شرح كتاب الصيام من زاد المستقنع
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
عبد الكريم بن عبدالله الخضير
إعداد
محمد بن إبراهيم العبيشي
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين قائد الغر المحجلين وإمام المتقين خير من صام من العالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فبين يديك أخي طالب العلم شرح لأحد العلماء الأفاضل سماحة شيخنا العلامة عبدالكريم الخضير (1) حفظه الله ورعاه ونفعنا بعلمه، وأصل هذا الشرح هو دورة تفضّل بإلقائها في مسجد التقوى وذلك في أواخر شعبان في السنة الثانية والعشرين بعد الأربع مئة والألف من هجرة المصطفى ( .
فنظراً لخدمة العلم وأهله قمت بتفريغ هذا الشرح وكتابته في هذه الوريقات علَّ الله أن ينفع بها القريب والبعيد إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وثَمَّتَ أمور أحببت الإشارة إليها والتنبيه لها:
1- قامت تسجيلات الراية الإسلامية - مشكورة - بتسجيل هذه الدورة المباركة ، وقد اطلعت عليها في خمسة أشرطة أُنْزِلَت بعد الدورة.
2- كان شيخنا حفظه الله يجيب على بعض أسئلة الطلبة وذلك غالباً في أول الدرس، فنظراً لأن كثيراً من الأسئلة قد لا يكون لها صلة بموضوع الصيام آثرت أن أقتصر على شرح الكتاب لتركيز المادة العلمية وعدم التشتيت.
3- هناك بعض المحاورات التي تكون بين الشيخ وبعض تلامذته في أثناء الشرح، وغالب هذه المحاورات إما استفسارات عن بعض الإشكال أو سؤال لا يحتمل المقام تأجيله، فنظراً لفائدتها الجسيمة ألحقتها في داخل الشرح ورمزت لكلام أي إنسان غير الشيخ بحرف ((س)) قبل الجملة لكي يتم التمييز بينهما .(1/1)
4- قبل أن أُخْرِجَ هذا الشرح إلى ساحات طلبة العلم أحببت أن يكون الشيخ على اطلاع تام عليها وذلك كما لا يخفى على الجميع أن أصل هذا الشرح هو إلقاء لدورة علمية، وأسلوب الإلقاء يختلف تماماً عن التصنيف، كما أن شيخنا حفظه الله كان يقرب المسائل أحياناً للطلبة فيكرر اللفظ أو يستخدم ألفاظاً عامية لكي يتصور الطالب المسألة أو غير ذلك من الأساليب النافعة.
فقمت بعرضها على الشيخ وتفَضَّل مشكوراً بإجراء بعض التعديلات عليها، فجزى الله شيخنا خير الجزاء ونفعنا والمسلمين أجمعين بعلمه، ونسأل الله أن يجعل أعمالنا وأعمال شيخنا خالصة له على الوجه الذي يرضى، ولا تنسونا من صالح دعائكم .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى عفو ربه
محمد بن إبراهيم العبيشي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فإن كتاب زاد المستقنع من أشهر المتون الفقهية على المذهب الحنبلي بل من أولى ما يعتني به طالب العلم في هذا المجال لصغر حجمه وكثرة مسائله، فعلى طالب العلم أن يعتني بمثل هذا الكتاب ولا يستمع إلى الدعاوى التي تقلل من شأن هذه الكتب على حد زعم أصحابها أن هذه أقوال الرجال وأنه على طالب العلم أن يتفقه من الكتاب والسنة.
نعم الأصل الكتاب والسنة ولا يشك في هذا مسلم ولا يماري في هذا أحد ولكن كيف يتفقه الطالب المبتدئ من الكتاب والسنة؟
ليست لديه الآلة الكافية للاستنباط من الكتاب والسنة فعليه أن يتفقه بواسطة أهل العلم ، فالمبتدئ حكمه حكم العامي الذي فرضه سؤال أهل العلم: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون( [النحل: 43، الأنبياء: 7] ، والتفقه على مثل هذا الكتاب لا شك أنه يرسم الطريقة السوية التي سلكها أهل العلم قديماً وحديثاً في التفقه.(1/2)
ولا يعني هذا الكلام أننا نأخذ هذه الأقوال على عواهنها ، هذه الأحكام التي تذكر في هذه المتون لا شك أن أصحاب هذه المتون اجتهدوا في ذكر أرجح الأقوال على حد اجتهادهم وهم لا يلزمون أحداً بمقتضى اجتهادهم .
وأشبه ما يكون مثل هذا الكتاب بالمنهج والخطة التي يسير عليها طالب العلم فيأخذ مسائل هذا الكتاب وأبواب هذا الكتاب وفصول هذا الكتاب باباً باباً فصلاً فصلاً مسألةً مسألةً فينظر في المسألة الأولى من الفصل الأول من الكتاب الأول فيتصور هذه المسألة ثم ينظر في دليلها ومن قال بها من أهل العلم ومن خالف وينظر في دليل المخالف ويوازن بين هذه الأقوال من خلال أدلتها إذا كان أهلاً لذلك، وهذه مرحلة لاحقة لا يدركها الطالب المبتدئ فعلى الطالب المبتدئ أن يفهم ويكفيه أن يتصور هذه المسائل ويسأل عن ما يشكل عليه ويقرأ على شيخ يرجح له المسائل.
وهذه الكتب - أعني المتون الفقهية - لا شك أن فيها بعض الأقوال المرجوحة وإن كانت راجحة عند المؤلف ، وفي هذا الكتاب ما يزيد على ثلاثين مسألة خالف فيها مؤلف الكتاب الراجح من المذهب وهي راجحة بالنسبة لمؤلف الكتاب.
ومؤلف الكتاب منزلته عند الأصحاب معروفة حتى قالوا إن المذهب عند المتأخرين ما اتفق عليه في الإقناع وهو لصاحب الكتاب الحجاوي والمنتهي ، فإذا اتفق المنتهي والإقناع على حكم فهو المذهب عند المتأخرين ، فصاحب الكتاب له شأن وله منزلة عند الأصحاب وهذا مما يرجح كتابه إضافة إلى صغر حجمه وكثرة مسائله .
فأقول على طالب العلم المبتدئ أن يعتني بمثل هذه الكتب وغيرها من المتون في سائر الفنون فينظر في مسائل الكتاب ويستدل لها كما ذكرنا وينظر في قول من خالف ودليله ويوازن بين هذه الأقوال إذا تأهل لذلك ثم يعتني بالقول الراجح ويعمل به ، ويعمل بما يدين الله سبحانه وتعالى به .(1/3)
الكتاب الذي قُرِّر شرحه في هذه الدورة هو كتاب الصيام، وقبل أن نبدأ في شرح وتحليل ألفاظ الكتاب نبدأ بمقدمة تشتمل على تعريف الصيام وحكم الصيام والحكمة من مشروعيته وغير ذلك مما ينبغي التنبيه عليه.
الصيام في الأصل في لغة العرب أطلقوه على "الإمساك" هذا من حيث الحقيقة اللغوية ، ونعرف أن الحقائق اللغوية لها ارتباط وثيق بالحقائق الشرعية، وليس معنى اختلاف أو ذكر الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية أن الحقائق الشرعية نقلت اللفظ من إطلاق إلى آخر ولا ارتباط بينهما بل الذي يقرره أهل التحقيق من العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن الحقائق الشرعية هي في الأصل اللغوية لكن الشرع يزيد عليها بعض القيود.
فالعرب عرفوا الصيام بأنه: الإمساك وترك التنقل من حال إلى حال فيقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام كما قال تعالى مخبراً عن مريم عليها السلام:(إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً( [مريم:26] ، فما الدليل على أن المراد بالصوم هنا الإمساك؟
تكملة الآية قولها : (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً( أي سكوتاً عن الكلام.
ومنه قول النابغة:
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي خيل ثابتة ممسكة عن الجري وأخرى جارية (2) .
والصيام في الشرع : الإمساك عن الطعام والشراب والجماع - يعني عن المفطرات - بنية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وعُرِّف أيضاً بأنه : التعبد لله سبحانه وتعالى بالإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
واشتراط النية في الصيام وإدخالها في الحد هو معنى التعبد لله سبحانه وتعالى ، يعني نية التقرب لله سبحانه وتعالى بهذه العبادة .
وحكم الصيام ركن من أركان الإسلام إجماعاً، دل عليه الكتاب والسنة والإجماع.(1/4)
أما الكتاب فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( [البقرة:183] .
وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما : "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة، والحج ، وصوم رمضان" (3) متفق عليه.
وروى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ( قال: "بني الإسلام على خمسة" (4) .
هنا ك: "بني الإسلام على خمس" أي دعائم، وهنا: "بني الإسلام على خمسة" أي أركان، وإذا حذف التمييز جاز التذكير والتأنيث على حد سواء كما في قوله عليه الصلاة والسلام : "من صام رمضان وأتبعه ستاً" (5) وإلا فالأصل ستة وهي أيام.
"بني الإسلام على خمسة على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج" فقال رجل لابن عمر: "الحج وصيام رمضان" يعني كما في الرواية السابقة ففي الرواية السابقة قدم الحج "والحج وصوم رمضان" وفي الرواية اللاحقة "صيام رمضان والحج" فاستشكل رجل وقال: "الحج وصيام رمضان" يرد بذلك على ابن عمر، قال: "لا ، صيام رمضان والحج هكذا سمعته من رسول الله ( " (6) اللفظ الأول الذي فيه تقديم الحج على الصيام متفق عليه فكيف يقول ابن عمر: "لا" يعني لا تقول مثل هذا الكلام "صيام رمضان والحج" ثم بين أن ذلك من قوله عليه الصلاة والسلام "سمعته من رسول الله ( " واختلف العلماء في إنكار ابن عمر رضي الله عنهما على الرجل الذي قدم الحج مع أن ابن عمر رواه كذلك .(1/5)
يقول النووي في شرح مسلم: الأظهر والله أعلم أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبي ( مرتين، مرةً بتقديم الصوم فرواه أيضاً على الوجهين في وقتين - يعني رواه مرة في وقت في تقديم الحج ومرة أخرى في وقت آخر بتقديم الصوم - فلما رد عليه الرجل وقدم الحج قال ابن عمر ك لا ترد على ما لا علم لك به، ولا تعترض بما لا تعرفه ، ولا تقدح فيما لا تحققه بل هو بتقديم الصوم، هكذا سمعته من رسول الله ( . وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الآخر .
ويحتمل أن ابن عمر كان سمعه مرتين بالوجهين كما ذكرنا ثم لما رد عليه الرجل نسي الوجه الذي رده فأنكر . أ.هـ (7) .
وعلى كل حال الصوم والحج ركنان من أركان الإسلام اتفاقاً ، وكون الحج يقدم على الصوم أو الصوم يقدم على الحج لا يقلل من شأن الآخر المؤخر.
الإمام البخاري - رحمه الله تعالى - اعتمد على الرواية التي فيها تقديم الحج على لاصوم وبنى عليها ترتيب كتابه فقدم الحج على الصيام في كتابه، ولعل ذلك لما ورد من التشديد في ترك الحج مما هو أكثر من التشديد في ترك الصيام من الأحاديث المرفوعة والموقوفة إضافة إلى قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ([آل عمران: 97] وهذا في الحج .
وأجمع العلماء على وجوب الصيام وأنه ركن من أركان الإسلام وعلى كفر من جحد وجوبه، واختلفوا في تكفير من تركه مع اعترافه بوجوبه يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى في كتاب الإيمان: وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأت بالشهادتين فهو كافر أ.هـ (8) .(1/6)
يعني ولو وقر الإيمان في قلبه لكنه لم يتمكن من النطق بالشهادتين هذا يصدق عليه أنه لم يأت بالشهادتين فالنطق بالشهادتين لا بد منه لصحة الإيمان ، لكن إذا وقر الإيمان في قلبه ومنعه من النطق بهما مانع إن كان المانع خِلْقِي كالأبكم فلا يؤثر، وإن كان المانع غير ذلك لضيق الوقت وشبهه فإن هذا مؤثر لا يحكم بإسلامه حتى ينطق وأما في الآخرة فأمره إلى الله لكنه في الدنيا ما لم ينطق يعامل معاملة الكفار: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" (9) حتى ينطقوا . 12304978
يقول شيخ الإسلام : وأما الأعمال الأربعة - يعني الأركان غير الشهادتين - فاختلفوا في تكفير تاركها - ثم قال - وإحدى الروايات عنه - أي الإمام أحمد - أنه يكفر من ترك واحدة منها وهو اختيار أبي بكر وطائفة من أصحاب مالك أ.هـ.
فتارك أحد الأركان مع القدرة على فعله على خطر عظيم فقد بني الإسلام على هذه الأركان وكل بناء تُرِكَ بعض أركانه يوشك أن يتهدم ، والقول المرجح عند جماهير العلماء أنه لا يكفر إلا من ترك الصلاة على خلاف بينهم في حكم تاركها أيضاً ، وقد نُقِلَ اتفاق الصحابة رضي الله عنهم على كفر تاركها وإن كان معترفاً بوجوبها .
وفضل الصيام عظيم وثوابه جسيم جاءت بذلك الأحاديث الكثيرة المخرجة في الصحيحين وغيرهما من دواوين الإسلام من السنن والجوامع والمصنفات وغيرها والمسانيد ويكفي من ذلك أن الله سبحانه وتعالى خصه بالإضافة إليه كما ثبت عن أبي هريرة ( قال: قال رسول الله ( : قال الله تعالى : "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث و لا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني امرؤ صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه" (10) متفق عليه.(1/7)
هل فرح الصائم بفطره فرح بانقضاء هذه العبادة والفراغ منها، أو أن هذا فرح جبلي فالنفس تتوق إلى الأكل والشرب وغيرهما من الممنوعات؟
لا شك أن هذا فرح جبلي لا ينقص من أجر الصوم ولا يخل بصيام المرء.
وهل يكون الذي يتمنى أن لو طال النهار أفضل ممن يفرح بفطره ؟ أي إذا أذن المغرب تمنى أن لو مدد النهار زيادة تلذذاً بهذه العبادة هل هو أفضل أو الذي يفرح بفطره؟
لا شك أن فرحه بفطره جائز كما نص عليه هذا الحديث: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح" هذا فرح جبلي.
ولا شك أن هذه المسألة فرع عن مسألة كبرى وهي أن من يؤدي العبادة مع التلذذ بها والاشتياق إليها أفضل أو الذي يؤديها على نوع من تحمل المشقة والعسر في أدائها، والمسألة خلافية بين أهل العلم هل هذا أفضل أو ذاك ولكن المرجح عندهم أن من يتلذذ بالعبادة أفضل من الذي يؤديها مع نوع من المشقة لأنه لم يصل إلى تلك المرحلة حتى اجتاز هذه ولذا كان السلف يعالجون من قيام الليل الشدائد ثم لا يزالون أن يتلذذوا به ومثله الصيام وغيره من العبادات .
يقول القرطبي في تفسيره: وإنما خص - الله سبحانه وتعالى الصوم - بأنه له وإن كانت العبادات كلها له لأمرين باين الصوم بهما سائر العبادات :
أحدهما : أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات أ.هـ (11) قد يقول قائل الصلاة تمنع من ملاذ النفس وشهواتها ؟!!
فنقول نعم الصلاة تمنع لكن الوقت الذي يقضيه في الصيام والمنع الذي يترتب على الصيام أطول من المنع الذي يترتب على الصلاة وإلا لا يوجد أحد يزاول شهواته وهو يصلي ، فهما مشتركان في هذا لكن الوقت الذي يمضيه في الصوم أطول من الوقت الذي يمضيه في الصلاة وغيرها من العبادات .(1/8)
قال القرطبي رحمه الله : الثاني : أن الصوم سر بين العبد وبين ربه - ولعل هذا أظهر - لا يظهر إلا له فلذلك صار مختصاً به ، وما سواه من العبادات ظاهر ربما فعله تصنعاً ورباهُ ، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره . أ.هـ .
يقول ابن عبدالبر : كفى بقوله: "الصوم لي" فضلاً للصيام على سائر العبادات أ.هـ.
لأن الذي يضاف إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو الشريف ، فالإضافة إلى الله سبحانه وتعالى تقتضي التشريف ولذا يقول الإمام أبو عمر ابن عبدالبر - رحمه الله - : كفى بقوله: "الصوم لي" فضلاً للصيام على سائر العبادات أ.هـ.
لكن ينبغي أن يلاحظ أن الصوم المذكور هنا هو الصيام الذي سلم من الخوارم ولذا يقول ابن حجر في فتح الباري: اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صيامه من المعاصي قولاً وفعلاً أ.هـ .
جاء في الحديث : "العمرة إلى العمرة" (12) وجاء أيضاً : "الصلوات الخمس" (13) وجاء : "رمضان إلى رمضان" (14) مكفرات لما بينها ، فالمراد بهذا الصيام الذي يكفر هو الصيام التام الموافق لمراد الشارع .
الصلاة المكفرة كما يقول شيخ الإسلام المراد بها الصلاة الكاملة، شيخ الإسلام يقرر هذا ويؤكد عليه وإلا فصلاة من لم يخرج من صلاته إلا بعشرها ماذا تكفر من السيئات ؟(1/9)
الصلاة التي لم يخرج صاحبها منها إلا بعشرها لأن المصلي ليس له من صلاته إلا ما عَقَلَ هذه على حد رأي شيخ الإسلام - رحمه الله - عسى أن تكفر نفسها، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة الكاملة وإلا فكم من شخص يصلي ويزاول المنكرات وهذا يمشي تماماً مع قوله تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ( [المائدة: 27] والمراد بنفي القبول هنا نفي الثواب المرتب على العبادة لا نفي الصحة وإلا فالإجماع قائم على أن الفساق لا يؤمرون بإعادة العبادات كما هو معروف، فنفي القبول هنا المراد به نفي الثواب المرتب، ترتب آثار هذه العبادة عليها فالعبادة الكاملة من التقي تترتب عليها آثارها فصلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر وصيامه يجره إلى التقوى التي ذيلت بها آية الصيام على ما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .
وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي سعيد ( قال: سمعت رسول الله ( يقول: "من صام يوماً في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" (15) من صام يوماً في سبيل الله، ما المراد بسبيل الله هنا، هل هو الجهاد فيكون هذا الثواب خاص بالمجاهد الصائم؟ أو المراد بسبيل الله ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى؟
المسألة خلافية والبخاري رحمه الله تعالى أدخل الحدث في كتاب الجهاد فدل على أنه يرجح أن المراد بسبيل الله الجهاد ، لكن فضل الله سبحانه وتعالى لا يُحَد وقد يرجح القول الثاني وهو أن المراد بسبيل الله ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى .(1/10)
وأخرجا أيضاً من حديث سهل بن سعد عن النبي ( قال: "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد" (16) كل هذا يدل على فضل هذه العبادة الجليلة وأنتم على أبوابها والقدوم عليها ، فعلينا أن نحرص كل الحرص أن يكون صيامنا خالصاً لوجه الله سبحانه وتعالى مصوناً عن ما يخدشه .
العبادات المشروعة متنوعة فمنها ما يختص بالبدن ، ومنها ما يختص بالمال، ومنها ما هو مشترك، ومنها ما هو في السر، ومنها ما هو في العلانية، ومنها ما يرتبط بالبدن، ومنها ما يرتبط بالقلب، ومنها ما يرتبط باللسان، والشرع نوع هذه العبادات لحكم ولشيخ الإسلام رحمه الله تعالى رسالة في تنوع العبادات (17) ، فمن حكمة الله عز وجل أن جعل العبادات أنواعاً في التكاليف ليختبر المكلف كيف يكون امتثاله لهذه الأنواع، هل يمتثل ويقبل ما يوافق الطبع أو يمتثل ما به رضي الله عز وجل؟
الناس أجناس ولهم طبائع فإذا تأملنا العبادات جميعها وجدناها على أنواع بعضها بدني محض، وبعضها مالي محض، وبعضها مركب منهما حتى يتبين الكسول من غيره والشحيح من الجواد فربما سهل على بعض الناس أن يصوم النهار كله ويصلي الليل كله لكن لا يسهل عليه أن يتصدق بدرهم ، مثل هذا اختبر بالعبادات المالية وامتحن، وقد يسهل عليه خوض المعارك الضارية ولا يهون عليه أن يبذل شيئاً من المال ولو يسيراً ، وبالعكس فقد يسهل على الإنسان أن يخرج من جميع ما يملك ولا يجاهد أو يبذل الأموال ولا يصلي ركعة وهكذا، فتنوع العبادات يحقق هذه الأمور كلها ويتميز الممتثل من غيره.
بعض الناس لو تقول ناولني هذا الكتاب أو هذا الكوب بريال ما رضي ، وبعض الناس يبذل نفسه دون الريال، لا شك أن الناس متفاوتون فهؤلاء يمتحنون الشحيح يمتحن بالعبادات المالية والطرف الآخر يمتحن بالعبادات البدنية .(1/11)
ذكر بعض شراح الصحيح كالكِرْماني وغيره عن بعض السلف أنه نذر إن اغتاب أحداً تصدق بدرهم فهانت عليه الغيبة لأن الإنفاق سهل عليه يسير ، ثم إنه بعد ذلك نذر أنه إن اغتاب أحداً صام يوماً فكفَّ عن الغيبة لصعوبة الصيام عليه ، فمن أجل هذا كله جاء تنوع العبادات الشرعية ليتم امتحان العباد حتى يُعْرَف من يمتثل تعبداً لله ومن يمتثل تبعاً لهواء .
فالصلاة مثلاً عبادة بدنية محضة وما يجب لها مما يحتاج إلى المال كماء الوضوء الذي يشتريه والثياب لستر العورة تابع وليس داخلاً في صلب العبادة .
فمثلاً قد لا يجد ماء يتوضأ به يمر البقالة ويشتري بريالين ماء أو بريالين مما يكفيه، فلماذا لا نقول الصلاة عبادة مالية؟
لا، نقول المال ثبت تبعاً وليس مقصوداً لذاته، كمن احتاج أن يركب ليؤدي الصلاة بأجرة فهذا المال ثبت تبعاً لا استقلالاً وليس داخلاً في صلب العبادة .
والزكاة مالية محضة وما تحتاج إليه من عمل بدني كإحصاء المال وحسابه ونقله إلى الفقراء فهو تابع وليس داخلاً في صلب العبادة، لا شك أن الزكاة تحتاج إلى البدن لكن الأصل فيها المال، يحتاج إلى نقلها إلى الفقراء، يحتاج إلى الحسابات والقيود مما يقوم به البدن لكنه تابع على ما ذكرنا وليس داخلاً في صلب العبادة .
والحج مركب من مال وبدن والجهاد مثله، الحج مركّب فلماذا لا نقول أن الحج الأصل فيه البدن والمال تبع؟
نقول الحج المال يشكل جزءاً كبيراً منه، ليست المسألة انتقال من مكان إلى مكان قريب يكون تبعاً ، والحج فيه جزاءات مالية أيضاً وفيه الاستطاعة بالمال أيضاً كالزاد والراحلة فنصيب المال كبير، وذكرنا أن لشيخ الإسلام رحمه الله تعالى رسالة في تنوع العبادات يحسن ويجدر بطالب العلم الاطلاع عليها كغيرها من كتبه ورسائله - رحمه الله - .
ما الحكمة من مشروعية الصيام؟(1/12)
أشار الله سبحانه وتعالى في خاتمة آية فرضية الصيام التي سبق ذكرها أشار في آخرها إلى التقوى فقال تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون( [البقرة: 183] وأشار بهذا إلى أعظم حكم الصيام ، ليس المقصود من الصيام تعذيب النفس إنما المقصود من الصيام ما يجر إليه ويؤول إليه من التقوى فالصيام خير معين على التقوى لأنه يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته المباحة الميسورة امتثالاً لأمره سبحانه واحتساباً لثوابه فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها فيكون اجتنابها أيسر عليه وتنشط نفسه على النهوض بالطاعات ويصير عليها .
والتقوى هي : امتثال الأوامر واجتناب النواهي .
كم من شخص جره صيامه إلى ترك المنكرات والازدياد من الطاعات؟
لأن الذي اعتاد مزاولة بعض المنكرات وصعب عليه تركها لا شك أن الحد من هذا الجموح بالصيام هذه المدة الطويلة النهار كله والشهر كامل يُسَهِّل عليه ترك المعصية، فالمدخن مثلاً هو بين خيارين إما أن يضحي بركن من أركان الإسلام أو يضحي بالدخان والمسألة مفترضة في المسلم، لا شك أنه سوف يصوم وسوف يتعب في الأيام الأولى ثم يسهل عليه ترك الدخان وكم من شخص ترك الدخان بسبب الصيام.
فلا شك أن الصيام يجر إلى التقوى ولذا ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون( [البقرة: 183] وهذه هي أعظم حِكَمِ الصيام، وعرفنا أن التقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي وأصلها التوقي مما يكره؛ من الوقاية ، فالمتقي هو الذي يجعل بينه وبين عذاب الله سبحانه وتعالى وقاية .(1/13)
وقد سأل عمر بن الخطاب ( أُبي ابن كعب عن التقوى فقال له : "أما سلكت طريقاً ذا شوك؟" عمر بن الخطاب ( ورحمه وإيانا وجميع المسلمين من كبار المتقين لكن ما يمنع أن يختبر غيره ، أو ليعرف الحد لأنه قد يوجد عند المفضول ما قد يخفى على الفاضل فعمر ( يجتنب النواهي ويفعل الأوامر لا يمنع أن يظن أن عند أُبي قدراً زائداً على هذا ، لكن أبي أجابه بالمثال وبالمثال يتضح المقال فقال له : "أما سلكت طريقاً ذا شوك" قال: "بلى" قال: "فما عملت؟" قال: "شمرت فاجتهدت" قال: "فذلك التقوى" يعني على المسلم أن يشمر ويجد ويجتهد في طاعة ربه والوصول إلى مرضاته وجناته بفعل جميع ما أمر به دون خِيَرة ولا تردد وترك جميع ما نُهِيَ عنه.
يقول القرطبي في تفسيره: التقوى فيها جماع الخير وهي وصية الله للأولين والآخرين وهي خير ما يستفيده الإنسان أ.هـ.
كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر، وأنت ما حُفِظَ عنك شيء !!! فقال:
يريد المرء أن يُؤتى مناه
ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي
وتقوى الله أفضل ما استفادا
وفي هذا إشارة إلى تصحيح القصد بهذه العبادة فمن لم يصم بنية صالحة ويقصد بصيامه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فإنه لا ترجى له هذه الملكة أي التقوى ، فليس الصيام في الإسلام من أجل تعذيب النفس بل لتربيتها وتزكيتها.
المقصود من الصيام الشرعي غير ما يفعله أهل الرياضات من المتصوفة الضلال، الفارابي في آخر عمره لزم الصيام صار صواماً في آخر عمره لكن هذا الصيام جره إلى التقوى؟
لا والله، لأنه يفطر على الخمر المعتق وأفئدة الحملان أي قلوب الخراف الصغيرة، فمثل هذا الصيام لا يجر إلى التقوى فكيف يرجو أن يصل إلى هذه المرتبة من يفطر على المعصية ويوجد بين المسلمين مع الأسف الشديد من يفطر على ما حرم الله عليه.(1/14)
أحمد أمين في أيامه التي سطر فيها حياته في كتاب له اسمه حياتي قال: إنه درسهم في مدرسة القضاء الشرعي شيخ وصفه بأنه جليل صار بينه وبينه ارتباط ثم إنه فجأة فقده عشر سنين لا يدري أين ذهب، فقدر له أن سافر إلى تركيا فوجده قد تَرَهَّب واعتزل الناس فصار صواماً قواماً ، لكن ما نوع هذا الصيام؟
يصوم من بعد طلوع الشمس إلى الليل .
فسأله لما لا تصوم الصيام الشرعي من طلوع الفجر؟
فقال: إن تحته في الشقة التي تحته عائلة لا أدري أقال يهودية أو نصرانية فيخشى أن يشوش عليهم إذا قام في آخر الليل يجهز السحور.أ.هـ.
أي صيام هذا ؟ هل مثل هذا الصيام يجر إلى التقوى؟
لا والله ، الصيام الذي يُتَعبد به بنية خالصة على وفق ما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ولذا قالوا في هذا إشارة لتصحيح القصد بهذه العبادة فمن لم يصم بنية صالحة ويقصد بصيامه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فإنه لا ترجى له هذه الملكة، لن يصل إلى التقوى من خلال الصيام الذي لا يقصد به التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فليس الصيام في الإسلام من أجل تعذيب النفس بل لتربيتها وتزكيتها.
والصيام أيضاً يُنَمِّي لدى الصائم ملكة المراقبة، فالصائم يمتنع عن ملاذ الدنيا وشهواتها وما يمنعه من ذلك سوى اطلاع الله سبحانه وتعالى عليه ومراقبته له ، هذا الذي يمنعه من شهوات النفس التي يوجد منها ما يستطيع أن يتناوله من غير اطلاع أحد عليه وقد تكون معه في الفراش زوجته حديث العهد بها فيتركها لوجه الله سبحانه وتعالى.(1/15)
فلا شك أن ترك مثل هذه الأمور دليل على مراقبة الله سبحانه وتعالى، ولا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه أن يراه سبحانه حيث نهاه وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبرُ معِدٍّ للنفوس ومؤهل لضبط النفس ونزاهتها في الدنيا ولسعادتها في الآخرة، فالمراقبة منزلة من منازل إياك نعبد وإياك نستعين وهي الإحسان التي سأل عنها النبي عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل .
المراقبة كما قال ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين: دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه وهي ثمرة علمه بن الله سبحانه وتعالى رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين والغافل عن هذا بمعزِل أ.هـ .
من أدلتها قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ([البقرة:235] وقال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً( [الأحزاب:52] وقال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ( [الحديد: 4] وقال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى([العلق:14] وقال تعالى: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ([غافر:19] إلى غير ذلك من الآيات.
فالذي يكون بحضرة الناس وتمر أمامه الفاتنة التي استشرفها الشيطان ويسارقها النظر قد يخفى على من بجواره لكن لا يخفى على الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وفي حديث جبريل عليه السلام أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإحسان فقال له : "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (18) .(1/16)
والمراقبة كما قال ابن القيم أيضاً : هي التعبد بأسماء الله سبحانه وتعالى الرقيب والحفيظ والعليم والسميع والبصير فمن عَقَل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة أ.هـ .
وهذه من أعظم فوائد معرفة الأسماء الحسنى، كثير من الناس لا يعتني بهذا الشأن وهذا الباب ، بل معرفة الأسماء الحسنى ومعانيها وما تدل عليه من أولى ا يعتني به طالب العلم لأن لها مدلولات وصنفت فيها المصنفات في معانيها، وشرحها العلامة ابن القيم في نونيته شرحاً جميلاً مناسباً فمن حفظ ما يتعلق بها أدرك شيئاً من ذلك ويرجى له أن يدخل في حديث : "إن لله تسعة وتسعين اسماً، مئة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة" (19) فالمراقبة من آثار معرفة هذه الأسماء الحسنى لله سبحانه وتعالى (20) .
