغصوبة.
أو -مثلا- زوجك هذه الأمة التي غصبها حرام عليك أن تتزوجها وأنت تعلم أنها مغصوبة؛ لأنها ليست ملكه، أو -مثلا- جاء من هو أقوى منه وغصبه، فكل منهما ظالم الغاصب من الغاصب أو ما أشبه ذلك، وهكذا تصرفات الغاصب باطلة التي لها أحكام، فبيعه باطل؛ لأنه باع ما لا يملك، وتأجيره باطل إذا أجر الأرض المغصوبة أو البيت المغصوب.
ومثلا: السيارة المغصوبة كل ذلك يعتبر لا حق له فيه، ومن ساعده فإنه يعتبر شريكا له. باب العارية والوديعة
بعده "العارية والوديعة"؛ العارية: إباحة مال لمن ينتفع به ولا يملكه، وهي مستحبة؛ لأنها من التعاون على البر والتقوى.(1/382)
إذا طلبك أخوك أن تعيره كتابا يطالع فيه عارية ثم يرده عليك لك أجر، أو قدرا يطبخ فيه، أو -مثلا- فراشا يفرشه ثم يرده، أو خيمة ينزل فيها يوما ثم يردها عارية، أو سيارة -مثلا- يذهب عليها ثم يرجع يوما أو نصف يوم عارية؛ هذه منفعة ولكنها مضمونة؛ مضمونة لأنه في حديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار من صفوان بن أمية أدرعا للقتال في غزوة حنين، فقال صفوان قبل أن يسلم: أغصبا يا محمد. فقال: بل عارية مضمونة " .
الدروع هي التي يلبسها المقاتل تقيه من وقع السلاح، فجعلها عارية وذكر أنها مضمونة، مستحبة في المعروف؛ لأن ذلك من التعاون على الخير: " كل معروف صدقة " .
ولو -مثلا- أنها نقصت قيمتها لو لبس الثوب في أيام حفل ونقصت قيمته فلك أجر؛ حيث أعرته هذا، أو نقصت قيمة القدر الذي طبخ فيه، أو السيارة التي ركبها، أو البعير الذي حمل عليه، أو ما أشبه ذلك.
إذا شرط ضمانها ضمنها، والصحيح أن الأصل في ضمانها إلا إذا أسقطه، إذا قال: إن تلفت فلا حرج عليك، إن تلف البعير ومات تحتك فلا تضمن، إن خربت السيارة وأصلحتها أو احتاجت إلى إصلاح فلا إثم عليك، يضمنها إن تعدى أو فرط، وإلا فلا.
إن تعدى أو فرط أو شرط ضمانها أو نحو ذلك، إذا تعدى -مثلا- ذكرنا التعدي: هو أن يحملها ما لا تطيق -مثلا-، أو يعرضها للتلف.
والتفريط: أن يهملها، أهملها بلا علف فماتت، أو أهملها -مثلا- بدون وقود فخربت الماكينة بدون زيت أو نحوه يضمنها، وإلا فلا.
ومن أودع وديعة فعلية حفظها في حرز مثلها، ولا ينتفع بها بغير إذن ربها، الوديعة أمانة، أمانة عند المودع فيحفظها في حرز مثلها، فإن فرط أو تعدى ضمن، وإلا فلا. نكتفي بهذا. باب الشفعة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد(1/383)
باب الشفعة عرفها بقوله: وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد من انتقلت إليه ببيع ونحوه، الاستحقاق لانتزاع حصة شريكه، الانتزاع هو الأخذ بقوة يعني كأن الشفيع يأخذها بغير رضا المشتري؛ لأنه أحق بها.
وصورتها إذا كانت الأرض مشتركة بين اثنين أو الدار مشتركة بين اثنين، ثم إن أحد الشريكين باع عليك نصفه ولم يعلم شريكه، فإن شريكه ينتزع هذا النصف منك ويعطيك ثمنك الذي دفعت ويقول: أنا أحق به، بالثمن؛ لأني لي نصفه وأحب أن يكون كله لي؛ لأن الشركة فيها ضرر فلا أحب أن يكون لي شريك في هذا البيت أو في هذا البستان أو في هذه الأرض، فإن الشريك قد يضايقني.
الشركة قد تحصل بسبب من الإنسان وتحصل بغير سبب، فمثلا الإرث: إذا كان لأبيه أرض مات الأب وورثها ولداه أصبحت بينهما نصفين، باع أحدهما عليك نصفه أخوه يقول: أنا أحق بأرض أخي، أنا أحق بالنصف حتى لا يكون لي شريك، يأتي إليك ويقول: خذ دراهمك ولا أرض لك، ولا يشترط رضا المشتري؛ ولهذا قال: انتزاع حصة شريكه، وكذلك لو وهبت... إذا وهب لهما بيت، اثنان وهب لهما أمير مثلا أو نحوه بيتا هبة، ثم إن أحدهما باع نصفه، فإن الآخر يأخذ هذا النصف المبيع من المشتري ويعطيه ثمنه ويسمى هذا شفعة، واشتقاقها من الشفع الذي هو العدد الزوج، الاثنين يسمى شفعا، فكأنه يقول: لي سهم فآخذ السهم الثاني، وأضمه إلى سهمي بدل ما كان وترا يصبح شفعا.(1/384)
هذا أصل الشفعة، يقول: خاصة بالعقار الذي لم يقسم فلا يحتاج إليها في المنقولات؛ لأن الضرر فيها قليل، إذا كان بينهما مثلا سيف. السيف ما في الاشتراك فيه ضرر، يصح أن يبيع نصفه ويبقى بينهما، بخلاف العقار، كذلك أيضا ما يقسم، إذا كان بينهما كيس فباع أحدهما نصفه ما فيه شفعة؛ لأنه يمكن أن يقسم، يقسم أنصاف الصاع أو بالكيلو فيأخذ كل منهما نصفه، أما إذا كان بينهما دكان صغير مثلا، وكل منهما يحب أن يكون كله له فباع أحدهما نصفه، فصاحبه له الحق في أخذ النصف من مشتريه، قول جابر - رضي الله عنه - قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. ما دامت الأرض مشاعة فالشفعة باقية، الأرض مشاعة أنت لك نصفها كله وهو له نصفها كله، ليس نصفك هنا ونصفه هنا بل الأرض مشاعة بينكما، أما إذا قسمت، قسمت نصفين، يعني: من هنا مثلا مائة متر، ومن هنا مثلا مائة متر وحدد بينهما بحدود ورسمت برسوم، وصرفت أنت بابك من هنا وطريقك من هنا وأنا طريقي من هنا، حددت فها هنا ليس هناك شفعة، وقعت الحدود الرسوم، وصرفت الطرق، هذا طريقه من شمال وهذا طريقه من جنوب صرفت الطرق فلا شفعة، أما قبل قسمها فإن... ففيها الشفعة.(1/385)
لكن إذا كان بينهما شيء مشترك لم يقسم، كما لو مثلا أنهما قسما الأرض وبقيت البئر ما قسمت، يسقي منها هذا ويسقي منها هذا، ففي هذه الحال إذا بيعت فله الشفعة، يقول: حتى آخذ البئر وآخذ الأرض ولا يكون لي من يشاركني في هذه البئر أو مثلا قسمت الأرض وبقيت القصور (المساكن) باع أحدهما نصفه والمساكن بينهما ما قسمت فإنها تثبت الشفعة، أو مثلا قسم البيت، البيت واسع وقسم جعل هذا له طريقه من جنوب وهذا طريقه من شمال، ولكن بينهما شيء لا يزال لم يقسم كمثلا البئر أو البيارة أو غرفة لا تزال باقية أو منفعة مثلا ينتفعان بها، ففي هذه الحال الشفعة باقية، أما إذا صرفت الطريق ولم يبق بينهما شيء فلا، يقول: ولا يحل التحايل لإسقاطها، لو مثلا أنه قال: أنا شريتها بدون ثمن جعلتها مهرا للزوجة، معلوم أن المهر مقابل الاستمتاع فتسقط الشفعة، أو مثلا قال: أنا سبلتها هذا تحيل إذا كان أنه حيلة لإسقاطها، فإن هذه الحيلة باطلة " إنما الأعمال بالنيات " إذا تحيل فإنها لا تسقط.
نواصل القراءة.
باب الوقف
وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنافع وهو من أفضل القرب وأنفعها إذا كان على جهة بر، وسلم من الظلم لحديث " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " رواه مسلم وعن ابن عمر قال: " أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال: فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، فتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صديقا غير متمول مالا " متفق عليه.(1/386)
وأفضله أنفعه المسلمين، وينعقد بالقول الدال على الوقف، ويرجع في مصارف الوقف وشروطه إلى شرط الواقف حيث وافق الشرع، ولا يباع إلا أن تتعطل منافعه فيباع، ويجعل في مثله أو بعض مثله.
باب الهبة والعطية والوصية: وهى من عقود التبرعات، فالهبة: التبرع بالمال في حال الحياة والصحة، والعطية التبرع به في مرض موته المخوف، والوصية التبرع به بعد الوفاة، فالجميع داخل في الإحسان والبر، فالهبة من رأس المال، والعطية والوصية من الثلث فأقل لغير وارث، فإن زاد عن الثلث أو كان لوارث توقف على إجازة الورثة الراشدين، وكلها يجب فيها العدل بين أولاده لحديث: " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " متفق عليه.
وبعد تقبيض الهبة وقبولها لا يحل الرجوع فيها لحديث: " العائد في هبته كالكلب يقيء ، ثم يعود في قيئه " متفق عليه، وفي الحديث الآخر: " لا يحل لرجل مسلم أن يعطي العطية، ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده " رواه أهل السنن، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها، وللأب أن يتملك من مال ولده ما شاء ما لم يضره أو يعطيه لولد آخر أو يكون بمرض موت أحدهما لحديث: " أنت ومالك لأبيك " وعن ابن عمر مرفوعا: " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " متفق عليه، وفي الحديث " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " رواه أهل السنن، وفي لفظ " إلا أن يشاء الورثة " وينبغي لمن ليس عنده شيء يحصل منه إغناء ورثته ألا يوصي بل يدع التركة كلها لورثته كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " متفق عليه، والخير مطلوب في جميع الأحوال.(1/387)
الوقف: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، ويصح في كل عين فيها منفعة وينتفع بها، وسواء كان الوقف على معين أو على غير معين، الوقف من أفضل القرب وأنفعها إذا كان على جهة بر، وسلم من الظلم، فهو قربة من القربات؛ وذلك لأن الإنسان يريد أن يبقى له أجر بعد موته، في هذا الحديث يقول - صلى الله عليه وسلم - " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " فهذه الثلاث هي التي تبقي.
الصدقة الجارية هي الوقف، وكذلك أيضا العلم الذي ينتفع به قد يدخل فيه وقف الكتب إذا كان عنده كتب وسبلها وحبس الأصل، الأصل الكتاب هذا يكون وقفا من أراد أن يقرأ فيه فلا يرد بشرط الحفظ والصيانة، فيبقى أجر الواقف مستمرا ما دام ينتفع بهذا الكتاب، كذلك أيضا وقف الأشياء التي فيها منفعة، كانوا يقفون بعض الأشياء التي ينتفع بها الناس في ذلك الزمان يسبلونها؛ لأجل أن ينتفع بها العادي، فمثلا القدر لمن يطبخ فيه ليس كل أحد يملك قدرا فيقول: هذه القدور مسبلة لمن يطبخ فيها، كذلك أيضا الأدوات: المنجل لمن يقطع به، الفأس لمن يحتطب بها، ثم يردها، الصحن لمن يحتاج إليه لطبخ أو نحوه، الأواني لمن يحتاج إليها لشرب، ثم يردها إذا استغنى عنها، كذلك أيضا الأدوات الجديدة أيضا يصح أن تسبل إذا كان ينتفع بها منفعة ليس فيها مضرة.(1/388)
يعني: مثلا السيارة أو الماكينة أو ماكينة الخياطة لمن يحتاج إليها تسبل ويستمر أجر الذي سبلها أو الغسّالة أو ماكينة الخياطة أو الثلاجة أو ما أشبهها، كانوا يسبلون القرب لتبريد الماء جاءت بدلها هذه البرادات فيها أيضا منفعة الذي يسبلها يكون له أجر حيث إن فيها منفعة لمن يحتاج إلى شرب الماء البارد وما أشبهه، حتى مثلا المساجد وفرش المساجد تعتبر أيضا أسبالا، ومكيفات المساجد تعتبر أسبالا ومراوحها تعتبر مسبلة، وكذلك أنوارها تعتبر مسبلة، الذي يسبلها تخرج من ملكيته وليس له أن يستعيدها، لو أنه مثلا قال: رجعت عن هذه السبائل سوف آخذ هذه اللمبات وآخذ هذه المراوح؛ لأنها ملكي نقول: خرجت من ملكك، لو هدم المسجد مثلا وقال: ما دام قد هدم سوف آخذ أدواتي، النوافذ مثلا والمكيفات وما أشبهها؛ لأنها ملكي نقول: خرجت من ملكك، انقلها إلى مسجد ثان لا تعدها؛ لأنها لا تعود ملكا، بل الأصل أنها خرجت من ملك الواقف فليس له إلا أجرها ما دام ينتفع بها.(1/389)
فالواقف يقصد الأجر من هذه الأشياء التي وقفها، وتارة يكون الوقف على معين كأن يقول: هذا البيت وقف على ذريتي المحتاج منهم، إذا طلقت امرأة مثلا أو افتقر واحد من الأولاد يسكنه مدة حاجته، وإذا استغنى فإنه ينتقل منه أو يقول: أجرة هذا البيت تصرف على المحتاج من أولادي مثلا أو من أقاربي إذا استغنى أولادي، هذه أيضا تعتبر وقفا أو أجرة هذا البيت الوقف تصرف في هذا المسجد لإصلاح ما وهى منه مثلا، أو تصرف في تجهيز الأموات مثلا في أكفان مثلا أو في حنوط أو في أجرة حفر مثلا، أو في تشجير قبور مقابر أو ما أشبه ذلك من أفعال الخير هذه كلها وقف على خير، وقف على أعمال بر، فينفذ وصية الواقف، أما إذا وقفها على معصية فلا كرامة ولا تجوز ؛ وذلك لأنه لا يجوز إقرار المعاصي ولا إقرار الوقف على المعاصي، فلو قال مثلا: يشترى بأجرتها طبول مثلا، أو أشرطة غناء (أغاني ونحوها) أو آلات غناء كالعود والشطرنج وما أشبه ذلك، تستعمل في الأعراس مثلا، أو تستعمل في الأعياد، أو تستعمل في الاجتماعات، أو ما أشبه ذلك، أو يطبع بها كتب، كتب إلحاد مثلا، أو كتب فسوق، أو نسخ التوراة والإنجيل المنسوخة، أو ما أشبه ذلك، أو كذلك يشترى بها أسلحة يعطى بها، أو تسبل هذه الأسلحة لقطّاع الطريق مثلا أو للصوص، فهذا لا يجوز، وكذلك المعاصي الأخرى لا يجوز مثلا أن يجعلها على العاهرات والزواني والزنا وما أشبهه، أو على البناء على القبور؛ لأنه محرم مثلا، الحاصل أنه لا بد أن يكون على بر، إذا كان على جهة بر وسلم من الظلم؛ لحديث: " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " .(1/390)
ذكر حديث عمر أصاب عمر أرضا بخيبر يعني اشتراها أرضا نفيسة بخيبر فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها ماذا أفعل فيها ؟ هذه الأرض من أنفس الأموال فقال له: إن شئت... " إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منها قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " هذا هو الوقف، حبست أصلها (تحبيس الأصل) وسبلت منافعها " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " يعني: تصدقت بها في المنافع، فأوقفها عمر وجعلها صدقة، تصدق بها عمر، " لا يباع أصلها " هذا الوقف لا يباع إلا إذا تعطل، " ولا يورث " لا يقتسمه الورثة " ولا يوهب " لا يهبه أحد لأحد، بل تكون غلة هذه الأرض إذا كان فيها ثمار كشجر مثلا أو زرع أو فواكه أو خضار تصرف في الفقراء، الفقراء عموما يعني يبدأ بالأقرب فالأقرب، " وفي القربى " يقدم القريب؛ لأن له حقين حق القرابة وحق الصلة وحق الصدقة " وفي الرقاب " يعني: المملوك الذي كاتب سيده يعطى منها الرقاب، " وفي سبيل الله " الغزاة يعني يجهزوا منها الغازي ويشتروا بها أسلحة للغزو؛ لأن هذا من القرب، " وابن السبيل " المسافر المنقطع به ، والضيف النازل مثلا، " لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم صاحبه صديقه غير متمول مالا " هكذا بين عمر هذا الوقف، في هذا الوقف بين له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأصل، والأفضل التصدق بها وهكذا ؛ لأن إذا وقف إنسان دارا أو دكاكين مثلا وجعلها وقفا، أجرتها يتصدق منها على الفقراء، يبني منها المساجد يفرش منها المساجد، يكيف منها المساجد مثلا، يجهز منها الغزاة، يشتري منها أسلحة للغزاة وما أشبهه، يجهز منها الموتى، يعطي منها المنقطع المسافر، المسافر المنقطع به، أو يعطي أقاربه ذوي الحاجة أو ما أشبه ذلك، ومثلها أيضا - وإن لم تذكر - الأضاحي إذا جعل فيها أضاحي فإنها تنفذ؛ وذلك لأنها من الصدقات ومثلها الحج إذا قال: يحج من أجرتها فإن هذا أيضا من القرب وكانوا أيضا قديما(1/391)
يوقفون على تنوير المساجد، وعلى الدلاء، كان قديما كل بئر يجعل عليها دلو سواء كانت بقرب المسجد لمن يتوضأ أو في وسط البلد لمن يرتوي، هذا الدلو يعتبر، دلوا ورشاء يعتبر وقفا تبرع به صاحبه، وقف من أعمال الخير من أجرة هذا الوقف أو ما أشبهه، فالحاصل أن هذا الوقف في أعمال الخير.
يقول: "أفضله أنفعه للمسلمين"، إذا كان النفع عاما فهو أفضل، المسجد لا شك أن نفعه عام، إذا وقف أرضا وبنى فيها مسجدا فإن النفع عام، أو وقف أرضا وجعلها مقبرة وسورها، أو مثلا وقف بيتا وجعله على تجهيز الأموات، أو كان الفقراء كثيرا وجعل أجرة هذه الدكاكين أو هذه الشقق للفقراء صدقة عليهم أو تفطير صُوّام أو ما أشبه ذلك أنفعه للمسلمين، وينعقد بالقول الدال على الوقف، كذلك أيضا ينعقد بالفعل، ينعقد بالقول وبالفعل، فإذا قال: سبلت هذا البيت، حبسته، أوقفته، هو مسبل انعقد، وخرج من ملكه، وإذا مثلا اشترى أرضا وأقام فيها مسجدا وفتح أبوابه ولو لم يقل هو وقف، فإن هذا يعتبر فعلا دالا على الوقفية.(1/392)
مصارف الوقف وشروطه: يرجع إلى شرط الواقف إذا وافق الشرع مصارفه على حسب كلام الواقف، فإذا قال: يصرف في عمارة المساجد لم يجز أن يصرف في المقابر، اختص بالمساجد، وإذا قال: يصرف على المجاهدين وقف عليهم ولم يصرف على الفقراء، وإذا قال: يصرف في فقرائي الأقارب لم يتجاوزهم يختص بهم، وإذا قال: يصرف على طلبة العلم اختص بطلبة العلم، وإذا قال: يصرف في الكتب وقف على ذلك ، يرجع في مصارف الوقف وشروطه إلى الواقف، إلى شرط الواقف إذا وافق الشرع، أما إذا شرط شرطا لا يوافق الشرع فلا يجوز، ذكرنا مثلا أنه إذا قال: يصرف على الأغاني أو على الملاهي أو على قطاع الطريق أو على قتال المسلمين أو على كتب الإلحاد والزندقة فلا يجوز، لا يباع إلا أن تتعطل منافعه، كثير من الأراضي قديما كانت تزرع موقوفة، وتؤخذ أجرة الزرع فيتصدق بها وكان بها نخيل يؤخذ من ثمرة النخيل ويطعم الصوام مثلا والآن تعطلت من عشرين سنة أو خمسين سنة متعطلة؛ وذلك لأن الحراسات أصبحت تحتاج إلى قوة فعندئذ تباع، ولكن لا تباع إلا بإذن الحاكم القاضي (قاضي البلد) ، يبعث من يقرر أنها معطلة فحينئذ تباع، ويصرف ثمنها في غيرها.
كثير من الأوقاف التي هي مزارع باعوها واشتروا بها شققا وقالوا: إنها أضمن للإيجار، هكذا فعلوا، ويمكن أن تتعطل الشقق مثلا أو تتعطل الأسواق فيحتاج إلى المزرعة مرة ثانية، فالحاصل أنها إذا تعطلت تباع بإذن الحاكم ويجعل ثمنها في مثلها. باب الهبة والعطية والوصية
انتقل إلى باب الهبة والعطية والوصية.(1/393)
الهبة هي الهدية، والغالب أن الذي يهدي إما أن يقصد بالهدية المعروف أو التقرب أو الخير أو العوض أو ما أشبه ذلك، هذا الغالب في الهبة، يعني: مثلا إنسان عنده بستان، وجاء إليك وأهدى إليك من بستانه رطبا أو فاكهة أو خضارا أنت تعرف أنه يقصد أخوتك ويكتسب صداقتك أو يريد منك مكافأة، يريد أن تعطيه مكافأة أكثر من ثم نه أو مثل ثمنه أو يريد مكافأتك على منفعة حصلت منك أنك قد نفعته وقد شفعت له وقد جازيته أو نحو ذلك، فهديته هذه أو هبته يقصد بها أحد هذه الأمور الصداقة وقوة الأخوة أو المكافأة بأكثر منها أو المجازاة على فعل قد فعلته معه، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها.
الهبة: التبرع بالمال في حال الحياة والصحة بهذا الشرط تبرع بمال، حتى ولو كان المال نقدا، إذا أهدى إليك مثلا مائة ريال هدية، أهدى إليك ثوبا، أهدى إليك جنيها، أهدى إليك حليا، أهدى إليك ساعة تبرع بماله وهو صحيح شحيح قوي يسمى هذا هبة ويسمى أيضا هدية.
العطية: تبرع به في مرض موته المخوف، هكذا عرفها، ولكن يظهر أيضا أن العطية يدخل فيها العطية للمستحق كعطية الأولاد، إذا أعطى الوالد أولاده، أعطى هذا سيارة، وأعطى هذا بيتا، وأعطى هذا أرضا، وأعطى هذا دراهم تسمى هذه عطية، وأما إذا أعطى وهو مريض، يعني: وهو مريض قال: أعطيك يا فلان ألفا فمثل هذه لا تنفذ إلا إذا خرجت من الثلث بعد الموت ينتظر بها الصحة، فإن صح نفذت، وإن مات في مرضه اعتبرت من الثلث إلا أن يجيزها الورثة.(1/394)
الوصية: التبرع به بعد الموت، هكذا عرفها، إذا مت فأعطوا فلانا من مالي ألفا مكافأة له، وأعطوا فلانا من مالي مائة نفعا وهبة ومعروفا، الجميع داخل في الإحسان والبر الهبة والعطية والوصية، لكن الوصية أعم؛ ولأجل ذلك أطال عليها العلماء، جعلوا فيها خمسة أبواب أو ستة، قالوا: باب الوصايا، ثم قالوا: باب الموصي إليه، ثم قالوا: باب الموصي له، ثم قالوا: باب الموصي به، ثم قالوا: باب الوصية والأنصباء والأجزاء .. وذكروا تحت كل أحكامه، لكن المؤلف اختصرها واقتصر على رؤوس أقلام منها.
الهبة من رأس المال؛ وذلك لأنها عطية في الحياة، والوصية والعطية من الثلث فأقل إذا كانت لغير وارث، إن زادت عن الثلث أو كانت لوارث توقفت على إجازة الورثة الراشدين، فإذا أوصى قال: إذا مت فأعطوا فلانا من تركتي عشرة آلاف، ولما مات وإذا تركته مثلا عشرون ألفا فكم نعطي هذا الذي أوصى له ؟ نعطيه ثلث العشرين ستة آلاف ستمائة وستة وستين؛ وذلك لأن هذا هو الثلث، والميت لا يتصرف إلا في ثلثه، فإن سمح الورثة، وقالوا: نعطيه العشرة كاملة ننفذ وصية أبينا جاز ذلك، كذلك إذا كانت الوصية لوارث إذا مت فأعطوا زوجتي أو أعطوا بنتي أو أعطوا أمي كذا وكذا وهي ترث ألا يكفيها نصيبها من الإرث؟.(1/395)
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في هذا الحديث: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " هذا الحديث قالوا: إنه نسخ الآية التي في البقرة وهى قوله تعالى: { (((((( (((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((((((((( ((( (((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((((((((( ((((((((((((((( } إن ترك خيرا كتبت عليكم الوصية للوالدين والأقربين، معلوم أن الوالدين يرثان الأقربون بعضهم يرث وبعضهم لا يرث، فالوالدان يكفيهما ميراثهما فلا يوصي لهما، فإن أوصى لهما فلا بد من إجازة الورثة الآخرين كالأولاد والزوجات، أما الأقربون فإن كانوا من الورثة كالإخوة والأولاد - الأولاد يرثون بكل حال - والإخوة قد يرثون وقد لا يرثون، فإذا كانت للوارث فلا تجوز إلا بإجازة الوارثة، وإن كانت لغير وارث فلا تجوز إلا بقدر الثلث إلا أن يجيزها الورثة. يقول: كلها يجب فيها العدل بين أولاده لقوله - صلى الله عليه وسلم - " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم " .(1/396)
سبب هذا الحديث أن بشير بن سعد الأنصاري أعطى ولده النعمان غلاما فقالت أمه: أشهد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا أشهد على جور اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، ألك ولد غير هذا قال: نعم، قال: هلا سويت بينهم اعدلوا بين أولادكم " فنهاه أن يعطي واحدا ويترك الباقي، فالوالد مأمور بأن يسوي بين أولاده في العطية، هذا إذا كانت العطية لغير حاجته أما إذا أعطاه لحاجته فلا بأس، مثلا بلغ أحدهم واحتاج للزواج فيزوجه ولا يقول: أعطي الآخرين مثله وإن لم يبلغوا إذا بلغوا يزوجهم، أو مثلا احتاج لمصاريف الدراسة أو سيارة للتنقل عليها يعطيه، يعطيه بقدر حاجته، الباقون إذا بلغوا يعطيهم مثله، أما إذا أعطاهم تبرعا كأن أعطاهم وهم بالغون مساكن فلا بد أن يسوي بينهم أو أعطاهم دراهم فلا بد أن يسوي بينهم، يجوز له أن يفضل من هو مستحق، فإذا كان أحدهم بارا به وخادما له والآخر عاص وخارج عن طاعته فإن له أن يشجع هذا البار ويزيده حيث أنه خدمه وقام بخدمته أو شاركه في تنمية تجارته يجعل له قسطا عن مشاركته.(1/397)
متى تلزم الهبة ؟ تلزم بالقبض، لا تلزم إلا بالقبض، فإذا قال مثلا: وهبتك شاتي الفلانية ولم تقبضها جاز له أن يرجع فيقول: لا حق لك فيها، أما إذا قبضت الشاة وذهبت بها فحرام عليه أن يستردها لهذا الحديث: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " الكلب وبعض السباع كالذئب إذا أكل كثيرا وامتلأ بطنه فإنه يقيء، يتقيأ ما في بطنه، قد يقيء مثلا كوب، ثم بعد ذلك يرجع إلى قيئه ويأكله، فالرسول -عليه السلام- جعل هذا مثلا مستبشعا مستقذرا لمن يهب هبة، ثم يستردها ولو كانت يسيرا، لو وهب لك إنسان قلما، قال: هبة، ثم قال: أنا أحتاجه بعد ما تقبضه يدخل في العائد في هبته فيحرم عليه أن يعود فيها. يقول قتادة: ولا أعلم القيء إلا حراما؛ لأنه مستقذر، ولو كان الإنسان قد أكل طعاما طيبا شهيا لحما مثلا أو فواكه، ثم بعد ذلك وجد ثقلا فتقيأه وأخرجه فإنه مستقذر، فكونه يعود ويأكله مرة ثانية هذا حرام، يقول الحديث الآخر: " لا يحل لمسلم أن يعطي العطية، ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده " ؛ وذلك لقوله -عليه الصلاة والسلام- " أنت ومالك لأبيك " فالوالد له أن يتملك من أموال أولاده الشيء الذي لا يحتاجون إليه ، وكذلك له أن يهب ولده، ثم يسترد الهبة، فلو وهبك سيارة، ثم استرجعها له ذلك، أو وهبك أرضا، ثم استرجعها له ذلك، أو وهبك مثلا مالا، وكان موجودا عندك دراهم، وأراد أن يستردها فإنك تردها إليه إذا طلب، كما أن له أن يتملك من مال ولده ما لا يضر الولد ولا يحتاجه.
اشترطوا في تملك المال، مال الولد شروطا. الشرط الأول: ألا تتعلق حاجة الولد بذلك المال، فليس له مثلا أن يخرجه من داره ويقول: اسكن في خيمة أو اسكن في الصحراء، ويقول: أنا أبوك أملك مالك هذا البيت ملكك وسوف آخذه وأبيعه ليس له حق أن يأخذ شيئا تتعلق حاجة الولد به أو سيارته التي لا يستغني عنها أو نحو ذلك.(1/398)
الشرط الثاني: ألا يأخذه من ولد ويعطيه ولدا، لا يأخذ من الكبير ويعطي الصغير؛ لأنه عليه أن يعدل بين أولاده، فكونه يعطي هذا من مال هذا يعتبر جورا يدخل في " لا أشهد على جور " .
الشرط الثالث: ألا يكون في مرض الموت، إذا كان في مرض الموت فقد تعلقت به حقوق الورثة فلا يجوز له أن يأخذ من مال ولده المريض أو لا يأخذ وهو مريض، سواء كان المريض الولد أو الوالد مرض مخوف.
" كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل الهدية ويثيب عليها " وتسمى هدية الثواب يعني: إذا عرفت مثلا أن صاحبها الذي أهدى إليك لا يريد إلا أن تعطيه وأن تثيبه فإن هذه هدية الثواب، وهناك هدية أخرى تسمى هدية التبرر، يعني: الصدقة، فالنبي عليه السلام كان يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة كما في حديث سلمان الفارسي: لما ذكرت له صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة جمع له تمرا وجاء به بين أصحابه وقال: " هذه صدقة ففرقها على أصحابه ولم يأكل منها، فجمع مرة أخرى تمرا نفيسا وجاء به وقال: هذه هدية فأكل منها " .
وثبت أيضا أنه لما تصدق على بريرة بشاة أكل من تلك الشاة وقال: " هو لها صدقة وعلينا هدية " . يقول: "للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء ما لم يضره أو يعطيه لولد آخر أو يكون بمرض موت أحدهما لحديث " أنت ومالك لأبيك " ذكرنا هذه الشروط ألا يكون في مرض أحدهما، الوالد أو المولود، أو يعطيه لولد آخر أو يضره، يتعلق به حاجة الولد، ويضره يحمله على الاستدانة وما أشبه ذلك، هذا يتعلق بالوصايا الحديث " ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده يقول ابن عمر: فما أتت علي ثلاث ليال إلا ووصيتي مكتوبة تحت رأسي " ؛ وذلك لأنه لا يأمن الأجل أن يفاجئه الأجل فيأتيه وهو مفرط.(1/399)
فلذلك الإنسان عليه أن يحتاط ويكتب ما له وما عليه وما يريد أن يوصي به، فيقول فيها: عندي لفلان كذا، وعند فلان لي كذا وكذا، علي يدي من الأوقاف كذا وكذا، أوصي أولادي بكذا وكذا، أوصيهم أن يخرجوا من مالي كذا وكذا، وأن يتصدقوا لي بكذا وكذا، وأن ينفعوني بعد موتي بكذا، ويكتب ذلك في دفتره حتى إذا أتاه الأجل، وإذا هو قد أحرز نفسه وقد أبرأ ذمته وقد أراح أولاده من التهم أو من العناء أو نحو ذلك.، ثم يقول - صلى الله عليه وسلم - " إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " المراد أعطاهم الله -تعالى- في المواريث فروضهم، فالوارث لا يوصى له وفي لفظ: " إلا أن يشاء الورثة " ثم ينقسم الناس في الأموال إلى ثلاثة أقسام: قسم فقير وورثته فقراء، في هذه الحال الأولى له ألا يوصي ويترك ماله لورثته، إذا لم يكن له إلا هذا البيت الذي يسكنه، أو مثلا هذه السيارة التي يركبها، أو هذا الدكان الذي يبيع فيه ويتصرف فيه وينفق على أولاده إذا سبل البيت أو سبل الدكان أو تصدق بالسيارة بعد موته، ترك ورثته، فالأولى له والحال هذه أن يتركه لورثته ولا يتصدق به؛ لأن الصدقة به أو الوصية به تضر أولاده والنبي -عليه الصلاة والسلام - قد رفق بالأولاد، فإذا كان ليس عنده شيء يحصل منه إغناء لورثته فينبغي ألا يوصي بل يدع التركة كلها لورثته، يدعها ورثته أحق، الدليل هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " يستجدون ويشحذون ويسألون، لا شك أن ورثته أحق بماله فيترك ماله القليل لورثته ولا يتصدق منه فيعوزهم إلى التسول والتكفف. هذا هو القسم الأول.(1/400)
القسم الثاني: الذي لا وارث له، ليس له وارث ماله سوف يجعل في بيت المال، في هذه الحال لو أوصى بماله كله لو جعل ماله كل وقفا أو سبله جاز ذلك؛ لأنه ما نهي إلا لأجل الورثة وليس هناك وارث، أو عرف مثلا أن ورثته مستغنون عندهم ثروة وعندهم أموال طائلة وأن تركته هذه لا تزيدهم ولا تنفعهم جاز له أن يوصي بماله، واستحب للورثة وتأكد بحقهم أن ينفذوا وصيته، وأما إذا كان من أوساط الناس وورثته من أوساط الناس فإن له أن يوصي بالثلث، وإن نقصه إلى الربع فهو أولى يقول ابن عباس: "لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الثلث والثلث كثير " فيستحب بعضهم أن يتصدق بالربع يوصي به، وبعضهم بالخمس روى عن أبي بكر أنه أوصى بالخمس، وقال: رضيت لنفسي ما رضى الله -تعالى- لنفسه في قوله: { (((((( (( ((((((((( (((((((((((( } فيتصدق بالخمس هذا أولى، فإن كان الورثة أثرياء وأغنياء فله أن يتصدق بالثلث ولا يرده وليس لهم أن يتعقبوه. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم " بمعنى أن الإنسان له التصرف في الثلث وليس لورثته أن يمنعوه من الثلث أو أقل من الثلث، وإن زاد على ذلك ولم يكن عليهم ضرر فلا بأس.(1/401)
الوصية يعني بالثلث أو نحوه أو بالخمس قالوا: إنها لمن ترك خيرا. الله -تعالى- يقول: { (((((( (((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((((((((( ((( (((((( ((((((( (((((((((((( } وفسر الخير بأنه المال الكثير، وهنا يقول: الخير مطلوب في جميع الأحوال، الوصي الذي يجعل على يده هذا الثلث عليه أن يعدل فيه وأن يحفظه وأن ينميه؛ لأن الوصية إذا كانت في شيء يبقى ويتنامى استمر أجر الموصي بمنزلة الوقف، ولم ينقطع وصار صدقة جارية، وأما إذا انقطع، انقطع أجره ؛ فإذا مثلا كان له بستان وقال: أوصي فيه بهذه النخلات تكون فطورا للصوام أو صدقة على الفقراء، فلا يجوز للوصي أن يهملها ولا يسقيها بل عليه أن يسقيها كما يسقي باقي النخل؛ لأنه أوصى بها وبما يحييها، وكذلك إذا قال: أوصي بهذا البيت أجرته صدقة في رمضان، فالوصي عليه أن يحفظه وعليه أن يلاحظه ويصلح ما وهى منه وما أشبه ذلك، هذا آخر الوصايا وهي مختصرة جدا ونقرأ في الفرائض مقدمتها.
كتاب المواريث
وهي العلم بقسمة التركة بين مستحقيها والأصل فيها قوله -تعالى- في سورة النساء: { (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( ((((((((( (((((( ((((( ((((((((((((( } إلى قوله -تعالى-: { (((((( ((((((( (((( } الآيات، وقوله في آخر السورة { ((((((((((((((( (((( (((( ((((((((((( ((( ((((((((((((( } إلى آخرها مع حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " متفق عليه.(1/402)
فقد اشتملت الآيات الكريمة مع حديث ابن عباس على جُل أحكام المواريث وذكرها مفصلة بشروطها، فجعل الله الذكور والإناث من أولاد الصلب وأولاد الابن ومن الإخوة الأشقاء أو لغير أم إذا اجتمعوا يقتسمون المال، وما أبقت الفروض للذكر مثل حظ الأنثيين، وأن الذكور من المذكورين يأخذون المال أو ما أبقت الفروض، وأن الواحدة من البنات لها النصف والثنتين فأكثر لهما الثلثان.
وإذا كانت بنت وبنت ابن فللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وكذلك الأخوات الشقيقات، واللاتي لأب في الكلالة إذا لم يكن ولد ولا والد وأنه إن استغرقت البنات الثلثين سقط من دونهن من بنات الابن إذا لم يعصبهن ذكر بدرجتهن أو أنزل منهن، وكذلك الشقيقات يسقطن الأخوات لأب إذا لم يعصبهن أخوهن، وأن الإخوة من الأمم والأخوات للواحد منهم السدس، وللاثنين فأكثر الثلث يسوى بين ذكورهم وإناثهم وأنهم لا يرثون مع الفروع مطلقا ولا مع الأصول الذكور، وأن الزوج له النصف مع عدم أولاد الزوجة والربع مع وجودهم، وأن الزوجة فأكثر لها الربع مع عدم أولاد الزوج والثمن مع وجودهم وأن الأم لها السدس مع أحد من الأولاد أو اثنين فأكثر من الإخوة أو الأخوات والثلث مع عدم ذلك، وأن لها ثلث الباقي في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين.
وقد " جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم " رواه أبو داود والنسائي، وأن للأب السدس لا يزيد عليه مع الأولاد الذكور وله السدس مع الإناث، فإن بقي بعد فرضهن شيء أخذه تعصيبا مع عدم الأولاد مطلقا.
نقرأ هذا الذي قرأنا والبقية غدا -إن شاء الله-.(1/403)
تعرفون أن الفرائض من أهم العلوم؛ ولأجل ذلك أفردت بالتأليف حتى كتب فيها كتب كبار من أكبرها كتاب "العذب الفائض شرح ألفية الفرائض"، ألفية فيها ألف بيت كلها تتعلق بالفرائض إلا أنه ألحق بها الوصايا، ثم شرحها هذا الشارح في كتاب كبير في جزأين يعني: مجلد في جزأين، العذب الفائض، ثم توسع فيها العلماء، وكتبوا فيها منهم من أطال ومنهم من اختصر. المؤلف هنا اختصر فيها اختصارا شديدا ؛ وذلك لأن القصد معرفة رؤوس المسائل دون التوسع فيها.
تعريفها أنها العلم بقسمة التركة بين مستحقيها وتسمى الفرائض؛ لأن الله -تعالى- قال في آخر الآيات: { ((((((((( ((((( (((( } فذكر أنها فريضة، والفرض قالوا في تعريفه: إنه نصيب مقدر لوارث مخصوص لا يزيد إلا بالرد ولا ينقص إلا بالعول هذا تعريف الفرض: نصيب مقدر شرعا لوارث مخصوص لا يزيد إلا بالرد ولا ينقص إلا بالعول، يمكن أيضا أن التعريف يحتاج إلى شرح فقوله: نصيب مقدر يعني: مقدر من الشارع كقوله -تعالى- { ((((((((( ((((((((( } { ((((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((( } هذا نصيب مقدر السدس، الثلث، { ((((( ((((((( ((((((((( ((((((( (((((((((( } النصف، { ((((( ((((( (((((( (((((( (((((((( ((((((((( } { (((((((( ((((((((( } هذا نصيب مقدر شرعا لوارث مخصوص للأم للزوجة للجد، الجد يعني قائم مقام الأب ؛ هذا معنى لوارث مخصوص لا يزيد إلا بالرد ؛ وذلك إذا لم يوجد عصبة فإنه يرد على أهل الفروض بقدر فروضهم ولا ينقص إلا بالعول وسيأتينا أمثلة للعول غدا إن شاء الله وهو، يعرفون العول بأنه زيادة في السهام نقص في الأنصبة يعني بدل ما يكون الإنسان له السدس لا يأتيه إلا العشر، العشر عندما تكثر الفروض هذا العول.(1/404)
الحاصل أنه يقول: الأصل فيها الآيات التي في سورة النساء هي آيتان ، آيتان فقط { (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( ((((((((( (((((( ((((( ((((((((((((( } هذه الآية فيها فرض البنت وفرض الأبوين وتعصيب الأولاد، وفيها ذكر أن ذلك فريضة، الآية الثانية فيها فرض الزوجين والإخوة من الأم، أما الآية الأخيرة التي في آخر السورة ففيها فرض الإخوة والأخوات { ((((((((((((((( (((( (((( ((((((((((( ((( ((((((((((((( } إلى آخرها، فالفروض ذكروا أنها ستة: النصف ونصف النصف ونصف نصف النصف، يعني النصف والربع والثمن، الثلثان ونصف الثلثين ونصف نصف الثلثين، أي: الثلثان والثلث والسدس هذه هي الفروض التي في القرآن ذكر النصف في ثلاثة مواضع في قوله -تعالى-: { ((((( ((((((( ((((((((( ((((((( (((((((((( } وفي قوله: { ( (((((((( (((((( ((( (((((( ((((((((((((( } وفي قوله في آخر السورة: { (((((((( (((((( ((((((( (((((( ((( (((((( } هذا النصف ذكر ثلاث مرات، الثلثان ذكر مرتين في قوله -تعالى-: { ((((( (((( (((((((( (((((( (((((((((((( (((((((( ((((((( ((( (((((( } وفي آخر السورة { ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((( (((((((((((( } الثلثان ذكر مرتين، الثلث ذكر مرتين في قوله: { (((((((((((( ((((((((( ((((((((( ((((((((( } وفي قوله: { ((((( ((((((((( (((((((( ((( ((((((( (((((( (((((((((( ((( ((((((((( } السدس ذكر ثلاث مرار في قوله: { (((((((((((( ((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((( } وفي قوله: { ((((( ((((( (((((( (((((((( ((((((((( ((((((((( } وفي قوله: { (((((((( (((( (((( (((((( ((((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((( } الربع ذكر مرتين في قوله: { ((((( ((((( (((((( (((((( (((((((( ((((((((( } و { (((((((( ((((((((( ((((( (((((((((( } الثمن ذكر مرة { ((((( ((((( (((((( (((((( (((((((( ((((((((( } هذه هي الفروض.(1/405)
اشتملت الآيات الكريمة مع حديث ابن عباس: " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " الفرائض التي ذكرها الله -تعالى- يعني: الثلثان والنصف ونصف الثلثين ونصف النصف ونصف نصف الثلثين ونصف نصف النصف، هذه هي الفرائض " ألحقوا الفرائض بأهلها " يعني أعطوها أهلها، " فما بقي فلأولى رجل ذكر " يقول: اشتملت على جل أحكام المواريث ذكرها مفصلة بشروطها، جعل الله للذكور والإناث من أولاد الصلب وأولاد الابن ومن الإخوة الأشقاء لغير أم إذا اجتمعوا يقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين قوله -تعالى- { (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( ((((((((( (((((( ((((( ((((((((((((( } أولادكم: يشمل الأولاد من الصلب ذكورا وإناثا، ويشمل أولاد البنين ذكورا وإناثا، فإذا كان الميت له ثلاثة أبناء وست بنات فإنهم يقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين ، ست بنات لهن النصف وثلاثة أبناء لهن النصف يقسم بينهم على عدد رؤوسهن ، هذا معنى: { ((((((((( (((((( ((((( ((((((((((((( } إذا لم يكن له أولاد من صلبه ، ولكن له أولاد ابن، ابنه مات قبله ولابن الابن أولاد ذكور وإناث ينزلون منزلة الأولاد يرثون جدهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، وكذلك لو كانوا أبناء أبناء يعني مات ولداه، لهذا أربعة ذكور، ولهذا خمس إناث وأبواهما قد ماتا، مات الجد يرثه أولاد هذا الذكور وأولاد هذا الإناث، الأولاد في قوله: { (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( } يدخل فيه الذكر والأنثى؛ لأن الجميع أولاد فيسمى الذكر ولد والأنثى ولد فإذا فصل يقال: ابن وبنت، الأبناء للذكور والبنات للإناث والأولاد للجميع. { (((((((((( (((( (((( ((((((((((((( ((((((((( (((((( ((((( ((((((((((((( } .(1/406)
فدل على أن الأولاد يشمل الذكور والإناث، فكذلك أولاد البنين يقومون مقام الأولاد عند عدم الأولاد، أما إذا كان هناك أولاد وأولاد بنين فمن الذي يرث؟ أولاد الصلب؛ لأن الرسول يقول " فلأولى رجل " يعني أقرب رجل هو الذي يأخذ المال، وأما أولاد الابن فإنهم بعيدون ، كذلك أيضا الأشقاء ، الإخوة لأب والأشقاء والأخوات ينزلون منزلة الأولاد، فإذا كان له إخوة وأخوات من الأبوين أو من الأب فإنهم يقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين إذا كانوا في درجة واحدة، فالله -تعالى- يقول: { ((((( ((((((((( (((((((( (((((((( (((((((((( ((((((((((( (((((( ((((( ((((((((((((( } هكذا فللذكر مثل حظ الأنثيين. فجعل للإخوة مثل الأولاد، فمعلوم أن الإخوة يتفاوتون، يكونون إخوة أشقاء أو إخوة من الأب فحينئذ من الأولى؟ الأشقاء؛ لأنهم أقوى ولو كان الأب واحدا، لكن هؤلاء يقولون: نحن إخوته من الأم والأب وهؤلاء يقولون إخوته من الأب والرسول يقول: " فلأولى رجل " فأولى رجل هم الأشقاء أولى من الإخوة لأب، فالإخوة الأشقاء والأخوات الشقائق يقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، فإذا لم يكن هناك أشقاء ولا شقيقات فإن الإخوة من الأب والأخوات من الأب ينزلون منزلتهم فيأخذون المال للذكر مثل حظ الأنثيين فعندنا الآن أربعة:
أولاد الصلب ذكورا وإناثا للذكر مثل حظ الأنثيين هؤلاء المرتبة الأولى.
الثانية: أولاد الابن أو أولاد البنين إذا استووا في الدرجة ينزلون منزلة الأولاد، للذكر مثل حظ الأنثيين.
الثالثة: الإخوة الأشقاء ينزلون منزلة الأبناء وأولاد الأبناء وأبناء الأولاد ينزلون منزلتهم فيقتسمون المال الإخوة الأشقاء والأخوات، فإذا لم يكونوا.
فالرابع: الإخوة من الأب نصيب هؤلاء يسمى تعصيبا، ويقال: إن ذكرهم يعصب أنثاهم ؛ وذلك لأنه لو لم يكن إلا إناث لورثن بالفرض.(1/407)
بنات الميت ما يرثن إلا الفرض، بناته من صلبه إذا لم يكن له إلا بنات فميراثهن الثلثين، وإن كانت واحدة فلها النصف، فإذا كان معهن أخ واحد نقلهن من الإرث بالفرض إلى الإرث بالتعصيب فيأخذون المال هو وهن، للذكر مثل حظ الأنثيين، هكذا ذكر الله، الأخ ينقل أخواته الشقيقات، والأخ من الأب ينقل أخواته لأب من الفرض إلى التعصيب الابن ينقل البنات من الفرض إلى التعصيب ابن الابن ينقل بنات الابن من الفرض إلى التعصيب، يسمى هذا تعصيبا بالغير؛ لأنهن كن يرثن بالفرض فانتقلن إلى الإرث بالتعصيب يأخذون المال، يقتسمونه كله، فإن كان هناك أصحاب فروض أعطينا أصحاب الفروض فروضهم فما بقي فللعصبة، وهو قوله: أو ما أبقت الفروض - سقطت الألف قال: وما أبقت، والصواب أو ما أبقت - يعني أنه إذا اجتمعوا يأخذون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، أو يأخذون ما بقي بعد أهل الفروض، أو يأخذون ما أبقت الفروض من التركة للذكر مثل حظ الأنثيين.
الذكور إذا كان ذكرا واحدا يأخذ المال كله يأخذونه أو ما أبقت الفروض، يعني: إذا كان له ابن واحد حاز المال، فإذا كان له عشرة أبناء اقتسموا المال، وإذا كان له ابن ابن أخذ المال أو عشرة أبناء ابن اقتسموا المال، إذا كان له أخ واحد ما له إلا هو شقيق أو لأب حاز المال، وإن كان معه إخوة اقتسم معهم، هذا ميراث الذكور، أما الإناث، الإناث من هؤلاء فلهن فروض، البنت الواحدة لها النصف تأخذه بنت الصلب فإذا لم يكن له بنات ولا أبناء وله بنت ابن أخذت النصف، فإذا لم يكن له بنات ولا أبناء ولا بنت ابن ولا بنات ابن ولا أبناء ابن وله أخت شقيقة أخذت النصف، فإذا لم يكن له أشقاء ولا شقيقات وله أخت من الأب أخذت النصف إذا لم يكن معها أخ، البنت وبنت الابن والأخت الشقيقة والأخت لأب كل واحدة منهن إذا انفردت أخذت النصف.(1/408)
ذكروا أن البنت تأخذه بشرطين ألا يكون معها أخوها؛ لأنه معصب ولا يكون معها أختها؛ لأنها تنقلها إلى الثلثين أما الأخت فتأخذه بثلاثة شروط ألا يكون للميت أولاد ذكور وإناث وألا يكون معها أخوها المعصب ولا أختها المشاركة، الأخت من الأب كذلك أيضا تأخذ النصف بشرط ألا يكون للميت أب ولا جد ولا يكون للميت ابن ولا بنون ولا بنات ولا بنات ابن ولا يكون معها هي أخوها ولا أختها ولا يكون للميت إخوة أشقاء أولى منها.
فشروطها خمسة الأخت من الأب، يقول: الواحدة من البنات لها النصف والثنتين فأكثر لهما الثلثان لقوله: { ((((( (((((((( (((((((((((( ((((((((( (((((((((((( } وكذلك الأخت لها النصف والأختان الثلثان شقيقة أو لأب، إذا كان بنت وبنت ابن هذه قضى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين؛ لأن الله جعل للبنات الثلثين، فإذا أخذت القريبة النصف فبقية الثلثين للبعيدة ومثلها شقيقة تأخذ النصف وبقية الثلثين السدس يعطي للأخت من الأب بمنزلة بنت الابن تكملة الثلثين، الأخوات الشقائق واللاتي لأب، معروف أيضا أن الله تعالى ما ذكر إرثهن إلا في الكلالة { ((((((((((((((( (((( (((( ((((((((((( ((( ((((((((((((( } من هو الكلالة ؟ هو من ليس له ولد ولا والد، فإذا كان له أولاد فلا يرث الإخوة، وإذا كان له والد فلا يرث الإخوة يقول: إذا لم يكن ولد ولا والد وأنه إذا استغرقت البنات الثلثين سقط من دونهن من بنات الابن، إذا كان للميت بنتين من صلبه وخمس بنات ابن وعم، بنتيه من الصلب لهما الثلثان، بنات الابن ما لهن شيء، الباقي يأخذه عمه أو أخوه أو ابن عمه لماذا ؟؛ لأن الثلثين قد حصل عليهما البنات القريبات والبنات البعيدات ليس لهن شيء.(1/409)
لو كان معهن أخوهن ورثن معه إذا قلنا: مثلا بنتين لهما الثلثان، خمس بنات ابن ومعهم ابن ابن أو أنزل منهن ابن ابن ابن، هذا يسمى الأخ المبارك فيعصبهن، يعصبهن ويرثن الباقي، الثلث الباقي لهن مع أخيهن، يعني أنه نقلهن إلى الإرث بالتعصيب فيرثون الباقي بعد البنات ويسبب إرثهن، ومثلهن أيضا الأخوات الشقيقات، إذا كان له أختان شقيتان لهما الثلثان وخمس أخوات من الأب وله عم، الشقيقتان لهما الثلثان، خمس أخوات من الأب ليس لهن شيء الباقي للعم، فإذا قدر أن الأخوات من الأب معهن أخ من الأب فإنه يعصبهن وهو أيضا الأخ المبارك فيرث معهن الثلث الباقي بعد الشقيقتين، للذكر مثل حظ الأنثيين، يعني: الأخ المبارك هو ابن الابن مع أخواته أو مع بنات الابن اللاتي أعلى منه، الأخ لأب مع الأخوات لأب إذا كن ساقطات.
يقول: الأخوات الشقيقات يسقطن الأخوات لأب إذا لم يعصبهن أخوهن، يقول: الإخوة من الأم والأخوات من الأم للواحد منهم السدس وللاثنين فأكثر الثلث يسوى بين ذكورهم وإناثهم، الإخوان من الأم إن كان واحدا له الثلث إن كانوا اثنين أو ثلاثة أو عشرة لهم الثلث ما يزيدون على الثلث، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث، هؤلاء الإخوة من الأم هذا فرضهم، الذكر كالأنثى لا يفرق بين ذكرهم وأنثاهم، ولكنهم لا يرثون مع الفروع ولا مع الأصول الذكور يسقطهم الابن والبنت وابن الابن وإن نزل وبنت الابن والأب والجد، هؤلاء الستة يسقطون أولاد الأم، أما الإخوة والأخوات والأم والجدة فلا يسقطونهم يرثون معهم، إذا قلت: الفروع فالمراد بهم الأولاد ذكورا وإناثا وأولاد البنين دون أولاد البنات، أولاد البنات لا يمنعونهم هؤلاء الفروع،الأصول الأب والجد والأم والجدة هؤلاء يسمون أصولا.(1/410)
ذكر بعد ذلك الزوج، الزوج ميراثه واضح له النصف إن كان لم يكن للزوجة أولاد، فإن كان لها أولاد أو ولد واحد أو ولد ابن، فله الربع، الزوجة أو الزوجتين أو الثلاث أو الأربع إن لم يكن له أولاد لها الربع إن كان له ولد أو ولد ابن لهن الثمن يشتركن فيه، هذا ميراث الزوجات واضح والزوجين، الأم لها السدس بثلاثة شروط: إذا كان للميت أولاد، أو أولاد بنين أو جمع من الإخوة، كل هؤلاء يحجبونها إلى السدس، أي جمع، اثنين فأكثر، فإذا كان للميت أم وأخوان من أم أو أخوان شقيقان أو أخوان من أب أو أخت وأخ فالأم ليس لها إلا السدس، وإذا كان للميت ابن أو ابن ابن أو بنت أو بنت ابن فليس الأم إلا السدس، فإن عدم هؤلاء فلها الثلث.
إذا لم يكن للميت أولاد ولا أولاد بنين ولا جمع من الإخوة فلها الثلث إلا في العمريتين؛ قضى فيهما عمر بأن لها ثلث الباقي حتى لا يكون ميراثها أكثر من ميراث الزوج، العمريتان "زوجة وأبوان"، "زوج وأبوان" هذه العمريتان، فإذا كان عندنا زوج وأم وأب أعطينا الزوج النصف، ثم أعطينا الأم الثلث ما يبقى للأب إلا السدس ضرر على الأب، العادة أن الأب يأخذ مثلها مرتين؛ فلأجل ذلك نقول: لها ثلث الباقي بعد الزوج؛ أي لها سدس وللأب الباقي، وكذلك إذا كان عندنا زوجة لها الربع وأم وأب بقى ثلاثة أرباع لها ثلث الباقي ربع وللأب الباقي حتى يكون ميراثها نصف ميراث الأب.
هاتان العمريتان مستثناتان حتى لا يكون لها أكثر من نصف الأب، لها السدس مع أحد من الأولاد، واحد من الأولاد أو اثنين فأكثر من الإخوة أو الأخوات، والثلث مع عدم ذلك وثلث الباقي في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين.(1/411)
جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم إذا وجدت الأم أسقطت الجدة، فإذا لم يكن هناك أم فإن الجدة ترث السدس من هي الجدة ؟ ذكروا أن " أم الأم جاءت إلى أبي بكر تسأل ميراثها فسأل الصحابة، فقالوا: قضى لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسدس " ثم في عهد عمر جاءت أم الأب؛ الجدة أم الأب فقال: هو ذلك السدس، السدس الذي لأم الأم ترثه أم الأب، فإن اجتمعا جدة أم أمه وأم أبيه قسم السدس بينهما، وإن انفردت واحدة فإنها تأخذه بشرط عدم الأم، وذهب الظاهرية إلى أن الجدة تقوم مقام الأم فترث الثلث بشروطه، ولكن الجمهور على أنها لا ترث إلا السدس، كل هؤلاء من الورثة أغلبهم أصحاب فروض لا يرثون إلا بالفرض. إلا الأب يقول: الأب له السدس لا يزيد عليه مع الأولاد الذكور، إذا كان للميت ابن واحد وله أب فالأب له السدس والباقي للابن، وكذلك لو كان للميت عشرة أبناء وله أب فلا ينقص عن السدس له السدس والباقي للأبناء، لا يزيد عليه مع الأولاد الذكور، أما إذا كان إناث فإنه يأخذ الباقي بعد الإناث يأخذ السدس فرضا والباقي تعصيبا مع الإناث قليل أو كثير إذا بقي شيء، فمثلا إذا كان عندنا بنت وأب فقط نقول: المسألة من ستة، إذا قلنا: من ستة للأب السدس فرضا وللبنت النصف فرضا ويبقى الثلث يأخذه الأب تعصيبا في هذه الحال بقى ثلث، فإن كان عندنا أب وابنتان فللأب السدس وللبنتين الثلث أربعة ويبقى سدس يأخذه الأب تعصيبا.(1/412)
فإن كان عندنا زوجة وبنتان وأب، فالمسألة من أربعة وعشرون، الأب له السدس، سدس أربعة وعشرين أربعة والبنات لهما الثلثان، الثلثان ستة عشر، الزوجة لها الثمن ثلاثة، كم بقى ؟ بقى واحد من أربعة وعشرين نعطيه الأب، الحاصل أنه يأخذ الباقي بعد البنات قليلا أو كثيرا نعطيه السدس فرضا ونعطيه الباقي تعصيبا، له السدس مع الإناث فإن بقي بعد فرضهن شيء أخذه تعصيبا مع عدم الأولاد مطلقا، أما إذا كان هناك أولاد ذكور فإنهم هم الذين يعصبون.
