أعلم على بقاء الحجر عليها ، واشترط أبو الخطاب وابن البنا ، وأبو محمد في كتبه مع ذلك أن تكون صغيرة أو مجنونة ، لأنها إذاً الذي يملك عقدة نكاحها مطلقاً ، وظاهر كلام أحمد والقاضي عدم الاشتراط ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، ولا يشترط كون الصداق ديناً ، على ظاهر كلام أحمد والجمهور ، وقيل بلى ، حكاه ابن حمدان ، نعم يشترط أن لا يكون مقبوضاً ، وهذا مفهوم من كلامهم ، لأنه يكون هبة لا عفواً .
( تنبيه ) على هذه الرواية لو زوج ابنه الطفل أو المجنون وأقبض مهره ، ثم رجع إليه بردة أو رضاع قبل الدخول ، لم يجز عفوه عنه رواية واحدة ، وكأن الفرق أن الأب أكسب البنت المهر ، بالتزويج ، فكان له العفو ، بخلاف الصغير ، فإنه لم يكسبه شيئاً ، بل المهر رجع إليه بالفرقة ، والله أعلم .
قال : وليس عليه دفع نفقة زوجته إذا كان مثلها لا يوطأ ، أو منع منها بغير عذر ، فإن كان المنع من قبله لزمته النفقة .
ش : ليس على الزوج نفقة الزوجة إذا كان مثلها لا يوطأ ، إذ النفقة في مقابلة الاستمتاع ، ولهذا سقطت بالنشوز ، وهذه يتعذر الاستمتاع بها شرعاً ، وكذلك ليس عليه نفقتها إذا كان مثلها يوطأ ومنعت نفسها ، أو منعها أولياؤها بغير عذر ، لأنها إذاً ناشز ، أو في معناها لمنعها من تسليم الواجب عليها ، وتجب عليه النفقة إن كان المنع من قبله ، لأن الواجب عليها قد فعلته .
وقول الخرقي : إذا كان مثلها لا يوطأ . يحترز به عما إذا كان مثلها يوطأ فإن النتفقة جب ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في النفقات ، وقوله : أو منع منها بغير عذر ، يحترز عما إذا منع منها لعذر ، كما إذا امتنعت حتى تقبض صداقها الحال حين العقد ، أو حين الامتناع على وجه ، فإن النفقة تجب لها ، لأن المنع في الحقيقة من جهته ، وقد صرح بذلك حيث قال : فإن كان المنع من قبله لزمته النفقة ، ويحتمل أن يريد بالمنع من قبله المنع بالاستمتاع ، بأن يكون صغيراً أو مجنوناً ونحو ذلك ، والأول أظهر ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوجها على صداقين سر وعلانية ، أخذ بالعلانية ، وإن كان السر قد انعقد النكاح به .
ش : إذا تزوج المرأة في السر بمهر ، ثم عقد عليها في العلانية بأزيد منه ، لزم مهر العلانية ، على ما قاله الخرقي ، ونص عليه أحمد ، لأن الزوج وجد منه بذل الزائد بعد عقد السر ، فلزمه ، كما لو زادها في صداقها ، وقال القاضي : الواجب المهر الذي انعقد به النكاح ، سراً كان أو علانية ، لأنه هو الذي ثبت به النكاح ، والعلانية ليس بعقد حقيقة ، إنما هو عقد صورة ، والزيادة فيه غير مقصودة ، وحمل القاضي كلام أحمد والخرقي على أن المرأة لم تقر بنكاح السر ، وإذاً القول قولها ، لأن الأصل عدم نكاح السر .
____________________
(2/438)
( تنبيه ) قد حملنا كلام الخرقي على ما إذا كان العلانية أزيد وهو متأخر ، بناء على الغالب وكلام أحمد رحمه الله جرى على ذلك ، قال في رواية ابن منصور : إذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهراً ينبغي لهم أن يفوا ، ويؤخذ بالعلانية ، ولو كان العلانية أزيد وهو متقدم ، فهنا يرتفع الخلاف ، ويؤخذ بالعلانية قولًا واحداً ولو كان أقل وهو متأخر أخذ بالسر ، على مقتضى ما تقدم بلا ريب لأنه قد وجب بالعقد ، ولا مقتضي للإسقاط ، ولو كان أقل مع تقدمه ، فمقتضى ما تقدم أن يجري فيه القولان السابقان ، والله أعلم .
قال : وإذا أصدقها غنماً بعينها فتوالدت ، ثم طلقها قبل الدخول ، كانت أولادها لها ، ويرجع عليها بنصف الأمهات ، إلا أن تكون الولادة نقصتها ، فبكون مخيراً بين أن يأخذ نصف قيمتها وقت ما أصدقها ، أو يأخذ نصفها ناقصة .
ش : قد تقدم الكلام على هذا عند قوله : إذا أصدقها عبداً صغيراً فكبر . والخرقي رحمه الله بين ثم الزيادة المتصلة ، وهنا الزيادة المنفصلة ، وقد تقدم الكلام على النوعين بما يغني عن إعادته ، وقوله : بعينها . يحترز عن المبهمة ، فإن التسمية إذاً فاسدة ، والله أعلم .
قال : وإذا أصدقها أرضاً فبنتها داراً ، أو ثوباً فصبغته ، ثم طلقها قبل الدخول ، رجع عليها بنصف قيمته وقت ما أصدقها ، إلا أن يشاء أن يعطيها نصف قيمة البناء أو الصبغ ، فيكون له النصف ، أو تشاء هي أن تعطيه نصفه زائداً فلا يكون له غيره .
ش : إذا طلق المرأة قبل الدخول ، وقد وصلت العين المصدقة بملكها كما مثل الخرقي ، فإنها لا تجبر على زوال ذلك ، لأنها وضعته ، ( بحق ، ويكون للزوج نصف القيمة ، لتعذر الرجوع في نصف العين إلا بضرر يلحقها ، والضرر منفي شرعاً ، فإن اختار الزوج أن يدفع إليها نصف قيمة البناء أو الصبغ ، ويكون له نصف المجموع فله ذلك ، عند أبي محمد تبعاً للخرقي ، لزوال الضرر عن المرأة ، وصار هذا كالشفيع إذا أخذ بالشفعة بعد غرس المشتري أو بنائه ، وبذل قيمة ذلك ، فإن المشتري يلزمه القبول ، وقال القاضي : ليس له إلا القيمة ، وحمل كلام الخرقي على التراضي ، حذاراً من إجبار المرأة على المعاوضة على ملكها بغير رضاها انتهى ، فلو بذلت المرأة النصف بزيادته لزم الزوج قبوله ، لأنه حقه وزيادة .
قلت : وقد يتخرج عدم اللزوم بما إذا وهب الغاصب تزويق الدار ونحوها للمغصوب منه ، وهو أظهر في البناء ، والله سبحانه أعلم .
( قال : باب الوليمة )
ش : حكى ابن عبد البر عن ثعلب وغيره من أهل اللغة أن الوليمة اسم لطعام العرس خاصة ، لا يقع على غيره ، قال أبو محمد : وقال بعض الفقهاء من أصحابنا
____________________
(2/439)
وغيرهم : الوليمة تقع على كل طعام لسرور حادث ، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر ، قال : وقول أهل اللغة أقوى ، لأنهم أهل اللسان ، وأعرف بموضوعات اللغة انتهى ، وقال السامري : سميت دعوة العرس وليمة لاجتماع الزوجين ، ووليمة الشيء كماله وجمعه ، والله أعلم .
قال : ويستحب لمن تزوج أن يولم ولو بشاة .
2640 ش : في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن النبي رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة ، فقال : ( ما هذا ؟ ) قال : يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب ، قال : ( فبارك الله لك ، أولم ولو بشاة ) والشيخ رحمه الله حمل هذا الأمر على الاستحباب ، موافقة لجمهور العلماء ، لأنه طعام لسرور حادث ، أشبه سائر الأطعمة ، وقوله : ( ولو بشاة ) التنكير هنا والله أعلم للتقليل ، أي ولو بشيء قليل كشاة ، فيستفاد من هذا أنه يجوز الوليمة بدون شاة .
2641 وقد جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ما أولم النبي على شيء من نسائه ما أولم على زينب ، أولم بشاة . متفق عليه .
2642 وجاء في البخاري أن النبي أولم على بعض نسائه بمدين من شعير . ويستفاد من الحديث أن الأولى الزيادة على الشاة ، لأنه جعل ذلك قليلًا ، والخرقي تبع لفظ الحديث ، والحكم جار عليه ، والله أعلم .
قال : وعلى من دعي إليها أن يجيب .
ش : يعني إلى وليمة العرس ، وهذا هو المذهب المعروف في الجملة ، وقول عامة العلماء ، حتى أن ابن عبد البر وغيره قال : لا خلاف في ذلك .
2643 لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها ) متفق عليه ، في عدة أحاديث سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى ، وقيل : إنها فرض كفاية ، لأنها إكرام وموالاة أشبه برد السلام ، وقيل : إنها سنة كفعلها ، والعمل على الأول ، لكن يشترط للوجوب شروط ( أحدهما ) ( أن يعين ) الداعي المدعو بالدعوى ، فلو لم يعينه كقوله : يا أيها الناس أجيبوا إلى الوليمة . ونحو ذلك لم تجب الإجابة بل تستحب ، لأن الإجابة معللة بما فيها من كسر قلب الداعي ، وإذا عمم فلا كسر ( الثاني ) أن يدعوه في اليوم الأول ، لأن مطلق الأمر يحصل به .
____________________
(2/440)
2644 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( طعام أول يوم حق ، وطعام يوم الثاني سنة ، وطعام يوم الثالث سمعة ، ومن سمع سمع الله به ) رواه الترمذي وقال : لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث زياد بن عبد الله ، وهو كثير الغرائب المناكير ، قال بعض الحفاظ : وزياد روى له البخاري مقروناً بغيره ، ومسلم ويستحب في اليوم الثاني ، قاله أبو محمد و ابن حمدان ، ولا يستحب في الثالث قاله أبو محمد ، وقال ابن حمدان : يكره ، وقال أحمد : الأول يجب ، والثاني إن أحب ، والثالث فلا . ( الشرط الثالث ) أن يكون مسلماً ، فلا تجب الإجابة بدعوة الذمي ، لأن الإجابة للمسلم للإكرام والموالاة ، وتأكيد المودة ، وذلك منتف في أهل الذمة ، وتجوز إجابتهم ، قاله أبو محمد .
2645 وفي الحديث أن يهودياً دعا النبي إلى خبز شعير ، وإهالة سنخة ، فأجابه ( وعن أحمد ) في جواز تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم روايتان ، فيخرج في إجابتهم كذلك ، وقد خرجها أبو العباس في تسميتهم ( الشرط الرابع ) أن يكون المسلم ممن لا يجوز هجره ، فإن كان ممن يجوز هجره كالمبتدع ونحوه لم تجب إجابته ، لما تقدم في الذمي ( الشرط الخامس ) أن لا يكون في الدعوة منكر ، فإن كان فيها منكر كالزمر والخمر ولم يقدر على إزالته لم يحضر ، وإن قدر على إزالته وجب عليه الحضور والإنكار ، للتمكن من الإتيان بالفرض ، مع التمكن من الاتيان بفرض آخر ( وقيل : يشترط ) مع ذلك أن لا يخص بها الأغنياء ، وأن لا يخاف المدعو الداعي ولا يرجوه ، وأن لا يكون في المحل ، من يكرهه المدعو ، أو لا يليق به مجالسته ، أو يكره هو المدعو .
2646 وقد جاء عن أبي هريرة أن النبي قال : ( شر الطعام طعام الوليمة ، يمنعها من يأتيها ، ويدعى إليها من يأباها ، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ) رواه مسلم وأكثر الأصحاب لا يشترطون هذا ، والله أعلم .
قال : فإن لم يحب أن يطعم دعا وانصرف .
ش : الواجب الإجابة ، أما الأكل فغير واجب .
2647 لما روى جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله إذا دعي أحدكم فليجب ، فإن شاء طعم ، وإن شاء ترك ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود ، ثم لا يخلو إما أن يكون صائماً أو مفطراً ، فإن كان مفطراً استحب له الأكل ، لأنه أبلغ في إكرام الداعي وجبر قلبه .
____________________
(2/441)
2648 لما روى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا دعي أحدكم فليجب ، فإن صائماً فليصل ، وإن كان مفطراً فليطعم ) رواه مسلم ، وفي لفظ له أيضاً : ( إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل : إني صائم ) ، وإن كان صائماً فإن كان صومه واجباً لم يفطر ، حذاراً من ترك واجب لما ليس بواجب ، وإن كان متنفلًا فقيل : يستحب الأكل مطلقاً ، لما فيه من إدخال السرور على قلب الداعي ، مع جواز الخروج من الصوم .
2649 وقد روي أن النبي كان في دعوة ومعه جماعة فاعتزل رجل من القوم ناحية : فقال : إني صائم . فقال النبي : ( دعاكم أخوكم ، وتكلف لكم ، كل ثم صم يوماً مكانه إن شئت ) وقيل : إن لم ينكسر قلب الداعي بعدم الأكل فإتمام الصوم أولى ، لظاهر ما تقدم ، ويستحب أن يعلمهم ويدعو لهم لما تقدم ، إذ قوله : ( فليصل ) أي يدعو .
2650 وقد جاء عن ابن عمر أنه حضر وهو صائم ، وقال : إني صائم . والله أعلم .
قال : ودعوة الختان لا يعرفها المتقدمون .
ش : يعني السلف الصالح ، كالصحابة والتابعين .
2651 وقد روي عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه دعي إلى ختان فأبى أن يجيب ، فقيل له ، فقال : إنا كنا لا نأتي الختان على عهد رسول الله ، ولا ندعي إليه . رواه أحمد لكنه ضعف ، وظاهر كلام الخرقي أنها غير مستحبة ، وقد نص أحمد والقاضي ، وعامة أصحابه على أنها مباحة لا تكره ، ولا تستحب لهذا الأثر وخالفهم أبو محمد في كتبه الثلاثة ، فقطع باستحبابها ، لما فيها من إطعام الطعام ، وهو مندوب إليه في الجملة ، وهذان القولان في سائر الطعام ، وحكى ابن حمدان قولًا بكراهة دعوة الختان خاصة ، ويحتمله كلام الخرقي رحمه الله ، والله أعلم .
قال : ولا على من دعي إليها أن يجيب ، وإنما وردت السنة في إجابة من دعي إلى وليمة تزويج .
ش : ظاهر هذا إن الإجابة إلى دعوة الختان مباحة ، وهو منصوص أحمد ، وقول القاضي وجماعة من أصحابه كعملها ، ولحديث عثمان ، وقال أبو محمد بالاستحباب ، وهو الظاهر ، بل لو قيل بالوجوب لكان متجهاً .
____________________
(2/442)
2652 لعموم ( إذا دعي أحدكم للوليمة فليأتها ) ( إذا دعي أحدكم فليجب ، إذا دعي إلى طعام ) .
2653 وفي مسلم في حديث ابن عمر : ( إذا دعا أحدكم أخاه فليجب ، عرساً كان أو نحوه ) وهذان القولان أيضاً في سائر الولائم ، والله أعلم .
قال : والنثار مكروه ، لأنه شبيه بالنهبة ، وقد يأخذه من غيره أحب إلى صاحب النثار منه .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، لما علل به الخرقي رحمه الله ، بأنه يأخذه من غيره أحب إلى صاحب الطعام منه ، ولا يكون طيب القلب بأخده ، وذلك يورث شبهة ، وبأنه شبيه بالنهبة والشبيه بالشيء يعطي حكمه .
2654 ودليل الأصل ما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنهما ، أن النبي نهى عن المثلة والنهبى . رواه أحمد والبخاري .
2655 وعن أنس رضي الله عنه أن النبي قال : ( من انتهب فليس منا ) رواه أحمد والترمذي وصححه ( والثانية ) لا يكره ، اختارها أبو بكر .
2656 لأنه قد جاء أن النبي حضر ملاك رجل من الأنصار الحديث ، وفيه : وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكر ، فنثر عليهم ، فأمسك القوم ولم ينتهبوا ، فقال رسول الله : ( ألا تنتهبون ؟ ) قالوا : يا رسول الله نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا ، قال : ( إنما نهيتكم عن نهبة العساكر ، ولم أنهكم عن نهبة الولائم ) رواه العقيلي ، وضعفه عبد الحق الإشبيلي .
2657 واعتمد أحمد رحمه الله على قول النبي في البدنات لما نحرهن : ( من شاء اقتطع ) وحكم الالتقاط حكم النثار ، والله أعلم .
قال : فإن قسم على الحاضرين فلا بأس بأخذه ، لما روي عن أبي عبد الله أن بعض أولاده حذق ، فقسم على الصبيان الجوز .
ش : لانتفاء المفسدة السابقة ، مع أن فيه إطعام الطعام ، وجبر قلب الصبي وتنشيطه ، وتنشيط أمثاله ، وذلك مصلحة محضة ، ولذلك حسنه أبو محمد .
( تنبيه ) الأطعمة التي يدعى إليها عشرة ( أحدها ) الوليمة طعام العرس ( والثاني )
____________________
(2/443)
الحذاق وهو الطعام عند حذاق الصبي ( والثالث ) العذيرة والإعذار للختان ، وهذه الثلاثة ذكرها الخرقي ( والرابع ) الخرسة والخرس ، لطعام الولادة ( والخامس ) الوكيرة ، لدعوة البناء ( والسادس ) النقيعة لقدوم الغائب ( والسابع ) العقيقة الذبح لأجل الولد ( والثامن ) المأدبة كل دعوة لسبب كانت أو غيره ( التاسع ) الوضيمة طعام المأتم ( العاشر ) التحفة طعام القادم ، والله سبحانه أعلم .
( باب عشرة النساء والخلع )
ش : الأصل في العشرة قول الله تعالى : 19 ( { وعاشروهن بالمعروف } ) الآية ، وقال سبحانه : 19 ( { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } ) .
2658 قال ابن زيد : 16 ( تتقون الله فيهن ، كما عليهن أن يتقين الله فيكم ) .
2659 وقال ابن عباس : 16 ( إني لأحب أن أتزين للمرأة ، كما أحب أن تتزين لي ) . وتلا هذه الآية : 19 ( { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } ) .
2660 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( استوصوا بالنساء خيراً ، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته لم يزل أعوج ، فاستوصوا بالنساء خيراً ) متفق عليه .
2661 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً قال : قال رسول الله : ( أكمل المؤمنين أحسنهم خلقاً ، وخياركم خياركم لنسائهم ) رواه أحمد والترمذي وصححه .
2662 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي ) رواه الترمذي وصححه .
2663 وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي قال : ( أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة ) رواه ابن ماجه والترمذي ، وقال : حسن غريب .
2664 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا دعى الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء ، فبات غضبان عليها ، لعنتها الملائكة حتى تصبح ) متفق عليه .
2665 وعنه رضي الله عنه أيضاً أن النبي قال : ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن .
____________________
(2/444)
ولهذه الأحاديث وشبهها وقوله تعالى : 19 ( { وللرجال عليهن درجة } ) قال العلماء : إن حق الزوج عليها آكد من حقها عليه .
والأصل في الخلع قوله تعالى : 19 ( { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ) الآية .
قال : وعلى الرجل أن يساوي بين زوجاته في القسم .
ش : هذا مما لا خلاف فيه والحمد لله ، وقد تقدم قوله تعالى : 19 ( { وعاشروهن بالمعروف } ) ومن المعروف التسوية بينهن .
2666 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطاً أو مائلًا ) رواه الخمسة .
2667 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله يقسم فيعدل ، ويقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ) رواه الخمسة إلا أحمد . إذا تقرر هذا فمن عنده نسوة لا بد له أن يبدأ بواحدة منهن ، وهن متساويات في الحق ، واختيار واحدة منهن تفضيل لها ، وهو ممنوع منه ، فيتعين أن يبدأ بواحدة بالقرعة ، كما لو أراد السفر بواحدة منهن ، كما شهدت به السنة ، ويقسم ليلة ليلة ، ولا يقسم أربعاً أربعاً إلا برضاهن ، وفي اعتبار رضاهن في الليلتين والثلاث وجهان .
وقول الخرقي : وعلى الرجل . يشمل المريض والمجبوب ، والخصي والعنين ، وهو كذلك ، إذ القسم للأنس ، وهو حاصل ممن ذكر ، ولا يدخل في كلامه المجنون ، لعدم تعلق الخطاب التكليفي به ، وقال أبو محمد : إن لم يخف منه طاف به الولي ، وإن خيف منه فلا قسم عليه ، لانتفاء الإنس ، وعلى الأول قال فإن لم يعدل الولي في القسم بينهن ثم أفاق الزوج ، قضى للمظلومة ؛ لأنه حق ثبت في ذمته .
وقوله : أن يساوي بين زوجاته في القسم . يتناول من له زوجات وقسم بينهن ، ولا نزاع في ذلك كما تقدم ، أما من له زوجة واحدة ، أو له زوجات ولم يقسم بينهن ، فهل عليه قسم الابتداء ، بأن يبيت عند الزوجة أو الزوجات ليلة من أربع ؟ فيه قولان مبنيان على وجوب الوطء ، وفيه روايتان ، ومحلهما إذا لم يترك الوطء ضراراً ، أما إن تركه ضراراً فيجب القسم ، والله أعلم .
قال : وعماد القسم الليل .
____________________
(2/445)
ش : لأن الليل للسكن والإيواء ، قال سبحانه : 19 ( { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله } ) فالليل محل السكن ، والنهار للمعاش ونحو ذلك ، وهذا فيمن معاشه بالنهار كما هو الغالب ، أما من معاشه بالليل ، كالحارس ونحوه ، فإن نهاره كليل غيره ، وليله كنهار غيره ، والنهار تبع لليل في القسم .
2668 قالت عائشة رضي الله عنها : مات رسول الله في بيتي ، وفي يومي . وموته كان في النهار ، ويتبع اليوم الليلة الماضية ، بدليل أن أول الشهر الليل ، وإن أحب أن يجعل النهار تبعاً لليله الذي يتعقبه جاز ، لعدم التفاوت ، والله أعلم .
قال : ويقسم لزوجته الأمة ليلة وللحرة ليلتين .
2669 ش : لما روى الدارقطني واحتج به الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول : إذا تزوج الحرة على الأمة ، قسم للأمة ليلة ، وللحرة ليلتين .
( تنبيه ) يقسم للمعتق بعضها بحساب ذلك ، والله أعلم .
قال : وإن كانت كتابية .
ش : أي وإن كانت الحرة كتابية يقسم لها كما يقسم للمسلمة ؛ لأن القسم من حقوق الزوجية ، أشبه النفقة والسكنى ، وقد شمل كلام الخرقي الرتقاء والمريضة ، والحائض والمحرمة ، والمظاهر منها والصغيرة ، وهو كذلك إذ القصد الأنس والسكن ، وهو حاصل لهن ، نعم شرط أبو محمد في الصغيرة إمكان وطئها ، والمجد تمييزها ، وشمل أيضاً المجنونة ، والشيخان يقيدان ذلك بما إذا لم يخف منها ، أما إن خيف منها فلا قسم لها .
( تنبيه ) الحق في القسم للأمة دون السيد ، فلها أن تهب ليلتها لزوجها أو لبعض ضرائرها ، وليس ذلك للسيد ، وزعم القاضي أن قياس قول أحمد استئذان سيد الأمة كما في العزل ، والله أعلم .
قال : وإذا سافرت زوجته بغير إذنه فلا نفقة لها ولا قسم .
ش : هذا مما لا خلاف فيه ولله الحمد ؛ لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد تعذر ذلك بفعلها ، أشبه ما لو لم تسلمه نفسها ابتداء ، والله أعلم .
قال : وإن كان هو أشخصها فهي على حقها من ذلك .
ش : إذا كان هو سفرها فهي على حقها من النفقة والقسم ، لأن المنع جاء من
____________________
(2/446)
جهته ، لا من جهتها ، فلم يسقط حقها ، كما لو أتلف المشتري المبيع لم يسقط حق البائع من الثمن .
( تنبيه ) الخرقي رحمه الله ذكر ما إذا سفرها هو ، أو سافرت بغير إذنه ، وبقي إذا سافرت بإذنه لمصلحتها ، وفي بعض نسخ الخرقي : وإذا سافرت زوجته بإذنه ، وعليها شرح أبو محمد ، وبالجملة في المسألة ثلاثة أوجه ( أحدها ) وهو اختيار القاضي وأبي محمد لا قسم لها ولا نفقة ، لما تقدم في المسألة قبل ، ( والثاني ) هما لها ، لأنه لما أذن لها كأنه رضي بإسقاط حقه ، وبقاء حقها ( والثالث ) لها النفقة دون القسم ، كما لو سافر عنها ، والله أعلم .
قال : وإذا إراد سفراً فلا يخرج معه منهن واحدة إلا بقرعة .
ش : إذا أراد سفراً وأخذ بعض نسائه دون بعض ، فإنه لا يجوز له أخذ إحداهن إلا بقرعة ، لتساويهن في الحق ، وحذاراً من الميل .
2670 وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه . ويستثنى من ذلك إذا رضي الزوجات بسفر واحدة معه ، فإنه يجوز بلا قرعة ، إذ الحق لهن ، نعم إذا لم يرض الزوج بها ، وأراد غيرها صير إلى القرعة ، والله أعلم .
قال : فإذا قدم ابتدأ القسم بينهن .
ش : أي إذا قدم من السفر ابتدأ القسم بين النسوة ، ولم يقض للمقيمات ؛ لأن عائشة رضي الله عنها لم تذكر قضاء في حديثها ؛ ولأن ما يحصل للمسافر بها من السكن ، يقابله ما يحصل لها من المشقة والتعب ، والحديث مسكوت فيه عن القضاء ، وقيل : يقضي في سفر النقلة دون سفر الغيبة ، وقيل : يقضي في السفر القريب دون البعيد ، ومحل الخلاف في زمان السير ، أما ما تخلل السفر أو تعقبه من الإقامة ، فإن أبا البركات قال : يقضيه . وأطلق ، وشرط أبو محمد للقضاء أن يقيم مدة يمتنع فيها من القصر ، وكلام الخرقي يشمل فيما إذا سافر بقرعة ، أما إن سافر بغير قرعة فإنه يقضي للبواقي ، قاله غير واحد ، وقال أبو محمد : ينبغي أن يقضي مدة الإقامة لا زمان السير ، والله أعلم .
قال : وإذا أعرس على بكر أقام عندها سبعاً ثم دار ، ولا يحتسب عليها بما أقام عندها ، وإن كانت ثيباً أقام عندها ثلاثاً ، ولا يحتسب أيضاً عليها بما أقام عندها .
2671 ش : الأصل في ذلك ما في الصحيحين عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنهما قال : من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ، وإذا تزوج
____________________
(2/447)
الثيب على البكر أقام عندها ثلاثاً ثم قسم ) قال أبو قلابة : ول شئت لقلت : إن أنساً رفعه إلى رسول الله .
2672 وفي الدارقطني عن أنس قال : سمعت رسول الله يقول : ( للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاثة ثم يعود إلى نسائه ) .
2673 وعن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام ، وقال : ( ليس بك هوان على أهلك ، فإن شئت سبعت لك ، وإن سبعت لك سبعت لنسائي ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود ، والدارقطني ولفظه : أن النبي قال حين دخل بها : ( ليس بك هوان على أهلك ، إن شئت أقمت عندك ثلاثاً خالصة ، وإن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي ) قالت : تقيم معي ثلاثاً خالصة .
وعموم كلام الخرقي رحمه الله وكلام غيره يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة ، وصرح به أبو محمد في المغني ، وفي الرعاية احتمال أن الأمة على النصف من الحرة ، والخرقي رحمه الله وجماعة إنما صوروا المسألة فيما إذا تزوج امرأة على أخرى ، والحديث إنما ورد في ذلك ، وقد يقال : إن ذلك تنبيه على ما إذا لم يكن تحته زوجة ، لأنه إذاً لا يسقط حق أحد ، ثم إن الحكم معلل بإزالة الاحتشام ونحوه وهو شامل .
( تنبيه ) لو أرادت الثيب أن يقيم عندها سبعاً فعل وقضاهن للبواقي للحديث ، والله أعلم .
قال : وإذا ظهر منها ما يخاف معه نشوزها وعظها ، فإن أظهرت نشوزاً هجرها ، فإن أردعها وإلا فله أن يضربها ضرباً لا يكون مبرحاً .
ش : النشوز كراهة كل واحد من الزوجين صاحبه ، وسوء عشرته ، مأخوذ من النشز وهو الارتفاع ، فكأن كلا منهما ارتفع عما عليه ، وإذا ظهر من المرأة ما يخاف معه نشوزها مثل أن تتثاقل إذا دعاها أو تجيب متبرمة متكرهة ، وعظها بأن يذكر لها ما يلين قلبها من ثواب وعقاب ، فيذكر لها ما وجب له عليها من الطاعة ، وما عليها في مخالفته ، لقول الله سبحانه : 19 ( { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن } ) فإن أصرت على ذلك وأظهرت النشوز ، بأن امتنعت من إجابته إلى الفراش ، أو خرجت من بيتها بغير إذنه ونحو ذلك ، هجرها في المضجع ما شاء ، لقوله سبحانه : 19 ( { واهجروهن في المضاجع } )
____________________
(2/448)
وله هجرها في الكلام ، لكن فيما دون ثلاثة أيام .
2674 لقول النبي : ( لا يحل لمسلم يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ) فإن أصرت على الامتناع فله أن يضربها ، لقوله سبحانه : 19 ( { واضربوهن } ) ويضربها ضرباً غير مبرح ، أي غير شديد .
2675 لقول النبي : ( إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح ) رواه مسلم وتقدير الآية الكريمة على هذا التقرير عند أبي محمد : 19 ( { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن } ) فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع ، فإن أصررن فاضربوهن ، كآية المحاربة ، وفيه تعسف ، ومقتضى كلام أبي البركات وأبي الخطاب أن الوعظ والهجران والضرب على ظهور أمارات النشوز ، لكن على جهة الترتيب قال المجد : إذا بانت أماراته زجرها بالقول ، ثم يهجرها في المضجع والكلام دون ثلاث ، ثم يضرب غير مبرح ، وهذا ظاهر الآية الكريمة ، غايته أن الواو وقعت للترتيب ، إما لأن ذلك من مقتضاه أو لدليل من خارج ، وهو أن المقصود زوال المفسدة ، فيدفع بالأسهل فالأسهل ، فله أن يضربها ضرباً غير مبرح ؛ فأجاز ضربها بمجرد العصيان ، وهو مقتضى الحديث السابق ، وقد قاله النبي في خطبته بعرفة . ولو ترتب الضرب على الهجران لبينه ، لأنه وقت حاجة ، لتفرق الناس ورجوعهم إلى أوطانهم ، والله أعلم .
قال : والزوجان إذا وقعت بينهما العداوة ، وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان ، بعث الحاكم حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، مأمونين برضى الزوجين وتوكيلهما ، بأن يجمعا إن رأيا أو يفرقا ، فما فعلا من ذلك لزمهما .
ش : قد تقدم إذا ظهر من المرأة النشوز أو أمارته ، فإن خرجا من ذلك إلى العداوة ، وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان ، بعث الحاكم حكمين ، إن رأيا المصلحة في الصلح أو التفريق بينهما فعلا ، ولزم الزوجين فعلهما ، لقول الله سبحانه : 19 ( { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله ، وحكما من أهلها ، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } ) واختلف عن أحمد رحمه الله فيهما ( فعنه ) ما يدل على أنهما وكيلان للزوجين ، لا يرسلان إلا برضاهما وتوكيلهما ، فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا ، هذا هو المشهور عند الأصحاب ، حتى أن القاضي في الجامع الصغير والشريف ، أبا جعفر ، وابن البنا لم يذكروا خلافاً ، ونصبه أبو الخطاب ؛ ولأن البضع حق للزوج ، والمال حق للمرأة ، وهما رشيدان ، فلم يجز لغيرهما التصرف عليهما إلا بوكالة منهما ، كما في غير ذلك ( وعنه ) ما يدل على أنهما حكمان ، يفعلان ما يريان من جمع أو
____________________
(2/449)
تفريق ، بعوض أو غيره ، من غير رضى الزوجين ، وهو ظاهر الآية الكريمة ، لتسميتهما حكمين ، ومخاطبتهما بقوله : 19 ( { إن يريدا إصلاحا } ) وعدم اشتراط رضى الزوجين .
2676 وقد روى أبو بكر بسنده عن عبيدة السلماني ، أن رجلًا وامرأة أتيا علياً رضي الله عنه مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فقال علي رضي الله عنه : ابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ؛ فبعثوا حكمين ، ثم قال علي رضي الله عنه للحكمين : هل تدريان ما عليكما من الحق ، عليكما من الحق إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله لي وعلي . فقال الرجل : أما الفرقة فلا . فقال علي رضي الله عنه : كذبت حتى ترضى بما رضيت به .
2677 ويروى أن عقيلًا تزوج فاطمة بنت عتبة ، فتخاصما ، فجمعت ثيابها ومضت إلى عثمان رضي الله عنه ، فبعث حكماً من أهله عبد الله بن عباس ، وحكماً من أهلها معاوية رضي الله عنه فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما . وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف : فلما بلغا الباب كانا قد أغلقا الباب واصطلحا ، وعلى كلتي الروايتين يشترط في الحكمين ( أن يكونا ) من أهل العدالة ، أما على الثانية فظاهر ، وأما على الأولى فلأن الوكيل إذا كان منصوباً من جهة الحاكم فلا بد وأن يكون عدلًا ( وأن يكونا ) عالمين بالجمع والتفريق ؛ لأنهما منصوبان لذلك ، وهل تشترط حريتهما ؟ فيه وجهان مبنيان عند أبي حمدان ، وذلك يمنع البناء ، ويشترط ( أن يكونا ) ذكرين ، قاله أبو محمد ؛ لأن ذلك يفتقر إلى رأي ونظر ، والمرأة بمعزل عنهما ، وقد يقال بالجواز على الرواية الثانية ، والأولى أن يكونا من أهلهما ، لإرشاد الرب سبحانه لذلك ، لكونهما أشفق عليهما ، وأدعى لطلب الحظ لهما ، ولا يجب ، لأن القرابة لا تشترط في الوكالة ، ولا في الحكم ، وينبني على الروايتين أنه إذا غاب الزوجان أو أحدهما بعد بعث الحكمين فعلى الأولى لا ينقطع نظرهما ، إذ الوكالة لا تبطل بالغيبة ، وعلى الثانية فيه احتمالان ، حكاهما في الهداية ( أحدهما ) وقطع به أبو محمد ، وأورده أبو البركات مذهباً ينقطع ، إذ كل من الزوجين محكوم له وعليه ، والقضاء للغائب لا يجوز ( والثاني ) لا نيقطع ، إذ المغلب في الحكم الحكم على كل منهما ، وإن جن الزوجان انقطع نظرهما على الأولى ، بناء على أن الوكالة تبطل بالجنون على المذهب ، وعلى الثانية لا ينقطع قاله أبو محمد تبعاً لأبي الخطاب في الهداية ، وأورده أبو البركات مذهباً ، وجزم أبو محمد في الكافي والمغني بامتناع الحكم ، معللًا بأن من شرط الحكم بقاء الشقاق ، ولا يتحقق ذلك مع الجنون ، ويظهر أن التعليل هنا كالتعليل في الفرع الذي قبله ، والله أعلم .
قال : والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل ، وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه فلا
____________________
(2/450)
بأس أن تفتدي نفسها منه .
ش : إذا كرهت المرأة زوجها لخلقه أو خلقه ، أو دينه أو كبره ونحو ذلك ، وخشيت أن لا تقوم له بما يجب له عليها ، فلا بأس أن تفتدي نفسها منه بعوض ، لقول الله سبحانه وتعالى : 19 ( { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ) .
2678 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاءت امرأة ثابت بن قيس ابن شماس إلى رسول الله ، فقالت : يا رسول الله إني ما أعيب عليه في خلق ولا دين ، ولكني أكره الكفر في الإسلام . فقال رسول الله : ( أتردين عليه حديقته ؟ ) فقالت : نعم . فقال رسول الله : ( اقبل الحديقة ، وطلقها تطليقة ) رواه البخاري والنسائي ، وفي لفظ : ولكن أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضاً . ويسمى هذا خلعاً ، أخذا من خلع الثوب ، كأنها تنخلع من لباس زوجها .
قال : ولا يستحب له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها .
2679 ش : لما روى ابن عباس رضي اا عنهما أن جميلة بنت سلول أتت النبي فقالت : ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق ، ولكني أكره الكفر في الإسلام ، لا أطيقه بغضاً . فقال لها النبي : ( أتردين عليه حديقته ؟ ) قالت : نعم . فأمره النبي أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد ؛ رواه ابن ماجه .
2680 وعن أبي الزبير بن قيس بن شماس كانت عنده بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وكان أصدقها حديقة ، فقال النبي : ( أتردين عليه حديقته التي أعطاك ) قالت : نعم وزيادة . فقال النبي : ( أما الزيادة فلا ولكن حديقته ) قالت : نعم . فأخذها له وخلا سبيلها ، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال : قد قبلت قضاء رسول الله . رواه الدارقطني بإسناد صحيح ، وقال : سمعه أبو الزبير من غير واحد .
وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل الاستحباب ، وأنه لو أخذ أكثر مما أعطاها جاز الخلع ، وهذا هو المنصوص والمختار لعامة الأصحاب ، لعموم : 19 ( { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ) وحملا للمنع في الحديث على الكراهة ، ومنع أبو بكر من ذلك ، وأوجب رد الزيادة ، أخذاً بظاهر الحديث ، وقصراً للعام على بعض أفراده وملخصه أنه لا بد من مخالفة ظاهر ، وإنما النظر في أي الظاهرين أولى بالحمل عليه ، واللهأعلم .
قال : ولو خالعته لغير ما ذكرناه كره لها ذلك ووقع الخلع .
____________________
(2/451)
ش : أي لغير البغض وكراهة منع حقه ، وهو أن يكون الحال بينهما مستقيمة ، والمذهب المنصوص المشهور المعروف حتى أن أبا محمد حكاه عن الأصحاب وقوع الخلع مع الكراهة ، لعموم قول الله سبحانه : 19 ( { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه } ) ( وعن أحمد ) ما يدل على عدم الجواز ، قال : الخلع مثل حديث سهلة تكره الرجل ، فتعطيه المهر فهذا الخلع ، وظاهر هذا أن غير هذا ليس بخلع ، وفيه أيضاً دليل لقول أبي بكر في المسألة قبل ، وإلى هذا ميل أبي محمد قال : الحجة مع من حرمه ، وذلك لقول الله سبحانه : 19 ( { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله } ) منع سبحانه من الأخذ مطلقاً ، واستثنى منه صورة ، فيبقى فيما عداها على مقتضى المنع ، ثم قال سبحانه : 19 ( { فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ) مفهومه أن الجناح لاحق بها إن افتدت من غير خوف ثم أكد سبحانه وتعالى بقوله : 19 ( { تلك حدود الله فلا تعتدوها ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } ) .
2681 وفي السنن : ( أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس عليها فحرام عليها رائحة الجنة ) وقوله سبحانه : 19 ( { فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا } ) الضمير راجع إلى الصداق ، وهذا الشيء منه لا بد وأن يكون بعضه ، وإذاً لا دليل في الآية ، أو محمول على غير حال العقد ، ولا يلزم من الإباحة بغير عقد الإباحة بعقد ، بدليل الربا ، ثم إن الله سبحانه قال : 19 ( { فكلوه هنيئا مريئا } ) ولا هناءة مع الكراهة ، فكيف يستدل به .
ومما قد يدخل تحت كلام الخرقي إذا عضلها لتفتدي نفسها ، فإنه خلع لغير ما ذكره ، لكن لا نزاع عندنا في عدم صحة هذا للآية الكريمة : 19 ( { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا } ) ولقوله تعالى : 19 ( { ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن } ) نعم يستثنى من ذلك صور ( إحداها ) إذا زنت له أن يعضلها لتفتدي ، لقوله سبحانه : 19 ( { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } ) ( الثانية ) إذا ضربها على نشوزها ونحو ذلك لم يحرم خلعها لذلك ، لأنها إذا لم تجبه لما يجب له عليها فقد خافت ألا تقيم حدود الله ( الثالثة ) إذا ضربها ظلماً لا لقصد الافتداء لم تحرم مخالعتها ، قاله أبو محمد ، وهو مقتضى كلام غيره ، لأنه لم يعضلها ليذهب ببعض ما آتاها ، نعم عليه إثم الظلم بلا ريب ، وحيث قلنا بعدم صحة الخلع فإن النكاح بحاله ، والعوض مردود ، إلا إن جعلناه طلاقاً فإنه يكون رجعياً ، والله أعلم .
قال : والخلع فسخ في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى أنه تطليقة بائنة .
ش : الرواية الأولى هي المشهورة في المذهب ، واختيار عامة الأصحاب ،
____________________
(2/452)
متقدمهم ومتأخرهم اعتماداً على ظاهر القرآن العظيم ، فإن الله سبحانه قال : 19 ( { الطلاق مرتان } ) ثم قال : 19 ( { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ) ثم قال : 19 ( { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ) وظاهره أن الخلع ليس بطلاق ، وإلا يكون الطلاق أربعاً ، ولأنها فرقة خلت عن صريح الطلاق ، فكانت فسخاً كبقية الفسوخ ، ( ووجه الثانية ) أن الخلع من كنايات الطلاق ، وقد أتى به قاصداً للفراق ، وكان طلاقاً كبقية الكنايات ، ولقول النبي في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ( خذ الحديقة ، وطلقها تطليقة ) ويجاب عن هذا بأنه لا نزاع في أن له أن يأخذ العوض ويطلقها ، وأنه إذا أتى بلفظ الطلاق أنه يكون طلاقاً ، وإنما النزاع فيما وراء ذلك ، والله أعلم ، وعلى هذه الرواية لا كلام ، أما على الأولى فهل الخلع فسخ مطلقاً أو بشرط أن لا ينوي به الطلاق ؟ فيه روايتان أشهرهما الثانية ، وعلى كل حال متى وقع بلفظ الطلاق فهو طلاق بلا ريب ، وفائدة الخلاف أنا إذا جعلناه فسخاً لم ينقص عدد الطلاق ، وإلا نقصه .
( تنبيه ) ألفاظ الخلع الصريحة : خالعتك ، وفاديتك ، وفسخت نكاحك ، وما عداها كأبنتك ونحوه كناية ، والله أعلم .
قال : ولا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به .
2682 ش : لأن ذلك قول ابن عمر وابن الزبير ، رضي الله عنهم ولا يعرف لهما مخالف ، ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد ، فلم يلحقها طلاقه ، كالمطلقة قبل الدخول ، والمنقضية عدتها ، وقوله : ولو واجهها به . يحترز من قول النعمان ومن وافقه أنه يلحقها الصريح المعنى ، دون الكناية ، والطلاق المزيل ككل امرأة له طالق ، والله أعلم .
قال : ولو قالت له : اخلعني على ما في يدي من الدراهم ، ففعل فلم يكن في يدها شيء ، لزمها له ثلاثة دراهم .
ش : قد تضمن كلام الخرقي صحة الخلع بالمجهول ، وهو المذهب المعمول به ، لإطلاق قول الله تعالى : 19 ( { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ) ولأن الخلع ليس بمعاوضة حقيقة ، وإنما هو إسقاط لحقه من البضع ، وإذاً تدخله المسامحة ، وقال أبو بكر : لا يصح الخلع ، لأنه معاوضة ، أشبه البيع ، ولا تفريع على هذا ، أما على الأول فمقتضى كلام الخرقي أنه إن كان في يدها دراهم فهي له وإن قلت ، ولا شيء له سواها ، لأن الذي خالعته عليه وهو شيء من الدراهم قد وجد ، وإن لم يكن في يدها شيء فله ثلاثة دراهم ، لأنه أقل الجمع حقيقة ، بدليل ما لو وصى له بدراهم ، ولأبي محمد احتمال أنه إذا كان في يدها دون الثلاثة دراهم لزمها ثلاثة ، كما لو لم يكن في يدها شيء ، والذي يظهر لي أن ( من ) هنا لبيان الجنس ، وأنه إنما له ما في يدها ، أو أقل ما يتناوله الاسم إن لم يكن في يدها شيء .
____________________
(2/453)
واعلم أن أبا البركات له في الخلع على المجهول تحرير حسن لم أره لغيره ، وملخص ما قاله في هذه الصورة أن الذي قاله الخرقي على مختاره من صحة الخلع بغير عوض ، أما إن باشتراط العوض فهنا يجري قول أبي بكر بالبطلان ، والمشهور خلافه ، وعلى المشهور هل يجب كما تقدم أو يبطل المسمى ويجب مهر المثل أو إن وجد شيء فهو له ، وإلا وجب مهر المثل ؟ على ثلاثة أوجه ، والله أعلم .
قال : ولو خالعها على غير عوض كان خلعاً ولا شيء له .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، واختيار الخرقي ، وابن عقيل في التذكرة ، لأنه قطع للنكاح ، فصح من غير عوض كالطلاق ، ولأن الأصل في مشروعية الخلع أن يوجد من المرأة رغبة عن زوجها ، وتحتاج إلى فراقه فتسأله ذلك ، فإذا أجابها فقد حصل المقصود منه ( والثانية ) لا يصح إلا بعوض ، اختارها القاضي وجمهور أصحابه ، أبو الخطاب ، والشريف ، والشيرازي وغيرهم ، لأن الخلع الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعوض ، والأصل عدم جواز ما عداه ، ولأن الخلع ( إن كان ) فسخاً فالزوج لا يملك فسخ النكاح إلا لعيبها ، بخلاف ما إذا دخله العوض فإنه يصير معاوضة ، فلا يجتمع له العوض والمعوض ، ( وإن كان ) طلاقاً فليس بصريح فيه اتفاقاً ، وإنما هو كناية ، والكناية لا بد فيها من النية أو ما يقوم مقامها ، وهو والحال هذه بدل العوض ، ولم يوجد واحد منهما ، فعلى هذه الرواية إن خلا عن عوض لم يقع به شيء إلا حيث نجعله طلاقاً ، فيكون طلاقاً رجعياً ، والله أعلم .
قال : ولو خالعها على ثوب ونحوه فخرج معيباً ، فهو مخير بين أن يأخذ أرش العيب أو قيمة الثوب ويرده .
ش : الخلع على ثوب ونحوه له حالتان ( إحداهما ) أن يكون معيناً وهو ينقسم فسمين منجزاً ومعلقاً ، ( فالمنجز ) وهو مراد الخرقي أن يقول : خلعتك على هذا الثوب ، فهذا إن لم يعلم به عيب حين العقد ثم اطلع على عيب فإنه يخير بين أخذ أرش العيب عوضاً عن الجزء الفائت ، وبين رد الثوب وأخذ قيمته سليماً ، لأن مقتضى المعاوضة أنه إذا رد الثوب رجع في مقابله وهو البضع ، لكن ذلك متعذر ، لأن البينونة إذا وقعت لا ترتفع ، فيرجع ببدل ما رضي به ، وهو الثوب ، وفيه البحث السابق في الصداق ، أنه كان ينبغي أن يرجع في بدل البضع وهو مهر المثل .
وفي المذهب : رواية أخرى أنه لا أرش له مع إمساكه كالرواية المذكورة في البيع والصداق ، ( والمعلق ) أن يقول : إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق . وهذا المنصوص عن أحمد ، وهو اختيار الشيخين ، لأنه إذا اطلع فيه على عيب فلا شيء له ، تغليباً للشرط ، وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنه كالذي قبله ، تغليباً للمعاوضة ( والحال الثانية ) أن يكون غير معين ، وهو قسمان أيضاً ( أحدهما ) أن يكون موصوفاً بصفات السلم في الذمة ، فهذا إذا سلمته إليه فوجد به عيباً ( فله إمساكه ) لأن غايته أنه قد رضي
____________________
(2/454)
بدون حقه ، ( ورده ) وأخذ بدله ، لأن الذي وجب له في الذمة سليم ، فيرجع إليه ( الثاني ) أن يكون مجهولًا ، كأن يخالعها على ثوب ، فإن لم نشترط العوض فله أقل ما يتناوله الاسم ، وإن اشترطناه فهل يصح الخلع والحال هذه ؟ فيه وجهان ، المذهب منهما الصحة ، وعليه فهل يجب أقل ما يتناوله الاسم ، أو قدر مهر مثلها ؟ فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : وإذا خالعها على عبد فخرج حراً أو استحق كان عليها قيمته .
ش : لتعذر أخذه ، والرجوع في البضع ، وإذاً فيرجع في بدل ما رضي به ، وهو قيمته ، وفيه الاشكال السابق ، وقول الخرقي : خرج حراً أو استحق . يحترز عما إذا خالعها على ما يعلمان أنه حر أو مغصوب ، فإنه لا شيء له بلا ريب ، لكن هل يصح الخلع أو يكون كالخلع بغير عوض ؟ فيه طريقتان للأصحاب ، ( والأولى ) طريقة القاضي في الجامع الصغير ، وابن البنا ، وابن عقيل في التذكرة ، ( والثانية ) طريقة الشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي والشيخين ، والله أعلم .
قال : ولو قالت له : طلقني ثلاثاً بألف ، فطلقها واحدة لم يكن له شيء ، ولزمتها التطليقة .
ش : أما وقوع الطلاق بها فلا خلاف فيه ، لأنه أتى بلفظه الصريح ، وأما الألف فلا يستحق منها شيئاً على المنصوص ، والمجزوم به عند عامة الأصحاب ، لأنها إنما بذلتها في مقابلة الثلاث ، ولم تحصل ، وصار كما لو قال : بعني عبديك بألف . فقال : بعتك أحدهما بخمسمائة . وفارق إذا قال : من رد عبيدي فله كذا . فرد بعضهم ، فإنه يستحق بالقسط ، لأن غرضه يتعلق بكل واحد من العبيد ، وهنا غرضها يتعلق ببينونة كبرى وما حصلت ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنه يستحق ثلث الألف ، كما لو قال : من رد عبيدي الثلاثة فله ألف درهم . فرد أحدهم كان له ثلث الألف ، فلو لم يكن بقي من طلاقها إلا واحدة ، فقالت : طلقني ثلاثاً بألف . فطلقها الواحدة ، فالذي عليه الأصحاب هنا فيما علمت أنه يستحق الألف ، لأن الواحدة إذاً تحصل ما تحصل الثلاث من البينونة الكبرى ، فالغرض الذي طلبته المرأة حاصل لها ، ولأبي محمد في المقنع احتمال أنها إذا لم تعلم ليس له إلا ثلث الألف ، لأنها مع العلم معنى كلامها : كمل لي الثلاث . بخلاف ما إذا لم تعلم ، فإن الألف مبذولة في الطلقات الثلاث ، فتقسطت عليها ، والله أعلم .
قال : وإذا خالعته الأمة بغير إذن سيدها على شيء معلوم كان الخلع واقعاً ، ويتبعها إذا عتقت بمثله إن كان له مثل وإلا قيمته .
ش : إذا خالعته الأمة فلا يخلو إما أن يكون بإذن سيدها أو بغير إذنه ، فإن كان بإذنه صح بلا ريب ، كما لو أذن لها في تجارة أو نحوها ، ومحل العوض كمحله في
____________________
(2/455)
استدانتها ، يتعلق بذمة سيدها على المذهب ، وإن كان بغير إذنه فهل يصح ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وهو مقتضى المحكي عن القاضي في المجرد ، وأورده أبو البركات مذهباً لا يصح ، لأن الخلع عقد معاوضة ، فلم يصح منها كالبيع ونحوه ( والثاني ) وهو الذي قطع به الخرقي ، والقاضي في الجامع الصغير ، وأبو الخطاب في الهداية ، والشريف وأبو محمد في كتبه الثلاثة يصح ، لأنه إذا صح الخلع مع الأجنبي فمع الزوجة أولى ، والخلع يفارق البيع ، بدليل صحته على المجهول ، وبغير عوض على رواية ، وغير ذلك ، ويتخرج لنا ( وجه ثالث ) أنها إن خالعته في ذمتها صح ، وعلى شيء في يدها لا يصح كبيعها ، ويجوز في رواية تقدمت ، وعلى القول بالصحة قال الخرقي وعامة من تبعه : تتبع بالعوض بعد العتق ، لتعذر الأخذ منها في الحال ، فيرجع عليها حين يسارها ، وقال أبو محمد : إن وقع على شيء في الذمة فكذلك ، وإن وقع على عين فقياس المذهب أنه لا شيء له ، قال : لأنه إذا علم أنها أمة فقد علم أنها لا تملك العين ، فيكون راضياً بغير عوض ، ويلزم من هذا التعليل بطلان الخلع على المشهور ، لوقوعه بغير عوض ، والله أعلم .
قال : وما خالع العبد به زوجته من شيء جاز .
ش : لأنه إذا صح طلاقه من غير عوض ، فبعوض أولى وأحرى .
قال : وهو لسيده .
ش : يعني عوض الخلع الذي خالع به العبد لسيده ، لأنه من كسبه ، وكسبه لسيده ، ولم يتعرض الخرقي لمن يقبضه ، وقد يقال : إن ظاهر كلامه أن السيد هو الذي يقبضه ، وهو اختيار أبي محمد ، وصاحب النهاية ، كبقية أملاك السيد ، وظاهر كلام أحمد واختاره القاضي ، أن للعبد قبضه ، لأنه لما ملك العقد تبعه عوضه والله أعلم .
قال : وإذا خالعت المرأة في مرض موتها بأكثر من ميراثه منها فالخلع واقع ، وللورثة أن يرجعوا عليه بالزيادة .
ش : مخالعة المريضة صحيحة بلا ريب ، كبيعها ونحو ذلك ، ثم إن كان المسمى قدر ميراثها منه فأقل فلا كلام ، وإن كان أزيد وقف الزائد على إجازة الورثة ، لأنها إذاً متهمة ، لاحتمال قصدها أن يعطى الوارث زيادة على إرثه ، فأشبه ما لو أقرت له ، والله أعلم .
قال : ولو طلقها في مرض موته ، وأوصى لها بأكثر مما كانت ترث ، فللورثة أن لا يعطوها أكثر من ميراثها .
ش : هذا أيضاً من مشكاة الذي قبله ، لأنه إذا أوصى لها بأكثر من ميراثها فهو متهم ، لأنه يريد أن تبقى أجنبية ليتوصل إلى إعطائها أكثر من ميراثها ، بخلاف ما إذا كان بالثلث فما دون ، فإن التهمة منتفية انتهى ، وفي بعض النسخ : ولو خالعها . وعليها
____________________
(2/456)
شرح أبو محمد ، وهي أمس وفيها دلالة على صحة خلع المريض وهو واضح ، لأنه يصح طلاقه ، فمخالعته أولى ، والله أعلم .
قال : ولو خالعته بمحرم وهما كافران ، فقبضه ثم أسلما أو أحدهما ، لم يرجع عليها بشيء .
ش : تخالع الكفار صحيح ، لأنه يصح طلاقهم ، فصح تخالعهم كالمسلمين ، ثم إن كان العوض صحيحاً فواضح ، وإن كان محرماً كالخمر والخنزير فإن قبضه الزوج فقد مضى حكمه ، ولا شيء له وإن أسلم ، كما لو تبايعا وتقابضا ، ودليل الأصل قوله سبحانه : 19 ( { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } ) وإن لم يقبضه فقال القاضي في الجامع الكبير : لا شيء له ، لرضاه بما ليس بمال ، أشبه المسلمين إذا تخالعا على ذلم ، وقال في المجرد : يجب مهر المثل ، لأن العوض فاسد ، فرجع إلى قيمة المتلف ، وهو مهر المثل ، واختار أبو محمد أنه يجب قيمة ذلك عند أهله ، لأنه إنما رضي بعوض ، وقد تعذر العوض ، فيرجع في بدله ، وهذا قياس المذهب ، كما لو خالعها على عبد فخرج حراً أو نحو ذلك ، وفارق المسلم إذا خالع على ذلك ، لأنه رضي بغير عوض ، والله سبحانه أعلم .
____________________
(2/457)
( كتاب الطلاق )
ش : الطلاق لغة التخلية ، يقال : طلقت الناقة . إذا سرحت حيث شاءت ، وجلس فلان في الحبس طلقاً ، إذا كان بغير قيد ، والإطلاق الإرسال ، وهو في الشرع راجع لذلك ، لأنه حل قيد النكاح ، ومن حل نكاحها فقد خليت ، ويقال : طلقت المرأة وطلقت ، بفتح اللام وضمها ، تطلق بضم اللام فيهما ، طلاقاً وطلقة ، والله أعلم .
قال : وطلاق السنة أن يطلقها طاهراً من غير جماع ، واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها .
ش : طلاق السنة ما أذن فيه صاحب الشرع ، وعكسه طلاق البدعة ، ولا خلاف أن المطلق على هذه الصفة مطلق للسنة ، قاله ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما ، والأصل فيه قول الله سبحانه وتعالى : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } ) إلى قوله سبحانه : 19 ( { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } ) .
2683 قال ابن مسعود في تفسيرها : طاهراً من غير جماع ، ونحوه عن ابن عباس .
2684 وفي الصحيحين أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض ، على عهد رسول الله ، فسأل عمر رسول الله عن ذلك ، فقال رسول الله : ( مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء ) وفي رواية في الصحيحن أيضاً : ( ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، ثم إن شاء طلقها طاهراً قبل أن يمس ، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى ) .
وقول الخرقي : طاهراً . يخرج الحائض ، وقوله : من غير جماع . يخرج الطاهر المصابة في الطهر ، ولا نزاع أن طلاق هاتين للبدعة ، وقد دل عليه ما تقدم ، وقوله : واحدة ويدعها حتى تنقضي عدتها ؛ يحترز عما لو طلقها أكثر من واحدة في طهر ، أو طلق في كل طهر طلقة ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : ولو طلقها ثلاثاً في طهر لم يصبها فيه كان أيضاً للسنة ، وكان تاركاً للاختيار .
____________________
(2/458)
ش : هذا ( إحدى الروايتين ) عن أبي عبد الله رحمه الله .
2685 لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة ؛ وفي رواية : طلقها ثلاثاً . الحديث .
2686 وكذلك امرأة رفاعة قالت : يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي ؛ وظاهره وقوع الثلاث بكلمة واحدة .
2687 وفي حديث المتلاعنين في الصحيح قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها . فطلقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره النبي . وفي رواية لأبي داود : فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله ، فانفذه رسول الله ، ولم ينقل أن النبي أنكر ذلك ، ولو لم يكن للسنة لأنكره ( والرواية الثانية ) وهي أنصهما أن جمع الثلاث بدعة ، وهذا اختيار أبي بكر ، وأبي حفص ، والقاضي والشريف ، وأبي الخطاب والشيرازي ، والقاضي أبي الحسين وأبي محمد ، لقول الله تعالى : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } ) إلى قوله : 19 ( { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً ، فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ، أو فارقوهن بمعروف } ) ثم قال سبحانه : 19 ( { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } )9 ( { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } ) ومن طلق ثلاثاً لم يبق له أمر يحدث ، ولم يجعل له مخرجاً ولا يسراً .
2688 قال مجاهد : كنت عند ابن عباس رضي الله عنهما ، فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثاً . قال : فسكت حتى ظننت أنه رداها إليه ، ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس ، يا ابن عباس ؛ وإن الله تعالى قال : 19 ( { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } ) وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً ، عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، وإن الله تعالى قال : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن } ) رواه أبو داود .
2689 وعن محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً ، فغضب ثم قال : ( أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ) حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله ؟ رواه النسائي .
2690 وأما حديث فاطمة بنت قيس ففيه في مسلم وأبي داود والنسائي أنها قالت : إن أبا حفص طلقها آخر ثلاث تطليقات ، وفي رواية أخرى لهم : أنه بعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها . وهذا يبين أن رواية : طلقها ثلاثاً . أو طلقها ألبتة ، يعني أنه
____________________
(2/459)
استوفى عدد طلاقها ، وكذلك يحمل حديث ركانة ، مع أنه لم يكن بحضرة النبي حتى ينكر عليه ، وأما حديث المتلاعنين فالمنع من الثلاث إنما كان حذاراً من سد الباب عليه ، والملاعنة تحرم على التأبيد ، فلا حاجة للمنع من الثلاث ، ( وعلى هذه ) فهل المحرم جمع الثلاث في طهر واحد ، فلو فرقها في ثلاثة أطهار لم يكن محرماً ، أو لا فرق بين أن يجمعها في طهر واحد أو في ثلاثة أطهار ؟ على روايتين ( إحداهما ) أن المحرم الجمع ، لظاهر حديث ابن عمر الصحيح ( مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ) ( والثانية ) لا فرق بين الجمع والتفريق ، في أن الجميع بدعة .
2691 لما روى الدارقطني عن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتن أخريين عند القرئين ، فبلغ ذلك رسول الله فقال : ( يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى ، إنك قد أخطأت السنة ، والسنة أن تستقبل الطهر ، فتطلق لكل قرء ) قال : فأمرني رسول الله فراجعتها ، ثم قال : ( إذا طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك ) فقلت : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً أكان يحل لي أن أراجعها ؟ قال : ( لا كانت تبين منك وتكون معصية ) .
2692 وعن علي رضي الله عنه قال : لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبداً ، يطلقها ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثاً ، فمتى شاء راجعها . رواه النجاد ، وحديث ابن عمر محمول على حصول رجعة بعد الطلاق ، وإذاً الطلاق بعد الرجعة للسنة بلا ريب ، ويتلخص أن في المسألة ثلاث روايات ( الثالثة ) الجمع في الطهر الواحد بدعة ، والتفريق سنة .
واعلم أن بين الشيخين نزاعاً في فرع آخر ، وهو لو طلقها طلقتين ، فعند أبي محمد أنه للسنة وإن كان الجمع بدعة ، لكن الأولى عنده أن يطلق واحدة ، وعند أبي البركات أنه كما لو جمع الثلاث ، والله أعلم .
( تنبيه ) أكثر الأصحاب على أن العلة في منع الطلاق في الحيض تطويل العدة ، وخالفهم أبو الخطاب فقال : تطليقه في زمن رغبته عنها ، قال أبو العباس : وقد يقال : إن الأصل في الطلاق النهي عنه ، فلا يباح إلا وقت الحاجة ، وهو الطلاق الذي تتعقبه العدة ، لأنه لا بد من عدة ، والعلة في منع الطلاق في الطهر المصاب فيه احتمال الحمل ، فيحصل الندم ، ولهذا إذا استبان حملها أبيح الطلاق ، والعلة في جمع الثلاث سد الباب عليه ، وعدم المخرج له ، كما أشار إليه الكتاب العزيز ، واختلف الأصحاب في الطلاق في الحيض ، هل هو محرم لحق الله تعالى ، فلا يباح وإن سألته ، أو لحقها
____________________
(2/460)
فيباح بسؤالها ؟ على وجهين ، ( والأول ) ظاهر إطلاق القرآن والسنة ، وأما جمع الثلاث فمحرم عند من حرمه لحق الله ، فلا يباح بسؤالها بلا نزاع نعلمه ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها أنت طالق للسنة ؛ وكانت حاملًا أو طاهراً طهراً لم يجامعها فيه ؛ فقد وقع الطلاق ، وإن كانت حائضاً لزمها الطلاق إذا طهرت ، وإن كانت طاهرة مجامعة فيه فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة لزمها الطلاق .
ش : اللام في ( للسنة ) للوقت ، فإذا قال : لها أنت طالق للسنة ، أي لوقت السنة ، فإذا كانت طاهراً غير مجامعة في ذلك الطهر ، فقد وقع الطلاق ، لوجود ظرفه ، وهو وقت السنة ، وكذلك إن كانت حاملًا .
2693 لأن في مسلم والسنن من حديث ابن عمر رضي الله عنه : ( مره فليراجعها طاهراً أو حاملًا ) وفي لفظ : ( إذا طهرت أو وهي حامل ) وقال ابن عبد البر : لا خلاف بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة ، ولأن المطلق والحال هذه داخل على بصيرة ، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد معه الندم . انتهى ، وإن كانت حائضاً فهذا ليس بوقت للسنة ، فتطلق ، وكذلك إن كانت طاهرة مجامعة في الطهر ، لم يوجد ظرف الطلاق ، ثم هذا الطهر يتعقبه الحيض ، وهو أيضاً وقت للبدعة لا للسنة ، فإذا طهرت منه وجد وقت السنة فتطلق لوجود ظرفه .
وظاهر كلام الخرقي أن بمجرد الطهر يوجد وقت السنة ، وإن لم تغتسل ، وهذا هو المذهب ، وقيل : لا يوجد حتى تغتسل ، ولعل مبنى القولين على أن العلة في المنع من طلاق الحائض إن قيل تطويل العدة ، وهو المشهور أبيح الطلاق بمجرد الطهر ، وإن قيل الرغبة عنها لم يبح حتى تغتسل ، لمنعها منه قبل الاغتسال ، والله أعلم .
قال : ولو قال لها : أنت طالق للبدعة . وهي في طهر لم يصبها فيه ، لم يقع الطلاق حتى يصيبها أو تحيض .
ش : هذه الصورة عكس التي قبلها ، فإذا قال لزوجته : أنت طالق للبدعة . معناه لوقت البدعة ، فإذا كانت في طهر لم يصبها فيه فهذا ليس بوقت للبدعة فلا تطلق ، فإذا أصابها أو حاضت فقد وجد وقت البدعة فتطلق ، هذا قول الأصحاب ، واختار أبو البركات أنه إذا قال لها : أنت طالق للبدعة ، وهي في زمن السنة أنها تطلق طلقتين في الحال إن قلنا : الجمع بدعة ، لأنه لما لم يكن في وقت بدعة فالظاهر أنه لم يرد البدعة إلا من حيث العدد ، ومعناه : أنت طالق طلاقاً للبدعة . أي موصوفاً بأنه للبدعة ، وإذاً تطلق طلقتين ، لأنه طلاق موصوف بالبدعة ، والله أعلم .
قال : ولو قال لها وهي حائض ولم يدخل بها : أنت طالق للسنة ، طلقت من وقتها ، لأنه لا سنة فيه ، ولا بدعة .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وأشار إلى علته بأنه لا سنة في هذا
____________________
(2/461)
الطلاق ، أي طلاق غير المدخول بها ولا بدعة ، وقد حكى ذلك ابن عبد البر إجماعاً في غير العدد ، وذلك لما تقدم من أن العلة في المنع من الطلاق في الحيض طول العدة ، وفي الطهر المجامع فيه خوف الندم بظهور الحمل ، وغير المدخول بها لا عدة عليها ، ولا ارتياب في حقها ، ولو عكس فقال لغير المدخول بها : أنت طالق للبدعة ، ولو عكس فقال لغير المدخول بها : أنت طالق للبدعة ، وهي طاهر طلقت في الحال لذلك ، وكذلك حكم الآيسة والصغيرة ، لا سنة لطلاقهما ولا بدعة ، وكذلك الحامل المستبان حملها ، على أشهر الروايتين ، لما تقدم ، والرواية الثانية تثبت سنة الوقت للحامل ، لحديث ابن عمر رضي الله عنه المتقدم ، وهو ظاهر كلام الخرقي السابق ، ولهذا لم يقل إذا قال لها : أنت طالق للبدعة . أنها تطلق إذا كانت حاملًا ، وعلى هذا إذا قال للحامل أنت طالق للبدعة . لم تطلق في الحال ، حتى يوجد نفاس أو حيض .
( تنبيه ) وقول الخرقي : لا سنة فيه ولا بدعة ، أي من حيث الوقت ، وكذا من حيث العدد على مختاره ، وعلى الرواية الأخرى تثبت لهم السنة من حيث العدد ، والله أعلم .
قال : وطلاق الزائل العقل بلا سكر لا يقع .
ش : طلاق الزائل العقل لجنون أو إغماء أو طفولية لا يقع .
2694 لقول النبي : ( رفع القلم عن ثلاثة ، عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل ) رواه أبو داود .
2695 وقال على رضي الله عنه : كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه . ذكره البخاري في صحيحه ، مع أن هذا قد حكي إجماعاً والحمد لله ، وقد يدخل في كلام الخرقي رحمه الله النائم ، وهو أيضاً بالإجماع ، وقد شهد له النص .
ومما يدخل في كلام الخرقي من تعاطى ما يزيل عقله لغير حاجة ، كالبنج ونحوه ، وقد اختلف المذهب في هذا ، فألحقه ابن حامد وأبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد بالسكران ، وفرق أحمد بينهما ، فألحقه بالمجنون ، ووجه القاضي الفرق بأن الغالب من الناس أنهم يشربون لغير المعصية ، بخلاف المسكر ، والحكم يتعلق بالغالب ، ولأن كثيراً ممن يشرب المسكر يظهر زوال العقل مع إثباته ، فحكم بإيقاع الطلاق سداً للذريعة ، بخلاف متعاطي البنج ونحوه ، ومما قد يلحق بالبنج الحشيش الخبيثة ، وأبو العباس يرى أن حكمها حكم الشراب المسكر ، حتى في إيجاب الحد ، ويفرق بينها وبين البنج ، بأنها تشتهى وتطلب ، فهي كالخمر ، بخلاف البنج ، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس وطلبها ، والله أعلم .
قال : وعن أبي عبد الله رحمه الله في طلاق السكران روايات ، إحداهن : لا
____________________
(2/462)
يلزمه الطلاق ، ورواية : يلزمه ، ورواية يتوقف عن الجواب ، ويقول : قد اختلف أصحاب رسول الله فيه .
ش : الرواية الأولى اختيار أبي بكر ، وابن عقيل فيما أظن ، ونص عليها أحمد صريحاً في رواية جماعة ، بل هي آخر قوليه على ما حكى عنه الميموني ، قال : أكثر ما فيه عندي أنه لا يلزمه الطلاق ، فقيل له : أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه ، قال : بلى ولكن أكثر ما عندي أنه لا يلزمه .
2696 وذلك لقول عثمان رضي الله عنه : ليس لمجنون ولا لسكران طلاق .
2697 وقال ابن عباس رضي الله عنه وطلاق السكران والمستكره ليس بجائز . ذكرهما البخاري في صحيحه ، وقال أحمد : حديث عثمان رضي الله عنه ارفع شيء فيه ، وهو أصح يعني من حديث علي ، وقال ابن المنذر : هذا ثابت عن عثمان ولا نعرف أحداً من الصحابة خالفه .
2698 وقد جاء في حديث بريدة في قصة ماعز أنه قال : يا رسول الله طهرني . قال : ( مم أطهرك ؟ ) قال : من الزنا . فسأل رسول الله أبه جنون ؟ فأخبر أنه ليس بمجنون ، فقال : ( أشرب خمراً ؟ ) فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، فقال النبي : ( أزنيت ؟ ) قال : نعم . فأمر به فرجم . رواه مسلم والترمذي وصححه ، وهذا ظاهر في أن وجود ريح الخمر منه يمنع من ترتب الحكم عليه ، ويجعله في حكم المجنون ، ولأنه زائل العقل ، أشبه المجنون والنائم ، ولأن شرط التكليف العقل وهو مفقود ، ولا أثر لزوال الشرط بمعصيته ، بدليل أن من كسر ساقه جاز أن يصلي قاعداً ، ولا قضاء عليه ، وكذلك لو ضربت المرأة بطنها فنفست ، سقطت عنها الصلاة ( والرواية الثانية ) اختارها الخلال والقاضي ، وعامة أصحابه ، الشريف وأبو الخطاب ، والشيرازي وغيرهم .
2699 لأنه يروى عن النبي : ( كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ) ، وعن علي رضي الله عنه مثله ، ذكره البخاري في صحيحه .
2700 وروى ابن وبرة الكلبي قال : أرسلني خالد إلى عمر رضي الله عنه ، فأتيته في المسجد ، ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن ، وطلحة والزبير ، فقلت : إن خالداً يقول : إن الناس انهمكوا في الخمر ، وتحاقروا العقوبة ؛ فقال عمر : 16 ( هؤلاء عندك فسلهم ، فقال علي رضي الله عنه : )6 ( نراه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون . فقال عمر : أبلغ صاحبك ما قال ) ، فجعله الصحابة في حكم الصاحي ، بدليل أنهم أوجبوا عليه حد المفتري ، ولأن كثيراً ممن يتعاطى ذلك يظهر
____________________
(2/463)
زوال العقل مع ثباته ، فعومل معاملة الصاحي ، سداً للذريعة .
ولا يخفى أن أدلة الرواية الأولى أظهر ، إذ الحديث الأول وكذلك قصة ابن وبرة لم يذكر من رواهما ، ولا يعرف صحتهما .
2701 ثم يضعف قصة ابن وبرة أن مذهب علي رضي الله عنه أن السكران إنما يجلد أربعين ، وما ذكره البخاري عن علي رضي الله عنه في قوله : كل الطلاق جائز . فغايته عموم ( والرواية الثالثة ) نص عليها فيما أظن في رواية حرب ، وقد ذكر وجه توقفه ، وهو اختلاف أصحاب رسول الله ، وفي التحقيق لا حاجة إلى ذكر هذه الرواية ، لأن أحمد حيث توقف فللأصحاب قولان ، وقد نص على القولين ، فاستغني عن ذكر رواية التوقف ، واعلم أن الروايتين المتقدمتين يجريان في عتقه ونكاحه ، وبيعه وردته ، وسائر أقواله ، وقتله وسرقته ، وكل فعل يعتبر له العقل ( وعنه ) أنه كالمجنون في أقواله ، وكالصاحي في أفعاله ، لأن تأثير الفعل أقوى من تأثير القول ولهذا قلنا على رواية : إن الإكراه لا يؤثر في الأفعال ( وعنه ) رابعة أنه في الحدود كالصاحي ، وفي غيرها كالمجنون ، قال في رواية الميموني : تلزمه الحدود ، ولا تلزمه الحقوق ، وهذه اختيار أبي بكر ، فيما حكاه عنه القاضي ، ويلزم أن يقول اختياره في الطلاق عدم الوقوع ، وذلك سداً للذريعة ، وحذاراً من أن تنتهك محارم الله بالاحتمال ، ويشهد لها أيضاً قصة ابن وبرة إن صحت ( وعنه ) رواية خامسة أنه فيما يستقل به مثل عتقه وقتله وغيرهما كالصاحي ، وفيما لا يستقل به مثل بيعه ونكاحه ومعاوضته كالمجنون ، حذاراً من أن يلزم غيره بقوله شيء ، حكاها ابن حامد ، قال القاضي : وقد أومأ إليها في رواية البرزاطي ، وقد سأله عن طلاق السكران فقال : لا أقول في طلاقه شيئاً ، قيل له : فبيعه وشراؤه ؟ قال : أما بيعه وشراؤه فغير جائز .
قلت : ونقل عنه إسحاق بن هانيء ما يحتمل عكس هذه الرواية ، فقال : لا أقول في طلاق السكران وعتقه شيئاً ، ولكن شراؤه وبيعه جائز .
( تنبيه ) السكر الذي يقع الخلاف فيه أن يخلط في كلامه ، ولا يعرف فعله من فعل غيره ، ونحو ذلك ، قال سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ) فجعل سبحانه علامة زوال السكر علمه بما يقول ، ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من الأرض ونحو ذلك ، لأن ذلك لا يخفى على المجنون ، والله أعلم .
قال : وإذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه .
ش : هذه إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار عامة أصحابه ، الخرقي وأبي بكر ، وابن حامد ، والقاضي وأصحابه ، كالشريف ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل .
2702 لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أتى النبي عبد فقال :
____________________
(2/464)
يا رسول الله سيدي زوجني أمته ، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها . قال : فصعد رسول الله المنبر فقال : ( يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ، ثم يريد أن يفرق بينهما ، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ) رواه ابن ماجه والدارقطني .
2703 ولما يروى من قوله : ( كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه ) المغلوب على عقله ( والثانية ) لا يقع طلاقه حتى يبلغ ، لقول النبي : ( رفع القلم عن ثلاثة ) الحديث ، وتقييد الخرقي الصبي بالعاقل ليخرج من لم يعقل ، ولا نزاع في ذلك ، ولينيط الحكم بالعقل ، وكذا أكثر الروايات ، وهو اختيار القاضي وغيره ، ( وعنه ) تقييد ذلك بابن عشر ، وهو اختيار أبي بكر ، لجعله حداً للضرب على الصلاة ونحوها ، ومعنى عقل الطلاق أن يعرف أن النكاح يزول به ، ويلزم من هذا أن يكون مميزاً ، والله أعلم .
قال : ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء .
2704 ش : لما يروى عن النبي أنه قال : ( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) رواه ابن ماجه .
2705 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله يقول : ( لا طلاق ولا عتاق في غلاق ) رواه أبو داود وهذا لفظه ، وأحمد وابن ماجه ، ولفظهما ( في إغلاق ) قال المنذري : وهو المحفوظ . قال أبو عبيد والقتيبي : معناه في إكراه . وقال أبو بكر : سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا : يريد الإكراه ، لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه ، وقد تقدم قول ابن عباس رضي الله عنه : إن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز .
2706 وعن قدامة بن إبراهيم ، أن رجلًا على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه تدلى يشتار عسلًا فأقبلت امرأته فجلست على الحبل ، فقالت : ليطقلها ثلاثاً ، وإلا قطعت الحبل ، فذكرها الله والإسلام فأبت ، فطلقها ثلاثاً ، ثم خرج إلى عمر رضي الله عنه فذكر ذلك له ، فقال : ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق . رواه سعيد بن منصور ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، ويستثنى من هذا إذا كان الإكراه بحق ، كإكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص ، إذا لم يف ، وإكراه الرجلين اللذين زوجهما وليان ، ولم يعلم السابق منهما ، لأنه قول حمل عليه بحق فصح ، كإسلام المرتد .
وقول الخرقي : ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء . ظاهره وإن نوى به الطلاق ، وهو أحد القولين ، نظراً إلى أن اللفظ مرفوع عنه بالإكراه ، فإذاً تبقى نيته مجردة ، ( والقول الثاني ) أنه بمنزلة الكناية ، إن نوى به الطلاق وقع وإلا لم يقع ،
____________________
(2/465)
حكاهما أبو الخطاب في الانتصار ، وكذلك حكى شيخه عن أحمد ما يدل على روايتين ، وجعل الأشبه الوقوع ، وكذلك أورده أبو محمد مذهباً ، ولا نزاع عند العامة أنه إذا لم ينو الطلاق ، ولم يتأول بلا عذر ، أنه لا يقع ، ولابن حمدان احتمال بالوقوع والحال هذه ، والله أعلم .
قال : ولا يكون مكرهاً حتى ينال بشيء من العذاب ، مثل الضرب ، أو الخنق أو عصر الساق ، وما أشبهه ، ولا يكون التواعد إكراهاً .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وجمهور أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم ، ونص عليه أحمد في رواية الجماعة ، وقال : كما فعل بأصحاب النبي .