ومن حكم الصيام تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة والصفات الذميمة كالأشر والبطر والبُخل وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه، ومن ذلك أن العبد يعرف نفسه ويعرف حاجته وضعفه وفقره لربه ويتذكر بذلك عظيم نعم الله عليه ويذكره ذلك أيضاً حاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه وتعالى والاستعانة بنعمه على طاعته.(1/17)
فإذا حرمت الشراب وأنت بحاجته في الأيام شديدة الحر تتذكر أن هذا الشراب نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى فإذا انتهى الشهر وفرحت بفطرك تذكر أن لك رباً حرمك من هذه النعمة لفائدة ، حرمك من تناول الشراب والطعام لتشكره على هذه النعم وتعرف قدر هذه النعم إذا أتيح لك استعمالها، وتعرف ن لك إخواناً لا يستطيعون الحصول عليها سائر العام فضلاً عن رمضان فتتذكر بذلك النعم وتعرف قدر هذه النعم إذا أتيح لك استعمالها، وتعرف أن لك إخواناً لا يستطيعون الحصول عليها سائر العام فضلاً عن رمضان فتتذكر بذلك النعم ويحملك ذلك على الشكر ومواساة إخوانك الفقراء والإحسان إليهم فإن الإنسان عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتاً فيحمله التذكر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة وقد وصف الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه : (رَؤُوفٍ رَحِيم( [التوبة: 128] ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه عليه الصلاة والسلام لذلك أمرهم بالتأسي به ووصفهم بقوله: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ( [الفتح: 29] "وكان عليه الصلاة والسلام أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان" كما جاء في الحديث الصحيح.
من فوائد الصيام وهي فائدة جليلة ينبغي التنبه لها التذكير بعدل الله سبحانه وتعالى ومساواته بين خلقه حيث جعل هذا الركن فرضاً على جميع المسلمين غنيهم وفقيرهم ملوكهم وسوقتهم وبذلك يتذكر الملوك العدل الذي فرض عليهم إقامته بين رعاياهم.(1/18)
الله سبحانه وتعالى حَكَمٌ عدل ساوى بين الناس في التشريع العام، نعم فضل بعضهم على بعض من أجل الامتحان هل يشكر المفضل؟ هل يصير المفضول - المفضل عليه - ؟ لكن بالنسبة للتشريع العام الذي يشترك فيه الناس كلهم سواسية، لا يقال الملك يمكن أن يعفى من هذا الركن وهو قادر ومستطيع ، لا المسكين بدل ما يصوم شهراً يصوم شهرين، لا الناس سواسية في التشريع العام فهذا يجب عليه خمس صلوات وذاك يجب عليه أيضاً كذلك الغني والفقير، والرئيس والمرؤوس، الحمّال والزبّال يشترك في ذلك مع أعظم ملك في الدنيا، بهذا العدل من الله سبحانه وتعالى يتذكر الملوك العدل الذي فرض عليهم إقامته بين رعاياهم .
ومن فوائد الصيام أنه وجَاء للصائم ووسيلة لطهارته وعفافه وما ذاك إلا لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشهوة ويقوى سلطان الإيمان ولذلك وجه من لا يجد القدرة على النكاح إلى الصيام فقال عليه الصلاة والسلام : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" (21) .
الصوم أيضاً له فوائد صحية ، ذلك أنه يقضي على المواد المترسبة في البدن لاسيما المترفين أولي النَهَم في الأكل قليلي العمل فإنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويذيب الشحوم أو يحول دون كثرتها في الجوف وهي شديدة الخطر على القلب وقد اعترف بذلك الكثير من الأطباء وعلاجوا به كثيراً من الأمراض.
لا شك أن فائدة الصيام من الناحية الصحية ظاهرة ويوصى كثير من المرضى بالحمية بترك الأكل والشرب .
لكن من نصح بترك الأكل والشرب وقيل له لابد من الحمية فقال بدلاً من أن أحتمي أصوم والناهز له والباعث له على هذا الصيام الحمية يؤجر وإلا ما يؤجر؟(1/19)
نقول هذا التشريك في العبادة لكنه تشريك بمباح، نعم لا شك أن الذي ينهزه إلى الصيام الرغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى أكمل وأفضل، لكن الذي نصح بالحمية كمن نصحه الطبيب بأن لا يكثر الأكل قال كما يقول العوام: "حج وقضيان حاجة" نحتمي وأصوم فأحصل الأجر وأحصل الصحة، نقول هذا تشريك في العبادة لكنه تشريك بمباح فهو جائز .
ومسألة التشريك في العبادة تحتاج إلى شيء من التفصيل والبسط والتمثيل والتنظير ، تشريك عبادة بعبادة له حكم، وتشريك عبادة بمباح له حكم، وتشريك عبادة بمحرم له حكم.
فالشخص الذي أمر بكثرة المشي فقال بدلاً من أن أجوب الأسواق طولاً وعرضاً أطوف أحصل على ما أريد وأحصل على أجر الطواف نقول يؤجر على طوافه لأنه ما عدل من هذا إلى ذاك إلا طلباً للثواب، وما عدل عن الحمية وترك الطعام والشراب من غير صيام إلى الصيام إلى قاصداً بذلك وجه الله سبحانه وتعالى نعم أجره أقل.
الإمام إذا أطال الركوع من أجل الداخل تشريك في العبادة فكان الإمام ناوياً أن يسبح سبع مرات فسمع الباب فتح فقال في نفسه لعل هذا يدرك هذه الركعة فسبح عشر مرات من أجل الداخل، الجمهور على أنه لا بأس بذلك وهو من باب الإحسان إلى أخيه وإن أدخله المالكية في الممنوع لأنه أطال الصلاة من أجل فلان فيدخل في الممنوع لكن إذا جاز تقصير الصلاة من أجل بكاء الطفل ومن أجل أمه فلن يجوز تطويلها مع عدم طرؤ الرياء من أجل الإحسان إلى هذا الداخل من باب أولى، والرسول عليه الصلاة والسلام يدخل في الصلاة يريد إطالتها فإذا سمع بكاء اصبي خفف رأفةً به وبأمه عليه الصلاة والسلام وهذا فعله وهو المعصوم المشرِّع، على كل حال هذه مسألة لها بحث آخر ولها فروع وتفاصيل وهي مسألة جديرة بالعناية .
ما يروى عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: "صوموا تصحوا" هذا رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب، حديث ضعيف جداً لا يثبت عنه عليه الصلاة والسلام وإن كان معناه صحيحاً.(1/20)
كذلك ما يروى عنه عليه الصلاة والسلام مرفوعاً : "المعدة بيت الداءو الحمية راس الدواء" لا أصل له وهو في الموضوعات وإنما هو من قول الحارث بن كلدة طبيب العرب.
هنا مسألة يسأل عنها كثيراً وهي البشارة بشهر رمضان، روى ابن خزيمة في صحيحه فقال : "باب في فضائل شهر رمضان إن صح الخبر" وهذه الكلمة يستعملها ابن خزيمة كثيراً مما لا يتأكد من صحته أو مما في سنده ضعف يقول: "إن صح الخبر" ثم ساق بسنده عن سلمان قال: خطبنا رسول الله ( في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً ، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة شهر يزاد فيه رزق المؤمن" الحديث بطوله حديث في إسناده يوسف بن زياد البصري منكر الحديث وفيه أيضاً علي بن زيد بن جدعان ضعيف أيضاً وإن وثقه الشيخ أحمد شاكر لكنه ضعيف، فالحديث في هذا الإسناد ضعيف وفضائل شهر رمضان كثيرة ثابتة في الأحاديث الصحيحة.
يبقى مسألة البشارة والهنئة مما تعارف عليه الناس وتواطؤا عليه يهنئ بعضهم بعضاً بدخول رمضان وبإتمام صيامه مثلاً ويهنئ بعضهم بعضاً في المناسبات .
الإمام أحمد - رحمه الله - يقول: "لا بأس أن يقول تقبل الله منك" فهذه الأساليب التي تتضمن الدعاء ولا يلتزم فيها لفظ بحيث يشبّه بالمنقول بحيث يتواطأ الناس عليه ويعتمدونه ولا يحاد عنه إلى غيره .(1/21)
والبشارة بما يسر لها أصل في الشرع فبُشر كعب بتوبة الله عليه وكافأ من بشره ، المقصود أن البشارة بما يسر وهذا مما يسر ، له أصل في الشرع على أنه لا ينكر على من جاء بعبارة تتضمن الدعاء والثناء على الله مما لا يتعبد بلفظه ولا يعتقد أنه لا يحاد عنه والإمام أحمد - رحمه الله - يقول: "لا بأس أن يقول تقبل الله منك" يعني في العيد مثلاً يهنئ الناس بعضهم بعضاً ويدعو بعضهم لبعض والله المستعان، فمثل هذه المسائل لا يشدد فيها .
كتاب الصيام
قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي - رحمه الله - : "يجب صوم رمضان برؤية هلاله . فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين، وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه، وإن رؤي نهاراً فهو لليلة مقبلة. وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم. ويصام بريوة عدل ولو أنثى، فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا، ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله أو رأى هلال شوال صام" .
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: "كتاب الصيام ، يجب صوم رمضان برؤية هلاله" .
الصيام يجب بأحد أمرين الأول رؤية الهلال ولو من قبل واحد عدل من المسلمين ولو كان امرأة، فثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي ( قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" (22) وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي ( أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه، ويشهد له حديث الأعرابي الذي شهد عند النبي ( بأنه رأى الهلال فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟" (23) قال: نعم، فمر بالصيام.
فالهلال إذا رآه عدل ولو واحد ولو كان امرأة بالنسبة لدخول الشهر وجب الصيام به - يعني برؤيته - .
وأما خروج الشهر وانتهاءه فلابد من شاهدين عدلين كسائر الشهور، فسائر الشهور لا تثبت إلا بشهادة عدلين لما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" .(1/22)
ويشهد له حديث الحارث بن حاطب ( أنه قال: "عهد إلينا رسول الله ( أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل مسكناً بشهادتهما" (24) .
وعن ربعي بن حراش ورواه أبو داود عن رجل من أصحاب النبي ( قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي ( بالله لأهلا الهلال أمس عشية فأمر رسول الله ( الناس أن يفطروا (25) .
فالصيام ودخول الشهر يثبت بواحد وأما خروجه كسائر الشهور لا يثبت إلا باثنين، وسبب التفريق الاحتياط لهذه العبادة التي هي ركن من أركان من أركان الإسلام ، والملحوظ في ذلك أن ثبوت الشهر ولزوم الصيام كأنه ليس من باب الشهادات التي يطلب لها العدد وإنما هو من باب الإخبار فتفترق الشهادة مع الإخبار بأمور منها أن الشهادة يطلب لها العدد ويطلب لها شهادة الأحرار بينما الأخبار لا يطلب لها عدد فتثبت الأخبار بقول واحد ولو امرأة ولو عبد ، فدخول الشهر خبر شرعي كرواية الحديث تثبت برواية واحد كما أن دخول الشهر يثبت برؤية واحد.
وبالنسبة لخروجه ودخول شهر شوال فشوال كغيره من الشهور تترتب عليه أحكام بعضها متعلق بحقوق الله سبحانه وتعالى وبعضها متعلق بحقوق العباد فهي تحتاج إلى شهادة، وأما رمضان فأعظم عمل فيه الصيام فهو إلى الأخبار أقرب والعمدة في ذلك ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر والأعرابي.
بعض الناس من باب الاحتياط للعبادة قد يتساهل في هذا الباب ويدعي أنه رأى الهلال وهو في الحقيقة لم يره ويزعم أنه لا يضر الناس أن يصوموا زيادة يوم وأن يكفوا عن الشرور من الأمور التي كانوا يزاولونها قبل الصيام، نقول هذا حرام وهذه حجة من كذب على النبي عليه الصلاة والسلام مدعياً أنه يكذب له لا عليه، فالدين ليس بحاجة إلى ترويج من أمثال هؤلاء .
ومن رأى الهلال ولم يُعْمَل بشهادته رُدَّت شهادته ، هل يجب عليه أن يصوم لأن الحديث الصحيح : "صوموا لرؤيته" وقد رآه ، وهل له أن يفطر إذا رأى هلال شوال؟(1/23)
الذي مشى عليه المؤلف أنه إذا ردت شهادته أنه عليه أن يصوم ولو وحده ، لكن الصحيح أنه يصوم مع الناس ويفطر مع الناس لحديث : "الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون" (26) وهو حديث حسن .
مما يجب به صيم رمضان إن لم يُرَ الهلال، يجب صيام رمضان بإكمال شهر شعبان ثلاثين يوماً لقوله عليه الصلاة والسلام : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" (27) وهذا نص صحيح صريح مفسَّر.
"فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" وهنا يقول في الكتاب: "فإن لم ير مع صحو ليلة الثلاثين أصبحوا مفطرين" هذا لا إشكال فيه إن كانت صحو، يقول: "وإن حال دونه غيم أو قتر فظاهر المذهب يجب صومه" والحديث الذي في الصحيحين وغيرهما: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" فعلق الصوم بالرؤية "فإن غم عليكم" نص في الباب "فاكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" وهذا الحديث مخرج في الصحيح من حديث أبي هريرة (28) .
وروى مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ( قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين" أيضاً هذا نص في الموضوع وبهذا يفسر حديث: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له" هذا نص مجمل "فاقدروا له" يحتمل أن يكون معناه احسبوا له المدة المُفَسّرة في الروايات الأخرى وهي ثلاثون يوماً والتقدير هو الحساب ، ويحتمل أيضاً أن معنى اقدروا ضيقوا عليه ضيقوا شهر شعبان وتضييقه يكون بتسعة وعشرين لكن هذا الاحتمال ترده الروايات الصحيحة الصريحة ، فإذا لم ير الهلال لغيم أو قَتَر فإنه حينئذ لا يجوز الصيام لأنه هو يوم الشك الذي صح النهي عنه في حديث عمار ( قال: "من صام هذا اليوم" يعني الذي يُشَك فيه من شعبان أو رمضان "فقد عصى أبا القاسم ( " رواه أهل السنن بإسناد صحيح .(1/24)
وما اختاره المؤلف هنا أنه يصام لا شك أنها رواية في المذهب وإن قال المؤلف أنها ظاهر المذهب وفي بعض النسخ من الزاد : "فظاهر المذهب يجوز صومه" عندنا هنا في النسخة المطبوعة معنا : "فظاهر المذهب يجب صومه" وعليه أكثر النسخ ، لكن في بعض النسخ : "يجوز صومه" والصواب نه لا يجوز صومه لأنه هو يوم الشك الذي جاء في حديث عمار أنه قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم ( " (29) .
هم يقولون بأنه يجب صومه احتياطاً ، إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر فإنه يجب الصوم احتياطاً لاحتمال أن يكون الهلال قد ظهر لكن لم ير لوجود الغيم أو القتر أو لغير ذلك ويستدلون على ذلك أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا كان يوم الثلاثين من شعبان وحال دونه غيم أو قتر أصبح صائماً .
وهذا لا شك أنه من احتياط ابن عمر الذي لم يوافق عليه فله احتياطات وله اجتهادات لم يوافق عليها وله تشديدات معروفة فكان يدخل الماء في عينيه حتى عمي وهذا من احتياطه وتشديده وأخباره في هذا كثيرة، وهو لا شك أنه من أهل الاحتياط.
الاحتياط الذي يؤدي إلى فعل محظور كما هنا: "فقد عصا أبا القاسم ( " الاحتياط الذي يؤدي إلى فعل محظور أو ترك مأمور قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الاحتياط في ترك هذا الاحتياط أ.هـ.
وعلى كل حال فعل ابن عمر اجتهاد منه وفي مقابل نص صحيح صريح وكلٌ يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم ( .
ثبت عنه ( أنه كان يفارق مجلس العقد خشية أن يستقيله البائع أو المشتري وقد صح النهي عن ذلك، وثبت عنه أنه كان يكفكف دابته لكي تقع أخفافها على مواطئ أخفاف ناقة النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان يتتبع الآثار التي نزل بها النبي عليه الصلاة والسلام ويظن أن هذا يدخل في الاقتداء ، فله اجتهادات وتشديدات لم يوافق عليها ولم يفعلها من هو أفضل منه من الصحابة رضوان الله عليهم، وحينئذ فلابد من الرؤية أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً .(1/25)
والرؤية المراد بها ما كان بالعين المجردة لأنها هي الأصل لكن لو استعمل فيها ما يساعد على الوضوح كالدرابيل والمراصد مثلاً فالأدلة تدل على عدم تكليف الناس بذلك لأن الله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا ما آتاها فليست الأمة مأمورة بأن تجعل المراصد والدرابيل من أجل رؤية الهلال فإن رؤي بالعين المجردة وإلا أصبح الناس مفطرين .
لكن لو استعمل من طالع الهلال بواسطتها وجزم بأنه رآه بعد غروب الشمس وهو مسلم عدل فقد قال الشيخ عبدالعزيز - رحمه الله - : لا أعلم مانعاً من العمل برؤية الهلال لأنها من رؤية العين المجردة أ.هـ .
فهو رأى الهلال بعينه لكن بواسطة هذه الآلات ، فالهلال موجود قطعاً لكن نعلم أننا لسنا مكلفين باستعمال هذه الآلات : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا ([الطلاق: 7] هذا الأصل لكن لو استعملت فالشيخ - رحمه الله - لا يعلم مانعاً من العمل برؤية الهلال بواسطة هذه الآلات يقول : لأنها من رؤية العين المجردة.
وأما الحساب فلا يعوَّل عليه ولا يعتمد على التقاويم في دخول الشهر ولا خروجه وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى الإجماع على أنه لا يجوز العمل بالحساب في إثبات الأهلة ونقل ابن حجر في فتح الباري عن أبي الوليد الباجي إجماع السلف على عدم الاعتداد بالحساب وإجماعهم حجة على من بعدهم.
"صوموا لرؤيته" الخطاب للأمة وإن كان في الأصل الخطاب لمن حضره عليه الصلاة والسلام لكن من غاب عنه في حكمه لأن خطابه للواحد خطاب للجميع.
هنا مسألة وهي مسألة اختلاف المطالع هل هذا الخطاب للأمة بكاملها أو خطاب لمن تُتَصور رؤيته للهلال ، بمعنى أنه لو رؤي الهلال رآه مسلم في أقصى المشرق هل يلزم أهل المغرب الصيام وإن لم يروه أو العكس؟ أو نقول كل بلد وكل إقليم له رؤيته؟(1/26)
وهذه مسألة معروفة عند أهل العلم بمسألة اختلاف المطالع ، والمطالع اختلافها معلوم بالضرورة حساً وعقلاً فلا شك أن الهلال يُرَى في بلد ولا يُرَى في بلد آخر ويرى في إقليم ولكن لا يرى في إقليم آخر، لكن هل هذا الاختلاف له أثر في الحكم؟
بمعنى أنه إذا رؤي في الإقليم الفلاني يلزم الناس ويلزم الأمة كلها على وجه الأرض الصيام فقد تمت رؤيته من قبل المسلمين واللفظ يحتمل ، أو النص يتجه إلى من تمكنه الرؤية واللفظ أيضاً يحتمل ؟
وقع الخلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع في ابتداء صوم شهر رمضان والفطر منه وعدم اعتباره وسبب الخلاف أولاً اختلاف المطالع معلوم بالضرورة حساً وعقلاً، معروف أن الهلال لا يرى في الدنيا كلها فالمطالع مختلفة لكن هل لهذا الاختلاف أثر في الحكم الشرعي؟
العلماء يقولون هذه المسألة من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال والخلاف فيها سائغ لأن لفظ الحديث : "صوموا لرؤيته" يحتمل صوموا أيها المسلمون كلكم لرؤية الهلال وأفطروا لرؤيته وعلى هذا الفهم إذا رؤي الهلال في أي قطر من أقطار المسلمين فإنه يلزم المسلمين الصوم في جميع أقطار الأرض، والاحتمال الثاني أنه ممن تمكنه الرؤية وتتصور له الرؤية.
على كل حال هذه من المسائل النظرية التي فيها مجال للاجتهاد والخلاف فيها سائغ لأنه قوله عليه الصلاة والسلام "صوموا لرؤيته" يحتمل الأمرين:
1 - أن يكون خطاباً لجميع الأمة بكاملها.
2 - وأن يكون خطاباً لمن تمكنه الرؤية .
ومشى هو على أن اختلاف المطالع لا أثر له في الحكم وقال: "وإذا رآه أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم" والعلماء اختلفوا في هذه المسألة قديماً وحديثاً على القولين فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع وقال لكل أهل بلد رؤيتهم، ومنهم من لم يعتبر ذلك فإذا رأى الهلال المسلم العدل في أي بلد من بلدان المسلمين لزم المسلمين كلهم الصوم بعدوا أو قربوا.(1/27)
واستدل الفريقان بالنص الواحد: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" كما استدلوا بقوله تعالى:(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ([البقرة:185] وقال تعالى:(يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ( [البقرة:189] والهلال واحد .
مجلس هيئة كبار العلماء في هذه البلاد يرون أن يكون لكل دولة إسلامية حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها من الرأيين المذكورين، يعني إذا ترجح لدى علماء هذه البلاد مثلاً القول الأول لهم أن يعملوا به، وإذا ترجح لديهم القول الثاني عملوا به وهكذا في سائر البلدان على ما يترجح عندهم لأن المسألة اجتهادية يقول : إذاً لكلٍ منهما أدلته ومستنداته والخلاف في هذه المسألة ليست لها آثار تخشى عواقبها فقد مضى على ظهور هذا الدين أربعة عشر قرناً لا يعلم فيها فترة جرى فيها توحيد الأمة الإسلامية على رؤية واحدة أ.هـ .
ولا شك أن النبي ( حين قال : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" لم يقصد أهل المدينة فقط وإنما قصد عموم المسلمين كما نه لم يقصد بالضرورة مخاطبة كل شخص بعينه، هذا ضرورة.
"صوموا لرؤيته" هل المقصود كل شخص يصوم لرؤية نفسه؟
هذا بالضرورة ، معروف أن هذا ليس بمقصود .
وأيضاً أهل المدينة وإن كان الخطاب متجهاً لهم لأنهم هم الذين يوجه لهم الخطاب فالخطاب من شرطه أن يكون لحاضر وفي حكمه الغائب.
من الأدلة التي يحتج بها من قال باختلاف المطالع أو باختلاف الرؤية تبعاً لاختلاف المطالع ما رواه مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبدالله بن عباس رضي الله عنهما ثم ذكر الهلال، فقال: متى رأيتم الهلال؟
فقلت: رأيناه ليلة الجمعة.
فقال : أنت رأيته؟
فقلت : نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية.(1/28)
فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه.
فقلت : أولا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟
فقال : لا، هكذا أمرنا رسول الله ( (30) .
فهذا يدل على أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن الرؤية لا تعم وأن لكل أهل بلد رؤيتهم إذا اختلفت المطالع ، وقالوا إن المطالع في منطقة المدينة غير متحدة مع المطالع في الشام ، وقال آخرون لعله لم يعمل برؤية أهل الشام لنه لم يشهد بها عنده إلا كريب وحده والشاهد الواحد لا يعمل بشهادته في الخروج وإنما يعمل بها في الدخول ، وفيه نظر .
الآن الشهادة التي أدلى بها كريب عند ابن عباس في أول الشهر أو في آخره؟
وقت كلام كريب لابن عباس في آخر الشهر، لكن هذا الكلام مبني على الرؤية التي حصلت في أول الشهر ، ننظر إلى قول هؤلاء : وقال آخرون لعله لم يعمل برؤية أهل الشام لنه لم يشهد بها عنده إلا كريب وحده والشاهد الواحد لا يعمل بشهادته في الخروج وإنما يعمل بها في الدخول أ.هـ.
وفيه نظر لأن كريباً شهد أنه رآه في الدخول لا في الخروج، والخروج تابع للدخول ففيه دلالة قوية على نُصْرة القول بالعمل باختلاف المطالع لاسيما وقد نسب إلى الرسول ( لأن ابن عباس يقول: "هكذا أمرنا رسول الله ( ".
وعلى كل حال المسألة فيها شيء من السعة وإن كان القول باختلاف الرؤية تبعاً لاختلاف المطالع هو القول الممتجه.
يقول : "إن رؤي نهاراً فهو لليلة المقبلة" إذا تراءاه الناس عند غروب الشمس فلم يروه فلما أصبحوا رأوه فلا شك أنه لليلة المقبلة.(1/29)
يقول : "فإن صاموا بشهادة واحد ثلاثين يوماً فلم ير الهلال أو صاموا لأجل غيم لم يفطروا " كأنه جعل الصيام بشهادة واحد كالصيام لأجل الغيم للاحتياط لا أنه حكم ملزم تترتب عليه آثاره، إذا قلنا أن شهادة الواحد حكم ملزم تترتب عليه آثاره فإذا أتموا الثلاثين فإنهم يفطرون ولو لم يروا هلال شوال لأن الشهر لا يمكن أن يزيد على الثلاثين، وهنا كأنه جعل شهادة الواحد مثل تغليب الظن بظهور الهلال ليلة الثلاثين من شعبان مع وجود الغيم كل هذا من باب الاحتياط .
يقول : "ومن رأى وحده هلال رمضان ورُدَّ قوله أو رأى هلال شوال صام" إذا رأى الهلال وحده ورد قوله سواءً كان في دخول الشهر أو في خروجه المُرَجَّح عند المؤلف أنه يصوم لأنه تحقق فيه الشرط رأى الهلال وشهد الشهر فيلزمه الصيام.
لكن رأى الهلال متأكد فرد قوله - نفترض أنه شخص فاسق - ورأى الهلال دون تردد أنه الهلال تقدم لإدلاء شهادته فردت شهادته يقول: "يلزمه الصوم" ومثله لو رأى هلال شوال فردت شهادته يلزمه الصوم .
هل قوله مطرد أو غير مطرد؟
غير مطر إذ لو كان قوله مطرداً لعمل برؤيته في آخر الشهر كما عمل بها في أول الشهر لكن كل هذا من باب الاحتياط وإلا الصوم حينما يصوم الناس والفطر كذلك يقتضي أن من رُدَّت شهادته لا يصوم بل يصوم مع الناس، وكأن مرد هذه المسألة إلى اتهام النفس وإلا فالقول متجه أنه يصوم مع الناس ويفطر مع الناس.
وماذا لو رأى هلال ذي الحجة وردت شهادته وأُكْمِل شهر ذي القعدة ثلاثين وقد رأى الهلال رؤية لا يشك فيها هل يقف قبل الناس ؟
لا يجوز له أن يقف قبل الناس لن المسألة حكم شرعي هو سائر مع الناس حكمه حكم الأمة .
ماذا لو رأى هلال شوال يفطر أو يصوم؟
المؤلف يقول يصوم يقول: "ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله أو رأى هلال شوال صام" وهذا كله عندهم مبني على الاحتياط فيحتاط للصيام.(1/30)
لكن لو صار رمضان كامل هل يلزم الشخص أن يصوم واحداً وثلاثين يوماً؟ هل يتصور أن يكون الشهر واحد وثلاثين؟
لا يمكن.
س: أليس هذا مبني على أن دخول شهر شوال لابد فيه من شاهدين؟
لنفسه، فحتى الواحد يشترط به العدالة وهذا فاسق المسألة افترضناها في فاسق مثلاً ردت شهادته .
س: قوله في المتن "أو رأى هلال شوال صام" احتياطاً، هذا الاحتياط ما يؤدي إلى محرم وهو صوم العيد؟
صوم يوم العيد ، نفس الشيء.
قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي رحمه الله تعالى : "ويلزم الصوم لكل مسلم مكلف قادر. وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثناءه أهلاً لوجوبه . وكذا حائض ونفساء طهرتا. ومسافر قدم مفطراً. ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكيناً. ويسن لمريض يضره ولمسافر يقصر. وإن نوى حاضر صوم يوم ثم سافر في أثناءه فله الفطر. وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتا فقط. وعلى ولديهما قضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً" .
على من يجب الصيام؟
يقول المؤلف رحمه الله تعالى : "يلزم الصوم كل مسلم مكلف قادر" الصيام يجب وجوباً على كل مسلم مكلف بالغ عاقل من الرجال والنساء ، فلا يجب الصيام على كافر بمعنى أنه لا يلزم به حال كفره ولا يؤمر بقضائه إذا أسلم وإن كان الكفار مخاطبين بفروع الشريعة على القول الراجح عند أهل العلم والدليل على ذلك قوله تعالى:(وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ( [التوبة: 54] فالكفر مانع من قبول العبادة .
وكونه لا يقضي إذا أسلم لقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ( [الأنفال: 38] والنبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر أحداً ممن أسلم أن يقضي ما فاته من الواجبات.(1/31)
وأيضاً كل هذا من باب الترغيب له في الإسلام إذ لو أُمِرَ من أسلم أن بلغ السبعين مثلاً بقضاء ما فاته من الواجبات مدة خمس وخمسين سنة فاحتمالٌ أن يرجع عن إسلامه ، فترغيباً له في الإسلام لا يؤمر بقضائها إضافةً إلى من جاء من النصوص في ذلك.
إذاً ما فائدة تكليفه بفروع الشراعة وهو كافر؟
يعاقب على تركها في الآخرة : (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ( [المدثر:42-43] .
ولا يجب الصيام على الصبي غير البالغ، والبلوغ كما هو معروف يحصل بأحد أمور:
1 - تمام خمسة عشر سنة .
2 - يحصل بإنبات الشعر الخشن حول الفرج .
3 - إنزال المني عن شهوة .
4 - وتزيد المرأة أمراً رابعاً وهو الحيض، فإذا حاضت البنت فقد بلغت ولو كان سنها دون الخامسة عشرة.
ويستحب لمن بلغ سبعاً فأكثر وأطاقه من الذكور والإناث أن يصومه ويتأكد في حق أولياء أمورهم أمرهم بذلك إذا أطاقوه كما يأمرونهم بالصلاة .
والصيام لا يجب على فاقد العقل كالمجنون والمعتوه ومثله المختلط المتغير في آخر عمره وهو ما يعرف عند الناس بـ"المخرف أو المهذري" لا يجب عليه الصيام، فكل من ليس له عقل بأي وصف من الأوصاف فإنه ليس بمكلف وليس عليه أي واجب من الواجبات كالصلاة والصيام ولا إطعام عليه .
قد يقول قائل: لماذا نقول بوجوب الزكاة في ماله ولا نقول بوجوب الحج في ماله؟ أو بوجوب الصيام فيجب بدله الإطعام؟
نقول وجوب الزكاة في ماله كوجوبها في مال الصبي، فالزكاة تجب في مال الصبي والمجنون وهذا كما هو معروف ليس من باب الأحكام التكليفية التي رفعت عن المجنون وعن الصبي حتى يعقل المجنون وحتى يبلغ الصبي، بل هو من قبيل الأحكام الوضعية من باب ربط الأسباب بالمسببات فإذا وجد السبب فيوجد المسبب وجد المال فتجب الزكاة كما أنه يُلْزَم بقيمة ما يتلفه فإذا جنى الصبي جناية توجب أرْشاً تلزمه هذه الجناية ويخرج من ماله أرْش هذه الجناية وكذلك المجنون.(1/32)
يقول : "وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثناءه أهلاً لوجوبه" إذا قامت البينة، شهد العدل الثقة أنه رأى الهلال البارحة لكنه تأخر في أداء هذه الشهادة فإنه يلزم الناس الإمساك بقية النهار ويلزمهم القضاء.