وبقية الباب نقرأه غدا -إن شاء الله- والله أعلم وصلى الله على محمد .
السلام عليكم ورحمة الله. بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد
ابتدأنا في المواريث، أي: قسمة التركات بين الورثة، وإعطاء كل ما يستحقه من الميراث، وهو العلم الذي بينه الله تعالى في القرآن، ووضح الفرائض، ثم بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم الباقي، ومع ذلك فإنها قد يكون فيها شيء من الغموض ، فلأجل ذلك أولاها العلماء العناية، فتكلموا على الفروض، وذكروا أن الفروض ستة كما تقدم.
فذكروا أن أهل الثلث صنفان: الأم والأخوة من الأم.
أهل الثلثين أربعة أصناف: البنات، وبنات الابن، والأخوات الشقائق، والأخوات لأب.
أهل الصنف خمسة: الزوج، والبنت، وبنت الابن، والأخت الشقيقة، والأخت لأب.
أهل الربع اثنان: الزوج، والزوجة.
أهل الثمن واحد: الزوجة، أو الزوجات.
أهل السدس سبعة: الأم، والأب، والجد، والجدة، وبنت الابن، والأخت لأب، والأخ من أم. ثم ذكروا أحوالهم وتوسعوا؛ توسعوا في أحوالهم، ثم ذكروا العول في الفروض .(1/413)
فمثلا: نأتي بأحوال بنت الابن، نقول: تارة تأخذ النصف كاملا، وتارة تأخذ النصف عائلا، وتارة تشارك في الثلثين كاملا، وتارة تشارك في الثلثين عائلا، وتارة تأخذ السدس كاملا ، وتارة تأخذ السدس عائلا، وتارة تشارك في السدس كاملا، وتارة تشارك في السدس عائلا، وتارة تأخذ المال مع العصبة، أي: مع إخوتها، وتارة تأخذ ما بقي بعد الفروض مع العصبة، وتارة تسقط. فيكون لها أحد عشرة حالة .
ولو جعلنا لكل حالة مثالا لطال بنا التفصيل، ولكنها تؤخذ مما تقدم ، فنقول: تأخذ النصف إذا انفردت؛ إذا مات ميت، وله بنت ابن، وله أخت شقيقة، وأخ شقيق، فإن بنت الابن تأخذ النصف، والشقيقة والشقيق يأخذان الباقي تعصيبا ، فإذا كان عندنا بنتا ابن، وأخت شقيقة، وأخ شقيق، فإن بنتي الابن لهما الثلثان، والأخت الشقيقة وأخوها لهما الباقي تعصيبا.
فإذا كان عندنا -مثلا- أب، وأم، وزوج، وبنت ابن ، نحتاج أن نلقي بعض المسائل لعل الطالب يتمرن على كثرتها، ويعرف كيف تكون المسألة عائلة، وكيف تكون المسألة عادلة ؟ فلعلك تكتب هذه المسألة وتتمرن على حلها: أم، وأب، وزوج، وبنت ابن ، هذه يعرف كم فرض الأبوين؟ وكم فرض الزوج؟ وكم فرض بنت الابن ؟ كذلك إذا كان عندنا -مثلا- أخوات متفرقات؛ أخت شقيقة، وأخت من الأب، وأختان من الأم، وزوجة، وأم ، فهذه -أيضا- تحتاج إلى قسمة، وذلك لأنها مما تكثر فيها الفروض ، فيعرف كم نصيب الأخت الشقيقة؟ وكم نصيب الأخت من الأب؟ وهكذا الأختين من الأم ، فنعرف أن النساء الوارثات كلهن يرثن بالفرض إلا البنت مع أخيها تسمى عصبة بالغير، وبنت الابن مع أخيها تسمى عصبة بالغير، والأخت الشقيقة مع الأخ الشقيق عصبة بالغير، والأخت من الأب مع أخيها الأخ من الأب عصبة بالغير ، ثم هناك أيضا عصبة مع الغير، وهن الأخوات، إذا كان هناك بنات، فإن الأخوات يأخذن ما بقي بعد البنات، ويسمى تعصيبا مع الغير.(1/414)
وقد ذكرنا دليل ذلك الحديث الذي رواه البخاري: " أن أناسا جاءوا إلى أبي موسى، فسألوه عن بنت، وأخت، وبنت ابن " فأبو موسى عرف أن في القرآن فرض البنت النصف: { ((((( ((((((( ((((((((( ((((((( (((((((((( } وفرض الأخت النصف في قوله تعالى: { (((((((( (((((( ((((((( (((((( ((( (((((( } فأعطى الأخت النصف، والبنت النصف، وأسقط بنت الابن ، ثم أحالهم على ابن مسعود ليسألوه، فجاءوا إليه، فسألوه، فقال: " لقد ضللت إذًا، وما أنا من المهتدين، لأقضين فيها بقضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت " الذي بقي للأخت ، هل نسميه فرضا ؟
لا نسميه فرضا؛ لأن الأخت لا ترث الفرض إلا مع عدم الفرع الوارث ، وعندنا -الآن- فرع وارث ألا وهو البنت، وبنت الابن.
ميراث الأخت فرضا إنما يكون إذا كانت المسألة كلالة، والكلالة: هو من لا والد له ولا ولد، والولد موجود عندنا -الآن- البنت، وبنت الابن من الأولاد، فلا يكون للأخت النصف فرضا ، وإنما لها الباقي بعد البنت تعصيبا، ويسمى: تعصيبا مع الغير . فأصبح الآن المعصبون -أهل التعصيب، أو التعصيب- ثلاثة أقسام:
1.عصبة بالنفس 2. وعصبة بالغير 3. وعصبة مع الغير.
نقرأ آخر الباب.
أصحاب الفروض والعصبات ومسائل في الميراث
قال -رحمه الله- في كتاب المواريث: وكذلك جميع الذكور غير الزوج والأم عصبات، وهم: الإخوة الأشقاء، أو لأب وأبناؤهم، والأعمام الأشقاء، أو لأب وأبناؤهم، أعمام الميت، وأعمام أبيه، وجده، وكذلك البنون وبنوهم ، وحكم العاصب: أن يأخذ المال كله إذا انفرد، وإن كان معه صاحب فرض أخذ الباقي بعده ، وإذا استغرقت الفروض التركة لم يبق للعاصب شيء، ولا يمكن أن تستغرق مع ابن الصلب، ولا مع الأب.(1/415)
وإن وجد عاصبان فأكثر فجهات العصوبة على الترتيب الآتي: بنوة، ثم أبوة، ثم أخوة وبنوهم، ثم أعمام وبنوهم، ثم الولاء وهو المعتق، وعصبات المتعصبون بأنفسهم، فيقدم منهم الأقرب جهة، فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة، فإن كانوا في المنزلة سواء قدم الأقوى منهم، وهو الشقيق على الذي لأب، وكل عاصب غير الأبناء والأخوة لا ترث أخته معه شيئا، وإذا اجتمعت فروض تزيد على المسألة بحيث لا يسقط بعضهم بعضا، عالت بقدر فروضهم ، فإذا كان زوج، وأم، وأخت لغير أم، فأصلها ست، وتعول لثمانية ، فإن كان معهم أخ لأم فكذلك ، فإن كانوا اثنين عالت لتسعة ، فإن كان الأخوات لغير أُمّ ثنتين عالت لعشرة ، وإذا كان بنتان، وأم، وزوج عالت من اثنتي عشرة إلى ثلاثة عشرة ، فإن كان معهم أب عالت إلى خمسة عشر.
فإن كان بدل الزوج زوجة فأصلها من أربع وعشرين، وتعول إلى سبع وعشرين ، وإن كانت الفروض أقل من المسألة، ولم يكن معهم عاصب ، رد الفاضل على كل ذي فرض بقدر فرضه ، فإن عدم أصحاب الفروض والعصبات ورث ذوي الأرحام؛ وهم من سوى المذكورين ومنزلون منزلة من أدلوا به ، ومن لا وارث له فماله لبيت المال، يصرف في المصالح العامة والخاصة ، وإذا مات الإنسان تعلق بتركته أربعة حقوق مرتبة: أولها مؤنة التجهيز ، ثم الديون الموثقة والمرسلة من رأس المال ، ثم إذا كان له وصية تنفذ من ثلثه للأجنبي ، ثم الباقي للورثة المذكورين . والله أعلم .
وأسباب الإرث ثلاثة: النسب، والنكاح الصحيح، والولاء. وموانعه ثلاثة: القتل، والرق، واختلاف الدين. وإذا كان بعض الورثة حملا، أو مفقودا، أو نحوه عملت بالاحتياط، ووقفت له، إن طلب الورثة قسمة التركة، عملت بما يحصل به الاحتياط على حسب ما قرره الفقهاء -رحمهم الله تعالى-.(1/416)
ذكر أن جميع الذكور كلهم عصبات إلا الزوج والأخ من الأم، ويقولون: إن التعصيب هو: الإرث بلا تقدير ، هذا هو التعصيب: الإرث بلا تقدير، وذلك لأن صاحب الفرض يرث فرضه الذي هو نصيب مقدر شرعا، لا يزيد إلا بالرد، ولا ينقص إلا بالعول؛ فصاحب الفرض يأخذ فرضه ، وأما صاحب التعصيب فإنه يرث بلا تقدير ، فتارة يأخذ المال كله، وتارة لا يأخذ إلا ما بقي ولو قليلا ، وتارة يسقط .
الذكور كلهم عصبة؛ لما ذكر الله تعالى الأولاد، قال: { ((((((((((( (((((( ((((( ((((((((((((( } ولم يقدر للولد الواحد الذكر نصيبه، وقدر للأنثى وللأنثيين ، وقدر نصيب البنت بالنصف، والبنات بالثلثين، ولم يقدر نصيب الابن، ولا ابن الابن، ولا الابنين ، لماذا ؟ لأنه يأخذ المال كله، كذلك الإخوة لما ذكر الأخت جعل نصيبها النصف، وذكر الأختين جعل نصيبهما الثلثين، ثم ذكر الإخوة جميعا والأخوات، فذكر أن لهما الثلثان { ((((((((( (((((( ((((( ((((((((((((( } ذكر الأخ، ولم يذكر ميراثه، بل قال: { (((((( (((((((((( ((( (((( ((((( ((((( (((((( } يعني: يرثها كل المال ، يرثها كل مالها إن لم يكن لها ولد، فدل على أن الإخوة يرثون بالتعصيب؛ واحدهم أو عددهم.
جميع الذكور كلهم عصابات إلا الزوج، فإن نصيبه مقدر شرعا؛ إما النصف، أو وإما الربع، ويدخل عليه العول، وكذلك الأخ من الأم، ولو كانوا من الرجال فنصيبه مقدر؛ إما السدس، وإما المشاركة في الثلث، هذان يرثان بالفرض.
أما بقية الذكور فإنهم عصبة؛ فمنهم الإخوة الأشقاء وبنوهم وبنو بنيهم وإن بعدوا، ومنهم الإخوة من الأب وبنوهم وبنو بنيهم وإن نزلوا .
فالأخ الشقيق عصبة، وكذلك ابنه وابن ابنه، والأخ من الأب عصبة، وابنه وابن ابنه، والعم الشقيق، أو العم لأب، أو ابن العم الشقيق، أو ابن العم لأب، أو عم الأب، أو ابنه، أو عم الجد، أو ابنه ، أعمام الأب، أو أعمام الجد ، وكذلك الأبناء.(1/417)
عدوا العصبة اثنا عشر: الابن، وابن الابن، والأب، والجد، والأخ الشقيق وابنه، والأخ لأب وابنه، والعم الشقيق وابنه، والعم لأب وابنه، هؤلاء من القرابات. اثنا عشر كلهم عصبات، ويلحق بهم المعتق والمعتقة، فإنهم أيضا عصبة يرثون بالتعصيب .
يقول: ما حكم العاصب ؟
العاصب أحكامه ثلاثة: إذا انفرد حاز المال، وإذا بقي شيء بعد أهل الفروض أخذه ، وإذا استغرقت الفروض التركة سقط ، هذه أحكام العاصب؛ فمثلا: إذا كان الميت ليس له إلا عمه؛ عمه أخو أبيه، يأخذ المال كله، هذا بالفرض، أو ابن عمه، أو أخوه، أو ابن أخيه ماله إلا هذا العاصب يحوز المال ، فإذا كان مع عمه أصحاب فروض.
إذا كان الميت امرأة، ولها زوجها، وأمها؛ لها زوج، وأم، وأخت من الأم، وعم ، في هذه الحال نعطي الزوج النصف: ثلاثة، ونعطي الأم الثلث: اثنان، ونعطي الأخت من الأم السدس، العم يسقط ، استغرقت الفروض التركة، ما بقي للعم شيء؛ لأنه عصبة ، والعاصب إنما يأخذ ما بقي بعد أهل الفروض، فلو لم يكن معنا أخت من الأم ، بل إنما هو زوج، وأم، وعم، ماذا يبقى ؟ يبقى السدس، نعطه العم، وهكذا لو لم يبق إلا أقله .
لو كان معنا أختان شقيقتان، وزوجة، وعم؛ الأختان الشقيقتان لهما الثلثان: ثمانية من اثني عشر، والزوجة لها الربع: ثلاثة من اثني عشر، كم بقي من اثني عشر ؟ واحد نصف السدس يأخذه العم ، يعني: ما أخذ إلا هذا القدر القليل .
وهكذا لو كان عندنا بنتان للميت، وزوجة للميت، وأم للميت، وعم ، أليس البنتان لهما الثلثان: ستة عشر من أربعة وعشرين، الأم لها السدس: أربعة من أربعة وعشرين، هذه عشرون ، الزوجة لها الثمن: ثلاثة من أربعة وعشرين، ماذا بقي ؟ ثلث الثمن يأخذه العم، الذي هو العاصب، فهو يأخذ م بقي قل أم كثر ، يعني: هذا حكم العاصب؛ يأخذ المال كله إذا انفرد، فإن كان معه صاحب فرض أخذ الباقي، فإذا استغرقت الفروض التركة لم يبق للعاصب شيء وسقط.(1/418)
ولا يمكن أن تستغرق مع الابن، ولا مع الأب ، مع ابن الصلب، ولا مع الأب ، أما مع ابن الابن فقد تستغرق . لماذا لا تستغرق مع الابن ؟
لأن الابن يحجب الإخوة، يحجب الأخوات، كذلك -أيضا- ينقص الزوج أو الزوجة، ينقص الأب والأم، لا يرث مع الابن إلا من أهل الفروض: الزوج، أو الزوجة، والأم، والأب، هؤلاء الذين يرثون مع الابن، يسقط البنات، أو يعصبهن، ويسقط أولاد الابن، ويسقط الإخوة والأخوات، ويسقط الأجداد والجدات، ما يرث معه إلا الأب، والأم، والزوج.
فإذا كان معنا أب، وأم، وزوج، وابن، يبقى للابن؛ لأن الزوج ما له إلا الربع، حجبه الابن، والأبوين لكل واحد منهما السدس؛ لقوله تعالى: { (((((((((((( ((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((( ((((( (((((( ((( ((((( ((((( (((((( } فلكل واحد منهما السدس، فعندنا -الآن- سدسان، وربع، تكون المسألة من اثني عشر ، فربع الاثني عشر: ثلاثة، وسدسها: اثنان، وسدسها الثاني: اثنان، ويبقي خمسة للابن، على الرغم أن الابن ما يسقط بحال ، كذلك الأب لا يسقط بحال ، ولكن قد تستغرق الفروض التركة، وتعول له المسألة ، تعول له؛ لأنه وارث بكل حال.
فلو فرضنا -مثلا- أن عندنا بنتان، وزوج، وأم، وأب ، المسألة من اثني عشر؛ لأن الزوج لا يرث إلا الربع مع البنات، فالزوج له ثلاثة، والبنتان لهما ثمانية من اثني عشر، هذه أحد عشر، والأم لها اثنان، هذه ثلاثة عشر، استغرقت الفروض. فهل يسقط الأب؟
ما يمكن أن يسقط ، الله تعالى جعل له فرضا بقوله: { (((((((((((( ((((((( ((((((( (((((((((( ((((((((( } تعول له المسألة، فيكون له السدس ، فتعول المسألة إلى خمسة عشر على الرغم أن الأب لا يمكن أن يسقط، وكذلك الابن.(1/419)
ثم ذكر أنه إذا وجد عاصبان فأكثر، فجهات العصوبة على الترتيب الآتي: بنوة، ثم أبوة، ثم أخوة وبنوهم، ثم أعمام وبنوهم، ثم الولاء، وهو المعتق، وعصابات المتعصبون بأنفسهم ، تسمى هذه: جهات التعصيب ، فإذا كثر عندك العصبة، فبأيهم تقدم ؟
إذا كان مثلا عندك ابن، وابن ابن، وأب، وجد، وأخ شقيق وابنه، وأخ لأب وابنه، وعم وابنه، وكذلك معتق وابنه، من الذي تقدمه ؟
لا بد أنك تعرف من هو أحق بالتقديم: الابن؛ الابن يُسقط هؤلاء كلهم، ويصير هو العصبة إلا الأب، فإنه لا يسقطه، بل يعطيه سدسا، يكون له السدس، أما البقية فإنهم لا يرثون مع الابن، وكذلك إذا لم يكن هناك ابن، ولكن هناك ابن ابن، وأب، وجد، وأخ شقيق وابنه ، وأخ لأب وابنه ، عم شقيق وابنه، من الذي يكون العاصب ؟
ابن الابن؛ لأنه فرع، ولأنه من الولد، فيقوم مقام أبيه ، كذلك إذا لم يكن عندنا ابن، ولا ابن ابن، ولا ابن ابن ابن، ولكن عندنا أب، وجد، وأخ شقيق وابنه، وأخ لأب وابنه، وعم شقيق وابنه، وعم لأب وابنه، فبأيهم نبدأ ؟ من هو الذي يكون العاصب ؟
الأب؛ لأنه أقربهم ، فيقدم الأب على هؤلاء، ويكون هو العاصب، فإذا لم يكن عندنا أب قام مقامه الجد هذا على خلاف ، وابن سعدي ما ذكر الخلاف ترجح عنده أن الجد يسقط الإخوة، وقد وقع خلاف في عهد عمر - رضي الله عنه - هل الجد يسقط الإخوة، أو لا يسقطهم ؟
فأكثر العلماء على أنه لا يسقطهم، وأنهم يقتسمون المال هو وهم على قسمة معروفة في كتب الفقه ، ولكن اختار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وشيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم، وشيخنا ابن باز ، اختاروا أن الجد يسقط الإخوة، وأنه يقوم مقام الأب، وقد رجح ذلك ابن القيم في "إعلام الموقعين" بعشرين وجها مذكورة في الكتاب ، استدل على أن الأب والجد يتناوبان؛ يقوم الجد مقام الأب ، وأن الجد أب، فعلى هذا الجد يسقط الإخوة.(1/420)
إذا كان عندك جد، وأخ شقيق وابنه، وأخ لأب وابنه، وعم شقيق وابنه، وعم لأب وابنه ، فالجد هو الذي يعصب، ويسقط الباقيين ، فإذا لم يكن هناك أب، ولا جد، يعني: لا أصل ولا فرع ، عندك أخوة أشقاء وبنوهم، وأخوة لأب وبنوهم، وأعمام أشقاء وبنوهم، وأعمام لأب وبنوهم، فالمقدم من ؟
المقدم الأشقاء، وذلك لقوتهم ، ولو كان الإخوة لأب مثلهم في القرب، ولكن هؤلاء يدلون بجهة ، وهؤلاء يدلون بجهتين، والذي يدلي بقرابتين أولى من الذي يدلي بقرابة واحدة، فإذا لم يكن هناك أخوة أشقاء قدمت الإخوة من الأب على أبناء الإخوة الأشقاء ، فإذا لم يكن هناك أخوة أشقاء، ولا لأب، قدمت أبناء الأشقاء على أبناء الإخوة من الأب ، فإذا لم يكن هناك أخوة أشقاء ولا بنوهم، ولا إخوة لأب ولا بنوهم، قدمت الأعمام لأب، الأعمام لأب على بنيهم. الأعمام الأشقاء، ثم الأعمام لأب، ثم أبناء الأعمام الأشقاء، ثم أبناء الأعمام لأب. هكذا ترتيبهم.
تقول -مثلا-: الابن، ثم ابن الابن، ثم الأب، ثم الجد، ثم الأخ الشقيق، ثم الأخ لأب، ثم ابن الشقيق، ثم ابن الأخ لأب، ثم العم الشقيق، ثم العم لأب، ثم ابن العم الشقيق، ثم ابن العم لأب. هذا ترتيبهم. لماذا قدمنا الإخوة على الأعمام ؟ لأنهم أقرب منهم جهة؛ هؤلاء جهة الإخوة، وهؤلاء جهة العمومة. لماذا قدمنا الأشقاء على الإخوة لأب، مع كونهم في درجة واحدة ؟ لأنهم يدلون بالقوة، يعني: أنهم أقوى، والبيت المشهور للجعبري يقول:
فبالجهة التقديم ثم بقربه
1@وبعده التقديم بالقوة اجعلا
أولا تقدم بالجهة؛ فتقدم البنوة على الأبوة.
ثانيا تقدم بالقرب؛ فتقدم ابن الابن على ابن ابن ابن ، هذا التقديم يسمى تقديما بالقرب ، وتقدم الأخ الشقيق على ابن الشقيق، والعم الشقيق على ابن العم الشقيق، هذا يسمى تقديما بالقرب ، ثم بعد ذلك التقديم بالقوة؛ الأخ الشقيق أقوى من الأخ لأب، مع أن القرب واحد.(1/421)
العم الشقيق أقوى من العم لأب، مع أن القرب واحد، والدرجة واحدة؛ فتقديم بالجهة، ثم تقديم بالقرب، ثم تقديم بالقوة؛ هذا ذكره بقوله: فيقدم منهم الأقرب جهة .
عرفنا الجهات أنها خمس؛ ذكر أن الجهات خمس: بنوة، ثم أبوة، ثم أخوة وبنوهم، ثم عمومة وبنوهم ثم ولاء ، فالجهات خمس؛ فيقدم منهم الأقرب جهة على ترتيبهم: بنوة، ثم أبوة، ثم أخوة وبنوهم، ثم أعمام وبنوهم، ثم الولاء وهو المعتق، وعصبات المتعصبون بأنفسهم؛ فيقدم منهم الأقرب جهة، فإن كانوا في جهة واحدة ، في جهة واحدة مثل ابن، وابن ابن، وابن ابن ابن، أليسوا في جهة واحدة ؟
نعم. فيقدم الأقرب؛ الابن أقرب من ابن الابن، الأقرب منزلة ، فإن كانوا في المنزلة سواء، قدم الأقوى منهم، كالأخ الشقيق والأخ لأب في درجة واحدة، أو العم الشقيق والعم لأب في درجة واحدة، يقدم الأقوى منهم، وهو الشقيق على الذي لأب ، وكل هذا أخذ من الحديث قوله -عليه السلام-: " ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر " كلمة أولى نبهتنا على أننا نأخذ الأولى من كل سبب، فالأقرب أولى من الأبعد ، والأقوى أولى من الأضعف ، البعد يكون بجهة البنوة؛ لأن الابن أقرب من ابن الابن، وأما القوة فلا تكون إلا في الإخوة والأعمام ، الإخوة بعضهم أقوى من بعض؛ الشقيق أقوى من الأب ، من ابن الأب.
والأعمام -كذلك- بعضهم أقوى من بعض؛ العم الشقيق أقوى من العم لأب، فيقدم بالقوة؛ لكونه أولى.(1/422)
يقول: وكل عاصب غير الأدنى، والأخوة لا ترث معه أخته شيئا، عرفنا أن الابن ترث مع أخته، وابن الابن يعصب بنت الابن سواء كانت أخته، أو بنت عمه التي في درجته، أو التي أعلى منها إذا احتاجت إليه ، مثاله: إذا كان عندنا بنتان للميت، وبنت ابن، وابن ابن ابن أنزل منها؛ فالبنتان يأخذن الثلثين، وبنت الابن كانت ساقطة، ولكن ابن أخيها الذي أنزل منها يعصبها، تقول له: لو كان أبوك حي لورثتُ معه، فأنا أقرب منك، عصبني كما يعصبني أبوك فيعصبها، يعصبها أخوها، وهو ابن الابن، أو يعصبها ابن أخيها، وهو ابن ابن ابن.
كذلك -أيضا- الأخت الشقيقة ترث مع أخيها تعصيبا، والأخت لأب ترث مع أخيها تعصيبا، ولكن بنت الأخ ما يعصبها ابن الأخ؛ لأنها ليست من الورثة، وكذلك العمة ما يعصبها العم ، وكذلك بنت العم ما يعصبها العم، ليست وارثة. النساء ما يرث منهن أبعد من الأخت؛ فبنت الأخ، وكذلك أخت الأب وهي العمة، وكذلك بنت العم ونحوهن ما يرثون بالفرض، ولا بالتعصيب، لا يعصبها أخوها . إذا اجتمعت فروض تزيد على المسألة بحيث لا يسقط بعضهم بعضا، عالت بقدر فروضها، عالت بقدر فروضهم.
قد ذكرنا أن العول زيادة في السهام نقص في الأنصبة، وسببه أن الفروض قد تكثر، وكلهم وارثون، ولا يسقط بعضهم بعضا، فتعول المسألة ويدخل عليهم النقص كلهم .
فمثلا: إذا كان عندك أخت شقيقة، وأخت من الأب، وزوج ، أليس الزوج يأخذ النصف: ثلاثة، والأخت الشقيقة تأخذ النصف: ثلاثة، هل تسقط الأخت من الأب؟
الأخت من الأب صاحبة فرض تأخذ السدس تكملة الثلثين، ما تسقط، فنعطيها السدس، فتكون المسألة من سبعة؛ فنقسم المال من سبعة، بدل ما تأخذ الشقيقة النصف تأخذ ثلاثة أسباع، بدل ما يأخذ الزوج النصف يأخذ ثلاثة أسباع، هذا يسمى عول.
كذلك وقع في عهد عمر أن امرأة ماتت، ولها زوج، وأخت، وأم ، الزوج له النصف، والأخت لها النصف، والأم لها الثلث ، من أين نعطي لهم ؟ نصف ونصف، من أين نعطي الأم؟(1/423)
تعول لها المسألة، فنجعل المسألة من ستة، وهي مخرج السهام، نحتاج أن نذكر لكم المخارج، وإن كانت تستغرق وقتا، لكن من باب التعريف، فنقول: إذا كانت المسألة ثلث ونصف، من كان يخرج؟ ثلث أليس مخرجه من ثلاثة؟ ونصف مخرجه من اثنين؟ فتضرب اثنين في ثلاثة بستة، فتكون المسألة من ستة، فتكون المسألة من ستة؛ للأخت النصف: ثلاثة، وللزوج النصف: ثلاثة، وللأم الثلث: اثنان، عالت المسألة إلى ثمانية .
كذلك -مثلا- لو كان عندنا ، عندنا -مثلا- في هذه المسألة: أختان شقيقتان لهما الثلثان، وزوج له النصف، وأم لها السدس؛ لوجود الأختين حجبنها، عالت المسألة إلى ثمانية؛ لأن الأختين لهما الثلثان، هذه أربعة، والزوج له النصف، هذه سبعة، والأم لها السدس، هذه ثمانية، فلن يكون معنا أم، ولكن معنا أختان من الأم، أليس لهما الثلث؟
نقول: الأختان الشقيقتان لهما الثلثان، والزوج له النصف، والأختان من الأب لهما الثلث، عالت المسألة إلى تسعة ، فإذا وجدت معنا الأم عالت إلى عشرة. الزوج له النصف، والأختان لهما الثلثان، والأختان من الأب لهما الثلث ، يعني: ثلث الستة؛ الأم لها السدس، سدس الستة أصبحت عشرة، هذا نهاية عول هذه المسألة .
كذلك إذا كان عندنا زوجة لها الربع، وأختان لهما الثلثان، وأم لها السدس، وأختان من الأم لهما الثلث، ننظر أليس مخرج الربع من أربعة؟ أليس مخرج الثلثين من ثلاثة؟ أليس مخرج السدس من ستة ؟
نعم مخرج السدس والثلث من ستة، وكذلك الثلثان، فعندنا الآن ستة، الستة فيها النصف، وفيها الثلث، وفيها الثلثان، وعندنا الربع مخرجه الأربعة، مخرج الربع أربعة، كيف نعمل حتى نعرف أصل المسألة ؟
ننظر بينهم فنجد بينهم موافقة، أليس الأربعة فيها نصف، والستة فيه نصف؟ نأخذ نصف الأربعة: اثنين، نضربه في الستة باثني عشر، أو نأخذ نصف الستة: ثلاثة، ونضربه في الأربعة باثني عشر، يسمى هذا أصل المسألة . فكيف نعطيهم الآن ؟(1/424)
عندنا أختان شقيقتان لهما الثلثان: ثمانية، ثلثي اثني عشر: ثمانية، وعندنا الزوجة لها الربع: ثلاثة، هذه أحد عشر، الأم لها السدس هذه ثلاثة عشر ، الإخوة من الأم لهم الثلث، ثلث اثني عشر: أربعة، وصلت إلى سبعة عشر ، عالت المسألة من اثني عشر إلى سبعة عشر ، يسمى هذا العول.
يقول -مثلا-: عالت المسألة ، فإن كان زوج، وأم، وأخت لغير أم ، أصلها ست، وتعول لثمانية ، أصلها ستة؛ لأن فيها نصف، ونصف، وثلث. أصلها من ستة، ولكن نصف ونصف وثلث ، نصف الستة: ثلاثة ، نصف الستة: ثلاثة، وثلث الستة: اثنين ، عالت إلى ثمانية، فإن كان معهم أخ لأم فكذلك ، لماذا ما زادت ؟
لأن الأخ لأم مع الأخت لغير أم حجبا الأم إلى السدس ، فلم يكن لها إلا سدس ، فأصبح عندنا سدسان ونصفان ، نصفان؛ نصف للشقيقة، ونصف للزوج، وسدس للأم، يعني: حجبها أخوها ، يعني: إذا كان عندنا زوج فله النصف، وأخت لغير أم لها النصف، وأم لها السدس، وأخ لأم له السدس أصبح عندنا نصفان وسدسان، فعالت إلى ثمانية؛ فإذا كان الإخوة اثنين، الإخوة من الأم أليس لهما الثلث؟
تعول إلى تسعة، فإن كان الأخوات لغير أم ثنتين شقيقتين، وأختين لأم، وزوج، وأم ، عالت إلى عشرة ، وإذا كان عندنا بنتان، وأم، وزوج، عالت إلى ثلاثة عشر، من اثني عشر إلى ثلاثة عشر؛ لأن البنتين لهما الثلثان: ثمانية، والأم لها السدس: اثنان، هذه عشرة، والزوج له الربع: عشرة وثلاثة، ثلاثة عشرة عالت إلى ثلاثة عشر ، فإن كان معهم أب ، فالأب أيضا له السدس عالت إلى خمسة عشر، فإن كان ما عندنا أب ولا عندنا بنات، ولكن عندنا شقيقتان لهما الثلثان، وأختان من الأم لهما شقيقتان، لهما الثلثان: ثمانية، وأختان من الأم لهما الثلث هذه اثنا عشر، وزوج له الربع هذه خمسة عشر، وأم لها السدس: اثنان، هذه سبعة عشر.(1/425)
يقول: فإن كان بدل الزوج زوجة، فأصلها من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين ، وتسمى المنبرية ؛ قالوا: إن عليا - رضي الله عنه - سئل عنها، وهو على المنبر، فقال: صار الثمن تسعا، واستمر في خطبته ، الثمن أصبح تُسعا ، وصورة إذا كان عندنا بنتان، وأبوان، وزوجة ، أليس البنتان لهما الثلثان: ستة عشر؟ أليس الأبوان لهما الثلث، سدس وسدس: ثمانية، استغرق المال ، ثلثان وثلث: ثمانية وستة عشر، أربعة وعشرون، ماذا يبقى للزوجة؟ تعول لها المسألة تعول بالثمن، فيصير الثمن تسعا، فتصير إلى سبعة وعشرين. هذه مسائل العول .
تعرفون أن أصول المسائل سبعة؛ أصل اثنان، وأصل ثلاثة، وأصل أربعة، وأصل ستة، وأصل ثمانية، وأصل اثنا عشر، وأصل أربعة وعشرون. هذه تسمى أصول المسائل.
أصل اثنان إذا كان في المسألة نصف، فإنها من اثنين؛ إذا كان عندك -مثلا- زوج، وعم من اثنين، أو زوج وأخت من اثنين، الزوج: النصف، والأخت: النصف، فإذا كان فيها ثلث فهي من ثلاثة ، فعندك -مثلا- أم، وعم؛ فالأم لها الثلث، والعم له الباقي من ثلاثة ، أو ثلث وثلثان، الثلثان للشقائق، والثلث للإخوة من الأم، ثلث وثلثان ، تكون من ثلاثة، فإذا كان فيها ربع وباقي، أو ربع ونصف فهي من أربعة.
إذا كان عندك -مثلا- بنت، وزوج، وعم ؛ أليس الزوج له الربع من أربعة؟ فالزوج له الربع من أربعة ، الزوج له الربع، والبنت لها النصف، والعم له الباقي، الباقي: واحد، تسمى من أربعة.
يقول: هذه المسائل لا تعول ، الاثنين والثلاثة والأربعة والثمانية ، الثمانية إذا كان فيها ثمن ونصف، أو ثمن وباقي، أو ثمن ونصف وباقي ؛ فإذا كان عندك زوجة، وبنت، وعم من ثمانية. للزوجة واحد الثمن، وللبنت النصف، نصف الثمانية: أربعة، وللعم الباقي. هذه أيضا لا تعول ، أما أصل ستة، وأصل اثنا عشر، وأصل أربعة وعشرون فمر بنا أنها تعول .(1/426)
بعدما ذكر هذه الفروض، وما يعول منها، وما لا يعول، ذكر بعد ذلك ضد العول الذي هو الرد، فهو زيادة في الأنصبة نقص في السهام .
متى يحتاج إلى الرد ؟ إذا كانت الفروض أقل من المسألة، ولم يكن هناك عاصب، فإن الباقي يرد على أصحاب الفروض؛ كل واحد بقدر فرضه . هذا هو الرد؛ أن تكون الفروض أقل من المسألة، وألا يوجد عاصب ؛ فحينئذ ترد الباقي على أصحاب الفروض، فإن كانوا صنفا واحدا قسمته على عدد رؤوسهم، وإن كان فردا واحدا أخذ المال كله، وإن كانوا صنفين، أو أكثر جعلت سهامهم كأصل المسألة، وأعطيت كلا منهم بقدر سهامه من المال كله. هذا مسألة الرد .
ويتضح بالأمثلة: فإذا كان عندنا أم، وليس للميت غير هذه الأم أخذت المال كله فرضا وردا ؛ تأخذ المال كله مع أن ما لها إلا الثلث، ولكن نعطيها المال فرضا وردا، فإن كان عندنا جدتان ؛ ما للميت إلا جدتان، فإنهما يأخذان المال كله فرضا وردا، وذلك أن إرثهما السدس، ولكن لم يوجد للميت عصبة، ولا أحد يرثه غير الجدتين، فيقسم المال بينهما.
وكذلك لو كان للميت أخ من الأم ليس له غيره، فإنه يأخذ المال كله فرضا واحدا، فإن كان أخوته من الأم عشرة، كلهم أخوته من الأم، وليس له قرابة غيرهم قسمنا المال بينهم على عدد رؤوسهم، وسميناه فرضا وردا ، هذا فيما إذا كان الوارث صنفا واحدا، فإن كان أكثر من صنف فإنك تجمع سهامهم، وتجعلها هي أصل المسألة، وتقسم المسألة عليهم.(1/427)
فتقول -مثلا-: إذا كان عندنا أم، وأخ لأم، نقول -مثلا- جدة ، وأخ من أم، أليس الجدة لها السدس والأخ لأم له السدس؟ السدسان: اثنان، وليس عندك إلا شخصان، تقسم المال بينهما، تقول: لكِ نصف، ولك نصف؛ لأنا ما وجدنا إلا سهمين جعلنا المال قسمين سهمين ، هذا على قدر سهامهما ، فإن كان بدل الجدة أم، وأخ من أم، أليس الأم لها الثلث: اثنان من ستة؟ والأخ له السدس: واحد من ستة؟ ما وجدنا إلا ثلاثة أسهم . نقسم المال بينهم على ثلاثة أسهم، نقول: لك يا أم ثلثان، لك يا أخ الثلث؛ بدل السدس أخذ الثلث ، بدل الثلث أخذت الثلثين. هذا مسألة الرد.
كذلك ولو كان عندنا بنت، وبنت ابن فقط، وليس للميت ورثة غيرهم؛ بنت وبنت ابن ، أليس فرض البنت النصف: ثلاثة من ستة؟ وفرض بنت الابن السدس، تكملة الثلثين؟ الجميع أربعة ، نقسم التركة على أربعة بدل ما كانت بنت الابن لها السدس تأخذ الربع ، بدل ما كانت بنت الابن البنت لها النصف أخذت ثلاثة الأرباع، حيث لم يكن هناك وارث غيرهما.
كذلك لو وجدنا بنتين، وأم فقط ، بنتين أليس لهما الثلثان؟ أُمّ أليس لها السدس؟ نقسم المال على خمسة؛ لكما يا بنات أربعة الأخماس، لك يا أم الخمس ، هذا يسمى الرد ، رددناه عليهم.
أكثر الفقهاء قالوا: الزوج والزوجة لا يرد عليهما، ولكن ابن سعدي كأنه يختار الرد عليهما، واختار ذلك في غير هذا الكتاب، صرح بأن الزوج يدخل عليه العول، فكذلك يدخل عليه الرد .
انتقل بعد ذلك إلى نوع آخر، فإن عدم أصحاب الفروض، وعدم العصبات ورث ذوي الأرحام وهم من سوى المذكورين، وينزلون منزلة من أدلوا به، هذا يسمى ميراث ذوي الأرحام. من هم ذوو الأرحام ؟ هم من ليسوا بذي فرض ولا عصبة؛ أقارب الميت الذين لا يرثون، لا بفرض ولا بتعصيب .(1/428)
وقد أخذ ميراثهم من قوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((( (((((((( } فإذا كان للميت ذوو أرحام، ولم يوجد عاصب، ولم يوجد له صاحب فرض، فأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض، فنقربهم، ونعطيهم تركته أولى من أن نعطيها بيت المال، فأقاربه لهم حق في ماله، فهم أحق من غيرهم؛ فمثلا الجد -أبو الأم- ما يرث، فإذا عدم الورثة الذين هم أهل الفروض، وأصحاب التعصيب ورثنا الجد أبو الأم ، الخال، والخالة، والعمة، وبنت العم، وابن البنت، وابن الأخت هؤلاء أقارب ، فإذا مات ميت، وليس له إلا خال، أعطينا الخال المال قلنا ، يقول في الحديث: " الخال وارث من لا وارث له " كذلك إذا لم يوجد له إلا عمته، أو خالته أعطيناها ماله، وقلنا: هي أحق من غيرها، من بيت المال ونحوه؛ لأن لها قرابة، وهي من ذوي الأرحام فنعطيها ماله ، نعطيها تركته، وكذلك إذا وجدنا له بنت بنت، أو ابن بنت، أو ابن أخت الذي هو خاله فهم أحق من بيت المال، فيعطون ماله .
يقول المؤلف: ينزلون منزلة من أدلوا به ؛ يعني: فيما إذا كثروا، فإنهم ينزلون منزلة من أدلوا به، يقرب البعيد منهم، حتى يجعل بمنزلة الوارث؛ فإذا كان عندنا -مثلا- بنت بنت، وعندنا بنت أخ لأم، أو ابن أخ لأم ، ابن أخ من أم هل يرث ؟
ما يرث ابن الأخ من أم، ولكن أبوه يرث نجعله بمنزلة أبوه، وبنت البنت ما ترث، نجعلها بمنزلة البنت نقربها، وإذا قربناها ننظر، نقول: الآن عندنا بنت أخ لأم، من الذي يرث منهم؟ أليس البنت تسقط الأخ لأم؟ ما يرث معها الأخ لأم، إذًا أنت يا ابن الأخ لأم لا حق لك مع بنت البنت؛ لأن بنت البنت بمنزلة البنت، وابن الأخ لأم بمنزلة الأخ لأم، والأخ لأم يسقط مع البنت، قربنا هذا، وقربنا هذا.(1/429)
كذلك -مثلا- إذا كان عندنا عمة العمة ما ترث إلا مع ذوي الأرحام، وعندنا بنت عم نقربهم؛ العمة نجعلها بمنزلة الأب؛ لأنها أخته، هي تقول: أنا أخت أبيه، نجعلها بمنزلة الأب، وبنت العم نجعلها بمنزلة العم؛ بمنزلة أبيها، فنقول: عندنا عم، وأب من الذي يرث؟ أليس الأب يسقط العم ؟
إذاً بنت العم لا ترث مع العمة؛ لأنها أقرب، فأما إذا كانوا كلهم وارثون، فإنه يقسم بينهم كما يقسم بين المدلى بهم ، المدلى بهم مثلا ، فإذا كان عندنا بنت بنت، وبنت بنت ابن، أليس بنت البنت إذا نزلناها مكان أمها ترث، وبنت ابن ابن ننزلها مكان أمها ترث؟
تقول: هذه بمنزلة أمها، لها النصف، وهذه بمنزلة أمها لها السدس، تكملة الثلثين، أربعة يكون الإرث بينهما. هذا يسمى ميراث ذوي الأرحام، ينزلون منزلة من أدلوا به .
يقول بعد ذلك: ومن لا وارث له فماله لبيت المال؛ يصرف في المصالح العامة والخاصة ، إذا لم يوجد له مال أصلا يدخل ماله في بيت المال، يصرف في المصالح العامة والخاصة، في مصالح المسلمين .
ثم يقول بعد ذلك: إذا مات الإنسان تعلق بتركته أربعة حقوق:
أولها: مئونة التجهيز، ثم الديون الموثقة والمرسلة من رأس المال، ثم إذا كان له وصية تنفذ من ثلثه للأجنبي، ثم الباقي للورثة المذكورين. تسمى هذه الحقوق المتعلقة بعين التركة.
يبدأ بمئونة التجهيز قبل كل شيء، فيؤخذ من ماله أجرة المغسلين، يؤخذ من ماله ثمن الكفن، يؤخذ من ماله ثمن الحانوت، يؤخذ من ماله أجرة الحفار، إذا لم يوجد من يتبرع ؛ هذه تؤخذ من ماله، فلو قال الورثة: المال لنا. نقول: ليس لكم إلا بعد تجهيزه، ما لكم إلا ما بقي بعد التجهيز، التجهيز يقدم. هذا مئونة التجهيز.(1/430)
فإذا جهز بعد ذلك تقضى الديون؛ الديون إما أن يكون فيها رهن، وإما أن تكون بغير رهن، فيقدم الدين الذي فيه رهن يباع العين المرهونة، ويعطى صاحب الدين دينه، وأما البقية التي ليس فيها رهن فتباع بقية الأموال، فتوفَّى الديون كلها، فإذا أوفيت الديون، وبرئت ذمته انتقل إلى الوصايا، فإذا كان قد أوصى في آخر عمره، أو أوصى بعد موته: أعطوا فلانا كذا، أخرجوا ثلث تركتي، أو ربعها، أعطوا فلانة كذا، فهذه الوصايا تخرج من رأس المال قبل الميراث، وبعد الديون تخرج من المال ، روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: " إنكم تقرءون قوله تعالى: { (((( (((((( (((((((( (((((( (((((( (((( (((((( } وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالدين قبل الوصية " ؛ لأن الآية مذكورة فيها الوصية، ثم الدين { (((((((( (((((( (((((( (((( (((((( } وما ذاك إلا أن الوصية قد تكون ثقيلة على الورثة حيث إنها تبرع ، فجعلها الله مقدمة حتى تسهل عليهم، بخلاف الدين فهو حق آدمي يطالب به أصحابه. وبعدما تنتهي الوصية، وتنفذ الوصايا ولو كانت لأجنبي، الباقي يكون للورثة المذكورين الذين تقدم ذكرهم .
بعد ذلك يقول: أسباب الإرث ثلاثة: النسب، والنكاح الصحيح، والولاء، يعني: هذه الأسباب هي التي يكون بها الإنسان وارثا .
النسب: هو القرابة، وينقسم إلى ثلاثة -كما تقدم-: أصول وفروع وحواشي . هذا هو النسب.
فالأصول: الأب، والجد، وأبو الجد، وجد الجد، وإن بعد، وكذلك الأم، وأم الأم، وأم الأب، ونحوهم هؤلاء هم الأصول .
الفروع: الابن، والأبناء، وأبناء الأبناء، والبنات، وبنات الابن، ونحوهم هؤلاء هم الفروع .
الحواشي: الإخوة وبنوهم، والأعمام وبنوهم، وأعمام الأب وبنوهم، وأعمام أب الأب وبنوهم وإن نزلوا هؤلاء هم الحواشي ، هؤلاء هم النسب. النسب: القرابة، وقد تقدم كيفية توريثهم .
الثاني: النكاح الصحيح ، لماذا قيده بالصحيح؟ ليخرج النكاح غير صحيح .(1/431)
النكاح الذي عند الرافضة يسمونه نكاح المتعة، هذا نكاح باطل، فلا يحصل به التوارث؛ لأنه باطل من أصله، وكذلك إذا حكمنا بأن هذا النكاح فاسد أو باطل، فلا يحصل به التوارث ، لا بد أن يكون النكاح تام الشروط، ويعرفونه بأنه: عقد الزوجية الصحيح الخالي من الموانع الشرعية، وإن لم يحصل دخول، ولا خلوة، فيتوارث به الزوجان؛ يرث كل منهما الآخر بمجرد العقد، إذا حصل عقد الزوجية، حصل الملكة فإنهما يتوارثان .
فمثلا غير الصحيح يخرج إذا زوجت المرأة نفسها، فهذا ليس بصحيح ؛ لأن هنالك حائل " إلا بولي " إذا زوجها وليه بدون شهود فهذا غير صحيح؛ لحديث: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " فلا بد من شاهدي عدل .
إذا تزوجها، وهي في العدة، فهذا نكاح غير صحيح، باطل؛ لأنه لا يحل لها أن تتزوج حتى تنتهي عدتها.
إذا تزوج امرأة وعنده قبلها أربع، فهذا نكاح غير صحيح . وأمثلة ذلك كثيرة ، فلا بد من الصحيح الذي تمت شروطه عقد النكاح الصحيح .
أما الولاء فيعرفون الولاء بأنه: عصوبة سببها نعمة المعتق على عتيقه، فيرثه هو وعصبته الذكور دون الإناث .
المعتق يرث عبده العتيق، فإذا مات المعتق، وبقي أولاده ورثوا عتيق أبيهم الذكور فقط، ولا ترث معهم الإناث .
عصوبة يعني: عصبة سببها نعمة السيد على عبده بالعتق، فيرثه هو وورثته الذكور دون الإناث، هذا هو الولاء .
وموانعه ثلاثة: القتل، والرق، واختلاف الدين .
موانع الإرث ثلاثة: القتل: وهو ما أوجب دية، أو قصاصا، أو كفارة، فإنه يحرم من الإرث " القاتل ما يرث " هكذا ورد في الحديث، وفي قصة قتادة المدلجي أنه قتل ولدا له، فلما قتله عند ذلك جاء عمر - رضي الله عنه - وأمره بدفع الدية .(1/432)
أنت أيها الأب قتلته عمدا، ولكن لا نقتلك، ولكن ادفع الدية؛ وهذه الدية ليس لك منها شيء، الدية تكون لأمه ولإخوته، ولم يعط عمر القاتل، ولو كان أب قتل ولده، لا يرث القاتل، فإن كان القتل عمدا، ولكن سقط القصاص كقتل الوالد لولده، فإنه يحرم من الميراث، وإن كان القتل خطأ حيث فيه كفارة { ((((( (((((( ((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( (((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( } فلا يرث -أيضا- سدا للباب؛ مخافة أن يتسرع أحد الأقارب، ويقتل قريبه، ويقول: سأرثه، فيقال: من تعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه ، هذا القتل .
كذلك الرق: الرق: عجز حكمي يكون بالإنسان سببه الكفر، هذا تعريف الرق، فالرقيق هو المملوك ، المملوك لا يملك؛ لأن ما بيده لسيده ، فلو أعطيناه ميراثا من أبيه، وكان أبوه حرا، وأعطيناه لأخذه سيده، وسيده أجنبي، فالرقيق لا يرث، ولا يورث؛ لأن ما بيده لسيده، حتى لو كان له أولاد أحرار ما يرثونه، ميراثه لسيده، لكن إذا كان معتقا بعضه يسمى المبعض ، فالمبعض يرث، ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية .
الثالث: اختلاف الدين: إذا كان أحدهما كافر، فإنهما لا يتوارثان لحديث أسامة: " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم " واستثنوا الولاء أنه يرث بالولاء؛ إذا كان له عبد كافر قد أعتقه، فإنه يرثه، أو كان -مثلا- الكافر له عبد مسلم عتيق، فإنه يرثه إلا بالولاء على خلاف في ذلك .
يقول: وإذا بعض الورثة حملا، أو مفقودا، أو نحوه عملت بالاحتياط، ووقفت له، وينتظر الورثة قسمة التركة على سبيل ما يحصل به الاحتياط على حسب ما قرره الفقهاء -رحمهم الله-، يعني: توسع الفقهاء في هذا، حتى المتأخرون منهم فجعلوا باب الحمل، وذكروا فيه أكثر من ست صفحات ، سبع صفحات ، وكذلك باب المفقود .(1/433)
الحمل الذي يرث هو حمل هذه المرأة، فنحن إذا كان في الورثة حمل، لا ندري هل هو ذكر أم أنثى، أم ذكرين أم أنثين، أم ذكر وأنثى؟ فنحتار ونوقف له الأكثر ، الأكثر في الحمل، أنثيين، أو ذكرين، فإن كان الأكثر حمل أنثيين أوقفنا حمل أنثيين، أوقفنا نصيب أنثيين، وإن كان نصيب الذكرين أكثر، أوقفنا نصيب ذكرين. هذا الاحتياط .
وكذلك المفقود الذي انقطع خبره، لا يدرى خبره هل حي أم ميت؟ انقطع خبره، فمثل هذا -أيضا- يقولون: إن كان الغالب على سفره الهلاك، كالذي خرج من بيته بليل، ثم انقطع خبره يغلب على الظن أنه اغتيل، أو قتل غيلة، فمثل هذا ينتظر أربع سنين، فإن جاء وإلا قسم ماله ، ففي هذه المدة التي هي أربع سنين إذا مات أحد أقاربه يحبس نصيبه له؛ لأنه حكم بأنه حي، وإن كان الغالب على سفره البقاء، والحياة كالذي يسافر -مثلا- للهند، أو السند، أو أفريقيا، وينقطع خبره فينتظر بتمام عمره تسعين سنة، إذا تم عمره تسعين سنة قسم ماله، وقبل ذلك لا يقسم، وإذا مات أحد أقاربه في هذه المدة أعطي نصيبه كاملا، وحبس حتى يتحقق من أمره، ثم يقسم مع تركته لورثته .
وبعد الآذان نبدأ في باب العتق إن شاء الله والله أعلم وصلى الله على محمد بعد الصلاة.
باب العتق
وهو تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق، وهو من أفضل العبادات لحديث: " أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضوا من النار " متفق عليه، " وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها " متفق عليه.(1/434)
ويحصل العتق بالقول، وهو لفظ العتق، وما في معناه، وبالملك، فمن ملك ذا رحم محرم من النسب عتق عليه، وبالتمثيل بعبده بقطع عضو من أعضائه، أو تحريقه، وبالسراية لحديث: " من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوّم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق " متفق عليه، وفي لفظ: " وإلا قوم عليه واستسعى غير مشقوق عليه " متفق عليه.
فإن علق عتقه بموته فهو المدبر يعتق بموته إذا خرج من الثلث، فعن جابر " أن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر، فلم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله بثمانمائة درهم، وكان عليه دين ، فأعطاه ، وقال: اقض دينك " متفق عليه.
والكتابة: أن يشتري الرقيق نفسه من سيده بثمن مؤجل بأجلين فأكثر ، قال تعالى: { (((((((((((((( (((( (((((((((( ((((((( ((((((( } يعني: صلاحا في دينهم وكسبا ، فإن خيف منه الفساد بعتقه ، أو كتابته، أو ليس له كسب ، فلا يشرع عتقه ولا كتابته ، ولا يعتق المُكاتب إلا بالأداء؛ لحديث: " المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم " رواه أبو داود.
وعن ابن عباس مرفوعا، وعن عمر موقوفا: " أيما أمة ولدت من سيدها، فهي حرة بعد موته " أخرجه ابن ماجه، والراجح الموقوف على عمر - رضي الله عنه - . والله أعلم.
هذا باب العتق، عرفه بقوله: تحرير رقبة، وتخليصها من الرق ، وقد ذكرنا -قريبا- في موانع الإرث أن الرق: عجز حكمي يكون بالإنسان سببه الكفر ، أباح الله تعالى للمسلمين إذا تغلبوا على الكفار أن يسبوا نساءهم، وذريتهم، فتصير النساء رقائق، والذرية الذين دون البلوغ أرقاء مملوكين للمسلمين ، لما أنهم كانوا كفار، وكانوا عبيدا للشياطين، أباح الله أننا إذا تولينا عليهم نجعلهم عبيدا حسيا نسترقهم، فيبقون مماليك؛ يتصرف فيهم المسلمون ببيع، واستخدام، ومناقلة، وما أشبه ذلك.(1/435)
ثم معلوم أنهم -غالبا- يدخلون في الإسلام؛ لأنهم بين المسلمين، فيسلم النساء اللاتي يسبين، وكذلك ينشأ الأولاد ويخرجون مسلمين، ومع ذلك يبقون على الرق لا يعتقون ، بل يبقون أرقاء ، ومع ذلك فإن الله تعالى يحب تحرير هذه الرقاب، يحب تحريرها ، ولأجل ذلك جعل في الكفارات تحرير الرقاب؛ ففي سورة النساء في كفارة القتل: { ((((( (((((( ((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( } تكررت ثلاث مرات، وفي سورة المائدة في قوله: { ((((((((((((((( ((((((((( (((((((( (((((((((( (((( (((((((( ((( ((((((((((( ((((((((((( (((( (((((((((((( (((( ((((((((( (((((((( } وفي سورة المجادلة قوله تعالى: { (((( (((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((( (((((((( } فالتحرير هو الإعتاق، يعني: تصييرها حرة بعد أن كانت مملوكة ، لا شك أن هذا دليل على أن الشرع يتشوف إلى العتق ؛ إزالة الرق عن هذه الرقاب، وذلك لأنه إذا كان رقيقا فإن نفعه يكون مقصورا على سيده.
أما إذا كان حرا فإنه قد يطلب العلم، ويعلم الناس ويتولى الخطابة ، ويغزو مع المسلمين ، وينفع المسلمين مثلا ، ويكون واليا على ولاية من الولايات ، فيتولى قضاء ويتولى تعليما، ونحو ذلك فينفع نفسه وينفع المسلمين؛ فلأجل ذلك ندب إزالة الرق ، وجعل من أفضل العبادات ، يعني ثوابه عظيم، واستدل بهذا الحديث: " أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار " في رواية " من أعتق امرأ مسلما أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه حتى فرجه بفرجه " .(1/436)
وذكر أن المرأتين يقومان مقام رجل " أيما امرئ أعتق امرأتين مسلمتين ، أعتقه الله من النار " فالحاصل أن هذا دليل على فضل العتق يقول: " سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها " يعني إذا أردت أن تعتق فإنك إذا أردت الأجر الكبير ، فتأخذ أو تشتري أغلاها ثمنا وتشتري أو تختار أنفسها عند أهلها ، حتى يكون الأجر أكثر، أما إذا اشتريت غلاما مريضا أو معيبا ، أو مشلولا أو ضريرا ، فإنه يصير رخيصا.
ويحصل العتق بالقول وما في معناه ، لفظ العتق وما في معناه، فإذا قال: قد أعتقت هذا العبد ، أو قد حررته ، أو هو حر لوجه الله ، أو قد أزلت عنه الرق ، أو لا ملك لي عليه ، أو ليس لي فيه تصرف أو أخرجته من ملكي ، أو ما في معناه ، حصل بذلك العتق.
ثانيا: يحصل بالملك ، في الحديث عن أبي هريرة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ملك ذا رحم محرم عتق عليه " يعني من النسب ، فإذن الحديث عن أبي هريرة: " لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه " إذا كان الولد حرا والوالد مملوكا ، ثم إن الولد ملك مالا ، فاشترى أباه من الرق ، فإن هذا جزاؤه ، حيث إنه جازاه على حضانته وعلى حباوته ، جاء الحديث بلفظ عام: " من ملك ذا رحم محرم عليه عتق عليه بأي شيء يملكه " .
فإذا اشترى أخاه ، عتق عليه ، أو أخته ، عتقت عليه ، أو بنته أو بنت ابنه أو بنت أخيه أو بنت أخته ، أو ابن أخيه أو ابن أخته ، إذا اشتراه ، أو عمه ، أو عمته أو خاله أو خالته الذين هم محارم له ، إذا اشترى واحدا منهم عتق عليه، أو ورثه إذا ورثه فإنه يعتق عليه بمجرد الإرث، أو وهب له يعتق عليه بمجرد الهبة.(1/437)
فالحاصل أنه إذا دخل في ملكه أحد من أقاربه فإنهم يعتقون بمجرد الدخول ، بخلاف من ليسوا بمحارم فإذا اشترى بنت عمه، أو ابن عمه لم يعتق؛ لأنه ليس من المحارم كما يحل له نكاح ابنة عمه، أو ابنة خاله أو ابن خاله ، لا يعتق عليه إلا من هو من المحارم.
ثالثا: التمثيل به ، التمثيل بعبده ، بقطع عضو من أعضائه أو تحريقه فإنه يعتق عليه ، فإذا فقأ عينه فكفارته أن يعتقه ، أو قطع عضوا ولو إصبعا ، أو جدع أنفه مثلا أو قطع شفته (عضو من أعضائه الثابتة) فإنه ينزع منه، ويقال: عتق عليك.
ورد فيه حديث " من مثَّل بعبده فقد عتق عليه " قد يقال: إن التمثيل تشويه الخلقة فلو مثلا شَوَّه وجهه ، سلخ جلدة وجهه مثلا ، أو أحرق وجهه حرقا يبقى أثره ، فإنه يعتبر أيضا تمثيلا ، فيعتق عليه .