2707 وكأنه يشير إلى قصة عمار رضي الله عنه فروي أن المشركين أخذوه فأرادوه على الشرك ، فأعطاهم ، فانتهى إليه النبي وهو يبكي ، فجعل يمسح الدموع عن عينيه ، ويقول : ( أخذك المشركون فغطوك في الماء ، وأمروك أن تشرك بالله ففعلت ، فإن أمروك مرة أخرى فافعل ذلك بهم ) رواه أبو حفص ، ووجه الدليل منه أن الرخصة وردت في مثل ذلك ، فاقتصرت عليه ، ولأن التواعد غير محقق ، وغايته ظن ، ولا يترك بالظن أمر متيقن ( والرواية الثانية ) يكون التواعد إكراهاً ، اختارها ابن عقيل في التذكرة ، وأبو محمد ، لما تقدم عن عمر رضي الله عنه في الذي اشتار العسل ، ولأن الإكراه إنما يتحقق بالوعيد ، فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه وإنما يباح الفعل المكره عليه دفعاً لما يتوعد به من العقوبة فيما بعد ، ( فعلى الرواية الأولى ) شرط الضرب أن يكون شديداً ، أو يسيراً في حق ذي مروءة ، على وجه يكون إخراقاً ، ومما يشبه الضرب ، وعصر الساق القيد والحبس الطويلان ، وأخذ المال الكثير ، زاد في الكافي : والإخراج من الديار لا السب ونحوه رواية واحدة ، قاله في المغني ، وجعل في الكافي الإخراق ممن يغض ذلك منه إكراهاً ، وفي تعذيب الولد قولان ، وضبط أبو البركات ذلك بأن يكون مثله يتضرر بذلك تضرراً بيناً ، ولا بد أن يستدام مع الفعل التوعد بذلك ، ( وعلى الرواية الثانية ) شرط التواعد أن يكون بما تقدم من قادر يغلب على ظنه فعله إن خالفه ، وعجزه عن دفعه وهربه واختفائه ، وهل يستثنى على هذه الرواية التهديد بالقتل فيكون إكراهاً ، لأنه لا يمكن تداركه بعد وقوعه ؟ ، استثناه القاضي في الروايتين ، وقال : يجب أن يقال : يكون إكراهاً ، رواية واحدة ، وتبعه المجد ، وزاد قطع الطرف ، ولا شك أن المعنى فيهما واحد ، وتبعه المجد ، وزاد قطع الطرف ، ولا شك أن المعنى فيهما واحد ، وظاهر كلام أبي محمد في كتبه عدم استثنائه ، وقد أورد على القاضي في التعليق فشمله ، وأجاب بالفرق بما تقدم ، ثم قال : على أن هذه الرواية لا فرق بين القتل وغيره ، على ظاهر كلام أحمد في رواية صالح والمروذي ، والله أعلم .
____________________
(2/466)
( باب صريح الطلاق وغيره )
أي باب حكم صريح الطلاق وغيره من الاستثناء في الطلاق ، والتعليق بشرط ، وغير ذلك مما يذكر إن شاء الله تعالى ، والصريح الخالص من كل شيء ، فصريح الطلاق اللفظ الموضوع له ، الذي لا يفهم منه عند الإطلاق غيره ، أو يفهم لكن على بعد .
قال : وإذا قال لها : قد طلقتك ، أو قد فارقتك ، أو قد سرحتك ؛ لزمه الطلاق .
ش : ظاهر كلام الخرقي رحمه الله أن هذه الألفاظ صريحة في الطلاق ، ولا نزاع في أن المذهب أن لفظ الطلاق وما تصرف منه مما يفهم منه الطلاق صريح في الطلاق ، لأنه موضوع له على الخصوص ، وقد ثبت له عرف في الشرع والاستعمال ، ففي الكتاب العزيز : 19 ( { الطلاق مرتان } ) ( فإن طلقها ) وفي السنة والاستعمال أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض .
2708 وقالوا : طلق رسول الله حفصة ، وهذا واضح لا خفاء به ، وقد دخل في الطلاق وما تصرف منه طلقتك ، وأنت طالق ، وأنت مطلقة وأنت الطلاق ، وخرج منه أطلقك وطلقي ؛ لأنه لا يفهم منهما الطلاق ، إذ الأول وعد ، والثاني طلب ، وليس بخبر ولا إنشاء ، وحكى أبو بكر عن أحمد رواية في : أنت مطلقة أنه ليس بصريح ، لاحتمال أن يريد طلاقاً ماضياً ، ويلزمه ذلك في طلقتك ؛ ولأبي محمد في الكافي احتمال في : أنت الطلاق ؛ أنه لا يكون صريحاً ، ومن الصريح إذا قيل له : أطلقت امرأتك ؟ قال : نعم . إذ السؤال معاد في الجواب ، وأطلقك ؛ ليس بصريح على المذهب ، لانتفاء عرف الاستعمال فيه ، وللقاضي فيه احتمال .
وأما لفظ السراح والفراق ففيهما وجهان ، ( أحدهما ) وهو الذي ذكره الخرقي ، وتبعه عليه القاضي في التعليقة وفي غيرها ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا والشيرازي وغيرهم أنهما صريحان ، حكمهما حكم لفظ الطلاق ، لورودهما في الكتاب العزيز بمعنى الفرقة ، فأشبها لفظ الطلاق ، قال سبحانه : 19 ( { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ) وقال : 19 ( { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } ) وقال : 19 ( { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } ) وقال سبحانه : 19 ( { فتعالين أمتعكن وأسرحكن } ) ( والثاني ) وهو اختيار ابن حامد ، وأبي الخطاب في الهداية ، والشيخين ليسا بصريح ، لاستعمالهما في غير الطلاق كثيراً ، فأشبها سائر كناياته ، قال سبحانه : 19 ( { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } ) وقال تعالى : 19 ( { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } ) وأما قوله تعالى : 19 ( { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ) فليس المراد به الطلاق قطعاً ، إذ الآية
____________________
(2/467)
في الرجعية ، وهي إذا قاربت انقضاء عدتها فإما أن يمسكها برجعة ، وإما أن يترك حتى تنقضي عدتها فيسرح ، فالمراد بالتسريح في الآية الكريمة قريب من معناها اللغوي ، وهو الإرسال ، وهو أن تخلى ، وكذلك المفارقة في الآية الثانية ، المراد بها ترك مراجعتها ، كأنه إذاً يظهر حكم الفرقة ، لأنها قبل انقضاء العدة في حكم الزوجة ، وأما قوله : 19 ( { وإن يتفرقا } ) فليس فيه بيان لما تحصل به الفرقة ، وأما 19 ( { أسرحكن } ) يحتمل أرسلكن بالطلاق ، ثم المدار على عرف الاستعمال الشرعي ، وهو مفقود ، وعلى هذا الوجه هما كنايتان ظاهرتان ، حكمهما حكم الخلية والبرية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
( تنبيه ) حكم الصريح أنه لا يحتاج إلى نية كما سيأتي إن شاء الله ، وأنه إن صرفه بأن قال : من وثاق . أو نحو ذلك فإن كان باللفظ سمع منه ، وإن كان بالنية فإنه يدين ، وفي الحكم إن قامت قرينة تكذبه كالغضب أو بسؤالها الطلاق لم يسمع ، وإلا فروايتان ، أنصهما القبول ، والله أعلم .
قال : ولو قال لها في الغضب : أنت حرة . أو لطمها فقال : هذا طلاقك . لزمها الطلاق .
ش : أما إذا قال لها : أنت حرة . فقد اتفق الأصحاب فيما علمت في عدها من كنايات الطلاق ، لأن الحرة هي التي لا رق عليها ، ولا شك أن النكاح رق .
2709 ولهذا في الحديث : ( اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ) أي أسراء ، والزوج ليس له على الزوجة إلا رق الزوجية ، فإذا أخبر بزوال الرق فهو الرق المعهود ، وهو رق الزوجية ، ثم من الأصحاب من يعدها في الكنايات الظاهرة ، وهم الأكثرون ومنهم من يعدها في المختلف فيه .
وظاهر كلام الخرقي أنه جعلها من الخفية ، لأنه قال : لزمها الطلاق . وظاهره طلقة واحدة ، ولم يجعلها كالخلية ونحوها .
وقيد الخرقي وقوع الطلاق بحال الغضب ، وهو مدل بشيئين ( أحدهما ) أن الكنايات إذا اقترن بها دلالة حال ، من غضب أو ذكر الطلاق ونحو ذلك ، قام ذلك مقام النية ، وطلقت على المشهور ، والمختار لكثير من الأصحاب من الروايتين ، إذ دلالة الحال كالنية ، بدليل أنها تغير حكم الأقوال والأفعال ، فإن من قال لرجل : يا عفيف ابن العفيف ؛ في حال تعظيمه كان مدحاً ، ولو قاله في حال الشتم والسب كان ذماً وقذفاً ( والرواية الثانية ) لا بد في الكنايات من النية ، لأن نفس اللفظ للطلاق وغيره ، ومميزه النية ، فلا بد من اعتبارها ، دفعاً للإيهام ، ومال أبو محمد رحمه الله أنه في الألفاظ التي يكثر استعمالها نحو : اخرجي ، واذهبي ، ونحو ذلك لا يقع بها
____________________
(2/468)
طلاق ، إلا أن ينويه ( فعلى المذهب ) لو ادعى أنه لم يرد بها الطلاق دين ، وهل يقبل في الحكم ؟ على روايتين .
واعلم أن أبا البركات حكى الروايتين في القبول في الحكم وعدمه ، إذا ادعى عدم إرادة الطلاق وغيره يجعل الروايتين في الغضب ، هل يقوم مقام النية أم لا ؟ فربما ظن ظان أن بينهما تناف وليس كذلك ، فإن غايته أن الأصحاب ذكروا رواية لم يذكرها المجد ، وذكر يعني المجد رواية تؤخذ من كلامهم في غير هذا المحل ، وهو ما إذا ادعى أنه أراد بلفظه ما يخالف ظاهره ، ونحو ذلك .
( الشيء الثاني ) أنه إذا أتى بالكناية في غير حال الغضب لا يقع بها طلاق ، وهو كذلك ، لأن اللفظ بمجرده لا دلالة على الطلاق ، بل هو كالمشترك ، فلا بد من شيء يبين المراد منه ، ويستثنى من ذلك النية ، إذ هي تبين المراد ، وكأن الخرقي إنما تركه اكتفاء بذكر الغضب ، لأنه إذا اكتفي بالغضب لدلالته على النية ، فالنية أولى وأحرى ، وأما إذا لطمها وقال : هذا طلاقك . فقوة كلام الخرقي يقتضي وقوع الطلاق بمجرد ذلك من غير نية ، وهو قول ابن حامد ، لأن معناه أوقعت عليك طلاقاً هذا من أجله ، واختار أبو محمد أنه كناية في الطلاق ، يعتبر له ما يعتبر لها من النية ، أو دلالة حال ، لأن هذا اللفظ غير موضوع للطلاق ، ولا مستعمل فيه شرعاً ولا عرفاً ، فأشبه سائر الكنايات ، وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في الخلاف ، ويحتمل كلام الخرقي هذا أيضاً ، ويكون اللطم قائماً مقام النية ، لأنه يدل على الغضب ، وعلى قياس ما تقدم لو أطعمها أو سقاها ونحو ذلك ، فعلى الأول يقع الطلاق بمجرده ، وعلى الثاني لا بد من النية ، وعلى القول بالوقوع من غير نية فلو فسره بمحتمل غيره قبل ، وعلى هذا فهذا قسم برأسه ليس بصريح وإلا خرج الخلاف إذا صرفه ، ولا كناية ، لأن الكناية تتوقف على النية ، فهو ظاهر في الطلاق ، يصرف عند الإطلاق إليه ، ويجوز صرفه إلى غيره ، والله أعلم .
قال : وقال أبو عبد الله : وإذا قال لها : أنت خلية أو أنت برية أو أنت بائن ، أو حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك . فهو عندي ثلاث ، ولكني أكره أن أفتي به ، سواء دخل بها أو لم يدخل بها .
ش : وقوع الثلاث بهذه في الجملة هو المشهور عن أحمد ، واختيار كثير من الأصحاب ، لأنه المشهور عن الصحابة رضي الله عنهم .
2710 فعن أحمد أنه قال في الخلية والبرية والبتة قول علي وابن عمر رضي الله عنهم قول صحيح ثلاثاً .
2711 وقال أيضاً في البتة : عمر رضي الله عنه يجعلها واحدة ، وعلي وزيد رضي الله عنهما ثلاثاً .
____________________
(2/469)
2712 وروى النجاد بإسناده أن عمر رضي الله عنه جعل البتة واحدة ، ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات .
2713 وروي أيضاً عن نافع أن رجلًا جاء إلى عاصم وابن الزبير فقال : إن ظئري هذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، فهل تجدان له رخصة ؟ فقال : لا ، ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة فسلهم ، ثم ارجع إلينا فأخبرنا ، فسألهم فقال أبو هريرة رضي الله عنه : لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هي ثلاث . وذكر عن عائشة متابعتهما ؛ ولأن معنى : أنت خلية . أنت متروكة خالية من النكاح ، وكذلك : برية . معناه البراءة من النكاح ، وكذلك بائن أي منفصلة من النكاح ، وكذلك : حبلك على غاربك . أي مرسلة غير مشدودة ، ولا ممسكة بعقد النكاح ، والغارب مقدم السنام ، والحقي بأهلك . كذلك ، إذ الرجعية لا تترك بيت زوجها ، وإذا كان هذا مقتضى هذه الألفاظ الثلاث ترتب الحكم على مقتضاها ، ولو نوى دونها لأن نيته تخالف مقتضاها ، فتلغو نيته ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنه يقع بها ما نواه ، اختاره أبو الخطاب في الهداية .
2714 لما روي أنه ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة ، فأخبر النبي بذلك وقال : والله ما أردت إلا واحدة . فقال : ( والله ما أردت إلا واحدة ؟ ) فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة . فردها إليه رسول الله ، فطلقها الثانية في زمن عمر رضي الله عنه ، والثالثة في زمن عثمان رضي الله عنه ، وفي لفظ قال ( هو على ما أردت ) رواه أبو داود وصححه ، وابن ماجه والترمذي وقال : سألت محمداً يعني البخاري عن هذا الحديث فقال : فيه اضطراب .
2715 ولأن النبي قال لابنة الجون : ( الحقي بأهلك ) وهو لا يطلق ثلاثاً ، لأنه مكروه ، وعلى هذه الرواية إن لم ينو شيئاً وقعت بها واحدة ، ( وعنه ) ما يدل على أنه يقع بها واحدة بائنة ، إعمالًا لمقتضى اللفظ والأصل ، إذ مقتضاه البينونة ، والأصل عدم ما زاد على الواحدة ، وهذا الخلاف جارٍ في جميع الكنايات الظاهرة .
ثم اعلم أن عامة الأصحاب يحكون الخلاف على نحو ما قدمت ، وخالفهم أبو البركات ، فجعل محل الخلاف مع الإِطلاق ، هل تطلق ثلاثاً أو واحدة ؟ على روايتين أما إذا نوى شيئاً فيدين في ما نواه من غير تديين ، وكلام أحمد محتمل ، فإنه قال في غير رواية في هذه الصور ونحوها : أخشى أن يكون ثلاثاً ، انتهى ، ولا نزاع عندهم أن الخفية يقع بها ما نواه ، وقد اختلف الأصحاب في ما عدا الظاهرة والخفية ، والمختلف فيها ،
____________________
(2/470)
وليس هذا موضع استقصاء ذلك ، إلا أنه لا نزاع عندهم فيما أعلمه أن الخلية والبرية والبائن من الكنايات الظاهرة ، وكذلك البتة والبتلة ، ولا نزاع أن نحو : اخرجي واذهبي ، وروحي ؛ من الكنايات الخفية ، واختلف في : الحقي بأهلك ، وحبلك على غاربك ، ولا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك ، ونحو ذلك هل هو ظاهر أو خفي ؟
وقول الخرقي : سواء دخل بها أو لم يدخل . احترز عن قول مالك رحمه الله ، فإنه قبل الدخول يجعلها واحدة ، وبعد ثلاثاً ، وإنما كره أحمد الفتيا بالثلاث في الكنايات الظاهرة لأنه لا نص فيها ، بحيث ترفع الشبهة ، وأيضاً فإن فيه الحكم بتحريم فرج مع الاحتمال ، والله أعلم .
قال : وإذا أتى بصريح الطلاق لزمه نواه أو لم ينوه .
ش : لأن اللفظ صريح فيه ، فلم يحتج به إلى نية كالبيع ونحوه ، وسواء قصد المزح أو الجلد .
2716 قال أبو هريرة : إن رسول الله قال : ( ثلاث جدهن جد وهزلهن جد ، النكاح والطلاق والرجعة ) رواه أبو داود وابن ماجه ، والترمذي وقال : حسن غريب . مع أن هذا اللفظ قد حكي اتفاقاً ، لكن على كل حال لا بد من قصد اللفظ ، ليخرج النائم والساهي ونحوهما .
ومفهوم كلام الخرقي أن الكنايات لا بد فيها من النية ، ولا نزاع في ذلك في الخفية ، أما الظاهرة فقد نص أحمد على اشتراط النية ، وعليه جمهور الأصحاب ، القاضي وأصحابه ، والشيخين وغيرهم ، ولم يشترط أبو بكر للظاهرة نية ، وقد وقع لأحمد ، إطلاقات ظاهرها ذلك ، لكنها محمولة على نصوصه الصريحة ، وزعم القاضي أن ظاهر كلام الخرقي أيضاً عدم الاشتراط ، أخذاً من إطلاقه الأول ، والله أعلم .
قال : ولو قيل له : ألك امرأة ؟ فقال : لا وأراد به الكذب لم يلزمه شيء .
ش : لأن قصارى هذا أن يكون كناية ، ولم يوجد شرطها وهو النية ، فلا يلزمه شيء ، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يرد الكذب تطلق ، وذلك مع شرطه وهو النية ، هذا هو المشهور من الرواية ، والمختار للأصحاب ، لأنه لفظ يحتمل الطلاق ، لأنها إذا زال نكاحها فليست له بامرأة ، ونقل عنه أبو طالب إذا قيل له : ألك امرأة ؟ فقال : لا . ليس بشيء ، فأخذ أبو البركات من إطلاق هذا رواية أنه يلزمه طلاق وإن نوى ، لأنه خبر كذب ، وليس بإيقاع ، وحمل القاضي الرواية على أنه لم ينو الطلاق ، وعلى المشهور لو أقسم بالله على ذلك فقد توقف أحمد في رواية مهنا ، فخرج وجهان ، مبناهما على أن الإنشاءات هل تؤكد فيقع الطلاق ، أولًا تؤكد إلا الخبر ، فيتعين خبرية
____________________
(2/471)
هذا ، فلا يقع الطلاق ، والله أعلم .
قال : ولو قال : قد طلقتها . وأراد به الكذب لزمه الطلاق .
ش : أي لو قيل له : ألك امرأة ؟ فقال : قد طلقتها . وأراد الكذب طلقت ، لأنه أتى بصريح الطلاق ، فلزمه كما لو قال ابتداء : طلقت زوجتي ، ونحو ذلك ، هذا هو المشهور ، وقال ابن أبي موسى : إنما تطلق في الحكم ، أما فيما بينه وبين الله تعالى فيدين ، كما لو قال : كنت طلقتها . والله أعلم .
قال : وإذا وهب زوجته لأهلها فإن قبلوها فواحدة ، يملك الرجعة إذا كانت مدخولًا بها ، وإن لم يقبلوها فلا شيء .
ش : هبة الزوجة لأهلها كناية في الطلاق في الجملة ، لأن هبتها تدل على رغبته عنها ، وذلك محتمل للطلاق ، فوقع به بشرطه كبقية الكنايات ، ثم الهبة إنما تلزم وتتم بالقبول ، ولذلك إن قبلوها ترتب الحكم ، وإن ردوها فلا شيء .
إذا تقرر هذا فالمشهور في المذهب أنها إن قبلوها فواحدة ، جعلا له كبقية الكنايات الخفية ، إذ الرغبة عنها تحصل بالواحدة ، وما زاد مشكوك فيه ، فلا يثبت بالشك ، وإن ردوها فلا شيء ، لأن الهبة لم تتم ( وعن أحمد ) رواية أخرى إن قبلوها فثلاث ، وإن ردوها فواحدة .
2717 لأنه قول زيد بن ثابت أو يقال : إذا قبلوها فهو كالحقي بأهلك ، وهو كناية ظاهرة ، في رواية ، فكذلك هنا ، وإن ردوها فواحدة ، بناء على أن الهبة تلزم في المعين بدون القبض ، وأنها كناية خفية وحيث أوقعنا طلقة فإن كانت مدخولًا بها فهي رجعية ، وإن لم تكن مدخولًا بها فهي بائن ، قال أبو محمد : وهذا كله مع الإِطلاق أو نية الواحدة ، أما لو نوى اثنتين أو ثلاثاً فهو على ما نوى ، كبقية الكنايات الخفية انتهى ، وشرط وقوع الطلاق أن ينوي الزوج الطلاق ، قاله القاضي وأبو الخطاب وغيرهما ، كبقية الكنايات ، قال القاضي : وينبغي أن تعتبر النية من الذي يقبل أيضاً ، وتبعه على ذلك ابن حمدان ، كما لو قال لزوجته اختاري ؛ وفيه شيء ، لأن : اختاري . حقيقة في توكيلها في الطلاق ، بخلاف هذا فإن حقيقة الهبة تحصل بالقبول ، ولهذا كثير من الأصحاب لا يشترطون ذلك .
( تنبيه ) : وحكم : وهبتك لنفسك ، حكم وهبتك لأهلك ، على ما تقدم ، قاله أبو لاخطاب ، والشيخان وغيرهم ، وزاد أبو محمد وتبعه ابن حمدان إذا وهبها لأجنبي ، وقد ينازع في ذلك ، فإن الأجنبي لا حكم له عليها ، بخلاف نفسها وأهلها ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : أمرك بيدك . فهو بيدها وإن تطاول ، ما لم يفسخ أو يطأها .
ش : للزوج أن يطلق امرأته بنفسه ، وله أن يوكل في ذلك ، كما يوكل في عتق
____________________
(2/472)
عبده ونحوه ، وله أن يوكل المرأة كالأجنبي ، فإذا قال لها : أمرك بيدك . فتارة يقصد بذلك تنجيرز طلاقها ، فتطلق في الحال ، وماذا تطلق ؟ ينبني على ما تقدم في الكنايات الظاهرة ، وتارة يقصد بذلك تفويض الطلاق إليها ، فهذا نوع توكيل لها في الطلاق ، فتملك ذلك على التراخي .
2718 اعتماداً على أن هذا قول علي رضي الله عته ، وكما لو جعله في يد أجنبي ، هذا منصوص أحمد رحمه الله ، وعليه الأصحاب ، وخرج أبو الخطاب فيه قولًا أنه على المجلس كالاختيار كما سيأتي وقال أبو البركات : إن أحمد نص على المسألتين ، مفرقاً بينهما ، وإذاً لا يحسن التخريج ، والذي رأيته في التعليق التفريق بين ؛ أمرك بيدك . تملك به ثلاثاً ، واختاري . لا تملك به إلا واحدة ، نعم نص مفرقاً على أن : أمرك بيدك . للتراخي ، واختاري . يختص المجلس ، وعلى المذهب هو في يدها ما لم يفسخ الزوج ذلك أو يطأها ، لقيام ما يدل على بطلان التوكيل نصاً أو ظاهراً ، وإذا لم تعلم المرأة بالفسخ فينبغي أن يبقى التوكيل في يدها في رواية ، بناء على أن الوكيل لا ينعزل قبل علمه بالعزل .
قال : فإن قالت : قد اخترت نفسي . فهي واحدة يملك بها الرجعة .
ش : يعني إذا قال لها : أمرك بيدك . فقالت : اخترت نفسي . فهي واحدة رجعية ، لأن اختيارها لنفسها يحصل بواحدة ، والأصل عدم ما زاد على ذلك ، وهذا إذا لم تنو أكثر من واحدة ، فإن نوت أكثر من واحدة وقع ما نوت ، لأنها تملك الثلاث بالصريح ، على ما سيأتي ، فتملكها بالكناية كالزوج ، والله أعلم .
قال : وإن طلقت نفسها ثلاثاً ، وقال : لم أجعل إليها إلا واحدة ؛ لم يلتفت إلى قوله ، والقضاء ما قضت .
ش : كا نص عليه أحمد ، وقال : لا تنفعه نيته .
2719 وكذلك رواه البخاري في تأريخه عن عثمان ، ويروى أيضاً عن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم .
2720 وعن حماد بن زيد ، أنه قال : قلت لأيوب : هل علمت أحداً قال في ( أمرك بيديك ) أنها ثلاث إلا الحسن ؟ قال : لا ؛ ثم قال : اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة ، عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ، قال : ( ثلاث ) قال أيوب : فلقيت كثيراً مولى ابن سمرة ، فسألته فلم يعرفه ، فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال : نسي . رواه أبو داود والترمذي ، والنسائي ، وقال : هذا حديث منكر . وعن البخاري أنه قال : إنما هو عن أبي هريرة موقوف ، ولأنه اسم جنس مضاف ، فيشمل الطلاق الثلاث ، وهذا غير قانع ، لأنه إنما يحسن مع الإِطلاق ،
____________________
(2/473)
أما مع النية فالنية صالحة للتخصيص ، فإذاً العمدة ما تقدم ، وقول أحمد : لا تنفعه نيته . يؤيد ما يقوله الجماعة ، من أن الكناية الظاهرة يقع بها ثلاث وإن نوى واحدة ، وقد صرح أبو محمد هنا بأنه لا يدين انتهى ، ( وعن أحمد ) : رواية أخرى أنه يرجع إلى نيته ، كالرواية في الكنايات الظاهرة ، وقد سبقت ، ولا ريب أن المذهب عند الأصحاب الأول والله أعلم .
قال : وكذلك الحكم إذا جعله في يد غيرها .
ش : يعني يكون في يده ما لم يفسخ أو يطأ ، وله أن يطلق واحدة ، وله أن يطلق ثلاثاً ، ولو نوى الزوج أقل من ذلك ، على المذهب لما تقدم ، والله أعلم .
قال : ولو خيرها فاختارت فراقه من قوتها وإلا فلا خيار لها .
ش : المذهب المنصوص والمعمول به أن خيار المخيرة على الفور ، اتباعاً لقضاء الصحابة رضي الله عنهم .
2721 فعن سعيد بن المسيب أنه قال : 16 ( قضى عمر وعثمان رضي الله عنهما في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما لم يفترقا ) ، رواه النجاد .
2722 وعن ابن عمر قال : ما دامت في مجلسها .
2723 وعن ابن مسعود وجابر نحوه ، ولم نعرف لهم مخالفاً في الصحابة ، ولأنه خيار تمليك ، فكان على الفور كخيار القبول ، وخرج أبو الخطاب فيه قولا أنه على التراخي ، من : أمرك بيدك . وقد تقدم أن أبا البركات حكى عن أحمد أنه نص على التفرقة ، فيبطل التخريج ( فعلى الأول ) هل يختص بالمجلس ، ويكون كمجلس القبول في البيع ، يبطل بالإِعراض عنه ، وهو اختيار القاضي والأكثرين ، أو يكون على الفور ، جواباً لكلامها ، وهو ظاهر كلام الخرقي ؟ على روايتين ، وهذا كله مع الإِطلاق ، أما لو خيرها مدة ، أو قال : اختاري متى شيئت . ونحو ذلك ، فإنها تملك ذلك حسب ما جعله لها .
2724 وقد قال النبي لعائشة رضي الله عنها لما خيرها ( إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ) والله أعلم .
قال : وليس لها أن تختار أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك .
ش : إذا خيرها وأطلق فليس لها أن تختار أكثر من واحدة .
2725 قال أحمد هذا قول ابن عمر وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وعمر وعائشة رضي الله عنهم ، ولأن : اختاري . تفويض مطلق ، فيتناول أقل ما يقع عليه الأسم ، وما زاد عليه فهو مشكوك فيه ، فلا يثبت مع الشك ، وهذا بخلاف : أمرك بيدك .
____________________
(2/474)
فإنه للعموم كما تقدم ، وإن قيد ذلك بواحدة أو أكثر اتبع ، ويكون في الواحدة تنصيص على مقتضى الإِطلاق ، وفي الثلاث والاثنتين من باب إطلاق المطلق ، وإرادة العام مجازاً ، والله أعلم .
قال : وإذا طلقها بلسانه ، واستثنى شيئاً بقلبه ، وقع الطلاق ولم ينفعه الاستثناء .
ش : إذا طلق زوجته بلسانه ، كأن قال مثلًا : أنت طالق ثلاثاً . واستثنى شيئاً بقلبه ، كأن نوى إلا واحدة ، وقع الطلاق ، ولم ينفعه الاستثناء ، لأن العدد نص ، والنية لا تقاومه ، فلا يرتفع بالضعيف ما يثبت بالنص القاطع ، واستعمال الثلاث بمعنى اثنتين استعمال للفظ في غير ما يصلح له .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا ينفعه الاستثناء لا ظاهراً ولا باطناً ، وهو اختيار الشيخين ، إذ اللفظ غير صالح لما أراد ، ومفهوم كلام أبي الخطاب أنه ينفعه باطناً ، لأنه قال : لم يقبل في الحكم ، ( وقول الخرقي ) : وإذا طلقها بلسانه . قد يحترز عما إذا طلق نسوة واستثنى واحدة منهن بقلبه ، ولهذا صورتان ، ( إحداهما ) : أن يقول : نسائي الأربع طوالق . ثم يستثنى بقلبه إلا واحدة ، فهذه كمسألة الكتاب ( الثانية ) : أن يقول : نسائي طوالق ويستثني بقلبه إلا واحدة ، فهذا ينفعه الاستثناء ، لأن ( نسائي ) عام قابلة للتخصيص ، والنية صالحة لذلك ، ( قوله ) : واستثنى شيئاً بقلبه . يحترز عما إذا استثنى بلسانه ، فإنه ينفعه ذلك ، لورود ذلك في الكتاب والسنة ، وكلام العرب ، وعن أبي بكر : لا يصح الاستثناء في عدد الطلاق بحال ، وليس بشيء وعلى الأول يصح استثناء الأقل بلا نزاع ، ولا يصح استثناء الكل بلا نزاع ، وفي النصف والأكثر ثلاثة أقوال ( ثالثها ) : يصح في النصف دون الأكثر ، وهو مقتضى قول الخرقي في الأقارير ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : أنت طالق في شهر كذا . لم تطلق حتى تغيب شمس اليوم الذي يلي الشهر المشترط .
ش : ملخصة أنه إذا جعل زمناً طرفاً لوقوع الطلاق ، فإن الطلاق يقع في أول ذلك الظرف ، لصلاحيته له ، كما لو قال : إذا دخلت الدار فأنت طالق . فإنها تطلق إذا دخلت أول جزء منها ، فإذا قال لزوجته : أنت طالق في شهر شعبان مثلًا ؛ فإنها تطلق إذا غربت شمس آخر يوم من رجب ، لأن الشهر المشترط للطلاق يلي ذلك فبغروب شمس آخر يوم من رجب ، دخل أول جزء من شعبان ، وهو أول الظرف فتطلق ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : إذا طلقتك فأنت طالق . فإذا طلقها لزمها اثنتان .
ش : إذا قال لزوجته المدخول بها : إذا طلقتك فأنت طالق ؛ فقد علق طلاقها على طلاقها ، فإذا طلقها طلقت طلقتين ، طلقة بالمباشرة ، وطلقة بوجود الشرط ،
____________________
(2/475)
وقوله : فإذا طلقها . يشمل ما إذا باشرها بالطلاق ، كما لو قال لها بعد التعليق : أنت طالق . وما إذا علق طلاقها بعد التعليق على شرط ، فوجد الشرط ، كما إذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق . ثم قال لها : إن دخلت الدار فأنت طالق ، فدخلت الدار ، فإنهاتطلق طلقتين ، طلقة بدخول الدار ، وطلقة بالتعليق الأول ، وهذا بخلاف ما لو قال لها : إن دخلت الدار فأنت طالق . ثم قال لها : إذا طلقتك فأنت طالق . ثم دخلت الدار ، فإنها لا تطلق إلا طلقة واحدة بالتعليق الأول ، وقاعدة ذلك أن التعليق مع وجود الشرط بمنزلة التنجيز ، ففي الصورة الأولى التعليق ، ووجود الشرط وجدا بعد التعليق السابق ، فكان بمنزلة التنجيرز ، وفي الثانية لم يوجد بعد التعليق إلا الشرط ، وهو أحد جزئي التنجيز ، وليس بتنجيز ، والله أعلم .
قال : ولو كانت غير مدخول بها لزمته واحدة .
ش : علم من هذا أن الصورة السابقة فيما إذا كانت مدخولًا بها ، وهذه فيما إذا كانت غير مدخول بها ، فلا تطلق إلا واحدة بالطلاق الثاني ، إذ به تبين ، والبائن لا يلحقها طلاق ، فلا يمكن إعمال الشرط الأول ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : إن لم أطلقك فأنت طالق . ولم ينو وقتا ، ولم يطلقها حتى مات أو ماتت ، وقع الطلاق بها في آخر وقت الإمكان .
ش : ( إن ) المكسورة المخففة موضوعة للشرط ، لا تدل على زمان إلا من حيث أن الفعل المعلق بها من ضرورته الزمان ، فهي مطلقة في الزمان كله ، لا تدل على فور ولا تراخ ، ولا فرق بني الإِثبات والنفي ، فإذا قال : إن لم أطلقك فأنت طالق . ولم ينو وقتاً ولم يطلقها ، فإنه لا يحنث بالتأخير ، إذ الفعل ليس على الفور ، فكل وقت يمكن أن يفعل ما حلف عليه ، والوقت لم يفت ، فإذا مات أحدهما علمنا حنثه حيئذ ، لا نتفاء إيقاع الطلاق بها بعد موت أحدهما ، أما بعد موته فواضح ، إذ الطلاق من جهته وقد تعذر ، وأما بعد موتها فلا نتفاء قابليتها لوقوع الطلاق عليها ، فإذاً يتبين أن الطلاق وقع حيث لم يبق زمن يسع لأنت طالق ، هذا هو المذهب بلا ريب ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنه متى عزم على الترك بالكلية حنث حال عزمه ، وهذا كله إن لم ينو وقتاً ، أما إن نوى وقتاً ، فإن اليمين تتعلق بذلك الوقت ، بحيث إذا فات طلقت ، إذ النية لها مدخل في تقييد المطلق ، كما لها مدخل في تخصيص العام ، وكذا لو قامت قرينة بفورية ، كما لو قال لزوجته مثلًا : ادخلي الدار اليوم . فقالت : لا أدخل . فقال : إن لم تدخلي فأنت طالق . فإن يمينه تتقيد باليوم ، لأن حاله تقتضي التقييد بذلك ، والله أعلم .
قال وإن قال : كلما لم أطلقك فأنت طالق . لزمها ثلاث إن كانت مدخولًا بها .
ش : كلما تقتضي التكرار ، قال الله تعالى : 19 ( { كلما دخلت أمة لعنت أختها } )
____________________
(2/476)
19 ( { كل ما جاء أمة رسولها كذبوه } ) فيقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة ، وهو عدم الطلاق ، فإذا مضى بعد يمينه زمن يمكن أن يطلقها فيه ولم يطلقها ، فقد وجد الشرط ، فيقع بها طلقة ، وتتبعها الثانية والثالثة ، إن كانت مدخولًا بها ، ولما كان زمن وقوع الطلاق متصلًا بتكلمه ، غير منفصل عنه ، قال : لزمها ثلاث ، وإن كانت غير مدخول بها طلقت واحدة لا غير ، لأنها تبين بها ، فلا يلحقها ما بعدها ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لها : أنت طالق إذا قدم فلان ، فقدم به ميتاً أو مكرها لم تطلق .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، لأنه لم يقدم ، وإنما قدم به ، إذ الميت لم يوجد منه فعل أصلًا ، والمكره وإن وجد منه فعل ، لكنه منسوب إلى من أكرهه ، ( والوراية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه : يحنث ، لأن الفعل يصح نسبته إليه ، ولذلك يقال : دخل الطعام البلد ، وقال سبحانه : 19 ( { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤوها } ) وأجيب بأنه وإن نسب الفعل إليه ، لكنه في الميت ونحوه على سبيل المجاز ، والأصل الحقيقة ، وفي المكره فالشارع ألغى ذلك ، حيث قال : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) فالفعل من المكره مرفوع عنه ، فلا ينسب إليه ، وهذا كله مع عدم النية ، أما مع النية فيحمل الكلام عليها بلا إشكال .
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى قدم مختاراً حنث الحالف ، وهو كذلك ، سواء علم باليمين أو جهلها ، قال الخلال : قولا واحداً ، وقال ابن حامد : إن كان القادم لا يمتنع باليمين ، كالسلطان والرجل الأجنبي فكذلك ، لأنه إذاً تعليق للطلاق على صفة ، وإن كان ممن يمتنع من القدوم باليمين ، كقرابة لها أو لأحدهما ، أو غلام لأحدهما ، فجهل اليمين ، أو نسيها ، خرج على ما إذا حلف على فعل نفسه ، وفعل ناسياً أو جاهلًا ، لأنه إذاً بمنزلة اليمين ، واليمين يعذر فيها بالجهل والنسيان ، قال أبو محمد : وينبغي على هذا القول أن تعتبر نية الحالف ، فإن قصد باليمين منع القادم من القدوم كان يميناً ، وإن قصد جعله صفة في الطلاق لم يكن يميناً ، فلا يفرق بين علم القادم وجهله ، وتعتبر قرائن أحواله أيضاً ، فإذا كان التعليق على قدوم غائب بعيد ، يعلم أنه لا يعلم اليمين ، أو على فعل صغير أو مجنون ، أو ممن لا يمتنع بها ، لا يكون يميناً ، وإن كان التعليق على من يعلم بيمينه ، ويمتنع من أجلها فهو يمين ، ومتى أشكلت الحال قال : فينبغي أن يقع نظراً للفظ والله أعلم .
قال : وإذا قال لمدخول بها : أنت طالق ، أنت طالق ؛ لزمتها تطليقتان ، إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى ، فيلزمها تطليقة .
ش : أما لزوم التطليقتين لهاإذا لم يرد بالثانية إفهاما ، فنطراً لمقتضى اللفظ ، إذ مقتضاه وقوع الطلاق ، وقصد الإفهام صارف له ولم يوجد ، فهو كالعام والمطلق ، يعمل بهما ما لم يوجد مخصص مقيد ، وأما لزوم واحدة لها فقط إذا نوى بالثانية إفهام
____________________
(2/477)
الزوجة أن الطلاق قد وقع عليها ، فلا ريب فيه ، لأنه لم يقصد بالثانية إنشاء الطلاق وإنما ، أراد الإخبار والبيان عما تقدم ، ومثل ذلك لو قصد التأكيد ، نعم يشترط أن لا يفصل بينهما بما لم تجر العداة به ، إذ التوكيد تابع ، فشرطه الاتصال كسائر التوابع ، والله أعلم .
قال : وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ، ولم يلزمها ما بعدها ، لأنه ابتداء كلام .
ش : يعني أن الحكم السابق فيما إذا كانت مدخولًا بها ، أما إن كانت غير مدخول بها فقال لها : أنت طالق ، أنت طالق . فإنها تبين بالأولى ، لانتفاء العدة عليها ، فيصادفها قوله الثاني : أنت طالق . بائناً والبائن لا يقع بها طلاق ، ولا فرق أن ينوي بقوله الثاني الطلاق ، أو يطلق لما تقدم ، وقول الخرقي : لأنه ابتداء كلام . يعني ( أنت طالق ) الثاني كلام مستقل ، لا تعلق له بالأول ، واحترز بالأول عن قوله لغير المدخول بها أن تطالق ثلاثاً ، ومن : أنت طالق وطالق وطالق ، كماسيأتي ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق وطالق وطالق . لزمتها الثلاث ، لأنه نسق ، وهو مثل قوله : أنت طالق ثلاثا .
ش : الواو لمطلق الجمع ، أي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم ، من غير إشعار بترتيب ولا معية ، على المشهور المعروف من قولي العلماء والأدباء ، وأهل الأصول ، حتى أن الفارسي حكى اتفاق أهل العربية عليه ، ونص عليه سيبويه في بضعة عشر موضعاً من كتابه ، وعن ثعلب وابن درستويه ، وقليل من الأدباء أنها للترتيب ، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد واختاره جماعة من الشافعية ، وقيل : إنه اختيار أبي بكر من أصحابنا ، وحكاه ابن حمدان رواية عن الإِمام أحمد وعزي أيضاً إلى نص الشافعي ، وتوجيه الخلاف ، واستقصاؤه له محل آخر ، ( فعل الأول ) إذا قال لغير المدخول بها : أنت طالق وطالق وطالق . طلقت ثلاثاً ، لما تقدم من أن الواو للجمع ، والكلام كله في حكم جملة واحدة ، فهو كقوله : أنت طالق ثلاثاً ، ولهذا قال الخرقي : لأنه نسق . أي غير متفرق ، لا يقال : أنت طالق ثلاثاً . جملة واحدة بلا ريب ، بخلاف : أنت طالق وطالق وطالق لأنها ثلاث جمل ، وكل جملة منهن غير مقيدة بشيء ، بخلاف : أنت طالق ثلاثاً . فإنه مقيد بالثلاث والكلام إنما يتم بآخره ، لأنا نقول : الصحيح عند الجمهور سيبويه وغيره أن هذا من باب عطف المفردات ، لا من باب عطف الجمل ، فالعامل في الثاني هو العامل في الأول ، بواسطة حرف العطف ، ودعوى أن كل جملة غير مقيدة بشيء ، ممنوع مع العطف ، فالكلام إنما يتم معه أيضاً بآخره ، كما في : أنت طالق ثلاثاً . انتهى .
وعلى الثاني لا تطلق غير المدخول بها إلا طلقة ، كما لو قال لها : أنت طالق . ثم طالق . إذ الطلاق الثاني إذا كان مرتباً بعد الأول اقتضى سبق الأول له ، وإذاً تبين
____________________
(2/478)
فلا يلحقها طلاق بعد ذلك ، وقول الخرقي : وهو مثل قوله : أنت طالق ثلاثاً . إشعار بأن هذه الصورة لا خلاف فيها ، وهو كذلك ، إذ : ثلاثاً . تمييز ، وتبيين للطلاق الذي لفظ به ، والله أعلم .
( تنبيه ) : إذا ادعى التأكيد فإن ادعى تأكيد الثانية بالثالثة سمع منه ، لاتفاق اللفظ ، وهذا من العطف المغير الذي قاله أبو البركات ، وإن ادعى تأكيد الأولى بالثانية ، لم يسمع منه ، نعم يدين فيما بينه وبين الله تعالى ، والله سبحانه أعلم .
قال : وإذا طلق ثلاثاً وهو ينوي واحدة فهي ثلاث .
ش : لأنه استعمل اللفظ في غير ما يصلح له لغة وعرفا ، فلغا استعماله ، وأعمل بمقتضى اللفظ ، لا يقال : لأنه تجوز في ذلك . لأن الثلاث نص قاطع في العدد ، فلا يقبل التجوز ، وإرادة الوحدة ، إذ صحة ذلك موقوفة على أن مثل ذلك تجوزت العرب فيه ، ولم تنقل الوحدة ، وقد دل كلام الخرقي رحمه الله على أنه إذا طلق ثلاثاً يقع عليه الثلاث ، وهذا مذهبنا ومذهب العامة .
2726 لأنه قد جاء في بعض روايات ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته وهي حائض ، وأمره النبي بالمراجعة ، أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً ، كان يحل لي أن أرجعها ؟ قال : ( لا كانت تبين منك وتكون معصية ) رواه الدارقطنيى .
2727 وعن يونس بن يزيد قال : سألت ابن شهاب عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه قبل أن يدخل بها ، فقال أبوه : هي طالق ثلاثاً . كيف السنة في ذلك ؟ فقال : أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، مولى ابن عامر بن لؤي ، أن محمد بن إياس بن البكير الليثي وكان أبوه شهدا بدراً أخبره ، أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : بانت منه ، فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره . وإنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال مثل قول أبي هريرة ، وسأل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال : مثل قولهما . رواه البرقاني في كتابه المخرج على الصحيح .
2728 وعن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس رضي الله عنه فجاءه رجل فقال : إنه طلق امرأته ثلاثاً ؛ قال : فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال : ينطلق أحدكم فيركب الحموقة ، ثم يقول : يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال : 19 ( { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } ) وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجاً ، عصيت ربك فبانت منك امرأتك . وإن الله قال : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقونه لعدتهن } ) رواه أبو داود . وهذا كالإِجماع من الصحابة على صحة
____________________
(2/479)
وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة .
2729 وقد عورض هذا بما روى طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الطلاق على عهد رسول الله وأي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، فقال عمر بن الخطاب : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم . فأمضاه عليهم ، رواه أحمد ومسلم ، وقد قال بظاهر هذا طائفة قليلة من العلماء ، وهو اختيار أبي العباس ، وحمله بعض التابعين على ما قبل الدخول .
2730 وقد جاء ذلك مصرحاً به في رواية أبي داود ، وتأوله بعضهم على صورة تكرير اللفظ ، بأن يقول : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . فيلزمه واحدة مع التوكيد ، وثلاث مع عدمه ، ففي زمن النبي وأبي بكر رضي الله عنه لصدقهم صدقوا في إرادت التوكيد ، ولما رأى عمر رضي الله عنه أحوال الناس قد تغيرت ألزمهم الثلاث ، وأحمد رحمه الله أشار إلى ضعف رواية طاووس هذه ، فقال : كان أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قاله طاووس ، وكذلك أشار البيهقي ، قال : هذا الحديث مما اختلف فيه البخاري ومسلم ، وتركه البخاري ، قال : وأظنه إنما تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس رضي الله عنه قال ابن المنذر : وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه علم شيئاً عن رسول الله ثم يفتي بخلافه ، وقال الشافعي : يشبه والله أعلم أن يكون ابن عباس رضي الله عته قد علم أن كان شيئاً فنسخ ، وبالجملة تنقيح هذه المسألة ، والكلام على هذه التأويلات ، يحتاج إلى بسط أزيد من هذا ، ولا يليق بمختصرنا ، والله أعلم .
قال : وإذا طلق واحدة وهو ينوي ثلاثاً فهي واحدة .
ش : إذا طلق واحدة فله حالتان ( إحداهما ) : أن يقول : أنت طالق . فهذا إن أطلق وقعت واحدة بلا ريب ، وإن نوى ثلاثاً فيه روايتان ( إحداهما ) : وهي اختيار القاضي ، وقال إن عليها الأصحاب ، واختيار أصحابه أيضاً الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي لا تطلق إلا واحدة ، لأن لفظه لا يتضمن عدداً ، وإنما هو إخبار في الحقيقة عن صفة هي عليها ، فهو كقوله : قائمة وقاعدة . فإذا نوى به الثلاث فقد نوى ما لا يتضمنه اللفظ ، ولا يقتضيه ، فيلغى ( والرواية الثانية ) : تطلق ثلاثاً ، ولعلها أظهر ، لأنه قوله : أنت طالق . تقديره الطلاق أو طلاقاً ، ولو صرح بذلك ونوى الثلاث طلقت ثلاثاً ، فكذلك إذا لم يصرح به ، إذا لمقدر كالملفوظ به ، ثم لو لم يقدر بشيء فالصفة التي وصفها به ، وهي : أنت طالق . تتضمن المصدر وزيادة ، ولا ريب أن المصدر يصح تفسيره بالقليل والكثير ، فكذلك : أنت طالق . ولهذا لو صرح
____________________
(2/480)
بالتفسير فقال : أنت طالق ثلاثاً . طلقت ثلاثاً بلا ريب ، فعلى هذه الرواية إذا صرح بالواحدة فقال : أنت طالق واحدة وهذه هي الحالة الثانية ونوى ثلاثاً ، ففيه وجهان ( أحدهما ) : وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني ، ومتقضى كلام الخرقي لا تطلق إلا واحدة ، لأن الواحدة صريح في الوحدة ، فإذا نوى بها ثلاثاً فقد نوى ما لا يحتمله اللفظ ، ثم إن ينيته خالفت صريح لفظه ، ولا شك أن النية أضعف من اللفظ ، فالقوي يقدم على الضعيف ، ثم لو قدر تعراض اللفظ والنية لبقي : أنت طالق مجرداً . وإنه لا يقع به إلا واحدة ( والوجه الثاني ) : تطلق ثلاثاً ، وتكون نيته دالة على محذوف ، تقديره : أنت طالق واحدة معها اثنتان ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
( باب الطلاق بالحساب )
قال : وإذا قال لها : نصفك طالق ، أو يدك أو عضو من أعضائك طالق ، أو قال لها : أنت طالق نصف تطليقة ، أو ربع تطليقة ؛ وقعت بها واحدة .
ش : أما كونها تطلق طلقة إذا طلق منها جزءاً مشاعاً كنصفها وثلثها ونحو ذلك ، أو معيناً كيدها وعينها ونحو ذلك ، فلأنها جملة لاتتبعض في الحل والحرمة ، وجد فيها ما يقتضي التحريم فغلب ، كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل الصيد ، ولأنه أشار بالطلاق إلى ما هو من أصل الخلقة ، لا يزال عنها في حال السلاملاة ، فكانت الإِشارة إليه كالإِشارة إلى الجملة ، دليله لو أشار إلى الوجه أو الرأس ، وخرج السن ، لأنه ليس من أصل الخلقة ، وإنما يحدث بعد كمالها ، والشعر والظفر لزوالهما في حال السلامة ، يحقق ذلك أن الأصل في كلام المكلف الإِعمال لا الإِلغاء ، وإطلاق البعض على الكل مجاز مستعمل سائغ ، قال سبحانه وتعالى : 19 ( { ذلك بما كسبت أيديكم } ) وقال : 19 ( { تبت يد أبي لهب } ) بما كسبتم وتبت جملته .
2731 وقال النبي : ( لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ) عبر بالخف عن الإِبل ، والحافر عن الخيل ، وهو كثير ، وإذاً فهذا كذلك تصحيحاً لكلام المكلف .
( تنبيه ) : إذا أضاف الطلاق إلى عضو من أعضائها فهل يقع عليها جملة ، تسمية للكل باسم البعض ، وهو ظاهر كلام أحمد ، قاله القاضي ، أو على العضو نظراً لحقيقة اللفظ ، ثم يسري تغليباً للتحريم ؟ فيه وجهان ، وينبني عليهما إذا قال : إن دخلت الدار فيدك طالق ؛ فدخلت وقد قطعت يدها ، أو قال : يدك طالق . ولا يد لها ، فعلى الأول تطلق ، وعلى الثاني لا ، انتهى ، أو ربع طلقة ، أو ثمن طلقة ، ونحو ذلك ، وهو قول جمهور أهل العلم ، فلما تقدم من إطلاق البعض على الكل ، تصحيحاً لكلام المكف ، والله أعلم .
____________________
(2/481)
قال : ولو قال لها : شعرك أو ظفرك طالق ، لم يلزمها الطلاق ، لأن الشعر والظفر يزولان ، ويخرج غيرهما ، وليس هما كالأعضاء الثابتة
ش : نص أحمد رحمه الله على ذلك مع السن ، وعلل بأن ذلك يبان ، يعني مع السلامة فأشبه الريق والحمل ، والدمع والعرق ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بأنها تطلق بذلك ، لأنه جزء من الجملة ، أشبه يدها .
( تنبيه ) : توقف أحمد رحمه الله في رواية مهنا والفضل في الروح ، هل يكون مظاهراً بها أم لا ؟ والذي أورده أبو الخطاب وأبو البركات مذهباً الطلاق ، وقال أبو بكر : لا تطلق . ونقله عن أحمد ، وجزم أبو البركات تبعاً لأبي الخطاب في الدم بالطلاق ، وابن البنا في الخصال بعدمه ، والله أعلم .
قال : وإذا لم يدر أطلق أم فلا يزول يقين النكاح بشك الطلاق .
ش : يعني لم تطلق ، وقد علله الخرقي بأن النكاح متيقن ، والطلاق مشكوك فيه ، واليقين لا يزول بالشك ، وهذه قاعدة مستمرة ، تقدم ذكرها في الطهارة ، والله أعلم .
قال : وإذا طلق فلم يدر أواحدة أو ثلاثاً ، اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة ، فإن راجعها في العدة لزمته نفقتها ، ولم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق ، لأنه متيقن للتحريم ، شاك في التحليل .
ش : المسألة الأولى إذا شك في أصل الطلاق ، وهذه إذا علم أنه طلق وشك في قدر ما طلق ، فالمنصوص أيضاً وعليه الأصحاب أنه يبني على اليقين لما تقدم ، وقال الخرقي : يعتزلها . وهذا أصل مبني على قاعدته ، من أن الرجعة محرمة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى قال : وعليه نفقتها . لأن الأصل بقاؤها . اشتناداً لبقاء النكاح ، قال : فإن راجعها في العدة لزمته نفقتها . لما تقدم ، إذ الأصل عدم الثلاث ، قال : ولم يطأ حتى يتيقن كم الطلاق ، لأنه متيقن للتحريم شاك في التحليل ؛ وهذا الأصل والتعليل كلاهما منازع فيه ، فالتعليل بناء عنده على أن الرجعة محرمة ، وهو إحدى الروايتين ، والمشهور وعليه الأصحاب خلافه ، لما سيأتي إن شاء الله ، وإذا انتفى هذا التعليل انتفى الأصل ، ثم لو سلم هذا التعليل ، وأن الرجعة محرمة لم يبح ما قاله ، لأن الذي ينفيه تحريم تزيله الرجعة ، فيزول بزوالها ، ولهذا عامة الأصحاب لم يلتفت لهذا ، وقالوا بالإِباحة ، ولضعف هذا القول أنه لم يلتفت له القاضي في تعليقه ، وحمل كلام الخرقي على الاستحباب ، والله أعلم .
قال : وإذا قال لزوجاته : إحداكن طالق ، ولم ينو واحدة بعينها ، أقرع بينهن ، فأخرجت القرعة المطلقة منهن .
ش : إذا قال لزوجهاته : إحداكن طالق . ونوى واحدة معينة ، قبل منه تعيينها وطلقت ، لأنه عينها بنيته ، أشبه مالو عينها بلفظه ، وإن لم ينو ففيه روايتان ( أشهرهما )
____________________
(2/482)
عن أحمد وعليها عامة الأصحاب ، حتى أن القاضي في تعليقه وأبا محمد وجماعة لا يذكرون خلافاً أنه يقرع بينهما ، فمن خرجت عليها القرعة فهي المطلقة ، لأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية ، فتدخله القرعة ، دليله العتق ، ودليل الأصل أن النبي أقرع بين العبيد الستة ، ولأن الحق لواحد غير معين ، فوجب تعيينه بالقرعة ، كالحرية في العبيد ، إذا أعتقهم وضاق ثلثه عن جميعهم ، وكالبداءة بإحدى نسائه في القسم أو السفر بها ، قال أحمد : القرعة سنة رسول الله ، وجاء بها القرآن ( والرواية الثانية ) : يرجع إلى تعيينه ، فمن عينها فهي المطلقة ، لأنه يملك الإِيقاع ابتداء والتعيين ، وقد أوقع ولم يعين ، فيملك ذلك استيفاء لما ملكه ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة المطلقة منهن .
ش : منصوص أحمد رحمه الله في رواية الميموني وأبي الحرث أنه لا فرق بين هذه الصورة والتي قبلها ، وعلى هذا عامة الأصحاب ، الخرقي ، والقاضي ، وأصحابه وغيرهم ، وسئل أحمد رحمه الله عن ذلك في رواية إسماعيل بن سعيد فقال : أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة ؛ فأخذت في ذلك والله أعلم أبو البركات رواية بالمنع ، وهو اختيار أبي محمد ، فلا مدخل للقرعة عنده هنا ، ويحرمان عليه جميعا ، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية ، أو ميتة بمذكاة ، وفرق بين هذه والتي قبلها بأن الحق ثم لم يثبت لواحدة بعينها ، فدخلت القرعة لتبيين التعيين ، وهنا الطلاق واقع في معينة لا محالة ، والقرعة لا ترفعه عنها ، فلا توقعه على غيرها انتهى .
والظاهر ما يقول الجماعة ، وإن كان أصل دخول القرعة في هذا ليس بالواضح ، لأن هذا الفرق إنما يتم لأبي محمد رحمه الله لو قيل بأن الطلاق يقع في غير المعينة من حين القرعة ، وليس كذلك ، بل الطلاق على ما صرح به القاضي ، وذكر عن الإِمام أحمد ما يدل عليه في رواية أبي طالب يقع من حين الإِيقاع ، وإذا وقع الطلاق من حين الإِيقاع ، فلا بد له من محل يتعلق به ، ولايتعلق إلا بمعين ، فلا فرق بين الصورتين ، وقد دخلت القرعة في الصورة الأولى فتدخل في الثانية ، وأبو محمد يوافق الجماعة على هذا الأصل ، فإنه يجعل العدة من حين الإِيقاع ، لا من حين القرعة انتهى .
فعلى قول أبي محمد يحرم الجميع عليه ، وتجب عليه نفقتهن ، لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح ، وكذلك في قول الجميع قبل القرعة ، ولم أرهم فرقوا بين الطلاق الرجعي والبائن ، مع أن الرجعي لا يحرم على المذهب ، فقد يقال : لأنه إذا وطئ فقد يطأ من أصابها الطلاق ، فتحصل رجعتها على المذهب ، وإذاً لا مطلقة منهن ، فإذا أقرع بعد ذلك وخررجت القرعة بعد ذلك على واحدة ، فيحكم بطلاقها وهي زوجة ، فلهذا المحذور حرم الوطء مطلقاً ، نعم لو أراد وطء الجميع فلا ينبغي أن يمنع من ذلك ، لأن بذلك تحصل رجعة من طلقها جزماً ، فأشبه ما لو قال : من وقع عليها طلاقي فقد
____________________
(2/483)
راجعتها ، وعلى قول الأصحاب إذا أقرعنا مع النسيان فخرجت القرعة على واحدة ، فقد حكم بطلاقها ظاهراً ، فإذا قال بعد ذلك : ذكرت المنسية وأنها غير التي خرجت عليها القرعة ، حكمة بطلاق التي ذكرها بإقراره بلا ريب ، وهل ترجع إليه التي خرجت عليها القرعة ؟ لا يخلو إما أن تكون القرعة بحكم حاكم أم لا ، فإن كانت بحكم حاكم ترجع إليه ، حذاراً من إبطال حكم الحاكم بقوله ، وكذلك إن لم تكن القرعة بحكم حاكم وتزوجت ، نص أحمد على هاتين الصورتين ، لتعلق حق الغير بها ، وفيما عدا هاتين الصورتين قولان وبعضهم يحكيهما روايتنين ( إحداهما ) : ترجع إليه ، وهو اختيار الشيخين وغيرهما ، إذ القرعة ليست بطلاق صريح ولا كناية فوجودها كعدمها ( والثانية ) : وهي قول أبي بكر وابن حامد لا ترجع إليه ، ويحكم عليه بطلاقهما ، الثانية بإقراره ، والأولى بالقرعة ، احتياطاً للفروج ، ودفعاً للتهمة ، والله أعلم .
قال : فإن مات قبل ذلك أقرع الورثة بينهن ، وكان الميراث للبواقي منهن .
ش : يعني إذا مات الزوج قبل القرعة ، أقرع الورثة بين النسوة ، فمن خرجت عليها القرعة فلا ميراث لها ، والميراث للبواقي ، نص أحمد رحمه الله على ذلك في رواية الجماعة .
2732 وهو مروي عن علي رضي الله عنه ، وذلك لأنهن قد تساوين ، فلا سبيل إلى التعيين ، فوجب المصير إلى القرعة ، كمن أعتق عبيداً في مرضه ، لا مال له سواهم ، وأبو محمد رحمه الله هنا يوافق الجماعة في القرعة ، وإن لم يقل بدخولها في المنسية ، واعلم أن هذا فيما إذا كان الطلاق بائناً ، أما إن كان رجعياً فإن الجميع يرثنه ، وهذا واضح ، والله أعلم .
قال : وإذا طلق زوجته أقل من ثلاث فقضت العدة ، وتزوجت غيره ، وأصابها ، ثم طلقها أو مات عنها ، وقضت العدة ، ثم تزوجها الأول فهي عنده على ما بقي من الثلاث .
ش : هذه المسألة الملقبة بالهدم ، وهو أن نكاح الثاني هل يهدم طلاق الأول ، وملخص الكلام في المسألة أن الرجل إذا طلق امرأته ثم رجعت إليه فإن كان قد طلقها ثلاثاً ثم رجعت إليه بشرطه ، فإنها ترجع إليه بطلاق ثلاث بالإجماع ، وإن كان قد طلقها دون الثلاث ، ثم رجعت إليه قبل نكاح زوج آخر ، رجعت على ما بقي من طلاقها بلا خلاف أيضاً ، وإن رجعت بعد نكاح زوج آخر ، والحال هذه ، فهذه صورة الخرقي ، وفيها روايتان ، أشهرهما عن أحمد ، وهي اختيار الأصحاب أنها تعود على ما بقي من طلاقها ، ولا هدم ، نظراً إلى إطلاق قوله سبحانه : 19 ( { الطلاق مرتان ، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ) إلى قوله سبحانه : 19 ( { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } ) وظاهر إطلاق الآية الكريمة أن من طلقها زوجها طلقتين ، ثم طلقها الثالثة ، أنها قد حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، وهو يشمل ما إذا رجعت
____________________
(2/484)
إليه قبل تزويج زوج آخر أو بعده ، وأيضاً فهذا قول جمهور الصحابة رضي الله عنهم .
2733 قال أحمد هذا قول عمر ، وعلي ، وأبي ، ومعاذ ، وعمران بن حصين رضي الله عنهم .
2734 ورواه ابن المنذر أيضاً عن زيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر ، ومن جهة القياس أن الزوج الثاني لا يحتاج إليه في إباحتها للأول ، فوجب أن لا يؤثر في عدد الطلاق ، أشبه وطء السيد أو الزوج الثالث أو الرابع ( والرواية الثانية ) تعود إليه بطلاق ثلاث ، فنكاح الثاني هدم الطلاق الأول .
2735 وهذا قول ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهما ، قال أحمد : روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم : نكاح جديد وطلاق جديد ، لأن نكاح الثاني إما أن يكون تأثيره في رفع التحريم والعدد ، أو في رفع التحريم فقط ، لا جائز أن يؤثر في رفع التحريم فقط ، لأنه يلزم أن يرفع الثالثة ، إذ التحريم تعلق بها ، فلزم أن يكون تأثيره في رفعهما جميعاً ، فإذا طلقها واحدة أو اثنتين فالعدد موجود فيرفعه ، وأجيب بأنه يهدم التحريم المتعلق بالثلاث ، ولا تحريم فيما دون الثلاث ، وعن قول ابن عمر ، وابن عباس ، بأن أقوال الصحابة على قاعدتنا إذا اختلفت كانت كدليلين متعارضين ، وإذاً يصار إلى الترجيح ، ولا شك أن قول الأولين إرجح ، والقاضي حمل قول ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ، على ما إذا كان بعد طلاق ثلاث ، وجعل المسألة اتفاقية من الصحابة ، والله أعلم .
قال : وإن كان المطلق عبداً فطلق اثنتين لم تحل له زوجته حتى تنكح زوجاً غيره ، سواء كانت الزوجة حرة أو مملوكة ، لأن الطلاق بالرجال ، والعدة بالنساء .
ش : لما ذكر أن الزوج إذا طلق امرأته أقل من ثلاث أنها تعود إليه على ما بقي من طلاقها ، فإطلاق هذا شامل للحر والعبد ، فأراد أن يخرج العبد ويقول : إن نهاية ما يملكه طلقتان ، وإن كان تحته حرة ، وأن ملك الثلاث مختص بالحر ، وإن كان تحته أمة ، فالطلاق معتبر بالرجال ، هذا أنص الروايتين وأشهرهما عن الإمام ، وعليه الأصحاب ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { الطلاق مرتان } ) الآية إلى : 19 ( { فإن طلقها } ) فجعل للزوج أن يطلق ثلاثاً ، والمراد به الحر ، بدليل : 19 ( { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً } ) الآية ، والأخذ إنما يصح من الحر ، لا يقال : الآية إنما وردت في الحرة ، بدليل : 19 ( { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ) قيل : الأمة يصح الإفتداء منها بإذن سيدها ، وفي هذا الإستدلال نظر ، ( أما أولًا ) فلأن الله سبحانه قال للحرة الرشيدة ، دون الأمة ، وإذا كان للحرة فلا نزاع أن الحر الذي تحته حرة يملك ثلاثاً ، ( وأما ثانياً ) فلو سلم أن الأمة داخلة في هذا فلا نسلم أن المراد من قوله : 19 ( { ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن } ) ، لأن العبد يصح خلعه ، بل وقبضه لعوضه على المنصوص ، ولو قيل :
____________________
(2/485)
إنه لا يصح قبضه ، فأخذ السيد كان بسببه فنسب إليه ، ثم لو سلم هذا فمثل هذا لا يقتضي تخصيص أول الآية الكريمة ، غايته أنه أفرد بعض من دخل في الآية بحكم .
2736 واستدلوا أيضاً على ما تقدم بما روى الدارقطني بإسناده عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي قال : ( طلاق العبد اثنتان وقرء الأمة حيضتان ) .
2737 وقد عورض هذا بأن الحديث رواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي قال : ( طلاق الأمة اثنتان ، وعدتها حيضتان ) .
2738 وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( طلاق الأمة اثنتان ، وعدتها حيضتان ) رواه ابن ماجه والدارقطني ، وهذا دليل للرواية الثانية ، وأن الطلاق معتبر بالنساء ، فيملك زوج الحرة ثلاثاً ، وزوج الأمة اثنتين ، والأحاديث في الباب ضعيفة ، والذي يظهر من الآية الكريمة أن كل زوج يملك الثلاث مطلقاً ، والله سبحانه أعلم .
قال : وإذا قال لزوجته : أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين ؛ طلقت ثلاثاً .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية مهنا ، وعليه الجمهور ، نظراً إلى أن نصف الطلقتين طلقة ، وقد أوقعه ثلاثاً ، فيقع ثلاث ، كما لو قال : أنت طالق ثلاث طلقات ، وقال أبو عبد الله بن حامد : تطلق طلقتين ، نظراً إلى أن الإضافة بمعنى ( من ) أي من طلقتين ، وذلك طلقة ونصف ، ثم تكمل فتصير طلقتين ، والله سبحانه أعلم .
( باب الرجعة )
ش : الرجعة بفتح الراء وكسرها ، مصدر رجع يرجع رجعة ورجعة ، والأصل فيها قول الله تعالى : 19 ( { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ) إلى قوله : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) والمراد به الرجعة عند العلماء ، وأهل التفسير ، وقال سبحانه : 19 ( { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف ، أو فارقوهن بمعروف } ) قيل : أمسكوهن برجعة .
2739 وقد ثبت أن النبي أمر ابن عمر أن يراجع امرأته لما طلقها وهي حائض .
2740 ولما طلق حفصة نزل عليه جبريل عليه السلام بالأمر بمراجعتها ، مع أن هذا إجماع والحمد لله .
____________________
(2/486)
قال : والزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة ، وتحرمها الثلاث من الحر ، والاثنتان من العبد .
ش : أما كون الزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة ، فإجماع من أهل العلم ، لقوله سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ، فمالكم عليهن من عدة تعتدونها } ) وإذا لم تكن عليها عدة فهي بائن بمجرد الطلاق ، وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء عدتها ، وأما كون الثلاث أي بكلمة واحدة من الحر تحرمها فلما تقدم ، وإنما خص غير المدخول بها بالتحريم بالثلاث ، لشهرة الخلاف فيها ، بخلاف ما بعد الدخول ، فإن الثلاث تحرمها في صورة بالإجماع بلا ريب ، وهو ما إذا فرقها ، للآية الكريمة ، وكذا إذا جمعها على قول العامة كما تقدم ، وبالجملة متى حكم بوقوع الثلاث على الزوجة حرمت بذلك بلا ريب ، ويرتفع التحريم بأن تنكح زوجاً آخر بشروطه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام الخرقي ما يشير إلى ذلك ، وفرق الخرقي رحمه الله بين الحر والعبد ، بناء على ما تقدم له قبل ، من أن الحر يملك ثلاثاً ، والعبد اثنتين ، والله أعلم .
قال : وإذا طلق الحر زوجته بعد الدخول بها أقل من ثلاث ، فله عليها الرجعة ما دامت في العدة .
ش : أجمع أهل العلم على هذا بشرط أن لا يكون الطلاق بائناً ، بأن يكون بعوض أو يقول لها : أنت طالق طلقة بائناً ؛ ونصححه على رواية أو يخالعها بغير عوض ، ونقول بصحته ، وأنه طلاق ، وأجمعوا أيضاً على أنه لا رجعة له إذا انقضت العدة ، وسند الإجماعين قول الله تعالى : 19 ( { المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ) إلى : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) أي في مدة القروء فالآية الكريمة دالة بمنطوقها على منطوق كلام الشيخ ، وبمفهومها على مفهومه .
وقد دل كلام الخرقي رحمه الله على أنه لا يعتبر رضى المرأة في الرجعة ، ولا ريب في ذلك ، للآية الكريمة ، ولقوله سبحانه : 19 ( { فأمسكوهن بمعروف } ) فخاطب الأزواج بذلك ، فإن قيل : قوله سبحانه : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) يقتضي بظاهره أن لغيرهن حقاً ، قيل : الأحقية والحقية كلاهما بالنسبة إلى الزوج ، فإذا أراد إصلاحاً كما نطقت به الآية الكريمة فهو أحق ، وإن لم يرد إصلاحاً فله حق ، فتصح منه الرجعة مع النهي عن ذلك .
قال : وللعبد بعد الواحدة ما للحر قبل الثلاث .
ش : قد تقدم أن العبد لا يملك إلا اثنتين ، فهو ليس له الرجعة إلا بعد الواحدة ، أما بعد الاثنتين فقد استوفى عدد طلاقه ، وبانت منه زوجته .
قال : ولو كانت حاملًا باثنين فوضعت واحداً كان له مراجعتها قبل أن تضع الثاني .
____________________
(2/487)
ش : لقوله تعالى : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) فجعل سبحانه الأجل وضع الحمل ، والحمل يتناول الولدين وأكثر ، وإذا كان الأجل وهو العدة باقياً فله الرجعة ، لبقاء العدة ، وبطريق الأولى لو وضعت بعض الولد ، كان له الإرتجاع قبل وضع بقيته .
قال : والمراجعة أن يقول لرجلين من المسلمين : اشهدا أني قد راجعت امرأتي . بلا ولي يحضره ، ولا صداق يزيده ، وقد روي عن أحمد رواية أخرى تدل على أن الرجعة تجوز بلا شهادة .
ش : الرواية الأولى عزيت إلى اختيار الخرقي ، وأبي إسحاق ابن شاقلًا في تعاليقه ، ونص عليها أحمد في رواية مهنا ، لقول الله سبحانه : 19 ( { فأمسكوهن بمعروف ، أو فارقوهن بمعروف ، وأشهدوا ذوي عدل منكم } ) أمر وظاهر الأمر الوجوب ، ولأنه استباحة بضع مقصود ، فوجبت الشهادة فيه كالنكاح ( والثانية ) نص عليها في رواية ابن منصور ، واختارها أبو بكر ، والقاضي وأصحابه ، الشريف وأبو الخطاب ، وابن عقيل والشيرازي وغيرهم ، لإطلاق : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) وإذاً يحمل الأمر في الآية الكريمة على الاستحباب ، جمعا بينهما ، وأيضاً فالله سبحانه قال : 19 ( { وأشهدوا } ) وليس فيه ما يقتضي المقارنة للرجعة ، فلو أشهد بعد الرجعة وفّى مقتضى الآية ، والإشهاد بعد الرجعة مستحب بالإجماع ، فكذلك عند الرجعة ، حذاراً من الجمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد ، ولأنها لا يشترط لها الولي ، فلم تشترط لها الشهادة كالبيع ، وما قيل في قياس الأولى أنها استباحة بضع فغير مسلم ، إذ الرجعية مباحة على الصحيحة كما سيأتي .
إذا تقرر هذا فجعل أبو البركات هاتين الروايتين على قولنا بأن الرجعة لا تحصل إلا بالقول ، وهو واضح ، أما إن قلنا : إنها تحصل بالوطء فكلامه يقتضي أنه لا يشترط الإشهاد رواية واحدة ، وعامة الأصحاب يطلقون الخلاف ، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق ، قال : لما أورد عليه أن الوطء لا يكون رجعة : لأن الله سبحانه أمر بالشهادة ، والشهادة لا تتأتى على الوطء ، فأجاب : ليس في الآية ما يقتضي المقارنة ، فيطأ ثم يشهد ، فأورد عليه أن هذا إشهاد على الإقرار بالرجعة ، وليس بإشهاد على الرجعة ، فأجاب : الله سبحانه أمر بالإشهاد ، وأطلق ، ( ومقتضى ) كلام الخرقي رحمه الله أن الرجعة محصورة في القول ، لقوله : والمراجعة أن يقول . فلا تحصل بالوطء ولا بغيره ، ( وهذا إحدى الروايات ) عن أحمد ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ) والظاهر من الإشهاد إنما هو على القول ، وقد تقدم جواب القاضي عن هذا ، وأيضاً فالرجعة تراد لإصلاح الثلم الداخل في النكاح ، ونفس النكاح لا يقع بالفعل ، كذلك إزالة ما دخله من الثلم ( والرواية الثانية ) أن الرجعة تحصل بالوطء وإن لم ينو ، اختارها ابن حامد ، والقاضي وأصحابه ، لإطلاق قوله تعالى : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن ف
____________________
(2/488)
ذلك } ) والرد حقيقة في الفعل ، بدليل : رددت الوديعة . وأيضاً : 9 ( { فأمسكوهن بمعروف ، أو فارقوهن بمعروف } ) وحقيقة الإمساك في الفعل أيضاً ، ولأنها مدة معلومة ، خير بين القول الذي يبطلها ، وبين تركها حتى تمضي المدة ، فقام الوطء فيها مقام القول ، كالبيع بشرط الخيار ، والمعنى فيهما أن كلا منهما وطؤه دليل على رغبته في الموطوءة ، واختيار رجوعها إليه ( والرواية الثالثة ) وهي اختيار أبي العباس : إن نوى الرجعة بالوطء حصلت ، للعلم برغبته فيها ، وإلا لم تحصل .
وعلى القول بحصول الرجعة بالوطء لا تحصل بالقبلة ولا باللمس ، نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم ، وعليه الأصحاب ، وإن كانا لشهوة ، وخرج القاضي وغيره رواية بحصول الرجعة بذلك ، بناء على ثبوت تحريم المصاهرة بهما ، وخرجها أبو البركات من نصه في رواية ابن منصور على أن الخلوة تحصل بها الرجعة ، قال : فاللمس ونظر الفرج أولى ، وقد حكى أبو الخطاب عن الأصحاب أنهم قالوا : إن الرجعة تحصل بالخلوة ، واختار هو أنها لا تحصل ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني وغيره ، إلا أن مقتضى كلامه في المقنع أن أحمد نص على أن الخلوة لا تحصل بها الرجعة ، وليس كذلك فإن نص أحمد في رواية ابن القاسم إنما هو في اللمس والقبلة ، إذ الرجعة لا تحصل بهما ، ونصه في الخلوة أن الرجعة لا تحصل بها ، وقد يقال : إن في كلام الأصحاب تهافت ، حيث قالوا : إن الرجعة لا تحصل بالقبلة ونحوها وقالوا : إنها تحصل بالخلوة ، ويجاب بأن الخلوة عندهم بمنزلة الوطء ، بدليل تقرر الصداق ، ووجوب العدة بها ، ونحو ذلك ، فكذلك في حصول الرجعة .
واعلم أن الأصحاب مختلفون في حصول الرجعة بالوطء ، هل هو مبني على القول بحل الرجعية أم مطلقاً ، على طريقتين للأصحاب ( إحداهما ) وهي طريقة الأكثرين ، منهم القاضي في روايتيه وفي جامعه وجماعة عدم البناء ( والثانية ) وهي مقتضى كلام أبي البركات ، ويحتملها كلام القاضي في التعليق البناء ، فإن قلنا : الرجعية مباحة حصلت الرجعة بالوطء ، وإن قلنا : محرمة . لم تحصل ، وهذه طريقة أبي الخطاب في الهداية ، قال : لعل الاختلاف مبني على حل الوطء وعدمه ، وقد تضمن هذا أن في حل الرجعية خلافاً ، وهو كذلك كما تقدمت الإشارة إليه ، والمذهب المشهور المنصوص حلها ، وعليه عامة الأصحاب ، لإطلاق : 9 ( { نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم } ) والرجعية من نسائه ، بدليل لو قال : نساؤه طوالق ، فإنها تطلق ، وأيضاً قوله تعالى : 9 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) فسماه الله تعالى بعلًا ، والبعل تباح زوجته ، فكذلك هنا ، والرد إلى ما كانت عليه ، لزوال الثلم الحاصل بالطلاق ، ولأنها في حكم الزوجة في الإرث واللعان ، وغير ذلك ، فكذلك في الحل ، وأومأ أحمد في رواية أبي داود إلى التحريم ، فقال : أكره أن يرى شعرها ، فأخذ من ذلك القاضي ومن تبعه رواية بالتحريم ، وهي ظاهر كلام الخرقي حيث قال فيما تقدم
____________________
(2/489)
لأنه متيقن للتحريم ، شاك في التحليل ، لأنه طلاق ، فأثبت التحريم كالذي بعوض ، أو معتدة فحرم وطؤها كالمعتدة التي قال لها : أنت بائن . انتهى ، وقد تقدم أنه مما يبنى على ذلك حصول الرجعة وعدمها ، ومما ينبني عليه المهر إذا وطئها ، إن قلنا مباحة فلا مهر ، وكذلك إن قلنا محرمة وطاوعته ، أما إن أكرهها وقلنا محرمة فثلاثة أوجه ( الوجوب ) مطلقاً ، وهو ظاهر ما جزم به أبو الخطاب في الهداية ( وعدمه ) وبه قطع القاضي في التعليق ، وفي الجامع الصغير ، والشريف في خلافه ، وإليه ميل أبي محمد ( والثالث ) التفرقة إن راجعها لم يجب ، وإلا وجب ، وبه قطع أبو محمد في المقنع ، أما الحد فلا يجب بوطئها بلا ريب ، وإن قلنا بالتحريم ، وينبغي أن يلحق النسب به بلا نزاع ، لاندراء الحد ، قال أحمد : كل من درأت عنه الحد ألحقت به الولد ، ووقع في كلام أبي البركات في الطلاق ما قيل : إنه يقتضي قولين ، بناء على الحل وعدمه ، وليس بالبين . انتهى .
وصرح الخرقي رحمه الله بأنه لا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق ، وهو إجماع والحمد لله ، وظاهر القرآن يشهد له ، وهل يبطل الرجعة التواصي بالكتمان ، نص في رواية أبي طالب على البطلان ، وخرج عدمه من نصه على عدم البطلان بذلك في النكاح .
قال : وإذا قال : ارتجعتك . فقالت : انقضت عدتي قبل رجعتك . فالقول قولها مع يمينها ، إذا ادعت من ذلك ممكناً .
ش : قول المرأة مقبول في عدتها في الجملة ، لقول الله سبحانه : 19 ( { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } ) قيل : المراد الحمل والحيض ، ولولا أن قولها مقبول في ذلك لما حرم عليها كتمانه ، ثم إذا اختلفت هي والزوج هل راجعها في العدة أم لا ؟ فلا يخلو إما أن يكون في وقت حكم بأنه من عدتها ، أو في وقت حكم بانقضاء عدتها فيه ، أو في وقت محتمل لهما ، فالأول قول الزوج بلا ريب ، لأنه يملك الإنشاء فملك الإقرار ، فإذا قال في العدة : راجعتها أمس أو منذ كذا . قبل قوله ، وفي الثاني : القول قولها بلا ريب أيضاً كذلك ، فإذا قال بعد انقضاء عدتها : كنت راجعتها . وأنكرته ، فالقول قولها ، لأنه لا يملك الإنشاء ، فلا يملك الإقرار .