ومثل ما لو تأخرت البينة إلى أثناء النهار من بلغ في أثناء النهار، ومن طهرت في أثناء النهار، ومن قدم من سفر في أثناء النهار كل هؤلاء يلزمهم الإمساك لأن الوصف الذي من أجله حصل الفطر زال فوصف السفر ارتفع ووصف الحيض ارتفع والوصف بعدم التكليف ارتفع ولذا قال: "وإذا قامت البينة في أثناء النهار وجب الإمساك والقضاء على كل من صار في أثناءه أهلاً لوجوبه" .
يقول: "وكذا حائض ونفساء طهرتا. ومسافر قدم مفطراً . ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكيناً" الحائض والنفساء لا يصح الصيام منهما بل يحرم عليهما أن يصوما وقت الحيض أو النفاس وكذلك تحرم عليهما الصلاة والأصل في ذلك ما رواه البخاري وغيره في بيان النبي عليه الصلاة والسلام لنقصان دين المرأة من قوله ( : "أليست إحداكن إذا حاضت لا تصوم ولا تصلي؟" (31) .
لكن عليهما قضاء الصوم دون الصلاة لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن معاذة سألتها : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: "أحرورية أنت؟" يعني هل أنت من الخوارج أهل حروراء الذين يلزمون الحائض بقضاء الصلاة!!!
فقالت : "لست بحرورية ولكني أسأل" كأنها رأت أن هذا ركن من أركان الإسلام وهذا ركن ، فكيف تقضي هذا الركن ولا تقضي ذاك الركن فأجابتها عائشة بما يوجب التسليم فقالت: "كنا نحيض على عهد رسول الله ( فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" (32) والحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما.(1/33)
"نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" ليس لأحد كلام وليس لأحد اجتهاد وليس لأحد قياس في مقابل النص، وقد أجمع العلماء على ما ذكرته عائشة رضي الله عنها من وجوب قضاء الصوم دون الصلاة وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى وتيسيره على هؤلاء لأن الصلاة تتكرر في كل يوم وليلة خمس مرات ففي قضائها مشقة دون الصيام فالصوم يجب في السنة مرة واحدة وهو صوم رمضان فلا مشقة في قضاءه .
وإذا طهرت الحائض قبل طلوع الفجر فإنها تصوم وصومها صحيح ولو لم تغتسل، فإذا تيقنت الطهر قبل طلوع الفجر ولو لم تغتسل إلا بعد أن طلع الفجر كالجنب يصبح جنباً يصوم ولو لم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر ، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه يدركه الفجر وهو جنب فيصوم ويغتسل بعد طلوع الفجر.
وإذا حاضت المرأة بعد غروب الشمس فإن صيامها صحيح ولو أحست بأعراض الحيض من الأوجاع التي تصاحبه قبل غروب الشمس لأن العبرة بخروج الدم وليست العبرة بالإحساس .
وإذا طهرت في أثناء النهار وجب عليها الإمساك في الراجح من أقوال العلماء على ما تقدم لزوال العذر الشرعي وعليها قضاء ذلك اليوم ومثلها المسافر في أثناء النهار في رمضان إذا قدم في أثناء النهار في رمضان إلى بلده فإنه يلزمه الإمساك لزوال حكم السفر، ارتفع الوصف الذي علق به عدم الصيام، مع قضاء ذلك اليوم .
وأما بالنسبة للمستحاضة وهي التي يكون معها دم لا يصلح أن يكون حيض ولا نفاس فحكمها حكم الطاهرات تصوم وتصلي وتتوضأ لكل صلاة كأصحاب الحدث الدائم من بول أو ريح أو غيرهما لكن عليها أن تتحفظ من الدم بقطن أو نحوه حتى لا يتلوث بدنها ولا ثوبها بالدم .(1/34)
وإذا استعملت المرأة ما يقطع الدم من حبوب أو إبر فانقطع الدم بذلك فإنها في حكم الطاهرات لأن الحكم معلق برؤية الدم، بالدم بوجوده وبنزوله فإذا لم ينزل ارتفع الحكم وتكون حينئذ في حكم الطاهرات صلاتها صحيحة وكذلك صومها، ولا مانع من استعمال ما يمنع العادة من أجل متابعة الصيام والقيام مع الناس لنه أنشط لها شريطة أن تسلم من الضرر، أما إذا أدّى ذلك إلى ضرر في بدنها فإنه لا يجوز أن تستعمل ما يضرها مع أن تسليمها لحكم الله سبحانه وتعالى وعدم استعمال هذه الموانع أولى فترضى وتسلم بحكم الله فإذا طهرت صلت وصامت وإذا حاضت أمسكت وهذا أولى بها .
يقول المؤلف - رحمه الله - : "ومن أفطر لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أطعم لكل يوم مسكيناً . ويسن لمريض يضره ولمسافر يقصر" يعني الفطر، المريض والمسافر يجوز لهما الصيام ويجوز لهما الفطر، والفطر أفضل لأنه رخصة والله سبحانه وتعالى يحب أن تؤتى رخصه لاسيما إذا كان الصيام يشق عليهما، وقد يجب الفطر مع حصول المشقة الشديدة وعليهما القضاء إذا أفطرا في نهار رمضان لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( [البقرة: 183-184] وقال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ( [البقرة:185] أي فمن كان منكم مريضاً أو على سفر حين شهوده الشهر فأفطر فعليه عدة من أيام أخر، عدة ما أفطر يعني بقدرها يصومها بدل الأيام التي أفطرها.
يقول القرطبي في تفسيره: للمريض حالتان:(1/35)
إحداهما: أن لا يطيق الصوم بحال فعليه الفطر وجوباً.
الثانية: أن يقدر على الصوم بضرر ومشقة فهذا يستحب له الفطر ولا يصوم إلا جاهل أ.هـ (33) .
وإذا كان المريض لا يرجى برؤه بشهادة الأطباء الثقات فلا يلزمه صوم ولا قضاء وعليه أن يطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من قوت البلد، وهكذا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اللذان لا يستطيعان الصوم يطعمان كذلك لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ( [البقرة:184] قال ابن عباس : هذه الآية ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً وكان يقرأها: (يطوقونه( سياق الآية هل يؤيد تفسير ابن عباس أو لا يؤيده؟
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ( [البقرة:184] ابن عباس جعل الآية فيمن لا يطيق الصيام ومنطوق الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ ( ورأي ابن عباس الفدية على من لا يطيق الصيام ، فهل سياق الآية يؤيد قول ابن عباس؟
الواضح من سياق الآية ومنطوقها أنه لا دلالة فيها لقول ابن عباس لأنها صريحة فيمن يطيق الصيام، والذي يطيقه هو القادر عليه لا العاجز عنه وهم مع ذلك مخيرون بين الصيام والفدية وكان هذا أول ما نزل فرض الصيام كان الناس مخيرين إن شاءوا صاموا وإن شاءوا أفطروا وأطعموا ولو كانوا قادرين على الصيام كما ثبت في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: لما نزلت (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ( [البقرة:184]كان من يريد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
ورُجّحَ القول بالنسخ لقوله تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ( [البقرة:184] فمثل هذا الكلام هل يمكن أن يوجه للشيخ الكبير العاجز أو للمرأة الكبيرة العاجزة عن الصيام هل يمكن أن يوجه لهما مثل هذا الكلام؟(1/36)
لأنها لو كانت في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصيام لم يناسب أن يقال له (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ( مع أنه لا يطيق الصيام.
ولكن القائل بذلك ابن عباس وهو ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن فهل يخفى عليه مثل هذا الكلام وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام أن يعلمه التأويل؟ فهل يخفى على ابن عباس مثل هذا الكلام؟
الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ( [البقرة:184] يقول ابن عباس الذين يطيقونه الشيخ الكبير والمرأة العجوز.
الشيخ الكبير والمرأة العجوز هم الذين يطيقونه أو الذين لا يطيقونه؟
نص الآية يخالف كلام ابن عباس بلا شك ، المسألة صريحة ما فيها إشكال فلو تسأل عامي من عوام المسلمين كيف تفهم من هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ([البقرة:184]هل يقال للشخص العاجز الذي لا يستطيع الصيام أنك تطيق الصيام لكن عليك فدية وأن تصوم خير لك، يمكن أن يوجه له مثل هذا الكلام؟!!! آحاد الطلبة، صغار الطلبة يفهمون هذا الفهم، فهل يخفى هذا الكلام على ابن عباس أو له وجهة نظر تخفى على مثلنا؟
س: لعله عمل على قراءة (يطوقونه( فيختلف المعنى؟
(يطوقونه( يعني معنى يطوقونه يطيقونه لكن مع شيء من الشدة، والذي يطوق الصيام بمعنى أنه يطيقه مع الشدة يلزمه الصيام، الذي لا يلزمه الصيام العاجز تماماً عن الصيام حتى عند ابن عباس رضي الله عنهما.
قالوا يمكن أن يوجه كلام ابن عباس رضي الله عنهما بأن الله سبحانه وتعالى جعل الفدية عدلاً للصوم، الآن كل مسلم مكلف ثابت العقل إما أن يصوم وإما أن يفدي ولا ثالث لهما، فلما لزم من يطيق ويستطيع الصيام الصوم ولا خيار له ثاني جعلت الفدية - هذه وجهة نظر ابن عباس - لمن لا يطيق ، فما دام الشخص لا يطيق الصيام يؤمر بعدل الصيام وهو الفدية لن عندنا خيارين الصيام أو العدل الذي هو الفدية، فليس هناك خيار ثالث إما أن تصوم أو تفدي.(1/37)
الآن الذي يستطيع الصيام ويطيق الصيام هل يجوز له أن يفتدي؟
نسخ هذا ، لا يجوز له أن يفتدي.
بقي الذي لا يطيق ، هل نقول يلزمه الصيام؟
لا يلزمه الصيام، لأنه لا يطيق وتكليفه من باب تكليف ما لا يطاق.
إذاً بقي له ، هل يعفى من كل شيء الذي لا يطيق أو نقول تلزمه الفدية وهو العِدْل عدل الصيام؟
وُجِّه كلام ابن عباس رضي الله عنهما بهذا .
يمكن أن يوجه كلام ابن عباس بأن الله سبحانه وتعالى جعل الفدية عدلاً للصوم لمن قدر ، فإذا لم يقدر بقي عدله وهو الفدية لاسيما مع دعوة النبي ( لابن عباس أن يعلمه التأويل ولا يمكن أن يخفى عليه مثل هذا، ما يمكن أن يخفى عليه أن الذين يطيقونه هم العاجزون، ولا يمكن أن يوجه الكلام للعاجز بقوله تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ( .
كيفية الإطعام بالنسبة لمن عجز عن الصيام، قالوا له كيفيتان:
أولاهما: أن يصنع طعاماً فيدعوا إليه المساكين بعدد الأيام التي أفطرها كما كان أنس بن مالك يفعل ذلك ( لما كبر.
الثانية: أن يطعمهم طعاماً غير مطبوخ فيطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من كل ما يسمى طعام من تمر أو بر أو أُرزٍ أو غير هذا .
وقال بعضهم إن الواجب مد من البر أو نصف صاع من غيره ، يعني على قضاء معاوية ( في الفِطْرة.
بعضهم يرى أنه لا يصح الإطعام بالطعام المطبوخ فيدعى إليه المساكين بل لابد من تمليك الفقير يعني كالزكاة لابد فيها من التمليك، لكن النص يشمل المطبوخ وغير المطبوخ .
وأما وقت الإطعام فالمسلم مخير إن شاء فَدَى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أجّل الإطعام إلى آخر يوم، ولا يجزئ تقديم الإطعام عن شهر رمضان فلا يجزئ في شعبان مثلاً لأن سبب الوجوب الفطر فلا يقدم الواجب على سببه.
كل عبادة لها سبب وجوب ووقت وجوب، لا يجوز تقديمها على السبب والوقت، ويجوز تأخيرها عنهما أو لا يجوز؟(1/38)
فكفارة اليمين مثلاً لها سبب وهو اليمين ووقت وهو الحنث فسببها انعقاد اليمين ووقتها الحنث، لا يجوز تقديم الكفارة على السبب ويجوز تأخيرها عن الوقت اتفاقاً يعني بعد الحنث .
وهل يجوز تقديمها بين السبب والحنث؟
"إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" والرواية الأخرى: "إلا كفرت عن يميني ثم أتيت الذي هو خير" (34) فهذا يدل على جواز تقديم المسبَّب على وقت الوجوب.
فأقول إذا كان للعبادة سبب وجوب ووقت وجوب فإنه لا يجوز التقديم على السبب اتفاقاً ويجوز التأخير عن وقت الوجوب، والخلاف فيما بين السبب والوقت، ولا تتصور أن الوقت المراد به الزمن المحدد في فعلها بل المقصود به وقت الوجوب.
فمثلاً صلاة الجمعة سببها يوم الجمعة الوصف ويبدأ اليوم بارتفاع الشمس فهذا السبب، ووقت الوجوب الزوال فلا يجوز تقديمها على سبب الوجوب اتفاقاً يعني قبل ارتفاع الشمس وارتفاع وقت النهي، ويجوز تأخيرها عن وقت الوجوب الذي هو الزوال اتفاقاً ، والخلاف فيما بين ذلك.
فهل يجوز فعلها قبل الزوال ؟
المعروف عند الحنابلة يجوز ، وعند غيرهم لا يجوز.
الهدي سببه الإحرام بالقران مثلاً أو التمتع ، ووقته يوم النحر ، فلا يجوز التقديم على السبب اتفاقاً ويجوز بعد الوقت اتفاقاً والخلاف فيما بين ذلك، هناك قول عند الشافعية يجوز نحر الهدي قبل يوم النحر قياساً على كفارة اليمين التي تجوز قبل الحنث .
على كل حال هذه المسألة من أراد تصورها تصوراً دقيقاً مع أمثلتها فليرجع إلى قواعد ابن رجب رحمه الله (35) .(1/39)
قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي رحمه الله تعالى: "وإن نوى حاضر صوم يوم فسافر في أثناءه فله الفطر. وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتا فقط. وعلى ولديهما قضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً. ومن نوى الصوم ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار ولم يفق جزءً منه لم يصح صومه لا إن نام جميع النهار . ويلزم المغمى عليه القضاء فقط . ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب لا نية الفرضية. ويصح النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده .
ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي لم يجزئه . ومن نوى الإفطار أفطر" .
يقول المؤلف: "وسن لمريض يضره ولمسافر يقصر" تكلمنا على السفر، لكن ما لاسفر المبيح للفطر؟
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهادأ.هـ .
سفر الطاعة كالحج والجهاد وطلب العلم وما أشبه ذلك محل إجماع على أن من سافر هذه الأسفار أنه يترخص .
يقول : ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري - لأنه مأمور به - أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والجواز، والقول بالجواز أرجح أ.هـ (36) .
يعني السفر المباح كسفر النزهة ، مجموعة خرجوا في نزهة هل لهم أن يترخصوا أو لا ؟
القول بجواز الترخص لهم أرجح، وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام لم يسافر سفراً إلا سفر طاعة.
وأما العاصي في سفره فالراجح من قولي العلماء أنه لا يترخص في سفره فلا يفطر ولا يقصر ، هذا قول جمهور العلماء المالكية والشافعية والحنابلة من يعصي بسفره لا يجوز له أن يترخص ، وأما الحنفية يجوزون له الترخص لأن الوصف الذي علق به سائر الرخص موجود وهو السفر فيترخص ويأثم بسفره، وكأن شيخ الإسلام رحمه الله يميل إلى قول الحنفية .(1/40)
وحجة من يقول بأنه لا يترخص أن إباحة هذه الرخص بالنسبة له إعانة له على معصيته، شخص خرج ليقطع الطريق أو ليسرق أو لأي أمر محرم كيف تخفف عنه بدلاً من أن يصلي أربع ركعات نقول صل ركعتين أخف لك وأيسر لأنك عندك مشقة عندك سفر، أو بدلاً من أن تنزل من راحلتك مرتين تصلي لا صل مرةً واحدة وتابع سفرك.
هذا فيه إعانة له على المعصية والله سبحانه وتعالى قد اشترط في إباحة أكل الميتة للمضطر أن لا يكون باغياً ولا عادياً (37) يعني لا يستعين بهذه الرخصة على معصية الله ، فلعل المتجه في هذه المسألة قول الجمهور نه لا يجوز له أن يترخص .
هناك مسافة القصر ومدته، هل للسفر المبيح للرخص مسافة محددة ومدة معينة أو هو مطلق كما جاء في النصوص من غير تحديد؟
نعرف أن جمهور العلماء ومنهم الأئمة على أن المسافة محددة والمدة أيضاً محدودة، فأكثرهم حدّ ذلك بأربعة برد مما يقرب من ثمانين كيلاً ، وأما المدة فمن أجمع على المقام في مكان أربعة أيام فليس له أن يترخص عند الأكثر.
المقصود أن التحديد سواءً كان في المدة أو في المسافة قول جمهور العلماء، ومن أهل العلم من أطلق وقال ما دام الوصف باقياً الذي عُلِّقَ عليه الترخص في النصوص فالحكم باقٍ .
نعرف أن القول بمقتضى إطلاق النصوص وأن الترخص للمسافر ما دام الوصف منطبقاً قول لجمع من أهل العلم اختاره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى .(1/41)
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله في فتاويه: قد كنت سابقاً أعتقد أن تحديد مدة الإقامة للمسافر في أثناء السفر ليس عليها دليل صريح من الكتاب ولا من السنة، وكنت أفتي على ضوء ذلك بجواز القصر والفطر للمسافر إذا أقام في أثناء سفره لبعض الحاجات ولو أجمع على إقامة أكثر من أربعة أيام، ثم إنني أخيراً أرى من الأحوط للمسافر إذا أجمع الإقامة في أي مكان أكثر من أربعة أيام أن يتم ويصوم سداً لذريعة تساهل فيها الكثير من السفهاء بالقصر والفطر بدعوى أنهم مسافرون وهم مقيمون إقامة طويلةأ.هـ.
يعني مقتضى كلام من يرى الإطلاق أنه إذا جاء إلى أي بلد للرزق أو لطلب العلم وفي نيته الرجوع إلى بلده ولو بعد سنين أنه يترخص يجمع ويقصر ويفطر ويمسح ثلاثة أيام بلياليها له ذلك لأن الوصف موجود فهو مسافر، إذاً الوصف الأعم موجود فكل الناس مسافرين.
يقول الشيخ رحمه الله تعالى: هذا هو الأحوط عندي سداً لهذه الذريعة وخروجاً من خلاف أكثر أهل العلم القائلين بأن المسافر متى عزم على إقامة مدة تزيد على أربعة أيام فليس له القصر ولا الفطر في رمضان والاحتياط في الدين مطلوب شرعاً عند اشتباه الأدلة أو خفاءها لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" (38) وقوله عليه الصلاة والسلام : "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" (39) أ.هـ.
هذا رأي الشيخ رحمه الله تعالى، والفتوى بمثل هذا من باب السياسة الشرعية ومن باب تحقيق المصلحة ودرء المفاسد لأنه إذا صلى أربع ركعات لا يقول ببطلان صلاته أحد وإذا صلى ركعتين جمهور أهل العلم على بطلان صلاته ، فالأحوط له أن يعمل بمثل هذا القول فرحم الله الشيخ.(1/42)
إذا صام المسافر أجزئه الصيام خلافاً للظاهرية الذين قالوا إنه لا يصح صوم مسافر، فقولهم ضعيف لأنه ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام صام في السفر في رمضان فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ( قال: "غزونا مع رسول الله ( لست عشرة من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" (40) لكن ينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يشق الصيام على المسافر، أما إذا شق عليه فالأولى له أن يفطر، وإذا زادت المشقة بحيث يتضرر من هذه المشقة فقد عصى وأثِم لما روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: إن رسول الله ( خرج إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كُرَاع الغميم وصام الناس معه ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة" (41) رواه مسلم.
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ليس من البر الصيام في السفر" (42) فيحمل هذا على من شق عليه وأما من لا يشق عليه الصيام فليفعل الأرفق به وهو الأفضل في حقه كسائر الرخص .
قول الظاهرية الصيام لا يجزئ ، ومستنده: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ ( [البقرة: 184] يعني فيجب عليه عدة وظاهر أنه سواء صام أو لم يصم عليه عدة ويلزمه عدة، فإذاً صيامه وجوده مثل عدمه فلا يجزئه هذا الصيام بل يلزمه القضاء هذه حجتهم.
والجمهور يُقَدِّرون: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ( فأفطر (فعدةٌ( أي فالواجب عدة (من أيام أخر(.
متى يفطر المسافر؟ شخص يريد أن يسافر فهل يفطر قبل أن يخرج من بيته أو يفطر في البيت أو إذا فارق القرية؟ هذه مسألة عملية، يعني وصل المطار مثلاً وبدء السفر من المطار فهل نقول ما دام أجمع السفر وعزم عليه وسيقضي اليوم يقضيه يأكل في بيته قبل أن يخرج ؟(1/43)
المسافر إنما يجوز له إذا تحقق فيه وصف السفر، يعني إذا باشر السفر وشرع فيه وفارق الحضر أما ما دام أنه حاضر غير مسافر فهو شاهد للشهر فلا بد من إمساكه .
وأما ما رواه الترمذي وحسنه عن محمد بن كعب قال : "أتيت أنس بن مالك وهو يريد سفراً وقد رُحِلَت له راحلته ولبس ثياب السفر فدعا بطعام فأكل فقلت: له سنة؟ فقال: سنة. ثم ركب" (43) هذا الحديث حسنه الترمذي لكنه ضعيف في إسناده عبدالله بن جعفر والد الإمام علي بن المديني وهو ضعيف.
وعلى كل حال الحكم معلق بالوصف وهو السفر فما دام الوصف الذي علق عليه الترخص غير موجود فالأحوط عدم الترخص وإن حَسَّن بعضهم هذا الحديث وعمل به ، فلا يقصر الصلاة ولا يجمع بين الصلاتين ولا يفطر إلا إذا باشر السفر وسافر بالفعل، والله أعلم .
مسألة المطار ، المطار هل هو من البلد أو خارج البلد؟ يعني إذا وصل المطار يترخص أو لا يترخص؟
إلى الآن ما بعد باشر السفر، ما بدأ السفر إلى الآن، وإذا رجع قفل من سفره ووصل إلى المطار قبل وصل البلد فحكم المطار حكم البلد فلا يترخص إلا إذا باشر الوصف .
يقول المؤلف : "وإن أفطرت حامل أو مرضع خوفاً على أنفسهما قضتاه فقط.(1/44)
وعلى ولديهما قضتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً" الحامل التي تخشى ضرراً على نفسها أو على حملها من الصوم ومثلها المرضع إذا خشيت على رضيعها لهما أن يفطرا كالمريض الذي يرجى برؤه وعليهما القضاء لما أفطرتا من الأيام فقط، هذا إذا خشيتا على أنفسهما لما روى أنس بن مالك الكعبي ( عن النبي ( أنه قال : "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" وضع عنه الصوم بمعنى أنه لا يطالبه بالصوم وقت السفر لكن عليه أن يقضيه ، ووضع عنه شطر الصلاة فالرباعية تكون ركعتين "وعن الحبلى والمرضع الصوم" (44) فهي مشبهة للمسافر في جواز الفطر لكنها لا تشبه المسافر في وضع شطر الصلاة عنها، فَوُضِعَ عن الحبلى والمرضع الصوم ما دامت متلبسة بالوصف الذي من أجله وضع الصوم كالسفر فعلى هذا تقضي الحامل والمرضع ما أفطرتا كالمسافر تماماً والحديث رواه أحمد وأهل السنن بإسناد حسن فدل على أنهما كالمسافر في الصوم تفطران وتقضيان.
وما يروى عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن على الحامل والمرضع الإطعام دون القضاء فهو قول مرجوح مخالف للأدلة الشرعية ، ومخالف للأصول لأن عذرهما مؤقت ليس مثل عذر من لا يرجى برؤه فهما يرجى برؤهما، فعذرهما مؤقت كالمسافر ولا يصح إلحاقهما بالمريض الذي لا يرجى برؤه لأن عذره دائم بخلافهما فهما كالمسافر.
س : أحسن الله إليك إذا كانت المرأة ما بين حمل ورضاع فيمر عليها عدة أشهر من رمضان وهي على هذه الحالة فهل يلزمها أن تقضي عندما تنتهي هذه الأشهر كلها وهي تخشى على نفسها وعلى ولدها؟
إذا وجدت الخشية وجد العذر ، لكن إذا كانت لا تخشى يلزمها أن تصوم إذا كانت الخشية خفيفة ويمكن أن تحتملها ويحتملها طفلها فيما يقرره الأطباء يلزمها.
وهذه لا نقول أنها مثل الذي سفره دائم فالذي سفره دائم حكمه حكم الإقامة هذه إقامته، فمثل هذه لابد لها في يوم من الأيام أن تكون غير متصفة بهذا الوصف.(1/45)
هنا يقول إذا خافتا على أنفسهما قضتا من غير إطعام، وإذا خافتا على ولديهما قضتا يعني أفطرتا وأطعمتا لكل يوم مسكيناً .
النص هل فيه إطعام وتفريق بين من خافت على نفسها؟ "وعن الحبلى والمرضع الصوم" فهل يلزمهما إطعام إذا خافتا على ولديهما؟
مقتضى القياس على المسافر أنه لا يلزم الإطعام وأنه لا فرق بين أن تخشيا على نفسيهما أو على ولديهما.
بعد هذا نية الصيام يقول المؤلف رحمه الله تعالى : "من نوى الصوم ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار ولم يفق جزءاً منه لم يصح صومه. لا إن نام جميع النهار" لم يصح صومه، نوى الصوم ثم مع اللزوم جن نسأل الله العافية أو أغمي عليه ولم يفق جزءاً منه لم يصح صومه، لكن إن نام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس صومه صحيح لكنه وقع في عدة محظورات، وقع في محظورات من ترك للصلوات وهذا أمر يُخشى مع رد صيامه وإن كان صحيحاً يعني مجزءاً مسقطاً للطلب بمعنى أنه لا يؤمر بالإعادة.
وهناك فرق بين النوم وبين الجنون والإغماء ، الجنون يرفع التكليف بخلاف النوم.
الإغماء هل يُلْحَق بالجنون أو بالنوم؟
أهل العلم فَصّلوا فقالوا إن كان الإغماء أكثر من ثلاثة أيام فهو في حكم الجنون بمعنى أنه لا يؤمر بقضاء ، فلو افترض أن شخصاً أدخل العناية المركزة ولا يحس بشيء لمدة خمسة أيام أسبوع شهر أو أكثر فإذا أفاق لا يلزمه قضاء شيء، لكن لو أغمي عليه يوم أو يومين يقضي ما فاته لأنهم جعلوا الثلاثة حداً للكثرة والقلة فالقليل من الإغماء حكمه حكم النوم والنائم يلزمه أن يقضي ما فاته ومثله من أغمي عليه أقل من ثلاثة أيام ، وأما من أغمي عليه أكثر من ثلاثة أيام وطال به الإغماء فحكمه حكم المجنون يرتفع عنه التكليف .
يقول المؤلف : "يلزم المغمى عليه القضاء فقط" ولو أن شخصاً ما نوى الصيام ثم نام يومين أو ثلاثة فهذا يوجد أحياناً لمرض وداء فهنا يلزمه القضاء لأنه ما نوى لكن لو نوى الصيام ثم نام إلى غروب الشمس خلاص انتهى كما مر .(1/46)
وقوله : "ويلزم المغمى عليه القضاء فقط" المغمى عليه عرفنا أنه إذا كان ثلاثة أيام فأقل وقصة عمار وما جاء عن الصحابة في ذلك معروف من أراده راجعه في الاستذكار لابن عبدالبر رحمه الله تعالى .
يقول : "ويجب تعيين النية من الليل لصوم كل يوم واجب لا نية الفريضة" النية وهي العزم على الصيام شرط لصحته كسائر العبادات لحديث عمر ( في الصحيحين وغيرهما قال سمعت رسول الله ( يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" (45) فيجب تعيينها وتبيينها من الليل لصوم كل يوم واجب ولا يجزئ بدون نية لأن النية شرط كما أنه لا تجزئ النية من النهار لأنه فاته جزء من وقت الصيام بدون نية لما روى ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم عن النبي ( أنه قال: "من لم يُجْمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" (46) رواه أحمد وأصحاب السنن.
ليس معنى هذا أن ينوي الصيام من أول الليل بل الواجب أن لا يطلع الفجر إلا وقد نوى لكي تشمل النية جميع أجزاء النهار، وهذا على اعتبار أن كل يوم من رمضان عبادة مستقلة فعلى هذا يلزمه النية لكل يوم على اعتبار أن رمضان كل يوم منه عبادة مستقلة فيلزمه لكل يوم نية، وإذا قلنا إن صيام الشهر عبادة واحدة قلنا يكفيه أن ينوي مرة واحدة في أول الشهر وأنه سوف يصوم الشهر كله ولا يلزمه تجديد النية، ولا شك أن مثل هذا هو المتجه لأنه يستصحب النية، نعم إن جاء بما ينقض هذه النية فلابد من استئنافها.
واختار بعضهم أن ما يشترط فيه التتابع تكفي النية في أوله ما لم يقطعه لعذر فيلزمه أن يستأنف النية، وعلى هذا فإذا نوى الإنسان أول يوم من رمضان أنه صائم للشهر كله فإنه يجزئه عن الشهر كله ما لم يحصل عذر ينقطع به التتابع كما لو سافر في أثناء رمضان فإنه إذا عاد يجب عليه أن يجد النية للصوم .
ما معنى النية ؟(1/47)
هل معنى هذا أنه لابد أن يقف لحظة من اللحظات ويجدد نية و... لا أبدأ، مجرد قصد الصيام وأنه صائم غداً وبعده إلى أن ينتهي الشهر هذه هي النية .
هذا بالنسبة للصوم الواجب ، وأما بالنسبة لصيام النفل فتجوز نية صومه من النهار شريطة أن لا يأكل أو يشرب أو يجامع قبل النية لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه دخل عليها ذات يوم ضحىً فقال: "هل عندكم شيء؟" فقالت : لا . فقال: "إني إذاً صائم" (47) .
يأتي إلى البيت بعد طلوع الشمس وبدء النهار ويسأل عندكم فطور؟ فيقولون والله ما جهزنا شيء وما عندنا شيء ثم يصوم، فإذا كان نفلاً لا بأس وهذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام دخل على عائشة ذات يوم عليه الصلاة والسلام ضحىً فقال: "هل عندكم شيء؟" فقالت: لا . فقال: "إني إذاً صائم" رواه مسلم.
وعلى هذا فمن لم يعلم بدخول الشهر إلا بعد طلوع الفجر يجب عليه أن يمسك عن المفطرات بقية اليوم لكونه يوماً من رمضان ، فلا يجوز للمقيم الصحيح أن يتناول فيه شيئاً من المفطرات لكن عليه القضاء لكونه لم يبيت الصيام قبل الفجر.
قد يقول قائل إن الصيام ترك للمفطرات وليس بعمل فكيف يدخل في الحديث "إنما الأعمال بالنيات" ؟
فيجاب : أن الترك عمل وإن أطلق أهل العلم أن التروك لا تحتاج إلى نية، يقول الشاعر:
لإن قعدنا والنبي يعمل
*
فذاك منا العمل المضلل
قعدنا يعني تركنا العمل معه عليه الصلاة والسلام، فذاك منا العمل المضلل .
