كتاب الصيام
من المحرر
لابن عبدالهادي
رحمه الله
شرح فضيلة الشيخ/ سليمان بن خالد الحربي حفظه الله
خطيب جامع الفالح بمحافظة الزلفي
كتاب الصيام
باب فرض الصوم
الصيام هو الركن الرابع من أركان الإسلام:
والدليل على ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه (( بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله , و إقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , وصوم رمضان , وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا )).
وهو مما امتن الله به على هذه الأمة , وليت المؤلف ذكر أحاديث في فضل الصوم لأن بيان فضل العبادة مما يحبب النفوس إليها , وقد تميزت الأمة بخصائص منها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )).
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من صام يوماً في سبيل الله باعده الله عن النار سبعين خريفاً )) , وفي الحديث القدسي الشريف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه قال: (( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم , فإنه لي وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه.. )).و ما بالك بالكريم إذا جعل العطاء من عنده كيف يكون؟!
الصيام لغة: الإمساك , قال الله تعالى: على لسان مريم ((إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً)) أي إمساكا, على قول جمهور المفسرين, وتقول العرب خيل صيام وخيل غير صائمة... أي ممسكة عن الحركة.
شرعاً: التعبد لله عز وجل بإمساك بنية عن شيء مخصوص في زمن مخصوص من شخص مخصوص.
مسائل التعريف:
1- ( التعبد لله ) الصوم عبادة وقد أجمع أهل العلم على أن صيام رمضان واجب من فرائض الدين, وهو من المعلوم الذي تناقلته الأمة سلفاً عن خلف.(1/1)
قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }. وقال:{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وفي الصحيحين من حديث طلحة - رضي الله عنه - في قصة الأعرابي حين سأله عن أركان الإسلام فذكر منها الصيام , ومثله من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
فهو عبادة ثابت بالدليل من الكتاب والسنة والإجماع.
2- ( بنية ) إذ لا عمل إلا بنية , قال - صلى الله عليه وسلم - (( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ))
وفي هذا اللفظ مسائل:
حكم نية الصوم في رمضان:
1- ذهب جماهير أهل العلم إلى أن النية واجبة , فمن لم ينو لم يصح صيامه , لحديث عمر قال ابن هبيرة: اتفقوا على وجوب النية في الصوم المفروض في شهر رمضان، لأنه لا يجوز إلا بنية.
2- وذهب بعض أهل العلم وهم قلة منهم: مجاهد وعطاء وزفر إلى عدم وجوب النية في رمضان بل قالوا متى أمسك في الوقت فهو صائم.
ووجهه: أن النية عندهم إذا تعلقت بالزمان فلا تلزم وهو ضعيف باطل , وهذا قول مهجور.
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( وإنما لكل امرئ ما نوى )).
من لم ينو الصيام من الليل صيام رمضان:
جمهور العلماء: أن صومه لا يجزئ.
وفي هذه المسألة: أن الإنسان إذا لم ينو الصيام إلا في النهار لم يصح صومه , والدليل: أن الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس , فإذا أخل بجزء من الوقت لم يأت بالواجب.
وذهبت الحنفية وإسحاق: إلى أنها تصح النية ولو من النهار. قال أبو حنيفة: كل صوم يتعلق بالذمة ولا يتعلق بوقت معين فلا بد فيه من النية من الليل، وكل صوم يتعلق بوقت معين ولا يتعلق بالذمة فيصح أن ينوي له بالنهار.(1/2)
والدليل: ما جاء في صحيح البخاري من حديث الربِّيع بنت معوذ - رضي الله عنه -أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن يصوموا يوم عاشوراء , ولم يبيتوا النية من الليل , قال - صلى الله عليه وسلم -: (( من أصبح صائماً فليتم صومه ومن أصبح مفطراً فليمسك بقية يومه )) , وما ثبت في يوم عاشوراء ثبت في ما عداه.
والصحيح: هو القول الأول , و الدليل:
أ- أن الصيام له بداية ونهاية , وبدايته من طلوع الفجر , ونهاية غروب الشمس , فإذا مضى الوقت لم ينو الصيام فيه لم يأت بالواجب.
ب - وبما ثبت عن ابن عمر و حفصة - رضي الله عنهم -أنهما قالا: ( من لم يجمع النية من الليل فلا صيام له ) , وقد جاء مرفوعاً عنهما إلا أن الموقوف أصح.
وأما ما استدلوا به فالقياس غير صحيح , لأن هذا كان عند أول فرضيته؛ وذلك أن يوم عاشوراء ما ثبت الحكم بوجوبه إلا في عاشوراء وأما صيام شهر رمضان فالحكم فيه من قبل معلوم بالفرض.
(ب) إذا نوى في أول ليلة في رمضان هل تجزئه هذه النية عن بقية الليالي؟
خلاف بين أهل العلم رحمهم الله:
القول الأول الجمهور: لا بد لكل يوم من نية.
الدليل: ما ثبت عن حفصة ( من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له ).
القول الثاني المالكية: أن أول نية من رمضان تكفي.
الدليل: لأنها كلها عبادة واحدة؛ قالوا كالحج ففيه طواف العمرة وطواف الإفاضة ولا يحتاج فيها نية بل تكفي نية الإهلال بالإحرام وبه قال ابن عثيمين رحمه الله وهو أسهل على المكلف وإن كان الأولى أن ينوي كل يوم نية مستقلة.
( عن شيء مخصوص ) الصائم يمسك عن شيء مخصوص , وهذا المخصوص ينقسم إلى قسمين:
أ - مأمور بالإمساك عنه في كل زمان , لكنه لا يفسد العبادة مثل: الغيبة والنميمة وقول الزور.
ب - مأمور بالإمساك عنه في وقت الصوم , مأذون له في غيره , كالأكل والشرب ونحوهما.
مسألة: الأشياء التي أمر الصائم بالإمساك عنها فيها خلاف:(1/3)
أولاً: مجمع عليها: كالأكل والشرب والجماع؛ نقل ابن قدامة الإجماع عليها.
ثانياً: مختلف فيها: وهي غير ما ذكر , كالحجامة ,وإنزال المني , والحقن , والكحل ونحوها.
4- (من شخص مخصوص) فيه تقديم الشخص على الزمن على غير ترتيب التعريف فيؤخر الشخص عن الزمن.
أجمع أهل العلم على وجوب الصيام من المسلم المكلف القادر الحاضر.
1- المسلم: أخرج الكافر فلا يصح منه الصوم مع مؤاخذته عليه.
2- المكلف: العاقل البالغ؛ الدليل: ما ثبت في مسند أحمد بإسناد صحيح من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( رفع القلم عن ثلاثة:.... وذكر الصبي و المجنون))
3- القادر: فإن غير القادر لا يجب عليه الصوم كالمريض؛ الدليل: قول الله تعالى:{ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ }.
4- الحاضر: أخرج بذلك المسافر فلا يجب عليه.
مسألة: لو نام شخص من الليل إلى الليل وقد نوى الصوم.
مثال: نام من السابعة ليلاً ولم يستيقظ إلا السابعة ليلاً من الغد, فلم يدرك جزءاً منها وهو عاقل: أجمع أهل العلم على صحة صومه؛ قالوا: لأن عقله لم يزل.
مسألة: لو جن شخص من الليل إلى الليل ولم يفق أثناء النهار.
أجمع أهل العلم على عدم صحة صومه وليس عليه قضاء.
مسألة: اختلف أهل العلم في المغمى عليه , إذا أغمي عليه من الليل إلى الليل: هل يصح صومه أم لا ؟ فيه قولان لأهل العلم:
الأول: أنه يصح صومه؛ قياساً على النائم وهو قول لأبي حنيفة.
الثاني: أنه لا يصح صومه؛ قياساً على المجنون وهو قول الجمهور.
والصحيح: لا يصح صومه وعليه القضاء؛ إلحاقاً بالمريض.(1/4)
5- (في زمن مخصوص) أجمع جماهير العلماء على أن وقت الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال تعالى:{ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ.. }.
601 - قال ابن عبدالهادي رحمه الله , وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه )) متفق عليه.
602- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن ابن عمر - رضي الله عنه - ما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (( إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا؛ فإن غم ّ عليكم فاقدروا له )) متفق عليه ولمسلم (( فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين )). وللبخاري (( فأكملوا العدة ثلاثين )).
603- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وله في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (( فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ))
شرح الحديث:-
مسألة: بماذا يجب صوم رمضان على المكلف ؟
أولاً: برؤية هلاله , فإذا رؤي وجب على المكلف الصوم؛ انعقد على ذلك الإجماع نقله ابن حزم والقاضي عبدالوهاب المالكي , والدليل: قوله تعالى: { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } , وثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً: إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً؛ انعقد الإجماع على ذلك قال القاضي عبد الوهاب المالكي وهو قول كافة أهل العلم , والدليل: ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( فإن غبي عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوماً )).
ثالثاً: يجب الصوم يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر أو غبار أو ما شابهه.
وهذه هي مسألة الباب وهي مسألة عظيمة من أتقنها أتقن علماً كثيراً بل هي من أكبر مسائل العلم.(1/5)
فائدة: الإمام أحمد له سبع روايات في هذه المسألة , وهذه مسألة فيها خلاف:
أولاً: ما هو يوم الشك ؟
القول الأول: أنه يوم الثلاثين من شعبان , إذا حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر.
القول الثاني: أنه يوم الثلاثين من شعبان , إذا شهد عبد أو فاسق أو امرأة برؤيته , أو تكلم الناس بالهلال ولم يعلم من رآه وهذا عند الشافعية.
القول الثالث: أنه يوم الثلاثين من شعبان , إذا لم يحل رؤيته غيم أو قتر.
والصحيح الذي يوافق مدلول يوم الشك أنه القول الأول , وهذا اختيار شيخ الإسلام.
ثانياً: حكم صيامه ؟ هذه المسألة فيها أكثر من عشرة أقوال منها:
القول الأول: يجب الصوم على أنه من رمضان؛ وهذا أضعف الأقوال وأبطلها , وهذا القول لا يصح عن الإمام أحمد , وإن كان ذكرها بعض الأصحاب , ولم يثبت عن الإمام أحمد أنه قال بذلك , و إن كانت هذه الرواية المشهورة عند المتأخرين؛ إلا أنها لا تصح عنه وقد أنكرها كثير من الحنابلة المحققين.
القول الثاني: يحرم صيام هذا اليوم على أنه من رمضان , وهذا قول الجمهور.
القول الثالث: يستحب صيامه احتياطاً وهذا قول ابن عمر وفعله ورواية عن أحمد.
القول الرابع: يكره صيامه, وهذا قول الشافعي ومحمد بن مسلمة.
القول الخامس: يباح صيامه , وهذا مروي عن عائشة وهو قول أبي حنيفة ورواية عن مالك.
القول السادس: أن الناس تبع الإمام , وهذا قول الحسن وابن سيرين ورواية عن الأمام أحمد.
والدليل على ذلك: ما رواه أحمد من طريق عبيدة بن حميد بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنه -, أنهم سألوه فقالوا: أنسبق رمضان حتى لا يفوتنا منه شيء فقال: أف أف , صوموا مع الجماعة , وهو حديث جيد.
ودليل من قال بصيامه: ما ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنه - عند أحمد أن ابن عمر إذا كان ليلة الثلاثين من شعبان، فإن لم يحل دون رؤية الهلال غيم أو قتر أصبح مفطرا، وإن حال دون رؤية الهلال غيم أو قتر أصبح صائما.(1/6)
ودليل من قال بالتحريم وهم الجمهور، [ وهذا القول هو الحق ]، ومن أدلتهم ما يلي:
1- ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )) واللفظ للبخاري وهذا الدليل نص قاطع في المسألة.
2- ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )) وهذا دليل صريح لكنه ليس أصرح من الأول، فقوله: (( فأكملوا العدة ثلاثين )) يحتمل أنه يقصد عدة رمضان أو عدة شعبان، لكن أول الحديث دليل على أنه يتكلم عن شعبان لأن الحديث جاء بياناً لدخول الشهر.
3- ماروه الإمام أحمد في المسند وغيره، من طريق الإمام ابن مهدي عن معاوية بن صالح عن عبدا لله بن أبي قيس عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحفظ في شهر شعبان مالا يتحفظ في غيره من الشهور، فإن رأى الهلال صام، وإن لم يره لسحابة أو ضباب أكمل عدة شعبان ثلاثين )) وهذا الحديث قال الدار قطني: حسن صحيح،وهو كما قال، فالحديث ليس فيه مطعن.
4- ما رواه أحمد وغيره من طريق عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - ما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال دون الهلال غيم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )).
5- ما رواه أهل السنن من حديث أبي خالد الأحمر عن عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة بن زفر عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - أنه قال: (( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم )) قال الدارقطني: حديث صحيح، وقال الترمذي: حديث حسن, وذكره البخاري في صحيحه معلقا بصيغة الجزم.
والمسألة واضحة: يحرم صيام يوم الشك.(1/7)
فإن قال قائل: أصومه لا من رمضان، وإنما من أجل الاحتياط ولفعل ابن عمر ؟ الجواب: نقول: ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين )). وثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر , وأما ما جاء عن أهل السنن من طريق العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - (( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا )) فهو حديث منكر كما نقله الأئمة وسيأتي , وعليه فلا تضارب بينه وبين حديث الباب.
مسألة: إذا قال الجاهل بدخول الشهر إن كان غدا من رمضان فهو فرضي فهل يجزئه ؟
الجواب: فيه خلاف:
القول الأول: وهو الأكثر على أنه لا يصح، بسبب عدم جزمه وهو قول الجمهور قال الإمام أحمد لا يعجبني يتم صومه ويقضيه.
القول الثاني:وهوقول الحنفية وهو اختيار شيخ الإسلام، على أن نيته تجزئه وتصح، وقال: إن النية موجودة وليست مفقودة، والتردد ليس في النية، وإنما التردد في دخول الشهر كما أجاز الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبضاعة أن تشترط في حجها.
قاعدة: الشخص إذا علق النية بالأماكن أو الأشياء أو الأزمان فإن له ما علقه.
سؤال: كيف أجاب المخالفون على أدلة هؤلاء في صيام الشك ؟
الجواب: ردوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( فاقدروا له )) أي: ضيقوا عدد أيامه،وأضيق ما يكون الشهر [ 29 ] فيكون شعبان [ 29 ].
ويرد على كلامهم من أوجه:
1- أن قوله (( فاقدروا له )) فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله (( ثلاثين ))، ولا يمكن أن يتعارض قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن قالوا: في اللغة التقدير: التضييق، ومنه قوله تعالى { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } فنقول: إنه ورد في اللغة التقدير: الكمال , ثم إن (( اقدروا له )) جاءت بالتعدية باللام , والذي ورد في القرآن بمعنى التضييق معدى بعلى , بخلاف التضييق: { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } فهو بمعنى على.(1/8)
سؤال: كيف يوجه فعل ابن عمر: من طريق أيوب عن نافع عنه، وهو إسناد صحيح ؟
الجواب: 1- أن ابن عمر خالف النص، وإذا خالف الصحابي النص، فإنه يؤخذ بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويعتذر للصحابي.
2- أن ابن عمر - رضي الله عنه - كثير الاحتياط جدا، كما هو في غسل العينين في الوضوء مثلاً.
فائدة: روي عن عمر وعلي وعائشة وأبي هريرة - رضي الله عنه -: القول بصيام يوم الشك؛ لكن كلما قرأت أثراً يدل على أن الصحابي يرى وجوب صيام يوم الشك فهو ضعيف الإسناد.
فائدة: جاء عن بعض السلف القول بكراهية قول القائل [ رمضان ] غير أن هذا مردود بالحديث معنا، وقد بوب البخاري رحمه الله، باب قول القائل: رمضان وجاء في الحديث الصحيح (( إذا دخل رمضان.. )) أما ما جاء في الحديث لا تقولوا رمضان، وقولوا: شهر رمضان، فإن رمضان هو الله، فهو حديث باطل إسنادا ومتناً، فليس رمضان من أسماء الله لأمرين:
1- أن أسماء الله توقيفية ولا يثبت بمثل هذا الحديث الضعيف.
2- أن أسماء الله حسنى بالغة في الحسن أكمله , وليس في رمضان هذا المعنى.
وجاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - موقوفا عليه، لكنه لا يصح.
604ــ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أبي مالك الأشجعي عن حسين بن الحارث الجدلي أن أمير مكة خطب ثم قال: قال علي: (( عهد إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما. فسألت الحسين بن مالك عن أمير مكة ؟ قال: لا أدري ثم لقيني بعد فقال: إن فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني , وشهد هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأومأ بيده إلى رجل. قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي: من هذا الذي أومأ إليه الأمير ؟ قال: هذا عبد الله بن عمر , وصدق , هو أعلم بالله منه فقال: بذلك أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )). رواه أبو داود والدار قطني.
تخريج الحديث:-(1/9)
رواه أبو داود والدار قطني من طريق: سعيد بن سليمان عن عباد بن عوام عن أبي مالك الأشجعي عن الحسين بن الحارث به؛ وزعم ابن حزم أن الحسين بن الحارث مجهول، وهذا مردود عليه.
قاعدة: ابن حزم رحمه الله يخلط في الأسماء، ولا يعتد بقوله إذا خالف الثقات.
قال ابن المديني عن حسين [معروف ] ووثقه ابن حبان، وقال الذهبي وابن حجر صدوق ولذلك صححه الدار قطني وقال: إسناد متصل صحيح.
وهذا الحديث: الصحابي: هو الحارث بن حاطب، وابن عمر، وفي الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمرهما أن ينسكا شاهدي عدل للرؤية.
605ــ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أبي بكر بن نافع , عن أبيه , عن ابن عمر قال: (( تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه )) رواه أبو داود وابن حبان والحاكم
تخريج الحديث:-
رواه أبو داود وغيره من طريق: ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن أبي بكر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر. قال الحاكم: على شرط مسلم. والحديث صحيح؛ إلا أن يحيى بن عبد الله بن سالم تكلم فيه ابن معين؛ غير أنه وثقه النسائي والدار قطني. وجاء في الباب أحاديث منها: ما رواه أحمد في المسند من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيت الهلال البارحة، فقال: أتشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ قال: نعم، فأمر الناس بالصوم.
وفي الحديث علة وهي رواية سماك بن حرب عن عكرمة، وهو مضطرب في روايته عنه وقد اختلف عليه في حديثه هذا , لأنه مختلف على عكرمة حيث رواه بعضهم مرسلا وبعضهم موصولا والصواب الإرسال فقد رواه زائدة بن قدامة وحازم بن إبراهيم والوليد بن عن سماك به موصولاً وخالفهم: إسرائيل وسفيان الثوري مرسلاً وهؤلاء أحفظ لحديث سماك. ورجح النسائي الطريق المرسلة فقال: المرسل أولى بالصواب، ولذا رجح الإرسال الترمذي و الدارقطني.(1/10)
شرح الحديث:-
مسألة: الشهادة بالرؤية لدخول الشهر ـ هذه مسألة فيها خلاف:
القول الأول: الحنابلة والشافعية ـ يكتفى بشاهد واحد عدل، الدليل: حديث ابن عمر وهو صحيح
القول الثاني: المالكية وهو قول الأوزاعي والليث ـ لابد من شاهدي عدل، الدليل: حديث الحسين بن حارث وهو صحيح.
القول الثالث: الحنفية ـ إذا كان في السماء غيم فيكتفى بواحد، أما إذا كانت السماء صحوا فلا بد من جمع غفير.
سؤال: كيف يمكن الجمع بين حديثي ابن عمر والحسين ابن الحارث ؟
الجواب: الجمع بينهما سهل؛ والصحيح أنه يكتفى بشاهد واحد لحديث ابن عمر، وأما حديث الحسين بن الحارث عن الحارث بن حاطب فلفظه: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ننسك لرؤية شاهدي عدل؛ وهذا الخطاب من الأمير، فالواجب على الأمير ( الإمام ) أن يلزم اثنين للخروج للرؤية، فإذا خرج اثنان فيكفي شهادة واحد.
وهذا القول هو قول أكثر أهل العلم، حتى ولو كان أنثى، إلا أن الشافعية خالفوا في هذه المسألة، لأن شهادات المرأة هي من باب الإخبار لا من باب الولاية.
مسألة: إذا صاموا لرؤية رجل واحد ثلاثين يوما، ثم لم ير الهلال فهل نزيد يوما أم ماذا نفعل ؟
المسألة فيها خلاف:
القول الأول: أنهم لا يفطرون وهذا هو المشهور من المذاهب.
القول الثاني: أنهم يفطرون وهذا مذهب الشافعية ’ وهو قول أبي حنيفة.
القول الثالث: يفطرون حال الغيم دون الصحو.
والدليل: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني ثلاثين )) رواه مسلم من حديث ابن عمر، فلا يمكن أن يزيد على ثلاثين.
مسألة: (اختلاف المطالع ) إذا رؤي الهلال في بلد فهل يلزم الناس كلهم الصوم؟
الجواب: المسألة فيها خلاف، وهي من مضائقه وتشعبت فيها الآراء بسبب عدم وجود دليل صريح في المسألة.(1/11)
القول الأول: الحنابلة في المشهور من المذهب أن الصوم يلزم الناس كلهم إذا رؤي في بلد من بلدان الأرض وهو قول للحنفية. الدليل: ما رواه أحمد من طريق ربعي بن خراش عن رجل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: صام الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم الثلاثين من رمضان، فجاء رجلان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه أنهما أهلاه عشية البارحة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس أن يفطروا، ولم يستفصل في أي مكان رأوه.