وفي الثالث لا يخلو إما أن تسبقه بالدعوى أو يسبقها بالدعوى ، أو يتداعيا معاً ، فإن سبقته بالدعوى كأن قالت في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها : قد انقضت عدتي . فيقول هو : كنت راجعتك . فالقول قولها بلا خلاف نعلمه ، لأن خبرها والحال هذه بانقضاء عدتها مقبول ، فبقولها : انقضت عدتي . حكم بانقضاء عدتها ، فدعواه بعد ذلك غير مقبولة ، لانتفاء إنشائه ، وإذاً ينتفي إخباره أيضاً .
وإن سبقها بأن قال والحال ما تقدم : راجعتك . فتقول هي : انقضت عدتي قبل رجعتك . ففيه قولان ( أحدهما ) وهو الذي قاله الخرقي ، وتبعه عليه الشيرازي :
____________________
(2/490)
القول قولها ، لظاهر قول الله سبحانه : 19 ( { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } ) وإطلاقها يقتضي أن قولها مقبول مطلقاً ( والثاني ) وبه قطع أبو الخطاب في الهداية ، واختاره القاضي وغيره القول قول الزوج ، لما تقدم فيما إذا سبقته هي ، وعلى هذا القول إذا تداعيا معاً فهل القول قولها ، لترجح جانبها ، أو قول من تقع له القرعة لتساويهما ؟ ( وجهان ) .
وقول الخرقي : ما إذا ادعت من ذلك ممكناً . يلتفت إلى قاعدة ، وهو ما الممكن في انقضاء العدة ؟ ( فإن كانت ) العدة بالأقراء فأقل ما يمكن انقضاء العدة تسعة وعشرون يوماً ولحظة ، إن قيل : القرء الحيض ، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً ، وإن قيل : خمسة عشر فثلاثة وثلاثون يوماً ولحظة ، وإن قيل : القرء الطهر ، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوماً ، فثمانية وعشرون يوماً ولحظتان ، وإن قيل : الطهر خمسة عشر ، فاثنان وثلاثون يوماً ولحظتان ، إلا أن المنصوص عن أحمد أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء في شهر لا يقبل قولها إلا ببينة ، وظاهر قول الخرقي القبول مطلقاً ، لأنه أناط ذلك بالإمكان ، ( وإن كانت ) العدة بوضع الحمل ، وادعت وضع ولد تام فالممكن ستة أشهر فأزيد منذ إمكان الوطء بعد العقد ، وإن ادعت سقطاً فالممكن ثمانون يوماً ، ( وإن كانت ) بالأشهر فهو أمر محدود معروف ، والنزاع فيه إنما ينبني على أول وقت الطلاق ، والقول قول الزوج في ذلك ، فإذا قال : طلقتك في ذي الحجة فلي رجعتك . وقالت : بل طلقتني في شوال ، فلا رجعة لك . فالقول قوله ، إذ الأصل بقاء النكاح ، وعكس هذا لو ادعى أنه طلقها في شوال ، لتسقط النفقة ، وقالت هي : بل في ذي الحجة ، فالقول قولها ، نظراً إلى الأصل أيضاً ، إذ الأصل بقاء وجوب النفقة ، فكذلك إذا لم يكن لها نفقة ، لأنها تقر على نفسها بما هو أغلظ ، وحيث قيل : القول قولها ، فأنكرها الزوج ، فهل تجب عليها اليمين ، وهو اختيار الخرقي ، وأبي محمد لعموم ( اليمين على المدعى عليه ) أو لا تجب وقال القاضي : إنه قياس المذهب ، إذ الرجعة لا يصح بذلها ، فأشبهت الحدود ، وعن أحمد ما يدل على روايتين ، وعلى الأول إن نكلت لم يقض بالنكول ، قاله القاضي ، ولأبي محمد احتمال أن يستحلف الزوج ، وله الرجعة بناء على القول برد اليمين على المدعى عليه . انتهى .
قال : ولو طلقها واحدة ، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية ، بنت على ما مضى من العدة .
ش : لأنهما طلاقان لم يتخللهما إصابة ولا خلوة ، فلم يجب بهما أكثر من واحدة ، كما لو والى بينهما ، وكذلك الحكم لو طلقها ثم فسخ نكاحها لعيب في أحدهما ، ونحو ذلك انتهى .
قال : ولو طلقها ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم ، فاعتدت ثم نكحت غيره ، وأصابها ردت إليه ، ولا يطأها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين ، والرواية
____________________
(2/491)
الأخرى : هي زوجة الثاني .
ش : الرواية الأولى هي المذهب بلا ريب ، لأنها زوجته ، نكحها نكاحاً صحيحاً ، فردت إليه ، كما لو غصبها غاصب .
2741 ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه .
274( والثانية ) تروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وقول الخرقي : ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم . لأنه إذا لم يشهد فإن قلنا : الإشهاد شرط لصحة الرجعة ؛ فقد فات الشرط ، فتبطل الرجعة ، وتكون زوجة الثاني بلا ريب ، وإن قيل : إنه ليس بشرط ، فالنكاح صحيح في الباطن ، لكن لا يقبل قوله في ذلك ، لا على الزوج ، ولا على المرأة ، لأنه لا يملك الإنشاء فلا يملك الإقرار ، ثم ينظر في الزوج والمرأة فإن صدقاه كان كما لو قامت به البينة ، وإن صدقه الزوج وحده فقد اعترف بفساد نكاحه ، فتبين منه ، وعليه للمرأة مهرها ، إن كان بعد الدخول ، ونصفه إن كان قبله ، لأنه لا يصدق على المرأة في إسقاطه حقها ، ولا تسلم المرأة للمدعي لما تقدم ، ويكون القول قولها ، وهل هو مع يمينها ؟ على وجهين ، وإن صدقته المرأة وحدها لم يقبل قولها على الزوج الثاني ، في فسخ نكاحه ، لكن متى زال نكاحه ردت إلى الأول ، لأن المنع من الرد كان لحق الثاني وقد زال ، ولا يلزم المرأة مهر الأول ، على ما أورده الشيخان مذهباً ، لاستقراره لها ، أشبه ما لو قتلت نفسها ، وألزمها القاضي له بالمهر لإقرارها ، بحيلولتها بينه وبين بضعها ، وهذا قياس المنصوص في الرضاع ، وهو اختيار القاضي أيضاً ثم ، واختيار الشيخين ثم أيضاً عدمه ، جريا على قاعدتهم ، فإن مات الأول والحال هذه ، وهي في نكاح الثاني ، فقال أبو محمد : ينبغي أن ترثه ، لإقراره بزوجيتها ، وتصديقها له ، وإن ماتت لم يرثها ، لتعلق حق الثاني بالإرث ، وإن مات الثاني لم ترثه لإنكارها صحة نكاحه .
قلت : ولا يمكن من تزويج أختها ، ولا تزويج أربع سواها انتهى ؛ وقول الخرقي : من حيث لا تعلم . لأنها إذا علمت لم يصح نكاح الثاني بلا خلاف ، وقوله : فاعتدت ، لأنها إذا لم تعتد فلا ريب في بطلان نكاح الثاني ، وقوله : ثم نكحت غيره وأصابها . لأنه إذا لم يدخل بها فلا خلاف أنها زوجة الأول ، لأن بالدخول حصل للثاني مزية ، فلذلك قدم في رواية مرجوحة ، وقوله : ولم يصبها حتى تنقضي عدتها . يعني إذا ردت إلى الأول بعد إصابة الثاني لها ، لم يصبها حتى تنقضي عدتها من الثاني ، لتعلم براءة رحمها .
قال : رحمه الله : وإذا طلقها وانقضت عدتها منه ، ثم أتته فذكرت أنها نكحت من أصابها ، ثم طلقها أو مات عنها ، وانقضت عدتها منه ، وكان ذلك ممكناً ، فله أن ينكحها إذا كان يعرف منها الصدق والصلاح ، وإن لم تكن عنده في هذه الحال لم
____________________
(2/492)
ينكحها حتى يصح عنده قولها
ش : ملخص الأمر أن الأحكام تناط بغلبة الظن كثيراً ، والمرأة مؤتمنة على نفسها ، وعلى ما أخبرت به عنها ، ولا سبيل إلى ذلك على الحقيقة إلا من جهتها ، فوجب الرجوع إلى قولها ، كما لو أخبرت بانقضاء عدتها ، ومقتضى قوله أنه إذا لم يعرف منها الصدق والصلاح لا يقبل قولها ، وهو كذلك ، لأنه لم يوجد ما يغلب على ظنه صدقها ، والأصل التحريم ، فيبقى عليه ، ومقتضى كلامه أنه يرجع إلى قول المرأة ، إذا كانت بالصفة المتقدمة ، وإن أنكر الزوج الذي ادعت إصابته لها ، ولو قال الزوج الأول : أنا أعلم أن الثاني ما أصابها . لم تحل له ، إذ لا غلبة ظن مع العلم بالتحريم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(2/493)
( كتاب الإيلاء )
ش : الإيلاء بالمد الحلف ، مصدر آلى يؤلي إيلاء وتألى وأتلى ، والألية بوزن فعلية اليمين ، وكذلك الألوة بسكون اللام وتثليث الهمزة والإيلاء شرعاً حلف الزوج القادر على الوطء بالله تعالى أو بصفة من صفاته ، على ترك وطء زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر ، وفي بعض هذه القيود خلاف ، والأصل فيه قوله تعالى : 19 ( { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ) الآية .
2743 وثبت أن رسول الله آلى من نسائه أو من بعض نسائه شهراً .
قال رحمه الله : والمولي هو الذي يحلف بالله عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر .
ش : ذكر الخرقي رحمه الله أن للمولي ثلاث صفات ( إحداها ) أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته سبحانه ، ولا نزاع أن من حلف بذلك يكون مولياً ، لإرادته من الآية الكريمة ، إما بخصوصه وإما مع غيره ، واختلف فيمن حلف بغير ذلك ، كمن حلف بطلاق ونحوه هل يكون مولياً أم لا ؟ فعنه وهو المشهور والمنصوص ، والمختار لعامة الأصحاب لا يكون مولياً ، لأن الإيلاء إذا أطلق ينصرف إلى القسم بالله تعالى .
2744 وقد قرأ ابن عباس وأبي : 19 ( { يقسمون } ) .
2745 وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس بأنه الحلف بالله تعالى ذكره الإمام أحمد عنه .
2746 وعن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت آلى رسول الله من نسائه وحرم ، فجعل الحرام حلالًا ، وجعل في اليمين الكفارة . رواه ابن ماجه والترمذي ، وذكر أنه روي عن الشعبي مرسلًا وأنه أصح ، فدل على أن حلفه كان بالله ، وفعله خرج بياناً للإيلاء المشروع ، ثم في الآية قرينة تدل على أن المراد اليمين به سبحانه ، وهو قوله : 19 ( { فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } ) فالمغفرة لما حصل من انتهاك حرمة القسم ، ولا انتهاك للطلاق ونحوه ( وعنه ) يكون مولياً ، لإطلاق : 19 ( { للذين يؤلون } ) أي يحلفون ، والحالف بالطلاق ونحوه حالف ، بدليل : إن حلفت بطلاقك فأنت طالق . ثم قال : إن وطئتك فأنت طالق ( وعنه ) واختاره أبو بكر في الشافي :
____________________
(2/494)
يحصل بكل يمين مكفرة ، قال أبو بكر أصل الإيلاء عند أبي عبد الله اليمين بالله تعالى ، وكل يمين من حرام وغيره إذا وجبت في اليمين كفارة . انتهى ، وهذا القول متوسط ، وعليه فيخص الأيلاء باليمين بالله تعالى ، والظهار ، والنذر ، وتحريم المباح .
2747 وفي الحديث : ( النذر حلف ، وكفارته كفارة يمين ) وعلى الثانية لا بد أن يحلف بما يلزمه به حق ، كالطلاق والعتاق ، وتحريم المباح ، والنذر ، وإن كان مباحاً أو محرماً ، على مقتضى إطلاق كلام أبي الخطاب وأبي البركات وغيرهما ، وقال أبو محمد : إنه قياس المذهب ، بناء على انعقاد النذر بهما ، ولو قال : إن وطئتك فأنت زانية . لم يكن مولياً ، لأنه لا يلزمه بالوطء شيء ، لأنه إذا وطئ لا يصير قاذفاً لانتفاء تعلق القذف بالشرط .
( تنبيه ) قال أبو الخطاب في خلافه الصغير : هذه المسألة إنما تصح على أصلنا على الرواية التي تقول : إذا ترك وطأها مضاراً من غير يمين لا يكون مولياً .
قلت : كأنه بحلفه علم منه الإضرار ، فحكم عليه بالإيلاء على المذهب ، وإذاً تنتفي هذه المسألة كما قال أبو الخطاب ، ومقتضى كلام القاضي في التعليق أنه لا يكون مولياً ثم حتى يمتنع من فعل ما حلف عليه ، على وجه يعلم به قصد الإضرار ، كأن يحلف بالطلاق لأفعلن كذا ، ثم يتركه ولا عذر له ، أو يظاهر منها ولا يكفر ، ونحو ذلك ، كذا مثل القاضي انتهى ( الصفة الثانية ) أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر أو مطلقاً ، وهذا هو المذهب المنصوص ، والمختار للأصحاب ، لأن قوله تعالى : 19 ( { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم } ) فظاهر الآية الكريمة يقتضي أن الفيئة بعد مدة التربص ، والفيئة هي الرجوع عما حلف عليه ، وذلك إنما يكون مع بقاء اليمين ، ولازم ذلك أن تكون اليمين على أكثر من أربعة أشهر ( وعن أحمد ) رواية أخرى يصح على أربعة أشهر ، ولا يصح فيما دون ذلك ، وهو مبني على أصل ، وهو أن الفيئة تكون في مدة التربص ، والتربص إنما هو أربعة أشهر .
2748 واستدل على ذلك بأن ابن مسعود قرأ : 19 ( { فإن فاءوا فيهن } ) أي في الأربعة أشهر ، ولأصحابنا ظاهر الآية الكريمة ، فإن الفاء للتعقيب ، فظاهر الآية الكريمة أن الفيئة والطلاق يكونان بعد مدة التربص .
2749 يرشح هذا ما قاله أحمد في رواية أبي طالب قال : قال عمر وعثمان وعلي ، وابن عمر رضي الله عنهم : يوقف المولي بعد الأربعة الأشهر ، فإما أن يفيء ، وإماأن يطلق .
2750 وعن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه أنه قال : سألت اثني عشر رجلًا من
____________________
(2/495)
أصحاب النبي عن الرجل يولي ، قالوا : ليس بشيء حتى تمضي أربعة أشهر ، فيوقف فإن فاء وإلا طلق . رواه الدارقطني ، وما يروى عن ابن مسعود فلا يعلم صحته ( الصفة الثالثة ) أن يحلف على ترك وطء زوجته ، ووطء الزوجة إنما ينصرف غالباً لوطئها في الفرج تختص يمينه بذلك بأن يقول والله لا وطأتك في قبلك . أو لا وطئتك ويطلق ، فلو حلف أن لا يطأها في الدبر ، أو دون الفرج ، لم يكن مولياً ، لأنه إنما يصير مولياً من امتناعه مما وجب عليه ، وهذا ليس بواجب عليه ، ولو حلف أن لا يطأ أمته أو أجنبية مطلقاً ، أو إن تزوجها ، لم يكن مولياً على المذهب بلا ريب ، لأن الإيلاء الذي ذكره الله تعالى ذكره في النساء ، قال سبحانه : 19 ( { للذين يؤلون من نسائهم } ) .
وخرج الشريف أبو جعفر وغيره صحته من الأجنبية مطلقاً ، من قول أحمد في الظهار : يصح قبل النكاح ، لأنه يمين ، فمقتضى تعليله صحة الأيلاء ، لأنه يمين ، وخرج أبو البركات صحته بشرط إضافته إلى النكاح كالطلاق في رواية .
( ويدخل ) في كلام الشيخ الرجعية ، لأنها زوجة فيصح الأيلاء منها ، وهذا هو المشهور من الروايتين ، والمذهب بلا ريب عند الأصحاب ، بناء على دخولها في نسائه ، ( وعنه ) لا يصح الأيلاء منها ، وعلله بأن الطلاق منعه من الجماع ، فبناه على تحريمها ، والخرقي يقول بالتحريم فترد عليه ، ويدخل في كلامه أيضاً كل زوجة وإن كانت ذمية أو أمة أو صغيرة أو مجنونة ، للآية الكريمة وتطالب الصغيرة والمجنونة عند تكليفهما ، وكذلك يدخل من لم يمكن وطؤها لرتق ونحوه ، وقد أومأ إليه أحمد في رواية مهنا ، وجزم به القاضي في تعليقه وجامعه ، وجماعة من أصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، للآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : 19 ( { للذين يؤلون نسائهم } ) وزوج الرتقاء ونحوها قد آلى منها ، فدخل تحت العموم ، والعجز عن الوطء لا يمنع صحة الإيلاء ، كما لو آلى منها وبينهما مسافة لا يصل إليها فيها ( وفي المذهب ) قول آخر أنه لا يصح الإيلاء من الرتقاء ونحوها ، وأورده أبو الخطاب وأبو محمد مذهباً ، وصححه صاحب البلغة ، لأن المنع هنا ليس باليمين ، والمولي هو المتنع بيمينه من وطء زوجته ، وعلى الأول يفيء فيئة المعذور ، صرح به القاضي وغيره .
ويدخل في كلام الخرقي كل زوج حلف على وطء زوجته وإن كان عبداً ، للآية الكريمة ، وكذلك إن كان ذمياً للآية الكريمة أيضاً ، وفائدته في أنه يوقف بعد إسلامه ، ويؤخذ بالكفارة ، كذا قال القاضي في تعليقه ، وقال أبو محمد : يلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا ؛ وظاهر هذا أنه يوقف في كفره ، وكذلك إن كان خصياً أو مريضاً يرجى برؤه ، للآية أيضاً ، وكذلك إن لم يتصور منه الوطء لجب أو شلل ، على عموم
____________________
(2/496)
كلام الخرقي ، وصرح به من تقدم في المرأة إذا كانت رتقاء ، والخلاف هنا كالخلاف ثم سواء .
نعم يستثنى من عموم كلام الشيخ إذا كان الزوج غير مكلف كالصبي والمجنون ، فإنه لا يصح إيلاؤه ، لانتفاء الشرط في حقهما ، وهو اليمين بالله تعالى ، نعم ينبغي على القول بصحة الإيلاء بالطلاق ونحوه أنه يصح الإيلاء من الصبي ، حيث صح طلاقه ، لوجود شرط الإيلاء في حقه إذاً ، وأطلق أبو الخطاب في الهداية في السكران والمميز وجهين ، وقال : بناء على طلاقهما . والله أعلم .
قال : وإذا مضى أربعة أشهر ورافعته أمر بالفيئة .
ش : مدة الإيلاء أربعة أشهر ، للآية الكريمة ، ولا فرق بين الحر والعبد ، على المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب ، تمسكاً بالعموم ( والرواية الثانية ) واختارها أبو بكر أنها في العبد على النصف من الحر ، وذلك شهران ، لأنه على النصف في الطلاق والنكاح ، فكذلك في هذا ، ولا تفريع على هذه ، أما على المذهب فإذا آلى الرجل من زوجته ضرب له مدة أربعة أشهر ، لا تطالب فيهن بوطء ، فإذا مضت المدة ورافعته الزوجة إلى الحاكم ، أمره الحاكم بالفيئة ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر ، فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم } ) وظاهره أن الفيئة بعد مدة التربص ، لأنه عقبها للمدة ، وهو مقتضى ما تقدم عن الصحابة رضوان الله عليهم .
ومقتضى كلام الخرقي أن ابتداء الأربعة أشهر من حين اليمين ، وأنه لا يحتاج في المدة إلى ضرب من الحاكم ، وهو كذلك ، وأنه لا بد في أمره بالفيئة من أن ترفعه بعد ذلك إلى الحاكم ، ولا بد من ذلك ، لأن الحق لها ، فوقف على طلبها ، ويؤخذ من هذا أن الصغيرة والمجنونة لا تطالب إلا بعد زوال الصغر والجنون ، ليصح طلبهما ، وأنها لا تطلق بمضي المدة ، ولا نزاع في ذلك عندنا ، لظاهر الآية الكريمة وقد تقدم أيضاً عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم ما يقتضي ذلك ، ثم في الآية أيضاً إنما أخر لذلك ، وهو قوله تعالى : 19 ( { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ) فمقتضاه أن ثم عزم وطلاق مسموع ، ومن طلقت بهذه المدة فلا عزم ولا شيء يسمع .
2751 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق ، فلا يقع عليه الطلاق حتى يطلق ، يعني المولي . أخرجه البخاري ، قال : ويذكر ذلك عن عثمان وعلي ، وأبي الدرداء ، وعائشة ، واثني عشر رجلًا من أصحاب النبي .
____________________
(2/497)
ومقتضى إطلاق الخرقي أنه لا فرق بين أن يوجد في المدة مانع للوطء من قبلها أو من قبله ، أو لا يوجد ، ولا نزاع في ذلك إذا كان المانع من قبله ، لوجود التمكين ، وفيما إذا كان المانع من قبلها قولان ( أحدهما ) وهو الذي قطع به القاضي في تعليقه ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا أنه يحتسب عليه بمدته ، كما إذا كان المانع من جهته ، وهو ظاهر إطلاق الآية الكريمة ( والثاني ) وهو الذي جزم به أبو محمد في كتبه الثلاثة ، وقدمه أبو الخطاب في الهداية لا يحتسب عليه ، لأن المنع من قبلها لا من قبله ، ولعل هذا يلتفت إلى أصل تقدم ، وهو أنه يصح الإيلاء ممن يتعذر وطؤها ، والعامة على الصحة ، فقياس قولهم هنا الاحتساب ، وأبو محمد يقول ثم لا يصح ، وهنا جرى على ذلك ، وعلى هذا القول إن طرأ العذر استأنفت المدة عند زواله ، لأن ظاهر الآية يقتضي توالي الأربعة أشهر ، وخرج أن يسقط أوقات المنع ، وتبني ويستثنى على هذا القول الحيض ، فإنه يحتسب من مدته بلا ريب ، لئلا يودي إلى إسقاط حكم الأيلاء ، لأن الغالب أنه لا يخلو منه شهر ، وفي الاحتساب بمدة النفاس وجهان ، واعلم أن من شرط مضي الأربعة أشهر والطلب عقبهن أن لا تنحل اليمين فيهن بحنث ولا تكفير ولا غيره ، كما إذا أبانها في أثناء المدة ، ولم يعدها إلى نكاحه حتى انقضت ، لأن المقتضي للطلب الإيلاء وقد زال .
قال : والفيئة الجماع .
ش : الفيئة هي الرجوع عن الشيء الذي قد لابسه الإنسان ، والزوج قد لابس الامتناع من الوطء ، فيرجع عنه ويجامع ، وهذا في حق القادر على الوطء كما سيأتي .
قال : أو يكون له عذر من مرض أو إحرام ، أو شيء لا يمكن معه الجماع ، فيقول : متى قدرت جامعتها . فيكون ذلك من قوله فيئة .
ش : يعني أن القادر على الوطء فيئته الجماع بلا ريب ، أما العاجز عن الوطء لمرض ونحوه ففيئته باللسان ، لأنه لما عجز عن الوطء ، قام اللسان مقامه ، لأنه الذي يقدر عليه ، فيدخل تحت ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ثم اختلف الأصحاب في صفة ذلك ، فقال الخرقي : يعدها فيقول : متى قدرت جامعتك . وعلى هذا لو كان مجبوباً قال : لو قدرت جامعتك . وتبعه على ذلك القاضي في المجرد ، وحسنه أبو محمد ، وزاد القاضي في تعليقه أن يقول مع ذلك : قد ندمت على مافعلت ، وقال هو : إن صفة الفيئة أن يقول : فئت إليك . وهو مقتضى قول عامة أصحابه ، ووقع في كلام القاضي أن المسألة على روايتين ، وانبنى على ذلك إذا قدر على الوطء هل يلزمه ؟ فالخرقي وأبو محمد يقولان يلزمه ، وفاء بالوعد ، وإليه ميل القاضي في الروايتين ، وهو لازم قوله في المجرد ، قال القاضي : وقد أومأ إليه أحمد في رواية حنبل ، إذا فاء بلسانه ، وأشهد على ذلك كان فايئاً ، قال : ومعنى قوله : أشهد على
____________________
(2/498)
ذلك . أي أشهد على ما به من العذر أنه لو كان قادراً أو قدر على ذلك فأنا أفعل ؛ واختار القاضي في التعليق وجمهور أصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وقبلهما أبو بكر أنه لا يلزمه ، لحصول الواجب عليه وهو الفيئة ، إذ لا وعد ، قال القاضي في التعليق وفي الجامع ، متابعة لأبي بكر إنه ظاهر كلام أحمد في رواية مهنا ، وسئل إذا آلى من امرأته وهو غائب عنها ، بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر ، أو تكون صغيرة أو رتقاء أو حائضاً ، يجزيه أن يفيء بلسانه وقلبه ، إذا كان لا يقدر عليها ، وقد سقط عنه الإيلاء ، واعترض ذلك القاضي في الروايتين ، فقال : معنى قوله : سقط عنه الإيلاء ، يعني في الحال ، لا أنه سقط مطلقاً ، وقد ذكر الخرقي ممن يفيء بلسانه المحرم ، ولم يفرق بين أن تطول مدة إحرامه أو تقصر ، قال أبو محمد : وكذلك على قياسه الإعتكاف المنذور ، وقال أبو البركات يمهل المحرم حتى يحل ، وأطلق ثم قال بعد ذلك : إن الزوج إذا كان به عذر من مرض أو إحرام ، أو صوم فرض ونحوه ، وطالت مدته ، فاء فيئة المعذور ، مع أنه قدم أن المظاهر لا يمهل لصيام الشهرين ، بل يؤمر بالطلاق ، وكذلك قال أبو محمد : إنه لا يمهل لصوم الشهرين ، وخرج من المحرم فيه قولًا أنه يمهل ، وقولًا أنه يفيء فيئة المعذور ، انتهى .
قلت : وهذا من أبي البركات ظاهره التناقض .
قال : فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق .
ش : إذا لم يفعل الفيئة الواجبة وهي الجماع مع القدرة ، أو القول مع عدمها ، ق أمر بالطلاق ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم } ) فظاهرها أنه إذا لم يفء يطلق ، وكذا فهمت الصحابة رضوان الله عليهم ، وقد تقدم ، وأيضاً فإن الله سبحانه قال : 19 ( { فإمساك بمعروف ، )9 ( أو تسريح بإحسان } ) وإذا لم يفء فلم يمسك بمعروف ، فتسريح بإحسان . والله أعلم .
قال : فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار القاضي في تعليقه ، والشريف وأبي الخطاب والشيرازي ، وأبي محمد وغيرهم ، لأنه حق تدخله النيابة ، مستحقه متعين ، فإذا امتنع من هو عليه من الإيفاء ، كان للسلطان الاستيفاء كالدين ، وخرج إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة ، ولم يختر ، لم يملك الحاكم الاختيار ، لأن الحق غير متعين ( والرواية الثانية ) ليس للحاكم أن يطلق عليه ، بل يحبسه ويضيق عليه حتى يطلق ، لأن الله تعالى أضاف الطلاق إليه بقوله : 19 ( { وإن عزموا الطلاق } ) .
2752 ولعموم ( الطلاق لمن أخذ بالساق ) وحُمِلا على حال الاختيار ،
____________________
(2/499)
وظاهر كلام الخرقي أن المولي إذا طلق واحدة اكتفي بها ، ولا ريب في ذلك ، وظاهر كلامه أنها تكون رجعية ، كالطلاق من غيره ، وسيصرح بذلك ، وذلك لأنه طلاق صادف مدخولًا بها ، من غير عوض ولا استيفاء عدد ، فوجب أن يكون رجعياً ، كما لو لم يكن مولياً ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، والقاضي وأصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن عقيل ، وأبي محمد ( والرواية الثانية ) يكون بائناً ، لأن الطلاق إنما ثبت دفعا للضرر عنها ، بامتناعه من وطئها ، ومع كونه رجعياً لا يزول الضرر ، لإمكان مراجعتها ، وأجيب بأن الضرر يزول بضرب المدة بعد الرجعة إن بقيت مدة الإيلاء .
قال : فإن طلق عليه ثلاثاً فهي ثلاث .
ش : الحاكم مخير بين أن يفسخ النكاح وبين أن يطلق ، فإن فسخ فهل يقع بذلك طلاق ؟ على روايتين ، حكاهما الشيرازي وجمهور الأصحاب ، والمشهور المعروف أنه لا يقع ، وعليه فهل تحرم عليه على التأبيد كفرقة اللعان ، وهو اختيار أبي بكر أو تحل له وهو المذهب ؟ على قولين ، حكاهما أبو بكر ، وامتنع ابن حامد وجمهور الأصحاب من ذلك ، وجعلوا محلهما في فرقة اللعان ، وهكذا الطريقتان في كل فرقة من الحاكم ، وإن طلق فله أن يطلق واحدة واثنتين وثلاثاً ، نص عليه أحمد في رواية أبي طالب ، لأنه قام مقامه ، فملك ما يملكه ، كما لو وكله في ذلك ، وإذا طلق دون الثلاث فهل ذلك رجعي أو بائن ؟ مبني على طلاق المولي ( وعنه ) رواية ثالثة وهي المنصوصة أن طلاق الحاكم بائن ، لأنه موضوع لرفع النزاع ، وطلاق المولي رجعي لما تقدم .
قال : وإن طلق واحدة ، وراجع وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر ، كان الحكم كما حكمنا في الأول .
ش : هذا تصريح من الخرقي بأن طلاق المولي يكون رجعياً ، فإذا طلق وراجع نظرت في المدة ، فإن بقي منها قدر مدة الإيلاء وهو أكثر من أربعة أشهر على المذهب كان الحكم كما لو حلف ابتداء ، في أنه تضرب له المدة ، ثم يؤمر بعدها بالفيئة ، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق ، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه ، وجميع ما تقدم يجري هنا ، وذلك لأنها زوجة ممنوع من وطئها بيمينه ، أشبه ما لو لم يطلقها ، وفقهه أن الحكمة في ضرب المدة في النكاح الأول زوال الضرر عنها ، وهذا موجود في النكاح الثاني .
ومقتضى كلام الخرقي أنه إذا وقف فطلق أنه لا يبدأ بالمدة من حين طلق ، بل من حين راجع ، وهو مقتضى قول القاضي وغيره من الأصحاب ، قال أبو محمد : ومقتضى قول ابن حامد أنه إذا طلق استؤنفت مدة أخرى من حين طلق ، فإن تمت قبل انقضاء العدة وقف ثانياً ، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق ، وهذا أخذه من قول ابن حامد : إنه إذا صح الإيلاء من الرجعية على المذهب تكون المدة من حين اليمين ، وهو قول أبي
____________________
(2/500)
بكر أيضاً ، قال القاضي : وهو قياس المذهب ، بناء على أن الرجعية مباحة ، وهذا من القاضي يقتضي أن على قول الخرقي لا يحتسب بالمدة إلا من حين الرجعة ، إذ الرجعية عنده محرمة ، وصرح بذلك أبو محمد فقال : يجيء على قول الخرقي أنه لا يحتسب بالمدة إلا من حين الرجعة ، وملخصه أن هنا شيئين أحدهما إذا آلى من الرجعية وصححناه ، فالمدة على المعروف من حين اليمين ، وأبو محمد يأخذ من قول الخرقي بتحريم الرجعية ، أن المدة لا تكون إلا من حين الرجعة ، وهذا يجيء على قول أبي محمد ، من أنه إذا كان مانع من جهتها لم يحتسب عليه بمدته ، أما على قول غيره بالاحتساب فلا يتمشى ، وإذاً قول القاضي : إن هذا قياس المذهب ، بناء على أن الرجعية مباحة . ليس بجيد ، بل هو قياس المذهب ، وإن قلنا بتحريمها ، ولهذا قال هو وغيره : إن المدة من حين اليمين ( الشيء الثاني ) إذا وقف فطلق طلاقاً رجعياً ، فكل من وقفت على كلامه من الأصحاب يقول : لا تبتدئ المدة من حين الطلاق ، وأبو محمد خرج من قول ابن حامد أن المدة تبتدىء من حين الطلاق ، وهو غير مسلم له والله أعلم .
قال : ولو أوقفناه بعد الأربعة أشهر فقال : قد أصبتها . فإن كانت ثيباً كان القول قوله مع يمينه .
ش : نظرا للأصل ، إذ الأصل بقاء النكاح ، والمرأة تدعي ما يلزم منه رفعه ، ولا ريب أن القول قول مدعي الأصل ، لأن الظاهر معه ، ثم هل ذلك مع يمينه ؟ اختلفت نسخ الخرقي ، وأبو بكر يختار أن لا يمين ، والمسألة فيها روايتان ، ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا كانت بكرا كان القول قولها ، وهذا مشروط بما إذا شهدت البينة ببقاء عذرتها ، وإلا فالقول قول الزوج لما تقدم والله أعلم .
قال : ولو آلى منها فلم يصبها حتى طلقها ، وانقضت عدتها منه ، ثم نكحها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربع أشهر ، وقف لها كما وصفت .
ش : لما تقدم فيما إذا طلقها ثم راجعها إذاً والحال هذه هو ممتنع من وطء زوجته بيمينه ، أكثر من أربعة أشهر ، فأشبه ما لو لم يطلق ، وقوله : أكثر من أربعة أشهر . بناء على المذهب ، وعلى هذا لو بقي أقل من ذلك لم تضرب له مدة ، وقوله : كما وصفت . من أنه يؤمر بعد مضي المدة بالفيئة ، فإن لم يفء أمر بالطلاق ، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه لما تقدم .
قال : ولو آلى منها واختلفا في مضي الأربعة أشهر ، كان القول قوله ، في أنها لم تمض مع يمينه .
ش : لأن الاختلاف في ذلك يرجع إلى الاختلاف في وقت اليمين ، ولو اختلفا في وقت اليمين كان القول قوله بلا ريب ، إذ الأصل عدم الإيلاء في ما تقدم ، ويكون
____________________
(2/501)
ذلك مع يمينه ، لعموم قول النبي : ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) واختار أبو بكر والقاضي أنه لا يمين ، لأنه اختلاف في حكم من أحكام النكاح ، أشبه الاختلاف في أصل النكاح ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(2/502)
( كتاب الظهار )
ش : الظهار مشتق من الظهر ، وخص الظهر دون غيره لأنه موضع الركوب ، والمرأة مركوبة إذا جومعت ، فأنت علي كظهر أمي . أي ركوبك للنكاح حرام علي ، كركوب أمي للنكاح ، قال ابن أبي الفتح : وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي . وكأنه يريد في الأصل ، وإلا فالظهار في الإصطلاح أعم من هذا ، والأصل فيه قول الله سبحانه : 19 ( { الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم } ) وما بعدها ، ومن السنة ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهو محرم ، قال الله سبحانه : 19 ( { وإنهم ليقولون منكراً من القول وزورا } ) وأكد ذلك بقوله تعالى بعد : 19 ( { ما هن أمهاتهم } ) وهذا اتفاق والحمد لله والله أعلم .
قال : وإذا قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي . أو كظهر امرأة أجنبية . أو أنت علي حرام ، أو حرم عضواً من أعضائها فلا يطأها حتى يأتي بالكفارة .
ش : قد اشتمل كلام الخرقي رحمه الله ، على مسائل ( إحداها ) إذا قال لزوجته : أنت علي كظهر أمي . أنه يكون مظاهراً ، وهذا إجماع والحمد لله ، ولذلك قدمه الخرقي ، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه زوجته بغير أمه ممن تحرم عليه على التأبيد ، كأخته وإن كانت من الرضاع ونحو ذلك ، إناطة بالتحريم المؤبد ، ( المسألة الثانية ) إذا قال : أنت علي كظهر أجنبية . وفيه روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي ، وأبي بكر في التنبيه ، وجماعة من الأصحاب على ما حكى القاضي ، واختاره القاضي أيضاً في موضع يكون مظاهراً ، لأنه أتى بالمنكر من القول ، أشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه على التأبيد ، أو شبهها بمحرمة ، أشبه ما لو شبهها بالأم ( والرواية الثانية ) وهي اختيار ابن حامد ، والقاضي في التعليق ، والشريف ، والشيرازي ، وأبي بكر ، على ما حكاه عنه أبو محمد لا يكون مظاهراً ، لأنه شبهها بمن تحل له في حال ، أشبه ما لو شبهها بزوجة له أخرى محرمة ، أو حائض أو نفساء ، ونحو ذلك ، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه امرأته بأخت زوجته ونحوها ، لأن تحريمها تحريم موقت ؟ على روايتين ( المسألة الثالثة ) إذا قال : أنت علي حرام ؛ فعن أحمد وهي اختيار الخرقي أنه ظهار وإن نوى غيره ، فيكون صريحاً ، لأن معناه معنى الظهار ، لأن : أنت علي كظهر أمي . معناه أنت علي حرام كتحريم ظهر أمي . ولأنه أتى بالمنكر من القول والزور في زوجته ، أشبه ما لو قال : أنت علي كظهر أمي .
2753 وقد ذكر ذلك إبراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهم
____________________
(2/503)
( والرواية الثانية ) أنه ظاهر في الظهار ، فعند الإطلاق ينصرف إليه لما تقدم ، وإن نوى يميناً أو طلاقاً انصرف إليه ، لاحتماله لذلك ( والثالثة ) أنه ظاهر في اليمين ، فعند الإطلاق ينصرف إليها ، وإن نوى الطلاق أو الظهار انصرف إلى ذلك لعموم قوله تعالى : 19 ( { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ) الآية إلى : 19 ( { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ) وهذا قد حرم ما أحل الله له ، فدخل في الآية .
2754 وكذا فهم الحبر ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : إذا حرم الرجل فهي يمين يكفرها ؛ وقال : 19 ( { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ) متفق عليه ، وفي لفظ أنه أتاه رجل فقال : إني جعلت امرأتي على حراماً . فقال : كذبت ليست عليك بحرام ، ثم تلا هذه الآية : 19 ( { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } ) أغلظ الكفارة عتق رقبة ؛ رواه النسائي ( المسألة الرابعة ) إذا حرم عضوا من أعضائها ، كأن قال : يدك علي حرام . أو يدك علي كيد أمي . أو كظهرها ، ونحو ذلك ، فالمذهب المنصوص المشهور أنه يكون مظاهراً ، لأن التحريم إذا ثبت في العضو سرى في الجميع ، لامتناع تحريم البعض وحل البعض ، وصار ذلك كما لو طلق يدها ونحو ذلك . ؛ وفي المذهب رواية أخرى ) لا يكون مظاهراً حتى يشبه جملة امرأته ، اتباعاً للنص ، وكما لو حلف لا يمس عضواً منها ، والعضو الذي يكون به مظاهراً هو الذي يكون به مطلقاً ، ومالا فلا . ( المسألة الخامسة ) أنه في جميع هذه الصور لا يطأ حتى يكفر ، وكذلك في كل موضع حكم بظهاره فيه ، وهو إجماع إذا كان التكفير بالعتق أو الصيام ، وقد شهد به النص وهو قوله تعالى : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا . . . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } ) واختلف عن أحمد رحمه الله فيما إذا كان التكفير بالإطعام ، ( فعنه ) وهو اختيار أبي بكر ، وأبي إسحاق ابن شاقلا ، يجوز الوطء قبل التكفير ، تمسكاً بظاهر الكتاب ، فإن الله تعالى ذكر عدم التماس في العتق والصيام ، ولم يذكره في الإطعام ، فاقتصرنا على مورد النص ، ( وعنه ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي في خلافه وفي روايتيه ، والشريف وأبي محمد وعيرهم لا يجوز ، لأن الله سبحانه لما ذكر عدم المسيس في العتق والصيام ، مع أن الصيام تطول مدته ، كان ذلك تنبيهاً على انتفاء المسيس في الإطعام .
2755 وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رجلًا أتى النبي قد ظاهر من امرأته فوقع عليها ، فقال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر ؟ فقال : ( ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ ) قال : رأيت خلخالها
____________________
(2/504)
في ضوء القمر . قال : ( فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك لله ) رواه الخمسة إلا أحمد ، وصححه الترمذي ، ومن جملة ما أمره الله به الإطعام ( المسألة السادسة ) الظهار يختص بالزوجة على ظاهر كلام الخرقي ، ونص عليه أحمد ، وجزم به جماعة من الأصحاب ، حتى قال القاضي في روايتيه : رواية واحدة . فعلى هذا لا ظهار من أمته ، ولا أم ولده ، لقول الله سبحانه : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم } ) فخص سبحانه الظهار بالنساء ، ولأن الظهار كان طلاقاف في الجاهلية ، فنقل حكمه وبقي محله .
2756 قال أحمد : قال أبو قلابة وقتادة : إن الظهار كان طلاقاً في الجاهلية . والطلاق قطعاً لا يؤثر في الأمة كذلك الظهار ، واختلف عن أحمد فيما يلزمه ، ( فعنه ) وهو المشهور والمختار : تلزمه كفارة يمين ، لأنه تحريم لمباح من ماله ، فكان عليه كفارة يمين ، كتحريم سائر ماله ، ( ونقل عنه ) أبو طالب : ليس في الأمة ظهار ، ولكن حرام ، فعليه الكفارة ، قيل له : كفارة الظهار ؟ قال : نعم . قال أبو بكر : كل من روى عنه ليس عليه فيها كفارة الظهار ، إنما هو كفارة يمين ، إلا ما رواه أبو طالب ، قال : ولا يتوجه على مذهبه . انتهى ، وخرج أبو الخطاب والشيخان قولًا أنه لا شيء فيه ، قال أبو الخطاب : من قوله فيما إذا ظاهرت المرأة من زوجها : إنه لا شيء عليها ؛ إذ هذا ليس بظهار ، فتجب فيه كفارته ، وليس بيمين فتجب فيه كفارتها ( المسألة السابعة ) حيث حرم الوطء قبل التكفير هل يحرم الاستمتاع قبله ؟ على روايتين ( إحداهما ) وهي ظاهر كلام الخرقي يجوز ، لأن التماسس في الآية الكريمة كناية عن الوطء ، وإذا كانت الكناية مراده فالحقيقة غير مراده ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر ، والقاضي في خلافه ، وأصحابه كالشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا وغيرهم لا يجوز .
2757 لأن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق : ( لا تقربها حتى تفعل ما أمر الله به ) رواه النسائي عن عكرمة مرسلًا ، وقال فيه : ( فاعتزلها حتى تقضي ما عليك ) وقد ادعى القاضي أن المراد بالمسيس في الآية الكريمة حقيقته ، وأن الوطء إنما ثبت بالسنة ، وفيه بعد .
قال : فإن مات أو ماتت أو طلقها لم تلزمه الكفارة ، فإن تزوجها لم يطأها حتى يكفر ، لأن الحنث بالعود وهو الوطء ، لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث .
ش : إعلم أن الخرقي رحمه الله قد بنى ما بدأ به على أصل ، وهو العود ما هو ؟ وقال : إنه الوطء . وهذا إحدى الروايتين ، نص عليه أحمد ، فقال في قوله تعالى : 19 ( { ثم يعودون لما قالوا } ) قال : الغشيان ، إذا أراد أن يغشى . وقال أيضاً : مالك يقول : إذا أجمع لزمته الكفارة ؛ فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع كان عليه الكفارة .
____________________
(2/505)
2758 إلا أن يذهب إلى قول طاووس : إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق ؛ ولم يعجب أحمد رحمه الله قول طاووس ، وهو اختيار الشيخين ، لأن قوله تعالى : 19 ( { ثم يعودون لما قالوا } ) أي لقولهم ، ف ( ما ) والفعل في تأويل المصدر ، أي لقولهم ، والمصدر فيتأويل المفعول ، أي مفعولهم ومقولهم الذي امتنعوا منه وهو الوطء ، وقرينة هذا العود ، إذ هو فعل ضد قوله ، ومنه الراجع في هبته ، هو الراجع في الموهوب ، والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي ، والمظاهر مانع لنفسه من الوطء ، فالعود فعله ، ولأن الظهار يمين مكفرة ، فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها ، وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان ، وتجب الكفارة بذلك كسائر الأيمان ( والثانية ) وبها قطع القاضي وأصحابه : أنه العزم على الوطء ، قال القاضي : ونص عليه أحمد في رواية الجماعة ، منهم الأثرم ، فقال : العود أن يريد أن يغشى ، فيكفر قبل أن يمسها ، وكذلك نقل أحمد بن أبي عبدة : تلزمه الكفارة إذا أجمع على الغشيان ، فذكر له قول الشافعي أنه الإمساك ، فلم يعجبه ، وذلك لأن التكفير بنص الكتاب والسنة يجب قبل الوطء ، وهو مسبب عن الوطء على القول الأول ، لأن به يجب ، والمسبب لا يتقدم على السبب ، فإذاً قوله تعالى : 19 ( { ثم يعودون لما قالوا } ) أي يريدون العود ( فتحرير ) أي فالواجب تحرير ، وهذا كما في قوله تعالى : 19 ( { إذا قمتم إلى الصلاة } )9 ( { فإذا قرأت القرآن فاستعذ } ) وهو كثير ، ( ومن قال ) بالأول أجاب بأن التكفير شرط الحل ، كما أن الطهارة شرط لصحة الصلاة من مريدها ، وملخصه أن لنا إخراج ووجوب ، فإخراج الكفارة يجب عند إرادة الوطء ، فهو مسبب عن الإرادة ، ووجوب الكفارة بمعنى استقرارها في ذمته يجب بالوطء .
إذا تقرر هذا انبنى عليه ما تقدم ، وهو ما إذا ماتت أو مات ، أو طلقها قبل الوطء ، فعلى القول الأول لا تجب الكفارة ، لأن وجوبها بالوطء ولم يوجد ، وعلى القول الثاني إن وجد ذلك بعد العزم وجبت لوجود العود ، وإلا لم تجب ، كذا فرعه أبو البركات على قول القاضي وأصحابه ، وزعم أبو محمد عن القاضي وأصحابه أنهم على قولهم لا يوجبون الكفارة على من عزم ثم مات أو طلق إلا أبا الخطاب ، فإنه قال بالوجوب ، فعلى القول بأن الكفارة على المطلق قبل الوطء وإن عزم ، إذا عاد فتزوجها فحكم الظهار باق ، فلا يطأ حتى يكفر ، لإطلاق الآية الكريمة ، فإن هذا قد ظاهر من زوجته ثم أراد العود إليها ، فدخل تحت : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم } ) ولأن الظهار يمين مكفرة ، فلم يبطل حكمها بالطلاق كالإيلاء ، وبنى ذلك القاضي على أصلنا من أن النكاح الثاني ينبني على الأول ، وأن الصفة لا تزول بالبينونة .
وقد دل كلام الخرقي على أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار ، ولا بالإمساك بعده ، ولا بإعادة القول ثانياً ، وقوله : لأن الحنث بالعود وهو الوطء . تعليل لأن الكفارة لا تلزم بالموت ، ولا بالطلاق قبل الوطء ، وقوله : لأن الله عز وجل أوجب
____________________
(2/506)
الكفارة على المظاهر قبل الحنث ؛ تعليل لقوله : فلم يطأها حتى يكفر . هذا الذي يظهر لي والله أعلم .
قال : ولو قال لامرأة أجنبية : أنت علي كظهر أمي ؛ لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بكفارة الظهار .
ش : هذا منصوص أحمد ، وعليه أصحابه ، وقال : ليس هو بمنزلة الطلاق .
2759 وذلك لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في رجل قال : إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي . فتزوجها ، قال : عليه كفارة الظهار . ولأنها يمين مكفرة ، فصح انعقادها قبل النكاح ، كاليمين بالله تعالى ، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يصح ، لقول الله سبحانه : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم } ) والأجنبية ليست من نسائه ، ولأنه نوع تحريم ، فلم يتقدم النكاح كالطلاق . وأجيب عن الآية بأنها خرجت مخرج الطلاق ، وعن القياس بالفرق من وجهين ( أحدهما ) أن الطلاق حل قيد النكاح ، ولا حل قبل العقد ، والظهار تحريم للوطء ، وذلك قد يتقدم على العقد كالحيض ( والثاني ) أن الطلاق يزيل المقصود من النكاح فلم يصح ، وهذا لا يزيله وإنما يعلق الإباحة على شرط . انتهى ، وكذلك الحكم إذا عمم فقال : كل النساء على كظهر أمي . والله أعلم .
قال : وإذا قال : أنت علي حرام ، وأراد في تلك الحال لم يكن عليه شيء ، وإن تزوجها ، لأنه صادق ، وإن أراد في كل حال لم يطأها إن تزوج حتى يأتي بالكفارة .
ش : أما إذا أراد بقوله : أنت علي حرام . الإخبار عن حرمتها في الحال ، فلا شيء عليه ، لما علل به من أنه صادق ، إذ قد وصفها بصفتها ، ولم يقل المنكر من القول والزور ، وأما إذا أراد تحريمها في كل حال فهو مظاهر ، لأن من جملة الأحوال إذا تزوجها ، ولفظة الحرام إذا أريد بها الظهار ظهار في الزوجة بلا ريب ، فكذلك في الأجنبية ، ولو أطلق فلا شيء عليه ، لاحتماله للإنشاء وللإخبار ، فلا يتعين أحدهما بغير تعيين . والله أعلم .
قال : ولو ظاهر من زوجته وهي أمة ، فلم يكفر حتى ملكها ، انفسخ النكاح ، ولم يطأها حتى يكفر .
ش : أما انفساخ النكاح فلا ريب فيه ، لعدم اجتماع ملك اليمين وملك النكاح ، وإذاً يغلب الأقوى وهو الملك ، ويبطل النكاح ، وأما الوطء فقال الخرقي : لا يطأها حتى يكفر ؛ واختاره ابن حامد والقاضي وغيرهم ، لشمول الآية الكريمة له ، وهي : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } ) وهذا قد ظاهر من امرأته ، فدخل في الآية وقال أبو بكر في الخلاف : يبطل حكم الظهار ، وتحل له ، وعليه كفارة يمين ، كما لو تظاهر منها وهي أمته ، لأنها خرجت عن
____________________
(2/507)
الزوجات ، وصارت ملك يمينه ، فأعطيت حكم ذلك ، وخرج أبو البركات قولًا أنها تحل له بملك اليمين بلا كفارة ، مع عود الظهار لو عتقت أو بيعت ثم تزوجها ، ولعله مخرج مما إذا ظاهر من أمته لا شيء عليه ، وأن الصفة تعود ، وبيانه أنه إذا ظاهر منها وهي زوجته ، ثم ملكها ، فقد زالت الزوجية ، وملك اليمين لا يؤثر الظهار فيه شيئاً ، فيصير كما لو علق طلاق زوجته على شيء ، ثم أبانها وفعل المحلوف عليه ، فإنه لا شيء عليه ، كذلك هنا ، تحل له بملك اليمين ، ولا شيء عليه ، ثم بعد ذلك إذا أعتقها أو باعها ثم تزوجها عاد الظهار ، كما تعود الصفة .
قال : ولو تظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة ، لم يكن عليه أكثر من كفارة واحدة .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، حتى أن أبا محمد نفى الخلاف في المذهب .
2760 اتباعاً لقول عمر وعلي رضي الله عنهما فإنهما قالا كذلك ، رواه عنهما الأثرم ، ولا نعرف لهما مخالفاً ، وكما لو حلف بالله تعالى على ذلك ، وحكى أبو البركات رواية أخرى أن عليه لكل واحدة كفارة . لأنه قد وجد الظهار والعود فيها ، فأشبه ما لو أفردها .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو تظاهر منهن بكلمات كان عليه لكل واحدة كفارة ، وهو إحدى الروايات ، واختيار ابن حامد ، والقاضي وأبي محمد وغيرهم ، لأنها أيمان لا يحنث في أحدها بالحنث في الأخرى ، فلا تكفرها كفارة واحدة ، كما لو كفر ثم ظاهر ، ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر عليه كفارة واحدة .
2761 قال أبو بكر : اتباعاً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لأن كفارة الظهار حق لله تعالى ، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد ( والرواية الثالثة ) إن كان في مجالس فكفارات ، وإن كان في مجلس واحد فكفارة واحدة ، نقلها الفضل بن زياد ، والله أعلم .
قال : والكفارة عتق رقبة .
ش : لا نزاع في هذا ، وقد شهد له الكتاب العزيز قال سبحانه : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة } ) أي فالواجب تحرير رقبة ، أو فعليه تحرير رقبة ، والله أعلم .
قال : مؤمنة .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار جمهور أصحابه ، الخرقي ، والقاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي وأبي محمد وغيرهم ، حملا للمطلق في آية الظهار ، على المقيد في كفارة القتل ، لاتّحاد الحكم .
2762 ولما روى معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال : كانت لي جارية فأتيت
____________________
(2/508)
النبي فقلت : علي رقبة أفأعتقها ؟ فقال لها رسول الله : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء . فقال : ( من أنا ) فقالت : أنت رسول الله . فقال النبي : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) رواه مسلم والنسائي ، فعلل عتقها عما عليه بأنها مؤمنة ( والرواية الثانية ) لا يشترط إيمانها ، بل تجزيء وإن كانت كافرة ، نص عليها في اليهودي والنصراني ، واختارها أبو بكر ، أخذا بإطلاق الكتاب ، وهاتان الروايتان يجريان في كل رقبة واجبة ، من نذر أو كفارة ، ما عدا كفارة القتل ، فإن الإيمان شرط فيها بلا نزاع للنص ، والله أعلم .
قال : سالمة من العيوب المضرة بالعمل .
ش : لأنه لحظ فيه تمليك منافعه ، وخروجه من حيز العدم ، إلى حيز الوجود ، ومع الضرر بالعمل لم يحصل ذلك ، فعلى هذا لا يجزئ الأعمى ، ولا المقعد ، ولا مقطوع اليد أو الرجل ، أو أشلهما ، أو إبهام اليد ، أو سبابتها أو الوسطى ، أو الخنصر والبنصر من يد واحدة ، وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها ، بخلاف قطع غيرها من الأنامل ، ولو كان الجميع ، ولا يجزئ المجنون ، ولا المريض غير مرجو البرء ، كالسل ، بخلاف المرجو البرء ، ولا النحيف العاجز عن العمل ، ويجزئ الأعرج ، والمجدع الأنف والأذن ، والمجبوب والخصي ، والأعور على أصح الروايتين ، وهل يجزئ الأخرس مطلقاً ، وهو الذي حكاه القاضي في التعليق ، وأبو الخطاب عن أحمد ، أو لا يجزئ مطلقاً ، وهو الذي حكاه أبو محمد منصوصاً له ، أو إن كان به صمم لم يجزئ وإلا أجزأ ، وهو اختيار القاضي ، وجماعة من أصحابه ، وعليه حمل نص أحمد بالإجزاء ، أو إن فهمت إشارته أجزأ وإلا فلا ، وهو مختار أبي محمد ، أو إن انتفى عنه الصمم ، وفهمت إشارته أجزأ وإن وجد أحدهما منع ، وهو اختيار أبي البركات ، على خمسة أقوال ، وهذا كله على المعروف من المذهب ، وقد حكى ابن الصيرفي في نوادره رواية بإجزاء الزمن والمقعد ، فيخرج في عامة هذه الصور قول بالإجزاء ، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر ، والله أعلم .
قال : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين .
ش : إذا لم يجد رقبة يشتريها ، أو وجدها ولم يجد ما يشتريها به ، أو وجد ما يشتريها به لكن بزيادة كثيرة ، أو مجحفة بماله ، أو وجدها ولكن احتاجها لخدمة ونحو ذلك ، فالكفارة صيام شهرين متتابعين ، لقوله سبحانه : 19 ( { فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } ) والله أعلم .
قال : فإن أفطر فيهما من عذر بنى ، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ .
ش : الإجماع على وجوب التتابع في الشهرين ، لشهادة الكتاب ، وقد تقدم ذلك ، وكذلك السنة .
____________________
(2/509)
2763 فعن خويلة بنت مالك بن ثعلبة رضي الله عنهم قالت : ظاهر مني أوس بن الصامت ، فجئت رسول الله أشكو إليه ، ورسول الله يجادلني فيه ويقول : ( اتقي الله فإنه ابن عمك ) فما برح حتى نزل القرآن : 19 ( { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ) إلى الفرض ، فقال : ( يعتق رقبة ) فقالت : لا يجد . قال : ( فيصوم شهرين متتابعين ) قالت : يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال : ( فليطعم ستين مسكيناً ؟ ) قالت : ما عنده من شيء يتصدق به ؟ قال : ( فإني سأعينه بعرق من تمر ) قلت : يا رسول الله فإني سأعينه بعرق تمر آخر . قال : ( قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكيناً ، وارجعي إلى ابن عمك ) والعرق ستون صاعاً ؛ رواه أبو داود .
إذا تقرر هذا فمعنى التتابع أن يوالي بين صيام أيامهما ، ولا يفطر فيهما ، ولا يصوم عن غير الكفارة ، ولا يشترط نية التتابع ، وإنما يشترط فعله ، ومتى أفطر فيهما من غير عذر ابتدأ ، لإخلاله بالشرط وهو التتابع ، وكذلك إن صام عن نذر أو قضاء ، أو كفارة أخرى لذلك ، فلو كان النذر أياماً من كل شهر كأيام البيض ، أو يوم الخميس قدم الكفارة عليه ، وقضى ذلك بعدها ، إذ لو وفى بنذره لانقطع التتابع ، لا يقال : هذا الزمن المنذور متعين للصوم ، فلا يقطع التتابع كصوم رمضان ، لأنا نقول : الزمان لا يتعين ، بدليل صحة صوم آخر فيه ، بخلاف زمن رمضان ، وإن أفطر لعذر فلا يخلو إما أن يكون موجباً أو مبيحاً ، فإن كان موجباً كالفطر للحيض والمرض المخوف ، أو فطر الحامل والمرضع لخوفهما على أنفسهما ، أو لكونه يوم عيد ، ونحو ذلك لم ينقطع التتابع ، لأنه مضطر إلى ذلك ، ولا صنع له فيه ، أشبه إذا كان الفطر للحيض ، ودليل الأصل الإجماع ، وإن كان العذر مبيحاً كالسفر ، والمرض غير المخوف فثلاثة أوجه ( أحدها ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، وإليه ميل أبي محمد لا يقطع ، لأنه عذر أباح له الفطر ، أشبه ما لو أوجبه ( والثاني ) يقطع ، لأن له مندوحة عنه ، أشبه ما لو أفطر بغير عذر ( والثالث ) وهو اختيار القاضي ، وجماعة من أصحابه يقطع السفر لأن إنشاءه باختياره ولا يقطع المرض ، لأن حصوله بغير اختياره ، وهو ظاهر كلام أحمد ، بل زعم القاضي أنه منصوصه .
وقد دخل في كلام الخرقي إذا أفطرت الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما ، وهو أحد الوجهين ، واختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، ودخل أيضاً من أفطر لجنون أو إغماء ، ولا نزاع في ذلك ، وكذلك من أفطر لإكراه أو نسيان ، كمن وطيء كذلك ، أو خطأ كمن أكل يظنه ليلًا فبان نهاراً ، وهو أحد الوجهين أيضاً ، وقطع به أبو البركات ، نعم قد يستثنى منه كلامه من أكل ناسياً لوجوب التتابع أو جاهلًا به ، أو ظناً
____________________
(2/510)
منه أنه قد أتم الشهرين ، فإن تتابعه قد ينقطع ، قاله أبو محمد .
قال : فإن أصابها في ليالي الصوم أفسد ما مضى من صومه ، وابتدأ الشهرين .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أصحابه ، الخرقي ، والقاضي ، وأصحابه كالشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا ، وابن عقيل وغيرهم ، والشيخين ، لقول الله تعالى : 19 ( { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } ) أوجب سبحانه صوم الشهرين بشرطين ( أحدهما ) تقديم الشهرين على المسيس ( والثاني ) إخلاؤهما عن المسيس ، فإذا وطىء في خلالهما فقد فات أحد الشرطين وهو تقديمهما عليه ، وبقي الشرط الأخر يمكنه أن يأتي به فيستأنف الصوم ، فيخلو الشهران عن المسيس فوجب ذلك ، كمن أمر بشيئين فعجز عن أحدهما وقدر على الآخر ، يسقط ما عجز عنه ، ويلزمه ما قدر عليه ( والرواية الثانية ) لا ينقطع التتابع بذلك ، لأنه وطء لم يصادف محل الصوم ، أشبه ما لو وطئ غير التي ظاهر منها ، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم بالذي قلبه ، وهذا متحقق وإن وطئ ليلًا ، وكذلك الروايتان إذا وطئها نهاراً ناسياً ، قاله غير واحد ، وخرجهما أبو محمد فيما إذا وطئها وقد أبيح له الفطر لمرض ونحوه .
واعلم أن ظاهر كلام أبي محمد في المقنع أن شرط عدم انقطاع التتابع فيما إذا وطئ ليلًا أن يطأ ناسياً ، وهو غفلة منه ، فلا يعتبر بذلك .
( تنبيه ) أخذت الرواية الأولى من قول أحمد في رواية ابن منصور : إذا تظاهر فأخذ في الصوم فجامع يستقبل ؛ وأخذت الثانية من قوله في رواية الأثرم وسئل عن المظاهر إذا صام بعض صيامه ، ثم جامع قبل أن يتمه ، كيف يصنع ؟ قال : يتم صومه . والروايتان مطلقتان كما ترى ، ولكن الأصحاب حملوهما على ما تقدم والله أعلم .
قال : فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً .
ش : إذا لم يستطع صوم الشهرين على الصفة الواجبة فكفارته إطعام ستين مسكيناً بالإجماع ، وقد شهد لذلك ما تقدم من الكتاب والسنة ، وسواء عدم الاستطاعة ( لكبر ) كما تقدم في قصة أوس بن الصامت ، ( أو شبق ) .
2764 لما روى سلمة بن صخر رضي الله عنهما قال : كنت امرءاً قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان ، فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئاً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر على أن أنزع ؛ فبينما هي تخدمني من الليل إذا انكشف لي منها شيء فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي ، فأخبرتهم خبري ، وقلت لهم : انطلقوا معي إلى رسول الله فأخبره بأمري ؛ فقالوا : والله لا نفعل ، نتخوف أن ينزل فينا قرآن ، أو يقول فينا رسول الله مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت واصنع ما بدا لك ؛ فخرجت حتى أتيت رسول الله فأخبرته خبري ، فقال لي : ( أنت بذاك ؟ )
____________________
(2/511)
فقلت : أنا بذاك . فقال : ( أنت بذاك ؟ ) فقلت : نعم ، ها أنا ذا فأمض في حكم الله ، فأنا صابر له . قال : ( أعتق رقبة ) فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال : ( فصم شهرين متتابعين ) قلت : يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم ؟ قال : ( فتصدق ) قلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشا مالنا عشاء . قال : ( اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق ، فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكيناً ، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك ) فرجعت إلى قومي فقلت لهم : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله السعة والبركة ، وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي ؛ قال : فدفعوها إلي . رواه الإمام أحمد وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، انتهى ، ( أو مرض ) وإن رجي زواله ، لدخوله تحت الآية الكريمة ، لا لسفر ، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا بد من تعدد المساكين ، وتأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الكفارات .
( تنبيه ) : فرقا . أي خوفا ، والله أعلم .
قال : مسلماً .
ش : من شرط المسكين المدفوع إليه في الكفارة أن يكون مسلماً ، على المنصوص والمختار للأصحاب ، فلا يجوز الدفع لذمي ، لأنه كافر ، فلم يجز الدفع إليه كالحربي والمستأمن ، إذ هو مال يجب دفعه إلى الفقير بالشرع ، فلا يدفع إلى أهل الذمة كالزكاة ، وحكى الخلال في جامعه رواية بالجواز ، قال القاضي : ولعله بنى ذلك على جواز عتق الذمي في الكفارة ، وذلك لأنه مسكين ، فدخل تحت : 19 ( { فإطعام ستين مسكينا } ) .
( تنبيه ) بحث الأصحاب وكلامهم يقتضي أن الخلاف في الذمي ، وأنه لا نزاع أن الحربي لا يدفع إليه ، وكذلك نص أحمد في جواز عتق الكافر إنما هو في اليهودي والنصراني .
قال : حرا .
ش : أي ومن شرط المسكين أن يكون حراً ، فلا يجوز دفعها لعبد ولا أم ولد ونحوها ، لعدم حاجتهم ، لوجوب نفقتهما على سيدهما ، وظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب ، ويأتي ذلك في الكفارات إن شاء الله تعالى ، ويدخل في كلام الخرقي في المسكين الفقير ، لأنه مسكين وزيادة ، وكذلك الغارم لإصلاح نفسه ، لأنه محتاج . والله أعلم .
قال : لكل مسكين مد من حنطة ، أو نصف صاع من تمر أو شعير .
____________________
(2/512)
2765 ش : أما كونه مدا من حنطة فلما روى الإمام أحمد قال : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد المدني ، قال : جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ، فقال النبي للمظاهر : ( أطعم هذا ، فإن مدي شعير مكان مدبر ) .
2766 وعلى هذا يحمل ما روي عن أبي سلمة ، عن سلمة بن صخر ، أن النبي أعطاه مكتلًا فيه خمسة عشر صاعاً ، فقال : ( أطعمه ستين مسكيناً وذلك لكل مسكين مد ) رواه الدارقطني ، وللترمذي معناه .
2767 ثم هذا قول زيد وابن عباس ، وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم ، وأما كونه نصف صاع تمر أو شعير فلما تقدم من أن مدي شعير مكان مد بر .
2768 وفي أبي داود قال : وذكر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال يعني العرق زنبيلًا يأخذ خمسة عشر صاعاً ؛ وإذاً العرقان ثلاثون صاعاً ، فيكون لكل مسكين نصف صاع تمر ، انتهى والخرقي رحمه الله اقتصر على البر والشعير والتمر ، وقال غيره يجزيء هنا ما يجزيء في الفطرة فإن كان قوت بلده غير ذلك كالأرز والذرة ، فهل يجزئه ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، أو لا يجزئه ، وهو اختيار القاضي ؟ فيه قولان ، وكذلك القولان في إجزاء الخبز ، إلا أن القاضي وأصحابه هنا وافقوا على الإجزاء .
( تنبيه ) المكتل الزنبيل ، وقيل القفة ، وهما بمعنى واحد ، وقيل القفة العظيمة ، والعرق قد فسره أبو سلمة بن عبد الرحمن ، بأنه يسع خمسة عشر صاعاً ، وفي حديث خويلة قالت : والعرق ستون صاعاً . وفي رواية : العرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً ؛ قال أبو داود : وهذا أصح . يعني من كونه ستين صاعاً ، قال بعضهم : والاختلاف في قدره يدل على أنه يختلف ، فيكون بعضه أكبر من بعض ، وهو بفتح العين والراء ، وسكن بعضهم الراء ، والزنبيل بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة مخفف ، فإن كسرت الزاي شددت فقلت زبيل ، أو قلت زنبيل ، سمي زنبيلًا لأنه ينقل فيه الزبل للسماد .
قال : ومن ابتدأ صوم الظهار من أول شعبان أفطر يوم الفطر وبنى ، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ، وبنى على ما مضى من صيامه .
ش : قد تقدم أنه إذا ترك صوم الكفارة لعذر أنه لا يضره ويبني ، فإذا صام من أول شعبان ففي رمضان يترك الصوم للكفارة ، لأن هذا الزمن متعين لرمضان ، ثم يفطر يوم العيد ، فبعد ذلك يكمل ، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة فإنه يفطر يوم الأضحى وأيام التشريق ، ثم يبني ، وإذا قلنا يجوز صوم أيام التشريق عن الفرض مطلقاً
____________________
(2/513)
فإنه لا يفطر أيام التشريق .
قال : وإن كان المظاهر عبداً لم يكفر إلا بالصوم .
ش : هذا يدل على صحة ظهار العبد ، ولا ريب في ذلك ، لشمول الآية الكريمة له ، وإذا صح ظهاره فكفارته الصيام ، لأنه لا يجد الرقبة ، لأنه معسر ، وأسوأ حالًا منه ، فيدخل تحت : 19 ( { فمن لم يجد فصيام شهرين } ) وظاهر كلام الخرقي أن كفارته الصيام وإن أذن له سيده وهو والله أعلم بناء على قاعدته ، من أنه لا يملك وإن ملك ، ومن لا ملك له لا مال له يكفر به ، ومن الأصحاب من يقول : يجوز أن يكفر بالمال بإذن السيد ، وإن لم نقل إنه يملك ، وهو ظاهر كلام أبي بكر ، وطائفة من متقدمي الأصحاب ، وإليها ميل أبي محمد ، ولهم مدركان ( أحدهما ) : أنه يملك القدر المكفر به ملكاً خاصاً ( والثاني ) : أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر ، أما إن قلنا يملك ، أو أذن له سيده في التكفير بالمال ، فلا نزاع أنه له أن يكفر به ، ثم هل له ذلك على سبيل الوجوب أو الجواز ؟ فيه تردد للأصحاب ، وأيما كان فله على هذا التكفير بالإِطعام ، وهل له التفكير بالعتق ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) : نعم ، اختارها ، أبو بكر ، ومال إليها أبو محمد كالإِطعام ( والثانية ) : لا ، لأنه يقتضي الولاء ، والولاء يقتضي ولاية الإِرث ، وليس العبد من أهل ذلك ، ومن أصحابنا من بناهما على الروايتين في المعتق في الكفارة ، إن قلنا : عليه الولاء لم يكن له العتق ، وإن قلنا : لا ولاء عليه ، صح تكفيره بالعتق ، وإذا جوزنا له التكفير بالعتق ، فأذن له سيده في إعتاق نفسه عن كفارته جاز ذلك ، على مقتضى قول أبي بكر ، فإنه حكى فيما إذا أذن له في العتق وأطلق ، هل له أن يعتق نفسه ، لأن رقبته تدخل في الإِطلاق ، أو ليس له ذلك ، لأن خطابه بالإِعتاق قرينة على إرادة غيره .
( تنبيه ) : إذا أذن له سيده في الإعتاق وأطلق ، وجوزنا له عتق نفسه ، فلا بد أن تكون رقبته أقل رقبة تجزئ في الكفارة ، لأنه إذا أعتق غيره لا بد أن يكون كذلك ، لأنه وكيل ، فيجب عليه التصرف بالأحظ .
قال : وإذا صام فلا يجزيه إلا شهران متتابعان .
ش : قد تقدم أن كفارة العبد الصيام ، وإذاً فحكمه في ذلك حكم الحر في أنه يصوم شهرين متتابعين ، لدخوله في الآية الكريمة ، من غير قيام ما يقتضي التخصيص .
قال : ومن وطئ قبل أن يأتي بالكفارة كان عاصياً .
ش : لمخالفة أمر ربه سبحانه ، وأمر رسول الله ، قال الله تعالى : 19 ( { من قبل أن يتماسا } ) وهذا قد مس ، وقال النبي : ( لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله ) وقد تقدم .
____________________
(2/514)
قال : وعليه الكفارة المذكورة .
ش : إذا خالف ووطىء استقرت عليه الكفارة المتقدمة ، لأنه ظاهر وعاد ، فيدخل تحت 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ، ثم يعودون لما قالوا } ) الآية .
2769 وروى النسائي عن عكرمة ، أن رجلًا أتى النبي قد ظاهر من امرأته فوقع عليها ، فقال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي ، فوقعت عليها قبل أن أكفر ؛ فقال : ( ما حملك على ذلك يرحمك الله ؟ ) قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر . قال : ( فاعتزلها حتى تقضي ما عليك ) ولهذا أيضاً قال الأصحاب : ليس له الوطء ثانياً حتى يأتي بالكفارة ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه أكثر من كفارة واحدة ، وهو كذلك لما تقدم .
2770 وفي الترمذي وابن ماجه عن سلمة بن صخر رضي الله عنه عن النبي في المظاهر يواقع قبل أن يكفر ، قال : ( كفارة واحدة ) وهو إن صح نص .
قال : وإذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أبي . أو أنت علي حرام . لم تكن مظاهرة ، ولزمها كفارة الظهار ، لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور .
ش : أما كون المرأة لا تكون مظاهرة بذلك فهذا هو المعروف والمشهور ، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب ، حتى أن القاضي قال في الروايتين : رواية واحدة ؛ لتخصيص الله سبحانه الظهار بالرجال قال تعالى : 19 ( { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودن } ) الآية ، ولأنه قول يوجب تحريماً في الزوجة ، يملك الزوج رفعه ، فاختص به الرجال كالطلاق ، وحكى ابن شهاب ، وأبو يعلى ابن أبي حازم رواية أخرى أنها تكون مظاهرة ، وقالا : اختارها أبو بكر ، وزاد ابن أبي حازم : والقاضي ، والشريف ؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم قضوا في ذلك بكفارة الظهار ، وسببها الظهار ، فدل على أنها تكون مظاهرة ، وقياساً لأحد الزوجين على الآخر ، وعلى هذا تجب كفارة الظهار بلا ريب ، أما على المذهب ( فعنه ) وهو المشهور ، واختيار الخرقي والقاضي ، وجماعة من أصحابه كالشريف ، وأبي الخطاب ولاشيرازي ، وابنه أبي الحسين يلزمها كفارة ظهار .
2771 قال أحمد مثل حديث عائشة بنت طلحة ، وهو ما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم ، أن عائشة بنت طلحة قالت : إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي . فسألت أهل المدينة ، فرأوا عليها الكفارة .
2772 وروى علي بن مسلم ، عن الشيباني ، قال : كنت جالساً في المسجد أنا وعبد الله بن معقل المزني ، فجاء رجل حتى جلس إلينا ، فسألته من أنت ؟ فقال : مولى
____________________
(2/515)
لعائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها ، خطبها مصعب بن الزبير ، فقالت : هو علي كظهر أبي إن تزوجته . ثم رغبت فيه بعد ، فاستفتت أصحاب رسول الله وهو يومئذ كثير ، فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه ، فأعتقتني وتزوجته ؛ رواهما سعيد مختصرين .
( وعنه ) وهو اختيار أبي محمد : عليها كفارة يمين ، لأنه ليس بظهار ، فلا يوجب كفارته كسائر المنكر من القول ، وتجب كفارة يمين ، لأنه تحريم مباح ، أشبه تحريم سائر الحلال ( وعنه ) لا شيء عليها ، لأنه ليس بظهار فتجب فيه كفارته ، ولا يمين فتجب كفارتها ، وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فإنما تجب بالحنث ، وهو الوطء إن قلنا تجب كفارة يمين ، وكذلك إن قلنا كفارة ظهار فلا تكون مظاهرة ، صرح بذلك القاضي وغيره ، بشرط أن لا تكون مكرهة ، وإن قلنا تكون مظاهرة ، فقيل : بالعزم على التمكين ، حكاه ابن أبي حازم فيما أظن ، قال ابن عقيل : رأيت بخط أبي بكر : العود التمكين .
( تنبيه ) عليها التمكين قبل التكفير ، قاله الشيخان ، لأن ذلك حق عليها ، فلا يسقط بيمينها ، قال أبو محمد : وحكي عن أبي بكر أنها لا تمكنه قبل التكفير كالرجل ، قال : وليس بجيد . لأن ظهار الرجل صحيح ، وظهارها غير صحيح ، قلت : قول أبي بكر جار على قوله من أنها تكون مظاهرة ، وقال أبو البركات : إنها ليس لها ابتداء القبلة والاستمتاع ، مع قوله : إنها تمكنه ، وإنها غير مظاهرة ، وذلك لأنه الذي في يدها ، وهي قد منعت نفسها منه .
قال : وإذا ظاهر من نسائه مراراً فلم يكفر فكفارة واحدة .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب ، القاضي ، والشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا وغيرهم ، لأنه لفظ تتعلق به كفارة ، فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى ، ولأن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود ، فإذا وجدت قبل التكفير تداخلت كالحدود ( وعنه ) تجب كفارات ما لم ينو التأكيد أو الإفهام ، لأن الظهار مع العود قد وجداً ، فتجب الكفارة كما بأول مرة ، وأبو محمد في الكافي يحكي هذه الرواية إن نوى الاستئناف تكررت ، وإلا لم تتكرر ، وهو ظاهر كلام القاضي في روايتيه وليس بجيد ، فإن مأخذ هذه الرواية في الرجل يحلف على شيء واحد أيماناً كثيرة ، فإن أراد تأكيد اليمين فكفارة واحدة ، وحكى أبو محمد في المقنع الرواية إن كرره في مجالس فكفارات ، ولا أظنه إلا وهما ، والله أعلم .
____________________
(2/516)
( كتاب اللعان )
ش : اللعان مصدر : لاعن لعاناً . إذا فعل ما ذكر ، أو لعن كل واحد من الاثنين الآخر ، قال أبو محمد : مشتق من اللعن ، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذباً ، وقال القاضي : لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذباً ، فتحصل اللعنة عليه . انتهى ، قال الأزهري : وأصل اللعن الطرد والإبعاد ، يقال : لعنه الله أي باعده .
والأصل في اللعان قول الله تعالى : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم ، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله } ) إلى قوله تعالى : 19 ( { أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } ) .
2773 وعن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن عويمر ابن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي ، فقال له : يا عاصم أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ سل لي يا عاصم رسول الله ، فسأل عاصم رسول الله ، فكره رسول الله المسائل ، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله ، فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر ، فقال : يا عاصم ماذا قال لك رسول الله ؟ فقال عاصم : لم تأتني بخير ، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها ، فقال عويمر : والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ؛ فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله وهو وسط الناس ، فقال : يا رسول الله أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله : ( قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن ، فاذهب فأت بها ) قال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله ، فلما فرغا قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ؛ فطلقها عويمر ثلاثاً قبل أن يأمره النبي ؛ قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين . رواهما الشيخان ، وأبو داود وهذا لفظه .
قال : وإذا قذف الرجل زوجته البالغة الحرة المسلمة ، فقال لها : زنيت ، أو يا زانية ، أو رأيتك تزنين . ولم يأت بالبينة ، لزمه الحد إن لم يلتعن ، مسلماً كان أو كافراً ، حراً كان أو عبداً .
ش : الكلام على هذه المسألة أولًا من جهة الإجمال ، وثانياً من جهة التفصيل .
____________________
(2/517)
فأما من جهة الإجمال فإذا قذف الرجل زوجته التي هذه صفتها بما ذكر ، ولم يأت بالبينة لزمه الحد ، فإن التعن سقط عنه الحد ، لقول الله تعالى : 19 ( { والذين يرمون المحصنات } ) الآية ، أوجب سبحانه الحد على رامي المحصنات إن لم يأت بالبينة ، وهو شامل للأزواج وغيرهم ، ثم خص الأزواج بعد ذلك باللعان ، تنبيهاً على أن اللعان قائم مقام البينة في إسقاط الحد .
2774 ويشهد لهذا ما في السنن عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء ، فقال النبي : ( البينة وإلا حد في ظهرك ) فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلًا على امرأته يلتمس البينة ؟ فجعل رسول الله يقول : ( البينة وإلا حد في ظهرك ) مختصر ، رواه البخاري وأبو داود ، والترمذي وابن ماجه .