رابعا: السراية: السراية هي كونه يعتق بعضه ثم يسري إلى باقيه ، صورة ذلك ، إذا كان بينك وبين زيد عبد لك نصفه، فأعتقت نصفك، سرى على النصف الذي لزيد. كيف يسري ؟ تشتري نصف زيد ، وتعتقه ، يلزمك شرعا إذا كنت ذا مال أن تشتري نصف زيد بقيمته الذي يساوي لا وكس ولا شطط ، ثم تعتق العبد كله إذا لم يعتقه زيد ، ألزمناك إذا كان لك مال ، هذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد ، قوم عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق " .(1/438)
وفي رواية: " عتق عليه ما عتق " ظاهر هذا الحديث واضح ، فيه صورة المسألة ، وقوله: أعطى شركاءه أي لو كان شركاؤه كثيرين ، لو كانوا عددا ، فمثلا إذا كان العبد بين أربعة ، لكل واحد منهم ربع ، فأعتق أحدهم نصيبه فإنه إذا كان له مال ، يشتري ربع هذا ويعتقه ، وربع هذا وربع هذا ، وإذا امتنعوا ألزموا شرعا ، وإذا زادوا في الثمن منعوا من الزيادة ، يعرض على أهل الخبرة كم يساوي هذا العبد ، قيمة عدل ، لا تظلمون ولا تظلمون ، لا تظلمون المعتق ولا تظلمون أصحاب المال ، فلا تنقصوهم ولا تزيدوا عليه قيمة عدل.
فيعطي شركاءه حصصهم ويعتق العبد كله فإن كان لا مال له ، هذا الذي أعتق الربع ليس له مال يشتري حصص زملائه ـ فيبقى العبد مبعضا ، هذا معنى قوله: " وإلا فقد عتق منه ما عتق " أي عتق من العبد ما عتق، بقي ثلاثة الأرباع أو الربع مملوكا رقيقا ، وحينئذ إذا كان ربعه حرا فإنه يخدم هذا يوما وهذا يوما وهذا يوما واليوم الرابع لنفسه ، يتكسب لنفسه أو يخدم نفسه ، يستخدمه كل واحد منهم ، بقدر حصته ، فإذا كان بين اثنين هذا له نصفه وهذا له ربعه وربعه عتيق ، فإنه يخدم هذا يومين وهذا يوما واليوم الرابع لنفسه ، هنا معنى " عتق منه ما عتق " .
الرواية الثانية ، أو حديث آخر " وإلا قُوّم عليه واستسعي غير مشقوق عليه " هذه رواية أخرى ومعناه أنه يقال للذين لم يعتقوا: ثَمِّنُوا نصيبكم كم ؟ فإذا قالوا: كل واحد من أصحاب الربع ، قال: نصيبي بألفين ، أنت يا عبد لك الخيار ، إن أردت أن تشتري نفسك ، فتكون كالمكاتب وتسعى وتتكسب وتعطي هذا ثم تعطي هذا ، حتى تحرر نفسك فهو أولى، فإن شق ذلك عليك ، فلا تبقى مبعضا إذا كنت لا تستطيع أن تحرر نفسك ، استسعي العبد يعني: طلب منه أن يشتغل ، ومُكِّنَ من الشغل ، ومنع سيده أو سادته منعوا من استعماله ، وقيل له: احترف واشتغل وأد إليهم كالمكاتب.(1/439)
بعد ذلك يقول: فإن علق عتقه لموته فهو المدبر ، التدبير هو أن يقول ، إذا مت فعبدي حر ، لماذا سمي؛ لأن الموت دبر الحياة ، كأنه يقول: يكون حرا دبر حياتي ، يعني بعد حياتي ، هذا يسمى مدبرا ، فالمدبر معلق عتقه بالموت ، يجوز تعليق العتق بغير الموت ؟ يعني بشرط ، كأن يقول مثلا: إذا ولد لي مولود ذكر ، فهذا العبد حر ، هذا معلق ، أو يقول مثلا: إذا شفيت من المرض فهذا العبد حر ، أو إذا ربحت في هذه التجارة كذا وكذا فهذا العبد حر ، يصير معلقا بشرط .
فالمدبر يعتق بموته إذا خرج من الثلث ، هذا شرط ، وكذلك لو أعتقه في مرض موته ، إنه لا يعتق منه إلا بقدر ثلث التركة ، في حديث عمران بن حصين " أن رجلا أعتق عند موته ستة مماليك ، ليس له مال غيرهم ، فدعى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فجزأهم ثلاث أقسام ، ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة " فذلك لأنه لا يملك إلا الثلث ، قد تقدم قوله: " إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم " فالمدبر لا يعتق إلا إذا خرج من الثلث.
ومع ذلك يجوز بيعه ، قبل الموت ، والدليل عليه هذا الحديث، فعن جابر " أن رجلا من الأنصار أتى غلاما له فدبره عندما لم يكن له مال غيره قال: إذا مت فعبدي حر ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر له أن عليه دينا ، فقال: من يشتريه منى ، فاشتراه نعيم بن عبد الله بن اللحام بثمانمائة درهم، وكان عليه دين فأعطاه قال: اقض دينك " دل على أنه يجوز بيعه ولو كان مدبرا .(1/440)
الكتابة: أن يشتري الرقيق نفسه من سيده بثمن مؤجل بأجلين أو أكثر ، سميت بذلك؛ لأنها تكتب الأقساط ، تسمى أقساطا ويكتبونها ، سواء كل سنة أو كل شهر ، يشعر العبد من نفسه بأنه قادر على الكسب فيقول: يا سيدي بعني نفسي فيقول قيمتك حاضر ، عشرة آلاف ، أبيعك نفسك بعشرين ألفا مؤجلة لمدة أربعة سنين كل سنة تسلم خمسة آلاف ، فيقول قبلت ، يذهب يحترف ، يكتسب يشتغل ، يتجر ، يعمل ، فإذا أدى إليه أقساطه الأربع ، العشرين ألفا عتق.
إذا طلب منه هذا العبد المكاتب ، الكتابة وعلم أنه قادر ، لزمه ذلك ؛ لقوله تعالى في هذه الآية { ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((((( (((((((((((((( (((( (((((((((( ((((((( ((((((( } أي من مماليككم ، إذا طلب الكتابة فكاتبوهم ، إن علمتم فيهم خيرا ، إذا علمت مثلا بأنه سيصير عضوا عاملا ، لا عضوا أشل ، إذا علمت بأنه سينفع نفسه ، وسينفع المسلمين إذا عتق، وعلمت أنه قادر على الكسب يقدر على الاحتراف يقدر على الاتجار يقدر على الاكتساب ، وسيؤدي النجوم التي عليه في حينها ، ففي هذه الحال يلزمك أن تكاتبه.
ثم قال تعالى: { ((((((((((( (((( ((((( (((( (((((((( (((((((((( } الأمر إما أنه للسيد . وإما أنه للمسلمين عموما ، أي أيها المسلمون ساعدوا هذا العبد الذي اشترى نفسه ، أعطوه من مال الله الذي آتاكم حتى يحرر نفسه، وإذا قيل إنه للسيد ، فقيل: إنه يلزمه أن يسقط عنه الثلث أو الربع أو الخمس على قدر عسره أو يسره { (((( (((((((((( ((((((( ((((((( } أي: صلاحا وكسبا، وقدرة على التجارة وقدرة على الاكتساب ، فإن خيف منه الفساد بعتقه فلا يشرع عتقه ، إن خيف أنه إذا أعتقه أفسد ، فسد إما أنه صار عالة على الناس ، وإما أنه صار مع قطاع الطريق، وإما أنه يصير مثلا مع أهل الشرور وأهل الغناء وأهل اللهو وما أشبه ذلك. وكذلك إذا كاتبه أفسد ، علم أنه عضو أشل ، أو أنه مفسد أو ليس له كسب .(1/441)
بعد ذلك يقول: ولا يعتق المكاتب إلا بالأداء ، يعني متى يعتق ؟ إذا أدى آخر ما عليه عتق وصار حرا ، المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم ، وفي حديث عن أم سلمة " إذا كان لإحداكن مكاتب فملك ما يؤدي فلتحتجب عنه " إذا ملك ما يؤدي ، عنده ما يؤدي ، عنده كسب مثلا ما يؤدي ، فلتحتجب عنه ، يعني أصبح ليس محرما لها ، أصبحت ملزمة أن تحتجب عنه.
صورة ذلك ، إذا كان هذا العبد ، اشترى نفسه بعشرين ألف درهم من امرأة ثم إنه اكتسب أموالا كثيرا ، كل سنة يؤدي إليها خمسة آلاف ، يكتسب في السنة أكثر من عشرين ألفا وقد اكتسب أرضا وبني دارا وملأها أثاثا ، وصار عنده متاع أصبح مالكا لثمنه أو أضعاف ثمنه ، فإنها تحتجب عنه .
حديث ابن عباس وعمر ، ابن عباس مرفوعا وعمر موقوفا والراجح أنه موقوف على عمر - رضي الله عنه - " أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة بعد موته " هذه أم الولد وصورته ، إذا كان لك أمة مملوكة ثم إنك وطئتها بملك اليمين فحملت فولدت ولدا ، ذكرا أو أنثى حيا أو ميتا ، إذا تبين فيه خلق الإنسان ، فإنها تصير حرة بعد الموت ، ما دام حيا فإنه يستخدمها ، ويطؤها ويستمتع بها فإذا مات عتقت من رأس المال ، هذه أم الولد . وفيها خلاف ، حتى إن بعضهم يقول: يعتقها ولدها ، أو تعتق من نصيب ولدها ، والراجح أنها تعتق من رأس المال .
نبدأ في كتاب النكاح:
كتاب النكاح
وهو من سنن المرسلين ، وفي الحديث: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " متفق عليه . وقال - صلى الله عليه وسلم - " تنكح المرأة لأربع ، لمالها وحسبها وجمالها ودينها ، فاظفر بذات الدين ، تربت يمينك " متفق عليه.(1/442)
وينبغي أن يتخير صاحبة الدين والحسب الودود الولود الحسيبة، وإذا وقع في قلبه خطبة امرأة فله أن ينظر منها ما يدعوه إلى نكاحها ، ولا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه المسلم حتى يأذن أو يترك، ولا يجوز التصريح بخطبة المعتدة مطلقا ويجوز التعريض في خطبة البائن بموت أو غيره لقوله تعالى: { (((( ((((((( (((((((((( (((((( ((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((((((((( } .
وصفة التعريض أن يقول: إني في مثلك لراغب ، أو لا تفوتي نفسك علي ، ونحوها، وينبغي أن يخطب في عقد النكاح بخطبة ابن مسعود ، قال: " علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في الحاجة أن الحمد لله نحمده ونستعينه وتستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ويقرأ ثلاث آيات " من رواية أصحاب السنن، والثلاث آيات سردها بعضهم وهى قوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((((( ((((( } والآية الأولى من سورة النساء وقوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((((((((( (((((( (((((((( (((( } الآيتين ، ولا يجب إلا بالإيجاب وهو اللفظ الصادر من الولي كقوله: زوجتك أو أنكحتك ، والقبول وهو اللفظ الصادر من الزوج أو نائبه كقوله: قبلت هذا الزواج أو قبلت ، ونحوه .
باب شروط النكاح، ولا بد فيه من رضا الزوجين إلا الصغيرة فيجبرها أبوها والأمة يجبرها سيدها ولا بد فيه من الولي قال - صلى الله عليه وسلم - " لا نكاح إلا بولي " حديث صحيح رواه الخمسة.(1/443)
وأولى الناس بتزويج الحرة أبوها، وإن علا ثم ابنها وإن نزل ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها ، وفي الحديث المتفق عليه " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن ، قالوا: يا رسول الله وكيف إذنها ، قال: أن تسكت " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أعلنوا النكاح " رواه أحمد.
ومن إعلانه شهادة عدلين وإشهاره وإظهاره ، والضرب عليه بالدف ونحوه وليس لولي المرأة تزويجها بغير كفء لها ، فليس الفاجر كفئا للعفيفة، والعرب بعضهم لبعض أكفاء ، فإن عدم وليها أو غاب غيبة طويلة ، أو امتنع من تزويجها كفئا ، زَوَّجَها الحاكم كما في الحديث: " السلطان ولي مَن لا ولي له " أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي.
ولا بد من تعيين من يقع عليه العقد فلا يصح زوجتك بنتي وله غيرها حتى يميزها باسمها أو وصفها ، ولا بد أيضا من عدم الموانع بأحد الزوجين وهن المذكورات في باب المحرمات بالنكاح.
من هنا يبدأ القسم الثالث من أقسام الفقه قالوا: إن القسم الأول حق الله وهو العبادات ، والقسم الثاني المعاملات وهي أهم من غيرها؛ لأن الإنسان بحاجة إلى القوت ، وبحاجة إلى الكسب الحلال فيتعلم الكسب الحلال واكتساب المال ، الذي يغني به نفسه ويسد به فاقته ، فإذا استغنى واكتسب وجمع الحال تاقت نفسه بعد ذلك للنكاح ، فعند ذلك ذكروا كتاب النكاح بعد المعاملات.(1/444)
يقول: وهو من سنن المرسلين ، يقول الله -تعالى-: { (((((((( ((((((((((( (((((( (((( (((((((( ((((((((((( (((((( (((((((((( ((((((((((( } جعل الله -تعالى- يعني أباح لهم النكاح وأباح لهم اتخاذ الزوجة أو الزوجات، وأن يرزقوا منها أولادا وذرية ، وقد ذكر الله -تعالى- بعضهم ، فحكى أن نوحا له امرأة كافرة ، وكذلك لوطا، وأخبر الله -تعالى- في هذه الآية عن عموم المرسلين أن لهم زوجات وأخبر عن موسى أنه تزوج لما ذهب إلى مدين ، زوَّجه صاحب مدين مقابل رعايته للأغنام ونحوها ، لا شك أن هذا دليل على أنه من سنن المرسلين ، والدليل أيضا حديث الثلاثة: روى أن " ثلاثة من الصحابة سألوا عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - في السر فكأنهم تقالوها ، فقالوا: أين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه ؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثاني: أما أنا فأقوم ولا أرقد ، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنتم الثلاثة الذين قلتم كذا وكذا؟ قالوا: نعم ، قال: لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " .
رغب عنها يعني تركها ومَلَّهَا وكرهها " فليس مني " يعني ليس من الأمة وليس من الأتباع؛ لأنه زهد في شيء من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنه ينتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شك أن الله -تعالى- جعل في الرجال ميلا إلى النساء وجعل في النساء ميلا إلى الرجال، وهذا الميل هو الشهوة التي ركبها في كل منهما لماذا؟ حتى يحصل من اجتماعهما هذا التناسل الذي هو وجود الأولاد بينهما ، لو لم يكن هناك شهوة تجذب أحدهما إلى الآخر لما حصل هذا التناسل ، وهؤلاء الأولاد ونحوهم ولكن يكون في الرجل دافع وفي المرأة دافع ، فهو من أسباب وجود وبقاء النوع الإنساني ، كما أن بقية الحيوانات تتناكح حتى تتناسل ويبقى نسلها.(1/445)
يقول - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث عن ابن مسعود: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " لماذا خص الشباب ؟ لأنهم في العادة أقوى غلبة وأقوى شهوة؛ ولأنهم قد يكونون أشد اندفاعا إلى فعل الفاحشة؛ إذ يكون العلم عندهم أو الدين عندهم أقل منه عند كبار الأسنان؛ لكن ومع ذلك إذا وجدت الشهوة؛ فإنه يشرع له أن يتزوج سواء كان شابا أو كهلا أو كبيرا أو صغيرا؛ لأن الحكم منوط بعلته وهى وجود هذه الشهوة.
اختلف فيما إذا لم يكن له شهوة فهل له أن يتزوج ؟ نعم ، يستحب له أن يتزوج ولو لم يكن هناك شهوة قوية؛ وذلك لأنه قد يوجد معه من الشهوة ما يحصل به إعفاف نفسه وإعفاف زوجته؛ ولو لم يكن هناك شهوة تدفعه قوية ، وأما إذا كان يخشى على نفسه الزنا إذا لم يتزوج فإنه يعتبر واجبا في حقه، وهو أفضل من نوافل العبادات.
وأما إذا كان له شهوة ولكنه يقدر على إمساك نفسه وعلى حفظها عن الوقوع في الفاحشة فإنه يستحب في حقه ، إذن فيقال: متى يجب النكاح ؟ يجب إذا كانت شهوته تدفعه إلى الزنا يخاف على نفسه الزنا ، متى يكون مستحبا ؟ إذا كان له شهوة ولكن أقل من الأول يقدر أن يملك نفسه ، متى يكون مباحا ، إذا لم يكن له شهوة ولكن قد يقدر على إعفاف المرأة ، لم يكن له شهوة، ولكن هناك ما يقدر معه على الإعفاف ، متى يكون مكروها ؟ إذا علم أنه لا يقوم بحق الزوجة لا من ناحية الشهوة ولا من ناحية النفقة ، فإنه يكون مكروها في حقه ، لأنه يضر بالمرأة.(1/446)
النبي -عليه الصلاة والسلام- ذكر الباءة ، " من استطاع منكم الباءة ... " الباءة هي مؤونة النكاح ، يعني من استطاع أن يقوم بالمؤونة يعني بالنفقة وبالكسوة وبالسكنى وبالحاجيات الضرورية وما أشبهها " فإنه أغض للبصر " يتزوج فإنه يغض بصره ، بدل ما كان كلما رأى امرأة امتد بصره إليها " وأحصن للفرج " يعني أحفظ له من الوقوع في الفاحشة؛ لأنه غير متزوج لا يأمن أن تدفعه شهوته إلى فعل الفاحشة ، " ومن لم يستطع ... " الباءة ، ليس له قدرة مالية ، " فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء " .
المراد به الصوم الذي يكون معه جوع شديد وتعب شديد فإنه إذا كان يتعب للاكتساب ويتعب لطلب الرزق وهو مع ذلك صائم ، فيلحقه جوع ويلحقه جهد ويلحقه تعب ، فإن هذا كله يكسر حدة الشهوة ، بمنزلة الوجاء ، الوجاء هو رض عروق الخصيتين فإنه إذا رضت العروق خفت الشهوة أو بطلت هذا اسمه الوجاء ، وأما الخصاء فهو قطع الخصيتين.
قوله - صلى الله عليه وسلم - " تنكح المرأة لأربع ، لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك " . المعنى أن الناس ما يدفعهم إلى المرأة إلا أربعة صفات ، تارة يقول: هذه امرأة ثرية ، وعندها مال ، فأنا أتزوجها ، حتى أتوسع بمالها، وحتى تنفق عليَّ وتنفق على أولادي ، وإذا ماتت ورثتها أو ورثها أولادي منها، وأنا أرغبها لأجل المال ، هذا مقصد ولكن يكره أن يكون هذا هو المقصد ذلك؛ لأنها ربما تَمُنُّ عليه، وربما تتبرم من صحبته ، فتذكره دائما تقول أنا صاحبة الفضل عليك ، أنا التي رفعت لك أنا التي اشتريت لك، وأنا التي أنقذتك من الجوع، وأنا التي فعلت وفعلت، فيكره أن يتزوجها لأجل المال .(1/447)
الثاني: الحسب ، الحسب الشرف ، يعني شريفة الآباء والأجداد والأسرة ، والقبيلة من أناس كرماء نجباء ، من أناس شجعان أقوياء ، لهم مكانة ولهم شهرة ولهم سطوة ، هذه أيضا قد تمن عليه ، وتقول أنت خامل الذكر ؟ أنا التي رفعت مكانتك ، أنا التي شرفت أولادك ، أنا بنت الشريف فلان أنا بنت الأمير أنا بنت الشجاع وما أشبه ذلك ؟ فإذا تزوجها من أجل الحسب ومن أجل شرف الآباء والأجداد ، فإن هذا مقصد ليس بشريف ، لكن إذا كان شريفا مثلها ، إذا كان ذا شرف وذا حسب فإنهما يتقابلان .
الثالث: الجمال ، جمالها يعني حسنها وحسن خلقتها وحسن بنيتها وحسن مشيتها محاسنها ، الجمال كثيرا ما يكون دافعا للإنسان ولكنه أيضا مقصد حسن وذلك ؛ لأنها إذا كانت جميلة فإنها ينفعه جمالها ، إذا نظر إليها سرته وإذا نظر إليها عفته ، فهذا مقصد حسن ولكن لا ينبغي أن يكون هو المقصد الأساسي ، ولا ينبغي أن يكون هو المقصد وحده.
أما الدين فهو الأصل إذا كانت ذات دين يعني دَيِّنَة عابدة تقية نقية نزيهة ورعة بعيدة عن التهم، وبعيدة عن الفواحش والمنكرات ، تحفظ نفسها وتحفظ لسانها وتحفظ بيتها وتصلي صلواتها، وتؤدي حقوق الله وتؤدي حقوق زوجها ، هذه هي التي تكون أمينة ، فلذلك قال: " فاظفر بذات الدين تربت يداك " وينبغي أن يتخير صاحبة الدين والحسب، والحسب هو الشرف حتى يكون شرفه شرفا لأولاده ونحوهم.(1/448)
الودود ، يعني المتحببة إلى زوجها يقول - صلى الله عليه وسلم - " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ... . " الولود هي التي من نساء يعرفن بكثرة الولادة . يعني أمها وجدتها وأخواتها معروفات أنهن يلدن ، بخلاف ما إذا خيف أنها عاقر ، أو لا تلد ، أو لا تلد إلا كل أربع سنين أو ست سنين أو نحو ذلك ، ينبغي أن تكون ولودا ، لقوله: " فإني مكاثر بكم الأمم " يحثهم على أن يتكاثروا ويكثروا نسلهم حتى تكون أمته أكثر من غيره ، فإذا وقع في قلبه خطبة امرأة ، الخِطْبَة -بكسر الخاء- يعني طلب امرأة من أهلها .
أما الخُطْبَة في خطبة الجمعة ونحوها ، وأما الفعل فإنه سواء ، يخطب خطبة ، يخطب خطبته ، إذا وقع في قلبه خطبة امرأة فله أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها ، ورد في حديث المغيرة " أن رجلا قال: يا رسول الله أريد أن أتزوج امرأة ، قال: هلا نظرت إليها ؟ اذهب فانظر إليها ، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما " ويقول جابر: " إني خطبت امرأة فجعلت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دفعني إلى نكاحها " يعني يتخبأ لها حتى رأى مثلا وجهها أو رأي يديها أو رأي ساقيها أو نحو ذلك ، مما رغَّبه في نكاحها.
فقيل: إن ذلك يكون في الاختفاء ، يختفي لها ، يتخبأ وينظر ولو لم تشعر به ، وقيل: إن ذلك يكون في العلانية بأن يطلب من أبيها أن تبرز له لينظر إليها ، فلها والحال هذه ، على أبيها أن يجيبه إذا عرف أنه صادق الرغبة ، وأنه كفء ، بخلاف ما إذا خاف أن يكون متفرج ، أن يكون نظره لأجل أن ينظر إليها ثم يتركها ، أما إذا عرف صدق الرغبة ، فإنه يمكنه من النظر لما يظهر غالبا كالوجه واليدين والشعر والقامة والقدمين وما أشبه ذلك ويكون في غير خلوة .(1/449)
ولا يحل للرجل أن يخطب على خطبة أخيه ، حتى يأذن أو يترك إذا علمت بأن أخاك المسلم قد خطب تلك المرأة فلا يحل لك أن تتقدم لخطبتها ؟ ولو كنت أكثر منه مالا، ولو كنت أشب منه، ولو كنت أحسب منه ما دام أنه خطبها فيتركه حتى يأذن لك ، أو يتزوج أو يتركها، وعلى الأولياء إذا جاءهم من يخطبون ابنتهم وقد تقدم غيره أن يخبروه ويقولوا قد خطبها غيرك بعض الناس ، إذا جاءهم من يخطب أعطوه موعدا ، ثم بعد أيام جاءهم من هو أحسن منه ، وأجمل منه وأغنى منه ، ردوا الأول وقد أعطوه موعدا ، وربما أنه قد باع بعض أمواله، وقد جمع الأساس وبعض المهر.
هذا لا يجوز بل متى ركنوا إلى إنسان وأعطوه موعدا وعرفوا أنه كفء كريم فليس لهم أن يمنعوه ولو جاءهم بعده من هو خير منه ، يقول - صلى الله عليه وسلم - " إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " .
ولا يجوز التصريح بخطبة المعتدة ، التصريح كأن يقول: زوجوني ابنتكم ، أو أريد ابنتكم زوجة ، وهى مطلقة ، أو يقول: إني أريد أن أتزوج بك ، أترضين أني زوجا لك ، وهى مطلقة لا تزال في العدة، أو متوفًى عنها ، المعتدة هي التي طلقها زوجها طلاقا رجعيا له عليها رجعة ، أو طلاقا بائنا بالثلاثة لا رجعة له عليها ، ولكنها لا تزال في العدة عدتها -كما سيأتي- ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر ، أو أربعة أشهر وعشر عدة المتوفى عنها أو وضع الحمل، فإذا كانت في العدة فلا يجوز لك أن تخطبها خطبة صريحة، ولكن يجوز التعريض ، قال الله تعالى: { (((( ((((((( (((((((((( (((((( ((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((((((((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((((( (((((( (((( (((((((( ((((((((((((((((( (((((((( (( (((((((((((((( ((((( } فالتعريض جائز، وأما التصريح فلا يجوز.(1/450)
يجوز التعريض بخطبة البائن بموت أو غيره ، قال تعالى: { (((( ((((((( (((((((((( (((((( ((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((((((((( } صفة التعريض: إني في مثلك لراغب ، لا تفوتيني بنفسك ، لا تعوقي بنفسك ، على هذا قالوا: إنه تعريض ، وبعضهم يقول إنه تصريح ، التعريض أن يقول مثلا ، إني أريد الزواج ، أنا بحاجة إلى امرأة تعفني ، أنا بحاجة إلى امرأة مثلك تناسب ، أو يذكر نفسه ، فيقول: أنا ابن الكرماء وأنا من عرف بفضله وبنسبه وبحسبه وما أشبه ذلك.
يقول: وينبغي أن يخطب في عقد النكاح بخطبة ابن مسعود ، هذه الخطبة رواها الإمام أحمد ورواها أهل السنن يقول ابن مسعود: " علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عقد النكاح علمنا التشهد في الحاجة -وفي رواية عند الحاجة- أن نقول: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " هذه خطبة ابن مسعود.
العاقد يقرأ بها عند العقد ليكون ذلك سببا في حصول البركة وحصول الخير ويقرأ ثلاث آيات ، بعدما يقرأها، يقرأ ثلاث الآيات التي فيها الأمر بالتقوى في سورة آل عمران: { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((( (((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((( ((((((((((( ((((( } وفي أول سورة النساء { ((((((((((( (((((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((( (((((( ((((((((( (((((((( ((((((( ((((((((( (((((( ((((((((( ((((((( (((((((( (((((((((( } إلى آخر الآية ، وآيتان من آخر سورة الأحزاب { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((((((((( (((((( (((((((( (((( (((((((( (((((( ((((((((((((( } إلى آخر الآيات.(1/451)
هذه الثلاث السر فيها التقوى ـ اتقوا الله ـ كأنه يذكرهم يقول عليكم بتقوى الله ، عليك أيها الولي بتقوى الله ، وعليك أيها الزوج بتقوى الله وعليكم أيها الشهود بتقوى الله وعلى المرأة أن تتقي الله ، أن تتقيه حق تقاته ، وفسر قوله: { (((( (((((((((( } فسره ابن مسعود بقوله: أن يطاع فلا يُعْصَى ويُذْكَر فلا يُنْسَى ويُشْكَر فلا يُكْفَر ، يعني هذه تقوى الله حق تقاته.
ثم لا بد من الإيجاب والقبول ، من شروط النكاح الإيجاب والقبول ، الإيجاب من الولي ، والقبول من الزوج ، لا بد من الكلام فيه ، بخلاف البيع فإنه يصح بالمعاطاة، وأما النكاح فلا بد فيه من القول من الكلام ، الإيجاب قيل: إنه لا بد فيه من اللفظتين ، النكاح أو التزويج ، من إحدى اللفظتين أن يقول أنكحتك أو زوجتك ، اشترط هذا كثير من الفقهاء، وقالوا: إنهما اللفظتان اللتان وردتا في القرآن ، في القرآن كلمة التزويج: { ((( ((((((((((( } { (((((((((((((( } وفي القرآن لفظة النكاح { (((((((((((( ((( ((((( ((((( } { (((((( ((((((( ((((((( ((((((((( } .
فلا بد أن الولي يقول: زوجتك ابنتي ؟ أو يقول: أنكحتك ابنتي ، هكذا اشترط بعضهم ، وذهب شيخ الإسلام وغيره إلى أنه يصح بكل لفظة تدل على المعنى، فإذا قال: ملكتك ابنتي، فالتمليك معروف أنه يملك منها ما يملك المرء من زوجته ، ملكتكها ، وليس المراد أنه يملكها كما يملك الأمة، بل يملكها كما يملك الزوج من زوجته، وإذا قال: وهبتك ابنتي، وهما يعرفان أن الهبة أنها بمعنى العقد، صح ذلك أيضا ولم يكن شرطا أن يكون بلفظ التزويج ، الهبة بمعنى هبة المنافع ، كأنه يقول وهبتك منافع ابنتي ، أو ما أشبه ذلك.(1/452)
فالحاصل أن هنا ، لا يشترط لفظ التزويج أو النكاح ، بل إذا قال: وهبتك أو ملكتك أو خذ ابنتي حلال لك أبحت لك نكاحها، أو أبحت لك الاستمتاع بها ، أو هي زوجة لك، أو هي امرأتك أو نحو ذلك ، كفى ذلك القبول من الزوج أو نائبه ، نائبه أي وكيله ، إذا كان الزوج غائبا ، ووكل إنسانا فإنه يقبل ، يقول: قبلت هذا الزواج أو قبلت أو رضيت أو وافقت ، أو أنا قابل أو موافق أو أخذتها أو نحو ذلك من المعاني ، وإذا كان نائبا ، يقول: قبلتها لموكلي أو لمنوبي أو رضيتها زوجة لموكلي أو ما أشبه ذلك . شروط النكاح
ذكر بعد ذلك شروط النكاح ، وسيأتي أيضا الشروط في النكاح، فهناك شروط النكاح والشروط في النكاح ، فشروط النكاح ، الزوجان الخاليان أو أركان النكاح الزوجان الخاليان من الموانع، والإيجاب والقبول ، تسمى هذه أركان النكاح ، الزوجان والإيجاب والقبول ، وأما الشروط ، ذكروا أربعة شروط:
أولا: - رضا الزوجين .
ثانيا: - انتفاء الموانع.
ثالثا: - الولي.
رابعا: - الشهود .
وكأن ابن سعدي ما ذكر الشهود ، فأما الرضا ، فلا بد منه لا بد من رضا الزوجين، قد تكاثرت الأحاديث في اشتراط رضا المرأة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن " " لا تنكح الأيم " الأيم هي المطلقة ، التي قد نكحت ثم طلقت ، " تستأمر " يعني يطلب أمرها ، تفصح وتقول: نعم زوجوه أو رضيت به ، " ولا تنكح البكر حتى تستأذن ، قالوا: وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت " وفي رواية " رضا البكر سكوتها " .
فلا يجوز إجبارها بمن لا تريد فإذا صرحت وقالت: لا أريده فلا إكراه عليها ، بل لا بد من اشتراط رضاها ، أيّا كان الولي سواء كان الولي أبا أو أخا ، أو غيره ؛ لأن الإكراه لا تحصل معه الراحة، لا تحصل معه الحياة السعيدة ، إذا كانت كارهة للزوج وقد غصبت عليه؛ وأكرهت عليه وهى لا تريده ، فكيف تستقر ، وكيف تعيش معه عيشه طيبة.(1/453)
كم حصل مع الإكراه ؟ إن كثيرا من الآباء أو الأولياء أكرهوا بناتهم على من لا تريده ، ثم حصل أنها تهرب منه كثيرا ، تهرب منه ، وإذا هربت ربما تموت في البراري ونحوها، أو ربما تتألم من الاجتماع معه، وحتى إنه حكى لنا كثير من الإخوان أنها انتحرت أحرقت نفسها ، أو أكلت سما، أو نحو ذلك لما أنهم أكرهوها على من لا تريده ، فلأجل ذلك لا بد من الرضى ، من رضا الزوجين.
وعلى الأب وكذلك الأم أن يستشيروها فإذا كانت لا تعرفه فلا بد أن يسموا الزوج ويذكروا لها أوصافه ، ويذكروا لها خصاله ولا بد أيضا أنها تسأل عنه ، يخبروها قبل مدة وتسأل عنه وتتبع أخباره ، وينقلوا لها نقلا صحيحا أنه من أسرة كذا وكذا وأنه يحوز كذا، وأنه يشغل كذا وكذا، وأنه شريف وفاضل ، لا يخفوا عليها شيئا حتى تقنع فإذا أخفوا عليها فلها الخيار ، ذكروا الصغيرة إذا رأى أبوها المصلحة فإنه يجبرها ، فقد زوج أبو بكر عائشة وهى بنت ست سنين ، وبنى بها وهى بنت تسع سنين ، فمثل هذه رأى أبوها لها المصلحة ، فأجبرها أو لم يستشرها؛ لأن الصغيرة التي في هذه السن لا رأيَ لها ولا نظر.
فإذا رأى أبوها أن هذه فرصة لا تتثمن ولا تفوت وأن هذا الزوج كفء كريم وأنه إذا تزوجها فسوف يكون من زواجه لها خير ومصلحة ومنفعة، وإذا لم يزوجه فربما يتركنا ويذهب إلى غيرنا، ومتى نجد مثله ، فلذلك يزوجها ولو صغيرة ولو مع الإجبار للمصلحة الحاضرة ، ولا يجبرها غير الأب ، أما إذا كانت يتيمة فلا يجوز إجبارها ، بل تترك إلى أن تبلغ وترشد وتستشار بعد ذلك بعد البلوغ، وتختار ما تريده.(1/454)
أما الأمة المملوكة فإن سيدها يملك بُضْعَها ويملك منافعها ، فله أن يجبرها ، ولكن عليه أيضا أن يراعي مصلحتها؛ وذلك لأنها آدمية تحس بما يحس به الآدميون ، فإذا أجبرها مثلا على زوج سيئ الأخلاق ، كثير المشاكل يضربها ويسبها ويسئ صحبتها ويعاملها معاملة شريرة؛ فإن السيد ملوم؛ وعليه أن يفرق بينهما؛ وأن يخلصها لا يجوز له -والحال هذه- فإن هذا تعذيب لها ، أما إذا رأى أن هذا زوج لا بأس به وأنه سوف يعفها فله أن يجبرها ، وليس لها اختيار؛ لأنه مالك لبضعها ، هذا الشرط الأول ، الرضى.
الشرط الثاني: الولي؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " لا نكاح إلا بولي " حديث صحيح ، رواه الخمسة يعني أهل السنن وأحمد مروي عن عدة من الصحابة ، مروي عن أبي موسى وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم من عدة طرق يتحقق أنه قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا نكاح إلا بولي " والنفي هنا للصحة ، أي لا يصح نكاح لا نكاح صحيح إلا بولي ، وهكذا جاء هذا الحديث ، وجاء أيضا حديث آخر ، وإن كان ضعيفا ؟ " لا تزوج المرأةُ المرأةَ ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " .
فهذا أيضا دليل يعني يستأنس به ، ولو كان فيه ضعف ، كذلك كثرت الأدلة في اشتراط الولي في النكاح ، ذهب إلى ذلك الأئمة الثلاثة الإمام أحمد والشافعي ومالك ، يشترطون الولي في النكاح، وأما أبو حنيفة فإنه يُجَوِّزُ لها أن تزوج نفسها ، ويقول: " المرأة أملك لنفسها " وهي التي لها المصلحة.(1/455)
فإذن يجوز لها أن تزوج نفسها ولو كان عندها ولي هذا مذهب الحنفية، ويبالغون في الانتصار له ويذكرون شبهات ويذكرون حجج ويتكلفون في الجواب عن هذه الأدلة الصريحة الصحيحة ، ويذكرون أشياء من الجدال في ذلك والمناقشات مذكورة في كتبهم ، لا حاجة بنا إلى ذكرها ، فأكثر ما يستدلون به بعض النصوص مثل قول الله تعالى: { (((( (((((( ((((( (((( (((((( (((((( ((((((( ((((((( ((((((((( } قالوا: تنكح ، معناها أنها هي التي تنكح . فلم يقل حتى تنكحوها وكذلك يستدلون بقوله تعالى: { (((( ((((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((((((( } وما فطنوا في أول الآية { ((((((((((((( } يدل على أن الولي هو الذي يمنعها فإذا منعها من كفء سمى هذا عضلا ، لا تعضلوهن فلو لم يكن للولي ولاية ، لم يقل ، { (((( ((((((((((((( } بل قال: فلينكحن من يردن فلا تعضلوهن أن ينكحن ، فلا دلالة في قوله { ((( ((((((((( } .
ويستدلون بالحديث الذي مر بنا ، وهو قوله في الحديث الآخر " الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر " فقالوا: الأيم أحق بنفسها ، دليل على أنها تزوج نفسها ، وإذا جاز ذلك فإن غيرها مثلها أحق بنفسها ، ولكن المراد بهذا الحديث: أنها أحق بنفسها يعني لا إجبار عليها بل تستشار ، ويعرض عليها وتخبر به ، ويبين لها أهليته ، حتى تقبل وتوافق ، هذا معنى أحق بنفسها ، يعني ليس لوليها إجبارها كما في الحديث الآخر: " لا تنكح الأيم حتى تستأمر " ثم إذا عرفنا أنه لا بد من ولي ، فأولى الناس بولايتها الأب ، ومعلوم أنه أشفق عليها ، الأب معه من الشفقة ما يحمله على أن يختار لها الكفء الكريم، ولا يمنعها من الكفء يكون هو الولي ، فلا ولاية لأحد معه ، بمعنى أنه إذا كان لها إخوة ولها أب ، فالأب هو الذي يزوجها إلا أن يوكل أحدا من الأخوة أو غيرهم.(1/456)
وقوله: وإن علا يدخل فيه الجد ، إذا كان جدها موجوداٍ، فإن الجد والد ، فله أن يتولى زواجها ، بدل الأب وليس لأخوتها مثلا ، ولا لغيرهم أن يزوجوها ، مع وجود الجد ، إذا لم يكن لها أب ولا جد ؟ فيزوجها ابنها ، فإنه أقرب ، هذا عند الجمهور أما الشافعية فلا يرون الابن مُزَوِّجا لأمه ، كأنهم يأنفون من ذلك ، فيقولون كيف أن الابن يزوج أمه ، ولكن الصحيح أنه لا مانع من ذلك.
وإن نزل ، يعني ابن الابن يزوج جدته ، ثم الأقرب فالأقرب من عصباتها ، عرفنا القرابة في باب المواريث أن الأقرب مثلا بعد الابن وابنه الأخ الشقيق ثم الأخ لأب ثم ابن الأخ الشقيق ثم ابن الأخ لأب، ثم العم الشقيق ثم العم لأب إلى آخر ما تقدم ، الأقرب فالأقرب من العصبات ، ولا يزوجها من ليس من العصبة فلا يزوجها أخوها من الأم؛ لأنه من ذوى الأرحام؛ ولا يزوجها الخال ولا يزوجها جدها أبو الأم ، وذلك؛ لأنه من ذوى الأرحام ، لو كان لها خال وأخ من الأم ولها ابن ابن ابن ابن عم فإن ابن العم يزوجها ولو كان بعيد؛ لأنه من العصبة ، الأقرب فالأقرب من عصباتها. " لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن وكيف إذنها ؟ قال: أن تسكت " إذا سكتت فإن ذلك دليل على أنها رضيت ، وإن كانت كارهة فإنها ستعلن الكراهية ، أو ستؤجل وتقول ، أمهلوني حتى أسأل ، أو حتى أصلي صلاة الاستخارة مثلا ، أو أمهلوني حتى أستشير ، أو نحو ذلك ، أما إذا سكتت فإن ذلك دليل الرضا ، والأولى أيضا أن تُعَاوَد بعد ذلك مرة بعد مرة حتى يتأكد من رضاها ؟ لو مثلا أنها ما سكتت يعني أنها مثلا بكت أو أنها أظهرت الكراهية ، أو تعرى وجهها أو ما أشبه ذلك فلا تزوج حتى يتحقق من موافقتها .(1/457)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أعلنوا النكاح " لا يجوز إسراره؛ وذلك لأنه أولا من أسباب الفرح ، الناس يسرون ويفرحون إذا رأوا حفلات النكاح ، ثانيا أنه ربما يكون بينهما سبب مُحَرِّم ، فإذا أعلن ، عرف أن فلان تزوج بفلانة ، وكان عند إنسان خبر بأنه رضيع أو أنه بينها قرابة أو نحو ذلك ، أفاد بالخبر الذي عنده ، هذا هو السبب.
يقول: ومن إعلانه شهادة عدلين ، وإشهاره وإظهاره ، فكأنه يرى أن الإشهار والإظهار يكفي عن الشهادة ، ولكن ذهب المالكية ، المشهور عن مالك أنه يكفي الإعلان والإشهار عن الشهادة، والصحيح أنه لا بد من الإشهاد عليه ، على الأقل شاهدين ، يكون ذلك إعلانا ثم بعد ذلك إشهاره وإظهاره في المجالس ، تناقل الخبر بأن فلانا تزوج فلانة ، ثم عند الحفل ، يستعمل الضرب عليه بالدف.
ورد فيه الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف " الدف هو الآلة التي فيها جلد ، يعني لوح رقيق يعكف حتى تتلاقى أطرافه ثم يتلاقى طرفاه ، يختم أحد جوانبه بجلد مدبوغ دبغا يسيرا قد زال شعره ، فيبسه بعد ذلك يسبب أنه إذا ضرب يسمع له طنين يختم أحد جوانبه يكون بمنزلة الطست الذي مختوم له فرع وله قاعة هذا الدف، أما إذا كان مختوم الجانبين فإنه يسمى طبل والطبول منهي عنها.
فلا يجوز استعمال الطبول ، الدف يستعمل؛ لأنه أخف ضربا ، السبب في ضربه إعلان النكاح؛ وكذلك أيضا إظهار شيء من الفرح والسرور؛ ذلك لأنه عليه السلام لما أخبر مرة بزفاف قال: " هلا أرسلتم من يقول: أتيناكم أتيناكم ، فحيونا نحيكم " إلى آخر الآبيات يعني رغبهم في أن يأتون بمثل هذه التحيات والترحيبات وما أشبه ذلك كلمات تدل على الترحيب، وعلى المديح وما أشبه ذلك ، هذا إظهار الفرح يعني الصوت الذي يكون معه غناء دليل الفرح وما أشبهه لا بأس به إن شاء الله.(1/458)
ولكن الناس توسعوا في هذه الأزمنة ، بحيث أنهم لم يقتصروا على الكلمات المباحة ، بل يستعملون كلمات فاحشة ، فيذكرون في غنائهم العورات والاتصالات الجنسية ، ويذكرون أيضا يصفون المحاسن محاسن المرأة أنها ذات كذا وذات كذا ، حتى يجلوها للناس ، وكذلك يبالغون في مدحه أو مدحها أو ما أشبه ذلك ، مثل هذا مبالغة لا تجوز.
كذلك أيضا طول المدة ، بحيث يمكثون مثلا إلى قبيل الفجر إلى آخر الليل ، أو نحو ذلك هذا أيضا ممنوع ، بل الأصل أنها ساعة أو ساعتان يظهر فيها الفرح ، ثم بعد ذلك يذهب الزوج بامرأته، ويذهب النساء إلى أهلهن.
يقول: وليس لولي المرأة تزويجها بغير كفء لها ، فليس الفاجر كفء للعفيفة ، يختار الرجل لابنته أو لأخته من هو كفء . الكفاءة هي المماثلة في المال وفي الصنعة وفي الديانة وما أشبهها ، إذا كان فاجرا وهى عفيفة فليس كفئا لها ولا مكافأة بينهما فإذا كان مشهورا بأنه سِكِّير، أو مثلا مدخن، أو أنه رقاص أو غَنَّاء، أو أنه مثلا تارك للصلوات، أو فاعل للفواحش ، يقترف الزنا ، أو يسرق أو ينتهب مثل هذا ليس كفئا يعني؛ لأن هذه قوادح تقدح في عدالته ، فلا يكون كفئا للعفيفة ، المتعففة الدَيِّنَة الصينة ، العرب بعضهم أكفاء بعض ورد ذلك في حديث ضعيف " العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي بعضهم أكفاء بعض " .(1/459)
الحديث مذكور في البلوغ ولكنه ضعَّفه وطعن فيه كثير من العلماء، وقالوا: المسلمون كلهم أكفاء ، المسلم كفء للمسلمة، ولا يشترط أن يكون عربيا ولكن عمل بهذا الحديث كثير من المتقدمين ، فقالوا: العربي ليس كفئا للمولاة، والمولى ليس كفئا للعربية، ويراد بالموالي الذين كان قد سبق عليهم الرق، ثم تحرروا وعتقوا، ولكنهم من أصل غير أصل العرب، ويراد بالعرب العرب المستعربة الذين آباؤهم وأجدادهم من أجداد معروفين ، تصل نسبهم إلى أصل عربي ، كأن مثلا يقال: هذا من بني حنيفة ، وهذا من تميم ، وهذا من الرباب ، وهذا من بني حنظلة ، وهذا من جهينة ، وهذا من مزينة ، وكذلك قبائل العرب المشهورين ، العرب بعضهم أكفاء بعض.
فأما الموالي الذين يسمون عتقاء أو يسمون موالي ، فبعضهم أكفاء لبعض ولكن الصحيح أنه على القول الصحيح أنه لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالتقوى وأنه يصح أن يتزوج المولى بعربية والعربي بمولاة ، وأن ذلك جائز ولا خلاف فيه وإن كانت عادة الناس في هذه البلاد التقيد بالنسب يقول يزوجها وليها فإن عدم وليها ، غاب ؟ عدم وليها يعني امرأة ليس لها ولي لا يوجد لها أب ولا جد ولا إخوان ولا أعمام ولا عصبة زوجها الحاكم ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " السلطان ولي من لا ولي له " .(1/460)
كذلك إذا غاب غيبة طويلة ، غاب غيبة طويلة وانقطع خبره ، أو لم يرسل وكالة وتأخر، والمرأة جاء لها كفء كريم ، فإن الحاكم يزوجها حيث وليها غير موجود ، أو امتنع عن تزويجها كفئا ، إذا تقدم لها كفء كريم ، وامتنع أبوها ، من تزويجها ، وطالت المدة وهو حابس لها ، إما أنه مثلا رد هذا مع أنه ليس فيه عيب ، أو أنه منعها مثلا يريد أن يطلب مهرا أكثر أو رجل أكثر مالا أو كانت مثلا موظفة ، ويريد مرتبها أو نحو هذا فإن هذا عضل ، والله تعالى يقول: { (((( ((((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((((((((((( } فإذا تقدم زوج كريم ، وعضلها وليها ولو كان الأب ، فإن لها أن تشتكي وتذهب إلى الحاكم ، ويزجها الحاكم ولو كان أبوها حاضرا ، فيحضره ويقول: زَوِّجها لهذا وإلا خلعنا ولايتك وزوجناها ، فإن هذا حرام عليك منعها؛ لأنه مخالف للآية { (((( ((((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((((((( } .
يقول: ولا بد من تعيين من يقع عليه العقد ، يعني: الزوج ، لا بد أن يعين سواء كان الزوج أو الزوجة إذا قال مثلا: زوجت ابنك ، إذا كان له عدة أبناء إذا قال: وكلني ابني فيقول: زوجت ابنك الأكبر أو زوجت ابنك أحمد ، لا بد من تعينه من يقع عليه العقد ، كذلك المرأة ، لا بد من تعينها ، فإذا كان له بنات فقال: زوجتك بنتي ، ما يصح حتى يسميها ، يقول: ابنتي فلانة أو يصفها فيقول بنتي الكبيرة بنتي الصغيرة أو يقول بنتي المطلقة ، إذا لم يكن له بنتا مطلقة إلا واحدة ، يسميها ويعينها حتى تتميز باسمها أو وصفها.(1/461)
كذلك لا بد أيضا من عدم الموانع بأحد الزوجين ، وهن المذكورات في الباب الذي بعده باب المحرمات في النكاح . يقول لا بد من الموانع ، الموانع محرمات النكاح ، ولكن هناك أيضا موانع أخرى ، الموانع للزواج مثلا ، إذا كان الزوج عنده أربع لم يصح له أن يتزوج خامسة ، يكون هذا مانعا ، مانعا من الموانع ، كذلك إذا كان في المرأة مانع العدة الاعتداد فلا بد أن يزول هذا المانع؛ لأنه مأمور بأن يزوجها بعدما تصير مباحا تزويجها.
ووقفنا على باب المحرمات في النكاح ، نأتي به غدا وما بعده إن شاء الله .
النكاح وشروطه وعيوبه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: باب المحرمات في النكاح وهن قسمان محرمات إلى الأبد ومحرمات إلى أمد ، المحرمات إلى الأبد سبع من النسب وهن: الأمهات ، وإن علون، والبنات وإن نزلن، ولو من بنات البنت والأخوات مطلقا، وبناتهن، وبنات الأخوة، والعمات ، والخالات له أو لأحد أصوله.
وسبع من الرضاع نظير المذكورات ، وأربع من الصهر وهن: أمهات الزوجات وإن علون، وبناتهن وإن نزلن إذا كان قد دخل بهن، وزوجات الآباء وإن علون، وزوجات الأبناء وإن نزلن من نسب أو رضاع، والأصل في هذا قوله تعالى: { ((((((((( (((((((((( ((((((((((((( } إلى آخرهما وقوله - صلى الله عليه وسلم - " يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة أو من النسب " متفق عليه .
وأما المحرمات إلى أمد ، فمنهن قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها " متفق عليه ، مع قوله تعالى { ((((( ((((((((((( (((((( (((((((((((( } ولا يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع ، ولا للعبد أن يجمع بين أكثر من زوجتين.(1/462)
وأما ملك اليمين فله أن يطأ ما شاء، وإذا أسلم الكافر وتحته أختان اختار إحداهما ، أو عنده أكثر من أربع اختار أربعة ، وفارق البواقي، وتحرم المُحْرِمة حتى تحل من إحرامها ، والمعتدة من الغير حتى يبلغ الكتاب أجله ، والزانية على الزاني وغيره حتى تتوب، وتحرم مطلقته ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره وتنقضي عدتها ، ويجوز الجمع بين الأختين بالملك، ولكن إذا وطأ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرم الموطوءة بإخراج عن ملكه ، أو تزوج لها بعد الاستبراء .
والرضاع الذي يحرم ما كان قبل الفطام، وهو خمس رضعات فأكثر فيصير به الطفل وأولاده أولادا للمرضعة وصاحب اللبن وينتشر التحريم من جهة المرضعة وصاحب اللبن كانتشار النسب.
باب الشروط في النكاح ، وهي ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر وهى قسمان: صحيح كاشتراط ألا يتزوج عليها، ولا يتسرى ولا يخرجها من دارها أو بلدها ، أو زيادة مهر ، أو نفقة ونحو ذلك فهذا ونحوه كله داخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " متفق عليه .
ومنها شروط فاسدة: كنكاح المتعة، والتحليل، والشغار، " ورخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتعة ثم حرمها " " ولعن المحلل والمحلل له " " نهى عن نكاح الشغار " وهو أن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته ، ولا مهر بينهما وكلها أحاديث صحيحة .
باب العيوب في النكاح: إذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا لم يعلم به قبل العقد كالجنون والجذام والبرص ونحوها ، فله فسخ النكاح وإذا وجدته عنينا أُجِّلَ إلى سنة فإن مضت، وهو على حاله، فلها الفسخ ، وإن عتقت كلها وزوجها رقيق خُيِّرَت بين المقام معه وفراقه ، لحديث عائشة الطويل في قصة عتق بريرة " خيِّرت بريرة حين عتقت على زوجها " متفق عليه . وإذا وقع الفسخ قبل الدخول فلا مهر وبعده يستقر ويرجع الزوج على مَن غرَّه. بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على محمد .(1/463)
المحرمات من النكاح قد بيَّنَهن الله تعالى في القرآن بيانا واضحا ، ولكن العلماء توسعوا في التسمية ، الله تعالى يقول: { ((((((((( (((((((((( ((((((((((((( } الأم تدخل فيها الجدة ؛ لأن الجدة أم أم ، أو أم أب فتكون محرمة أيضا ، وإن بعدت، وإن كانت جدة أب ، أو جدة جد ، أو نحوها هذا معنى قوله: وإن علون، أي: وإن كانت الجدة بعيدة منه، فإنها محرمة عليه، وهو محرم لها.
الثاني: قوله: { ((((((((((((( } البنت يدخل فيها بنت الصلب التي هي بنته من امرأته، ويدخل فيها أيضا بنت ابنه وبنت بنته ، وبنت بنت بنته ، وبنت بنت ابنه، وبنت ابن ابنه، وإن نزلن ؛ وذلك لأن الجميع ينتسبون إليه، هؤلاء محرمات إلى الأبد، ولو من بنات البنات يعني بنت البنت ، أو بنت بنت البنت، وكذلك بنت الابن ، أو بنت بنت الابن هؤلاء محرمات إلى الأبد.
الأخوات: الأخوات يدخل في قوله: { ((((((((((((((( } الأخت الشقيقة ، والأخت من الأب، والأخت من الأم ؛ لأن الجميع تسمى أخت ، بناتهن ، الله -تعالى- يقول: { ((((((((( (((((((( } بنت الأخت الشقيقة ، أو بنت بنت الشقيقة ، أو بنت ابن الشقيقة ، أو بنت بنت ابن الشقيقة ، وإن نزل أبوها ، أو وإن نزلت أمها الجميع محرمة، وكذلك بنت الأخت من الأب ، أو بنت بنتها ، أو بنت ابنها ، أو نحوهم، وكذلك بنت الأخت من الأم ، أو بنت بنتها ، وإن نزلن، كذلك بنات الأخ، بنت الأخ الشقيق ، أو لأب ، أو لأم، وبنت ابن الأخ، وبنت بنت الأخ وإن نزلوا .
أما العمة فلا فروع لها إلا أنها تنقسم إلى عمة شقيقة، عمة لأب ، عمة لأم أخت الأب من أبويه، أخت الأب من أبيه ، أخت الأب من أمه ، أما بناتهن فلسن محارم لسن محرمات يعني: يحق له أن يتزوج بنت عمته.(1/464)
كذلك الخالات ثم قوله: الخالات: الخالة يدخل فيها أخت أمه الشقيقة، أو أختها من الأب، أو أختها من الأم ، لكنه يقول: والخالات يعني والعمات والخالات له ، أو لأحد أصوله ، ما معنى لأحد أصوله ؟ عندنا أخت أبيه تسمى عمة عمته، أخت جده تسمى عمة أبيه ، أخت جد أبيه تسمى عمة جده وهكذا ، أخت جدته أم أبيه ، أو أم أمه تسمى أيضا خالة ، خالة أمه وخالة جدته ، فالحاصل أن العمة يدخل فيها عمته، وعمة أبيه وعمة جده ، وعمة جد أبيه وإن نزلوا.
والخالة تدخل فيها خالته أخت أمه، وأخت جدته، وأخت أم جدته وأخت أم أم جدته، وهكذا الجميع خالات ، يعني الله تعالى ذكر الخالة والعمة ، ولكن أطلقوها، فأدخلوا فيها البعيدة والقريبة.
فهؤلاء سبع من النسب يعني من القرابة ومن الرحم: الأم ، والبنت { ((((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((((( ((((((((((((( (((((((((((((( ((((((((( (((((( ((((((((( (((((((( } هؤلاء سبع من النسب. السبع الأخرى سبع من الرضاع، وأربع من المصاهرة:
السبع من الرضاع نظير السبع من النسب، فأمه التي أرضعته هذه تكون محرما له ، وبنتها التي رضعت من زوجته محرما له أيضا، وأخته التي رضعت من أمه محرما له ، أو رضعت من زوجة أبيه محرما له، وكذلك التي رضعت من أخيه محرما له، أو رضعت من أخته محرما له ، أو أخت أبيه من الرضاعة يعني رضعت من جدته أم أبيه ، أو رضعت من جدته، أم أمه هؤلاء السبع ، سبع من الرضاع يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.
أربع من المصاهرة الله تعالى ذكر قوله: { ((((((((((( (((((((((((( } هذا إذا تزوجت امرأة ، ولو لم تدخل بها: حرمت عليك أمها مطلقا، ولو طلقت البنت قبل الدخول ولو ماتت قبل الدخول، أمها تكون محرما لك أبدا.(1/465)
أما بنتها فإنها لا تصير محرما لك إلا إذا دخلت بالأم، إذا كان للزوجة بنات من غيرك، فإنهن محرم لك بشرط أن تدخل بأمها، والله تعالى ذكر ذلك وفصَّل في قوله تعالى: { ((((((((((( (((((((((((( (((((((((((((((( (((((((( ((( (((((((((( (((( ((((((((((((( (((((((( ((((((((( (((((( ((((( (((( (((((((((( ((((((((( (((((( (((( ((((((( (((((((((( } فإذا تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، أو ماتت قبل أن يدخل بها جاز أن يتزوج بنتها؛ لأنها لم يكن لها به قرابة تحل له بنتها، ولا تحل له أمها كما ذكروا.
يعني قوله: { ((((((((((( (((((((((((( } يدخل في أمها جدتها أم الأم ، جدتها أم أبيها ، وإن علت ويدخل في قوله تعالى { (((((((((((((((( } يدخل فيها بنت زوجته وبنت بنتها، وبنت ابنها، فإذا كان لزوجتك بنت وابن من غيرك قبلك ، أو بعدك فإن بنتها وبنت بنتها محرم لك وكذلك بنت ابنها.
ولو طلقتها تزوجت امرأة وطلقتها ونكحت زوجا آخر ، وأتت منه ببنات فإن بناتها من بعدك محارم لك ولو لم تكن ربيبة ، وإنما ذكر كونها ربيبة بناء على الأغلب ، الغالب أن بنت الزوجة تتربى في حجره مع أولاده، ولكن قد لا تتربى ، قد تكون عند أبيها، لا تتربى عنده ، ولكن لما كانت بنت زوجته حرمت عليه وكذلك بنت ابن زوجته هذه بنتان.(1/466)
وكذلك زوجات الأباء ، وزوجات الأبناء ، هذه أربع: زوجة أبيك وزوجة ابنك ويدخل في أبيه في قوله تعالى: { (((( (((((((((( ((( (((((( (((((((((((( ((((( (((((((((((( } يدخل في "آباؤكم" الأجداد ، فزوجة أبيك ولو بعد طلاقه ، أو بعد موته محرم لك ، وكذا زوجة جدك أي جد ، زوجة جدك أب الأم ، وزوجة جدك أب الأب كلهن محارم لك؛ وذلك لأن الجد يسمى أبا، ولو لم يكن وارثا ؛ لأن الأب اسم لمن له ولادة، فالله -تعالى- ما ذكر إلا الأباء في قوله تعالى: { (((( (((((((((( ((((((((((((( } لما ذكر المحارم قال: { (((( ((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((((((((( (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( ((((((((((((( (((( (((((((((((((( (((( (((((((((( ((((((((((((( } بعولتهن: يعني أزواجهن ، فيباح لها أن تكشف لأبي زوجها، وكذلك جده، وجد أبيه وجد أمه ، يباح له أن تكشف لابن زوجها وابن ابنه وابن بنته، وإن نزل لعموم هذه الآية: { (((( (((((((((((((( (((( (((((((((( ((((((((((((( } وكذلك أيضا قوله: { (((((((((((( (((((((((((((( ((((((((( (((( ((((((((((((( } حلائلهن يعني زوجاتهن { (((((((((((( (((((((((((((( } زوجات الأبناء وإن نزلن.