القول الثاني: الشافعية:أن البلدان تتفاوت في المطالع، وأن مطلع كل بلد يختلف عن البلد الآخر
قال شيخ الإسلام في الاختيارات: اختلاف المطالع باتفاق أهل المعرفة وعليه فيلزم الصوم كل من يوافق بلد الرؤية في مطلع الهلال. الدليل: ما رواه مسلم من حديث كريب أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية - رضي الله عنه - بالشام، قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل علي رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال ؟ فقلنا: رأيناه ليلة الجمعة،فقال: أنت رأيته ؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل الثلاثين أو نراه، فقلت: أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
القول الثالث: أن الناس تبع للإمام في صيامهم , فإذا أمر الإمام الناس بالصيام لزمهم الصوم , وإن اختلف مطلع كل بلد وهو قول ابن الماجشون من المالكية و بعض الحنابلة. الدليل:
1- ما رواه أحمد أن ابن عمر - رضي الله عنه -ما أمر الناس بالصيام مع الجماعة وقال: صوموا مع الجماعة(1/12)
2 - ما رواه الدار قطني من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون )). وهذا إسناده لين، وفيه انقطاع وإن كان مشهورا على الألسنة.
3 - ما رواه الشيخان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته )). والخطاب موجه للجماعة المجتمعون تحت إمام وسلطان واحد.
وهذا القول هو الذي عليه الفتوى والعمل، وهو حري بذلك لما فيه من ضبط الناس واتفاقهم واجتماعهم.
القول الرابع: قول متأخر لا يعرف، أن الناس تبعٌ لمكة.
لأن مكة أم القرى، فلما كانت أما لزم القرى إتباعها صوما وحجا وصلاة.
مسألة: إذا رآه رجل واحد ثم ردت شهادته لفسق أو غيره فهل يلزمه الصوم ؟
الجواب فيه خلاف:
القول الأول: الجمهور: يلزمه الصوم.
الدليل: لأن الله تعالى يقول: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }, وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( صوموا لرؤيته )).
القول الثاني: اختيار شيخ الإسلام , لا يلزمه الصوم. الدليل:
1- قوله - صلى الله عليه وسلم -: (( صوموا لرؤيته )) والخطاب للجماعة لا الفرد , فمتى صام الناس وجب على الجميع الصوم
2- واستدلوا بحديث: (( الصوم يوم تصومون )).
مسألة: إذا رأى الرجل هلال شوال فردت شهادته فماذا يفعل ؟
القول الأول: الجمهور كما سبق: يلزمون بالصوم. لأن هذا هو الاحتياط.
القول الثاني: لا يلزمه الصوم ولكنه يفطر سرا. وهذا متفرع عن المسألة السابقة , لأن الخطاب للجميع.
606ـ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن ابن عمر, عن حفصة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له )) رواه الخمسة.
تخريج الحديث:-
هذا الحديث اختلف في رفعه ووقفه:-(1/13)
فرواه الأئمة مالك و عقيل ومعمر وابن عيينه والزبيدي ويونس وغيرهم عن الزهري عن حمزة عن أبيه عن حمزة عن حفصة موقوفاً وبعضهم يجعله عن سالم عن أبيه ورواه مالك وعبيد الله بن عمر وموسى عن عقبه عن نافع عن ابن عمر موقوفاً لكن خالفهم عبد الله بن أبي بكر بن عمر عن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن ابن عمر عن حفصة موقوفاً ورواية من سبق أكثر وأحفظ فكيف إذا كان جاء عن عبد الله بن أبي بكر موقوفاً من طريقه فلا شك أن رواية الموافقة أولى من المخالفة .
ولهذا رجح الأئمة الوقف قال البخاري :غير المرفوع أرجح .
وقال أيضاً عن رواية عبد الله بن أبي بكر المرفوعة، خطأ وهو حديث فيه اضطراب والصحيح عن ابن عمر موقوفاً.وقال أبو حاتم : غير المرفوع عندي أشبه.
ورجح الإمام أحمد أنه موقوف ،وقال النسائي: الصواب عندنا موقوف ولم يصح رفعه.
وقال أبو داود :لم يصح رفعه ، ورجح الترمذي الموقوف وقال هو أصح وقال الدارقطني : رفعه غير ثابت ، ورجح الوقف ابن عبد البر وابن عبد الهادي وغيرهم وهو الصواب.
قاعدة: إذا خالف الثقة الثقات , واختلف على الثقة , فإن الرواية المقبولة من المخالف عليه هي ما وافق رواية الثقات. والحديث صححه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي والدارقطني ـ كلهم على أنه موقوف. قال أحمد حين سأله الأثرم قال: هذا حديث ليس له إسناد , لكنه عن ابن عمر وحفصة.
والمؤلف يرى أنه موقوف كما في تنقيح التحقيق.
مسألة: في الحديث مسألة وهي النية وقد مرت.
607ـ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها قالت دخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال (( هل عندكم شيء؟ )) فقلنا لا , قال (( فإني إذا صائم )) ثم أتانا يوما آخر فقلنا: يا رسول الله أهدي لنا حيس فقال (( أرأيته , فلقد أصبحت صائماً )) فأكل.(1/14)
وفي لفظ:قال طلحة – وهو ابن يحيى-:فحدثت مجاهدا بهذا الحديث ,فقال: (( ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله ,فإن شاء أمضاها وإن شاء أمسكها )) رواه مسلم.
شرح الحديث:-
مسألة: حكم النية لصيام النفل:
القول الأول: لابد من تبييت النية ليلا , ولا تجزئ من النهار. وهذا هو المشهور عند المالكية وقول المزني من الشافعية. الدليل: حديث حفصة وابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا صيام لمن لم يجمع النية من الليل )) , و (( لا صيام )) نكرة في سياق النفي فتعم.
القول الثاني: الحنابلة في المشهور من المذهب , وهو قول الشافعي في القديم ومذهب ابن جرير أن النية تصح في جميع أجزاء النهار , سواء قبل الزوال أو بعده. الدليل: حديث الباب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة ذات يوم فقال (( هل عندكم شيء ؟ )) فقلنا لا , قال: (( فإني صائم إذا …. )) الحديث
و ما ثبت عن جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يبيتون النية من النهار كما عند البخاري معلقا أن حذيفة دخل على أهلة فقال: هل عندكم شيء ؟ قالوا: لا , قال: فإني صائم , وجاء عن أبي هريرة مثله.
القول الثالث: الأحناف والشافعية وهو المشهور من مذهبهم ورواية عن أحمد أن النية تجزئ في النهار بشرط: أن تكون قبل الزوال. الدليل: حديث الباب , لأنه جاء في بعض ألفاظه , أنه قال عندما ارتفع النهار , ومن المعقول أن اليوم نصفان , فإذا مضى أكثر من الزوال أو بعده فإن أغلب النهار لم يصمه , والحكم للأغلب والصحيح: الجواز مطلقا.والدليل: عدم ورود دليل في تحديده.
تنبيه: من قال لا بد من النية ليلا، يردون على الحديث بأنه مفسر كما جاء عند مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( فإني أصبحت صائما فهل عندكم شيء )).
سؤال: كيف نرد عليهم ؟(1/15)
الجواب: قد يحمل الحديث على التعدد أكثر من مرة , والذي يجعلنا أن نقول هذا هو اللفظ أن عائشة رضي الله عنها هي التي عرضت الطعام على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
مسألة: هل النوافل تلزم بالشروع ( بمعنى: إذا صام العبد صوم نفل فهل يجوز له قطعه ) ؟
القول الأول: مذهب الحنابلة والشافعية أنه يجوز قطع النية في النوافل كلها إلا في العمرة والحج فإنهما يلزمان بالشروع.
القول الثاني: مذهب الحنفية أنه يلزم الإتمام ولا يجوز القطع بغير عذر , فإن كان لعذر وجب القضاء الدليل: أنها عبادة , والله سبحانه وتعالى يقول: { ولا تبطلوا أعمالكم }.
القول الثالث: المالكية لا يجوز قطعه لغير عذر.فإن كان لعذر جاز قطعة ولا قضاء.
والرد على حديث الباب: ما جاء في السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قطعه صام يوما مكانه ـ غير أنها لفظة منكرة والراجح الأول.
608ـ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر )) رواه البخاري ومسلم.
شرح الحديث:-
ـ فيه فضيلة تعجيل الإفطار بالإجماع. لما فيه من:
1- مبادرة الأوامر، { ثم أتموا الصيام إلى الليل } ـ وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه كما في هذا الحديث.
2- مخالفة اليهود والنصارى، ففي المسند من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول- صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يزال هذا الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، فإن اليهود والنصارى يؤخرون)) وإسناده حسن.وجاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال((أحب الناس إلى الله أعجلهم فطراً))، ولكنه معلول بقرة بن عبد الرحمن الداري عن أبي سلمه.
609 - قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( تسحروا فإن في السحور بركة )) متفق عليه.
شرح الحديث:-(1/16)
فيه فضيلة السحور: وقد نقل ابن القيم وابن المنذر الإجماع على فضيلته.
وفي السحور فائدتان:
1- فائدة دينية: امتثال أمر الله ورسوله، ومخالفته لليهود, ففي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( فصل ما بيننا وبين أهل الكتاب السحر )).
2) فائدة بدنية: وهي أن العبد يتقوى في السحور (( في السحور بركة )).
قال أهل الطب: إن من تسحر تكون قوته على الصيام أقوى ممن لم يتسحر من حيث الدم و التفكير والأعصاب.
سؤال: إن قال قائل: الأكل أحياناً لا أستفيد منه ؟
الجواب: قيل إنه ليس المقصود ذات الأكل وإنما هو الأكل وقت السحر.
مسألة: متى يبدأ وقت السحر ؟
القول الأول: الجمهور: أن وقت السحور يبدأ من السدس الأخير من الليل , وليس لهم في ذلك أدلة صريحة إلا عموم تأخير السحور وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يؤخر السحور، فمقدار الأكل ما يحتاجه للسحور من الوقت هو السدس الأخير.
القول الثاني: يبدأ من منتصف الليل، فمن تسحر بعده فقد حاز الأجر. ولا شك أن القول الأول هو الأقوى.
مسألة: متى يبدأ وقت الصيام ؟
القول الأول: جماهير علماء الأمصار كما قال ابن المنذر، وقول علماء الصحابة والتابعين كما قال النووي، وقول الأئمة الأربعة: أنه يبتدئ بعد طلوع الفجر الثاني. الدليل: حديث ابن عمر في الصحيحين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )). وكان لا يؤذن حتى يقال: أصبحت أصبحت. الدليل واضح. وقوله تعالى: { وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ } .(1/17)
القول الثاني: أن وقت انتهاء أكلة السحور إذا أسفر النهار ووضحت الطرق في السكك وانتشر الضوء وهذا قول: عطاء وغيره. الدليل: ما رواه أحمد من طريق عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش قال: تسحرت عند أهلي فخرجت إلى الصلاة فمررت ببيت حذيفة - رضي الله عنه - فدخلت عليه فأمر بشاة فحلبت وبقدر فطبخت فقال لي: كل فقال زر: إني أريد أن أصوم فقال حذيفة: وأنا أريد الصوم، فلما خرجنا ذهبنا إلى المسجد فصلينا ركعتين ثم أقيمت الصلاة فقلت: لم فعلت هذا يا حذيفة ؟ فقال: هكذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت أبعد الصبح ؟ قال: نعم ـ وهذا الحديث منكر وضعيف، وعلته ما قاله النسائي قال: هذا الحديث خطأ في متنه وخطأ في رفعه والخطأ من عاصم بن بهدلة وعاصم هذا: حسن الحديث ما لم يروي ما ينكر.
والصواب ما رواه النسائي من طريق بندار عن غندر عن شعبة عن عدي بن ثابت عن زر بن حبيش قال: تسحرت مع حذيفة ثم خرجنا إلى المسجد فصلينا ركعتين ثم أقيمت الصلاة وهذا ليس فيه أنه أكل بعد الأذان.
القول الثالث: أن وقت الصوم يبتدئ من طلوع الشمس وهذا منسوب لإسحاق. وهذا القول ليس عليه دليل بل هو مصادم للأدلة.
والراجح: ما قاله ابن المنذر: وهو ما عليه جماهير علماء الأمصار، وعليه الصحابة والتابعون: أنه يبتدئ من طلوع الفجر.
610ـ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن سلمان بن عامر الضبي , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور )).
تخريج الحديث:-
رواه الخمسة و ابن حبان والحاكم وقال: على شرط البخاري.
ـ رواه الخمسة عن حفصة بنت سيرين عن الرباب ( أم الروائح ) عن سلمان بن عامر - رضي الله عنه -.
رواه عن حفصة جماعة: هشام الدستوائي، وعاصم الأحول، وابن عون، وجماعة.
ورواه بعضهم عن هشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن سلمان.(1/18)
فأسقط الرباب، ورواه خالد بن مهران وعاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن سلمان وهذا الحديث أعله بعض العلماء بجهالة: الرباب، وقال إنه لم يوثقها سوى ابن حبان، لكن هذا الحديث صححه أبو حاتم الرازي، وسبق لنا: قاعدة في توثيق المجاهيل: إذا صحح الحديث أحد الأئمة الكبار فهو صحيح. وقد ذكر البخاري الحديث معلقا بصيغة الجزم (أي حديث الرباب).
شرح الحديث:-
فائدة: هذا الحديث يستدل به في ثلاثة مواضع:
1- على أي شيء يفطر الصائم ؟
2- في باب الزكاة؛ فإن الرباب سألت سلمان عن الصدقة على القريب فقال: هي صدقة وصلة.
3- في مسألة العقيقة.
سؤال: هل يدل الحديث بأنه جاء منقطعا؟
الجواب: لا لأنه جاء موصولا من طريق عدد من الثقات.
مسألة: إذا أفطر الصائم،فليفطر على تمر والتمر معروف (وهو ثمر النخيل )
وقد جاء في السنة توضيح لهذا التمر، وهو ما رواه أحمد في المسند من طريق عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن ثابت البنائي عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفطر على رطب فإن لم يجد فعلى تمر فإن لم يجد حسا حسوات من ماء. صححه الدارقطني.
إذن الرطب أولى من التمر.
وقد ذكر ابن القيم وغيره فوائد الرطب:- أنها تناسب الجسم في... هكذا، كما فيها من المواد السكرية التي يفتقدها الإنسان حال صومه.
قوله (( فليفطر على ماء فإنه طهور )) دل هذا على أن الأفضل أن يفطر الإنسان على أي شي وألا يبقى خاليا من طعام، لأن الماء متوفر ويجده المسلم في كل مكان، فإذا لم يجد الإنسان شيئا فليفطر على ماء المهم ألا يجلس الإنسان خاليا من طعام عند إفطاره.(1/19)
611ـ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أبي هريرة: - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال (( وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )). فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال , واصل بهم يوماً ثم يوم ثم رأوا الهلال فقال: (( لو تأخر الهلال لزدتكم )) , كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. رواه البخاري ومسلم (متفق عليه) واللفظ لمسلم.
شرح الحديث:-
هذا الحديث من مسألة حكم الوصال: ( وهو ألا يفطر الإنسان ويواصل في صيامه أياماً ).
مسألة: حكم الوصال:
القول الأول: أن الوصال جائز إن قدر عليه.
الدليل: أنه فعل بعض السلف , كابن الزبير فإنه روي أنه كان يواصل أياماً متتالية.
حديث الباب: وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم خرج الشهر , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( لو تأخر الهلال لزدتكم )) , كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا عن الوصال وعند الشيخين: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة بهم.
القول الثاني: أنه لا يجوز: وهو قول الجمهور.
الدليل: حديث الباب: حيث نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال والنهي للتحريم وأما هو فمن خصائصه.
القول الثالث: وهو قول أحمد وإسحاق ورجحه ابن القيم: أن الوصال جائز إلى السحر.
الدليل: مارواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تواصلوا؛ فإن أبيتم إلا الوصال فإلى السحر )) ( ومعناه: إلى أن يتسحروا ).
القول الرابع: كراهة الوصال إلى السحر وتحريمه أكثر من ذلك.
الدليل: بدليل الجمع بين الأدلة بين نهيه ووصال الصحابة معه , وهو أعدل الأقوال وهو جمع بين الأدلة كلها , وأما وصاله فقد كان من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال عن نفسه: (( إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني )).(1/20)
مسألة: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل السقيا معنوية أو حسية ؟
الجواب: ابن القيم يرى أنه معنوي فإن ما يقيضه الله عليه من الكرامات والتلذذ بالمناجاة يكفيه عن الطعام.
استدراك: قال بعض العلماء إن هذه المسألة منهي عنها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة؛ خشية أن يفرض عليهم قياساً على التراويح.
وهذا غلط؛ فإن مسألة التراويح لم يرد النهي عنها.وهذه ورد النهي عنها.…
…
612ـ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من لم يدع قول الزور والعمل به, فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) رواه البخاري.
جاء عند البخاري زيادة (( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل... )) , فزاد (( الجهل )) في رواية عنده، ولم ترد هذه الرواية عند أبي داود.
شرح الحديث:-
قوله: (( قول الزور )) هو مطلق الكذب فهو زور، ومنه: { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً } .
قوله: (( والعمل به )) العمل بالزور في رمضان وغيره.
قوله: (( والجهل )) هو كل ما يصدر من الاعتداء وسوء الخلق وما شابه ذلك.
قوله: (( فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه )) أي أن الله غني عن فعله؛ لأن الله شرع الصيام للتقوى فليس يستفيد من لم يتق الله إلا الجوع والتعب.
مسألة: استدل ابن حزم بهذا الحديث على أن كل محرم فإنه يفطر به صاحبه، فالغيبة والنميمة وغيرها تفطر عنده، استدلالاً بهذا الحديث.
وجمهور الأمة: على أنه لا يفطر إلا الأشياء المخصوصة، وهذا الحديث يدل على أن الإثم في رمضان أشد منه في غيره.
مسألة: قوله: (( فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) ظاهر النص قد يفهم منه أن لله حاجة في صيامنا، بدلالة هذا المفهوم. فما الذي أخرج هذا القيد ؟(1/21)
الجواب: أخرجه ما غرز في الفطر السليمة أن الله لا حاجة له في صيامنا فلا ينتفع بطاعتنا ولا تضره معصيتنا، وقد جاء في الحديث القدسي الصحيح (( يا عبادي لو أن أولكم و آخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاًَ... )) الحديث , وهو كذلك؛ قال تعالى { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } والله عز وجل لا تنفعه طاعة المحسن ولا تضره خطيئة المسيء؛ فيكون معنى هذا القول هو: التوبيخ والازدراء والتهكم أي: عملك مطروح عليك لا فائدة منه، فإنما شرع الصيام لتحصيل التقوى، وكيف يحصل التقوى بقول الزور والعمل به والجهل…
613ـ قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن زيد بن خالد الجهني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من فطر صائماً كتب الله له أجره إلا أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء )). رواه الخمسة إلا أبا داود، وصححه الترمذي وابن حبان.
تخريج الحديث:-
هذا الحديث رواه الخمسة إلا أبا داود من طريق: عطاء بن أبي رباح عن زيد , وقد رواه عن عطاء أئمة منهم: ابن أبي ذئب، وعمرو بن قيس، وغيرهم.. قال الترمذي: إنه حديث حسن صحيح.
وصححه البغوي وابن خزيمة وغيرهم لكن الإسناد فيه انقطاع قال ابن المديني كما في المراسيل: عطاء لم يسمع زيد وقد اختلف على عطاء فرواه حسين المعلم عن عطاء عن عائشة موقوفا رواه النسائي وله طرق أخرى وهو ما رواه عبدالرزاق عن ابن جريج عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة موقوفاً وله طرق وشذ وهذا لا يصح منها شيء.
وروى البخاري في صحيحه (( الدال على الخير كفاعله )).ومن فطر الناس فقد فعل سنة مشهورة وهي الإفطار , ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن دعا إلى هدى فله مثل أجر فاعله رواه مسلم.(1/22)
614- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم , ولكنه كان أملككم لإربه )). متفق عليه واللفظ مسلم.
وله عنها رضي الله عنها قالت: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل في رمضان وهو صائم )).
شرح الحديث:-
مسألة: المباشرة هي كل مقدمات الجماع، أو هو كل ماعدا الجماع من غير حصر ولا تمثيل، وذكرت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقبلها وهو صائم - وهذه مباشرة.
مسألة الحديث ( حكم المباشرة للصائم ) ؟
القول الأول: الحنابلة والحنفية , كره المباشرة إن كانت تحرك الشهوة، وإلا فهي جائزة..
الدليل: 1- حديث الباب , حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم، ولكنه كان يتملك لإربه.
2- ما رواه أبو داود في سننه من طريق إسرائيل عن أبي العنبس عن الأغر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن تقبيل زوجته وهو صائم ومباشرتها وهو صائم؛ فأذن له. ثم جاءه رجل آخر فسأله فمنعه، فإذا الذي منعه شابا، وإذا الذي أذن له شيخاً.
وهذا الحديث تكلم فيه بعض العلماء من وجهين:
أ) أن من رواته: إسرائيل وتفرد به، وتكلم بعض العلماء في إسرائيل، وكان ابن القيم يعله بهذه العلة، قال ابن مهدي في أحد قوليه: إسرائيل لص يسرق الحديث وضعفه ابن المديني لكن وثقه أحمد وأبو حاتم وروى له الشيخان. هو: أبو العنبس؛ فإنه لم يوثقه سوى ابن حبان كما قال ابن حجر؛ إلا إن ابن معين قال: أبو العنبس عن أبي العدبس ثقتان , فهذا كأنه توثيق من ابن معين لهذا الرجل، إلا أن هذا لا يكفي في إثبات أن ابن معين يقصد الرجل معنا، فإن أبا العنبس يروي هاهنا عن الأغر، ولهذا لعل العلة في أبي العنبس.