وأما من جهة التفصيل فقول الخرقي : إذا قدف الرجل زوجته ، إلى آخره يقتضي أن اللعان إنما يشرع بين الزوجين ، وهو اتفاق في الجملة ، أما قذف غير الزوجين فالواجب فيه إما الحد إن كانت المرأة محصنة ، أو التعزيز إن لم تكن محصنة ، لما تقدم من قول الله تعالى : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ) إلى : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) دل على أن كل رام يلزمه الحد ، وأن الزوج له مع عدم البينة شيء آخر وهو اللعان ، وكذلك لا لعان بقذف الأمة ، وإن كان بينهما ولد ، لأن اللعان ، إنما ورد في الزوجات ، ويدخل في الزوجة الرجعية ، لأنها زوجة ، وكذلك من قذفها ثم أبانها ، لأن القذف ورد على زوجته ، وكذلك إذا قال لها : أنت طالق يا زانية ثلاثاً ؛ لأن قذفها حصل قبل بينونتها ، ويستثنى من الأجنبية إذا قذفها في نكاح فاسد ، أو أبانها ثم قذفها بزنا في النكاح ، أو في العدة أو قال لها : أنت طالق ثلاثاً يا زانية ، فإن في هذه الصورة إن كان بينهما ولد لاعن لنفيه ، للحاجة إلى ذلك ، وإن لم تكن زوجة ، لإضافة ذلك إلى الزوجية ، وإلا حد ولم يلاعن ، ويستثنى من الزوجة إذا قذف زوجته بزنا قبل النكاح ، فإنه يحد ولا يلاعن على المذهب مطلقاً ، لإضافة القذف إلى حالة البينونة ( وعنه ) يلاعن مطلقاً ، نظراً إلى أنها زوجته ، فيدخل في الآية الكريمة ( وعنه ) إن كان ثم ولد لاعن لحاجته إلى نفيه ، وإلا لم يلاعن ، انتهى ، وقوله : البالغة الحرة المسلمة . إلى آخره ، بيان لصفة الزوجين الذين يصح لعانهما ، وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في ذلك ، فروي عنه أن من شرطهما أن يكونا مكلفين ، وإن كانا ذميين ، أو رقيقين أو فاسقين ، أو كان أحدهما كذلك ، لعموم :
____________________
(2/518)
19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) وهذا شامل لكل زوج وزوجة ، خرج منه غير المكلفين ، لأن هذا لا يخلو من حد أو تعزير ، وذلك لا يتعلق إلا بمكلف ، وبنى القاضي وغيره ذلك على أن اللعان يمين ، واليمين لا يشترط لها إسلام ولا حرية ، ولا عدالة ، ودليل ذلك افتقار اللعان إلى اسم الله تعالى .
2775 وقول النبي في امرأة هلال : ( لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ) وهذه الرواية هي اختيار القاضي في تعليقه ، وجماعة من أصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، واختيار أبي محمد إيضاً وغيره ( وعنه ) يشترط التكليف الإسلام والحرية والعدالة ، فلا لعان إلا من مسلمين حرين عدلين ، وعلله أحمد بأنه شهادة ، وذلك لوجود لفظ الشهادة فيه ، ولأن الله سبحانه قال : 19 ( { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } ) فجعلهم شهداء ( وعنه ) رواية ثالثة : لا يصح اللعان إلا من المحصنة وزوجها المكلف ، ولا لعان في قذف يوجب التعزير ، لأن الله تعالى قال : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، فاجلدوهم ثمانين جلدة } ) ثم قال : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) الآية ، وظاهره المحصنات ( وعنه ) لا لعان بقذف غير المحصنة ، إلا لولد يريد نفيه ، وهذا اختيار القاضي في المجرد ، نظراً للحاجة لنفي الولد ، وظاهر كلام الخرقي الثالثة ، لأنه اعتبر في الزوجة البلوغ والحرية والإسلام ، ولم يعتبر ذلك في الزوج ، والقاضي والشريف وأبو الخطاب قالوا : إن اختياره الثانية .
واعلم أن في كلام الخرقي تساهلًا ، لأنه قال : لزمه الحد إن لم يلتعن ، مسلماً كان أو كافراً . والحد إنما يجب بقذف المسلمة ، والكافر لا يكون زوجاً لمسلمة ، وقد يحمل على ما إذا أسلمت فقذفها في عدتها ، فإن هنا يلزمه الحد وإن كان كافراً ، وله أن يلتعن لإسقاطه إن كان بينهما ولد كما تقدم . انتهى ، وقوله : فقال لها : زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين ، بيان للألفاظ التي يصير بها قاذفاً ، ويترتب عليها اللعان ، ولا يشترط أن يضيف ذلك إلى الرؤية ، لعموم : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) ولا أن يقذفها بزنا في القبل ، بل لا فرق بين القبل والدبر ، ولو قذفها بغير الزنا ، أو بزنا لكن في غير الفرج فلا حد ولا لعان ، ولو لم يقذفها بالزنا أصلًا ، بأن قال : لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني . ونحو ذلك ، فيأتي إن شاء الله تعالى ، وقوله : ولم يأت بالبينة لزمه الحد إن لم يلتعن ، تقدم الكلام عليه أولًا ، وظاهر كلامه أنه إذا قدر على البينة له أن يلتعن وهو كذلك ، لأنهما بينتان ، فكان له الخبرة في أيهما شاء والله أعلم .
قال : ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته .
ش : يعني لا يعرض له في طلب حد ولا لعان حتى تطالبه زوجته ، لأن ذلك حق لها ، فلا يقام إلا بطلبها ، كبقية حقوقها ، ولا يملك وليها المطالبة ، وإن كانت صغيرة أو مجنونة ، أو أمة ، لأنه حق ملحوظ فيه التشفي ، فليس لغير من هو له طلبه كالقصاص ، فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها ، ولا ولد لم يكن له ذلك بلا نزاع
____________________
(2/519)
عندنا ، وكذلك مع وجود الولد على أكثر نصوص الإمام أحمد ، لأنه أحد موجبي القذف ، فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد ، واختار القاضي أن له اللعان وحده ، لأجل نفي الولد ، لحاجته إلى ذلك ، وجعله أبو البركات قياس رواية أنه يلاعن إذا نفى الولد ، ولم يرمها بالزنا ، بأن قال : لم تزن والولد ليس ولدي . ونحو ذلك ، كما سيأتي ، وهكذا الخلاف في كل موضع تعذر فيه اللعان من جهتها ، كما إذا أعفته عن المطالبة أو صدقته أو أقام بينة بزناها ، أو قذفها وهي محصنة فجنت ، أو وهي مجنونة بزنا قبل الجنون ، أو وهي خرساء أو ناطقة ثم خرست ولم تفهم إشارتها .
قال : فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبداً .
ش : إذا تلاعنا وفرق الحاكم بينهما ، حرمت الملاعنة على الملاعن على التأبيد ، فلا يجتمعان أبداً على المذهب بلا ريب .
2776 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله للمتلاعنين : ( حسابكما على الله تعالى ، أحدكما كاذب ، لا سبيل لك عليها ) . قال : يا رسول الله مالي ؟ قال : ( لا مال لك ، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها ) متفق عليه .
2777 وعن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين : ففرق رسول الله بينهما ، وقال : ( لا يجتمعان أبداً ) .
2778 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبداً ) .
2779 وعن علي ، وابن مسعود رضي الله عنهما قالا : مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان . رواهن الدارقطني .
وشذ حنبل عن أصحابه فنقل عن أحمد أنه إذا أكذب نفسه حلت له ، نظراً إلى أن اللعان الذي وجد كأن لم يكن بالتكذيب ، وقد اختلف نقل الأصحاب في هذه الرواية ، فقال القاضي في الروايتين : نقل حنبل : إن أكذب نفسه زال تحريم الفراش ، وعادت مباحة كما كانت بالعقد الأول ؛ وقال في الجامع والتعليق : إن أكذب نفسه جلد الحد ، وردت إليه ، وظاهر هذا أنه من غير تجديد عقد ، وهو ظاهر كلام أبي محمد ، قال في الكافي والمغني : نقل حنبل : إن أكذب نفسه عاد فراشه كما كان ؛ زاد في المغني : وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق الحاكم ، فأما مع تفريق
____________________
(2/520)
الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله ؛ وفيما قاله نظر ، فإنه إذا لم يفرق الحاكم فإن قيل : الفرقة حصلت باللعان ، فهو كتفريق الحاكم ، وإن قيل : لا تحصل إلا بتفريق الحاكم ، فلا تحريم حتى يقال حلت له ، والذي يقال في توجيه ظاهر هذا النقل أن الفرقة إنما استندت للعان ، وإذا أكذب نفسه كأن اللعان لم يوجد ، وإذاً يزول ما ترتب عليه ، وهو الفرقة وما نشأ عنها وهو التحريم .
وأعرض أبو البركات عن هذا كله فقال : إن الفرقة تقع فسخاً متأبد التحريم ( وعنه ) إن أكذب نفسه حلت له بنكاح جديد ، أو ملك يمين إن كانت أمة ، وقد سبقه إلى ذلك الشيرازي ، فحكى الرواية أنها تباح بعقد جديد . انتهى .
فعلى المذهب متى وقع اللعان بعد البينونة أو في نكاح فاسد ، فهل يفيد الحرمة المؤبدة ، لأنه لعان صحيح ، أو لا يفيدها ، لأن الفرقة لم تحصل به ؟ على وجهين .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله ، أن الفرقة بينهما لا تحصل إلا بتفريق الحاكم ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافاتهم ، وابن البنا وأبي محمد ، وأبي بكر فيما حكاه القاضي في التعليق .
2780 لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا لاعن امرأته في زمن رسول الله ، وانتفى من ولدها ، ففرق رسول الله بينهما ، وألحق الولد بالمرأة . رواه الجماعة .
2781 وعن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عمر رضي الله عنهما : رجل قذف امرأته . قال : فرق رسول الله بين أخوي بني عجلان ، وقال : ( الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ) يرددها ثلاث مرات ، فأبيا ففرق بينهما . متفق عليه ، ولو حصلت الفرقة بمجرد اللعان لما احتيج إلى فرقة .
2782 وقد تقدم في حديث سهل بن سعد أن عويمرا قال : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها . فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله ، قال الزهري : فكانت تلك سنة المتلاعنين ، وفي رواية في الصحيح : ( ذاكم التفريق بين كل متلاعنين ) وفي لفظ لأحمد ومسلم : فكان فراقه إياها سنة المتلاعنين ؛ وظاهره يقتضي أن طلاقه وقع ، ولو وقعت الفرقة لما وقع ، وقوله : فكانت تلك سنة المتلاعنين يعني التفريق بينهما ، وأحمد رحمه الله استدل بحديث سهل على أن الفرقة تقع بمجرد اللعان ، فقال في رواية ابن القاسم وقد سئل : متى تنقضي الفرقة بينهما ؟ فقال : أما في حديث سهل
____________________
(2/521)
فقال : كذبت عليها إن أمسكتها ، هي طالق . وأما حديث ابن عمر فإنه يقول : فرق رسول الله بينهما ؛ وابن عمر أعرف بالحديث ، لأن سهلا كان له خمس عشرة سنة ، وابن عمر كان رجلًا ؛ ووجه الدليل من هذا أن قوله : فكانت تلك سنة المتلاعنين . أي الحكم بالفرقة باللعان ، ثم يرشح هذا القول أن اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد ، فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع ، وهذه الرواية عزاها أبو محمد إلى اختيار أبي بكر ، وظواهر الأحاديث تدل على الأولى وهي المذهب ، وعليها لا يحتاج الحاكم إلى استئذانها ، ولو لم يفرق كان النكاح بحاله ، قاله أبو محمد ، وعلى كلتيهما لا يحصل التفريق قبل تمام اللعان بينهما ، لأن النصوص إنما وردت بالتفريق بعد لعانهما .
( تنبيه ) فرقة اللعان فسخ لا طلاق ، نص عليه ، والله أعلم .
قال : وإن أكذب نفسه فلها عليه الحد .
ش : إذا أكذب نفسه لزمه ما عليه من وجوب الحد ، ولحوق النسب ، ولم يثبت ما عليه من عود حلها له ، على المذهب كما تقدم ، لأن بإكذاب نفسه تبين أن لعانه كذب ، وإذاً يجب الحد .
2783 وقد روى الدارقطني بإسناده عن قبيصة قال : قضى عمر رضي الله عنه في رجل أنكر ولد امرأته وهو في بطنها ، ثم اعترف وهو في بطنها ، حتى إذا ولد أنكره ، فأمر به عمر رضي الله عنه فجلد ثمانين جلدة ، لفريته عليها ، ثم ألحق به ولدها ، وإنما لم يثبت الحل حذاراً من أن يثبت له بمجرد قوله حل ، ولما كان من مذهب الخرقي أن اللعان لا يشرع إلا في قذف المحصنة اقتصر على الحد ، أما على قول غيره من أنه يشرع وإن لم تكن محصنة ، فيقول : أو التعزير إن لم تكن محصنة . والله أعلم .
قال : وإن قذفها وانتفى من ولدها ، وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم ، انتفى عنه إذا ذكره في اللعان .
ش : إذا ولدت المرأة ولداً لحق زوجها .
2784 لقول النبي : ( الولد للفراش ) ولا ينتفي عنه إلا اللعان على الصفة التي ذكرها الخرقي رحمه الله ، كما سيأتي بيانه .
2785 وذلك لما تقدم في حديث ابن عمر الصحيح : أن رجلًا لاعن امرأته ، وانتفى من ولدها ، ففرق رسول الله بينهما ، وألحق الولد بالمرأة .
____________________
(2/522)
2786 وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله لما لاعن بين هلال وامرأته قال : ففرق رسول الله بينهما ، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ، ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، رواه أحمد وأبو داود ، واختلف بماذا ينتفي ( فعنه ) بتمام لعانهما ( وعنه ) بنفي الحاكم مع ذلك ، وهذا الخلاف كالخلاف في الفرقة ، بماذا تحصل ( وعنه ) ثالثة تقف الفرقة على حكم الحاكم ، فإذا فرق انتفى الولد ، لأن قول ابن عمر رضي الله عنهما : ففرق رسول الله بينهما ، وألحق الولد بالأم . ظاهره أن نفي الولد مرتب على التفريق ، وخرج أبو البركات قولًا آخر ، أن الولد ينتفي بلعان الزوج وحده ، وكأنه خرجه من القول : إن تعذر اللعان من جهة المرأة ، يلاعن الزوج وحده لنفي الولد .
وقول الخرقي : وإن قذفها وانتفى من ولدها . لأن عنده كما سيأتي أن من شرط اللعان القذف ، وقوله : وتم اللعان بينهما . يحترز عن مذهب الغير أن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج ، كالتخريج المتقدم ، وقوله : وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم ؛ الظاهر أن الباء فيه للمعية ، أي مع تفريق الحاكم ، لا للسببية ، إذ تفريق الحاكم ليس سبباً لتمام اللعان ، بل تمامه بألفاظه المشترطة كما سيأتي ، وقوله : انتفى عنه إذا ذكره في اللعان ؛ يعني أنه يشترط لنفي الولد أن يذكره في اللعان ، فلو لم يذكره لم ينتف ، وهذا مختار القاضي وأبي محمد وغيرهما ، لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلًا لاعن امرأته وانتفى من ولدها ؛ ولأن غاية اللعان أن يثبت زناها ، وذلك لا يوجب نفي الولد ، كما لو أقرت به . وعلى هذا يشترط أن يذكره في الألفاظ الخمسة ، وحكى أبو محمد تبعاً للقاضي في روايتيه عن أبي بكر في الخلاف أنه لا يشترط ذكره ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم في لعان هلال وامرأته ، وقضى رسول الله أن لا يدعى ولدها لأب ، وليس في القصة أنه ذكر الولد في اللعان ، ولم يعرج أبو البركات على هذا الخلاف ، بل جزم أنه لا بد أن يتناوله اللعان ؛ إما صريحاً بأن يقول في لعانه : وما هذا الولد ولدي . وإما ضمنا ، بأن يقول من قذفها بزنا في طهر لم يصبها فيه وأنه اعتزلها حتى ولدت : أشهد بالله أني لصادق فيما ادعيت به ، ونحو ذلك ، يدل عليه والله أعلم .
قال : فإن أكذب نفسه بعد ذلك لحقه الولد .
ش : قد تقدم أنه إذا أكذب نفسه ثبت ما عليه من الحد ، ولحوق الولد ، لأن نفقته تجب عليه ، وكلام الخرقي يشمل وإن كان الولد ميتاً وله مال ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن .
____________________
(2/523)
ش : منصوص أحمد في رواية الجماعة أنه لا يصح نفي الحمل ، وقال : ربما لم يكن شيئاً ، لعله يكون ريحاً ، وعلى هذا عامة الأصحاب ، معتمدين بأنه يكون ريحاً ، وقد يكون غيره ، فيصير نفيه مشروطاً بوجوده ، ولأن الأحكام التي ينفرد بها الحمل تقف على ولادته ، بدليل الميراث والوصية ، وغير ذلك ، وهذا حكم ينفرد به الحمل ، فدخل في القاعدة ، وفارق وجوب النفقة على الحامل ، وكونها لا توطأ حتى تضع وغير ذلك ، لأن هذه أحكام تتعلق بحيوان حامل ، لا ينفرد بالحمل ، فعلى هذا لا بد أن ينفيه عند وضعها له ويلاعن ، ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أنه يصح نفيه ، وهو اختيار أبي محمد ، لأن في حديث سهل : وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ، ولعان هلال وامرأته كان قبل الوضع ، كما جاء في غير حديث .
2787 وجاء مصرحاً في حديث سهل وكانت حاملًا .
2788 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله لاعن على الحمل ، رواه أحمد . وينبني على هذا الخلاف في استلحاقه ، فعلى الأول لا يصح ، وقد نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم ، وعلى الثاني يصح . والله تعالى أعلم .
قال : ولو جاءت امرأته بولد ، فقال : لم تزن ، ولكن ليس هذا الولد مني ؛ فهو ولده في الحكم ، ولا حد عليه لها .
ش : أما كون الولد والحال ما تقدم ولده ، فلأنه ولد على فراشه ، وقد قال : ( الولد للفراش ) وأما كونه لا حد عليه فلأن شرط وجوب الحد القذف ولم يوجد ، وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له اللعان لنفي الولد ، وهذا اختيار القاضي في الروايتين ، وأبي محمد ، لأن اللعان الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعد القذف ، ولا قذف هنا ، فينتفي اللعان ، إذ الأصل الانتفاء مطلقاً ، إلا فيما ورد به الشرع ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر ، وابن حامد ، والقاضي في تعليقه وفي روايتيه ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وأبي البركات : له ذلك ، لأن مشروعية اللعان لشيئين ، نفي الحد والولد ، ولا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر ، ولو سلم أن أصل مشروعيته لنفي الحد ، فليشرع لأجل الولد من باب الأولى ، إذ ضرر الولد يتأكد ، ويلزم منه مفاسد عظيمة ، لا يوجد بعضها في الحد ، فكيف بمجموعها .
( تنبيهان ) أحدهما ذكر أبو البركات من صور الروايتين إذ قال صورة الخرقي ، ولم يقل : ولم تزن . ولم يجعله قاذفاً ، أو قال : وطئت بشبهة ، أو مقهورة بنوم أو إغماء أو جنون أو إكراه ؛ وحكى اختيار الخرقي في الجميع ، وأبو محمد في المغني قطع فيما إذا قال : وطئت بشبهة أنه لا لعان . وحكى الخلاف فيما إذا قال أكرهت على الزنا .
____________________
(2/524)
وهذا ظاهر كلام القاضي ، لأنه استدل لاختيار الخرقي بأن من رمى أحد الواطئين لم يكن له أن يلاعن ، كما لو قذف الزوجة دون الواطىء ، فقال : وطئك فلان بشبهة ، وكنت عالمة أنه أجنبي . وأجاب عن ذلك في التعليق بأنه إنما لم يكن له اللعان لجواز نفي الولد عنه ، بعرضه على القافة ، وأبو محمد يقول في هذه الصورة التي جعلها القاضي محل وفاق : له اللعان ، وينصب الخلاف مع القاضي ، وضابط الباب أنه متى قذف بالزنا ، بأن تضمن قذفه رميها ورمي واطئها ، شرع اللعان بلا ريب ، وعكسه إن لم يقذفها ، ولا قذف واطئها ، فهنا لا لعان عند أبي محمد في المغني ، والقاضي ، ولا خلاف ، وعند أبي محمد في المقنع وأبي البركات فيه الروايتان ، والصحيح عند أبي البركات مشروعية اللعان ، وهذا الذي اقتضى لأبي البركات أن يقول : وهو أصح عندي . أي في جميع الصور ، وإن قذف واطئها دونها ، بأن قال : أكرهت على الزنا . ونحو ذلك ، فهنا يجري الخلاف بلا ريب ، والمصحح عند القاضي ومن تقدم مشروعية اللعان ، خلافاً للخرقي ، وأبي محمد ، وإن قذفها دون الواطئ ، كما إذا قال : وطئك فلان بشبهة . وكنت عالمة ، فعند القاضي هنا لا خلاف أنه لا يلاعن ، ومختار أبي محمد أنه يلاعن ، وكلام أبي البركات محتمل لجريان الخلاف ، وأن الصحيح عنده مشروعية اللعان ، ومناط المسألة عند القاضي أن لا يكون له طريق إلى نفي الولد إلا اللعان ، والمناط عند أبي محمد والخرقي أن يقذف زوجته بالزنا ، والمناط عند أبي البركات أنه يحتاج إلى نفي الولد ، وإن أمكن نفيه بالعرض على القافة ، ونحو ذلك ، لأن القافة قد تتعذر ، وقد يشتبه الأمر عليها ، ونحو ذلك .
( التنبيه الثاني ) حيث شرع اللعان في هذه الصور فإن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج وحده ، ذكره أبو البركات والله أعلم .
قال : واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم : أشهد بالله لقد زنت . ويشير إليها ، وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها ، حتى يكمل ذلك أربع مرات ، ثم يوقف عند الخامسة ويقال له : اتق الله ، فإنها الموجبة ، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فإن أبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، فيما رماها به من الزنا ، وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب . أربع مرات ، ثم توقف عند الخامسة ، وتخوف كما يخوف الرجل ، فإن أبت إلا أن تتم فلتقل : وأن غضب الله عليها إن كان من الصاذقين ، فيما رماني به الزنا ، ثم يقول الحاكم : قد فرقت بينكما .
ش : هذا بيان لصفة اللعان ، والأصل فيه في الجملة الآية الكريمة ، وقد تقدمت .
2789 وعن سعيد بن جبير أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ قال : سبحان الله ، نعم أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان ، قال : يا رسول الله أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف
____________________
(2/525)
يصنع ؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك ؛ قال : فسكت النبي فلم يجبه ، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : إن الذي سألتك عنه ابتليت به ، فأنزل الله هؤلاء الآيات في سورة النور : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم } ) فتلاهن عليه ، ووعظه وذكره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر ، فقال : لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها ؛ ثم دعا بالمرأة فوعظها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، قالت : لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب ، فبدأ بالرجل فشهد : 19 ( { أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان الكاذبين } ) ثم ثنى بالمرأة فشهدت : 19 ( { أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } ) ثم فرق بينهما متفق عليه .
وظاهر كلام الخرقي أن جميع ما ذكره تتوقف صحة اللعان عليه ، فيكون شرطاً فيه ، ونحن نتكلم عليه مفصلًا ، فأما كون ذلك بمحضر الحاكم فلا بد منه .
2790 لأن في قصة هلال أن النبي قال : أرسلوا إليها ، فتلا عليهما رسول الله ، وذكرهما ، وأخبرهما أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقال هلال : والله لقد صدقت عليهما ، فقالت : كذب . فقال رسول الله : ( لاعنوا بينهما ) وظاهره أنه كان بحضوره ، وكذلك بقية الأحاديث ، تدل على ذلك ، نعم لو كانت المرأة خفرة ، بعث الحاكم من يلاعن بينهما ، إذ هو نائب عنه ، ونائبه قائم مقامه ، وأما كون الزوج يقول : أشهد بالله أربع مرات . فللآية الكريمة والحديث ، وأما كونه يقول : لقد زنت . فلأن الذي يشهد به هو زناها ، وأما كونه يشير إليها فلتتميز عن غيرها ، وهذا إذا كانت حاضرة ، فإن كانت غائبة أسماها ونسبها ، حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها ، وهذا كله شرط ، وقيل لأحمد : كيف يلاعن ؟ قال : على ما في كتاب الله ، يقول أربع مرات : أشهد بالله إني فيما رميتها به من الزنا لمن الصادقين . وهو ظاهر النصوص ، والخرقي رحمه الله تعالى استغنى عن ذلك بقوله : لقد زنت . لأن معناهما واحد ، قال أبو محمد : واتباع لفظ النص أولى وأحسن .
2791 وأما كون الزوج يوقف بعد الرابعة ، ويقال له ما ذكر ، فلأن في حديث هلال لما قال النبي : ( لاعنوا بينهما ) فقيل لهلال : اشهد . فشهد : 19 ( { أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } ) فلما كانت الخامسة قيل : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر ، وإن هذه الموجبة التي توجب العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها ، فشهد : 19 ( { الخامسة أن لعنة الله عليه أن كان من الكاذبين } ) ثم قيل لها : اشهدي . فشهدت : 19 ( { أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين } ) فلما كانت
____________________
(2/526)
الخامسة قيل لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة ثم قالت : والله لا أفضح قومي ؛ فشهدت : 19 ( { الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين } ) الحديث رواه أبو داود وأحمد ، وهو ظاهر النصوص ، وهذا الإيقاف والموعظة مستحبان عند الأصحاب ، لأنهما ليسا في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الصحيح ، وإنما فيه الموعظة أولا ، وأما كونه إن لم يرجع وأبى إلا أن يتم فليقل : ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا ، للآية الكريمة والحديث ، وهذا أيضاً شرط ، إلا أنه لو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد أو بالغضب ففي الإجزاء ثلاثة أوجه ( ثالثها ) الإِجتزاء بالغضب لا بالإِبعاد ، وفي إبدال لفظه أشهد بأقسم أو أحلف وجهان ، أصحهما : لا يجزئ : وقال الوزير ابن هبيرة من أصحابنا : من اشترط من الفقهاء أنه يزاد بعد قوله : 19 ( { من الصادقين } ) : فيما رميتها به من الزنا . اشترط في نفيها عن نفسها : فيما رماني به من الزنا . ولا أراه يحتاج إلى ذلك ، لأن الله تعالى أنزل ذلك وبينه ، ولم يذكر هذا الإِشتراط ، وأما كون المرأة تقول بعد ذلك : أشهد بالله إنه لمن الكاذبين ، أو لقد كذب . على ما قال الخرقي إلى آخره ، فلما تقدم ، وهو كله أيضاً شرط إلا الموعظة والإِيقاف كما في الرجل ، وإذا أبدلت الغضب باللعنة لم يجز ، لأن الغضب أبلغ ، وإن أبدلت الغضب بالسخط فوجهان ، وقد تضمن كلام الخرقي أن لعان الزوج مقدم ، وهو كذلك ، فلو ابتدأت المرأة لم يعتد بذلك ، وكذلك الترتيب في الألفاظ شرط ، واعلم أن من شرط اللعان أيضاً الإِلقاء من الحاكم أو نائبه ، فلو ابتدأ الرجل من غير إلقاء لم يعتد به ، كما لو حلف من غير أن يأذن له الحاكم ، أو شهد من غير سؤال ، والله أعلم .
قال : فإن كان بينهما في اللعان ولد ذكر الولد فإذا قال : أشهد بالله لقد زنت ، يقول : ما هذا الولد ولدي . وتقول هي : أشهد بالله لقد كذب ، وهذا الولد ولده .
ش : قد تقدم أنه يشترط لنفي الولد ذكره في اللعان ، وأنه لا ينتفي إلا بذلك ، على مختار الخرقي ، ثم إن الخرقي اكتفى بأن يقول : وما هذا الولد ولدي . وتبعه على ذلك أنه محمد ، وقال القاضي : يشترط أن يقول : هذا الولد من زنا ، وليس هو مني . يعني خلقاً وخلقاً والله أعلم .
قال : فإن التعن هو ولم تلتعن هي فلا حد عليها ، والزوجية بحالها .
ش : أما انتفاء الحد عنها فلا نعلم فيه خلافاً في مذهبنا لأن الحدّ يدرأ بالشبهة ، ونكولها شبهة ، لأنه يحتمل أن يكون لشدة حيائها ، أو لعقدة على لسانها ، أو غير ذلك ، وهذا شبهة فدرأت الحد .
____________________
(2/527)
2792 ويرشح هذا قول عمر رضي الله عنه : إن الحد على من زنا وقد أحصن ، إذا كانت بينة ، أو كان الحمل أو الاعتراف ؛ وظاهره أنه لا حد بغير ذلك ، وقول الله سبحانه : 19 ( { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } ) يحتمل أن يراد بالعذاب الحد ، ويحتمل أن يراد الحبس ، ويحتمل أن يراد غيره ، فلا يثبت الحد بالاحتمال ، وأما كون الزوجية بحالها فلأن الفرقة إنما تحصل بالتعانهما ، ولم يوجد ذلك .
وظاهر كلام الخرقي أنه يخلى سبيلها ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، لأن هذا لعان لم يوجب حدا ، فلم يوجب حبساً ، كما لو لم تكمل البينة ( والثانية ) : وهي اختيار القاضي ، وأبي علي ابن البنا ، والشيرازي وغيرهم أنها تحبس حتى تقر أو تلاعن ، نظراً لقوله تعالى : 19 ( { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } ) فإذا لم تشهد لم يندرىء العذاب عنها ، وإنما قلنا : العذاب الحبس لآية النساء وهي قوله تعالى : 19 ( { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } ) الآية إلى 19 ( { فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت ، )9 ( أو يجعل الله لهن سبيلا } ) وإنما لم يقل إنه الحد حذاراً من ارتكاب الأثقل بالاحتمال ، ومقتضى كلام الخرقي أن الولد لاحق له ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : وكذلك إن أقرت دون الأربع مرات .
ش : يعني لا حد عليها ، لأنه لم يثبت بلعانه كما تقدم ، ولا بإقرارها المذكور ، إذ شرط ثبوت الحد عليها بالإِقرار أن تقر أربعاً ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والزوجية بحالها كما تقدم ، وحكم هذه حكم من نكلت على ما تقدم ، في حبسها أو تخليتها ، وفي أن الولد لاحق بالزوج على المنصوص ، وقد تقدم فيه قول آخر أن للزوج أن يلتعن وحده لنفيه ، وحكى ابن حمدان قولًا أنها إذا أقرت بعد النكول ثلاثاً أنها تحد ، وكأن مدركه أن شهادة الرجل بمنزلة شاهد ، فقد وجد بلعانه ربع النصاب ، وبإقرارها ثلاثة أرباعه ، ويلزم على هذا لو أقرت ثلاث مرات ، وشهد شاهد أنها تحد ، ولا أعرف النقل في ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(2/528)
( كتاب العدد )
ش : العدة ما تعده المرأة من أيام أقرائها ، أو أيام حملها ، أو غير ذلك ، على ما يعرف إن شاء الله ، والأصل فيها قول الله تعالى : 19 ( { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ) وقوله تعالى : 19 ( { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، واللائي لم يحضن ) أي فعدتهن كذلك ، أو فكذلك ، أو واللائي يئسن من المحيض ، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر ، وملخصه هل في الآية تقديم وتأخير أو تقدير ، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة ؟ خلاف ، وقوله : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) الآية ، وقوله : 19 ( { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ) وقول النبي لفاطمة بنت قيس : ( اعتدي في بيت ابن أم مكتوم ) في أحاديث غير ذلك ، مع أن مشروعية ذلك إجماع والحمد لله والله أعلم .
قال : وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض .
ش : قد انعقد الإجماع على وجوب العدة على المبتوتة ، لعموم 19 ( { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ) مع قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ، ثم طلقتموهن } ) الآية ، وقد اختلف في وجوب العدة على المخلو بها بشرطه ، ومذهبنا وجوبها ، لقضاء الصحابة بذلك ، وقد تقدم الكلام على ذلك مبيناً ، في وجوب الصداق بالخلوة ، ويشترط لوجوب العدة بالخلوة مطاوعتها ، وكون الزوج ممن يولد لمثله ، وهل يعتبر خلوهما من الموانع كالجب والعنة ، والإحرام والصيام ، ونحو ذلك ؟ لم يعتبره أبو البركات ، مع حكايته الخلاف في الصداق ، وخرج أبو محمد الخلاف الذي ثم هنا .
وظاهر كلام الخرقي أن العدة لا تجب إذا لم يوجد مس أو خلوة ، ولو قبل أو لمس ، أو تحملت المرأة ماء الرجل ، وهو أحد الوجهين في الصور الثلاث ، والذي جزم به القاضي في المجرد وجوبها بتحمل المرأة الماء انتهى .
وعدة ذات القروء الحرة ثلاثة أقراء بالإجماع ، لشهادة النص بذلك ، واختلف في القروء هل هي الحيض أو الأطهار ؟ على روايتين مشهورتين ، هما قولان للعلماء ، ولأهل اللغة ( إحداهما ) أنها الأطهار ، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل الحجاز .
____________________
(2/529)
2793 ونقله أحمد عن زيد وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم ، وزعم ابن عبد البر أن أحمد رجع أخيراً إلى هذا القول ، وعمدته في ذلك قول أحمد في رواية الأثرم : رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف ، والأحاديث عمن قال الطهر وأنه أحق بها ، والعمدة في ذلك قوله : 19 ( { فطلقوهن لعدتهن } ) أي في عدتهن ، كقوله تعالى : 19 ( { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } ) أي في يوم القيامة ، والمشروع السنة له كما تقدم ، وقال الأعشى يصف غزوة :
مورثة مالًا وفي الأصل رفعة
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
والذي ضاع هو الأطهار ( والثانية ) القرء الحيض ، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل العراق ، ويحكى عن الأصمعي والكسائي ، والفراء ، والأخفش ، قالوا كلهم : أقرأت المرأة . إذا حاضت . قال الأصمعي : فهي مقرؤ . وقال الكسائي والفراء : فهي مقرىء .
2794 ونقل ذلك الإمام أحمد عن عمر ، وابن مسعود رضي الله عنهما ، وهو المشهور عن أحمد ، واختيار أصحابه ، وآخر قوليه صريحاً ، كما نص عليه في رواية ابن القاسم ، فقال : كنت أقول بقول زيد وعائشة وابن عمر رضي الله عنهم فهبته ، وكذلك في رواية الأثرم : كنت أقول الأطهار ، ثم وقفت لقول الأكابر . وأصرح من ذلك قوله في رواية النيسابوري : قد كنت أقول به ، إلا أني أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض ، وهذا تصريح بالرجوع ، وعلى إحدى الطريقتين يرتفع الخلاف من مذهبه ، وما اعتمده أبو عمر فليس فيه إلا أن مختاره كان إذ ذاك الأطهار ، والعمدة في ذلك ما اعتمده أحمد من أن ذلك قول الأكابر ، وقد حكاه عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما .
2795 وروي عن أبي بكر الصديق ، وعثمان بن عفان ، وابن عباس ، وأبي موسى ، وعبادة بن الصامت ، وأبي الدرداء رضي الله عنهم ، وأيضاً فقد وقع القرء في لسان المبين لكتاب ربه ، والمراد به الحيض .
2796 فعن القاسم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها قالت للنبي : إنها مستحاضة : فقال : ( تجلس أيام أقرائها ، ثم تغتسل ، مختصر ، رواه النسائي .
2797 وعن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله الدم ، قال : ( فلتنظر قرأها الذي كانت تحيض ، فلتترك الصلاة ، ثم لتنظر ما بعد ذلك ، فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي ) رواه أحمد والنسائي .
____________________
(2/530)
2798 وعن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض . رواه ابن ماجه .
2799 وعنها أيضاً رضي الله عنها أن النبي قال : ( طلاق الأمة تطليقتان ، وعدتها حيضتان ) رواه الترمذي وأبو داود . فعلم من هذا أن عرف الشرع في القرء أنها تحيض ، وأيضاً موافقة لظاهر الآية ، وهو : 19 ( { ثلاثة قروء } ) فإن ظاهرها ثلاثة قروء كوامل ، وإنما يكون ذلك إذا قلنا إنها الحيض ، أما إن قلنا إنها الأطهار فإنما هو قرآن وبعض الثالث ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وأيضاً قوله تعالى : 19 ( { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم ، فعدتهن ثلاثة أشهر } ) فنقلهن عند عدم المحيض إلى الإعتداد بالأشهر ، فظاهره أن الأشهر بدل عن الحيض ، وأيضاً فالعدة استبراء ، فكانت بالحيض كاستبراء الأمة .
2800 ودليل الأصل قول النبي : ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير حامل حتى تستبرأ بحيضة ) وأما قوله تعالى : 19 ( { فطلقوهن لعدتهن } ) فالمراد مستقبلات لعدتهن ، كما تقول : لقيته لثلاث بقين من الشهر ، أي مستقبلًا لثلاث .
2801 يؤيد هذا أن في حديث ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته وهي حائض ، وأمره النبي بمراجعتها ، فقال ابن عمر : قرأ النبي : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن } ) رواه أبو داود والنسائي .
2802 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة ، قال : عصيت ربك ، وبانت منك امرأتك ، لم تتق الله فيجعل لك مخرجاً ، ثم قرأ : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن } ) وفي لفظ : وإن الله قال : 19 ( { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن } ) رواه أبو داود ، وأما بيت الأعشى فقيل : أراد من أوقات نسائك ، ولم يرد لا حيضاً ولا طهراً ، والقرء والقارىء جاء في معنى الوقت ، يقال : هذا قارىء الرياح . لوقت هبوبها ، ومن هنا قال بعض أهل اللغة : إن القرء يصلح للحيض والطهر ، بناء على أن القرء الوقت ، وقال آخر : يصلح لهما ، بناء على أن القرء الجمع ، ومنه قولهم : قريت الماء في الحوض ، وقرأت القرآن . أي لفظت به مجموعاً ، ولا ريب أن الدم يجتمع في البدن في الطهر ، ويجتمع في الرحم في الحيض ، وبالجملة من أهل اللغة من يجعل القرء للطهر ، ومنهم من يجعله للحيض ، ومنهم من يجعله مشتركاً بينهما ، والله أعلم .
____________________
(2/531)
قال : غير الحيضة التي طلقها فيها .
ش : هذا بناء على مختاره من أن الأقراء الحيض ، فعلى هذا لا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها من العدة ، بل إنما تحتسب بما بعدها ، بلا خلاف نعلمه ، لظاهر الكتاب ، ولأن المنع من الطلاق في الحيض والله أعلم حذاراً من تطويل العدة عليها ، وإنما يكون ذلك إذا لم تحتسب بالحيضة التي طلقها فيها ، وبهذا قلنا والجمهور تحتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءاً إن قلنا القروء الأطهار ، وإلا يكون الطلاق في الطهر أضر بها ، وأطول عليها من الطلاق في الحيض ، والله أعلم .
قال : فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة ، أبيحت للأزواج .
ش : ظاهر هذا أن العدة لا يحكم بانقضائها بانقضاء الحيضة الثالثة ، بل لا بد مع ذلك من الاغتسال ، وهذا إحدى الروايتين ، وأنصهما عن أحمد ، واختيار أصحابه ، الخرقي ، والقاضي ، والشريف والشيرازي وغيرهم ، اعتماداً على أن هذا قول أكابر الصحابة .
2803 قال أحمد : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : إذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة فقد بانت منه . وهو أصح في النظر ، قيل له : فلم لا تقول به ؟ .
2804 قال : ذلك يقول به عمر وعلي وابن مسعود ، فأنا أتهيب أن أخالفهم ؛ يعني اعتبار الغسل ، ويرشح هذا القول أن ظاهر القرآن كما أشار إليه أحمد ، يقتضي انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء ، فترك هؤلاء الأكابر للظاهر ، الظاهر إنما هو عن توقيف ممن له البيان .
2805 وقد روي هذا أيضاً عن أبي بكر وعثمان ، وأبي موسى ، وعبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهم . ( والرواية الثانية ) تنقضي العدة بانقطاع دمها من الثالثة وإن لم تغتسل ، اختاره أبو الخطاب ، نظراً لظاهر القرآن ، ولا تفريع على هذه الرواية ، أما على الأولى فظاهر كلام الخرقي وجماعة أن العدة لا تنقضي ما لم تغتسل ، وإن فرطت في الاغتسال مدة طويلة ، وقد قيل لأبي عبد الله : فإن أخرت الغسل تعمداً ، فينبغي إن كان الغسل من أقرائها أن لا تبين وإن أخرته ؟ قال : هكذا يقول شريك . فظاهر هذا أنه أخذ به ، وقال أبو بكر : روي عن أبي عبد الله : إذا وجبت عليها الصلاة ولم يخرج الوقت . قال القاضي : يعني بذلك أنها لا تباح ما لم تجب عليها الصلاة ، فإذا وجبت أبيحت انتهى ، وقال أبو بكر أيضاً : روي عن أبي عبد الله أنها في عدتها إذا انقطع الدم لدون أكثر الحيض ، وإن انقطع لأكثره انقضت العدة بانقطاعه انتهى ، ومحل الخلاف في المسألة في إباحتها للأزواج ، وحلها لزوجها الأول بالرجعة ، أما ما عدا ذلك من انقطاع نفقتها ، وعدم وقوع الطلاق بها ، وانتفاء الميراث ، وغير ذلك ، فيحصل بانقطاع الدم رواية واحدة ، قال القاضي وغيره : قصراً على مورد حكم الصحابة . والله أعلم .
____________________
(2/532)
قال : وإن كانت أمة فإذا اغتسلت من الحيضة الثانية .
ش : مذهبنا ومذهب الجمهور أن عدة الأمة بالقرء قرءان .
2806 لما تقدم من قول النبي : ( وعدتها حيضتان ) وفي لفظ : ( وقرء الأمة حيضتان ) رواه الدارقطني ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( طلاق الأمة ثنتان ، وعدتها حيضتان ) رواه ابن ماجه والدارقطني ، إلا أن كلا الحديثين قد ضعف .
2807 لكن يرشحهما أنه قول عمر وعلي ، وابن عمر رضي الله عنهم ، والجمهور ، وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفاً ، كما في كثير من أحكام الأمة مع الحرة ، إلا أن الحيض لا يتبعض .
2808 ولهذا قال عمر رضي الله عنه : لو أستطيع أن أجعل العدة حيضة ونصفاً لفعلت . إذا تقرر هذا فالخرقي رحمه الله عنده أن القروء الحيض ، فتكون عدة الأمة حيضتين ، وعنده أن الحرة لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الثالثة ، فكذلك الأمة لا تحل حتى تغتسل من الثانية والله أعلم .
قال : وإن كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر .
ش : هذا إجماع والحمد لله ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، واللائي لم يحضن } ) أي فكذلك ، أو فعدتهن كذلك ، أو واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر ، وملخصه أن الآية الكريمة هل فيها تقديم وتأخير ، أو تقدير ، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة ؟ ثلاثة أقوال .
( تنبيه ) ويحتسب بالساعة التي فارقها ، على المشهور من الوجهين ، حذاراً من الزيادة على ظاهر الكتاب ، وقال ابن حامد : إنما يحتسب بأول الليل أو النهار ، فإذا طلقها نهاراً احتسب من أول الليل الذي يليه ، وليلًا يحتسب بأول النهار الذي يليه ، دفعاً لمشقة اعتبار الساعات والله أعلم .
قال : والأمة شهران .
ش : يعني أن ما تقدم إذا كانت الزوجة حرة ، أما إن كانت أمة فعدتها شهران ، وهذا هو المشهور من الروايات ، والمختار لعامة الأصحاب ، والمختار لعامة الأصحاب ، الخرقي والقاضي وأصحابه ، وأبي بكر فيما نقله القاضي في الروايتين ، إذ الأشهر بدل من القروء ، وعدة ذات القروء قرآن ، فبدلهما شهران .
2809 واعتمد أحمد على قول عمر رضي الله عنه : عدة أو الولد حيضتان ،
____________________
(2/533)
ولو لم تحض كان عدتها شهران ( والرواية الثانية ) عدتها شهر ونصف ، اختارها أبو بكر فيما نقله أبو محمد .
2810 ويروى عن علي وابن عمر رضي الله عنهم ، لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة ، وعدة الحرة ثلاثة أشهر ، فنصفها شهر ونصف ، وإنما اعتدت الأمة ذات القروء بالحيضتين ، لتعذر تبعيض الحيضة ( الرواية الثالثة ) ثلاثة أشهر ، مخرجة على ما قال القاضي من نصه في أن استبراءها بثلاثة أشهر ، لظاهر إطلاق الكتاب ، ولأن اعتبار الشهور للعلم ببراءة رحمها ، ولا تحصل بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة ، إذ الحمل يكون نطفة أربعين يوماً ، وعلقة أربعين يوماً ، ثم يصير مضغة ، أربعين يوماً ثم يتحرك ويعلو بطن المرأة ، ويظهر الحمل ، وهذا ظاهر لا خفاء به ، إلا أنه ضعف ، لأنه مخالف لإجماع الصحابة ، لأنهم إنما اختلفوا على القولين السابقين ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من عادتها أن لا تحيض ، وبين من عادتها أن تحيض ، كمن بلغت خمسة عشر سنة ونحو ذلك ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أبي بكر وأبي محمد ، واعتماداً على عموم الكتاب ( والرواية الثانية ) إذا أتى عليها زمان الحيض ولم تحض تعتد بسنة ، اختارها القاضي في خلافه وفي غيره ، وعامة أصحابه ، الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، لأنها والحال هذه مرتابة ، لجواز أن يكون بها حمل منع حيضها فوجب أن تعتد بسنة ، كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده .
( تنبيه ) حد الإياس هل هو خمسون سنة أو ستون ، أو يفرق بين نساء العرب ونساء العجم ، على خلاف سبق في الحيض ، وأبو محمد يختار أنها إذا بلغت خمسين ، وانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب ، فقد صارت آيسة ، وإن رأت الدم بعد الخمسين ، على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض والله أعمل .
قال : وإذا طلقها طلاقاً يملك فيه الرجعة ، وهي أمة ، فلم تنقض عدتها حتى أعتقت ، بنت على عدة حرة ، وإن طلقها طلاقاً لا يملك فيه الرجعة فعتقت ، اعتدت عدة أمة .
ش : لأنها إذا أعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة ، فوجب أن تعتد عدة الحرائر ، كما لو أعتقت قبل الطلاق ، وإن عتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية ، فلم تجب عليها عدة الحرائر ، كما لو أعتقت بعد مضي القرئين والله أعلم .
قال : وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت ، فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت سنة .
ش : هذا هو المذهب المعمول به بلا ريب ، لأنها إذاً حصلت مرتابة ، فوجب أن تقعد سنة ، تسعة أشهر للحمل اعتماداً على الغالب ، وثلاثة لعدة الإياس ، لتزول الريبة ،
____________________
(2/534)
ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنها تقعد للحمل أربع سنين ، نظراً إلى أن ذلك هو اليقين ، ثم تعتد للإياس .
( تنبيه ) ولو عاد الحيض قبل الحكم بانقضاء عدتها انتقلت إليه بلا ريب ، لأنه الأصل ، والبدل لم يتم ، وإن عاد بعد العدة وبعد نكاحها لم تنتقل إليه بلا ريب ، للحكم بصحة نكاحها ، وإن عاد بعد الحكم بانقضاء عدتها ، وقبل نكاحها ففي الانتقال إليه وجهان ، أصحهما لا تنتقل إليه ، للحكم بانقضاء عدتها ، والله أعلم .
قال : وإن كانت أمة اعتدت بأحد عشر شهراً ، تسعة أشهر منها للحمل ، وشهران للعدة .
ش : هذا مبني على ما تقدم له من أن عدة الأمة الآيسة شهران ، وهو المذهب ، أما على رواية أن عدتها شهر ونصف ، فتجلس عشرة أشهر ونصف ، وعلى رواية ثلاثة أشهر ، تساوي الحرة والله أعلم .
قال فإن عرفت ما رفع الحيض كانت في عدة حتى تعود الحيض فتعتد به ، إلا أن تصير من الآيسات ، فتعتد بثلاثة أشهر من وقت تصير في عدة الآيسات .
ش : إذا عرفت ما رفع الحيض من مرض أو رضاع ونحوه لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به ، أو تصير آيسة فتعتد عدة الآيسات ، نص عليه أحمد في رواية صالح ، وأبي طالب وابن منصور والأثرم ، إذا حبسها مرض أو علة أو رضاع فلا بد أن تأتي بالحيض وعليه أصحابه .
2811 لما روى الشافعي في مسنده عن حبان بن منقذ ، أنه طلق امرأته طلقة واحدة ، وكان لها منه بنية ترضعها ، فتباعد حيضها ، ومرض حبان ، فقيل له : إنك إن مت ورثتك . فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم : ما تريان ؟ فقالا : نرى أنها إن ماتت ورثها ، وإن مات ورثته ، لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض ، ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض . فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت منها ، فعاد إليها الحيض ، فحاضت حيضتين ، ومات حبان قبل انقضاء الثالثة ، فورثها عثمان رضي الله عنه ، والله أعلم .
قال : وإن حاضت حيضة أو حيضتين ، ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه ، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض .
ش : لأنها إذاً تصير مرتابة ، فوجب أن تعتد بسنة ، كما لو ارتفع حيضها من حين طلقها ، والعدة لا تبنى على عدة أخرى ، ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست ، انتقلت إلى ثلاثة أشهر ، ولو اعتدت الصغيرة شهراً أو شهرين ، ثم حاضت ، انتقلت إلى القروء .
____________________
(2/535)
2812 واعتمد أحمد في المسألة على قول عمر رضي الله عنه فإنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين ، وارتفع حيضها لا تدري ما رفعه : 16 ( تجلس تسعة أشهر ، فإن لم يستبن بها حمل ، تعتد بثلاثة أشهر ) . قال ابن المنذر : قضى به عمر رضي الله عنه بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم ، لا ينكره منكر والله أعلم .
قال : وإن طلقها وهي من اللائي لم يحضن ، فلم تنقض عدتها بالشهور حتى حاضت ، استقبلت العدة بثلاث حيض إن كانت حرة أو بحيضتين إن كانت أمة .
ش : لأن الشهور بدل عن الحيض ، فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل ، كالتيمم مع الماء ، وإنما لم تبن على ما مضى ، لما تقدم من أن العدة لا تبنى على أخرى ، وإذاً تعتد بثلاث حيض إن كانت حرة ، وبحيضتين إن كانت أمة ، بناء على أن القروء الحيض ، وإن قيل : إنها الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرء ؟ فيه وجهان والله أعلم .
قال : ولو مات عنها وهو حر أو عبد ، قبل الدخول أو بعده ، انقضت عدتها بتمام أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة ، وبتمام شهرين وخمسة أيام إن كانت أمة .
ش : أما كون الحرة تعتد بأربعة أشهر وعشر إذا مات زوجها لفقول الله تعالى : 19 ( { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا } ) .
2813 وقول النبي : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ، أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ) متفق عليه ، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده ، إعمالًا لعموم الآية والخبر ، ثم المعنى يعضده ، وهو أن النكاح عقد عمر ، فإذا مات انتهى ، والشيء إذا انتهى تقررت أحكامه ، كتقرر أحكام الإجازة بانقضائها ، وأما كون الأمة تعتد بشهرين وخمسة أيام ، فقيل لاتفاق الصحابة على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة ، فكذلك عدة الوفاة ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة ، مسلمة أو ذمية ، ولا بين أن يوجد في مدة الأربعة أشهر أو لم يوجد ، وهو كذلك .
( تنبيه ) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها ، فتجب عشرة أيام مع الليالي ، والله أعلم .
قال : ولو طلقها أو مات عنها وهي حامل منه ، لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل ، أمة كانت أو حرة .
ش : لقول الله تعالى : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) وهذا إجماع والحمد لله في الطلاق ، وفي كل فرقة في الحياة ، وكالإجماع فيما بعد الموت .
____________________
(2/536)
2814 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الحامل المتوفى عنها زوجها إنها تعتد بأطول الأجلين .
2815 وهو إحدى الروايتين عن عليى رضي الله عنه ، ويحكى عن سحنون من المالكية ، لقول الله تعالى : 19 ( { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } ) وهذا عام في كل متوفى عنها ، وللجماعة الآية السابقة ، فإن العموم فيها أصرح ، ثم يرشحه عمل العامة على وفقه .
2816 وعن ابن مسعود رضي الله عنه : من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى ، بعد الأربعة أشهر وعشراً . رواه النسائي وأبو داود ، وهذا لفظه ، يريد بسورة النساء سورة الطلاق ، وهذا يدل على أنها متأخرة عن الآية التي في سورة البقرة ، فيقضي عليها بالنسخ أو بالتخصيص .
2817 والذي يقطع النزاع ويبين المراد بلا ريب ، ما روي عن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها ، أنها كانت تحت سعد بن خولة ، وهو من بني عامر بن لؤي ، وهو ممن شهد بدراً ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال لها : مالي أراك متجملة ، لعلك ترجين النكاح ، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشراً . قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت ، فأتيت النبي فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي . قال ابن شهاب : ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر . متفق عليه .
2818 وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما بلغه هذا الحديث رجع إلى قول الجماعة ، وهذا الذي يظن به .
وقول الخرقي : بوضع الحمل ، أي كله ، فلو كان ولدين أو أكثر فلا بد لانقضاء العدة من وضع الجميع ، ولو كان واحداً فلا بد من انفصال جميعه .
( تنبيه ) لم تنشب . أي لم تمكث ، وتعلت من نفاسها . أي انقطع دمها وطهرت ، قال المنذري : وأصله عندهم السواد ، كأنه من العلو أي تتعلى عن حالتها من المرض والله أعلم .
قال : والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ، أمة كانت أو حرة .
____________________
(2/537)
ش : كأن تضع ولداً . أو يداً أو رجلًا أو نحو ذلك ، وقد حكي الإجماع على ذلك ، إذ بذلك يعلم أنها حامل ، فتدخل تحت قوله تعالى : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) وسواء كان ما تبين ظاهراً أو خفياً شهدت به القوابل .
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا وضعت مالًا يتبين فيه شيء من خلق الإنسان أنها لا تنقضي عدتها به ، وهو المشهور عن أحمد ، ومختار أبي بكر ، والقاضي والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم ، وابن عقيل والشيرازي ، وأبي محمد وغيرهم ، لأنه قد حصل الشك في كونه ولداً ، فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة به ، حذاراً من دفع اليقين بأمر مشكوك فيه ، ( ونقل حنبل عن أحمد ) أنها تصير بذلك أم ولد ، فخرج القاضي وجماعة من ذلك انقضاء العدة به ، لأن الظاهر أنه بدء خلق آدمي ، أشبه ما لو تصور ، وأبى ذلك أبو محمد ، وقال : بيس هذا برواية في العدة ، إذ أحمد لم يتعرض لها . انتهى ، ويؤيد هذا أنه روي عن أحمد في رواية أخرى ما يدل على أنها تصير بذلك أم ولد ، ولا تنقضي به العدة ، والفرق الاحتياط في الصورتين ، ففي الاستيلاد تغليباً للحرية ، وفي العدة تغليباً للكمال ، ومحل الخلاف فيما إذا ألقت مضغة ، أما إن ألقت نطفة ، أو دماً أو علقة ، فإن العدة لا تنقضي به بحال عند الشيخين وغيرهما ، والقاضي في تعليقه جعل الخلاف في العلقة والمضغة ، ومحل الخلاف أيضاً إذا شهدت القوابل أن المضغة مبدأ خلق آدمي ، قاله أبو محمد ، فلو لم تشهد بذلك لم يحكم بانقضاء العدة بلا خلاف ، ولم يشترط ذلك أبو البركات والله أعلم .
قال : ولو طلقها أو مات عنها ، فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين ، لحقه الولد وانقضت عدتها به .
ش : هذا يعتمد أصلًا ، وهو أكثر مدة الحمل ، والمذهب المشهور أن أقصاها أربع سنين ، لأن هذا لا نص فيه ، فيرجع فيه إلى الوجود ، وقد وجد ذلك .
2819 فروى الوليد بن مسلم قال : قلت لمالك بن أنس : حديث جميلة بنت سعد ، عن عائشة رضي الله عنها : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل . قال مالك : سبحان الله ! من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد .
2820 وقال الشافعي : بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين .
2821 وقال أحمد : نساء بني عجلان يحملن أربع سنين ، وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون ، كل دفعة أربع سنين .
2822 وحكى أبو الخطاب أن محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بقي في بطن أمه أربع سنين ، وهكذا إبراهيم ابن نجيح العقيلي .
____________________
(2/538)
2823 ويؤيد ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب لامرأة المفقود أربع سنين . والظاهر أنه إنما فعل ذلك لأنه أقصى مدة الحمل .
2824 وعن أحمد أن أقصاه سنتان ، لأن عائشة رضي الله عنها قالت : لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل . ولأن الاتفاق حصل على ذلك ، بخلاف غيره ، إذا تقرر هذا أتت المرأة بولد لأربع سنين فما دون ، من يوم طلاقها أو موت زوجها ، ولم تكن تزوجت ولا وطئت ، ولا انقضت عدتها بالقروء ، ولا بالأشهر على قول ، ولا بوضع الحمل ، فإن الولد لاحق للزوج ، والعدة منقضية به .
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا أتت بولد أكثر من ذلك لم يلحق بالزوج ، ولا ريب في ذلك ، ومفهومه أيضاً أن العدة لا تنقضي به منه ، وهذا هو المذهب ، بلا ريب ، لأن الحمل منفي عنه يقيناً ، فلم يعتد بوضعه منه ، كما لو ظهر بعد موته ( وعن أحمد ) رحمه الله أن العدة تنقضي به ، لأنها ذات حمل ، فتدخل في : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) وهكذا الخلاف في كل ولد لا يلحق الزوج ، كامرأة الطفل المتوفى عنها ، والمطلقة عقب العقد ، ونحو ذلك ( وعن أحمد ) تنقضي به من غير الطفل ، لأنه يلحقه بالتحاقه ، بخلاف الطفل ، وأظن هذا اختيار القاضي ، وقد يقال : إن ظاهر إطلاق الخرقي أن من تقدم إذا أتت بولد لأربع سنين فما دون أنه يلحق الزوج ، وإن كانت قد أقرت بانقضاء عدتها ، لكن منصوص أحمد ، وقول الأصحاب على خلاف هذا ، فإنهم اتفقوا فيما علمت على أنها إذا أقرت بانقضاء عدتها بالأقراء ، أن الولد لا يلحق به ، وظاهر كلام أحمد وأبي بكر أن الحكم كذلك ، وإن أقرت بانقضائها بالأشهر ، وصرح بذلك أبو البركات ، وابن حمدان ، وظاهر كلام القاضي وعامة أصحابه إناطة ذلك بالأقراء ، بخلاف الأشهر ، وتبعهم أبو محمد على ذلك مصرحاً به والله أعلم .
قال : ولو طلقها أو مات عنها ، فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها ، فرق بينهما ، وبنت على عدتها من الأول ، ثم استقبلت العدة من الثاني .
ش : أما كونه يفرق بينهما والحال هذه ، فلأنه نكاح باطل اتفاقاً ، فوجب التفريق فيه ، كما لو تزوجت وهي زوجة ، وأما كونها تبني على عدتها من الأول فلسبق عدته ، وكونها عن وطء في نكاح صحيح ، وليس في كلام الخرقي بيان لمدة مقامها عند الثاني ، هل تنقطع به العدة أم لا ؟ وفي المسألة وجهان ، والذي جزم به القاضي والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم ، أن العدة لا تنقطع به ، والذي جزم به أبو محمد في كتبه الانقطاع ، وأما كونها تستقبل عدتها من الثاني ، فلأنهما حقان مقصودان لآدميين ، فلم يتداخلا ، كالدينين واليمينين ، والعمدة أن عمر وعلياً رضي الله عنهما
____________________
(2/539)
حكما بذلك كما سيأتي ، ولا نعرف لهما مخالفاً .
قال : وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، لعموم : 19 ( { وأحل لكم ما وراء ذلكم } )9 ( { والمحصنات من المؤمنات } ) وغير ذلك ، ولأنه لو زنا بها لم تحرم عليه أبداً ، فهذا أولى ( والرواية الثانية ) تحرم أبداً .
2825 لما روى مالك عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي ، فطلقها ونكحت في عدتها ، فضربها عمر رضي الله عنه ، وضرب زوجها ضربات بمخفقة ، وفرق بينهما ، ثم قال : أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول ، وكان خاطباً من الخطاب ، وإن كان دخل بها فرق بينهما ، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ، ثم اعتدت من الآخر ، فلا ينكحها أبداً ، والمعنى في ذلك والله أعلم أن الله تعالى أوجب العدة لبراءة الرحم ، حفظاً للأنساب ، وشرع النكاح بعدها صيانة للفروج ، فلما انتهك الحرمة ، وأخل بالحكمة ، واستعجل السبب الذي رتب عليه الشرعالإباحة في غير محله ، اقتضت الحكمة أن يعامل بنقيض قصده المؤبد ، كالقاتل لمورثه .
2826 وقد اعترض على قول عمر رضي الله عنه بقول علي رضي الله عنه ، فإنه روي عنه أنه قال : 16 ( إذا انقضت العدة فهو خاطب من الخطاب ) .
2827 وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه رجع إلى قول علي رضي الله عنه .
ومفهوم كلام الخرقي أنها لا تحل قبل انقضاء العدتين ، وعلى هذا الأصحاب كافة ، ما عدا أبا محمد ، فإنه يميل إلى أن له أن ينكحها في عدتها منه ، بعد فراغ عدة الأول ، قال بعد أن حكى هذا عن الشافعي : وهذا حسن موافق للنظر ، لأن العدة إنما شرعت حفظاً للنسب ، وصيانة للماء ، والنسب لاحق به ها هنا ، فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها ، والأصحاب اعتمدوا على قضاء عمر رضي الله عنه وقد تقدم .
2828 وعن علي رضي الله عنه أنه قضى في المرأة تتزوج في عدتها ، أنه يفرق بينهما ، ولها الصداق بما استحل من فرجها ، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول ، وتعتد من الآخر . ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة رضي الله عنهم ، ولعموم : 19 ( { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } ) الآية والضمير في قول الخرقي : وله أن ينكحها . أي الثاني ، أما الأول فإن كان طلاقه ثلاثاً لم تحل له بهذا النكاح ، لبطلانه وعدم مشروعيته ، وإن كان دون الثلاث فله نكاحها بعد العدتين ، وإن
____________________
(2/540)
كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه ، قاله أبو محمد والله أعلم .
قال : فإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما ، أري القافة وألحق . بمن ألحقوه به منهما ، وانقضت عدتها به منه ، واعتدت للآخر .
ش : إذا حملت هذه المنكوحة في العدة فعدتها بوضع الحمل ، كغيرها بلا ريب ، ثم ينظر في الولد فإن أمكن كونه من الأول دون الثاني ، كأن تأتي بالولد لدون ستة أشهر من وطء الثاني ، ولأربع سنين فما دون من فراق الأول ، فهو ملحق به ، وتنقضي عدتها منه به ، ثم تعتد للثاني ، وإن أمكن كونه من الثاني وحده ، كأن تأتي به لستة أشهر فأزيد إلى أربع سنين من وطء الثاني ، ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول ، فهو ملحق بالثاني ، فتنقضي عدتها منه به ، ثم تتم عدة الأول ، وإنما قدمت عدة الثاني والحال هذه على عدة الأول ، حذاراً من أن يكون الحمل من إنسان ، والعدة من غيره ، وإن أمكن كونه منهما ، كأن تأتي به لستة أشهر فصاعداً من وطء الثاني ، ولأربع سنين فما دون من بينونتها من الأول ، وهذه صورة الخرقي ، فإنه يرى القافة ، فإن ألحقته بأحدهما لحق به ، وأانقضت عدتها به منه ، ثم اعتدت للآخر ، وإن ألحقته بهما لحق بهما ، وانقضت عدتها به منهما ، ولو لم يمكن كونه من واحد منهما ، بأن ولدته لدون ستة أشهر من وطء الثاني ، ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول ، فإنه لا يلحق بواحد منهما ، ولا تنقضي عدتها منه ، على المذهب كما تقدم ، ولو أمكن كونه منهما ، ولم توجد قافة أو أشكل أمره عليها ، فإنها بعد وضعه تعتد بعدة أخرى ، لأن الولد إن كان من الأول فعليها أن تعتد للثاني ، وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول ، ولا يتيقن ذلك إلا بعدة كاملة ، وهل يضيع نسب الولد والحال هذه ، أو يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهما ؟ فيه خلاف مشهور والله أعلم .
قال : وأم الولد إذا مات سيدها فلا تنكح حتى تحيض حيضة .
ش : لأنها قد زال الملك عنها ، فلزمها الاستبراء بحيضة عند إرادة النكاح ، كالأمة القن إذا زال الملك عنها وأريد وطؤها ، ودليل الأصل قول النبي : ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة ) ومقتضى كلام الخرقي أنه يكتفى في استبرائها بحيضة ، وهو المشهور من الروايتين أو الروايات ، والمختار للأصحاب ، لأنه استبراء لزوال الملك عن الرقبة ، فكان حيضة في حق من تحيض ، كسائر استبراء المعتقات والمملوكات ( والرواية الثانية ) تعتد بعد موته بأربعة أشهر وعشر .
2829 لما روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا ، عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر . يعني أم الولد ، رواه أبو داود وابن ماجه وقد ضعف ، قال ابن المنذر : ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص ،
____________________
(2/541)
وقال الميموني : رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو هذا ، ويقول : أين سنة النبي في هذا ؟ وقال : أربعة أشهر وعشراً إنما هي عدة الحرة من النكاح ، وإنما أمة هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية . وقال القاسم بن محمد : سبحان الله ! الله يقول : 19 ( { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً } ) ما هن بأزواج .
وقد أول بعضهم الحديث على أنه إنما جاء في أم الولد بعينها ، كأن أعتقها صاحبها ثم تزوجها ، وحكى أبو محمد عن أبي الخطاب أنه حكى رواية ثالثة أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام ، قال : ولم أجد هذه الرواية في الجامع ، ولا أظنها صحيحة عن أحمد ، قلت : ولم أرها أنا في الهداية ، ووجهها أنها حين الموت أمة ، فكانت عدتها عدة الأمة ، وهذا كله ضعيف ، إذ لا عدة هنا ، إنما هو استبراء والله أعلم .
قال : وإن كانت مؤيسة فبثلاثة أشهر .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، ومختار الخرقي و أبي بكر ، و القاضي و أبي محمد وغيرهم ، لأن المقصود من الاستبراء العلم ببراءة الرحم ، فلا يحصل إلا بذلك ، قال أحمد بن القاسم : قلت لأبي عبد الله : كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة ، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهراً ؟ فقال : إنما قلنا ثلاثة أشهر لأجل الحمل ، فإنه لا يتبين في أقل من ذلك .
2830 وقد سأل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك ، وجمع أهل العلم والقوابل ، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر ، فأعجبه ذلك .
2831 ثم قال : ألا تسمع قول ابن مسعود رضي الله عنه : ( إن النطفة أربعين يوماً ، ثم علقة أربعين يوماً ، ثم مضغة بعد ذلك ) قال أبو عبد الله : فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة ، وهي لحم ، فيتبين حينئذ ( والرواية الثانية ) أنها تستبرأ بشهر ، لأن الله جعل ثلاثة أشهر مكان ثلاث حيض ، فكل شهر مكان حيضة ، وهذه استبراؤها بحيضة ، فمكانها شهر ( وعنه ) ثالثة تستبرأ بشهرين ( وعنه ) رابعة بشهر ونصف ، كما لو كانت مطلقة ، وهذا الحكم لا يختص بأم الولد ، بل يجري في كل مستبرأة آيسة والله أعلم .
قال : وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت تسعة أشهر للحمل ، وشهراً مكان الحيضة .
ش : إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فإنها تقعد تسعة أشهر للحمل ، بلا ريب ، ثم تقعد شهراً للاستبراء عوض الحيضة ، قاله الخرقي ، وتبعه أبو محمد ، مع قولهما إن الآيسة استبراؤها بثلاثة أشهر ، وذلك لأن الاستبراء في الآيسة إنما كان بثلاثة أشهر لتعلم البراءة ، فجعل الشهر مكان الحيضة ، على وفق القياس ، وحكى أبو البركات وغيره فيها رواية أخرى أنها تستبرأ بثلاثة أشهر كالآيسة .
____________________
(2/542)
( تنبيه ) وإن علمت ما رفع الحيض لم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرأ به ، أو تصير آيسة فتستبرأ باستبراء الآيسات والله أعلم .
قال : وإن كانت حاملًا فحتى تضع .
ش : هذا إجماع والحمد لله ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ) وقول النبي : ( لا توطأ حامل حتى تضع ) الحديث . والله أعلم .
قال : وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لم تنكح حتى تحيض حيضة كاملة .
ش : لا يختلف المذهب أن الاستبراء هنا بحيضة ، وذلك لأنها موطوءة وطئاً له حرمة ، فلم يجز أن تتزوج قبل الاستبراء ، كالموطوءة بشبهة ، والمعنى فيه الخوف من اختلاط المياه ، وامتزاج الأنساب المطلوب عدمه شرعاً .
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا لم يكن سيدها يطأها لا يلزمها استبراء ، وهو كذلك ، للأمن من اختلاط المياه وامتزاج الأنساب ، ولو لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد ، وقول الخرقي : حيضة كاملة . يحترز عن قول من يقول إنها إذا طعنت في الحيضة فقد تم استبراؤها ، والحديث نص في رد ذلك والله أعلم .
قال : وكذلك إن أراد أن يزوجها وهي في ملكه استبرأها بحيضة ثم زوجها .
ش : لما تقدم من الخوف من اختلاط المياه ، وامتزاج النسب .
( تنبيه ) فإن لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد والله أعلم .
قال : وإذا ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بحيضة بعد تمام ملكه لها إن كانت ممن تحيض ، أو بوضع الحمل إن كانت حاملًا ، أو بمضي ثلاثة أشهر إن كانت من اللائي يئسن من المحيض ، أو من اللائي لم يحضن .
ش : إذا ملك لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها .
2832 لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه النبي قال في سبي أوطاس : ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ) رواه أحمد وأبو داود .
2833 وعن رويفع بن ثابت رضي الله عنه أن النبي قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره ) رواه أحمد والترمذي ، وأبو داود وزاد : ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها )
____________________
(2/543)
والاستبراء بحيضة إن كانت ممن تحيض ، أو بوضع الحمل إن كانت حاملًا للحديث ، أو بثلاثة أشهر على المشهور من الروايات ، ومختار الخرقي ، وقد تقدم ذلك ، ولا تحل له أيضاً قبلتها بلا خلاف أعلمه في المذهب في الجملة ، حذاراً من أن تكون حاملًا من المنتقلة عنه ، فيكون مستمتعاً بأم ولده غيره ، ولأنه استبراء حرم الوطء ، فحرم القبلة كالعدة .
وقول الخرقي : إذا ملك . يشمل كل ملك ، فيدخل فيه المملوكة بسبي ، فلا يصيبها قبل استبرائها بلا ريب ، وكذا لا يستمتع بها ، وهو إحدى الروايتين ، وزعم أبو محمد أنه الظاهر عن الإمام ، لأنه استبراء حرم الوطء ، فحرم دواعيه كالعدة ( والثانية ) له الاستمتاع بها دون الفرج ، لأن المنع في غيرها للحذر من أن تكون أم ولد للغير ، فيكون مستمتعاً بأم ولد غيره ، وبها جزام ابن البنا والشيرازي ، وملخصه أن من نظر إلى هذا المعنى أباح ، ومن قاس على العدة منع .
2834 وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : وقع في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة ، فما ملكت نفسي أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون ( ويدخل فيه ) أيضاً إذا ملك أمة من مكاتبه ، وهو المذهب ، وبه جزم أبو محمد ، وفيه وجيه أنه لا استبراء ، اكتفاء باستبراء المكاتب ، ( ويدخل ) أيضاً إذا اشترى أمة مزوجة فطلقت ، فإن الاستبراء يجب بعد العدة ، وقيل : لا يجب بل تدخل فيها إذا أوجب الطلاق عدة ، أما إن لم يوجب عدة كالمطلقة قبل الدخول فإن الاستبراء يجب قولًا واحداً ، ( ومما يدخل فيه ) أيضاً إذا باع أمة ثم عادت إليه بإقالة أو فسخ ، حيث قيل بانتقال الملك ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار الشريف و أبي الخطاب ، و الشيرازي وغيرهم ( والرواية الثانية ) لا يجب الاستبراء ، ومحل الخلاف إذا كان العود قبل القبض ، أما إن كان بعد القبض والافتراق فإن الاستبراء يجب بلا خلاف ، هذا إذا كان المشتري رجلًا ، وكذلك إن كان امرأة عند أبي محمد ، وعند أبي البركات إن كانت امرأة جرى فيه الخلاف مطلقاً .
ومفهوم كلامه أنه لا يجب الاستبراء بغير الملك ، وقد قال أحمد في الأقالة توجب الاستبراء ، قال : لأني اعتبر الملك . فأناط الحكم بالملك ، فعلى هذا لو عجزت مكاتبته ، أو فك أمته من الرهن ونحو ذلك ، فلا استبراء عليه لذلك ، نعم يستثنى من ذلك إذا أسلمت أمته المجوسية أو المرتدة ، فإنه يجب عليه استبراؤها على وجه ، والمذهب أنه لا يجب لذلك ، وبه قطع أبو محمد ، ( وقوله ) : أمة . يشمل كل أمة وإن كانت بكراً أو لا تحمل ، أو انتقلت من صغير أو امرأة ، وهوكذلك ، لعموم الحديث ، ويستثنى من ذلك إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها ، فإنه لا يجب استبراؤها على إحدى الروايتين ، لأن الاستبراء يراد لمعرفة براءة الرحم ، ورحم هذه وقع حمل الآيسة ، لأن الإياس قد يخفى ، ثم وقد وقع حمل الآيسة ، كما وقع لامرأة سيدنا إبراهيم ، وهذه
____________________
(2/544)
الرواية اختيار ابن أبي موسى وأبي محمد ، ولا عبرة بقول ابن المنجا أن ظاهر كلامه في المغني ترجيح الوجوب ، فإنه صرح بتصحيح عدم الوجود ، بل لم يستدل على الوجوب بشيء . ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، وابن البنا والشيرازي وغيرهم : يجب ، لعموم الحديث .
وقوله : ولم يقبلها . وفي معنى القبلة الاستمتاع فيما دون الفرج ونحو ذلك ، ( وقوله ) : بعد تمام ملكه لها . يحترز عما إذا ملك بعضها ، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين ملك جميعها ، وأما إذا اشتريت بشرط الخيار ، وقلنا الملك ينتقل ، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين انتهاء الخيار ، لعدم تمام الملك قبله ، وهو أحد الوحهين ، والوجه الثاني وبه جزم أبو محمد يحتسب به من حين انتقال الملك ، إناطة به ، وإن لم يتم ، وقد دخل في كلام الخرقي إذا وجد الاستبراء في يد البائع قبل القبض ، وقد تم الملك ، فإنه يجزئ ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وجماعة من أصحابه ( والثانية ) لا يجزئ إلا بعد القبض ، وعلى هذه فهل يكفي قبض الوكيل ؟ فيه وجهان ، أصحهما الإجزاء ، لأن يده كيد الموكل والله أعلم .
قال : وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة ، والبيتوتة في غير منزلها ، والكحل بالإثمد ، والنقاب ، فإن احتاجت سدلت على وجهها ، كما تفعل المحرمة حتى تنقضي عدتها .
ش : قد تقدم أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة ، وشهران وخمسة أيام إن كانت أمة ، ( فتجتنب ) في مدة ذلك الطيب .
2835 لما روي عن أم عطية رضي الله عنها أن النبي قال : ( لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج ، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً ، ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب ، ولا تكتحل ، ولا تمس طيباً ، إلا أدنى طهرها فإذا طهرت من محيضها بنبذة من قسط وأظفار ) متفق عليه .
2836 وعن زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان ، فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره ، فدهنت منه جارية ، ثم مست بعارضيها ، ثم قالت : والله مالي بالطيب من حاجة ، غير أني سمعت رسول الله يقول : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ) متفق عليه وفي معنى الطيب الإدهان بالأدهان المطيبة ، كدهن الورد ونحوه ، لا غير المطيبة كالزيت ونحوه ، ( وتجتنب ) أيضاً الزينة ، لما تقدم من حديث أم عطية ، ( ولا تلبس ثوباً مصبوغاً ) الحديث .
____________________
(2/545)
2837 وعن أم سلمة زوج النبي ورضي عنها ، عن النبي أنه قال : ( المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ، ولا الممشقة ، ولا الحلي ، ولا تختضب ، ولا تكتحل ) رواه أبو داود والنسائي .
2838 وعن أم حكيم بنت أسيد ، عن أمها أن زوجها توفي عنها وكانت تشتكي عينها فتكتحل بالجلا ، فقالت : لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه ، يشتد عليك ، فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار ، ثم قالت عند ذلك أم سلمة : دخل علي رسول الله حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت علي صبراً ، فقال : ما هذا يا أم سلمة ؟ فقلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب . قال : ( إنه يشب الوجه ، فلا تجعليه إلا بالليل ، وتنزعيه بالنهار ، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحنا ، فإنه خضاب ) قالت : قلت بأي شيء ، أمتشط يا رسول الله ؟ قال : ( بالسدر تغلفين به رأسك ) رواه أبو داود والنسائي . ( والزينة تشمل ) زينة البدن ، كالاختضاب وتحمير الوجه ، وجعل الصبر عليه وتحفيفه ، ونحو ذلك ، لما تقدم في الأحاديث ، وما لم يذكر فيها فبالقياس على ما ذكر ، ولا تمنع مما يراد للتنظيف كالامتشاط بالسدر ، لحديث أم سلمة رضي الله عنها ، وكتقليم الظفر ، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ، ونحو ذلك ، ( وتشمل ) زينة الثياب ، فيحرم عليها المصبوغ من الثياب للتحسين ، كالمعصفر والمزعفر ، والأزرق الصافي والأخضر الصافي ، ونحو ذلك ، لما تقدم من حديث أم سلمة وأم عطية رضي الله عنهما ، ولا تمنع من مصبوغ لم يقصد بصبغه حسنه ، كالكحلي والأخضر المشبع ونحو ذلك ، نظراً للمعنى ، وتخصيصها به ، ولا من غير مصبوغ وإن كان حسناً ، لعدم دخوله في الحديث ، ولأن حسنه من أصل خلقته ، أشبه إذا كانت المرأة حسناء ، فإنه لا يلزمها أن تشوه نفسها ، وفي منعها مما صبغ غزله ثم نسج وجهان ، بناء على تفسير ثوب العصب المستثنى في الحديث ما هو ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، ( وتشمل ) الزينة أيضاً الزينة بالحلي ، كالخلخال والسوار ، حتى الخاتم ، لعموم حديث أم سلمة رضي الله عنها ( ولا الحلي ) انتهى ، ( وتجتنب ) أيضاً الكحل بالأثمد ، وهو نوع من الزينة ، وقد تقدم المنع في الأحاديث منه ، ولا فرق بين السوداء وغيرها ، نظراً للعموم ، نعم إن اضطرت إلى التداوي بذلك جاز ليلًا ، وتمسحه نهاراً ، لما تقدم عن أم سلمة رضي الله عنها ، ولا تمنع من الكحل بالتوتيا أو العنزروت ونحوهما ، لعدم الزينة ، والمنع ملحوظ فيه الزينة ، ( وتجتنب ) أيضاً النقاب ، وكأنه لا نص في ذلك عن أحمد ، لأن كثيراً من الأصحاب عزا ذلك إلى الخرقي ، وذلك لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة ، والمحرمة تمنع من ذلك ، وعلى هذا تمنع مما في معنى ذلك كالبرقع ، ولو احتاجت إلى ما يستر
____________________
(2/546)
وجهها سدلت عليه ، كما تفعل المحرمة ، ( وتجتنب ) أيضاً المبيت في غير منزلها .