فالترك مع العزم عليه ونيته وقصده لا شك أنه عمل، عمل القلب فسمى تركه للعمل عملاً .
إضافةً إلى ما ورد في حديث "لا صيام لمن لم يبيت النية من الليل"(48).(1/48)
هنا مسألة أشار إليها المؤلف بقوله: "ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي لم يجزئه" إن كان غداً من رمضان فهو فرضي، ما أعلن دخول الشهر في أول الليل فقال أنا أريد أن أنام فإن كان من رمضان فالحمد لله وإن لم يكن من رمضان ما ضرنا، فاستصحب هذه النية المترددة فنام إلى إقامة الصلاة فهل تجزئه هذه النية أو لا؟
هنا يقول: "ولو نوى إن كان غداً من رمضان فهو فرضي لم يجزئه" لأن النية لا بد أن تكون مجزوماً بها بدون تردد، فقصد العبادة لابد أن يكون مجزوماً به والتردد في النية يخالف القصد والعزيمة على الفعل.
واختار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أن صيامه صحيح لأن تردده مبني على التردد في ثبوت الشهر لا على التردد في الصيام فهو ليس بمتردد في الصيام هو عازم على الصيام لكن التردد مبني على أمر آخر وهو ثبوت الشهر، فإن كان من الشهر فهو عازم على الصوم.
فهل الجهة منفكة الآن أو الجهة واحدة؟
هل نستطيع أن نقول أن الجهة منفكة فشخص عازم على الصيام لكن التردد لأمر آخر لا يرجع إلى ذات الصيام وإنما هو راجع إلى ثبوت الشهر، شيخ الإسلام رحمه الله يرى أن الجهة منفكة فكونه يتردد في ثبوت الشهر غير كونه يجزم على الصيام.
يقول: "ومن نوى الإفطار أفطر" شخص صائم دخل بعد صلاة العصر فطلب الغداء فقالت الزوجة والله ما عندنا شيء، فقال إذاً أريد أن أكمل.
يصح صومه أو لا يصح؟
"ومن نوى الإفطار أفطر" مطلق، سواءً كان في الفرض أو في النفل؛ لأنهم يفرقون بين ما بعد الزوال وبين ما قبل الزوال.
فشخص نوى الصيام نفل فلما صلى الظهر قال أريد الغداء قالوا لا يوجد وهو يريد أن يفطر لو وجد شيء لأفطر فنوى الإفطار، أو طلب الغداء فقدم له الغداء فكأن الغداء ما أعجبه فقال أكمل الصيام.(1/49)
هنا عندهم يفطر "من نوى الإفطار أفطر" لأن الصيام يُدْخَل فيه بمجرد النية فَيُخْرَج منه بمجردها ، لكن لو أن شخصاً توضأ وضوءاً كاملاً فأحسّ في شيء في بطنه فجاء إلى المسجد وقال: أذهب إلى الدورة أنقض الوضوء وأجدده، ثم سمع الإقامة فقال لا أنقضه بعد الصلاة وأُدْرِك تكبيرة الإحرام ، فهل يتنقض وضوءه أو لا ؟
نوى النقض هنا ، لكن يقولون الذي يدخل فيه بالفعل ما يخرج منه إلا بالفعل.
من نوى الإفطار في أثناء النهار لأنه قطع نية الصيام فما دام ناوياً الصوم فهو صائم للصوم فهو صائم وإذا نوى الإفطار أفطر أي انحلت نيته وفسد صومه.
س: هل هناك فرق بين نية الإفطار ونية الأكل؟
نية الأكل نقض للإفطار؛ لأن الأكل مخالف أو مناقض تماماً للصوم.
س: ما باشر الأكل؟
لكنه نوى قطع الصيام بالأكل.
س: الذي في أول الشهر وتبين بعد طلوع الفجر أنه من رمضان ولم يبيت النية فقال سأصوم نفلاً ما دام أني ممسك ممسك أصوم نفلاً ، هل يجوز هذا؟
لا هو يلزمه الإمساك فهذا واجب عليه أن يمسك ، فلو قال ما دام أني سأقضيه ولن يكون عن الفرض لماذا لا أنويه عن الاثنين مثلاً أو قضاء أو نذر أو ما اشبه ذلك، ما دام أنه لا يصلح في رمضان إلا صوم الفريضة إذاً لا يصلح للنفل لأن الوقت محدد ما يستوعب غير رمضان ، يعني وقت مضيق بقدر العبادة فلا يستوعب غير .
س: لو حدث نفسه بالفطر؟
إذا كان مجرد حديث نفس يعني ما تردد فلا شيء، وعلى كل حال مراتب القصد متفاوتة فهناك الهاجس وهذا لا أثر له، وهناك الخاطر الذي يعرض بسرعة ويزول ، وهناك حديث النفس يتردد قليلاً يفطر أو ما يفطر بمعنى أنه لا يمكث ولا يلبث فهذا معفو عنه، لكن العزم والهم هذا الذي يقع به ما يقع.
على كل حال الفطر في رمضان عمداً من غير عذر على ما تقدم في ما ذكرنا في وجوب الصيام وأن ترك الصيام خطر عظيم وقد قيل بكفر تاركه، فالفطر في رمضان عمداً من غير عذر حرام إجماعاً وكبيرة من كبائر الذنوب.(1/50)
لأنه على ما تقدم صيام رمضان ركن من أركان الإسلام وروى الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة مرفوعاً : "من أفطر يوماً من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه" (49) وعلقه البخاري وإن كان فيه ضعف.
وعليه قضاء ما أفطره سواءً كان عن عمد أو عن غير عمد سهواً أو نسياناً وغفلةً، وعلى كل حال النسيان له حكم آخر.
إذا أفطر متعمداً يختلف حكمه إذا كان بعذر أو بغير عذر والقضاء لازم له في الحالتين ، إن كان بغير عذر مع الإثم وإن كان بعذر لا إثم عليه، من الأعذار التي تقدمت.
ويجب عليه القضاء لعموم قوله تعالى: (فَعِدّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر( [البقرة :185] والآية وإن كانت في حق المعذور فغيره من باب أولى وأما ما روى الدارقطني عن جابر: "من أفطر يوماً من رمضان في الحضر فليهد بدنه فإن لم يجد فليطعم ثلاثين صاعاً من تمر للمساكين" (50) حديث ضعيف.
من رأى شخصاً يأكل في نهار رمضان يعني يتناول مفطراً يأكل أو يشرب ناسياً كمن رأى شخص من طلاب العلم أو من العلماء يشرب والمسألة مفترضة في الناسي تماماً يعني ما يظن به أنه مفطر عمداً ومخالف مخالفة ظاهرة فيجب الإنكار عليه ولا يقول قائل إن هذا أطعمه الله وسقاه اتركوه حتى يشبع لأن الله أطعمه وسقاه.
فمن رأى مسلماً في نهار رمضان يتناول مفطراً من أكل أو شرب أو غيرهما ناسياً أو متعمداً وجب الإنكار عليه لأن إظهار ذلك في نهار رمضان منكر، ولو كان صاحبه معذوراً في نفس الأمر لكي لا يجترأ الناس على إظهار ما حرم الله من مفطرات في نهار الصيام بدعوى النسيان.
فلو ترك الناسي فكيف يترك المتعمد؟ وإذا كان لا يجوز ترك المتعمد فكيف نفرق بين المتعمد وغيره؟(1/51)
إذاً يجب علينا أن ننبه على الجميع وننكر على الجميع، وإذا كان من أظهر ذلك صادقاً في دعواه أنه ناسي فلا قضاء عليه لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" (51) متفق عليه.
ومعروف خلاف مالك في هذه المسألة أن من أكل أو شرب ناسياً أنه يجب عليه القضاء بدون كفارة ومن أكل أو شرب متعمداً فعليه مع القضاء الكفارة.
وهكذا المسافر ليس له أن يظهر تعاطي المفطرات بين المقيمين الذين لا يعرفون حاله بل عليه أن يستتر بذلك حتى لا يتهم بتعاطيه ما حرم الله عليه وحتى لا يجرأ غيره على ذلك.
وهكذا الكفار يمنعون من إظهار الأكل والشرب ونحوهما بين المسلمين سداً لباب التساهل في هذا الأمر ولأنهم ممنوعون من إظهار شعائر دينهم الباطل بين المسلمين، ووزارة الداخلية في كل عام إذا بقي على رمضان يومين أو ثلاثة تنبه وأنه يلزم كف تعاطي المفطرات ولو من الكفار.
س: الحائض في بيتها؟
الحائض تأكل سراً ولا تظهر، ولا شك أن المرأة عذرها غير عذر الرجل فعذر المرأة أظهر من عذر الرجل لكن لا يعدم من يتلبس أو من يتعذر بمثل عذرها من النساء ولو كن غير صادقات، فعلى هذا تمنع من الأكل إلا عند من يعلم عذرها كأمها وأختها يعرفون أنها معذورة فلا مانع .(1/52)
قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي رحمه الله تعالى : "باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة . من أكل أو شرب أو استعط أو احتقن أو اكتحل بما يصل إلى حلقه أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان غير احليله أو استقاء أو استمنى أو باشر فأمنى أو أمذى أو كرر النظر فأنزل أو حجم أو احتجم وظهر الدم عامداً ذاكراً لصومه فسد لا ناسياً أو مكرهاً. أو طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو فكر فأنزل أو احتلم أو أصبح في فيه طعام فلفظه أو اغتسل أو تمضمض أو استنشق أو زاد على الثلاث أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد. ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه. لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس أو معتقداً أنه ليل فبان نهاراً".
الذي يفسد الصوم الأكل والشرب والجماع وما في حكمها، فيفسد الصوم بالأكل والشرب والجماع عمداً بالإجماع باتفاق أهل العلم .
وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى أصول هذه الأشياء التي ذكرها المؤلف في قوله عز وجل : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ( [البقرة: 187] فالآن باشروهن وكلوا واشربوا إلى الغاية المحددة ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ( يعني حتى يطلع الفجر، مفهومه نه إذا طلع وجاءت الغاية أنه لا يجوز لكم أن تباشروهن ولا أن تأكلوا ولا أن تشربوا.
فهذا أصول المفطرات فالأكل إدخال الشيء إلى المعدة عن طريق الفم نافعاً كان أو ضاراً ، يعني مغذياً أو غير مغذي فلو أكل تراب أو أكل حصى سمي آكلاً ما دام من طريق الفم .
والشرب إدخال السائل إلى المعدة من طريق الفم نافعاً كان أو ضاراً، فالمدخل المعتاد أكل وشرب إن كان سائل فشُرب وإن كان غيره فأكل ، من غير نظر إلى وصف آخر كالنفع والضر والتغذية وغيرها فكلها لا ينظر إليها على حد سواء.(1/53)
هذا في المدخل المعتاد ، لكن لو دخل إلى جوفه أو إلى بدنه من غير المدخل المعتاد فهذا محل الكلام، ألحق العلماء بالفم كل منفذ إلى المعدة كالأنف مثلاً بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام للقيط ابن صبرة: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" (52) فدل على أن الأنف منفذ كالفم ، وهذا يدل على أن الصائم لا يبالغ في الاستنشاق لأن المبالغة في الاستنشاق سبب لوصول الماء إلى المعدة عن طريق الأنف فإنه مفطر ولذا قال: "من أكل أو شرب أو استعط أو احتقن".
وإذا كان هذا في الاستنشاق فالمبالغة في المضمضة منهي عنها بالنسبة للصائم من باب أولى لأن الأنف صار مدخلاً بالألحاق وإلا المدخل الحقيقي إلى الجوف هو الفم وألحق به الأنف كما جاء في الحديث إلحاقاً وإلا فليس بمنفذ أصلي والحديث يدل على أنه منفذ، فإذا منع الاستنشاق والمبالغة فيه بالنسبة للصائم فلأن يمتنع عن المبالغة في المضمضة من باب أولى لأن هذا هو المنفذ الحقيقي فعلى الصائم أن لا يبالغ في الاستنشاق ولا يبالغ في المضمضة.
ولقائل أن يقول المبالغة في المضمضة تختلف عن المبالغة في الاستنشاق لأنه في المبالغة في الاستنشاق لا يستطيع السيطرة على هذا المنفذ بينما المبالغة في المضمضة مع إمكان السيطرة فالسيطرة على الفم ممكنة بخلاف السيطرة على الأنف ولذا جاء النهي عن المبالغة بالاستنشاق دون المبالغة في المضمضة، وعلى كل على المسلم أن يحتاط لدينه.
يلحق بالاستنشاق الاستعاط فيقول المؤلف: "أو استعط" والاستعاط ما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف وهذا ملحق بالاستنشاق.
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: "باب قول النبي عليه الصلاة والسلام إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء ولم يميز بني الصائم وغيره وقال الحسن لا بأس بالسعوط للصائم إن لم يصل إلى حلقه ويكتحل".(1/54)
الإمام البخاري حينما يترجم بقوله: "باب النبي عليه الصلاة والسلام إذا توضأ فليستنشق بمنخره المال ولم يميز بين الصائم وغيره" إشارة إلى أن حديث لقيط لم يثبت على شرطه رحمه الله، فأمرنا بالاستنشاق من غير تفريق بين حال الصيام وبين حال الإفطار.
لكن حديث لقيط ابن صبرة ما دام صالحاً للاحتجاج يقضي على مثل هذا العموم ويخص بالصائم "وقال الحسن: لا بأس بالسعوط للصائم إن لم يصل إلى حلقه" بهذا القيد فيكون السعوط للصائم مع عدم الوصول إلى الحلق مثل الاستنشاق من غير مبالغة لا بأس به "ويكتحل" ولعل مراد الحسن رحمه الله أن لا يبالغ في الاستعاط لأنه قيد الجواز بعدم وصوله إلى حلقه، ويدخل مع كلامه استعاط ما لا جرم له بل مجرد رائحة مثلاً يعني للصائم أن يتطيب ويتبخر لكن لا يترك الدخان يصل إلى جوفه لأنه له جرم.
"أو اكتحل بما يصل إلى حلقه" على ما سيأتي في الكحل، وأما السواك فمشروع للصائم في كل وقت وإن قال أنه يكره السواك للصائم بعد الزوال، فعندهم في المذهب كراهية السواك كالشافعية بعد الزوال للصائم لأنه يزيل الرائحة التي هي أطيب عند الله من ريح المسك، لكن الصواب أو السواك مشروع للصائم في كل وقت لعموم الأدلة "عند كل صلاة"(53) "عند كل وضوء"(54) ويدخل في ذلك ما بعد الزوال كما أنه يدخل ما قبل الزوال.
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى: "باب السواك الرطب واليابس للصائم ويذكر عن عامر بن ربيعة قال: رأيت النبي ( يستاك وهو صائم ما لا أحصي ولا أعد".
"يذكر عن عامر بن ربيعة" هذا تعليق بصيغة التمريض، والتعليق عند البخاري إما أ، يصدر بصيغة الجزم قال فلان أو ذكر فلان، وإما أن يصدر بصيغة التمريض كما هنا "يذكر عن عامر بن ربيعة" وهذه الصيغة بمجردها لا تدل على ضعف فقد علق أحاديث بصيغة التمريض وهي صحيحة.(1/55)
قال "رأيت النبي ( يستاك وهو صائم ما لا أحصي ولا أعد" وقال أبو هريرة عن النبي ( : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" يرد بهذا رحمه الله على من يفرق ويمنع الصائم من الاستياك بعد الزوال، يروي نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي عليه الصلاة والسلام ولم يخص الصائم من غيره.
وأما حديث: "إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلى كان نوراً بين عينيه يوم القيامة" رواه الطبراني والدار قطني هذا حديث ضعيف لا يثبت به حكم، فعلى هذا يستحب للصائم كغيره السواك في كل وقت.
وما ذكر من كونه يزيل الخلوف الذي هو أطيب عند الله من ريح المسك كلام لا معنى له لأن هذه الرائحة إنما تنبع من المعدة لا من الأسنان.
ولا حرج في استعمال معجون الأسنان للصائم من التحفظ عن ابتلاع شيء منه كالسواك، فالسواك أحياناً له طعم فالمعجون مثله، وعلى كل حال على الإنسان أن يحتاط فلأولى أن لا يستعمل المعجون لكن إن احتاج إليه فلا مانع شريطة أن يحتاط لصيامه فيتحفظ عن ابتلاع شيء منه، أما مجرد تنظيف الأسنان بهذه المادة فحكمها حكم السواك.
يقول: "أو اكتحل بما يصل إلى حلقه أو أدخل إلى جوفه شيئاً من
أي موضع كان غير أحليله" الكحل سبق نقل البخاري عن الحسين أن الصائم يكتحل، وقال البخاري أيضاً: ولم ير أنس والحسن وإبراهيم بالكحل للصائم بأساً.أ.هـ.
وذلك لأن العين ليست منفذ لا يصل إلى الجوف ما يوضع في العين.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في حقيقة الصيام (55): وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليلة ومداواة المأمومة والجائفة - من أنواع الشجاج - فهذا من تنازع فيه أهل العلم، فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك.(1/56)
والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك فإن الصيام دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه.
فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي ( في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً، ولا مسنداً، ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك.
والحديث المروي في الكحل ضعيف رواه أبو داود في السنن ولم يروه غيره، ولا هو في مسند الإمام أحمد ولا سائر الكتب المعتمدة.أ.هـ.
ومثل الكحل قطرة العين والأذن فإنهما لا تفطران الصائم، لكن قد يقول القائل إذا اكتحلت أو قطرت في عيني أو قطرت في أذني قد أجد الطعم في الحلق، فإن وجد الطعم في حلقه فالقضاء في حقه أحوط.
الحقنة وهي إدخال الدواء عن طريق الدبر أشار إليها شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله إلى آخره... هو لا يرى أنه يفطر بشيء من ذلك.
الحقنة إدخال الدواء عن طريق الدبر فيها الخلاف الذي أشار إليه شيخ الإسلام سابقاً واختار أنها لا تفطر لأنها لا يطلق عليها اسم الأكل والشرب لا لغةً ولا عرفاً، وليس هناك دليل في الكتاب والسنة أن مناط الحكم وصول الشيء إلى الجوف ولو كان لقلنا كل ما وصل إلى الجوف من أي منفذ كان فإنه يفطر لكن الكتاب والسنة دل على شيء معين وهو الأكل والشرب.
وعلى كل حال كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى فيه قوة وأدلته قوية لكن الأحوط أن لا يحتقن الإنسان في نهار رمضان إلا في حال الضرورة القصوى خروجاً من خلاف من قال بفطره، ولا شك أن الدبر منفذ يصل إلى الجوف لكنه ليس بأكل ولا شرب ولا في معنى الأكل والشرب.(1/57)
ومثل الحقنة الإبر في الوريد والعضل إذا لم تكن مغذية فإنها لا تفطر الصيام لأنها ليست بأكل ولا في معناه لكن لو كانت مغذية صارت في معنى الأكل وإن لم تكن أكلاً لكن تأخيرها إلى الليل أحوط.
وأما الإبر المغذية فإنها تفطر الصائم لأنها بمعنى الأكل والعبرة بالمعاني.
يقول المؤلف: "أو استقاء أو استمنى أو باشر فأمنى" لا يخلو الصائم إما أن يستدعي القيء ويقيء عمداً أو يغلبه القيء ويذرعه، فإن ذرعه القيء وغلبه فلا يفطر وإن استقاء عمداً فقد ورد في حديث أبي هريرة في المسند والسنن أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من استقاء فليقض ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه"(56) وهو حديث فيه ضعيف يقول الإمام البخاري رحمه الله: لا أراه محفوظاً.أ.هـ.
وأكثر العلماء على أن تعمد القيء يفسد الصيام فعلى هذا لا ينبغي تعمده.
في صحيح البخاري: "باب الحجامة والقيء للصائم" وقال لي يحيى بن صالح حدثنا معاوية ابن سلام حدثنا يحيى عن عمر بن الحكم بن ثوبان سمع أبا هريرة ( قال: إذا قاء فلا يفطر، إنما يخرج ولا يولج، ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح".
قال الإمام البخاري "قال لي" متصل أو معلق؟
متصل، لكن بعضهم يقول أن هذه الصيغة يستعملها البخاري فيما تحمله بطريق المذاكرة لا بطريق التحديث، ولكن هذا القائل لا حجة له ولا دليل معه.
وقول البخاري: "ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح" الأصح أنه لا يفطر.
"وقال ابن عباس وعكرمة: الفطر مما دخل وليس مما خرج" هذه القاعدة المأثورة عن هؤلاء الذين ذكرهم الإمام البخاري رحمه الله تعالى أغلبية وليست كلية بدليل أن الجماع لا يندرج فيها.
فهم يفرقون بين الفطر والوضوء فيقولون: "الفطر مما دخل، والوضوء مما خرج" الجماع ينقض هذه القاعدة وأكل لحم الجزور ينقض الشق الثاني من القاعدة، فهذه القاعدة لا شك أن البخاري رحمه الله نقلها عن ابن عباس وعكرمة وعن أبي هريرة أيضاً لكن هي قاعدة أغلبية وليست كلية.(1/58)
يقول المؤلف: "أو استمنى أو باشر فأمنى أو أمذى أو كرر النظر فأنزل" لعل هذا يأتي مع الجماع.
يقول المؤلف: "أو حجم أو احتجم" روى الإمام أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس ( قال: "أفطر الحاجم والمحجوم"(57) والحاجم من حجم غيره والمحجوم من فعلت به الحجامة.
والحجامة المراد بها إخراج الدم من المحجوم سواء قل الدم أم كثر وسواءً كانت في الرأس أو في الكتفين أو في أي مكان من البدن، وحديث شداد بن أوس صححه الإمام أحمد والبخاري وشيخ الإسلام ابن تيمية وجمع من الحفاظ وضعفه آخرون وقال بموجبه جمع من الفقهاء وقالوا إن هذا من باب التعبد، وروى الإمام البخاري في صحيحه أن أنس بن مالك ( سئل: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: "لا، إلا من أجل الضعف"(58).
وأوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الحكمة من ذلك فقال: أما المحجوم فالحكمة هي أنه إذا خرج منه الدم أصاب بدنه الضعف الذي يحتاج معه إلى غذاء لترتد عليه قوته، لأنه لو بقي إلى آخر النهار على هذا الضعف فربما يؤثر على صحته في المستقبل فكان من الحكمة أن يكون مفطراً فعلى هذا لا تجوز الحجامة للصائم في الفرض إلى عند الضرورة.أ.هـ.
قوله صلى الله عليه وسلم "أفطر" يعني صار مآله إلى الفطر، لأنه يضعف فيصير مآله إلى الفطر وليس معناه فطراً حقيقياً.
وأما الحكمة بالنسبة للحاجم فقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن الحاجم عادة يمص قارورة الحجامة، وإذا مصها فإنه سوف يصعد الدم إلى فمه وربما وصل إلى حلقه ونزل إلى الجوف وهو لا يشعر وهذا هو الغالب.أ.هـ.
إذاً الحجامة سواء كانت من الحاجم أو المحجوم ليست مفطرة لذاتها وإنما هي مظنة للتفطير وليست مفطرة.(1/59)
جمهور العلماء ذهبوا إلى أن الحجامة لا تفطر الصائم لما روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم وهو صائم، والإمام الشافعي رحمه الله تعلى يرى أن حديث ابن عباس ناسخ لحديث شداد بن أوس السابق" أفطر الحاجم والمحجوم".
الشيخ عبد العزيز رحمة الله عليه يرى أن الحجامة تفطر الصائم على الصحيح من قولي العلماء لحديث شداد بن أوس، وحديث شداد بن أوس مصحح من قبل جمع من أهل العلم وفيه التصريح بأنه يفطر.
لكن إذا حمل على أنه مظنة على أن الحجامة سواءاً كانت من الفاعل أو المفعول به مظنة للفطر، فالمحجوم يؤول أمره إلى الفطر لأنه يضعف ثم يفطر والحاجم قد يصل إلى جوفه شيء من دم الحجامة فيفطر فهي مظنة للفطر فوضعت موضع المئنة فحكمها كالنوم بالنسبة للوضوء أنه ليس بناقض لذاته لكنه مظنة للنقض.
أوضح شيخ الإسلام رحمه الله تعالى الحكمة من ذلك، فخلاصته أن المحجوم يضعف فيؤول أمره إلى الفطر، والحاجم يصل إلى جوفه بسبب مص القارورة شيء من الدم فيفطر.
وعلى كل حال فالخلاف في الحجامة قوي لأن الحديثين ثابتان سواءً كان حديث ابن عباس الذي فيه أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم وهو صائم وحديث شداد بن أوس الذي فيه "أفطر الحاجم والمحجوم" أيضاً ثابت عند جمع من العلماء وإن كان حديث ابن عباس أقوى فعند المعارضة يرجح عليه حديث ابن عباس، لكن مع صحة حديث شداد وثبوته فالأحوط للإنسان أن لا يحتجم وهو صائم بل يحتجم في الليل إن احتاج إلى ذلك، وذكر البخاري عن ابن عمر ( أنه كان يحتجم وهو صائم ثم تركه فكان يحتجم بالليل واحتجم أبو موسى ليلاً.
وأبعد من زعم أن سبب حديث شداد بن أوس "أفطر الحاجم والمحجوم" من أجل أنهما كانا يغتابان الناس قال ابن خزيمة: جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه ( إنما قال "أفطر الحاجم والمحجوم" لأنهما كانا يغتابان، قال فإذا قيل فالغيبة تفطر الصائم؟ قال: لا .أ.هـ.(1/60)
يعني يقول الحاجم والمحجوم يفطران لأنهما كانا يغتابنا الناس، فإذا قيل له الغيبة تفطر؟ قال: لا!!!
إذا كان الأصل لا يفطر فكيف بالفرع؟
وهذا من أدب المناظرة أن لا تحتج على أحد بشيء لا يذعن لكل بأصل، تثبت له شيء بقياس فرع على أصل هو لا يعترف بالأصل فتقع في مثل هذا.
فلو قال قائل من المالكية - وهم لا يقولون بذلك لكن للتنظير - الجمار التي سبق أن رمي بها لا تجزئ لأنها مستعملة كالماء المستعمل، نقول مذهبك أيها المالكي الأصل لا يعترف به فالماء المستعمل عند مالك طهور فكيف تقيس فرع على أصل ليس بثابت عندك؟!!!
وعلى هذا ينبغي أن لا يطرح هذا أيضاً في المناظرة، فلو أن حنبلياً أو شافعياً قال للمالكي يا أخي الجمار المستعلمة لا يجوز استعمالها قياساً على الماء، يقول لك أن لا أوافقك في الأصل فضلاً عن الفرع.
فمثل هذا فيما ذكره الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى يقول: جاء بعضهم بأعجوبة فزعم أنه ( إنما قال "أفطر الحاجم والمحجوم" لأنهما كانا يغتابان الناس، قال فإذا قيل فالغيبة تفطر الصائم؟ قال: لا.أهـ.
وعلى كل حال فالقول بالنسخ له وجه يعني مثل ما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لا سيما مع ما ورد من حديث أبي سعيد قال: "أرخص النبي عليه الصلاة والسلام في الحجامة للصائم" وإسناده صحيح.
فوجب الأخذ به لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة والحديث مخرج في النسائي وابن خزيمة والدار قطني قال ابن حجر: ورجاله ثقات.
عرفنا أن رأي الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى أ، الحجامة تفطر الصائم على الصحيح من قولي العلماء يقول رحمه الله: يقاس على الحجامة ما كان بمعناها مما يفعله الإنسان باختياره فيخرج منه دم كثير يؤثر على البدن ضعفاً فإنه يفسد الصوم كالحجامة لأن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين الشيئين المتماثلين كما أنها لا تجمع بين الشيئين المتفرقين.أ.هـ.(1/61)
التبرع بالدم الكثير الذي يؤدي إلى ضعف البدن يفطر كالحجامة هذا عند الشيخ، وأما الذي يقولون بأن الحجامة لا تفطر فعندهم هذا من باب أولى.
وقال: لا حرج على الصائم في تحليل الدم عند الحاجة إلى ذلك ولا يفسد الصوم بذلك أما التبرع بالدم فالأحوط تأجيله إلى ما بعد الإفطار لأنه في الغالب يكون كثيراً فيشبه الحجامة.أ.هـ.
يقول المؤلف:"وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو فكر فأنزل أو احتلم أو اصبح في فيه طعام فلفظه أو اغتسل أو تمضمض أو استنثر أو زاد على ثلاث أو بالغ فدخل الماء في حلقه لم يفسد صومه" إذا طار إلى حلق الصائم ذباب أو غبار فإنه لا يفطر لأنه بغير قصد، لكن إن أمكنه إخراجه كما لو طار إلى أقصى الفم واستطاع إخراجه فإنه، فإن فرط وتركه فإنه يفطر لتفريطه، وإن لم يقدر على إخراجه إلا بتعمد القيء فلا شيء عليه ولا يفطر، ومثله الغبار.
البخاخ في الأنف عند الضرورة قالوا لا بأس به لأنه ليس جرم يذهب إلى الجوف فهو مجرد مساعد على فتح الشرايين وليس له جرم ينزل، لكن إن كان له جرم يوجد له طعم أو جرم يصل إلى الجوف فإنه يفطر.
وإن أمكن تأجيله إلى الليل فهو أحوط وإن لم يمكن ذلك فلا حرج لا سيما عند الحاجة والضرورة إليه فبعض الناس ينكتم ولا بد أن يوضع له شيء من البخار وقال الله سبحانه وتعالى:(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ((59) ومع كون الأنف منفذ ونهينا عن المبالغة في الاستنشاق إلا أن البخاخ يختلف عن الماء لأن البخاخ لا جرم له في الغالب، لكن إن وجد هناك أدوية أو أشياء لها جرم تنزل مع هذا البخار فإنه يفطر.
تغيير الدم بالنسبة لمريض الكلى نسأل الله العافية والسلامة وهو صائم قالوا يفطر الصائم ويلزمه القضاء بسبب ما يزود به من الدم النقي وما يضاف إليه إن وجد، فطريقة الغسيل يخرجون الدم ويصفى وينقى ويضاف إليه غيره فإن وجد مثل هذا فإنه يفطر.(1/62)
يقول المؤلف: "من أكل شاكاً في طلوع الفجر صح صومه" لأن الأصل بقاء الليل "لا إن أكل شاكاً في غروب الشمس" فيبطل صومه لأن الأصل بقاء النهار ودليل ذلك حديث أسماء بنت أبي بكر ( قالت: "أفطرنا على عهد النبي ( يوم غيم ثم طلعت الشمس" قيل لهشام راوي الحديث: فأمروا بالقضاء؟ قال: بدٌ من قضاء (60).أ.هـ.
يعني لا بد من القضاء، مع أن الروايات اختلفت في ذلك جاء في بعضها أنهم لم يؤمروا بقضاء، وعلى كل حال الأصل بقاء النهار وقضاء مثل هذا اليوم أحوط.
قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي رحمه الله تعالى: "فصل. ومن جامع في نهار رمضان في قبل أو دبر فعليه القضاء والكفارة. وإن جامع دون الفرج فأنزل أو كانت المرأة معذورة أو جامع من نوى الصوم في سفره أفطر ولا كفارة. وإن جامع في يومين أو كرره في يوم لم يكفر فكفارة واحدة في الثانية وفي الأولى اثنتان. وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فكفارة ثانية. وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع. ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط. ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً فإن لم يجد سقطت".