ب) ثم إن المتن حقيقة فيه ما فيه، فإن بعض الشيوخ يكون أشد من الغلام.(1/23)
القول الثاني: أنه حرام وهو قول الشافعي.
الدليل: 1- حديث الباب،فإن عائشة رضي الله عنها قالت: يباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه ( يعني أنكم لا تسطيعون...)
2- ما جاء في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه: ((...يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )) قالوا: والمباشرة من الشهوة.
القول الثالث: أنها مستحبة , وهو قول الظاهرية.
الدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله، ويراد من فعله التأسي به، فإن كان كذلك كان مستحبا. إلا أنهم لم يأخذوا بكمال الحديث (( أملككم لإربه )).
القول الرابع: أنها جائزة.
الدليل: ما ثبت عن ابن حبان عن ابن عمر - رضي الله عنه -ما أن عمر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله قبلت امرأتي وأنا صائم فماذا علي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أرأيت المضمضة والاستنشاق هل عليك فيهما بأس إذا صمت؟ )) قال: لا، قال (( فمه؟ )).
والذي يظهر والله أعلم: أن المباشرة مكروهة إذا كان يخشى على نفسه من وقوع في محرم كإمذاء وإنزال جماع؛ وقلّ من يسلم من هذا إذا كان صائما.
ثم أن عائشة رضي الله عنها قالت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يملك إربه أو أربه.
ومن فوائد الحديث:-
حسن معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهله، فقد بلغ الكمالات في التعامل البشري.
قوله (( أملككم لإربه )) في ضبطها وجهان:
1- بكسر الهمزة وسكون الراء وسكون الباء، وهو العضو.
الدليل: ما رواه البخاري من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسجد على سبعة آراب - ( أي أعضاء).
2- ضبطها المحدثون أيضاً بفتح الهمزة وفتح الراء وكسر الباء، ومعناها هنا الحاجة، والمكنى بالحاجة الوقاع أو الشهوة.
الدليل: قوله تعالى { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي حاجات .. وعلى كل فكلا الاحتمالين لايؤثر في القضية شيء.(1/24)
615- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن ابن عباس - رضي الله عنه - (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم , واحتجم وهو صائم )). رواه البخاري.
شرح الحديث:-
فائدة: من ثمرات الحجامة: التبرع بالدم.
قاعدة: إذا كثرت أدلة مسألة فهو دليل على قوتها.
وهذه المسألة مما تميزت بكثرة أدلتها من الأحاديث والآثار.
مسألة: اختلف العلماء رحمهم الله في مسألة الحجامة على قولين:
القول الأول: مذهب أحمد،وهو المنصوص عنه في أكثر من رواية، وهو قول أبي موسى الأشعري: أنها تفطر.
القول الثاني: الجمهور: مالك والشافعي و أبو حنيفة في المنصوص عنهم وهو قول أنس بن مالك من الصحابة أنها لا تفطر.
أدلة أصحاب القول الأول: أنها تفطر:
1- ما جاء في حديث شداد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أفطر الحاجم و المحجوم )) والحديث لا مطعن في صحته، فقد صححه أحمد، والبخاري، وابن المديني، والدارمي، والعقيلي، والدار قطني، وجماعة، ولم يضعف الحديث أحد.
2- أن حديث أفطر الحاجم و المحجوم جاء عن بضعة عشر صحابياً، وأصحها حديث شداد وثوبان ورافع بن خديج، وباقي الأدلة كلها في أسانيدها مقال؛ إلا أن يقال:كما قال أحمد: يشد بعضها بعضا.
أدلة أصحاب القول الثاني: أنها لا تفطر:
1- ما رواه البخاري في صحيحه من طريق: أيوب عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم وهذا الحديث في البخاري ودلالته صريحة.
إلا أن أصحاب القول الأول ردوا على هذا الاستدلال فقالوا: الحديث معلول.
سؤال: ما هي علته؟
الجواب: من وجهين: أن الجماعة رووه عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم هكذا رووه. ورواه عن عكرمة هكذا: عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهشام بن حسان، وخالد الحذاء , رووه عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم - فقط.(1/25)
ورواه أيوب واختلف عليه فرواه وهيب وعبد الوارث عن عكرمة عن ابن عباس أن الرسول احتجم وهو محرم واحتجم وهوصائم خالفهما ابن عليّة، ومعمر بن راشد،وحماد بن زيد فرووه عن أيوب عن عكرمة مرسلاً والمحفوظ في رواية أيوب الإرسال.
ورواه جعفر بن ربيعة عن عكرمة واختلف عليه فرواه مرة موصولاً بلفظ ( احتجم وهو صائم) ورواه مرة مرسلاً وعليه فالمحفوظ رواية الموصول بلفظ ( وهو محرم ) والمرسل بلفظ ( وهو صائم ).
سؤال: كيف صححه البخاري ؟
الجواب: نعم البخاري صححه، لكن أحمد ضعفه، ثم إننا أنكرنا لفظة في الحديث ولم نضعف الحديث كاملاً، وفي البخاري كثير من الألفاظ منكرة لا ضعيفة.ثم إن لحديث ابن عباس هذا طرق كثيرة من غير طريق عكرمة منها طريق مقسم عن ابن عباس. غير أن مقسم لم يسمع من ابن عباس إلا خمسة أحاديث، وهذا ليس منها.
2- الدليل الثاني لأصحاب القول الثاني: ماذكره المؤلف عن أنس - رضي الله عنه - قال: أول ما كرهت الحجامة أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أفطر هذان ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة للصائم.وكان أنس يحتجم وهو صائم، وهذا الحديث تفرد به الدار قطني من بين الأئمة، وأنكره ابن عبد الهادي , وهذا الحديث أنكره شيخ الإسلام وابن القيم.
قال ابن عبدالهادي: هو حديث منكر، وليس هو في الكتب الستة أو المشهورة.
وهذا الحديث رواه الدار قطني من طريق: خالد بن مخلد عن عبد الله بن المثنى عن ثابت البناني عن أنس.وهذا الحديث معلول بعدة علل منها:
أ- عبد الله بن المثنى: قد ضعفه أبو داوود والنسائي وابن معين وذكر أن له مناكير.
أيضا هذا الراوي وثق، بل روى له الجماعة، فحاله ( أقل ما يقال فيه ): أنه حسن الحديث مالم يخالف.
وهو هنا تفرد بالحديث عن ثابت من بين طلاب ثابت الكثر، فهذا محل نظر وتوقف للباحث.(1/26)
وجدنا شعبة أمير المؤمنين في الحديث: رواه عن ثابت البناني عن أنس أنه قال :إنما كرهت الحجامة من أجل الضعف، ورواه غير ثابت عن شعبة بهذا اللفظ فكأنما خالف في متنه.
ـ قال شيخ الإسلام , وابن القيم: هذا حديث منكر.وضعفه ابن عبد الهادي في التنقيح.
ب- أن عبدالله بن المثنى خولف.
الدليل الثالث لأصحاب القول الثاني: ما جاء عند أحمد وغيره من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخص للصائم الحجامة والوصال .
وهذا الحديث أنكره بعض الأئمة كالترمذي وأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم. وهذا حديث إسناده ظاهره الصحة: فلذلك صححه بعض المتأخرين , جاء هذا الحديث من طر يق خالد الحذاء عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -....الحديث، والمحفوظ هو الوقف على أبي سعيد فإن المحفوظ عن خالد الحذاء وقتادة عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري موقوفاً.
كما صرح به أبو حاتم وأبو زرعة. قال الترمذي: حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد موقوفاً أصح هكذا رواه غير واحد عن أبي سعيد قوله , وقال أبو حاتم: إنما هو عن أبي سعيد من قوله هكذا قال ابن خزيمه والبزار وغيرهم.
والمحفوظ الثابت في الحديث هو: ما رواه النسائي من طريق عبدالله بن المبارك عن خالد الحذاء عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - , أنه سئل عن الحجامة فقال لا بأس في الحجامة و الوصال. و إنما اللفظ الأول من زيادة تلاميذ خالد الحذاء.
وحديث أبي سعيد هذا ظن بعض أهل العلم أنه أقوى حجة لمن قال بعدم النقض ولكن كما رأيت هو موقوف وليس بمرفوع.
4- ما رواه أبو داود في السنن من طر يق عبد الرحمن بن أبي ليلي عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحجامة وعن الوصال ولم يحرمها إبقاء على أصحابه وهذا الحديث إسناده صحيح ولكن لا يستقيم الاستدلال به لوجهين:(1/27)
أ- أن هذا الحديث: الصواب أنه يستدل به من قال أنها: تفطر؛ لأن الحديث فيه:( نهى ) إلا أن الراوي قال: ولم يحرمها إبقاء على أصحابه لما يلي:
1- أن هذا فهم صحابي ورأي له يرى عدم التفطير كأبي سعيد.
2- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن للصائم أن يحتجم إذا احتاج إليه. لقول الصحابي: إبقاءً على أصحابه؛ لكنه لم يتكلم عن الفطر وعدمه.
والراجح من خلال سبر الأدلة تبين لنا بالدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(( أفطر الحاجم و المحجوم )) فتلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ التفطير.فإذا تلفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ التفطير فنحتاج إلى لفظة ترده فلما تأملنا لم نجد لهم دليلاً يقوى على هذا الحديث، وهم ناقشو ا الحديث:
- فقالوا: نسخه حديث أنس؛ غير أن حديث أنس ضعيف كما سبق.
- قالوا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يرد التفطير حقيقة، وإنما أراد كاد أن يفطر؛ لأن المحتجم إذا احتجم ضعف فكاد أن يفطر؛ وهو ضعيف متهالك؛ فقد كان بوسع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول كاد أن يفطر أو نحوها ؟.
- قالوا: لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد الفطر لقال: أفطرتما. وهو لا يستقيم إذاً لو كان الحديث أفطرتما لقلتم إنما هي قضية عين انتهت ولما أتى باللفظ العام الشامل قلتم ما أراد الفطر الحقيقي.
- قالوا: فإن الصحابة يرون أن الحجامة لا تفطر.فيقال لهم هذا ادعاء باطل؛ فقد ثبت عن الحسن البصري بإسناد صحيح أنه قال: أروي عن عدة من الصحابة أنهم يرون التفطير بالحجامة.
* الخلاصة: الذي يظهر والله أعلم أنها مفطرة، و أنه لم يسلم لقول الجمهور حديث.
- أما الحاجم فقد اختلف من قال أنها تفطره: هل علة تفطيره معلومة أم لا ؟(1/28)
والجواب: من قال إنها معلومة وهي: خشية أن يصل الدم إلى حلق الحاجم وبه يفطر؛ فإنهم يرون أن كل عملية تؤدي إلى وصول الدم إلى الحاجم وما عداه فلا تفطر. وأما من قال إنها غير معلومة فإن الحجامة تفطر كل من حجم.
- والصحيح أن علة الحاجم معلومة وهي أن الحاجم يصل إلى حلقه طعم الدم وهذا في الغالب فإذا وصل الدم إلى حلق الحاجم فإنه يفطر، وعليه فلو سحب الطبيب الدم بآلة غير الفم فإنه لا يفطر – والله أعلم – وهو قول شيخ الإسلام.
616 – قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن شداد بن أوس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى على رجل في البقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان فقال: (( أفطر الحاجم والمحجوم )).
تخريج الحديث:-
رواه أحمد وأصحاب السنن من طريق:خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس، وهذا رجال إسناده ثقات.وصححه أحمد وإسحاق وابن المديني والبخاري والدارمي.
وجاء من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن أبي أسماء عن شداد رواه أحمد وهذا إسناد صحيح ورواه البيهقي عن رهيب عن أيوب به إسقاط أبي أسماء ورواه النسائي من طريق حماد بن زيد وابن عيينة عن أيوب عن أبي قلابة عن شداد به وجاء من عدة طرق على أوجه كثيرة خلاصتها:
من طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد
ومن طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد
ومثله عن شداد وثوبان ولما جاء بهذه الطرق ظن أنه مضطرب والصواب أنه طريق محفوظ صححه الأئمة كما سبق.
617- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أنس بن مالك قال: أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( أفطر هذان )) ثم رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. وسبق الكلام عليه قبل قليل وهو ضعيف وذكرنا علله ومسألة الباب.(1/29)
618 - قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )). متفق عليه، وهذا لفظ مسلم. وللبخاري (( فأكل وشرب )) وللدار قطني والحاكم: ((من أفطر في رمضان ناسيا، فلا قضاء عليه ولا كفارة )).
تخريج الحديث:-
رواه الدار قطني والحاكم من طريق: محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة. قال النسائي حديث منكر – وقد زاد هذه اللفظة [ فلا قضاء عليه ولا كفارة ]. وعلته: هي محمد بن عمرو: حسن الحديث إذا لم يخالف، وفي هذا الحديث خالف وخولف، فهذا مما يزيده ضعفا. فرواه علي بن بكار عن محمد بن عمرو به بلفظ حديث الصحيحين رواه النسائي.
ووجدنا حديث أبي هريرة الذي رواه الأئمة مثل عياض بن أبي ذباب، وابن سيرين، وأبي رافع وخلاس بن عمرو وعوف وغيرهم وجماعة: كلهم رووه بدون: (( فلا قضاء ولا كفارة )). وروى الدار قطني الحديث بلفظ (( فلا قضاء عليه )) وقد جاء من طريق محمد بن عيسى عن ابن علية عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة بزيادة (( فلا قضاء عليه )) وهذا اللفظ غلط، والواهم هو: محمد بن عيسى؛ حيث أن أحمد رواه عن ابن علية بدون: ((فلا قضاء عليه )) ورواه سريج بن يونس وعمرو الناقد عن ابن علية بدونها.ورواه جماعة عن هشام بن حسان بدونها. مثل ابن المبارك ويزيد بن هارون وعيسى بن يونس ويزيد بن زريع وغندر وروح وغيرهم ورواه عن ابن سيرين بدونها: وعوف وأيوب وحماد بن سلمة وقتادة وخالد الحذاء وغيرهم.
مسألة: من أكل أو شر ب أو جامع ناسيا فهل يبطل صومه أم لا ؟
القول الأول: أنه لا يفطر و لا قضاء عليه وهذا رأي الجمهور. وهو قول الأوزاعي والثوري.(1/30)
القول الثاني: الرواية المشهورة عن أحمد: أن الأكل والشرب للناسي لا يفطر، وأما الجماع فيفطر مطلقا؛ والسبب هو:( الدليل ) 1- أن الجماع لا يتخيل النسيان فيه.2- ولنص الدليل على الأكل والشرب فقط. 3- وثبت في الحديث قول الصحابي:يا رسول الله هلكت.
القول الثالث: أن كلاً من الأكل والشرب والجماع يفطر مطلقاً. قول المالكية وربيعة
الدليل:- أنهم يوجهون قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (( فليتم صومه )) بأحد وجهين:-
1- أنه يمسك عن الطعام؛ ولكن عليه القضاء.لأنه لم يتكلم عن القضاء.
2- (( فليتم صومه )) أي له أجر الصيام وإن أفطر ناسياً؛ لأنه فعل نسياناً.
والصواب: ما عليه الجمهور: أنه لا يفطر بفعل شيء من هذه الأشياء إذا فعله ناسياً.
الدليل: صراحة حديث الباب. والقاعدة التي بنيت عليها الأحكام الشرعية: أن الناسي ليس بمكلف ولا بمؤاخذ كما في الآية: { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } .
فعندنا دليلان: أحدهما نصّي في المسألة، والآخر عام على كل شيء , وأيضاً: يلحق بذلك المكره , فإنه لا يؤاخذ ولا يفطر بفعل هذه الأشياء.
والمؤلف رحمه الله: أتى برواية:(( من أفطر )) أي:يدخل فيها كل شيء،غير أن هذه الرواية لا تثبت.
مسألة: لماذا خص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناسي في الحديث فقال: (( فإنما أطعمه الله وسقاه )) مع أن الناسي والمتعمد المطعم والساقي هو الله ؟
الجواب: ليبين أن الحكم هنا كوني شرعي. كوني: لحدوثه، وشرعي:
وهذا من إضافة التشريف وأن التكليف قد رفع للقضاء الكوني، وأن العبد كأنه ديانة مثاب عليه.
مسألة: إذا رئي الرجل يأكل أو يشرب فهل يذكر ؟
القول الأول: يذكّر؛ لأن هذا فيه تعاون على البر والتقوى، ولأن هذا في أصله مفطر والصائم ممنوع منه.(1/31)
القول الثاني: لا يذكّر؛ لأن هذا مأذون له قدراً و شرعاً، والله عز وجل هو الذي أطعمه وسقاه، ومنعه مناف لمشيئة الله. وقد تردد كثير من أهل العلم في هذه المسألة.
والذي يظهر والله أعلم: أنه يذكّر؛ للأدلة السابقة، ولأن هذا الشخص لا يريد الأكل ولا الشرب، فمنعه مناف لإرادته، وأما قولهم: إن هذا أذن الله له قدراً وشرعاً. نقول: نعم الإذن للآكل وليس هناك إذن للرائي أن يسكت، وأما قولهم: إن في منعه تناف مع إرادته. فنقول: هذا غلط؛ لأن منعك إياك من مشيئة الله.
619- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء )).
تخريج الحديث:-
رواه الخمسة من طريق هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة.
ورواه عن هشام بن حسان جماعة. وهذا إسناد رجاله ثقات، ولهذا مشى كثير ممن يهتم بظاهر الإسناد على صحته. قال الدار قطني: رواته كلهم ثقات وصححه الحاكم.
والحق أن هذا الحديث معلول؛ فقد أعله أحمد فقال: ليس من هذا شيء. وفي رواية له ليس من ذا شيء.
ونقل الترمذي عن البخاري قال: لا أراه محفوظاً. وقال أيضاً في التاريخ الكبير: لا يصح.
وقال إسحاق بن راهويه والدارمي زعم أهل البصرة أن هشاماً وهم فيه.
سؤال: ما علة الحديث؟
الجواب: سئل أحمد عن ذلك فقال: حدث به عيسى وليس هو في كتابه غلط فيه وليس هو من حديثه.(1/32)
وقد جاء الحديث من طريق آخر رواه الدار قطني من طريق: عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرة بنفس المتن؛ غير أن عبد الله هذا متروك قال الترمذي: لايصح إسناده. وعليه فقد حكم الحفاظ بغلط هشام بن حسان ,وقال النسائي وقفه عطاء ثم رواه من طريق حبان عن عبدالله عن الأوزاعي عن عطاء عن أبي هريرة موقوفاً من استقاء فليفطر بدون تفصيل ورواه النسائي أيضاً من طريق حبان عن عبدالله عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاءٍ من قوله , ثم إن الثابت عن أبي هريرة أنه لا يرى الفطر بالقيء قال البخاري في صحيحه قال أبو هريرة: إذا قاء فلا يفطر إنما يخرج ولا يولج. ويذكر عن أبي هريرة أنه يفطر والأول أصح.
شرح الحديث:-
مسألة: هل القيء مفطر أم لا ؟
1- القول الأول: الجمهور: على أن من تعمد القيء أفطر، ومن ذرعه القيء لا يفطر.
2- القول الثاني: رأي لأبي هريرة - رضي الله عنه - وقول بعض التابعين كطاووس أنه؛ لا يفطر مطلقاً، غير أن هذا رأي لأبي هريرة - رضي الله عنه -، ثم إن هذا خلاف الحجامة، والعبادات لا مجال للعقل فيها.
3- القول الثالث: قول لربيعة وعكرمة والقاسم وبعض المالكية: يفطر مطلقاً تعمد أم لا.
- دليل الجمهور: 1- حديث الباب.
2- ما رواه أحمد في المسند من حديث ثوبان وأبي الدرداء - رضي الله عنه -ما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاء فأفطر.
ورد عليهم بأن حديث الباب ضعيف، و أما حديث ثوبان فإن المحفوظ فيه قاء فتوضأ، قال ثوبان: أنا صببت له وضوءه. والحديث في إسناده كلام طويل، إلا أنه يظهر أنه جيد، لكن بلفظ قاء فتوضأ.
- دليل من قال: ( لا يفطر مطلقاً ):-
1- ما جاء في الصحيح ( البخاري ) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - موقوفاً: إنما الفطر فيما دخل لا فيما خرج.
- ودليل من قال: ( يفطر مطلقاً ):-
1- حديث الباب حيث جاءت روايات بدون تفصيل: من قاء فليفطر.
2- حديث ثوبان: قاء فأفطر.(1/33)
- والصحيح: هو قول الجمهور: أن القيء إذا كان عمداً فيفطر، وإن كان من غير عمد فلا يفطر.
وإنما رجحنا لا لدلالة الأحاديث وإنما لدلالة أن من أدخل شيئاً إلى جوفه عامداً فقد أفطر، ومن أدخل جوفه شيئاً من غير عمد فلا يفطر، وأن من استقاء يستحيل ألا يرجع شيء إلى حلقه، فلا بد أن يرجع إلى حلقه، وهذا توجيه رائع جداً وهو موافق لقاعدة الصيام.
قال المؤلف: ( ورواه النسائي موقوفاً).
كأن المؤلف يشير إلى أن أبا هريرة - رضي الله عنه - رواه موقوفاً كما رواه النسائي من طريق عطاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - موقوفاً عليه: من استقاء فليفطر، ومن ذرعه القيء فلا يفطر.