2739 لما روي عن الفريعة بنت مالك بن سنان ، وهي أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا ، حتى إذا كانوا بطرف القدوم ، لحقهم فقتلوه ، فسألت رسول الله أن أرجع إلى أهلي ، فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة ، قالت : فقال رسول الله : ( نعم ) قالت : فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني ، أو أمرني فدعيت له فقال : ( ما قلت ) ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، قالت : فقال : ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً ؛ قالت : فلما أن كان عثمان بن عفان رضي الله عنه أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به ، رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وتجب العدة في المنزل الذي مات الزوج وهي ساكنة فيه ، سواء كان مملوكاً لزوجها أو لم يكن ، كحال فريعة ، إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها منه ، بأن يحولها مالكه ، أو تخشى على نفسها هدماً أو غرقاً أو عدواً ونحو ذلك ، فلها أن تنتقل ، لكن هل تنتقل إلى أقرب الأماكن إلى المسكن ، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية ، وأبو البركات ، أو حيث شاءت ، وهو مختار أبي محمد ، وحكاه عن القاضي ، فيه وجهان ، وقد ذكر أبو محمد من صور الأعذار المبيحة للإنتقال إذا لم تجد أجرة المنزل إلا من مالها ، فإن لها الإنتقال ، وذكر هو وغيره أنه لا يجب للمتوفى عنها سكنى إن كانت حائلًا بلا نزاع ، وفيما إذا كانت حاملًا روايتان ، وحاصل قوله وقد صرح به أن الواجب عليها فعل السكنى ، لا تحصيل المسكن ، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه ، فإنه قال : إذا بذل لها المنزل فإنه يلزمها أن تعتد فيه ، ولا يحل لها البيتوتة في غيره ، نص عليه في رواية حنبل ، وفرق بينها وبين المبتوتة في غيره ، وفي ما قالاه نظر ، فإنه يفضي إلى أسقاط العدة في المنزل رأساً ، فإن الورثة إذا لم يبذلوا السكن والمرأة إذا لم تبذل الأجرة سقط الإعتداد في المنزل ، وظاهر الحديث يخالفه ، فإن النبي قال لها : ( امكثي في بيتك ) مع قولها : إنه لم يتركها في مسكن يملكه ولا نفقة ، ولو كان لأمرها بالمكث في بيتها شرط ، وهو بذل الورثة الأجرة ، لبينه ، ثم إن عامة الأصحاب يقولون : لا تخرج عن منزلها إلا لضرورة ووزن الأجرة ليس بضرورة عليها ، ولفظ أحمد في رواية حنبل : لا تبيت المطلقة والمتوفى عنها إلا في منزلهما يذهبان بالنهار ، فإذا كان الليل أتيا المنزل الذي أدركهما فيه الوفاة ، والطلاق أسهل ، وهذا النص أيضاً على وفق الحديث ، والذي يظهر لي أنها يجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت على ذلك ، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
____________________
(2/547)
وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب الخروج نهاراً ، وهو كذلك ، نص عليه أحمد كما تقدم والأصحاب ، دفعا للحرج والمشقة ، إذ الحاجة قد تدعو إلى ذلك .
2840 وقد روى جابر رضي الله عنه قال : طُلِقَت خالتي ثلاثاً ، فخرجت تجذ نخلها ، فلقيها رجل فنهاها ، فذكرت ذلك للنبي ، فقال : ( اخرجي فجذي نخلك ، لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيراً ) رواه النسائي وأبو داود ، لكن اشترط كثير من الأصحاب لخروجها في النهار الحاجة ، وأحمد وجماعة لم يشترطوا ذلك ، فلا حاجة في التحقيق إلى اشتراطه ، لأن المرأة وإن لم يكن متوفى عنها تمنع من خروجها من بيتها لغير حاجة مطلقاً ، وقوله : وتجتنب الزوجة . يخرج منه غير الزوجة كأم الولد ونحوها ، فإنه لا إحداد عليها ، ويدخل فيه كل زوجة ، وإن كانت ذمية أو غير مكلفة ، وهو كذلك ، والمخاطب بتحصيل الإحداد على غير المكلف هو الولي .
( تنبيه ) الإحداد المنع ، فالمرأة تمنع نفسها مما كانت تتهيأ به لزوجها ، من تطيب وتزين ، فقول النبي : ( لا تحد المرأة ) وقوله بعد : ( ولا تلبس ثوباً مصبوغاً ) إلى آخره ، عطف تفسيري للإحداد ، يقال : أحدث المرأة إحداداً فهي محد ، وحدت تحد وتحد ، بالضم والكسر ، فهي حاد ، وسمي الحديد حديداً لامتناعه به ، أو لامتناعه على من يحاوله ، و ( العصب ) برود يمينة يعصب غزلها ، أي يجمع ويشد ، ثم يصبغ بعد ذلك وتنسج ، فيأتي مَوْشِياً لبقاً ، ما عصب منه أبيض ، لم يأخذ الصبغ ، هذا تفسير المنذريس ، و القاضي من أصحابنا وغيرهما ، ولهذا أباح القاضي ما صبغ غزله ثم نسج للتحسين ، نظراً للمعنى ، ( والنبذة ) القطعة من الشي ( والقسط ) العود الذي يتبخر به ، وقيل هو طيب غيره ، ويقال بالقاف والكاف ( والأظفار ) جنس من الطيب ، لا واحد له من لفظه ، وقيل واحدة ظفر ، وروي : ( قسط وأظفار ) على العطف ، وروي : أو أظفار ، على الإباحة والتسوية ، ورخص في ذلك لأجل قطع الرائحة الكريهة ، لا على معنى التطيب ( والممشقة ) من الثياب المصبوغة بالمشق ، بكسر الميم وفتحها ، وهو المغرة بفتح الميم ( وكحل الجلا ) هو الإثمد ، وحكى فيه كسر الجيم وفتحها ، والمد والقصر ( والصبر ) معروف الدواء المر ( ويشب الوجه ) أي يوقد اللون ويحسنه ، من قولهم شببت النار ؛ إذ أوقدتها ( وتغلفين ) أي تلطخين ، و ( خدرة ) بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة ، بطن من الأنصار ، ( والقدوم ) بفتح القاف وضم الدال المهملة موضع على ستة أميال من المدينة ، ويشدد ويخفف .
قال : والمطلقة ثلاثاً تتوقى الطيب والزينة والكحل بالإثمد .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار الخرقي والقاضي ، وعامة أصحابه ، لأنها معتدة ، بائن من نكاح ، فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها ، ولأن العدة تحرم النكاح ،
____________________
(2/548)
فحرمت دواعيه ، كالإحرام والصيام ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر في الخلاف وابن شهاب : لا يحرم عليها شيء من ذلك ، لعموم الحديث ، فإنه دل على أن كل امرأة لا تحد إلا امرأة توفي عنها زوجها .
وقول الخرقي : المطلقة ثلاثاً : تخرج منه الرجعية ، لأنها زوجة ، ويلحق بالمطلقة ثلاثاً كل بائن ، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب النقاب ، وصرح بذلك أبو محمد في الكتاب الكبير ؛ وظاهر كلامه في كتابه الصغير ، وكذلك أبو البركات منعها من ذلك ، وظاهر كلام الخرقي أيضاً أنه لا يجب عليها البيتوتة في منزل الطلاق ، وهوأشهر الروايتين ، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب ، القاضي وأبي محمد وغيرهما .
2841 لأن النبي أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم . وحكي عنه أنها كالمتوفى عنها ، وعلى الأول هل لها البيتوتة عن المنزل الذي تكون فيه ، والسفر عن البلد ؟ فيه روايتان ، أنصهما : نعم ، وهذا كله إذا لم يمنعها المطلق من ذلك ، فأما إن أراد إسكانها في موضع يصلح لها ، ولا محذور فيه ، تحصيناً لفراشه ، لزمها ذلك .
قال : وإذا خرجت للحج فتوفي زوجها وهي بالقرب ، رجعت لتقضي العدة ، وإن كانت قد تباعدت مضت في سفرها .
ش : إذا سافرت المرأة إلى الحج ، ثم توفي عنها زوجها ، فلا يخلو إما أن تكون قريبة أو بعيدة ، فإن كانت قريبة لزمها العود ، لتأتي بالعدة في المنزل الذي وجبت فيه ، لأن القريبة في حكم المقيمة .
2842 وقد روى سعيد بن منصور : ثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد ابن المسيب قال : توفي أزواج نساءوهن حاجات أو معتمرات ، فردهن عمر رضي الله عنه من ذي الحليفة ، حتى يعتددن . وكلام الخرقي يشمل ما إذا أمكنها مع الرجوع الإتيان بالحج ، وما إذا لم يمكن ، ولا نزاع في ذلك مع الإمكان ، اللهم إلا إذا لحقها في الرجوع ضرر ، فإنها تمضي ، كما لو تباعدت ، وإن لم يمكن فهل ( تقدم العدة ) وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب ويعقوب بن بختان ، لعموم قول النبي لفريعة : ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) وهذه في حكم المقيمة في البيت ، ( أو الحج ) إن كانت قد أحرمت به قبل العدة ، وهو اختيار القاضي ، لمزيته بالسبق ، ولعموم : 19 ( { وأتموا الحج والعمرة لله } ) ؟ على روايتين ، فعلى الأول تتحلل لفوات الحج بعمرة كالمحصرة ، وإن كانت بعيدة مضت في سفرها ، لأنها تحتاج إلى سفر في رجوعها ، فأشبهت من بلغت مقصدها .
وظاهر كلام الخرقي أن مضيها على سبيل الوجوب ، وجعله أبو محمد على سبيل الجواز إن وصلت إلى منزلها قبل انقضاء عدتها ، وفصل أبو البركات فقال : إن أمكنها
____________________
(2/549)
الرجوع لقضاء العدة ، ثم الإتيان بالحج خيرت ، وإن لم يمكنها قدمت الحج ، فخصص إطلاق الخرقي .
( تنبيه ) حد القريب ما لا تقصر فيه الصلاة ، والبعيد عكسه قاله القاضي .
قال : فإن رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها أتت به في منزلها .
ش : يعني إذا مضت في الحج ثم رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها ، فإنها تأتي به في منزلها ، لقول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
قال : ولو توفي عنها زوجها أو طلقها وهو ناء عنها ، فعدتها من يوم مات أو طلق ، إذا صح ذلك عندها ، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، نظراً إلى أن العدة سببها ذلك ، والمسبب يتعقب السبب ، ولأن غاية ما فات القصد ، وهو غير معتبر في العدة ، بدليل الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتها من غير قصد ، ولأنها لو وضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لانقضت عدتها ، فكذلك سائر أنواع العدة ( والرواية الثانية ) إن ثبت ذلك ببينة فكذلك لتحقق السبب ، وإلا فعدتها من يوم بلغها الخبر ، لعدم تعلق الحكم بها قبل ذلك ، وقوله : إذا صح ذلك عندها . لأنه إذا لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة . لأن العدة مرور زمن ، وقد وجد ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(2/550)
( كتاب الرضاع )
ش : الرضاع مص الثدي ، بفتح الراء وكسرها ، مصدر رضع الصبي الثدي ، بكسر الضاد وفتحها ، يرضع ويرضع بالفتح مع الكسر ، والكسر مع الفتح ، والرضاع محرم بالإجماع ، وسنده قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } ) وقول النبي : ( إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ) وقد تقدم ذلك .
قال : والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون خمس رضعات فصاعداً .
ش : اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في القدر الذي يتعلق به التحريم من الرضاع ، فروي عنه أنه لا حد لذلك ، بل قليل الرضاع وكثيره سواء ، اعتماداً على إطلاق قوله تعالى : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ، وأخواتكم من الرضاعة } ) وقول النبي : ( إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة ) ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
2843 وعن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب ، فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما . فذكرت ذلك للنبي فأعرض عني ، قال فتنحيت فذكرت ذلك للنبي فقال : ( وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما ) متفق عليه ، وبهذا استدل أحمد ( وروي عنه ) أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات .
2844 اعتماداً على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال : ( لا تحرم المصة والمصتان ) رواه مسلم وغيره .
2845 وعن أم الفضل رضي الله عنها أن رجلًا سأل النبي أتحرم المصة ؟ فقال : ( لا تحرم الرضعة والرضعتان ، والمصة والمصتان ) وفي لفظ : ( لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ) رواهما مسلم .
2846 وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لا تحرم من الرضاعة المصة والمصتان ) رواه أحمد والنسائي والترمذي ، ومفهوم ذلك أن
____________________
(2/551)
الثلاث تحرم ، ثم إطلاق ما تقدم يقتضي التحريم مطلقاً ، خرج منه الرضعة والرضعتان بالنص ، فما عداهما يبقى على مقتضى الإطلاق ( وروي عنه ) وهن مختار أصحابه متقدميهم ومتأخريهم أن التحريم لا يثبت إلا بخمس رضعات .
2847 لما روت عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان فيما أنزل من القرآن ( عشر رضعات معلومات يحرمن ) ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله وهن فيما يقرأ من القرآن . رواه مسلم وأبو داود والنسائي .
2948 وفي لفظ : قالت : أنزل في القرآن ( عشر رضعات معلومات ) فنسخ من ذلك خمس ، وصارت إلى خمس رضعات معلومات ، فتوفي رسول الله والأمر على ذلك ، رواه الترمذي .
2849 وعن عائشة رضي الله عنهاأن رسول الله أمر امرأة أبي حذيفة فأرضعت سالماً خمس رضعات ، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، رواه أحمد ولو تعلق التحريم بدون الخمس لم يكن لذكر الخمس معنى ، ولكان النبي أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالماً ثلاثاً ، وهذا يقضي على إطلاق ما تقدم ، وكذا على مفهومه ، إذ غايته عموم ، فعلى الأولى لا كلام ، وعلى الثانية والثالثة متى امتص من الثدي ثم تركه فذلك رضعة بكل حال ، وعن ابن حامد إذا ترك بغير اختياره ثم عاد عن قرب فهما رضعة .
قال : والسعوط كالرضاع .
ش : أصل السعوط صب الدواء في الأنف ، والمراد هنا صب اللبن ، ومختار الخرقي والقاضي وأصحابه ، وأبي محمد وغيرهم ثبوت التحريم به ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، لحصول المعنى الحاصل بالرضاع منه ، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم .
2850 ويدل على التكليف على هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله عنه : لا رضاع إلا ما شد العظم ، وأنبت اللحم وفي رواية : وأنشز العظم . رواه أبو داود ( والرواية الثانية ) لا يثبت التحريم به ، اختارها أبو بكر ، نظراً إلى أن هذا ليس برضاع ، والتحريم إنما حصل بالرضاع .
قال : وكذلك الوجور .
ش : أصل الوجور وضع الدواء في الفم ، وقال الجوهري : في وسط الفم ؛ والمراد هنا صب اللبن في الفم من غير الثدي ، والكلام فيه كالكلام في السعوط نقلًا
____________________
(2/552)
ودليلًا ، والنص عن أحمد ورد فيه ، وقوله : كالرضاع . في أنه يعطى حكمه ، ومن ذلك أنه لا يحرم إلا خمس رضعات ، فكذلك هنا لا يحرم إلا خمس مصات .
قال : واللبن المشوب كالمحض .
ش : المشوب هو المخلوط بغيره ، عكس المحض وهوالخالص ، ومختار الخرقي ، و القاضي و الشريف ، و الشيرازي والشيخين ثبوت التحريم به لحصول إنبات اللحم ، وإنشاز العظم منه ، وقال ابن حامد واختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير الحكم لأغلبهما ، إذ غير الغالب في حكم العدم ، وهذان القولان بناء على القول بالتحريم بالوجور ، كذلك صرح به القاضي في تعليقه ، وأبو البركات ، ومن ثم قال أبو بكر : قياس قول أحمد أنه لا يحرم ، لأنه وجور ، ثم أبو محمد يقول : الخلاف فيما إذا كانت صفات اللبن باقية ، أما إن ذهبت كأن كان يصب في ما لم يتغير به فلا تحريم ، لانتفاء الرضاع ومعناه ، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم به ، وعن القاضي وهو ظاهر كلامه في التعليق جريان الخلاف فيه ، إناطة بحصول اللبن في البطن .
قال : ويحرم لبن الميتة ، كما يحرم لبن الحي .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية إبراهيم الحربي ، واختيار أبي بكر ، والقاضي وأصحابه ، لحصول الرضاع على وجه يحصل به الإنبات والإنشاز .
2851 وقد قال أحمد : إن عمر رضي الله عنه قال : إن اللبن لا يموت ، واختار الخلال أن التحريم لا يحصل به ، وسئل أحمد في رواية مهنا عن صبي رضع من ثدي امرأة ميتة ، هل يكون رضاعاً ؟ فتوقف وقال : إلا أن عمر قال : إن اللبن لا يموت . وهذا يدل على أن المرجح عنده مع توقفه ثبوت التحريم به ، وكأن الخلال رحمه الله نظر إلى أن هذه ليست بمحل الولادة ، فأشبهت الرجل .
قال : وإذا حبلت ممن يلحق نسب ولدها به فثاب لها لبن ، فأرضعت به طفلًا خمس رضعات متفرقات في حولين ، حرمت عليه وبناتها من أبي هذا الحمل ومن غيره ، وبنات أبي هذا الحمل منها ومن غيرها ، فإن أرضعت صبية فقد صارت ابنة لها ولزوجها ، لأن اللبن من الحمل الذي هو منه .
ش : أما تحريم المرضعة المذكورة على الطفل فبنص الكتاب ، قال سبحانه : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ) وأما تحريم بناتها على الطفل من أبي الحمل ومن غيره ، فلأنهن أخواته ، وقد قال سبحانه : 19 ( { وأخوانكم من الرضاعة } ) وأما تحريم بنأات بي هذا الحمل من المرضعة ومن غيرها عليه ، فبناء على أن الحرمة تنتشر من قبل الرجل ، كما تنتشر من قبل المرأة ، وقد تقدمت هذه المسألة في قوله : ولبن الفحل محرم . وأما صيرورة الصبية المرضعة منها بنتاً لها فإجماع .
2852 وقد دل عليه قول النبي : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من
____________________
(2/553)
النسب ) وأما صيرورة المرضعة بنتاً لزوج المرضعة ، فلما علل به الخرقي ، من أن اللبن من الحمل الذي هو منه ، وهو يلتفت إلى ما تقدم من لبن الفحل محرم ، وقول الخرقي : وإذا حبلت . يحترز مما إذا ثاب اللبن من غير حمل ، فإنه لا ينشر الحرمة ، وهو المنصوص والمختار للقاضي وعامة أصحابه من الروايتين ، لأنه لبن لم تجر العادة به لتغذية الطفل ، أشبه لبن الرجل ، وحكي عن أحمد رواية أخرى أنه ينشر الحرمة ، وصححها أبو محمد في الكتاب الكبير ، ولم يثبتها في الصغير ، بل قال : الظاهر أنها قول ابن حامد . وهي مشعرة بظاهر إطلاق 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ) وقول الخرقي : ممن يلحق نسب ولدها به . يحترز به عمن لم يلحقه النسب ، كالزاني والملاعن ، فإن الحرمة لا تنتشر إليهما ، وهو قول ابن حامد ، إذ التحريم فرع لحرمة الأبوة ، وحرمة الأبوة لم تثبت ، فكذلك ما هو فرع لها ، واختار أبو بكر أن الحرمة تنتشر إليهم ، إذ هو رضاع نشر الحرمة إلى المرضعة ، فنشرها إلى الواطئ لضرورة الإتفاق ، وفي المذهب ( قول ثالث ) تنتشر الحرمة إلى الزاني ، لأنه ولده ظاهراً ، دون الملاعن ، لانتفائه عنه ظاهراً وحكماً ، وقوله : فثاب لها لبن . أي اجتمع .
وقوله : فأرضعت به طفلًا خمس رضعات ، بناء على مختاره من أن التحريم إنما يتعلق بالخمس ، وقوله : متفرقات . بناء على أنه لا بد من عدد الرضعات ، وأنه لا يكتفى بالمص من غير مفارقة الثدي ، وهو المشهور ، وعن ابن أبي موسى : حد الرضعة أن يمتص ثم يمسك عن الإمتصاص لنفس أو غيره ، سواء خرج الثدي من فيه ، أو لم يخرج ، وكلام الخرقي يقتضي أنه متى وجد التفرق كفى ، وإن كان بغير اختياره ، وقد تقدم ذلك وقوله : في حولين . يحترز به عما بعد الحولين ، فإنه لا يؤثر ، ولا ريب في ذلك عندنا .
2853 لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي النبي ، وعندي رجل ، فقال : ( يا عائشة من هذا ؟ فقلت : أخي من الرضاعة ، فقال : ( يا عائشة انظرن من إخوانكن ، فإنما الرضاعة من المجاعة ) متفق عليه .
2854 وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( لا يحرم الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، وكان قبل الفطام ) رواه الترمذي وصححه .
2855 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لا رضاع إلا ما فارق الحولين ) رواه الدارقطني .
2856 وعن ابن مسعود رضي الله عنه : لا رضاعة إلا ما كان في الحولين .
____________________
(2/554)
رواه أبو داود .
2857 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لا رضاعة لكبير .
2858 وعن ابن عمر رضي الله عنهما : لا رضاعة إلا لمن أرضع في الصغر . رواهما مالك في الموطأ .
2859 وبهذا يتخصص ما روي عن زينب بنت أم سلمة رضي الله عنهما ، قالت : قالت أم سلمة لعائشة رضي الله عنهما : إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي . فقالت عائشة رضي الله عنها : أمالك في رسول الله أسوة حسنة ، وقالت : إن امرأة أبي حذيفة قالت : يا رسول الله إن سالماً يدخل على وهو رجل ، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء ؛ فقال رسول الله : ( أرضعيه حتى يدخل عليك ) رواه أحمد ومسلم ، وفي رواية عن زينب ، عن أمها أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : أبى سائر أزواج رسول الله أن يدخلن أحداً عليهن بتلك الرضاعة ، وقلن لعائشة رضي الله عنها : ما نرى هذا إلا رخصة رسول الله لسالم خاصة ، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا . رواه أحمد ومسلم والنسائي .
( تنبيه ) : الأيفع .
قال : ولو طلق الرجل زوجته ثلاثاً وهي ترضع من لبن ولده ، فتزوجت بصبي مرضع فأرضعته حرمت عليه ، ثم تزوجت بآخر ودخل بها ، وطلقها أو مات عنها ، لم يجز أن يتزوجها الأول ، لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به .
ش : أما تحريم المرضعة على الصبي المرضع فلأنها صارت أمه ، فدخلت في قوله تعالى : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } ) وأما امتناع تزويج الأول لها فلما علل به الخرقي ، من أنها صارت من حلائل أبنائه ، لأن المرضع ابن له لما تقدم ، والمرضعة زوجته ، فهي من زوجات أبنائه ، وقيود الخرقي رحمه الله واضحه .
قال : ولو تزوج كبيرة وصغيرة ، فلم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الصغيرة في الحولين ، حرمت عليه الكبيرة ، وثبت نكاح الصغيرة .
ش : أما تحريم الكبيرة فلأنها بإرضاعه صارت من أمهات نسائه ، وأمهات النساء يحرمن بمجرد العقد ، وأما ثبوت نكاح الصغيرة ، فلأنها قد صارت ربيبة ، ولم يدخل
____________________
(2/555)
بأمها فلا تحرم ، لقوله سبحانه : 19 ( { فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم } ) وهذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار الخرقي وابن عقيل وغيرهما ( والرواية الثانية ) ينفسخ نكاح الصغيرة أيضاً ، لأنهما قد صارتا أما وبنتا واجتمعاً في نكاحه ، ولا ريب أن الجمع بينهما محرم ، فينفسخ نكاحهما ، كما لو عقد عليهما بعد الرضاع جملة ، وأجيب عن هذا بأن إزالة الجمع ممكن بانفساخ نكاح الكبيرة ، وهو أولى به لتحريمها بمجرد العقد ، بخلاف البنت فإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم ، والدوام يغتفر فيه ما لا يغتفر في الإبتداء .
قال : وإن كان دخل بالكبيرة حرمتا عليه جميعاً .
ش : الكبيرة لأنها صارت من أمهات نسائه ، والصغيرة فلأنها صارت ربيبة مدخولًا بأمها .
قال : ويرجع بنصف مهر الصغيرة على الكبيرة .
ش : لأن الكبيرة قررته عليه ، وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته ، فوجب عليها الضمان كا لو أتلفت عليه المبيع ، وقد تضمن كلام الخرقي أن عليه نصف مهر الصغيرة ، وهو كذلك ، لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها ، فتنصف مهرها ، وفي كلامه أو لا إشعار بأن الكبيرة الغير مدخول بها لا مهر لها ، وهو واضح ، إذ الفسخ لسبب من جهتها ، أشبه ما لو ارتدت .
قال : وإذا تزوج بكبيرة لم يدخل بها ، وبصغيرتين فأرضعت الكبيرة الصغيرتين ، حرمت الكبيرة ، وانفسخ نكاح الصغيرتين ، ولا مهر للكبيرة ، ويرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين ، ولا مهر للكبيرة ، ويرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين ، وله أن ينكح من شاء منهما .
ش : أما تحريم الكبيرة فلأنها صارت من أمهات نسائه ، فشملها قوله سبحانه : 19 ( { وأمهات نسائكم } ) وأما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما قد صارتا أختين ، وقد اجتمعتا في نكاحه ، فينفسخ نكاحهما ، إذ ليست إحداهما بأولى بالبطلان من الأخرى ، فأشبه ما لو عقد عليهما ابتداء ، وهذا بناء على ما تقدم من مختاره ، من أنه إذا أرضعت كبيرة وصغيرة أنه لا بنفسخ نكاح الصغيرة ، وإذاً إذا ارتضعت الثانية قد صارتا أختين ، فينفسخ نكاحهما ، أما على الرواية الثانية فإن الصغيرة إذا انفسخ نكاحها مع الكبرى ، فالصغيرة الثانية إذا ارتضعت لم يوجد ما يجمع معها ، فيبقى نكاحها ، وأما كونه لا مهر للكبيرة فلأن الفسخ جاء من جهتها ، وأما كونه يرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين فلما تقدم من أنها قررت ذلك عليه ، وألزمته له .
قال وإن كن الأصاغر ثلاثاً ، فأرضعتهن متفرقات ، حرمت الكبيرة ، وانفسخ نكاح المرضعتين أولًا ، وثبت نكاح آخرهن رضاعا .
ش : إذا كن الأصاغر ثلاثاً ، فأرضعتهن الكبيرة متفرقات ، حرمت الكبيرة لما تقدم ، وانفسخ نكاح المرضعتين أولًا ، لما تقدم من أنهما قد صارتا أختين ، وقد جمع
____________________
(2/556)
بينهما في النكاح ، فيبطل نكاحهما ، ويثبت نكاح الأخرى ، لأنها لم توجد ما يجمع معه ، وهذا أيضاً مبني على ما تقدم أما علي الرواية الأخرى فإنه ينفسخ نكاح الجميع ، نكاح الأولى مع الأم ، ونكاح الثانية والثالثة لأنهما قد صارتا أختين .
قال : وإن كانت أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعد ذلك معاً ، حرمت الكبيرة ، وانفسخ نكاح الأصاغر .
ش : أما تحريم الكبير فواضح ، وقد تقدم وأما انفساخ نكاح الأصاغر فلأنه قد صار جامعاً بين ثلاث أخوات ، لأن الأولى لم ينفسخ نكاحها ، فلما أرضعت الاثنتين بعد ذلك حصل الجمع بين الجميع ، واعلم أن انفساخ نكاح الأصاغر على الروايتين ، أما على المذهب فقد تقدم ، وأما على الرواية الأخرى فلأن الأولى ينفسخ نكاحها نكاحها مع الكبرى ، والأخريين ينفسخ نكاحهما ، لأنه قد صار جامعاً بينهما ، غايته أن وقت الفسخ يختلف .
فعلى الأولى : ينفسخ نكاح الجميع في حالة واحدة ، وعلى الثانية : ينفسخ نكاح الأولى مع الكبيرة ، ويتأخر فسخ نكاح الأخريين إلى حين الإِرضاع .
قال : ولو كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد .
ش : أما تحريم الكبيرة فلما تقدم ، وأما تحريم الأصاغر فلأنهن ربائب ، مدخول بأمهاتهن فيحرمن .
قال : وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إن كانت مرضية ، وقد قال أبو عبد الله في موضع آخر : إن كانت مرضية استحلفت ، فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها ، وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما .
ش : شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع ، على المذهب المشهور .
2860 لما روي عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب ، فجاءت أمة سوداء فقالت : قد أرضعتكما . قال : فذكرت ذلك للنبي فأعرض عني ، قال : فتنحيت فذكرت ذلك له ، فقال : ( كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما ) فنهاه عنها ، أخرجه البخاري وغيره ، وللنسائي قال : فأعرض عنه ، فأتيته من قبل وجهه ، قلت : إنها كاذبة . قال : ( كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما ، دعها عنك ) .
2861 وقال الزهري : فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان رضي الله عنه بشهادة امرأة في الرضاع .
2862 وقال لشعبي : كانت القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع ( وعن أحمد ) رواية ثانية : لا يقبل إلا بشهادة امرأتين لأن الرجال
____________________
(2/557)
أكمل من النساء ولا يقبل إلا بشهادة رجلين مكذلك لا يقبل إلا بشهادة امرأتين ( وعنه ) ثالثة تقبل شهادة المرأة الواحدة ، وتستحلف مع شهادتها .
2863 اعتماداً على قول ابن عباس رضي الله عنهما فإنه قال في امرأة زعمت أنهاأرضعت رجلًا وأهله ، فقال : إن كانت مرضية استحلفت ، وفارق امرأته ، وقال : إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها . يعني يصيبها فيهما برص ، عقوبة على كذبها ، نسأل الله العافية من ذلك ، والظاهر أنه لا يقول مثل هذا إلا عن توقيف ، وعلى كل حال فلا يقبل إلا شهادة مرضية ، إذ غيرها يدخل في قوله تعالى : 19 ( { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } ) الآية .
قال : وإذا تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول : هي أختي من الرضاع ، انفسخ النكاح .
ش : لأن إقراره يتضمن ذلك ، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده ، وإنما ذكر الخرقي قبل الدخول لما يذكره من المهر ، وكلام الخرقي يشمل ما إذا كانت معروفة النسب ، وصرح بذلك القاضي في ضمن كلامه في التعليق .
قال : فإن صدقته فلا مهر لها ، وإن كذبته فلها نصف المهر .
ش : إذا قال قبل الدخول : هي أختي من الرضاعة . فإن صدقته فلا مهر لها لإِقرارها بفساد نكاحها من أصله . ولا مهر في النكاح الفاسد قبل الدخول ، وإن أكذبته فلها نصف المهر ، لأن حقها ثبت بالعقد ظاهراً ، ودعوى الزوج بعد ذلك إسقاطه دعوى مجردة فلا تسمع .
قال : ولو كانت المرأة هي التي قالت : هو أخي من الرضاعة . فأكذبها ، ولم تأتِ بالبينة على ما وصفت ، فهي زوجته في الحكم .
ش : أما كون المرأة زوجته في الحكم إذا قالت : هو أخي من الرضاعة . فأكذبها ولا بينة لها ، فلإن بقاء النكاح من حقوق الزوج ، ودعوى المرأة زواله دعوى مجردة فلا تسمع ، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا صدقها انفسخ النكاح ، وهو كذلك للإتفاق على ما يقتضي الفسخ ، ومقتضى كلامه أنها متى أقامت البينة على ما ادعته كان القول قولها ، وهو واضح ، إذ البينة تبين الحق وتوضحه .
(
____________________
(2/558)
كتاب النفقات )
قال : وعلى الزوج نفقة زوجته ما لا غنى لها عنه وكسوتها .
ش : نفقة الزوجة واجبة في الجملة بالإجماع ، وسنده قوله سبحانه وتعالى : 9 ( { قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم ، وما ملكت أيمانهم } ) ، وقول الله تعالى : 9 ( { لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } ) الآية .
2864 وعن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل ، أن رسول الله ى خطب الناس فقال : ( اتقوا الله في النساء ، فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) رواه مسلم وغيره .
2865 وفي حديث هند الصحيح أن رسول الله قال لها : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) ، إذا تقرر هذا فقول الخرقي : إن الواجب على الزوج من النفقة ما لا غنى لها عنه وكسوتها ، أي شيئاً لا يستغنى عنه ، ومعناه ما لا بدّ لها منه ، فظاهر هذا أن الواجب عليه هو أقل الكفاية ، فكأنه اعتبر حال الزوج ، وقد صرح بذلك أبو بكر في التنبيه فقال : إنها على قدر يسار الزوج وإعساره ، على اجتهاد الحاكم ، وأومأ إليه أحمد في رواية أحمد بن سعيد ، فقال : أما نفقة خادم واحد فلا بدّ منه ، وهو على قدر اليسار ؛ وقال في رواية أبي طالب : إذا وجد ما يطعمها رغيفين ثلاثة ، يعني لم تملك الفسخ ، وذلك لظاهر قول الله تعالى : 9 ( { لينفق ذو سعة من سعته } ) إلى قوله : 9 ( { لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً } ) .
2866 وعن معاوية القشيري قال : أتيت النبيّ قال : فقلت : ما تقول في نسائنا ؟ قال : ( أطعموهن مما تأكلون ، واكسوهن مما تلبسون ، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن ) رواه أبو داود . وأومأ في رواية أبي صالح أن الاعتبار بحالها ، فقال : إذا غاب عن زوجته يضرب لها في ماله بقدر نفقة مثلها ؛ وذلك لحديث هند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) ، وهو قضية عين ، وقد جمع القاضي في تعليقه بين كلام
____________________
(2/559)
أحمد ، وجعل الاعتبار بحال الزوجين ، فيفرض للموسرة تحت الموسر نفقة الموسرين ، وللفقيرة تحت الفقير نفقة للفقراء ، وللمتوسطة تحت المتوسط أو إذا كان أحدهما موسراً ، والآخر معسراً نفقة المتوسطين ، وتبعه فيما علمت من بعده على ذلك ، جمعاً بين الدليلين .
قال : فإن منعها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدار حاجتها بالمعروف ، كما قال النبي لهند ، حين قالت : إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي ، فقال : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وهو ما إذا منعها الواجب عليه أو بعضه ودليله ، وهو حديث هند الذي في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، أن هنداً رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي ، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم ، فقال : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) ، وهو صريح في أن لها أن تأخذ بغير إذنه ، والحكم للواحد حكم لغيره ، إما بطريق عرف الشرع كما نقوله ، أو بالقياس كما يقوله الأكثرون ، وكأن المعنى في ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك ، إذ النفقة تجب كل يوم ، فالمرافعة إلى الحاكم تشق أو تتعذر ، فجوز الشرع أخذ الكفاية بالمعروف ، دفعاً للحرج والمشقة .
قال : فإن منعها أو بعضه ولم تجد ما تأخذ منه ، واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما .
ش : ظاهر هذا الكلام أنه منعها مع قدرته على الإنفاق ، ولم تجد له مالاً تأخذ منه ، ومختار أبي الخطاب في هدايته ، وأبي محمد أن لها الفسخ والحال هذه ، كما اقتضاه كلام المصنف ، لأن الإنفاق عليها من ماله متعذر ، فكان لها الفسخ كحال الإعسار ، بل أولى ، إذ لا عذر هنا ، بخلاف ثم .
2867 وقال ابن المنذر : ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم ، فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا ، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى . واختار القاضي أنها لا تملك الفسخ والحال هذه ، لأن الفسخ ثم لعيب الإعسار ولم يوجد ، ولأن الموسر الممتنع في مظنة إمكان الأخذ من ماله ، بخلاف المعسر ، ويأخذ من عموم كلام الخرقي أو من تنبيهه أنها إذا لم يجد ما ينفق عليها أصلاً أن لها الفسخ ، وهو المنصوص والمشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب ، لما تقدم عن عمر ، ولقول الله سبحانه : 19 ( { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ) ، وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكاً بمعروف ، فيتعين التسريح .
2868 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال : ( خير الصدقة ما كان ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وابدأ بمن تعول ) فققيل : من أعول يا
____________________
(2/560)
رسول الله ؟ قال : ( امرأتك ممن تعول ، تقول : أطعمني وإلا فارقني . جاريتك تقول : أطعمني واستعملني . ولدك يقول : إلى من تتركني ) رواه أحمد والدارقطني . قال أبو البركات : بإسناد صحيح .
2869 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً ، عن النبيّ في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته ، قال : ( يفرق بينهما ) رواه الدارقطني .
2870 وروى سعيد عن سفيان ، عن أبي الزناد ، قال : سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على زوجته أيفرق بينهما ؟ قال : نعم . قلت : سنة ؟ قال : سنة . وهذا ينصرف إلى سنّة رسول الله ، ( ونقل عنه ) ابن منصور ما يدل على أنها لا تملك الفسخ بالإعسار ، ما لم يوجد منه غرور ، فقال : إذا تزوج امرأة وهو مفلس ، ولم تعلم المرأة لا يفرق بينهما ، إلا أن يكون قال لها : عندي من العروض والأموال ؛ وغرّها من نفسها ، إلا أن القاضي حمل هذا على الإفلاس بالصداق ، وبالجملة قد قيل في وجه ذلك : إنه حق لها عليه ، فلم يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين ، وعلى هذه الرواية ترفع يده عنها لتكتسب ما تقتات به .
قال : ويجبر الرجل على نفقة والديه ، وولده الذكور والإناث ، إذا كانوا فقراء ، وكان له ما ينفق عليهم .
ش : أما كون الرجل يجبر على نفقة والديه ، وولده الذكور والإناث ، فليأت بالواجب ، وبيان الوجوب أما في حق الوالدين فلقول الله تعالى : 19 ( { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وبالوالدين إحساناً } ) ومن الإحسان لهما الإنفاق عليهما عند حاجتهما إلى ذلك .
2871 وعن كليب بن منفعة عن جدّه رضي الله عنهم ، أنه أتى النبيّ فقال : يا رسول الله من أبر ؟ قال : ( أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ومولاك الذي يلي ذاك ، حق واجب ، ورحم موصولة ) رواه أبو داود ، وأما في حق الأولاد فلقول الله سبحانه : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ) وقال : 19 ( { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ) وحديث هند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) مع أن هذا إجماع في المسألتين في الجملة ، حكاه ابن المنذر فقال : أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال ، واجبة في مال الولد ، وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال ، الذين لا مال لهم .
____________________
(2/561)
ويدخل في كلام الخرقي في الوالدين الأجداد والجدات وإن علوا ، وفي الولد ولد الولد وإن سفل ، وهو كذلك ، بدليل قوله سبحانه : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } ) دخل فيه ولد البنين ، وقال سبحانه : 19 ( { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } ) يدخل فيه الأجداد ، وقال تعالى : 19 ( { ملة أبيكم إبراهيم } ) واشترط الخرقي رحمه الله لوجوب النفقة على من تقدم شرطين ( أحدهما ) أن يكون المنفق عليهم فقراء أي لا مال لهم ، ولا كسب يقوم بكفايتهم ، إذ النفقة تجب على سبيل المواساة ، والغني مستغن عن المواساة ، ( الثاني ) أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم ، إما من مال أو صناعة ونحو ذلك ، فاضلاً عن نفقة نفسه وزوجته .
2872 لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي قال لرجل : ( ابدأ بنفسك فتصدق عليها ، فإن فضل شيء فلاهلك ، وإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي .
2873 وعن طارق المحاربي رضي الله عنه قال : قدمت المدينة وإذا رسول الله قائم على المنبر يخطب ، وهو يقول : ( يد المعطي العليا ، وابدأ بمن تعول ، أمك وأباك ، وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك ) رواه النسائي .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك ، إلا أنه يذكر بعد أن السيد تلزمه نفقة رقيقه ، ولا يلزم ابنه نفقته ، وإن كان حراً ، وهو كذلك بلا ريب ، فإذاً الشروط ثلاثة ( ثالثها ) أن لا يكون أحدهما رقيقاً ، ولا بد ( من شرط رابع ) وهو أن يتحد دينهما ، فإن اختلف فلا نفقة لأحدهما على صاحبه ، لأن النفقة مواساة على سبيل البر والصلة ، ولا صلة مع اختلاف الدين ، ولأنهما غير متوارثين ، فلم تجب لأحدهما نفقة على الآخر ، كما لو كان أحدهما رقيقاً ، ولا نزاع في اشتراط هذا الشرط في غير عمودي النسب ، وفي عمودي النسب روايتان ، نص عليهما في الأب الكافر ، هل تجب عليه نفقة ولده المسلم ، وخرجهما القاضي في العكس ، وأبو محمد ينصر عدم الوجوب مطلقاً ، عكس ظاهر كلام الخرقي ، فإن ظاهره الوجوب في عمودي النسب ، لأنه لم يشترط ذلك ، وعدم الوجود في غيرهم ، كما هو متفق عليه ، لقوله بعد : أجبر وارثه . فاشترط الإرث ، فدلّ ذلك على اشتراط الاتفاق في الدين ، واختلف في ( شرط خامس ) وهو أن المنفق عليه هل من شرطه أن يكون زمناً ونحو ذلك ، أو لا يشترط ذلك ؟ لا نزاع فيما علمت أن الوالدين لا يشترط فيهما ذلك ، وهو مقتضى كلام الخرقي ، واختلف فيمن عداهما ، وعن أحمد ما يدلّ على روايتين ، ومختار القاضي وأبي محمد عدم الاشتراط مطلقاً ، كما هو ظاهر كلام الخرقي ، إناطة بالحاجة ، وتمسكاً بقول
____________________
(2/562)
النبيّ لهند : ( خذي ما يكفيك وولدك ) وهو واقعة عين .
قال : وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب ، أجبر وارثه الذكور والإناث على نفقته على قدر ميراثهم منه .
ش : كذلك الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان فقيراً ، فإن وارثه وإن كان أنثى يجبر على نفقته ، لقول الله سبحانه : 19 ( { وعلى الوارث مثل ذلك } ) أي مثل ما وجب على المولود له ، ولما تقدم من حديث جابر وطارق ، وكليب رضي الله عنهم ، وهذا هو المشهور من الروايتين ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى لا تجب النفقة إلا على العصبات ، فعلى هذا لا تجب على العمة والخالة ونحوهما ، إذ النفقة معونة ، فاختصّت بالعصبات كالعقل .
2874 وقال ابن المنذر : روي عن عمر رضي الله عنه أنه حبس عصبة ينفقون على صبي الرجال دون النساء ؛ وعلى كلا الروايتين هل يشترط أن يرثهم بالفرض أو التعصيب في الحال ، أو لا يشترط ذلك ، بل الشرط الإرث في الجملة ؟ فيه روايتان ، المختار منهما عند القاضي وأبي الخطاب ، وأبي محمد وغيرهم الأولى .
ويستثنى مما تقدم ذوو الأرحام من غير عمودي النسب ، فإن النفقة لا تجب لهم ، على المنصوص والمجزوم به عند كثيرين ، حتى قال القاضي : رواية واحدة ؛ إذ قرابتهم ضعيفة ، وإنما يأخذون المال عند عدم الوارث ، فهم كسائر المسلمين ، وخرج أبو الخطاب وجوبها على توريثهم ، وهو قوي .
واشترط الخرقي لوجوب النفقة على الوارث أن لا يكون للمنفق عليه أب ، فلو كان له أب اختصّ بنفقته ، لقول الله تعالى : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ) وقال : 19 ( { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } ) وقال لهند : ( خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) فجعل النفقة على أبيهم دونها ، وحيث أوجبنا النفقة على الوارث فإنها على قدر ميراثه من المنفق عليه ، لأنه لو ورث الجميع لوجب عليه الجميع ، فإذا ورث البعض وجب عليه بقدره ، إذ السبب هو الإرث .
وفرع الخرقي على ذلك فقال رحمه الله : فإن كان للصبي أم وجد ، فإن على الأم ثلث النفقة ، وعلى الجد الثلثين ، وإن كانت جدة وأخاً فعلى الجدة السدس ، والباقي على الأخ ، وعلى هذا المعنى حساب النفقات .
ش : لا ريب أن الأم والجد يرثان المال أثلاثاً ، فتكون النفقة عليهما أثلاثاً ، ولا ريب أن الجدة ترث السدس ، فيكون عليها من النفقة بقدر ذلك ، والأخ يرث الباقي ، فيكون عليه باقي النفقة ، وعلى هذا أبداً ، فلو كان له أم أم وأم أب ، فالنفقة عليهما نصفين ، لتساويهما في الإرث ، وظاهر كلام الخرقي أنها تجب بالقسط ، وإن كان بعضهم موسراً والآخر معسراً ، وهذا إحدى الروايتين ( والرواية الأخرى ) : تجب على الموسر وهذا إحدى الروايتين ، ( والرواية الأخرى ) : تجب على
____________________
(2/563)
الموسر والحال هذه كل النفقة ، ففي الجدة والأخ إذا كان الأخ موسراً ، والجدة معسرة ، هل على الأخ خمسة أسداس النفقة حصة إرثه ، أو كلها ، لأن من معه كالمعدوم ؟ على الروايتين .
قال : وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيراً ، لأنه وارثه .
ش : هذا مبني على ما تقدم من أن الوارث تجب عليه نفقة موروثه ، وحديث كليب وقد تقدم صريح في ذلك ، ويشترط في وجوب الإنفاق الشروط المذكورة ، إذ هذا فرع مما تقدم .
قال : وإذا تزوجت الأمة لزم زوجها أو سيده إن كان مملوكاً نفقتها .
ش : يلزم زوج الأمة نفقتها إن كان حراً ، لأنها زوجته ، فيدخل في عموم ما تقدم ، وكذلك إن كان عبداً ، نظراً للعموم أيضاً ، ولأنه عوض واجب في النكاح ، فوجب على العبد كالمهر ، ثم هل تكون في ذمة السيد ، لإذنه في النكاح المفضي إلى إيجابها ، أو في رقبة العبد ، إذ الوطء في النكاح بمنزلة الجناية ، وجناية العبد في رقبته ، فكذلك ما يتعلق بالوطء ، أو في كسب العبد ؟ على ثلاث روايات ، المشهور منهن الأولى .
قال : وإن كانت تأوي بالليل عند الزوج ، وبالنهار عند المولى ، أنفق كل واحد منهما مدة مقامها عنده .
ش : لأن النفقة تابعة للتمكين ، والتمكين وجد للزوج في الليل ، فيختص بنفقة الليل ، وتجب نفقة النهار على المولى بأصل الملك ، ثم هل تجب النفقة عليهما نصفين ، قطعاً للتنازع ، وهو الذي جزم به أبو محمد ، أو تجب نفقة الليل وتوابعه من الغطاء والوطاء ، ودهن المصباح ، ونحوه على الزوج ، وما يتعلق بالنهار على السيد ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ؟ ( فيه وجهان ) وقد علم من هذه المسألة أن المسألة السابقة فيما إذا سلمت الأمة ليلاً ونهاراً .
قال : فإن كان لها ولد لم يلزم الزوج نفقة ولده منها ، حراً كان الزوج أو عبداً ، إذ نفقتهم على سيدهم .
ش : قد تقدمت الإشارة إلى هذا ، وذلك لأن ولد الأمة من نمائها ، فيكون لسيدها بلا ريب ، ونفقة المملوك على سيده ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وعن أحمد رواية أخرى أن ولد العربي يكون حراً ، وعلى أبيه فداؤه ، فعلى هذا تكون نفقته عليه .
قال : وليس على العبد نفقة ولده ، حرة كانت الزوجة أو أمة .
ش : لأن العبد لا مال له ، فتجب عليه النفقة ، ولو قيل يملك فملكه ناقص ، لا يحتمل المواساة .
____________________
(2/564)
قال : وعلى المكاتبة نفقة ولدها ، دون أبيه المكاتب .
ش : ولد المكاتبة يتبعها دون أبيه ، وإن كان مكاتباً ، بناء على القاعدة ، من أن الولد يتبع أمه في الحرية والرق ، وإذا تبعها وقف معها ، فإن عتقت بالأداء عتق ، وإن رقت رق ، وإذاً نفقته عليها ، لأن له حكم نفسها ، ولا ريب أن نفقة نفسها عليها ، فكذلك ولدها .
قال : وعلى المكاتب نفقة ولده من أمته .
ش : لأن ولده من أمته يتبعه ، فيصير حكمه حكمه ، فتجب عليه نفقته لما تقدم ، وتقييده ، بأمته لأن يكون ولده من غير أمته إما أن يكون من حرة فيكون حراً ، والمكاتب لا تجب عليه نفقة قريبه الحر ، لأنه وإن ملك لكنه محجور عليه في ذلك ، وإما أن يكون من مكاتبة فيتبعها ، ويعطى حكمها ، كما تقدم ، وإما أن يكون من أمة لسيده أو لأجنبي ، فالأجنبي يتبعها في رقها وتجب نفقته على سيده ، ولسيده كذلك ، اللهم إلا أن يشترط أن ولده يتبعه ، فإن نفقته تجب عليه ، إناطة بالتبعية ، هذا هو التحقيق تبعاً لأبي البركات ، ووقع لأبي محمد أن للمكاتب أن ينفق على ولده من أمة لسيده ، معللاً بأنه مملوك لسيده ، فينفق عليه من المال الذي تعلق به حق سيده ، وله احتمالان فيما إذا كان الولد من مكاتبة لسيده .
[ باب ] باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج )
لما تقدم له أن النفقة تجب للزوجة ، ذكر الحال التي تجب فيها النفقة ، فقال رحمه الله :
وإذا تزوج بامرأة مثلها يوطأ ، فلم تمنعه نفسها ، ولا منعه أولياؤها لزمته النفقة .
ش : فظاهر هذا أن النفقة تجب بالعقد ما لم تمنعه نفسها ، ولا منعه أولياؤها ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، لأن العقد سبب الوجوب ، فترتب الحكم عليه ( والرواية الثانية ) لا تجب النفقة إلا بالتسليم ، أو ببذله حيث لزمه القبول ، وهو المشهور ، لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع ، وذلك بالتمكين منه ، ومع عدم التسليم أو بذله لم يوجد ، ولأن النبي تزوج عائشة رضي الله عنها ، ودخلت عليه بعد مدة ، ولم ينقل أنه أنفق إلا بعد دخوله ، ولا أنه كان يرسل نفقة ما مضى ، وفي الاستدلال بهذا نظر ، فإن من شرط وجوب النفقة على كل حال كون مثلها يوطأ ، كما ذكره الخرقي ، وعائشة رضي الله عنها حين تزوجها كانت بنت ست سنين على الصحيح ، ومثلها لا يوطأ غالباً ، والخرقي رحمه الله أطلق من يوطأ مثلها ، ولم يقيده بسن ، وكذا جماعة كثيرة من أصحاب القاضي ، منهم أبو الخطاب في الهدابة ، وابن عقيل ، والشيرازي ، وتبعهم على ذلك أبو محمد مصرحاً به ، وأناط ذلك القاضي بابنة تسع سنين ، وتبعه على ذلك أبو البركات ، وهو مقتضى نص أحمد ، قال في رواي
____________________
(2/565)
صالح وعبد الله وسئل : متى يؤخذ الرجل بنفقة الصغيرة ؟ فقال : إذا كان مثلها يوطأ ، تسع سنين ، ولم يكن الحبس من قبلهم ، ففسر من مثلها يوطأ بتسع سنين ، وقد يحمل إطلاق من أطلق من الأصحاب على ذلك ، فإذاً أبو محمد منفرد عنهم .
وقول الخرقي : مثلها يوطأ ، يريد به والله أعلم في السن ، فلو كان بها رتق أو قرن ، أو مرض ونحو ذلك ، ومثلها في السن يوطأ ، فلا يخلو إما أن يكون هذا المانع يمنع الاستمتاع بالكلية ، أو لا ، فإن لم يمنعه بالكلية وجبت النفقة ، للتمكن من الاستمتاع الواجب في الجملة ، وإن منع الاستمتاع بالكلية كمرض كذلك أو إحرام ونحو ذلك ، فإن لم يرج زواله وجبت النفقة ، إذ لا حال لها ينتظر ، وإن رجي زواله كالإحرام ونحوه انتظر زوال ذلك ، ولم تجب النفقة لأنها والحال هذه كالصغيرة .
قال : وإذا كانت بهذه الحال التي وصفت ، وزوجها صغير ، أجبر وليه على نفقتها من مال الصبي .
ش : والحال التي وصفها أن يكون مثلها يوطأ ، ولم تمنع نفسها ، ولا منعها أولياؤها ، وإذا كان زوجها والحال هذه صغيراً وجبت عليه نفقتها ، لأن المنع جاء من قبل الزوج ، لا من قبلها ، أشبه ما لو كان غائباً ، وعلى المشهور لا بد أن تسلم نفسها ، أو تبذل له ذلك ، إذا تقرّر هذا فالمخاطب بالنفقة هو الولي ، كما يخاطب بأداء بقية الواجبات عنه ، والأداء من مال الصبي كما في بقية الواجبات .
قال : فإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما .
ش : قد تقدم الكلام على هذا ، وأنه يؤخذ من كلام الخرقي تنبيهاً ، ويؤخذ من كلامه هنا تصريحاً ، ونزيد هنا بأن المفرق في الفسخ للإعسار بالنفقة هو الحاكم ، لأنه أمر مختلف فيه ، والأمور المختلف فيها تقف على الحاكم .
قال : وإن طالب الزوج بالدخول ، وقالت : لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي ، كان ذلك لها ، ولزمته النفقة إلى أن يدفع إليها صداقها .
ش إذا طالب الزوج بالدخول ، وامتنعت المرأة حتى تقبض صداقها ، فلها ذلك ، لأن عليها في التسليم قبل قبض صداقها ضرراً ، والضرر منفي شرعاً ، وبيان الضرر أنها إذا سلمت نفسها قد يستوفي معظم المنفعة المعقود عليها وهو الوطء ، فإذا لم يسلم إليها عوض ذلك وهو الصداق لا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها ، فيلحقها الضرر ، وفارق المبيع إذا تسلمه المشتري ، ثم أعسر بالثمن ، فإنه يمكنه الرجوع فيه ، وإذا كان لها الامتناع لأجل قبض الصداق ، مع بذلها للتسليم ، فلها النفقة ، لأن امتناعها في الحقيقة إنما جاء من جهة الزوج ، وكلام الخرقي يشمل الصداق الحال والمؤجل ، وهذا الحكم إنما هو في الحال ، أما المؤجل فليس لها الامتناع ، إذ لا حق لها تطالب به ، إذ حقها قد رضيت بتأخيره ، نعم لو حل المؤجل قبل التسليم ، فهل لها الامتناع
____________________
(2/566)
نظراً إلى الحال الراهنة ، أو ليس لها الامتناع إلى ما دخلت عليه ابتداء ؟ فيه وجهان .
قال : وإذا طلق زوجته طلاقاً لا يملك رجعتها ، فلا سكنى لها ولا نفقة ، إلا أن تكون حاملاً .
ش : إذا بانت المرأة من زوجها بطلاق أو فسخ أو غير ذلك ، فلا يخلو إما أن تكون حاملاً أو حائلاً ، فإن كانت حاملاً فلها النفقة والسكنى إجماعاً ، وسنده قوله سبحانه ؛ 19 ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ) ولأن الحمل ولده ، ولا يمكنه الإنفاق عليه إلا بالإنفاق عليها ، فوجب نظراً إلى أن ما يتوقف عليه الواجب واجب ، وإن كانت حائلاً فلا نفقة لها على المشهور المعروف .
2875 لما روت فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن زوجهات طلقها ألبتّة وهو غائب عنها ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسطخته ، فقال : والله ما لك علينا من شيء . فجاءت رسول الله فذكرت ذلك ، فقال : ( ليس لك عليه نفقة ) وفي لفظ : ( ولا سكنى ) فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، متفق عليه .
2876 وعن الشعبي عن فاطمة أيضاً عن النبي في المطلقة ثلاثاً قال : ( ليس لها سكنى ولا نفقة ) رواه أحمد ومسلم ، وفي رواية عنها قالت : طلقني زوجي ثلاثاً ، فلم يجعل لي رسول الله سكنى ولا نفقة ، رواه الجماعة إلا البخاري ، وأيضاً قوله تعالى : 19 ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ) مفهومه أنهن ءذا لم يكن أولات حمل لا نفقة لهن .
وقد اعترض على خبر فاطمة رضي الله عنها بأن من شرط قبول خبر الواحد أن لا ينكره السلف ، وهذا الخبر قد أنكر .
2877 فعن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس أؤن رسول الله لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، فأخذ الأسود بن يزيد كفاً من حصباء فحصبه به ، وقال : ويلك تحدث بمثل هذا ، قال عمر رضي الله عنه : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا ، لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسبت ، رواه مسلم وغيره .
2878 وعن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : لقد عابت ذلك عائشة رضي الله عنها أشد العيب ، يعني حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، فقالت : إن فاطمة كانت في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها ، فلذلك أرخص لها رسول الله .
____________________
(2/567)
رواه أبو داود وابن ماجه ، وأخرجه البخاري تعليقاً .
2879 وعن سليمان بن يسار في خروج فاطمة قال : إنما كان ذلك من سوء الخلق ، رواه أبو داود مرسلاً .
2880 وعن ميمون بن مهران قال : قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب ، فقلت : فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها ، فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس ، إنما كانت لسنة ، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم ( وقد أجيب ) بأن هذا ليس بشرط عندنا ، إنما الشرط صحة الخبر ، ولا ريب في صحة خبرها ، وقد قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد ، وسئل عن الأمور المختلفة عن رسول الله ، وقد رد أحد الأمرين بعض الخلفاء ، مثل حديث فاطمة بنت قيس : هل لنا العمل بما يرد الخليفة فقال : كان ذلك منه على احتياط ، وقد كان عمر رضي الله عنه يقبل من غير واحد قوله وحده ، ولا يكون ذلك دفعاً للآخر ، ثم إنكار عمر قد طعن في صحته الإمام أحمد ، قال أبو داود : وسمعت أحمد وذكر له حديث عمر : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا ، يصح هذا عن عمر ؟ قال : لا . وقال الفضل بن زياد : كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن المطلقة ثلاثاً هل لها سكنى أو نفقة ، وكيف حديث فاطمة ؟ فأتاني الجواب : أما الذي نذهب إليه فعلى حديث فاطمة ، وأما ما يروى عن عمر أنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة . فإنا نرى أن ذلك وهم ممن روى عن عمر ، ون الكتاب يطلق لعدّتها ، قال : 19 ( { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } ) وقال : 19 ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يطعن حملهن } ) فءن قيل : حديث عمر قد رواه مسلم وأبو داود ، والترمذي وغيرهم ، ثم يدل على ضعفه اختلاف ألفاظه ، ففي السنن ما تقدم ، وقال أحمد وقد ذكر له هذا فقال : أما هذا فلا ، ولكن قال : لا نقبل في ديننا قول امرأة . وقال الدارقطني : قوله : وسنة نبينا ، غير محفوظ ، لم يذكرها جماعة من الثقات ، ثم لو صح ذلك لم يكن فيه حجة ، إذ لا حجة لأحد مع رسول الله ، ثم إن عمر رضي الله عنه استند في إنكاره إلى كتاب الله وسنة الرسول ، ولا يعرف في سنة الرسول ما يخالف خبر فاطمة ، وكذلك ليس في الكتاب ما يخالفه كما تقدم عن أحمد ، فإن الآية الكريمة إنما تدل على الطلاق الرجعي ، والإنفاق على الحامل نفقة والد على ولده ، لا نفقة زوج على زوجته ، وقد قال محمد بن العباس النسائي : سألت أبا عبد الله : ما تقول في حديث عمر : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها ؟ فقال : لا نعرف في كتاب الله ذكراً ، ولا في سنة رسول الله ؛ وقال إسماعيل بن إسحاق : نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى ، والذي في الكتاب أن لها النفقة إن كانت حاملاً ، لقوله سبحانه : 19 ( { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ) أما
____________________
(2/568)
غير ذات الحمل فلا يدلّ الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن ، لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق .
2881 ورضي الله عن فاطمة ، فعن عبيد الله وهو ابن عبد الله بن عتبة قال : أرسل مروان إلى فاطمة فسألها ، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص ، وكان النبي أمر عليّ بن أبي طالب على بعض اليمن ، فخرج معه زوجها ، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها ، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها ، فقالا : والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملاً ، فأتت النبي فقال : ( لا نفقة لك إلا أن تكون حاملاً ) فاستأذنته في الإنتقال ، فأذن لها ، فقالت : أين أنتقل يا رسول الله ؟ فقال : ( عند ابن أم مكتوم ) وكان أعمى ، تضع ثيابها عنده ولا يبصرها ، فلم تزل هناك حتى مضت عدتها ، فأنكحها النبي أسامة ، فرجع قبيصة إلى مروان فأخبره بذلك ، فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة ، فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها ذلك : بيني وبينكم كتاب الله ، قال الله تعالى : 19 ( { فطلقوهن لعدتهن . . . لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك امراً } ) قالت : فأي أمر يحدث بعد الثلاث . رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه مرسل ، فقد بنت رضي الله عنها أن الكتاب إنما دل على ما قالت ، وأما قول عائشة رضي الله عنها : إن نقلتها إنما كان لكونها كانت في مكان وحش ، فليس في حديثها ما يدلّ على ذلك ، ولو كان فيه لما جاز لها تركه ، بل قد تقدم عنها في مسلم أنها قالت عن النبي في المطلقة ثلاثاً ، قال : ( ليس لها سكنى ولا نفقة ) وهذا يشملها وغيرها ، وقد تقدم أيضاً في السنن أن النبي قال : ( لا نفقة لك إلا أن تكون حاملاً ) فعلّل استحقاقها النفقة بالحمل ، ولو كان استحقاقها النفقة بالطلاق لكان ذكر الحمل عديم التأثير ، وما ذكر عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار فالجواب عنه كذلك ، ثم قد خالف عمر وعائشة ابن عباس رضي الله عنهم .
2882 قال أحمد : روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا نفقة لها ولا سكنى . إذا طلقت ثلاثاً .
2883 ويروى ذلك عن علي رضي الله عنه ، وإذا وقع التنازع بين الصحابة وجب الرجوع إلى الله وإلى الرسول . انتهى . وفي السكنى لها روايتان ( إحداهما ) لا سكنى لها ، وهي اختيار الخرقي ، والقاضي وغيرهما ، اعتماداً على حديث فاطمة المتقدم ، ( والثانية ) لها السكنى ، اعتماداً على قوله تعالى : 19 ( { أسكنوهن } ) الآية ، وقد يجاب عنه بأنه في الرجعية كما تقدم ، هذا كله إذا كان الطلاق بائناً كما تقدم ، أما إن كان رجعياً فلها السكنى والنفقة بلا نزاع ، للآية الكريمة .
____________________
(2/569)
2884 وفي خبر فاطمة رضي الله عنها أن النبي قال لها : ( إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة ، فإذا لم له عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى ) رواه أحمد . ولأنها في حكم الزوجات في الإرث والطلاق ، وغير ذلك ، فكذلك في النفقة ، والله أعلم .
قال : وإذا خالعت المرأة زوجها ، وأبرأته من حملها ، لم يكن لها نفقة ، ولا لولده حتى تفطمه .
ش : إذا خالعت الحامل زوجها ، ولم تبرئه من حملها ، فلها النفقة والسكنى كما تقدم ، وإن أبرأته من حملها بأن جعلت ذلك عوضاً في الخلع فإنه يصح ، بناء على ما تقدم من صحة الخلع بالمجهول ، ثم إن عينت مدة الحمل والكفالة إلى حين الفطام صح ، وكذلك إن أطلقت الكفالة ، وينصرف عند التنازع إلى حولين ، وإن أطلقت مدة الحمل فقط انصرف إلى زمن الحمل قبل وضعه ، قاله أبو محمد .
وظاهر كلام الخرقي أنه ينصرف إلى زمن الرضاع أيضاً ، وقال القاضي : إنما صح المخالعة على نفقة الولد ، وهي للولد دونها ، لأنها في حكم المالكة لها ، لأنها المستحقة لها ، وبعد الولادة تأخذ أجر رضاعها ، قال : فأمّا النفقة الزائدة على هذا من كسوة الطفل ودهنه ، ونحو ذلك فلا يصح أن يعاوض به ، لأنه ليس لها ، ولا هو في حكم ما هو لها ، فكأنه يخصّص كلام الخرقي ، والله أعلم .
قال : والناشز لا نفقة لها ، فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها .
ش : الناشر لا نفقة لها ، لأن النفقة وجبت في مقابلة تمكينها ، ومع النشوز لا تمكين ، وإن كان لها منه ولد أعطاها نفقته ، لأنها واجبة له فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبير ، وهذا يلتفت إلى قاعدة ، وهو أن النفقة هل تجب للحامل لحملها ، أو لها من أجله ؟ فيه روايتان ، أشهرهما أنها للحمل ، وهي اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي في تعليقه ، وغيرهم ( والثانية ) أنها لها من أجله ، واختارها ابن عقيل في التذكرة ، وللخلاف فوائد ( إحداها ) هذه المسألة وهي الناشز الحامل ، على الرواية الأولى لها نفقة الحمل لما تقدم ، وعلى الثانية لا شيء لها لنشوزها ( الثانية ) إذا كانت المطلقة أمة ، فعلى الأولى النفقة على السيد ، لأن الحمل ملكه ، وعلى الثانية على الزوج ، لأن نفقتها عليه ( الثالثة ) إذا كان الزوج عبداً ، فعلى الأولى لا شيء عليه ، لأنه لا يلزمه نفقة ولده ، وعلى الثانية عليه النفقة لما تقدم ( الرابعة ) إذا كانت حاملاً من نكاح فاسد ، أو وطء شبهة ، أو ملك يمين ، فعلى الأولى تجب لها النفقة ، نظراً للولد ، وعلى الثانية لا تجب إذا لا نكاح ، ( الخامسة ) إذا كان الزوج غائباً أو معسراً ، فعلى الأولى لا شيء لها ، إذ نفقة القريب تسقط بمضي الزمان ، وبالإعسار ، وعلى الثانية تثبت في ذمة الغائب وتلزم
____________________
(2/570)
المعسر ، والله أعلم .
[ باب ] باب من أحق بكفالة الطفل )
ش : كفالة الطفل واجبة ، لأن الصبي يهلك بتركها ، فوجبت كالإنفاق عليه ، ويتعلق بها حق لقرابته لما سيأتي ، والله أعلم .
قال : والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت .
ش : إذا افترق الزوجان وبينهما ولد ، فالأم أحق به في الجملة ، إن كان طفلاً ، بلا خلاف نعلمه .
2885 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء ، وثديي له سقاء ، وحجري له حواء ، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني ، فقال لها رسول الله : ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه .
2886 ويروى أن أبا بكر الصديق حكم على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما بعاصم لأمه أم عاصم ، وقال : ريحها وشمها ولطفها خير له منك . رواه سعيد في سننه ، ولأنها أقرب الناس إليه مع أبيه ، وتتميز عن الأب بأنها تلي بنفسها ، والأب لا يلي بنفسه ، وحكم المعنوه حكم الطفل ، لاستوائهما معنى ، فاستويا حكماً ، ويشترط فيمن تثبت له الحضانة الحرية والبلوغ ، والعقل ، والعدالة الظاهرة ، والله أعلم .
قال : وإذا بلغ الغلام سبع سنين خيّر بين أبويه ، فكان مع من اختار منهما .
ش : أي إذا بلغ الغلام سبع سنين وهو عاقل ، لما تقدم له من أن حضانة المعتوه لأمه ، والمذهب المشهور أن الغلام والحال هذه يخير بين أبويه .
2887 لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي خير غلاماً بين أبيه وأمه ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه ، وفي رواية أن امرأة جاءت إلى رسول الله وأنا قاعد عنده ، فقالت : يا رسول الله إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة ، وقد نفعني ، فقال لها رسول الله : ( استهما عليه ) فقال زوجها : من يحاقني في ولدي ؟ فقال النبي : ( هذا أبوك وهذه أمك ، فخذ بيد أيهما شئت ) فأخذ بيد أمه فانطلقت به ؛ مختصر رواه أبو داود .
2888 وعن عمر رضي الله عنه أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه رواه سعيد .
2889 وعن عمارة الجرمي قال : خيّرني عليّ رضي الله عنه بين عمي وأمي
____________________
(2/571)
وكنت ابن سبع سنين أو ثمان ، وروي نحو ذلك عن أبي هريرة ، ولا نعرف لهم مخالفاً ، ولأن الحضانة تثبت لحظ الولد ، فيقدم فيها من هو أشفق به ، ولا ريب أن ميل الولد إلى أحد الأبوين دليل على أنه أشفق به ، فرجح بذلك ، وإنما قيدناه بالسبع لأنه إذا بلغ حداً يعرب عن نفسه ، ويميز بين الإكرام وضده ، ولأنه أول حال أمر الشرع بمخاطبته فيها ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن اوم أحق به ، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب ، ولا ريب أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخص منه فيقدم ، ( وعنه ) رواية ثالثة الأب أحق به ، لأنه إذاً يحتاج إلى التأديب والتعليم ، والأب أخص بذلك ، ولا ريب أنها أضعفهن ، لمخالفتها الحديثين معاً ، وقد ذكر الخرقي رحمه الله حكم الطفل وحكم الغلام ، ولم يتعرض لحكم البالغ ، والحكم أنه يكون حيث شاء إن كان رشيداً .
( تنبيه ) : ( يحاقني ) أي ينازعني في حقي منه ، والله أعلم .
قال : وإذا بلغت الجارية سبع سنين فالأب أحق بها .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، نظراً إلى أن المقصود بالحضانة حظ الولد ، والحظ للجارية بعد السبع كونها عند أبيها ، لقيامه بحفظها ، ولأنه وليها ، وأعلم بكفؤها ، ومنه تخطب وتزوج .
وفي المذهب رواية أخرى ذكرها القاضي في تعليقه أن اوم أحق بها حتى تبلغ ، ولفظها من رواية مهنا : الأم أحق بالجارية حتى تستغني ، قيل له : وما غنى الجارية ؟ قال : حتى تتزوج . ويستدل لذلك بقول النبي : ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) وبقصة ابنة حمزة .
2890 ويرشحه أن في الحديث ( من فرق بين والدة وولدها ، فرق الله بينه وبين أحبّته يوم القيامة ) والله أعلم .
قال : وإذا لم تكن أم أو تزوجت الأم ، فأم الأب أحق من الخالة .
ش : إذا لم تكن أم أو تزوجت الأم ، أو قام بها مانع من فسق ونحوه ، فإن أم الأب مقدمة على الخالة ، على المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب ، لأنها جدة وارثة ، فقدمت كأم الأم ، ولأن لها ولادة ووراثة ، فأشبهت أم الأم ، وعن أحمد رواية أخرى أن الأخت من الأم والخالة يقدمان على أم الأب استدلالاً بحديث ابنة حمزة .
2891 فعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن ابنة حمزة اختصم فيها علي وجعفر وزيد رضي الله عنهم ، فقال علي : أنا أحق بها ، هي ابنة عمي ، وقال جعفر :
____________________
(2/572)
هي بنت عمي ، وخالتها تحتي ، وقال زيد : ابنة أخي ، فقضى بها رسول الله لخالتها ، وقال : ( الخالة بمنزلة الأم ) متفق عليه .
2892 ورواه أحمد أيضاً من حديث علي رضي الله عنه ، وفيه : ( والجارية عند خالتها ، فإن الخالة والدة ) وكذلك رواه أبو داود من حديث علي رضي الله عنه ، وقال : ( إنما الخالة اوم ) فجعل الخالة بمنزلة اوم ، ولا ريب أن الأم مقدمة على أم الأب ، فكذلك من بمنزلتها ، وهذا ظاهر في الاستدلال ، فعلى هذه الرواية قال أبو الخطاب ومن تبعه : يكون هؤلاء أحق من الأخت من الأم ، ومن جميع العصبات ، وقال أبو البركات : يحتمل على هذه الرواية تقديم نساء الحضانة على كل رجل ، ويحتمل أن يقدمن إلا على من أدلين به ، ويحتمل تقديم نساء الأم على الأب وأمهاته ، وسائر من في جهته ، وأن كل امرأة في درجة رجل تقدم هي ومن أدلى بها عليه . انتهى .
وعلى الأولى ظاهر كلام الخرقي أن أم الأب مقدمة على أم الأم ، لقوله : فإن لم تكن أم ، أو تزوجت الأم فأم الأب أحق من الخالة ، وصرح بذلك بعد في قوله : والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم ، وخالة الأب أحق من خالة الأم ؛ وهذا إحدى الروايتين ، وهو أن قرابة الأب كأمه وأخته ، ومن يدلي به هل تقدم على قرابة الأم كأمها وأختها ومن يدلي بها ؟ على روايتين منصوصتين ، ( إحداهما ) قرابة الأب مقدمة ، كما يقوله الخرقي ، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه ، وفي جامعه الصغير ، والشيرازي وابن البنا ، لتقديمهم الأخت للأب على الأخت للأم ، وذلك لأن التمييز له مزية في التقديم ، وقرابة الأب ساوت قرابة الأم في القرب ، وتميّزت عنها بإدلائها بعصبة ( والرواية الثانية ) قرابة الأم مقدمة ، وهو اختيار القاضي في روايتيه ، وابن عقيل في تذكرته ، لتمييز قرابة الأم بإدلائها بمن تقدم على الأب وهو الأم .
وقد تضمن كلام الخرقي أن المرأة إذا تزوجت سقطت حضانتها ، وهو المذهب في الجملة بلا ريب ، لما تقدم من قوله : ( أنت أحق به ما لم تنكحي ) ( وعنه ) في الجارية خاصة لا تسقط حضانتها بالتزويج ، نظراً لحديث ابنة حمزة ، فإن النبي قضى بها لها مع كونها كانت مزوجة ، وأجيب عن هذا بأنها كانت زوجة لقريب ، وإنما تسقط الحضانة إذا كانت مزوجة بأجنبي ، وهذه مسألة تستثنى من كلام الخرقي ، وهو أن التزويج مسقط للحضانة إلا بقريب من الطفل ، وقيل : شرط القريب أن يكون جداً للطفل ، ومقتضى كلام أبي محمد في المغني أن من شرطه أن يكون من أهل الحضانة ،
____________________
(2/573)
وإذاً لا يحسن منه الجواب عن الحديث ، لأن جعفراً رضي الله عنه كان ابن عمها ، وليس هو من أهل الحضانة ، وحيث قيل : إن التزويج مسقط للحضانة فذلك بمجرده من غير دخول ، على مقتضى كلام الخرقي وعامة الأصحاب ، إعمالاً لظاهر الحديث ، ولأبي محمد احتمال أن حقها لا يسقط إلا بالدخول ، نظراً إلى المعنى المقتضي لإسقاط حقها بالتزويج ، وهو الاشتغال بالزوج والتخصيص به ، وذلك منتف قبل الدخول ، والله أعلم .
قال : والأخت من اوب أحق من الأخت من الأم ، وأحق به من الخالة ، وخالة الأب أحق من خالة اوم .
ش : قد تقدم هذا ، وأن مذهب الخرقي أن قرابة الأب تقدم على قرابة الأم ، فلا حاجة إلى إعادته ، وتقدم أن عن أحمد رواية أخرى مشهورة بالعكس ، ورواية أخرى أن الخالة أحق من أم الأب ، وأن على هذه الرواية تقدم الخالة على الأخت من الأب ، لتقديمها على من أدلت به .
قال : وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت ، ثم طلقت عادت على حقها من كفالته .
ش : لا نزاع عندنا في ذلك ، إذا كان الطلاق بائناً ، لأن حقها إنما زال لمعنى ، وهو الاشتغال بالزوج ، فإذا طلقت زال ذلك المعنى ، فتعود إلى ما كانت عليه ، واختلف فيما إذا كان الطلاق رجعياً ، فظاهر كلام الخرقي وهو الذي نصبه القاضي في تعليقه ، وقطع به جمهور أصحابه ، كالشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة أن حقها يعود ، نظراً إلى زوال اشتغالها به ، لعزلها عن فراشه ، وعدم القسم لها عليه ، وقال القاضي : قياس المذهب أن حقها لا يعود حتى تنقضي عدتها ، بناء على أن الرجعية مباحة ، فاشتغالها بالزوج لم يزل ، وعلى هذا فقول الخرقي جار على قاعدته من تحريم الرجعية ، وأبو محمد خرج الوجه الثاني من كون النكاح قبل الدخول مزيلاً للحضانة مع عدم الشغل ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوجت المرأة فلزوجها أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليبها ، أو يخشى عليه التلف .
ش : للزوج منع المرأة من رضاع ولدها من غيره ، ومن رضاع ولد غيرها بطريق الأولى ، إذ عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان ، ما لم يضرّ بها ، سوى أوقات الصلوات ، والرضاع يفوت الاستمتاع في بعض الأوقات ، فكان له المنع ، كالخروج من منزله ، فإن اضطر الولد إليها ، بأن لا يوجد مرضعة سواها ، أو لا يقبل الولد ثدي غيرها ، وخشي عليه التلف ، فليس للزوج المنع نظراً لحفظ النفس المقدم على حق الزوج ، وملخصه أنه يجب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما ،
____________________
(2/574)
وقول الخرقي : من رضاع ولدها . ظاهر سياق كلامه أنه من غيره ، وإلا كان يقول : وللزوج منع المرأة من رضاع ولدها . وفي بعض النسخ : ولدها من غيره .
قال : وعلى الأب أن يشترضع لولده إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها ، فتكون أحق به من غيرها ، سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة .
ش : قد دلّ كلام الخرقي على مسألتين ( إحداهما ) أن إرضاع الولد على الأب وحده ، وليس له إجبار أمه على رضاعه مطلقاً ، ولظاهر قوله سبحانه : 19 ( { والوالدات يرضعن أولادهن } ) الآية إلى : 19 ( { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ) وقوله سبحانه : 19 ( { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } ) ومتى اختلفا فقد تعاسرا ( المسألة الثانية ) أن الأم إذا شاءت أن ترضعه بأجرة مثلها كان لها ذلك ، وقدمت على غيرها إذا كانت مفارقة من الزوج بلا نزاع ، وكذلك إذا كانت في حباله على المشهور ، وقيل : بل إذا كانت في حباله كان له منعها بأجرة وبغيرها ، ومبنى الخلاف على فهم الآية الكريمة ، وذلك لأن إرضاعه كنفقته ، والجامع أن بنيته لا تقوم إلا بهما ، ونفقته لو كان كبيراً عليه ، فكذلك إرضاعه إذا كان صغيراً ، ولظاهر الآية الكريمة : 19 ( { والوالدات يرضعن أولادهن } ) فإن الله سبحانه جعل حكمه الشرعي أن الوالدات يرضعن أولادهن ، لكن هل المراد كل والدة ، اعتماداً على عموم اللفظ ، فتدخل فيه المطلقة وغيرها ، أو المراد به الوالدات المطلقات ، لذكرهن في سياق المطلقات ، والسياق والسباق يخصصان ؟ فيه قولان ، فعلى الثاني إذا كان المراد المطلقات فالمزوجات لم تتناولهن الآية ، وإذاً للزوج منعهن من الإرضاع ، نظراً لحقه من الاستمتاع ، كما له ذلك في ولد غيره ، وقول الخرقي : بأجرة مثلها . مفهومه أنها إذا طلبت أكثر من أجرة المثل لم تكن أحق به ، وهو كذلك ، لطلبها ما ليس لها ، فتدخل في قوله تعالى : 19 ( { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } ) نعم لو طلبت أكثر من أجرة المثل ، ولم يوجد من ترضعه إلا بمثل تلك الأجرة ، فقال أبو محمد : الأم أحق ، لتساويهما في الأجرة ، وميزة الأم ، وقوله : فتكون أحق به . مقتضاه وإن وجد متبرعة برضاعه ، وهو كذلك ، اعتماداً على إطلاق الآية الكريمة ، والله سبحانه أعلم .
[ باب ] باب نفقة المماليك )
قال : وعلى ملاك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسوهم بالمعروف .
ش : هذا إجماع والحمد لله ، وقد دلت عليه السنة النبوية .
2893 فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال لقهرمان له : هل أعطيت الرقيق قوتهم ؟ قال : لا . قال : فانطلق فأعطهم ، فإن رسول الله قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته ) رواه مسلم .
____________________
(2/575)
2894 وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( للمملوك طعامه وكسوته ، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق ) رواه أحمد ومسلم ، والواجب له قدر كفايته من غالب قوت البلد وأدمه لمثله بالمعروف ، وكذلك الكسوة من غالب كسوة البلد لأمثال العبد بالمعروف .
2895 لأن في بعض روايات حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( بالمعروف ) رواه الشافعي في مسنده ، وسواء كان قوت سيده وكسوته مثل ذلك أو أزيد ، والمستحب أن يطعمه من طعامه ، ويلبسه من لباسه .
2896 لما روى أبو ذر أن النبي قال : ( هم إخوانكم وخولكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتوهم فأعيونهم عليه ) متفق عليه .
( تنبيه ) القهرمان .
قال : وأن يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك .
ش : على السيد أن يزوج مملوكه إذا احتاج إلى ذلك ، لقول الله سبحانه : 19 ( { وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم } ) وظاهر الأمر الوجوب .
2897 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : من كانت له أمة فلم يزوجها ولم يصبها ، أو عبد فلم يزوجه ، فما صنعا من شيء كان على السيد . ولأن النكاح مما تدعو الحاجة إليه غالباً ، أو يتضرر بفواته ، فأجبر عليه السيد كالنفقة وقوله : إذا احتاج إلى ذلك . يخرج به من لا حاجة له إلى ذلك ، كالصغير والأمة إذا كان السيد يطؤها ، وكذلك إذا سراه السيد لاندفاع حاجته .
( تنبيه ) : ولا يجب التزويج إلا بطلب المملوك ، لأن الحق له ، فلا تعلم حاجته إلا بطلبه ، والله أعلم .
قال : فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب المملوك ذلك .
ش : إذا امتنع السيد مما وجب عليه من طعام ، أو كسوة أو تزويج ، وطلب المملوك البيع ، فإن السيد يجبر على ذلك ، لأن بقاء الملك عليه مع الإخلال بما تقدم إضرار بالعبد ، وإزالة الضرر واجبة شرعاً ، والبيع طريق لزواله ، فوجب دفعاً للضرر المنفي شرعاً ، وإنما توقف الحق على طلب العبد ، لأن الحق له ، فلا يستوفى بدنه طلبه ، ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا قام بالواجب عليه لا يجبر على البيع ، وإن طلب المملوك ذلك ، وقد نصّ أحمد عليه ، إذ لا ضرر يزال ، والله أعلم .
____________________
(2/576)
قال : وليس عليه نفقة مكاتبه إلا أن يعجز .
ش : المكاتب مع سيده في أكسابه ومنافعه ونفقته ونحو ذلك كالأجنبي ، فإذا عجز عاد كما كان قبل الكتابة .
قال : وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ربه .
ش : إذا لم يكن في الأمة فضل عن ري ولدها فليس لسيدها أن يرضعها لغيره ، حذاراً من إضراره ، لنقصه عن كفايته ، وصرف اللبن المخلوق له لغيره ، وإن كان فيها فضل عن ريه جاز له أن يرضعه غيرها ، لانتفاء المحذور ، مع وجود المقتضي وهو الملك .
قال : وإذا رهن المملوك أنفق عليه سيده .
2898 ش : لقول النبي : ( الرهن من راهنه ، له غنمه وعليه غرمه ) ونفقته من الغرم ، فكانت على الراهن .
قال : وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه .
ش : هذا هو المشهور ، حتى أن أبا الخطاب في الهداية وأبا محمد في المقنع ، وغيرهما قطعوا بذلك ، وخرج أبو محمد قولاً آخر أنه لا يرجع ، بناء على رواية النفقة على الرهن والوديعة ، والجمال إذا هرب الجمال ، ونحو ذلك ، وكذلك أبو البركات برد الآبق ، مع جملة هذه المسائل ، وذكر الخلاف ، إلا أنه قيد ذلك بما إذا نوى الرجوع ، وتعذّر استئذان المالك ، وبعض الأصحاب لا يشترط تعذر الاستئذان ، وقد يفرق بين الآبق وغيره أن الآبق يخشى ضرره ، لاحتمال لحوقه بدار الحرب ، وارتداده ، وهذا المعنى غير موجود في غيره ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(2/577)
( كتاب الجراح )
ش : الجراح جمع جراحة ، بمعنى الجرح بفتح الجيم ، مصدر جرحه يجرحه جرحاً ، والاسم الجرح بضم الجيم ، وذكر الخرقي رحمه الله الجراح وإن كان القتل يوجد بغيره لغلبة وقوع القتل به بخلاف غيره .
قال : والقتل على ثلاثة أوجه ، عمد وشبه عمد ، وخطأ .
ش : القتل بحسب صفته يقع على ثلاثة أوجه ، لأن الضارب إن قصد القتل بآلة تصلح له غالباً فهذا هو العمد ، وإن قصد القتل بإلة لا تصلح للقتل غالباً فهو شبه العمد ، وإن لم يقصد القتل فهو الخطأ ، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب ومن تبعه زاد قسماً رابعاً ، وهو ما أجري مجرى الخطأ كالقتل بالسبب ، وكالنائم ينقلب على إنساب ونحو ذلك ، ولا نزاع أنه باعتبار الحكم الشرعي لا يزيد على ثلاثة أوجه ، ( عمد ) وهو ما فيه القصاص أو الدية .
2899 قال ابن عباس رضي الله عنهما ، كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم تكن فيهم الدية ، فقال الله لهذه الأمة : 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى } ) الآية 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء } ) قال : فالعفو أن يقبل في العمد الدية ، والاتباع بمعروف يتبع الطالب بمعروف ، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان ، 19 ( { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } ) فيما كتب على من كان قبلكم ، رواه البخاري وغيره .
2900 وفي الصحيحين أن النبي قال : ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل ، وإما أن يفدي ) .
( وشبه عمد ) وهو ما فيه دية مغلظة ، من غير قود .
2901 فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم ، أن النبي قال : ( عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ، ولا يقتل صاحبه ، وذلك أن ينزو
____________________
(3/3)
الشيطان بين الناس ، فيكون دم في عميا ، في غير ضغينة ، ولا حمل سلاح ) رواه أحمد وأبو داود .
( وخطأ ) وهو ما فيه دية مخففة .
2902 فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( في دية الخطأ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن مخاض ذكر ) رواه الخمسة .
( تنبيه ) ( ينزو الشيطان ) أي يثب ( في عميا ) أي جهالة و ( في غير ضغينة ) أي ذنب أي يثير الشيطان فتنة بين قوم ، فيقتل إنسان ، ولا يعرف من قتله في غير ذنب ، والله أعلم .
قال : فالعمد أن يضربه بحديدة ، أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط ، أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله ، أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة ، أو فعل به فعلاً الغالب أنه يتلف .
ش : لما ذكر الخرقي أن القتل يقع على ثلاثة أوجه ، أراد أن يعرف كل واحد منها ، فعرف العمد بما ملخصه أن يقصد ضربه بمحدد ، أو شيء الغالب أنه يتلف .
فقوله : ما إذا ضربه بحديدة ، أي ما إذا قصد ضربه بحديدة فجرحه ، وفي معنى ذلك كل محدد من حجر أو غيره ، وقوله : أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط . . . الفسطاط هنا خيمة صغيرة ، وعمودها التي تقوم عليه .
2903 وإنما شرط الخرقي في قتل العمد الزيادة على ذلك لما روى المغيرة بن شعيبة رضي الله عنه ، أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط ، فقتلتها وهي حبلى ، قال : فجعل رسول الله دية المقتولة على عصبة القاتلة ، وغرة لما في بطنها ، قال : فقال رجل من عصبة القاتلة : أنغرم دية من لا أكل ، ولا شرب ولا استهل ، فمثل ذلك يطل . فقال رسول الله : ( أسجع كسجع الأعراب ) قال : وجعل عليهم الدية . رواه مسلم ، ولو كان القتل بذلك عمداً لأوجب فيه القود ، ولم يجعل الدية على العاقلة ، لأنهم لا يحملون عمداً اتفاقاً .
وقوله : أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله ، أي في عرف الناس ، ولم يقل في ظنع ، لاتهامه في ذلك ، ( وقوله ) : أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة ، أي إعادة تقتل غالباً ، وفي معنى ذلك إذا ضربه بخشبة صغيرة في مقتل ، أو في حال ضعف قوة من مرض ، أو صغر أو كبر ، أو حر أو برد ، ونحو ذلك ، ( وقوله ) : أو فعل به فعلاً الغالب أنه يتلف . كأن ألقاه في ماء كثير يغرقه عادة ، أو في نار لا يمكنه التخلص منها ، أو في
____________________
(3/4)
زبية أسد ، أو من شاهق ، أو أنهشه كلباً أو سبعاً أو حية ، أو ألسعه عقرباً من القواتل ، أو سحره بما يقتل غالباً ، أو أطعمه طعاماً بسم يقتل مثله غالباً ، ونحو ذلك .
( تنبيه ) قال ابن الأثير : الفسطاط الخيمة الكبيرة ، ولعله يريد باعتبار عرف زمانه ، وإن أراد أنه في اللغة كذلك ، فهو محمول على ما تقدم ، لما مر من الإجماع على أن العاقلة لا تحمل العمد انتهى ، وهو فارسي معرب ، وفيه ست لغات ، فسطاط ، وفستاط ، وفساط مع ضم الفاء وكسرها فيهن ، ( واستهل المولود ) إذا بكى حين يولد ، والاستهلال رفع الصوت ، ( ويطل ) روي بالمثناة من تحت ، وروي بالموحدة ، فعلى الأول هو من طل دمه إذا هدر ، ولم يطلب بثأره ، وعلى الثاني هو فعل ماضٍ من البطلان ، ( والسجع ) تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد ، نحو : وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه ، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه . والاستفهام لما يتضمنه السجع من الباطل ، وكذلك جعله له كسجع الأعراب . وفي رواية : الكهان . أما السجع الخالي من الباطل فليس بمذموم ، لوروده في الكتاب العزيز ، وفي كلام سيدنا محمد ، نحو : 19 ( { في سدر مخضود ، وطلع منضود ، وظل ممدود } ) ، 19 ( { ما لكم لا ترجون لله وقاراً ، وقد خلقكم أطواراً } ) قال بعضهم : لا يقال في القرآن أسجاع ، وإنما يقال فواصل ، مستدلاً بما تقدم ، وقد يقال : إذا كان الإنكار للباطل فيه ، فلا تمتنع التسمية ، لعدم ورود الإنكار عليه .
قال : ففيه القود .
ش : أي العمد ، سواء كان القتل بمحدد ى و بغيره ، ( أما المحدد ) فالقود به اتفاق في الجملة ، إذا كان الجرح بسكين ونحوها ، جرحاً كبيراً ، أما إن كان صغيراً ، كشرطه الحجام ونحوها ، أو غرزة بإبرة أو شوكة ، فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد فكذلك ، إذ مثل ذلك في هذا المحل يقتل غالباً ، وكذلك إن كان في غير مقتل لكن بقي متألماً حتى مات ، لصلاحية السبب ، مع أن الأصل عدم غيره ، وإذا كان في غير مقتل ومات في الحال فوجهان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي أن فيه القود ، لأن المحدد له سراية ونفوذ ، وقد عضد ذلك موته في الحال ، ولهذا قيل فيه إنه لا يعتبر غلبة الظن في حصول القتل به بخلاف غيره ، ( والثاني ) وهو قول ابن حامد لا قود بذلك ، لأن الظاهر أن الموت ليس منه .
وأما إذا كان بغيره فكذلك عندنا وعند الجمهور ، ولإطلاق 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى } ) ، 19 ( { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } ) ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل ، وإما أن يفدي ) ونحو ذلك .
2904 ولخصوص ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن يهودياً رضّ رأس
____________________
(3/5)
جارية بين حجرين ، فأخذ اليهودي فأقر ، فأمر به رسول الله أن يرض رأسه بالحجارة ، وقال همام : بحجرين . متفق عليه . وللبخاري : قتلها على أوضاح لها . ولا يقال : قتله لنقض العهد ، لأنه إذا كان يقتله بالسيف ، ولما قتله بالرض بالحجارة دلّ على إرادة المماثلة ، المدلول عليها بقوله سبحانه ؛ 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) .
2905 وما روي من قول النبي : ( ألا وءن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل ) فمحمول على حجر شبيه بالسوط والعصا وهو الصغير ، جمعاً بين الأدلة .
( تنبيه ) : ( إما أن يقتل ، وإما أن يفدي ) أي يأخذ الدية ، ( والرض ) دق الشيء بين حجرين ، وما جرى مجراهما ( والأوضاح ) واحدها وضح ، الحلي من النقرة .
قال : إذا اجتمع عليه الأولياء ، وكان المقتول حراً مسلماً .
ش : أي شرط وجوب القود في العمد اجتماع جميع الأولياء على الاستيفاء ، فلو عفى بعضهم سقط القصاص ، لعدم تبعيضه ، وكذلك إذا كان بعضهم صغيراً أو مجنوناً أو غائباً ، فإن استيفاءه يتوقف على قدوم الغائب أو توكيله ، وحصول التكليف ، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى وشرطه أيضاً أن يكون المقتول حراً مسلماً ، وهذا من حيث الجملة ، وتمامه يأتي إن شاء الله تعالى .
قال : وشبه العمد أن يضربه بخشبة صغيرة ، أو حجر صغير ، أو لكزة أو فعل به فعلاً الأغلب من ذلك الفعل أن لا يقتل .
ش : شبه العمد أن يقصد القتل بآلة لا تصلح للقتل غالباً ولم يجرحه ، كما مثل الشيخ رحمه الله ، وكما إذا نخزه بشيء لا يقتل غالباً ، أو ألقاه في ماء لا يغرقه مثله غالباً ، ويسمى ذلك شبه العمد ، لأنه جمع عمداً لقصده الجناية ، وخطأ لعدم صلاحية الآلة لذلك ، وسمي أيضاً عمد الخطأ ، وخطأ العمد لذلك .
( تنبيه ) اللركز الضرب بجمع الكف في أي موضع كان من جسده ، وعن أبي عبيدة : الضرب بالجمع على الصدر .
قال : فلا قود في هذا .
ش : لحديث عمرو بن شعيب المتقدم ( عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ، ولا يقتل صاحبه ) وحديث : ( ألا وإن في قتل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل ) .
____________________
(3/6)
قال : والدية على عاقلته .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة اوصحاب ، لحديث المغيرة بن شعبة في التي قتلت ضرّتها بعمود الفسطاط ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر : تجب الدية على الجاني .
2906 لعموم ( لا يجني جان إلا على نفسه ) ، ولا يخفى ضعف هذا ، إذ الخاص يقضي على العام ، فعلى الأول تجب مؤجلة على العاقلة بلا ريب ، وعلى الثاني هل تجب على القاتل مؤجلة أو حالة ؟ على قولين لأبي بكر .
قال : والخطأ على ضربين ، أحدهما أن يرمي الصيد ، أو يفعل ما يجوز له فعله ، فيؤول إلى إتلاف حر ، مسلماً كان أو كافراً .
ش : لما فرغ من تعريف العمد وشبهه ، أشار إلى تعريف الخطأ ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك ، وهو على ضربين ، خطأ في الفعل وهو الذي ذكره الخرقي ، ولا ريب أن الخطأ واضح فيه ، وقد قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئاً فيصيب غيره ، لا أعلمهم يختلفون فيه . وقوله : مسلماً كان أو كافراً . تنبيه على أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر ، كما دلّ عليه قوله تعالى : 19 ( { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } ) الآية ، ولا بد من تقييد الكافر بأن يكون له عهد ، كما في الآية الكريمة ، وقوله : أو يفعل ما يجوز له فعله . مفهومه أنه إذا فعل ما ليس له فعله ، كأن يقصد رمي آدمي معصوم ، أو بهيمة محترمة ، فيصيب غيره ، أن الحكم ليس كذلك ، فيكون عمداً ، وهو منصوص أحمد في رواية الحسن بن محمد بن الحارث ، على ما ذكره القاضي في روايتيه ، وخرجه أبو محمد على قول أبي بكر فيمن رمى نصرانياً ، فلم يقع به السهم حتى أسلم أنه عمد ، يجب به القصاص ، والذي أورده في المغني مذهباً أن هذا أيضاً خطأ ، إناطة بعدم قصد من قتل ، وهو مقتضى قول المجد ، قال : أن يرمي صيداً أو هدفاً أو شخصاً ، فيصيب إنساناً لم يقصده .
قال : فتكون الدية على العاقلة ، وعليه عتق رقبة مؤمنة .
ش : الخطأ لا قود فيه اتفاقاً ، كما أشعر به قوله تعالى : 19 ( { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ } ) الآية ، ولأن شبه العمد إذا لم يجب القود به كما تقدم ، ففي الخطأ أولى ، وتجب الدية فيه على العاقلة اتفاقاً حكاه ابن المنذر ، وقياساً على شبه العمد ، وقد ثبت بالنص ، وعلى الاقتل عتق رقبة مؤمنة ، لعموم ( لا يجني جان إلا على نفسه ) مع 19 ( { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله } ) .
____________________
(3/7)
( تنبيه ) : تقدير الآية الكريمة والله أعلم : فالواجب تحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمة إلى أهله ، ومن يتعلق به الواجب ليس في الآية ما يدلّ عليه ، ولا يصح أن يقدر 19 ( { فعليه تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله } ) لأن الدية ليست عليه ، نعم إن قيل : الدية عليه ، وأن العاقلة تحملها عنها ، صح ذلك ، لكن المعروف خلافه .
قال : والوجه الآخر أن يقتل في بلاد الروم من عنده أنه كافر ، ويكون قد أسلم وكم إسلامه ، إلى أن يقدر على التخلص إلى بلاد الإسلام ، فيكون على قاتله عتق رقبة مؤمنة بلا دية ؛ لأن الله تعالى قال : 19 ( { فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } ) .
ش : هذا الضرب الثاني من ضربي الخطأ ، وهو الخطأ في القصد ، ولا نزاع في كون هذا ونحوه خطأ ، ولا نزاع أيضاً في وجوب الرقبة على القاتل ، للآية الكريمة ، ووقع النزاع في الدية ، والمشهور عن إمامنا ، ومختار عامة أصحابنا الخرقي ، والقاضي ، والشيرازي ، وابن البنا ، وأبي محمد وغيرهم عدم وجوبها مطلقاً ، لما أشار إليه الخرقي ، وهو أن الله سبحانه ذكر ( أولاً ) قتل المؤمن خطأ ، وأن فيه الكفاة والدية ، ثم ذكر ( ثانياً ) إذا كان من قوم عدو لنا وهو مؤمن ، وأن فيه الكفارة ، ولم يذكر الدية ، ثم ذكر ( ثالثاً ) إذا كان من قوم بيننا وبينهم ميثاق ، أن فيه الكفارة والدية ، فظاهر الآية الكريمة أن القسم الثاني لا دية فيه ( وعن أحمد ) رواية أخرى تجب الدية على العاقلة ، ودليلها يظهر من الكلام على الآية الكريمة ، وذلك أن ( من ) في قوله 19 ( { فإن كان من قوم عدو لكم } ) يحتمل أن تكون لبيان الجنس ، فيكون ظاهر الآية الكريمة عدم وجوب الدية فيمن تقدم ذكره ، كما ذكره الخرقي ، ويلحق به من أسلم ودخل دار الحرب ، للاشتراك في أنه قصد قتل حربي ، وإنما لم تجب الدية والحال هذه والله أعلم لأن الشارع له حرص عظيم على قتل أهل الحرب من غير تثبت ، إذا بلغتهم الدعوة ، فلو أوجبنا الدية في هذه الحال ، ربما توقف فيمن يقتله منهم ، ويحتمل وهو الذي قدمه البغوي أن تكون ( من ) ظرفية ، كقوله سبحانه ؛ 19 ( { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } )9 ( { ماذا خلقوا من الأرض } ) فإذاً معنى الآية : فءن كان في قوم عدو لكم وهو مؤمن ، وهذا يشمل ما قاله الخرقي ، وما إذا تترس الكفار بمسلم ، وخيف على المسلمين إن لم يرموا فرماهم فأصاب المسلم ، وهذا رواية ثالثة لإمامنا ، وللمفسرين قول آخر ، وهو الذي قطع به الزجاج ، والزمخشري ، أن المعنى في الآية الكريمة أن يسلم الرجل في قومه الكفار ، وهو بين أظهرهم فيقتل ، ولا دية لأهله لأنهم كفار محاربون ، فلا يستحقون الدية ، فانتفاء الدية كان لعدم مستحقها ، لا لعدم قبول المحل لها ، ولهذا أوجب الله سبحانه وتعالى بعد في من بيننا وبينهم ميثاق الدية ، لوجود مستحقها ، ( ومن ) أيضاً على هذا القول لبيان الجنس وروايتنا الثانية تتوجه على هذا القول .
____________________
(3/8)
2907 ويؤيد ذلك ما روى محمود بن لبيد رضي الله عنه قال : اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة يوم أحد ، وهم لا يعرفونه فقتلوه ، فأراد رسول الله أن يديه ، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين . رواه أحمد ، وفي لفظ رواه الشافعي قال : فقضى رسول الله بديّته .
2908 وأيضاً عموم قول النبي : ( من قتل خطأ فديته مائة من الإبل ) مختصر ، رواه الخمسة إلا الترمذي .
قال : ولا يقتل مسلم بكافر .
2909 ش : لما روى أبو جحيفة قال : قلت لعلي : يا أمير المؤمنين هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله ؟ قال : والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ما علمته ، إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة ، قال : قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : فيها العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مئمن بكافر . رواه أحمد والبخاري ، والنسائي والترمذي .
2910 وعن قيس بن عبادة قال : انطلقت أنا والأشتر إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقلنا له : هل عهد إليك رسول الله شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة ؟ قال : لا إلا ما في هذا ، وأخرج كتاباً من قراب سيفه ، فإذا فيه : ( المئمنون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، ويسعى بذمّتهم أدناهم ، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، من أحدث حدثاً فعلى نفسه ، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً ، فعليه لعنة الله والملائكة ، والناس أجمعين ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، قال بعض الحفاظ : رجاله رجال الصحيحين .
2911 ولأبي داود عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله نحوه ، وهذا نحوه يخص 19 ( { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } )9 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى ، الحر بالحر } )9 ( { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ، فلا يسرف في القتل } ) .
2912 وقوله : ( العمد قود ، من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ، إن أحبوا قتله ، وإن أحبوا الدية ) على أن 19 ( { كتب عليكم القصاص } ) إنما ورد والله أعلم في المسلمين ، بدليل 19 ( { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } ) فخاطب
____________________
(3/9)
المسلمين ، ثم قال سبحانه : 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء } ) والكافر ليس بأخ للمسلم 19 ( { وكتبنا عليهم فيها } ) شرع من قبلنا ولا نسلم أنه شرع لنا ، ولو سلم فقد ورد شرعنا بخلافه ، ثم قد قيل : إن فيها ما يدل على إرادة المسلمين ، وهو قوله سبحانه : 19 ( { فمن تصدق به فهو كفارة له } ) ولا كفارة للكافر ولا صدقة .
2913 وما روى ابن البيلماني أن النبي أقاد مسلماً بذمي ، وقال : ( أنا أحق من وفى بذمته ) رواه الدارقطني . مردود ( أولاً ) بضعفه ، فإن أحمد قال في رواية الميموني : ليس له إسناد . وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه : الحق فيمن ذهب إلى حديث رسول الله : ( لا يقتل مؤمن بكافر ) وإن احتج بحديث البيلماني محتج فهو عندي مخطىء ، وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى آخر رده ، وهذا مبالغة في ضعف الحديث ، وأن مثله لا يسوغ معه الاجتهاد ، وقال الدارقطني : ابن البيلماني ضعيف ، لا تقوم به حجة ( وثانياً ) بأنه حكاية فعل لا عموم له ، فيحمل إن صح على أنه قتله وهو كافر ثم أسلم .
واعترض على دليلنا بأن قوله : ( لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ) لا بد فيه من تقدير ، وإلا يلزم أن ذو العهد لا يقتل في عهده مطلقاً ، إذ يقتل بالذمي والمعاهد ، والتقدير : ولا ذو عهد في عهده بحربي والقيد في المعطوف قيد في المعطوف عليه ، وأجيب ( أولاً ) بالمنع ، وأن العطف إنما يقتضي التشريك في أصل الحكم ، لا في توابعه ، والعطف في أنه لا يقتل ، من غير نظر إلى تعيين من يقتل به ، كما تقول : مررت بزيد قائماً وعمرو ، أي ومررت بعمرو ، ولا يلزم أن يكون قائماً ( وثانياً ) أنه ليس المراد والله أعلم أنه لا يقتل إذا قتل ، بل ( في ) ( إما ظرفية ) كما هو الأصل فيها ، أي ولا ذو عهد ما دام باقياً في عهده ، نبه أن العهد لا يقتضي العصمة مطلقاً ، كما في الذمة ، بل في زمن العهد خاصة ، ( أو سببية ) .
2914 كما في الصحيح أن امرأة دخلت النار في هرة . أي ولا ذو عهد بسبب عهده ، نبه بذلك على أن العهد سبب لعصمة الدم ، وناسب ذكر ذلك هنا ، لئلا يتوهم من عدم قتل المسلم بالكافر التساهل في قتل الكافر ، فبين أنه وإن لم يقتل المسلم بالكافر ، لكن لا يقتل المعاهد ، ما دام له عهد . انتهى .
وقول الخرقي : ولا يقتل مسلم بكافر . يستثنى منه صورتان ( إحداهما ) إذا قتله أو جرحه وهو كافر ثم أسلم ، فإنه يقتل به على المنصوص ، نظراً لابتداء الحال ، وفيه احتمال ، اعتماداً على إطلاق الحديث ( والصورة الثانية ) إذا قتله في المحاربة ، على إحدى الروايتين ، ومفهوم كلامه أن المسلم يقتل بالمسلم ، والكافر بالكافر ، وهو كذلك
____________________
(3/10)
في الجملة ، إذ لا بد من عصمة المقتول .
( تنبيه ) : ( فلق الحبة ) هو شقها للإنبات ، ( وبرأ النسمة ) البرء الخلق ، والنسمة كل ذي روح ، ( والتكافؤ ) التماثل والتساوي ، أي أنهم متساوون في القصاص والدية ، لا فضل لشريف على وضيع ، ولا كبير على صغيرة ، ونحو ذلك ، ( وهم يد على من سواهم ) أي أنهم مجتمعون يداً واحدة على غيرهم ، من أرباب الملك فلا يسع أحداً منهم أن يتقاعد عن نصرة أخيه المسلم ، ( ويسعى بذمتهم أدناهم ) أي أدنى المسلمين إذا أعطى أماناً ، فعلى الباقين موافقته ، وأن لا ينقضوا عهده ( وأحدث حدثاً ) الحدث الأمر الحادث ، والمراد هنا الجناية والجرم ، ( وآوى محدثاً ) آواه ضمه إليه وحماه ، والمحدث الذي يجني الجناية .
قال : ولا حر بعبد .
ش : لمفهوم 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر } ) .
2915 ولما روى الدارقطني بإسناده عن إسماعيل بن عياش ، عن الأوزاعي ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رجلاً قتل عبده متعمداً ، فجلده النبي ونفاه سنة ، ومحا اسمه من المسلمين ، ولم يقده به ، وأمره أن يعتق رقبة . وإسماعيل بن عياش حجة في الشاميين على الصحيح .
2916 وعن علي رضي الله عنه : السنة أن لا يقتل حر بعبد . رواه أحمد ، وهو منصرف إلى سنة رسول الله .
2917 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لا يقتل حر بعبد ) رواه الدارقطني .
2918 وروى أيضاً عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جدّه ، أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد ، ولأن القصاص لا يجري بينهما في الأطراف ، فكذلك في النفس ، كالأب مع ابنه ، وبهذا يتخصص ( النفس بالنفس ) ( العمد قود ) ( المسلمون تتكافؤ دماؤهم ) ونحوه .
2919 وما في السنن من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله قال : ( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه ) وفي رواية : ( ومن خصى عبده خصيناه ) محمول على من قتل من كان عبده ، أراد والله أعلم أن يبين أن إنعامه بالعتق لا يمنع القصاص ، جمعاً بين الأدلة ولأن في الحديث : ( ومن جدع عبده جدعناه ) وقد نقل الإجماع أن ذلك لا يجب .
____________________
(3/11)
وعموم كلام الخرقي يقتضي أن الحر لا يقتل بالعبد ، وإن كان الحر ذمياً ، وهو كذلك كما سيأتي ، ويستثنى من عموم كلامه إذا قتله أو جرحه وهو رقيق ، ثم أعتق ، وإذا قتله في المحاربة على رواية ، ومفهوم كلامه أن الحر يقتل بالحر ، وهو كذلك بلا ريب ، وأن العبد يقتل بالعبد ، وهو المذهب بلا ريب ، لعموم قوله سبحانه : 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد } )9 ( { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ) ، وقوله : ( المسلمون تتكافؤ دماؤهم ) ونقل ( عنه ) جماعة القصاص بينهم إذا استوت قيمتهم ، مراعاة لجانب المالية ، مع إعمال القصاص في الجملة ، قال في المغني : وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر يعني انتفاء القصاص ، وكذلك ذكر أبو البركات الرواية ، ويستثنى من عموم المفهوم المكاتب لا يقتل بعبده .
قال : وإذا قتل الكافر العبد عمداً فعليه قيمته ، ويقتل لنقض العهد .
ش : أي أن الكافر لا يقتل بالعبد المسلم ، لما تقدم من أن الحر لا يقتل بالعبد ، وهو يشمل المسلم والكافر ، وإذا انتفى القصاص وجبت الدية ، ودية العبد قيمته كما سيأتي ، ويقتل الكافر لنقضه العهد ، إذ مما ينتقض به عهد الكافر قتل المسلم ، هذا هو المذهب المنصوص .
2920 لما روي أن ذمياً كان يسوق حماراً بامرأة مسلمة ، فنخسه فرماها ، ثم أراد إكراهها على الزنا ، فرفع إلى عمر رضي الله عنه ، فقال : 16 ( ما على هذا صالحناهم ) ، فقتله وصلبه .
2921 وروي في شروط عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى عبد الرحمن بن غنم أن ألحق بالشروط : 16 ( من ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده ) . وقيل ( عنه رواية أخرى ) لا ينتقض العهد بذلك ، مخرجة مما إذا قذف مسلماً ، قال أبو البركات : والأصح التفرقة ، وعلى هذه الرواية يؤدب بما يراه ولي الأمر .
قال : والطفل والزائل العقل لا يقتلان بأحد .
ش : لعدم جريان قلم التكليف عليهما ، قال النبي : ( رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ) .
2922 وقد روى الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، أن مروان كتب إلى معاوية بن أبي سفيان أنه أتي إليه بمجنون قد قتل رجلاً ، فكتب إليه معاوية بن أبي سفيان أن اعقله ولا تقد منه ، فإنه ليس على مجنون قود ، وقد شمل كلام الخرقي السكران ، ومن شرب البنج ونحوه ، وقد تقدم الكلام على ذلك في الطلاق .
2923 وفي الموطأ أن مالكاً رحمه الله بلغه أن مروان بن الحكم كتب إلى
____________________
(3/12)
معاوية أنه أتي بسكران قد قتل فكتب إليه أن اقتله .
قال : ولا يقتل والد بولده .
2924 ش : لما روى حجاج بن أرطاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا يقاد الوالد بالولد ) رواه أحمد وابن ماجه ، والترمذي وهذا لفظه ، وقال : وقد روي عن عمرو بن شعيب مرسلاً ، وروى البيهقي نحوه من رواية ابن عجلان عن عمر رضي الله عنه ، وصحح إسناده ، وقال ابن عبد البر : هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق ، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه .
2925 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقتل الوالد بالولد ) .
2926 وعن سراقة بن مالك رضي الله عنه قال : حضرت رسول الله يقيد الأب من ابنه ، ولا يقيد الابن من أبيه رواهما الترمذي ، وفي الصحيح عنه أنه قال : ( أنت ومالك لأبيك ) وهذه الإضافة إن لم تثبت حقيقة الملكية فهي شبهة تدرأ القصاص ، ولأن الأب سبب إيجاده ، فلا يناسب أن يكون الابن سبباً في إعدامه .
قال : وإن سفل .
ش : لا يقتل والد بولده وإن سفل الولد ، لأنه ولد ، ومن علا والد ، فيدخل فيما تقدم ، قال سبحانه : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم } ) دخل فيه ولد الولد ، وقال سبحانه : 19 ( { ملة أبيكم إبراهيم } ) .
قال : والأم والأب في ذلك سواء .
ش : لأنها أحق بالبر من الأب .
2927 بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله أي الناس أحق مني بحسن الصحبة ؟ قال : ( أمك ) قال : ثم من ؟ قال : ( أمك ) قال : ثم من ؟ قال : ( أمك ) متفق عليه ، ولمسلم في رواية : من أبر . وإذا كانت أحق بالبر اندرأ عنها القصاص بطريق الأولى ، وحكى أبو بكر وأبو محمد عن أحمد قولاً بوجوب القصاص على الأم لا الأب ، وأخذه أبو بكر من رواية حرب في امرأة قتلت ولدها ، قال أحمد : أما الرجل إذا قتل ولده فقد بلغنا أنه لا يقتل ، ولم يبلغنا في المرأة شيء ، ومنع ذلك القاضي ، وقال : هذا نقل للتوقف ، لا لوجوب القصاص ، فالأم لا تقتل
____________________
(3/13)
رواية واحدة ، وأخذه أبو محمد من قول أحمد في رواية مهنا في أم ولد قتلت سيدها عمداً : تقتل . قال : من يقتلها ؟ قال : ولدها . وهذا إنما يدل على أن القصاص لا يسقط بانتقاله إلى الولد ، لا أن القصاص يجب بقتل الولد ، ولذلك حكى أبو البركات الرواية ، ولم يلتفت إلى حكايتها في وجوب القود بقتل الولد .
قال : ويقتل الولد بقتل كل واحد منهما .
ش : هذا المشهور ، والمختار للأصحاب ، من الروايتين ، لظواهر الآي ، والأخبار السالمة عن معارض ، ولحديث سراقة المتقدم ، ولأنه إذا قتل بالأجنبي فبهما أولى ، لعظم حرمتهما ، ونقل حنبل : لا يقتل ولد بوالده ، ونحوه نقل مهنا ، لأنه لا تقبل شهادته له بحق النسب ، فلم يقتل به كالأب مع ابنه .
( تنبيه ) : اختلف في الجد من قبل الأم يقتل ابن ابنته ، وابن البنت يقتل جده لأمه ، هل حكم ذلك حكم الجد من قبل الأب ، وحكم الابن من الصلب ، أو لا ، فيجري القصاص بينهما بلا ريب ؟ على وجهين ، وكلام الخرقي محتمل .
قال : وتقتل الجماعة بالواحد .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار من الروايتين .
2928 لما في الموطأ عن سعيد بن المسيب ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غيلة ، وقال عمر رضي الله عنه : 16 ( لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً ) . وفي البخاري نحوه .
2929 وعن علي رضي الله عنه 16 ( أنه قتل ثلاثة برجل ) ، ولأن فيه سداً للذريعة ، وحسماً للمادة ، وتحقيقاً لحكمة الردع والزجر التي فيها حياتنا ، ونقل حنبل : لا تقتل الجماعة بواحد ، فذكر له حديث عمر فقال : ذلك في أول الإسلام ، وفي لفظ عنه : هذا تغليظ من عمر . وحسن هذا ابن عقيل في فصوله . وذلك لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { الحر بالحر } )9 ( { النفس بالنفس } ) .
2930 ويروى عن معاذ أنه خالف عمر رضي الله عنهما ، وقال : 16 ( لا تؤخذ نفسان بنفس ) . واختلف عن ابن عباس رضي الله عنهما ، فعلى هذا الواجب دية واحدة بين القاتلين ، وعلى الأولى هل تجب عليهم دية لأنها بدل ما أتلفوه ، وفارق القصاص ، لأنه إنما وجب سداً للذريعة ، أو ديات ، وهو الذي ذكره أبو بكر ، وصححه الشيرازي ، إذ كل واحد كالمنفرد بالقتل ، بدليل ما لو عفى عن بعضهم ، لم يتجاوزه العفو .
( تنبيه ) : شرط قتل الجماعة بالواحد أن يكون فعل كل واحد منهم صالحاً للقتل به ، ( والغيلة ) بكسر الغين القتل خديعة ومكراً ، من غير أن يعلم أنه يراد بذلك .
____________________
(3/14)
قال : وإذا قطعوا يداً قطعت نظيرتها من كل واحد منهم .
ش : لما ذكر أن الجماعة تقتل بالواحد ، ذكر أيضاً أن الأطراف يؤخذ منها الطرف الواحد بأكثر منه ، وهذا هو المذهب ، وذلك لما تقدم من سد للذريعة ، ولأنه أحد نوعي القصاص ، فأخذ فيه الجماعة بالواحد كالأنفس .
2931 وقد روي عن علي رضي الله عنه أن شاهدين شهدا عنده بالسرقة ، فقطع يده ، ثم جاءا بآخر فقالا : هذا هو السارق ، وأخطأنا في الأول ، فرد شهادتهما على الثاني ، وغرمهما دية الأول ، وقال : 16 ( لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما ) . رواه الأثرم بسنده عن الشعبي ، عن علي رضي الله عنه . وذكره الإمام أحمد في رواية الميموني ( وعن أحمد ) رواية أخرى لا تقطع الأطراف بطرف واحد ، كما لا تقتل الجماعة بالواحد بل أولى ، إذ النفس أشرف من الطرف ، فلا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها .
وقول الخرقي : قطعت نظيرتها ، أي إذا كانت يميناً قطعنا من كل واحد منهم اليمين ، وكذلك إذا كانت يساراً قطعنا من كل واحد اليسار ، ولا تؤخذ يسار بيمين ، ولا يمين بيسار ، لعدم المماثلة المعتبرة شرعاً ، وشرط وجوب القصاص على الجماعة في الطرف أن يشتركوا في ذهابه ، على وجه لا يتميز فعل أحدهم من فعل صاحبه ، كأن يشهدوا عليه بما يوجب قطع طرفه ، ثم يرجعوا ويقولوا تعمدنا ذلك ، أو يكرهوا إنساناً على قطع طرف فيقطعون مع المكره ، أو يلقوا صخرة على إنسان فتقطع طرفه ، أو يضعوا حديدة على مفصل ، ويتحاملوا جميعاً حتى تبين العضو ، ونحو ذلك ، فإن قطع كل واحد من جانب لم يجب القصاص ، لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد ، ولم يشارك في قطع جميعها .
قال : وإذا قتل الأب وغيره عمداً قتل من سوى الأب .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمقطوع به عند عامة الأصحاب ، لأن القتل تمحض عمداً عدواناً ، وإنما سقط عن الأب لمعنى قام به ، فلا يتعدى إلى غيره ، ولأن هذا القتل أعظم إثماً وأكبر جرماً .
2932 قال النبي لما سئل عن أعظم الذنب قال : ( أن تجعل لله نداً وهو خلقك ، ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك ) فإذا وجب القصاص في غير هذا القتل ففيه بطريق الأولى والأحرى ، وسقوطه عن الأب لما تقدم ، لا لقصور في السبب المقتضي ، ( والرواية الثانية ) لا يجب القصاص على غير الأب ، كما لم يجب على الأب ، إذ الزهوق وجد منهما ، فلم يتمحض القتل موجباً للقصاص ، وهذا ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه ، قال : إذا اجتمع في القود من يقاد ومن لا يقاد فلا قود .
____________________
(3/15)
قال : وإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ ، لم يقتل واحد منهم .
ش : هذا أيضاً هو المشهور من الروايتين ، والمختار لجمهور الأصحاب ، إذ عمد الصبي والمجنون في حكم الخطأ ، لعدم اعتبار قصدهما شرعاً ، وإذا القتل لم يتمحض عمداً عدواناً ، فلم يوجب القصاص ، كما لو كانا خاطئين وكقتل شبه العمد ، ( ونقل ابن منصور عن أحمد ) القصاص على البالغ دونهما ، وهو اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي ، وظاهر ما في التنبيه على ما تقدم انتفاء القود ، لأن فعله لو انفرد لأوجب فكذلك إذا وجد مع غيره إذ السقوط عن الغير لمعنى اختصّ به .
قال : وكان على العاقل ثلث الدية في ماله ، وعلى عاقلة كل واحد من الصبي والمجنون ثلث الدية ، وعتق رقبتين في أموالهما ، لأن عمدهما خطأ .
ش : أما وجوب الدية عليهم أثلاثاً فلأن ذهاب النفس حصل من فعلهم ، والنفس فيها دية ، وهم ثلاثة ، فكانت الدية عليهم أثلاثاً ، ولأن الدية بدل المحل المتلف ، بدليل اختلافها باختلافه ، والمحل واحد ، فديته واحدة ، وكذلك الحكم في المسألة السابقة ، إذا عدل الولي إلى طلب المال ، يجب على شريك الأب بقسطه ، كذا ذكره الشيخان ، وقد يقال : يجب على شريك الأب جميع الدية ، بناء على المذهب ، من أنه يقتل ، وعلى رواية أن الجماعة إذا قتلوا واحداً وجبت عليهم ديات ، انتهى . وأما كون ما يلزم العاقل يكون في ماله ، فلأن فعله عمد ، والعاقلة لا تحمل عمداً ، وأما كون ما يلزم الصبي والمجنون يكون على عاقلتهما ، فلأن فعلهما في حكم الخطأ ، والخطأ والحال هذه تحمله العاقلة ، فكذلك ما في حكمه .
وقد شمل كلام الخرقي الصبي العاقل وغيره ، وهو كذلك على المشهور ( وعن أحمد ) رواية أخرى في الصبي العاقل أن عمده في ماله ، نظراً إلى أن له قصداً صحيحاً في الجملة ، بدليل صحة صلاته ، ونحو ذلك ، وسقوط القصاص عنه كان لعدم جريان القلم الخطابي عليه ، انتظار تكامل عقله .
وأمّا كون على الصبي والمجنون عتق رقبتين في أموالهما ، فلأن الله سبحانه جعل في قتل الخطأ الدية والكفارة ، وهذا القتل جار مجرى الخطأ ، فأعطي حكمه ، وكان مقتضى قوله سبحانه : 19 ( { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة } ) مع قوله : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) أن ذلك على الخاطىء أو من بمعناه ، لكن قام الدليل أن الدية في ذلك على العاقلة فيبقى فيما عداه على مقتضى ما تقدم ، وهذا أيضاً هو المشهور عن أحمد ، بناء على أن على كل واحد من المشتركين كفارة ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة ، فعلى هذه يكون على الصبي والمجنون ثلثي رقبة ، ونبه الخرقي بوجوب الكفارة على الصبي والمجنون بوجوبها على البالغ ، وقوله : لأن عمدهما خطأ ، تعليل لإسقاط القصاص في أصل المسألة ، وفي أن ما لزمهما يكون على عاقلتهما ، وفي لزوم الكفارة لهما .
____________________
(3/16)
قال : ويقتل الذكر بالأنثى .
ش : لا نزاع في ذلك ، لقوله سبحانه : 19 ( { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ) .
2933 وقوله : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) ذكر منها : ( النفس بالنفس ) ولحديث اليهودي الذي قتل الجارية ، فقتله النبي بها وقد تقدم .
2934 وفي كتاب عمرو بن حزم عن أبيه عن جده ، ( ويقتل الذكر بالأنثى ) رواه مالك والنسائي ؛ وإذا قتل الذكر بالأنثى فلا شيء لورثته على المذهب بلا ريب ، اعتماداً على ظاهر الآية والحديث ، ونقل إبراهيم بن هانى عن أحمد : يقتل ويعطى ورثته نصف الدية .
2935 وروى ذلك سعيد في سننه عن علي رضي الله عنه ، والظاهر أنه مستند أحمد .
قال : والأنثى بالذكر .
ش : لا خلاف في هذا أيضاً لا في القصاص ولا في الدية ، إذ هو أعلى منها ، أشبه العبد يقتل بالحر .
قال : ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح .
ش : يعني من جرى بينهما في النفس قصاص ، جرى بينهما في الجروح ، قياساً للجروح على النفس ، فيقتص للحر المسلم والعبد ، والذمي من مثلهم ، ويقتص للذكر من الأنثى ، وبالعكس ، ويقتص من الناقص للكامل ، كالكافر بالمسلم ، والعبد بالحر ، ولا يقتص من مسلم لكافر ، ولا من حر لعبد ، ونحو ذلك كما في الأنفس سواء ، ولهذه المسألة تتمة تأتي إن شاء الله تعالى .
قال : وإذا قتله رجلان أحدهما مخطئ ، والآخر متعمد ، فلا قود على واحد منهما .
ش : قد تقدم هذا فيما إذا قتل بالغ وصبي ومجنون ، وحكينا الخلاف ، وأن المذهب ما قاله الخرقي ، وكذلك الخلاف هنا والمسألة واحدة ، وكان حق الخرقي أن يقدم هذه المسألة .
قال : وعلى العامد نصف الدية في ماله ، وعلى عاقلة المخطئ نصفها ، وعليه في ماله عتق رقبة مؤمنة .
____________________
(3/17)
ش : قد تقدم مثل هذا سواء في مسألة البالغ والصبي والمجنون ، ونزيد هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن العامد لا كفارة عليه فيه ، وسيصرح بهذه المسألة فيما بعد ، والله أعلم .
قال : ودية العبد قيمته وإن بلغت ديات .
ش : هذا هو المشهور والمختار للأصحاب ، من الروايتين ، نظراً للمالية ، مع قطع النظر عما سواها ، وبيان ذلك أنه مال متقوّم ، فضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت ، كغيره من الأموال ( والرواية الثانية ) أنه لا يبلغ به دية الحر ، نظراً للمالية والآدمية معاً ، وبيان ذلك أنه ضمان آدمي ، فلم يزد على دية الحر كالحر ، وذلك أن الله تعالى لما أوجب في الحر دية مقدرة ، وهو أشرف من العبد ، كان ذلك تنبيهاً على أن العبد لا يزاد عليها ، بل ينبغي أن ينقص عنها لنقصه عنه قطعاً ، ولهذا الخلاف التفات إلى أن العبد هل يملك أو لا يملك إذ منشأ الخلاف أن له شبهاً بالبهائم وبالأحرار ، والله أعلم .
( تنبيه ) : لم يقدر أحمد النقص على هذه الرواية ، فينبغي أن يكتفي بما يعد في العرف نقصاً ، والله أعلم .
[ باب ] باب القود )
ش : القود القصاص ، والقتل يقع على ثلاثة أضرب ، ( واجب ) وهو قتل المحارب ، والزاني المحصن ، والمرتد ، وتارك الصلاة بشرطه ، وكذلك في الدفع عن حرمته ، وعن نفسه في رواية ، ( ومباح ) وهو القتل قصاصاً أو دفعاً عن النفس في رواية ( ومحظور ) وهو القتل عمداً بغير حق ، وهو من الكبائر العظام ، والجرائم التي تقرب من الشرك بالله المستعان ، حتى أن العلماء اختلفوا في قبول توبة من فعل ذلك ، على قولين هما روايتان عن الإمام ، وإن كان المشهور عنه وعن غيره قبول ذلك تفضلاً من الله وإحساناً ، ونبسط ذلك لا يليق بهذا المكان .
قال : ولو شق بطنه فأخرج حشوته فقطعها ، فأبانها منه ، ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأول .
ش : الحشوة بكسر الحاء وضمها الأمعاء ، فإذا قطع حشوته وأبانها منه ، أو فعل به فعلاً لا تبقى الحياة معه ، ولا حياة مستقرة فيه ، فقد صبره في حكم الميت ، فيعطى حكمه ، وإذاً القاتل هو الأول ، ولا شيء على الثاني من قصاص أو دية نعم عليه التعزير ، لارتكابه المحرم .
قال : ولو شق بطنه ثم ضرب عنقه آخر ، فالثاني هو القاتل ، لأن الأول لا يعيش مثله ، والثاني قد يعيش مثله .
ش : ضابط ذلك أن يفعل به فعلاً يجوز بقاء الحياة معه ، ثم يقتله آخر ، فالثاني
____________________
(3/18)
هو القاتل ، لأنه المفوت للنفس جزماً ، قال أبو محمد : وكذلك الحكم إذا لم يجز بقاؤه مع الجناية ، إلا أن فيه حياة مستقرة كخرق المعى وأم الدماغ .
2936 لأن عمر رضي الله عنه لما جرح سقوه لبناً فخرج ، فعلم أنه ميت ، فقيل له : اعهد إلى الناس ، فعهد إليهم ، وجعل الخلافة في أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وعملوا به .
قال : وإذا قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه ، قتل ولم تقطع يداه ولا رجلاه في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى قال : إنه لأهل أن يفعل به كما فعل .
ش : الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد ، واختيار الأكثرين الخرقي وأبي بكر ، والقاضي في خلافه وفي روايتيه ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل والشيرازي .
2937 لما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه أن النبي نهى عن النهبى والمثلة ، رواه البخاري ، والمثلة تشويه خلقة القتيل ، كجدع أطرافه ، وقطع مذاكيره ، ونحو ذلك ، وإذا فعل به مثل ما فعل فقد مثل به فيدخل في النهي .
2938 وعن النبي أنه قال : ( لا قود إلا بالسيف ) رواه ابن ماجه ، إلا أن أحمد قال : ليس إسناده بجيد ، ولأن القصاص أحد بدلي النفس ، فدخل في حكم النفس كالدية ( والرواية الثانية ) نقلها الأثرم وهي أوضح دليلاً ، لقول الله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } )9 ( { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } )9 ( { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ) ولحديث أنس بن مالك رضي الله عنه المتقدم أن يهودياً رضّ رأس جارية بين حجرين ، فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله أن يرض رأسه بالحجارة ، متفق عليه ، فرتب رسول الله الرض على اعترافه .
2939 وعنه : ( من حرق حرقناه ، ومن غرق غرقناه ) وهذه الأدلّة أخصّ من حديث المثلة ، قال أبو العباس رحمه الله : هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل ؛ ( فعلى هذه الرواية ) متى اقتصر على ضرب عنقه فهو أفضل ، وإن قطع ما قطعه الجاني أو بعضه ، ثم عفى مجاناً فله ذلك ، فإن عفى إلى الدية لم يجز إذ جميع ما فعل بوليه لم يوجب إلا دية ، فإن فعل فله ما بقي من الدية ، فإن لم يبق شيء فلا شيء له ، ( وعلى الأولى ) إن فعل به مثل ما فعل فقد أساء ولا شيء عليه ، فإن قطع طرفاً ثم
____________________
(3/19)
عفى إلى الدية كان له تمامها ، وإن قطع ما يوجب دية ثم عفى لها لم يكن له شيء ، وإن قطع ما يجب به أكثر من دية ثم عفى ، فهل يلزمه ما زاد على الدية ، أو لا ؟ فيه احتمالان ، وكذلك لو تساوى العضوان في الدية ، واختلفا في المحل ، كأن قطع يده فقطع الولي رجله ثم قتله ، فهل يلزمه ضمان الرجل لعدم استحقاقها له بوجه ، أو لا يلزمه لتساويهما في الضمان ؟ فيه احتمالان أيضاً .
ويستثنى على هذه الرواية إذا قتله بمحرم كتجريعه الخمر ، واللواط ، والسحر ، وفي النار خلاف .
وقول الخرقي : قبل أن تندمل جراحه ، احترازاً مما إذا اندملت كما سيأتي ، وقوله : قتل ، أي بالسيف ، لأنه الآلة التي يشرع القصاص بها .
قال : فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة .
ش : لا خلاف في هذا نعلمه في المذهب ، لأنه قاتل قبل استقرار الجرح ، فدخل أرش الجراحة في أرش النفس ، كما لو حصل ذلك بالسراية .
قال : ولو كانت الجراح برأت قبل قتله ، فعلى المعفو عنه ثلاث ديات ، إلا أن يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين .
ش : إذا قطع يديه ورجليه وبرأ ذلك قثم قتله ، فقد استقر حكم القطع ، فللولي أن يقتص من الجميع بلا نزاع ، وله أن يعفو عنه ويأخذ ثلاث ديات ، دية لنفسه ، ودية للرجلين ، ودية لليدين ، وله أن يقتص منه في النفس ، ويأخذ منه دية الأطراف ، وله أن يقتص منه في الأطراف ويأخذ دية النفس ، وله أن يقتص في بعض الأطراف ، ويأخذ دية بعضها ، إذ حكم القطع استقر ، فلا يتغير حكمه بالقتل بعد ذلك ، والله أعلم .
قال : ولو رمى حر مسلم عبداً كافراً ، فلم يقع به السهم حتى أسلم وعتق ، فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية .
ش : لا نزاع في وجوب دية حر مسلم إذا مات من الرمية ، لأن الإتلاف حصل لنفس حر مسلم ، واختلف في وجوب القود ، فنفاه الخرقي ، وتبعه القاضي ، وابن حامد ، فيما حكاه تلميذه ، إذ الرمي جزء من الجناية ، ولا ريب في انتفاء المكافأة حال الرمي ، وإذا عدمت المكافأة في بعض الجناية ، عدمت في كلها ، إذ الكل ينتفي بانتفاء بعضه .
وأثبته أبو بكر ، وابن حامد فيما حكاه ابن عقيل في التذكرة ، وهو ظاهر كلام أحمد ، لقوله في رجل أرسل سهماً على زيد ، فأصاب عمراً : هو عمد ، عليه القود ؛ فاعتبر الحظر في ابتداء الرمي ، وذلك لأنه قتل مكافئاً له ظلماً عمداً ، فوجب القصاص ، كما لو كان حال الرمي كذلك ، يحققه لو رمى مسلماً فلم يصبه السهم حتى ارتد ومات ، فإنه لا قصاص عليه ، وملخص ما تقدم أن سبب السبب وهو الرمي
____________________
(3/20)
هل حكمه حكم السبب الذي هو الإصابة أم لا ؟ يخرج على قولين ، ولهذا شبه بما إذا تعددت الأسباب كما يذكر في مسألة التجاذب ، هل يناط الحكم بالجميع أو بآخرها ؟ على قولين ، فترتب الحكم على الجميع شبه قول أبي بكر ، وتعلق الحكم بالآخر ، وهو المشهور ، شبه قول الخرقي .
قال : وإذا قتل رجل اثنين ، واحداً بعد واحد ، فاتفق أولياء الجميع على القود ، أقيد لهما ، وكذلك إن أراد أولياء الأول القود ، والثاني الدية أقيد للأول ، وأعطي أولياء الثاني الديّه من ماله ، وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية ، والثاني القود .
ش : إذا قتل واحد جماعة فرضي أولياؤهم بأخذه بجميعهم ، أخذ بهم ، لرضاهم بدون حقهم ، أشبه ما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء ، وإن طلب أحدهم القصاص ، والآخر الدية ، فلهم ذلك ، سواء كان من رضي بالقود حقه متقدماً أو متأخراً .
2940 لعموم قول النبي : ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية ) وإن تشاحوا فيمن يقتص منه منهم على الكمال ، فإن كانت حقوقهم تعلقت به في حال واحدة ، قدم أحدهم بالقرعة ، وإن اختلف وقت التعلق فهل يقدم أحدهم بالقرعة ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً لتساوي حقوقهم بالنسبة إلى البدل والمال ، أو أسبقهم ، لتميزه بالسبق ، وبه جزم أبو محمد ؟ فيه وجهان .
قال : وإذا جرحه جرحاً يمكن الاقتصاص منه بلا حيف اقتص منه .
ش : الأصل في جريان القصاص في الجروح في الجملة الإجماع ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { والجروح قصاص } ) .
2941 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إليها العفو ، فأبوا ، فعرضوا الأرش فأبوا ، فأتوا رسول الله وأبوا إلا القصاص ، فأمر رسول الله بالقصاص ، فقال أنس بن النضر رضي الله عنه : أتكسر ثنية الربيع ، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . فقال رسول الله : ( يا أنس كتاب الله القصاص ) فرضي القوم ، فقال رسول الله : ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) رواه البخاري ، وفي رواية مسلم أن أخت الربيع جرحت إنساناً ، وأن السائل أم الربيع ، ولعلهما واقعتان .
إذ تقرّر هذا فيشترط لجريان القصاص في الجروح ثلاثة شروط ( أحدها ) إمكان القصاص من غير حيف ، ككل جرح ينتهي إلى عظم ، كما في الموضحة ، لقول الله
____________________
(3/21)
تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) ثم قال سبحانه وتعالى : 19 ( { واتقوا الله } ) أي إذا اقتصصتم ، وقال سبحانه : 19 ( { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } ) فأباح لنا سبحانه أن نفعل مثل ما فعل بنا ، فإذا لم يمكن الاستيفاء إلا بحيف لم نفعل مثل ما فعل بنا ، بل زدنا عليه ، فلم نتق الله ، كما في الجناية المبتدأة ( الشرط الثاني ) أن يكون الجارح ممن يؤخذ بالمجروح لو قتله ، وذلك بأن يجرحه عمداً محضاً ، فلا قصاص في الخطأ إجماعاً ، وكذلك في شبه العمد على المذهب كالأنفس ، كما لو ضربه بحصاة لا يوضح مثلها ، فأوضحت ، وخالف أبو بكر وتبعه الشيرازي ، فأوجب القصاص في الجروح في شبه العمد ، كأن يضربه بشيء لا يقطع الطرف فيتلفه ، لعموم ( والجروح قصاص ) وهو منتقض بالخطأ ، وله أن يجيب بأنه خرج بالإجماع ، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم ( الشرط الثالث ) التكافؤ بين الجارح والمجروح ، كما تقدم في قول الخرقي : ومن كان بينهما في النفس قصاص ، فهو بينهما في الجراح . ومقتضي كلام الشيخ أبي محمد أن قول الخرقي : ومن كان بينهماقصاص في النفس ، فهوبينهما في الجراح . وقوله بعد : إذا كان الجاني ممن يقاد من المجني عليه لو قتله ؛ معناهما واحد ، وقد يحمل أحدهما على التكافؤ ، والآخر على اشتراط العمدية ، دفعاً للتكرار ، وحذاراً من فوات شرط .
واعلم أن ظاهر كلام ابن حمدان في الرعاية الصغرى تبعاً لأبي محمد في المقنع أن المشترط لوجوب القصاص أمن الحيف ، وهو أخص من إمكان الاستيفاء بلا حيف ، والخرقي رحمه الله إنما اشترط إمكان الاستيفاء ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني ، وأبو البركات ، وجعل أبو البركات أمن الحيف شرطاً لجواز الاستيفاء وهو التحقيق ، وعليه لو أقدم واستوفى ولم يتعد وقع الموقع فلا شيء عليه ، وكذا صرح أبو البركات ، وعلى مقتضى قول ابن حمدان ، وما في المقنع ، يكون جناية مبتدأة ، يترتب عليها مقتضاها .
قال : وكذلك إن قطع منه طرفاً من مفصل ، قطع منه مثل ذلك المفصل ، إذا كان الجاني ممن يقاد من المجني عليه لو قتله .
ش : لا نزاع في جريان القصاص في الأطراف ، وقد دلّ عليه قوله تعالى : 19 ( { والعين بالعين } ) إلى آخر الآية ، ويشترط لذلك ما تقدم ، وإمكان الاستيفاء هنا من غير حيف ، ( بأن يكون ) القطع من مفصل ، كالكوع والكعب ونحو ذلك ، ويلتحق بذلك ما له حد ينتهي إليه ، كمارن الأنف وهو ما لان منه ، فإن كان من غير مفصل ، كنصف الذراع ، ونصف الساق ونحو ذلك ، فلا قصاص من ذلك الموضع بلا ريب ، حذاراً من الحيف الممنوع منه شرعاً .
وهل يقتص من المفصل الذي دونه ، كالكوع والكعب ، لرضاه بدون حقه ، أشبه ما لو رضى صاحب الصحيحة بالشلاء ، أو تتعين الدية ، وهو المنصوص ، واختيار أبي
____________________
(3/22)
بكر ، وحكاه في الهداية عن الأصحاب ، حذاراً من أن لا يفعل به مثل ما فعل به .
2942 ولما روي أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف ، فقطعها من غير مفصل ، فاستعدى عليه النبي ، فأمر له بالدية ، فقال : إني أريد القصاص ؛ فقال : ( خذ الدية بارك الله لك فيها ) ولم يقض له بقصاص ، رواه ابن ماجه ؟ فيه قولان ، فعلى القول الأول هل يكون للمجني عليه أرش الباقي ؟ فيه وجهان ، أشهرهما لا ، انتهى . ( وبأن يكون ) الطرفان متماثلين ، وذلك في شيئين ( في الاسم الخاص ) فلا تؤخذ يسار بيمين ، ولا يمين بيسار ، ولا عليا من الشفة والأجفان بسفلى ، ونحو ذلك . ( وفي الصحة والكمال ) فلا تؤخذ صحيحة بشلاء ، ولا كاملة الأصابع بناقصتها ، ونحو ذلك ، لانتفاء المماثلة المعتبرة شرعاً ، وإذا حصل الحيف ، ولا يشترط التماثل في الرقة والغلظ ، والصغر والكبر ، ونحو ذلك ، إذ اعتبار ذلك يفضي إلى إسقاط المماثلة رأساً .
قال : وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص .
ش : لما ذكر الخرقي رحمه الله أن من شرط وجوب القصاص في الجروح إمكان الاستيفاء من غير حيف ، ذكر جرحاً في الرأس وهو المأمومة ، وجرحاً في الجوف وهو الجائفة ، لا يمكن الاستيفاء فيهما إلا بحيف ، أو لا يؤمن في الاستيفاء فيهما الحيف .
2943 وقد روي عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( لا قود في المأمومة ، ولا في الجائفة ، ولا في المنقلة ) رواه ابن ماجه .
2944 وعن علي رضي الله عنه : لا قصاص في المأمومة .
2945 وعن ابن الزبير رضي الله عنهما أنه اقتص من المأمومة ، فأنكر الناس عليه ، وقالوا : ما سمعنا أحداً اقتصّ منها قبل ابن الزبير ، انتهى . والمأمومة هي التي تصل إلى جلدة الدماغ ، وتسمى تلك الجلدة أم الدماغ ، لأنها تجمعه ، فالشجة الواصلة إليها تسمى مأمومة ، وآمة لوصولها إلى أم الدماغ ، والجائفة هي التي تصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو نحر ، أو غير ذلك ، والله أعلم .
قال : وتقطع الأذن بالأذن .
ش : هذا إجماع في الجملة ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { والأذن بالأذن } ) وكلام الخرقي يشمل كل أذن بكل أذن ، ويستثنى من ذلك أذن السميع ، هل تؤخذ بأذن الأصم ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا تؤخذ بها ، لنقص أذن الأصم عنها ، فأشبه اليد الصحيحة ، لا تؤخذ بالشلاء ( والثاني ) وهو اختيار القاضي ، ومقتضى كلام الخرقي وبه قطع أبو محمد في الكافي والمغني تؤخذ بها منعاً للنقص ، إذ السمع في
____________________
(3/23)
الرأس لا في الأذن انتهى ، والأذن الصحيحة هل تؤخذ بالشلاء ؟ فيه أيضاً وجهان ( أحدهما ) لا تؤخذ لنقص الشلاء ( والثاني ) وهو اختيار القاضي أيضاً تؤخذ بها ، إذ المقصود من الأذن جمع الصوت والجمال ، وهذا حاصل فيها ، فلا نقص ، والأذن التامة بالمخرومة ، وفيها أيضاً وجهان ، تعليلهما ما تقدم ، وأبو محمد والقاضي يختاران عدم الأخذ بخلاف ثم ، لأن الخرم نقص جزء ويعد عيباً ، أما المثقوبة هل تؤخذ بها الصحيحة ؟ فرق أبو محمد بين أن يكون الثقب في محله كموضع القرط ، أو في غير محله ، ففي محله تؤخذ بها لعدم العيب ، وفي غير محله هو كالخرم ، لا تؤخذ بها عنده .
قال : والأنف بالأنف .
ش : هذا أيضاً إجماع في الجملة ، وقد شهد له قوله تعالى ؛ 19 ( { والأنف بالأنف } ) وكلام الخرقي يشمل كل أنف بكل أنف ، ويستثنى من ذلك الأنف الشام ، هل يؤخذ بالأخشم ، وهو الذي لا شم فيه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا يؤخذ نظراً لنقص الأخشم عنه ( والثاني ) وهو مقتضى كلام الخرقي ، واختيار القاضي ، وبه جزم أبو محمد في الكافي والمغني ، يؤخذ به ، لأن عدم الشم لعلة في الدماغ ، لا لنقص في الأنف ، والأنف الصحيح هل يؤخذ بالأشل ؟ فيه أيضاً وجهان ، تعليلهما ما تقدم في الأذن الصحيحة بالشلاء ، والمختار للقاضي أيضاً الأخذ ، والأنف التام هل يؤخذ بالمخروم ؟ فيه أيضاً وجهان ، تعليلهما والمختار فيهما ما تقدم في الأذن ، وينبغي أن يجري الوجهان أيضاً في الثقب مطلقاً ، والله سبحانه أعلم .
قال : والذكر بالذكر .
ش : لا نعلم في ذلك خلافاً ، وقد دلّ على ذلك قوله سبحانه : 19 ( { والجروح قصاص } ) وقد شمل كلام الخرقي كل ذكر بكل ذكر ، ويستثنى من ذلك ذكر الخصي والعنين ، هل يؤخذ بهما الذكر الصحيح ؟ على ثلاث روايات ( إحداهن ) وهو مقتضى كلام الخرقي يؤخذ بهما ، لعموم 19 ( { والجروح قصاص } ) ودعوى النقص ممنوعة ، إذ عدم الإنزال في الخصي لذهاب الخصية ، والعنة لعلة في الظهر ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم لا يؤخذ بهما العنين ، إذ العنين لا يطأ ولا ينزل ، والخصي لا يولد له ولا ينزل ، فأشبها ذكر الأشل ( والثالثة ) يؤخذ بذكر العنين ، لأن ذلك مرض ، والصحيح يؤخذ بالمريض ، دون ذكر الخصي لأنه مأيوس من إنزاله المني ، فهو كالأشل ، وهذا اختيار ابن حامد ، وهذا الخلاف قال القاضي في الجامع : مبني على اختلاف الرواية في دية ذلك ، والله أعلم .
قال : والأنثيان بالأنثيين .
____________________
(3/24)
ش : لعموم ( والجروح قصاص ) والله أعلم .
قال : وتقلع العين بالعين .
ش : هذا إجماع ، وقد شهد له قوله سبحانه : 19 ( { والعين بالعين } ) وشمل كلام الخرقي كل عين بكل عين ، ويستثنى من ذلك العين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة ، وعين الأعور إذا قلع عين صحيح ، فإنه عينه لا تقلع بها ، حذاراً من ذهاب جميع بصره بنصف بصر .
2946 واعتماداً على أن ذلك يروى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما ، وفيه احتمال أن عينه تقلع ، ويعطى نصف الدية ولعلها من رواية قتل الذكر بالأنثى ، وإعطاء ورثته نصف الدية ، والله أعلم .
قال : والسن بالسن .
ش : هذا أيضاً إجماع ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { والسن بالسن } ) وحديث الربيع وقد تقدم ، والله أعلم .
قال : فإن كسر بعضها ، برد من سن الجاني مثله .
ش : لظاهر حديث الربيع ، أنها كسرت ثنية جارية فأمر النبي بالقصاص ، ويكون القصاص بالمبرد ليأمن من أخذ زيادة ، بخلاف الكسر ، فإنه لا تؤمن معه الزيادة ، ويبرد من السن مثل ما ذهب من سن المجني عليه ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) وتعتبر المثلية بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف ، والربع بالربع ، ونحو ذلك ، لا بالمساحة ، حذاراً من أخذ جميع السن بالبعض ، إذا كانت سن الجاني صغيرة ، وسن المجني عليه كبيرة ، والله أعلم .
قال : ولا تقطع يمين بيسار ، ولا يسار بيمين .
ش : لفوات المماثلة المعتبرة ، لا يقال ينبغي أن تؤخذ اليسار باليمين ، لنقص اليسار عن اليمين ، لأنا نقول منافعهما تختلف ، فأشبها الرجل مع اليد ، والله أعلم .
قال : وإذا كان القاطع سالم الطرف ، والمقطوع شلاء فلا قود .
ش : لانتفاء المماثلة المعتبرة شرعاً ، إذ لا نفع فيها إلا الجمال ، فلا تؤخذ بها ما كملت منفعته ، كالعين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة ، ومراد الخرقي بالطرف يجوز أن يكون اليدان والرجلان ، ويجوز أن يريد ما هو أعم من هذا ، فيدخل فيه الأنف الأشل ، والأذن الشلاء ، ويكون ظاهر كلام الخرقي أحد الوجهين المتقدمين ، والله أعلم .
قال : وإذا كان القاطع أشل ، والمقطوعة سالمة ، فشاء المظلوم أخذها فله ذلك ، ولا شيء له غيرها ، وإن شاء عفا وأخذ دية يده .
ش : يخير صاحب اليد الصحيحة التي قطعت ، بين أن يعفو عن الجاني ، ويأخذ
____________________
(3/25)
دية يده بلا ريب ، وبين أن يأخذ الشلاء بيده الصحيحة لرضاه بدون حقه ، أشبه ما لو رضي المسلم بالقصاص من الذمي ، والحر من العبد ، ويشترط لذلك ما تقدم من إمكان الاستيفاء من غير حيف ، بأن يقول أهل الخبرة : إنا نأمن من قطعها التلف ، أما إن قالوا إنه إذا قطعها لم يأمن أن لا تستد العروق ، ويدخل الهواء إلى البدن فيفسده فلا قصاص ، حذاراً من الحيف الممنوع منه شرعاً ، وإذا أخذت الشلاء بالصحيحة بشرطه فلا شيء للمقتص على المذهب ، لئلا يجمع في العضو الواحد بين القصاص والدية ، واختار أبو الخطاب في هدايته أن له الأرش ، وقد بقي من تقاسيم مسألة اليدين إذا كانتا صحيحتين وهو واضح ، وإذا كانتا أشلتين ، والقصاص جار فيهما بشرط أمن الحيف ، والله أعلم .
قال : وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل ، أو غائب لم يقتل حتى يقدم الغائب أو يبلغ الطفل .
ش : هذا هو المذهب المنصوص بلا ريب ، حتى أن أبا محمد في الكافي لم يذكر غيرها .
2947 لقول النبي : ( من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين ، إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية ) أضاف القتل إلى اختيار جميع الأهل ، والصغير والمجنون من جملتهم ، فإذا لم يوجد منهم الاختيار لم يجز القتل ، وحكى ابن حمدان في رعايته الصغرى رواية بأن من حضر له الاستيفاء وعممها ، وخصها الشيخان ومن رأينا كلامه بالصبي والمجنون ، وجعلوا الغائب أصلاً قاسوا عليه المذهب ، قال القاضي وأتباعه : قود ثابت لجماعة معينين ، لم يتحتم استيفاؤه ، فلم يجز لبعضهم أن ينفرد باستيفائه ، أصله إذا كان بعضهم غائباً ؛ واحترزوا ( بمعينين ) عمّا إذا لم يكن له وارث ، فإن للإمام الاستيفاء ، مع أن القود للمسلمين ، وفيهم الصغير والمجنون ، ( ولم يتحتم استيفاؤه ) عن قطاع الطريق إذا قتلوا من في ورثته صغير أو مجنون ، فإنهم يقتلون من غير انتظار .
واعلم أن أصل هذه الرواية أخذها القاضي من قول أحمد في رواية ابن منصور في يتيتم قطعت يده فوليه بالخيار ، إن شاء الدية ، وإن شاء القود ، أرأيت إن مات قبل أن يندمل ، ووجه الأخذ أن أحمد جوز للولي القصاص ، ويلزم منه سقوط تشفي الصغير ، فكذلك هنا ، إذ غايته سقوط التشفي ، والعجب أن القاضي لم يذكر هذه الرواية في محلها ، بل خرج ثم على معنى هنا ، وبالجملة وجه هذه الرواية أن الصغير والمجنون في حكم المعدومين ، ولأن الحسن بن علي رضي الله عنهما قتل ابن ملجم قصاصاً ، وفي الورثة صغار ، فلم ينكر عليه ، وأجيب بوجهين ( أحدهما ) أنه إنما قتله لكفره ، لأنه قتل علياً كرم الله وجهه مستحلاً لدمه ، كما هو مذهب الخوارج ، ومن استحل ذلك كفر ، وقد قال خبيثهم عمران بن حطان قبحه الله في ذلك يمدح قاتله :
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضواناً
____________________
(3/26)
إني لأذكره يوماً فأحسبه
أوفى البرية عند اللَّه ميزاناً
ولهذا كان أشهر الروايتين عن إمامنا رحمه الله تكفيرهم ( والوجه الثاني ) وهو جواب أبي بكر أن عبد الرحمن بن ملجم شهر السلاح ، وسعى في الأرض بالفساد ، وحارب الله ورسوله ، وإذاً يتحتم قتله فيكون كقاطع الطريق إذا قتل ، والحسن هو الإمام ، فقتله لذلك ، ولذلك لم ينتظر الغائبين ، وقد حكي الاتفاق على وجوب انتظارهم ، ونقل عبد الله : إذا كان في الأولياء صبي أو مصاب لم يقتل حتى يشب الصغير ، وإن كان مصاباً يصيرون إلى الدية ، قال القاضي : وظاهر هذا أنه أسقط القصاص رأساً في حق المجنون ، وأثبته في حق الصغير ، كما قال ، وهو محمول على أن جنونه مطبق ، لا يرجى زواله .
قال : ومن عفى من ورثة المقتول عن القصاص ، لم يكن إلى القصاص سبيل ، وإن كان العافي زوجاً أو زوجة .
ش : ( قد تضمن ) كلام الخرقي صحة العفو عن القصاص ، وهو إجماع ولله الحمد ، بل هو أفضل ، لقوله سبحانه : 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ، وأداء إليه بإحسان } ) وقال تعالى : 19 ( { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } ) .
2948 وقال أنس بن مالك رضي الله عنه : 16 ( ما رأيت رسول الله رفع إليه شيء فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو ) . رواه الخمسة إلا الترمذي .
2949 وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفاً عليهن ، لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا ، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله تعالى بها عزاً يوم القيامة ، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ) رواه أحمد .
( وتضمن أيضاً ) أن القصاص حق لجميع الورثة يرثه من يرث المال .
2950 وذلك لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا ، ولا يرثوا منها إلا ما فضل من ورثتها ، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها ، وهم يقتلون قاتلها ، رواه الخمسة إلا الترمذي ، ويتفرع على هذا أنه من عفى من الورثة عن القصاص سقط ، إذ القتل عبارة عن زهوق الروح بآلة صالحة ، وذلك لا يتبعض ، فإذا أسقط بعض مستحقيه حقه منه سقط ، لتعذر استيفائه .
____________________
(3/27)
2951 وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كان امرأة ) رواه النسائي ، وأبو داود ولفظه : ( الأولى فالأولى ) .
وقوله : وإن كان العافي زوجة ، تنصيص على مخالفة مذهب الغير ، وذلك لما تقدم .
2952 وعن عمر رضي الله عنه أنه أتي برجل قد قتل قتيلاً ، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه ، فقالت امرأة المقتول وهي أخت القاتل : قد عفوت عن حقي . فقال عمر رضي الله عنه : 16 ( الله أكبر عتق القتيل ) . رواه أبو داود ( وقوله ) : عن القصاص : يحترز به والله أعلم عما إذا عفى عن الدية ، فإنه يكون مختاراً للقود ، ولم أعلم من صرح بذلك ، وأظن ذلك وقع للقاضي في روايتيه ، وقال : أومأ إليه أحمد في رواية الميموني ( وقوله ) : لم يكن إلى القصاص سبيل ، أي طريق ، ويفهم منه أن له إلى الدية سبيل ، وهو كذلك ، أما في حق من لم يعف فواضح ، لتعذّر القصاص عليه ، وذلك يوجب تعين الدية له ، وأما في حق من عفى فهو ينبني على أصل ، وهو أن الواجب في قتل العمد أحد شيئين ، القصاص أو الدية على المذهب ، فعلى هذا إذا عفى عن القصاص ثبتت له الدية ، ويأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك .
( تنبيه ) : ( المقتتلين ) هنا أن يطلب أولياء القتيل القود ، فيمتنع القتلة ، فينشأ بينهم الحرب والقتال من أجل ذلك ، فجعلهم مقتتلين بفتح التائين من أجل ذلك ، يقال : اقتتل فهو مقتتل ، غير أن هذا إنما يستعمل أكثره فيمن قتله الحرب قاله الخطابي . ( وينحجزوا ) أي ينكفوا عن القود ، بعفو أحدهم ولو كان امرأة ، ( والأول فالأول ) أي الأقرب فالأقرب .
قال : وإذا اشترك الجماعة في القتل فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم ذلك ، وإن أحبوا أن يقتلوا البعض ، ويعفو عن البعض ، ويأخذوا الدية من الباقين ، كان لهم ذلك .
ش : إذا اشترك الجماعة في القتل فللأولياء أن يقتلوا الجميع ، بناء على المذهب ، من أن الجماعة تقتل بالواحد وقد تقدم ، ولهم أن يقتلوا البعض ، لأنهم إذا كان لهم قتل الجميع فقتل البعض بطريق الأولى ، ويعفوا عن البعض ، لأن من له قتل شخص ، له العفو عنه كما تقدم ، ولا يسقط القصاص عن البعض بالعفو عن البعض ، لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر ، كما لو قتل كل واحد رجلاً ، ويأخذوا الدية من البعض ، لأن من ملك قتل شخص ، ملك العفو عنه إلى الدية كما سيأتي ، وماذا يأخذ منه ، هل يأخذ منه دية كاملة ، أو بقسطه من الدية ،
____________________
(3/28)
فلو كان القاتلون أربعة فعليه ربع الدية ؟ فيه روايتان تقدمتا .