عرفنا أن الذي يفسد الصيام هو الأكل والشرب والجماع هذه أصول المفطرات، وعرفنا أنه يلحق بالأكل ما يغذي ولو كان من غير المنفذ المعتاد والشرب كذلك، ويلحق بالجماع ما ذكره المؤلف من الاستمناء والمباشرة وما أشبه ذلك.
على كل حال من جامع في نهار رمضان ممن يلزمه الصوم فإن عليه القضاء والكفارة سواء أنزل أو لم ينزل، وسواء كان الجماع حلالاً أو حراماً من باب أولى، وسواء كان الوطء في قبل أو دبر نسأل الله السلامة والعافية.(1/63)
وهذه الكفارة كما جاءت في حديث الأعرابي عتق رقبة، والرقبة مقيدة بكونها مؤمنة لأنها مطلقة في الحديث وفي كفارة الظهار، لكنها جاءت مقيدة في كفارة القتل واتحد الحكم وهو وجوب العتق فعلى هذا يحمل المطلق على المقيد للاتفاق في الحكم وإن اختلف السبب.
والعلماء بالنسبة لحمل المطلق على القيد يذكرون الصورة الأربع المتقابلة الاتحاد في الحكم والسبب، والاختلاف في الحكم والسبب، والاختلاف في السبب دون الحكم والعكس.
وهذا استطراد ولكن يحتاج إليه، فإذا اتحد الحكم والسبب حمل المطلق على المقيد اتفاقاً ويمثلون لذلك بالدم جاء مطلقاً في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ((61) وجاء مقيداً في قوله تعالى: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً((62) فالحكم واحد وهو التحريم، والسبب واحد هو النجاسة عند من يقول بها أو الاستقذار عند من لا يرى نجاسة الدم.
وعلى كل حال الحكم والسبب متحدان وعلى هذا يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً فيبقى الدم غير المسفوح مباحاً.
إذا اختلفا في الحكم والسبب - أعني المطلق مع المقيد - فإنه حينئذ لا يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً، ومن الأمثلة على ذلك اليد جاءت مطلقة في آية السرقة ومقيدة في آية الوضوء، فالحكم مختلف هذا قطع وهذا غسل والسبب مختلف فهذا الغسل سببه الحدث وذلك سببه السرقة، فلا يحمل المطلق على المقيد فلا نقول تقطع يد السارق من المرفق للاختلاف في الحكم والسبب.
وإذا اتحدا في الحكم واختلفا في السبب كما هنا كالرقبة في كفارة القتل جاءت مقيدة وفي كفارة الظهار جاءت مطلقة يحمل المطلق على المقيد عند الجمهور وإن خالف في ذلك الحنفية.
س:مطلقة في ماذا؟
مطلقة في آية الظهار ومقيدة في آية القتل، وآية الظهار حكمها حكم ما عندنا.(1/64)
ولذا يقولون من جامع في نهار رمضان فعلية كفارة مجامع أو عليه كفارة ظهار؟
عليه كفارة ظهار، لا يقول العلماء عليه كفارة مجامع في نهار رمضان إنما يقولون عليه كفارة ظهار.
فقد ثبتت كفارة الجماع بالنص فكيف تلحق بنص آخر أو بكفارة أخرى؟
معروف أن كفارة الظهار ثبتت بالقرآن المعروف لدى الخاص والعام.
ونظير ذلك البيعة التي حصلت بالنسبة للرجال هي سابقة على بيعة النساء وفي حديث عبادة يقول: بايعنا رسول الله ( على ما بايع عليه النساء.
كيف يقول هذا عبادة وهم قبل النساء.
لأن بيعة النساء مضبوطة بالقرآن الذي يعرفه الخاص والعام، بينما ما جاء في السنة قد يخفى على بعض الناس، فعلى هذا لو جامع في نهار رمضان قيل له عليك كفارة ظهار، لأن كفارة الظهار مضبوطة بالقرى والقرآن معروف لدى الخاص والعام فيحال عليه بخلاف ما جاء في السنة فقد يخفى على بعض الناس.
الصورة الرابعة وهي المقابلة للصورة الثالثة أن يتحدا في السبب دون الحكم وحينئذ لا يحمل المطلق على المقيد عن أكثر العلماء وإن قال الشافعية يحمل المطلق على المقيد بالمثال، اليد جاءت مطلقة في آية التيمم ومقيدة في آية الوضوء، السبب واحد وهو الحدث والحم مختلف هذا غسل وهذا مسح، إذاً لا يحمل المطلق على المقيد فلا نقول بمسح اليد في التيمم إلى المرافق.
على كل حال هذا استطراد حملنا عليه إطلاق الرقبة في حديث الأعرابي.
الكفارة عتق رقبة وعرفنا أنها مؤمنة، فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين.
لكن قد يقول قائل لماذا نحمل المطلق في آية الظهار على المقيد في آية القتل؟ كم ذكر القيد في آية القتل؟
(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَة((63) ثلاث مرات، وفي آية الظهار ما ذكر ولا مرة واحدة.
قد يقول الحنفي لماذا لم يذكر ولا مرة واحدة مع أنه ذكر ثلاث مرات؟(1/65)
وقد يقال لهم - مع أنهم ما قالوه - هذا الشخص الذي قتل مؤمناً ولو عن طريق الخطأ لماذا لا يطالب بتحرير مؤمن وعتق الرقيق كإحيائه فيكون عتقه في مقابل إتلاف ذلك الرجل المؤمن، فيكون اشتراط الإيمان في كفارة القتل أظهر منه في كفارة الظهار وغيرها من الكفارات.
نقول الشرع كما هو معروف يتشوف إلى العتق، وأولى من يعتق ويحرر المسلم المؤمن، وإذا كان غير المسلم معروف حكمه إما أن يؤدي الجزية ويبقى صاغر وهي نظير الرق أو حده إن كان حربياً القتل فالرق أهون عليه، فعلى هذا يتجه قول الجمهور بحمل المطلق على المقيد ولا التفات إلى ما يذكره بعض الحنفية في هذا.
فإن لم يستطع فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لكل مسكين نصف صاع من قوت البلد، فإن كانت المرأة مطاوعة مختارة غير مكرهة فإنها مثله عليها ما عليه وعليهما معاً التوبة والندم والعزم على عدم العود إلى مثل ذلك والإقلاع فوراً.
في الصحيح عن أبي هريرة قال: بينما نحن جلوس عند النبي ( إذا جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت. قال: "مالك؟".
قال: وقعت على امرأتي وأن صائم.
فقال رسول الله ( :"هل تجد رقبة؟".
قال: لا.
قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟".
قال: لا.
قال: فمكث النبي ( فبينما نحن على ذلك أتي النبي عليه الصلاة والسلام بعرق فيه تمر - والعرق المكتل - قال: "أين السائل؟".
فقال: أنا.
فقال: خذ هذا فتصدق به.
فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي.
فضحك النبي عليه الصلاة والسلام حتى بدت أنيابه ثم قال: "أطعمه أهلك"(64).
الجمهور على أن الكفارة لا تسقط بالإعسار بل تستقر بالذمة، قد يقول قائل إن الكفارة سقطت كما في المتن: "فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً فإن لم يجد سقطت" لكن الجمهور على أن الكفارة لا تسقط بالإعسار بل تستقر ديناً في ذمته.(1/66)
كونها تسقط استدلالاً بالحديث فالنبي عليه الصلاة والسلام ما أمره أن يكفر إذا وجد.
يلزمه القضاء أيضاً لأنه أفسد صومه الواجب قال ابن حجر: وقد ورد الأمر بالقضاء في هذا الحديث من طرق يعرف بمجموعها أن له أصلاً.أهـ.
قد يقول قائل ما بين وما قال النبي عليه الصلاة والسلام صم يوماً مكانه، نقول ورد في بعض الروايات وإن كانت بمفرداتها لا تثبت إلا أنها بمجموع هذه الطرق تدل على أن له أصلاً.
والكفارة كما هو معلوما احتراماً للزمن وبناءً على ذلك لو كان هذا في قضاء رمضان فالقضاء واجب وعليه القضاء لهذا اليوم الذي جامع فيه، لكن ليس عليه كفارة لأنه ليس في شهر رمضان والكفارة إنما شرعت من أجل احترام رمضان.
لو كان الرجل معذوراً يجهل أو نسيان أو إكراه كذلك المرأة هل يوجب الكفارة والقضاء؟
خلاف بين أهل العلم لكن الأحوط القضاء دون إيجاب الكفارة.
وقد يقال إن الرجل كان جاهلاً وألزم بالكفارة، فالجواب أن هناك فرقاً بين جهل الحكم وبين جهل ما يترتب على الحكم.
شخص يعرف أن الزنا حرام مثلاً لكن لا يعرف أن حده الرجم جاهل فجاء إلى الإمام إنه زنا وهو محصن يظن أنه سيجلد مئة جلدة ويطلق صراحه، قال لا أنت عليك الرجم، قال أنا جاهل ما أعرف الحكم، لكنك تعرف حكم الزنا وأنه حرام لا يلزم منه أن تعرف الحكم أو الأمر المترتب على الزنا.(1/67)
قد يقال أن الرجل كان جاهلاً وألزم بالكفارة فالجواب أن هناك فرقاً بين جهل الحكم وبين جهل ما يترتب على الحكم فالذي لا يعرف تحريم الزنا يختلف حكمه، الذي لا يعرف تحريم الزنا ولا يدري أن الزنا حرام وهذا يتصور في مسلم حديث العهد بالإسلام أو عايش في مكان لم تبلغه شيء من الشرائع وإلا فمثل هذا معلوم من الدين بالضرورة، هذا يختلف حكمه عن حمن من يعرف التحريم لكن يجهل أن عليه الحد فالأعرابي كان يعرف تحريم الجماع في نهار رمضان ولذا قال: "يا رسول الله هلكت" قال: "مالك؟" قال: "وقعت على امرأتي وأنا صائم" فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "هل تجد رقبة؟" الحديث.
على أن الإكراه على الجماع مسألة مختلف فيها بين العلماء.
يعني يتصور أن تكره المرأة على الجماع، لكن هل يتصور أن يكره الرجل عليه؟
أكثر أهل العلم على أنه لا يتصور إكراهه لأنه إذا أكره لم ينتشر، بينما المرأة لا تحتاج إلى شيء من ذلك، ومنهم من يقول أنه إذا أكره يمكن أن ينتشر.
ولا شك أن الانتشار فرع الرغبة ومع الإكراه لا توجد الرغبة، إذا كان المكره صادق في كونه مكره لكن بعض الناس إذا أكره قال الحمد لله أنا مكره وليس علي ذنب ويزاول المعصية، وعلى كل حال الإكراه درجات والمسألة كما سمعتم مختلف فيها فإذا وقع الإكراه الملجأ لا شك أنه معفو عنه بالنسبة للإثم لكن القضاء أحوط.
إذا باشر دون الفرج فأنزل - وهذه مسألة تقدمت الإشارة إليها - فإنه يفطر ولا كفارة لأن النص إنما ورد فيمن جامع والجماع إذا أطلق إنما ينصرف إلى الإيلاج في الفرج دون المباشرة.
إذا قبل أو باشر فلم ينزل فلا شيء عليه إلا أن الاحتياط وسد الذرائع في مثل هذا مطلوب.(1/68)
يقول المؤلف: "أو استمنى أو باشر فأمنى أو مذى أو كرر النظر فأنزل" يقول فسد صومه، لا شك أنه إن أمنى هذا لا إشكال فيه أنه يفطر لأنه عن شهوة فإذا خرج المني عن شهوة فإنه يفطر لأنه جاء في الحديث: "يدع شهوته"(65) وهو ملحق للجماع في الفطر.
أما بالنسبة للمذي وهو يختلف حكمه عن حكم الجماع فإنه لا يؤخذ حكمه في الإفطار، لكن على الإنسان أن يحتاط لدينه وهذا ركن من أركان الإسلام ينبغي أن يترك مثل هذه الأمور وإن كانت لا تفطر خروجاً من الخلاف.
س: هل يتصور تقبيل من غير امذاء؟ الغالب أنه يمذي؟
هذا يختلف باختلاف الأشخاص وتأتي الإشارة إليه فيما يكره إن شاء الله تعالى.
إذا قبل أو باشر فلم ينزل فلا شيء عليه إلا أن الاحتياط وسد الذرائع في مثل هذا مطلوب لا سيما لمن لا يملك إربه ولذا قالت عائشة ( : "كان النبي عليه الصلاة والسلام يقبل ويباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه"(66) وإذا أنزل بالمباشرة فسد صومه كما هو معروف ولزمه القضاء.
إذا استمنى أي طلب خروج المني بأي وسيلة سواءً كان ذلك بيده أو بغيرها أفطر عند جمهور العلماء، مع أن الاستمناء معروف حكمه وهو التحريم.
لكن لا شك أنه إذا بلغ به الشبق مبلغاً لا يمكنه الصبر عنه فهو أسهل من الزنا الصريح، وعلى كل حال هو محرم عند جمهور العلماء لكن مع الحاجة الشديدة وخشية الوقوع في العنت ولا يمنعه صيام ولا غيره حينئذ أسهل عليه من أن يباشر المحرم الصرحي التحريم.
إذا استمنى أي طلب خروج المني بأي وسيلة سواءً كان ذلك بيده وما أشبه ذلك أفطر عند جمهور العلماء، إذا خرج منه مني خلافاً للظاهرية فإنه لا يفطر عندهم وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله سبحانه وتعالى قال في الصائم: "يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" والاستمناء شهوة وخروج المني شهوة، وهو حرام في رمضان وفي غير رمضان كما ذكرنا، وأما إذا فعل ذلك ولم ينزل فإنه لا يفطر.(1/69)
وإن أمذى أي خرج منه مذي وهو ماء رقيق يحصل عقيب النظر والملاعبة ونحوها فالصحيح أنه لا يفسد صومه بل صومه صحيح لأنه لا شهوة فيه وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
إذا كرر - وهذه مسألة تقدم ذكرها إشارة - إذا كرر النظر فأنزل فسد صومه، فإن كرر النظر إلى ما يباح له النظر فهذا خاص بالصيام لأن له أن يكرر النظر في زوجته ولو بشهوة لأن له ما هو أشد من ذلك، لكن إذا كرر النظر فيما حرم الله عليه سبحان وتعالى هذا حرم للصائم وغيره الصائم.
لكن الصائم أمره أشد فعليه أن يحتاط لهذا الركن فيغض بصره عن النساء لقوله تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ((67) لأن إطلاق النظر من وسائل الوقوع في الفاحشة.
فالواجب غض البصر مع الحذر من أسباب الفتنة لكن لا يبطل صومه بمجرد النظر إذا لم يخرج منه مني، أما من أمنى فإنه يبطل صومه وعليه قضاءه إن كان واجباً.
وليحذر الصائم أشد الحذر كما ذكرنا مما حرم الله عليه من مشاهدة الأفلام الخليعة التي يظهر فيها ما حرم الله من الصور المحرمة العارية وشبه العارية وهذا محرم على الصائم وغيره في رمضان وفي سائر العام، لكن في الصيام ورمضان الأمر أشد، يضاعف الأمر نسأل الله العافية.
أيضاً يحرم التحايل على الفطر في رمضان، كما أن يحرم التحايل على إسقاط الكفارة.
يحرم التحايل على الفطر في رمضان كمن اشتهى جماع زوجته فقال نسافر إلى الخرج ثمانين كيلو مسافة قصر عند الجمهور فهذا تحايل ففعله حرام ويعامل بنقيض قصده فتوجب عليه الكفارة.
كما أنه يحرم عليه أيضاً التحايل على إسقاط الكفارة قد يقول قائل وهو في بلده الكفارة على من أفطر بالجماع في نهار رمضان، فيريد أن يتحايل على إسقاط الكفارة فيشرب ماء يقول أنا مفطر مفطر أنا لست بصائم في رمضان فتحمل التحريم والوعيد الشديد لكن ما يتحمل الكفارة فنقول تلزمك الكفارة معاقبة له بنقيض قصده.(1/70)
فلو سافر من أجل أن يفطر مع أنه لا حاجة إلى هذا السفر غير الفطر فإنه يحرم عليه كما أنه يحرم عليه أن يأكل ويشرب في نهار رمضان من أجل أن يجامع زوجته فلا تلزمه الكفارة حينئذ على حد زعمه فإذا أكل أو شرب عمداً أفطر ولزمه القضاء ولزمه الإمساك بقية اليوم ولزمته الكفارة لحرمة رمضان ومعاقبة له بنقيض قصده والله المستعان.
"وإن جامع في يومين أو كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية" يعني في المسألة الثانية، يعني إن كرر الجماع في يوم واحد ولم يكفر عن الجماع الأول فإنه يلزمه كفارة واحدة لأن الكفارات تتداخل، أما إذا جامع في يومين فإن عليه كفارتين لكل يوم كفارة وهذا باعتبار أن كل يوم عبادة مستقلة فلا تتداخل مثل هذه الكفارات ولذا يقول: "وإن جامع في يومين أ, كرره في يوم ولم يكفر فكفارة واحدة في الثانية" يعني في الصورة الثانية وفي الأولى ثنتان.
وإن جامع ثم كفر ثم جامع في يومه فكفارة ثانية.
لماذا وهو أفسد الصوم؟
نقول لأنه يلزمه الإمساك، فلحرمة الشهر يلزمه كفارة ثانية والمسألة لا تخلو من خلاف.
"وكذلك من لزمه الإمساك إذا جامع" كشخص مسافر ثم قدم أو امرأة حائض ثم طهرت وهكذا يقول "وكذلك من لزمه الإمساك".
"ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط" جامع وهو مقيم صحيح معافى ثم سافر وأفطر في سفره نقول الآن عليه قضاء هذا اليوم، نقول عليه الكفارة لأنك أفطرت وأنت صائم مقيم.
ومثله لو مرض وأفطر وكان قد جامع قبل فطره تلزمه الكفارة ما لم ينوي الفطر بالجماع.
يعني لو شخص مع أذان المغرب جامع زوجته ناوياً الفطر بذلك عليه كفارة أو لا؟(1/71)
ليس عليه كفارة، لكن شخص سافر واستمر في سفره وهو الآن مخير بين أن يتم صومه وبين أن يفطر لأن الوصف المبيح للفطر قائم فنوى الفطر بالجماع نقول ليس عليك شيء، لكن لو لم ينو الفطر إلا بعد الجماع نقول عليك لكفارة لأنه يقول: "ومن جامع وهو معافى ثم مرض أو جن أو سافر لم تسقط ولا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان وهو عتق رقبة" لا تجب الكفارة بغير الجماع في صيام رمضان وإن أوجبها المالكية بالأكل والشرب عمداً.
قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي رحمه الله تعالى: "باب ما يكره ويستحب حكم القضاء ويكره جمع ريقه فيبتلعه ويحرم بلع النخامة ويفطر بها فقط إن وصلت إلى فمه ويكره ذوق طعام بلا حاجة ومضغ علك قوي وإن وجد طعمهما في حلقه أفطر. ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه. وتكره القبلة لمن تحرك شهوته. ويجب اجتناب كذب وغيبة وشتم. وسن لمن شتم قوله: "إني صائم" وتأخير سحور وتعجيل فطر على رطب فإن عدم فتمر فإن عدم فماء. وقول ما ورد".
ما يكره ويستحب وحكم القضاء هذه ثلاث مسائل أو ثلاثة مباحث:
1- ما يكره فعله للصائم.
2- ما يستحب له ويندب أن يفعله.
3- حكم القضاء من قبل من لزمه القضاء عليه.
يقول: "يكره جمع ريقه فيبتلعه" وعلل ذلك كما في الشرح بالخروج من خلاف من قال بفطره كأبي حنيفة، فالعلة في ذلك الخروج من خلاف من قال بفطره فالمذهب عند الحنفية فللخروج من هذا الخلاف يكره جمع الريق لأن لا يكون مفطراً على قول.
مسألة الخروج من الخلاف ليست من الأصول التي تبنى عليها الأحكام والكراهية حكم شرعي، مسألة الخروج من الخلاف يعلل بها كثيراً للكراهة والاستحباب فيقال يكره إذا قيل بالتحريم وإن كان الدليل لا ينهض، ويقال يستحب فعل كذا إذا قال بعض أهل العلم بوجوبه ولو كان دليله لا ينهض.
والخروج من الخلاف ليست من الأصول التي تبنى عليها الأحكام فالأحكام إما تبنى على الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح الذي توافرت أركانه.(1/72)
إذا كيف يقول أهل العلم للخروج من الخلاف؟
الخلاف إذا كان له حظ من النظر ومعتبر بمعنى أنه وجد في المسألة أكثر من قول، قول راجح وقول مرجوح وقول مرجوح لكن له حظ من النظر له أدلته وإن كان مرجوحاً وقول ثالث لا حظ له من النظر، أدلته واهية، فالعمل بالقول الراجح هذا هو الأصل مع ملاحظة القول المرجوح الذي له حظ من النظر لاحتمال أن يثبت دليله واحتمال أن يرجح الاحتمال الذي رجحه.
الآن عندنا إذا كان الدليل واحد يحتمل أمرين أحدهما أرجح من الآخر، الاحتمال الراجح يدل على الإباحة والاحتمال المرجوح يدل على المنع نقول الأولى الكف والانكفاف عن مثل هذا لأن لا يكون الاحتمال المرجوح راجحاً، خشية أن يكون هذا الاحتمال المرجوح راجح لأن الرجحان أمر نسبي والدليل واحد نعم إذا خلا القول الثاني المرجوح من الأدلة أو على أقل الأحوال الأدلة المحتملة فلا التفات إليه.
فلنعرف سر هذه المسألة فما دام الاحتمال قائماً ولو كان مرجوحاً ينبغي أن يلاحظ القول ويكن له حظ من النظر لأنك لن تعدم في يوم من الأيام في مسألة من المسائل أن يكون هذا القول المرجوح راجح لأنك وجدت ما يعضده ووجدت ما ترجح به الاحتمال الآخر ولو كان المرجح ضعيفاً، لأن المرجحات عند أهل العلم كثيرة جداً وبعضها الترجيح به فيه ضعيف.
إذا عرفنا هذا أنه إذا كان الأدلة للقول الراجح متقاربة أحياناً يكون القول الراجح راجح بنسبة يسيرة يكون هذا 55% وهذا 45% علينا ملاحظة القول الآخر لا لأنه قول لأهل العلم بل خشية من أن يثبت دليله أو يرجح احتماله.
وهنا لا دليل للمخالف أصلاً فلا يكره جمع الريق.
"ويحرم بلع النخامة" ويستوي في ذلك أن تكون النخامة من الجوف أو الصدر أو الدماغ مهما كان مصدرها، وتحريمها على الصائم غيره لأنها مما يستقذر وكل ما يستقذر فهو من الخبائث.(1/73)
"ويفطر بها فقط" يعني لا بالريق "إن وصلت إلى فمه" وفي بعض نسخ الزاد "إلى حلقه" لكن الصواب إلى فمه على القول بأنها تفطر لأنها من غير الفم، فإذا وصلت من الجوف أو الصدر أو الدماغ فإذا وصلت إلى الفم فابتلعها وقد انتقلت من مكانها ثم ابتلعها على المذهب يفطر.
نظيرها ما لو أصيب بدسعة قلس أي من القيء اليسير كأن كح مثلاً أو سعل فخرج حبات من الطعام إلى فمه فابتلعها، أو ابتلع ما بين الأسنان، لكن تنظيرها بما يخرج من الجوف من الطعام المأكول مع السعال وهذا يحصل كثيراً لأنه بدلاً من القيء يكون كثير فهذا يكون شيء يسير.
هذا إذا ابتلعه يفطر أو ما يفطر؟
على المذهب يفطر، النخامة مثله يقول "ويفطر بها فقط لا بالريق إن وصلت إلى فمه".
س: ما يقال يا شيخ إذا كان يمكن التحرز منه يفطر بابتلاعه، وإذا كان شيء لا يمكن التحرز منه أي ما بلغ إلى حد يمكن أن يستخرجه فلا شيء.
مضى في درس الأمس لو طار إلى حلقه ذباب أو غبار ونحوه مما لا يمكن التحرز مه هذا لا يفطر ما فيه إشكال.
س: ومثله القلس فيمكن أن يصل إلى حد ما يمكن التحرز منه؟
على التفصيل السابق، ومثله النخامة يمكن التحرز منها أو لا يمكن؟
س: النخامة يمكن التحرز منها.
هو مسألة الوصول إلى الحلق لا يمكن التحرز منه إلا مع استفراغ، لكن إذا وصلت إلى الفم وهو المرجح في كثير من النسخ لأن بعض النسخ "يفطر بها فقط إن وصلت إلى حلقه" لكن هذا ليس له وجه لأنه لا يمكن التحرز منها إلا مع الاستفراغ، لكن إذا وصلت إلى فمه أمكن التحرز منها يفطر بها عندهم.
ويفطر بها فقط لا بالريق إن وصلت إلى فمه لأنها من غير الفم يعني من الجوف أو الصدر أو الدماغ، فإن لم تصل إلى الفم بأن أحس بها نزلت من دماغه وذهبت إلى جوفه من غير مرور بالفم فإنه لا يفطر.(1/74)
والقول الثاني أنها لا تفطر مطلقاً لأنها لم تخرج من الفم كالريق، يعني مثل الريق لو جمع الريق فابتلعه لا يفطر وهذه مثله وهي نوع منه إلا أنها لها وصف خاص.
لكن القول بالتفطير كأنه هو المتجه مثل ما لو ابتلع ما بين أسنانه أو ما ارتفع إلى فمه من طعام بسبب السعال.
يقول: "ويكره ذوق طعام بلا حاجة" مفهومه أنه إذا كان هناك لذوق الطعام كالطباخ مثلاً أنه لا كراهة.
إذا كيف يكره ذوق الطعام بلا حاجة؟ فإمكانه أن يذوق الطعام ثم يلفظ ريقه ولا أثر لذلك؟
لأنه ربما نزل شيء من هذا الطعام إلى الجوف من غير أن يشعر به، أما إذا كان لحاجة كالطباخ والمرأة في بيتها تذوق الطعام، هل ملحه مناسب، هل حلاه مناسب أو لا؟
لا بأس بذلك كما حكاه البخاري عن ابن عباس.
يقول: ويكره ذوق طعام بلا حاجة ومضغ علك قوي" والمراد بالعلك القوي الذي لا يتفتت، معروف أ، من أنواع العلوك ما يتفتت ومنها ما لا يتفتت.
هل الخلاف في العلك سواءً كان قوي أو غير قوي؟ العلك المطلي بغيره مما له طعم أو جرم أ, المراد به الذي لا طعم له؟ أليس في الأسواق أنواع من العلوك بعضها نعناع وبعضها مطلي بطبقة ملونة وفيه أشياء له طعم وجرم واضح.
يعني مثل هذه لو غسلت فذهب الطعم دخلت في الكلام الذي معنا، المقصود بالعلك الذي لم يدخل عليه شيء من التحسينات ولم تدخله الصناعة، العلك الذي على طبيعته وهو نوعان:
1- علك قوي لا يتحلل.
2- وعلك يتحلل ويذوب.
المرارة التي بالعلك هل تأخذ حكم المحسنات التي توضع على العلوك؟ أو المقصود بالعلك الذي يذكر هنا في هذا الباب الذي لا يذهب إلى الجوف منه شيء؟
افترضنا أن شخص علك العلك بالليل مثلاً وهذب الطعم منه 100% ما بقي للطعم منه أثر فقال أنا أرجئه إلى الظهر أحتاجه لأن العلك يجم الريق ولا طعم له ولا جرم إنما هو لاستجمام الريق فقط.(1/75)
هذا محل الكلام إذا كان لا يتفتت يقول: ومضغ علك قوي أي الذي لا يتفتت لأن لا يتسرب شيء إلى بطنه من طعمه إن كان له طعم فإن لم يكن له طعم فلا كراهه، لكن ينبغي أن لا يمضغه أمام الناس لئلا يساء الظن به فالشخص الذي يمضغ العلك أمام الناس يساء به الظن.
وأيضاً يفتح مجال لمن أراد أن يأكل، وقد يأكل بعض الناس الذي عندهم رقة في الدين أو بعض الأطفال الذين يمرنون على الصيام قد يأكلون لأنهم لا يرجون بذلك ثواب من الله سبحانه وتعالى إنما هو لمجرد التمرين، فالطفل وأشد من ذلك من كان في دينه رقة قد يأكل أشياء ويظهر للناس أنها علك فلا ينبغي أن يستعمل مثل هذا أمام الناس.
الأمر الثاني أن العلك صار من سمة النساء.
يعني هل ترون رجلاً في مكتمل رجولته يمضغ العلك أمام الناس يوجد؟
لا يوجد، وعلى هذا فاستعماله مخالف للمروءة ومثل هذا مسقط للعدالة عند أهل العلم فلا ينبغي أن يزاوله من بلغ هذه المنزلة في المروءة والرجولة لأن لا يتسبب في إسقاط عدالته.
"وإن وجد طعمهما في حلقه أفطر" طعمهما أي طعم الطعام وطعم العلك القوي.
شيخ الإسلام رحمه الله تعالى ينازع في كون مناط الحكم وصول الطعم إلى الحلق لأن الطعم قد يصل إلى الحقل ولا يبتلع، وشيخ الإسلام رحمه الله تعالى وله رسالة صغيرة اسمها حقيقة الصيام طبعت في مطبعة المنار قديماً وهي نافعة في هذا الباب (68)، شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يتنازع في كون مناط الحكم وصول الطعم إلى الحلق إنما مناطه وصول الطعم إلى الجوف لأن الطعم قد يصل إلى الحلق ولا يبتلع.
يقول: "ويحرم العلك المتحلل إن بلع ريقه" يحرم العلك المتحلل يعني الذي يقابل العلك القوي الذي سبقت الإشارة إليه، وهذا لا شك في تحريمه لأنه وسيلة إلى إفساد الصوم.
يقول رحمه الله: "وتكره القبلة لمن تحرك شهوته" تكره يعني مع أمن إفساد الصوم، أما إذا خشي من فساد الصوم بإنزال ونحوه فهذا حكمه التحريم فلا يجوز له حينئذ أن يقبل.(1/76)
أما من لا تتحرك شهوته أو قبل ما لا يحرك الشهوة كطفل صغير أو محرم أو امرأة كبيرة في السن فمثل هذه لا تحرك الشهوة، فمن لا تحرك شهوته فلا كراهة وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أ،ه كان يقبل وهو صائم متفق عليه من حديث عائشة.
وأما حديث أن النبي عليه الصلاة والسلام سأله رجل عن القبلة فأذن له وسأله آخر فلم يأذن له، فإذا الذي أذن له شيخ والذي لم يأذن له شاب أخرجه أبو داود هو حديث ضعيف.
من أهل العلم من يفرق بين الفرض والنفل، الفرض الذي يستوي فيه الناس كلهم يصرح بأنه صائم، والنفل الذي يختص به دون غيره لا يصرح لأن لا يطرؤ عليه الرباء مع أن لفظ الحديث عام يشمل الفرض والنفل.
وسن أيضاً: "تأخير سحور" فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يؤخر السحور حتى إن لم يكن بين سحوره وإقامة الصلاة إلا نحو خمسين آية.