- وقد روي: ( لا يفطر ) وهذا فيه تعارض والصحيح أنه لا يفطر لما روى البخاري في صحيحه أنه قال: (( إذا قاء فلا يفطر إنما الفطر فيما دخل لا فيما خرج )).
وأما طريق النسائي هذا ففيه اختلاف ولهذا قال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث: وروي: أنه يفطر، والأصح أنه يفطر؟ وسبق بيان إسناد الموقوف على أبي هريرة - رضي الله عنه - والراجح فيه.
620- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم , فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام. فقال: (( أولئك العصاة، أولئك العصاة )). وفي لفظ: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام , وإنما ينظرون فيما فعلت ؟ فدعا بقدح من ماء بعد العصر. رواه مسلم.
621- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وروى أيضا عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(( هي رخصة من الله تعالى، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه )) رواه مسلم.
شرح الحديثين:-(1/34)
الأحاديث صحيحة كلها، ولهذا اختلف العلماء في المسافر.
مسألة: الصيام في السفر: هل يفطر أم يلزمه الصوم أم ماذا؟
- تحرير محل النزاع:
1- بالإجماع أنه من شق عليه الصوم مشقة خارجة عن العادة: أنه يجب عليه الفطر، ويأثم بتركه.
والخلاف فيما لو صام هل يجزئه صومه أم لا ؟
2- بالإجماع على أن الصائم إذا كان مسافراً وشق عليه الصوم والفطر أسهل له: أن الفطر أفضل والخلاف أيضاً لو صام هل يجزئه أم لا وجماهير أهل العلم على الإجزاء إلا ابن حزم خالف في هذا وقال إنه لا يجزئه والأدلة على خلاف قوله كما سيأتي.
3- الخلاف فيما لو كان الفطر والصيام على حد سواء:
القول الأول: ذهب إسحاق بن راهويه والظاهرية: إلى وجوب الفطر ولو صام لم يصح صومه.
القول الثاني: الجمهور: الصوم أفضل.
القول الثالث: المشهور من المذهب وهو نص عن أحمد: الفطر أفضل.
- دليل أصحاب القول الأول ( الفطر واجب):
1- قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث فيمن صام: (( أولئك العصاة )) رواه مسلم من حديث جابر ومحال أن يتقرب العبد إلى ربه بالمعصية.
2- قوله تعالى: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ومن كان على هذين الوصفين - مرض أو سفر - فلا يصح صومه، ولو كان يصح صومه لكان في اللفظ (... أو على سفر فأفطر...).
3- ما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ليس من البر الصيام في السفر)) فهو معصية.
4- حديث أنس بن مالك الكعبي عند أحمد وغيره (( إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ))
- ودليل الجمهور: ( أن الصوم أفضل ):
1- شرف الزمان مقدم على غيره.
2- وفيه تعجيل لإبراء الذمة.
3- ثم إن الفطر رخصة والرخصة تفعل إذا احتيج إليها.
4- ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح أنه صام في السفر.(1/35)
5- حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - في الصحيح: كنا نسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولم يعب المفطر على الصائم.
والحديث الرابع والخامس أثبتا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام , وهناك أدله تثبت أنه لم يصم. فيكون فطره عندما احتاج إليه وصومه عند عدم الحاجة.
- ودليل أصحاب القول الثالث: ( الفطر أفضل ):
1- حديث: (( ليس من البر الصيام في السفر )) كما في الصحيح.
2- حديث جابر عند مسلم (( أولئك العصاة )).
3- قوله - صلى الله عليه وسلم -:(( هي رخيصة فمن أخذ بها فحسن , ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه )).
- والذي يظهر والله أعلم: أن الصوم أفضل لما يلي:-
فيه إبراء للذمة.
قوة أدلة من قال به.
مسألة: إذا نوى الصوم في الحضر ثم سافر في أثناء النهار فهل له أن يفطر؟
الجواب: القول الأول: الجمهور: لا يحق له الفطر.
الدليل: 1- أنه دخل في صوم واجب فلم يجز له الفطر.
2- لا يوجد دليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنشأ الصوم في بلده ثم سافر وأفطر. بل كل الأدلة الواردة أنه - صلى الله عليه وسلم - أنشأ الصوم في السفر.
القول الثاني: من مفردات الحنابلة: يصح ويحق له الفطر.
والدليل: 1- قوله تعالى: { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وهو الآن على سفر.
2- لم يأت دليل يخصص هذه الحالة , والأصل العموم في المقال ما لم يخصص , وتخصيص الأدلة والأوصاف فيها لا بد لها من دليل , كما أن أصلها لا بد لها من دليل.
3- ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يفطرون وقد عقدوا النية في الحضر.
- وهذا هو الصحيح والدليل: لأن هذا هو الذي عليه الدليل والنظر.
مسألة: إذا علم المسافر أنه سيقدم غداً هل يلزمه الصوم ؟
القول الأول: الجمهور لا يلزمه. الدليل:
أ- لأن المسافر لا يجب عليه الصوم, وهو مسافر.(1/36)
ب- ثم إن احتمال وصوله غداً مظنة فقد يبقى سنين وهو لم يصل.
القول الثاني: يلزمه الصوم وهو قول بعض الأصحاب.
الدليل: لأنه علم سبب وجوب الصوم فهذا مما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب , وسبب وجوب الصوم: أن يكون مقيماً قادراً مكلفاً. لكن هذا القول ضعيف, بل ضعيف جداً.
مسألة: إذا قدم المسافر هل يجب عليه الإمساك؟
القول الأول: الحنابلة والحنفية: يجب عليه الإمساك. والدليل:
1- لوجود سبب الصوم - الإقامة - تخلف عذر الفطر وهو السفر.
2- قياساً على الحائض والنفساء وكل من أفطر إذا زال عذره أمسك.
القول الثاني: الشافعية: لا يلزمه الإمساك؛ لكن لا يفطر أمام الناس لسببين:
1- خشية التهمة. 2- مراعاة للصائمين. وهذا القول هو الصحيح لأمور:
لم يأت دليل يدل على وجوب الإمساك.
ولو ألزمناه بالإمساك فإنه يصبح صائماً أكثر من ثلاثين يوماً وهو محال.
سؤال: متى يفطر المسافر إذا سافر ؟( وهذا عند الحنابلة ).
الجواب: القول الأول: إذا فارق عمران البيوت , وهو المشهور عند الحنابلة. الدليل: أن سبب الفطر حتى الآن لم يأت , وتقديم الشيء على سببه لا يصح , كمن صلى قبل دخول الظهر فلا تصح صلاته.
القول الثاني: أن له الفطر ولو كان في بيته أو على رحله , قبل أن يغادر عوامر البيوت. الدليل: فِعل أنس - رضي الله عنه - حيث أمر خادمه أن يأتي له بطعام وهو في بيته قبل أن يسافر فأكل أنس فقال الخادم أسنة ؟ قال نعم.
وقد اختلف مشارب أهل العلم في توجيه الأثر؛ إلا أن أحسن توجيه له أن نقول: هذا اللفظ لا يصح , وهذا ما اختاره أبو حاتم الرازي.فلا يثبت أن الخادم قال له أسنة فقال نعم؛ بل جاء عند الدار قطني: أنه قال له أسنة ؟ قال لا ليس بسنة فيكون اجتهاد من أنس وليس سنة لأنه نفاها ولهذا قال أبو حاتم الرازي حديث الدراوردي أصح بمعنى الذي فيه [ ليس بسنة].
- والصحيح: أنه لا يفطر إلا إذا غادر عامر بيته لعدم وجود سبب الفطر وهو السفر.(1/37)
622- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه.
تخريج الحديث:-
رواه الدار قطني وقال: هذا إسناد صحيح , والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري رواه الدار قطني من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس.
وقد جاء في صحيح البخاري من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قرأ: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } قال: ليست بمنسوخة هي للشيخ الكبير والمرأة الكبير لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا.
سؤال: لماذا عدل المؤلف عن لفظ البخاري ؟
الجواب: لأن لفظ الحديث أقوى , ولأنه مرفوع حكماً.
شرح الحديث:-
مسألة: الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه هل يفطر وإذا أفطر هل عليه فدية ؟
الجواب: أولاً: المراد بالكبير والمريض هما اللذان يعجزان عن الأداء ولا يرجى لهما عود القوة والاستطاعة على الصوم.
ثانياً: نقل ابن المنذر وابن حزم الإجماع على أن الكبير والمريض الذين لا يستطيعان الصوم ولا يرجيان القوة أنهما يفطران.
ثالثاً: اختلف العلماء رحمهم الله في الفدية:
القول الأول: الجمهور: يلزمهما الفدية , الدليل:
1 - حديث الباب.
2 - ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: ليست بمنسوخة وقرأ { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } أي: يتكلفونه ولا يستطيعون.
القول الثاني: المالكية: ليس عليهما فدية , الدليل:
1 - أن الآية منسوخة كما في صحيح البخاري: أنه كان في أول الصيام: (( من أحب أن يفطر ويفدى حتى نزلت { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .
2- الآية: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ } أي بوسعهم وطاقتهم يستطيعون فعليهم فدية.(1/38)
ونرد على من قال ليست بمنسوخة: ما جاء في البخاري من حديث أم سلمة قال: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
والآية قرأت هكذا وليست يطوقونه والجمهور على أنها منسوخة.
والصحيح أنها ليست بمنسوخة بل مخصصة.
فائدة: ليعلم أن من معاني النسخ عند المتقدمين التخصيص؛ لحديث ابن عباس: (( نص على ذلك ابن جرير والقرطبي وابن كثير وغيرهم )).
أما الآية فهي وإن كان....... فهي بمعنى ( يطوقونه ) فإنها مقدرة بقوله: { وعلى الذين لا يطيقونه }
مسألة: ما هو مقدار الفدية ؟
بالإجماع ( من قال بوجوب الإطعام ) أنه يطعم عن كل يوم مسكين.
أما الكفارات:-
القول الأول: الحنابلة: مد بر , أو نصف صاع من غيره؛ ( فإذا كان المخرج حنطة فيخرج مداً وإن كان تمراً أو أرزاً فنصف صاع ).
القول الثاني: الحنفية: نصف صاع من البر وصاع من غيره.
القول الثالث: الشافعية والمالكية: مد من أي طعام.
القول الرابع: شيخ الإسلام: على العرف يطعم طعاماً لمسكين واحد ما يكفيه.
- دليل الحنابلة:
1- ما رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في زكاة الفطر صاعاً من تمر , أو صاعاً من طعام , ثم إن معاوية قال: أرى أن مداً من هذه عن مدين من غيرها , قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما أخرجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2- ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: زكاة الفطر صاعاً من تمر , وإن مداً من هذه عن مدين ( يعني الحنطة ).(1/39)
3- ما رواه أبو يزيد المدني قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي المظاهرة التي ظاهرها أوس بن الصامت – فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( خذي هذه, وهو نصف وسق من شعير )) فإن مدين من هذه ( أي الشعير) عن مد من البر , وهذا صريح لكنه مرسل.ومعلوم أن الوسق ستون صاعا ونصفه ثلاثون صاعا فيكون لكل مسكين نصف صاع من شعير.
4- ما رواه أهل السنن من حديث سلمة بن صخر: أنه أعطى المظاهر ثلاثين صاعاً , والمظاهر يلزمه ستون مسكيناً , فيكون لكل مسكين مدان.
- دليل الحنفية: هو أدلة القول السابق , إلا أن ما حدد من البر على أنه سقط فهو غير صحيح.
- دليل الشافعية:
1- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه المظاهر أعطاه خمسة عشر صاعاً , وقال ((أطعم هذا )) , فيكون عندنا ستون مداً إلا أنه حديث لا يصح.
- دليل شيخ الإسلام:
1 - أنه لا يوجد دليل صريح صحيح في تحديد الكفارات.
2 - الآية { من أوسط ما تطعمون } أي العرف.
- وهذا هو الراجح؛ أن تحديد الكفارات بالعرف هو الصحيح؛ إلا إذا جاء الدليل بتحديد الفدية.
فائدة: شيخ الإسلام (رحمه الله) يرى أنه يلزمه في الإطعام مع الأرز وغيره إداماً لأن هذا هو الطعام المعروف. أما الجمهور فلا يلزمون بالإدام.
مسألة: الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما فما الحكم ؟
الجواب: لا خلاف في جواز الفطر , والجمهور على القضاء , وذهب قلة من أهل العلم منهم سعيد بن المسيب وإسحاق وابن حزم وغيرهم إلى أنه لا يلزم القضاء وهو قول ضعيف.
مسألة: ( إذا خافتا على نفسيهما وولديهما فما الحكم ؟
الجواب: كالحالة السابقة.
مسألة: إذا خافتا على ولديهما فما الحكم ؟
الجواب: القول الأول: الحنابلة والشافعي ورواية عن مالك يلزمهما القضاء والكفارة ( ويجوز لهما الفطر ) الدليل: ثبوته عن ابن عباس.
القول الثاني: قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد ورواية عن مالك وهو قول الأكثر لا يلزمهما الفدية.(1/40)
والدليل: عدم ورود الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وهذا هو الصحيح والله أعلم
623- قال ابن عبدالهادي رحمه الله. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلكت يا رسول الله قال (( وما أهلكك )) قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: (( هل تجد ما تعتق رقبة؟ )) قال: لا، قال: (( فهل تسطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ )) قال: لا، قال: (( فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ )) قال: لا , ثم جلس فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيه تمر فقال: (( تصدق بهذا )) فقال على أفقر منا ؟! فما بين لابتيها أهل بيت أفقر إليه منا ! فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت أنيابه، ثم قال: (( اذهب فأطعمه أهلك )) متفق عليه واللفظ لمسلم.
شرح الحديث:-
في الحديث فائدة: أن من فعل شيئاً عالماً بحرمته إلا أنه لا يعرف جزاءه فلا يعذر به بل يقع عليه الجزاء.
- ( وقعت على أهلي في رمضان ) فيه أن السائل إذا جاء بالندامة والحسرة فلا تزيده بخلاف من لا يبالي.
تنبيه: المفتى لا بد أن يكون ذا معرفة في حال السائل , وهذا من فقهه وهذا من قوله (( هل تجد..... هل تستطيع..... هل تجد..... )).
مسألة: الجمهور يرون أن التتابع في كفارة صيام رمضان لازم , وهذا الذي عليه الفتوى.
- قوله ( تصدق بهذا ) فيه بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كريماً جواداً.
- قوله ( تصدق بهذا) دل على أنه يتصدق بها ولا تسقط عنه.
مسألة: الحديث هنا لم يذكر قضاء اليوم أم لا؟وعليه من جامع متعمدا في نهار رمضان هل يلزمه القضاء ؟
الجواب: جمهور العلماء: بل حكي الإجماع على أنه يلزمه القضاء.
وأن من جامع أهله متعمدا ذاكرا فإنه يلزمه قضاء هذا اليوم وعليه الكفارة. الدليل:
حديث الباب , حيث أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فساد صومه.
الإجماع الذي ذكره ابن قدامه وغيره.(1/41)
ما جاء من طريق هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالقضاء. لكن ضعف الحديث البخاري وأحمد وأبو عوانة وابن عبد البر.
فائدة: بل إن ابن رجب جعل هذا الحديث مثالا للزيادة المردودة في كتابه شرح علل الترمذي.
سؤال: ما علة الحديث؟
الجواب: أن هشام بن حسان وهم في إسناده ومتنه.
الإسناد: رواه الأئمة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ومن هؤلاء الأئمة: مالك وابن جريح والليث وسفيان بن عينية ومعمر وعقيل بن خالد حتى أربعين رجلا.
قال البخاري: لم يصح عن أبي سلمة.
وقال ابن عوانة: غلط فيه هشام بن سعيد في قوله عن أبي سلمة.
وقال البزار:أخطأ فيه هشام.
ب- المتن: حيث زاد القضاء, وهؤلاء الأربعون الذين رووا هذا الحديث عن الزهري لم يذكروا القضاء في حديثهم.وأما بقية الطرق فضعفها ظاهر لا إشكال فيه ولا داعي لذكرها.قال ابن خزيمة: إن صح الخبر فإن في القلب من هذه اللفظة.
القول الثاني: قلة من العلماء عليه الكفارة لا القضاء.
لكن هذا القول ضعيف, للأدلة السابقة ولأن أكابر العلماء صرحوا بأن المفطر يقضي.
مسألة: لو باشر أهله فأنزل هل عليه قضاء أم لا ؟
القول الأول: الجمهور يفسد صومه.بل قال ابن قدامة (بغير خلاف نعلمه) الدليل: لأن الصائم مطالب بأن يترك ويدع شهوته لحديث (( يدع طعامه وشرابه وشهوته )) , والشهوة تكون بالإنزال , لما روى البخاري في صحيحه أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ قالوا:نعم , قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال. ووجه الدلالة: قوله : (( لو وضعها في حرام )) ومن الحرام: الاستمناء والزنا والمباشرة....
القول الثاني: الظاهرية أن الإنزال لا يفسد الصوم أبدا. الدليل: عدم الدليل.(1/42)
- الصواب: أن إنزال المني (متعمدا) في رمضان يفسد الصوم (أخرج النائم)
مسألة: المذي هل يفسد الصوم؟ إذا كان يفعله.
القول الأول: الحنابلة ومالك: يفسد صومه.
القول الثاني: لا يفسد وهذا قول أبي حنيفة والشافعي: وهو قول الأكثر واختيار شيخ الإسلام
- الدليل: لأن المذي لا يسلم منه الإنسان ولا يستطيع مدافعته ولا يوجد دليل على إفساده للصوم.
مسألة: الكفارة تلزم من جامع أهله بالفرج , وهذا بالإجماع , لكن لو أنه جامع دون الفرج فالجمهور على أنه ليس عليه كفارة مادام لم يولج في الفرج، والقول الثاني وهو قول مالك أن عليه الكفارة والصحيح الأول وهو مقتضى الدليل.
مسألة: هل الكفارة مخصوصة بالجماع أم لا ؟
القول الأول: الجمهور وقد عده إجماعا أن الكفارة لا تلزم إلا بالجماع.
القول الثاني: وهو قول مالك أن: من أفطر متعمدا يلزمه الكفارة.
غير أنه قولٌ مصادم للأدلة كلها , والذي جعلهم يقولون ذلك: رواية الشيخين: أن رجلا أفطر في نهار رمضان ولم يحدد فطره. لكن رواية الثقات الإثبات والأكثر فيها سبب الفطر وهو الجماع.
مسألة: هل المرأة تلزمها الكفارة أم هو خاص بالرجل؟
القول الأول: وهو قول الحنفية والمالكية و الرواية المشهورة من المذهب: أن المرأة إذا كانت مطاوعة فإن عليها الكفارة.
القول الثاني: وهو قول الشافعية: لا كفارة عليها.
- دليل الجمهور: حديث الباب , والأصل أن ما وجب على الرجل في الكفارات يجب على المرأة , فكعب ابن عجرة عند حلق شعره في الحج يدخل فيه المرأة حيث أنها إذا فعلت محذورا فعليها الفدية , ومن حنث في يمينه فعليه الكفارة , والكفارات لم تخصص الرجل دون المرأة.
- دليل الشافعية: أنه لم يذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر المرأة أن تكفر بل أمر الرجل فقط، والجواب أن يقال إن الرجل قال: هلكت ولم يقل هلكنا والمفتى لا يلزمه الاستفتاء عن الحال،بل أجاب عمن سأل ما يلزمه(1/43)
والصحيح: أن المرأة عليها الكفارة إذا كانت مطاوعة.
مسألة: 1- ذهب مالك رحمه الله إلى أن الكفارة على التخيير لا الترتيب.
2- وذهب الجمهور إلى أنها على الترتيب.
- دليل الجمهور: حجتهم قوية , حيث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله عن كل واحدة على حدة , وهذا يستدعي أن يكون فيه سكوتا عن غيره فيما إن أجاب بنعم وهذا هو الصحيح. وإن كان الخلاف قويا , لكن ظاهر النص يؤيد ما رجحنا.
624- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )). متفق عليه , وقد تكلم فيه أحمد ( في فقه).
لابد من ذكر حديث عائشة:
قوله: ( وقد تكلم فيه أحمد ) الإمام أحمد لم يتكلم عن إسناده وإنما تكلم عن دلالته فقد خص الحديث في باب النذر، فيصوم الولي عنه إذا كان الصيام الواجب بسبب النذر لا غيره كقضاء رمضان ونحوه.
شرح الحديث:-
مسألة: هل يصح الصيام عن الميت؟
القول الأول: قول الشافعي في القديم: يصام عن الميت مطلقا.
القول الثاني: مذهب أحمد: أنه لا يصح الصوم عن الميت إلا في النذر فقط.
القول الثالث: مذهب الحنفية والمالكية والشافعي في الجديد وهو قول ابن عباس أنه لا يصام عن الميت مطلقا , دليل القول الثالث: (لا يصام عن الميت مطلقا):
قال هي عبادة لا يدخلها النيابة, فالعبد مكلف بالصيام فلا يصوم عنه غيره كالصلاة. غير أن هذا دليل عليل لأمرين: 1- مصادمته للنص. 2- أنه ثبتت النيابة في بعض الأعمال.
دليل القول الثاني: مذهب أحمد ( لا يصح الصوم عن الميت إلا في النذر ) أحمد رحمه الله تكلم عن الحديث أنه مطلق, وخصصه وقيده ما جاء عند البخاري: أن امرأة قالت يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صيام نذر أفأصوم عنها؟ قال: نعم, أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم قال: فكذلك. لكن هذا لا يستقيم.