وقول الخرقي : ويأخذوا الدية ، ظاهره وإن لم يرض الجاني ، وهو يستدعي بيان أصل ، وهو أن موجب العمد ما هو ؟ عن أحمد ثلاث روايات ( إحداهن ) ، وهو المذهب عند الأصحاب وتقدمت الإشارة إليه موجبه أحد شيئين ، القصاص أو الدية ، لقوله سبحانه : 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان } ) أوجب سبحانه الاتباع بالمعروف بمجرد العفو ، وهو يشمل ما إذا عفى مطلقاً ، وذلك فائدة أن الواجب أحد شيئين .
2953 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم تكن الدية فيهم ، فقال الله سبحانه لهذه الأمة : 19 ( { كتب عليكم القصاص في القتلى } ) الآية 19 ( { فمن عفي له من أخيه شيء } ) قال : فالعفو أن يقبل في العمد الدية ، مختصر ، رواه البخاري وغيره ، قال الزمخشري في قوله تعالى : 19 ( { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } ) أهل التوراة كتب عليهم القصاص ، وحرم العفو وأخذ الدية ، وأهل الإنجيل العفو ، وحرم القصاص والدية ، وخيرت هذه الأمة بين الثلاث ، القصاص والدية والعفو ، ونحوه قال البغوي ، إلا أنه قال : وأهل الإنجيل الدية .
2954 وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يقتل ، وإما أن يفدى ) متفق عليه .
2955 وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله يقول : ( من أصيب بدم أو خبل والخبل الجراح ، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث ، بين أن يقتص ، أو يأخذ العقل ، أو يعفو ، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه ) ثم تلا ؛ 19 ( { فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم } ) رواه أحمد وأبو داود . وهذا نص ( والرواية الثانية ) موجب العمد القود عيناً ، وله العفو إلى الدية من غير رضى الجاني ، فتكون الدية بدلاً عن القصاص ، اختارها ابن حامد ، لظاهر قول الله تعالى ؛ 19 ( { كتب عليكم القصاص } ) .
2956 وقول النبي : ( من قتل عمداً فهو قود ، ومن حال دونه فعليه لعنة الله ، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) رواه أبو داود والنسائي . ( والثالثة ) موجبه القود عيناً ، وليس له العفو على الدية بدون رضى الجاني ، لأن هذا متلف يجب به البدل ، فكان بدله معيناً ، كسائر أبدال المتلفات .
إذا تقرّر هذا فكلام الخرقي جار على الرواية الأولى ، إذ عليها إذا اختار الدية
____________________
(3/29)
كانت له بلا ريب ، وكذلك إذا عفى مطلقاً ، أما على الثانية فلا شيء عليه إذا عفى مطلقاً ، وإنما تجب له الدية إذا عفى عن القود إليها ، كذا قال الشيخان وغيرهما ، وشذ الشيرازي فقال : لا شيء له أيضاً على هذه الرواية ، وفي موضع آخر من المبهج أيضاً ظاهر كلامه موافقة الجماعة ، وعلى الثالثة لا يستحق العفو إلا برضى الجاني .
( تنبيه ) : ( يفدي ) المراد هنا بالفدية الدية ، بدليل أن في رواية أخرى : ( إما أن يؤدى ، وإما أن يقاد ) . ( والصرف ) التوبة ( والعدل ) الفدية .
قال : وإذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به ، فبذل القاتل أكثر من الدية على أن لا يقاد ، فللأولياء قبول ذلك .
ش : إذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به ، أي يأخذوا به القود ، فبذل القاتل أكثر من الدية ، على أنه لا يقاد بالمقتول ، فللأولياء قبول ذلك ، لأن الحق لهم ، لا يعدوهم .
2957 وفي الترمذي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله قال : ( من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا الدية ، وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفه ، وما صولحوا عليه فهو لهم ) وذلك لتشديد القتل ، ولأبي البركات احتمال بالمنع من ذلك ، وربما فهم من كلام الخرقي أن الأولياء لو رضوا بدون الدية كان لهم ذلك ، وهو كذلك بلا ريب .
قال : وإذا قتله رجل وأمسكه آخر ، قتل القاتل ، وحبس الماسك حتى يموت .
ش : هذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار القاضي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم ، والشيرازي ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم } ) الآية ، والقاتل اعتدى بالقتل فيقتل ، والممسك اعتدى بالحبس إلى الموت فيحبس إلى أن يموت .
2958 وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( إذا أمسك الرجل ، وقتله الآخر ، يقتل الذي قتل ، ويحبس الذي أمسك ) رواه الدارقطني .
2959 وعن علي رضي الله عنه أنه أتي برجلين قتل أحدهما ، وأمسك الآخر ، فقتل الذي قتله ، وقال للذي أمسك ؛ أمسكته للموت ، فأنا أحبسك في السجن حتى تموت . رواه الأثرم والشافعي في مسنده . ولا يعرف له مخالف في الصحابة ( والرواية الثانية ) يقتلان جميعاً ، لظاهر قول عمر رضي الله عنه : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به ، ولأن القتل وجد منهما ، أحدهما بالسبب ، والآخر بالمباشرة ، أشبه ما لو
____________________
(3/30)
باشراه ، وأجيب عن قول عمر رضي الله عنه أن المراد بقوله : لو تمالأ عليه لو تشاركوا ، ثم هو معارض بقول علي ، وشرط قتل الممسك قصد القتل بإمساكه ، أما إن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه ، ذكره أبو محمد ، وكذلك ذكر القاضي أنه إذا أمسكه للعب أو الضرب فقتله القاتل أنه لا قود على الممسك ، ذكره محل وفاق .
( تنبيه ) : ( أمسك ومسك ) لغتان ، والخرقي جمع بينهما فقال : وأمسكه آخر . وقال : وحبس الماسك حتى يموت . والماسك اسم فاعل من مسك ، واسم فاعل : أمسك ، ممسك .
قال : ومن أمر عبده أن يقتل ، وكان العبد أعجمياً ، لا يعلم أن القتل محرم قتل السيد .
ش : الأعجمي هو الذي لا يفصح ، وله حالتان ، تارة يعلم أن القتل محرم وسيأتي وتارة لا يعلم ، والخرقي رحمه الله إنما ذكر الأعجمي لأنه الذي لا يعلم غالباً ، فالعجمة قرينة تصديقه ، وهذا ما لم تقم قرينة تكذبه ، كالناشئ في بلاد الإسلام ، وبالجملة إذا أمر السيد من هذه صفته بالقتل فقتل ، فإن السيد يقتل ، لأن العبد والحال هذه كالآلة له ، فإذاً السيد قد تسبّب في قتله بما يقتله غالباً ، فأشبه ما لو أنهشه حية أو كلباً ونحو ذلك ، ولا يقتل العبد ، لأن العبد والحال هذه معتقد الإباحة ، وذلك شبهة تمنع القصاص ، ولأن حكمة القصاص الردع والزجر ، ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة ، واختلف عن أحمد فيما يفعل به ( فعنه ) يؤدب ويترك ، حذاراً من إقدامه على ذلك مرة أخرى ( وعنه ) يحبس حتى يموت .
2960 اعتماداً على أن هذا قول أبي هريرة رضي الله عنهما ، قال علي رضي الله عنه : يستودع السجن .
قال : وإن كان العبد يعلم حظر القتل قتل العبد ، وأدب السيد .
ش : إذا كان العبد يعلم حظر القتل ، فإنه يقتل إذا كان مكلفاً ، لأنه مباشر مكلف ، عالم بتحريم القتل ، فكان موجب القتل عليه للعمومات ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولأن المباشرة تقطع حكم السبب ، أشبه الحافر مع الدافع ، ويؤدب السيد ، لتسببه بما أفضى إلى القتل ، وهذه التفرقة التي قالها الخرقي تبعه عليها أبو الخطاب والشيخان وغيرهم ، وحكى الشيرازي في العبد من حيث الجملة روايتين ( إحداهما ) يحبس إلى الممات ويقتل السيد ، ( والثانية ) يقتل العبد ، ويؤدب السيد ، ثم حكى قول الخرقي ، والله أعلم .
( باب ديات النفس )
ش : الديات واحدتها دية مخففة ، وأصلها ( ودى ) والهاء بدل من الواو ، كالعدة من الوعد ، والزنة من الوزن ، تقول : وديت القتيل أديه دية وودياً . إذا أعطيت ديته ،
____________________
(3/31)
وأتديت إذا أخذت الدية ، فالدية في الأصل مصدر ، سمي به المال المؤدي إلى المجني عليه أو إلى أوليائه ، كالخلق بمعنى المخلوق ، والأصل في الدية الإجماع ، وسنده قوله تعالى : 19 ( { ودية مسلمة إلى أهله } ) وقول النبي : ( في النفس مائة من الإبل ) في عدة أحاديث نذكر ما تيسر منها إن شاء الله تعالى .
قال : ودية الحر المسلم مائة من الإبل .
ش : لا نزاع أن دية الحر المسلم مائة من الإبل ، وأن الإبل أصل في الدية ، واختلف عن أحمد رحمه الله هل هي الأصل لا غير ، أو معها غيرها ، وهل ذلك الغير أربعة أو خمسة ؟ ( فعنه ) وهو ظاهر كلام الخرقي ونصبه أبو محمد في المغني للخلاف أنها الأصل لا غير .
2961 لأن في حديث عمرو بن حزم : ( في النفس مائة من الإبل ) رواه النسائي ومالك في الموطأ .
2962 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، قال : قضى رسول الله أن من قتل خطأ فديته من الإبل مائة ، ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وعشرة ابن لبون ذكر ، رواه أبو داود والنسائي .
2963 وعن عقبة بن أوس ، عن رجل من أصحاب النبي ، قال : خطب النبي يوم فتح مكة فقال : ( ألا وإن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل ، منها أربعون ثنية إلى بازل عامها ، كلهن خلفة ) رواه النسائي .
2963 م وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أن رسول الله خطب يوم الفتح على درجة البيت ، فقام في خطبته فكبر ثلاثاً ، ثم قال : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى ، من دم أو مال تحت قدمي ، إلا ما كان من سقاية الحاج ، وسدانة البيت ) ثم قال : ( ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها ) رواه أبو داود والنسائي ، وقال : ورواه القاسم بن ربيعة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي ، وظاهر هذه الأحاديث أن الدية هي الإبل خاصة ، ويؤيّد ذلك أن النبي فرق بين دية العمد والخطأ ، فغلظ العمد ، وخفف الخطأ ، ولم يرد ذلك عنه إلا في الإبل .
( وعنه ) أنها خمسة أشياء كل منها أصل بنفسه ، الإبل ، والبقر ، والغنم ،
____________________
(3/32)
والذهب ، والفضة ، أما في الإبل فلما تقدم ، وأما في البقر والغنم فلأن في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قضى على أهل البقر بمائتي بقرة ، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة .
2964 وأما في الذهب والفضة فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رجلاً من بني عدي قتل ، فجعل رسول الله ديته اثني عشر ألفاً ، رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وهذا لفظه ، وروي عن عكرمة عن النبي مرسلاً ، قال بعضهم : وهو أصح وأشهر .
2965 ولمالك في الموطأ : بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قَوَّم الدية على أهل القرى ، فجعلها على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، قال مالك : فأهل الذهب أهل الشام ، وأهل مصر ، وأهل الورق أهل العراق .
( وعنه ) أنها ستة أشياء ، ويضاف إلى الخمسة السابقة مائتا حلة ، وهذه اختيار القاضي وكثير من أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم .
2966 لما روي عن عطاء بن أبي رباح أن رسول الله قضى في الدية على أهل الإبل مائة من ازبل ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ، وعلى أهل القمح شيئاً لم يحفظه محمد بن إسحاق ، وفي رواية عنه عن جابر رضي الله عنه قال : فرض رسول الله فذكر ما تقدم ، وقال : وعلى أهل الطعام شيئاً لا أحفظه . رواه أبو داود ( والرواية الأولى ) أظهر دليلاً ، لأن أحاديث هذه الرواية لا تقاوم تلك الأحاديث ، وعلى تقدير مقاومتها فتحمل على أنه جعل ذلك بدلاً عن الإبل ، وهذا ظاهر في حديث عمرو بن شعيب ، إذ أوله : أن رسول الله كان يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار ، أو عدلها من الورق ، ويقومها على أثمان الإبل ، إذا غلت رفع في قيمتها ، وإذا هاجت رخصت نقص من قيمتها ، وبلغت على عهد رسول الله ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة ، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم ، قال : وقضى على أهل البقر بمائتي بقرة ، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة ، وهذا ظاهر في أنه إنما كان يعتبر الإبل لا غير ، بل هو نص في الذهب والورق ، أنه كان يعتبرهما بالإبل ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما واقعة عين لا عموم لها ، إذ قوله : جعل ديته اثني عشر ألفاً يحتمل على أنها أصل ، ويحتمل على أنها بدل ، والاحتمالان متقابلان ، وإذاً يترجح احتمال البدلية ، لموافقته لما تقدم ، والكلام على حديث عطاء كالكلام على حديث أستاذه رضي الله
____________________
(3/33)
عنهما ، وفعل عمر رضي الله عنه ظاهر في أن ذلك على سبيل التقويم ، فهو مؤيّد لما قلناه ، وأبو محمد رحمه الله يختار في العمدة قولاً رابعاً ، هو بعض الرواية الثانية ، وهو أن الدية مائة من الإبل أو ألف مثقال ، أو اثنا عشر ألف درهم ، وهو ظاهر في الورق ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما إن صح ، فإن فيه في رواية للترمذي أن النبي جعل الدية اثني عشر ألفاً ، وليس بظاهر في الذهب ، لأن المعتمد فيه على حديث عمرو بن شعيب ، وفعل عمر ، وهما ظاهران أو صريحان في أن ذلك على سبيل التقويم .
إذا تقرر هذا فعلى الرواية الثانية والثالثة إذا أحضر من عليه الدية شيئاً من الخمسة أو الستة سالماً من العيب لزم قبوله ، أما على الرواية الأولى فإن من وجبت عليه الدية متى قدر على الإبل لا يجزئه غيرها ، وإن عجز عنها انتقل إلى ما شاء من الأربعة أو الخمسة المتقدمة ، على اختلاف الروايتين ، وكذلك إذا لم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل ، وقال أبو محمد : هذا ينبغي فيما إذا كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لا يجدها ، لكونها في غير بلده ونحو ذلك ، فإذاً ينتقل إلى غيرها ، أما إن غلت الإبل كلها فلا ينتقل إلى غيرها .
وظاهر كلام الخرقي أن الواجب الإبل من غير نظر إلى قيمة ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار الشيخين ، لظاهر حديث عمرو بن حزم ، وحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده وغيرهما ، فإنه أطلق الإبل ، ولم يقيدها بقيمة ، فتقييدها بها يحتاج إلى دليل ، وكذلك الأحاديث التي فيها ذكر البقر والغنم والحلل ، ليس فيها اعتبار قيمة ، وأيضاً فإنه فرق بين دية العمد والخطأ ، فغلظ دية العمد وشبهه ، وخفف دية الخطأ ، واعتبار القيمة يقتضي التسوية بينهما ، وهو خلاف ما تضمنته سنة رسول الله ، وأيضاً فحديث عمرو بن شعيب نص في أنه كان يعتبر الذهب والورق بالإبل ، ويقومها على أثمانها ، لا أنه كان يعتبر الإبل بغيرها من ورق أو غيره . ( والرواية الثانية ) يعتبر أن لا تنقص المائة بعير عن دية الأثمان ، كذلك حكى الرواية أبو البركات ، واختارها أبو بكر ، نظراً إلى أن عمر رضي الله عنه قومها كذلك ، فجعل على أهل الذهب ألف مثقال ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، فظاهره أن قيمتها كذلك ، وأجيب بأنه اتفق أن قيمتها في ذلك الوقت كان كذلك ، وصرنا إليه بعد ذلك ، حذاراً من التنازع ، وحكى أبو محمد الرواية في الكافي أنه يعتبر أن تكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهماً ، وحكى ذلك في المقنع عن أبي الخطاب ، ولا ريب أنه قطع بذلك في الهداية ، وقال في المغني : إن الأصحاب ذكروا أن ذلك مذهب أحمد ، والتحقيق هو الأول ، وعليه يحمل كلام أبي الخطاب وغيره ، وسيأتي في كلام أبي محمد ما يدل عليه ، والقول في البقر والغنم والحلل كالقول في الإبل على ما تقدم ، كذا ذكره أبو البركات ، وأبو محمد في المغني ، قال : كذا قول أصحابنا في البقر والشاء والحلل ،
____________________
(3/34)
يجب أن يكون مبلغ الواجب من كل صنف منها اثني عشر ألفاً ، فقيمة كل بقرة أو حلة ستون درهماً ، وقيمة كل شاة ستة دراهم ، وقال في المقنع : يؤخذ في الحلل المتعارف ، فإن تنازعا فيها جعلت قيمة كل حلة ستين درهماً ، وهو ذهول ، بل عند التنازع يقضي بالمتعارف على المختار .
وظاهر كلام الخرقي أيضاً أن الدية لا تغلظ ، لا بحرم ولا إحرام ولا غير ذلك ، وكثير من الأصحاب أنه لا يعتبر أن تكون الإبل من جنس إبله ، ولا إبل بلده ، واعتبر ذلك القاضي أظنه في المجرد ، والقول في البقر والغنم كالقول في الإبل .
قال : فإن كان القتل عمداً فهي في مال القاتل حالة أرباعاً ، خمس وعشرون بنات مخاض ، وخمس وعشرون بنات لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة .
ش : إذا كان القتل عمداً فالإجماع على أن الدية في مال القاتل .
2967 وقد شهد له ما روى عمرو بن الأحوص ، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله ، فقال رسول الله : ( لا يجني جان إلا على نفسه ، لا يجني والد على ولده ، ولا مولود على والده ) رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه .
2968 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ، ولا بجريرة أخيه ) رواه النسائي .
2969 وعن أبي رمثة رضي الله عنه قال : خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله ، فرأيت برأسه ردع حناء ، وقال لأبي : ( هذا ابنك ) ؟ قال : نعم ، قال : ( أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه ) وقرأ رسول الله : 19 ( { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ) رواه أحمد وأبو داود . وإذا وجبت حالة كسائر أبدال المتلفات ، ولأن ما وجب بالعمد المحض كان حالاً كأرش الأطراف ، واختلف في مقدارها ( فعن أحمد ) رحمه الله وهو أشهر الروايتين عنه أنها تجب أرباعاً ، كما ذكره الخرقي ، واختاره أبو بكر ، والقاضي وعامة أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن البنا ، وابن عقيل .
2970 لما روى الزهري ، عن السائب بن يزيد ، قال : كانت الدية على عهد رسول الله أرباعاً ، خمساً وعشرين جذعة ، وخمساً وعشرين حقة ، وخمساً وعشرين بنت لبون ، وخمساً وعشرين بنت مخاص ، ( وعنه ) أنها تجب أثلاثاً ، ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة في بطونها أولادها .
____________________
(3/35)
2971 وذلك لحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله قال : ( من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوه ، وإن شاءوا الدية ، وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، وما صولحوا عليه فهو لهم ، وذلك لتشديد القتل ) رواه الترمذي . ولما تقدم من حديث عقبة بن أوس ، وعبد الله بن عمرو ، وهذه الرواية اختيار أبي محمد في العمدة ، وهو الصواب ، إذ حديث الزهري لا يعرف من رواه ، ولو عرف لم يقاوم هذه الأحاديث ، وقد قال أحمد في رواية حنبل : الذي أذهب إليه في دية العمد أثلاثاً ، وهؤلاء يقولون أرباعاً خلاف الحديث ، وعلى هذه الرواية هل يعتبر في الخلفات وهن الحوامل كونهن ثنايا ، وهن اللاتي استكملن خمس سنين ، وبه قطع القاضي في الجامع ، لحديث عقبة بن أوس ، أو لا يعتبر ، لإطلاق حديث عمرو بن شعيب ، وهو الذي ذكره القاضي ؟ فيه وجهان ، ويرجح الأول بأن فيه زيادة ، فيحمل المطلق عليها ، ويجاب بأن القيد ذكر نظراً للغالب ، إذ الغالب أنه لا يحمل الإثنية .
قال : فإن كان القتل شبه العمد فكما وصفت في أسنانها ، إلا أنها على العاقلة في ثلاث سنين ، في كل سنة ثلثها .
ش : القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد سواء ، لما تقدم من قول النبي : ( عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل ) وهي واجبة على العاقلة على المذهب ، وقد تقدم ذلك في أول كتاب الجراح ، وعليه فإنها تجب عليهم في ثلاث سنين ، في كل سنة ثلثها .
2972 نظراً إلى أن هذا يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما ، ولا يعرف لهما مخالف ، مع أن هذا قول العامة ولا عبرة بمخالفة الخوارج .
( تنبيه ) : لم يتعرض الخرقي لسن غير الإبل ، والحكم أنه يجب في البقر النصف مسنات ، والنصف أتبعة ، وفي الغنم النصف ثنايا ، والنصف أجذعة ، في العمد والخطأ على ظاهر كلام الشيخين وغيرهما ، وجعل ذلك القاضي في جامعه في العمد وشبهه ، وقال في الخطأ : يحتمل أن يخفف فيجب من البقر تبيع وتبيعة ومسنة ، أثلاثاً ، ومن الغنم جذعة وجذع من الضأن ، وثنية من المعز ، أثلاثاً أيضاً ، وحكي عنه أنه جزم بذلك في خلافه .
قال : وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل ، تؤخذ في ثلاث سنين أخماساً ، عشرون بنات مخاض ، وعشرون بني مخاض ، وعشرون بنات لبون ، وعشرون حقة ، وعشرون جذعة .
ش : لا نزاع أن دية قتل الخطأ على العاقلة ، وقد تقدم ، ولا نزاع أيضاً في أنها
____________________
(3/36)
مائة من الإبل ، وأنها تؤخذ منهم في ثلاث سنين ، واختلف في كيفية وجوبها ، ومذهبنا أنها تجب أخماساً كما ذكره الخرقي .
2973 لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( في دية الخطأ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنات مخاص ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن مخاض ذكر ) رواه الخمسة ، وقال أبو داود : وهو قول عبد الله . وكلام الخرقي يشمل إذا كان المقتول امرأة أو ذمياً أو جنيناً ، وهو قول القاضي في الخلاف والجامع .
( تنبيه ) : ابتداء الحول في النفس من حين الزهوق ، وفيما دونها من حين الاندمال على المشهور ، وبه قطع القاضي في الجامع ، وقال القاضي : ابتداؤه في القتل الموحي والجرح الذي لم يسر عن محله من حين الجناية .
قال : والعاقلة لا تحمل العمد ، ولا العبد ، ولا الصلح ، ولا الاعتراف ، ولا ما دون الثللاث .
ش : لا تحمل العاقلة العمد ، وإن لم توجب جنايته قصاصاً ، ولا العبد إذا قتله قاتل ، ولا الصلح ، وهو أن يدعي عليه القتل فيبنكره ثم يصالح المدعي على مال ، وفسره القاضي بأن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية ، ورد بأن هذا عمد ، فيدخل في الأول ، ولا الاعتراف ، وهو أن يقر القاتل بقتل الخطأ أو شبه العمد ، ولا ما دون ثلث الدية التامة ، كدية المجوسي ونحوه .
2974 لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : العمد والعبد ، والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة ، رواه الدارقطني . وحكى أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله .
2975 وقال الزهري : مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئاً من دية العمد إلا أن يشاؤوا ، رواه مالك في الموطأ .
2976 وعن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الدية أن لا يحمل منها شيء حتى يبلغ عقل المأمومة . ولأن الخطأ إنما جعل على العاقلة لكون الجاني معذوراً ، تخفيفاً عنه ، ومواساة له ، والعامد لا يناسب أن يخفف عنه ولا يواسب ، والعبد الواجب فيه قيمته ، تختلف باختلاف صفاته ، فلم تحمله العاقلة كسائر القيم ، والاعتراف ثبت بإقراره ، ولا يثبت على إنسان شيء بإقرار غيره ، والصلح في معنى الاعتراف ، وما دون الثلث يسير فلا يجحف به ، فلا يناسب التخفيف به ، وبهذا ونحوه تتخصص العمومات المطلقة في حمل العاقلة .
____________________
(3/37)
( تنبيه ) : يستثنى مما دون الثلث الجنين إذا مات هو وأمه بجناية واحدة ، فإن العاقلة تحمل ديته ، وإن نقصت عن الثلث مع دية أمه ، سواء سبقها بالزهوق أو سبقته ، كذا صرح به أبو البركات ، وقال أبو محمد في المغني : إذا مات قبل موت أمه لا تحمله العاقلة ، نص عليه ، وإن مات مع أمه حملته العاقلة نص عليه ، ومقتضى كلامه أنه لو تأخر عنها بالزهوق لم تحمله العاقلة ، وكذلك مقتضى كلامه في المقنع ، قال : وإن ماتا منفردين لم تحملهما العاقلة .
2977 وإنما استثنى ذلك في الجملة لما روى المغيرة بن شعبة قال : ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى ، فقتلتها ، قال : وإحداهما لحيانية ، فجعل رسول الله دية المقتولة على عصبة القاتلة ، وغرة لما في بطنها ، فقال رجل من عصبة القتلة : أنغرم دية من لا أكل ، ولا شرب ولا استهلّ ، فمثل ذلك يطل ، فقال رسول الله : ( أسجع كسجع الأعراب ) قال : وجعل عليهم الدية ، وهذا كان بجناية واحدة ، ثم إن رسول الله لم يستفصل هل سبقها بالزهوق أو سبقته ، ولو اختلف الحكم لبيّنه ، فإذاً الصواب ما قاله أبو البركات .
قال : وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه .
ش : جناية العبد تتعلق برقبته ، لعموم قول النبي : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) وسيده مخيّر بين أن يفديه لزوال أثر الجناية إذاً ، وبين أن يسلمه في الجناية ، لتأديته المحل الذي تعلق به الحق برمته ، هذا إحدى الروايات ( والرواية الثانية ) يخيّر بين فدائه ، أو بيعه في الجناية ( والرواية الثالثة ) يخير بين الثلاثة ، وإذا اختار البيع فهل يلزمه أن يتولاه إذا طلب منه ولي الجناية ذلك ، أو يكفي تسليمه للبيع فيبيعه الحاكم ؟ فيه روايتان .
وقول الخرقي : وإذا جنى العبد ، أي جناية أوجبت مالاً ، بقرينة ذكر الفداء إذ الفداء إنما يدخل فيما فيه المال ، وذلك بأن يكون خطأ أو شبه عمد ، أو عمداً لا قصاص فيه ، أو فيه القصاص واختير فيه المال ، وكذلك الحكم لو أتلف مالاً ، وقد يدخل في لفظه ، لأن الجناية تشمل الجناية على المال والبدن ، والله أعلم .
قال : فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على السيد أن يفديه بأكثر من قيمته .
ش : جناية العبد لا تخلو إما أن تكون وفق قيمته أو أكثر من قيمته ، فإن كانت وفق قيمته فلا نزاع أن السيد لا يلزمه أكثر من ذلك ، لأنه لا حقّ للمجني عليه في أكثر من ذلك ، وكذلك إن كانت أقل من قيمته على المذهب المعروف لذلك ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى يلزم فداؤه بجميع قيمته ، وإن جاوزت دية المقتول ، إذا كانت الجناية
____________________
(3/38)
موجبة للقود ، لأنه إذاً استحق إتلافه ، فكان له بديه ، وتشبه هذه الرواية أنه يملكه بغير رضي السيد ، فيما إذا كانت الجناية كذلك ، وإن كانت أكثر من قيمته فكذلك ، لا يلزم السيد أن يفديه بأكثر من قيمته إن لم يختر فداءه بلا ريب ، لأن الجناية تعلقت برقبة العبد لا غير ، والسيد إنما يؤدي بدل الرقبة ، وبدل الرقبة هو القيمة ، فلا يلزمه أكثر منها ، وإن اختار الفداء ففيه روايتان مشهورتان ، أشهرهما وأنصهما وهي اختيار القاضي ، والخرقي ، وأبي الحسين وغيرهم لا يلزمه إلا القيمة ، لما تقدم ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر يلزمه والحال هذه أرش الجناية بالغة ما بلغت ، لاحتمال أنه إذا بيع رغب فيه راغب فتزيد قيمته ، والله أعلم .
قال رحمه الله : والعاقلة العمومة وأولادهم وإن سفلوا في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى الأب والابن والإخوة ، وكل العصبة من العاقلة .
ش : ( وجه الرواية الأولى ) حديث المغيرة بن شعبة ، أن رسول الله جعل دية المقتول على عصبة القاتلة ، وغرة لما في بطنها . رواه مسلم وغيره وقد تقدم ، وهذا يشمل كل عصبة ، خرج منه الآباء والأبناء .
2978 بدليل ما روى جابر رضي الله عنه ، أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ، ولكل واحدة منهما زوج وولد ، فجعل رسول الله دية المقتولة على عاقلة القاتلة ، وبرأ زوجها وولدها ، لأنهما ما كانا من هذيل ، فقال عاقلة المقتولة : ميراثها لنا . فقال رسول الله : ( لا ، ميراثها لزوجها وولدها ) رواه أبو داود ، وهذا يقتضي أن الأولاد ليسوا من العاقلة ، فكذلك الآباء ، قياساً لأحد العمودين على الآخر ، وخرج منه الإخوة أيضاً .
2979 بدليل ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ، ولا بجريرة أخيه ) رواه النسائي ، فظاهره أنه لا يؤخذ بجريرة أخيه مطلقاً ، وإذا خرج الأخ والابن والأب من التحمل بقي من عداهم ، وهم العمومة وأولادهم وإن سفلوا .
( ووجه الثانية ) وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي في الجامع والقاضي أبو الحسين ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وغيرهم عموم حديث المغيرة ، وحديث جابر لا يقاومه ، ثم لا يدل على خروج الابن مطلقاً ، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه لا يؤخذ بجريرته ، أي إذا كان عمداً ، جمعاً بين الأدلة ( وعن أحمد ) رواية ثالثة : العاقلة جميع العصبة إلا الآباء والأبناء ، وزعم القاضي في روايته أنها اختيار الخرقي ، لتقديمه إياها ، ولانتفاء الخلاف عنده في
____________________
(3/39)
الإخوة ، ووجه هذه الرواية يعرف مما سبق ( وعنه ) رواية رابعة أن العاقلة كل العصبة إلا أبناء الجاني ، إذا كان امرأة ، نص عليها أحمد فقال : لا يعقل الابن عن أمه ، لأنه من قوم أخرين ، وهي اختيار أبي البركات وعليها يقوم الدليل ، إذ حديث المغيرة يقتضي أن العاقلة هم كل العصبة ، وحديث جابر صريح في أن ابن المرأة لا يعقل عنها ، وإذا خرج ابن المرأة بقينا فيما عداه على العموم ، ثم قد علّل في الحديث خروج الولد والزوج بأنهما ما كان من هذيل ، يعني والمرأة هذلية ، فليسا من قبيلتها ، والمعنى في ذلك أن قبيلة الشخص هي التي تواليه وتنصره ، بخلاف غيرها ، وكذلك قال أحمد ، لأنه من قوم أخرين ، ومقتضى الحديث وتعليل أحمد أن ابن المرأة إذا كان من قبيلتها كابن ابن عمها يعقل عنها ، وصرح به ابن حمدان ، وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أن العاقلة كل العصبة إلا الأبناء ، ولعله يقيس أبناء الرجل على أبناء المرأة ، وليس بشيء ( واعلم ) أن أبا الخطاب في خلافه حكى عن شيخه أنه أخذ رواية أن العاقلة العصبة إلا عمودي النسب من هذا النص ، قال : وفيه نظر ، ولا شك في ضعف هذا المأخذ .
قال : وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة ، ولا صبي ولا زائل العقل حمل شيء من الدية .
ش : لا خلاف أن الصبي غير المميز والزائل العقل لا يحملان من العقل شيئاً ، لأنهما ليسا من أهل النصرة ، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعاً ، وحكم المميز حكم غيره على المذهب ، وحكاية ابن المنذر تشمله ، وقيل : بل حكم البالغ ، ( ولا ريب ) أن المذهب أن الفقير لا يحمل من العقل شيئاً ، حذاراً من أن نخفّف عن من جنى ، ونثقل على من لم يجن .
2980 وقد روى عمران بن حصين رضي الله عنهما أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء ، فأتى أهله النبي فقالوا : يا رسول الله إنا أناس فقراء . فلم يجعل عليه شيئاً ، رواه أبو داود والنسائي . ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن الفقير يحمل من العقل ، بناء على أنه من أهل النصرة ، كذا أطلق الرواية أبو محمد ، وقيدها أبو البركات بالمعتمل ، وهو حسن ، ( ولا ريب ) أيضاً أن المذهب أن المرأة لا تحمل من العقل شيئاً ، لعدم التناصر منها ( وعنه ) تحمل بالولاء لأنها إذاً عصبة ، ويخرج عليها الأم الملاعنة إذا قلنا : إنها عصبة ، وإن عمودي النسب من العاقلة أنها تعقل ، وتشبه هذه الرواية رواية أنها تلي على معتقها في النكاح ، وحكم الخنثى حكم المرأة ، وظاهر كلامه أن البعيد والغائب ، والشيخ والمريض ، والزمن والهرم يحملون كغيرهم ، وهو كذلك ، نعم في الزمن والهرم وجه أنهما لا يحملان .
____________________
(3/40)
قال : ومن لم تكن له عاقلة أخذت من بيت المال .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين لأن النبي ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر .
2981 ففي الصحيح قال : فكره رسول الله أن يبطل دمه ، فوداه بمائة من إبل الصدقة ، وفي لفظ : فوداه رسول الله من عنده ، فبعث إليهم رسول الله مائة ناقة حمراء .
2982 وروي أن رجلاً قتل في زحام ، في زمن عمر رضي الله عنه ، ولم يعرف قاتله ، فقال علي لعمر رضي الله عنهما : يا أمير المؤمنين لا يبطل دم امرئ مسلم ، فأدى ديته من بيت المال ، ( والرواية الثانية ) لا شيء على بيت المال ، اختارها أبو بكر في التنبيه ، لأن فيه حقاً للنساء والصبيان والمجانين والفقراء ، ولا عقل عليهم ، فلا يصرف حقهم والمجانين والفقراء ، ولا عقل عليهم ، فلا يصرف حقهم فيما لا يجب عليهم ، قال أبو محمد : ولأن بيت المال ليس بعصبة ، وما يصرف إليه من مال من لا وارث له إنما يؤخذه على أنه فيء ، لا أنه إرث . ( قلت ) : وقد يكون هذا منشأ الخلاف ، وهو أن بيت المال هل هو عصبة أم لا ؟ لكن المشهور أنه ليس بعصبة ، والمشهور أن يدي ، ولا يستقيم البناء ( واعلم ) أن محل الروايتين عند أبي محمد تبعاً للقاضي في المسلم ، أما الذمي فإن بيت المال لا يحمل عنه عندهما بلا خلاف ، بل تكون الدية عليه على المذهب ، وقيل : لا شيء عليه كالمسلم على المذهب ، وعند أبي البركات أنهما جاريتان فيهما وهو ظاهر كلام الخرقي ، وهو مما يضعف البناء ، وحيث حمل بيت المال فهل ذلك في ثلاث سنين كالعاقلة أو في دفعة ، لأن النبي أدى دية الأنصاري في دفعة ، والعاقلة التأجيل عليهم تخفيفاً بهم ، ولا حاجة بنا إلى التخفيف في بيت المال ؟ فيه وجهان ، أصحهما الثاني ، والله أعلم .
قال : فإن لم يقدر على ذلك فليس على القاتل شيء .
ش : إذا لم يقدر على أخذ شيء من بيت المال سقطت الدية ، فلا شيء على القاتل ، على المعروف عند الأصحاب ، بناء عندهم على أن الدية وجبت على العاقلة ابتداء ، فلا تجب على غير من وجبت عليه ، كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد ، كذلك هاهنا ، وخالفهم أبو محمد فاختار وجوبها على القاتل لعموم قوله تعالى : 19 ( { ودية مسلمة إلى أهله } ) مع قوله : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) وسقوطها لقيام العاقلة مقامه ، فإذا لم توجد عاقلة ، أو وجدوا وانتفى حملهم لدليل ، بقيت واجبة عليه ، ولأن الأمر دائر بين أن يبطل دم المقتول ، وبين إيجاب ديته على المتلف ، لا يجوز الأول مخالفة إطلاق الكتاب والسنة ، فيتعين الثاني ، وفي كلامه
____________________
(3/41)
رحمه الله إشعار بأن الدية تجب على القاتل ، وتتحملها العاقلة .
( تنبيه ) : سميت العاقلة عاقلة لأن الإبل تجمع فتعقل بفناء أولياء المقتول ، أي تشد عقلها لتسلم إليهم ، ولذلك سميت الدية عقلاً ، وقيل سموا بذلك لإعطائهم العقل الذي هو الدية ، وقيل لأنهم يمنعون عن القاتل .
قال : ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب .
2983 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قال : ( دية المعاهد نصف دية الحر ) رواه أبو داود ، والنسائي ولفظه : أن النبي قال : ( عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين ) وهم اليهود والنصارى ، ورواه الترمذي ولفظه : ( دية عقل الكافر نصف عقل المؤمن ) قال الخطابي : ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا ، ولا بأس به ، وبه قال أحمد . ( قلت ) : وهذا يبين الآية الكريمة ( الرواية الثانية ) ثلث دية المسلم ، إلا أن أحمد رجع عنها ، قال في رواية أبي الحارث : كنت أذهب إلى حديث عمر أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ، ثم نزلت عن حديثه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، ومن ثم قال أبو بكر : المسألة رواية واحدة ، أنها على النصف . وقد بين أحمد رحمه الله مأخذه في الروايتين ، وحديث عمرو بن شعيب قد تقدم .
2984 أما حديث عمر فهو ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : 16 ( كانت قيمة الدية على عهد رسول الله ثمان مائة دينار ، أو ثمانية آلاف درهم ، قال : وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم ، قال : فكانت كذلك حتى استخلف عمر قام خطيباً فقال : إن الإبل قد غلت ، ففرضها عمر رضي الله عنه على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاة ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ؛ قال : وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية ) ، رواه أبو داود .
( تنبيه ) : ولا فرق في ذلك بين الذمي منهم والمستأمن ، لاشتراكهم في الكتاب مع حقن الدم .
قال : ونساؤهم على النصف من دياتهم .
ش : لما كانت دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم ، كانت نساء أهل
____________________
(3/42)
الكتاب على النصف من دياتهم ، مع أن هذا قد حكاه ابن المنذر إجماعاً .
قال : وإن قتلوا عمداً أضعفت الدية على قاتلة المسلم ، لإزالة القود ، هكذا حكم عثمان بن عفان رضي الله عنه .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله .
2985 والمحكي عن عثمان رواه عنه أحمد عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم عن أبيه ، أن رجلاً قتل رجلاً من أهل الذمة ، فرفع إلى عثمان ، فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار . ولهذا نظائر في الشريعة ( منها ) سارق الثمر والكثر يغرم بمثله مرتين ، لإزالة القطع ، ( ومنها ) الأعور إذا قلع عين صحيح ، تجب عليه دية كاملة ، كما حكم به الصحابة رضي الله عنهم ، لدرء القصاص عنه ، ويقرب من ذلك غرامة اللقطة بمثلها مرتين إذا كتمها ، وكذلك أخذ شطر مال الكاتم ماله في الزكاة على رواية .
2986 لحديث بهز بن حكيم ، وغير ذلك ، وهذا ونحوه يخصص عموم ما تقدم ، وقول الخرقي : على قاتله المسلم . يحترز عن قاتله إذا كان ذمياً ، فإن الدية لا تضعف عليه ، لوجوب القصاص عليه ، والله أعلم .
قال : ودية المجوسي ثمان مائة درهم .
2987 ش : لما روى الشافعي في مسنده ، والدارقطني عن سعيد بن المسيب قال : 16 ( كان عمر رضي الله عنه يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ، والمجوسي ثمان مائة ) .
2988 ويروى ذلك أيضاً عن عثمان وابن مسعود رضي الله عنهما ، ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف ، وقول النبي : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) لا عموم فيه ، ثم المراد به والله أعلم في أخذ الجزية ، جمعاً بين الأدلة ، وسواء كان المجوسي ذمياً أو مستأمناً ، وإن قتله مسلم عمداً أضعفت الدية عليه ، لإزالة القود ، نص عليه أحمد ، قياساً على الكتابي فتجب ألف وستمائة درهم .
قال : ونساؤهم على النصف من ذلك .
ش : كنساء المسلمين وأهل الكتاب ، وقد حكي إجماعاً والله أعلم .
قال : ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم .
2989 ش : لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( عقل المرأة مثل عقل الرجل ، حتى يبلغ الثلث من ديته ) رواه النسائي .
____________________
(3/43)
2990 وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال : 16 ( سألت سعيد بن المسيب : كم في إصبع المرأة ؟ قال : عشر من الإبل . قلت : فكم في إصبعين ؟ فقال : عشرون من الإبل . قلت : فكم في ثلاث أصابع ؟ قال : ثلاثون . قلت : فكم في أربع أصابع ؟ فقال : عشرون . قلت : حين عظم جرحها ، واشتدت مصيبتها ، نقص عقلها ؟ قال سعيد : أعراقي أنت ؟ قلت : بل عالم متثبت أو جاهل متعلم . قال : هي السنة يا ابن أخي ) . رواه مالك في الموطأ ، وذكر أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم : دية المرأة على النصف من دية الرجل . ولم أجد ذلك في حديث عمرو بن حزم في جامع الأصول ، ولا في المنتقى .
قال : وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث ، فإذا جاوزت الثلث فعلى النصف .
ش : لا نزاع عندنا أن جراح المرأة تساوي جراح الرجل فيما دون ثلث الدية ، ففي أصبعها عشر من الإبل ، وفي الإصبعين عشرون من الإبل ، وفي الثلاث أصابع ثلاثون ، ولا نزاع عندنا أيضاً أنها فيما زاد على الثلث على النصف ، ففي أربع أصابع منها عشرون ، وفي يدها خمس وعشرون ، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب وسعيد ، واختلف هل تساوي الرجل في قدر الثلث ، كالجائفة والمأمومة ، ونحو ذلك ؟ على روايتين ( إحداهما ) تساويه وهو اختيار الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم ، لأنه في حد القلة ، بدليل جواز الوصية به ( والثانية ) يختلفان ، فيجب في جائفتها سدس دية الرجل وهو اختيار أبي محمد لأن النبي سماه كثيراً قال : ( الثلث والثلث كثير ) ، وحديث عمرو بن شعيب محتمل للقولين ، بناء على أن الغاية هل تدخل في المغيا ، وذلك وإن كان في ( إلى ) الأكثر عدم الدخول ، ففي ( حتى ) الكثير الدخول ، والله أعلم .
قال : ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك .
ش : قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها ، فلا حاجة إلى إعادتها ، ونزيد هنا بأنه لا فرق في ذلك بين العبد القن والمدبر والمكاتب ، وأم الولد ، لدخول الكل في إطلاق العبد ، وقد قال عليه السلام : ( المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ) .
قال : ودية الجنين إذا سقط من الضربة ميتاً وكان من حرة مسلمة غرة عبد أو أمة ، قيمتها خمس من الإبل ، موروثة عنه كأنه سقط حياً .
ش : الواجب في دية الجنين والحال هذه غرة .
____________________
(3/44)
2991 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : اقتتلت امرأتان من هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر ، فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله ، فقضى رسول الله أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها ، وورثها ولدها ومن معهم ؛ مختصر متفق عليه .
2992 وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : سأل عمر رضي الله عنه عن إملاص المرأة ، وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها ، فقال : أيكم سمع من النبي فيه شيئاً ؟ قال : فقلت : أنا ، قال : ما هو ؟ قلت : سمعت رسول الله يقول : ( فيه غرة عبد أو أمة ) قال : لا تبرح حتى تجيبء بالمخرج . قال : فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به ، فشهد معه أنه سمع النبي يقول : ( فيه غرة عبد أو أمة ) متفق عليه . والغرة عبد أو أمة ، لما تقدم من الحديثين السابقين ، وما روي ( عبد أو أمة أو فرس أو بغل ) وهم عند أهل العلم بالنقل ، والصحيح ما تقدم ، ويشترط أن تكون قيمة العبد أو الأمة عشر دية الأم .
2993 لأن ذلك يروى عن عمر وزيد رضي الله عنهما ، فقيد إطلاق ما تقدم ، مع أنه أقل مقدر ، وقدره الشارع في الجنايات ، وهو أرش الموضحة ، ودية السن ، فاعتبر بذلك ، ولا ترد الأنملة ، لأنه لا نص فيها ، إنما هو اجتهاد . و الخرقي رحمه الله قال : قيمتها خمس من الإبل . بناء عنده على أن الأصل في الدية الإبل ، فجعل التقويم بها ، وغيره من الأصحاب مقتضى كلامه أن التقويم بواحد من الخمسة أو الستة على ما تقدم ، وأن ذلك راجع إلى اختيار الجاني ، كما له الاختيار في دفع أي الأصول شاء إذا كان موجب جنايته دية كاملة .
وحكم هذه الغرة أنها موروثة عن الجنين ، كأنه سقط حياً ، لأنها دية له وبدل عنه ، فورثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة ، وشرط الخرقي للضمان السابق أن يسقط من الضربة ميتاً ، أي بسبب الضربة ، بأن يسقط عقيبها ، أو يبقى بها متألماً إلى أن يسقط ، أما إن ضربها فماتت بحملها ولم تلقه ، أو ضرب من في بطنها شيء يتحرك فذهب فلا شيء عليه ، لعدم العلم بوجوده ، والأصل براءة الذمة .
وكلام الخرقي يشمل ما إذا ألقته في حياتها ، أو بعد موتها ، وهو كذلك ، والحكم فيما إذا ظهر بعضه ولم يظهر جميعه حكم ما إذا ظهر جميعه ، قاله أبو محمد . وقول الخرقي : وكان من حرة مسلمة ؛ يريد به أن الأم متى كانت كذلك كان الولد حراً مسلماً ، فيجب ما تقدم ، وقد تكون الأم رقيقة كافرة ، والجنين حر مسلم ، بأن يغر بأمة ، أو يتزوج المسلم كتابية ، فتجب الغرة السابقة ، أما إن كان الجنين رقيقاً
____________________
(3/45)
فسيأتي حكمه ، وإن كان كافراً كالمولود بين كتابييّن ونحوهما ، فإن الواجب فيه عشر دية أمه إن ساوت الأب في الدين ، أو كانت أعلى منه كنصرانية تحت مجوسي ، وإن نقصت عنه كمجوسية تحت كتابي وجب عشر ديتها لو كانت على دين الأب .
( تنبيه ) : الولد الذي تجب به الغرة ما تصير بن الأمة أم ولد ، وما لا فلا ، وأصل ( الغرة ) بياض في جبهة الفرس ، ومن ثم قال أبو عمرو بن العلاء : الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء ، ولم يعتبر ذلك الفقهاء ، نظراً لإطلاق الحديث ، مع قرينة غلبة السواد على أرقاء أهل الحجاز ، والغرة أيضاً أول الشيء وخياره ، ومن ثم قال أصحابنا : لا يقبل في الغرة معيب ، لأن ذلك ليس بخيار ، وبنى على ذلك جمهورهم أن من لم يبلغ سبع سنين لا يجزىء لأنه يحتاج إلى من يكفله ويقوم به ، فليس من الخيار ، وقال أبو محمد : إن ظاهر كلام الخرقي الإجزاء ، والله أعلم .
قال : وإن كان الجنين مملوكاً ففيه عشر قيمة أمه .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، قياساً على الجنين الحر ، فإن فيه عشر دية أمه ، كذلك المملوك فيه عشر قيمة أمه ، إذ قيمة الأمة بمنزلة دية الحرة ، وحكى أبوالخطاب في خلافه رواية أخرى أن الواجب نصف عشر قيمة أمه ، ولا عمل عليه ، ثم الواجب هنا قيمة لا عبد أو أمة لأن الرقيق الواجب فيه قيمة ، بخلاف الحر فإن الواجب فيه إما الإبل ، أو أحد خمسة أشياء أو ستة .
قال : وسواء كان الجنين ذكراً أو أنثى .
ش : أما الجنين الحر فلإطلاق الحديث ، وأما المملوك فبالقياس على الحر ، والله أعلم .
قال : فإن ضرب بطنها فألقت جنيناً حياً ، ثم مات من الضربة ففيه دية حر إن كان حراً ، أو قيمته إن كان مملوكاً ، إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله ، وهو أن يكون لستة أشهر فصاعداً .
ش : أما وجوب دية الحر أو قيمة المملوك على الضارب والحال ما تقدم فلأنه مات من جنايته ، بعد ولاته لوقت يعيش لمثله ، أشبه ما لو قتله بعد وضعه ، وقد قال ابن المنذر : إن هذا مما أجمع عليه كل من يحفظ عنه من أهل العلم ، وتعلم الحياة باستهلاله بلا ريب .
2994 لقول النبي : ( إذا استهل المولود ورث وورث ) وهل تعلم بارتضاعه ، أو تنفسه ، أو عطاسه ، أو نحو ذلك مما يدل على الحياة ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) لا ، لمفهوم الحديث السابق ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد نعم ، لأن الارتضاع ونحوه أدلّ على الحياة من الاستهلال ، فاستفيد من
____________________
(3/46)
الحديث بطريق التنبيه ، أما مجرد الحركة والاختلاج فلا يدلان على الحياة ، لأن ذلك قد يكون لخروجه من مضيق فلم تتيقن حياته .
وشرط الخرقي لوجوب الضمان السابق أن يموت من الضربة أي بسببها ، وذلك بسقوطه في الحال وموته ، أو بقائه متألماً إلى أن يموت ، أو بقاء أمه متألمة إلى أن تلقيه حياً فيموت ، أما لو ألقته ثم بقي زمناً سالماً لا ألم به ثم مات فلا ضمان ، ولو وضعته حياً ، فجاء آخر فقتله وفيه حياة مستقرة فهو القاتل ، وإن لم تكن فيه حياة مستقرة ، بل حركة كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول ، ويؤدب الثاني ( وشرط ) أيضاً أن تضعه لوقت يعيش لمثله ، وإلا فحكمه حكم الميت فيه الغرة ، لعدم تصور بقائه ، وبيَّن رحمه الله أن الوقت الذي يعيش لمثله ستة أشهر فصاعداً ، لأن ذلك أقل مدة الحمل والله أعلم .
قال : وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة ، سواء كان الجنين حياً أو ميتاً .
ش : هذا قول جمهور أهل العلم ، لأن الله سبحانه قال : 19 ( { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ) وقال : 19 ( { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله ، وتحرير رقبة مؤمنة } ) أي المقتول ، وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو كان أحد أبويه مؤمناً فهو محكوم بإيمانه تبعاً ، فيدخل في الآية ، وإن كان من كتابيين فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق فتشمله الآية ، ولأنه نفس مضمونة بدية ، فوجبت فيه الرقبة كالكبير .
قال : وإذا شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها فعليها غرة لا ترث منها شيئاً ، وتعتق رقبة .
ش : أما وجوب الغرة فلأن الجنين مات بجنايتها ، أشبه ما لو كان الجاني غيرها ، وأما كونها لا ترث منها شيئاً فلأنها قاتلة ، وقد تقرّر أن القاتل لا يرث المقتول ، فعلى هذا تكون الغرة لبقية الورثة ، وأما كونها تعتق رقبة فلما تقدم قبل والله أعلم .
قال : وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق ، فرجع الحجر فقتل رجلاً فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية .
ش : لأنه قتل حصل بفعلهم وجنايتهم ، وهم ثلاثة ، فوجب تثليث الدية على عواقلهم ، لأنه كما سيأتي إما خطأ ، وإما شبه عمد ، هذا هو المذهب المعروف وقيل : بل تجب الدية في بيت المال ، لأن ذلك من مصالح المسلمين ، فإن تعذر فعلى العاقلة ، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قصدوا معيناً أو لم يقصدوا ، وهو كذلك لأن قصد الواحد بالمنجنيق يندر أن يصيبه ، فلا يكون عمداً ، نعم مع قصد معين أو جماعة يكون ذلك شبه عمد وقد تقدم حكمه ومع عدم القصد يكون خطأ ، واختار ابن حمدان أنه
____________________
(3/47)
عمد إن كان الغالب الإصابة ، وقول الخرقي : قتل رجلاً . يحتمل أن يكون من غيرهم ، ويحتمل أن يكون منهم ، وعلى هذا يكون مقتضى قول الخرقي أن جناية الإنسان على نفسه تكون خطأ ، تحملها العاقلة لورثته ، وهو إحدى الروايتين ، والرواية الثانية لا شيء فيها ، وقال ابن عقيل في التذكرة : تكون عليه يدفعها إلى ورثته ، والله أعلم .
قال : وعلى كل واحد منهم عتق رقبة مؤمنة في ماله .
ش : هذا مبني على المذهب من أن المشتركين في القتل على كل واحد منهم كفارة ، لا أن الواجب على الجميع كفارة واحدة ، وقد تقدم ذلك ، وتقدم أيضاً أن الكفارة تجب في مال القاتل .
قال : فإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في أموالهم .
ش : هذا هو المذهب المختار للأصحاب بلا ريب لما تقدم لأن الواجب على كل واحد والحال هذه دون الثلث ، والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث لما تقدم ، وإذا انتفى حمل العاقلة وجبت الدية في أموالهم ، لأن ذلك أثر فعلهم . قال النبي : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) وتجب حالة ، لأنها بدل متلف ، فوجبت حالة كسائر أبدال المتلفات ، وقد يستشكل بأن الجاني إذا حمل دية شبه العمد كانت من ماله مؤجلة على المذهب ، كذلك هاهنا قد يقال ، وحكى أبو بكر رواية أخرى أن العاقلة تحمل ذلك ، نظراً إلى أن هذه جناية واحدة أوجبت ما زاد على الثلث ، فحملته العاقلة كما لو كانوا ثلاثة ، واستشهد القاضي في روايتيه على هذه الرواية بما نقل يعقوب بن بختان عن أحمد ، في قوم رموا بالمنجنيق ، فرجع فقتل رجلاً من المسلمين فالدية على عواقلهم والكفارة في أموالهم . قال : وهذا يحتمل أن يكونوا ثلاثة فما دون ، ويحتمل أن يكونوا أكثر من ذلك ؛ قلت : من حمل مطلق كلامه على مقيده لا ينبغي له أن يثبت هذه الرواية ، بخلاف من لم يحمل ، وظاهر كلام الأصحاب أنه لا خلاف في الخمسة أن الدية لا تكون على العاقلة ، وصرح بذلك ابن حمدان ، وهو مما يضعف تعليل الرواية الثانية .
( تنبيه ) : الضمان في الرمي بالمنجنيق يتعلق بمن مد الحبال ، ورمى الحجر ، دون من وضعه في الكفة وأمسك الخشب ، إذ الأول مباشر ، والثاني متسبّب ، والمباشرة تقطع حكم السبب ، والمنجنيق أعجمي معرب ، بفتح الميم وكسرها ، وحكي فيه منجنوق ومنجليق . . . والله أعلم .
( باب ديات الجراح )
ش : لما فرغ الخرقي رحمه الله من بيان ديات الأنفس شرع يتكلم على ديات الجراحة .
قال : ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية ، وما فيه منه شيئا
____________________
(3/48)
ففي كل واحد منهما نصف الدية .
2995 ش : الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه ، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله لابن حزم في العقول : ( إن في النفس مائة من الإبل ، وفي الأنف إذا أوعب جدعاً الدية كاملة ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة مثله ، وفي العين خمسون ، وفي اليد خمسون ، وفي الرجل خمسون ، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل ، وفي كل سن خمس ، وفي الموضحة خمس ) رواه مالك في موطئه ، وهذا لفظه ، والنسائي وفي روايته : ( وفي الأنف إذا أوعب جدعه بالدية ، وفي اللسان الدية ، وفي الشفتين الدية ، وفي البيضتين الدية ، وفي الذكر الدية ، وفي الصلب الدية ، وفي العينين الدية ، وفي الرجل الواحدة نصف الدية ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة ثلث الدية ، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل ، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل ، وفي السن خمس من الإبل ، وفي الموضحة خمس من الإبل ، وأن الرجل يقتل بالمرأة ، وعلى أهل الذهب ألف دينار ، ذكره في رواية ، وفي العين الواحدة نصف الدية ، وفي اليد الواحدة نصف الدية ) ، قال ابن عبد البر : كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء ، وما فيه متفق عليه إلا قليلاً ، انتهى . ففي هذا الحديث مما في الإنسان منه شيء واحد الأنف ، والذكر ، واللسان والصلب ، وغير ذلك مقيس عليها ، وفيه مما في الإنسان منه شيئان الشفتان والبيضتان ، والعينان ، والرجلان ، واليدان ، وغير ذلك مقيس عليها وملحق بها والله أعلم .
قال : وفي العينين الدية .
ش : لما تقدم في حديث عمرو بن حزم ، مع أنه إجماع ، ولا فرق بين أن يكونا صحيحتين أو مريضتين ، أو حولاوين ، وفي العين الواحدة نصف الدية ، على مقتضى كلام الخرقي ، لما تقدم في حديث عمرو بن حزم ، وعموم كلامه يقتضي شمول عين الأعور ، وهو مقتضى حديث عمرو بن حزم ، والمذهب أن في عين الأعور دية كاملة .
2996 نظراً إلى قضاء الصحابة عمر وعثمان وعلي وابن عمر رضي الله عنهم ، ولا يعرف عن غيرهم خلافهم ، ولأن قلع عينه يتضمن ذهاب بصره كله ، إذ الأعور يبصر بعينه كما يبصر الصحيح ، فوجبت الدية كما لو أذهب البصر من العينين .
قال : وفي الأشفار الأربعة الدية .
ش : في الأشفارالدية ، لأن ذلك هو جميع الجنس ، فوجب فيه جميع الدية كاليدين والرجلين ، والأشفار فسرها أبو محمد بالأجفان ، وهو مقتضى كلام غيره ،
____________________
(3/49)
وابن أبي الفتح يجعل الشفر منبت الهدب ، والجفن غطاء العين ، والله أعلم .
قال : وفي كل واحد منها ربع الدية .
ش : لأنه عدد تجب الدية في جميعه ، فوجب في بعضه بالقسط ، كاليدين والأصابع والله أعلم .
قال : وفي الأذنين الدية . . .
ش : لأنهما مما في البدن منه شيئان .
2997 ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما ، وادعى أبو محمد أنه في كتاب عمرو بن حزم ، ولم أره ، وقد شمل كلام الخرقي الأذن الصماء ، والأذن المستشحفة ، والأذن المخرومة ، وهو صحيح إن قلنا : يؤخذ به السالم من ذلك في العمد ، وإلا الواجب في ذلك حكومة ، والله أعلم .
قال : وفي السمع إذا ذهب من الأذنين الدية .
2998 ش : يروى هذا عن عمر رضي الله عنه .
2999 ويروى أيضاً عن معاذ رضي الله عنه أن النبي قال : ( وفي السمع الدية ) وقال ابن المنذر : أجمع عليه عوام أهل العلم . ولأنه حاسة تختص بنفع ، فكان فيه الدية كالبصر ، ولو ذهب السمع من أحد الأذنين وجب نصف الدية والله أعلم .
قال : وفي الأنثيين الدية .
ش : لحديث عمرو ( في البيضتين الدية ) ، ويجب في إحداهما نصفها .
قال : وفي الصعر الدية .
ش : لذهاب المنفعة والجمال ، أشبه سائر المنافع .
3000 ولأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت ، ولا يعرف له مخالف .
قال : والصعر أن يضربه فيصير الوجه في جانب .
ش : قال الجوهري : الصعر الميل في الخد خاصة ، وقال أبو محمد : أصله داء يأخذ البعير في عنقه فيلتوي له عنقه ، وفي التنزيل : 19 ( { ولا تصعر خدك للناس } ) أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبراً كإمالة وجه البعير الذي به الصعر ، والله أعلم .
قال : وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية .
ش : لأنه عضو فيه منفعة كثيرة ، ليس في البدن مثله أشبه سائر الأعضاء ، ومنفعة المثانة حبس البول ، فإذا غيرت فقد زالت المنفعة .
____________________
(3/50)
قال : وفي قرع الرأس إذ لم ينبت الشعر الدية ، وفي الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية ، وفي اللحية إذا لم ينبت الشعر الدية .
ش : هذا هو المذهب المشهور من الروايتين ، لأنه إذهاب للجمال على الكمال ، فوجبت الدية كاملة كأنف الأخشم ، وأذن الأصم ، ( والرواية الثانية ) في الجميع حكومة ، لأنه إذهاب جمال من غير منفعة ، فأشبه اليد الشلاء ، وألحق الأصحاب بهذه الثلاثة أهداب العينين ، فجعلوا فيها دية على المذهب ، وفي الواحد منها ربع الدية ، كما أن في الحاجب نصفها ، وقوله : إذا لم ينبت . شرط لوجوب الدية ، فلو نبتت فلا دية .
قال : وفي المشام الدية . . .
ش : قال أبو محمد : أراد الشم ، انتهى . ويجوز أن يكون أراد المنخرين . وفي كل واحد من ذلك نصف الدية ، أما الأول فلأنها حاسة تختص بمنفعة ، أشبهت سائر المنافع ، مع أن القاضي يدعي أن في حديث عمرو ( وفي المشام الدية ) ولم أر ذلك ، وأما الثاني فلأنه مما في الإنسان منه شيئان ، وهو إحدى الروايتين ، والمشهور منهما ، وعليها ففي الحاجز حكومة ، ( والرواية الثانية ) فيهما ثلثا الدية ، وفي الحاجز ثلثها ، اختارها أبو بكر ، والله أعلم .
قال : وفي الشفتين الدية .
ش : لحديث عمرو ( وفي الشفتين الدية ) وفي كل واحدة نصف الدية على المذهب المشهور من الروايتين ، قياساً على ما في الإنسان منه شيئان .
3001 واتباعاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، ( والرواية الثانية ) في الشفة السفلى ثلثا الدية ، وفي العليا ثلثها .
3002 اتباعاً لزيد بن ثابت ، ولأن نفع السفلى أكثر ، فناسب أن تزيد ديتها على دية العليا .
قال : وفي اللسان المتكلم به الدية .
ش : لحديث عمرو بن حزم ، وقد حكى إجماعاً ، وقوله : المتكلم به ، يحترز به عن لسان الأخرس ، فإن الدية لا تكمل فيه ، بل الواجب فيه إما ثلث الدية ، أو حكومة على اختلاف الروايتين ، ويستثنى من عموم المفهوم لسان الطفل ، فإن الكلام منتف فيه ، والدية واجبة فيه ، نعم إن بلغ إلى حد يتحرك فيه بالبكاء ولم يحركه فحكمه حكم لسان الأخرس ، والله أعلم .
قال : وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد ثغر .
ش : في كل سن خمس من الإبل على المذهب ، لما تقدم من حديث عمرو بن حزم .
____________________
(3/51)
3003 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله : ( في كل إصبع عشر من الإبل ، وفي كل سن خمس من الإبل ، والأصابع سواء ، والأسنان سواء ) . . . رواه الخمسة إلا الترمذي ، وقال في المغني : وحكي عن أحمد أن في جميع الأسنان والأضراس دية . . قال : ويتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد ، للإجماع على أن في كل سن خمساً من الإبل ، والأسنان فيها ستون بعيراً ، لأنها اثنا عشر سناً ، أربع ثنايا ، وأربع رباعيات ، وأربعة أنياب ، ففيها خمس ، والأضراس فيها أربعون ، لأنها عشرون ضرساً . . . انتهى .
3004 وقول سعيد هو أن في كل ضرس بعيرين ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال تبعه عليه في المقنع أن الواجب في الجميع دية واحدة وأطلق ، وحقق أبو البركات هذا القول فقال : وقيل : إن قلع الكل أو فوق العشرين لم يجب سوى الدية ، وذلك لأن هذه تشتمل على منفعة الجنس ، فكان الواجب فيه دية كاملة ، كبقية المنافع ، ويحمل الحديث على ما إذا قلعها متفرقة ، أو قلع دون العشرين .
وشرط وجوب ما تقدم أن تكون قد قلعت ممن قد أثغر ، وهو الذي قد سقطت رواضعه ، فأما سن الصبي الذي لم يثغر فهل يجب فيها ما يجب في سن من أثغر ، لعموم الحديث ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، أو لا يجب إلا حكومة وهو اختيار القاضي ، ويحتمله كلام الخرقي ، لعدم مساواتها لسن الكبير ، وذلك يقتضي أن ينقص عنها ؟ على روايتين ، ( وشرط الوجوب ) في سن الصغير وغيره عدم عود مثلها ، فلو نبت مثل السن في محلها فلا شيء له ، حتى لو كان قد أخذ الدية أخذت منه ، كالشعر إذا نبت ، نعم لو عادت قصيرة أو متغيرة فله الأرش ، ( ويشترط ) أيضاً لوجوب أخذ الدية الإياس من عودها ، فإن رجي عودها لم تجب ديتها ، والمرجع في ذلك إلى قول أهل الخبرة ، قاله أبو البركات ( وعن أحمد ) أنه قيد ذلك في سن الصغير بسنة ، فإذا مضت وجبت الدية ، وقال القاضي : إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية وهو حسن ، وإنما وقع لأحمد والقاضي التقييد في الصغير دون غيره لأن الغالب أن سن الكبير لا يرجى عودها ، فلا انتظار .
تنبيهان ( أحدهما ) لو مات من قلعت سنه في مدة الانتظار فهل تجب دية السن لوجود سبب الدية . . . والأصل عدم العود ، أو لا تجب ، لاحتمال العود ، والأصل براءة الذمة ؟ فيه قولان ، وأبو محمد يخصهما بسن الصغير ، لأن الانتظار عنده إنما هو فيه . ( والثاني ) تجب دية السن فيما ظهر منها من اللثة ، لأن ذلك هو المسمى بها سناً ، وما في اللثة يسمى سنخاً ، ولو قلعها ابتداء بسنخها لم يجب فيها أكثر من الدية .
قال : والأضراس والأنياب كالأسنان .
____________________
(3/52)
ش : أي يجب فيهم ما يجب في الأسنان ، وذلك لما تقدم .
3005 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( الأسنان سواء الثنية والضرس سواء ) رواه ابن ماجه وهو نص ، وقد تقدم لنا قويل أن في كل ضرس بعيرين ولا عمل عليه .
قال : وفي الثديين الدية سواء كان من رجل أو امرأة .
ش : لأنهما مما في الإنسان منه شيئان ، وقد تقدم أن كل ما في الإنسان منه شيئان فيه الدية ، ولأن في ثدي المرأة جمالاً ونفعاً ، أشبها اليدين وفي ثندوتي الرجل جمالاً كاملاً ، أشبها أذني الأصم ، وعلى هذا في أحدهما نصفها .
قال : وفي الأليتين الدية . . .
ش : لما تقدم ، قال ابن المنذر : كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون في الأليتين الدية ، ولأن فيهما جمالاً ومنفعة ، لأنه يجلس عليهما كالوسادتين ، فأشبها اليدين ، وفي إحداهما نصفها لما تقدم .
قال : وفي الذكر الدية .
ش : لحديث عمرو بن حزم وقد تقدم ، مع أنه إجماع والحمد لله ، ولا فرق بين ذكر الكبير والصغير ، وإن لم يقدر أن يجامع به ، لعموم الحديث ، مع صلاحيته لذلك ، وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ذكر العنين والخصي ، والذكر الأشل ، ولا نزاع فيما نعلمه أن الذكر الأشل لا تكمل فيه الدية ، وإنما الواجب فيه هل هو حكومة أو ثلث ديته ؟ على روايتين يأتي توجيههما في اليد الشلاء أما ذكر الخصي والعنين ففيهما ثلاث روايات ، ( إحداها ) وهي المشهورة حكمها حكم الذكر الأشل ، لأن منفعة الذكر الإنزال والإحبال ، وذلك مفقود فيهما . ( والثانية ) فيهما كمال الدية ، لعموم الحديث ، ولأنه عضو سليم في نفسه ، فكملت ديته كذكر الشيخ .
( والثالثة ) يجب الكمال في ذكر العنين ، لأنه غير مأيوس من الإنزال به والإحبال ، بخلاف ذكر الخصي .
( تنبيه ) ينبني على الخلاف السابق في ذكر الخصي إذا قطع الذكر والخصيتين معاً ، أو الخصيتين ثم قطع الذكر ، وجبت ديتان بلا ريب ، ولو قطع الخصيتين أو لا ، ثم قطع الذكر ، وجبت دية الخصيتين ، وفي الذكر روايتان ، إحداهما دية ، والأخرى حكومة أو ثلث ديته ، على اختلاف الروايتين في الواجب فيه إذا لم يجب فيه كمال الدية .
قال : وفي اليدين الدية .
____________________
(3/53)
ش : هذا إجماع والحمد لله ، وفد شهد له حديث عمرو بن حزم ، وفي إحداهما نصفها ، وقد شمل كلامه اليد الشلاء والزائدة ، وسيأتي الكلام على اليد الشلاء إن شاء الله تعالى ، وحكم اليد الزائدة حكمها ، وتجب الدية في قطعها من الكوع إذ اليد إذا أطلقت في الغالب أريد بها ذلك ، بدليل التيمم ، وقطع السارق ، وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل ، فإن قطعها من فوق ذلك فهل في الزائد حكومة ، وهو اختيار القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد ، وأبو الخطاب ، كما لو قطعه بعد قطعها من الكوع ، أو لا تجب ، وهو منصوص أحمد في رواية أبي طالب ، وقول القاضي في الجامع ؟ على قولين ، لأن اليد في الأصل اسم لليد إلى المنكب ، مع أن الأصل براءة الذمة .
وفي إحداهما نصفها إلا على رواية ضعيفة ، وهو إذا لم تكن له إلا يد واحدة ففيها دية كاملة ، كعين الأعور ، وعلى هذه لو قطع يد من له يدان لم تقطع يده ، بل يكون عليه دية كاملة .
قال : وفي الرجلين الدية .
ش : هذا أيضاً إجماع والحمد لله ، وحديث عمرو بن حزم يدل عليه ، وكلامه يشمل رجل الأعرج ، وهو المذهب ، لأن العرج لمعنى في غير القدم ، وعن أبي بكر : فيها ثلث الدية كاليد الشلاء ، ويستثنى من عموم كلامه الرجل الشلاء فإن حكمها حكم اليد الشلاء ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، وتجب دية الرجل في قطعها من الكعب ، فإن قطعها من فوق ذلك فقولان ، كما تقدم في قطع اليد ، وحكم قطع إحداهما حكم قطع إحدى اليدين .
قال : وفي كل إصبع من اليد والرجل عشر من الإبل .
ش : لما تقدم من حديث عمرو بن حزم ، وعمرو بن شعيب .
3006 وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال : ( هذه وهذه سواء ) . . . يعني الخنصر والإبهام رواه الجماعة إلا مسلماً ، وللترمذي وصححه : ( أصابع اليدين والرجلين سواء ، عشر من الإبل لكل أصبع ) ويستثنى من كلامه الإصبع الزائدة ، فإن فيها ثلث ديتها ، أو حكومة ، على اختلاف الروايتين ، والله أعلم .
قال : وفي كل أنملة منها ثلث عقلها ، إلا الإبهام فإنها مفصلان ، ففي كل مفصل خمس من الإبل .
ش : في كل أنملة من الأصابع ثلث عقل الإصبع لأن كل إصبع فيه ثلاث أنامل ، فديته مقسومة عليها ، إلا الإبهام فإنها مفصلان ، فتقسم دية الإصبع عليهما ، فيجب في
____________________
(3/54)
كل مفصل نصف ديته ، وهو خمس من الإبل .
قال : وفي البطن إذا ضرب فلم يستمسك الغائط الدية ، وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية .
ش : لأن كل واحد من هذين العضوين فيه منفعة ليس في البدن مثله ، فوجب في تفويت منفعته دية كاملة ، كسائر الأعضاء ، وحكى ابن أبي موسى رواية في المثانة أن فيها ثلث الدية ، والله أعلم .
قال : وفي ذهاب العقل الدية .
3007 ش : لأن ذلك يروى عن عمر وزيد رضي الله عنهما ، ولأن به يتميز من البهائم ، ويعرف به حقائق المعلومات ، ويدخل به في التكليف ، وهو شرط في ثبوت الولايات ، وصحة التصرفات ، وأداء العبادات ، فكان بإيجاب الدية أحق من بقية الحواس ، وقد ادعى أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم ( وفي العقل الدية ) ، ولم أر ذلك ، والله أعلم .
قال : وفي اليد الشلاء ثلث ديتها ، وكذلك العين القائمة ، والسن السوداء .
ش : هذا إحدى الروايتين عن إمامنا ، واختيار عامة أصحابنا .
3008 لما روي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها ، وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها ، وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها ؛ رواه النسائي ، ولأبي داود منه : قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية .
3009 وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه 16 ( أنه قضى في العين القائمة إذا خسفت ، واليد الشلاء إذا قطعت ، والسن السوداء ، إذا كسرت ثلث دية كل واحدة منهن ) .
( والرواية الثانية ) في جميع ذلك حكومة ، ولعله قال ذلك قبل أن يبلغه الخبر ، أو قبل أن يثبت عنده ، وإذاً لا مقدر في ذلك ، ولا يمكن أيجاب الدية فيه كاملة ، لذهاب نفعه ، فيجب فيه حكومة .
تنبيهان : ( أحدهما ) العين القائمة هي الباقية في موضعها صحيحة ، وإنما ذهب نظرها وإبصارها ، واليد الشلاء التي بطلت لآفة تعتريها ، ومن ثم قال القاضي : الروايتان في السن السوداء التي ذهب نفعها ، أما إن لم يذهب نفعها بالكلية ، ففيها ديتها كاملة ، وخالفه أبو محمد عملاً بإطلاق أحمد ، وبظاهر الحديث . ( الثاني ) : الروايتان السابقتان
____________________
(3/55)
جاريتان في الرجل الشلاء ، والإصبع الشلاء ، والذكر الأشل ، والثدي الأشل ، ولسان الأخرس ، ولسان الصبي الذي أتى عليه أن يحركه بالبكاء ولم يحركه ، والثدي دون حلمته ، والذكر دون حشفته ، والكف دون أصابعه ، وقصبة الأنف ، واليد والإصبع ، والرجل والسن الزوائد [ وذكر الخصي والعنين على رواية ، إلا أن المختار لأبي محمد في اليد والأصبع والرجل والسن الزوائد ] أن فيها حكومة ، وكذلك مختاره في الذكر ، دون حشفته ، والكف دون أصابعه ، والخرقي رحمه الله اقتصر على ما تقدم ، إما لورود النص فيها دون غيرها ، وإما لأن مختاره وجوب الحكومة فيما عداها .
واعلم أن أبا محمد جعل من صور الخلاف هنا شحمة الأذن ، وكلامه في المغني في هذا الموضع يقتضي أن مختاره أن فيها حكومة ، ولما تكلم في قطع الأذن ، وأن في بعضها بالحساب من ديتها ، قال : إنه روي عن أحمد أن في شحمة الأذن ثلث ديتها ، وأن المذهب الأول ، وعلى هذا الثاني جرى أبو البركات ، ولم يحك رواية الحكومة .
قال : وفي إسكتي المرأة الدية .
ش : الإسكتان بكسر الهمزة وفتحها شفرا الرحم ، وقيل جانباه مما يلي شفريه ، وفيهما الدية ، لأن فيها جمالاً ومنفعة ، وليس في البدن غيرهما من جنسهما ، فوجبت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان ، والله أعلم .
قال : وفي موضحة الحر خمس من الإبل .
ش : لما تقدم في حديث عمرو بن حزم .
3010 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن النبي قال : ( في الموضحة خمس من الإبل ) رواه الخمسة . وقوله : في موضحة الحر . يحترز به عن موضحة العبد ، فإن فيها نصف عشر قيمته أو ما نقص من قيمته ، على اختلاف الروايتين والله أعلم .
قال : سواء كان رجلاً أو امرأة .
ش : أي سواء كان المجني عليه رجلاً أو امرأة ، لعموم الحديث ، ولما تقدم من أن جراحها تساوي جراح الرجل إلى الثلث ، ونص الخرقي على ذلك لينبه على مذهب الشافعي رحمه الله ، وهو أن موضحتها على النصف من موضحة الرجل .
قال : وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا زادت صارت على النصف .
ش : قد تقدم الكلام على هذا بما فيه كفاية ، ونزيد هنا أن مقتضى كلامه أنها
____________________
(3/56)
تساويه في الثلث ، وهذا اللفظ في هذا الموضع غير موجود في بعض النسخ .
قال : والموضحة في الوجه والرأس سواء .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وعامة أصحابه ، لعموم ما تقدم .
3011 وعن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : 16 ( الموضحة في الرأس والوجه سواء ) .
( والرواية الثانية ) : في موضحة الوجه عشر من الإبل ، قال القاضي : نقلها حنبل انتهى . . . واختارها الشيرازي ، وذلك لأن شينها أكثر ، لظهورها ، بخلاف موضحة الرأس فإنه يسترها الرأس والشعر ، وأوَّل أبو محمد هذه الرواية بعد أن زعم أن لفظها موضحة الوجه أحرى أن يزاد في ديتها . بأن معناها أنها أولى بإيجاب الدية ، لا أنها يجب فيها أكثر ، وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا مقدر في غير موضحة الرأس والوجه من المواضح ، وهو كذلك ، إذ اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس ، وغيرهما ليس في معناهما ، لأن شينهما أكثر ، وخطرهما أعظم والله أعلم .
قال : وهي التي تبرز العظم وتوضحه .
ش : هذا بيان للموضحة أنها التي تبرز العظم أي تظهره ، سميت بذلك لأنها أبدت وضح العظم أي بياضه ، ولا فرق بين قليل ذلك وكثيره ، حتى لو أبدت من العظم قدر إبرة فهي موضحة ، ولو كانت كل الرأس فهي موضحة ، ومن ثم قال الأصحاب : لو شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة ، لم يلزمه أكثر من أرش الموضحة .
قال : وفي الهاشمة عشر من الإبل .
3012 ش : لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت ، ولأنها شجة فوق الموضحة ، تختص باسم ، فكان فيها مقدر كالمأمومة ، والله أعلم .
قال : وهي التي توضح العظم وتهشمه .
ش : هذا بيان للهاشمة ، وسميت بذلك لهشمها العظم ، وكان ابن الأعرابي يجعل بعد الموضحة المفرشة ، وهي التي يصير منها في العظم صديع مثل الشعرة ، ويلمس باللسان لخفائه ، انتهى . وتختص أيضاً بالرأس والوجه كما في الموضحة ، ولو هشمت العظم من غير إيضاح لم يجب أرش الهاشمة ، على مقتضى كلام الخرقي ، وهو كذلك بلا ريب ، وهل تجب خمس من الإبل ، لأنه الذي يخص الهشم ، أو حكومة لأن زيداً رضي الله عنه لم يحكم إلا في إيضاح وهشم ؟ فيه وجهان .
قال : وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل .
____________________
(3/57)
ش : قد حكى ذلك ابن المنذر إجماعاً ، وشهد له حديث عمرو بن حزم ، والله أعلم .