والخمسين الآية يمكن أن تقرأ في كم؟ ربع ساعة أو أقل أو أكثر؟
لا شك أن الآيات متفاوتة، فالآيات في سورة المائدة ليست مثل الآيات في سورة الشعراء فالمقصود المتوسط لأن هذا تقدير فيرد إلى المتوسط، فالخمسين الآية تقرأ القراءة المأمور بها بظرف عشر دقائق فيكون بين نهاية السحور وإقامة الصلاة، فهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام يؤخر السحور.
ويسن أيضاً: "تعجيل الفطر
" تستحب المبادرة به إذا تحقق غروب الشمس، كونه يستحب التعجيل لا يخول الإنسان أ، يفطر قبل غروب الشمس فيقول هذا من باب المبادرة بالسنة، لا.
لا بد أن يتحقق غروب الشمس لحديث زيد بن ثابت في الصحيحن وغيرهما مرفوعاً: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"(69).
يقول: "على رطب فإن عدم فتمر فإن عدم فماء" في المسند والسنن وغيرهما من حديث سلمان بن عامر ( قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على ماء فإنه طهور"(70) الأولى أن يفطر على تمر، وكونه رطب أفضل من كونه أنفع للبدن من التمر.(1/77)
والفرق بين الرطب وبين التمر معروف فالرطب هذا اللين الرطب وأما التمر فهو الناشف المكبوس المرصوص، فالرطب أفضل من التمر من هذه الحيثية وإلا فالحديث يقول: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر" وهو يشمل الرطب الجاف "فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور" يقولون: فطور التمر سنة رسول الله سنه *** فاز بالأجر من يحلي منه سنه.
سنه سنه سنه، هذا مثلث.
لكن السن يحلى؟ يحس بالطعم؟
لعله يعزى إليه الفعل على سبيل التجوز.
يقول: "وقول ما ورد" كالتسمية في ابتداء الأكل والشرب ومعروف وجوبها، وقول "الحمد لله" عند الانتهاء، ومن ذلك قول "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله"(71) أخرجه أبو داود والدار قطني والحاكم وصححه على شرط الشيخين وهو حديث حسن.
"ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" هذا خبر أو دعاء؟
دعاء بلفظ الخير.
يعني هل أنت تخبر أن الأجر ثبت أو تطلب من الله سبحانه وتعالى أن يثبت لك الأجر؟
تطلب فهو دعاء، إذاً كيف يكون دعاء مقرون بالمشيئة "وثبت الأجر إن شاء الله" ومثله "طهور إن شاء الله" هذا دعاء بأن يجعل الله سبحانه وتعالى هذا المرض طهور لهذا المريض وقد جاء النهي عن الاستثناء في الدعاء" لا يقول اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت لكن ليعزم المسألة"(72)؟
والفرق بينهما أنه إن جاء الدعاء بلفظ الأمر فلا يجوز الاستثناء، وإن جاء بلفظ الخبر جاء الاستثناء وهذا للتوفيق بين هذه النصوص.
وأما قول: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم"(73) كما في عمل اليوم والليلة لابن السني ضعيف جداً.
قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي رحمه الله تعالى: "ويستحب القضاء متتابعاً ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم. وإن مات ولو بعد رمضان آخر. وإن مات وعليه صوم أو حج أو اعتكاف أو صلاة نذر استحب لوليه قضاؤه".(1/78)
يقول المؤلف رحمه الله تعالى: "ويستحب القضاء متتابعاً ولا يجوز تأخيره إلى رمضان آخر من غير عذر" أولاً من أفطر في رمضان بغير عذر شرعي فقد أتى كبيرة من كبائر الذنوب وعرض نفسه للعقوبة فعليه التوبة إلى الله سبحانه وتعالى مع القضاء.
وأما من أفطر لعذر شرعي من سفر أو مرض أو حيض أو نفاس فإنه يجب عليه القضاء إذا زال عذره لقوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر((البقرة: من الآية184).
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب متى يقضي قضاء رمضان. وقال ابن عباس: لا بأس أن يفرق لقوله تعالى: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر((البقرة: من الآية184). وقال سعيد ابن المسيب في صوم العشر: لا يصلح حتى يبدأ برمضان. وقال إبراهيم: إذا فرط حتى جاء رمضان آخر يصومها ولم ير عليه إطعاماً ويذكر عن أبي هريرة مرسلاً وابن عباس أنه يطعم.أ.هـ.
يعني إذا أخر مفرطاً إلى رمضان آخر لم ير عليه إبراهيم النخعي إطعاماً، والقول بالإطعام قول أبي هريرة وابن عباس، وإبراهيم يرى عدم الإطعام هذا بالنسبة لمن فرط في القضاء فلم يقض حتى جاء رمضان آخر.
يقول الإمام البخاري رحمه الله تعالى: ولم يذكر الله تعالى الإطعام.أ.هـ.
فالإمام رحمه الله تعالى إذا صدر الباب بخير ولو عن تابعي فإنه يكون اختياره إذا لم تكن الترجمة صريحة في الحكم لأنه قال في الترجمة: "باب متى يقضي قضاء رمضان" ولم يتعرض لا لإطعام ولا غيره ثم صدر الكلام وذكر كلام النخعي قبل كلام أبي هريرة وابن عباس دليل على أنه يختار قول النخعي ولذا عقب بعد ذلك فقال: ولم يذكر الله تعالى الإطعام إنما قال: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر((البقرة: من الآية184).أ.هـ.(1/79)
فعلى ما ذكرنا مما ذكره الإمام البخاري عن أبي هريرة وابن عباس يكون الإطعام مأثور عن هذين الصحابين وهو لم يذكر في كتاب الله ولم يصح فيه شيء عن رسول الله ( ، ومن أطعم فلا شك أنه أحوط وفيه حديث مرفوع أخرجه الدار قطني والبيهقي لكنه ضعيف جداً، وهذا في حق من أخر بغير عذر إن كان تأخيره إلى رمضان الآخر من مرض يرجو زواله واستمر معه المرض إلى رمضان الثاني فإن يكفيه القضاء لأنه معذور ولا كفارة عليه حينئذ بخلاف ما إذا أخر ذلك تساهلاً وتفريطاً.
ولا يلزم التتابع في القضاء كما قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى نقلاً عن ابن عباس: لا بأس أن يفرق - يعني القضاء - لقوله تعالى: ( فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر((البقرة: من الآية184).أ.هـ.
فعلى هذا ا يلزم التتابع في القضاء بل لو قضى ما عليه من أيام متفرقة صح ذلك وأجزأ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر((البقرة: من الآية184) ولم يقل متتابعة.
هنا يقول المؤلف: "ويستحب القضاء متتابعاً" استحباب التتابع لأن الأصل أن القضاء يحكي الأداء، والأداء م تتابع إذا ً فالقضاء حكمه حكمه وإن لم يكن على سبيل الوجوب والإلزام لكن يحكيه في أصل المشروعية ولأنه أيضاً أسرع في إبراء الذمة.
يقول المؤلف: "ولا يجوز تأخيره إلى رمضان آخر من غير عذر" مفهومه أنه يجوز تأخيره إلى شعبان، فيجوز تأخير القضاء إلى شعبان لفعل عائشة ( مخرج في الصحيحين أ،ه كان يكون عليه ا القضاء من رمضان فلا تستطيع ولا تتمكن منه إلا في شعبان لمكانه عليه الصلاة والسلام منها.
وهل يتطوع قبل القضاء أو لا؟ فلو أن شخصاً عليه قضاء فلم يبق في شوال إلا ستة أيام فهل يقدم القضاء أو يدرك صيام الست لأن وقتها مضيق ووقت القضاء موسع؟ شخص دخلت عليه عشر ذي الحجة وعليه قضاء قال إذاً أصوم العشر لأن وقتها مضيق وتفوت والقضاء وقته موسع؟(1/80)
المذهب لا يتطوع بل يأثم، وذهب بعضهم إلى جوازه لأن وقته موسع وهو الأظهر إن شاء الله تعالى لكن الأولى البدائة بالقضاء.
ابن رجب رحمه الله تعالى ذكر المسألة، من كان في ذمته واجب وأراد أن يتطوع قبل أدائه فالأولى أن يتخلص من الواجب لأنه لا يدري هل يعرض له شيء يعوقه عن تحصيل هذا الواجب، ولا شك أن الفرض أهم من المندوب وهذا ذكره ابن رجب في القواعد.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما انتبه بحر الشمس بعد أن فاتته صلاة الصبح وخرج وقتها صلى الراتبة (74) لأن الوقت موسع ويستوعب فهذا من أدلة من يقول أنه يجوز له أن يتنفل ما دام الوقت موسعاً مع غلبة الظن أنه يتمكن من أداء الواجب، لكن الأولى أن يبدأ بالقضاء لأنه أبرأ للذمة وأفرغ للبال لكن إذا تطوع في الوقت الموسع لا بأس، أما إذا ضاق عليه الوقت حتى لم يبق في شعبان إلا أيام لا تتسع لأكثر من القضاء لا يجوز له أن يتنفل.
يقول المؤلف: "ولا يجوز تأخيره إلى رمضان آخر من غير عذر. فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم" وهو قول ابن عباس وأبي هريرة فيما ذكرنا من كلام الإمام البخاري وفيه حديث مرفوع أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بالإطعام من القضاء لكنه ضعيف جداً أخرجه الدار قطني والبيهقي عن أبي هريرة وتقدم هذا، والصواب أنه يأثم ولا كفارة عليه بل يلزمه القضاء فقط لأنه دين في ذمته وإن كفر فهو أحوط لقول أبي هريرة وابن عباس لكن ليس هناك من الأدلة ما يلزمه بذلك مما تقوم به الحجة.
يقول المؤلف: "وإن مات ولو بعد رمضان آخر" يلزم في حقه الإطعام لأن القضاء في حقه متعذر تمكن من القضاء فلم يقض، وقال بعضهم يلزمه إطعامان إطعام عن الأصل تأخير الأصل وإطعام عن عدم تمكنه من القضاء لكن الصواب أنه يكفيه إطعام واحد.(1/81)
يقول المؤلف: "وإن مات وعليه صوم أو حج أو اعتكاف أو صلاة نذر استحب لوليه قضاءه" في الحديث: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه"(75) وصوم نكرة في سياق الشرط فتعم، فعلى هذا لو عليه صيام فرض بأصل الشرع شيء من صيام رمضان أو صيام واجب بنذر ونحوه فإنه يصوم عنه وليه بعموم هذا الحديث، لكن العلماء خصوا ذلك بالنذر قالوا: من عليه صوم نذر أو اعتكاف نذر أو صلاة نذر فإنه يصوم عنه ويعتكف عنه ويصلي عنه وليه ومثله الحج.
ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي وهذا مذهب أحمد وغيره والمنصوص عن ابن عباس وعائشة وهو مقتضى الدليل والقياس - عرفنا أن مقتضى الدليل والعموم لأن "صوم" نكرة في سياق الشرط فتعم - لأن النذر ليس واجباً بأصل الشرع وإنما أوجبه العبد على نفسه فصار بمنزلة الدين ولهذا شبهه النبي ( بالدين وأما الصوم الذي فرضه الله عليه ابتداءً فهو أحد أركان الإسلام فلا تدخله النيابة بحال كالصلاة.أ.هـ.
يعني لو مات وعليه صلوات لا يصلي أحد عنه، لأن هذا أوجبه الله سبحانه وتعالى وافترضه عليه فلا يقبل النيابة ولا تدخله النيابة بحال.
ومثل الصلاة الصوم إذا كان مما افترضه الله عليه لا تدخله النيابة وإنما الذي تدخله النيابة هو ما أوجبه الإنسان على نفسه كما لو أوجب علي نفسه ديناً فإن لوليه أن يقضي عنه ذلك الدين بل ينبغي له أن يسارع في قضاء دينه وإبراء ذمته وقد جاء في الحديث في الحج: "دين الله أحق بالقضاء" فسماه ديناً.
والنص الوارد في الحج هل هو نذر أو أصل الحج الذي افترضه الله عليه؟
إن فريضة الله في الحج قد أدركت أبي، شيخاً لا ثبت عل الراحلة أفأحج عنه؟ قال: "نعم، دين الله أحق بالقضاء"(76).(1/82)
فهذا الحديث فيما أوجب الله عليه، لكن إذا قلنا أن الحج ولو كان مما افترضه الله يقبلا لنيابة في بعض الصور مثل أن يكون قادراً على الحج بماله ولا يقدر على الحج بجسده فإنه ينيب من يحج عنه بماله، ينوب عنه من يحج عنه من ماله وإذا دخلت النيابة في الأصل دخلت في النذر من باب أولى.
لكن ما أوجبه الله سبحانه وتعالى على الإنسان مما لا يقبل النيابة من العبادات البدنية إذا كان مما افترضه الله عليه أصالةً فإنه لا يقبل النيابة كالصلاة، والصوم مثله فيما قرره ابن القيم رحمه الله.
أما إذا كان الإنسان أوجبه على نفسه فإنه يقبل النيابة كما لو استدان ديناً من آدمي فإنه ينوب عنه في القضاء.
س: الجواب عن كلام ابن القيم أن صيام النذر دون الفرض الأصلي مقتضى الدليل والقياس؟
ابن القيم يقول إن هذا مقتضى الدليل والقياس وعرفنا أن مقتضى الدليل العموم، وهو نظر إلى أن الصوم عبادة بدنية مثل الصلاة سواءً بسواء وليست مثل الحج يقبل النيابة فلا يصلي أحد عن أحد والصوم مثله إذا كان مما افترضه الله عليه فدليله القياس، مقتضى القياس وليس مقتضى الدليل، أما عموم الدليل يشمل ما أوجبه الله عليه وما أوجبه على نفسه وقد قيل به، وأما بالنسبة لما عندنا في المتن قيده بالنذر كما هو المذهب.
س: قوله: "وعليه صوم أو حج أو اعتكاف أو صلاة نذر" هذه مضاف؟
النذر عائد لهذه كلها، وصف لما تقدم.(1/83)
قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي رحمه الله تعالى: "باب صوم التطوع. يسن صيام أيام البيض والاثنين والخميس وست من شوال وشهر المحرم وآكده العاشر ثم التاسع وتسع ذي الحجة ويوم عرفة لغير حاج بها. وأفضله صوم يوم وفطر يوم. ويكره إفراد رجب والجمعة والسبت والشك. ويحرم صوم العيدين ولو في فرض وصيام أيام التشريق إلا عن دم متعة وقران. ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه ولا يلزم في النفل ولا قضاء فاسده إلا الحج. وترجى ليل القدر في العشر الأواخر من رمضان وأوتاره آكد وليلة سبع وعشرين أبلغ. ويدعو فيها بما ورد".
صيام التطوع جاء الحث عليه: "من صام يوماً في سبيل الله باع الله وجهه من النار سبعين خريفاً"(77) فالصيام من أفضل الأعمال.
وجاء تعيين بعض الأيام بالصيام بعد الحث المطلق على صيام النفل جاء تعيين الست من شوال وصيام الأيام البيض والاثنين والخميس ويوم عرفة والعشر وعاشوراء فجاء الحث على سبيل الخصوص.
ولذا يقول رحمه الله تعالى: "يسن صيام أيام البيض" وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر وسميت بيضاً لابيضاض لياليها بنور القمر، وهي تغني عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر التي أوصى بها النبي عليه الصلاة والسلام أبا هريرة وأبا ذر وأبا الدرداء، فصيام ثلاثة أيام من كل شهر تغني عنها صيام أيام البيض وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر"(78) متفق عليه.
وهذا ظاهر لأن الحسنة بعشر أمثالها فثلاثة الأيام عن ثلاثين يوماً فمن صام ثلاثة أيام من كل شهر كأنه صام الدهر، وذكر الأيام البيض والتنصيص عليها جاء في حديث رواه أحمد والترمذي والنسائي من حديث أبي ذر وهو حديث حسن.
يسن أيضاً صيام الاثنين والخميس، والعلة في ذلك أنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله: "فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"(79) وهو حديث حسن خرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي بإسناد حسن.(1/84)
والاثنين آكد من الخميس ففي صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن صوم الاثنين فقال: فيه ولدت، وفيه أنزل علي"(80) فدل على أن له مزية إضافة إلى كونه تعرض فيه الأعمال على الله عز وجل.
وست من شوال لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله"(81) أخرجه مسلم وهذا ظاهر أيضاً فرمضان بعشرة أشهر والست من شوال بشهرين عن ستين يوماً فكأنه صام السنة كلها.
إذا كانت العلة أن صيام الست مع رمضان تعدل السنة فلماذا لا نقول بدلاً من ست شوال ست ذي القعدة لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان عن عشرة أشهر والستة الأيام سواء كانت من شوال أو من القعدة أو من الحجة أو من محرم فهل هناك فرق؟
هي ملحقة برمضان، فهي صيام الدهر من جنس صيام رمضان فهي ملحقة به.
وتجزئ من أول الشهر وأوسطه وآخره وأن تكون متتابعة ومتفرقة على أن تكون في شوال بعد تمام صيام رمضان وبعد القضاء لأن مقتضى قوله: "وأتبعه" يدل أنه بعد تمام صيام الشهر يصوم الست.
الإمام مالك رحمه الله تعالى لا يرى صيام الست ويذكر في موطأه أنه ما رأى أحداً من أهل العلم والفضل يصومها.
فكيف نقول أن صيام الست مشروع ومندوب وفيه الحديث الصحيح الذي في صحيح مسلم والإمام مالك إمام دار الهجرة نجم السنن في دار الهجرة وأهل العلم والفضل متوافرون فيها يقول: ما رأيت أحداً من أهل العلم والفضل يصومها؟
لا شك أن هذا أمر مستغرب، كلام مالك مستغرب لكن ما دام معنا الحديث المرفوع الثابت عنه عليه الصلاة والسلام فلا قول لأحد معه كائناً من كان، ما دام معنا الحديث المرفوع الثابت الصحيح الصريح لا عبرة بقول أي شخص غير المعصوم عليه الصلاة والسلام، والإمام مالك نفسه يقول: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول عليه الصلاة والسلام.(1/85)
يقول المؤلف:"وشهر المحرم وآكده العاشر ثم التاسع" يسن صيام شهر الله المحرم وآكد ما في هذا الشهر كما قال المؤلف العاشر وهو يوم عاشوراء ويضاف إليه التاسع أو الحادي عشر أو هما معاً لما روى مسلم في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم"(82).
وسئل النبي عليه الصلاة والسلام عن صوم يوم عاشوراء فقال:"أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"(83).
وقال عليه الصلاة والسلام: "لإن بقيت إلى قابل"(84) أو "لإن عشت إلى قابل لأصومن التاسع" يعني يكتفي به أو يضمه إلى العاشر؟
يعني مع العاشر، فلا يتوهم متوهم أن صوم العاشر منسوخ بالتاسع لا: "لإن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" يعني مع العاشر والمراد بذلك مخالفة اليهود.
يقول المؤلف: "وتسع ذي الحجة" يسن صيام تسع ذي الحجة وآكدها التاسع لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر" قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرجه بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء"(85) هذا له شأن آخر، أخرجه البخاري.
والصوم من العمل الصالح، تقرر في الشرق أن الصوم من العمل الصالح، وقد حث النبي عليه الصلاة والسلام على العمل الصالح في هذه الأيام العشر والصوم منها.
يقول المؤلف: "ويوم عرفة لغير حاج بها" وسئل ( عن صوم يوم عرفة فقالك "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده"(86).
أما الحاج فإنه لا يصوم ولا يسن له ذلك بل لا يشرع على الصحيح من قولي العلماء، وإن قال بعضهم بشرعيته وعرف عن بعض الصحابة كابن عمر-رضي الله عنه- صوم يوم عرفة بعرفة.(1/86)
النبي عليه الصلاة والسلام شرب من لبن بقدح يوم عرفة ضحى والناس ينظرون إليه، وأما حديث: "نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة"(87) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه الحديث فيه كلام ولو ثبت لكان نصاً في الموضوع، فالأولى الفطر في يوم عرفة اقتداءً به عليه الصلاة والسلام وقال بعض العلماء بتحريم صومه وإثم فاعله، النبي عليه الصلاة والسلام شرب من اللبن ضحى لكي يراه الناس وهو المشرع وهو القدوة.
قد يقول قائل روى الإمام مسلم من حديث عائشة ( أنه عليه والصلاة لم يكن يصوم العشر فكيف نقول باستحباب صيام عشر ذي الحجة؟
أولاً هذا إخبار عن علمها ( ، ولعلها أخبرت بذلك بعد طول العهد لأنها عمرت بعده عليه الصلاة والسلام نحو نصف قرن أي خمسين سنة وهي تخبر عن علمها وقوله عليه الصلاة والسلام عموم وقوله مقدم على خبرها، ولعله عليه الصلاة والسلام أفطر لأمر أهم من أمور يتعدى نفعها وقد رجح الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم عشر ذي الحجة.
نعم الرسول عليه الصلاة والسلام قد يحث على العمل ولا يفعله رفقاً بأمته.
كيف يتصور حال الناس لو تضافر عمله مع قوله؟
الرسول عليه الصلاة والسلام حث على العمرة في رمضان ولم يعتمر في رمضان وحال الناس ما ترون، فكيف لو اعتمر النبي عليه الصلاة والسلام في رمضان مع حثه على العمرة في رمضان لكان الوضع شديد جداً وقد لا يحتمل والآن الزحام مثل ما ترون.
وأسف النبي عليه الصلاة والسلام على دخول الكعبة لأن لا يحرج أمته ولأن لا يشق علهيا وهذا من رحمته ورأفته عليه الصلاة والسلام، فهو يحث على العمل وقد يتركه شفقة بأمته.
وأيضاً وضعه عليه الصلاة والسلام وهو الإمام الأعظم بالنسبة للأمة والقائم بمصالحها.
فلو قدر أن شخصاً قائم على أعمال الأمة والأمة كلها بحاجة إليه وإذا صام ضعف عن القيام بهذه المهمة فهل الأفضل له أن يصوم أو يفطر؟(1/87)
الأفضل له أن يفطر، علماً بأن الإمام أحمد رحمه الله تعالى رجح بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصوم العشر، وقد ثبت هذا عن بعض أزواجه عليه الصلاة والسلام في السنن.
يقول المؤلف: "وأفضله صوم يوم وفطر يوم" أفضل صوم التطوع صوم يوم وفطر يوم لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ( قال: لأصومن النهار ولا أفطر ولأقومن الليل ولا أنام، فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام فسأله: "أنت الذي قلت كذا؟ قال: نعم. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:"صم كذا صم كذا؟ قال: نعم فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: "صم كذا صم كذا" يعرض عليه الصلاة والسلام الأخف فالأخف كما عرض عليه بالنسبة للقرآن "اقرأ القرآن في شهر" قال: إني أطيق أكثر من ذلك "اقرأه في كذا، اقرأه في كذا" ثم قال "اقرأ القرآن ي سبع ولا تزد"(88).
فمثل هذا يقال لمن عرف منه شدة الحرص لأن لا يبلغ به حرصه إلى مجاوزة السنة، بخلاف من عرف منه التساهل فإنه يؤمر بالعزيمة قبل الرخصة، فلا تعرض على من عرف بالتساهل الرخصة لأن لا يعان على تساهله، لكن من عرف بشدة الحرص على فعل الخير تعرض عليه الرخص لأن لا يحمله زيادة الحرص على مجاوزة السنة.
فالنبي عليه الصلاة بدأ بعبد الله بن عمرو بالأسهل فالأسهل إلى أن قال له: "صم يوماً وأفطر يوماً فذلك أفضل الصيام وهو صيام داود عليه السلام"(89) الحديث لا شك أن الإكثار من فعل الخيرات مطلوب، فالإكثار من الصيام مطلوب والإكثار من الصدقة مطلوب والإكثار من الجهاد من الحج من العمرة من التلاوة من بذلك الخير للناس من نفع العام والخاص كل هذا مطلوب وهذا هو الطريق الموصل إلى الجنة.
لكن مثل ما ذكرنا لو أن شخص عرف بشدة الحرص كشخص موسوس فهل تقول له إنك ما أسبغت الوضوء؟
هذا تفرح بأنه انتهى من الوضوء، لكن شخص متساهل تقول له أسبغ الوضوء.(1/88)
ومثله شخص لا يقرأ القرآن إلا في المناسبات أو على حسب التيسير إن جاء إلى المسجد قبل الأذان بخمس دقائق أو عشر دقائق قرأ وإلا فلا، فإنك تقول له كان السلف يختمون كل يوم يا أخي، تحفز همته وتشحذ همته للعمل الصالح.
شخص ثري ولا يتصدق تقول له أبو بكر جاء بجميع ماله فتخبره بالعزائم، أما من كان حاله بضد ذلك وعرف بالحرص الشديد فلا شك أنه بحاجة إلى من يمتص بعض هذا الحرص لأن لا يحمله ذلك الحرص على مخالفة السنة ولذا بدأ الني عليه الصلاة والسلام بعبد الله ابن عمرو لأنه عرف بالحرص الشديد.
تصور لو قال له النبي عليه الصلاة والسلام اقرأ القرآن في ثلاث يكفيه هذا مع ما عنده من زيادة الحرص؟
قال له: "اقرأ القرآن في سبع ولا تزد" فقال: إني أستطيع أكثر من ذلك، ومع ذلك ما أخذ بهذه الوصية وصار يقرأ القرآن بثلاث فندم بعد ذلك وتمنى أن لو قبل وصية النبي عليه الصلاة والسلام.
على كل حال صيام يوم وفطر يوم أفضل الصيام على الإطلاق هذا بالنسبة لمن لا يعوقه الصيام عن النفع العام المتعدي، أما من عاقه صيامه عن الواجبات كشخص إذا صام النفل أخل بالدوام الواجب نقول له لا تصم يا أخي.
شخص متبرع لتعليم الناس وإفتائهم وقضاء حوائجهم وأجره على الله ما يأخذ أجر ما أخل بواجب إذا صام لكن يعوقه صيامه عن مثل هذا النفل المتعدي نقول له ابذل الخير للناس وأرشدهم ووجههم والصيام إن وجدت فرصة وإلا فمثل هذا العمل المتعدي أفضل.
يقول: "ويكره إفراد رجب والجمعة والسبت والشك بصوم" إفراد رجب أولاً نعرف أن كل ما يروى في فضل صومه أو زيادة الصلاة فيه أو الصداقة أو العمرة جميع ما يذكر من زيادة في العبادات في رجب على وجه الخصوص فإنه لا يصح عند أهل العلم وجميع ما ورد فيه ضعيف.(1/89)
وقد ألف أبو الخطاب ابن دحية كتاباً نفيساً سماه "أداء ما وجب في بيان وضع الوضاعين في فضل رجب"، وابن حجر له رسالة صغيرة أصغر بكثير من كتاب ابن دحية سماه "تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب" وهي مطبوعة ومعروفة، وأما كتاب ابن دحية فهو محقق وجاهز للطبع ولا أعلم هل طبع أو لا،اشتغل عليه محمد الفوزان في قسم السنة وهو قديم قبل خمس عشرة سنة.
وعلى كل حال ما يذكر في فضل رجب من زيادة من صيام أو قيام أو زيادة تلاوة أو عمرة خاصة برجب لا يثبت وأما ما ذكر عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام اعتمر في رجب فقد أنكرته عليه عائشة ( .
يقول المؤلف: "والجمعة" أي يكره إفراد الجمعة بصوم لحديث: "لا تصوموا يوم الجمعة إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده"(90) متفق عليه من حديث أبي هريرة، وروى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا تخصوا يوم الجمعة بصيام ولا ليلتها بقيام"(91).
وعن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين ( أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: "أصمتي أمس؟" قالت: لا. قال: "أتريدين أن تصومي غداً؟" قالت: لا. قال: "فأفطري"(92) رواه البخاري فدل على أن المكروه إفراد الجمعة لا أن يضاف إلى الخميس أو السبت.
يقول المؤلف: "والسبت" أي يكره إفراده وأما جمعه مع الجمعة فلا بأس لقوله عليه الصلاة والسلام لجويرية: "أتصومين غداً؟" يعني السبت مع الجمعة، فدل على أنه لا يكره صيام السبت مع يوم قبله.
وفي المسند وأبي داود والترمذي وحسنه وابن ماجه وغيرهم من حديث عبد الله بن بسر عن أخته الصماء ( قالت: قال رسول الله ( :"لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم ولو لم يجد أحدكم إلا لحاء شجر"(93) يعني فيمضغه فيفطر به أي فليفعل، والحديث مختلف في حكمه فمنهم من حسنه كالترمذي وصححه الحاكم ومنهم من ضعفه وحكم عليه بالشذوذ ومنهم من قال هو ثابت لكنه منسوخ.(1/90)
ولذا اختار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أنه لا يكره إفراد يوم السبت بالصوم بناءً على أن هذا الحديث لا يثبت.
يقول المؤلف: "والشك" وقد تقدم الكلام فيه وقول عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصا أبا القاسم ( .أ.هـ.
يقول المؤلف: "ويحرم صوم العيدين ولو في فرض" بإجماع العلماء، يحرم صوم العيدين بالإجماع فلا يجوز لإنسان أن يصوم يوم العيد لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن صوم يومي العيدين عيد الفطر وعيد الأضحى.
يقول المؤلف: "وصيام أيام التشريق" أي لا يجوز صيام أيام التشريق لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال فيها: "هي أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل"(94) فهذا يدل على أن هذه الأيام لا تصلح أن تكون أيام إمساك، وهي ثلاثة أيام بعد عيد الأضحى.
س: في أيام عيد الفطر الثلاث ما يقال أنها تشابه أيام التشريق الثلاث من ناحية أنها أيام أكل وفرح وإظهار سرور؟
لا، أيام أكل لأيام التشريق لأنه فيها أضاحي وفيها هدي فتختلف عنها.
س: أو يقال على الأقل أن الأفضل أن يؤخرها لبعد الأيام الثلاث؟
لا، لفظ "وأتبعه" يدل على المبادرة.
يقول المؤلف: "إلا عن دم متعة وقران" أيام التشريق ثلاثة أيام بعد عيد الأضحى لكن من لم يجد هدي المتعة والقران يجوز له أن يصوم أيام التشريق لحديث عائشة وابن عمر ( أنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي.
يقول المؤلف: "ومن دخل في فرض موسع حرم قطعه" من شرع في صم فرض حرم عليه قطعه، ومن شرع في أي عمل مفروض حرم قطعه ولو كان وقته موسعاً والمضيق من باب أولى.
يستثنى من ذلك قطع المنفرد في الصلاة وتحويل الفرض إلى نفل، وإن قلب منفرد فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز، يحول الفرض إلى نفل تحصيلاً لما هو أفضل من ذلك كأن يصلي في جماعة مثلاً.
والأصل في ذلك قوله تعالى: (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ( (محمد:33) فقطع الصوم المفروض إبطال للعمل، وقطع الصلاة المفروضة إبطال للعمل.(1/91)
قول المؤلف: "ولا يلزم في النفل" أي لا يلزم إتمام صوم النفل لفعله عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم عن عائشة، وكما جاء في الخبر: "المتطوع أمير نفسه".
ويستثنى من ذلك المتطوع بالحج أو العمر لأن من دخل في النسك يلزمه إتمامه لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه((البقرة: من الآية196) وهذا يستوي فيه الفرض والنفل.