سؤال: ما الذي جعل أحمد يخصص العموم؟(1/44)
الجواب: لأنه قول أكابر الصحابة رضي الله عنهم , بل إنه لم يثبت عن صحابي واحد أنه أجاز الصيام عن الميت في غير النذر. لكن مع هذا نقول: لما وجد الخلاف وجب العمل بالسنة , وكذلك ثبت الإجزاء بالحج الواجب لمن حج عنه وليه، والصحيح: أنه يصام مطلقاً.
مسألة: هل يجوز أن يصام عن الميت في يوم واحد أشخاص متفرقون؟ أي: لو كان عليه مثلاً صيام عشرة أيام من رمضان وله عشرة أولاد وصاموا عنه كلهم بأن نوى كل واحد منهم صوم يوم من هذه العشرة.
الذي يرجحه ابن عثيمين - رحمه الله - أنه يصح ذلك.
قوله: (صام عنه وليه ؟) سؤال: من هو الولي؟
القول الأول: أنه الوارث.
القول الثاني: أنه مطلق القرابة , والأقرب والله أعلم: أنه الوارث.
والدليل: لأن الوارث هو أقرب الناس نفعاً للميت, والدليل: { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } .
سؤال: هل يشترط أن يكون الصائم وارثاً للميت أو وليه؟
الجواب: الصحيح أنه لا يشترط ذلك, وإنما جاء القيد لأنه خرج مخرج الغالب .…
باب قيام شهر رمضان
- التراويح هي ما تؤدى جماعة في المسجد.
- وهي لا تشرع إلا في رمضان.
- وهي مما تناقله الخلف عن السلف وتتابع الناس عليه.
- وقد خرجت طائفة مما لا فهم لهم ولا دراية ولا علم ولا بصيرة فأنكروا صلاة التراويح , وقالوا: لم تكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهذا كلام غلط. ولا يوجد لهم مستند يعذرون به بل هو جهل واضح.
- بل كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلاً وإقراراً.
- وثبت أن الصحابة يصلون في المسجد فكان الذي لا يقرأ يأتم بمن يقرأ. وهذا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقره , وكذلك فعله هو ثلاث مرات.
- أما الصحابة فثبت أن عمر - صلى الله عليه وسلم - جمع الناس على أُبي.(1/45)
625- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )) متفق عليه.
شرح الحديث:-
- في الحديث فضل عظيم: وهو أن من قام رمضان إيمانا واحتساباً فإنه يغفر له ما تقدم من ذنبه.
- ( من قام رمضان) المراد بذلك الصلاة من الليل, قال تعالى: { وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ } .
- (إيمانا) تصديقا بأمر الله وأمر رسوله, وتصديقاً بوعد الله ووعد رسوله. والإيمان هنا التصديق والعمل
مسألة: هنا مسألة مهمة جداً في باب الاعتقاد وهي الإيمان.
- الإيمان لغة: التصديق في كل شيء.
- وفي الشرع: تصديق ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو قول وعمل. أما دخول العمل في التصديق فهو من مستلزماته.
- ( احتسابا) أي للأجر الذي وعد الله به فلا يعملون احتسابا لغيره.
- ( غفر له ما تقدم من ذنبه) هذا من فضل الله , والذي تقدم: هو ما سلف.
فائدة: زاد النسائي في إسناد ظاهره الصحة لفظة (( وما تأخر )) وهذه لفظة شاذة
- شاذة إسنادا ومتنا , والحفاظ المشهورون لم يذكروها.
- والشذوذ في المتن: أن هذه الخصلة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - دون غيره فهو الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
مسألة: هل الأعمال الصالحة تكفر الصغائر والكبائر؟
- أولاً: معتقد أهل السنة والجماعة هو أن فاعل الكبيرة لا يخرج عن الإسلام لفعله الكبيرة , بل إنه تحت مشيئة الله عز وجل يوم القيامة إذا لم يتب منها: إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وهذا خلاف مذهب المرجئة حيث قالوا: إن مسمى الإيمان إذا وقع على صاحبه فإنه لا يدخل النار مهما فعل. وبخلاف مذهب المعتزلة والخوارج: حيث إنهم متفقون في الجملة على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار. وأهل السنة وسط بين هذه الفرق, فإنهم يرون أن العبد تحت المشيئة (يعني فاعل الكبيرة) إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له.(1/46)
- ثانياً: أجمع أهل السنة والجماعة على أن التوبة ماحية للكبيرة
مسألة: هل الصغائر تكفر بالأعمال الصالحة ولو من دون توبة؟ أم لا بدلها من توبة؟
القول الأول: أن العمل الصالح يكفر صغائر السيئات؛ والدليل:
1- قوله تعالى: { إن الحسنات يذهبن السيئات } .
2- قصة الرجل في الصحيح: حين قبل امرأة فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... بعدما صلى أن الصلاة تكفر هذه السيئة.
القول الثاني: أنه لابد لها من توبة. الدليل:
1- قوله تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ... }
2- أن القول بعدم اشتراط التوبة يصير الصغائر إلى قسم المباحات؛ فإن الناس سوف يعملون السيئات، لأنها سوف تكفر بالصالحات، وهذا يؤدي إلى قول المرجئة.
- والحق أن الصغائر محرمة، وأنها ذنب يؤاخذ عليه العبد، وأن العمل الصالح له شروط قد لا يوجدها الإنسان في كل عمل فيصير بذلك يجمع تلك السيئات على أن الصالحات تكفرها. ولهذا نقول إن الصغائر ذنب يؤاخذ عليه الإنسان لابد له من توبة. ولاشك أن العمل الصالح مكفر للسيئات.
مسألة: هل الأعمال الصالحة تكفر الكبائر ؟
القول الأول: أن الأعمال الصالحة لا تكفر الكبائر وإنما لابد من التوبة منها. الدليل:
1- ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر )).(1/47)
2- ما جاء في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا وتقيموا الصلاة.. )) ثم ذكر باقي الأركان ثم قال: (( فمن وفى من ذلك كان على الله حق أن يدخله الجنة، ومن أصاب من الذنوب شيئا ثم عوقب به فهو كفارة له، ومن لم يعاقب فذلك إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له )) فدل الحديث على أن الإنسان قد لا يعاقب على الكبيرة فيكون أمره إلى الله.
3- أن القول بأن الأعمال الصالحة تكفر الكبائر يستلزم القول بعدم وجوب التوبة فإن الناس إذا علموا أنهم بعباداتهم سوف تكفر سيئاتهم فإنهم لن يتوبوا.
القول الثاني: أن العمل الصالح يكفر الكبائر وهذا قول ابن حزم الظاهري وبعض أهل الحديث الدليل:
- ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عثمان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ما من امرئ مسلم يحسن وضوءه ثم يخرج إلى الصلاة فيحسن ركوعها وخشوعها إلا كانت له كفارة ))
2- ما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه )).قالوا: والصغير يولد وليس عليه ذنوب.
3- ما رواه مسلم في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة )).
- قال ابن عبد البر: ( هذا القول كنت لا أود ذكره لولا ما قاله رجل يقصد ابن حزم، فأخاف أن يغتر الجاهل به فيقع في الموبقات رجاء تكفيرها )
القول الثالث: أن الأعمال الصالحة لا تكفر الصغائر ولا الكبائر،وإنما لابد من اجتنابها، وهذا نسبه بعض أهل العلم إلى أهل السنة،ولكنه قول غريب، فقد ثبت أن الأعمال الصالحة مكفرة لذلك.
- القول الأول والثاني كل له دليله، وعمومات الأدلة تؤيد القول الثاني.(1/48)
- شيخ الإسلام رحمه الله: يرى أن الأعمال الصالحة تكفر الكبائر. ولكن ذلك ليس على الإطلاق، ولم يطلق في أي موضع من كتبه ذلك، وإنما قيد تقييداً.
يقول رحمه الله: إن العمل الصالح لابد أن يتضمن توبة، فمثلاً الصلاة، يقول العبد بين السجدتين: رب اغفر لي، وهذه توبة، ومثلاً: الحج يطوف ويدعو بمغفرة الذنوب وهذه توبة، فالأعمال الصالحة لا بد أن تستلزم توبة نصاً أو معنى.
- ابن رجب رحمه الله بحث المسألة وقال: (فإن أريد أن العمل الصالح يكفر الذنوب مع إصرار الفاعل على الذنوب فهذا باطل قطعاً يعلم من الدين بالضرورة بطلانه، وإن أريد أن العمل الصالح يكفر الكبائر لما يتضمنه فهذا يقال به في الجملة ) وهذا هو الحق الذي به تجتمع الأدلة.
مسألة: هل التوبة تكفي أن تكون عامة مطلقة من كل ماسبق وإن لم استحضر ذلك الذنب، أم لابد من كل ذنب بعينه ؟
الجواب: قال شيخ الإسلام: المسألة على قولين، وأصحها: أن التوبة العامة تكفي في تكفير الذنوب جميعها.ويقول رحمه الله: إن الأعمال الصالحة إن عظمت تكفر الكبيرة كما في قصة حاطب بن أبي بلتعة، والحديث عند الترمذي:(( يغفر له وإن فر من الزحف )) ولكن الحديث ضعيف وكذلك يستدل له ببعض الأحاديث التي يكون العمل فيها كبيراً فيكفر السيئات.(1/49)
626 - قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد؛ وصلى رجال بصلاته؛ فأصبح الناس فتحدثوا؛ فاجتمع أكثر منهم فصلوا بصلاته؛ فأصبح الناس فتحدثوا؛ فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة؛ فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى صلاته؛ فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح؛ فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (( أما بعد: فإنه لم يخفى علي مكانكم؛ ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها )) فتوفي رسول الله والأمر على ذلك. متفق عليه وهذا لفظ البخاري.
شرح الحديث:-
مسألة: في الحديث مشروعية التراويح في رمضان ففي السنة وعمل السلف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى التراويح، وكذلك من بعده الصحابة والتابعين كذلك. و الدليل:
1- حديث الباب: حيث صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس ثلاث ليال من رمضان كما جاء ذلك في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- ما جاء في البخاري أن عمر - رضي الله عنه - دخل المسجد فوجد الناس يصلون أوزاعاً فجمعهم على أُبي بن كعب، ثم تتابع السلف من بعده على هذا إلى يومنا هذا.
مسألة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يواصل في صلاة التراويح وإنما صلى ثلاث ليال فقط،إلا أنه لم ينكر ولم ينه غيره عن الصلاة في المسجد، وهذا يدل على أنه ثبت بإقراره وفعله.
مسألة: متى يبدأ وقت صلاة التراويح ؟
الجواب: من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر.
مسألة: هل بداية صلاة التراويح من نهاية صلاة العشاء أم يشترط دخول وقت العشاء ؟
الجواب: المسألة فيها قولان، والراجح والله أعلم أن بداية صلاة التراويح من الصلاة.
- ثمرة المسألة: لو جمعت صلاة العشاء مع المغرب هل يبدأ الوتر والتراويح من بعد الصلاة حتى ولو كان في وقت المغرب، أم لابد من دخول وقت العشاء ؟(1/50)
- الصحيح: أنها بعد الصلاة.
العلة في هذا والله أعلم: أن الصلاتين المجموعتين إذا جمعتا صار كالوقت الواحد.
مسألة: عدد صلاة التراويح:
في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت عندما سئلت عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان: ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
- وثبت عند مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ثلاثة عشرة ركعة، وهذا من فعله - صلى الله عليه وسلم -.
- وعليه اختلف أهل العلم في توجيه هاتين الروايتين:
1- القول الأول: ذهب إلى أنه اختلاف تنوع.
2- القول الثاني: ذهب إلى أنها إحدى عشرة ركعة غير راتبة العشاء.
3- القول الثالث: ذهب إلى أنها إحدى عشرة ركعة غير راتبة الفجر.
- والقول الأول أولى وهو أنها تنوع، وإنما كان الأكثر أنها إحدى عشرة ركعة.
- وقد نقل ابن عبد البر ( الإجماع على أنه لا حد لها، وأنها نافلة فمن شاء أطال القيام وخفف الركوع والسجود، ومن شاء عكس ) وهذا لاشك فيه، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن صلاة الليل فقال: هي مثنى مثنى.وكذلك نقل ابن دقيق العيد وشيخ الإسلام الإجماع على أن صلاة الليل لا حد لها.
- وعليه: فما نقل من التبديع وإطالة اللسان على من صلى أكثر من إحدى عشرة ركعة فهذا حقيقة قلة فهم لفقه النصوص.
قال الشافعي: أدركت ببلدنا بمكة الناس يصلون عشرين ركعة.
وقال مالك: أدركت الناس يصلون في المدينة ستاً وثلاثين ركعة.
وقال ابن القاسم: أرسل الوالي إلى الإمام مالك ليستشيره في أن يقلل الركعات فقال مالك: لا تغير شيئا مشى عليه الناس، وما عمله الناس هو الأولى.
- وقال شيخ الإسلام: ثبت أن الصحابة في عهد عمر كانوا يصلون عشرين ركعة ويوتر بثلاث.
- وقال الترمذي: أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم على أن صلاة التراويح عشرين ركعة.
مسألة: اختلفت الآثار في عدد الركعات التي كان يصلي بها.....: ــ(1/51)
1- ولقد تتابع أهل العلم المتقدمين على فعل ذلك، ومنهم الشافعي وأحمد، وكان أحمد يأمر الإمام أن يصلي إحدى وعشرين ركعة، ودليلهم:ــ
أ) ما رواه ابن أبي شيبة وغيره من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد أن عمر - رضي الله عنه - أمر أبيّاً وتميماً الداري رضي الله عنهما أن يصليا بالناس إحدى وعشرين ركعة.
ب) ما رواه عبدالرزاق عن داود بن قيس عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد به.
وقيل ثلاثة عشر ركعة، ودليلهم:ــ
ما رواه ابن إسحاق عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد به إلا أنه جعلها ثلاث عشرة ركعة.
وقيل إحدى عشرة ركعة، ودليلهم:ــ
ما رواه مالك ويحيى بن سعيد القطان و الدراوردي عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد به، وجعلوها إحدى عشرة ركعة.
- فاختلف أهل العلم في النظر إلى هذا الحديث. وذهب ابن عبد البر وابن العربي إلى إثبات رواية إحدى وعشرين، وقال ابن عبد البر: إن مالكاً وهم في روايته.
سؤال: ما الذي جعل ابن عبد البر يوهم مالكاً في ذلك ؟
الجواب: هو استفاضة أن أبيّاً كان يصلي إحدى وعشرين ركعة، قال ابن عبد البر: من غير خلاف بين الصحابة أن أبيا كان يصلي عشرين ركعة.
- وذهب بعض العلماء إلى الجمع بين الروايات:-
في أول الأمر أمر أبيا أن يصلي إحدى عشرة ركعة، إلا أنه رآهم لا يطيلون الصلاة فأمرهم أن يصلوا بإحدى وعشرين ركعة، وهذا جمع جيد.والذي جعلنا نذهب إليه أمران:
1: الروايات الأخرى.
2: الاستفاضة.
وجاء عند ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى إحدى وعشرين ركعة، وهذا مستند لهم، إلا أن هذا حديث ضعيف لا يصح، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
مسألة: ما الأولى: إحدى وعشرين ركعة، أم إحدى عشرة ركعة ؟
الجواب: الأولى الإقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عدداً وكيفية.
وهذا خلاف ما عليه زماننا الآن حيث يصلون عشر دقائق أو ربع ساعة أو نحو ذلك.(1/52)
- فإن قال لن أصلي على كيفية صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نقول الأولى تكثير الركعات.
ومن الخطأ ظن أن من يصلي إحدى عشرة ركعة مع تقصيرها أنه أفضل ممن صلى بأكثر من ذلك مع طول زمنها.فمن أراد السنة فليأخذها بجميعها..... وطولا أما أن.... بالعدد مع القصر فهذا ليس هو السنة.
فائدة : عمر - رضي الله عنه - كما عند ابن أبي شيبة قال: من كان سريع القراءة فليقرأ ثلاثين آية، ومن كان متوسطاً فليقرأ خمساً وعشرين آية، ومن كان بطيئاً فليقرأ عشرين آية.
مسألة: القنوت:
المقصود به: هو الدعاء مع رفع اليدين.
القول الأول: لا يقنت مطلقاً.وهي رواية عن أحمد رحمه الله.
القول الثاني: قول الزهري: في النصف الأخير من رمضان.وهو قول مالك والشافعي وابن سيرين وغيرهم.
القول الثالث: يقنت في السنة كلها إلا النصف الأول من رمضان، وهو قول قتادة.
- والصحيح: أن القنوت مشروع في كل وقت - ولا يوجد دليل يخصصه.وهذا هو القول الرابع.
وهذه هي الرواية المشهورة في المذهب، ولم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قنت في الوتر. قال أحمد: لا يصح في الباب شيءٌ؛ إلا أنه قد ثبت عن الصحابة أنهم كانوا يقنتون في الوتر.
مسألة: محل القنوت: هل هو قبل الركوع أم بعده؟
- جاء في السنن من حديث أبي بن كعب - رضي الله عنه - أنه جعل القنوت بعد الركوع. غير أن لفظة ( بعد الركوع ) لفظة شاذة لا تصح. والصواب أن يقال: لا يثبت في الباب أي حديث عن رسول اله - صلى الله عليه وسلم - في مكان القنوت ( الوتر).
- واستدل من قال إنه بعد الركوع: بقنوت النوازل.
ففي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت في النوازل بعد الركوع وهذا نص الإمام أحمد وبه قال الشافعي.
- وقيل: بل هو قبل الركوع: وهذا ما عليه أكابر الصحابة.وهو قول مالك وأبي حنيفة.
- والذي يظهر والله أعلم أن الأمر واسع؛ لأن كلاً منهما محلٌ للدعاء.
ومستنده فعل الصحابة رضي الله عنهم.(1/53)
مسألة: دعاء القنوت:
- في السنن من حديث الحسن - رضي الله عنه -: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعاء القنوت أن أقول: (( اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت،... الدعاء المشهور.
- واستدل به على أنه يشرع في دعاء القنوت هذا الدعاء؛ إلا أن الصواب أن لفظة: ( في دعاء القنوت) غلط ولا تصح. فالحديث رواه بريد عن أبي مريم عن أبي الحوراء السعدي عن الحسن بن علي وبه زاد بعضهم في روايته عن بريد لفظة: (( علمنا في دعاء الوتر )) منهم يونس بن أبي إسحاق وأبو إسحاق، لكن رواه شعبة وغيره عن يزيد فلم يذكر القنوت ولا الوتر.
والمحفوظ من حديث شعبة رحمه الله بلفظ: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أدعو: اللهم اهدني فيمن هديت...بدون لفظ ( القنوت).والوتر قال به ابن خزيمة: ولم يذكر شعبة القنوت ولا الوتر وشعبة أحفظ من عدد مثل يونس، وأبو إسحاق لا يعلم أسمع هذا الخبر من بريد أو له عنه، ولست أعلمه ثابتا.
- وقد ذهب ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أن الأفضل أن يستهل القنوت بالحمد؛ لحديث فضالة بن عبيد في السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله أو الثناء عليه ثم ليصل علي، وكما سمع رجلاً يدعو ولم يصل عليه فقال: عجل هذا.
مسألة: الختمة:
قال الفضل بن زياد سألت الإمام أحمد: أختم القرآن أجعله في الوتر أو في التراويح ؟
قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاء بين اثنين، قلت كيف أصنع ؟
قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع لنا ونحن في الصلاة وأطل القيام. قلت بم أدعو؟ قال: بما شئت.
قال: ففعلت بما أمرني وهو خلفي يدعو قائما ويرفع يديه.
وقال حنبل: قلت للإمام أحمد: إلى أي شيء تذهب في الختمة ؟(1/54)
فقال وجدت أهل البصرة والحجاز وسفيان بن عيينة يفعلونه. وقد روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه ختم في صلاته؛ ثم إن السلف أطبقوا على مشروعيتها وعلى العمل بها من غير نكير.
والعلماء تتابعوا عليها ولم ينكرها أحد؛ ثم إن لها أصلاً فقد ثبت عن أنس أنه كان يختم المصحف ويجمع أهله ويدعو ( يختم ). وقد ثبت عن ابن عباس وأبي هريرة وجملة من الصحابة: أن الدعاء في الختمة من جملة مواضع الإجابة. وأما من ذهب إلى أن الختمة بدعة، فهذا القول أقرب إلى البدعة؛ لأن أمة بعد أمة تتابع من غير نكير، ثم إن من قال بالختمة أعلام يستحي الإنسان من ذكر نفسه عندهم، وقد نقل عن الإمام مالك أنه كرهها وقال: ليس عليه عمل الناس. وفي هذه الرواية نظر لا سيما أنه نقل عنه روايات أخرى بجوازها، ومع ذلك لم يصرح هو بالبدعية.
فلذلك من الغلط الإنكار على من فعلها، ومن الغلط تركها والجماعة يريدونها.……
- قوله: ( لم يخف علي مكانكم ) - هنا مسألة:
مسألة: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أسري به افترض عليه خمس صلوات مكتوبات، وعلم أن الله لن يزيد عليه من خلال قول الباري:- ((هن خمس في العدد خمسون في الميزان، { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } .
فقوله { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } فكيف يخشى أن تفرض ؟
- توجيهه من وجهين:
1- أن قوله جل وعلا لا يبدل القول لدي عائد إلى الأجر لا على الصلاة، فإن زيدت فسوف يزيد الأجر.
2- أن هذا مخصوص بالصلوات اليومية، أما ذوات الأسباب التي ترتبط بأوقات مخصوصة في العام فليست داخلة، ولذلك قال من قال بوجوب صلاة الكسوف إذ هي ليست يومية وإنما لها زمن مخصوص.
627- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان رسول الله إذا دخل العشر – أي العشر الأخير من رمضان –شد مئزره و أحيا ليله و أيقظ أهله )) متفق عليه.
شرح الحديث:-
- في الحديث بيان فضل القيام في شهر رمضان خصوصاً في العشر الأواخر.(1/55)
- وفيه أن العمل - الخير- يزداد.
- وفيه أن العشر الأواخر أفضل من غيرها؛ لأن فيها ليلة هي خير من ألف شهر.
- قوله (( شد مئزره )) المئزر: 1- قيل: كناية عن ترك الجماع. 2 -وقيل: الشدة في العمل.
(( أحيا ليله )): سؤال: هل المراد الليل كله ؟
الجواب: لا لأنه لم يثبت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً كما جاء ذلك في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها. و قال تعالى: { قم الليل إلا قليلا } .
قوله: (( أيقظ أهله )) فيه فائدة: يستحب للإنسان إيقاظ أهله، وفي السنن من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( رحم الله امرأ قام من الليل فأيقظ امرأته فإن هي أبت نضح في وجهها الماء ورحم الله امرأة قامت من الليل فأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء )). وهذا إذا لم يحصل فيه مفسدة.
وفيه فائدة تربوية: أنهم يتربون على ذلك وكذلك الأولاد من بعد.
{باب ما جاء في صيام التطوع}
- صيام التطوع من أفضل القربات ومن أجل العبادات؛ وفي الحديث:(( والصوم لي وأنا أجزي به )).
- والصوم سر بين العبد وربه.
- في الصوم تتجلى صدق محبة العبد لربه؛ لأنه يعلم أنه خالقه، يحب هذه العبادة فيتقرب إليه بها.
- في الصوم كف عن المحبوبات، وأي محبوبات ؟ إنها محبوبات النفس البشرية.بل هي محبوبات فطرية.
فطرة من أجل أن يثبت العبد أن ما سوى الله فليس محبوباً، فإن العبد فطرةً يحب الأكل والشرب والجماع، ولذلك تركها الإنسان لله.
- وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء )). فاختيار الصوم مع أن الصلاة أفضل دليل على ما ذكرنا وإن كان في الصوم فائدة حسية؛ إذ أن العبد له شهوة شديدة ولا تزول إلا أن يلجأ إلى الله ويصوم.(1/56)
- ومن أعظم حكم الصوم: هي إيجاد دليل يصدق العبد فيه مع ربه في افتقاره وتذلله.
- وصوم التطوع مكمل للفرائض، والناس عن هذا المعنى غافلون.
628- قال ابن عبد الهادي رحمه الله عن أبي قتادة الأنصاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم عرفة فقال: (( يكفر السنة الماضية والباقية ))؛ وسئل عن صوم عاشوراء فقال (( يكفر السنة الماضية )). وسئل عن صوم يوم الاثنين فقال (( ذلك يوم ولدت فيه وبعثت فيه و أنزل علي فيه )) رواه مسلم.
شرح الحديث:-
- يوم عرفه هو اليوم التاسع من شهر ذي الحجة.
- وقد استحب العلماء صيامه لغير الحاج لهذا الدليل؛ لأن فيه إحداث عبادة في أفضل الأيام.
- ولأن فيه تشبهاً بالحجاج، ووجه ذلك هو: الطاعة.
- وفيه دليل على مشروعية صيام العشر وهو قول أهل العلم: يستحب صيامها.
- وقد استنكر بعض أهل العلم صيام هذه الأيام.
وقال: لم يأت دليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب في صيامها.
بل إن مسلماً روى في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائماً العشر غير أن هذه حجة عليلة لما يلي:
1- لأن عدم فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدل عدم المشروعية.وقد رغب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أشياء ولم يفعلها كما رغب في قوله:(( عمرة في رمضان تعدل حجة معي )) ولم يعتمر.
2- أن عائشة رضي الله عنها عرف عنها أنها في بعض الأحيان تنفي فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - لشيء وقد فعله، وإنما هي تحكي ما ترى كقولها: (( من حدثكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال قائما فلا تصدقوه )) ومعلوم أنه فعله
3- أن عائشة رضي الله عنها أرادت أن تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصمها كاملة، فقد يكون صام بعضاً منها، وفعل البعض لا يلزم منه ترك الكل.
- فإن قالوا: ظاهر النص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصم العشر.(1/57)
- فنكون معهم ظاهريون نقول: نعم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت عنه أنه صام العشر كلها وإنما الذي يجوز هو صوم التسع.وهذا ذكره الإمام أحمد رحمه الله.
4- وإذا كنتم تريدون دليلاً بكل عبادة فأتوا بدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصدق في هذه العشر وإن لم تجدوا فقولوا إنه لا يشرع الصدقة أيضا.
5- ذكر الإمام أحمد أن حديث عائشة مرسل وليس بموصول وهذا توجيهه قوي.
6- ثبت في حديث ابن عباس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغب في العمل في هذه العشر ولم يستثن شيئا. فدل على عموم العبادة.
مسألة: اختلف أهل العلم رحمهم الله في الحاج – هل يصوم يوم عرفه أم لا ؟
القول الأول: قال الترمذي: وأكثر أهل العلم على أنه لا يستحب للحاج أن يصوم عرفه. وهو قول مالك والمشهور عند أحمد والشافعي. الدليل: حديث أم فضل في شرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قدح لبن.
القول الثاني: يستحب للحاج الصوم، وهو قول الشافعي في القديم ورواية عن أحمد بشرط ألا يضعف.
- والصحيح: أن الأفضل عدم الصيام.
السبب: لأنه لا شك أن الحاج إذا صام سوف تكون رغبته في العمل أقل، وجنس الدعاء والذكر والتلبية في عرفة أفضل من جنس الصيام.
- قوله (( السنة الماضية )) قيل: هي السنة التي هو فيها.
- قوله (( السنة الباقية )) قيل: هي السنة التي سوف يستأنفها.
- وقوله (( السنة الباقية )) العام الذي هو فيه , و (( السنة الماضية )) العام الذي انصرم.
- وظاهر اللفظ هو الثاني.
مسألة: يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر محرم، ومحرم هو الشهر الأول من العام الهجري.
- وعند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم )).
1- قيل إن من أسباب منع الحاج عن صيام يوم عرفة، لأنه عيده - ورد عن ابن عباس قوله: يوم عرفة وأيام التشريق أيام أكلٍ وشرب وذكر لله.(1/58)
مسألة: أفضل الأيام صياماً في الشهر المحرم عاشوراء , وقد مر بأربع مراحل:
الأولى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه بمكة وكانت تصومه قريش , كما عند البخاري عن عائشة رضي الله عنها فكان من هدي كفار قريش صيام يوم عاشوراء ويتعبدون لله بصيامه , ولعل هذا من بقايا دين إبراهيم.
الثانية: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة صام - صلى الله عليه وسلم - هو وأمر الناس بصيامه وهذا جاء مصرحاً به في حديث ابن عباس في الصحيح.
الثالثة: لما افترض صيام رمضان نسخ الأمر بصيام عاشوراء وهذا جاء مصرحاً به في الصحيح.
الرابعة: أنه يصام التاسع والعاشر وهذا جاء مصرحاً به من حديث ابن عباس في الصحيح.
وهذا المراتب ذكرها ابن رجب رحمه الله – وهي تجمع شتات الموضوع.
مسألة: تحديد اليوم.
قيل: هو اليوم التاسع من شهر محرم بدليل ما جاء في صحيح (مسلم) من حديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(( لأن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك العاشر وانتقل للتاسع مخالفة لليهود, وهذا رأي ابن عباس. إلا أن قوله - رضي الله عنه - استنكره الصحابة والأئمة. وإنما هو اليوم العاشر.
مسألة: مراتب صيام يوم عاشوراء:
الأفضل صيام التاسع والعاشر والحادي عشر وقد جاء في هذا حديث رواه أهل السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( صوموا يوماً قبله ويوماً بعده )) إلا أنه حديث ضعيف جداً.
صيام التاسع والعاشر لحديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لأن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر )).
صيام العاشر والحادي عشر لما رواه أهل السنن عن رسول الله )) قال: صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده , لكن الحديث ضعيف.
صيام يوم عاشوراء فقط, وهذا ثابت من فعله - صلى الله عليه وسلم -.
مسألة: حكم إفراد يوم عاشوراء بالصيام ؟(1/59)
القول الأول: لا يشرع إفراده.الدليل: هو أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة اليهود, والتشبه لهم محرم
القول الثاني: يجوز إفراد يوم عاشوراء بالصيام ولا يكره, وتزول الكراهة بفعل المخالفة مرة واحدة.
الدليل: أليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالصلاة بالنعال مخالفة لليهود ومع ذلك يصلي بدون نعال , وعليه فليس كل أمر بالمخالفة يقتضي التكرار.
- والصحيح جوازه بلا كراهة.
مسألة: صوم شهر الله المحرم ؟
جاء في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم )).
وأفضل الأيام في شهر الله المحرم هو اليوم العاشر.
فائدة: يوم عاشوراء أجره أقل من أجر يوم عرفة, لأنه يكفر سنة واحدة وبهذا نعلم أن الحديث المروي عن أبي قتادة - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (( صوم عرفة يكفر السنة التي قبله , وصوم يوم عاشوراء يكفر به السنة الماضية والقابلة )). فإن هذا الحديث مما يشبه به أهل المصطلح بأنه مقلوب , ( أي انقلب متنه على الراوي ).
مسألة: صوم يوم الاثنين.
ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي قتادة عند مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: (( فيه ولدت وفيه أنزل علي )) ويوم الاثنين يوم بعث فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد استحب جماهير أهل العلم صوم يوم الاثنين. واختلفوا في العلة التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
هل هي سبب التشريع ؟ أم هي وصف له ؟ أم هي أحداث حدثت اتفاقاً مع شرف اليوم.
المسألة لها ثمرة عظيمة. فإن قلنا إنها بسبب الأحداث (عظم اليوم) صار لبعض أهل العلم مدخلاً في تعظيم الأيام كيوم الإسراء أو فتح مكة وما شابه ذلك.
وإن قلنا هو معظم عند الله ووقعت هذه الأشياء اتفاقاً لم يكن لهؤلاء مدخلاً في ذلك , وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما صامه لتعظيم الله.(1/60)
- وقد ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( تعرض الأعمال في كل يوم اثنين وخميس... )) الحديث.
إذن هذا اليوم فيه مزية عن غيره من الأيام فإنه من الجميل أن يرفع العمل والعبد صائم. وعليه فهذا اليوم معظم عند الله , وأن وقوع هذه الأشياء ليست سبب الصيام وإنما حصلت اتفاقاً. وقد ثبت أن بعض الأيام فيها مزايا لم يصمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- وقد يقال إن التعظيم للأيام يحتاج فيه إلى دليل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - , فإن العبد لا يستطيع بفكره أن يعظم شيئاً من الأيام إلا بدليل.
وفي البخاري أن يهودياً قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إن عندكم يا عمر آية لو أنزلها الله لنا لجعلنا ذلك اليوم عيدا, فسأله عمر عنها فقال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً... الآية. فقال عمر: إني لأعلم أين نزلت وأي يوم نزلت.
- إذن ما يدندن حول بعض من يقول: في عيد المولد والإسراء غير صحيح لما ذكرنا.
أما ما رواه أهل السنن من حديث أبي عاصم (الضحاك بن مخلد) الإمام المشهور عن محمد بن رفاعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تعرض الأعمال إلى الله يوم الاثنين ويوم الخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم فإن محمد بن رفاعة من مجهولي الحال , ولم يوثقه أحد من الأئمة سوى ابن حبان. وقد رواه مالك والدراوردي وجماعة من الأئمة الإثبات عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( تعرض الأعمال يوم الاثنين ويوم الخميس )) وهذا عند مسلم , ولم يذكروا الزيادة , إذن الزيادة من محمد بن رفاعة.
مسألة: صيام يوم الخميس:
روى مسلم في صحيحه حديث أبي هريرة السابق.(1/61)
روى الحديث شعبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ سئل عن يوم الاثنين و الخميس , فزاد الخميس.
قال مسلم وفي حديث شعبة زيادة لم نذكرها لأنها وهم وهو كذلك, فإن زيادة (الخميس) وهم , وقد اختلف على شعبة: مرة روى الحديث وذكر الخميس , ومرة لم يذكره.
ولهذا السبب ذهب بعض العلماء إلى أنه لم يثبت في الخميس حديث صحيح.
بينما ذهب جماهير العلماء إلى صيام يوم الخميس وأصح حديث في الباب هو حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد وغيره أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس , والحديث لا بأس به بشواهده.
إذن صيام يوم الاثنين أقوى من صيام يوم الخميس.
629- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن أم الفضل بنت الحارث؛ أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال بعضهم: هو صائم؛ وقال بعضهم: ليس بصائم؛ فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره فشربه. متفق عليه؛ واللفظ لمسلم.
شرح الحديث:-
فيه فائدة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب وهو في عرفة.
وقد روى النسائي في سنته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يوم عرفة في عرفة , لكن الحديث الصواب وقف على أبي هريرة - رضي الله عنه -.
فائدة: كل الأحاديث التي ورد فيها النهى عن صيام يوم عرفة فهي معلولة. وسبق لنا أن الصيام يضعف البدن , والمطلوب في عرفة الدعاء والذكر.
630- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أبي أيوب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر )) رواه مسلم.وقد روي موقوفاً.
تخريج الحديث:-
رواه مسلم من طريق: سعد بن سعيد الأنصاري عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري.
وقد رواه مسلم في الصحيح محتجاً به , لكن سعد بن سعيد هذا ضعيف , ضعفه أحمد والنسائي.(1/62)
قال أحمد: (يحي بن سعيد): الثقة المأمون.؟ ( وعبد ربه بن سعيد): لا بأس به , (وسعد بن سعيد) ضعيف. وقد رواه عن سعد بن سعيد جماعة منهم: ابن المبارك وابن نمير, وأبو معاوية الضرير.لكن رواه النسائي وغيره من طريق: سفيان بن عينية عن سعد بن سعيد عن عمر بن ثابت عن أبي أيوب الأنصاري موقوفا. قال الحميدي لسفيان لما حدّث به: يا سفيان الناس يرفعونه, فقال سفيان للحميدي: اسكت أنا أعلم الناس بذلك.
قاعدة: الحديث إذا كان مخرجه من رجل ضعيف, واختلف الأئمة على الضعيف فإن الحديث لا يقبل, والوهم يكون في المخرج.
تنبيه: يحي بن سعيد رواه عنه حفص بن غياث إذن الإسناد:...
ورواه عبد الملك بن أبي بكر الحضرمي, وإسماعيل بن إبراهيم (الصانع) فقالا عن يحي بن سعيد عن عمر بن ثابت؟ لكن هذان الطالبان الراويان عن يحي لا يعرفان. إذن لا فائدة في الحديث , وتقدم رواية حفص بن غياث.
تنبيه آخر: رواية عبد ربه بن سعيد: شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمر بن أبي ثابت عن أيوب موقوفاً رواها النسائي, وهذا إسناد صحيح. إذن الحديث موقوفاً: ويرجح الوقف أحمد.
فائدة: جاء في الباب حديث ثوبان عند أحمد: قال أحمد هو أصح حديث في الباب. وأومأ إلى هذا أبو حاتم فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( صيام رمضان وست من شوال تمام سنة )): لا بأس به.
مسألة: من خلال ما ذكرنا: اختلف العلماء رحمهم الله في حكم صيام ست من شوال:
القول الأول: ذهب أحمد والشافعي وجماعة من السلف إلى استحباب صيام الست الدليل: حديث الباب.
القول الثاني: ذهب مالك وأبو حنيفة وبعض السلف إلى أن هذه الأيام لا تصام ولا يشرع صيامها الدليل:
لا يصح في الباب حديث على ذلك.
أن إتباع هذه الأيام برمضان قد يؤدي إلى أن يزيد الناس في شهر رمضان فيظنونه واجباً عليهم
والصحيح: أن صيام هذه الأيام مستحب , الدليل:
لما سبق من الأدلة.
ولأنه يكون كالراتبة البعدية لرمضان , ويكون بذلك مكملاً للفريضة.(1/63)
631- قال ابن عبد الهادي رحمه الله وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم عن وجهه النار سبعين خريفاً )) متفق عليه، و اللفظ لمسلم.
شرح الحديث:-
هذا الحديث من أفضل الأحاديث في فضل الصيام؛ حديث أن من صام يوماً في سبيل الله أبعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً، و (الخريف) عند العرب: السنة. قوله (( في سبيل الله )): اختلف العلماء في معناه: القول الأول: المراد به الجهاد، فيكون من شرط الغنيمة في الأجر: الجهاد مع الصوم
القول الثاني: المراد بذلك مرضات الله. رجح هذا القرطبي وابن حجر وغيرهما.
وعلى كل فقد ثبت أن سبيل الله: هو الطريق الموصل إلى مرضات الله. قال تعالى: { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ... }
وليس هو محصور في الجهاد، وإنما هو كل ما يرضي الله من شعائر الإسلام.
632- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان )) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
شرح الحديث:-
في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسرد الصوم النفل؛ لقولها: (( يفطر حتى نقول لا يصوم )).
بل ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن صيام الدهر. وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا صام من صام الدهر. وفي الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستكمل شهراً كاملاً في صيامه. لقول عائشة رضي الله عنها:(( ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيام شهر قط إلا في رمضان )).(1/64)
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صام شهراً كاملاً غير رمضان.
وفي الحديث بيان فضل صيام شهر شعبان؛ لقولها: ((كان يصوم شعبان إلا قليلاً )) وعند مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحرى صيام شهر يتحرى فضله مثل شعبان )).
مسألة: اختلف العلماء رحمهم الله في حرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على صيام شهر شعبان:
القول الأول: لأنه شهر تعرض فيه الأعمال. الدليل: ما رواه أحمد من حديث أسامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صيام شعبان؟ فقال:(( ذاك شهر تعرض فيه الأعمال فأحب أن يعرض عمل وأنا صائم )) وإسناده جيد.
القول الثاني: لأنه شهر تكتب فيه الآجال.الدليل: ما رواه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( إن الله يكتب الآجال في شهر شعبان )) غير أن الحديث ضعيف.
القول الثالث: من أجل تعظيم رمضان. الدليل: ما رواه الترمذي من طريق: صدقة بن موسى عن ثابت البناني عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الصوم أفضل بعد رمضان فقال ((شهر شعبان تعظيم لرمضان )) والحديث ضعيف. فإن الفريضة إذا تهيئ لها بمثلها فهذا تعظيم لها كما في ست شوال
القول الرابع: أنه شهر يغفل فيه الناس. الدليل: حديث أسامة (( ذاك شهر بين رجب ورمضان يغفل فيه الناس )) وذلك لأن شهر رجب محرم والناس يعظمونه، وكذا رمضان معظم، وشعبان ليس فيه شيء من ذلك، ولذلك لما كان الناس غافلون فيه كانت العبادة فيه أفضل؛ كما جاء عن مسلم من حديث معقل بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( العبادة في الهرج كهجرة إليّ )).
وفي السنن أن الله عز وجل عجب من عمل رجل كان ثالث أصحابه حيث ساروا ليلاً حتى تعبوا فتوقفوا فناموا إلا رجلاً قام يصلي،فتميز بعمله دونهم.(1/65)
القول الخامس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عمل شيئاً أدامه، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يترك بعض الأشياء لانشغاله فيقضيها ( كالاثنين مثلاً ونحوها من الأيام الفاضلة ) فينشغل إلى أن يأتي شعبان فيصوم فيه ويوافقه حديث عائشة رضي الله عنها: أنها كانت لا تستطيع قضاء صيامها من رمضان إلا في شعبان، وهذا تشبه في صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعبان.
مسألة: ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -:(( أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم )).
ولم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيامه كصيام شعبان !!!
ومن أجل ذلك وقع الخلاف: هل الأفضل صيام شهر محرم كاملاً أم شعبان أم ماذا ؟
الجواب: أولاً: لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيام شهر كامل؛ وعليه: فلا يصام شهر محرم أو شعبان كاملاً.
ثانياً : الذي ثبت في الأدلة: صيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شعبان أكثر من صيامه من محرم.
ثالثاً: التفضيل بين شهر محرم وشعبان تفضيل وجيه:
فصيام شهر محرم أفضل من صيام شهر شعبان من وجه والعكس.
فصوم شهر محرم: من حيث أنه يوافق الشهر المحرم أفضل من شعبان؛ لعدم حرمة شعبان.
وشعبان أفضل: لأنه قبل رمضان ويسبق فريضة وتعرض فيه الأعمال. فيكون أفضل من محرم.
مسألة: هل يشترط لصيام ست من شوال إكمال العدة من رمضان ؟
مثاله: ( لو أن حائضاً – مثلاً - عليها صيام من رمضان، فهل تصوم القضاء أولاً ثم تصوم الست من شوال حتى ولو انتهى ( شهر شوال) – كالنفساء – أم يجوز لها أن تصوم ست شوال قبل قضاء الصيام ؟)
القول الأول: لا ينال الأجر من ابتداء ستة أيام من شوال قبل إكمال الشهر.
الدليل: ظاهر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ((من صام رمضان ثم اتبعه ستاً من شوال... )) ووجه الدلالة:(1/66)
1- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من صام رمضان )) ومن لم يتم الشهر فلم يصم رمضان.
2- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:(( أتبعه )) والضمير يعود على صوم رمضان لا على الشهر.