ثم إن المؤلف يقول: "من نسب ، أو رضاع" زوجات الأبناء وإن نزلن ، أو الأبناء وإن نزلوا ، زوجات الابن وإن نزل من نسب ، أو رضاع .(1/467)
زوجة الابن من الرضاع وزوجة الأب من الرضاع هذه فيها خلاف ، المؤلف ابن سعدي يرى أنها تحرم، وأن أباك من الرضاع تكشف له امرأتك، وابنك من الرضاع تكشف له امرأتك، ولو لم تكن أرضعته، لو كان لك زوجتان فأرضعت إحداهما صبيا نفرض أن اسمه أحمد ، ثم كبر أحمد هذا، وكان له أولاد فإنه محرم لزوجتيك التي أرضعته والتي لم ترضعه؛ ذلك لأنه ابنك ، فيكون داخلا في قوله: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " ويكون داخلا في قوله: { (((((((((((( (((((((((((((( } الأبناء يدخل فيها الابن من الرضاع والابن من الولادة.
لكن أشكل قوله: { ((((((((( (((( ((((((((((((( } فقد يقال: إن الابن من الرضاع ينسب إلى الصلب؛ وذلك لأن اللبن يتحلل من الصلب، ومن الجسد كله ، واللبن الذي في المرأة سببه هذا الولد أي: سببه هذا الرجل الذي حملت المرأة من مائه الذي من صلبه، فوجد هذا اللبن الذي هو سببه ، فيكون اللبن منهما جميعا وهو من الصلب.
وقد فهم بعض المشايخ من هذه الآية أنه لا يدخل فيه الابن من الرضاع لقوله: { (((( ((((((((((((( } ومنهم الشيخ محمد بن عثيمين يرى أن الابن من الرضاع لا يكشف على زوجة أبيه من الرضاع يخالف شيخه هنا، فإن ابن سعدي هو شيخه يخالفه هنا، ويتقيد بقوله: { (((( ((((((((((((( } .
المفسرون للقرآن جعلوا الابن من الرضاع مثل الابن من الصلب، وقالوا: إن الصلب موجود، وإن الرضاع سببه هذا الرجل، فهو من صلبه ، يعني: ينسب إليه وإن لم يكن وارثا، ثم قالوا: إن الآية أخرجت المتبنى وهو الدَّعِي، وقد كانوا في الجاهلية يتبنى أحدهم شخصا، ويسميه ابنه، فأخرجت الابن المدعى الذي هو الذي يسمى دَعِيًّا ويسمى متبنى ، أخرجته كما أخرج في سورة الأحزاب، في قوله تعالى: { ((((( (((((( (((((((((((((((( (((((((((((((( } فالآية لإخراج الدَّعِيّ ، { ((((( (((((( (((((((((((((((( (((((((((((((( } .(1/468)
وكانوا في الجاهلية إذا رأى أحد منهم طفلا أعجبه نباته أعجبه حسنه وأعجبه جماله تبناه، وقال: أشهدوا أن هذا ابني فيصير دَعِيًّا، ويصير ابنا له وينسب إليه ويرثه ، فنسخ الله ذلك وكان منهم زيد بن حارثة ، ابن حارثة كان يدعى زيد بن محمد ؛ لأنه لما أعتقه -عليه الصلاة والسلام- تبناه فنسخ الله قرابته وأنزل فيه قرآنا في قوله تعالى: { (((((( (( ((((((( ((((( ((((((((((((((( (((((( (((( ((((((((( (((((((((((((((( } أدعياؤهم يعني الذين يسمونهم أبناء لهم وهم ليسوا بأبناء ، { ((((( (((((( (((((((((((((((( (((((((((((((( } وأنزل فيهم أيضا قوله تعالى: { ((((((((((( (((((((((((( } فلما نزلت قال زيد بن حارثة: أنا زيد بن حارثة ، وقد كان يدعى زيد بن محمد الآية في قوله: { ((((((((( (((( ((((((((((((( } إنما هي لإخراج المتبنى؛ لأنه ليس ابن لا من صلب يعني لا من ولادة ولا من رضاعة.
فالحاصل أن المحرمات تحريما مؤبدا، ذكر منهن نحو ثمانية عشر: الأم من النسب، والأم من الرضاعة، والبنت من النسب، والبنت من الرضاعة، والأخت من النسب، والأخت من الرضاعة، وبنت الأخت من النسب، وبنت الأخت من الرضاعة، وبنت الأخ من النسب، وبنت الأخ من الرضاعة، العمة من النسب ، العمة من الرضاعة، الخالة من النسب، الخالة من الرضاعة، هؤلاء أربعة عشر يقال: قرابتهن نسب ، أو رضاعة.
أما اللاتي من المصاهرة فهن: أم الزوجة، وبنتها، إذا كان قد دخل بها وزوجة الأب، وزوجة الابن هؤلاء ثمانية عشر.
يقول: الأصل في هذا قوله تعالى: { ((((((((( (((((((((( ((((((((((((( } إلى آخرها وقوله - صلى الله عليه وسلم - " يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة ، أو من النسب " متفق عليه.(1/469)
أما المحرمات إلى أمد يعني إلى أجل يعني: ليس تحريمهن دائما منهن: قوله تعالى: { ((((( ((((((((((( (((((( (((((((((((( } الله تعالى حرم أخت الزوجة في هذه الآية؛ ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم بنت أخيها وحرم بنت أختها وحرم عمتها، وحرم خالتها، فإذن يكون المحرمات إلى أمد أخت زوجتك تحرم عليك ما دامت زوجتك عندك ، عمتها ، خالتها، بنت أخيها، بنت أختها، هؤلاء محرمات إلى أمد، فمتى طلقت زوجتك ، أو ماتت فإنه يحل لك أختها ، أو عمتها ، أو خالتها ، أو بنت أخيها ، أو بنت أختها لزوال السبب.
السبب أنه - صلى الله عليه وسلم - لما حرمهن قال: " إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم " العادة أنه إذا جمع بين زوجتين، فإن الزوجتين يكون بينهم حقد وبغضاء ومنافسة، وربما يؤدي ذلك إلى تهاجر وإلى تقاطع؛ أنهما يسميان ضرتين ، كل واحدة تحرص على ضرر الأخرى ، أو ترسل إليها ضررا، فإذا كانتا أختين فلا شك أنهما سوف يتقاطعان ويتنافسان، فيكون ذلك قطيعة رحم.
كذلك إذا كانت عمتها، خالتها، بنت أخيها، بنت أختها، فإنها بلا شك قد تهجرها وتسيء الظن بها وتحسدها، وتتكلم في عرضها، وتقدح فيها، وتتكلم فيها عند زوجها، وتقول: إنها فعلت وإنها فعلت ؛ لأنها ضرة ، فهذا هو السبب في تحريمه الجمع بينهن.(1/470)
لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها، سواء كانت الأولى هي الصغيرة، فينكح عليها عمتها ، أو خالتها ، أو الأولى هي الكبيرة العمة ، أو الخالة فينكح عليها بنت أخيها، أو بنت أختها، أما قوله: { ((((( ((((((((((( (((((( (((((((((((( } يقول: ولا يجوز للحر أن يجمع بين أكثر من أربع ، الله -تعالى- حدد للرجل أربع قال تعالى: { (((((((((((( ((( ((((( ((((( ((((( (((((((((((( (((((((( ((((((((( ((((((((( } وقف الحد عند الأربع أي: إن شاء اثنين، وإن شاء ثلاثا، وإن شاء أربعا بشرط وهو العدل ، { (((((( (((((((( (((( ((((((((((( ((((((((((( (((( ((( (((((((( ((((((((((((( } .
إذا كان يخشى ألا يعدل بين زوجتيه فإنه يقتصر على واحدة، ولا يجوز له أن يزيد إذا كان لا يعدل بينهن ، الله تعالى أباح الأربع ، أو ثلاث ، أو ثنتين بشرط العدل ، العدل في القسمة وفي النفقة وفي المبيت، وما أشبه ذلك ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه ويقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلومني فيما تملك ولا أملك " يعني: القلب ، يعني لا يقدر أن يسوي بينهن في المحبة ، ولكن في الأفعال يلزمه أن يسوي بينهن ، فإن خشي ألا يسوي بينهن، فإن عليه الاقتصار على واحدة.
يقول: ولا للعبد أن يجمع بين أكثر من زوجتين ؛ لأن العبد على النصف من الحر ، فلا يتزوج أكثر من اثنتين.
يقول: أما ملك اليمين فله أن يطأ ما شاء، إذا كان له مملوكات فله أن يطأ ولو خمسا ، أو ستا ، أو سبعا ، أو عشرا ؛ لأن الله -تعالى- أباح ذلك بقوله: { ((((((((((( (((( ((( (((((((( ((((((((((((( } يعني أنه يستمتع بمملوكته وبمملوكتيه وبمملوكاته ، وليس عليه أن يسوي بينهن، ولا أن يعدل بينهن ، بل يحل يه أن يطأ من يريد منهن .(1/471)
إذا أسلم الكافر وتحته أختان ، أو أكثر من أربع اختار ، فمن ذلك قصة فيروز الديلمي أسلم قال: " أسلمت وتحتي أختان فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اختر إحداهما " وذلك لئلا يجمع بين محرمتين، الأختين الجمع بينهما محرم أمره أن يفارق واحدة ، فارقها حرمها على نفسه وبقيت الأخرى زوجة له، قال: أختار هذه وأترك هذه.
كذلك أيضا أسلم رجل يقال له: غيلان وعنده عشر كانوا في الجاهلية يأخذون إلى غير عدد أسلم وعنده عشر فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " اختر منهن أربعا وفارق سائرهن " وكانت كل منهن تريد أن تبقى معه، ولو كن كثير وكان له أولاد منهن ، فلما جاء وأخبرهن أخذت كل واحدة تقول له: اتق الله في صحبتي ، اتق الله في ولدي، اتق الله في قرابتي ، ولكن ليس له بد من المفارقة ففارق ستا وأمسك أربعة ، هذا ثابت عنه.
ذكروا عنه أنه لما كان في عهد عمر - رضي الله عنه - وكبر سنه ، طلق زوجاته الأربع كلهن، وفرق أمواله على أولاده، فأُخْبِر عمر - رضي الله عنه - أنه قصد بذلك حرمان الزوجات فاستحضره وقال: لتراجعن زوجاتك ولتستعيدن أموالك، ولأمرن بقبرك أن يرجم كما رجم قبر أبي رغال، يعني لو مات على ذلك لأمر به أن يرجم علمه بأن يستعيدهن، وهذا يدل على أنه لا يجوز الطلاق قرب الموت ، أو في مرض الموت، وإن فعل فإن للمطلقة ميراثها.(1/472)
يقول: وتحرم المحرمة حتى تحل من إحرامها، وتقدم من محظورات الإحرام عقد النكاح لقوله-صلى الله عليه وسلم-: " لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب " فذلك لأن المحرم متلبس بعمل صالح، وهو هذا النسك، ومأمور بأن يبتعد عن الترفه ، ومن جملة الترفه ما يتعلق بالنساء، ولذلك قال الله: { ((((( (((((( ((((((( (((((((( (((( (((((( } وفسر الرفث بأنه ما يقال عند النساء ، أو ما له الاتصال بالنساء ، فحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - على المحرم أن يتزوج ما دام محرما ، أو على المحرمة أن تُزوج ما دامت محرمة، الولي المحرم لا يعقد ، والزوج المحرم لا يتزوج، والمرأة المحرمة لا تُزوج حتى تتحلل.
كذلك المعتدة لا يحل لها أن تتزوج، وهي في عدتها، حتى يبلغ الكتاب أجله ، المعتدة إما أن تكون معتدة بطلاق كالتي طلقها طلقة واحدة ، أو ثنتين ، أو ثلاث فعدتها مثلا ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر إن كانت لا تحيض ، أو وضع الحمل إن كانت حاملا ، أو أربعة أشهر وعشرة أيام، إن كانت متوفى عنها، فهذه ما دامت في عدتها، فإنها لا تتزوج ، فقد تقدم أنه يجوز التعريض بخطبة المعتدة، تقدم أنه يجوز، إني فيك لراغب ، أو إني أريد امرأة ، أو إني أرغب الزواج ، أما تصريحه بخطبتها فلا يجوز، وكذلك بطريق الأولى العقد عليها، وهي في العدة، فإذا عقد عليها ، وهي في العدة، فإن العقد باطل.
والزانية على الزاني وغيره حتى تتوب، اختلف في قوله تعالى: { ((((((((( (( ((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((((( (((((((((((((( (( ((((((((((( (((( ((((( (((( (((((((( } قالوا: كيف جعل المشرك ينكحها، وجعل المشركة ينكحها المسلم، { (((((((((((((( (( ((((((((((( (((( ((((( (((( (((((((( } كيف هي مسلمة ينكحها مشرك؟ كيف الزاني ينكح المشركة؟(1/473)
المفسرون قالوا: لأن الأقرب أنه ما دام مُصِرًّا على الشرك، ما دام مُصِرًّا على الزنا ، أو مصرة على الزنا، فإن المسلم يتعفف عنها؛ لئلا تدخل عليه أولادا من غيره؛ وكذلك المرأة إذا عرفت أن هذا الزوج زان متظاهر بالزنا؛ فإنها تتعفف عنه حتى لا يكون له أولاد يعيشون من صلبه ، أو أولاد ليسوا أولاد رشد فتتعفف عنه، ولا تتزوجه فلا يقبله إلا زانية مثله، أو لا يقبله إلا مشركة ؛ لأن المشركة لا تفرق بين الحلال والحرام.
هذا هو المعنى الأقرب أن الزاني لا يقبله إلا امرأة مثله زانية ، أو لا يقبله إلا امرأة مشركة ؛ لأنها لا تفرق بين الزنا والنكاح ، كذلك الزانية لا يقبلها إلا من هو زان مستمر على الزنا، أو يقبلها مشرك ؛ لأنه لا يبالي إن زنت وأدخلت عليه أولادا.
والحاصل أنها ما دامت زانية مجاهرة بالزنا حرام على المسلم أن يتزوجها ؛ لأنها قد تدخل عليه أولادا من غيره، فإذا تابت وصلحت توبتها، فإنها تحل للمسلم للعفيف، واختلف كيف تعرف توبتها؟ فقال بعضهم: توبتها أن تُرَاوَدَ فتمتنع، أن يأتيها واحد من أهل العفاف في خلوتها ويراودها، فإذا امتنعت علم بذلك توبتها .
ولكن الصحيح أن هذا لا يجوز، لا يجوز أن يخلوا بها حتى ولو كان عفيفا ؛ فلأن الشيطان قد يقرب بينهما حتى ولو كان عفيفا، فلا يجوز أن يراودها أحد ، ولكن إذا عرفت توبتها وعرف صلاحها وبُعْدُها عن الزنا، وبُعْدُها عن أماكن الزنا ورشدت وصلحت حالتها جاز للعفيف أن يتزوجها.(1/474)
يقول: وتحرم المطلقات ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره وتنقضي عدتها؛ لقوله تعالى: { (((((((((( ((((((((( } ثم قال بعد ذلك: { (((( (((((( ((((( (((( (((((( (((((( ((((((( ((((((( ((((((((( } يعني فإن طلقها بعد الطلقتين ، فالطلاق مرتان يعني الطلاق الرجعي ؛ ولهذا قال بعده: { ((((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((( ((((((((((( } يعني إذا طلق واحدة جاز له أن يراجعها في العدة ، أو يتزوجها بعقد جديد بعد العدة ، إذا طلق الثانية جاز له أن يراجعها في العدة ، أو يتزوجها بعقد جديد بعد انتهاء العدة ، إذا طلقها الثالثة حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره.
وهذا لأجل البعد عن الإضرار، كانوا في الجاهلية لا يبالي أحدهم أن يضار امرأته فيطلقها، فإذا قربت أن تنتهي العدة راجعها ثم أمسكها يوما، أو يومين ، أو أياما ثم طلقها، فإذا مكثت ثلاث حيض ، أو نحوها قاربت أنت تنتهي عدتها راجعها ، ولو عشر طلقات ، ولو عشرين طلقة ، فكان ذلك ضررا على المرأة ، فجعل الله له ثلاث طلقات بعد الثلاث ليس له رجعة تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره؛ لأنه إذا عرف أن الثالثة تُحَرِّمها عليه أمسك نفسه ، أمسك لسانه وتَثَبَّتَ ، وخاف أنها إذا طلقت وتزوجت غيره أنها لا ترجع إليه، وأن الزوج الذي يتزوجها تعجبه ويمسكها ، وتبقى زوجة له، ويحرم زوجها الأول، ويضيع منه أولاده منها ؛ فلأجل ذلك حدد له ثلاث طلقات، فإذا طلقها الثالثة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، ثم يفارقها الزوج الثاني، أو يموت عنها وتنقضي عدتها، وسيأتينا لهذا تكميل.(1/475)
يقول: ويجوز الجمع بين الأختين بالملك يعني بملك اليمين، يجوز أن تشتري أمتين أختين تستخدمهما، ولكن لا تطأهما معا، إذا أردت الوطء فاختر واحدة للاستمتاع، وتَجَنَّب الأخرى لدخولهما في قوله: { ((((( ((((((((((( (((((( (((((((((((( } إذا وطئ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرم الموطوءة ، أو إخراج من ملكه ، أو تزوج لها بعد الاستبراء فإذا وطئ الكبيرة تجنب الصغيرة .
متى تحل له الصغيرة إذا باع أختها ، أو زوجها ، زوجها لأنسان حر ، أو عبد ، فإنها حينئذ تحرم عليه الكبيرة التي قد وطئها حرمت عليه حين صارت زوجة لغيره ، أو حين صارت عتيقة ، أو حين صارت مملوكة لغيره حتى يحرم الموت ، أو بإخراج عن ملكه يبيعها يعتقها ، أو تزويجا لها. ولا يزوجها حتى يستبرئها كما يأتينا في العدد استبرائها بحيضة حتى يتحقق أنها ما حملت منه فإذا استبرأها وتحقق براءة رحمها زوجها.
يقول: الرضاع الذي يحرم ما كان قبل الفطام، ثبت أنه-صلى الله عليه وسلم- قال: " إنما الرضاعة من المجاعة " وقال: " لا يُحَرِّم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم " أنبت اللحم يعني نبت عليه لحم الطفل ، وأنشز العظم يعني كبر ، نشذ يعني كبر العظم ، يخرج رضاع الكبير فإنه لا يحرم وذلك؛ لأن الله -تعالى- حدد الرضاع في الحولين: { (((((((((((( ((( ((((((((( } { ( (((((((((((((((( (((((((((( ((((((((((((( (((((((((( ((((((((((( } فبعد الحولين لا يكون هناك رضاع ؛ لأن الطفل يتغذى بالأكل غالبا أنه لا يستفيد من الرضاع لقلته فيتغذى بالأكل، فعلى هذا الأصل أنه لا يحرم إلا إذا كان صغيرا هذا هو قول الجمهور.(1/476)
قد روي عن عائشة أنها تُجَوِّز إرضاع الكبير فكانت إذا أرادت أن يدخل عليها بعض التلاميذ أمرت أختها ، أو بنت أختها أن ترضعه حتى تكون خالة له ، وأنكر ذلك عليها بقية أمهات المؤمنين، ودليلها قصة سالم مولى أبي حذيفة ، وذلك ؛ لأن سالما لما كبر عند أبي حذيفة مولاه قالت امرأته: " إن سالما لا نعده إلا ابنا، وإنه قد بلغ مبلغ الرجال ، وإني أرى أن أبا حذيفة يكره دخوله ، فقال - صلى الله عليه وسلم - أرضعيه خمس رضعات تحرمين عليه " مع أنه كبير رجل ، وأمهات المؤمنين يقلن: إن هذا خاص بسهلة امرأة أبي حذيفة أن هذا خاص.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه إذا وجد امرأة مضطرة إلى دخول رجل عليها ضرورة شديدة لا تجد رخصة ولا تجد بُدًّا من ذلك، فإن لها أن ترضعه ، أو تأمر أختها بإرضاعه حتى تكون محرما له، فيرى أن هذا للضرورة الضرورة التي كضرورة سهلة امرأة أبي حذيفة.
فأما الجمهور فيقولون: إنه لا يحرم رضاع الكبير ويستدلون بقوله: " لا يحرم إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم " " وإنما الرضاعة من المجاعة " أو " لا يحرم من الرضاعة إلا ما أنبت اللحم، وكان قبل الفطام " هذا هو الصحيح ، فيكون قصة سهلة من خصائصها.
وهو خمس رضعات فأكثر، قد اختُلِفَ أيضا في القَدْر الذي تحرم به المرأة فيكون ولدا لها، فعند الإمام أحمد خمس رضعات ، وكذا عند الشافعي ، أما عند أبي حنيفة فيقول: عشر رضعات، وروي أيضا عن أبي حنيفة قول آخر أنه يحرم رضعتان، وكذلك روي أيضا عن الشافعي أنها تحرم رضعتان ، أما عند الإمام مالك فإنه يحرم أقل ما يسمى رضاعا ولو نصف مصة، ويقول: إن الله أطلق الرضاع في قوله: { ((((((((( (((((((((((((( } فإذا أرضعته ولو مص مصة ، أو نصف مصة، وتحقق أن فيها لبنا دخل في حلقه فإنها تصير أمه، هكذا ذهب مالك ولعلها لم تبلغه الأحاديث.(1/477)
في حديث سهلة " أنه أمرها أن ترضعه خمسا " وفي حديث عائشة قالت: " كان فيما أنزل من القرآن "عشر رضعات معلومات يحرمن" فنسخن ونزل "خمس رضعات معلومات يحرمن" فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مما يقرأ " نقول: هذا لا يوجد في كتاب الله في القرآن ، ولكن على الأقل إنه حديث، فإذا كان حديثا فإنه يعمل به، فيقال: خمس رضعات الطفل إذا رضع خمس رضعات؛ وذلك لأن الخمس رضعات يمكن أن ينبت بها لحمه وينشز بها عظمه وتشبعه من الجوع " إنما الرضاعة من المجاعة " .
واختلفوا في الرضعة فمنهم من يقول: إنها المصة ، ويستدلون بقوله-صلى الله عليه وسلم- " لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان " الإملاجة يعني: الإدخال إدخال الثدي في فمه لا تحرم أخذوا من قوله: " الرضعة والرضعتان " أن الثلاث تحرم، وأخذوا من قوله: "مصة" يكون أن يمص الثدي، ثم يبتلع، فإذا مص وابتلع ثم مص وابتلع ثم مص وابتلع خمس مصات فإنه يكون ابنا لها.
وأكثرهم على أن الرضعة هي إمساك الثدي ثم امتصاصه إلى أن يتركه سواء تركه من نفسه ، أو اجتذبته من فمه، فتعد هذه رضعة، فقد تكون الرضعة مثلا في لحظة، وقد تكون الرضعة في ساعة، يمسك ثديها ويمصه ولا يتركه مدة ساعة ، أو نصف ساعة، ونسميها رضعة واحدة، ولو امتص فيها مائة مصة ، أو مئات ، ومنهم من يقول: الرضعة هي الشبع كونه مثلا يرضع حتى يشبع ويكون كغذاء الكبير كما يقال مثلا: الوجبة التي هي طعام الشبل الكبير حتى يشبع.
ولكن الجمهور على أن الرضعة هي الإمساك ثم الإطلاق ، فيصير به الطفل وأولاده أولادا للمرضعة ولصاحب اللبن ، أولادا للمرضعة تقول: هذا ولدي من الرضاع، هذا ولد ولدي من الرضاع، هذا ابن بنتي من الرضاع ، هذه بنت بنتي من الرضاع ، كذلك صاحب اللبن زوجها، زوج المرضعة هو صاحب اللبن فإذن يقول: هذا ابني من الرضاع وبنتي من الرضاع وبنت ابني من الرضاع .(1/478)
ينتشر التحريم من جهة المرضعة وصاحب اللبن كانتشار النسب، قد تقدم أنه ينتشر، فمثلا أخت الزوج، صاحب اللبن الذي رضعتَ منها تصير عمتك وبنته من غير هذه المرضعة تصير أختك من الأب، أمه تصير جدتك، وأم أمه ونحو ذلك، وكذلك بالنسبة إلى المرضعة. باب الشروط في النكاح
بعده باب الشروط في النكاح يقول: هو ما يشترطه أحد الزوجين على الآخر الشروط معناه أن يشترط أحد الزوجين على الآخر شرطا له فيه مصلحة ؛ وذلك لأنه قد يرى أنه مضطر إلى هذا الشرط ، أو ترى أنها مضطرة إلى هذا الشرط فيشترطان شروطا لهما فيه مصلحة قد تكثر الشروط وقد تقل.
ذكر أنها قسمان: شروط صحيحة ، وشروط فاسدة، فإذا اشترطت ألا يتزوج عليها فهل هذا شرط صحيح ؟ نعم، وفي ذلك خلاف بعض العلماء يقول ليس بصحيح ؛ لأنه يحرم الحلال، الرسول يقول: " المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما ، أو حرم حلالا " ولكن هذا لا يحرم حلالا ، إنما يحرم إضرارها كأنها تقول: إن كنت تريدني زوجة فلا تتزوج أحدا يضارني، فإني أتضرر بالزوجة، فمن مصلحتي أن أنفرد بك وألا يشاركني فيك غيري ، وإذا تزوج عليها فإنها بالخيار تقول له: إما أن تطلقها وإما أن تطلقني فلقد شرطت عليك ألا تتزوج عليَّ ، فكأنها أباحت له الخيار أباحت له أن يطلقها، أو يطلق زوجته الجديدة ألزمته.
كذلك إذا شرطت ألا يتسرى ، لا يتسرى عليها يعني لا يطأ أمة ولا يطأ الإماء، الأمة التي يطأها تسمى سرية ؛ لأنه أراد أن يطأها سرا فتسمى سرية فإذا قالت: لا تتسرى عليَّ فإن لها ذلك هذا شرط أيضا من مصلحتها تريد أن تكون زوجته هي التي تعفه، إذا شرطت ألا يخرجها من دارها أن تسكن عند أهلها، أو تسكن في بيتها الذي ملكته، فإذا أخرجها فلها الخيار، كذلك إذا اشترطت ألا يخرجها من بلدها، وهذه الشروط يصح أن تشترطها هي ، أو يشترطها أبوها أن لا يخرجها من بلدها ؛ لأن عليها ضررا في إخراجها.(1/479)
كذلك إذا اشترطت زيادة مهر ، أو نفقة اشترطت من المهر كذا وكذا فلها ذلك ؛ لأنه من مصلحتها ، أو زيادة نفقة أن ينفق عليها نفقة أهل اليسار، ونحو ذلك فهذا كله داخل في الحديث: " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " يعني الشروط التي تستحل به هذه المرأة، ونكاحها أحق أن توفوا به.
أما الشروط الفاسدة فهي التي تبطل النكاح ، أو تبطل الشروط على خلاف في بعضها فمنها نكاح المتعة الذي تفعله الرافضة، وصورته أن يتزوجها مدة شهر ، أو مدة أسبوع ، أو مدة يوم يقول: زوجني ابنتك مدة يوم بعشرة ريالات مثلا ، أو مائة ، أو مدة شهر ، أو نحو ذلك إذا انتهت المدة، فإنها تنفسخ منه، ولا تكون زوجة هذا لا يسمى نكاحا ولا تسمى هذه زوجة ، ولا تدخل في قوله تعالى: { (((( (((((( ((((((((((((( (((( ((( (((((((( ((((((((((((( } .
ولا ترثه ولا يرثها؛ فلأجل ذلك لا يسمى هذا نكاحا؛ بل الأولى أن يسمى سفاحا ، الرافضة يستحلونه ويدعون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباحه وإن الذي حرَّمه هو عمر هكذا زعموا وكذبوا.
وبالتتبع لأدلة نكاح المتعة ما وجدنا أنه أحل إلا في غزوة الفتح، لما كان أهل الذين فتحوا مكة غالبا كانوا حديث عهدهم بالإسلام فخشي أن يقع منهم سفاح، فأباح لهم المتعة ثلاثة أيام ، أو نحوها ثم بعد ذلك حرمها إلى يوم القيامة ، أبيح في غزوة وحرم فيها، هذا هو الصحيح، وأما ما ذكر من تحريمه في خيبر فهو خطأ من الراوي لم يحرم في خيبر إنما الذي حرم في خيبر لحوم الحمر الأهلية وتفصيل ذلك واضح.
أما الرافضة فسمعوا أن عمر حرَّم المتعة يعني: متعة الحج يعني منع من متعة الحج فظنوا أنها متعة النكاح صحيح أن عمر - رضي الله عنه - كان ينهى عن المتعة يعني أن يتمتع الإنسان بالعمرة إلى الحج وذلك؛ لأنه خاف أنكم إذا اعتمرتم مع حجكم تعطل البيت، فلا يبقى فيه من يعمره فينهاهم ويأمرهم بأن يعتمروا في سفرة غير سفر الحج، هذا هو قصده.(1/480)
فالمتعة التي نهى عنها هي عمرة الحج ليست متعة النكاح فأخطأوا الفهم وألصقوا به ما هو بريء منه، ويمكن أن يكون هناك بعض الأدلة التي فيها أن عمر نهى عن المتعة في مصنف عبد الرزاق ورواية في صحيح مسلم " أنه نهى عن المتعة " .
ولكن إذا قلنا: إنه نهى عن المتعة فإنه مؤكد للنهي النبوي أنه نهى عنها مؤكدا لنهي النبي-صلى الله عليه وسلم- وذلك لأن هناك رجلا استباحها فحملت منه تلك المرأة فلما ظهر حملها سئل من زوجها فقيل: إنه نكاح متعة فنهى عن ذلك وعاقبه ، والكلام فيها طويل وقد أطالوا في كتبهم الأدلة التي زعموا أنها تبيح نكاح المتعة ، وكلها خرافات.
الثاني نكاح التحليل: " لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له " وقد مر بنا قريبا أنها تحرم مطلقته ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، هذا الزوج الذي هو غيره لا بد أن يكون راغبا في نكاحها يريدها زوجة له، لا يريد تحليلها لزوجها الأول إنما قصده أن يرغب في أنها امرأة له، أما إذا كان متفقا معها على أن ينكحها ليلة ثم يطلقها ، أو متفقا مع زوجها المطلق يقول له: أنكحها يا فلان ثم طلقها بعد ليلة حتى تباح لي فهذا هو التحليل الذي لعن النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- أصحابَه " لعن المحلل والمحلل له " .
وكذلك أيضا سماه التيس المستعار تشبيها له بالتيس الذي هو ذكر المعز الذي يستعيرونه لإضراب المعز ، فهذا تبشيع له فهو من الأنكحة المحرمة ، إذا شرط عليه أنك بعد يوم ، أو بعد ليلة تطلقها، فالحاصل أن هذا نكاح تحليل فهو حرام .(1/481)
الثالث: الشغار ، الشغار فسره في الحديث أنه " أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ولا صداق بينهما " بل بضع هذه مهر لبضع هذه ، هكذا فسر، وفي بعض الروايات أن يقول: زوجني ابنتك على أن أزوجك ابنتي، أو زوجني أختك على أن أزوجك أختي، أو زوج ابني على أن أزوج ابنك يعني بشرط فيكون بهذا حراما، ولو دفعوا الصداق لماذا ؟ لأنه قد يكون إحدى البنتين غير راضية مكرهة يكرهونها ويقولون: أنكحي ولدهم حتى يُنْكِحوا ولدنا أنكحيه نَنْكَحك ولدهم حتى تحصل لنا ابنتهم فتكره إحدى الابنتين ، وربما تكره الابنتان لمصلحة الولدين فهذا هو نكاح الشغار.
وأكثرهم يقولون: إنما سمي شغارا ؛ لأنه لا مهر فيه بل جعلت هذه مهرا لهذه فهذا هو الأشهر ، والذي اختاره ابن سعدي في قوله: ولا مهر بينهما يعني أخذا مما روي في الحديث، والحديث مروي عن ابن عمر وقوله: تفسير الشغار بأنه يقول له: زوجني ابنتك على أن أزوجك ابنتي، ولا مهر بينهما قيل: إن تفسيره من ابن عمر، وقيل: إن تفسيره من نافع مولى ابن عمر، يعني ليس مرفوعا ، ولكن إذا أخذنا كلمة الشغار.(1/482)
الشغار: مشتق من الشغور الذي هو الخلو ، قالوا: هذا مكان شاغر يعني خال ، يقال شغر الكلب رجله يعني رفعها، وأخلى مكانها فسمي الشغار؛ لأنه يخلو إما يخلو من الرضا، وإما يخلو من المهر، وهذا هو الأقرب، فعلى كل حال أكثر العلماء يقولون: إذا تراضت المرأتان وأعطيت كل واحدة منهما مهرا كاملا، ولم يكن هناك اشتراط ولا إكراه، فإن ذلك جائز، فإن كان هناك اشتراطٌ: لا نزوجك حتى تزوجني، وإكراه وعدم إعطاءها مهر مثلها فإنه محرم. " رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في المتعة ثم حرمها " يعني في غزوة الفتح، هذا الصحيح أنه ما حرمها إلا مرة واحدة، ولا أحلها إلا مرة واحدة " ولعن المحلل والمحلل له " " ونهى عن نكاح الشغار وهو أن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته ولا مهر بينهما " وكلها أحاديث صحيحة . العيوب في النكاح
أما العيوب في النكاح، العيوب في أحد الزوجين تسبب الفسخ، فإذا وجد أحد الزوجين في الآخر عيبا، وهو لم يعلم به قبل العقد فله فسخ النكاح.
فتارة تكون العيوب في الرجال، في الرجل ككونه عنينا، أي لا يقدر على الوطء، وتارة تكون في المرأة خاصة من عيوبها ما يسمى الرتق والفتق والقرن والعفل وهي أمراض تكون في الرحم ، أو في الفرج وتارة تكون في كل منهما كالجنون والجذام والبرص ونحوها يعني هذه عيوب ظاهرة ؛ لأنها تسبب النفرة ، الجذام هو قروح تخرج في الوجه وفي الأنف وتكون شديدة التأثير شديدة الأثر وتنتقل بإذن الله؛ ولأجل ذلك قال في الحديث: " فر من المجذوم فرارك من الأسد " واستعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - منه في قوله: " أعوذ بالله من البرص والجذام وسيئ الأسقام " .
البرص معروف الذي هو البهاق في الجلد، ولو لم يكن يعني ضارا ، ولكنه منفر فهذه عيوب، فإذا وجد في المرأة واحدا منها فله الفسخ، وإذا وجدت فيه واحدا فلها طلب الفسخ حيث إنها لا تستقر معه وهو مجنون ، أو به هذه العيوب ، أما إذا وجدته عنينا أُجِّلَ إلى سنة.(1/483)
قالوا: حتى تمر به الفصول الأربعة يعني قد يكون مثلا، ألمه كونه مثلا لا يقدر على الوطء يعني لا يحصل منه الانتشار، هذا قد يكون سببه البرودة، فإذا زال البرد حصل له القوة، قد يكون سببه الحرارة يعني يؤجل لمدة سنة حتى تمر به الفصول الأربعة، فإذا مضت وهو على حاله فلها طلب الفسخ ؛ ذلك لأن المرأة لها شهوة كما أن للرجل ، فإذا لم يحصل منه الانتشار وهو الذي يكون منه عند الوطء فإنه معيب.
يقول: وإن عتقت كلها وزوجها رقيق خيرت بين المقام معه وفراقه ، كما في قصة بريرة التي أعتقتها عائشة فإنها كانت تحت زوج مملوك يقال له: مغيث " فلما عتقت خُيِّرَت خيَّرها النبي-صلى الله عليه وسلم- فاختارت نفسها " وكان زوجها يحبها ، ولكن قالت: لا حاجة لي فيه ؛ لأنه كان مملوكا، مملوكا يعني ملكا كاملا، أما إذا عتقت وزوجها حر فإنها قد تساوت معه فلا خيار لها، كانت مملوكة وهو حر، ثم عتقت فقد صارت مثله هو حر وهي حرة، فلا تملك أن تطلب الفسخ هذا هو القول الصحيح.
والرواية التي فيها أن زوج بريرة حر من رواية الأسود عن عائشة الصحيح أنها خطأ، الذين رووا أنه عبد أكثر من الذين رووا أنه حر، ففي حديث بريرة " أنها خيرت حين عتقت على زوجها " .
يقول: إذا وقع الفسخ قبل الدخول فلا مهر لها وبعده يستقر ويرجع الزوج على من غره وظهر مثلا أن فيها عيب الجنون ، أو البرص ، أو الجذام ، أو فيها أمراض أخرى يعني من الأمراض الجديدة كمرض السرطان مثلا يعني متمكن منها ، أو فيها مرض خفي من الأمراض التي أشرنا إليها التي لا يقدر الزوج على الوطء معها، وهي أمراض تكون في الرحم ، أو في الفرج.(1/484)
ذكرها الفقهاء بقولهم القرن والعفل والرتق والفتق ، الفتق يعني فتق ما بين المخرجين ، أو كذلك الرتق الذي هو ضيق الفرج، ومنه قوله تعالى: { (((( ((((((((((((( (((((((((( (((((((( ((((((( } يعني ملتصقتين يعني أن فرجها ملتصق لا يحصل فيه الإيلاج ، فالحاصل أن هذه الأمراض إذا وجدها الزوج، فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها، اتضح قبل الدخول أن فيها برصا، ثم طلقها ، أو أن فيه برصا ، أو جذاما ثم حصل الفراق فلا مهر لها.
أما إذا دخل بها فإن مهرها يستقر وتملكه ، ولكن يرجع به على من غره سواء الذي غره أبوها ، أو مثلا أخوها ، أو الذي خطبها له ومدحها وقال: إنها كيت وكيت، وإنها سالمة، وإنها فيها وفيها ، وليس فيها ما تعاب به، فهذا هو الذي غره فيرجع على من غره .
والحاصل أن العيوب في النكاح التي ذكروها تارة تكون في كل من الزوجين وتارة تكون في أحدهما فقد يقال: إذا وجد فيها عيبا ، وفيه مثله إذا وجد فيها برص، وهو أبرص فهل لها الخيار ، أو له الخيار، نعم قد ينفر الإنسان من مرض، وهو موجود فيه يعني قد يرى أنه مثلا أن البرص الذي في غيره أشد من البرص الذي فيه ، أو أنه عيب، وإن لم يكن عيبا في نفسه، وهكذا مثلا الجذام والبرص وما أشبه ذلك ، هذه هي العيوب في النكاح، وبعد الصلاة -إن شاء الله- نقرأ الصداق وما بعده .
كتاب الصداق
ينبغي تخفيفه " وسئلت عائشة كم كان صداق النبي-صلى الله عليه وسلم- ؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا ، أتدري ما النش ؟ قلت: لا . قالت: نصف أوقية فتلك خمس مائة درهم " رواه مسلم . " وأعتق صفية وجعل عتقها صداقها " متفق عليه.(1/485)
وقال لرجل: " التمس ولو خاتما من حديد " متفق عليه. فكل ما صح ثمنا وأجرة، وإن قل، صح صداقا فإن تزوجها ولم يسم لها صداقا فلها مهر المثل فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة على الموسع قدره وعلى المعسر قدره لقوله تعالى: { (( ((((((( (((((((((( ((( (((((((((( (((((((((((( ((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((((( (((((( ((((((((( (((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((( } .
ويتقرر الصداق كاملا بالموت ، أو الدخول ويتنصف بكل فرقة قبل الدخول من جهة الزوج كطلاق ويسقط بفرقة من قِبَلها ، أو فسخه لعيبها، وينبغي لمن طلق زوجته أن يمتعها بشيء يحصل به جبر خاطرها؛ لقوله تعالى: { ((((((((((((((((( ((((((( ((((((((((((((( ((((( ((((( ((((((((((((( ((((( } .
باب عشرة النساء
يلزم كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف من الصحبة الجميلة وكف الأذى وأن لا يمطله حقه، ويلزمها طاعته في الاستمتاع وعدم الخروج والسفر إلا بإذنه، والقيام بالخبز والعجن والطبخ ونحوها، وعليه نفقتها وكسوتها بالمعروف قال تعالى: { (((((((((((((( ((((((((((((((( } وفي الحديث " استوصوا بالنساء خيرا " متفق عليه ، وفيه " خيركم خيركم لأهله " وقال - صلى الله عليه وسلم - " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح " متفق عليه.
وعليه أن يعدل بين زوجاته في القسم والنفقة والكسوة وما يقدر عليه من العدل ، وفي الحديث: " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " متفق عليه، وعن أنس " من السنة إذا تزوج الرجلُ البكرَ على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاث ثم قسم " متفق عليه ، وقالت عائشة: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد السفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها " متفق عليه.(1/486)
وإن أسقطت المرأة حقها من القسم بإذن الزوج ، أو من النفقة ، أو الكسوة جاز ذلك وقد " وهبت سودة بنت زمعة يومها لعائشة فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة " متفق عليه ، وإن خاف نشوز امرأته وظهرت منها قرائن معصية وعظها، فإن أصرت هجرها في المضجع فإن لن ترتدع ضربها ضربا غير مبرح، ويمنع من ذلك إن كان مانِعًا لحقها، وإن خيف الشقاق بينهما بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها يعرفان الأمور والجمع والتفريق يجمعان إن رأيا بعوض ، أو غيره ، أو يفرقان فما فعلا جاز عليهما، والله أعلم .
باب الخلع: وهو فراق زوجته بعوض منها ، أو من غيرها، والأصل فيه قوله تعالى: { (((((( (((((((( (((( (((((((( ((((((( (((( (((( ((((((( ((((((((((( (((((( (((((((((( ((((( } فإذا كرهت المرأة خلق زوجها ، أو خلقه وخافت ألا تقيم حقوقه الواجبة بإقامتها معه فلا بأس أن تبذل له عوضا ليفارقها، ويصح في كل قليل وكثير ممن يصح طلاقه، فإن كان لغير خوف ألا يقيما حدود الله، فقد ورد في الحديث " من سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " .
كتاب الطلاق: والأصل فيه قوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( ((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((( } وغيرها من نصوص الكتاب والسنة، وطلاقهن لعدتهن فسره حديث ابن عمر حيث " طلق زوجته وهي حائض فسأل عمر - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " متفق عليه .(1/487)
وفي رواية: " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " وهذا دليل على أنه لا يحل له أن يطلقها وهي حائض ، أو في طهر وطئ فيه إلا إن تبين حملها ، ويقع الطلاق بكل لفظ دل عليه من صريح لا يفهم منه سوى الطلاق كلفظ الطلاق، وما تصرف منه وما كان مثله، وكنايته إذا نوى بها الطلاق ، أو دلت القرينة على ذلك، ويقع الطلاق منجزا ، أو معلقا على شرط كقوله: إذا جاء الوقت الفلاني فأنت طالق، فمتى وجد الشرط الذي علق عليه الطلاق وقع .
ذكر كتاب الصداق والفقهاء يقولون: باب الصداق، والصداق هو العوض الذي يبذله الزوج لامرأته على أنه عوض نفسها قال الله تعالى: { (((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( (((((((( } سماها صدقات جمع صداق وسماها أيضا نحلة ويسمى أيضا أجرا لقوله تعالى: { (((((((((((( ((((((((((( ((((((((( } يسمى فريضة، ويسمى أجرة ويسمى نحلة ويسمى صداقا ويسمى أيضا مهرا ، وكذلك له عدة أسماء.
والحاصل أن العامة يسمونه دفعا يعني ما يدفع لها، فإذن ينبغي عند العقد أن يذكر باسم الصداق ، أو باسم المهر ، أو باسم كما يقولون السياق ، أو باسم الدفع فإذا قال زوجتك بدفع كذا وكذا ، أو زوجتك بسياق كذا وكذا ، أو بصداق كذا ، أو بمهر كذا ، أو بعقر كذا قد يسمى أيضا عقرا فإنه ينعقد.
ذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد من اشتراطه في العقد أن يذكر في العقد مقدار الصداق ، أو نوعه ، أو مجمله كأن يقول زوجتك بصداق ألف ، أو بصداق عشرين ألفا ، أو زوجتك بصداق كذا وكذا من الحلي ، أو بصداق أمثالها ، أو ما أشبه ذلك ، يقول: يسن تخفيفه وذلك ؛ لأنه إذا تصاعد الناس فيه حصل مضرة على الزوجين على الرجال والنساء فكثير من الرجال قد لا يجد المهور الغالية التي يتنافس الناس فيها كمائة ألف ، أو أقل ، أو قريبا منها، وكذلك قد تتضرر النساء فيتعطل كثير من النساء ويتأيمن ويبلغن سن الإياس ، أو العنوسة ولم يتقدم لهن أحد لتشدد أوليائهن في الصداق.(1/488)
فلذلك يسن تخفيفه الاقتصار مثلا على الحاجات الضرورية على الكسوة وعلى الحلي مثلا وعلى تأثيث المنزل، وما أشبه ذلك الأثاث الضروري اللازم ، وإذا كان لها أقارب أعطاها بقدر ما تهدي لأقاربها كأخوات مثلا ، أو عمات ، أو نحو ذلك كالمعتاد أما المباهاة والمكاثرة، فإن في ذلك ضررا على الزوجين.
ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في النساء: " أفضلهن أيسرهن مئونة " يعني: أيسرهن تكلفة أي صداقا وأنه جاءه رجل وذكر أنه تزوج بعشرين دينارا ، أو نحوها فاستنكر عليه وقال: " عشرين دينارا كأنما تنحتون الذهب من عرض هذا الجبل لا أجد لك إعانة " جاء يستعينه يعني مبلغ يسير اثني عشر دينارا فكل ذلك دليل على أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يحث على تخفيف المهور.
ذكرت عائشة لما " سئلت كم كان صداق النبي-صلى الله عليه وسلم- ؟ قالت: كان صداقه لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشا ، أتدري ما النش ؟ قلت: لا . قالت: نصف أوقية " الأوقية أربعون درهما ، يعني أربعون درهما الدرهم قطعة من الفضة صغيرة فتلك خمسمائة درهم اثني عشر أوقية ونشا، يعني ونصف أوقية فإذا ضربت اثني عشر في أربعين وجدتها أربع مائة وثمانين، والنش النصف عشرون فتكون خمسمائة درهم، هكذا كان صداق نساء النبي-صلى الله عليه وسلم- ، أما صداق بناته فأربعمائة لم يزد في صداق بناته على أربع مائة درهم.
يستثنى من ذلك أم حبيبة فإن النجاشي أصدقها أربعة آلاف دينار هذه خاصة صحيح أنه أصدقها كثير أربعة آلاف دينار يعني من الذهب؛ وذلك لأنه ملك من الملوك وعنده الأموال ، وافرة وقد أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأحب أن يصنع معه معروفا، فدفع لها مهرا ، لما أنه أرسل من يوكله يقبلها فأصدقها عنها هذا المقدار.(1/489)
واستثني أيضا صفية بنت حيي بن أخطب كان أبوها من بني النضير من يهود المدينة ثم إنه لما أجلي بنو النضير رحل أبو ياسر وحيي ابنا أخطب ونزلا في خيبر ثم إن أباها الذي هو حيي بن أخطب لما جاء الأحزاب جاء إلى بني قريظة وحملهم على أن نقضوا العهد، واشترطوا عليه أنه إذا رجعت الأحزاب أن يدخل معهم فدخل معهم فقتل مع بني قريظة فبقيت ابنته زوجة لرجل في خيبر فقتل زوجها فلما كانت في السبي أخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - واصطفاها لنفسه وأعتقها وجعل عتقها صداقها لم يدفع إليها شيئا فقيمتها صداقا لها وأصبحت كأمهات المؤمنين.
وقال لرجل: " التمس ولو خاتما من حديد " في حديث سهل بن سعد قصة المرأة التي قالت: وهبت نفسي لك قال له: " التمس ولو خاتما من حديد " يعني تقليلا للمهر ماذا يساوي خاتم حديد يجعله في أحد الأصابع لا يساوي قدر درهم ، أو نحوه، فمثل هذا أيضا تيسير له، ولما لم يجد ذلك الرجل شيئا زوجه على أن يعلمها سورا من القرآن " قد زوجتكها بما معك من القرآن، فقال فعلمها عشرين آية أو نحوها " .
فجعل تعليم القرآن أيضا صداقا فلذلك قالوا: يصح أن يعلمها علما فيه فائدة يجعل ذلك مهرا كأن يعلمها بابا من أبواب الفقه ، أو جملة من الأحاديث النبوية يكررها حتى تحفظ ، أو آيات من القرآن ، أو سورا من القرآن، فإن ذلك كله يعتبر مما يؤخذ عليه العوض، وكل ما صح ثمنا وأجرة ، وإن قل، صح صداقا " جاءت امرأة إلى النبي -عليه السلام- وقالت: إنها تزوجت على نعلين. فقال: أرضيتِ من نفسك ومن عينك بنعلين؟ قالت: نعم فأجاز نكاحها على نعلين " .(1/490)
يتزوجها ولم يسم لها صداقا فلها مهر المثل كثيرا ما يقولون زوجتك بمهر أمثالها ، أو بما يتراضى عليه الزوجان، فإذا اختلفا نظر في أمثالها أخواتها مثلا ، أو زميلاتها اللاتي يساوينها في السن ، أو في الشرف، وما أشبه ذلك، وفي الكفاءة فتعطى مثل أمثالها ، سواء من النقود ، أو من الحلي ، أو من الأكسية ، أو ما أشبهها.
فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة، فالمتعة هي المتاع الذي أمر الله تعالى به ، والصحيح أنه يعم كل مطلقة، لكن إذا طلقها قبل أن يفرض لها فليس لها إلا المتعة، وإن طلقها بعد أن دخل بها، وملكت الصداق فلها أيضا مع الصداق المتعة، وإن طلقها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها صداقا فيكفيها نصف الصداق عن المتعة، هذا هو القول المختار.
أمر الله تعالى بالمتاع في قوله تعالى لنبيه-صلى الله عليه وسلم-: { ((( ((((((((((( ((( ((((((( (((((((( (((((((((((( (((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((((( (((( } فأمره بأن يمتعهن أي يعطي كل واحدة منهن متاعا ، وكذلك قال في غير المدخول بها: { ((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((( ((((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((( (((((( (((((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((((( } أعطوهن متاعا ، وكذلك في هذه الآية وهي قوله في سورة البقرة: { (( ((((((( (((((((((( ((( (((((((((( (((((((((((( ((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((((( (((((( ((((((((( (((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((( } على الموسع يعني الذي عنده سعة عنده سعة في المال، والمقتر الذي هو الفقير على كل منهما قدره قرأها بعضهم: (على الموسع قدْرُه وعلى المقتر قدْرُه) وقرأها بعضهم: (قَدَره) يعني مقدار ما يتسع له ماله.(1/491)
قدرها بعض الصحابة قالوا: أعلاها خادم عبد ، أو خادمة، وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها، وما بين ذلك جائز، فإذا أعطاها مثلا متاعها كسوة يعني مثلا أعطاها عباءة وخمارا وجلبابا ودرعا، فإن هذا يعتبر متاعا قليلا، وكذلك إذا أعطاها مثلا حليا من ذهب ، أو فضة ، أو أعطاها أواني مثلا وأمتعة ، أو أعطاها خادما ، أو أعطاها نقودا، كل ذلك يصلح أن يكون متاعا.
المتعة هي: المتاع الذي أمر الله تعالى به ، والصحيح أنه يعم كل مطلقة ، لكن إذا طلقها قبل أن يفرض لها فليس لها إلا المتعة ، وإن طلقها بعد أن دخل بها، وملكت الصداق فلها أيضا عن صداق المتعة ، وإن طلقها قبل أن يدخل بها ، وقد فرض لها صداقا فيكفيها نصف الصداق عن المتعة.
هذا هو القول المختار ، أمر الله تعالى بالمتاع في قوله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - { ((( ((((((((((( ((( ((((((( (((((((( (((((((((((( (((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((( ((((((((((((((( (((((((( ((((((( (((( } فأمره بأن يمتعهن أي يعطي كل واحدة منهن متاعا، وكذلك قال في غير المدخول بها: { ((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((( ((((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((( (((((( (((((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((((( } أعطوهن متاعا ، وكذلك في هذه الآية، وهي قوله في سورة البقرة: { (( ((((((( (((((((((( ((( (((((((((( (((((((((((( ((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((((( (((((( ((((((((( (((((((((((((( ((((( ((((((((((( ((((((((( ((((((( (((((((((((( ((((((((( } .
على الموسع يعني الذي عنده سعة في المال ، والمقتر الذي هو الفقير، على كل منهما قدره، قرأها بعضهم: (على الموسع قدْره وعلى المقتر قدْره) وقرأها بعضهم (قدَرُه) يعني مقدار ما يتسع لهما.(1/492)
قدرها الصحابة وقالوا: أعلاها خادم ، عبد ، أو خادمة وأدناها كسوة تجزئها في صلاتها ، وما بين ذلك جائز، فإذا أعطاها مثلا متاعها كسوة يعني مثلا عباءة وخمارا وجلبابا ودرعا، فإن هذا يعتبر متاعا قليلا.
وكذلك إذا أعطاها مثلا حليا ذهبا ، أو فضة ، أو أعطاها أواني مثلا وأمتعة ، أو أعطاها خادما ، أو أعطاها نقودا، كل ذلك يصلح أن يكون متاعا ، يتقرر الصداق بالموت ، أو الدخول كاملا ، إذا مثلا فرض لها صداق خمسين ألفا مثلا ، ثم توفي قبل أن يدخل بها ملكته يدفع لها كامل الصداق؛ وذلك لأنها في ذمته، وقد فرض لها هذا الصداق.
فإذا مات ولم يدخل بها دُفِعَ لها كامله من تركته ، كذلك إذا دخل بها ، إذا دخل بها دخولا كاملا وعرفوا الدخول ، أو الخلوة قالوا: الخلوة والدخول التي يستقر بها الصداق أن يغلق الباب، أو يسدل الحجاب ويكشف النقاب يعني يتمكن من الاستمتاع بها، إذا أغلقت الأبواب بينه وبينها، وليس عنده إلا سواها، وتمكن من كشف النقاب عن وجهها مثلا وخلا بها ، أو كانت مثلا في بيت شعر، فأسدل الحجاب الذي هو الحاجز بينه وبين الناس، فإن هذا يعتبر خلوة يتقرر به المهر.
ويتنصف بكل فُرْقة قبل الدخول من جهة الزوج، إذا طلقها مثلا من نفسه اختار طلاقها قبل أن يدخل بها وقد فرض لها، فإن لها النصف يجب لها نصف الصداق ، ولا عدة عليها، وجب لها نصف الصداق، ولا تلزمها العدة ؛ لقوله تعالى: { ((((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((( ((((((((((( (((((( (((((((((( (((((( ((((((((( (((((((( ((( (((((((((( } فلها نصف المسمى قليلا ، أو كثيرا.(1/493)
وهنا يقال: إنهم قد يتفقون فيما بينهم على صداق، ولا يكتب في العقد إلا بعضه، فيتفقون على أنه يدفع لها مثلا عشرين ألفا نقدا، ويشتري لها من الذهب مثلا كذا وكذا من الأسورة، وكذا من القلائد، وكذا من الرشارش، وكذا من الخواتيم، وكذا من الحلقات وما أشبهها، ويشتري لها من الكسوة من نوع كذا وكذا ، وساعة بقيمة كذا وكذا.
وما أشبه ذلك يشترطونه عليه، وعند العقد لا يكتبون إلا جزءا من ذلك يسيرا ، وهذا خلاف الأصل ، الأصل أنهم يحضرون عند العقد بكل ما يشترطه عليه ، فإذا طلقها -والحالة هذه- فيمكن أن لا يطلب منه ولا يصيبه إلا ما كتب في العقد ، نصف الصداق الذي كتب في العقد حيث أنهم غلطوا حين لم يكتبوه، وإن كان هناك بينة عندهم فإنهم يطالبونه بنفس الجميع ، إذا طلق قبل الدخول ويسقط بفُرْقَة من قِبَلها ، أو فسخه لعيبها إذا اتضح أن بها عيبا كجنون ، أو برص ، أو جذام ولم يدخل بها وفارقها فلا صداق لها ، لا كاملا ولا منصفا.
وكذلك إذا طلبت الفراق هي ، إذا طلبت الفراق قالت: لا أريده ، أو فيه عيب ، أو أكرهه، وطلقها، هي التي طلبت الطلاق، سقط حقها فلا تستحق مطالبة بشيء لا ببعض ولا بكل.
يقول: وينبغي لمن طلق زوجته أن يمتعها بشيء يحصل به جبر خاطرها يعني المطلقة عموما ؛ لهذه الآية في سورة البقرة: { ((((((((((((((((( ((((((( ((((((((((((((( ((((( ((((( ((((((((((((( ((((( } يعني أن يمتعها ولو بكسوة ولو بأحذية مثلا، ولو بنفقة أي يعطيها مثلما تنفق على نفسها ؛ جبرا لنفسها على هذا الفراق. باب عشرة النساء
العشرة هي الصحبة ، الصحبة التي تكون بين الزوجين، قال الله تعالى: { (((((((((((((( ((((((((((((((( } ويسمى كل منهما عشيرا للآخر، ويقال: هذا عشير هذه المرأة ، وهذه عشيرته يعني زوجته وصاحبته تسمى صاحبة كما في قوله تعالى: { (((((((((((((( ((((((((( (((( } فكل منهما صاحب للآخر.(1/494)
ومعلوم أن الزوجين يصطحبان صحبة طويلة إذا وُفِّقَ بينهما فقد تصحبه زوجته ستين سنة ، أو سبعين سنة ، أو نحوها ، وهي زوجة له، فهي أطول من يصاحبه ؛ ولذلك تسمى شريكة الحياة، يعني أنها تشاركه في حياته في أفراحه وأتراحه؛ فلأجل ذلك ورد الأمر بتحسين الصحبة وبتحسين العشرة ، فقال: { (((((((((((((( ((((((((((((((( } يلزم كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف ، يلزم الزوج أن يعاشرها بالمعروف، ويلزمها أن تعاشره بالمعروف.