يقول المؤلف: "ولا يلزم في النفل ولا قضاء فاسده إلا الحج" أي لو فسد النفل فإنه لا يلزمه القضاء، فلو دعي إلى وليمة وهو صائم ثم رأى أن من المصلحة أن يجبر خاطر أخيه المسلم ويأكل معه في هذه الدعوة فلا بأس، لكن ما يلزمه أن يقضي ذلك اليوم.
إلا الحج وكذلك العمرة إذا أفسد الحج أو العمرة بالجماع قبل التحلل الأول فإنه يمضي في فاسده ويلزمه قضاؤه.
يقول المؤلف رحمه الله: "وترجى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. وأوتاره آكد. وليلة سبع وعشرين أبلغ. ويدعوة فيها بما ورد" ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" وجاء في سورة القدر أنها (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ( من حرم خيرها حرم الخير كله (95).
إذا فاتته هذه الليلة من السنة طول ليلة واحدة إذا فاتت ماذا يبقى له من الأجر؟ ماذا يحرص عليه من المغانم؟ والله المستعان.
سميت ليلة القدر بذلك لأنها ليلة ذات قدر لنزول القرآن فيها، أو لما يقع فيها من تنزل الملائكة، أو لما ينزل فيها من البركة والرحمة والمغفرة، أو لأن الذي يحييها يصير ذا قدر، وقيل القدر هنا بمعنى القدر.(1/92)
القدر - فإسكان الدال - بفتحها - الذي هو مآخي القضاء، والمعنى أنه يقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ( (الدخان:4) وبه صدر النووي كلامه فقال: قال العلماء سميت ليلة القدر لما تكتب فيها للملائكة من الأقدار والأرزاق والآجال التي تكون في تلك السنة كقوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ( (الدخان:4).أ.هـ.
قال ابن عباس ( في قوله تعالى: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ( يكتب من أم الكتاب ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحاج، وإنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى.أ.هـ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير: روي عن عكرمة أن ذلك ليلة النصف من شعبان والرواية عنه بذلك مضطربة وقد خولف الراوي لها فروي عن عكرمة أنه قال: في ليلة القدر. وعلى هذا جرى المفسرون.أ.هـ.
يعني ما يذكر أن معنى قوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم) في ليلة النصف من شعبان ضعيف لا يثبت.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: والحديث الذي رواه عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل عن الزهري أخبرني عثمان بن محمد بن المغيرة قال إن رسول الله ( قال: "تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد أخرج اسمه في الموتى" قال هو حديث مرسل ومثله لا تعارض به النصوص.أ.هـ.
وعلى هذا فليس لليلة النصف من شعبان مزية على غيرها من الليالي وما رواه ابن ماجه عن علي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماه الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلي فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر"(96) فهو حديث ضعيف.(1/93)
وجمهور العلماء على تضعيف جميع ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، قال ابن رجب رحمه الله تعالى في اللطائف: أنكر ذلك أكثر علما الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا ذلك كله بدعة.أ.هـ.
لكن من صام يوم النصف من شعبان لأنه من جملة الأيام البيض وقد اعتاد ذلك فلا بأس لأنه من الأيام البيض.
وفضل ليلة القدر نزل في فضلها سورة كاملة كما قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ(2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ( (القدر:1-5) .
وقال عليه الصلاة والسلام: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(97) وهذا تقدم.
وقيام ليلة القدر يكون بأي شيء؟ هل يكون بمجرد الانتباه كالرجل القائم المنتبه؟ قيامها يكون بالصلاة والذكر والدعاء وقراءة القرآن وغير ذلك من وجوه الخير، وقد دلت سورة القدر على أن العمل في هذه الليلة خير من ألف شهر مما سواها وهذا فضل عظيم ورحمه من الله بعباده بجدير بالمسلمين أن يعظموها وأن يحيوها بالعبادة.
وقد أخبر أنها في العشر الأواخر من رمضان وأن أوتار العشر آكد وأرجى من غيرها فقال عليه الصلاة والسلام: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في الوتر"(98) وقال: "من كانت متحريها فليتحرها في السبع الأواخر"(99) وغير ذلك من النصوص التي تدل على أن هذه الليلة متنقلة في العشر وليست في ليلة معينة فيها دائماً فقد تكون في ليلة إحدى وعشرين وقد تكون في ليلة ثلاث وعشرين وقد تكون في ليلة خمس وعشرين وقد تكون في ليلة سبع وعشرين وقد تكون في تسع وعشرين وقد تكون في الأشفاع.(1/94)
نعم الأوتار آكد لكن قد تكون في الأشفاع لأنه لما قال عليه الصلاة والسلام: "التمسوها لخامسة تبقى لسابعة تبقى"(100) إلى آخره، يحتمل أن تكون في الأشفاع إذا كان الشهر كاملاً ويحتمل أن تكون في الأوتار إذا كان الشهر ناقصاً.
فمن قام ليالي العشر كلها إيماناً واحتساباً أدرك هذه الليلة بلا شك وفاز بما وعد الله أهلها، ليحرص أن يقوم هذه الليالي كلها وأن يحضر قلبه لا يحضر بجسده وقلبه في أمور الدنيا فلا يفيده مثل هذا القيام لأن ليس له من صلاته إلا ما عقل، فمن عقل من الصلاة العشر مثلاً أو نسأل الله العافية طرأ عليه شيء من الرياء فأحبط عمله فهذه مصيبة يتعب الإنسان وأخيراً يرجع بلا فائدة.
فمن قام ليالي العشر كلها إيماناً واحتساباً أدرك هذه الليلة بلا شك وفاز بما وعد الله أهلها، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يخص هذه الليالي بمزيد اجتهاد لا يفعله في العشرين الأول قالت عائشة ( :"كان النبي ( يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها"(101) وقالت: "كان إذا دخل العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وجد وشد مئزره"(102) إلى غير ذلك من النصوص.
هل يلزم العلم بليلة القدر أو يحصل الأجر إذا صادفها ولم يعلم بها، فهل يثبت له أجرها أو لا بد من العلم بها؟
اختلف العلماء في ذلك و الصواب أن من قامها نال أجرها ولو لم يعلم بها، وقول من قال إنه لا ينال أجرها إلا من شعر بها قول ضعيف لأن النبي عليه الصلاة والسلام رتب الأجر على مجرد القيام فقال: "من قام ليلة القدر إيماناً واجتساباً" ولم يقل عالماً بها ولو كان العلم شرطاً لحصول الثواب لبينه النبي عليه الصلاة والسلام.(1/95)
وذكر العلماء لليلة القدر علامات منها زيادة النور في تلك الليلة، ومنها طمأنينة القلب وانشراح الصدر من المؤمن فالمؤمن يجد من انشراح الصدر وطمأنينة القلب في تلك الليلة أكثر ما يجده في بقية الليالي، لا شك أن المؤمن كامل الإيمان قد يشعر بها وحديث عائشة دليل على أنها تشعر بها.
من الأمور التي ذكرت من علامات ليلة القدر أن الرياح تكون فيها ساكنة، فلا يأتي فيها رياح ولا عواصف بل يكون الجو هادئاً فقد أخرج ابن خزيمة وابن حبان من حديث جابر ( أن رسول الله ( قال: "إني كنت رأيت ليلة القدر ثم نسيتها، وهي في العشر الأواخر وهي طلقة بلجة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمراً يفضح كوكبها لا يخرج شطانها حتى يخرج فجرها" وهو موجود عند ابن حبان وابن خزيمة.
وأخرج الإمام أحمد من حديث عبادة بن الصامت ( أن رسول الله ( قال: "إن أمارت ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمراً ساطعاً ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر ولا يحل لكوكب أن يرمى به فيها حتى تصبح" قال الهيثمي: رجاله ثقات.
من الأمور التي ذكرها أهل العلم أن الإنسان قد يجد في هذه الليلة لا سيما في القيام لذة أكثر مما يجد في غيرها لا سيما إذا أحضر قلبه وتدبر القرآن.
ذكر عن بعض الصحابة أنه تسنى له أن يرى الله سبحانه وتعالى في تلك الليلة في المنام، وهذا مجرد ذكر.
من علاماتها بل هو من أصح هذه العلامات أن الشمس تطلع في صبيحتها ليس لها شعاع صافية ففي صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب ( قال: "أخبرنا رسول الله ( أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها"(103) وفي المسند من حديث عبادة: "وأن أمارتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل لشيطان أن يخرج معها".
وأما ما يذكره بعض الناس من أن الكلاب لا يسمع لها نباح تلك الليلة أو أن الماء يسكن فلا دليل عليه، أما كون الماء يسكن لقلة الرياح هذا ممكن.(1/96)
يقول المؤلف: "ويدعو فيها بما ورد" يستحب للمسلم أن يغتنم هذه الليلة المباركة فيكثر من الأدعية المأثورة، يصلي عامة الليل ويتلو ويدعو ولا يغفل في هذه الليلة لأنها ليلة من سنة.
ومن الأدعية المأثورة كقوله: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" حديث عائشة في ذلك أنها قالت: يا رسول الله أرأيت يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول ليها؟ قال قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني"(104) أخرجه أحمد و النسائي والترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن صحيح، وغير ذلك من الأدعية الجوامع الواردة في الكتاب والسنة فيحرص على الأدعية المأثورة وليبتعد كل البعد من الاعتداء في الدعاء أو يضيع وقته بما لا ينفع، ويجتنب الأدعية المسجوعة وما فيه من إثم أو قطيعة رحم.
" قال شرف الدين أبو النجا الحجاوي رحمه الله تعالى: باب الاعتكاف. هو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى مسنون. ويصح بلا صوم. ويلزمان بالنذر. ولا يصح إلا في مسجد يجمع فيه. إلا المرأة ففي كل مسجد سوى مسجد بيتها. فمن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة وأفضلها الحرم فمسجد المدينة فالأقصى لم يلزمه فيه. وإن عين الأفضل لم يجز فيما دونه وعكسه بعكسه. ومن نذر زمناً معيناً دخل معتكفه قبل ليلته الأولى وخرج بعد آخره. ولا يخرج المعتكف إلا لما لا بد له منه ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه. وإن وطء في فرج فسد اعتكافه. ويستحب اشتغاله بالقرب واجتناب ما لا يعنيه"
الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء والمداومة عليه ومنه قول إبراهيم عليه السلام لقومه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ((الانبياء: من الآية52) أي ملازمون.
وقال تعالى: (يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ((لأعراف: من الآية138) أي يلازمونها ويداومون عليها، وهو اصطلاح مستعمل فالطلاب حينما يقرب الامتحان يعكفون على دروسهم والمذاكرة.(1/97)
ومما يؤسف أن اعتكاف غالب المسلمين على ما لا ينفع من مشاهدة لأفلام خليعة مثيرة أو كرة أو غيرها، هذه اهتمامات المسلمين وهذا اعتكافهم في الكثير الغالب، وهذا اعتكاف وعكوف نسأل الله العافية وهم بهذا يشبهون الذين يعكفون على أصنام لهم فيعكف الوقت الطويل يشاهد المباراة أو يعكف الوقت الطويل يشاهد أفلام تضره في دينه ودنياه ولا تنفعه.
وعلى كل حال على الإنسان أن يحافظ على هذا العمر الذي هو نفسه فيصرفه فيما يرضى الله سبحانه وتعالى ويوصله إلى جنته.
الاعتكاف في الاصطلاح عرفه المؤلف بقوله: هو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى.
الدليل على مشروعيته قوله تعالى: (َطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ((الحج: من الآية26) وفي قوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ((البقرة: من الآية187) فتعين محل الاعتكاف وهو المسجد.
"لزوم مسجد لطاعة الله تعالى" يدخل في طاعة الله سبحانه وتعالى الصلاة دخولاً أولياً والذكر والتلاوة، أي الطاعات الخاصة اللازمة.
وهل يدخل في ذلك الطاعات العامة المتعدية كطلب العلم؟
أولاً لا شك أن طلب العلم طاعة بل هو من أفضل القربات، لكن الذي قرره أهل العلم أن الاعتكاف إنما يكون في الطاعات الخاصة.
لكن إن زاول شيئاً يسيراً من ذلك بأن اصطحب معه كتاباً غير القرآن ينظر فيه فلا بأس لكن غالب الوقت يصرف في التلاوة والصلاة والذكر، وإن كان الكتاب المصطحب مما يشوقه إلى العبادة من كتب الرقائق والوعظ كان أنسب لأن هذا يعينه على مقصوده من الطاعات الخاصة، والعلم كله فاضل لكن الأوقات تتفاوت.
هل يسوغ لمعتكف أن ينظر في كتب البدع ولو كان بقصد الرد عليها؟ لا.
هل يسوغ لمعتكف أن ينظر في علوم الآلة ولو كان مما يحتاجه لفهم الكتاب والسنة كم يقرأ في معتكفه "نحو" مثلاً أو "أصول فقه أو غيره"؟
نقول لا، أصل الاعتكاف للعبادات الخاصة.(1/98)
قد يحتاج في تلاوته وتدبره للقرآن فهم بعض معاني الآيات فيرجع إلى بعض التفاسير الميسرة التي لا تبعده كثيراً عن روح القرآن، لأن بعض التفاسير المطولة تبعد به طويلاً عن روح القرآن وخصوصيته لا سيما في هذا الوقت، نعم قد يحتاج لفهم الآية والربط بينهما وبين غيرها بتفسير ميسر لا بأس هذا مما يعينه على فهم القرآن والشهر شهر القرآن.
ولذا كان السلف يتركون التعليم في رمضان والإمام مالك معروف إذا دخل رمضان ترك التحديث وأقبل على كتاب الله سبحانه وتعالى.
السلف لهم معاملة خاصة للقرآن فمنهم من يقرأ القرآن طول العام في سبع فإذا جاء رمضان قرأه في ثلاث فإذا دخلت العشر ختم كل ليلة، وقصصهم وأخبارهم مع كتاب الله سبحانه وتعالى مستفيضة مشهورة من الصحابة والتابعين فمن دونه.
واغتنام الأوقات واغتنام الأماكن الفاضلة هذا مما ينبغي أن يكون نصب عيني طالب العلم، فلا تضيع عليه مثل هذه الفرص وهذه المواسم سدى فعليه أن يغتنمها.
قد يقول قائل إذا أكثرت من قراءة القرآن لا أستطيع أن أتدبر، فنقول عليك أن تتدبر فإن أمكن أن تقرأ أكبر قدر ممكن لتحصيل الثواب المرتب على الحروف لأن كل حرف له عشر حسنات مع التدبر أو شيء من التدبر فالجمع بينهما طيب.
لكن إن لم يمكن فالتدبر أفضل وأهل العلم يختلفون في مثل هذا والشافعي رحمه الله يرى كثرة الحروف ولو كان من غير تدبر أفضل وغيره على العكس.
والمسألة مفترضة في شخص يقرأ في الساعة خمسة أجزاء من غير تدبر أو جزأين مع التدبر أيهما أفضل الخمسة أو الجزأين؟
الجمهور على أن الجزأين مع التدبر أفضل، والشافعي يرى أن الخمسة أفضل ولو كانت بغير تدبر لتحصيل أجر الحروف.
وليس الخلاف مفترض في مثل من يقرأ جزأ القرآن بتدبر أ, جزأ من غير تدبر هذا ليس فيه خلاف بين أهل العلم أ، التدبر أفضل، لكن الخلاف بينهم فيمن يقرأ خمسة أو يقرأ جزأين هذا مع التدبر وهذا مع تحصيل أكبر قدر من الحروف لأن بكل حرف عشر حسنات.(1/99)
المقصود أن على طالب العلم أن يكون له ورد يومي من كتاب الله لا يفرط فيه سفراً ولا حضراً في المواسم وغيرها ولا يترك القرآن على الفرغة وعلى الراحة إن تيسر وإلا لاحق عليه كما يقوله الكثير، لا فالعمر يمضي، ومن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة.
ونحن نعرف بعض الإخوان من خيار الناس مخيراً ومظهراً في أشرف الأوقات وأشرف الأماكن تضيع عليهم الأيام سدى، قد يأتي إلى البيت الحرام من صلاة العصر ويمكث فيه إلى أن ينتهي من صلاة التراويح وقد هجر بلده ووطنه وتحمل المشقة والزحام للعبادة وتحصيل أكبر قدر من الحسنات إذا صلى العصر مسك المصحف، هذا إن كان معتاداً على القراءة في الرخاء وله ورد معين هذا يعان بلا شك.
لكن إذا ما اعتاد طول السنة ما يقرأ القرآن إلا في المناسبات أو إن تيسر أو جاء قبل إقامة الصلاة تجده يفتح المصحف ويقرأ خمس دقائق عشر دقائق ثم لا يتحمل فيطبق المصحف ويبدأ يلتفت وينظر ذهب فلان ومن أين جاء فلان.
ما تعرف على الله في الرخاء هذا، لكن نعرف أناس تعرفوا على الله في أيام الرخاء ولهم ورد يومي من القرآن لا يخلون به لا سفرا ولا حضراً يجلس بعد إشراق الشمس فلا يؤذن الظهر إلا وقد ختم القرآن.
لكن من يطيق مثل هذا وهو ما اعتاد، هذا أمر لا يطيقه كثير من الناس لأنه ما تعود والمسألة تحتاج إلى أمران وتحتاج إلى دربة فلا بد أن تري الله سبحانه وتعالى من نفسك الخير ليعينك ويعلم منك صدق النية وهذا شيء ملاحظ ومشاهد، فمن تعرف على الله في الرخاء عرفه في الشدة.
إنسان يريد أن يصلي ركعة بالبقرة مثلاً والثانية بآل عمران، فإذا لم يكن قد تعود فلا يمكن أ، يفعل هذا وإن كان معتاداً فلأمر سهل، عثمان ( وعمره يناهز أو يزيد على السبعين عرف عنه طول القيام حتى ذكر عنه أنه يختم القرآن بركعة.(1/100)
وذكر عن السلف ذكر ابن رجب وابن كثير وجمع من أهل العلم من أهل التحقيق مثل هذه الأخبار وبعض الناس يقدح فيها ويجعلها مخالفة لمثل قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث"(105).
وأهل العلم يحملون ذلك على أوقات السعة أ, على قيام الليل كما يقول بعضهم، أما اغتنام الأوقات والأماكن الفاضلة فالسلف عرف عنهم ذلك، فالذي لا يؤنس من نفسه مثل هذه الأشياء بل تشق عليه أن يتابع القراءة فمثل هذا يقدح في مثل هذه الأمور ولا يصدق.
حتى قال بعضهم والمؤسف أنه الآن أستاذ في القرآن وعلومه لكنه ليس من أهل القرآن لما ذكر له أن الإمام أحمد يصلي في اليوم والليلة ثلاث مئة ركعة قال ليس بمعقول، هذا كلا طالب والمدرس يقول ليس بمعقول لأن عنده صالون يجلس فيه ثلاث ساعات يحلق شعره، لأن الشخص حليق.
اهتمامهم غير اهتمامك وجلدهم غير جلدك وصبرهم غير صبرك، عرف عن لاسلف كثرة العبادة وطول القيام وأثر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قام حتى تفطرت قدماه وقد غفر ما تقدم له من ذنبه وما تأخر، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف.
والذي لا يراول هذه الأشياء لا يصدق بها، فيقول كيف يقرأ القرآن بيوم؟
يقرأ القرآن بيوم،ولكن ما ينبغي أن يكون ديدن وعادة وطول السنة يختم كل يوم لأنه يعوقه عن بعض المصالح التي نفعها أعم.
"أل" في قوله تعالى: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد((البقرة: من الآية187) للجنس فكل مساجد الدنيا يسن فيها الاعتكاف وليس خاصاً بالمساجد الثلاثة أي المسجد الحرام والمسجد النبوي والأقصى وأما ما يروى عن حذيفة ( أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة"(106) هذا حديث ضعيف.(1/101)
ويدل على ضعفه أن ابن مسعود ( ضعفه حين ذكر له حذيفة ( أن قوماً يعتكفون في مسجد بين بيت حذيفة وبيت ابن مسعود فجاء حذيفة إلأى ابن مسعود زائراً له وقال: "إن قوماص كانوا معتكفين في المسجد الفلاني" ينتقدهم فقال له ابن مسعود ( : "لعلهم أصابوا فأخطأ وذكروا فنسيت".
وعلى فرض صحته يحمل على أنه لا اعتكاف أكمل من الاعتكاف في المساجد الثلاثة.
والاعتكاف مسنون هذا حكمه كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم، أما الكتاب فقوله تعالى لإبراهيم وإسماعيل: (أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ((البقرة: من الآية125) ومعلوم أن تطهير البيت التطهير المعنوي من الشرك والبدع والمعاصي الظاهرة أولى من تطهيره التطهير الحسي كالغسيل والتنظيف وإن كان هذا مطلوب، فطلب منهما أن يطهرا بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود فدل على فضل الاعتكاف وأنه مقرون بالصلاة والطواف.
وقد اعتكف النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه وأزواجه من بعده، والأفضل أ، يكون الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان لأنه هو الذي استقر عليه أمر النبي عليه الصلاة والسلام.
قالت عائشة ( : "كان النبي عليه الصلاة والسلام يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده"(107) وهذا في الصحيحين وإن اعتكف في غير هذه العشر فلا بأس كالعشر الأول أو العشر الوسطى أو في شوال أو في ذي القعدة أو في غيرها من الأشهر، والعبادة ليس لها وقت ولكن أفضلها ما دوام عليه النبي عليه الصلاة والسلام وهو العشر الأواخر من رمضان.
ولا يجب الاعتكاف ولا يلزم إلا بالنذر لقوله عليه الصلاة والسلام: "من نذر أن يطيع الله فيطعه"(108) رواه البخاري.(1/102)
والاعتكاف مع الصيام أكمل لكنه يصح بلا صوم لأن عمر ( سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن نذر نذره أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال له: "أوف بنذرك"(109)، ولأن الاعتكاف والصيام عبادتان منفصلتان فلا يشترط لأحدهما وجود الأخرى.
يقول المؤلف: "ولا يصح إلا في مسجد يجمع فيه" أي تقام فيه صلاة الجماعة، لأن صلاة الجماعة واجبة بالنسبة للرجال فلا يعتكف في مسجد مهجور كان مسجداً ثم ترك وارتحل عنه أهله أو في مسجد طريق أو شبهه ما تقوم به الجماعة، لأن الجماعة واجبة والاعتكاف سنة فلا يفرط في واجب من أجل تحصيل سنة.
هذا بالنسبة للرجال الذين تلزمهم الجماعة وأما المرأة فيصح الاعتكاف منها في كل مسجد سوى مسجد بيتها، فمسجد البيت وإن سمي مسجد إلا أنه لا تثبت له أحكام المسجد فلا يصح الاعتكاف فيه وتجلس فيه حائض ويباع مع البيت لكن هو مكان مخصص للصلاة والتلاوة ينبغي أن ينظف ويطيب من هذه الحيثية وأما بالنسبة لأحكام المسجد فلا.
يقول المؤلف: "من نذر زمناً معيناً دخل معتكفه" مع غروب الشمس من ليلة أو يوم وخرج بعد آخره، فيدخل مع غروب الشمس لأن اليوم يدخل مع غروب الشمس، فإذا نذر أن يعتكف عشر أيام فيدخل مع غروب الشمس في اليوم الأول فإذا غربت الشمس من اليوم العاشر خرج من معتكفه وانتهت العشر أيام.
يقول المؤلف: "ولم يخرج المعتكف إلا لما لا بد منه ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة إلا أن يشترطه" ويلازم المعتكف معتكفه وهو المسجد ولا يخرج إلا لما لا بد منه ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة قالت عائشة ( :"السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه"(110) يعني لقضاء حاجة أو الوضوء أو أكل إن لم يتيسر في المسجد رواه أبو داود وقال ابن حجر في البلوغ: ولا بأس برجاله إلا أن الراجح وقف آخره.أ.هـ.(1/103)
يستحب للمعتكف أن يشتغل بما يقربه إلى الله سبحانه وتعالى وأن يجتنب ما لا يعنيه لقوله عليه الصلاة والسلام: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(111) وهذا في جميع الأحوال في جميع الأوقات في جميع الأماكن لكن في حق المعتكف من باب أولى، وإذا كان هذا بالنسبة لما أباحه الله سبحانه وتعالى فكيف بمعتكف يزاول المحرمات من غيبة ونميمة وغيرها.
يقول المؤلف: "ومن نذره أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة وأفضلها الحرام، فمسجد المدينة، فالأقصى لم يلزمه فيه" نذر أن يعتكف في جامع الرياض لا يلزمه أن يعتكف في جامع الرياض ويعتكف في أي جامع.
نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لا بد أن يعتكف في المسجد الحرام، نذر أ، يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لا بد أن يعتكف مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو في المسجد الحرام لأنه أفضل منه، نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى عليه أن يعتكف إما فيه أو في المسجد النبوي لأنه أفضل منه أو في المسجد الحرام.
يقول المؤلف: "لم يلزمه فيه" لأنه ليست له مزية تميزه، لكن إذا نذر أن يعتكف في أحد هذه المساجد الثلاثة الفاضلة لا يجوز له أ، يعتكف بغيرها، نعم له أ، ينتقل إلى الأفضل دون المفضول.
يقول المؤلف: "وإن عين الأفضل لم يجز فيما دونه" كمن نذر أن يعكف في المسجد الحرام لا يجزئه أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو المسجد الأقصى.
يقول المؤلف: "وعكسه بعكسه" كمن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى فيجزئه أن يعتكف في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام أو في المسجد الحرام من باب أولى وهكذا.
يقو المؤلف: "ومن نذر زمناً معيناً دخل معتكفه قبل ليلته الأولى وخرج بعد آخره" وهذا انتهى لأن اليوم يبدأ بغروب الشمس.
يقول المؤلف: "ولم يخرج المعتكف إلا لما بد منه" يخرج لصلاة الجمعة، يخرج للدورة يتوضأ ويأكل لا بأس وما زاد على ذلك مما له منه بد ومندوحة لا يجوز له أن يخرج.(1/104)
يقول المؤلف: "ولا يعود مريضاً. ولا شهد جنازة إلا أن يشترطه" إذا اشترط لأن ذلك إليه بخلاف الوطء لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ((البقرة: من الآية187) فالمباشرة تبطل الاعتكاف.
ولا بأس أن يزار المعتكف في المسجد يزوره أهله وأولاده على أن لا يطيلوا المكث فيقطعوا عليه الخلوة بربه يطمئنون عليه ويطمئن عليهم وينصرفون، وقد كان نساء النبي عليه الصلاة والسلام يزرنه في المسجد فيقلب إحداهن أي يرجعها إلى بيتها فلا بأس للحاجة.
يقول المؤلف: "ويستحب اشتغاله بالقرب واجتناب ما لا يعنيه" فهو اعتكف لينال الثواب والأجر من الله سبحانه وتعالى ويحيي هذه السنة، فعليها، يشتغل بما يقربه من الله سبحانه وتعالى.
عندنا مسألة قيام رمضان وهي مهمة وتشكل على كثير من الأخوان، النصوص فيها كثيرة ومتوافرة وبعضها قد يشكل على بعض طلاب العلم.
وهذا استطراد وهو يدخل في كتاب الصلاة ولا يدخل في كتاب الصيام، لكن المناسبة بينه وبين الصيام ظاهرة لأنه جاء الخبر: "من صام رمضان إيماناً واجتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" وفي بعض الروايات "وما تأخر" وهذه عند النسائي صححها بعضهم.
وعلى كل حال المناسبة ظاهرة ورمضان قادم فلا مانع أن نعرض لقيام رمضان والمراد به قيام لياليه مصلياً، إحياء لياليه بالصلاة مصلياً تالياً ذاكراً.
ذكر النووي رحمه الله تعالى أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح، يريد أنه يحصل بها المطلوب من القيام لا أن قيام رمضان لا يكون إلا بها.
وسميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان التراويح لأنهم أول ما اجتمعوا عليها كانوا يستريحون بين كل تسليمتين وهذا يدل على الإطالة، وكان هذا لطول صلاتهم روى الإمام البخاري عن أبي هريرة ( أن رسول الله ( قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".(1/105)
وروى أيضاً عن عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله ط خرج ليلة من جوف الليل فصلىفي المسجد وصلى بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمعوا أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبحوا الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله ( فصلي بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح تركهم النبي عليه الصلاة والسلام فلما قضى الفجر أقبل على الناس وتشهد ثم قال: "أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها"(112) النبي عليه الصلاة والسلام لما ترك الصلاة في ليالي رمضان جماعة خشية أن تفرض على الناس فيعجزا عنها وهذا من شفقته عليه الصلاة والسلام ورحمته بأمته.
فتوفي رسول الله ( والأمر على ذلك يقول ابن شهاب: فتوفي رسول الله ( والناس على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر ( .
وعن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ( ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط.
فقال عمر: "إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل" ثم عزم فجمعهم على أبي ابن كعب.
يقول عبد الرحمن بن عبد: ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر ( : "نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون"(113) يريد صلاة آخر الليل أفضل وكان الناس يقومون أوله.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام (إيماناً) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه و"احتساباً" أي طلباً للأجر لا لقصد آخر من رياء ونحوه "غفر له" ظاهره يتناول الصغائر والكبائر وبه جزم ابن المنذر وقال النووي: المعروف أنه يختص بالصغائر.(1/106)
المكفرات من العبادات جاء القيد "الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر"(114) وفي رواية "ما لم تغش كبيرة" واجتناب الكبائر مكفر للصغائر وكفيل بتكفير الصغائر: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ((النساء: من الآية31).
وعلى كل حال التكفير خاص بالصغائر وأما الكبائر المعروف عند جمهور العلماء أنه لا بد من التوبة منها، وعلى كل حال هي تحت المشيئة لكن هي لا بد من التوبة منها، وإن جاءت هذه الأشياء على الصغائر كلها لعله أن يخفف من الكبائر.
النبي عليه الصلاة والسلام صلى بالناس في ثلاث ليال ثم ترك التجميع بهم خشية أن تفرض على الأمة، وهذا كما قدمنا شفقة منه عليه الصلاة السلام على أمته ورأفة بها، ثم استمر الأمر على الترغيب في قيام رمضان يعني من غير جماعة بقية عمره عليه الصلاة والسلام وفي خلافة أبي بكر ( وفي صدر خلافة عمر ( .
ثم إن عمر ( وهو الخليفة الراشد الذي أمرنا بالاقتداء به فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ"(115) "اقتدوا باللذين من بعدي"(116) وعلى كل حال نحن مأمورون بالاقتداء بمثله، وعمر ( اجتهد بعد أن زالت الخشية من أن تفرض على الأمة فيعجز عنها الناس فجمع الناس على أبي بن كعب أي جعله لهم إماماً وكأنه اختاره ( عملاً بقول النبي عليه الصلاة والسلام "يؤم القوم أقرائهم لكتاب الله"(117) وأبي بن كعب ( أقرئهم كما ثبت.
ثم إن عمر ( خرج بينما الناس يصلون بصلاة قارئهم فأعجبه ذلك، وخشي ( أن يقال له ابتدعت يا عمر فقال ( : "نعم البدعة" أو "نعمت البدعة هذه" فلعله خشي أن يقال له ذلك أو قيل له ولم ينقل.
البدعة كما هو معروف ما عُمِلَ على غير مثال سابق هذا أصلها.
وهي في الشرع: ما تُعُبِّدَ به مما لا دليل عليه .(1/107)
زعم بعضهم أن المراد بالبدعة هنا هي البدعة اللغوية، أي البدعة في قول عمر: "نعمت البدعة" بدعة لغوية ، وقال بعضهم إنه من قبيل المجاز.