القول الثاني: أنه يدرك الأجر من صام ستة أيام بعد رمضان من شوال ولو لم يتم الصيام من رمضان في شوال (قضاءً). الدليل: أن ستة أيام من شوال وقعت في زمنها، وهو شهر شوال ولم يستثن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحداً، بأن من الناس من لا يمكنه صيام الشهر في رمضان، فسوف يقضيه بعده، ولم يستثنه - صلى الله عليه وسلم -. أما استدلالهم بالحديث فسبق أن الحديث موقوف على أبي أيوب. والثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث ثوبان في قوله: (( صيام رمضان وست من شوال تمام صيام سنة )) فليس في الحديث اشتراط أن يكون الصوم بعد إتمام العدة لا إيماءً ولا ظاهراً هذا هو الصحيح.
مسألة: من لم يستطع الصوم في شوال لعذر – أياً كان العذر – هل تقضى الأيام في غير شوال ؟
الجواب: خلاف على قولين:
والصحيح: يحق له القضاء؛ وذلك لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن العبادات تقضى إذا كان العبد قد تركها لعذر، فمثلاً: الرواتب: ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضاها في غير وقتها.
وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله في الصحيح: (( من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )).
633- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا يحل للمرأة أن تصوم وزجها شاهد إلا بأذنه )) متفق عليه واللفظ للبخاري.
تخريج الحديث:-
ولأبي داود: (( غير رمضان )). زيادة أبي داود جاء بإسناد على شرط الشيخين، وهي زيادة وجيهة، وقد جاء الزيادة من عدة طرق منها: ما رواه عبد الرزاق عن همام عن أبي هريرة. ومنها: ما رواه أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.(1/67)
مسألة: صوم التطوع بالنسبة للمرأة لا يحل إلا بإذن من الزوج، وعلة ذلك: أن الزوجة تمام منفعتها هو استمتاع الزوج بها،وصومها يذهب هذه المنفعة وتوقعه في حرج من حيث:-
1- إما أن يفطرها ويقطع عبادتها. 2- أو يتركها ويترك حاجته منها.
- وفي هذا دليل على عظم حق الزوج. وفيه دليل على القاعدة: الواجبات مقدمة على المستحبات عند التعارض.
مسألة: الإذن قد يكون عرفياً وقد يكون لفظياً:
1- اللفظي: هو أن تكون المرأة تعلم أن زوجها لا يريد صيامها، فلا بد من الاستئذان وكذا لو شكت هل يوافق أم لا، فلا بد من الإذن.
2- العرفي: أن المرأة تعلم أن زوجها لا يمنعها إذا صامت، فهنا لا يلزم الاستئذان، وخصوصاً إذا فرح.
وفيه دليل على أن الزوج. وجاء في بعض الروايات: ((غير رمضان )) عند أبي داود.
ومنها دليل على أن صوم رمضان لا يحتاج إلى إذن وهو كذلك.
قاعدة: إذا تعارض حق الله وحق العباد قدم حق الله، إلا ما أسقط الله فيه حقه.
مثل: صلاة الجمعة للعبد: فقد أسقط الله عنه حضوره الجمعة.
مسألة: وفيه أن قضاء رمضان لا يلزم فيه إذن الزوج بدليل: (( غير شهر رمضان )).
وذهب بعض العلماء إلى أنه يلزم إذن الزوج في القضاء. الدليل: فعل عائشة رضي الله عنها.
والصحيح: أنه لا يلزم إذن الزوج في قضاء رمضان. الدليل: لأن قضاء الواجبات على الفور،فإذا أرادت المرأة تعجيل القضاء فهو مقدم على إذنه.
{باب في الأيام المنهي عن صيامها}
- عقد المؤلف - رضي الله عنه - هذا الباب ليبين أن هناك أيام ينهى عن صيامها.
- وفيه دليل على أن العبادات مبنية على التأسي والاتباع.
634- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين: يوم الفطر و يوم النحر )) متفق عليه.
شرح الحديث:-
فيه النهي عن صوم يوم الفطر ويوم النحر.(1/68)
فائدة: وسمي يوم الفطر بذلك؛ لأنه أول يوم يفطر فيه بعد الصوم، ولأنه يوم يجب فيه الفطر.
فائدة: وسمي يوم النحر بذلك؛ لأن الناس يذبحون فيه أضحياتهم وهداياهم،وهو من أجل العبادات،
وقد سماه الله يوم الحج الأكبر.
مسألة: اتفق أهل العلم بل أجمعوا على أنه لا يجوز صوم يومي الفطر والنحر لا قضاءً ولا نذراً ولا تطوعاً. نقل الإجماع طائفة من العلماء. (ويأتي النذر).
مسألة: حكم صيام يومي النحر والفطر لمن نذر صومهما:
القول الأول: الجمهور: من نذر صوم يومي الفطر والنحر أو أحدهما:فلا ينعقد نذره ولا يلزمه.
القول الثاني: الحنفية: يلزمه القضاء في غير هذين اليومين، وإن صام فيهما أجزأه وأثم، لكن هذا خلاف الدليل، والنهي يقتضي الفساد وهذا نذر معصية.
635- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن نبيشة الهذلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله - عز وجل - )) رواه مسلم.
شرح الحديث:-
قوله أيام (التشريق ) هي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة.
فائدة: سميت أيام التشريق بذلك: لأن الناس كانوا عندما يضحون يقومون بتقطيع اللحم وتجفيفه ونشره.
وقيل: لأن الناس كانوا لا ينحرون إلا بعد شروق الشمس.
قوله (( أيام أكل وشرب وذكر لله )) في الحديث فضيلة النحر وتكثيره، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى مئة ناقة، وذبح عن نسائه البقر، وقد أهدى جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم الإبل والبقر والضأن، وأكثروا من ذلك مما يدل على فضيلة النحر فلذلك شرع الأكل والإطعام منها، قال تعالى: { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } وكلما كثر النحر كثر الإطعام.
وفيه بيان أنه لا يشرع فيه الصوم، لأنه إذا صام الإنسان صار أكثر يومه صائم ولا يأكل فتزول هذه الحكمة.(1/69)
قوله (( وذكر لله )) فيه فضيلة الذكر خاصة في هذه الأيام، والإنسان لا يخلو من عبادة، فإذا كان يأكل ويشرب قد يغفل عن ذكر الله، فنبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
فائدة: استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أنه يشرع التكبير المطلق في هذه الأيام ( يعني أيام التشريق) وأنه ليس المقيد فقط؛ لأن المقيد يكون دبر الصلوات. وفي أدبار الصلوات ذكر فلم يتميز بشيء فدل على ذلك.
- والصحيح: أنه في أيام التشريق يجتمع التكبير المطلق والمقيد.
مسألة: حكم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي:
القول الأول: المالكية والحنابلة: لا يشرع صيام هذه الأيام إلا لمن لم يجد الهدي.
القول الثاني: الحنفية والشافعية: لا يجوز صيام هذه الأيام مطلقاً.
لكن هذا معارض لما رواه البخاري في صحيحه من حديث عائشة، وابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي؛ والدليل صريح بجواز صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي وهو موافق لقول الله تعالى: { فمن لم يجد( أي الهدي ) فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم... } وأيام التشريق من أيام الحج.
636- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وروى البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن سالم عن عمر قال: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي.
637- قال ابن عبدالهادي رحمه الله عن ابن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ولا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي؛ ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم )) رواه مسلم.
تخريج الحديث:-(1/70)
في الحديث علة وهي الإرسال. والحديث ساقه مسلم من طريق: حسين الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة وحسين الجعفي من الثقات وشيخه ثقة؛ إلا أن حسيناً خولف: فرواه معاوية بن عمرو عن زائدة به مرسلاً و رواه جماعة من الثقات عن ابن سيرين مرسلاً منهم: أيوب وعاصم الأحول وابن عون. ثم إن هشام بن حسان رواه عن سيرين به مرسلاً كما في رواية أخرى له؛ ثم إنه قد اضطرب في متنه، فبعضهم يذكر الصيام لا قيام الليل، وهنا ذكر..
ولهذا رجح أبو حاتم وأبو زرعة والدار قطني أن يكون الحديث مرسلاً عن ابن سيرين.
سؤال: لماذا رواه مسلم في صحيحه مع أنه مرسلاً؟
الجواب: إنما رواه مسلم في الشواهد.
ثم إن المحفوظ من ثمانية أوجه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في حديث أبي هريرة: (( لا تخصوا يوم الجمعة بصيام إلا أن تصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده. أو كما جاء في الحديث.
ولهذا فالمحفوظ من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يوم الجمعة خصوصاً. أما النهي عن قيام ليلتها فهو عن أبي هريرة مرسلاً؛ بل لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام.
فائدة: نقل النووي رحمه الله الاتفاق على كراهية تخصيص ليلة الجمعة بقيام.
وهو كذلك؛ فإن الأيام والليالي لا تخص بعبادة إلا بدليل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر فضلها أو حث على العمل فيها أو عمل فيها هو - صلى الله عليه وسلم -.
فمن خص يوم الجمعة بصيام يعتقد أنها تشرف على غيرها ففعله ليس بمشروع بل هو من قبيل البدع، فلم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه يخصون هذه الليلة.
مسألة: صوم يوم الجمعة:
القول الأول: ذهب أكثر العلماء وطائفة من السلف، بل لا يكاد يعلم للصحابة مخالف كما قال ابن حزم: أنه يكره تخصيص يوم الجمعة بصيام. الدليل: 1- حديث الباب.(1/71)
2- ما جاء في الصحيح أن جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي صائمة، فقال لها: أصمت أمس ؟ قالت: لا، قال أتصومين غداً ؟ فقالت: لا، قال: فأفطري.
فدلالة الحديث واضحة على عدم تخصيص يوم الجمعة بصيام.
القول الثاني: الحنفية والمالكية: لا يكره صوم يوم الجمعة. الدليل: ما رواه النسائي في سننه بإسناد جيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يوم الجمعة.
- والصحيح القول الأول كراهية صيامه.
وأما ما استدل به أصحاب القول الثاني فهو مخصوص بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم السبت كثيراً والخميس، كان يتحرى صيامه.
وسبق لنا أن ابن حزم نقل لنا أن هذا هو قول الصحابة ولا يعلم لهم مخالف.
مسألة: ما هي علة النهي عن إفراد الجمعة بالصيام ؟
القول الأول: لأنه بمثابة العيد، والعيد لا يشرع فيه الصيام،
لكن هذا التعليل: ليس بجيد؛ لأن العيد صيامه حرام، والجمعة صيامه مكروه. والعيد لو سبق بيوم قبله أو بعده فصام فيه لم يصح صيامه. ولا ينفعه.
القول الثاني: أن صيامه يضعف البدن عن الطاعة، والمشروع في يوم الجمعة الصلاة والتبكير إليها وكثرة النوافل؛ فإنه يوم عظيم، فإذا صام الإنسان ضعف عن العبادة،
لكن هذا التعليل: ليس بجيد؛ لأنه إذا صام يوماً قبله أو يوماً بعده فعلة الضعف موجودة ولم تزل.
القول الثالث: أنه نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أوضح تعليل؛ لأنه ليس أمر أو نهي نعرف العلة منه، العلة الحقيقية في كل أمر ونهي إنما هي تعبدية.
قاعدة: العلل التي لم ينص الشارع على علتها تتبعها يثبت خروماً تفسد عليك أشياء ومثل ذلك في المناظرة.
سؤال: ما حكم صيام يوم الجمعة مفرداً إذا لم يستطع الإنسان أن يصوم إلا هذا اليوم ؟
الجواب: القول الأول: الكراهة مطلقاً، ولا يخصص هذا اليوم بصيام.(1/72)
وإذا كان عند ست من شوال تريد صيامها فنقول: صم يوماً قبله أو بعده، من أجل اجتناب الكراهة.
القول الثاني: يجوز صيامه، وأما النهي فهو منحصر بالتخصيص، أي تخصيص يوم الجمعة، بسبب تعظيمه فإن الأيام عندك سواسية، ولم تخص يوم الجمعة إلا لمعنى زائد في نفس اليوم، وهذا الذي صام لم يخص اليوم إلا لمعنى زائد فيه هو، ووصفاً قائماً فيه ( في المتعبد).
وهذا ما رجحه ابن عثيمين رحمه الله، وهو ملحظ قوي جداً؛ فإن العبد لو كان يعمل جميع الأيام إلا يوم السبت فيصوم فيه ؟
مسألة: ما الذي صرف الدليل من نهي التحريم إلى نهي الكراهة؟
الجواب: 1- الذي صرفه إلى الكراهة هو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجاز أن يصام يوم الجمعة ويصام معه يوم قبله ويوم بعده.
2 - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( أفضل الصيام صيام داود: كان يصوم يوماً ويفطر يوماً )).
مثاله: صام الأربعاء وأفطر الخميس وصام الجمعة وأفطر السبت، فهذا لم يصم يوماً قبله ولا بعده ووافق السنة ولم يحرم ولم يكره.
638- قال ابن عبدالهادي رحمه الله و عن صلة بن زفر قال: كنا عند عمار بن ياسر فأتى بشاة مصلية فقال: كلوا؛ فتنحى بعض القوم؛ فقال: أني صائم؛ فقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم.
تخريج الحديث:-
رواه أبو داود و ابن ماجة والنسائي والترمذي واللفظ له وصححه وقد أعل. رواه أهل السنن من طريق: أبي خالد الأحمر عن عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق عن صلة به. وهذا الإسناد جيد، وقد ذكره البخاري في صحيحه بصيغة الجزم، وهذا إيماء منه بتصحيحه.
وصححه ابن عبد البر والترمذي.
(وقد أعل ): ذكر ابن حجر في كتابه ( التغليق): أن الترمذي ذكر في العلل أن بعض الرواة قال: عن أبي إسحاق السبيعي قال: حدّثت عن صلة: أي أن فيه راوٍ ساقط وهذا الذي ذكره ابن حجر فيه اعتراض:-
أ- لم نجد هذا في علل الترمذي.(1/73)
ب- أن بعض الرواة وإن قالوا: حُدّثت فقد يكون الراوي ضعيفاً، ولم يبين الترمذي من هؤلاء الرواة.
ج- أن تصحيح البخاري والدار قطني يعضد الحديث الموصول.
د- أن الترمذي نفسه قال في سننه:حسن صحيح، فكيف يقول في العلل: حُدّثت.
فهذا مما يدل على أن ابن حجر وهم أو نقل عمن وهم، أو أن الترمذي نفسه لم يرض برواية أبي إسحاق.
639- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن العلاء ,عن أبيه , عن أبي هريرة - رضي الله عنه - , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا )) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه.
تخريج الحديث:-
رواه من ذكر من طريق العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب... عن أبيه عن أبي هريرة.
هذا حديث ظاهره الصحة. ولذا صححه ابن حبان والحاكم والطحاوي , وابن حزم , وابن عبد البر , وجماعة من المتأخرين.
قال ابن رجب: وتكلم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا هو حديث منكر.
ضعفه: أحمد و ابن مهدي، و أبو زرعة، و يحيى بن معين، والنسائي، و أبو بكر الأثرم، و ابن رجب، و ابن الجوزي، و جماعة. وهذا هو الصواب من غير شك ولا ريبة.ووصفوا هذا الحديث أنه من مناكير العلاء بن عبد الرحمن.وإن كان العلاء ثقة إلا أن له أحاديث منكرة.
سؤال: ما وجه النكارة في هذا الحديث؟
الجواب: سبق لنا: أن المحفوظ من حديث أبي هريرة في صوم شعبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، وهذا أعطانا خمسة عشر يوماً )).
شرح الحديث:-
مسألة: حكم الصيام إذا انتصف شعبان:
1 - القول الأول: أنه مكروه.الدليل: حديث الباب.
2- القول الثاني: يسن صيام شعبان إلا قليلاً.
وهذا الحديث منكر ( يعني حديث الباب ) الدليل: حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم شعبان إلا قليلاً.(1/74)
640- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن عبد الله بن بسر , عن أخته الصماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنب أو عود شجرة فليمصه )) رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه وابن ماجة والنسائي والترمذي وحسنه...
تخريج الحديث:-
رواه من ذكر من طريق: ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء.
وهذا الحديث رجال إسناده لا بأس بهم وقد وثقوا، ولذلك قال الترمذي: (حديث حسن )، وصحح الحديث الحاكم.
- والصواب: أنه حديث ضعيف - ضعفه الأئمة ومنهم: أحمد , قال أحمد: كان يحيى بن سعيد يتقي هذا الحديث وأبى أن يحدثني به. وضعفه الزهري وقال:...
وضعفه الأوزاعي وقال: مازلت كاتماً للحديث حتى انتشر. وضعفه ابن القيم ومالك، بل قال مالك: هو كذب.فهؤلاء ذهبوا إلى تضعيف هذا الحديث بحجة أنه مضطرب. واضطربوا على مخرجه: وهو ثور بن يزيد.فبعضهم قال: هو كما ذ كرنا.ورواه بعضهم بنفس السند عن عبدالله عن عمته.ورواه بعضهم فقال: عن عبد الله عن أمه.ورواه بعضهم فقال: عن عبد الله عن خالته.ورواه بعضهم فقال: عن عبد الله به – فذ كر الحديث ولم يذكر المرأة بل أسقطها. ورواه بعضهم فقال: عن عبد الله بن بسر وذكر الحديث. .
فائدة: اعلم أن الأحاديث المضطربة قليلة، وهي التي لا تستطيع فيها ترجيح وجه على وجه.
- وبعض العلماء رجح:
قال أبو داود: أنه منسوخ بالأدلة التي تثبت أنه يجوز صيام السبت.
مثل ما جاء عند النسائي من حديث أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم السبت مخالفة لليهود؛ لأنه عيدهم ولا يصومونه.
وأيضا: فإن أفضل الصيام صيام داود،كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فلا بد من إفراد سبت ما.
مثاله: صام الخميس وأفطر الجمعة فسيصوم السبت ويفطر الأحد.
مسألة: حكم صيام السبت:
القول الأول: الجمهور: يكره تخصيصه بصيام.(1/75)
القول الثاني: قول أكثر العلماء – كما قاله شيخ الإسلام: لا يكره إفراده.
الدليل: لأنه لم يثبت في الباب حديث نهي عن الصيام.
باب الاعتكاف
- الاعتكاف لغة: الحبس والمنع، وهو من ملازمة الشيء.
- اصطلاحا:
- ومن أسمائه: الخلوة والجوار.
- والاعتكاف مشروع على الأمم السابقة.
قال تعالى: { وطهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود } .
وثبت أن عمر - رضي الله عنه - نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية فأقرّه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، وأمره بوفاء نذره بعد أن أسلم.
- حكمه: ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
- من الكتاب قوله تعالى: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } .
- من السنة: ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( الاعتكاف من عدة طرق عن عدد من الصحابة )).
- من الإجماع: نقل ابن المنذر, وابن قدامه, وجماعة, الإجماع على ذلك.
فائدة: استشكل بعض العلماء مقولة مالك حيث قال: [ لم أرى أحداً يعتكف ].
غير أن هذه المقولة عنه فيها نظر. حيث ثبت عن مالك نفسه الاعتكاف.
فائدة: لم يثبت في فضل الاعتكاف حديث صحيح.
قال أحمد حين سئل عن فضله: لا أحفظ فيه شيئاً إلا أن يكون ضعيفاً.
مسألة: هل تلحق المرأة بالرجل في الاعتكاف ؟
القول الأول: الجمهور: أنه يسن الاعتكاف للنساء. الدليل: ما جاء في الصحيحين أن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن يعتكفن.
القول الثاني: يكره للمرأة الشابة الاعتكاف - وهو قول الحنابلة. لكنه محجوج بالدليل.
مسألة: حكم الاعتكاف في غير رمضان ؟
القول الأول: يسن الاعتكاف في كل وقت ولا يخصص شهر رمضان.
- الدليل: نقل ابن عبد البر الإجماع على جوازه في غير رمضان.
القول الثاني: أنه جائز وليس بمسنون. والصحيح: أنه مسنون.
- الدليل: فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث اعتكف...(1/76)
وجاء عمر - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إني نذرت أن اعتكف ليلةً في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اعتكف ولم يكن في رمضان.
- لكن لاشك أن الاعتكاف في رمضان أفضل من غيره.
مسألة: ما هو أقل وقت يتحقق به الاعتكاف ؟
القول الأول: أنه يوم : وهذه رواية في أكثر مذاهب الأئمة الأربعة.
القول الثاني: أنه يوم وليلة: وهذا قول المالكية.
- ولم يرد في الباب حديث ينص على هذه المسألة.
فلذلك كثر الخلاف في هذه المسألة خلافا جدلياً كلامياً عرياً من ذكر الأدلة.
- وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر عمر أن يعتكف ليلة وليس يوم وليلة - والليلة جزء من يوم كامل -
641- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها: (( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل , ثم اعتكف أزواجه من بعده )). متفق عليه.
شرح الحديث:-
- ذهب ابن القيم رحمه الله إلى أن ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل ليالي السنة كلها حتى من ليالي عشر ذي الحجة.
مسألة: هل يشترط للاعتكاف صوم أم لا ؟
القول الأول: لا يشترط: وهو قول الجمهور. الدليل:
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى العشر التي لم يعتكفها من رمضان، قضاها في شوال من غير صيام.
2- ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر عمر بوفاء نذره - في اعتكاف ليلة - وهذا من غير صيام.
القول الثاني: يشترط الصوم: وهو قول الفقهاء من الحنفية.