العشرة: الصحبة الجميلة وكف الأذى ، وإيصال الخير ، وبذل الندى ، وكف الأذى ، والتخلق بالفضائل ، والبعد عن الأدناس والرذائل ومساوئ الأخلاق ، ولين الجانب ، والصحبة الطيبة، والتغاضي عن الهفوات وعن الأخطاء التي قد تحصل من أحدهما ، والتغاضي عن الهفوات ، وترك التشدد في المطالب والطلبات.
وكذلك أيضا أداء الحقوق التي لكل منهما على صاحبه ، لا يثقله بحقه، ولا يتبرم عند طلبه ، فإذا طلبها مثلا لفراشه فلا تتمادى ولا تمطله ولا تطيل البعد عنه ، وكذلك أيضا إذا طلبت منه حقا لها، فلا يمطلها إذا طلبت نفقة واجبة ، أو لازمة ، أو كسوة -وهو قادر على ذلك- فليس له أن يتأخر ويماطلها.
الله تعالى فرض لها حق النفقة في قوله تعالى: { ((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((( (((((((((((((( } يلزمها طاعته للاستمتاع حتى قالوا: إذا دعا الرجل امرأته فلتأته ولو كانت على التنور، يعني: تخبز في التنور إذا دعاها لحاجته ، وكذلك تأته، قالوا: فلتأته ولو كانت على ظهر قتب يعني: ولو كانت راكبة على ظهر القتب ، الذي هو الرَّحْل الذي على البعير ، فيلزمها أن تطيعه ولا تمتنع منه ، فيباشرها لحاجته ولا تمنعه نفسها ، وفي الحديث، يأتينا الحديث في ذلك.(1/495)
وكذلك أيضا لا تخرج ولا تسافر إلا بإذنه ؛ لأنه ملك الاستمتاع بها وملك نفسها ، فلا تخرج إلا بإذنه إلا إذا كان بينهما شرط ، في هذه الأزمنة تشترط مثلا الدراسة أنها تخرج للدراسة، وإذا كانت عاملة تشترط خروجها لعملها ؛ لأداء العمل الوظيفي ، ولا بد أن يكون هو الذي يوصلها مثلا ويردها، أو هناك من يرسلها ، فالحاصل أن له أن يمنعها من الخروج للسفر إلا بإذنه.
أما الخدمة فمن العلماء من يقول: لا يلزمها خدمته ، ولكن الصحيح أن عليها أن تخدمه ، وأن تعمل في بيتها ما تعمله الخادمة هكذا كان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا كان نساء الصحابة يخدمن أزواجهن فتصلح الطعام، تخبز وتعجن وتطبخ وتصلح أثاث الدار، وتغسل الأواني مثلا، وتخرج القمامة من الدار وما أشبهها، وتفرش الفرش ، وتطويها وتغسل الثياب والأواني وتنظفها ، شغل البيت وعمله من واجبها على زوجها، ولو كان قادرا على أن يشتري خادمة ، أو يستجلبها.
فالحاصل أنها تعمل الأعمال التي تعملها أمثالها ، وقد ثبت أن فاطمة - رضي الله عنها - لما تزوجها عليّ كانت هي التي تخدم زوجها، وتخدم أولادها حتى إنها طحنت يعني على الرحى حتى مجلت يداها أي تلفطت يداها من الطحن ، وكذلك كانت أيضا تطعم دوابه وتصلح طعامه ، وتغسل ثيابه، ونحو ذلك، طلبت من النبي -عليه السلام- خادما لما أتاه بعض السبي فاعتذر إليها ، وأمرهما بأن يقتصرا على التسبيح والتكبير والتهليل عند النوم وقال: " هو خير لكما من خادم " وقال: " لا أعطيكما خادما وأذر أهل الصفة، وكان إذا أتاه خادم باعه وأنفق ثمنه على أهل الصفة " .(1/496)
فكل ذلك دليل على أن المرأة تخدم زوجها ، كانت أسماء بنت أبي بكر امرأة الزبير - رضي الله عنهم - فكانت تخدمه حتى إنها كان له فرس في أرض له خارج البلد فكانت تطبخ طعام الفرس من النوى ، النوى الذي هو نوى التمر كانت تكسره ، ثم تطبخه ، ثم إذا نضج حملته على رأسها حتى تصل به إلى الفرس لمسافة نصف فرسخ أي نحو ساعة مسيرة ساعة ، أو قريبا منها ، هذه خدمتها لزوجها، لا شك أن هذا دليل على أن المرأة تخدم زوجها، وتخدم بيتها.
عليه نفقتها وكسوتها ؛ لقوله تعالى: { ((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((( (((((((((((((( ((((((((((((((( } هذا من واجبه ، وأكد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - كما مر بنا في خطبته في حجة الوداع أنه قال: " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، ولكم عليهن ألا يدخلن في بيوتكم أحدا تكرهونه، ولا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه " تقدم هذا في حديث جابر الطويل في حجة الوداع.
وقال - صلى الله عليه وسلم - " استوصوا بالنساء خيرا " أمر بالصبر على المرأة قال: " استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن خلقن من ضلع أعوج " وقال: " إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها " .
فالرجل لا بد أن يلاحظ في امرأته شيئا من النقص، أو شيئا من المخالفة ، أو شيئا من الخلل ، فعليه أن يتحمل ويصبر ويستمتع بها ويصبر على العوج الذي يكون فيها.
وقوله: " خيركم خيركم لأهله " تمامه قال: " وأنا خيركم لأهلي " يعني أنه إذا قام بحق امرأته وأدى ما يلزمه ، وصحبها صحبة حسنة ، وألان الكلام لها، ودخل عليها بوجه منبسط ، وتبسم في وجهها وأعطاها ما تطلبه، فإنها تلين له ، وتحبه وتركن إليه، وتوافقه ، فلذلك قال: " خيركم خيركم لأهله " .(1/497)
وأما قوله: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتها الملائكة حتى تصبح " فهذا فيه أمر لها بأن تطيع زوجها ، وألا تتمادى لا تتمادى في العصيان ، ولا تتبرم في إعطائه حقه ؛ وذلك لأنه ما تزوجها إلا ليعف نفسه ، ليس القصد فقط أن تخدمه بل أن تعفه عن أن ينظر إلى غيرها ، وأن تطيعه متى طلبها، ولو كانت على أية حال، إلا أنها لا تمكنه من نفسها إذا كانت حائضا ، أو نفساء، لا تمكنه من أن يطأها وهي غير ذلك بل تمكنه من أن يستمتع منها فيما دون الفرج ، إذا كانت عليها هذا العذر.
ولكن مع ذلك تنام معه وتجلس معه ويجلس معها ، فالحاصل أن عليها أن تطيعه، قوله: " لعنتها الملائكة " يعني هذا وعيد شديد " لعنتها الملائكة حتى تصبح " إذا امتنعت من فراش زوجها . هذا يتعلق بباب العشرة ، انتهى من باب العشرة ، والذي بعده يتعلق بالقسم بين الزوجات.
الفقهاء يجعلونه باب آخر يقولون: باب القسم بين الزوجات ، ولكن المؤلف أدخله في العشرة ، عليه أن يعدل بين زوجاته في القسم والنفقة والكسوة وما يقدر عليه من العدل ، القسم إذا كان له زوجتان فإنه يبيت عند هذه ليلة ، وعند هذه ليلة ، وإذا كسا هذه كسا مثلها الأخرى ، وإذا اشترى لهذه فاكهة اشترى للأخرى كذلك، وإذا اشترى لهذه لحما اشترى لهذه لحما، أو قسم اللحم بينهما، لا يؤثر واحدة على واحدة.
فإن ذلك من الجور الذي نهى الله تعالى عنه في قوله: { (((((( (((((((( (((( ((((((((((( ((((((((((( } كذلك في النفقة والكسوة ، القسم والتسوية والعدل في القسم، وقالوا: إن القسم هو المبيت ولا يلزم منه الوطء يعني لا يلزمه أن يسوي بينهن: إذا جامع هذه يجامع هذه ، هذا شيء قد لا يقدر عليه؛ وذلك لأن هذا شيء يتعلق بالشهوة.(1/498)
والإنسان قد لا تميل نفسه إلى إحداهن ، فتميل إلى هذه أكثر؛ ولذلك ثبت عن عائشة قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني: القلب ، القلب لا يقدر الإنسان أن يسوي بينهن في المحبة وفي الميول ، ولكن القسم الظاهر هو أن يبيت عند هذه ليلة، وعند هذه ليلة.
نُهِيَ عن الميل ففي الحديث " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " الميل قد يكون في النفقة بأن لا ينفق على هذه ، أو يقصر عليها ويقتر عليها ، أو في المبيت ألا يبيت عندها ، يبيت عند هذه مثلا عشرة أيام وعند هذه يوما ، أو نحو ذلك فإن هذا أيضا ميل ظاهر.
وكذلك في الكسوة إذا كسا هذه كسوة مثلا بمائة كسا هذه كسوة بعشرين ، هذا أيضا ميل لا بد أن يسوي بينهما، ولو كانت إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة ، ولو كانت هذه قديمة، وهذه جديدة لا بد من التسوية بينهما حتى لا يكون ممن يأتي يوم القيامة وشقه مائل ، وعن أنس قال: " من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ، ثم قسم ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ، ثم قسم " .
وذلك لأن الجديدة قد يكون لها ميل، قد يكون لنفسه ميل إليها ما دامت جديدة، زوجة جديدة تزوجها وعنده قبلها امرأة، فهذه المرأة الجديدة له ميل إليها ؛ لجدتها، فإن كانت بكرا فإنه يعطيها سبعة أيام متوالية يبيت عندها سبعة أيام متوالية ، ثم بعد ذلك يقسم بينها وبين الأخرى ، أو الأخريات، هذه السبع؛ لجدتها ولكونها بكرا ؛ ولأن النفس تميل إلى معاشرتها، والميل إليها شيء ظاهر.(1/499)
أما إن كانت ثيبا - يعني مطلقة من قبله - وتزوجها وهي ثيب ، فإنها -والحال هذه- يكفيها ثلاث ليال، يبيت عندها ثلاث ليال ، ثم بعد ذلك يقسم ، فإذا اختارت أن يبيت عندها سبعا فإنه يقضي لزوجاته ، في حديث أم سلمة لما تزوجها وبات عندها ثلاثا قال: " إنه ليس بك هوان على أهلك ، وإن شئت سَبَّعْت لك ، وإن سَبَّعْت لك سبعت لنسائي " أي أنه إذا أقام عنده سبعا متوالية فإنه يسبع للمرأة الأخرى .
قول عائشة - رضي الله عنها - " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها " وهذا أيضا من العدل ؛ لأنه لا يقدر أن يسافر بنسائه كلهن في كل سفر ، لكنه يسافر بإحداهن تخدمه مثلا، وتبيت معه وتؤنسه ويؤنسها، فيسافر بواحدة كلما سافر إلى غزوة ، أو إلى عمرة ، أو نحوها ، تقول عائشة: " كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه " جمعهن وعمل قرعة .
معروف أن القرعة طريق شرعي لاستخراج المجهولات ، هكذا ذكر العلماء، فجعل القرعة طريقا شرعيا لاستخراج المجهولات ، فإذن لا يصير إذا خرج سهم واحدة يعني إصابتها القرعة فلا ظلم عليها ، ولا ظلم منها ولا ظلم على البواقي ؛ لأن هذا سهمها ونصيبها وحظها حيث قرعت وخرج سهمها ، وليس فيه تعمد إضرار بالبواقي، ولذلك كلهن يرضين بما حصل ؛ لأنه لم يتعمد أن يرضي واحدة.(1/500)
وإذا سافر بها ومكث معها مثلا في هذا السفر شهرا ، أو نصف شهر ، ثم رجع فإنه لا يقضي للبواقي بل يبدأ القسم ، يبدأ القسم من جديد ، وإن أسقطت المرأة حقها من القسم بإذن زوجها ، أو من النفقة ، أو الكسوة جاز ذلك ، كثيرا ما يرغب الرجل عن زوجته يعني لكبر سن ، أو لعيب ، أو نحو ذلك ، أو لكراهة فيقول: لا حاجة لي في الاستمتاع بك ، ولا أستطيع أن أنام معك ولا أجامعك فلا أجد نفسي مائلا إليك لأي سبب ، فلك الخيار إن أردت أن تبقي في ذمتي ولا حق لك في المبيت فابقي ، وإن أردت الطلاق طلقتك وخليت سبيلك، فإذا قالت: لا أريد الطلاق ، بل أجلس في بيتي ومع أولادي ولو لم تعطني شيئا من المبيت ولا من القسم فقد رضيت بذلك ، أسقطتْ حقها ، سقط حقها وصار يقسمه للبواقي ، وذلك لأنها رضيت بهذا فهو أهون عليها من الفراق ، من الطلاق الذي فيه فراق زوجها ، وفراق أولادها وفراق بيتها ، ويسمى هذا أيضا صلح.
وذكروه في تفسير قوله تعالى: { (((((( (((((((((( ((((((( (((( ((((((((( (((((((( (((( (((((((((( (((( ((((((( (((((((((((( ((( ((((((((( ((((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((( } وقرأها بعضهم (فلا جناح عليهما أن يَصَّالَحَا بينهما صلحا) هذا اصطلاح على أنها تبقى عند أولادها، ولا حق لها في القسم ، ينفق عليها مع أولادها. " وهبت سودة بنت زمعة يومها لعائشة ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة " وذلك لأن سودة كبرت ؛ لأنها تزوجها بمكة بعد موت خديجة، وكانت قد أسنت فلما كبرت أراد أن يطلقها فقالت: " لا تطلقني ، أحب أن أحشر مع زوجاتك يوم القيامة أن أكون لك زوجة ، فأمسكني ولا حاجة لي في القسم، وقد وهبت ليلتي لعائشة " فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقسم لثمان ، ويجعل يوم عائشة مع يوم سودة لعائشة ، هذا مما اصطلحوا عليه ، اصطلحت معه على أن تبقى في ذمته، وألا يكون لها حظ في القسم .(2/1)
انتهى ما يتعلق بالقسم ، وابتدأ في باب آخر يقال له: باب النشوز ، يعني أجمله المؤلف مع عشرة النساء ، النشوز هو العصيان ، العصيان ، أو الإعراض ، أو الهجران ، أو المخالفة ، أو ما أشبه ذلك ، وهذا أيضا مذكور في القرآن ، قال الله تعالى في سورة النساء: { (((((((((( (((((((((( ((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((( ((((((((((((( ((((((((((((((( (((((( (((((((((((( (((( ((((((((( (((((((((( ((((((( } ثم قال { (((((( (((((((( ((((((( ((((((((((( ((((((((((((( ((((((( ((((( ((((((((( ((((((((( ((((( (((((((((( } إلى آخره ، فإذا خاف نشوزها يعني رآها مثلا تتكره صحبته ، أو تتبرم بأداء حقه ، أو لا تجيبه إلى نفسها إلا مع تثاقل، أو رأى منها مثلا أنها لا تطيعه في خدمته ، أو أنها تكثر الخروج ، أو إذا خرجت إلى أهلها لم ترجع إليه إلا بعد مشقة ، وبعد إلحاح ، وبعد تشدد فمثل هذا يسمى نشوزا ، أو مقدمات النشوز.
فأولا يبدأ بالموعظة فيخوفها من آثار النشوز الذي هو العصيان ويذكر لها عظم حق الزوج حتى قال - صلى الله عليه وسلم - " لو كنت آمرا أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها " فيذكر لها حق زوجها عليها ، ووجوب طاعتها له، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بأن تطيع زوجها ، ولا تعصيه، وأخبر بأنها إذا أطاعته فلها كذا ، وإذا عصته فعليها كذا، يعظها ويذكرها بالحقوق لعلها أن تتعظ .
فإن أصرت هجرها ، ذكر العلماء أنه يهجرها بالكلام ثلاثة، لا يكلمها لعلها تلين ، ويهجرها في المضجع بأن لا ينام معها، أو إذا نام يوليها ظهره ، وينام مع زوجته الأخرى، إذا كان له زوجة أخرى ، يهجرها في المضجع، يعني في الفراش، هذا إذا استطاع ذلك، ولكن كثير إذا لم يكن له إلا زوجة واحدة فقد لا يستطيع قد تتحمل الصبر هي ؛ لأن المرأة أقوى على الصبر عن زوجها منه عنها.(2/2)
كثير من الرجال قد لا يصبر، لكن إذا هجرها بالكلام وعظها فإنه قد يكون مؤثرا ، فإن لم ترتدع بالوعظ، ولا بالهجر ضربها ضربًا غير مبرح، أي غير شديد ، يضربها بيده مثلا ، أو بعصا خفيفة بحيث لا يجرح جلدا، ولا يكسر عظما ، يضربها ضربا غير مبرح ، أي غير شديد ولا يضرب في الوجه.
أما إذا كان مانعا لحقها فإن الخطأ منه ، إذا كان قد منعها حقها ، منعها مثلا العشرة ، ومنعها النفقة ، ومنعها من الكسوة مثلا ، أو منعها من لين الجانب، أو منعها من سهولة الكلام ، أو من الخلق الحسن ، إذا أتاها، أتاها بخلق سيئ ، فمثل هذا يعتبر هو الخاطئ ، هو الذي قد ظلمها فلها الحق أن تتمنع منه، وأن تتبرم عليه ، ويزيل الشقاق بينهما بعث الحاكم يعني القاضي { ((((((( ((((( ((((((((( ((((((((( ((((( (((((((((( } يعرفان أمور الجمع والتفريق يجمعان ، أو يفرقان بعوض ، أو غيره ، أو يفرقان ، فما فعلا جاز عليهما ؛ لقوله تعالى: { (((((( (((((((( ((((((( ((((((((((( ((((((((((((( ((((((( ((((( ((((((((( ((((((((( ((((( (((((((((( ((( ((((((((( (((((((((( ((((((((( (((( (((((((((((( } .
هذان الحكمان يختار الزوج حكما من أقاربه معروفا بالعقل والإدراك والنصح والتوجيه والجمع والتفريق، وهي تختار أيضا حكما من أهلها من أحد أقاربها ، من أهل العقل والتميز والفهم والإدراك يجتمع الحكمان بهما ، يجتمعان بالزوجين ، فيسألان ماذا تنقمي عليه ؟ وماذا تنكري عليه ؟ وما رأيك ؟ وما الذي أنكرت ؟ وما موضع تقصيره عليك ؟ وأنت ماذا أنكرت عليها وما نوع تقصيرها؟.
فإذا رأوا أن بينهما تقاربا حث كل منهما الآخر على أن يتنازل عن بعض حقه ، وأن يُسقِط ما يراه من الحق الذي له ، أو عليه ، فربما يكون ذلك سببا في الجمع بينهما.(2/3)
فإذا اتضح أنه لا محاولة مفيدة ، بل كل المحاولات فشلت ، وحاولوا الجمع بينهما ، سواء النفرة من الزوجة ، أو من الزوج ، فليس لهما إلا الفراق ، التفريق بينهما بأن يكون بعوض ، فإن كانت هي التي كرهته وقالت: لا أريده ، ولا أرضاه زوجا. قيل لها: أعطه كذا وكذا مما دفع لك ، أعطه كذا وهو يخلي سبيلك ، فإذا دفعت ذلك فإنها تبرأ منه وتتخلى.
فإذا كان هو الذي ظلمها، وهو الذي هجرها، وهو الذي أضَرَّ بها ، والظلم حصل منه قيل له: لا حق لك عليها طَلِّقْهَا، ولا حق لك عليها ، أو أعطها ما تستحقه ، وطلقها ، الحاصل أنهما يفرقان ، أو يجمعان ، والتفريق يكون بعوض ، أو بغير عوض ، وأن ذلك جائز ؛ بأن الحاكم رضيهما. بعده باب الخلع .(2/4)
وسمي بذلك مِن خَلْع الثوب، الذي هو كشفه وإلقائه ، وخلع النعل قال: خلع نعليه يعني ألقاهما، فكأن المرأة تخلع نفسها من زوجها ، فراق المرأة بعوض منها، أو من أهلها ، الخلع هو كونها تطلب الفراق ، وتبدي سببا من الأسباب ، ثم تبذل مالا على أن يخلي سبيلها ، قليلا ، أو كثيرا، سواء كان المال منها هي التي تبذله ، أو من أوليائها ، دليل ذلك والأصل فيه قوله تعالى: { (((((( (((((((( (((( (((((((( ((((((( (((( (((( ((((((( ((((((((((( (((((( (((((((((( ((((( } بعد قوله تعالى: { (((((((((( ((((((((( ((((((((((( ((((((((((( (((( ((((((((( ((((((((((( (((( (((((( (((((( ((( ((((((((((( (((((( (((((((((((((((( ((((((( } يعني من المهور ، الصداق الذي دفعتموه إذا طلقتموهن لا يحل لكم أن تأخذوا مما أعطيتموهن شيئا إلا أن يخاف ألا يقيما حدود الله ، إذا خيف أن الزوجين لا يقيمان حدود الله ، يعني شرائعه، ولا يبقيان مجتمعين اجتماعا نافعا ، فإنهما -والحال هذه- يصح أن يتفرقا ، وأن المرأة تبذل مالا ، أو الزوج يطلب مالا ، فيقول: هي التي أساءت الصحبة ، هي التي كرهت البقاء، هي التي طلبت الفراق، وما دام أنها هي التي طلبت الفراق ، وأنا ما أسأت إليها ، ولم يكن مني ضرر ، فإني أطلب منها كذا وكذا ، تعطيني ألفا ، أو تعطيني عشرين ألفا ، أو تعطيني ما دفعت إليها ، أو ما أشبه ذلك.
واختلف هل يأخذ منها أكثر من صداقه ، أو يقتصر على الصداق الذي دفعه ؟ فأجاز بعض العلماء يعني أخذ جميع ملكها ، واستدلوا بهذه الآية { (((( ((((((( ((((((((((( (((((( (((((((((( ((((( } كل ما تفتدي نفسها به ، ولو أموالها كلها ، ولو أكثر مما أعطاها مرة ، أو مرات { (((((( (((((((((( ((((( } حتى إن بعضهم قال: يخلعها بما دون عفاصها ، يعني شعر رأسها ، يعني حتى لو أخذ كسوتها وتركها عريانة ، هكذا قال بعضهم { (((((( (((((((((( ((((( } .(2/5)
ولكن القول الثاني: أنه لا يأخذ أكثر مما دفع؛ وذلك لأنه قد استمتع بها ، وقد وطئها وقد استحل من فرجها ما يستحل الزوج ، ومع ذلك هي التي طلبت الفراق ؛ لكراهيتها له، فلا يحل له أن يأخذ أكثر من مهره.
والدليل قصة امرأة ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري خطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - مشهور معروف من الصحابة ، كانت امرأته يقال لها: جميلة بنت أبي بنت بن سلول أخت عبد الله بن سلول فكرهته ، جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالت: " إن ثابتا لا أعيبه في نفس ولا في مال، لكني أكره الكفر بعد الإيمان " أو " لا أعيبه في دين ولا في خلق ، ولكني أكره الكفر بعد الإيمان " .
تقول: " إنني نظرت إليه مرة يمشي مع قوم وإذا هو أحقرهم ، وأقبحهم صورة ، وأقصرهم قامة ، وأشيلهم مشية ، تقول: فوقع في نفسي كراهيته " فلا أريده زوجا أصلا ، فلما عرف مثلا أنها لا تريده ، قال: " ماذا أعطاك ؟ قالت: أعطاني تلك الحديقة ، فقال لثابت: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " .
وفي بعض الروايات أنها قالت: " أعطيه الحديقة وزيادة. فقال: أما الزيادة فلا " فمن هذا أخذوا أنه لا يزيد على ما أعطاها ، إذا كرهت المرأة خلق زوجها ، الخلق هو المعاملة يعني أنه سيئ الخلق ، حقودا ، غضوبا ، شديدا عليها ، ضَرَّابًا لها مثلا ، أو بذيء اللسان يسب ويشتم ويقذف ويعيب ويتتبع العورات ، ويتتبع العيوب ، ويجعل من الحبة قبة ، ويكثر من التنكيد عليها في أفعالها، وينتقدها في كل شيء قليل ، أو كثير ، فهذه أخلاق سيئة.
أو كرهت خَلْقَهُ يعني خِلْقَتَه بأن كان دميما ، أو سيئ الخلق ، ولو كانت مثلا قد رأته قبل ذلك، ولكن رأته قبيح المنظر ، فكرهته لذلك ، وخافت ألا تقوم بحقوقه الواجبة عليها.(2/6)
قالت: إنني إذا صحبته فإنني سوف أقصر في حقه ، إن دعاني فإني لا آتيه إلا بتكره ، إن خدمته فإني لا أخدمه خدمة واجبة ، وإن صحبته فإني أصحبه ونفسي تتقزز منه ، فلا أحبه في هذه الحال، ماذا تفعل ؟ تفدي نفسها تدفع له شيئا ، تبذل له عوضا ؛ ليفارقها ، هذا العوض يصح بكل قليل ، أو كثير ، ويصح أن يقبل منها القليل، أو الكثير سواء الذي دفعه كله ، أو بعضه ، أو قليلا منه يقبل منها هذا الشيء ، ثم يخلي سبيلها.
واختلف هل هذا الفراق يعد طلاقا ، أو لا يعد طلاقا ؟ فأكثر العلماء على أنه لا يحسب طلاقا ، فلو مثلا أنه كان قد طلقها ، ثم راجعها ، ثم طلقها ، ثم راجعها ، ثم خالعها بعوض ، ثم أراد أن يتزوجها حلت له ، ولو كانت ثلاثا ؛ لأن الخلع لا يعد من الطلقات ؛ لأنه فراق من قبلها فلا يحسب طلقة ، واستدل ابن عباس بالآية أن الله تعالى ذكر الطلقتين: { (((((((((( ((((((((( } ثم ذكر الخلع { (((( ((((((( ((((((((((( (((((( (((((((((( ((((( } ثم ذكر الطلقة الثالثة بقوله { ((((( ((((((((( (((( (((((( ((((( (((( (((((( (((((( ((((((( ((((((( ((((((((( } فدل على أن الوسط الذي هو الخلع لا يعد من الطلاق، ولو صرح بذلك ، ولو قال: قد طلقتها يسمى هذا فسخا ويسمى فراقا ولا ينقص به عدد الطلاق.(2/7)
وأما قوله: فإن كان لغير خوف ألا يقيما حدود الله فلا يجوز ، يعني الله يقول: { (((((( (((((((( (((( (((((((( ((((((( (((( } يعني إذا خافت ألا تقوم بحقه ، حدود الله يعني حقوقه ومحارمه، فإن كان طلبها الفراق ليس خوفا ألا تقيم حدود الله، ولكن من باب الاستبدال كأنها تقول: أستبدل زوجا بزوج ، أو أنها مثلا عشقت زوجا غيره، ومالت إليه فصارت تشيع صحبته حتى يفارقها مع أنه لا ضرر منه، فمثل هذا حرام عليها ، وفيه هذا الحديث " من سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " البأس هو الضرر ، إذا طلبت زوجها الطلاق ، أو طلبت الفراق، وهو قائم بحقوقها ، وهو مقيم للحدود فإنها قد أذنبت ذنبا كبيرا.
والغالب أن هذا يحدث فجأة ، ثم تتغير الحال ، بحيث أنه يندم ، أو تندم يقع الندم سريعا؛ فلأجل ذلك يقال: لا تستعجل إذا طلبتك الطلاق ، تمهل إلى أن تتغير الحال، ويقال لها أيضا: لا تطلبي الطلاق لأدنى مخالفة، أو لأدنى كلمة تسمعينها، اصبري وتحملي وتصبري.
نبدأ بعد ذلك بكتاب الطلاق . معروف أن الطلاق هو فراق الزوجة سواء منه ، أو منها ، وذكروا أنه تتعلق به الأحكام الخمسة ، فقال في زاد المستقنع: "يباح للحاجة، ويكره لعدمها ، ويستحب للضرر، ويجب للإيلاء ، ويحرم للبدعة" تتعلق به الأحكام الخمسة فيباح للحاجة إذا تضررت المرأة بحيث إنها تكاد أن تفتدي نفسها، وعرف زوجها أنها متضررة ، فإنه يباح ، يباح أن يطلقها يعني إذا كان محتاجا للطلاق ، وإن كانت يمكن أن تكون الصحبة باقية ، يباح للحاجة لحاجته إلى الطلاق، ولو لم يكن هناك ضرر، ويكره لعدمها إذا كانت الحالة مستمرة ، والزوجة صالحة وقائمة بالحقوق، وليس عليها نقص فطلاقها -والحال هذه- مكروه. يكره الطلاق لعدم الحاجة.
ويستحب للضرر ، إذا تضررت الزوجة ، وبقيت حالة ، يخشى أنها تفتدي نفسها، استحب له أن يطلقها حتى تتخلص من الضرر، ومن المشقة.(2/8)
ويجب للإيلاء - كما يأتينا في باب الإيلاء - أنه إذا آلى منها ، ثم انتهت المدة فإنه يجب عليه أن يطلق ، أو يكفر ، ويحرم للبدعة يحرم عليه أن يطلقها زمن البدعة - وسيأتي مع أمثلة لها - ولا شك أنه يحصل به ضرر؛ ولذلك ورد في الحديث: " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " يعني أنه حلال، ولكنه يبغضه الله ، وذلك لما فيه من التفريق بين الأولاد ، ومن التفريق بين الزوجين اللذين يجب أن تحسن العشرة بينهما.
ويكره أن يكون الإنسان مذواقا مطلاقا، أنه يتزوج هذه كأنه يذوقها ، ثم يطلقها ، ولكن لا مانع من ذلك إذا كان ذا قدرة مثلا ورغبته وسمحت له بطلاقها ، ذكروا الحسن بن على - رضي الله عنه - أنه تزوج عددا كثيرا من النساء، وكان يجمع عنده أربعة ، ثم يطلق واحدة ويتزوج بدلها حتى طلق أكثر من عشرة ، أو نحوها.
الأصل فيه قول الله تعالى { ((((((((((( ((((((((( ((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((( } وهذه السورة تسمى سورة الطلاق ؛ لأن الله ذكر في أكثرها الطلاق ، في قوله في أولها ، ثم ذكر العدة ، ثم ذكر الإسكان { ((((((((((((( } يعني المطلقات { (((( (((((( (((((((( } ثم قال: { (((((( (((((((((( (((((( (((((((((((( ((((((((((( } إلى آخره .
وذكر الطلاق أيضا في سورة البقرة ، في قوله تعالى: { ((((((((((((((((( ((((((( ((((((((((((((( } وفي قوله: { ((((((((((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((((((( (((((((( } { (((((((((( ((((((((( } { ((((( ((((((((( (((( (((((( ((((( } { ((((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((((( (((((((((( } في موضعين، ذكر الطلاق في عدة آيات.(2/9)
ولهذا قال: وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ، إذن قوله تعالى { (((((((((((((( (((((((((((( } فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الطلاق للعدة بقوله: " أن تطلقها طاهرا ، أو حاملا " أو تطلقها في طهر لم يجامعها فيه ، إذا أراد الطلاق من عدة فلا يطلقها وهي حائض، ولا يطلقها في طهر قد جامعها فيه قبل أن يتبين حملها ، فإن هذا طلاق بدعة.
ولعل الحكمة في ذلك التقليل من الطلاق ؛ فإنه مثلا إذا أراد أن يطلق امرأته ثم جامعها قيل له: لا تطلقها في هذا الطهر الذي قد جامعتها فيه ، اصبر حتى تحيض ، ثم تطهر ، فإذا جاءتها الحيضة وصبر وطهرت من الحيضة قيل له: طلقها ، فقال: نفسي تتعلق بها ، فيندفع حتى يطأها فإذا وطئها قيل له: الآن لا يجوز لك طلاقها في هذا الطهر الذي قد وطئتها فيه ، فاصبر حتى تحيض مرة ثانية ، ثم تطهر ، فإذا صبر ، ثم جاءتها الحيضة الثالثة ، قيل له: لا تطلق في الحيضة فإذا طهرت فقد تدفعه نفسه أيضا إلى أن يطأها ؛ لأنه صبر عنها هذه المدة.
فيكون ذلك سببا في تقليل الطلاق أنها لا تطلق، وهي حائض، ولا تطلق في طهر قد وطئها فيه قبل أن يتبين حملها ، في حديث ابن عمر أنه " طلق امرأته وهي حائض ، فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: مره فليراجعها ، ثم ليتركها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " وفي رواية " مره فليرجعها ثم ليطلقها طاهرا ، أو حاملا " .(2/10)
قوله: " مره فليراجعها " استدلوا به على أن الطلاق في الحيض يقع؛ وذلك لأن المراجعة لا تكون إلا من طلاق صحيح ، ورد ذلك أيضا في رواية صريحة ، قال ابن عمر: وقال نافع: وحسبت عليه تطليقة يعني حسبت تلك الطلقة التي طلقها وهي حائض تطليقة ، أمره بأن يراجعها في حيضها الذي أوقع الطلاق فيه حتى تطهر من تلك الحيضة ، ثم تحيض حيضة أخرى ، ثم تطهر من الثانية فحينئذ يطلق بعد الثانية ، بين الحيضتين ماذا يفعل ؟ يجامعها لا بد أن تكون المراجعة بالوطء ، كأنه قال: يراجعها ويجامعها بعد الحيضة التي طلقها وهي فيها ، فلا بد أن يجامعها بين الحيضتين ، ثم يصبر عنها بعد الحيضة الثانية ويطلقها.
فهو طلقها وهي حائض، فقيل له: راجعها في هذه الحيضة ، أرجعها إلى عصمتك حتى تطهر من هذه الحيضة ، فإذا طهرت فإن المراجعة يكون تمامها الوطء ، عليك أن تطأها وتستمتع بها بين الحيضتين ، فإما أن تحمل، تحبل من هذا الوطء ، وإما ألا تحبل وتحيض الحيضة الثانية ، فإذا حاضت الحيضة الثانية فإنك تمسكها حتى تطهر ، فإذا طهرت طلقها قبل أن تمسها ، هكذا قالوا، أخذوا من هذا أن الطلاق لا يجوز في حالة الحيض ولكنه يقع ، ولا يجوز في طهر قد جامعها فيه ، ولكنه أيضا يقع على القول الصحيح من أقوال العلماء.
ذهب شيخ الإسلام ابن القيم ويفتي بذلك شيخنا الشيخ ابن باز إلى أن الطلاق في الحيض لا يحسب . وكذلك الطلاق في طهر وطئها فيه، لا يحسب ولكن الأئمة الأربعة وأتباعهم غالبا يرون أنه يحسب، ولو كان بدعة ، والأدلة على ذلك منثورة في كتب الفقهاء .
فطلاق السنة أن يطلقها بعد ما يتبين حملها، أو يطلقها في طهر لم يجامعها فيه ، أو يطلقها وهي آيسة ، إذا كانت قد بلغت سن الإياس بحيث إنها لا تحبل، فمثل هذه تطلق في كل حين؛ وذلك لأنه لا يأتيها حيض ، ولا يأتيها حمل.(2/11)
فلو قلنا: لا تطلقها . قال: إلى متى ؟ لأنها انقطع الحيض ، وانقطع الحمل عنها متى أطلقها ؟ فيطلقها متى يشاء ، لا سنة لها ولا بدعة ، الآيسة من الحيض ، دليل على أنه لا يحل له أن يطلقها وهي حائض ، أو في طهر وطئها فيه إلا إن تبين حملها.
ويقع الطلاق بكل لفظ دل عليه من صريح لا يفهم منه سوى الطلاق كلفظ الطلاق ، وما تصرف منه وما كان مثاله، وكنايته إذا نوى بها الطلاق، أو دلت القرينة على ذلك ، يعني ذكروا أن للطلاق صريحا وكناية ، فصريحه هو اللفظ الظاهر الذي لا يحتمل غيره.
فإذا قال: هي طالق ، فإنها تطلق ، ولو ادعى أنه ما يريد الطلاق ، نقول: أنت تلفظت بلفظة صريحة في الطلاق كلمة الطلاق إذا قال: أنت طالق ، أو أنت مطلقة ، أو قد طلقتك ، أو هي مطلقة مني ، أو طلقتها ، أو نحو ذلك فهذا اللفظ صريح لا يحتمل الخطأ.
قد يقول: إنني نويت طلاقها من العقال ، إذا كانت مثلا مقيدة ، أو مربوطة فقال: أنت طالق يعني من هذا الخيط ، أو من هذا الحبل ، أو من هذا الوثاق ، نقول: إن هذا نادر ، والنادر لا حكم له ، صحيح أنه يقال مثلا: هذه الناقة طالق يعني مطلقة ليس مربوطة ، ولا موثقة ولا مقيدة ولا معقولة ، الناقة طالق ، لكن في حق المرأة لا يقال لها طالق إلا إذا كانت مفسوخة من زوجها ، فهذا اللفظ صريح.
ولو ادعى الخطأ بيَّن لو قال مثلا: إني أردت أن أقول أنت طاهر فأخطأ لساني، وقلت: أنت طالق، الأصل أنه لا يقبل ، لكن إذا كان لم يسألنا بينه وبين ربه فهو على ما نوى.(2/12)
من الألفاظ الصريحة أيضا لفظ التسريح قال الله تعالى: { (((( (((((((((((( ((((((((((( } فإذا قال: أنت مسرحة ، سرحتك ، اسرحي ، سرَّحْت امرأتي فهذا أيضا طلاق؛ وذلك لأنه يستعمل في القرآن فلا يقبل إذا قال: إني ما قصدت الطلاق ، لكن إن كان هناك قرينة لو قال: سرحت هذه الدواب يعني ترعى الأغنام مثلا ، أو هي مسرحة مع الدواب ، أو الأغنام وكان هناك قرينة تدل على قصده فيمكن أن يقبل قوله.
فأما إذا لم يكن هناك قرينة فإنه يقع الطلاق ، هي مسرحة ، أو سرحتها ، أو قد سرحتك ، أو ما أشبه ذلك ، كذلك لفظ الفراق يستعمل في القرآن كما في هذه السورة ، في قوله تعالى: { ((((((( (((((((( (((((((((( ((((((((((((((( ((((((((((( (((( (((((((((((( ((((((((((( } فلفظ الفراق أيضا صريح ، فإذا قال: فارقتها ، أو هذا فراق بيني وبينها ، أو قد فرقت ما بيني وبينها ، أو فارقيني ، أو نحو ذلك ، وعرف أن قصده الطلاق ، فإن هذا صريح أيضا يقع به الطلاق ، وما تصرف منه.
هذه الألفاظ: الطلاق، والفراق، والتسريح من الألفاظ الصريحة ، أما الكناية فإنها ألفاظ يعني تستعمل على أنه يريد بها شيئا قد يكون طلاقا وقد لا يكون طلاقا ، فإذا قال مثلا: اخرجي ، اذهبي ، ذوقي ، تجرعي ، لست لي بامرأة ، خليت سبيلك ، أو مثلا حبلك على غاربك ، أو اطلبي غيري ، اطلبي رزقك انتهى ما بيننا ، انتهى حظك ونصيبك مني.
أو ما أشبه ذلك هذه الكلمات يظهر منها أنه لا يريدها طلاقا ، ولكن قد يكون في بعضها شيء مما يدل على أنه لم يكن قاصدا الطلاق، بل الزجر والتأديب ونحوه ، إذا قال مثلا: اذهبي ، فقد يقول: ما قصدت الذهاب مطلقا ، أردت أنها تذهب إلى أهلها ذهابا مؤقتا يُدَيَّنُ.(2/13)
أما إذا كانت نيته الطلاق فإن العمل على ما في قلبه ، فإذا قال: ما قصدت إلا الذهاب مؤقتا فهو مُصَدَّق، أو قال مثلا: ذوقي تجرعي فمثل هذه الكلمات تستعمل أيضا في التأديب ، يعني كأن يكون مثلا: ذوقي الآلام ، أو تجرعي الغصص ، أو ما أشبه ذلك.
أما إذا قال: اخرجي ، اذهبي فمثل الخروج ليس خروجا دائما مطلقا ، قد يقول: اخرجي خروجا مؤقتا فلا يحصل بذلك طلاق ، يكون على نيته ، والحاصل أن هناك كلام صريح، وهناك كلام غير صريح ، مثل اخرجي واذهبي وذوقي وتجرعي ولست لي بامرأة ، وحبلك على غاربك ، وانتهى ما بيننا وما أشبه ذلك.
يقول: ويقع الطلاق منجزا ، أو معلقا على شرط، كقوله: إذا جاء الوقت الفلاني فأنت طالق ، فمتى وجد الشرط الذي علق عليه الطلاق وقع.
المنجز هو: الحال ، يقول: هي طالق ، أو طلقتها فتطلق من الآن يقع بها الطلاق في الحال هذا طلاق منجز.
والمعلق: هو الذي يعلق على شرط مستقبل، ولم يذكر المؤلف شيئا من الشروط ، وقد أطال العلماء في ذكر الشروط التي يعلق عليها ، وذكروا أمثلة كثيرة حتى أنهم ذكروا أشياء كالمستحيل ، تعليقه على فعل مستحيل ، أو على ترك مستحيل ، أو ما أشبه ذلك فتارة يعلقه على زمان كأن يقول: أنت طالق إذا جاء رمضان يستمتع بها حتى يأتي رمضان فإذا دخل رمضان وقع بها الطلاق، سواء طلقة ، أو طلقتين ، أو ثلاثا ، حسب ما طلق، هذا طلاق معلق على زمان.
كذلك إذا قال: إذا قدم أخوك من البلاد فأنت طالق، فمثل هذا أيضا طلاق معلق ، قد يقدم أخوها بعد يوم وقد لا يقدم إلا بعد سنة ، أو سنوات فلا يقع الطلاق حتى يأتي الشرط ويتحقق؛ لأنه شرط على أمر مستقبل ، كذلك إذا علقه على فعل من غير صنع الآدمي ، كأن يقول مثلا: إذا شفيت من المرض فأنت طالق، أو إذا شفي ولدك فأنت طالق، قد يشفى وقد لا يشفى ، قد يشفى بعد يوم وقد لا يشفى إلا بعد سنة.(2/14)
فإذا حصل الشرط وقع الطلاق ؛ لأنه معلق على أمر مستقبل ، كذلك أيضا قد يعلقه على أمر قد تملكه وقد لا تملكه ، كأن يقول مثلا: إذا ولدت أنثى فأنت طالق ، إن ولدت توأمين فأنت طالق ، متى حملت ووضعت فهي طالق، لا يقع الطلاق حتى يتحقق الشرط ، حتى تلد مثلا أنثى مثلا ، أو توأمان ، أو حتى تحبل وتضع ، أو متى علقت بحمل فهي طالق ، لا تطلق حتى يتحقق أنها علقت بالحمل فيقع الطلاق في ذلك الحين.
كذلك أيضا لو علقه على الحيض ، إذا حضت فأنت طالق ، أو على الطهر إذا طهرت فأنت طالق ، أو على الطهور من النفاس إذا طهرت من النفاس فأنت طالق ، هذه أيضا أفعال مستقبلة ، تعليقه على مثل هذه الأشياء يقع بها الطلاق هنا أيضا تعليق على أفعال قد تكون ممكنة ، وتسمى شروطا ، وقد تكون غير ممكنة ، وهذه تسمى شروط مستقبلة ، وهي التي تقع كثيرا في هذه الأزمنة، ويمثل بها كثير من الفقهاء وأكثرهم يعتمدونها.
وشيخ الإسلام ويتبعه شيخنا الشيخ ابن باز وبعض المشايخ لا يوقعون الطلاق بها ، الأمور التي يقصد بها الحظر، أو المنع لا يوقعون الطلاق بها ويجعلون فيها كفارة يمين ، ويجعلونها كأنها حلف ؛ لأنه لم يقصد الطلاق وإنما قصد الحظر، أو المنع وهذا أكثر ما نبتلي به في هذه الأيام وفي هذه الأزمنة ، أن الذين يعلقون الطلاق على أمور يقصدون منها الزجر عنها، أو الحث عليها ولا تقع يقعون في حرج ويأتون يستفتون ، فنتساهل معهم ونجعلها كفارة يمين ، سواء كانت فعلا ، أو تركا.
يأتينا أحدهم ويقول: إن امرأتي عند أهلها ، وإني كلمتها عند الباب وقلت: إن لم تخرجي معي فأنت طالق ، ولا أريد إلا أنها تخاف من الطلاق فتخرج ، ولكنها للحرج لم تخرج ، وبقيت عند أهلها أنا ما قصدت الطلاق ، إنما قصدت حثها علي أنها تخاف منه وتخرج ، فنجعل هذا بمنزلة اليمين ، ما دام أنه كأنه يحلف، يقول: والله لتخرجن ، أو نحو ذلك .(2/15)
كذلك إذا قال لها مثلا: إن خرجت من البيت في هذا اليوم فأنت طالق ، ما يريد بذلك إلا منعها من الخروج ، وحثها علي أن تبقى ولا تخرج حتى يأذن لها مثلا ، أو قال مثلا: إن لم تصلحي هذا الطعام في هذه الليلة فأنت طالق ، ولكنها ما أصلحته ، ما أراد الطلاق إنما أراد حثها علي الإصلاح ، وإلا فهي زوجته ويريدها وتريده ، ولكن تثاقلت مثلا ، وكرهت أن تصلح هذا الطعام ، أو نحو ذلك ، فعلق هذا الطلاق على هذا الفعل ، وهو لم يقصده ، فنجعل فيها كفارة يمين؛ لأنه لم يقصد الطلاق.
وهكذا سائر الأفعال إذا قال مثلا: إن لم تركبي معي فأنت طالق ، أو ركبت مع فلان فأنت طالق ، إن ذهبت مع أخيك فأنت طالق، إن لم تغسلي هذا الثوب فأنت طالق ، إن لم تصلحي هذه القهوة فأنت طالق ، إن فتحت لفلان فأنت طالق، إن أدخلت فلانة فأنت طالق، إن دخلت على آل فلان فأنت طالق، أمثال ذلك كثير ماذا يقصد ؟ يقصد بذلك زجرها ونهيها عن أن تفعل هذه الأفعال، أو حثها على أن تفعل هذه الأفعال، فيجعل لذلك بمنزلة اليمين.
أما أكثر الفقهاء في كتبهم فإنهم جعلوها طلاقا معلقا على شرط ، فقالوا: إنه يقع حتى مثلوا في زاد المستنقع بأشياء مستحيلة وغيرها ، فقالوا: لو قال لها: أنت طالق إن طرت ، أو صعدت السماء ، أو قلبت الحجر ذهبا لم تطلق ؛ لأن هذا شيء مستحيل يعني في زمانهم ما كان يمكن الطيران.
ولكن لو قاله في هذا الزمان أنت طالق إن طرت وأراد بذلك إن ركبت الطائرة ، فإن هذا ممكن ، ولكن إذا كان يقصد بذلك زجرها عن أن تسافر في هذه الطائرة فإنا نعدها أيضا يمينا ، وأما إذا قال: إن قلبت الحجر ذهبا فإن هذا مستحيل وتطلق بعكسه فورا ، بعكسه مثلا لو قال: أنت طالق إن لم تصعدي السماء ، أنت طالق إن لم تقلبي هذا الحجر ذهبا، تطلق لأن هذا متحقق أنها لا تفعله ، هكذا قالوا .(2/16)
فالحاصل أن هذا ونحوه من الشروط التي يذكرونها ويعلقون بها الطلاق ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مطبوعة في أن تعليق الطلاق بالشروط التي يقصد منها الزجر ، ويقصد منها المنع أنها يمين مكفرة ؛ وذلك لأنه ما قصد بذلك إلا حثها على هذا الفعل ، أو زجرها عن هذا الفعل فهو بمنزلة اليمين، فإذا كفر كفارة يمين انحلت يمينه ولم يقع الطلاق ، خلافا للجمهور.
أعداؤه الذين ناصبوه العداء في ذلك الوقت ، يعني أعداء شيخ الإسلام لما أنهم قرءوا رسائله قنعوا بها ، ووافقه كثير منهم على هذا القول ، ووافقه أيضا كثير من المشايخ هذه الأزمنة يعني صاروا يفتون بهذا القول، من باب التسهيل على الناس ، ومن باب المجاراة حتى لا يحصل هذا الفراق؛ لأنا نعرف أن الزوج له قصد ويريد امرأته وأن الفراق شديد عليهما، فإذا جعلناها بمنزلة اليمين ، وكفَّر عن يمينه ورجعت إليه ، وتعهد بعد ذلك ألا يعتاد مثل هذه ، حصل الاجتماع الدائم بينهما ، ونكتفي بهذا ونواصل غدا إن شاء الله ، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه.
ابتدأنا في الطلاق وهو من المسائل التي غالبا فيها خلاف، وذلك في الكلمات التي يقع بها الطلاق وكم يقع بها؟ ووقت إيقاعه، وعدد كلماته ، وما أشبه ذلك وقد تكلم عليه العلماء وأطالوا ، فلابن القيم - رحمه الله - كلام طويل في "إغاثة اللهفان" ويختار فيها ، له اختياراته من عدم الطلاق في الحيض ، عدم وقوعه وكذلك طلاق الثلاث أنها لا تقع إلا واحدة ، وخالفه غيره في ذلك وأطالوا.
كذلك أيضا له كلام في "إعلام الموقعين" وفي غيره من الكتب ، ولابن تيمية في إبطال التحليل كلام أيضا طويل ، وعلى كل حال المسائل الخلافية الأوْلى أن يتوقف فيها المبتدئ حتى يترجح له بالدليل القوي ما هو المعمول به ، وما يجب أن يقول به في تلك المسائل؛ لقوة الخلاف ، وليس كل أحد سمع قولا يقول به.(2/17)
وتأتينا أسئلة هاتفية اعتمادا على ما يسمعونه في الإذاعة في "نور على الدرب" من سماحة الشيخ مطلقا أن الطلاق في الحيض لا يقع ، فيبنون على هذا دائما مع قوة الخلاف ، فيطلق في الحيض ، ثم يمسك مرارا ، وكذلك هذا التعمد لا شك أن فيه خطأ، أن الإنسان كونه يتعمد يقع الطلاق ، يجب أن يعاقب بإيقاعه، ولو كانت المسألة خلافية؛ لأنه جعله في الجراح ديدنا له دائما كلما حاضت أخذ يقول: أنت ، وأنت ولو رجعنا إلى الأدلة الكثيرة والروايات التي في حديث ابن عمر ، لوجدناها ترجح القول بالوقوع.
وابن القيم - رحمه الله - ولو كان معه أسلوب قوي، ولكن إذا مال إلى قول فإنه يتحامل على ذلك القول، ويترك بقية أدلة الأقوال الأخرى ، قد خالفه تلاميذه حتى ابن رجب في شرح الأربعين رجَّح أنها تقع ، أن الطلاق في الحيض يقع ولو كان بدعة ، وهكذا خالفه غيره ، والآن نواصل القراءة .
كتاب الطلاق
الطلاق البائن والرجعي
قال -رحمه الله- في كتاب الطلاق: فصل: ويملك الحر ثلاث طلقات ، فإذا تمت لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره بنكاح صحيح ويطؤها؛ لقوله تعالى: { (((((((((( ((((((((( } إلى قوله: { ((((( ((((((((( (((( (((((( ((((( (((( (((((( (((((( ((((((( ((((((( ((((((((( } .
ويقع الطلاق بائنا في أربع مسائل هذه إحداها ، وإذا طلق قبل الدخول لقوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( ((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((( ((((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((( (((((( (((((((((((((( } .(2/18)
وإذا كان في نكاح فاسد، وإذا كان على عوض وما سوى ذلك فهو طلاق رجعي يملك الزوج رجعة زوجته ما دامت في العدة ؛ لقوله تعالى: { ((((((((((((((( (((((( ((((((((((( ((( ((((((( (((( ((((((((((( (((((((((( } والرجعية حكمها حكم الزوجات إلا في وجوب القسم، والمشروع إعلان النكاح والطلاق والرجعة، والإشهاد على ذلك ؛ لقوله تعالى: { ((((((((((((( (((((( (((((( (((((((( } .
وفي الحديث " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد ، النكاح والطلاق والرجعة " رواه الأربعة إلا النسائي وفي حديث ابن عباس مرفوعا " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه ابن ماجه.
باب الإيلاء والظهار واللعان
الإيلاء هو أن يحلف على ترك وطء زوجته أبدا، أو مدة تزيد عن أربعة أشهر، فإذا طلبت الزوجة حقها من الوطء أُمِرَ بوطئها، وضُرِبَتْ له أربعة أشهر، فإن وطئ كفَّر كفارة يمين، وإن امتنع ألزم بالطلاق ؛ لقوله تعالى: { (((((((((( ((((((((( ((( ((((((((((((( (((((((( (((((((((( (((((((( ((((( ((((((( (((((( (((( ((((((( ((((((( ((((( (((((( ((((((((( (((((((((( (((((( (((( ((((((( ((((((( ((((( } .
والظهار أن يقول لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي ونحوه من ألفاظ التحريم الصريحة لزوجته ، فهو منكر وزور، ولا تحرم الزوجة بذلك لكن لا يحل له أن يمسها حتى يفعل ما أمره الله به في قوله: { ((((((((((( (((((((((((( ((( ((((((((((((( (((( (((((((((( ((((( (((((((( } ... إلى آخر الآيات.(2/19)
فيعتق رقبة مؤمنة سالمة من العيوب الضارة بالعمل ، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا، وسواء كان الظهار مطلقا ، أو مؤقتا بوقت كرمضان ونحوه ، وأما تحريم المملوكة والطعام واللباس وغيرها ففيه كفارة يمين ؛ لقوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( (((((((((( (( (((((((((((( (((((((((( (((( (((((( (((( (((((( } إلى أن ذكر الله كفارة اليمين في هذه الأمور.
وأما اللعان فإذا رمي الرجل زوجته بالزنا فعليه حد القذف ، ثمانون جلدة إلا أن يقيم البينة أربعة شهود عدول فيقام عليه الحد ، أو يلاعن فيسقط عنه حد القذف ، وصفة اللعان على ما ذكره الله في سورة النور: { ((((((((((( ((((((((( ((((((((((((( } ... إلى آخر الآيات فيشهد خمس شهادات: بالله إنها لزانية ، ويقول في الخامسة: وإن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم تشهد هي خمس مرات: بالله إنه لمن الكاذبين ، وتقول في الخامسة: وإن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
فإذا تم اللعان سقط عنه حد القذف ، واندرأ عنها العذاب، وحصلت الفرقة بينهما والتحريم الأبدي ، وانتفى الولد إذا ذكر في اللعان، والله أعلم.
كتاب العدد والاستبراء
العدة تربص من فارقها زوجها بموت ، أو طلاق، فالمفارقة بالموت إذا مات عنها تعتد على كل حال، فإن كانت حاملا فعدتها وضعها جميع ما في بطنها ؛ لقوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((((( (((((((((( ((( (((((((( (((((((((( } وهذا عام في المفارقة بموت ، أو حياة ، وإن لم تكن حاملا فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، ويلزم في هذه العدة أن تحد المرأة وتترك الزينة والطيب والحلي والتحسن ، بحناء ونحوه ، وأن تلزم بيتها الذي مات زوجها وهي فيه ، فلا تخرج منه إلا لحاجتها نهارا ؛ لقوله تعالى: { ((((((((((( (((((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( (((((((((( (((((((( ((((((((( } الآية .(2/20)
وأما المفارقة في حال الحياة ، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا عدة له عليها ؛ لقوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( ((((((((((( ((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((( ((((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((( (((((( (((((((((((((( } وإن كان قد دخل بها ، أو خلا بها، فإن كانت حاملا فعدتها وضع حملها قصرت المدة ، أو طالت، وإن لم تكن حاملا، فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حِيَض كاملة ؛ لقوله تعالى: { ((((((((((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( ((((((((( (((((((( } وإن لم تكن تحيض كالصغيرة التي لم تحض والآيسة فعدتها ثلاثة أشهر ؛ لقوله تعالى: { ((((((((((( (((((((( (((( ((((((((((( ((( ((((((((((((( (((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((((((( (((( (((((((( } .
فإن كانت تحيض وارتفع حيضها لرضاع ونحوه انتظرت حتى يعود الحيض فتعتد به، وإن ارتفع، ولا تدري ما رفعه انتظرت تسعة أشهر احتياطا للحمل ، ثم اعتدت بثلاثة أشهر، وإذا ارتابت بعد انقضاء العدة لظهور أمارات الحمل لم تتزوج حتى تزول الريبة.
وامرأة المفقود تنتظر حتى يحكم بموته بحسب اجتهاد الحاكم ، ثم تعتد، ولا تجب النفقة إلا للمعتدة الرجعية ، أو لمن فارقها زوجها بالحياة وهي حامل ؛ لقوله تعالى: { ((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((((((( (((((((((( (((((( (((((((( (((((((((( } .
وأما الاستبراء فهو تربص الأمة التي كان سيدها يطأها فلا يطؤها بعده زوج ، أو سيد حتى تحيض حيضة واحدة، وإذا لم تكن من ذوات الحيض تستبرئ بشهر ، أو وضع حملها إن كانت حاملا .(2/21)
بعد أن عرفنا صيغة الطلاق والعبارة التي يستعملها، وأن منها ما هو صريح كقوله: أنت طالق ، أو طلقتك ، أو أنت مطلقة ، أو لفظ الفراق ، أو لفظ التسريح الذي ذكره الله { (((( (((((((((((( ((((((((((( } { (((( (((((((((((( ((((((((((( } وكذلك الكنايات مثل قوله أنت حرة، وأنت بائن، وأنت حرج، وأنت وحبلك على غاربك، واذهبي وذوقي، وتجرعي واخرجي واحتجبي، وما أشبه ذلك.
بعد ذلك اختُلِفَ في بعض الأمور فمنها: إيقاع الثلاث جميعا، كأن يقول: أنت طالق ثلاثا ، فقيل: إنها: تقع واحدة كما هو اختيار شيخ الإسلام، ولكنه خالف بذلك الأئمة الأربعة، وعذره أنه في زمانه ابتلى بالتحليل، صار الرجل إذا قال: أنت طالق ثلاثا، ورأى أنه لا يتمكن من استرجاعها استأجر من يحللها، والتحليل حرام كما هو معلوم.
فيقول شيخ الإسلام: إني ابتليت بالتحليل؛ فلأجل ذلك ليس لي حيلة إلا أن أجعل الثلاث واحدة ، حتى يتمكن من الرجوع، ودليله في ذلك حديث في صحيح مسلم، والحديث قد اختلفوا فيه، وذكر صاحب سبل السلام عنه ستة أجوبة، وكأنه لم يقنع بها.
كذلك قولهم: أنت طالق ألبتة كثير من العلماء يقول: ألبتة هي الثلاث ليس لو كان يملك ألف طلقة ، ثم قال: أنت طالق ألبتة فإنها تحرم عليه أبدا، هذا هو الذي اختاره. وجمع آخرون قالوا: بل لا يقع إلا واحدة.