أما كونها بدعة لغوية فلا ، لأن البدعة في اللغة ما عُمِلَ على غير مثال سابق وهذه الصلاة عملت على مثال سَبَقَ منه عليه الصلاة والسلام، وكونه ترك عُرِفَ السبب خشية أن تفرض.
وأما كونه من قبيل المجاز فالمجاز منفي عند أهل التحقيق.
فهي في الحقيقة ليست ببدعة لا لغوية فقد عملت على مثال سابق قد صلاها النبي عليه الصلاة والسلام ثلاث ليالي ثم تركها لا نسخاً لها وإنما خشي أن تفرض، وليست ببدعة شرعية لأن لها أصلاً شرعياً فقد صلاها النبي عليه الصلاة والسلام كما سبق، والقول بأنها مجاز ليس بصحيح إذ لا مجاز كما اختاره أهل التحقيق من العلماء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من المحققين .
والصواب أن ذلك من باب المشاكلة في اللفظ ، المشاكلة أن تبدأ بكلام فترد بمثله فلو قيل لك أنت ما أكلت اليوم؟ تقولك بلا أكلت.
وأنت بالفعل ما أكلت لكن قرأت وأنت عندك أن القراءة أفضل من الأكل فهذه مجانسة ومشاكلة في التعبير.
قالوا اقترح شيئاً تُجِد لك طبخه
*
قلت اطبخوا لي جبةً وقميصاً
هذه مشاكلة في التعبير وإلا فالجبة والقميص لا تطبخان، فهذه مشاكلة ومجانسة في التعبير.
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا( [الشورى: 40] الأولى سيئة لكن الثانية وهي معاقبة الجاني حسنة لكن هذا في التعبير، والمشاكلة لها باب كبير من أكبر أبواب البديع.
على كل حال الذي قال إنها بدعة لغوية هو شيخ الإسلام رحمه الله في اقتضاء الصراط ، لكن عرفنا أن تعريف البدعة اللغوية لا ينطبق عليها، والذي قال إنها من قبيل المجاز هو الشاطبي.
وهي في الحقيقة ليست ببدعة لا لغوية ولا مجاز .
س: من الذي قال إنه من باب المشاكلة؟
ما قالها أحد، الناس يتابعون شيخ الإسلام رحمه الله :
إذا قالت حذام فصدقوها
*(1/108)
فإن القول ما قالت حذام
العز ابن عبدالسلام والنووي وابن حجر يقسمون البدع فيجعلون منها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح .
وبعضهم يقسمها إلى الأحكام الخمسة فيجعل هناك بدع واجبة وبدع مستحبة وبدع مباحة وبدع مكروهة وبدع محرمة لكن هذا التقسيم مخترع مبتدع لم يدل عليه دليل لا من كتاب ولا من السنة.
فبعض الناس يقول التراويح بدعة لكنها بدعة حسن، نقول ليس في البدع ما هو حسن والتقسيم الذي ذكروه مخترع مبتدع لم يدل عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة بل صرح النبي عليه الصلاة والسلام بخلافه حيث قال: "وكل بدعة ضلالة" (118) وهؤلاء يقولون بدع واجبة بدع مستحبة الآن الرسول يقول: "كل بدعة ضلالة" تقولون بدع واجبة!!!
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: "شر الأمور محدثاتها" (119) ونقول إن من البدع ما هو واجب ومستحب !!!
هذه مصادمة ، وعلى كل حال الشاطبي رد هذا التقسيم وقوض دعائمه في الاعتصام فأجاد رحمه الله تعالى.
إذا عُرِفَ هذا فقيام رمضان من أفضل القربات لأن القيام من أفضل الأعمال وهو دَأْبُ الصالحين لاسيما في مثل هذه الأيام أي شهر رمضان التي ترجى فيها ليلة القدر كليالي العشر مثلاً وهذا أمر معروف مستفيض.
وقيام الليل في غير رمضان من أفضل الأعمال جاء في الكتاب والسنة الأدلة الكثيرة على فضله والإشادة بأهله:(تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ( [السجدة:16].
(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ( ثم بعد ذلك قال : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( [الزمر:9] دل على أن من صفة أهل العلم قيام الليل ومن صفة الجُهَّال الذين لا يعلمونترك قيام الليل.
قال النبي عليه الصلاة والسلام: "نعم الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل"(120) فكان لا ينام من الليل إلا قليلاً .(1/109)
على كل حال الذي لا يقوم الليل محروم، ووصف الحرمان الآن يستوي فيه من ينتسب إلى العلم والعوام ويندر ويقل أن يوجد من يقوم الليل.
وعلى كل حال الأرض لا تخلو من العُبَّاد لكن يوجد مع الأسف الشديد من ينتسب إلى العلم وينتصب لتعليم الناس وإقرائهم وإفتائهم والقضاء بينهم من لا يقوم الليل أو لا يرفع بذلك رأساً فإن أوتر بركعات خفيفة لا يدري ما يقرأ فيها.
ولا نقول إن كل من ينتسب إلى العلم بهذه الصفة ، لا ، لكنه موجود نسأل الله المسامحة والعفو .
إذا عرف هذا فعدد الركعات في قيام الليل قد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان رسول الله ( يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حُسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثاً" (121) .
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة وفي صحيح مسلم أنه كان يفتتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خَشِيَ أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صَلَّى" (122) .
وروى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قام مع النبي عليه الصلاة والسلام ليلة فصلى ثم صلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر، هذه أكثر مما جاء في حديث عائشة ففي حديث عائشة التحديد بإحدى عشر وصح عنه الثلاث عشر وصح عنه أكثر من ذلك كما في حديث ابن عباس وجاء عنه الإطلاق في صلاة الليل وأنها مثنى مثنى.
وكل ذلك يدل على أن العدد غير مراد ، ولذا اختلف العلماء في عدد صلاة التراويح قال الترمذي أكثر ما قيل أنها تصلى إحدى وأربعين ركعة يعني بالوتر، وعن مالك ست وأربعين وثلاثٌ الوتر وهذا هو المشهور عنه، وقال بعضهم ثلاث وعشرون وقيل غير ذلك استدلالاً بالحديث المطلق: "صلاة الليل مثنى مثنى" فلا تحديد .(1/110)
لكن من تقيد بفعله عليه الصلاة والسلام صفةً وعدداً فهو أولى يعني الذي يلازم الإحدى عشرة لكن مع التزامه بالعدد يلازم الصفة ، ومما جاء في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام وتطويله للصلاة حديث ابن مسعود ( قال: صليت مع النبي ( ليلةً فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء . قلنا : وما هممت به ظ قال: هممت أن أقعد وأذر النبي عليه الصلاة والسلام (123) .
شخص يريد أن يطبق السنة يصلي إحدى عشرة ركعة بثلث ساعة ويقرأ ربع وجه ثلاث آيات أربع آيات!!
إن كنت تريد أن تطبق السنة فانظر إلى الوصف، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ( كان يصلي إحدى عشرة ركعة يسجد السجدة من ذلك قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه ويركع ركعتين قبل صلاة الفجر (124) .
وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قام بسورة البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، وثبت عنه أنه أوتر بخمس وسبع وتسع إلى غير ذلك فالظاهر أنه ليس هناك حد معين لصلاة الليل لكن من قَلَّلَ العدد في الركعات أطال القراءة والسجود ومن أكثر العدد في الركعات خفف ذلك على خلاف بين أهل العلم في المفاضلة بين طول القيام والقراءة والسجود وكثرة عدد الركعات، ولكلٍ أدلته والمقام لا يحتمل بسط هذه المسألة فمن أهل العلم من يرى تفضيل طول القيام وهو القنوت (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ( [البقرة: 238] ومنهم من يرى إطالة السجود والركوع مع تخفيف القيام لأن كل شيء على حساب شيء فما يجتمع أن تقرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة وتطيل السجود والركوع إلا إذا قللت العدد.
وعلى كل حال المقصود أن يرتبط الإنسان بهذه العبادة التي تَرَكها وضيَّعَها كثير من الناس والله المستعان .
آثار المداومة على الأعمال الصالحة وهذا مهم جداً ، المداومة على الأعمال الصالحة لها آثار كثيرة جداً تعود على العامل نفسه وتتعداه إلى غيره منها:(1/111)
أولاً: دوام اتصال القلب بخالقه مما يعطيه قوةً وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل وتوكلاً عليه ومن ثم يكفيه الله سبحانه وتعالى ما أهمه كما قال جل وعلا : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ( [الطلاق: 3] .
ثانياً: تَعَهُّد النفس عن الغفلة وترويضها على لزوم الخيرات حتى تسهل عليها ومن ثم تصبح ديدناً لها لا تنفك عنها رغبة فيها.
ترون بعض الناس إذا صفّ كأنه سارية لأنه اعتاد هذه العبادة لا يتحرك منه شيء ، وبعض الناس يأتي بصلاة الفرض على وجه أشبه ما تكون بالعبث والله سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى( [الليل:4] فكل هذا على العادة إذا تعود الإنسان ومَرَّنَ نفسه .
والنفس حسب ما جُبِلَت عليه وقُصِرَت عليه، فالنفس فيها قدرة كامنة جعل الله سبحانه وتعالى فيها هذه القدرة أجبرها على شيء تعطيك، والمران لا شك أن له أثر في القُدرة فتجد الناس منهم من يحتمل المشاق التي لا يطيقها غيره من أجل الدنيا ومنهم يتحمل ما لا يتحمله غيره من أجل تحصيل امرأة مثلاً فيبذل الغالي والنفيس من أجل تحصيلها ومنهم من كانت همته في بعض مظاهر الدنيا من تحصيل بيت أو تحصيل سيارة أو غير ذلك تجده يصبر ويتحمل ويصبر على لاسهر وغيره، لكن إذا عودت نفسك على العبادة وعلى الطاعة أجابت وإذا علم الله سبحانه وتعالى منك صدق النية أعانك.
ثالثاً: أن المداومة سبب لمحبة الله تعالى للعبد وولايته كما قال عليه الصلاة والسلام : إن الله تعالى قال: "من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" (125) والحديث مخرج في الصحيح .(1/112)
رابعاً: المداومة سبب في النجاة من الشدائد ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت رديف النبي عليه الصلاة والسلام فقال: "يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟" فقلت: بلى . قال: "احفظ الله يحفظ ، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة" (126) .
وحديث الثلاثة أصحاب الغار معروف فلما نزلت بهم هذه الشدة تذكروا الأعمال الصالحة ففرج عنهم (127) .
خامساً: أن المداومة على الأعمال الصالحة سبب لحسن الخاتمة وذلك لأن المؤمن يصبر على أداء الطاعات كما يصير عن المعاصي والسيئات محتسباً الأجر عند الله عز وجل فيقوى قلبه على هذا وتشتد عزيمته على فعل الخيرات فلا يزال يجاهد نفسه فيها فَيُوَفِّقُهُ الله عز وجل لحسن الخاتمة كما قال جل وعلا: ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ( [ابراهيم: 27] .
إلى غير ذلك من الآثار الحسنة نسأل الله سبحانه وتعالى لنا ولكم الثبات على دينه و أن يستعملنا في طاعته وفي ما يرضيه.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد .
لإن قعدنا والنبي يعمل
*
فذاك منا العمل المضلل
(1) مما جرت عليه مصنفات العلماء أن الأعلام لا تُعَرّف .
(2) راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي تفسير آيتي 183-184 من البقرة .
(3) أخرجه البخاري تحت باب دعاؤكم إيمانكم، ومسلم في كتاب الإيمان.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان.
(5) أ×رجه مسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في صيام ست أيام من شوال، وأبو داود تحت باب استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعاً لرمضان، وابن ماجه تحت باب صيام ستة أيام من شوال .
(6) أخرجه مسلم في كتاب الصيام .
(7) شرح صحيح مسلم للنووي تحت باب بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام .
(8) مجموع الفتاوى 7/302 .(1/113)
(9) أخرجه البخاري تحت باب (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم(، ومسلم في كتاب الإيمان ، والترمذي تحت باب ما جاء أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وأبو داود تحت باب على ما يقاتل المشركون ، والنسائي تحت باب مانع الزكاة .
(10) أخرجه البخاري تحت باب هل يقول إني صائم إذا شتم، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في فضل الصوم، وأبو داود تحت باب غيبة الصائم، وابن ماجه تحت باب ما جاء في فضل الصيام، والنسائي تحت باب فضل الصيام .
(11) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي آيتي 183-184 من البقرة .
(12) أخرجه البخاري تحت باب وجوب العمرة وفضلها، ومسلم في كتاب الحج ، والترمذي تحت باب ما جاء في ذكر فضل العمرة، وابن ماجه تحت باب فضل الحج والعمرة، والنسائي تحت باب فضل العمرة .
(13) أخرجه مسلم في كتاب الطهارة، والترمذي تحت باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس ، وابن ماجه تحت باب تحت كل شعرة جنابة.
(14) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك .
(15) أخرجه البخاري تحت باب فضل الصوم في سبيل الله، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في فضل الصوم في سبيل الله، وابن ماجه تحت باب في صيام يوم في سبيل الله، والنسائي تحت باب ثواب من صام يوماً في سبيل الله عز وجل.
(16) أخرجه البخاري تحت باب الريان للصائمين، ومسلم في كتاب الصيام ، والترمذي تحت باب ما جاء في فضل الصوم ، وابن ماجه تحت باب ما جاء في فضل الصيام، والنسائي تحت باب فضل الصيام.
(17) مجموع الفتاوى 22/335-356 .
(18) أخرجه البخاري تحت باب سؤال جبريل النبي ( عن الإيمان والإسلام والإحسن وعلم الساعة، ومسلم في كتاب الإيمان، والترمذي تحت باب ما جاء في وصف جبريل عليه السلام للنبي ( الإيمان والإسلام، وأبو داود تحت باب في القدر، وابن ماجه تحت باب في الإيمان، والنسائي تحت باب صفة الإيمان والإسلام.(1/114)
(19) أخرجه البخاري تحت باب إن لله مئة اسم إلا واحدة، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والاستغفار والتوبة، والترمذي تحت باب إن لله تسعة وتسعين اسماً ، وابن ماجة تحت باب أسماء الله عز وجل.
(20) شرح ابن عيسى على النونية 2/213-249 .
(21) أخرجه البخاري تحت باب قولا لنبي ( : "من استطاع من الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج" وهل يتزوج من لا إرب له في النكاح ؟ ، ومسلم في كتاب النكاح، والترمذي باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه، وأبو داود تحت باب التحريض على النكاح، وابن ماجه تحت باب ما جاء في فضل النكاح، والنسائي تحت باب الحث على النكاح .
(22) أخرجه البخاري تحت باب قول النبي ( : "إذا رأيتم الهلال فصوموا ، وإذا رايتموه فأفطروا" ، ومسلم في كتاب الصيام ، والترمذي تحت باب ما جاء أن الصوم لرؤية الهلال والإفطار له، وابن ماجه تحت باب ما جاء في صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، والنسائي تحت باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان.
(23) أخرجه النسائي تحت باب قبول شهادة الرجل الواحد على هلال شهر رمضان.
(24) أخرجه أبو داود تحت باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال .
(25) أخرجه أبو داود تحت باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال .
(26) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء أن الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون، وقال نه أبو عيسى : هذا حديث غريب حسن .
(27) سبق تخريجه ص18 .
(28) تحت باب قول النبي ( : "صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته" .
(29) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك - قال أبو عيسى : حديث عمار حديث حسن صحيح - ، وأبو داود تحت باب كراهية يوم الشك ، وابن ماجه تحت باب ما جاء في صيام يوم الشك، والنسائي تحت باب صيام يوم الشك .(1/115)
(30) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم، وأبو داود تحت باب إذا رؤي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة ، اختلاف أهل الآفاق في الرؤية .
(31) أخرجه البخاري تحت باب ترك الحائض للصوم، ومسلم في كتاب الإيمان، وأبو داود تحت باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه.
(32) أخرجه البخاري تحت باب لا تقضي الحائض الصلاة ، ومسلم في كتاب الطهارة، والترمذي تحت باب ما جاء في الحائض أنها لا تقضي الصلاة، وأبو داود تحت باب في الحائض لا تقضي الصلاة، وابن ماجه تحت باب الحائض لا تقضي الصلاة، والنسائي تحت باب سقوط الصلاة عن الحائض .
(33) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي تفسير آيتي 184-185 من البقرة .
(34) أخرجه البخاري تحت باب قول الله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم(، ومسلم في كتاب الأيمان، وأبو داود تحت باب الحنث إذا كان خيراً، وابن ماجه تحت باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها، والنسائي تحت باب الكفارة قبل الحنث وباب الكفارة بعد الحنث .
(35) قواعد ابن رجب 1/24-42 .
(36) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي تفسير آيتي 183-184 من البقرة .
(37) كما في قوله تعالى: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم"( البقرة: 173 .
(38) أخرجه الترمذي تحت باب حديث أعقلها وتوكل - قال أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح - ، والنسائي تحت باب الحث على ترك الشبهات .
(39) أخرجه البخاري تحت باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم في كتاب المساقاة والمزارعة ، والترمذي تحت باب ما جاء في ترك الشبهات، وأبو داود تحت باب في اجتناب الشبهات، وابن ماجه تحت باب الوقوف عند الشبهات.
(40) أخرجه مسلم في كتاب الصيام .
(41) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في كراهية الصوم للسفر، والنسائي تحت باب ما يكره من الصيام في السفر.(1/116)
(42) أخرجه البخاري تحت باب قول النبي ( لمن ظلل عليه واشتد الحر : ليس من البر الصيام في السفر" ، ومسلم في كتاب الصيام، وأبو داود تحت باب اختيار الفطر، وابن ماجه تحت باب ما جاء في الإفطار في السفر، والنسائي تحت باب ما يكره من الصيام في السفر .
(43) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء فيمن أكل ثم خرج يريد سفراً قال أبو عيسى : هذا حديث حسن.
(44) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع - قال أبو عيسى : حديث حسن - وأبو داود تحت باب اختيار الفطر، وابن ماجه تحت باب ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع، والنسائي تحت ذكر وضع الصيام عن المسافر.
(45) أخرجه البخاري تحت باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ( ، ومسلم في كتاب الإمارة ، والترمذي تحت باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا، وأبو داود تحت باب فيما عنى به في الطلاق والنيات، وابن ماجه تحت باب النية، والنسائي تحت باب النية في الوضوء .
(46) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، وأبو داود تحت باب النية في الصوم، والنسائي تحت باب النية في الصيام.
(47) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب صيام التطوع بغير تبييت، وابن ماجه تحت باب ما جاء في فرض الصوم من الليل والخيار في الصوم، والنسائي تحت باب النية في الصيام.
(48) أخرجه النسائي تحت النية في الصيام .
(49) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء في الإفطار متعمداً، وأبو داود تحت باب التغليظ فيمن أفطر عمداً، وابن ماجه تحت باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان.
(50) أخرجه الدارقطني في سننه من طريق الحارث بن عبيدة الكلاعي عن مقاتل بن سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبدالله ( ، ثم قال: الحارث بن عبيدة ومقاتل ضعيفان.(1/117)
(51) أخرجه البخاري تحت باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً، ومسلم في كتاب الصوم، والترمذي تحت باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسياً، وابن ماجه تحت باب ما جاء فيمن أفطر ناسياً.
(52) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم، وأبو داود تحت باب في الاستنثار، وابن ماجه تحت باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار، والنسائي تحت باب المبالغة في الاستنشاق.
(53) أخرجه مسلم في كاب الطهارة، والترمذي تحت باب ما جاء في السواك، وأبو داود تحت باب السواك، وابن ماجه تحت باب السواك، والنسائي تحت باب الرخصة في السواك بالعشي للصائم.
(54) علقه البخاري بصيغة الجزم تحت باب سواك الرطب واليابس للصائم.
(55) مجموع الفتاوى 25/219-259.
(56) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء فيمن استقاء عمداً، وأبو داود تحت باب الصائم يستقيء عامداً، وابن ماجه تحت باب ما جاء في الصائم يقيء.
(57) علقه البخاري بصيغة التمريض تحت باب الحجامة والقيء للصائم، والترمذي تحت باب ما جاء في كراهية الحجامة للصائم، وأبو داود تحت باب في الصائم يحتجم، وابن ماجه تحت باب ما جاء في الحجامة للصائم.
(58) أخرجه البخاري تحت باب الحجامة والقيء للصائم، وأبو داود تحت باب الرخصة في تلك - أي الاحتجام مع الصيام-.
(59) الأنعام: آية 119.
(60) أخرجه الباري تحت باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، وأبو داود تحت باب الفطر قبل غروب الشمس، وابن ماجه تحت باب ما جاء في من أفطر ناسياً.
(61) المائدة آية 3.
(62) الأنعام: آية 145.
(63) النساء: آية 92.
(64) أخرجه البخاري تحت باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق عليه فليكفر، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان، وأبو داود تحت باب كفارة من أتى أهله في رمضان.
(65) سبق تخريجه ص6.(1/118)
(66) أخرجه البخاري تحت باب المباشرة للصائم، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في مباشرة الصائم، وأبو داود تحت باب القبلة للصائم.
(67) النور: آية 30.
(68) وقد طبعت مفردة بتخريج العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني من قبل المكتب الإسلامي قديماً.
(69) أخرجه البخاري تحت باب تعجيل الإفطار، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في التعجيل للإفطار، وابن ماجه تحت باب ما جاء في تعجيل الإفطار.
(70) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء ما يستحب عليه الإفطار - قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود تحت باب ما يفطر عليه، وابن ماجه تحت باب ما جاء على ما يستحب الفطر.
(71) أخرجه أبو داود تحت باب القول عند الإفطار.
(72) أخرجه البخاري تحت باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، والترمذي تحت باب لا يقول أحدكم اغفر لي إن شئت، وأبو داود تحت باب الدعاء، وابن ماجه تحت باب لا يقول الرجل اللهم اغفر لي إن شئت.
(73) أخرج أوله أبو داود عن معاذ بن زهرة أنه بلغه أن النبي ( كان إذا أفطر قال:"اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت"، وهو تحت باب القول عند الإفطار.
(74) وهذا عند البخاري تحت باب الصعيد الطيب وضوء المسلم يكفيه عن الماء، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، وأبو داود تحت باب من نام عن الصلاة أ, نسيها، والنسائي تحت باب كيف يقضي الفائت من الصلاة.
(75) أخرجه البخاري تحت باب من مات وعليه صوم صام عنه وليه، ومسلم في كتاب الصيام، وأبو داود تحت باب من مات وعليه صيام.
(76) أخرجه البخاري تحت باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، ومسلم في كتاب الحج، والترمذي تحت باب ما جاء في الحج عن الشيخ الكبير والميت، وأبو داود تحت باب الرجل يحج عن غيره، وابن ماجه تحت باب الحج عن الحي إذا لم يستطع، والنسائي تحت باب حج المرأة عن الرجل.
(77) سبق تخريجه ص8.(1/119)
(78) أخرجه النسائي تحت باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر.
(79) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس - قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة في هذا الباب حديث حسن صحيح، وأبو داود تحت باب في صوم الاثنين والخميس والنسائي تحت باب صوم النبي ( بأبي هو وأمي.
(80) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، وأبو داود تحت باب في صوم الدهر تطوعاً.
(81) سبق تخريجه ص3.
(82) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في صوم المحرم - قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن، وأبو داود تحت باب فضل في صوم المحرم، والنسائي تحت باب فضل صلاة الليل.
(83) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في الحث على صيام يوم عاشوراء، وأبو داود تحت باب في صوم الدهر تطوعاً، وابن ماجه تحت باب صيام يوم عاشوراء.
(84) أخرجه مسلم في صحيحه، وأبو داود تحت باب ما روى أن عاشوراء اليوم التاسع، وابن ماجه تحت باب صيام عاشوراء.
(85) أخرجه البخاري تحت باب فضل العمل في أيام التشريق، والترمذي تحت باب ما جاء في العمل في أيام العشر، وأبو داود تحت باب في صوم العشر، وابن ماجه تحت باب صيام العشر.
(86) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في فضل صوم يوم عرفة، وأبو داود تحت باب في صوم الدهر تطوعاً، وابن ماجه تحت باب صيام يوم عرفة.
(87) أخرجه أبو داود تحت باب في صوم يوم عرفة بسرقة.
(88) أخرجه البخاري بطوله تحت باب في كم يقرأ القرآن، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب في كم يقرأ القرآن، وأبو داود تحت باب في كم يقرأ القرآن.
(89) أخرجه البخاري تحت باب صوم داود عليه الصلاة والسلام، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في شرد الصوم، وأبو داود تحت باب في صوم الدهر تطوعاً، وابن ماجه تحت باب ما جاء في صيام داود عليه السلام، والنسائي تحت باب صوم نبي الله داود عليه السلام.(1/120)
(90) أخرجه البخاري تحت باب صوم يوم الجمعة وإذا أصبح صائماً يوم الجمعة فعليه أن يفطر، والترمذي تحت باب ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة وحده، وأبو داود تحت باب النهي ، يخص يوم الجمعة بصوم.
(91) أخرجه مسلم في كتاب الصيام.
(92) أخرجه البخاري تحت صوم يوم الجمعة وإذا أصبح صائماً يوم الجمعة فعليه أن يفطر، وأبو داود تحت باب الرخصة في تلك بعد باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم.
(93) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء في صوم يوم السبت - قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وأبو داود تحت باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم قال أبو داود: وهذا الحديث نسخه حديث جويرية، وابن ماجه تحت باب ما جاء في صيام يوم السبت.
(94) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في كراهية صوم أيام التشريق، وأبو داود تحت باب صيام أيام التشريق، وابن ماجه تحت باب ما جاء في النهي عن صيام أيام التشريق، والنسائي تحت باب النهي عن صم يوم عرفة.
(95) كما في حديث عند ابن ماجه أن رسول الله ( قال: "إن هذا الشهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم" وأخرجه تحت باب ما جاء في فضل شهر رمضان.
(96) أخرجه ابن ماجه تحت باب ما جاء في ليلة النصف من شعبان.
(97) أخرجه البخاري تحت باب من صام رمضان إيماناً واجتساباً، ونية، والنسائي تحت باب ثواب من قام رمضان وصامه إيماناً واحتساباً.
(98) أخرجه البخاري تحت باب تحري ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر، ومسلم في كتاب الصيام، والترمذي تحت باب ما جاء في ليلة القدر، وأبو داود تحت باب في ليلة القدر، والنسائي تحت باب ترك مسح الجبهة بعد التسليم.
(99) أخرجه مسلم في كتاب الصيام، وأبو داود تحت باب من روى في السبع الأواخر.
(100) أخرجه البخاري تحت باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر.(1/121)
(101) أخرجه مسلم في كتاب الاعتكاف، والترمذي تحت باب ما جاء في ليلة القدر قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه في فضل العشر الأواخر من شهر رمضان.
(102) أخرجه البخاري تحت باب العمل في العشر الأواخر من رمضان، والترمذي تحت باب ما جاء في ليلة القدر، وأبو داود تحت باب في قيام شهر رمضان، ابن ماجه تحت باب في فضل العشر الأواخر من رمضان، والنسائي تحت باب إحياء الليل.
(103) أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، والترمذي تحت باب ومن سورة ليلة القدر، وأبو داود تحت باب في ليلة القدر.
(104) أخرجه الترمذي تحت باب فضل سؤال العافية والمعافاة قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه تحت باب الدعاء بالعفو والعافية.
(105) أخرجه الترمذي تحت باب في كم أقرأ القرآن قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود تحت باب تحزيب القرآن، وابن ماجه تحت باب في كم يستحب يختم القرآن.
(106) هو عند البيهقي في السنن الكبرى تحت باب الاعتكاف في المسجد.
(107) أخرجه البخاري تحت باب الاعتكاف ي العشر الأواخر، ومسلم في كتاب الاعتكاف، وأبو داود تحت باب الاعتكاف.
(108) أخرجه البخاري تحت باب النذر في الطاعة، والترمذي تحت باب من نذر أو يطيع الله فليطعه، وأبو داود تحت باب النذر في المعصية، وابن ماجه تحت باب النذر في المعصية، والنسائي تحت باب النذر في المعصية.
(109) أخرجه البخاري تحت باب إذا نذر الجاهلية ثم أدرك الإسلام، وابن ماجه تحت باب في اعتكف يوم وليلة، والنسائي تحت باب إذا نذر ثم أسلم قبل أن يفي.
(110) أخرجه أبو داود تحت باب المعتكف يعود المريض.
(111) أخرجه الترمذي تحت باب حديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وابن ماجه تحت باب كف اللسان في الفتنة.
(112) أخرجه البخاري تحت باب فضل من قام رمضان.
(113) أخرجه البخاري تحت باب فضل من قام رمضان.
(114) سبق تخريجه ص7.(1/122)
(115) أخرجه الترمذي تحت باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدعة قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود تحت باب في لزوم السنة، وابن ماجه تحت باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين.
(116) أخرجه الترمذي تحت باب اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وابن ماجه تحت باب فضل أبي بكر الصديق ( .
(117) أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، والترمذي تحت باب ما جاء من لحق بالإمامة، وأبو داود تحت باب من لحق بالإمامة، وابن ماجه تحت باب من أحق بالإمامة، والنسائي تحت باب من لحق بالإمامة.
(118) أخرجه ابن ماجه تحت باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين .
(119) أخرجه البخاري تحت باب الاقتداء بسنن رسول الله ( ، مسلم في كتاب الجمعة ، وابن ماجه تحت باب اجتناب البدع والجهل ، والنسائي تحت باب كيف الخطبة.
(120) أخرجه البخاري تحت باب فضل قيام الليل، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة، والترمذي تحت باب مناقب عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، وابن ماجه تحت باب تعبير الرؤيا .
(121) أخرجه البخاري تحت باب فضل من قام رمضان، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، والترمذي تحت باب ما جاء في وصف صلاة النبي ( بالليل، وأبو داود تحت باب في صلاة الليل، والنسائي تحت باب كيف الوتر بثلاث.
(122) أخرجه البخاري تحت باب ما جاء في الوتر ، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، والترمذي تحت باب ما جاء أن صلاة الليل مثنى مثنى، وأبو داود تحت باب صلاة الليل مثنى مثنى، وابن ماجه تحت باب ما جاء في صلاة الليل ركعتين ، والنسائي تحت باب كيف صلاة الليل.
(123) أخرجه البخاري تحت باب طول القيام في صلاة الليل، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، وابن ماجه تحت باب ما جاء في طول القيام في الصلوات .(1/123)
(124) أخرجه البخاري تحت باب طول السجود في قيام الليل، وأبو داود تحت باب في صلاة الليل، وابن ماجه تحت باب في كم يصلي بالليل، والنسائي تحت باب قدر السجدة بعد الوتر.
(125) أخرجه البخاري تحت باب التواضع .
(126) أخرجه الترمذي تحت باب حديث حنظلة - قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح .
(127) أخرجه البخاري تحت باب حديث الغار، ومسلم في كتاب الرقاق
??
??
??
??
11
جميع الحقوق محفوظة لموقع فضيلة الشيخ / عبد الكريم بن عبد الله الخضير
www.alkhadher.islamlight.net(1/124)