- الدليل: ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله عنهم حيث قالوا: ((لا اعتكاف إلا بصوم )). لكن هذا خلاف الدليل , والوارد عن بعض الصحابة في اشتراطهم لذلك ضعيف.
القول الثالث: أن أقل مدة الاعتكاف لحظة ( أي: جزء من الزمن غير محدد).
وهذا هو قول الأكثر.(1/77)
- وقد أنكر شيخ الإسلام هذا القول وقال: إن الصحابة يترددون على المساجد يأتون الجمعة من أول ساعة ومع ذلك لا ينوون نية الاعتكاف .
- والقول الأقوى هو أن يحدد إما بيوم أو ليلة؛ لأنه أقل شيء ورد فيه الدليل. وهذه قاعدة الحنابلة.
قاعدة: عند أحمد:....
مسألة: في حال اعتكاف النساء هل يشترط إذن الزوج ؟
- الصحيح في هذه المسألة: أنه يشترط إذن الزوج.
- الدليل: ما جاء في الصحيحين من حديث أن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذن في الاعتكاف فأذن لهن... الحديث.
- الشاهد: استئذان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - له في ذلك.
مسألة: هل يجب الاعتكاف بالشروع ؟
- إن كان واجباً: فيلزم الشروع. وإن كان غير واجب فقد اختلف أهل العلم ذلك:-
القول الأول: الجمهور: لا يلزم بالشروع، والإنسان مخير إن شاء أمضاه وإن شاء قطعه.
القول الثاني: المالكية : يجب المضي فيه.
- والصحيح: أنه لا يلزم بالشروع , والدليل:
1- قياساً على الصوم.
2- ولأن العبادات التطوعية لا يلزم الشروع فيها إلا في الحج والعمرة؛ لمفهوم الآية: { وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّه ِ } .
642- قال ابن عبدالهادي رحمه الله و عن عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه )) متفق عليه. واللفظ لمسلم.
شرح الحديث:-
مسألة: متى يدخل معتكفه ؟
- أولاً: إن كان الاعتكاف نذراً: فإنه يلزم أن يدخل معتكفه من بداية (21) أي من ختام يوم عشرين بعد غروب شمسه.
مثاله: أن ينذر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فيلزمه ما ذكرنا.
- ثانياً: إن كان الاعتكاف مستحباً:
1- القول الأول: الجمهور: أنه يدخل معتكفه من ليلة إحدى وعشرين وهو قول الأكثر.
2- القول الثاني: الظاهرية: أنه يدخل صبيحة إحدى وعشرين.
- دليل الجمهور:(1/78)
ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (( اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس فدنوا منه، فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة ثم اعتكفت في العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف )).
- وجه الدلالة: أن من دخل صبيحة إحدى وعشرين فاتته ليلة كاملة، وهي من الليالي التي يتحرى فيها ليلة القدر.
- ودليل الظاهرية: أنه يدخل صبيحة إحدى وعشرين ( أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) في معتكفه بعد الفجر.
- لكن الاستدلال بهذا الدليل ليس بوجيه لأمور:
1- أن هذا اللفظ رواه مسلم من طريق أبي معاوية - محمد بن القاسم بن الضرير- عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها.
وأبو معاوية رواه بهذا اللفظ. بينما رواه: سفيان بن عيينة ومالك بن أنس ومحمد بن الفضيل بن غزوان والأوزاعي وجماعة بألفاظ متقاربة تدور حول هذا اللفظ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى الفجر دخل المعتكف ثم إنه رأى نسائه....الحديث، فهذا يدل على حادثة، وهي قصة حصلت في أيام العشر.
وفي رواية محمد بن الفضيل عند البخاري:(( فلما صلى الفجر دخل معتكفه الذي اعتكف فيه. وهذا حقيقة من أحسن الوجوه.
2: وقيل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل صبيحة يوم عشرين، وهذا استحسنه كثير من المحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
3- وقيل ( دخل معتكفه ): لا يقصد بداية الدخول، وإنما هو ذكر لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
مسألة: زمن الخروج:
القول الأول: يخرج إذا أراد الخروج لصلاة العيد: وهذا هو قول الجمهور.(1/79)
القول الثاني: يخرج بخروج رمضان سواء بإتمام يوم الثلاثين أو بدخول الليلة الأولى من شوال، أو بوصول الخبر بخروج الشهر.
وليس في المسألة حديث صريح في ذلك،ولم ينقل لنا متى خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعليه نقول:يخرج بمجرد الخبر.
- والأقرب للسنة هو الثاني.
643- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (( إنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله , وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً)) رواه البخاري.
شرح الحديث:-
مسألة: في الحديث منع الحائض والنفساء والجنب.
- واختلف العلماء في اعتكاف الحائض والنفساء والجنب:
القول الأول: الجمهور: لا يصح اعتكاف هؤلاء الثلاثة , الدليل:
1- حديث الباب.
وجه الدلالة: حيث أن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي خارج المسجد.
2- ما ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة وهو معتكف: ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض، فقال: إن حيضتك ليست في يدك.
3- قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى،ولا جنباً إلا عابري سبيل... } .
4- ما ثبت في الصحيح ( البخاري ) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر النساء أن يخرجن لصلاة العيد، وأمر الحيض أن يعتزلن المسجد.
القول الثاني: الظاهرية قالوا: يصح من الحائض.
- لكن الأحاديث السابقة تحجهم لصراحتها.…
مسألة: في قولها: ( كان لا يدخل البيت إلا لحاجة ) في الحديث الذي بعده ما يبين ذلك.(1/80)
644- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها: (( السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له منه، و لا اعتكف إلا بصوم، ولا اعتكف إلا في مسجد جامع )) رواه أبو داود، وقال: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه (قالت السنة) جعل قول عائشة رضي الله عنها .
تخريج الحديث:-
وقد توبع عبد الرحمن أيضاً.
وهذا حديث اختلف فيه أهل العلم.
والصحيح: أنه لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاعن عائشة رضي الله عنها وإنما هو من كلام الزهري.
حيث رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ولم يذكر ماذكره الزهري.
وإنما ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجاور (يعتكف) في العشر الأواخر من رمضان.
ورواه القاسم بن محمد عن عائشة بلفظ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر ولم يذكر هذه الأشياء.
وإنما قلنا إنها مدرجة من الزهري: لأن معمر وابن جريج رووه عن الزهري عن عروة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف العشر الأواخر ثم قالوا: قال الزهري والسنة للمعتكف....الخ.
وقد ذهب الدار قطني وابن عبد البر وأبو داود إلى أن هذا كلام مدرج من الزهري.
مسألة: قوله: (ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع):
حكى القرطبي وابن قدامة الإجماع على أنه لا اعتكاف للرجال إلا في مسجد.
واختلفوا: ما هذا المسجد الذي يعتكف فيه ؟ ( ما صفته ؟ )
القول الأول: أنه مسجد جماعة: أي تقام فيه الصلوات كلها:وهذا قول: الحنيفية والمالكية.
القول الثاني: لا يصح إلا في مسجد جامع:وهذا ماذهب إليه بعض التابعين
القول الثالث: أن الاعتكاف يصح في كل مسجد سواء كان مهجوراً أو تقام فيه الجماعات: وهذا قول لبعض السلف.
القول الرابع: لا يصح الاعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: وهذا مروي عن: سعيد بن المسيب.
ولم يستدلوا إلا بمثل هذا الدليل.(1/81)
وعلى كل فلم يثبت في الباب أي حديث في تحديد نوعية المسجد.
وعليه فالصواب: قول من قال: يصح الاعتكاف في كل مسجد.
مسألة: هل يصح في المرأة أن تعتكف في مصلى بيتها ؟
القول الأول: الجمهور: لا يصح , والدليل: قول الله تعالى: { ...وأنتم عاكفون في المسجد 000 } والألف واللام للعهد الذهني.
القول الثاني: ذهب بعض الحنابلة إلى صحة ذلك. لكنه قولٌ لا يصح للآية.
ثم لو جاز اعتكاف في مصلى البيت , لما اعتكف نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهن في المسجد.
مسألة: قوله: (( ولا اعتكاف إلا بصوم ))
استدل بهذا من قال: إن من شرط الاعتكاف الصيام.
مسألة: قوله (( ولا يخرج لحاجة إلا لما لابد له منه )).
مسألة: حكم الخروج من المسجد للمعتكف.
أولاً: الخروج من المسجد بلا عذر:يبطل الاعتكاف؛ لأنه مناف لمعنى الاعتكاف وهو الملازمة.
ثانياً: المراد بالخروج: (هل كل خروج يبطل الاعتكاف؟)
القول الأول: الجمهور: كل خروج بلا عذر يبطل الاعتكاف.
القول الثاني: أن المبطل هو الخروج الكثير.
- ولاشك أن الصواب: هو الأول.
- الدليل: ما جاء في الصحيح: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُدخل على عائشة رضي الله عنها رأسه من أجل أن ترجله؛ حيث: احترز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إخراج جسمه فأخرج بعضه.
مسألة: حكم الخروج لقضاء الحاجة: جائز بالإجماع: نقل الإجماع ابن المنذر رحمه الله.
مثال الحاجة: أن يتطهر وليس في المسجد ما يتطهر به. أو لقضاء حاجته، أو يخرج للأكل وليس هناك أحد يأتي له بالأكل.
مسألة: إذا كان الخروج لحاجة، لكن يمكن استغناؤه عن الخروج بشيء آخر.
القول الأول: الحنابلة والمالكية: لا يلزمه إذا كانت هي حاجة فيقضيها بنفسه، ولو مع وجود غيره.
- الدليل: حديث الباب (( كان لا يخرج إلا لحاجة، أولما لابد له منه )) , لكن الحديث ضعيف.(1/82)
والثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن صفية جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف فجلست إليه فلما أرادت أن ترجع خرج معها فأوصلها إلى البيت.
وجه الدلالة من الحديث:
أن إيصال المرأة إلى بيتها من الحاجات.
2- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستطيع أن يجعل أحداً يوصل صفية إلى بيتها، وبإمكانه أن يقول لها: إذا أردت أن تأتي فأحضري معك أحد من يرجعك، فلما لم يتكلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك: لم يلزم الإنسان أن يبحث عمن يقضي حاجته.
القول الثاني: الحنفية والشافعية: يلزم أن ينيب , والدليل:
1- أن الأصل للاعتكاف عدم الخروج، ولا يخرج إلا لحاجة، وإذا وجد من يقضي حاجته لم تكن هناك حاجة.
2- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يخرج كثيراً في اعتكافه، مع أن لديه حاجات كثيرة؛ لكن لما وجد من يقضيها عنه اكتفى بذلك.
- والصحيح: أنه إذا وجد من يقضي حاجته بلا منّة ولا ضرر ولا حصول مشقة عليه فإنه لا يجوز له.
مسألة: حكم خروجه لصلاة الجمعة: هل يبطل اعتكافه ؟
القول الأول: لا يبطل اعتكافه.
القول الثاني: يبطل اعتكافه.
- والصحيح أنه لا يبطل اعتكافه. الدليل: أنه خرج من مسجد إلى مسجد بل من مفضول إلى أفضل منه.
مسألة: إذا أراد أن يخرج من مسجد إلى مسجد لصلاة الجمعة , هل يبكر للجمعة أم لا ؟
الجواب: الصحيح أنه يبكر إليها. الدليل:
1- لأنه خرج من مسجد إلى مسجد ، وجلوسه في المسجد حاصل سواءً كان بتبكيره أو تأخيره.
2- وأيضاً العمل المفضول في وقتة أفضل من العمل الفاضل في غير وقته.
فتكميل هذه العبادة ( وافق في اعتكاف التبكير للجمعة ) هو الكامل وهو الأفضل.
مسألة: هل يجوز الاشتراط، أو هل يصح ؟ ومن أين جاء ؟
القول الأول: صحة الاشتراط، وهذا قول الأكثر، وأن الإنسان إذا اشترط صح له ما لم يشترط ما يخالف الاعتكاف , والدليل:(1/83)
قصة ضباعة بنت الزبير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها: (( حجي واشترطي )) زادالنسائي: (( فإن لك على ربك ما استثنيت )).
2- القول الثاني: المالكية: لا يصح الاشتراط.
- الدليل: لأن هذا لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو حث عليه.
والصحيح هو: صحة الاشتراط.
والدليل: قوة ما استدلوا به من جواز الاشتراط في أصل العبادات إذا ثبت أنت الشرط لا يخالف مقتضى العبادة.
مسألة: حكم الخروج للقرب.
القول الأول: لا يخرج إلا أن يشترط: وهذا قول الجمهور.
القول الثاني: يخرج بدون أن يشترط: وهذا رواية في المذهب.
- والصحيح: هو القول الأول؛ لأن الاعتكاف لزوم المسجد، ولزوم المسجد قربة.
قاعدة: كل ما يوقعك في حرج أو يشق عليك فهو حاجة.
- وكل حاجة يجوز لها الخروج من المسجد.
مسألة: وقوله: (( ولا يمسن امرأة )) بالإجماع أن الجماع يحرم على المعتكف، بل هو مبطل له؛ لأنه يترتب عليه إثم، والله عز وجل يقول: { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } .
مسألة: المباشرة قسمان: 1- مباشرة بشهوة . 2- ومباشرة بغير شهوة.
1- مباشرة بغير شهوة: لا يبطل الاعتكاف بها ولا يحرم , الدليل:
أ- الإجماع الذي نقله ابن قدامة على ذلك.
ب- ما ثبت أن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2- مباشرة بشهوة: يحرم ذلك عليه. الدليل: الإجماع على ذلك.
فلو قبّل الرجل زوجته في حال اعتكافه فهو يحرم عليه إجماعاً.
مسألة: هل يبطل الاعتكاف إذا باشر لشهوة ؟
1- القول الأول: لا يبطل إلا بالإنزال: وهو قول الجمهور .
2- القول الثاني: يبطل مطلقاً وإن لم ينزل: وهذا قول المالكية.
- دليل الجمهور: قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }.
قال أكثر المفسرين: وهو قول أكثر السلف.
- دليل المالكية: قالوا: {و لا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد }تأويلها بالجماع صرف عن الظاهر؛ لأنه جاء عن بعض الصحابة أنه فسرها بالمباشرة .(1/84)
ورد الجمهور على هذا:يلزمكم إذا فسرتموها على ظاهرها ألا تفرقوا بين الشهوة وغيرها، وأنتم تفرقون في هذا.
وقول الجمهور، هو الصحيح.
وذلك لأن عامة المفسرين من المتقدمين فسروا المباشرة بالجماع؛ لأن الأخذ بالظاهر يخرق الإجماع.
645- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه )) رواه الدارقطني والحاكم والصحيح أنه موقوف – ورفعه وهم.
تخريج الحديث:-
الحديث رواه من ذكر من طريق عبدالله بن محمد بن نصر الراملي عن محمد ابن يحيى بن أبي عمر عن الداوردي (عبد العزيز بن محمد) عن أبي سهيل عن طاووس عن ابن عباس. وهذا إسناد ضعيف.وآفته: ( محمد الرملي) , قال ابن قطان: لا أعرفه.
والصواب أنه موقوف على ابن عباس.
وقد رواه الحميدي وعمرو بن زرارة وعبد الملك بن الحواري عن الداوردي عن أبي سهيل عن طاووس عن ابن عباس موقوفاً.
باب في ليلة القدر
ليلة القدر: ليلة شريفة من اسمها ذات قدر وهذه الليلة من الليالي التي امتن الله بها على هذه الأمة.
سبب شرفها: أنها ليلة أنزل فيها القرآن قال تعالى { إنا أنزلنا ه في ليلة القدر } .
وفيها يفرق كل أمر حكم، كما نص على ذلك القرآن.
وهي خير من ألف شهر أي: ما يعدل:ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة شهور.
وفي الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من قام ليلة القدر إيماناً واحتسباً غفر له ما تقدم من ذنبه )).
وأيضاً فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف من أجلها ويتحراها0
646- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحرياً فليتحرها في السبع الأواخر )) متفق عليه 0
شرح الحديث:-(1/85)
مسألة: ليلة القدر قد تعلم أي ليلة هي في المنام , وذلك بالرؤيا الصالحة، وأنه يراها جمع من الناس، والسبب في ذلك - والله أعلم - أن ليلة القدر تنزل فيها الرحمة والملائكة، وأفئدة الصالحين وأرواحهم قد تلاقى ما تحب، فترى هذه الليلة، وبذلك يعلم أن ليلة القدر ليست محددة بدليل، ولو كانت محدودة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تحتاج إلى رؤية.
قوله (( قد تواطأت )) استدل بها بعض العلماء على أن الرؤى من القرائن التي يأخذ بها الحاكم؛ وهذا استدلال ضعيف؛ لأن الإنسان لا يعلم صدقه عند الحاكم إلا بدليل (بينة) والحاكم مطالب بالبيانات عند الحكم لأن الحادثة في هذا الحديث ليست بحكم , و إنما هي خبر.
- قوله (( فليتحرها في العشر الأواخر ))
- فيه أن ليلة القدر في العشر الأواخر.
647- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: اعتكفنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -العشر الأوسط من رمضان فخرج صبيحة عشرين فخطبنا.وقال: (( إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها )) أو قال: (( نسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر , وإني رأيت أني أسجد في ماءٍ وطين فمن كان اعتكف مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فليرجع )) فرجعنا وما نرى في السماء قزعةً, فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل وأقيمت الصلاة فرأيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته. متفق عليه.
شرح الحديث:-
- قوله (( فخطبنا )) فيه دليل على أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمون كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدبار الصلوات: خطبة، وإن لم تكن قبل الجمعة، وأن هذا مما هو من ألفاظهم التي تفسر الأحاديث بمقصودهم، لا العرف اللغوي.
ولهذا يقال: إن خطبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليست بخطبة وإنما هي كلام وتوجيه بعد الصلاة.(1/86)
قوله: (( أنسيتها )) دليل على أن الرؤى الصالحة قد تنسى.
قوله: (( فالتمسوها في العشر الآواخر )) يأتي إن شاء الله.
قوله: (( في ماء وطين )) فيه بيان أن ليلة القدر قد تكون مطيرة، ولأن بعض العلماء قال: إن ليلة القدر من علاماتها: ألا هواء...وهذا يدل على أن كلامهم غير صحيح.
قوله: (( فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد على الماء والطين )) استدل به البعض على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الطين لا الفراش، وهذا ليس بصحيح فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة على الحصير.
648- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن معاوية بن أبي سفيان عن النبي- صلى الله عليه وسلم - - في ليلة القدر - قال: (( ليلة سبع وعشرين )) رواه أبو داود- وقد روي موقوفاً.
تخريج الحديث:-
رواه أبو داود من طريق عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن قتادة عن مطرف بن عبدالله عن معاوية مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد خولف معاذ في روايته عن شعبة , فرواه الطيالسي، ورواه عفان: كلاهما عن شعبة به موقوفا وهذا هو الصواب: أن الحديث موقوف على معاوية ورجح ابن حجر الوقف.
مسألة: متى ليلة القدر ؟
المسألة فيها خلاف على أربعين قولاً:
1- القول الأول: الحنابلة: أنها ليلة سبع وعشرين.
2- القول الثاني: الشافعية: أنها ليلة إحدى وعشرين.
وليعلم أنه لم يثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدد هذه الليلة في ليلة معينة بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحراها فعلم أنه يجهلها ونجزم أنها في العشر الأواخر.
الدليل: حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - في الصحيح (( التمسوها في العشر الأواخر )) وفي الوتر آكد ومن قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إنها في الوتر قال يعني بذلك السنة (يؤول).(1/87)
واستدل من قال إنها محددة؛ أنها كانت في ليلة ثلاث وعشرين وسمع أبي عبدالله بن مسعود يقول إن ليلة القدر في العام كله فقال أبيّ أما والله إنها في ليلة سبع وعشرين
مسألة: هل لليلة القدر علامات ؟ نعم:…
أنها ليلة لا شعاع لشمس صبيحتها. الدليل: ما رواه مسلم من حديث أبيّ أنه عند ما أقسم أنها ليلة سبع وعشرين قالوا ما أدراك قال إنه قال إنها ليلة لا شعاع لها.
أنها سمحة بلحة. الدليل: ما رواه أحمد أنها سمحة بلحة شعاع الشمس فيها ضعيف.
لكن الحديث ضعيف ولم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي علامة سوى ما ذكرها أبيّ.
649- قال ابن عبدالهادي رحمه الله وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يارسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر , ماأقول فيها ؟ قال:قولي: (( اللهم إنك عفوا تحب العفو فاعف عني )) رواه أحمد وابن ماجه والنسائي و الترمذي وصححة واللفظ له...
تخريج الحديث:-
رواه من ذكر من طريق: علي بن عراك عن كهمس بن الحسن عن عبدالله بن بريدة عن أبية عن عائشة رضي الله عنها.وهذا إسناده معلول.
- علته: علي بن عراك حيث لم يحفظ إسناده. وقد رواه يزيد بن هارون وغندر ووكيع وجماعة من الأئمة الأثبات، كلهم من كهمس بن الحسن عن عبدالله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها .
قال النسائي: مرسل: (( أي أن عبدالله بن بريدة لم يسمع من عائشة )).
وبهذا صرح الدارقطني و البيهقي.
وقد رواه أيضا سفيان الثوري والجريري عن عبدالله بن بريدة عن عائشة. وهذا يدل على أنه ضعيف وإن كان معنى الحديث عظيم جداً.
- الصحيح أن ليلة القدر تتغير في العشر الأواخر.
انتهى كتاب الصيام
من إلقاء فضيلة الشيخ سليمان بن خالد الحربي
عام 1422هـ(1/88)