أما عدد الطلقات التي يملكها المطلق فهي ثلاث يملك الحر ثلاث طلقات، وأما العبد فيملك طلقتين، والسنة أن يطلقها واحدة ويتركها حتى تنقضي عدتها، فإن أراد الرجعة راجعها في العدة ، وإن لم يرد رجعتها فإنها تحل لغيره بعد العدة ، وتحل له بعد العدة برضاها، ويكون كخاطب من الخُطَّاب، هذا هو طلاق السنة بأن يطلقها واحدة، مثلا إذا طهرت من حيضتها وقبل أن يطأها قال: أنت طالق ، أو اشهد يا فلان وفلان أني طلقت امرأتي فلانة ، ثم يتركها في منزله حتى تنتهي عدتها.(2/22)
فإن أرادها وراجعها وجامعها رجعت إلى عصمته، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها سرَّحها بمعروف، وأرسلها إلى أهلها، وحلت لغيره من الأزواج، وحلت له إن أرادها ولو بعد سنة ، أو عشر سنين تحل له برضاها وبعقد جديد ومهر جديد .
بعد أن عرفنا صيغة الطلاق، والعبارة التي يستعملها، وأن منها ما هو صريح كقوله: أنت طالق، أو طلقتك، أو أنت مطلقة، أو لفظ الفراق، أو لفظ التسريح الذي ذكره الله " أو فارقوهن بمعروف " " أو سرحوهن بمعروف " وكذلك الكنايات، مثل قوله: أنت حرة، وأنت بائن، وأنت الحرج، وحبلك على غاربك، واذهبي، وذوقي، وتجرعي واخرجي واحتجبي ... وما أشبه ذلك.
بعد ذلك اختلف في بعض الأمور، فمنها: إيقاع الثلاث جميعا، كأن يقول: أنت طالق ثلاثا، فقيل: إنها تقع واحدة، كماهو اختيار شيخ الإسلام، ولكنه خالف بذلك الأئمة الأربعة، وعذره أنه في زمانه ابتلي بالتحليل، صار الرجل إذا قال: أنت طالق ثلاثا، ورأى أنها لا يتمكن من استرجاعها، استأجر من يحللها. والتحليل حرام، كما هو معلوم، فيقول شيخ الإسلام: إني ابتليت بالتحليل؛ فلأجل ذلك ليس لي حيلة إلا أن أجعل الثلاث واحدة؛ حتى يتمكن من الرجوع. ودليله في ذلك حديث في صحيح مسلم، والحديث قد اختلفوا فيه، وذكر صاحب "سبل السلام" عنه ستة أجوبة، وكأنه لم يقنع بها، كذلك قولهم: أنت طالق البتة، كثير من العلماء يقول: البتة، هي الثلاث، ليس لو كان يملك ألف طلقة، ثم قال: أنت طالق البتة، فإنها تحرم عليه أبدا، هذا هو الذي اختاره جمع. وآخرون قالوا: بل لا يقع إلا واحدة.(2/23)
أما عدد الطلقات التي يملكها المطلق، فهي ثلاث يملك الحر ثلاثا، ثلاث طلقات، وأما العبد فيملك طلقتين، والسنة أن يطلقها واحدة، ويتركها حتى تنقضي عدتها، فإن أراد الرجعة راجعها في العدة، وإن لم يرد رجعتها، فإنها تحل لغيره بعد العدة، وتحل له بعد العدة برضاها، ويكون كخاطب من الخطاب، هذا هو طلاق السنة بأن يطلقها واحدة، مثلا إذا طهرت من حيضتها، وقبل أن يطأها قال: أنت طالق، أو اشهد يا فلان وفلان: أني طلقت امرأتي فلانة، ثم يتركها في منزله حتى تنتهي عدتها، فإن أرادها وراجعها وجامعها رجعت إلى عصمته.
وإن لم يراجعها، حتى انقضت عدتها سرحها بمعروف، وأرسلها إلى أهلها، وحلت لغيره من الأزواج، وحلت له إن أرادها، ولو بعد سنة، أو عشر سنين تحل له برضاها، وبعقد جديد ومهر جديد.
أما إذا طلقها مرة، ثم راجعها في العدة، أو نكحها بعد العدة، ثم طلقها الثانية، ثم راجعها في العدة، أو نكحها بعد العدة، ثم طلقها الثالثة، فإنها قد تم ما يملك من الطلاقات، فإذا تمت الثلاث، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، ويكون ذلك الزوج ناكحا لها نكاح رغبة، لا نكاح تحليل.(2/24)
قد تقدم لنا تحريم التحليل، كذلك لا بد أ ن الزوج الثاني يدخل بها، ويطؤها؛ لقصة امرأة رافعة، ذكرت قالت: يارسول الله، إن رفاعة طلقني فبت طلاقي، ونكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وذكرت أنه لم يصبها فقال: " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا تحلي له حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته " يعني: حتى يحصل الوطء، فالله تعالى أطلق النكاح، قال تعالى: { (((((((((( ((((((((( } يعني: الطللاق الرجعي؛ لأنه قال -بعد ذلك-: { ((((((((((((((( (((((( ((((((((((( ((( ((((((( } يعني: بعد الطلقتين، ثم قال { ((((( ((((((((( } يعني: الثالثة { (((( (((((( ((((( (((( (((((( (((((( ((((((( ((((((( ((((((((( } فقوله: { (((((( ((((((( } بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النكاح هنا هو الدخول بها، والوطء. يعني: أن يدخل بها، وأن يستمتع بها، فإذا طلقها الثاني، أو مات عنها، حلت للأول.
يقول: يقع الطلاق بائنا في أربع مسائل؛ هذه إحداها، وهو كونه طلقها ثلاثا مجموعة، أو متفرقة، وكأن ابن سعدي يرى أنها إذا جمعت وقع بها البينونة، يعني: مع أنه كثيرا ما يختار اختيارات شيخ الإسلام، لكنه هنا أطلق، ذكر أنها تبين بالثلاث، ولو مجموعة.
الحالة الثانية: إذا طلق قبل الدخول، فإنها تقع بائنة؛ لقوله تعالى { ((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((( ((((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((( (((((( (((((((((((((( } إذا عقد عليها وقبل أن يدخل بها، قال: هي طالق، فإنها تبين، تبين منه، ولكن البينونة تنقسم إلى قسمين: بينونة كبرى، وبينونة صغرى، فالبائن بينونة كبرى، هي المطلقة ثلاثا متفرقة، أو مجموعة على القول الصحيح المشهور، فهذه بينونتها كبرى أي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، وأما المطلقة قبل الدخول، فإنها تبين منه بينونة صغرى.(2/25)
بمعنى أنه لا يقدر على مراجعتها، ولكن يقدر على نكاحها بعقد جديد إذا رضيت، إذا تراضوا بينهم جددوا العقد، ودفع لها صداقا كذلك.
الثالثة: إذا كان في نكاح فاسد، إذا نكحها نكاحا فاسدا، ثم فارقها، فإنها بائنة بينونة صغرى، وقد تقدم أمثلة له كنكاح المتعة، ونكاح الشغار، ونكاح التحليل والنكاح في العدة، فإن هذا نكاح فاسد، والنكاح بلا ولي، والنكاح بلا شهود. إذا نكحها نكاحا فاسدا وفارقها، فلا رجعة له عليها.
الحالة الرابعة: الخلع إذا فارقها على عوض، فإنها تبين منه؛ لأنها ما بذلت المال إلا تريد التخلص، تريد أن تتخلص منه، فلا يملك الرجعة، لكن لو تراضوا بينهم جددوا العقد، فأصبحت البينونة أربع: الطلاق الثلاث بينونة كبرى، الطلاق قبل الدخول بينونة صغرى، تحل له بعقد جديد، الفراق في نكاح فاسد بينونة صغرى، الفراق على عوض بينونة صغرى، أما الطلقة والطلقتان، فإنها لا تصير بينونة، بل تصير رجعية ما دامت في العدة، ما سوى ذلك، فهو طلاق رجعي، يعني: طلقة، طلقتان. يملك الزوج رجعة زوجته، ما دامت في العدة، كمايأتينا في باب العدد قريبا إن شاء الله.(2/26)
قال الله تعالى: { ((((((((((((((( (((((( ((((((((((( ((( ((((((( (((( ((((((((((( (((((((((( } { ((((((((((((((( (((((( ((((((((((( } يعني: مراجعتهن إن أرادوا إصلاحا عليهم، إذا أرادوا الرجعة، أن يقصدوا بذلك الإصلاح. الرجعية: هي التي طلقت واحدة، أو طلقت طلقتين مجموعتين، أو متفرقتين، فهذه رجعية أي يملك رجعتها إلى متى؟ ما دامت في العدة. الرجعية حكمها حكم الزوجات إلا في وجوب القسم، بمعنى أنه ينفق عليها، يرثها إن ماتت، ترث منه إن مات. كذلك -أيضا- يسكنها، قال تعالى { ((((((((((((( (((( (((((( (((((((( (((( (((((((((( } مع أنهن مطلقات، فقال: { ((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((((( ((((((((((( (((( (((((((( (( ((((((((((((( (((( ((((((((((( } فالرجعية: لا تخرج من البيت، ولا تتحجب عن زوجها المطلق، بل لها أن تتجمل أمامه، ولها أن تتطيب، ولها أن تلبس أحسن الثياب، ولها أن تبدي زينتها أمامه؛ حتى ترغبه في رجعتها وإمساكها، إذا أرادت ذلك، أو أرادته، فإذا أمسك نفسه وصبر عنها، حتى تنتهي عدتها، ولم يمسها، ولم يراجعها حتى انقضت عدتها، فإنها بعد ذلك تتحجب عنه، وتصير بائنة بينونة صغرى، بمعنى أنها تحرم عليه إلا بعقد جديد. يقول: المشروع إعلان النكاح والطلاق والرجعة.
قد تقدم أن النكاح من شروطه عندنا الشاهدان، وإعلانه وإعلان ليلة الزفاف؛ لقوله -في الحديث-: " أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف " .
كذلك إعلان الطلاق، يعني: الإشهاد عليه؛ لقوله في هذه السورة سورة الطلاق { ((((((((((((( (((((( (((((( (((((((( } كذلك الرجعة، إذا أراد أن يراجعها، فإنه يشهد شاهدين.
جاء رجل إلى ابن عباس، قال: إني طلقت زوجتي، ثم راجعتها، وهي في بيتها، فقال: طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة.(2/27)
يعني: أن السنة الإشهاد على الطلاق، والإشهاد على الرجعة، حتى لا يحصل إنكار، أما هذا الحديث: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد " فالهزل، هو الكلام الذي يقصد به التهكم مثلا، أو السخرية، فإنه يقع.
فلو قال: زوجتك ابنتي، وهو هازل، ولو كانت صغيرة، فقال: قد قبلتها، وفرضت لها -مثلا- ألفا اشهد بشهادتك يا فلان وفلان تم العقد، ولو كانا هازلين ينعقد النكاح، وتصبح زوجة له، إذا كانت صغيرة، فالأب -مثلا- يزوجها بلا رضاها، إذا رأى ذلك مصلحة، فمثل هذا لا يهزل به، ولا يتهكم به.
كذلك الطلاق: لا يصح أن يكون هزلا، إذا هزل به، فإنه يقع، فلو يقول -مثلا-: لفظا، أو كتابة زوجتي طالق، أو كتب فلانة طالق اسم امرأته، ثم قال: ما أردت بذلك إلا تحسين خطي، أو ما أردت بذلك إلا -مثلا- إضرارها، أو غمها، أو نحو ذلك يقع، لا يرجع في ذلك إلى ما قال، نحكم عليه بما أظهر.
وكذلك الرجعة: أيضا لو راجعها ظاهرا، قال: قد راجعتها، وهو ما قصد الرجعة في باطنه، تقع الرجعة إذا كانت رجعية، ترجع إليه، فالحاصل أنه لا يجوز التهكم بعقد النكاح، ولا بالطلاق، والرجعة؛ فإن ذلك يقع، ولو لم تكن نيته المراجعة، أو الطلاق يعامل بما أظهر.
كذلك الحديث الثاني: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه " وفي رواية " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " يستشهد العلماء بهذا الحديث كثيرا، وهو في هذه الرواية ضعف، ولكن له متابعات وشواهد، ويؤيدها -أيضا- قوله تعالى { ((((((( (( ((((((((((((( ((( ((((((((( (((( ((((((((((( } وقوله تعالى { (((( (((( (((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((((( } .
فمثلا الخطأ يصدق فيه، فإذا قال: إذا قال -مثلا- لزوجته: أنت طالق. وقال: أخطأت، أردت أن أقول: أنت طاهر، وقامت بذلك قرينة، فإن خطأ اللسان يعفى عنه، وكذلك إذا تكلم بكلام، وهو ناس.(2/28)
إذا حلف -مثلا- بالطلاق إن فعل الشيء، الذي فعله ناسيا، فإنه يعفى عنه على القول بأنه يقع الطلاق، إذا قال -مثلا-: إن أكلت طعام فلان، فزوجتي طالق، فأكله، وهو ناس، عفي عنه؛ لهذا الحديث.
الخطأ والنسيان، وأما الاستكراه، فإذا أكرهه من هو قادر على أن يفعل، قال: إن لم تطلقها، فإني سأقتلك، أو سأقطع لسانك، أو سأحبسك حبسا مؤبدا، فاضطر إلى الطلاق خوفا من الحبس، أو خوفا من القتل، ويعني: أن ذلك الذي أكرهه قادر، كأن يكون له ولاية، وله سلطة، عنده قدرة على الفعل، ففي هذه الحال لا يقع الطلاق مع الإكراه؛ لأنه مغلوب على أمره، وهكذا ما يشبهه.
ومن ذلك ما روي أن رجلا رأى مكان عسل في وسط جبل، له قمة طويلة، فصعد رأس الجبل، هو وامرأته، وقال: أمسكي الحبل حتى أنزل، وأشتار من العسل: آخذ منه، فلما تدلى نحو باع، أو باعين، قالت له: إن لم تطلقني، فإني سألقيك، أترك الحبل؛ تسقط على أم رأسك، عرف أنها صادقة وجادة، فتلفظ بالطلاق، ذهب إلى عمر - رضي الله عنه - وأخبره بالقصة، فردها عليه، وقال: أنت أملك بها، وهي زوجتك؛ لأن هذا شبه إكراه؛ لأنها لو ألقته لمات من قمة الجبل، الذي ارتفاعه -مثلا- أكثر من خمسين باعا، وإذا سقط سقط على حجارة من هذا المكان الرديء، فيعتبر هذا إكراها.
قال: باب الإيلاء، والظهار، واللعان
الفقهاء قالوا: إن كل واحد من هذه باب، ولكن المؤلف اختصر، ودمجها في باب واحد، وفيها مسائل كثيرة، ولكن اقتصر على المشهور منها.(2/29)
الإيلاء: أن يحلف على ترك وطء زوجته أبدا، أو مدة تزيد على أربعة أشهر، إذا قال -مثلا-: والله لا أطؤها سنة، أو والله لا أطؤها أبدا، أو والله لا أطؤها حتى ينزل عيسى مثلا، أو حتى تطلع الشمس من مغربها، أو حتى أموت، أو تموت، أو حدد: لا أطؤها ستة أشهر، أو ثمانية، أو نحو ذلك، فهذا يسمى إيلاء، وحكمه أنه يؤجل أربعة أشهر، فإذا مرت الأربعة أشهر، فإنها إذا طلبت حقها من الوطء، ألزم بأحد أمرين: بالكفارة، أو بالطلاق. يكفر ويطأ، أو يطلق. يقال له: قف عند هذه الأربعة، لا تزد على الأربعة؛ لأن زيادتك، هجرانك لها هذه المدة ضرر عليها، فيوقف بعد الأربعة، ويقال: إما أن تفيء، وإما أن تطلق.
الفيئة، يعني: الرجوع، فاء يعني: رجع إلى زوجته، فإذا فاء، فإنه يخرج كفارة، كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم.. كما في الآية، أما إذا لج في يمينه، فإنه يؤمر بالطلاق، أو يطلق عليه الحاكم، إذا زادت على أربعة أشهر، وطلبت الزوجة حقها من الوطء، أمر بأن يطأها وضربت له أربعة أشهر، فإن وطئ كفر كفارة يمين؛ لأنه حلف على ترك الوطء، وقد وطئ، فإذا امتنع من الوطء، وتمم يمينه، فإنه يلزم بالطلاق، يقول له الحاكم: طلق. أما إذا سكتت، ولم تطالب، فإن الحق لها، وقد أسقطته، ولو بقيت سنة، أو سنوات، الحق لها.
الحاصل أنها إذا طالبت بالوطء، فإنه يكفر، ويطأ بعد الأربعة، أو يطلق قال تعالى: { (((((((((( ((((((((( ((( ((((((((((((( } يعني: يحلفون من نسائهم، يعني: من وطء نسائهم { (((((((( (((((((((( (((((((( } أي انتظار أربعة أشهر، { ((((( ((((((( } وكفروا عن يمينهم { (((((( (((( ((((((( ((((((( ((((( } ويعودون إلى زوجاتهم، وإن امتنعوا { ((((((((( (((((((((( (((((( (((( ((((((( ((((((( ((((( } يسمع كلامهم، فعليهم أن يفعلوا أحد الأمرين: إما الفيء مع الكفارة، وإما الطلاق، أما الاستمرار، فإنه ضرر. هذا هو الإيلاء.(2/30)
أما الظهار: فهو أن يقول لزوجته: أنت علي كظهر أمي، أو أنت علي كفرج أمي، أنت علي مثل أمي، وقد يشبه بغير الأم أنت علي مثل ابنتي، أو مثل أختي، أو مثل جدتي فلانة، أو نكاحك علي كنكاح خالتي، أو عمتي، أو بنت أخي، يعني: من المحرمات عليه، ومثله: إذا قال: أنت محرمة علي، أو زوجتي حرام علي.
وأما إذا قال: علي الحرام، فهذه اللفظة قد اختلف العلماء فيها على اقوال: حتى أوصلها بعضهم إلى عشرة أقوال، منهم من قال: إنها يمين، ومنهم من قال: إنها طلاق، ومنهم من قال: إنها ظهار، ومنهم من قال: إنها تحريم، ومنهم من فصل في ذلك، ولعل الأمر يرجع إلى نيته، فإذا قال: علي الحرام، ونيته تحريم امرأته حسبناه ظهارا، فإذا قال: علي الحرام، ونيته تحريم فعل، إذا قال -مثلا-: علي الحرام ما أركب مع فلان، ونيته تحريم الركوب لا تحريم المرأة، فإنها يمين، فالله تعالى ذكر الظهار { ((((((((( (((((((((((( (((((( (((( (((((((((((( ((( (((( ((((((((((((( (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((((((((((( (((((((((( (((((((((((( (((((((( ((((( (((((((((( (((((((( } سماه الله منكرا، يعني: فدل على أنه كلام محرم، يعني: تحريم امرأته، وتشبيهها بأمه، وقال تعالى: { ((((( (((((( ((((((((((((( ((((((((( (((((((((((( (((((((( ((((((((((((( } أي ليست زوجتك أما لك { (((( ((((((((((((( (((( ((((((((( (((((((((((( } فهو منكر وزور، ولكن لا تحرم به المرأة.(2/31)
في الجاهلية إذا قال: أنت علي كظهر أمي أصبح طلاقا، ولكن جعله الله يمينا مكفرة، ولكن كفارتها مغلظة، فلا تحرم الزوجة بذلك، ولكن لا يحل أن يمسها حتى يكفر، حتى يفعل ما أمره الله. يتجنبها إلى أن يفعل ما أمره الله، الله تعالى جعل الكفارة على الترتيب قال: { (((( (((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((( (((((((( (((( (((((( ((( ((((((((((( ((((((((( (((((((((( ((((( } أي فعليه أن يحرر رقبة، يعني: يعتقها، والرقبة إذا أطلقت لا بد أن تكون سليمة من كل عيب يضر بالعمل، فلا يعتق أعمى، ولا أعور، ولا أعرج، ولا أشل، بل رقبة كاملة سليمة من العيوب { ((((( (((( (((((( } لم يجد الثمن، أو لم يجد الرقيق، كما في هذه الأزمنة { ((((( (((( (((((( ((((((((( (((((((((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((( ((((((((((( } تغليظا عليه، حتى لا يتعرض مرة ثانية في هذا الظهار، فإذا كان قادرا على الصيام يعني: قادرا عليه بالقوة وبالبدن وبالزمان، فإنه يلزم بالصيام، ولا تحل له زوجته، ولا يطئوها حتى يصوم.
ويشترط التتابع في الشهرين، فإذا لم يقدر لعذر كمرض مثلا، أو سفر، أو عمل شاق، أو نحو ذلك انتقل إلى الإطعام، فإطعام ستين مسكينا، فيلزمه أن يحرر رقبة سالمة من العيوب التي تضر بالعمل، فإذا عدمها، أو عدم ثمنها، فصيام شهرين متتابعين، إما شهرين هلاليين، ولو كانا ناقصين، أو أحدهما، وإما ستين يوما بالحساب، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا، لكل مسكين نصف صاع من الطعام المعتاد.(2/32)
وسواء كان الظهار مطلقا، أو مؤقتا، قد يكون الظهار مؤقتا كرمضان، أو نحوه، فإذا قال -مثلا-: أنت علي كظهر أمي، حتى يخرج رمضان، فإذا وطئها في رمضان لزمته الكفارة؛ وذلك لأنه فعل، عاد إلى ما حرمه، قوله: { (((( (((((((((( ((((( (((((((( } كذلك -أيضا- لو قال: أنت علي كظهر أمي حتى أشفى، أو حتى تشفين، أو حتى تفطمي هذا الولد، أو حتى تضعي حملك، فإذا وطئها قبل انتهاء المدة، فعليه كفارة.
أما تحريم المملوكة والطعام واللباس وغيرها، ففيه كفارة يمين، إذا قال: هذا الطعام علي حرام، فلا يكون حراما، ولكن عليه الكفارة، أو مثلا هذه الأمة علي حرام ، دخول هذا البيت علي حرام، ركوب هذه السيارة علي حرام، حرام علي ألا أركب مع فلان، حرام علي أن ألبس هذا الثوب، ماذا يفعل؟ يكفر كفارة يمين؛ لقوله تعالى { ((((((((((( ((((((((( (((( ((((((((( (((( (((((( (((( (((( } ثم قال { (((( (((((( (((( (((((( (((((((( ((((((((((((( } يعني: الكفارة لما أنه -عليه الصلاة والسلام- " حرم عسلا كان يشربه، عند زينب، قال: هو علي حرام " عند ذلك أباحه الله له، وأمره بالكفارة كذلك هذه الآية: { (( (((((((((((( (((((((((( (((( (((((( (((( (((((( } إلى قوله: { (((((((( (((((((((((( ((((( ((((((((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((((((((( (((((((( (((((((((( } فذكر كفارة اليمين في هذه الأمور؛ وذلك لأن جماعة من الصحابة حرموا بعض الطعام في قصة الثلاثة الذين ذكرناهم، فيما مضى الذي قال -مثلا-: حرام علي ألا آكل اللحم، وآخر قال: حرام علي آلا أتزوج النساء، وقال آخر: حرام علي ألا أنام على فراش، فأنزل الله { (( (((((((((((( (((((((((( (((( (((((( (((( (((((( } وأنزل كفارة اليمين. انتهى الظهار.
أما اللعان:(2/33)
فإنه أن يرمي زوجته بفعل الفاحشة، يقول: إنها زانية،أو قد زنت، أو نحو ذلك ذكروا أنه " لما نزل قوله تعالى: { ((((((((((( ((((((((( ((((((((((((((( (((( (((( ((((((((( (((((((((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((((((((( (((((((( } قال بعض الصحابة: إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا يذهب، ويأتي بأربعة شهود إذا ذهب، فإن ذلك الفاجر يهرب، ولا يقدر عليه كيف نفعل، فكره النبي، ثم جاء وقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - المسألة وعابها، ثم جاء مرة، وقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به، فقال: إن الله قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآنا، فعند ذلك أحضرها، وتلاعنا قرأ عليها الآيات من سورة النور " .
فالحاصل أنه إذا قذف امرأته بالزنا، ولم يأت ببينة، ولم يلاعن، فعليه حد القذف ثمانون جلدة؛ وذلك لأنه " لما قذف امرأته قال: إني صادق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - البينة وإلا حد في ظهرك " يعني: ثمانون جلدة، فإذا أقام البينة أربعة بشهود، وشهدوا بأنه رآها تزني، أقام عليها الحد، وهو الرجم، فإذا لم يجد شهودا، فلا بد من الملاعنة على ما ذكره الله تعالى في سورة النور { ((((((((((( ((((((((( ((((((((((((( (((((( ((((( (((((( (((((((((( (((( ((((((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((( (((((((((( (((((( ((((((( (((((( ((((((((((((( ((( } فيحضر زوجته، ويقول: أشهد بالله على زوجتي هذه أنها قد زنت، ثم يحلف، ويقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به، ثم أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به.. أربع مرات.(2/34)
أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ثم يقول: في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما قذفها به، فإذا تمت شهاداته، فإن الحاكم يخوفها، ويعظها، ويخبرها بأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فإذا أصرت، وقالت: قد كذب علي، فإنها تشهد: فتقول: والله إن زوجي كاذب علي، إنه لمن الكاذبين، أشهد بالله عليه إنه لمن الكاذبين، فيما رماني به أربع مرات، ثم تقول: الخامسة غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما قذفني به، فإذا تمت الشهادات منه ومنها، سقط عنه حد القذف. هو قاذف، ولكن لما أنه لاعن سقط عنه حد القذف، واندرأ عنها العذاب، قال تعالى: { (((((((((((( ((((((( ((((((((((( ((( (((((((( } سقط عنها -أيضا- العذاب الذي هو الجلد، أو الرجم.
حصلت الفرقة بينهما، والتحريم الأبدي، قد تقدم في المحرمات أن من التحريم الأبدي الملاعنة على الملاعن، إذا تلاعنا يفرق بينهما تفريقا أبديا، فلا تحل له بعد ذلك، ولو كذب نفسه، ولو تابت، ولو كذبت نفسها لا تحل له بعد ذلك، وإذا كان بينهما ولد، فإنه إذا كان من ذلك الوطء، إذا قال: إن هذا الولد الذي في بطنها ليس مني، فإنه يلحق بأمه، ولا يلحق بأبيه، إذا انتفى منه، إذا نفاه باللعان أما إذا كان الحمل موجودا قبل زناها إذا قذفها، فإن الولد يتبع أباه.
ابتدأ في كتاب العدد:
العدة: تربص من فارقها زوجها بموت، أو طلاق، فالمفارقة بالموت إذا مات عنها، تعتد على كل حال، العدة: هي المدة التي تنتظر فيها الزوجة، فلا تتزوج بعد فراق زوجها، سواء أن كان الفراق بموت، أو بطلاق، أو بفسخ، أو بخلع، أو نحو ذلك، لا بد من العدة، وذلك لئلا تكون حاملا من هذا الذي فارقها، فينكحها الزوج الثاني، وهي حامل من غيره، فينسب الولد إلى الثاني مع أنه من الأول، لا شك أن هذا فيه اختلاط أنساب.(2/35)
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يسقي ماءه ولد غيره " يعني إذا عرف أنها حامل، فلا يطؤها لأنه يسقي ذلك الولد بمائه، يعني: بمنيه، فيكون قد اشتبه هذا الولد، وأصبح فيه من الزوج الثاني، ومن الأول، بل لا يحل لها أن تتزوج حتى تتحقق أنها ليس بها حمل، وقد قال تعالى { (((( (((((( (((((( ((( (((((((((( ((( (((((( (((( (((( ((((((((((((( } لا يحل لها أن تكتم الولد الذي في رحمها؛ لأن هذا لا يعرف إلا من قبلها، فمن فارقها زوجها بموت، فعليها العدة، ولو أنه لا يراجعها، كذلك لو فارقها بطلاق، فعليها العدة.
أما عدة الوفاة ، فإن ذلك أولا لاستبراء الرحم؛ مخافة أن تكون حاملا. وثانيا: لمعرفة حق الزوج، الذي مات؛ ولأجل ذلك تؤمر بالإحداد، وترك الزينة. المفارقة بالموت، إذا مات عنها تعتد على كل حال، حتى ولو لم يدخل بها، تعتد بكل حال.
فإن كانت حاملا، فعدتها بوضع الحمل، وضع جميع ما في بطنها قال - تعالى-: { ((((((((((( ((((((((((( (((((((((( ((( (((((((( (((((((((( } عام كل مفارقة بموت، أو حياة، حتى لو وضعت حملها، وهو على السرير لم يدفن، أو لم يغسل، فإنها تنقضي بذلك عدتها؛ لقصة " سبيعة امرأة سعد بن خولة مات عنها في مكة، وكانت متما، فما لبست أن وضعت حملها، فلما وضعت حملها أذن لها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن تتزوج، غير أن لا يمسها زوجها، حتى تطهر من النفاس " .(2/36)
فالحاصل أنه إذا وضعت حملها كله: إن كان توأما، فلا بد أنها تضع التوأمين، وإن كان واحدا، فتضع الحمل، عندئذ تنتهي مدة تربصها { (((((((((( ((( (((((((( (((((((((( } سواء أن كانت مطلقة، أو متوفى عنها، أما إذا لم تكن حاملا، فإن كانت متوفى عنها، فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، قال تعالى: { ((((((((((( (((((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((((((( (((((((((((( ((((((((((((( (((((((((( (((((((( ((((((((( } قيل: إن الأربعة الأشهر احتياطا للحمل يعني: مخافة أن تكون حاملا ؛ حتى يتبين ، والعشرة عشرة الأيام زيادة احتياط ، فإذا كانت متوفى عنها، فإنها تحد على زوجها، فتترك الزينة والطيب والحلي والتجمل بالحنا، ونحوه، وتلازم بيتها الذي تزوجها، وهي فيه، فلا تخرج منه إلا لحاجتها، ولا تخرج إلا نهارا، هذا هو الإحداد، فلا تتخضب بالحنة، أو نحوها، ولا تكتحل للزينة، ولا تلبس الحلي في يديها مثلا، أو في عنقها، ولا تلبس ثياب الجمال، ثياب الشهرة التي تتجمل بها في الحفلات وما أشبهها، ولا تتطيب لا بطيب له لون ، ولا بطيب له رائحة، بل تلازم بيتها حتى تنتهي عدتها، فإذا انتهت عدتها أربعة أشهر، أو بوضع الحمل، فإنها تعود إلى ما كانت عليه.
وقد كانت قبل الإسلام تتربص سنة كاملة، وجاء ذلك في أول الإسلام في قوله -تعالى-: { ((((((((((( (((((((((( (((((((( (((((((((((( (((((((( ((((( (((((((((( } ثم نسخ ذلك واستقر الأمر بأربعة أشهر وعشرة أيام.
أما المفارقة في الحياة، فتارة تفارق بالطلاق، وتارة تفارق بالفسخ، وتارة تفارق بالخلع، فإذا فارقها بالخلع يعني: اشترت نفسها، ودفعت لزوجها، فإنها تتربص حيضة واحدة؛ تستبرئ رحمها. هذا هو الصحيح؛ لأنه لا رجعة له عليها، أما إذا فارقها بالفسخ بأن فسخ الحاكم النكاح إما لعيب فيه، أو فيها، وإما لمضارة من أحدهما، فهذا فسخ، وأيضا لا يسمى طلاقا، وليس لها عدة إلا أنها تستبرئ بحيضة، هذا هو الفسخ.(2/37)
أما إذا كان بالطلاق، فإن طلقها قبل أن يدخل بها، أو قبل أن يخلو بها، فلا عدة عليها؛ قال تعالى { ((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((( ((((((((((((((( ((( (((((( ((( ((((((((((( ((((( (((((( (((((((((( (((( (((((( (((((((((((((( } فلو -مثلا- أنه عقد عليها، وبعد يوم قال: هي طالق، ثم أراد أن يراجعها بعد ساعة، قيل: ذهبت عليك ليس لها عدة، لا تملك رجعتها، بانت منك بينونة صغرى. اخطبها من جديد، وجدد العقد، فلا عدة عليها، ولها أن تتزوج غيره بعد طلاقه بساعة، أو بيوم؛ لأنها لا عدة عليها ، أما إذا كانت قد دخل بها، أو قد خلا بها، فإن كانت حاملا، فعدتها وضع الحمل كالمتوفى عنها، طالت المدة، أو قصرت؛ لعموم الآية { ((((((((((( ((((((((((( (((((((((( ((( (((((((( (((((((((( } وعليه أن ينفق عليها مدة الحمل؛ قال تعالى { ((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((((((( (((((((((( (((((( (((((((( (((((((((( } فإن لم تكن حاملا، فإما أن تكون ذات أقراء: تحيض، فعدتها ثلاث حيض كاملة، هذا اختيار الإمام أحمد: أن عدة ذات الحيض ثلاث حيضات. وذهب الشافعي وغيره: إلى أن عدتها ثلاثة أطهار؛ وذلك لأنهم اختلفوا في تفسير القرء في قوله -تعالى-: { (((((((((((( ((((((((((((( ((((((((( (((((((( } فقيل: القرء هو الطهر، وقيل: القرء هو الحيض، وهذا هو الذي اختاره الشيخ، وهو الذي ذهب إليه أحمد، فلا بد أن تتربص ثلاث حيض، فإن طلقها، وهي حائض وقلنا يقع، فلا تعد تلك الحيضة، بل تستقبل ثلاث حيض كاملة؛ لأنه لا يصح التلفيق، أن تقول -مثلا-: أعد نصف هذه الحيضة، ونصف الحيضة الأخرى لا، لا بد أن تكون ثلاثة قروء كاملة.(2/38)
وإن لم تكن تحيض كالصغيرة، التي ما بلغت سن المحيض إذا تزوجها -مثلا- وسنها أربع عشرة، أو ثلاث عشرة، أو خمس عشرة، ولكنها ما بدأها الحيض، إن بعض النساء لا يبدؤها الحيض إلا في سن العشرين، أو السابعة عشر، وبعضهن يبدؤها الحيض في العاشرة، أو الثانية عشر.
فالحاصل أنها إذا لم يبدؤها الحيض، فعدتها ثلاثة أشهر، وكذلك الآيسة التي انقطع حيضها؛ لكبر: ابنة خمسين، أو ستين ينقطع عنها الحيض غالبا، قال تعالى: { ((((((((((( (((((((( (((( ((((((((((( ((( ((((((((((((( (((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((((((( (((( (((((((( } اللائي يئسن، واللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، أي بدل ثلاث حيض، والحكمة في العدة للمطلقة في ثلاثة أشهر، وبثلاث حيض تمكينه من الرجعة إذا كان الطلاق رجعيا، أو احتياطا للنكاح حتى لا تتزوج، وهي حامل، أو نحو ذلك.
أما إذا كانت تحيض، وارتفع حيضها للرضاع، أو لمرض، فإنها تنتظر حتى يعود الحيض، فتعتد به يعني: بعض النساء، إذا أخذت ترضع طفلها توقف الحيض، وانقلب الدم لبنا، فلا تحيض حتى تفطمه، فإذا طلقها، وهي ترضع، فإنها تبقى في العدة حتى تفطم ولدها، ثم يعود إليها الحيض، فتعتد بثلاث حيض، إذا عرف أنها لا تحيض لأجل الرضاع، أما إذا ارتفع، ولا تدري ما رفعه، لا تدري ما الذي رفعه يمكن أن يكون حملا، يمكن أن يكون مرضا، يمكن أن يكون.. لا تدري، مع أنها لا تزال شابة، لا تزال في الثلاثين، أو الأربعين، لم تبلغ سن الإياس، ففي هذه الحال تنتظر تسعة أشهر؛ مخافة أنها حامل، فإذا مرت تسعة أشهر اعتدت ثلاث حيض.(2/39)
عدة الإياس ثلاثة أشهر، وعدة الآيسة، وإذا ارتابت بعد العدة بعد انقضاء العدة، وخافت أن يكون بها حمل، فإنها لا تتزوج حتى تتحقق براءة رحمها، وتزول الريبة، فبعض النساء قد يبقى بها حمل، يبقى مدة مدة طويلة ما يسمى بالعوارض، فإذا تحققت أن في بطنها هذا الحمل، فلا تتزوج حتى تضعه، ولو طالت المدة.
امرأة المفقود: تنتظر حتى يحكم بموته، بحسب اجتهاد الحاكم، ثم تعتد.
تقدم في الفرائض أنه إما أن يكون الغالب على غيبته الهلاك، كالذي فقد في القتال، قتال فتنة، أو قتال الكفار، والذي خرج ليلا من بيته ولم يرجع، ويغلب على الظن أنه اغتيل، فإنه ينتظر به أربع سنين، فإذا مرت الأربع سنين، فإن امرأته تعتد، وتتزوج، ويقسم ماله أما إذا كان الغالب عليه السلامة كالمسافر -مثلا- إلى أقصى البلاد، ثم ينقطع خبره، فإنه ينتظر به تمام تسعين سنة من عمره، ثم يقسم ماله، وكذلك تعتد زوجته بعد ذلك، فإن فقد ابن تسعين اجتهد الحاكم.
يقول: لا تجب النفقة إلا للمعتدة الرجعية، أما المتوفى عنها، فلا نفقة لها من زوجها من مال الزوج المتوفى عنها، وكذلك المطلقة قبل الدخول ليس لها نفقة، وكذلك المطلقة ثلاثا، ليس لها نفقة، ولا سكنى، وكذلك من فارقها زوجها، وهي المعتدة التي طلقها واحدة، أو اثنتين، وهي تحل رجعتها ينفق عليها، حتى تنتهي عدتها، وكذلك الحامل قال تعالى: { ((((( (((( ((((((((( (((((( (((((((((((( (((((((((( (((((( (((((((( (((((((((( } وإذا أنفق عليها، وهي حامل، وقد طلقها ثلاثا، فالنفقة للحمل، ليست لها، النفقة للحمل يعني: ينفق عليها؛ لأجل الحمل الذي في بطنها، وإن كانت هي التي تأكل النفقة، فلما قلنا: إن النفقة للحمل لم يجب لها كسوة؛ لأن الكسوة ما ينتفع بها الحمل، فالنفقة للحمل لا لها ..من أجله. انتهى ما يتعلق بالعدة وبقي الاستبراء.(2/40)
الاستبراء: هو استبراء الأمة قبل أن يطأها، وقد يكون -أيضا- لغير الأمة الاستبراء، فمثلا إذا كان له أمة يطؤها سيدها، ثم مات، وانتقلت إلى ولده، فلا يطؤها الولد، حتى يستبرئها بحيضة بعد الموت، وكذلك إذا وطئها السيد، وأراد بيعها، فلا يحل له أن يبيعها حتى يستبرئها بحيضة، ويتحقق براءة رحمها، وكذلك إذا اشتريتها، وهي مملوكة، وقد عرفت أنها أمة، فلا يحل لك أن تطأها حتى تحيض حيضة؛ تستبرئها، وكذلك لو أراد سيدها أن يزوجها، وقد كان يطؤها ، فلا يزوجها حتى يستبرئها بحيضة، لا يطؤها زوجها، زوج أو سيد حتى تحيض حيضة، وذلك كله احتياطا للحمل، حتى لا تختلط الأنساب، وإذا لم تكن من ذوات الحيض كالآيسة والصغيرة، فإنها تستبرأ بشهر، فإن كانت حاملا، فإنها تستبرأ بوضع الحمل، إذا كانت الأمة قد زوجها سيدها، وحملت من الزوج، وطلقها الزوج، فإن سيدها لا يطؤها حتى تضع حملها؛ للحديث الذي ذكرنا، فلا يسقي ماءه ولد غيره، هذا صورة الاستبراء.
وبعده نقف هنا وبعد الصلاة إن شاء الله نقرأ النفقات والله أعلم .
باب النفقات للزوجات والأقارب والمماليك والحضانة
قال -رحمه الله-: باب النفقات للزوجات والأقارب والمماليك والحضانة.
على الإنسان نفقة زوجته وكسوتها ومسكنها بالمعروف، بحسب حال الزوج؛ لقوله تعالى: { ((((((((( ((( (((((( (((( ((((((((( ((((( (((((( (((((((( ((((((((( ((((((((((( (((((( (((((((( (((( (( ((((((((( (((( ((((((( (((( (((( ((((((((( } ويلزم بالواجب من ذلك، إذا طلبت، وفي حديث جابر الذي رواه مسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وعلى الإنسان نفقة أصوله وفروعه الفقراء، إذا كان غنيا، وكذلك من يرث بفرض، أو تعصيب، وفي الحديث " للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق " رواه مسلم .(2/41)
وإن طلب التزوج زوجه وجوبا، وعلى الإنسان أن يقيت بهائمه طعاما وشرابا، ولا يكلفها ما يضرها، وفي الحديث " كفى بالمرئ إثما، أن يحبس عمن يملك قوته " رواه مسلم .
والحضانة: هي حفظ الطفل عما يضره، والقيام بمصالحه، وهي واجبة على من تجب عليه النفقة، ولكن الأم أحق بولدها ذكرا، أو أنثى إن كان دون سبع، فإذا بلغ سبعا، فإن كان ذكرا خير بين أبويه، فكان مع من اختار، وأن كانت أنثى فعند من يقوم بمصلحتها من أمها، أو أبيها، ولا يترك المحضون بيد من لا يصونه، ويصلحه.
كتاب الأطعمة:
وهي نوعان: حيوان وغيره، فأما غير الحيوان من الحبوب والثمار وغيرها، فكله مباح إلا ما فيه مضرة كالسم، ونحوه، والأشربة كلها مباحة إلا ما أسكر، فإنه يحرم كثيره وقليله؛ لحديث " كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام " . إن انقلبت الخمرة خلا حلت.
والحيوان قسمان: بحري، فيحل، ما في البحر حيا وميتا؛ قال تعالى: { (((((( (((((( (((((( (((((((((( (((((((((((( } .
وأما البري، فالأصل فيه الحل إلا ما نص الشارع على تحريمه، فمنها ما في حديث ابن عباس " كل ذي ناب من السباع، فأكله حرام " " نهى عن كل ذي مخلب من الطير " رواه مسلم، " ونهى عن لحوم الحمر الأهلية " متفق عليه، " ونهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد " رواه أحمد، وأبو داود، وجميع الخبائث محرمة كالحشرات، ونحوها، " ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجلالة، وألبانها حتى تحبس، وتطعم الطاهر ثلاثا " .
باب الذكاة والصيد:(2/42)
الحيوانات المباحة، لا تباح بدون ذكاة، إلا السمك والجراد، ويشترط في الذكاة أن يكون المذكي مسلما، أو كتابيا، وأن يكون بمحدد، وأن ينهر الدم، وأن يقطع الحلقوم والمريء، وأن يذكر اسم الله عليه، وكذلك يشترط في الصيد إلا أنه يحل بعقره في أي موضع من بدنه، ومثل الصيد ما نفر وعجز عن ذبحه، وعن رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه، فكل ليس السن والظفر ، أما السن فعظم، وأما الظفر، فمدى الحبشة " متفق عليه.
ويباح صيد الكلب المعلم بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، وإذا أمسك لا يأكل، ويسمي صاحبها عليها إذا أرسلها، وعن عدي بن حاتم قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا أرسلت كلبك المعلم، فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك، فأدركته حيا، فاذبحه، وإن أدركته قد قتله، ولم يأكل منه، فكل، وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتله، فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما قتله، وأن رميت سهمك، فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب عنك يوما، فلم تجد فيه إلا أثر سهمك، فكل إن شئت، فإن وجدته غريقا في الماء، فلا تأكل " متفق عليه.
وفي الحديث " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته " رواه مسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم - " ذكاة الجنين ذكاة أمه " رواه أحمد.
باب الأيمان والنذور:(2/43)
لا تنعقد اليمين إلا بالله، أو اسم من أسمائه، أو صفة من صفاته والحلف بغير الله شرك، لا تنعقد به اليمين، ولا بد أن تكون اليمين الموجبة للكفارة على أمر مستقبل، فإن كانت على ماض، وهو كاذب عالم، فهي اليمين الغموس، وإن كان يظن صدق نفسه، فهي من لغو اليمين كقوله: لا والله، وبلى والله في عرض حديثه، وإذا حنث في يمينه بأن فعل ما حلف على تركه، أو ترك ما حلف على فعله، وجبت عليه الكفارة: عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام.
وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير " متفق عليه. وفي الحديث " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله ، فلا حنث عليه " رواه الخمسة.
ويرجع في الأيمان إلى نية الحالف، ثم إلى السبب الذي هيج اليمين، ثم إلى اللفظ الدال على النية والإرادة إلا في الدعاوى، ففي الحديث " اليمين على نية المستحلف " رواه مسلم.
وعقد النذر مكروه، وقد " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر وقال: إنه لا يأت بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل " متفق عليه، فإذا عقده على بر وجب عليه الوفاء به ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه " متفق عليه. وإذا كان النذر مباحا ، أو جاريا مجرى اليمين ، كنذر اللجاج والغضب ، أو كان نذر معصية، لم يجب الوفاء به، وفيه كفارة يمين إذا لم يوف به، ويحرم الوفاء به في المعصية.
كتاب الجنايات:
القتل بغير حق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: العمد العدوان، وهو أن يقتله بجناية تقتل غالبا، فهذا يخير الولي فيه بين القتل والدية؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - " من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين: إما أن يقتل، وإما أن يفديه " متفق عليه.
الثاني: شبه العمد، وهو أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتل غالبا.(2/44)
الثالث: الخطأ، وهو أن تقع الجناية منه بغير قصد بمباشرة، أو سبب، ففي الأخيرين لا قود، بل الكفارة في مال القاتل، والدية على عاقلته، وهم عصباته كلهم، قريبهم وبعيدهم توزع عليهم الدية بقدر حالهم، وتؤجل عليهم ثلاث سنين، كل سنة يحملون ثلثها، والديات للنفس وغيرها، قد فصلت في حديث عمرو بن حزم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب لأهل اليمن وفيه: " إن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وأن في النفس الدية مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية، وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشرة من الإبل، وفي السن خمس عشرة من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار " رواه أبو داود.
ويشترط في وجوب القصاص كون القاتل مكلفا، والمقتول معصوما ومكافئا للجاني في الإسلام والرق والحرية، فلا يقتل المسلم بالكافر، ولا الحر بالعبد، وألا يكون والدا للمقتول، فلا يقتل الأبوان بالولد، ولا بد من اتفاق الأولياء المكلفين، والأمن من التعدي في الاستيفاء، وتقتل الجماعة بالواحد، ويقاد كل عضو بمثله، إذا أمكن بدون تعد؛ لقوله تعالى: { ((((((((((( (((((((((( ((((((( (((( ((((((((( ((((((((((( } إلى آخر الآية، ودية المرأة على النصف من الرجل، إلا فيما دون ثلث الدية، فهما سواء.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد.(2/45)
النفقات: يراد بها الطعام بها الطعام والشراب، والكسوة والسكنى؛ وذلك لأنها من تمام الحياة، فالزوج يكلف بنفقة زوجته؛ قال تعالى: { ((((((( ((((((((((((( ((((( (((((((((( (((((((((((((( ((((((((((((((( } المولود له يعني: الزوج الذي هو أبو ذلك الولد، وفي حديث جابر الذي تقدم في الحج، قال - صلى الله عليه وسلم - " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " يعني كل زوجة، فمتى تسلمها زوجها، أو بذلت نفسها له ، قال أهلها: خذها وجبت عليه نفقتها، فيجب عليه أن ينفق عليها بالمعروف، وكذلك كسوتها ومسكنها بحسب حال الزوج، دليل ذلك هذه الآية في سورة الطلاق { ((((((((( ((( (((((( (((( ((((((((( } "لينفق ذو سعة" يعني ذو جدة وثروة وغنى من سعتة، يعني: ينفق حسب وسعه { ((((( (((((( (((((((( ((((((((( } يعني: من ضيق عليه رزقه، قدر عليه: يعني: ضيق عليه، كمافي قوله تعالى: { (((((((( ((((( ((( ((((((((((( (((((((( (((((((( ((((((((( } يعني: ضيقه { ((((((((((( (((((( (((((((( (((( (( ((((((((( (((( ((((((( (((( (((( ((((((((( } { (( (((((((( (((((( (((( ((((((((( } وقد بين ذلك -أيضا- العلماء، فقالوا: يلزم بالواجب من ذلك. إذا طلبت، يلزم الزوج بالواجب من ذلك إذا طلبت، فإذا طلبت النفقة، وهي في عصمته في منزله، فإنه يلزم بالواجب من ذلك، الواجب: هو القوت الذي يسد الفاقة، القوت الضروري والكسوة الضرورية، حتى ولو كان فقيرا، فإذا عجز عن الكسوة وعجز عن الإطعام، فإن لها طلب الفسخ؛ لأنها مضطرة إلى ما تتقوت به، فلا تبقى عنده، وهو عاجز عن أن يطعمها، أو يكسوها؛ لأنها تتعرض للألم.
في حديث جابر الذي تقدم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " فإن كان من أهل الثروة، فمعلوم أنه ينفق نفقة أهل السعة، وإن كان من المتوسطين، فكذلك، وإن كان من الفقراء، فعليه نفقة الدون، فقد قسموا الزوجين إلى تسعة أقسام:
الأول: غنية تحت غني.(2/46)
الثاني: غنية تحت متوسط.
الثالث: غنية تحت فقير.
الرابع: متوسطة تحت غني.
الخامس: متوسطة تحت متوسط. السادس: متوسطة تحت فقير.
السابع: فقيرة تحت غني.
الثامن: فقيرة تحت متوسط.
التاسع: فقيرة تحت فقير.
وتختلف الحال بهذه الأحوال، فمعلوم أنها إذا كانت غنية يعني: قد نشأت في بيت ثروة وبيت غني، فإنها تطلب التوسع، قد اعتادت على أكل اللحوم يوميا مثلا، وعلى أكل الفواكه يوميا غالبا، وعلى أكل أحسن المآكل المخبوز، ومن أنواع الأطعمة والمشتهيات وما أشبه ذلك، واعتادت على ذلك، وهو قادر عليه، فإنه يعطيها ما طلبت، وما اعتادت عليه مع قدرته، وما دون ذلك يكون دونه حتى منزلة الفقيرة تحت الفقير، الفقيرة التي عاشت في فقر، وهو كذلك عاش في فقر يقتصران على رخيص الخبز مثلا، الذي يحصل به التقوت، ولو لم يكن معه تفكه، ولو لم يكن معه أدم، ولا غير ذلك؛ لأن القصد سد الجوعة.
على الإنسان نفقة أصوله وفروعه الفقراء إذا كان غنيا يلزم بذلك إذا افتقروا، ولو بعدوا، فينفق على جدته، ولو بعيدة، وعلى جده، ولو بعيدا، سواء أكان من الأب، أو من الأم. أبو أم أم أمه ينفق عليه إذا افتقر إذا كنت غنيا، فإنك تنفق على أصولك الذين هم الآباء والأجداد، وإن بعدوا، وكذلك الأمهات والجدات، وإن بعدن وعلى فروعه: أولاده، وأولاد أولاده ذكورا، وإناثا، ولو بعدوا، ولو بنت بنت بنت، أو ابن بنت بنت، ولو لم يكونوا وارثين، فإنهم فروعه، فينفق عليهم ما دام أنهم يتصلون به.(2/47)
ودليل ذلك قوله تعالى: { ((((((( ((((((((((( (((((( ((((((( } يقول: كذلك من يرثه بفرض، أو تعصيب، من يرثه: يعني إذا كان أخوك من الأم الذي ترثه، أو يرثك فقيرا ألزمت بالنفقة عليه، وكذلك بنت أخيك التي ترثها بتعصيب، وكذلك بنت بنت أخيك، وبنت بنت أختك، ونحوهم وابن بنت أختك، ولو كانوا من الأرحام، هؤلاء يعني ترثهم أنت، وإن لم يكونوا يرثوك، يعني: الرجل يرث بنت أخيه، ويرث بنت عمه وعمته، ونحوهم أما ذوو الأرحام: الخال وابن الخال -مثلا- وبنت العم، وبنت العمة، وما أشبههم، فهؤلاء لا تجب عليهم نفقة؛ لأنهم لا يرثون بفرض، ولا تعصيب.
كذلك عليه نفقة المماليك؛ المملوك هو العبد الذي يملكه الإنسان ملكا تاما، يقول - صلى الله عليه وسلم - " للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمال إلا ما يطيق " وفي حديث أبي ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المماليك: " هم إخوانكم خولكم - يعني: خدمكم- جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم " لذلك كان أبو ذر يطعم مملوكه من طعامه، يقول: تعال فكل معي، ولو كان طعاما شهيا، وإذا اشترى كسوة لنفسه اشترى مثلها كسوة لخادمه عملا بهذا الحديث.
إذا طلب الزواج زوجه ؛ لأنه يتضرر بتركه، فيخشى أن يقع في الحرام، فعليه أن يعفه، فإذا طلبت الأمة الزواج، فإن عليه أن يعفها إما أن يطأها، وإما أن يزوجها، فإن عجز عن ذلك، لزمه بيعه حتى لا يتضرر عنده؛ لأن الزواج من جملة ما هو ضروري في الحياة.(2/48)
البهائم: على الإنسان أن يقوت بهائمه، البهائم معلوم أنها تعيش على الماء، وعلى الطعام على العلف، ولا تعيش على غيره، ولا بد لها من ذلك، ومعلوم أنها لا تشتكي، ولا تتظلم، ولا تطلب حقا، ولكن أصحابها وأهلها يعرفون ذلك، فليس له أن يجيعها، وهو قادر، بل إذا عجز عن علفها، فعليه ذبحها إن كانت مأكولة، أو عليه بيعها لمن يقدر على أن يعلفها، عليه طعامها وشرابها، ولا يكلفها ما يضرها.
إذا كان يحمل عليها كالدواب التي يحمل عليها، لا يحمل عليها إلا ما تطيقه قوله - صلى الله عليه وسلم - " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته " عام في قوت الدواب، كونه يضيع دوابه، يحبس قوتها، وهي محجوزة في دار، أو في حجرة، أو نحو ذلك يكون عليه إثم .
و كذلك عماله -مثلا- الذين يعملون عنده كخدمه، أو كذلك أهله، أو نحو ذلك أولاده، كفى به إثما أن يحبس عنهم قوتهم، بل عليه أن يعطيهم القوت الذي يحتاجون إليه.
الحضانة: حفظ الطفل عما يضره، والقيام بمصالحه، معلوم أن الطفل الذي يولد -مثلا- من حين يولد إلى أن يتم -مثلا- عشر سنين أنه بحاجة إلى من يحضنه، فلا بد من الحضانة، ولا يقوم بذلك غالبا إلا الأم، أو النساء، فإنهن أصبر على حضانة الطفل، فالمرأة ترضع ولدها، وتغسل ثيابه، وتنظفه من إفرازاته، من نجاساته، لو ترك ماذا يفعل؟ يموت. إذا لم يحتضن يموت جوعا، فيتسخ -مثلا- بدنه، فتتسخ ثيابه، من الذي يقوم بتنويمه، وبتطهيره وبتنظيفه.. ونحو ذلك ؟ فلا بد له من حاضن، حتى بعد الفطام وبعد تمام سنتين، ثلاث سنين، أربع سنين ما يستغني عمن يصلح فراشه، ويصلح طعامه، ويغسل ثيابه، وينظف بدنه، ويقوم بمصالحه، فلا يستغني عن ذلك.(2/49)
الحضانة واجبة على من تجب عليه النفقة على الأب، هو الذي يقوم بالحضانة، ولكن الغالب أنه لا يتولاها، ولكن ينفق على من يتولاها، فإذا ماتت زوجته، ولها أطفال، وطلبت خالتهم أن تحضنهم، فإنه ينفق عليها مقابل حضانتها لأولاده؛ لقوله: " الخالة بمنزلة الأم " .
الأم أحق بولدها ذكرا كان، أو أنثى ما دام دون تسع سنين، فإذا بلغ تسع سنين يخير، اختر أباك، اختر أمك، فإذا اختار أحدهما، فهو معه أما الأنثى، فإنها بعد سبع سنين، تكون عند من يقوم بمصلحتها من أم، أو أب وذلك؛ لأنها بحاجة إلى من يصونها، فإذا كان الأب يصونها، والأم تهزلها، مثلا تخرج، وتلعب، وتتعرض للفسقة والفساد، فلا يجوز تركها عند الأم، وكذلك إذا كان الأب ينشغل عنها، ويولها -مثلا- من لا يقوم بمصلحتها، فإنها تكون عند الأم، ولو بعد البلوغ، تكون عند من يحفظها، ويقوم بمصلحتها، ولا يترك المحضون بيد من يهزله، ولا يصونه، ولا يصلحه.
إذا عرف -مثلا- أنه إذا كان عند أمه سواء ذكرا، أو أنثى، فإنها تصونه، وتتولاه، وتحفظه، وتحميه، وتعلمه، وتقوم بمصالحه، وتنصحه لا يختلط بمن يفسده، فأمه أولى به من أبيه، إذا كان أبوه منشغلا بوظيفته، لا يتفرغ له، يترك له الحبل على الغارب، يتركه يسيح، كمايشاء، يختلط بمن يفسده، من يوقعه بمسكرات، أو في دخان، وما أشبه ذلك، لا يترك عند من لا يحفظه، ويصونه.(2/50)
ابتدأ في الأطعمة، يقول: الأطعمة نوعان: حيوان، وغير حيوان يعني: المأكولات التي يتقوت بها غير الحيوان الحبوب والثمار والخضار والنباتات، وما أشبهها مباحة، كلها مباحة إلا ما فيه مضرة كالسم، وما أشبهه، معلوم أن الله تعالى ما أنبت هذه النباتات إلا لمصلحة، ولكن من هذه النباتات ما هو علف للدواب كالحشيش، ونحوه، ومنها ما هو يصلح أن ياكل منه الإنسان كالخضار والفواكه، سواء كانت تؤكل مطبوخة، أو غير مطبوخة، فإنها قوت للإنسان، والأصل فيها الحل والإباحة، قال تعالى: { ((((((( (((((((((((( ((((((((((((( } فإذا كان في هذا النبات ضرر، فإنه حرام على الإنسان، مثل السم، وكذلك الأشياء الضارة كالمخدرات، وكذلك الدخان -أيضا- فيه مادة سامة، تسمى النيكوتين معروف -أيضا- أنها إذا جعلت في طعام الدواب تقتلها، إذا أكلتها الدواب؛ لأجل ذلك تضر بالمدخن، ولكن يخفف ضررها الإحراق، ولكن تضره تدريجيا، ولو أن إنسانا، أكل ومضغ هذا الدخان مضغه، وأكله وبه هذه المادة لمات؛ فلأجل ذلك يحرم كل شيء فيه ضرر على الإنسان، ولا يقول الإنسان: أنا حر في نفسي، يقال: لست حرا في نفسك، لا تتعاط ما يقتلك، أو ما يؤلمك، فإن الله تعالى حرم على الإنسان أن يؤذي أحدا حتى نفسه، حرم عليه أن يقتل نفسه، قال تعالى { (((( (((((((((((( ((((((((((( } فالحاصل أن النباتات سواء الأوراق، أو الثمار أن الأصل فيها الإباحة إلا ما هو ضار، أو ما لا يصلح قوتا إلا للدواب على اختلافها، الدواب -أيضا- قد جعل الله لها معرفة بما يناسبها، فالإبل يناسبها نوع من الحشيش، والبقر يناسبها غيره، والأغنام قد لا يناسبها ما يناسب الإبل، وكذلك الدواب الأخرى.(2/51)
الأشربة: كلها مباحة إلا ما أسكر، فإنه يحرم كثيره وقليله، المسكر هو الذي يغطي العقل، بحيث إنه إذا سكر هذى، ولم يميز ما أمامه، كأنه يغطي عقله، ولا يفكر، ولا يعرف، ولا يميز بين هذا، وهذا، ولا ما ينفع وما يضر، كماهو معروف، فإذا كان هذا الشراب من المسكرات، فإنه يحرم قليله وكثيره يقول - صلى الله عليه وسلم - " كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام " الفرق مكيال يسع ثلاثة آصع. يقول: لو قدر أنه لا يسكر حتى يشرب، هذا الذي ثلاثة آصعن فيشرب إذا شربها سكر، وأن كان ذلك يعني نادرا، فإن ملء الكف منه حرام " ما أسكر منه الفرت، فملء الكف منه حرام " ما أسكر كثيره، فقليله حرام. الأشربة كلها مباحة إلا ما أسكر؛ فإنه يحرم كثيرُه وقليلُه.
المُسكر: هو الذي يغطي العقل بحيث إنه إذا أسكر هلع، ولم يميز ما أمامه، كأنه غطى عقله، ولا يفكر، ولا يعرف، ولا يميز بين هذا وهذا، ولا ما ينفع وما يضر كما هو معروف، فإذا كان هذا الشراب من المسكرات؛ فإنه يحرُم قليله وكثيره، يقول - صلى الله عليه وسلم - " كل مُسْكرٍ حرام، وما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام " .
"الفرق": مكيال يسع ثلاثة آصع، يقول: لو قُدِّر أنه لا يسكر حتى يشرب، هذا الذي ثلاثة آصع ما يشرب، إذا شربها سكر. وإن كان ذلك - يعني نادرا - فإن ملء الكف منه حرام. " ما أسكر منه الفرق، فملء الكف منه حرام " " ما أسكر كثيره، فقليله حرام " .(2/52)
الخمر في الأصل تُصنع من تمرٍ يُطبخ، حتى يصير خمرا، أو يُخمَّر بمعنى أنه يُلقى في ماء، وفي شمس إلى أن تستحكم حلاوته، وكذلك من العسل، وكذلك من العنب، وكذلك من الشعير، أو نحوه، تؤخذ من كل الأنواع من الأشربة، ثم قد تتخلل - تنقلب خلّا - والخل طاهر ومباح -الخل معروف- خل التمر وخل العنب، ونحو ذلك يُتخذ إداما للحديث: " نعم الإدام الخل " فإذا انقلبت الخمر خلا، فإنها تُباح، لكن لا يجوز علاجها حتى تتخلل، بل إذا قدرنا عليها أهرقناها، ولا نُمَكِّن صاحبها من تخليلها - هذا هو الحق.
ولا يجوز معالجتها حتى تتخلل طبخها أو نقلها بالشمس، أو نحو ذلك، لكن إذا تخللت من نفسها انقلبت خلّا؛ فإنها تَحِلّ. انتهى من الأطعمة التي غير الحيوان.
أما الحيوان فإنه قسمان: بحري وبري، البحري هو دواب البحر، يقول الله تعالى: { (((((( (((((( (((((( (((((((((( (((((((((((( } صيده: ما تصيده بشبكة، أو نحوها. وطعامه: ما يقذفه على الساحل من الدواب، أخذوا من هذه الآية أن جميع ما في البحر، فإنه حلال، وذهب بعضهم إلى أنه إذا كان شبيهه البري حرام، فإنه يحرم، فقالوا: تحرم حيَّة البحر، ويحرم كلب البحر، ويحرم خنزير البحر وما أشبه ذلك.
والأقرب أنها كلها حلال؛ وذلك لأنها لا تتغذى بما هو نجس، يعني: غذاؤها غالبا طاهر: إما ميتات البحر، وإما نباتات البحر، وإما ماء، أو نحوه؛ فلذلك على ظاهر الآية كل دواب البحر حلال، لكن حيث إن فيها خلافا، خلاف في التمساح، وخلاف في الكلب، وخلاف في الحيَّات وما أشبهها، فإن الإنسان يتجنب الشيء الذي فيه خلاف، والذي هو مكروه.(2/53)
أما الحيوان البري، فالأصل فيه الحِلّ إلا ما نص الشرع على تحريمه، ورد أن الله تعالى أباح بهيمة الأنعام { (((((((( ((((( ((((((((( ((((((((((( } فدخل في بهيمة الأنعام: كل الدواب التي يملكها الإنسان، وينتفع بها، استُثْني من ذلك الحُمُر الأهلية؛ ورد الشرع بتحريمها مع أنها من جملة ما ينتفع به الإنسان، واختُلِف في الخيل؛ فحرَّمَها الحنفية وأباحها الجمهور، وأما الإبل والبقر والغنم، فلا خلاف في حلها -أنها مباحة- وأما غير هذه الدواب، فورد النهي عن السِّباع، تحريم كل ذي نابٍ من السِّباع، فيدخل في ذلك الكلب؛ لأن له نابا، ويدخل في ذلك الذئاب والفهود والنمور والأسود وما أشبهها.
واختلف في الضبع؛ فذهب الإمام أحمد إلى أنها حلال؛ لأنها ورد الأمر بإباحتها، وذهب الشافعي إلى أنها حرام، وقالوا: إنها ذات ناب، ولو لم تكن تعدو، لكنها من ذوات الأنياب تفترس، وتأكل الجيف، فكأن الأقرب أنها لا تُباح إلا عند الضرورة؛ لأن الأحاديث التي وردت فيها محمولة على أنها عند الحاجة.
أما بقية ذوات الأنياب، فإنها حرام، يدخل في ذلك مثلا القط والثعلب والنمر وابن آوى وما أشبهها، هذه دواب تفترس، حتى هذا القط يفترس الطيور، يفترس الدجاج والحمام، فهو من ذوات الأنياب.
كذلك ما له مِخْلب من الطير، كل طير له مخلب يحمل طعامه بمخلبه؛ فإنه حرام. يدخل في ذلك النسر والغراب والعقاب والصقر والبازي والشاهين، وما أشبهها، هذه ومثلها أيضا الصرد الذي ذُكر في الحديث، طائر أصغر من الحمام أحمر، يسمى الصرد له مخلب، فدخل في ذلك.
كذلك من المحرمات ما أمر بقتله، تقدم في الحج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " خمس دواب يقتلن في الحل والحرم " فهذه حيث إنه أُمر بقتلها، فهي حرام " الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " ومثلها أيضا الحية؛ فإنه مأمور بقتلها؛ لأنها من ذوات السموم.(2/54)
كذلك أيضا ما نُهِىَ عن قتله؛ في هذا الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد " .
الهدهد طائر معروف، يعني: لونه أخضر، وله عنق طويل، ورد ذكره في القرآن، وورد النهي عن قتله، والصرد نُهِىَ أيضا عن قتله، فالنهي عن قتله يدل على أنه لا يؤكل.
كذلك ما يأكل الجِيَف، الذي يأكل الجيف كالرخم مثلا والنسور، هذه تتغذى بالجيف، والجيف نجسة، فيكون مُحرَّما؛ لأنه يتغذى بمُحرَّم.
كذلك جميع الخبائث محرمة، كالحشرات، الحشرات بأنواعها محرمة، يدخل في ذلك الخنفساء والجُعَل، وكذلك الأوزاغ التي تكون في السقوف، والسحالب والفَرَاش والزنابير والطيور الصغيرة؛ والنحل والنمل، وما أشبه ذلك تُسمَّى الحشرات، استثنوا منها الضب؛ فإن خلقته على خلقة الوَرَل وعلى حِلْقه الوَزَغْ، فالوزغ هذا الذي تشاهدونه خلقته على خلقته، وعلى خلقته السحلباء ومع ذلك، فإنه حلال، ورد أنه " أُكل على مائدة النبي - صلى الله عليه وسلم - " أما الوَرَلْ فإنه حرام؛ لأنه داخلٌ في الحشرات " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجلّالة وألبانها، حتى تُحبَس، وتطعم الطاهر ثلاثا " .(2/55)
الجلّالة: هي التي تأكل النجاسة وتتغذى بها، التي تأكل العَذِِرة، كثيرا من الإبل والبقر والغنم ونحوها إذا جاعت، فإنها تتبع الأماكن التي هي فيها الغائط، وتأكل الغائط وتتغذى به، فمثل هذه إذا كان غذاؤها، أو أكثر غذائها على أكل هذه النجاسة؛ سُميت جلّالة. فيُنهى عن أكلها حتى تُحْبَس وتُطعم الطاهر. واختلف كم تُحبَس ؟ هذا الحديث فيه: أنها تحبس ثلاثا، ولكن قال بعضهم: مثل الدجاج، الدجاجة تحبس ثلاثا، وتطعم طاهرا، وأما الغنم ونحوها، فتحبس أسبوعا وتطعم طاهرا، وأما الإبل والبقر فورد في حديث ذُكر في "سُبُل السلام" -، أو أثر- أنها تحبس أربعين يوما، وذلك؛ لأنها كبيرة الجثة، فلا بد أن تحبس مدة طويلة يتغير ما في بطنها، ويتغير لحمها، ويتغير ويطيب لبنها.
الذكاة: هي ذبح الحيوان المباح المقدور عليه بسكين، أو نحوه، الحيوان المباح لا يباح بدون الذكاة إلا السمك والجراد، قال تعالى -لما ذكر المحرمات- قال: { (((((((((((((((((( ((((((((((((((((( ((((((((((((((((((( (((((((((((((( (((((( (((((( ((((((((( (((( ((( (((((((((( } أي إلا ما قدرتم عليه وذكيتموه، وهو حي قبل أن يموت؛ فإن الذكاة تحله.
يشترط في الذكاة أربعة شروط:(2/56)
الأول: أهلية المذكي، وهو أن يكون مسلما، أو كتابيا ملتزما بالكتاب - بكتابه - لقوله تعالى: { ((((((((( ((((((((( (((((((( ((((((((((( (((( (((((( } يعني: ذبائحهم؛ وذلك لأنهم يذبحون في دينهم ذبحا شرعيا، يذبحون في الحال، ويذبحون بالسكين، ويسمون الله، هذا من شريعتهم، أما في هذه الأزمنة، فالغالب أنهم لا يتقيدون بدينهم، وأن ذبحهم ليس شرعيا؛ فلأجل ذلك ننهى عن اللحوم المستوردة ، وقد كتب فيها شيخنا الشيخ عبد الله بن حميد -رحمه الله- رسالة بعنوان "اللحوم المستوردة" ورجح فيها أنها لا تحل، وذكر لنا كثيرا ممن وقف عليهم أنهم يعلقون الدواب، مثل الدجاج والطيور ونحوها بأرجلها في مثل: السيم، ثم هذا يجره كهرباء، فيمر بماء حار يغلي، فتنغمس فيه، وهي حية، وتخرج منه، وقد ماتت، ثم تمر على آلة أخرى تقطع رأسها، وآلة أخرى تسلخ جلدها وآلة أخرى تقطع رجليها، وتسقط وتعلب، هذا هو الغالب عليهم، وعلى هذا، فإنها تموت قبل أن يُقطع رأسُها، وليس هناك من يذبحها بسكين، ولربما يكون الذبح من الخلف، وكثيرا ما وُجد في بعض العلب، المعلبات ما رأسه متصل بالمقطع يعني: أنها من سرعتها أخطأتها السكين، فلم تقطع الرأس، وربما قطعت -مثلا المنقار- وتُرك الرأس، فهذا دليل على أنهم لا يذبحون ذبحا شرعيا، إذن فلو كانت رخيصة نقول: إن الذي يتورع عنها هو أولى؛ حتى لا يأكل شيئا مشكوكا فيه، أو محرم.
الشرط الثاني: أن يكون بمحدد، وأن ينهر الدم، المحدد: هو السكين الحادة ومثلها الحجر الحاد، ففي حديث تلك الجارية التي كسرت حجرا، وقطعت به تلك الشاة التي أشرفت على الموت، فأمر بأكلها. ويكون ذلك الحاد مما ينهر الدم، يعني: يسيل الدم معه إذا حزّه من الحلق انقطع الحلق، وأنهر الدم كما سيأتي في الحديث.(2/57)
الشرط الثالث: أن يقطع الحلقوم والمريء، واختلف في الودجين، فاشترطها بعضهم، المريء مجري الطعام، والحلقوم مجرى النفس، فلا بد أن يقطع مجرى النفس ومجرى الطعام، والعرقان اللذان يحيطان بالعنق هما اللذان -غالبا- يخرج منهما الدم الكثير، فيتأكد أيضا قطعهما حتى يخرج الدم ولا يحتقن.
الشرط الرابع: أن يذكر اسم الله عليه، بأن يقول: بسم الله عند الذبح لقوله تعالى: { ((((((((( ((((( (((((( (((((( (((( (((((((( } إلى قوله: { (((( ((((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((( (((( (((((((( } واختلف فيما إذا ترك التسمية سهوا، والراجح أنه إذا كان مسلما سها عن التسمية، فإنها تُباح وتحل، وأما إذا ترك التسمية عمدا، فلا تحل { (((( ((((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((( (((( (((((((( ((((((((( (((((((( } .
الصيد: ذكر أن الحيوانات المباحة لا تباح إلا بذكاة، واستثنى السمك والجراد للحديث المذكور المشهور " أُحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد " .
الجراد: معروف لكثرته لا يتمكن من ذبحه، فيلقى في الماء الحار، وينطبخ ويؤكل؛ ولأنه ليس له دم، والذي يسيل من فمه لا يسمى دما، وليس بنجس.
يشترط في الصيد أيضا هذه الشروط، إذا صاده، فلا بد أن يذبحه مسلم ولا بد أن يذبحه بمحدد، ولا بد أن يقطع الحلقوم والمريء، ولا بد أن يذكر اسم الله عليه، هذا الصيد.
الصيد: هو اقتناص حيوان متوحش طبعا غير مقدور عليه، هذا الصيد، هو اقتناص حيوان حلال متوحش طبعا غير مقدور عليه، يدخل في ذلك الظباء والوُعول والأروَى وحُمُر الوحش وبقر الوحش وما أشبهها من الدواب، التي تتوحش، وكذلك أيضا مثل الأرنب والضب والوبر، وما أشبهه، هذه من الصِيود المباحة.(2/58)
يقول: إلا أنه يحل بعقد في أي موضع من بدنه، وذلك إذا رماه، إذا رماه فأصاب السهم جنبه، أو قلبه، أو رأسه، ومات من السهم؛ فإنه يُباح فذلك؛ لأن الله تعالى قال: { ((((((((( (((((( (((((((((( (((((((((( } والنبي - صلى الله عليه وسلم - أباح ذلك كما يأتي، ومثل الصيد: ما نفر وعجز عن ذبحه، إذا هرب البعير ولحقوه، فعجزوا عنه، فإذا رموه ومات من الرمي، ورأى إصابة الرمي في جنبه؛ فإنه يحل.
في حديث رافع هذا يقول: قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غدا، وليس معنا مُدَى -المُدى: جمع مدية- يعني: السكاكين - أفنذبح بالقصب؟ يعني: أعواد محددة، فقال: " ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكل " " ما أنهر الدم " يعني: أساله، " وذُكر اسم الله عليه، فكل ليس السن والظفر " يعني: لا يجوز أن يذبح بظفره إذا كان طويلا، ولو عصفورا، ولا بسنه أن يعضَّه بسنه في حلقه، ثم قال: " أما السن فعظم " أخذ من هذا أنه لا يجوز الذبح بالعظم " وأما الظفر فمدى الحبشة " كأن الحبشة، وهم في ذلك الوقت ليسوا بمسلمين، كانوا يذبحون بالظفر؛ فنهى عن التشبه بهم.(2/59)
في هذا الحديث يقول رافع: فَندّ بعير - ندّ: يعني: هرب- بعير مما معنا أدركوه- فسعوا في أثره فنبضوا -عجزوا- فرماه رجل بسهم، فأدركه، رماه بسهم فأوثقه ومات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هكذا .. فما ند منها، فافعلوا به هكذا " يقول: ويباح صيد الكلب المعلَّم لقوله تعالى: { (((( (((((( (((((( ((((((((((((( ((((( ((((((((( ((((( ((((((((((((( (((((((((((( } يعني: من الكلاب، الجوارح تطلق على الطيور المعلَّمة كالصقر والبازي والباشق والشاهين ونحوها وعلى الكلاب المعلمة فيباح لقوله تعالى: { ((((( ((((((((( ((((( ((((((((((((( } { ((((((((( (((((( (((((((((( (((((((((( } عليكم بهذا الشرط { (((((((((( (((((((((( } { ((((((((((((( (((((( (((( (((((((( } فقوله تعالى: { ((((( ((((((((( ((((( ((((((((((((( (((((((((((( } يعني: من الكلاب ونحوها { (((((((((((((((( ((((( (((((((((( (((( } دلّ على أنه لا بد أن يُعلّم متى يكون الكلب معلَّما ؟ متى يباح صيده؟ قالوا: علامته يسترسل إذا أُرسل، وينزجر إذا زُجر، وإذا أمسك لا يأكل، هذه علامته.
إذا أرسله صاحبه بكلمة يعرفها يرسله بأن يقول - يسميه باسمه مثلا- فيرسله، فإذا أرسله سعى في طلب ذلك الصيد - الأرنب مثلا ، أو الظباء، أو ما أشبهها- وإذا زُجر انزجر، يقولون: مثلا لو أنه استرسل من نفسه، ففطن به صاحبه، فصاح به، صاح.. ولما صاح زجره زاد في العدو، ففي هذه الحال يحل ما صاده؛ لأنه زجره، وكذلك إذا زجره عن السعي يعني: هنا له علامات كأن يقول له: كُفّ، أو قف، أو نحو ذلك فينزجر، فهذا، وإذا أمسك لا يأكل، إذا أمسك الأرنب مثلا فإنه يمسكها بفمه، أو يعضها حتى يقتلها مثلا ثم لا يأكل منها، بل يقف عندها، حتى يأتي صاحبه، فهذا هو الذي يُباح صيده .(2/60)
ولا بد من التسمية، يُسمِّي صاحبه إذا أرسله سواء طيرا، أو كلبا أورد لنا هذا الحديث: عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا أرسلت كلبك المعلم - بهذا الشرط - فاذكر اسم الله عليه- هذا شرط أيضا - فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه " إذا أدركت الأرنب، أو الظبي حيا، فلا بد أن تذبحه؛ لأنه أصبح من المقدور عليه، والمقدور عليه لا بد أن يُذبح بالسكين - فاذبحه - " وإن أدركته قد قتله، ولم يأكل منه فكله " لعموم قوله: { ((((((((( (((((( (((((((((( (((((((((( } ما أمسك إلا لك، ما أمسك لنفسه، لو أمسك لنفسه لأكل.
استثنوا من ذلك الجارح: الصقر، فإنه إذا أكل، فلا يحرم صيده، والغالب أنه يجرح لأنه يقتل الحبار مثلا، أو الأرنب بمخالبه، يضربهما بمخالبه، فيقطع جلدها ويقطع ظهرها، فتموت وكذلك الأرنب ونحوه، له مخالب طويلة إذا ضربها به، فإنه يموت. فإذن الغالب أنها تموت رهبة، والغالب أنه يأكل فلا يضر أكله. " وإن وجدت مع كلبك كلبا غيره قد قتل، فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله " أنت ما سميت إلا على كلبك، وما أرسلت إلا كلبك، والصيد قد قتله اثنان أحدهما: مسمى عليه، والآخر غير مسمى عليه، فلا تدري، فلا تأكل ثم قال: " وإن رميت بسهمك، فاذكر اسم الله عليه " كانوا يرمون بالسهام.
السهام: قطع من الأعواد يبرونها، ويحددون رءوسها، ثم يجعلونها بالقوس فيدفعونه، فيندفع، قد يندفع مائة ذراع، أو مائتين، أو أكثر شيئا، ثلاثمائة ذراع فيصيب الرميّة أحيانا، يضربها مع جنب، فيخرج مع الجنب الثاني كما في حديث الخوارج " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " " فإذا رميت بالسهم، فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك، فكل إن شئت " لأنك تتحقق أن هذا السهم هو الذي قتله، لكن قد تتغير رائحته إذا طالت المدة؛ فيكون مكروها.(2/61)
أما إذا وجدته من حينه، ولو مات فإنك تأكل " وإن وجدته غريقا من الماء فلا تأكل " لا تدري هل سهمك الذي قتله، أو الماء الذي قتله، هذا حديث متفق عليه. ومثله أيضا حديث عن أبي ثعلبة الخشني بنحو هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله كتب الإحسان على كل شيء " هذا الحديث أيضا حديث عظيم في صحيح مسلم عن شدّاد بن أوس " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليُحدّ أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته " قوله: " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة " حتى ولو كان الإنسان يقتل قصاصا؛ فإن عليه أن يحسن القتلة .
إذا أراد أن يقتل قاتل أبيه، أو أخيه، فإنه يقتله قتلا حسنا ولا يعذبه، لا يطعنه طعونا كثيرة فيقول: أعذبه، بل يقتله قتلة واحدة " وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة " إذا ذبح بالسكين، فعليه أن يذبحها بسرعة حتى لا تتألم " وليُحد أحدكم شفرته " أي سكينه، يسنّ السكين يُحدّها: يعني: حتى تكون حادة " وليُرح ذبيحته " يذبحها بسرعة بقطع الحلقوم والمريء والودجين بسرعة؛ حتى لا تتألم؛ فإنها إذا كانت كالة وأخذ يحزها، فإن الدابة تتألم ويطول ألمها، قد تبقى -مثلا- ربع ساعة، وهو يحزها ولا تقطع الجلد، ولا تقطع الحلقوم إلا بعد كلفة، فإذا كانت حادة قطعت بسرعة.
أما قوله - صلى الله عليه وسلم - " ذكاة الجنين ذكاة أمه " فالمراد: إذا ذبحت الشاة ووُجد في بطنها جنين، فإنه يباح أكله ولا حاجة إلى ذبحه، وكذلك ولد البقرة، أو ولد البعير، أي الناقة إذا وجد في بطنها جنينا جاز أكله، ولو لم يُذبح وأُلحق بلحمها، يعني: يُطبَخ معها، ويُؤكل إذا أراد ذلك أهله ، ولا حاجة إلى ذبحه. انتهى من الصيد ونحوه .
عقد بابا للأيمان والنذور، يقول: "الأيمان" : جمع يمين، وهي الحلف بالله تعالى، أو بصفة من صفاته، أو اسم من أسمائه، لا تنعقد إلا بذلك، ولا يجوز الحلف إلا باسم الله، أو بصفة الله .(2/62)
الحلف بغير الله شرك ، لا ينعقد به اليمين، ولو كان معظما؛ فلا يجوز الحلف بالأبوين، قال - صلى الله عليه وسلم - " لا تحلفوا بآبائكم " " من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت " وقال: " من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك " ولذلك جعلوا الحلف بغير الله من الشرك؛ لهذا الحديث؛ وما ذاك إلا أن الحالف يعظم من حلف به، لا يحلف إلا بما هو عظيم في نفسه، فإن كان بذلك شركا .
ولا بد أن تكون اليمين الموجبة للكفارة على أمرٍ مستقبل؛ الحلف إما أن على يكون أمر ماضٍ، أو على أمر مستقبل، فإذا قال: والله ما قتلت فلانا، فهذه على أمرٍ ماضٍ، فإذا كان كاذبا يعني: هو الذي قتله، فلا كفارة فيها، وتسمى اليمين الغموس؛ تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار، وكذلك لو قال: والله ما أخذت ماله، والله ما عندي له شيء من المال - وهو كاذب - أو: والله ما أعرف فلانا -وهو يعرفه- وقد كذب في ذلك، والله ما هدمت هذا الدار، ولا قطعت هذه الشجرة، ولا ذبحت هذه الشاة - وهو كاذب في ذلك - فهذه تسمى اليمين الغموس، لو كفرها بصيام الدهر، أو كفرها بالصدقة بماله كله لم تُكَفَّر، ويؤمر بالتوبة الصادقة، هذه هي اليمين الغموس.
يُعذر إذا كان ناسيا؛ يُعذر في ذلك إذا كان ناسيا، وتسمى لَغْو اليمين، إذا كان يظن صدق نفسه، فإذا حلف مثلا قال: والله ما رأيت فلانا -وكان قد رآه ولكنه نسي- فإنه معذور، أو: والله ما عندي لفلان شيء، وهو عنده له ولكنه نسي، فهذا أيضا معذور ولا كفارة عليه، وتسمى هذه لغو اليمين، ومن لغو اليمين كلام الاثنين فيما بينهم" لا والله، وبلى والله، لا والله ما تروح، بلى والله تروح، لا والله ما جئت لا والله تجلس، لا والله" هذا يجري على الألسن كثيرا في العصر الحديث، فمثل هذا يرفع عنه { (( ((((((((((((( (((( ((((((((((( (((( ((((((((((((( } .(2/63)
أما اليمين المنعقدة، فهي ما عزم عليه، قال تعالى: { (((((((( (((((((((((( ((((( (((((((( ((((((((((( } { (((((((( (((((((((((( ((((( ((((((((( ((((((((((( } يعني: باليمين التي يحلفها، ويعقد عليها، وتكون على أمر مستقبل فهذه فيها كفارة، فإذا حلف لا يُكَلِّم فلانا، قد عقد قلبه على ذلك، فإن كلمه، فعليه كفارة، وإذا حلف لا يأكل من هذا الطعام، أو لا يركب هذه السيارة، أو لا يدخل هذا البيت مثلا، أو لا يلبس هذا الثوب، أو لا يسافر في هذا الشهر، أو نحو ذلك، واحتاج إلى فعل ذلك، فإن هذه يمين منعقدة تدخلها الكفارة، فعليه أن يُكَفِّر. إذا فعل ما حلف عليه وجبَت عليه الكَفِّارة، قال تعالى: { ((((((((((((((( ((((((((( (((((((( (((((((((( (((( (((((((( ((( ((((((((((( ((((((((((( (((( (((((((((((( (((( ((((((((( (((((((( } هذه الثلاث مُخيَّز فيها، إما أن يعتق رقبة، وإما أن يطعم عشرة مساكين، وإما أن يكسوهم، أما الإطعام، فإنه يكون من أوسط الطعام ، من أوسط طعام أهله ، إذا كان مثلا أكثر طعام أهله الأرز واللحم أطعم منه.(2/64)
إذا كان أكثر طعام أهله البُرُّ أطعم منه، إذا كان أكثر طعام أهله اللحم أطعم منه، { (((( (((((((( ((( ((((((((((( } لا من الأعلى ولا من الأردأ، يُخيَّر بين العِتْق والإِطعام والكسو ة، { ((((( (((( (((((( } - لفقره - { ((((((((( ((((((((( ((((((( } وفي قراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" فلذلك يتأكد أن يصومها متتابعة، وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فكفِّر عن يمينك، وائت الذي هو خير " وفي ذلك أيضا حديث أبي موسى: " إني لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا كَفَّرْتُ عن يميني، وأتيت الذي هو خير " فإذا حلفت ألّا تكلم أخاك أليس هذا حراما ؟ كفِّر عن يمينك، وكلِّمه، وإذا حلفت ألا تزور فلانا، وله حق الزيارة فكفِّر عن يمينك، وائت الذي هو خير، ولا تقل: إنني قد حلفت، افعل الخير وكفِّر عن يمينك، وكذلك إذا حلفت أن لا تبرّ فلانا، أو لا تجيب دعوته مثلا، أو حلفت ألا تتصدق في هذا اليوم، ورأيت من هو مستحق للصدقة كفِّر عن يمينك وتصدّق. حلفت مثلا أن لا تتطوع بهذا اليوم، تطوع على صدقة، أو على صلاة، أو نحوها، أو حلفت ألا تصوم في هذا الشهر، ورأيت مثلا أن الصيام فيه فاضل، أو نحو ذلك، فإنك تكفر عن يمينك، وتفعل الذي هو خير. وفي الحديث " من حلف على يمين، فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه " لأن هذا استثناء، قوله: إن شاء الله، يعتبر استثناء، فلا تنعقد اليمين، فإذا لم يقل: إن شاء الله ، فإنه يلزمه الكفارة، فقوله تعالى: { (((( ((((((((((( ((((((((((((((( ((((((((((( (((( (((( ((((((((((((( (((( } لم يقولوا: إن شاء الله، حلفوا أن يصرموا بستانهم مصبحين، ولم يقولوا: إلا ما شاء الله، أو إلا أن يشاء الله، أو إن شاء الله، فجعل الله هذا ذنبا { (((( ((((((((((((( (((( } .(2/65)
وقال تعالى: { (((( ((((((((( (((((((((( (((((( ((((((( ((((((( ((((( (((( (((( ((( (((((((( (((( } لا تقل: سأسافر غدا، قل: إن شاء الله، أو قل: إلا أن يشاء الله، أو نحو ذلك.
يُرجَع في الأيمان إلى نيَّة الحالف، لو مثلا أنه حلف أن يقضي فلانا بعد خمسة أيام دينه، إذا مثلا أمسك، وقال: اقضني دَيْني، فقال: والله إني أعطيكه في اليوم الخامس، أو في يوم الجمعة مثلا ثم قضاه قبله هل يحنث؟ ما يحنث؛ لأنه ما أراد إلا السرعة، نيته بهذه اليمين أنه يسارع، فلا حنث عليه لوجود النية، يُرجع فيها إلى نيته، فإذا قال مثلا: والله لا أكلم فلانا، وأراد بالكلام هنا الكلام السيئ السباب ونحوه، ورد السلام، فإنه لا يحنث، يُرجَع إلى نيته، وكذلك إذا قال: والله لا أطعم لفلانٍ لقمة ثم أخذ منه هدية، أو نحو ذلك، فإنه يحنث؛ وذلك لأنه أراد بذلك قطع مِنَّته، يرجع إلى السبب الذي هيّج اليمين، الذي هيّج اليمين مثلا يعتبر سببا، ويرجع فيها إليه، فمثلا إذا خاصمه أحد فقال: أنت الذي فعلت، وأنت الذي فعلت، فغضب عليه ثم حلف ألا يدخل بيته، أو نحو ذلك، أو قال مثلا: والله لا أدخل هذا البيت، ولأجل أن صاحبه قد شاغبه، أو نحو ذلك، قُدِّر مثلا أن صاحب البيت انتقل، وسكن في بيت آخر لا يدخل البيت الثاني؛ لأنه ما هيّج اليمين إلا صاحب البيت، أما البيت الذي ليس هو فيه فلا ذنب له، يُرجَع إلى ما هيّج اليمين، ثم إلى اللفظ الدالّ على النية والإرادة، اللفظ الدالّ على النية، فإذا حلف أنه لا يأكل مثلا من لحم هذه السَّخْلة، ثم إن السَّخْلة أصبحت شاة، فهل يأكل من لحمها ؟ لا يأكل؛ لأنها نفس العين التي حلف عليها، أو مثلا: والله لا آكل من بُسر هذه النخلة، أو من رطب هذه النخلة، ثم أصبح تمرا، أو خلا، يحنث؛ لأنه عيّن النخلة مثلا، أو قال -مثلا-: والله لا ألبس هذا الثوب -هذا القميص- ثم إن القميص شُقِّق وجُعل سراويل، لا يلبسه؛ لأنه عيّنه.(2/66)
اللفظ الدالّ على النية والإرادة؛ يستثنى من ذلك الدعاوى؛ فإنه يرجع فيها إلى نية المسُتحلف، المستحلف هو صاحب حق، فإذا قال -مثلا- احلف ما لك عندي شيء، فحلف وقال: والله ما لك عندي شيء، وقال في قلبه: نيتي المال، لا نيتي المختص -كلمة شيء تختص بالمال مثلا، ولا تدخل في الحقوق، ولا يدخل فيها حق القذف ولا غير ذلك، وهو صاحبه أراد أن يحلف على الجميع، فإنه يحنث، ويعتبر فاجرا إذا حلف ولو تعوّذ، انتهى من اليمين انتهى من الأيمان وبدأ في النذور.(2/67)
عقد النذر مكروه؛ النذر - تعريفه-: أنه إلزام المكَّلف نفسه ما ليس واجبا عليه شرعا "إلزام المكَّلف": يُخرج السفيه والمجنون، "ما ليس واجبا عليه" يُخرج ما يجب عليه، فإذا قال مثلا: لله علىّ أن أصوم رمضان، أنت ملزم به؛ لأن هذا أمر شرعي، أو: لله عليّ أن أصلي الصلوات الخمس، لا يُسمَّى هذا نذرا، أما إذا ألزم نفسه بشيء من النوافل، فإنه يلزمه، فإذا قال مثلا: لله عليّ أن أصوم في هذا الشهر ثلاثا، أصبح لازما له، أو: لله علىّ أن أعتكف في هذا المسجد غدا، فإنه يلزمه، إلا أنه يجوز أن يعتكف في مسجد آخر كما تقدم، أو قال: لله عليّ أن أصلي في هذا اليوم عشر ركعات تطوعا، لله علىّ أن أتصدق في هذا اليوم بمائة على المساكين، هذا يعتبر نذرا. عقد النذر مكروه، ففي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النذر، وقال: " إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل " يعني: أنه لا يُغيِّر القدر، ولا يغير شيئا مما في علم الله تعالى، ولا يقرِّب البعيد ولا يُبعد القريب، بل المكتوب حاصل، فالذي يقول مثلا: لله عليّ إذا شُفيت من هذا المرض أن أُعتق عبدا، أو أتصدق بمائة، أو بألف يقال: تصدق ولا تنذر، الشفاء وإن كان مقصودا، فليس نذرك هو الذي يصير سببا في شفائك، أو قال مثلا: لله عليّ إن نجحت أن أتصدق بمائة مثلا، أو أن أصوم يوما، أو نحو ذلك، ليس النذر هو الذي سبَّب نجاحك، النجاح له أسباب غير النذر، وما أشبه ذلك، وهذا معنى قوله: " يستخرج به من البخيل " كأنه كان بخيلا لولا أنه نذر ما صام، ولا تصدق ولا أعطى: فهذا معنى " يستخرج به من البخيل " فإذا عقده على برّ وجب الوفاء به، عقده على برّ كأن يقول.. كأن ينذر ثلاثا، فيجب الوفاء به، أو صياما فيجب الوفاء به، أو صدقة فيجب الوفاء به، وجب الوفاء به لقوله: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " .(2/68)
أما إذا كان النذر على مباح، أو جاريا مجرى اليمين كنذر اللِّجاج والغضب، ففيه الكفارة، نذر المباح كأن يقول: لله علىّ إن نجحت أن أشتري ثوبا بمائة مثلا، أو أن أستأجر بيتا بعشرين ألفا مثلا، أو أن أشتري سيارة بثلاثين ألفا، وكذلك لو قال: إن ربحت في هذه التجارة، فلله عليّ أن لا آكل إلا لحم سمك مثلا، أو ألا آكل اللحم إلا مشويا، أو نحو ذلك، هذا يعتبر نذرا مباحا، له الخيار، إما أن يفعله، وإما أن يكفِّر كفارة يمين، كذلك نذر اللّجاج والغضب، اللّجاج والغضب هو مثلا أن يحصل بينه وبين أهله خصومة، بينه وبين امرأته، أو بينه وبين أبويه، أو نحو ذلك فيقول مثلا -من شدة الغضب-: إن ركبت هده السيارة، فعليّ مائة مثلا، أو إن دخلت هذا البيت -من شدة الخصومة- فعليّ صيام الدهر، أو نحو ذلك، ما قصد بذلك البر ولا قصد الطاعة، ولكن من شدة الغضب، من شدة الغضب ومن شدة الحقد على الذين خاصموه، فيكفيه كفارة يمين، هذا نذر اللّجاج والغضب.
كذلك نذر المعصية، لا يجوز الوفاء به، نذر المعصية هذا محرم، فإذا قال مثلا: لله عليّ إن نجحت أن أشرب الخمر يوميا مثلا ، أو: أن أقتل فلانا البريء مثلا، أو أن أتعامل بالربا مع فلان، أو فلان، إن نجحت مثلا، أو إن ربحت، أو نحو ذلك، أو إن شفيت، نذر المعصية حرام، أيّا كانت المعصية، أن يزني مثلا بفلانة، أو أن يفعل فاحشة، أو أن يسب، أو يقذف، أو ما أِشبه ذلك، فهذا حرام، ما يجوز الوفاء به " من نذر أن يعصي الله ، فلا يعصه " . وفيه كفارة يمين إذا لم يوفِ به، ويحرم الوفاء به للمعصية، أما إذا أراد به اللّجاج والغضب، فلا كفارة عليه، وكذلك المباح، وأما المعصية، فحرام الوفاء به.
ابتدأ في كتاب الجنايات(2/69)
يقول: الجنايات هي التعديات، التعدي على النفس، أو على المال، أو على العِرض تسمى جناية؛ جنى فلان على فلان يعني: تعدى عليه بقتلٍ، أو قطع عضو، أو نحو ذلك، القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام، إذا كان قتلا بغير حق، أما القتل بحق كالقصاص، أو الحد، أو نحو ذلك فله حكم. القتل بغير حق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: العمد، وشبه العمد، والخطأ.(2/70)
العمد: العدوان؛ أن يقتله بجناية تقتل غالبا، مثل أن يطعنه بسكين مثلا، أو يخدشه بحجر، يخدش رأسه مثلا، أو يخدش صدره، أو يضربه بكفه، مع قلبه مثلا، أو مع حلقه، أو مع مثانته يعني: ضربا يسبب القتل، أو مثلا يلقيه في بئر، أو يخنقه حتى يموت، الحاصل أنه تعمد قتله، فيسمى هذا عمدا عدوانا، جناية تقتل غالبا، فحينئذ الولي له الخيار بين القتل والدية لهذا الحديث: " من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين؛ إما أن يقتل وإما أن يفدي " يدِيه، له الخيار لقوله تعالى: { (((((( (((((((((( ((((((((((( ((( ((((((((((( (((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((( (((((( (((((( ((((( (((( (((((( (((((( (((((((((((( ((((((((((((((( } إذا عفا، وطلب الدية فعليه أن يتبعه بالمعروف، وألا يماطل بالدِيَّة، دية القتل العمد فيها زيادة الخُمُس عن دية الخطأ، وقد يصطلحون على أكثر منها على أكثر من الدِيَّة، يوجد الآن إنسان قاتل من خمس سنين، ولا يزال مسجونا، وقد بذل أهله سبعة ملايين فداءا له، ولكن أهل القتيل لم يقبلوا، يريدون قتله، لهم ذلك، لهم أن يقتلوه لقوله: { (((((( (((((((((( ((((((((((( ((( ((((((((((( } { (((( ((((((((( ((((((((((( } فيُسمَّى بذل المال صلحا عن دم؛ وذلك لأنه يشتري نفسه، أو يشتري أهله كأنهم يقولون: نفدي ولدنا بكل ما نملك، أو ننقذ حياته، فلهم أن يشتروه، ولو بأضعاف أضعاف الدِيَّة، هذا يسمى الصلح عن دم، فالحاصل أن القتل العمد يستحق القاتل أن يُقتل، فإن طلبوا الدية من الأصل إذا طلب أحدهم الدِيَّة، فقالوا: لا حاجة لنا في قتله، فدِية العمد أكثر من دية الخطأ.(2/71)
النوع الثاني: شبه العمد، وهو أن يقصد أن يتعمد الجناية عليه بما لا يقتل غالبا، يقولون: علامته أن يقصد الضرب، ولا يقصد القتل، هذا شبة العمد، يتعمد الضرب، ولكن ما يظن أن هذا سيقتل ضربه بعصا خفيفة، لا تقتل غالبا لكن قُدِّر أنها قتلته، قُدِّر أنه تألم منها ومات، أو ضربه بيده ضربة عادية ، لكن قُدِّر أنه مات منها، ودليل ذلك قصة الهذيلتين:
أن امرأتين كانتا تحت رجل -ضرّتين- فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط، عمود خيمة التي تجعل عند الباب، ضربتها، قذفتها بها، وفي رواية: " بحجر، فقتلتها وما في بطنها فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ديتها على عاقلتها " يعني: ديتها -جعلها شبة العمد- على العاقلة، " وجعل في جنينها غرة: عبدا، أو أمة، فقال وليها: كيف نفدي من لا أكل ولا شرب، ولا استهل، فمثل ذلك يُطَلّ فقال - صلى الله عليه وسلم - إنما هذا من إخوان الكهان " الحديث مشهور.
فالحاصل أن شبه العمد: هو أن يتعمد الضرب، ولا يريد القتل، فلا قصاص وإنما فيه الدِيَّة، وتكون الدية أيضا مغلظة مثل دية العمد.
الثالث: الخطأ، وهو أن تقع الجناية منه بغير قصد، بمباشرة، أو سبب، فإذا رمى صيدا، فأصاب إنسانا، فهذا خطأ مثلا، ومثلها حوادث السيارات، إذا كان يمشي مثلا واصطدم إنسانا ما تعمده، فهذا أيضا خطأ، أو كان مثلا يقود السيارة، فأسرع بها مثلا، أو خاطر، فحصل اصطدام وانقلاب، فهذا أيضا يعتبر من الخطأ، ومثله جميع أنواع الخطأ، لو مثلا حفر حفرة في الطريق، فسقط فيها أعمى، فمات، فإنه يدِيه، أو وضع حجارة في طريق - طريق ضيق- فجاء إنسان غافل ، فعثر به فمات بسببه، فإن عليه الدِيَّة، هذا الذي قتله، وأشباه ذلك.(2/72)
ففي الأخيرين لا قود: شبه العمد والخطأ، بل فيه الدية والكفارة، أما الدية ففي مال القاتل، وهي تحرير رقبة مؤمنة، قال تعالى: { ((((( (((((( ((((((((( ((((((( ((((((((((( (((((((( (((((((((( (((((((( (((((((((( (((((( (((((((((( (((( ((( ((((((((((( } الدية على العاقلة، عاقلة الرجل أقاربه، إخوته، وأعمامه، وبنو أعمامه، وأعمام أبيه وبنوهم وبنو بنيهم، وأعمام جده، وبنوهم، وبنو بنيهم، وأعمام جد أبيه، وبنوهم، وبنو أبيهم، ونحو ذلك إلى الجد الخامس، أو السادس توزع بينهم هذه الدِيَّة، وتفرق عليهم على ثلاث سنين حتى لا تجحف بأموالهم؛ وذلك لأن شأن العاقلة أنهم يتحامون، وأن بعضهم يرفض بعضا، فلو أوجبناها في ماله، وهو غير متعمدٍ لأضرت به، فكان العاقلة عليهم أن يساعدوه، ولو أوجبناها عليهم دفعة واحدة لكان فيها ضرر عليهم، فجعلت عليهم مفرقة كل سنة يدفعون ثلثها.
وقوله: قريبهم وبعيدهم؛ البعد حُدّد بأنه في الجد الخامس، أو السادس على حسب كثرتهم وقلتهم، توزع عليهم بقدر حالهم، وإذا كان بعضهم أحسن حالا من بعض، فإنه يُزاد عليه، إذا كان هذا مثلا غنيا، وهذا فقيرا، فهذا يُجعل عليه ناقة وهذا ناقتان، أو نحو ذلك، تؤجل عليهم ثلاث سنين كل سنة يحملون ثلثها، هذا في دية الخطأ، وكذلك دية شبه العمد، في حديث عبد الله بن عمرو وغيره من الأحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " فرض الدية مائة من الإبل " دية شبه العمد: منها أربعون في بطونها أولادها، يعني: أربعون لقحة، وفي حديث آخر أنه جعلها خمسا، خمسة أقسام: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابن لبون، هذه دية الخطأ، فدية العمد، أو دية شبة العمد(2/73)
يقول: إنها عشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وأربعون خليفة؛ فثمنها أكثر. قدرت الدِيَّة، كنا - يعني - أدركناها، والدية ثمانمائة ريال فرنسي، قبل خمسين سنة، ثمانمائة، وكانت ثمانمائة في ذلك الوقت تقاوم مائة من الإبل، الإبل رخيصة، ثم ارتفع سعر الإبل، فجُعلت ثمانية آلاف، ثم ارتفع سعرها فوصلت إلى ستة عشر، ثم ارتفع سعرها، فوصلت إلى أربعة وعشرين ألفا إلى حدود عام ثلاث وتسعين، ثم رفعت إلى أربعين ألفا، ثم قبل عشر سنين قررت بأنها مائة، مائة ألف؛ وذلك لأنهم نظروا وإذا قيمة الإبل لا تقل الواحدة عن ألف، سواء بنت لبون، أو جذعة، أو حقة لا تقل عن ألف، فتتراوح على أنهت ألف، فجعلوها مائة من الإبل.(2/74)
الدية للماشية وغيرها: قد فصلت في حديث عبد الله عمرو بن خرم، الحديث الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما أرسله إلى نجران، كتب له تفاصيل الدِيَّات، " إن من اعتبط - يعني: تعمد - مؤمنا قتلا عن بينة " اعتبط يعني: تعمد، وقتل " مؤمنا قتلا عن بينة " يعني: قامت عليه البينة والشهود " فإنه، قود قصاص إلا أن يرضى أولياء المقتول فإن رضوا فلهم الدية " ثم قال: " إن في النفس الدية مائة من الإبل " إذا قُتل فإن فيه مائة من الإبل، ثم ذكر الأعضاء أن فيها أيضا دية " وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية " كاملة إذا قطع الأنف وحده من المارن، مارن الأنف ما لان منه، إذا قطع، فإن فيه الدية كاملة؛ وذلك لأنه .. ولو كان ليس فيه منفعة إلا الجمال، لكن جماله واضح " وفي اللسان الدية " اللسان منافعه كثيرة؛ الكلام وإصلاح الأكل وذوق الطعم، ففيه الدية " وفي الصلب الدية " " وفي الشفتين الدية " الشفتان أيضا منافعهما كثيرة، فإذا قطعت إحداهما ففيها نصف الدِيَّة، وفي الثنتين الدِيَّة، ويقول بعضهم: بل السفلي فيها الثلثان؛ لأن منفعتها أكثر، الشفة السفلي، والشفة العليا فيها الثلث، والمشهور أنهما نصفان " وفي الذكر الدية " لا شك أنه منفعته عظيمة، فإذا قُطع من أصله، ففيه الدِيَّة، " وفي البيضتين الدية " الخصيتين؛ لأنهما أيضا علامة الرجولة وسببها " وفي الصُّلب الدية " إذا كُسِر ظهره، ولم ينجبر ففيه الدِيَّة.(2/75)
" وفي العينين الدية " العينين، وفي إحداهما نصف الدية " وفي الرجل الواحدة نصف الدية " وفي الرجلين الدِيَّة، وكذلك في اليدين، إذا قُطعت اليدان ففيهما الدِيَّة، وإذا قُطعت إحداهما، فنصف الدِيَّة، والأصابع: إذا قُطعت الأصابع العشرة، ففيها الدِيَّة، وكذلك أصابع الرجلين إذا قطعت العشرة ففيها الدية كاملة، وفي الإصبع الواحد عشر من الإبل، ولا فرق بين الأصابع، ولو كانت الإبهام فيها أكثر، فمعلوم أن منفعة الإبهام أكثر من منفعة الخنصر، ومع ذلك ورد الشرع بأن في الإصبع الدِيَّة، " وفي المأمومة ثلث الدية "
المأمومة: هي الشجّة التي تصل إلى أم الدماغ، إذا شجّه، يعني: ضربه، قرع اللحم وكسر العظم، وخرقه إلى أن وصلت الشجة إلى أم الدماغ، فهذه غالبا أنه لا يعيش، ومع ذلك إن عاش، ففيه ثلث الدية وإن مات، ففيه الدية " وفي الجائفة ثلث الدية " .(2/76)
الجائفة: هي التي تخرق الجوف، التي إذا طعنه مثلا إلى بطنه وخرق إلى الأمعاء، فهي جائفة، ولو برأس السكين، فهي جائفة، وإذا طعنه من أمامه بسكين مثلا، أو بسهم ثم نفذ السهم من خلفه فجائفتان؛ لأن هذه تعتبر جائفة، والأخرى جائفة، فالجائفة التي تصل إلى الجوف قالوا مثلا: لو طعنه في حلقه وصل إلى جوف الحلق إلى المريء، تعتبر أيضا جائفة؛ لأن المريء ملحق بالجوف، وكذلك في النحر، لو وصل إلى مجرى الطعام في النحر، فهي جائفة. " وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشرُ من الإبل ، وفي السن خمس من الإبل " مكتوب في هذه النسخة خمس عشرة ، وهو خطأ، السن فيها خمس من الإبل، والصحيح أن الأسنان كلها تتساوى، فإذا قلعت الأسنان كلها ففيها الدِيَّة، وإذا قُلع سنا واحدة ففيه خمس، فإذا قُلع منها عشرون سنا، فالزائد ليس فيه شيء، وذلك أن أسنان الإنسان إذا تكاملت اثنان وثلاثون سنا، أربعة الثنايا، وأربعة الرباعيات، وأربع الأنياب، وعشرون الطواحن، هذه اثنان وثلاثون، فإذا قُلع منها سن، فخمس من الإبل، واثنان عشر، وعشرة أسنان خمسون من الإبل، عشرون سنا مائة من الإبل، اثنان وعشرون مائة من الإبل، خمسة وعشرون مائة من الإبل، ثلاثون مائة من الإبل اثنان وثلاثون مائة، ما يزيد؛ وذلك لأنها لا تزيد عن الدية الكاملة. " وفي الموضحة خمس من الإبل "
الموضحة: هي الشجة التي توضح العظم، الشجة التي في الوجه، أو التي في الرأس إذا وصلت إلى العظم، قرعت العظم، ولكن العظم لم ينكسر تسمى موضحة، ففيها خمس من الإبل، فإن كسرت العظم ، فإنها تسمى هاشمة، وعلاقتها أنه إذا مسحت بالميل، فإن الميل يقف في كسور العظم، هذه تسمى هاشمة، فيها عشر من الإبل، فإذا أزالت العظام، ولكنها لم تصل إلى المأمومة سميت منقلة، ففيها خمس عشرة من الإبل، فالموضحة التي توضح العظم، والهاشمة التي تكسره ولا تخرفه، والمنقلة التي تنقل عظامه، ولا تصل إلى المأمومة.(2/77)
لعموم قوله تعالى: { (((( ((((((((( ((((((((((( } ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل ذلك اليهودي الذي رضّ رأس جارية على أوضاح لها وعلى أهل الذهب ألف دينار كانت الألف دينار في ذلك الوقت تساوي مائة من الإبل، فعليهم ألف دينار، وأما الدراهم فإنها كانت تساوي اثني عشر ألف درهم؛ فلذلك قال بعضهم: إنها خمسة أصول، من الذهب ألف، من الفضة اثنا عشر ألفا، من الإبل مائة من الإبل، من البقر مائتان، من الغنم ألفان، هكذا وردت، والصحيح أنه تقدر بالإبل، ترتفع بارتفاع الإبل وتنخفض بانخفاضها.
يشترط في القصاص كون القاتل مكلفا، والمقتول معصوما ومكافئا للجاني في الإسلام والرق والحرية؛ لما انتهى من الدية جاء إلى القصاص، القصاص هو أن يُقتل القاتل بمن قتله، فلا بد أن يكون القاتل مكلفا: فإذا كان القاتل مجنونا، أو صبيا فلا قصاص، وإنما هي الدِيَّة. والمقتول معصوما: فإذا كان المقتول حربيا، فلا قصاص، أو قاطع طريق، قتله لقطع الطريق، أو زانيا محصنا، قتله فليس بمعصوم، ولا بد من المكافأة: المكافأة للجاني في الإسلام والرق والحرية، فلا يقتل المسلم بالكافر؛ لأنه ليس كفوءا له، ولو كان ذميا، ولو كان مُعاهدا، ولو كان مُستأمنا، فإذا قُتل أحد الكفار الآن قتله مسلم، ففيه الدية والكفارة، وليس فيه قصاص؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث علي: وألا يقتل مسلم بكافر ولا الحر بالعبد؛ وذلك لأن العبد متقوم فيه قيمته، فإذا قُتل العبد، فإن سيده يطالب بالدِيَّة، بالقيمة، لكن يجوز قتله -قتل القاتل- تعزيرا وعقوبة. وألا يكون ولدا للقاتل فلا يقُتل الأبوان بالولد، هنا قال: ولدا للمقتول، والصحيح: ألا يكون ولدا للقاتل، ألا يكون المقتول ولدا للقاتل؛ فإذا كان المقتول ولدا للقاتل فلا قصاص، فلا يُقتل الوالد بولد، ولو عمدا.(2/78)
ذكرنا لكم بالأمس قصة قتادة المدلجي؛ فإنه قتل ولده ولم يرثه، ولم يقتله عمر به، وكذلك الأم والجد والجدة، لا يقتل كل منهما بولده، أو بولد ولده؛ لهذا الحديث لا يُقتل والد بولده ولا بد من اتفاق الأولياء المكلفين، فإذا قال أحدهم: أنا أعفو، الأولياء مثلا أولاد المقتول، خمسة رجال وخمس نساء، إحداهن قالت: أنا قد عفوت عن نصيبي، لا أريد القصاص سقط القصاص، ولو ما لها إلا سهم من خمسة عشر سهما، أو قالت: أنا أريد حقي من الدية سقط القصاص، أما إذا اتفقوا كلهم، رجالهم ونساؤهم، على طلب القصاص، فإنه يقتص منه. ولا بد من الأمن من التعدي في الاستيفاء، فإذا كان القاتل امرأة حاملا، فلا تُقتل حتى تضع؛ لأنا إذا قتلناها تعدينا على الجنين، والجنين ليس له ذنب، أبوه يقول: ولدي كيف يذهب علي، فتُترك حتى تلد.
وكذلك القصاص في الأطراف، مثلا أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف، وما أشبه ذلك، فلو مثلا أنا إذا أردنا قطع يده، كان في ذلك خطر على نفسه، فلا تقطع يده إلا بعد الأمن من الاستيفاء، الأمن من التعدي.
وتُقتل الجماعة بالواحد: روي أن -شابا- في عهد عمر - رضي الله عنه - كانت امرأة غاب زوجها في صنعاء، وترك ولدا له غلاما، يعني: في نحو العشرين سنة، أو الخمسة عشر، ثم إنها استدعت أناسا يفجرون بها، وخافت أنه يدل عليها، فقالت لهم: اقتلوه، فقتلوه وألقوه في بئر، وهم سبعة، فجاء الخبر إلى عمر - رضي الله عنه - وعثر عليه، وعند ذلك أُمسكوا وعُرفوا أنهم القاتلون، فقال عمر - رضي الله عنه - لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، فأمر بالسبعة أن يُقتلوا بهذا الغلام.(2/79)
فأخذوا منه أنه يُقتل الجماعة بالواحد؛ وذلك حتى لا يكون حيلة، لو لم يقتل إلا واحد لاتخذه الناس حيلة، أو لو لم يقتل منهم أحد، لاشتركوا مثلا عشرة في قتل إنسان، هذا طعنه طعنة صغيرة، وهذا طعنة، وهذا طعنة، وهذا طعنة عشر طعنات مات منها، ولا يُدْرى من أي طعنة يُقتلون كلهم؛ لأنهم تعمدوا القتل.
ويقاد كل عضو بمثله، كل عضو بمثله، فالعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن، والإصبع بالإصبع، واليد باليد، والرجل بالرجل وأشباه ذلك. كل عضو يقابل بمثله بلا تعد، يعني: بلا ضرر، فمثلا إذا أردنا أن نقلع العين، وخفنا مثلا أنها تتسمم؛ فتؤدي إلى الموت فلا، وكذلك مثلا إذا أردنا أن نجدع الأنف، فلا بد أن يكون من محلٍّ محدد حتى لا يحصل التعدي، وكذلك الشفة بالشفة مثلا، واللسان باللسان إذا أُمن التعدي، أن النفس بالنفس، والعين بالعين إلى آخره.
دِية المرأة على النصف من دية الرجل إلا فيما دون ثلث الدية، فهما سواء ذكروا أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن سأل بعض علماء أهل المدينة، قال له: كم دية إصبع المرأة ؟ قال: عشر، قال: فكم دية إصبعين ؟ قال: عشرون، قال: فكم دية ثلاثة أصابع ؟ قال: ثلاثون، قال: فكم دية أربعة أصابع؟ قال: عشرون لماذا ؟ لأنه تجاوزت ثلث الدية، فكانت على النصف، لأن أربع أصابع من الرجل فيها أربعون، ومن المرأة فيها عشرون وهكذا، فإذن دية عينها فيها نصف الدِيَّة، يعني: لو -مثلا- قلنا: فيها نصف الدية لو أوجبنا فيها خمسين؛ لكانت مثل دية الرجل، فنجعل فيها نصف دية الرجل، خمس وعشرون، وهكذا بقية الجوارح، ونكتفي بهذا، نقف على الحدود.
بقى عندنا الحدود والقضاء والإقرار، نقرؤها غدا -إن شاء الله- بعد المغرب إلى العشاء، والله وأعلم، وصلى الله على محمد. السلام عليكم ورحمة الله بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد.(2/80)
نكمل الباقي -إن شاء الله- في هذه الليلة في هذا الدرس، ونعرف أن الكتاب، وإن احتوى على أبواب الفقه التي هي الكتب، فإنه يعتبر مختصرا، لا يغني عن قراءة الكتب الأخرى، فتعرف أن كتبا مطولة منها ما يصل إلى عشرين مجلدا كالمجموع شرح المهذب، ومنها ما وصل إلى خمسة عشر كالمغني في طبعته الأخيرة، ومعلوم أن الموضوع واحد، وهو ما يتعلق بالأحكام، وما يتعلق بالأوامر والنواهي، وما يتعلق بالحلال والحرام، وما يتعلق بالعبادات والجنايات والعقود، وما أشبهها، ولكن اقتصر الشيخ ابن سعدي على المهم، والذي يحتاج إليه كثيرا، وفيه البركة والكفاية لمن فقهه، وفتح الله عليه.
والآن نقرأ باقي الأبواب:
كتاب الحدود
بسم الله الرحمن الرحيم(2/81)
وقال رحمه الله: كتاب الحدود: لا حد إلا على مكلف عالم بالتحريم ولا يقيمه إلا الإمام، أو نائبه، إلا السيد؛ فإن له إقامته بالجلد، خاصة على رقيقه، وحد الرقيق في الجلد نصف حد الحر، فحد الزنا، وهو فعل الفاحشة في قبل، أو دبر، إن كان محصنا، وهو الذي قد تزوج ووطئها، وهما حران مكلفان، فهذا يرجم حتى يموت، وإن كان غير محصن، جلد مائة جلدة، وغرب عن وطنه عاما، ولكن بشرط أن يقر به أربع مرات، أو يشهد عليه أربعة عدول: يصرحون بشهادتهم، قال تعالى: { (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((( (((( ((((((( (((((((((( (((((((( (((((((( } وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ، ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم " رواه مسلم، وآخر الأمرين: الاقتصار على رجم المحصن، كما في قصة ماعز والغامدية، ومن قذف محصنا بالزنا، وشهد عليه به، ولم تكمل الشهادة، جلد ثمانين جلدة، وقذف غير المحصن، فيه التعزير، والمحصن: هو الحر البالغ المسلم العاقل العفيف، والتعزير واجب في كل معصية، لا حد فيها ولا كفارة، ومن سرق ربع دينار من الذهب، أو ما يساويه من المال من حرزه، قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت، فإن عاد قطعت رجله اليسرى من مفصل الكعب وحسمت، فإن عاد حبس، ولا يقطع غير يد ورجل قال تعالى: { (((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((((( ((((((((((((( } وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعدا " متفق عليه.(2/82)
وفي الحديث " لا قطع في ثمر ولا كثر " رواه أهل السنن، وقال تعالى في المحاربين: { ((((((( ((((((((( ((((((((( (((((((((((( (((( (((((((((((( (((((((((((( ((( (((((((( (((((((( ((( (((((((((((( (((( (((((((((((( (((( (((((((( ((((((((((( ((((((((((((( ((((( ((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((( } وهم الذين يخرجون على الناس، ويقطعون الطريق عليهم بنهب، أو قتل، فمن قتل وأخذ مالا قتل، وصلب، ومن قتل تحكم قتله، ومن أخذ مالا، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن أخاف الناس، نفي من الأرض، ومن خرج على الإمام يريد إزالته عن منصبة، فهو باغ.
وعلى الإمام مراسلة البغاة، وإزالة ما ينقمون عليه مما لا يجوز، وكشف شبههم، فإن انتهوا كف عنهم، وإلا قاتلهم. وعلى رعيته معونته على قتالهم، فإن اضطر إلى قتالهم، أو إتلاف مالهم، فلا شيء على الدافع، وإن قتل الدافع كان شهيدا. ولا يتبع لهم مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يغنم لهم مال، ولا يسبى لهم ذرية، ولا ضمان على أحد الفريقين، فيما أتلف حال الحرب من نفوس، أو أموال .
باب حكم المرتد: والمرتد هو من خرج عن دين الإسلام إلى الكفر بفعل، أو قول، أو اعتقاد، أو شك، وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- تفاصيل ما يخرج به العبد من الإسلام، وترجع كلها إلى جحد ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو جحد بعضه، فمن ارتد استتيب ثلاثة أيام، فإن رجع، وإلا قتل بالسيف .
كتاب القضاء والدعاوى والبينات وأنواع الشهادات:(2/83)
والقضاء لا بد للناس منه، فهو فرض كفاية يجب على الإمام نصب من يحصل به الكفاية، ممن له معرفة بالقضاء، بمعرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها على الوقائع الجارية بين الناس، وعليه أن يولي الأمثل فالأمثل بالصفات المعتبرة في القاضي، ويتعين على من كان أهلا، ولم يوجد غيره، ولم يشغله عمن هو أهم منه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " وقال: " إنما أقضي بنحو ما أسمع " فمن ادعى مالا ونحوه فعليه البينة: إما شاهدان عدلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل، ويمين المدعي لقوله تعالى: { ((((((((((((((((( ((((((((((( ((( (((((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((((((( (((((((( ((((((((((((((( ((((( (((((((((( (((( ((((((((((((( } " وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد مع اليمين " وهو حديث صحيح، فإن لم يكن له بينة حلف المدعى عليه، وبرئ، فإن نكل عن الحلف قضي عليه بالنكول، أو ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف مع نكول المدعى عليه، أخذ ما ادعى به، ومن البينة القرينة الدالة على صدق أحد المدعيين، مثل أن تكون العين المدعى بها بيد أحدهما، فهي له بيمينه، ومثل أن يتداعى اثنان متاعا لا يصلح إلا لأحدهما كتنازع نجار وغيره آلة النجارة، وحداد وغيره آلة حدادة، ونحوها.
وتحمُّل الشهادة في حقوق الآدميين فرض كفاية، وأداؤها فرض عين، ويشترط أن يكون الشاهد عدلا ظاهرا وباطنا، والعدل هو من رضيه الناس لقوله تعالى: { ((((( (((((((((( (((( ((((((((((((( } ولا يجوز أن يشهد إلا بما يعلمه برؤية، أو سماع من المشهود عليه، أو استفاضة يحصل بها العلم في الأشياء، التي يحتاج إليها كالأنساب، ونحوها، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل: " ترى الشمس؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهد، أو دع " رواه ابن عدي.(2/84)
ومن موانع الشهادة: مظنة التهمة كشهادة الوالدين لأولادهم، وبالعكس، وأحد الزوجين للآخر، والعدو على عدوه، كما في الحديث: " لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت " رواه أحمد، وأبو داود وفي الحديث " من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله، وهو عليه غضبان " متفق عليه.
باب القسمة: وهي نوعان: قسمة إجبار، فيما لا ضرر فيه ولا رد عوض، كالمثليات والدور الكبار والأملاك الواسعة. وقسمة تراض، وهي ما فيه ضرر على أحد الشركاء في القسمة، وفيه رد عوض، فلا بد فيها من رضا الشركاء كلهم، وإن طلب أحدهم فيها البيع، وجبت إجابته، وإن أجروها كانت الأجرة فيها على قدر ملكهم فيها، والله أعلم .
باب الإقرار: وهو اعتراف الإنسان بكل حق عليه، بكل لفظ دال على الإقرار بشرط كون المقر مكلفا، وهو من أبلغ البينات، ويدخل في جميع أبواب العلم والعبادات والمعاملات والأنكحة وغيرها، وفي الحديث " لا عذر لمن أقر " ويجب على الإنسان أن يعترف بجميع الحقوق التي عليه للآدميين؛ ليخرج من التبعة بأداء، أو استحلال، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليما كثيرا.
بقي لنا الحدود والقضاء والإقرار.
أما الحدود: فإنها عقوبات الذنوب، وأما القضاء والبينات والإقرار، فهي التي تؤدى بها الحقوق.(2/85)
الحد: عقوبة مقدرة شرعا على ذنب؛ لتمنع من الوقوع في مثله، يعنى: أن الذي قدرها هو الله . مقدرة شرعا، العقوبة إما رجم ، وإما جلد ، وإما قطع، وإما نفي، ونحو ذلك. لا يقام الحد إلا على مكلف، وهو البالغ العاقل، فلا يقام على الصغير ولا على المجنون، وكذلك عالم بالتحريم، لا حد إلا على من علمه، فإذا كان لا يعلم بالتحريم: لا يعلم أن الزنا حرام، فإنه لا يحد عليه؛ وذلك لأنه لم يعرف الحقوق، ولا يقيمه إلا الإمام أو نائبه؛ وذلك لأنه عقوبة شرعية، فيتولى إقامتها الإمام الأعظم، أو نائبه كالأمير والقاضي وما أشبههما، فهو الذي يقطع يد السارق، ويرجم الزاني، ويجلد القاذف وما أشبههم إلا السيد (سيد العبد)؛ فإن له إقامته بالجلد خاصة على رقيقه؛ لأن العبيد ليس عليهم رجم، فإذا كان عليه جلد جلد الزنا، فإنه يقيمه سيده حد الرقيق في الجلد: نصف حد الحر، وحد الحر مائة جلدة في الزنا قال تعالى: { (((((( (((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((( ((( ((((( ((((((((((((((( (((( ((((((((((( } والرجم لا يتنصف، فدل على أنه لا رجم على الزاني الرقيق، الذي يتنصف هو الجلد في قوله: { ((((((((((((( (((( ((((((( (((((((((( (((((((( (((((((( } حد الزنا
حد الزنا ، الزنا: هو فعل الفاحشة في قبل، أو دبر في قبل يعنى: مع المرأة ، أو دبر مع المرأة الأجنبية، أو مع رجل، والعياذ بالله . وهو اللواط، فعل قوم لوط جعل العقوبتين واحدة عقوبة اللوطي وعقوبة الزاني، وهذا هو المشهور يعني: عند الحنابلة أن عقوبة فاعل الفاحشة اللوطي، أنه مثل الزاني: إن كان محصنا، فإنه يرجم، وإن كان غير محصن، فإنه يجلد، ويغرب والقول الثاني: إن اللوطي يقتل؛ لأنه ورد فيه حديث " اقتلوا الفاعل والمفعول به " وروي عن الصحابة أنهم رأوا إحراقه، وروي عن بعضهم أنه يلقى من شاهق ، من أرفع شاهق في البلد يلقى منه، ثم يرجم تشبيها بعقوبة قوم لوط.(2/86)
المحصن هو الذي قد تزوج زواجا صحيحا، ووطئ امرأته، وهما حران مكلفان هذا المحصن، فإذا تزوج، ولم يدخل بزوجته، فلا يصير محصنا، وإذا لم يتزوج، فلا يصير محصنا، وإذا تزوج ودخل قبل التكليف يعني: قبل البلوغ ، أو في حالة الجنون، فلا يصير محصنا. المحصن إذا زنى زنا واضحا، فإنه يرجم حتى يموت بالحجارة: ينصب، أو يحفر له، ثم يرجم بالحجارة حتى يتألم جميع جسده؛ لأنه لما أنه تلذذ باللذة المحرمة عوقب بأن يعمم بدنه بهذا الألم، هكذا قالوا، وإن كان غير محصن جلد مائة جلدة، وغرب عاما عن وطنه. مائة جلدة يعني: مائة جلدة بعصا متوسطة، والله تعالى يقول: { (((( ((((((((((( ((((((( (((((((( ((( ((((( (((( } ويكون الضرب على مواقع اللحم كالظهر والإليتين والفخذين، ويتقى المقاتل.
والتغريب: أن ينفى عن بلده إلى بلاد بعيده، لا يصل إليه الخبر مدة سنة، ويرى بعضهم أنه إذا خيف فساده، فإنه يسجن بدل التغريب.(2/87)
يشترط في إقامة الحد: أن يقر أربع مرات، يعترف بدون إكراه: أنه زنى أربع مرات، فيقام عليه الحد، أو يشهد عليه أربعة شهود، يصرحون بشهادتهم أنهم رأوه يزني بامرأة أجنبية، أو يفعل الفاحشة برجل، فإذا شهدوا بشهادة رابحة، فإنه يقام عليه هذا الحد يقول الله تعالى: { (((((((((((( ((((((((((( ((((((((((((( (((( ((((((( (((((((((( (((((((( (((((((( } هذا بالنسبة إلى الزنا الذي فيه الجلد، وقالوا: إن هذا خاص بمن لم يحصن، يعني: من هو دون الإحصان، ودليل الإشهاد قوله تعالى: { ((((((((((((((((( (((((((((( (((((((((( (((((((( } يعني: اشترط أن الشهود أربعة، وقوله تعالى: { (((( (((( ((((((((( (((((((((((( (((((((((( } وقوله تعالى: { (((((( ((((((( (((((((( (((((((((((( (((((((((( } يعني: في حد القذف، فدل على أن شهود الزنا وحده أربعة، وقوله تعالى في سورة النساء: { ((((((((((((((( ((( ((((((((((( (((((( ((((((((((((( (((((((((( (((( (((((((( (((( (((((( ((((((( (((( } ثبت في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا " يعني: إشارة إلى الآية: { (((( (((((((( (((( (((((( ((((((( (((( } " قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " هذا الحديث فيه: أن البكر يجلد، وينفى، وأن الثيب يجلد، ثم يرجم، ولكن يقول المؤلف: آخر الأمرين الاقتصار على الرجم، دون أن يسبقه جلد هذا آخر الأمرين، كما في قصة ماعز والغامدية؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بجلدهما، بل أمر برجم كل واحد منهما حتى مات، ولم يقل اجلدوه.(2/88)
وقد رجح بعضهم الجمع بين الجلد والرجم عملا بهذا الحديث، وما روي عن علي - رضي الله عنه - في امرأة يقال لها: شراحة أنه جلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: " جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم " .
ولكن الصحيح أنه يكتفى بالرجم، فإنه أعظم عقوبة رجم حتى الموت. انتهى حد الزنا. حد القذف
بعده حد القذف قال تعالى: { ((((((((((( ((((((((( ((((((((((((((( (((( (((( ((((((((( (((((((((((( (((((((((( ((((((((((((((( (((((((((( (((((((( (((( ((((((((((( (((((( ((((((((( ((((((( } الذي يرمي المحصنات، أو المحصنين الرجال أن يقول: هذه زنت، أو رأيتها تزني، أو رأيت هذا الرجل يزني، أو قد زنى، أو نحو ذلك.
من قذف محصنا بالزنا، وثبت ذلك عليه، ولم يأت بالبينة، يجلد ثمانين جلدة، إذا قذفه وقال: إنه زان، إن هذه زانية. قيل له: البينة، وإلا حد في ظهرك، فإن أتى ببينة: أربعة شهود، وإلا يجلد ثمانين جلدة، لكن بشرط أن يكون المقذوف محصنا، فإذا كان المقذوف ليس بمحصن، بل تلحقه التهم، فلا جلد على من قذفه، ولكن عليه التعزير، فإذا قذف غير المحصن، فليس عليه إلا التعزير دون الجلد.
المحصن: هو الحر البالغ المسلم العاقل العفيف، فإذا قذف أحدا، فلا حد عليه، حد القذف؛ لنقصه معنويا، وإذا قذف صغيرا، يعني: دون البلوغ ، فإنه لا يلحقه عار بذلك؛ وذلك لعدم تكليفه، وإذا قذف الكافر، فلا جلد عليه؛ لكونه ليس أهلا؛ ولأنه لا يتعفف من المنكرات ومنها الكفر، وإذا قذف مجنونا، فلا جلد عليه؛ لأن المجنون لا يلحقه عار؛ لعدم التكليف، وإذا قذف غير العفيف، فلا جلد.(2/89)
العفيف: هو المعروف بالتعفف، الذي لا تلحقه التهم، أما إذا كان هذا المقذوف معروفا بالفسق، ومعروفا بالفجور، وكثيرا ما يهذي، ويتكلم بالفواحش، وكثيرا ما يذكر أنه فعل، وأنه سيفعل، وأنه فعل بفلانة، ويتمدح في المجالس، ونحوها، بأنه فجر وفعل، وتلحقه التهم. يعرف الناس أنه كثيرا ما يدخل على النساء، ويخلو بهن، وهو غيرعفيف، وكثيرا ما يرى أنه يفعل مقدمات الفاحشة، فمثل هذا ليس بعفيف، فإذا قذف، فلا حد جلد في قذفه، ولكن فيه التعزير. حد التعزير
التعزير: واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وتكلم العلماء في التعزير، حتى أفرده بعضهم بالتأليف، فقالوا: كل معصية ليس فيها عقوبة مقدرة، فإن فيها التعزير، حتى ترك الصلوات ومنع الزكوات مثلا، وترك الجماعة مثلا، والسرقة التي لا تبلغ حد النصاب، والخلوة بالأجنبية إذا لم يثبت عليه فعل الفاحشة يعزر، وكذلك -أيضا- الاختطاف والاختلاس، وضرب المسلم بغير حق دون أن يشجه، أو يقطع منه طرفا، وكذلك المعاصي كلها كتعاطي الربا وسماع الأغاني، وما أشبهها.
فالمعاصي فيها التعزير، التعزير يختلف باختلاف الذنب، فقد يبلغ به الذنب يعني: قد يبلغ به القتل أحيانا، فيكون هذا للإمام إذا رأى أن من عقوبته أن يقتل، فله ذلك، وقد يكون التعزير بطرده من وظيفته مثلا، أو بحبسه، أو بجلدات يجلده بها، أو بتنكيله مالا، أو بأفعال يشهره بها كأن يقاد في الأسواق، ويقال هذا شاهد زور، هذا قد شهد زورا، أو نحو ذلك.
كذلك -أيضا- منع العلماء من التعزير بالأشياء التي لا تصح، وإن كان بعضهم قد يعزر بها، فلا يعزر -مثلا- بحلق اللحى؛ لأن ذلك محرم شرعا، وإن كان الأولون قد يرونه بشعا ، وكذلك التعزير العقوبة التي يحصل بها تخفيف الذنب والزجر، عنه انتهى من التعزير.(2/90)
ذكر السرقة: *** من سرق ربع دينارا من الذهب، أو ما يساويه من المال من حرزه، قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت؛ اشترطوا أن يكون المسروق نصابا وقدره ربع دينار، ربع دينار، ربع الدينار هو سبع الجنيه يعني: سبع جنيه، الجنيه السعودي ، إذا كان -مثلا يعني: معروف وزنه إذا كان وزنه -مثلا- واحد وعشرون جراما، فيقطع في ثلاثة جرامات سبعه، وهكذا سبع الجنيه السعودي هذا ربع دينار، أو ما يساويه من المال يعني: إذا أخذ ثوبا مثلا يساويه، أو طعاما يساويه، أو أوراقا نقدية تساوى هذا المال، لا بد -أيضا- شرط آخر: أن يكون من الحرز، فإن كان أخذه، وهو ملقى في الأرض، أو في الطريق، فلا قطع.
الحرز هو المكان الذي يحرز فيه المال، كأن كسر الباب، أو كسر القفل مثلا، أو هدم الجدار حتى دخل معه، فأما إذا وجد المال على الرصيف، فأخذه، فلا يقطع؛ لأن صاحبه أهمله، وكذلك لو أخذه نهبا، لو جاء إلى أصحاب البساط وانتهب منها، أو أخذه خفية بدون أن يتفطن له، فهذا من غير حرز، لا بد أن يكون من حرز.
القطع يكون من مفصل الكف، يعني: من مفصل الكف، وهو المفصل الذي بين الكف والذراع. الحسم: هو أنه إذا قطعت غمست في زيت مغلى، حتى يسد أفواه العروق، فإنه إذا لم تحسم يمكن أن يجري الدم فيموت، فلا بد أن تحسم: أن تغمس في هذا الزيت، حتى تنسد أفواه العروق، ولا يستمر خروج الدم.(2/91)
وفي هذه الأزمنة قد تعالج بما يسدها مثلا، ويوقف جريان الدم، فإن سرق مرة ثانية، قطعت رجله اليسرى؛ ليحصل القطع من خلاف { ((((((((((( ((((((((((((( ((((( ((((((( } والقطع من مفصل الكعب، يعني: تقطع القدم كلها، ويترك الساق، وحسمت أيضا، فإن سرق مرة ثالثة، فلا قطع، ولكن يحبس، لا يقطع منه أكثر من يد ورجل؛ لأن في ذلك تحسيره، قال الله تعالى: { (((((((((((( (((((((((((((( (((((((((((((( ((((((((((((( } وفي قراءة ابن مسعود أيمانهما، وهي قراءة تفسيرية عن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تقطع يد سارق إلا في ربع دينار فصاعدا " أي فما زاد، هذا دليل على اشتراط النصاب، أنه ربع دينار وفي الحديث " لا قطع في ثمر ولا كثر " الثمر هو ثمر الشجر، والكثر هو الجمار، يعني: إذا جاء إلى نخلة، وقطع رأسها مثلا، وأخذ جمارها، ولو كان ثمينا، فلا قطع عليه.
الشحمة: التي في رأس النخلة، تسمى جمارا، وتسمى كثرا، كذلك -أيضا- إذا دخل بستانا، وأخذ منه ثمرا، اقتطف من النخل، أو قطع شماريخ، فمثل هذا لا قطع عليه. سيما إذا أكل منه -مثلا- مأذونا له إذا مر ببستان ليس عليه حائط، أن يأكل منه في فمه، ولو لم يستأذن صاحبه أما إذا كان عليه شباك، فلا يدخله، أو عليه سور، فلا يدخله. حد الحرابة(2/92)
قال الله تعالى في المحاربين -انتهى من السرقة، وابتدأ في المحاربين-: { ((((((( ((((((((( ((((((((( (((((((((((( (((( (((((((((((( (((((((((((( ((( (((((((( (((((((( ((( (((((((((((( (((( (((((((((((( (((( (((((((( ((((((((((( ((((((((((((( ((((( ((((((( (((( ((((((((( (((( (((((((( } هؤلاء هم المحاربون، الذين يقفون في الطرق من مر بهم قتلوه، وأخذوا ماله، أو اغتصبوا ماله، أو اغتصبوه على امرأته للفجور بها، أو اغتصبوه على أولاده للفجور بهم، فعل الفاحشة، أو نحو ذلك، فمثل هؤلاء محاربون، قد حاربوا الله ورسوله، وقد حاربوا البلاد الإسلامية، فعقوبتهم على الترتيب. وذهب المالكية إلى أنها على التخير؛ لأن الله يقول: { (((( (((((((((((( } { (((( (((((((( } { (((( ((((((((( } وأو للتخيير، ولكن أكثر العلماء على أنها للترتيب، فإذا قتلوا، وأخذوا المال، فإنهم يقتلون، ويصلبون، والصلب أن يصلب على خشبة، أو على جدار بعد القتل، حتى يشتهر أمرهم يومين.. ثلاثة أيام.
هذا إذا قتلوا واحدا، وأخذوا المال، أو قتلوا جماعة، ثم تعمهم العقوبة، فلو كانوا عشرة تشاركوا في قتل واحد، فإن العشرة يقتلون، فإن أخذوا ماله جمعوا بين القتل، وأخذ المال، فإنهم يقتلون، ويصلبون، ويأخذ منهم المال الذي اغتصبوه، أما إذا قتلوا بدون أخذ مال، فإنهم يقتلون، ولو عفى ولي مقتول لا بد من قتلهم ؛ لأن الله حدد القتل قال: { ((((((( ((((((((( } أما إذا أخذوا المال، ولو كان الآخذ واحد، والباقى ردء له، فإنه لا بد من القطع أن تقطع من كل واحد منهم يد ورجل، يده اليمنى ورجله اليسرى، هذا معنى قوله: { (((( (((((((( ((((((((((( ((((((((((((( ((((( ((((((( } أى يخالف بينهم، ولا إذا كان المال يبلغ نصابا يعني: نصاب السرقة أما إذا نقص عن النصاب، فإنه لا قطع عليهم، ولكنهم يعاقبون بعقوبة أخرى.(2/93)
أما إذا قطعوا طرفا قطعوا إصبعا من إنسان -مثلا- أو يدا، أو فقعوا عينا، فإذا عفى صاحب هذه الجناية المجني عليه، فلا يسقط العقوبة عنه، يتحتم على الإمام أن يقطع ذلك الطرف، من كل منهم أن يقطع أصابعهم، وإن كانوا أربعين، أو يقطع أيديهم، أو يفقع أعينهم؛ لأنهم اعتدوا على مسلم وفقعوا عينه، ولو كان الفاقع واحدا -مثلا- ولكنهم جميعا ردء له، وأعوان له.
أما إذا لم يحصل منهم إلا الخوف، أنهم أخافوا الطريق كل من مر منهم تبعوه، وهرب حتى ينجو، أو يدخل في بلد، ولكنهم يخيفون هذا الطريق، أصبح هذا الطريق مخوفا، من سلكه، فإنه يكون على حذر، فيأخذ العدة ، ويحمل الأسلحة ؛ مخافة أن يقطع عليه الطريق، فهؤلاء إذا قدر عليهم، فإنهم ينفون { (((( ((((((((( (((( (((((((( } أين ينفون؟ يغربون إلى بلاد بعيده، ويفرقون يجعل هذا هنا، وهذا هنا، وهذا هنا، وإذا خيف أنهم يفسدون، أو يفسدون على تلك البلاد، فإنهم يودعون السجون.
انتهى من قطاع الطريق.
ابتدأ في البغاة: *** *** من خرج على الإمام يريد إزالته، عن منصبه، فهو الباغي
البغاة: هم الذين يخرجون عن طاعة الإمام، مثل الخوارج الذين خرجوا عن طاعة علي. على الإمام مراسلة البغاة إذا انتقدوا عليه، قالوا: نخرج عليه؛ لأنه فاجر ولأنه عاص؛ ولأنه فعل كذا وكذا وكذا، كما فعل الخوارج مع علي لما أنهم قالوا: حكمت الرجال. وقالوا: إنك أبحت القتال ، ولم تبح السبي ولم تبح الغنيمة، وقالوا: إنك فعلت، وفعلت فراسلهم. أرسل إليهم ابن عباس يناظرهم، فرجع أكثرهم.
فعلى الإمام مراسلة البغاة، فإذا ذكروا له أنا ننكر عليك الخصلة الفلانية، ننقم عليك كذا وكذا، أنك فعلت كذا، وفعلت كذا، فإنه يزيل ما ينقمون عليه مما لا يجوز، إذا كانوا صادقين، فإذا كان لهم شبهة، فإنه يزيلها.(2/94)
إذا قالوا: ننقم عليه كذا وكذا، يزيل الشبهة، ويبين عزره في ذلك، فإذا انتهوا، ورجعوا كف عنهم، فإذا لم ينتهوا، فإنه يقاتلهم لكف شرهم، وهم ليسوا كفارا، ولكنهم منكرون لشيء قد لا يكون منكرا.
وعلى رعيته مؤنته على قتالهم، كما فعل المسلمون مع علي، لما قاتل الخوارج، معونتة على قتالهم، فإن اضطر إلى قتلهم، أو إتلاف مالهم، فلا شيء على الدافع، إذا قاتلهم، ثم احتاج إلى أنهم يقتلون في الحرب، فإنه لا شيء، أو إتلاف شيء من مالهم، فلا شيء على الدافع ، الدافع الذي يقاتل مع الإمام الإمام، يلزمه أن يقاتلهم حتى يكف شرهم؛ لأنهم يحاولون خلعه، لا شيء على الدافع، وإن قتل الدافع كان شهيدا، كالذين قتلوا مع علي.
وإذا انهزموا، فلا يتبع لهم مدبر، ولا يجهز على جريح، ولا يغنم لهم مال ولا يسبى لهم ذريه وذلك؛ لأنهم مسلمون، وإنما قوتلوا لكف شرهم، فإذا أدبروا انكسرت شوكتهم، فلا نتبعهم وقد انهزموا، وهربوا لا نتبع المدبرين، وإذا رأينا الجريح لا نقتله، بل نعالجه؛ لأنه مسلم، لا يجهز على الجريح.
أموالهم لا تحل لنا ليست غنيمة؛ لأننا ما قتلناهم إلا لكف شرهم، كذلك -أيضا- لا يسبى لهم ذرية. ذريتهم، وأولادهم أحرار لا يسبون، كذلك -أيضا- لا ضمان على أحد الفريقين، فيما أتى في حال الحرب من نفوس، أو أموال. إذا انفصلت الحرب بين الخوارج، وبين الإمام، وقد أتلف منهم أموالا، وأتلفوا منه أموالا، فإنه يعفى عن هؤلاء، وهؤلاء، فلا يقولون: إنك قتلت منا مائة، فاضمنهم. يقول: قتلتهم لكف شرهم. ولا يقول -أيضا- اضمنوا لنا، إنكم قتلتم كذا منا، وأتلفتم مالا. يقولون: قاتلناك؛ لأننا نعتقد خطأك وخروجك وضلالك، فقاتلناك؛ لأجل ذلك.
فالحاصل أنهم بغاة يخرجون على الإمام، يحاولون رده، أو خلعه، ولهم شبهات، ولهم شوكة، ولهم قوة، ولهم منعة كما حصل من الخوارج الذين خرجوا على علي. *** ***(2/95)
المرتد: هو الذي يخرج عن دين الإسلام إلى الكفر بفعل، أو قول، أو اعتقاد، أو شك؛ وقد ذكر العلماء -رحمهم الله- تفاصيل ما يخرج به العبد من الإسلام، حتى ذكر بعضهم أكثر من مائة خصلة، من فعلها يعتبر مرتدا. قالوا -مثلا-: من سب الله، أو سب الرسول، أو سب القرآن، أو كذب بالبعث، أو امتهن القرآن وداسه -مثلا- في النجاسات، وما أشبهها، أو استهزأ بالصلاة والمصلين، ونحوهم، أو جحد وجوب الصلاة، أو جحد تحريم الخمر، أو جحد تحريم الربا، أو ما أشبهها، أو أنكر البعث والنشور، أو أنكر قدرة الله على أفعال العباد، أو على كل شيء مثلا، أو أنكر علم الله بالأشياء الماضية والحاضرة، وأخذوا يعددون مثل هذه الأشياء، يمكن أن تزيد على المائة.
فمثل هؤلاء، لو فعل واحدة منها، اعتبر مرتدا، زيادة على من خرج عن الإسلام إذا اختار دين النصارى، أو اختار دين الهندوس، أو دين البوذيين، أو دين اليهود مثلا، أو القديانيين، أو السيخ، أو سجد للأوثان، وعبد الأصنام، وما أشبه ذلك.
فمثل هؤلاء يعتبر كلهم مرتدا، فالحاصل أن الردة تكون بالفعل كالسجود للصنم، أو بالقول كمسبة الله تعالى، أو مسبة دينه، أو بالاعتقاد كأن يعتقد أن لا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار، أو شك كأن يشك في نبوة الرسول -عليه السلام- أو يشك في صحة هذا القرآن أنه كلام الله، أو ما أشبه ذلك، فالحاصل أن تفاصيل ما يخرج به العبد من الإسلام مفصلة في كتب العلماء -رحمهم الله- وترجع كلها إلى جحد ما جاء به الرسول، أو جحد بعضه، فمن جحد شيئا من سنة الرسول المعلومة بالضرورة، أو جحد بعض شيء مما جاء به سواء من المباحات، أو من المحرمات، أو من الواجبات، يعتبر مرتدا حتى المباحات لو جحد، أو أنكر تحريم الخبز الذي أباحه الله، أو الطيبات الفواكة والمأكولات الشهية، وقال: هي حرام اعتبر مرتدا؛ لأنه أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة.(2/96)
المرتد يستتاب ثلاثة أيام، فإن رجع، وإلا قتل دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " من بدل دينه، فأقتلوه " ولما أسلم يهودي عند أبي موسى في اليمن، ثم ارتد بعد ذلك، وأوثقه، فجاءه معاذ فقال: لا أنزل حتى يقتل، فلم يزل حتى قتل، وقال: قضاء الله ورسوله: " أن من بدل دينه فاقتلوه " هذا آخر الحدود .
ابتدأ في كتاب القضاء، وجعل معه الدعاوي والبينات والشهادات: وهي أبواب كثيرة، لكنه أجملها للاختصار.
القضاء: هو فصل الخصومات وفك المنازعات، معلوم أن الناس لا بد -غالبا- أن يكون بينهم تعديات ومظالم، واعتداء من بعض على البعض، وأخذ لما لا يستحق أن يأخذ، فمثل هذا يعتبر ظالما؛ فلأجل ذلك لا بد أن يؤخذ منه الحق لا بد أنه يقتص منه، ويؤخذ منه الحق، وقد يجحد، وينكره، ويدعي أن الحق معه؛ فلأجل ذلك احتيج إلى نصب القاضي الذي يسمع القضية من هذا، ومن هذا.
وقد " بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا قاضيا " وبعث عليا أيضا، وأمره أن يقضي بين الناس، فقضى في مسائل كثيرة، وأوصاه، وقال له: " إذا جاءك الخصم، فلا تقضي له، حتى تسمع كلام خصمه، فإنك تعرف كيف تقضي " وقال: " من جاءك، وقد فقئت عينه، فلا تسمع منه حتى يأتي خصمه، فربما تكون قد فقئت عيناه " .
يعني: لا تحكم على غائب، فدل على أن هناك ما يحتاج إليه في القضاء، وقد ورد الترغيب في القضاء والترهيب منه، فالترهيب مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - " من ولي القضاء ، فقد ذبح بغير سكين " يعني: أنه على خطأ؛ لأنه قد يميل مع هذا، أو يحكم بهوى، أو ما أشبه ذلك، ومن الترهيب -أيضا- قوله - صلى الله عليه وسلم - " يجاء بالقاضي العادل، فيلقى من الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة " وفي رواية " في عمره " يعني: أنه يحاسب حسابا شديدا على القضايا، حتى يتمنى أنه ما دخل في سلك القضاء.(2/97)
ومن الترغيب قوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا اجتهد الحاكم، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " فعذره بشرط الاجتهاد أنه إذا تولى، وهو كفء، فإنه يؤجر على ذلك، ورد في حديث: " القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض عرف الحق وخالفه، فهو في النار، وقاض قضى للناس على جهل، فهو في النار، وقاض عرف الحق وقضى به، فهو في الجنة " وغير ذلك من الأحاديث.
القضاء لا بد للناس منه، يعتبر فرض كفاية على الإمام أن ينصب قضاة في كل قطر؛ حتى يفصلوا بين الناس؛ وحتى يميزوا الحقوق، ويعطوا كل ذي حقا حقه، وحتى لا تكثر المظالم، ولا تعظم المفاسد، فالقضاء فرض كفاية، وإذا لم يوجد إلا هذا الإنسان الذي هو أهل، لم يتول، فإن الحكم يتعطل تعين عليه. يقال: الآن أنت الذي تصلح للقضاء، وإذا تركته، وامتنعت لم نجد غيرك، ولم نجد من يصلح للقضاء في هذه البلاد إلا أنت. إذا، فيلزمك أن تمتثل، وأن تقبل ذلك.
*** ***
يقول: يجب على الإمام نصب من يحصل به الكفاية، ممن له معرفة بالقضاء؛ المعرفة تكون معرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها على الوقائع الجارية بين الناس.
الأحكام أولا: معرفة الأدلة.
ثانيا: معرفة كيفية تطبيقها وكيفية العمل بها.
والقضاة الذين لهم خبرة يعرفون الصادق بمجرد كلامه، ويعرفون الكاذب بمجرد رؤيته، أو بمجرد كلامه، ولهم في ذلك وقائع عجيبة يتعجب منها:(2/98)
قد ذكر ابن القيم -رحمه الله- في كتابه الذي سماه "الطرق الحكمية" عجائب من القضاة الذين تولوا القضاء، ومنهم علي - رضي الله عنه - له قصص واقعية ذكر بعضها، وكذلك -أيضا هناك- كتاب اسمه: تاريخ القضاة للقاضي وكيع، ترجم فيه للقضاة، وذكر قضايا، وكذلك -أيضا- في أحكام القضاة موجود في ثلاث مجلدات اسمه" أخبار القضاة" للقاضي وكيع، فالحاصل أنهم بممارساتهم القضاء، وقعوا على عجائب، وعرفوا ذلك بذكائهم وفطنتهم، ومعرفتهم الصادق من الكاذب، ولكن لا بد من معرفة الأحكام الشرعية وتطبيقها على الوقائع الجارية بين الناس. على الإمام أن يولي الأمثل، فالأمثل بالصفات المعتبره في القاضي.
يشترطون في القاضي صفات:
أ ولا: صفات لازمة: فيشترطون -مثلا- أن يكون رجلا لا امرأة، وأن يكون مسلما، وأن يكون حرا، وأن يكون عاقلا، وأن يكون بالغا، وأن يكون عدلا، ويشترطون -أيضا- الأمثل، فالأمثل، فيقدم -مثلا- الذي يسمع على ثقيل السمع، والمبصر على فاقد البصر، والمتكلم على ثقيل الكلام، والعربى الفصيح على العجمي غير الفصيح، وما أشبه ذلك. ويقدم العالم الجليل على المبتدئ، وعلى المتوسط.
وكذلك -أيضا- ينظر إلى أخلاق القاضي، فيقدم -مثلا- كثير الحلم، وكثير التؤدة، وكثير التوازن، وتام العقل، وتام المعرفة، ولين الجانب، وما أشبه ذلك. ويصفونه بأنه لا بد أن يكون لينا، ولكن لا يكون معه ضعف، بحيث يطمع فيه الكاذب، ونحوه، وأن يكون قويا، ولكن لا يكون قوته معها عنف، بحيث إنه ييأس صاحب الحق من حقه، وأشباه ذلك.(2/99)
يتعين على من كان أهلا، ولم يوجد غيره، ولم يشغله عما هو أهم منه، إذا لم يوجد إلا أنت، وأنت كفء، ولم يوجد غيرك تعين عليك، إذا كلفت من قبل الوالي العام بشرط أن لا يشغلك عما هو أهم منه، أن لا يشغلك -مثلا- عن طلب العلم، أو تعليمه مثلا، أو لا يشغلك عن واجب حق أهلك عليك، أو ما أشبه ذلك، فالحاصل أنه إذا لم يوجد إلا إنسان كفء، ولم يوجد غيره لزمه الامتثال.(2/100)
أما كيفية القضاء: فقد دل عليها الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر " هذا الحديث، وإن كان فيه مقال، ذكره النووي في الأربعين النووية وحسنه، وهو مروي في البيهقي وغيره، والروايه التي في الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - " اليمين على المدعى عليه " اليمين، يعني: الحلف على المدعى عليه، يعني: هو المنكر، وسبب ذلك أن المدعي، جانبه ضعيف، والمدعى عليه جانبه قوى؛ لأن الأصل براءة زمته، جاءك إنسان بعيد، وقال: عندك لي ألف، ولم يكن هناك قرائن، فأنت جانبك قوي، الأصل براءة زمتك، لا بد أن يطالب هو بشهود يشهدون على الدين الذي في ذمتك، أنه ثابت، وأنك لم تقضه، وأنه صحيح ما ذكره، فإذا شهد الشاهدان على هذا الدين، حكم على المدعى عليه بالبينة، وألزم بدفعه، فإذا لم يجد البينة حلف المدعى عليه، وهو المنكر، وبرئت زمته. " اليمين على من أنكر " في حديث أم سلمة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع خصومة بالباب، فخرج إليهم، وقال: إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له بنحو مما أسمع " وفي رواية: " إنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها، أو ليدعها " استدلوا بذلك على أن حكم الحاكم، لا يحرم الحلال، ولا يحلل الحرام، وإنما هو حكم ظاهري، فلا يغير ما في نفس الأمر، فإذا حكم لك القاضي، وأنت كاذب، تعلم أنك مدين، فحكم ببراءة زمتك، حيث حلفت على ذلك، فحكم ببراءتك، فلا تبرأ زمتك أنت مدين بهذا الدين الذي تعلم أنه في ذمتك.(2/101)
كذلك لو أتيت بشهود زور، فحكم القاضي على المدعى عليه، وانتزع منه الدعوة التي هي -مثلا- دين، وأخذته أنت، فإنما تأخذ قطعة من النار، حيث إنك أخذت ما لا يحل لك قال الله تعالى { (((( (((((((((((( (((((((((((( ((((((((( ((((((((((((( ((((((((((( (((((( ((((( ((((((((((( } يعني: تحتجون بحكم الحاكم، فحكم الحاكم لا يغير ما في نفس الأمر، فالحاصل أن من ادعى مالا، ونحوه فعليه البينة، البينة هي الشاهدان العدلان، أو الشاهد واليمين، أو رجلا وامرأتان، فيما يتعلق بالأموال. شهادة النساء لا تصح إلا في الأموال، وأما في الطلاق -مثلا- والنكاح وما أشبهها، فلا وكذلك شهود الزنا لا يصلح فيها إلا الرجال.
فإذا أتى بشاهدين عدلين حكم له، فإن لم يجد، وأتى برجل، وامرأتين حكم له، فإن لم يجد إلا رجلا وحلف مع شاهده حكم له، قال الله تعالى: { ((((((((((((((((( ((((((((((( ((( (((((((((((( ((((( (((( (((((((( (((((((((( (((((((( ((((((((((((((( ((((( (((((((((( (((( ((((((((((((( ((( (((((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((( } ذكروا أن امرأتين شهدتا عند رجل، عند قاض، فأراد أن يفرق بينهما، ويسأل كل واحدة على حدة، فامتنعت الأخرى، وقالت: الله يقول: { ((( (((((( (((((((((((( ((((((((((( (((((((((((( (((((((((( } يعنى: أن إحداهما قد تخبر بشيء نسيته، أو جهلته، فتذكرها الأخرى، فهذا في الأيمان.(2/102)
وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بالشاهد واليمين في عدة أحاديث صحيحة، أو مجموعها يبلغ درجة الصحة، فإن لم يكن له بينه لا شاهدان ولا شاهد رجل مع امرأة، ولا رجل ويمين، ردت اليمين على المدعى عليه، حلف المدعى عليه وبرئ، ويحلف على البراءة، فيقول: والله ما عندى له شيء، يعني ليس عندي له مال، أو والله ما عندي له المال الذي يدعي به، ولا جزء منه، فحين إذ تبرأ ذمته، فإن نكل عن الحلف قيل له: احلف، فتوقف، فمن العلماء من يقول: يقضي عليه بمجرد النكول، ومنهم من يقول: بل يحلف خصمه المدعي.
يقال: أنت تدعي، ولم تجد بينة، وطلبنا من خصمك اليمين، فلم يحلف، فاحلف أنت، فإن حلف حكم له، وإن امتنع -أيضا- امتنع المدعي أن يحلف، وامتنع المدعى عليه أن يحلف، فالقاضي قد يتوقف، ويوقف القضية حتى يحلف أحدهما.
ومن العلماء من يقول: إن نكول المدعى عليه دليل على أنه مدين، فالحاصل أنه إن نكل قضي عليه بالنكول، أو ردت اليمين على المدعي، فإن حلف مع نكول المدعى عليه أخذ ما ادعاه، وإن نكل كلاهما توقف القاضي.
البينة: البينة القرينة الدالة على صدق أحد المدعيين، هذه هي البينة. وسميت بذلك: لأنها تبين الحق وتدل عليه. فالشهود بينة، والقرائن بينة. مثل أن تكون العين المدعى بها بيد أحدهما، فهى له، إذا كانت هذه الناقة معه منذ أن كانت صغيرة وبيده، وهو الذي يحلبها، وهو الذي يركبها، وهو الذي يولدها، فجاء إنسان وقال: هذه ناقتى، فهذه كونها في يده دليل على أنها له، فالأغلب -على الظن- أنها ملكه، كذلك لو جاءك إنسان، وادعى حذاءك الذي في رجلك مثلا، أو عمامتك التي على رأسك، فإن القرائن تدل على أنه خاطئ، وأنك أنت المصيب؛ لأنها في يدك.(2/103)
يقول: فهي له بيمينه. ومنها أن يتداعى اثنان متاعا لا يصلح إلا لأحدهما كتنازع نجار وغيره في آلة النجارة، النجار -مثلا- عنده آلة النجارة كالقدوم الذي يقطع به، والمنشار الذي يقطع به الخشب، وما أشبه ذلك، فإذا جاءه إنسان وقال: هذا لي، وهو معروف أنه ليس نجارا، فإنه يحكم للنجار؛ لأنه صاحبه. كذلك الحداد يحكم له بآلة الحدادة وما أشبهها.
ثم تكلم على الشهادة تحملها، وأدائها: ، فإذا قيل: ما حكم تحملك الشهادة ؟ تحملها فرض كفاية. فإذا جاءك إنسان وقال: أريد أن تذهب تشهد لي على بيع، أو على نكاح، أو على طلاق، فإذا لم يوجد غيرك، فإنك تذهب معه، فإن كان يجد غيرك، فلا يلزمك، إنما هو فرض كفاية. كونك تتحمل الشهادة، أما إذا تحملتها، وأن صرت شاهدا له، ثم طلب منك أن تؤديها، فإن أداءها فرض عين قال تعالى: { (((( (((((( ((((((((((((( ((((( ((( ((((((( } يعني: لأداء الشهادة { (((( (((((( } يعني: لا يمتنع الشاهد من أداء الشهادة بعد أن تحملها، ثم قال: { (((( (((((((( ((((((( (((( ((((((( } إذا كان عليه ضرر، فلا يضار.(2/104)
يشترط أن يكون الشاهد عدلا ظاهرا وباطنا؛ لقوله تعالى { ((((((((((((( (((((( (((((( (((((((( } قد تكلم العلماء على العدالة، وأطالوا في اشتراطها، وفي القوادح التي في الشهادة، حتى ذكر بعضهم أكثر من مائة قادح، تقدح في الشهادة، حتى ذكروا الأمور العادية، فالحاصل أن الشاهد لا بد أن يكون عدلا ظاهرا وباطنا، فالظاهر في أخلاقه مثلا. فإذا كان معروفا بالصدق، ومحافظا على الصلوات، ومؤديا لحقوق الله، ومؤديا لحقوق الناس، ولا يعرف منه الكذب، ولا يعرف منه الظلم، ولا التعدي، فهذا عدل في الظاهر، كذلك -أيضا- في الباطن ما عرف منه سرقة ولا اختلاس ولا خيانة في أمانة، ولا فجور، ولا معاص، ولا زنا ولا فواحش ما عرف منه، فإن عرف منه شيء من ذلك، فليس بعدل. ويقال -أيضا-: العدل من رضيه الناس؛ لقوله تعالى: { ((((( (((((((((( (((( ((((((((((((( } ولهذا يمكن الخصم من الطعن في الشاهد، فيقال هذا الشاهد شهد ضدك اطعن فيه، فإن طعن فيه بفعل ظاهر كأن يقول -مثلا-: إنه يشرب الدخان، أو إنه حليق اللحية مثلا، أو إنه يترك الصلاة، أو يتخلف عن الجماعة، فإن ذلك قادح.(2/105)
لا يجوز أن يشهد شاهد إلا بما علمه برؤية، أو سماع من المشهود عليه، أو استفاضة يحصل بها العلم في الأشياء، التي يحتاج إليها كالأنساب، ونحوها لقوله تعالى { ((((( (((((((((( (((( ((((( ((((((((( } حكاية عن إخوة يوسف، فالشاهد لا بد أن يشهد عن علم، فلا يشهد بمجرد الظن، فلا بد أن تحصل رؤيته، فيقول: نعم. رأيته يشتري من هذا، رأيته عندما أقبضه وسلمه، رأيته عندما ضربه، أو شجه، يشهد برؤية، أو سماع: سمعته يقذفه، سمعته يرميه بفاحشة مثلا، أو سمعته يعترف له بحق، أو ما أشبه ذلك، أو استفاضة، الاستفاضة هي: الخبر الذي ينتشر في البلاد، ويكون مشتهرا عند الخاص والعام، استفاضة يحصل بها العلم بالأشياء التي يحتاج إليها، كأنه يقول: أنا ما رأيته عندما ولدته أمه، ولكن الناس كلهم يقولون هذا: فلان ابن فلان التي هي زوجته فلانة بنت فلان، فأشهد بأنه ابن فلان، وبأنه من القبيلة الفلانية؛ للشهرة ولانتشار الخبر، فله أن يشهد بالنسب مثلا.
وكذلك إذا اشتهر خبر في البلاد أن فلانا -مثلا- قاتل، أو أنه -مثلا- مدين بكذا وكذا، فله أن يشهد بالشهرة.
قوله: وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل: " ترى الشمس؟ قال: نعم. قال: على مثلها فاشهد، أو دع " رواه ابن عدي.
حديث مذكور في بلوغ المرام، ولكنه بإسناده ضعف، ولكنه دليل على أن الشاهد لا يشهد إلا بما تحققه وتيقنه، مثل رؤيته للشمس التي لا يشك في أنها: هي الشمس.
موانع الشهادة: منها مظنة التهمة: كشهادة الوالدين لأولادهم، وبالعكس الوالد لولده، أو الولد لوالده، قد يتساهل فيشهد له، فلا تقبل شهادته له، وما ذاك إلا أنه قد يتمنى إيصال الخير له، فشهادة الولد، أو الوالد مظنة تهمة.
أما الأخ: فتقبل شهادته إذا كان بينه.. يعني: عادة أنه من أهل الورع، وإن كان بعضهم يرد شهادة الأخ لأخيه، إذا عرف منه محاباة، أو عصبية، أو تحملا، أو نحو ذلك.(2/106)
كذلك الزوجان: لا يشهد لزوجته، ولا تشهد له؛ وذلك لأنه قد يتسامح معها، وقد يتساهل؛ فيشهد لها؛ لأن الذي لها له، وكذلك هي معه.
كذلك العدو: إذا شهد على عدوه، أو شهد الخصم على خصمه، فقد يقال: إنه شهد عليه؛ ليضره، فيقول المشهود عليه لا أقبل شهادته؛ لأنه عدوي؛ لأنه مشهور أنه قد ضرب ولدي، أو قد -مثلا- انتهب حقي، أو قد جحدني، أو ما أشبه ذلك، فلا تقبل شهادة العدو على عدوه.
يقول في الحديث: " لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة " إذا اتهم بالخيانة، فإن الخيانة قادح، خيانة الأمانة مثلا، أو خيانة الشهادة، أو ما أشبه ذلك .
الإنسان مأمور بأن يؤدي الحقوق قال تعالى { (((((( (((((( ((((((((( ((((((( ((((((((((( ((((((( (((((((((( (((((((((((( } فإذا لم يؤد الأمانة، فهو خائن، فإذا عرفت خيانته، كان ذلك قادحا في شهادته؛ ولأنها من خصال النفاق " وإذا أؤتمن خان " " ولا ذي غمر على أخيه " الغمر: العداوة، يعني: إذا عرف أن في قلبه ضغائن على هذا الإنسان، يحب ضرره، يحب إيصال الشر إليه، يحب أن يحبس، وأن ينكل به؛ لأنه عدو له في قلبه ضغينة عليه، فلا يشهد عليه؛ لأنه يطعن فيه، ويقول: نعم، هذا عدوي، كيف يشهد علي، وهو عدوي؟
ولا شهادة القانع لأهل البيت: القانع لهم، هو المحامي، مهم كالخادم الذي يخدم أهل البيت يشهد لهم؛ لأنه يحب إيصال الخير إليهم، فلا تقبل شهادته لهم؛ لأنه كأنه واحد من أفرادهم، يعني: كأنه ولد من أولادهم يخدمهم، ويقود بهم، ويعطونه، ويواسونه، ويشتغل معهم، وفي الحديث الثاني " من حلف على يمين؛ يقطتع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر لقي الله، وهو عليه غضبان " تحذير من الحلف الكاذب، وذلك أن الإنسان إذا عرف أنه لا حق له على شيء ، فعليه أن يعترف بما عنده، فإذا حلف، وهو كاذب، واقطتع مالا بيمينه في هذه القضية، فقد أكل حراما وفجر، واستهان باسم الله تعالى أو بأسماء الله التي حلف بها. باب القسمة(2/107)
ذكر بعد ذلك باب القسمة: وأدخلوها في القضاء؛ لأن القاضي يحتاج إلى أن يقسم الأشياء التي بين الشركاء، أي قسمة الأموال التي بين الشركاء، والغالب أنهم إنما يقصدون بذلك العقار. قسمة إجبار. وقسمة تراض.
فقسمة الإجبار: هي التي لا ضرر فيها، ولا رد عوض كالمثليات والدور الكبار والأملاك الواسعة، فإذا كان بينهما دار كبيرة، يمكن أنها تقسم نصفين؛ لهذا نصفها، فطلب أحدهما قسمتها، أجبر الآخر على القسمة.. لا ضرر عليه، هذا له هذه الجهة، وهذا له هذه الجهة، وكذلك الأرض إذا كان بينهما مزرعة واسعة، يمكن قسمتها بلا رد عوض، فإن ذلك -أيضا- يجبر عليه، هذه الأرض الواسعة: تزرع أنت هنا، ويزرع هنا، تغرس في قسمك، ويغرس في قسمه، ولا ضرر على ذلك، ولا حاجة إلى رد العوض.
رد العوض: كأن يقال -مثلا- هذه فيها بئر، وفيها ماء، وفيها شجر، وهذه ليس فيها شيء، فأنت يا صاحب الأرض التي فيها شجر، وفيها آبار أعطه ألفا، أو عشرين ألفا، أو مائة ألف، هذا رد عوض ، فمثل هذا لا يجبر، لا يجبر عليه إلا إذا لم يكن فيها رد عوض.
المثليات المتماثلة: يعني: الأشياء المتماثلة، إذا طلب قسمتها كأكياس -مثلا- أكياس من بر، أو من أرز مثلا، أو أوان متساوية. ورثة الأب -مثلا-.. منقولات، وطلب الورثة قسمتها: سيارتان متساويتان في القيمة، ليس فيهما رد عوض، نقول: هذا له هذه، وهذا له هذه مثلا، أو ما أشبه ذلك.
الثاني قسمة التراضي: وهو ما فيه ضرر على أحد الشركاء في القسمة، فإذا كانت الأرض صغيرة، إذا قسمت تضرر هذا، أو كانت -مثلا- بين اثنين: أحدهما له ثلثان، والآخر له الثلث، فإذا قسمنا له ثلثه تضرر؛ لأنها صغيرة لا يزرع فيها، ولا يبنى فيها. صاحب الثلثين يمكن أن ينتفع بها، وصاحب الثلث يتضرر، فمثل هذه نسميها قسمة تراض، لا تقسم إلا إذا تراضيا ، رضي كل واحد منهما بالقسمة، وفيها رد عوض.(2/108)
إذا كان -مثلا- إحداهما أرغب من الأخرى، ففرضنا عليه أن يعطي الآخر عوضا، رد عوض كالدراهم، لا بد فيها من رضى الشركاء كلهم، فإن طلب أحدهم فيها البيع وجبت إجابته، إذا قالوا: إذا قسمناها تضررنا، بل نبيعها؛ لأني إذا قطعتوني -مثلا- منها خمسة أمتار، ما تسوى شيئا، ولكن بيعوها جملة، حتى يكون لها قيمة. لا بأس، يجبرون على بيعها، يشترون، أو يبيعونها، فإن أجروها كانت الأجرة على قدر ملكهم. إذا أجروا هذه الأرض مزرعة، أو أجروا هذا الدكان الصغير -مثلا- الأجرة على قدر ملكهم، هذا له الربع، وهذا له ثلاث الأرباع، الأجرة على قدر أملاكهم ولا ضرر فيها. باب الإقرار
بقي باب الإقرار: وهو -أيضا- من البينات.
الإقرار: هو اعتراف الإنسان بحق عليه، بكل حق عليه، بكل لفظ دال على الإقرار، يعني: القاضي يحكم بالبينة، أو يحكم باليمين، أو يحكم بالإقرار أي بالاعتراف، ولا عذر لمن أقر.
والإنسان واجب أن يقر بالحق الذي عليه، ولا يجوز له أن يجحده، فإن جحوده يعتبر إنكارا لحق، أو لأمر مستحق، ويعتبر ظلما، فيجب على الإنسان أن يعترف بكل حق عليه، فإذا اعترف بأي لفظ دال على الاعتراف، قبل ذلك الإقرار.
اشترطوا أن يكون المقر مكلفا، فإذا اعترف، وهو مجنون فقال -مثلا-: أنا الذي قتلت فلانا، وهو مجنون ما يعتبر إقراره، أو عندي له -مثلا- مائة أو ألف، فلا يقبل ذلك منه؛ وذلك لأنه يعتبر كأنه غير مكلف، لا يقبل كلام المجنون. وكذلك الصغير لا يقبل إقراره، إذا اعترف بأنه قد أتلف كذا وكذا. فالحاصل أن الإقرار من أقوى البينات، ومن أبلغها.(2/109)
للقاضي أن يحكم بالإقرار على من أقر، ويقول: لا عذر لك في إقرارك. ويدخل في جميع أبواب العلم والعبادات والمعاملات والأنكحه، وفي الحديث " لا عذر لمن أقر " فالإقرار -مثلا- يدخل في جميع أبواب العلم يعني: إذا أقر -مثلا- واعترف بأنه قد عرف كذا وكذا، أو اعترف بأنه هو الذي بنى هذا، أو الذي حفر هذا مثلا أو اعترف بأنه باع كذا على كذا، أو اشترى من كذا، أو ما أشبه ذلك من المعاملات. اعترفت المرأة بأن هذا زوجها، اعترف بأن عنده لها نفقة كذا وكذا، أقرت بها، اعترف بأن هذا ولده منها، أو ما أشبه ذلك، فالحاصل أنه يدخل الاعتراف والإقرار في أبواب العلم.
يجب على الإنسان أن يعترف بجميع الحقوق التي عليه للآدميين؛ ليخرج من التبعة بأداء، أو استحلال الحقوق التي للآدميين. معناها الأموال والحقوق، وما أشبهها، فيعترف، ويقول: نعم أعترف بأن في ذمتي له مائة دينا، أو قيمة سلعة، أو نحو ذلك من الحقوق المالية، أو أعترف بأنه أقرضني كذا وكذا من المال، أو أعترف بأني أنا الذي أتلفت له هذا المال، أنا الذي قطعت شجرته مثلا، أو هدمت جداره، أو ضربت ولده، أو شججته، أو ما أشبه ذلك من الحقوق، أو أعترف بأني قذفته بلفظ كذا وكذا، وعلي له حد القذف، أو ما أشبه ذلك.
فإذا اعترف بذلك، فإن لصاحب الحق أن يأخذ حقه منه، ثم لا بد أن يبين ما اعترف به، يبين مقداره، أما إذا قال -مثلا- له عندي حق، فلا بد أن يبين الحق الذي اعترف به، فإن كان حقا ماليا، فيذكر مقداره: طعاما مثلا، أو كسوة، أو نفقة، أو أجرة مسكن، أو أجرة سيارة، أو ما أشبه ذلك. فالحاصل أن مثل هذا من الحقوق المالية، التي لا بد أنه يبينها.
كذلك -أيضا- الحقوق غير المالية، عليه أن يعترف بها كحقوق الزوجة على زوجها، وحقوق الزوج على زوجته مثلا، على كل منهما أن يعترف بالحقوق.(2/110)
كذلك حقوق الدماء -مثلا- يعترف بأنه قد قتل، أو قد قطع طرفا مثلا، أو قد قذف، أو ما أشبه ذلك، فالاعتراف من أقوى البينات، فلأجل ذلك ختموا بهذا الكتاب يعني: كتب الفقه، غالبهم يختمون بهذا الكتاب، وهذا آخر الأبواب التي في هذا الكتاب، ولا شك أنه محتو على مجمل أبواب الفقه، أو أغلبها، وإن كان قد اختصر في أكثرها اختصارا ظاهرا، ولكن الحمد لله الذي، يعني: وفقه، ووفقني لإكماله، فمن يعني: قرأه فقد حصل على خير كثير إن شاء الله.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على محمد.(2/111)