قال : وهي التي توضح وتهشم وتسطو حتى تنقل عظامها .
ش : المنقلة زائدة على الهاشمة ، لأنها التي توضح العظم وتهشم وتزيد في الهشم ، حتى تزيل العظام عن مواضعها ، وبذلك سميت المنقلة ، لنقلها العظام .
قال : وفي المأمومة ثلث الدية .
ش : لحديث عمرو بن حزم .
3013 وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله قضى في المأمومة بثلث العقل ، ثلاث وثلاثون من الإبل ، أو قيمتها من الذهب ، أو الورق أو البقر ، أو الشاء ، والجائفة مثل ذلك ، مختصر رواه أبو داود والنسائي .
قال : وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ .
ش : وتسمى أم الدماغ سميت بذلك لأنها تحوط الدماغ وتجمعه .
قال : وفي الآمة ما في المأمومة .
ش : الآمة والمأمومة حكمهما واحد ، وهما شيء واحد ، قال ابن المنذر : أهل العراق يقولون لها الآمة ، وأهل الحجاز المأمومة أي لهذه الجراحة ، وسميت بذلك لوصولها إلى جلدة الدماغ التي هي أم الدماغ .
( تنبيه ) : فإن خرق جلدة الدماغ فهي الدامغة يعني بالغين المعجمة ، وفيها ما في المأمومة ، وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق الجلدة .
قال القاضي : ولم يذكرها أصحابنا لمساواتها المأمومة في أرشها . قال أبو محمد : ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكون صاحبها لا يسلم غالباً والله أعلم .
قال : وفي الجائفة ثلث الدية .
ش : لما تقدم من حديث عمرو بن حزم وعمرو بن شعيب .
قال : وهي التي تصل إلى الجوف .
ش : وبذلك سميت ، وقد خرج من كلام الخرقي إذا طعنه في خده فوصل إلى فمه ، أنها لا تكون جائفة ، وهو المذهب ، لأن الفم في حكم الظاهر لا في حكم الباطن ، ولأبي الخطاب احتمال أنه جائفة ، لوصوله إلى جوفه ، والله أعلم .
قال : فإن جرحه في جوفه فخرج من الجانب الآخر ، فهي جائفتان .
3014 ش : اقتداء بأبي بكر الصديق رضي الله عنه فعن سعيد بن المسيب 16 ( أ
____________________
(3/58)
رجلاً رمى رجلاً بسهم فأنفذه ، فقضى أبو بكر رضي الله عنه بثلثي الدية ) رواه سعيد بن منصور في سننه ، وروي ذلك أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
قال : ومن وطىء زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية .
ش : معنى الفتق أن يجعل مدخل الذكر ، وهو مخرج المني والحيض والولد ، ومخرج البول واحداً ، وقيل : بل هو خرق ما بين القبل والدبر ، وبعّده أبو محمد ، لغلظ الحاجز بينهما ، فيبعد ذهابه بالوطء ، وفي ذلك ثلث الدية .
3015 لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ولأنها جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر ، فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة ، ويجب ذلك في ماله إن تعمد ، بأن يعلم أنها لا تطيقه ، وإن وطأها يفضيها ، أما إن لم يعلم ذلك ، وكان مما يحتمل أن لا يفضي إليه فهو شبه عمد ، تحمله العاقلة على الصحيح ، وقيد الخرقي بالصغيرة ، وفي معناها النحيفة التي لا تحتمل الوطء ، ولتخرج الكبيرة المحتملة له ، فإنه إذا وطئها فأفضاها لا شيء عليه ، لأنه وطء مستحق له ، فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة ، أو فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه ، فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما أفضى إلى ذلك .
وقال : زوجته لتخرج الأجنبية ، فإنه إن زنا بها مطاوعة فلا شيء لها ، وإن كانت مكرهة واستمسك البول وجب ثلث الدية ، وإن لم يستمسك فالدية كاملة ، وإن وطئها بشبهة فكذلك مع المهر .
قال : وفي الضلع بعير .
3016 ش : يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في الضلع بجمل ، وشرط أبو البركات لذلك أن يجبر مستقيماً ، ومفهوم كلامه أنه لو لم يجبر مستقيماً كان فيه حكومة ، ولم أر هذا الشرط لغيره ، وقد حكى القاضي في روايتيه أن أحمد قال : في الضلع بعير ، وهذا لا قيد فيه .
قال : وفي الترقوة بعيران .
ش : الترقوة بفتح التاء ، قال الجوهري : ولا تقل ترقوة بالضم ، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق ، وفيها بعيران على ظاهر كلام الخرقي ، فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة .
3017 وهذا قول زيد بن ثابت رضي الله عنه ، والمنصوص أن في الواحدة بعيراً ، فيكون فيهما بعيران .
3018 وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو المذهب عند القاضي وأصحابه ، حتى أن القاضي قال : مراد الخرقي بقوله : الترقوة : الترقوتان ، وإنما اكتفى بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام المقتضية للاستغراق ، والله أعلم .
____________________
(3/59)
قال : وفي الزند أربعة أبعرة لأنه عظمان .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، وقاله ابن عقيل في التذكرة ، لما علل به الخرقي من أنه عظمان ، ففي كل عظم بعيران . والمنصوص في رواية صالح وأبي الحارث أن في الزند الواحد بعيران ، وفيهما جميعاً أربعة من الإبل ، وعليه القاضي وأصحابه وحمل القاضي كلام الخرقي أيضاً على الزندين .
3019 وذلك لما روى سعيد : حدثنا هشيم ، أخبرنا يحيى بن كثير ، ثنا سعيد ، عن عمرو بن شعيب ، أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر رضي الله عنهما في أحد الزندين إذا كسر ، فكتب إليه عمر 16 ( أن فيه بعيرين ، وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من الإبل ) .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا مقدر في غير هذه العظام ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور .
3020 وقيل له : إذا كسرت الذراع أو الساق ، فقال : يروى عن عمر رضي الله عنه في كل واحد فريضتان ، ولا تكتبه ، وظاهر هذا أنه لم يأخذ به ، ونص في رواية أبي طالب أن في كسر الساق وفي كسر الفخذ بعيران ، كذا في روايتي القاضي ، وظاهر كلام أبي البركات أن في رواية أبي طالب مع ذلك العضد والذراع ، وأن أحمد نص في رواية صالح أن في كل واحد من الأربعة بعيراً ، قال : ورواه عن عمر رضي الله عنه . ( والرواية الثانية ) اختيار القاضي وابن عقيل وأبي الخطاب ، وزاد على ذلك عظم القدم ، فجعل فيه بعيرين .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) حيث أوجبنا بعيراً أو بعيرين ونحو ذلك ، فإن في ذلك من البقر ونحوها بحساب ذلك ، ذكره ابن عقيل . ( الثاني ) الزند بفتح الزاي ، قال الجوهري : موصل طرف الذراع في الكف وهما زندان بالكوع والكرسوع ، وهو طرف الزند الذي يلي الخنصر ، وهو الناتىء عند الرسغ ، والله أعلم .
قال : قال أبو عبد الله رحمه الله : والشجاع التي لا توقيت فيها أوله ( الحارصة ) وهي التي تحرص الجلد يعني تشقه قليلاً ، وقال بعضهم : هي الحرصة ثم ( الباضعة ) وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ، ثم ( البازلة ) وهي التي يسيل منها الدم ثم ( المتلاحمة ) وهي التي أخذت في اللحم ، ثم ( السمحاق ) وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة ، ثم ( الموضحة ) .
ش : الشجاج جمع شجة ، وهي المرة إذا جرحه في رأس أو وجه ، وقد تستعمل في غيرهما ، والشجاج عشر ، خمس فيها مقدر ، وهي الموضحة ، والهاشمة ، والمنقلة ، والمأمومة ، والدامغة ، وخمس لا مقدر فيها على المذهب المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، وهي هذه المذكورة ، لعدم التقدير فيها من جهة الشرع ، وما
____________________
(3/60)
لا مقدر فيه الواجب فيه حكومة .
3021 ويروى عن مكحول قال : 16 ( قضى النبي في الموضحة بخمس من الإبل ، ولم يقض فيما دونها ) .
3022 ونقل أبو طالب عنه حكم زيد في البازلة ببعير ، وفي الباضعة ببعيرين ، وفي المتلاحمة بثلاثة ، وفي السمحاق بأربعة ، وأذهب إليه ، وهذا حكم أصحاب رسول الله ، كما حكموا في الصيد ، وهذا اختيار أبي بكر ، وحكى الشيرازي عن ابن أبي موسى أنه اختار ذلك في السمحاق ، انتهى . وعن القاضي أنه قال : متى أمكن اعتبار هذه الجراحات من الموضحة ، مثل أن يكون في رأس المجني عليه موضحة إلى جانبها ، قدرت هذه الجراحة منها ، فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة ، وإن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش . وعلى هذا ، إلا أن تزيد الحكومة على ذلك ، فيجب ما تخرجه الحكومة ، مثاله الجراحة قدر نصف الموضحة ، وشينها ينقص قدر ثلثيها ، الواجب ثلثا أرش الموضحة ، وإن نقصص الشين عن النصف ، فالواجب النصف ، وملخصه أنه يوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة . قال أبو محمد : وهذا لا نعلمه مذهباً لأحمد ، ولا يقتضيه مذهبه . . . انتهى .
وأما تفسير هذه الشجاج وترتيبها ( فأولها ) الحارصة ، قال الأزهري : هي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلاً ومنه : حرص القصار الثوب . أي خرقه ، بالدق ، ( ثم يليها ) على ما قال الخرقي ، وتبعه ابن البنا الباضعة ، وهي التي تشق اللحم بعد الجلد ، يعني ولا يسيل منها دم ، بدليل ما ذكر بعد ، وكذلك قال الجوهري ، وابن فارس : الباضعة الشجة التي تقطع الجلد ، وتشق اللحم ، إلا أنه لا يسيل الدم ، فإن سال فهي الدامية ، وقال أبو محمد : الصواب الحارصة ، ثم البازلة ، ثم الباضعة ، وقال : لعل ما في النسخ غلط من الكتاب ، قال : لأن الباضعة التي تشق اللحم بعد الجلد ، ويسيل منها دم كثير في الغالب ، بخلاف البازلة ، فإنها الدامعة ، لقلة سيلان دمها .
3023 قال : ولأن زيداً رضي الله عنه جعل في البازلة بعيراً ، وفي الباضعة بعيرين ، فدل على أن الباضعة أشد ، انتهى .
وهذا قول الأصمعي والأزهري ، وبالجملة اتفقوا فيما علمناه على تقديم الحارصة ، وتأخير السمحاق ، واختلفوا في البازلة مع الباضعة ، أيهما يقدم على الأخرى والبازلة فاعلة من : بزلت الشجة الجلد ، أي شقته فجرى الدم ، يقال : بزلت الخمر . ثقبت إناءها فاستخرجتها ، فالدم محبوس في محله ، كالمائع في وعائه ، والشجة بزلته ، والسمحاق قشرة رقيقة فوق عظم الرأس ، فإذا وصلت الشجة إليها سميت سمحاقاً باسمها ، والله أعلم .
____________________
(3/61)
قال : وما لم يكن فيه من الجراح توقيت ، ولم يكن نظيراً لما وقتت ديته ففيه حكومة .
ش : الذي فيه من الجراح توقيت كالموضحة ، والمنقلة ، وكذلك الأنف واللسان ، ونحو ذلك ، والذي هو نظير الموقت كالهاشمة ، والأليتين ، ونحو ذلك ، أي تقدير من جهة الشرع ، وما عدا هذين ، وهو ما لا موقت فيه ، ولا يمكن قياسه على الموقت ، كجراح البدن سوى الجائفة ، وكسر العظام سوى ما تقدم ، كخرزة الصلب والعصعص ، ونحو ذلك ففيه حكومة ، حذاراً من أن تخلو الجراحة من أرش .
قال : والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت ، فما نقص من القيمة فله مثله من الدية ، كأنه قيمته وهو عبد صحيح عشرة ، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة ، فيكون فيه عشر ديته .
ش : قال ابن المنذر : إن هذا قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة ، فأجزاؤه مضمونة ، كما أن المبيع إذا كان مضموناً على البائع ، كانت أجزاؤه مضمونة عليه ، فالأجزاء تابعة للأصل ، وإذا كانت الأجزاء مضمونة ، ولم يرد فيها تقدير من جهة الشرع ، فالواجب سلوك هذه الطريقة ، لنصل إلى الواجب ، فيجعل الحر عبداً ليمكن تقويمه ، إذ الحر ليس بمال ، وغير المال لا يقوم ، فيقال : كم قيمة هذا لو كان عبداً لا جناية به ؟ فيقال مثلاً : مائة ، ويقال : وكم قيمته وبه الجناية ؟ فيقال مثلاً : ثمانون . فما بينهما من القيمتين هو الخمس ، فيكون له خمس الدية ، لأن ديته بمنزلة قيمته .
قال : وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص . . .
ش : يعني إنما ذكرته مثالاً ، وقد تزيد الحكومة على مثاله كما مثلنا ، وقد تنقص ، كما لو قيل : قيمته وهو صحيح عشرة ، وقيمته وبه الجناية تسعة ونصف ، فما بينهما نصف عشر قيمته ، فيكون فيه نصف عشر ديته .
قال : إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه ، فتكون أسهل مما وقت ديته فيه ، فلا يجاوز به أرش الموقت .
ش : يعني أن الواجب ما أخرجته الحكومة مطلقاً ، ويستثنى من ذلك إذا كانت الجراحة في شيء فيه مقدر ، فإنه لا يجاوز به المقدر ، حذاراً من أن يجب في بعض الشيء أكثر مما يجب فيه كله ، ولأن الضرر في الموضحة مثلاً أكثر من الضرر في البازلة ، وشينها أعظم ، فلا يناسب أن يزيد أرش البازلة على أرش الموضحة ، وفي بلوغ المقدر وجهان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، وإليه ميل أبي محمد يبلغ ، نظراً إلى أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة ، سقط الزائد على أرش الموضحة مثلاً لمخالفة تنبيه النص ، ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل . ( والثاني )
____________________
(3/62)
وهو اختيار الشريف ، وابن عقيل ، وقال القاضي في جامعه : إنه المذهب لا يبلغه ، بل ينقص عنه شيئاً ، حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد ، حذاراً من أن يجب في البعض ما يجب في الكل ، ونقضه أبو محمد بأن دية الأصابع فيها ما في اليد ، قال : وإن صح ما ذكر فينبغي أن ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحدودة ، ومثال المسألة لوشجه بازلة أو سمحاقاً ، لم تبلغ بأرش ذلك ( زيادة ) على أرش الموضحة ، وفي بلوغه أرش الموضحة وجهان ، وكذلك لو جرحه في بطنه جرحاً لا يصل إلى الجائفة ، لا يزيد أرشه على أرش الجائفة ، وفي مساواتها وجهان ، وكذلك لو جرحه في أنملته جرحاً لم يزد على أرش الأنملة ، وفي مساواتها على الوجهين .
والخرقي رحمه الله اقتصر على ذكر الرأس والوجه ، ومفهوم كلامه اختصاص الامتناع بهما ، فعلى هذا يجوز أن يزيد أرش جرح الأنملة على ما فيها ، وغيره من الأصحاب عدى الحكم إلى كل ما فيه مقدر كما تقدم .
( تنبيه ) : التقويم بعد البرء قياساً على أرش الجرح المقدر ، فإنه لا يستقر إلا بعد برئه ، فإن لم تنقصه الجناية شيئاً حال البرء ، فعنه وهو اختيار أبي محمد لا شيء فيها ، إذ الحكومة لأجل جبر النقص ، ولا نقص ، أشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر ( وعنه ) وهو المنصوص ، واختيار القاضي وغيره : بلى ، لأن هذا جزء من مضمون ، فلم يخل عن ضمان ، كما لو أتلف منه مقدراً ولم ينقصه شيئاً ، فعلى هذا هل يقوم حال الجناية ، أو قبيل الاندمال التام ، فإن لم ينقص فحال الجناية ؟ فيه وجهان ، فإن لم ينقص حال الجناية أو زادته حسناً كإزالة لحية المرأة ، أو سن زائدة ، فلا شيء على الأصح عند الشيخين ، وقال أبو الخطاب في الهداية : يقوم كأنه عبد كبير له لحية فذهبت ، وأشانته ، فما نقص لزمه من دية المرأة بقسطه ، قال : وفيه نظر . وفي السن الزائدة قال أبو محمد على هذا القول : يقوم كأن لا سن له زائدة ولا خلقة أصلية ، ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة ، قال : ولو كانت المرأة إذا قدرناها ابنة عشرين فنقصها ذهاب لحيتها يسيراً ، وإذا قدرناها ابنة أربعين تنقصها كثيراً ، قدرناها ابنة عشرين كما يقوم الجرح الذي لم ينقص بعد الاندمال أو قبله .
قال : وإن كانت الجناية على العبد مما ليس فيه من الحر شيء موقت ، ففيه ما نقصته بعد التئام الجرح ، وإن كان فيما جني عليه شيء موقت في الحر ، فهو موقت في العبد .
ش : لا نزاع أن ما لا مقدر فيه من الحر يضمن العبد إذا جني عليه فيه بما نقص ، لأن ضمانه ضمان الأموال ، فيجب ما نقص كالبهائم ، ولأنه مما يضمن بالقيمة ، وإن كثرت فيضمن بما نقص ، كسائر الأموال ، واختلف فيما فيه مقدر من الحر ، إذا جني على العبد فيه ، ( فعنه ) وهو اختيار الخلال يضمن ما نقص أيضاً ، لما تقدم .
3024 واعتماداً من أحمد على أنه قول ابن عباس رضي الله عنهما و ( عنه )
____________________
(3/63)
وهو اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي وأصحابه أن ما كان مقدراً في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته ، نظراً إلى أنه آدمي ، يضمن بالقصاص والكفارة ، فكان في أطرافه مقدراً كالحر ، ولأن له شبهاً بالآدميين وبالبهائم ، كما هو مقرر في موضعه ، فجعلناهم فيما لا مقدر فيه كالبهائم ، وفيما فيه مقدر كالأحرار ، إعمالاً لكل من الشبهين .
3025 وقد روي هذا عن علي رضي الله عنه .
قال : ففي يده نصف قيمته ، وفي موضحته نصف عشر قيمته ، سواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر .
ش : لا تفريع على الرواية الأولى ، بل الواجب النقص مطلقاً ، أما على مختار الخرقي وهو المذهب ففي يد العبد نصف قيمته ، كما في موضحة الحر نصف عشر ديته ، وفي لسانه أو ذكره ، أو يديه جميع قيمته ، مع بقاء الملك عليه ، كما أن في الحر في كل واحد من هذه الدية ، وعلى هذا ، وسواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر ، إناطة بالتقدير ، وعلى هذا لو جنى عليه جناية لا مقدر فيها في الحر ، إلا أنها في شيء فيه مقدر ، كما لو جنى عليه في رأسه أو وجهه دون الموضحة ، هل يضمن بما نقص مطلقاً ، وإليه ميل أبي محمد اعتباراً بالأصل ، أو إن نقص أكثر من أرشها وجب نصف عشر قيمته ، كالحر إذا زاد أرش شجته التي دون الموضحة على نصف عشر ديته ؟ فيه قولان ، والله أعلم .
قال : وهكذا الأمة .
ش : الأمة كالعبد فيما تقدم ، لأنها مال كهو .
( تنبيه ) : فإن بلغت جراحتها ثلث قيمتها ، فقال أبو محمد : يحتمل أن يرد جنايتها إلى النصف ، فيكون في ثلاثة أصابعها ثلاثة أعشار قيمتها ، وفي الأربع خمس قيمتها ، كالحرة تساوي الرجل في جراحها إلى الثلث ، فإذا زادت ردت إلى النصف ، قال : ويحتمل أن لا ترد إلى النصف ؛ لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل ، إذ الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية . قلت : وهذا هو الصواب ، إذ قياسها على الحرة إنما يقتضي أن تكون فيما نقص عن الثلث تساوي الذكر من الأرقاء في قيمته ، ولا يتأتى هذا .
قال : فإن كان المقتول خنثى مشكلاً ففيه نصف دية ذكر ، ونصف دية أنثى .
ش : كما يرث نصف ميراث ذكر ، ونصف ميراث أنثى ، ولأنه يحتمل الذكورية والأنوثية ، احتمالاً واحداً ، وقد يئس من انكشاف حاله ، فوجب التوسط بينهما ، حذاراً من ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح .
( تنبيه ) : جراحه ما لم يبلغ الثلث منها الواجب فيه دية ذكر ، وما زاد على الثلث
____________________
(3/64)
الواجب فيه ثلاثة أرباعها نصف دية ذكر ، ونصف دية أنثى ، وفي الثلث قولان ، والله أعلم .
قال : وإن كان المجني عليه نصف حرا ، ونصفه عبداً فلا قود .
ش : يعني إذا كان الجاني حراً ، لعدم الكفاءة المعتبرة شرعاً كما تقدم ، ولو كان الجاني رقيقاً وجب القود بلا ريب ، لأن المجني عليه أكمل منه . وكذلك لو كان نصفه حراً لتساويهما ، ومن ثم لو كانت الحرية في القاتل أكثر فلا قود ، لعدم التساوي .
قال : وعلى الجاني إذا كان عمداً نصف دية حر ، ونصف قيمته .
ش : لأنه والحال ما تقدم نصفه حر ، والواجب في الحر الدية ، ففي نصفه نصفها ، ونصفه رقيق ، والواجب قيمة الرقيق ، ففي نصفه نصفها ، ويكون ذلك في مال الجاني ، لأنه عمد ، والعاقلة لا تحمل عمداً .
قال : وهكذا في جراحه .
ش : يعني يجب فيه نصف ما يجب في الحر ، ونصف ما يجب في العبد ، ففي لسانه دية حر ، ونصف قيمة عبد ، وفي يده أو رجله ربع دية حر ، وربع قيمة عبد . وفي موضحته ربع عشر دية حر ، وربع عشر قيمة عبد ، وعلى هذا هذا على مختار الخرقي الذي هو المذهب ، في أن العبد يضمن بالمقدر ، أما على الرواية الأخرى ففي لسانه نصف دية حر ، ونصف ما نقص ، وفي يده أو رجله ربع دية حر ، ونصف ما نقص ، وفي موضحته ربع عشر دية حر ، ونصف ما نقص ، والله أعلم .
قال : فإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته .
ش : أي وإن كان القتل خطأ ففي مال الجاني نصف قيمته في ماله ، لأنها وجبت بدل رقيق ، والعاقلة لا تحمل رقيقاً .
قال : وعلى عاقلته نصف الدية .
ش : لأنها بدل حر ، والعاقلة تحمل الحر في الخطأ .
( تنبيه ) : والحكم في الجراح أن ما كان عمداً كان في مال الجاني ، وكذلك إن كان خطأ ولم يبلغ الثلث ، وإن بلغه فعلى العاقلة .
____________________
(3/65)
( كتاب القسامة )
ش : القسامة الأيمان يقسم بها أولياء الدم على استحقاق دم صاحبهم ، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم ، وهو مصدر يقال : أقسم يقسم قسامة إذا حلف .
3026 والأصل فيها ما روى سهل بن أبي حثمة قال : انطلق عبد الله بن سهل ، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر ، وهي يومئذ صلح ، فتفرقا ، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً ، فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل ، ومحيصة وحويصة ابنا مسعود ، إلى النبي ، فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال : ( كبّر كبّر ) وهو أحدث القوم ، فسكت فتكلما ، فقال : ( أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم ) ؟ قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ولم نر ؟ قال : ( فتبرئكم يهود بخمسين يميناً ) فقالوا : كيف نأخذ أيمان قوم كفار ؟ فعقله النبي من عنده ، وفي رواية فقال رسول الله : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ) قالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : ( فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) . قالوا : يا رسول الله قوم كفار . رواه الجماعة .
3027 وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن أناس من أصحاب رسول الله رضي الله عنهم أن القسامة كانت في الجاهلية ، فأقرها رسول الله على ما كانت في الجاهلية ، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر . رواه مسلم وغيره .
( تنبيه ) : ( يتشحط في دمه ) أي يضطرب ، ( وكبّر كبّر ) أي ليتكلم الأكبر ، ( وبرمته ) يقال : أخذت الشيء برمته ، إذا أخذته جميعه ، والرمة الحبل ، كأنه أعطاه بحبله الذي يكون فيه يقاد به .
قال : وإذا وجد قتيل فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولا لوث ، ولم تكن لهم بينة ، لم يحكم لهم بيمين ولا غيرها .
ش : غير اليمين القصاص ، أو الدية ، ولا نزاع عندنا أنه لا يحكم لهم والحال هذه بذلك .
____________________
(3/66)
3028 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) رواه مسلم وغيره ، وظاهره أنه ليس على المدعى عليه غير اليمين ، ولأن الأصل براءة الذمة ، فلا يثبت شغلها إلا بدليل ولم يوجد ، واختلف عن أحمد رحمه الله هل يحكم لهم باليمين على المدعى عليه . ( فعنه ) وهو اختيار الخرقي لا يحكم لهم بذلك ، لأنها دعوى لا يقضى فيها بالنكول ، فلم يستحلف فيها كالحدود ، وإنما لم يقض فيها بالنكول حذاراً من قتل نفس بأمر محتمل . ( وعنه ) وهو اختيار أبي محمد وهو الحق يحكم لهم بذلك ، لعموم الحديث المتقدم ، لا سيما والدماء مذكورة في أوله ، وذلك قرينة دخولها في اللفظ العام ، ولأنه حق لآدمي ، فاستحلف فيه كبقية الحقوق ، وعدم القضاء بالنكول ليس هو العلة في عدم الحلف في الحدود ، وإنما العلة تمحض حقيقته لله تعالى ، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى فعلى هذه هل يحلف المدعى عليه يميناً واحدة ، اعتماداً على ظاهر الحديث وكبقية الحقوق ، وهو اختيار أبي محمد ، وابن البنا ، وأبي الخطاب ، أو خمسين يميناً ، لأنها دعوى في قتيل ، فكان المشروع فيها خمسين يميناً ، كما لو كان بينهما لوث ؟ على روايتين ، وحيث حلف المدعى عليه فلا كلام ، وحيث امتنع لم يقض عليه بالقود ، بلا نزاع عندنا ، حذاراً مما تقدم ، وهل يقضى عليه بالدية ؟ فيه روايتان ، وإذا لم يقض فهل يخلى سبيله ، أو يحبس ؟ على وجهين .
واعلم أن محل الخلاف في أصل المسألة في قتل العمد ، أما قتل الخطأ فيستحلف فيه رواية واحدة ، ون موجبه مال .
وقول الخرقي : وإذا وجد قتيل ، وادعى أولياؤه على قوم . شرط هؤلاء القوم أن يكونوا معينين ، فلو كانت الدعوى على أهل مدينة ونحو ذلك لم تسمع ، قياساً على سائر الدعاوي ، وقوله : لا عداوة بينهم ولا لوث . يحترز عما لو كان بينهم ذلك كما سيأتي . . . وقوله : ولم تكن لهم بينة . يحترز عما لو كانت بينة ، فإنها تبين الحق وتظهره ، فيعمل بمقتضاها ، والله أعلم .
قال : وإن كان بينهم عداوة ولوث ، وادعى أولياؤه على واحد منهم ، وأنكر المدعى عليه ، ولم يكن للأولياء بينة ، حلف الأولياء خمسين يميناً على قاتله ، واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمداً .
ش : الأصل في هذه الجملة من جهة الإجمال ما تقدم من حديث سهل بن أبي حثمة ، فإن القتيل كان من الأنصار ، ولا ريب أن الأنصار ويهود خيبر كانوا متعادين ، ولما ادعى أولياء الأنصاري القتل على اليهود ، وأنكروا ذلك ، ولم تكن لأولياء
____________________
(3/67)
الأنصاري بينة ، قال لهم النبي : ( أتحلفون وتستحقون قاتلكم ) ، وفي لفظ قال : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ) فجعل رسول الله أن الأولياء يقسمون على القاتل ويستحقونه .
أما من جهة التفصيل فقول الخرقي : وإن كان بينهم عداوة ولوث تنبيه على أن القسامة المذكورة من شرطها ذلك ، وهو كذلك بلا ريب ، لأن الحديث ورد على مثل ذلك ، وهو المثبت للقسامة ، فلا يتعداه ، ولأنه مع العداوة ونحوها يغلب على الظن صدق المدعين ، فتكون اليمين في جهتهم ، إذ اليمين في جنبة أقوى المتداعيين ، ولا نزاع عن إمامنا وأصحابنا أن الحكم يثبت بالعداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه ، كنحو ما بين الأنصار وأهل خيبر ، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بالثأر ، وكما بين أهل البغي وأهل العدل ، وبين الشرطة واللصوص ، ونحو ذلك ، نظراً إلى واقعة الحديث ، وما في معناها ، من حيث أن لا فارق ، فهو كقياس الشيرج على السمن ، والأمة على العبد .
واختلف عن إمامنا هل يقتصر على ذلك ، وبه قطع جماعة من الأصحاب ، وقال أبو الخطاب : إنه اختيار عامتهم ، اقتصاراً على مورد النص وما في معناه ، أو يتعدى ذلك إلى كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى ، كتفرق جماعة عن قتيل ، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم ، وشهادة من لا يثبت القتل بشهادته ، كالعدل الواحد ، أو النساء أو الصبيان ، أو الفساق ونحو ذلك ، إناطة بغلبة الظن ، لأن ذلك معنى مناسب ، ولأن كثيراً من الأحكام يناط بها ؟ على روايتين ثم قول الخرقي : عداوة ولوث ، ظاهره أنه لا بد من الجمع بينهما ، فيحتمل أن يريد أنه لا يكتفي بمجرد العداوة ، بل لا بد من قدر زائد ، وهو ( إما ) ظهور العداوة كما تقدم ، وعبر عن ذلك باللوث ، ( وإما ) أن لا يكون في الموضع الذي وقع به القتل غير العدو ، كما هو رأي القاضي في موضع ، لكن منصوص أحمد أن ذلك لا يشترط ، وكذلك وقع للقاضي في موضع ، قال في قوم ازدحموا في مضيق ، فافترقوا عن قتيل : إن كان في القوم من بينه وبين عداوة ، وأمكن أن يكون هو قتله ، لكونه يقر به فهو لوث ، ( وإما ) أن يكون بالقتيل مع العداوة أثر القتل . وقد اختلف عن أحمد هل فقد الأثر قادح في اللوث لضعف غلبة الظن إذاً ، إذ القتل لا يخلو غالباً من أثر ، ولأن الواقعة التي وقعت في الأنصاري كان به أثر القتل ، لأنه كان يتشحط في دمه قتيلاً وهذا اختيار أبي بكر أو ليس بقادح ، لأن القتل لا يستلزم الأثر ، لأنه قد يغمه أو يعصر خصيتيه ، ونحو ذلك وهو اختيار القاضي وجماعة من أصحابه ، والشريف وابن البنا ، وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم ؟ على روايتين ( وإما ) أن الواو بمعنى أو ، ويكون مختاره الرواية الثانية ، انتهى .
وقوله : وادعى أولياؤه ، ظاهره أنه لا بد من اتفاق جميع الأولياء في الدعوى على المتهم بقتله .
____________________
(3/68)
فلو ادعى أحدهم أنه قتل ، وقال آخر : بل مات حتف أنفه ، أو ادعى أحدهم أن زيداً قتله ، وآخر أن عمراً قتله ، لم تشرع القسامة ، إذ مع ذلك تضعف غلبة الظن أو تزول ، ومن ثم قال أبو البركات : إن ذلك قادح في اللوث ، انتهى .
وقوله : على واحد منهم ، يحترز عما لو ادعوا القتل على جماعة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، وقوله : وأنكر المدعى عليه ، ولم تكن للأولياء بينة . لأن مع الإقرار أو البينة يثبت الحق وتزول القسامة .
وقوله : حلف الأولياء ، فيه أمران ( أحدهما ) أن البادئ باليمين هم أولياء المقتول ، وهذا مذهبنا ، لحديث سهل بن أبي حثمة ، وحديث ابن عباس رضي الله عنهم : ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) غايته عموم فيتخصص بذلك .
3029 وقول عبد الرحمن بن بجيد أن سهلاً والله أوهم الحديث ، أن رسول الله كتب إلى يهود : ( أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه ) فكتبوا يحلفون بالله خمسين يميناً : ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ، فوداه رسول الله من عنده بمائة ناقة .
3030 وكذلك حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، عن رجل من الأنصار ، أن رسول الله قال لليهود وبدأ بهم : ( يحلف منكم خمسون رجلاً ) فأبوا ، فقال للأنصار : ( استحقوا ) ، قالوا : نحلف على الغيب يا رسول الله ، فجعلها رسول الله دية على اليهود ، لأنه وجد بين أظهرهم . رواهما أبو داود ، لا يقاومان حديث سهل ، لاتفاق الأئمة على إخراجه وصحته ، ودعوى الوهم الأصل عدمه ، لا سيما وسهل ممن حضر الواقعة وعرفها .
قال في الصحيح : فبعث إليهم رسول الله مائة ناقة حمراء ، حتى أدخلت عليهم الدار ، فقال سهل : فلقد ركضتني منها ناقة حمراء .
فإن قيل : ففي بعض الروايات عن سهل ، عن رجال من كبراء قومه ، وهذا يدل على أنه لم يشهدالواقعة ، قيل : يجمع بين الروايات بأن يكون ابتداء القصة كان عن إخبار ، ثم قول النبي لحويصة ومحيصة لليهود كان عن مشاهدة ، ثم لو ثبت أن الجميع كان عن غير مشاهدة ، ثم لو ثبت أن الجميع كان عن غير مشاهدة ، فسهل صحابي ، ومراسيل الصحابة حجة ، وقد قال : عن رجال من كبراء قومه ، لا ريب أنهم من الصحابة ، ثم حديث عبد الرحمن بن بجيد ، والرجل الذي من الأنصار متعارضان ، إذ في حديث عبد الرحمن أن اليهود كتبوا يحلفون بالله خمسين يميناً ، وأن الرسول وداه ، وفي حديث الأنصاري أن اليهود
____________________
(3/69)
أبوا أن يحلفوا ، وأن الرسول جعل الدية عليهم .
3031 وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن النبي قال : ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة ) رواه الدارقطني ، وهذا نص يقطع النزاع إن ثبت .
( الأمر الثاني ) من هم الأولياء ؟ فيه عن أحمد روايتان . . ( إحداهما ) وهي اختيار ابن حامد ، وزعم أبو محمد أنه ظاهر قول الخرقي ، من قوله : إذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم ، وليس بالبين أنهم الرجال الوراث ، من ذوي الفروض أو العصبات ، دون غيرهم ، لأنهم المستحقون للقتل ، المطالبون به ، فاختصّت اليمين بهم ، كبقية الدعاوي ويؤيّد هذا حديث عمرو بن شعيب المتقدم : ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر إلا في القسامة ) ، فظاهره أن في القسامة اليمين على المدعي ، والمدعي هو المستحق للدم .
( والثانية ) : واختارها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا وشيخهم فيما أظن ، أنهم العصبة وراثاً كانوا أو غير وراث ، لحديث سهل : ( يقسم خمسون منكم ) ، والظاهر أنه لم يكن له من الورثة خمسون رجلاً ، وفي الحديث قال : فقال رسول الله لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن ؛ ( أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ؟ ) قالوا : لا . وهذا تصريح بأن الخطاب والجواب وقع لعصبة غير وارث ، وهما حويصة ومحيصة ، إذ هما ابنا عم القتيل . ولا نسلم أن الدعوى في القسامة إنما تكون من المستحقين للدم ، بل تكون للعصبة مطلقاً ، بدليل أن النبي منع عبد الرحمن من الكلام ، وأذن لحويصة ومحيصة ، ففي الحديث : فذهب عبد الرحمن ليتكلم ، لمكانه من أخيه ، فقال رسول الله : ( كبر كبر ) ، فتكلم حويصة ومحيصة ، وكأن المعنى والله أعلم طلب الثأر ، وذلك لا يختص الورثة ، وهذا ظاهر لا خفاء به ، ومن الغريب جزم أبي البركات بالرواية الأولى ، مع مخالفتها لظاهر الحديث ، وعلى هذه الرواية يبدأ من العصبة بالمستحقين للدم ، فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبات ، الأقرب فالأقرب ، فإن لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم ، وقسمت بينهم ، انتهى . وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنهم العصبة الوراث .
وقول الخرقي : خمسين يميناً ؛ للحديث وفيه لفظان ، يقسم خمسون منكم ، أتحلفون خمسين يميناً ؛ وقوله : على قاتله ، قد يقال : إنه يشمل القاتل عمداً أو خطأ ، وقول الخرقي بعد : واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمداً ؛ أي وإن كانت غير عمد فالدية ، لما تقرر أن الواجب في غير العمد الدية ، وهذا منصوص أحمد ، وقول الأصحاب : لأنها دعوى قتل ، فشرعت فيها القسامة كالعمد ، وأخذ أبو محمد في
____________________
(3/70)
المغني من هذه المسألة ، ومما يأتي بعد ، أن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع في الخطأ ، وقطع بذلك عنه في المقنع ، فقال : وذكر الخرقي أن من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمداً ، ومال هو أيضاً إلى ذلك ، لأن من شرط القسامة اللوث ، واللوث على الصحيح عندهم هو العداوة ، وتبعد التهمة مع الخطأ ، وهذا نظر حسن إلا أن كلام الخرقي ليس بالبين في ذلك ، ولذلك لم أر أحداً من الأصحاب عرج عليه ، وقول أبي البركات ، وقيل : لا قسامة في الخطأ ؛ يشير إلى قول أبي محمد ، ولو اتضح له أن ذلك ظاهر كلام الخرقي أو نصه لصرح بذلك عنه ، وبالجملة القول بالقسامة في الخطأ واضح إن قيل : اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي ، أما إذا قيل : اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي ، أما إذا قيل : اللوث هو العداوة فقط ففي القسامة في الخطأ نظر انتهى .
وقوله : واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمداً . هذا مذهبنا أن القسامة قد توجب القصاص ، لما تقدم في الحديث : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ) .
3032 وفي لفظ لأحمد قال رسول الله : ( تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يميناً ثم نسلمه ) .
3033 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن رسول الله قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء على شط لية ، فقال القاتل والمقتول منهم ، رواه أبو داود .
3034 وقول أبي قلابة في صحيح البخاري : ما قتل رسول الله إلا في إحدى ثلاث خصال ، رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنا بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله ، وإن الرسول إنما قال : أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم مردود بحديث سهل ، وهو صحابي ، وأعرف منه بالقصة لحضورها ، ثم هو مثبت ، والمثبت مقدم على النافي .
( تنبيه ) : ( الجريرة ) الذنب والجرم الذي يجنيه الإنسان ، ( وبحرة الرغاء ) البلدة .
قال : فإن لم يحلف الأولياء حلف المدعى عليه خمسين يميناً وبرىء .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، لحديث سهل ( فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم ) أي يتبرؤون منكم ، وفي لفظ : ( فتحلف لكم يهود ) ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه ، فبرئ بها كسائر الأيمان ، وحكي ( عن أحمد ) رواية أخرى أنهم يحلفون
____________________
(3/71)
ويغرمون الدية ، لحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار المتقدم ، وهو إن صح لا يدل ، لأن اليهود لم يحلفوا ، فعلى المذهب لو نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب عليه القود ، وهل تجب عليه الدية وهو اختيار أبي بكر والشريف ، وأبي الخطاب وأبي محمد كبقية الدعاوى ، أو لا تجب بل تكون في بيت المال ؟ على روايتين ، وعلى الثانية . . . هل يخلى سبيله ، أو يحبس حتى يقر أو يحلف ؟ على روايتين .
قال : فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه ، فداه الإمام من بيت المال .
ش : لما تقدم من أن النبي فدى عبد الله بن سهل لما لم يرض الأولياء بيمين اليهود ، فإن تعذّر الفداء من بيت المال لم يجب على المدعى عليه شيء ، إذ الواجب عليه اليمين ، ومستحقها امتنع من استيفائها .
قال : وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال : دمي عند فلان . فليس ذلك بموجب للقسامة ما لم يكن لوث .
ش : لما تقدم من قول النبي : ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) ولأنه خصم ، فلم تكن مجرد دعواه لوثاً كالخصم ، والله أعلم .
قال : والنساء والصبيان لا يقسمون .
ش : لا نزاع أن الصبيان لا يقسمون ، سواء كانوا من أهل القتيل أو مدعى عليهم ، لأن الأيمان حجة للحالف ، والصبي لا يثبت بقوله حجة ، حتى أنه لو أقر على نفسه لم يقبل ، فعلى هذا إذا كان مستحق الدم بالغاً وصبياً فهل تشرع القسامة في حق البالغ ، وهو المشهور ، أو لا تشرع حتى يبلغ الصبي ، وهو اختيار أبي محمد ؟ فيه وجهان ، وعلى المذهب يحلف البالغ ويستحق نصف الدية ، وهل يحلف خمسين يميناً ، قاله أبو بكر في الخلاف ، أو خمساً وعشرين ، وهو اختيار ابن حامد ؟ فيه وجهان ، وعلى الوجهين إذا بلغ الصبي حلف خمساً وعشرين ، واستحق بقية الدية ، وفيه وجه آخر أنه يحلف خمسين يميناً ، كالبالغ ابتداء في وجه قوي ، والحكم في المجنون والغائب ، والناكل عن اليمين ، كالحكم في الصبي .
وأما النساء فلا يقسمون أيضاً ، لأن النبي إنما خاطب الرجال فقال : ( يقسم خمسون منكم ) الحديث ، وزعم أبو محمد أن في الحديث ( يقسم خمسون رجلاً منكم ) ولم أره ، ولأن الأيمان في القسامة من المدعين نزلت منزلة الشهادة ، ولا مدخل للنساء في شهادة القتل ، فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء أقسم الرجال ، وسقط حكم النساء ، فإن كان الجميع نساء فهو كما لو نكل الورثة وقد تقدم .
____________________
(3/72)
( تنبيه ) : هل للخنثى المشكل مدخل في القسامة ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لأن سبب القسامة وهو الاستحقاق قد وجد ، والمانع مشكوك فيه ( والثاني ) لا ، إذ القتل لا يثبت بشهادته فهو كالمرأة .
قال : وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم ، وحلف كل واحد منهم سبعة عشر يميناً .
ش : لما تقدم للخرقي أن النساء لا مدخل لهن في القسامة ، أشار إلى أنها تشرع في حق الرجال الوارثين ، وأنها تقسم بينهم على قدر إرثهم ومن هنا قال أبو محمد : إن ظاهر كلام الخرقي أنها تختص بالوراث ، وقد تقدم ، فعلى هذا إذا خلف المقتول ابنين ، حلف كل واحد منهما خمساً وعشرين يميناً ، ولا كسر ، وإن خلف ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم ، فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يميناً ، إذ تكميل الخمسين واجب ، ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم عن بعض ، حذاراً من الترجيح بلا مرجح ، فوجب تكميل اليمين المكسورة على الجميع ، نظراً إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب .
قال : وسواء كان المقتول مسلماً أو كافراً . حراً أو عبداً ، إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل ، لأن القسامة توجب القود ، إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية .
ش : أما المسلم الحر فلا نزاع فيه ، لورود الحديث فيه ، وأما الكافر والعبد ففي معناه ، إذ المقتضى للقسامة اللوث ، وهو موجود في قتلهما ، وعلى هذا يحلف سيد العبد ، ويستحق القصاص أو قيمته ، ثم إن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع إلا فيما يوجب القصاص ، كذا فهم أبو محمد ، واختار ذلك ، فعلى هذا لا تشرع في غير العمد المحض ، ولا في قتل غير المكافئ ونحو ذلك ، والمشهور مشروعية القسامة في جميع ذلك ، حتى أني لم أر الأصحاب عرجوا على كلام الخرقي ، والذي يظهر مشروعيتها في غير الخطأ ، لوجود اللوث المقتضي لها ، بخلاف الخطأ ، فإن اللوث وهو العداوة على المشهور لا يتأتى ، والله أعلم .
قال : وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد .
ش : لا نزاع عندنا أن القسامة [ عندنا ] لا تشرع على أكثر من واحد ، إذا كانت الدعوى موجبة للقصاص ، اعتماداً على الحديث ، وهو قوله : ( يقسم خمسون منكم على رجل منهم ، فيدفع برمته ) وحذاراً من أخذ أنفس بنفس واحدة ، ببينة ضعيفة ، وبيان ضعفها أن الحق هنا ثبت بقول المدعي مع يمينه ، مع التهمة في حقه ، وقيام العداوة المانعة من صحة شهادته على عدوه في حق لغيره ، فما بالك في حق لنفسه ، وفارق البينة ، فإنها قوية بالعدد ، وعدالة الشهود ، وانتفاء التهمة في حقهم ، لأنهم لا يثبتون لأنفسهم
____________________
(3/73)
حقاً ، ولا عداوة بينهم وبين المشهور عليه ، واختلف عن إمامنا هل تشرع القسامة على أكثر من واحد ، إذا كانت الدعوى موجبة للدية ؟ ( فعنه ) وهو اختيار الخرقي ، وأبي بكر والقاضي ، وجماعة من أصحابه ، الشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي وابن البنا ، وابن عقيل لا تشرع ، اقتصاراً على مورد النص ( وعنه ) تشرع ، لأنها بمنزلة البينة في إثبات القود ، فكذلك في القسامة على أكثر من واحد ، وإنما تركنا ذلك فيما إذا كانت موجبة للقصاص ، للمحذور السابق ، وقد انتفى هنا ، فعلى هذا هل يحلف كل واحد من المدعى عليهم خمسين يميناً ، أو قسطه منها ؟ على وجهين .
قال : ومن قتل نفساً محرمة ، أو شارك فيها ، أو ضرب بطن امرأة ، حرة كانت أو أمة ، فألقت جنيناً ميتاً ، وكان القتل خطأ ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة ، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، توبة من الله عزّ وجلّ . . . وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله ما يدل على أن على قاتل العمد أيضاً تحرير رقبة .
ش : الأصل في كفارة القتل في الجملة الإجماع ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ، ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ) وقوله تعالى : 19 ( { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله ، وتحرير رقبة مؤمنة } ) الآية .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي : من قتل ، يشمل الذكر والأنثى ، والحر والعبد ، والمكلف وغير المكلف ، والمسلم والكافر ، والآية الكريمة صالحة لدخول جميع ذلك فيها إلا غير المكلف ، فإنه لا يتناوله الخطاب التكليفي ، فإذاً وجوب الكفارة في ماله بضرب من القياس ، وهو أن الكفارة حق مالي يتعلق بالقتل ، فتعلقت بغير المكلف كالدية ، وفيه شيء ، إذ الدية لا تتعلق به ، إنما تتعلق بالعاقلة على المذهب . وقوله : نفساً ، يشمل الذكر والأنثى ، والحر والعبد ، والمسلم والكافر ، والمكلف وغير المكلف ، حتى لو قتل نفسه ، أو عبده ، أو إنساناً بإذنه ، والكتاب العزيز شامل لجميع ذلك ، إذ يدخل في 19 ( { من قتل مؤمناً } ) الذكر والأنثى بعرف الشرع ، والحر والعبد ، والمكلف وغير المكلف ، إذ الصبي ونحوه مؤمن حكماً ، وعبده والأجنبي بإذنه ، وكذلك قد تدخل نفسه ، ونازع في ذلك أبو محمد ، واختار أن الكفارة لا تجب في قتله نفسه ، وقال : الآية أريد بها إذا قتله غيره ، بدليل قوله سبحانه : 19 ( { ودية مسلمة إلى أهله } ) وقاتل نفسه لا تجب فيه دية .
3035 بدليل عامر بن الأكوع ، فإنه قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي فيه بكفارة ولا دية ، وفيه نظر ، إذ هذه واقعة عين ، فيجوز أن يكون الحكم كان مقرراً معروفاً عندهم ، ثم غايته أنه لم ينقل إلينا ذلك ، وعدم النقل لا يدل على العموم .
ويشمل كلام الخرقي أيضاً القتل بمباشرة أو سبب ، والآية صالحة لذلك ، إذ المتسبّب يصلح نسبة القتل إليه ، وقوله : محرمة ، يخرج منه القتل المباح ، كقتل
____________________
(3/74)
الحربي ، والباغي ، والزاني المحصن ، والمستحق قتله قصاصاً ، ونحو ذلك ، أما الحربي ونحو فلا يدخل في الآية الكريمة ، لخروجه من قوله : 19 ( { ومن قتل مؤمناً } ) وعدم دخوله في قوله سبحانه : 19 ( { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } ) الآية ، وأمّا من عداه فبالنظر إلى المعنى ، إذ الكفارة وجبت ماحية أو زاجرة ، وقتل من ذكر أمر مطلوب ، فلا شيء يمحى ولا يزجر عنه .
ويشمل كل نفس محرمة ، وقد استثنى أبو محمد من ذلك نساء أهل الحرب وصبيانهم ، ومن لم تبلغه الدعوة ، إذ لا إيمان لهم ولا أمان ، فلم يدخلوا في مقتضى الكتاب العزيز ، وقد يقال : إن كلام الخرقي يخرج منه قتل الخطأ ، فإنه على الصحيح لا يوصف بتحريم ولا إباحة ، ويجاب بأنه لم يصف القتل بأنه محرم ، بل وصف النفس بكونها محرمة ، ولا ريب أن المقتول خطأ نفسه محرمة الإزالة ، وأبو البركات كأنه استشعر ذلك فعدل عن ( محرمة ) إلى : بغير حق .
وقوله : أو شارك فيها ، هذا هو المذهب المشهور أن الكفارة تتعدد بتعدد القاتلين ، لأنها من موجب قتل الآدمي ، فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة ، وهي أظهر من جهة الدليل ، للآية الكريمة ، إذ هي تتناول الواحد والجماعة ، والله سبحانه جعل الواجب كفارة واحدة ، وكون القصاص يجب على كل واحد من المشتركين ممنوع ، ولو سلم فذلك سداً للذريعة ، وحسماً للمادة ، وقتل الخطأ ونحوه لا يقصد ، فلا سد ، ثم هو منقوض بالدية ، فإنها لا تكمل في حق كل واحد من الشركاء على المذهب .
( تنبيه ) : قال أبو محمد في المغني فيما إذا رمى ثلاثة بالمنجنيق ، فرجع الحجر فقتل رجلاً أن على كل واحد منهم عتق رقبة ، لا نعلم فيه خلافاً بين أهل العلم ، لأن كل واحد منهم مشارك في قتل آدمي معصوم ، والكفارة لا تتبعض ، وغفل عن رواية أن على الجميع كفارة واحدة ، مع أنه حكاه هنا عن أبي ثور ، قال : وحكي عن الأوزاعي ، وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي . ( وقوله ) : أو ضرب بطن امرأة حرة كانت أو أمة ، فألقت جنيناً ميتاً . قد تقدم ذلك في دية الجنين ، فينظر ثم ، وكان القتل خطأ . يخرج العمد وشبهه ، ولا نزاع أن في قتل العمد روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار أبي بكر وابن حامد ، والقاضي وولده أبي الحسين ، والشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي وابن البنا لا كفارة فيه ، لقوله تعالى : 19 ( { ومن قتل مؤمناً خطأ } ) الآية . . . إلى قوله : 19 ( { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد لهم عذاباً عظيماً } ) فإنه سبحانه قسم القتل إلى قسمين قسم أوجب فيه الدية والكفارة ، وقسم جعل الجزاء فيه جهنم ، وظاهر ذلك أنه لا كفارة فيه ، يرشح ذلك أن الكفارة وجبت محواً لما حصل من ذهاب نفس مستحقة للبقاء ، والعمد أعظم من أن يمحى ما حصل فيه من الإثم بذلك .
____________________
(3/75)
3036 ولأن ذلك قول ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما . ( والثانية ) فيه الكفارة .
3037 لما روى واثلة بن الأسقع قال : أتينا رسول الله في صاحب لنا أوجب يعني النار بالقتل ، فقال : ( أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار ) رواه أحمد وأبو داود ، ولأنه أعظم جرماً ، فالحاجة إلى تكفيره أبلغ ، وهذه الرواية زعم القاضي والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما أنها اختيار الخرقي ، وليس في كلامه ما يدل على ذلك ، بل تقديمه يشعر بخلافه ، وقد حكى أبو محمد عن القاضي أنه قال : يلزم الشهود والكفارة ، سواء قالوا : أخطأنا أو تعمدنا . قال أبو محمد : وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال ، ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد ، قال أبو محمد : لأنه وإن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ ، في أنه لا يجب به القصاص . ( قلت ) : وهذا ذهول عن المسألة ، بل متى قالت الشهود : تعمدنا القتل ، وجب القصاص .
( تنبيه ) : قال أبو محمد : ولا فرق بين العمد الموجب للقصاص وغيره ، كقتل الوالد ولده ، والسيد عبده ، والمسلم الكافر ونحو ذلك ، نظراً للعمدية ، انتهى .
أما شبه العمد فوقع لأبي محمد رحمه الله في المقنع إجراء الروايتين فيه ، وهو ذهول ، فقد قال في المغني : لا أعلم لأصحابنا فيه قولاً ، ومقتضى الدليل وجوب الكفارة فيه ، لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص ، وحمل العاقلة ديته وغير ذلك ، فكذلك في الكفارة . قلت : وقد نص على وجوب الكفارة في شبه العمد الشيرازي وابن البنا ، والسامري وأبو البركات ، وبالله التوفيق .
ثم إن الخرقي رحمه الله لما فرغ من ذكر من تجب عليه الكفارة بيّن صفة الكفارة فقال : إنها عتق رقبة مؤمنة . وذلك بنص الكتاب العزيز ، فمن لم يجدها في ملكه فاضلاً عن حاجته ، ولم يجد ثمنها فاضلاً عن كفايته ، فعليه صيام شهرين متتابعين ، بنص الكتاب العزيز أيضاً ، فإن لم يستطع فهل يلزمه إطعام ستين مسكيناً ، ككفارة الظهار ، والوطء في نهار رمضان ، أو لا يلزمه ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي الخطاب ، والشريف في خلافيهما ؟ فيه روايتان ، ثم إن كلام الخرقي هنا يشمل العبد ، وهو مستثنى من ذلك ، فإن كفارته الصيام ، لعجزه عما سواه ، نعم إن أذن له السيد في التكفير بالمال فهل يملك ذلك مطلقاً ، أو إن قلنا : يملك ؟ على طريقتين قد تقدمتا ، وحيث ملك ذلك فله التكفير بالإطعام ، وفي العتق روايتان .
قال : وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه إلا عدلان .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمختار من الروايتين .
____________________
(3/76)
3038 لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه قال : أصبح رجل من الأنصار مقتولاً بخيبر ، فانطلق أولياؤه إلى النبي ، فذكروا ذلك له ، فقال : ( لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم ؟ ) قالوا : يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين ، وإنما هم يهود ، وقد يجترون على أعظم من هذا ، قال : ( فاختاروا منهم خمسين فأستحلفهم ) فوداه رسول الله من عنده ، رواه أبو داود .
3039 وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلاً على أبواب خيبر ، فقال رسول الله : ( أقم الشاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته ) وذكر الحديث رواه النسائي وهو يدل بمنطوقه على الاكتفاء بشاهدين ، وبمفهومه على أنه لا يكتفي بغير ذلك ، فلا يقبل رجل وامرأتان ، ولا رجل ويمين المدعي ، وقد قال أبو محمد : إنه لا يعلم في ذلك خلافاً ، ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى : لا يقبل في ذلك إلا أربعة ، كشهادة الزنا ، والجامع حصول القتل منهما ، وهي مردودة بما تقدم .
قال : وما أوجب من الجنايات المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان ، أو رجل عدل مع يمين الطالب .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار القاضي ، والشيرازي ، وابن البنا ، وأبي محمد ، لأنها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص ، فوجب أن يقبل فيه ذلك ، كالشهادة على البيع ، وفارق قتل العمد ، فإنه موجب العقوبة ، فلذلك احتيط له . ( والثانية ) : لا يقبل فيه إلا رجلان ، اختارها أبو بكر ، وابن أبي موسى ، لأنها شهادة على قتل ، فلم تسمع من النساء ، كالقتل العمد ، فعلى الأول لو كان القصاص في بعضها ، كالهاشمة والمأمومة ، فهل يغلب جانب القصاص ، فلا يقبل إلا رجلان ، أو جانب المال ، فيقبل رجل وامرأتان ، أو رجل ويمين المدعي ؟ على روايتين .
[ باب ] باب قتال أهل البغي )
ش : الأصل في جواز قتالهم في الجملة قوله الله تعالى : 9 ( { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } ) الآية . . . إلى : 9 ( { فأصلحوا بين أخويكم } ) .
3040 وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( تكون أمتي فرقتين ، فيخرج من بينهما مارقة ، يلي قتلهم أولاهما بالحق ) رواه مسلم وغيره .
____________________
(3/77)
3041 وقد قاتل علي رضي الله عنه أهل الجمل وأهل صفين .
قال : وإذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا .
ش : الأصل في هذا ما تقدم .
3042 وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته ميتة جاهلية ) متفق عليه .
3043 وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي ، ولا يستنون بسنتي ، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال : ( تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك ) .
3044 وعن عرفجة الأشجعي قال : سمعت رسول الله يقول : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشق عصاكم ، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه ) . رواهما أحمد ومسلم .
3045 وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : ( بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفراً بوحاً ، عندكم فيه من الله برهان ) متفق عليه ، إذ تقرر هذا فالإمام الذي هذا حكمه هو من اتفق المسلمون على إمامته كأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على إمامته وبيعته ، أو عهد الإمام الذي قبله إليه كما عهد أبو بكر الصديق إلى عمر رضي الله عنهما فأجمع الصحابة على قبول ذلك ، وفي معنى ذلك لو خرج رجل على الإمام فقهره ، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له ، وأذعنوا لطاعته وبايعوه ، كعبد الملك بن مروان ، فإنه حرج على ابن الزبير فقتله ، واستولى على البلاد وأهلها ، حتى بويع طوعاً وكرهاً ، فإنه يصير إماماً ، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره .
( تنبيه ) : الخارجون على الإمام أربعة أصناف ( أحدها ) قوم امتنعوا من طاعته ، وخرجوا عن قبضته بلا تأويل ، أو بتأويل غير سائغ ، فهؤلاء قطاع الطريق ، يأتي حكمهم إن شاء الله تعالى . ( الثاني ) قوم خرجوا عن قبضة الإمام أيضاً ، ولهم تأويل
____________________
(3/78)
سائغ ، إلا أنهم غير ممتنعين لقلّتهم ، فحكى أبو الخطاب فيهم روايتين ( إحداهما ) وصححها ، وكذلك صححها الشريف ، وحكاها أبو محمد عن الأكثرين حكمهم حكم قطاع الطريق أيضاً ( والثانية ) وحكاها أبو محمد عن أبي بكر حكمهم حكم البغاة ( الثالث ) الخوارج الذين يكفرون بالذنب ، ويكفرون عثمان وعلياً وطلحة والزبير ، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم ، فهؤلاء فيهم عن أحمد روايتان ، حكاهما القاضي في تعليقه ( إحداهما ) أنهم كفار ، فعلى هذا حكمهم حكم المرتدين ، تباح دماؤهم وأموالهم ، وإن تحيّزوا في مكان ، وكانت لهم منعة وشوكة ، صاروا أهل حرب ، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كالمرتدين ، فإن تابوا وإلا قتلوا .
3046 لما روى علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول ) ( سيخرج قوم في آخر الزمان ، حداث الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة ) متفق عليه .
3047 وعن أبي أمامة رضي الله عنه أنه رأى رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق ، فقال : كلاب النار ، شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتلى من قتلوه ، ثم قرأ : 19 ( { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } ) إلى آخر الآية . . . فقيل له : أنت سمعته من رسول الله ؟ فقال : لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه . . . رواه الترمذي وحسنه . ( والثانية ) لا يحكم بكفرهم .
3048 لما روى أبو سعيد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم ، وأعمالكم مع أعمالهم ، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، ينظر في النصل فلا يرى شيئاً ، وينظر في القدح فلا يرى شيئاً ، وينظر في الريش فلا يرى شيئاً ، ويتمارى في الفوق ) رواه البخاري وغيره . قال أبو عمر ابن عبد البر قوله : يتمارى في الفوق ، يدل على أنه لم يكفرهم ، لأنهم علقوا من الإسلام بشيء ، بحيث يشك في خروجهم منه .
3049 ولعموم قوله عليه السلام : ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) فعلى هذه قال أبو محمد في المغني ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة ، حكمهم حكمهم . وحكى ذلك في الكافي عن فقهاء الأصحاب ، واختار هو أنه يجوز
____________________
(3/79)
قتلهم ابتداء ، والإجازة على جريحهم ، لما تقدم من مروقهم من الدين ، وأنهم كلاب النار ، وأن في قتلهم أجراً لمن قتلهم .
3050 وفي الصحيح عنه أنه قال فيهم : ( لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) وهذا توسط حسن ، وهو اختيار أبي العباس ، بل قال : إن الذي عليه أئمة الحديث كالأوزاعي ، والثوري ، ومالك ، وأحمد ، وغيرهم رضي الله عنهم ، الفرق بين البغاة وبين الخوارج ، وأن قتال علي الخوارج كان ثابتاً بالنصوص الصريحة عن النبي وبالاتفاق ، وأما القتال يوم صفين ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة ، بل امتنع منه أكابرهم ، كسعد بن أبي وقاص ، الذي لم يكن بعد علي مثله ، وأسامة بن زيد ، وابن عمر ، ومحمد بن مسلمة رضي الله عنهم ، والنبي كان يحب الإصلاح بين الطائفتين لا القتال .
3051 ففي البخاري أنه خطب الناس والحسن رضي الله عنه معه فقال : ( إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين ) ، فأصلح الله تعالى به بين أهل العراق وأهل الشام ، فنزل عن الأمر لمعاوية .
3052 وقال : ( ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي ) وذلك نحو ما وقع لأهل الجمل ، وهذا ظاهر في أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله ، وأن الإصلاح بين الطائفتين ما أمكن أولى من القتال ، وهذا بخلاف الخوارج ، فإن الذي يحبه الله ورسوله كما دلت عليه الأحاديث هو قتالهم .
( الصنف الرابع ) : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه ، لتأويل سائغ ، وإن كان صواباً ، وقيل : لا بد وأن يكون خطأ ، ولهم منعة وشوكة ، فهؤلاء البغاة المبوّب لهم بلا ريب ، وكلام الخرقي يقتضي أن كل من طلب موضع الإمام فإنه يحارب ، وقرينة ( حوربوا ) تقتضي أن لهم منعة وشوكة ، والله أعلم .
( تنبيه ) : ( جثمان إنس ) ، ( يريد أن يشق عصاكم ) ، ( المنشط ) الأمر الذي تنشط له وتخف إليه ، وتؤثر فعله ، ( والمكره ) الأمر الذي تكرهه وتتثاقل عنه ، ( والأثرة ) الاستئثار بالشيء والانفراد ، والمراد في الحديث إن منعنا حقنا من الغنيمة والفيء ، وأعطي غيرنا ، نصبر على ذلك ، ( والكفر البواح ) الجهار ، ( والبرهان ) الحجة والدليل ، و ( الرمية ) و ( الفوق والقدح ) .
قال : ودفعوا عن ذلك بأسهل ما يعلم أنهم يندفعون به .
____________________
(3/80)
ش : البغاة إذا خرجوا على الإمام فإنه يراسلهم ، ويسألهم ما ينقمون منه ؟ فإن ذكروا مظلمة أزالها ، وإن ادّعوا شبهة كشفها ، لما تقدم من قول الله تعالى : 19 ( { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ) ، فأمر سبحانه بالإصلاح أولاً .
3053 ويروى أن علياً رضي الله تعالى عنه راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل ، ثم أمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بالقتال ، ثم قال : 16 ( إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة ، ثم سمعهم يقولون : الله أكبر يا ثارات عثمان ، فقال : اللّهمّ أكب قتلة عثمان لوجوههم ) .
فإن رجعوا وإلا خوفهم بالقتال ، ومتى أمكن دفعهم بغير القتال لم يجز قتلهم ، إذ
____________________
(3/81)
المقصود كف شرهم ، وإن لم يمكن قاتلهم ، وعلى رعيته معونته ، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره ، وصرح أبو محمد ، والقاضي في جامعه ، بأنه يجب قتالهم ، وهو ظاهر حديث عرفجة ، وظاهر الآية الكريمة : 19 ( { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي } ) وظاهر قصة الحسن رضي الله عنه وقول النبي : ( ستكون فتنة ) ونحو ذلك يقتضي أن القتال لا يجب ، وكيف يجب وقد امتنع منه مَنْ تقدم من الصحابة ، وأشار الحسن على أبيه بترك القتال ، وعلى هذا فللإمام أن يترك الأمر الذي في يده للذي خرج عليه إن لم يخف مفسدة ، كما فعل الحسن رضي الله عنه ويجوز له القتال ، كما فعل الإمام علي رضي الله عنه ويجب إذاً على رعيته معونته بلا ريب ، وعلى ذلك تحمل الآية الكريمة والحديث ، فإنه متى ترك الإمام الأمر الذي في يده حصل الإصلاح ، فإذاً لا حاجة إلى القتال ، وإن لم يترك فهو محق وغيره متعد عليه ، فيجب قتاله ، وكف شره ؛ لقوله تعالى : 19 ( { فقاتلوا التي تبغي } ) وقوله سبحانه : 19 ( { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ) وحديث عرفجة وغير ذلك ، والله أعلم .
قال : فإن آل ما دعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع .
ش : يعني أنهم إذا دفعوا بالأسهل فالأسهل ، فآل ما دفعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع ، من ولا ضمان ، لأنه فعل مأذون فيه شرعاً ، أشبه قتال الكفار ونحوهم ، وكذلك بطريق الأولى ما أتلفه العادل على الباغي حال الحرب من المال ، والله أعلم .
قال : وإن قتل الدافع فهو شهيد .
ش : لأنه قتل في قتال مأمور به ، أشبه قتيل الكفار ، والله أعلم .
قال : وإذا اندفعوا لم يتبع لهم مدبر ، ولم يجيزوا على جريح .
3064 ش : لما روي عن مروان بن الحكم رضي الله عنه قال : صرخ صارخ لعلي يوم الجمل : لا يقتلن مدبر ، ولا يذفف على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن . رواه سعيد ، ويروى نحوه عن عمار رضي الله عنه ، ولأن المقصود كف شرهم وقد حصل ، فأشبهوا الصائل ، وعموم كلام الخرقي ، يقتضي أنه لا فرق بين أن تكون لهم فئة ممتنعة يلجؤون إليها ، أو لم تكن ، وهو ذلك .
قال : ولم يقتل لهم أسير .
ش : لأن شره قد اندفع بأسره .
3055 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال : ( يا ابن أم عبد ما حكم من بغى على أمتي ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : ( لا يتبع مدبرهم ، ولا يجاز على جريحهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ولا يقسم فيئهم ) ، ذكره القاضي في شرحه .
( تنبيه ) : ( ولا يجاز على جريحهم ) أي لا يقتل ، ( ولا يذفف ) .
قال : ولم يغنم لهم مال .
ش : لحديث ابن مسعود رضي الله عنه .
3056 وعن أبي أمامة رضي الله عنه : 16 ( شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ، ولا يقتلون مولياً ، ولا يسلبون قتيلاً ، ولأنهم معصومون ، أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم ، فيبقى ما عداه على أصل التحريم ) .
قال : ولم تسب لهم ذرية .
ش : لما تقدم في التي قبلها ، ولأنهم كالصائل لا يستباح منهم إلا ما حصل به ضرورة دفعهم .
3057 ويروى أن مما نقمت الخوارج على علي رضي الله عنه أنهم قالوا : إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم ، فإن حلت له دماؤهم ، فقد حلت له أموالهم ، وإن حرمت عليه أموالهم ، فقد حرمت عليه دماؤهم . فقال لهم ابن عباس رضي الله عنه : 16 ( أتسبون أمكم يعني عائشة رضي الله عنها ؟ أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها ؟ فإن قلتم : ليست أمكم فقد كفرتم ، وإن قلتم : إنها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم ) .
قال : ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه .
ش : يعني من البغاة ، وذلك لأنهم مسلمون ، وغايته أنهم مخطئون ، فيجري عليهم حكم المسلمين .
3058 وعن النبي قال : ( صلوا على من قال : لا إله إلا الله ) قال أبو محمد : ولم يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم ، وظاهر كلام أحمد أنه لا يصلى على الخوارج ، قال : أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم ، وقال : الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم ، قد ترك النبي الصلاة بأقل من هذا .
____________________
(3/82)
3059 وذكر أن النبي نهى أن يقاتل في خيبر من ناحية من نواحيها ، فقاتل رجل من تلك الناحية وقتل ، فلم يصلّ عليهم النبي .
قال : وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم .
ش : لأن علياً رضي الله عنه لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه .
3060 وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أتاه ساعي نجدة الحروري دفع إليه زكاته ، وكذلك سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، ولأن في الرجوع عليهم تنفيراً لهم عن الرجوع إلى الطاعة ، ومن ثم قلنا : لا يضمنون ما أتلفوه في حال الحرب على المذهب ، وفي الرجوع على أرباب الأموال ضرر عظيم ، ومشقة عظيمة ، وإنهما منتفيان شرعاً ، وحكم الجزية حكم الخراج ، ويقبل قول أرباب الصدقات في أنهم قد أخذوا الصدقة منهم بغير يمين ، ولا يقبل مجرد قول أهل الذمة ، لأنهم غير مأمونين ، وقيل : يقبل بعد مضي الحول ، إذ الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم ، فكان الظاهر معهم ، وهل يقبل مجرد قول من عليه الخراج إن كان مسلماً في دفع الخراج إليهم ، لأنه حق على مسلم ، فهو كالزكاة ، أو لا يقبل ، لأنه عوض فهو كالجزية ؟ على وجهين .
قال : ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره .
ش : هذا مبني على أصل ، وهو أن البغاة إذا لم يكونوا مبتدعين لا يفسقون ، لأن لهم تأويلاً سائغاً ، أشبه اختلاف الفقهاء ، فعلى هذا إذا نصبوا قاضياً فحكمه حكم قاضي أهل العدل ، إن حكم بما يخالف نص كتاب أو سنة أو إجماع ، كأن يحكم على أهل العدل بضمان ما أتلفوه في الحرب ، أو على أهل البغي بنفي ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب ، نقض حكمه ، وإن حكم بمختلف فيه لم ينقض ، كأن حكم بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوه في الحرب ، ونحو ذلك ، وإن كتب إلى قاضي أهل العدل قبل كتابه لما تقدم ، والأولى عند أبي محمد عدم القبول ، كسراً لقلوبهم ، وإن كان البغاة مبتدعين لم يجز قضاء من ولوه ، لانتفاء شرط القضاء وهو العدالة ، ولأبي محمد احتمال بصحة القضاء ، ونفوذ الأحكام ، حذاراً من الضرر بفساد العقود المدة الطويلة ، والله أعلم .
____________________
(3/83)
( كتاب المرتد )
ش : المرتد في اللغة الراجع ، وفي الشرع الراجع عن دين الإسلام ، إلى دين الكفر ، والأصل فيه قوله سبحانه : 19 ( { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر } ) الآية .
3061 وفي الصحيح أن النبي قال : ( من بدل دينه فاقتلوه ) والله أعلم .
قال : ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغاً عاقلاً ، دعي إليه ثلاثة أيام ، وضيق عليه ، فإن رجع وإلا قتل .
3062 ش : الأصل في قتل المرتد في الجملة ما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( لا يحل دم امرئ مسلم ، يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث ، الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) رواه الجماعة .
3063 وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف يوم الدار ، فقال : أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله قال : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : زنا بعد إحصان ، أو كفر بعد إسلام ، أو قتل نفس بغير حق فقتل به ) ، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله ، ولا قتلت النفس التي حرم الله ، فبم تقتلوني . . . رواه النسائي والترمذي ، ولا فرق عندنا بين الرجل والمرأة لهذا .
3064 وعن عكرمة قال : أتي علي بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس رضي الله عنهما فقال : لو كنت أنا لم أحرقهم ، لنهي رسول الله قال : ( لا تعذبوا بعذاب الله ) ولقتلتهم لقوله رسول الله : ( من بدل دينه فاقتلوه ) رواه الجماعة إلا مسلماً ، وللترمذي فيه : فبلغ ذلك علياً فقال : صدق ابن عباس ، وأدوات الشرط يدخل فيها المؤنث على الصحيح .
____________________
(3/84)
3065 وروى أبو أحمد بن عدي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : ارتدت امرأة عن الإسلام ، فأمر رسول الله أن يعرض عليها الإسلام فأبت أن تقبل ، فقتلت . لكن قال : هذا يرويه عبد الله بن عطارد بن أذينة الطائي ، ولا يتابع عليه ، وهو منكر الحديث .
3066 وما في الصحيح أن النبي نهى عن قتل النساء ، فعام في الردة وفي غيرها ، وما تقدم خاص في الردة ، فيخص كما خص بالثيب الزانية ، وبالقاتلة ، هذا إذا لم نقل من أول الأمر إنه خاص بالسبب الذي ورد عليه ، وهو نساء أهل الحرب ، وهو الظاهر .
3067 وما في الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لا تقتل المرأة إذا ارتدت ) فمن رواية عبد الله بن عيسى الجزري ، عن عفان ، وقد قال العلماء بالحديث : إنه كذاب يضع الحديث على عفان وغيره .
إذا تقرر هذا فيشترط لصحة الردة التكليف ، بأن يكون عاقلاً بالغاً ، إذ غير المكلف لا يتعلق به حكم خطابي .
3068 وفي السنن أن النبي قال : ( رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ) فعلى هذا لا تصح ردة من زال عقله بنوم أو إغماء ، أو مرض أو شرب مباح ، وفي السكران ونحوه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى ، ولا ردة غير مميز ، وفي المميز خلاف أيضاً ، ويشترط لقتل المرتد حيث صحت ردته أن لا يرجع إلى الإسلام ، أما إن رجع إلى الإسلام فإنه لا يقتل ، لزوال المقتضى للقتل وهو الردة ، وقد قال الله تعالى : 19 ( { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ) .
3069 وصح عن النبي أنه قال : ( الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها ) وهذا قد أسلم وقد تاب ، فاقتضى أن ينقطع ما قبل ذلك ، وهذا قد أسلم وقد تاب ، فاقتضى أن ينقطع ما قبل ذلك ، ولا نزاع في هذا في غير الزنديق ، ومن تكررت ردّته ، ومن سبّ الله تعالى ، ورسوله ، والساحر ، أما في هؤلاء الخمسة ففيهم روايتان ( إحداهما ) تقبل توبتهم كغيرهم ، وهي ظاهر كلام الخرقي هنا في الجميع ، واختيار الخلال في الساحر ، ومن تكررت ردته والزنديق ، وآخر قولي أحمد في الزنديق ، قال في رواية أبي طالب : أهل المدينة يقولون : يضرب عنقه ولا يستتاب ، وكنت أقول ثم هبته ، ليس فيه حديث ، واختيار القاضي في روايتيه فيمن
____________________
(3/85)
تكررت ردته ، وظاهر كلامه في تعليقه في ساب الله تعالى ، وذلك لما تقدم .
3070 وفي الموطأ أن رجلاً سار رسول الله فلم يدر ما سارّه به حتى جهر رسول الله ، فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين ، فقال رسول الله : ( أليس يشهد أن لا إله إلا الله ) ؟ قال : بلى ولا شهادة له . قال : ( أليس يصلي ) ؟ قال : بلى ولا صلاة له . فقال رسول الله : ( أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ) .
3071 وفي الحديث : ( يقول الله تعالى : يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني ، يجعل لي صاحبة وولداً ) ، وبالاتفاق متى أسلم ذلك وتاب قبل منه . ( والثانية ) لا تقبل ، وهي اختيار أبي بكر ، والشريف وأبي الخطاب ، وابن البنا ، والشيرازي في الزنديق ، وقال القاضي في التعليق : إنه الذي ينصره الأصحاب ، واختيار أبي الخطاب في خلافه في الساحر ، وقطع به القاضي في تعليقه ، والشيرازي في ساب رسول الله ، والخرقي لقوله في من قذف أم النبي : قتل مسلماً كان أو كافراً .
( أما في الزنديق ) فلأنه كان مظهراً للإسلام ، مسراً للكفر ، فإذا وقف على ذلك منه ، فأظهر التوبة ، لم يزد على ما كان منه قبلها ، وهو إظهار الإسلام ، ولأنه ربما أفسد عقائد المسلمين في الباطن ، وفي ذلك خطر وضرر عظيم ، ولقصة عليّ رضي الله عنه أنه أتي بزنادقة فأحرقهم ، والظاهر أنه لم يستتبهم ، ويجاب بأن قصة علي رضي الله عنه واقعة عين ، مع أنه قد يكون من مذهبه أن الاستتابة لا تجب ، وما تقدم ليس بقانع في إهدار دم ناطق بالشهادتين .
( وأما فيمن تكررت ردته ) فلأن تكررها قرينة تكذبه في توبته ، ولقول الله تعالى : 19 ( { إن الذين آمنوا ثم كفروا ، ثم آمنوا ثم كفروا } ) الآية .
3072 وروى الأثرم بإسناده أن رجلاً من بني سعد مرّ على مسجد بني حنيفة ، فإذا هم يقرؤون برجز مسيلمة ، فرجع إلى ابن مسعود رضي الله عنه فذكر ذلك له ، فبعث إليهم فأتي بهم ، فاستتابهم فتابوا ، فخلوا سبيلهم إلا رجلاً منهم يقال له ابن النواحة ، قال : قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت ، وأراك قد عدت فقتله ، ويجاب بأن الدماء تحقن بالشبهة ، لا أنها تراق بها .
3073 وعن الآية بأن قتادة قال : نزلت في اليهود ، آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادتهم العجل ، ثم آمنوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد .
3074 وعن مجاهد 19 ( { ثم ازدادوا كفراً } ) أي ماتوا عليه ، فإذاً هذا ليس مما نحن فيه .
____________________
(3/86)
3075 وعن قصة ابن مسعود بأن أبا داود رواه عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله رضي الله عنه بالكوفة ، فقال : ما بيني وبين أحد من العرب حنة ، وإني مررت بمسجد بني حنيفة ، فإذا هم يؤمنون بمسيلمة . فأرسل إليهم عبد الله فجيىء بهم فاستتابهم غير ابن النواحة ، قال له : سمعت رسول الله يقول : ( لولا أنك رسول لضربت عنقك ) فأنت اليوم لست برسول . فأمر قرظة بن كعب وكان أميراً على الكوفة فضرب عنقه في السوق ، ثم قال : من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة فلينظر إليه قتيلاً بالسوق ، وهذا يبين أنه إنما قتله تحقيقاً لقول رسول الله : ( لولا أنك رسول لقتلتك ) ، فكأنه استوجب عنده القتل ، وإنما منعه الرسالة ، وقد زالت .
3076 ( وأما في الساحر ) فلما روى جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( حد الساحر ضربة بالسيف ) ، رواه الدارقطني والترمذي ، وقال : الصحيح عن جندب موقوف .
3077 وعن بجالة بن عبدة رضي الله عنه قال : كنت كاتباً لجزء ابن معاوية ، عم الأحنف بن قيس ، فأتانا كتاب عمر رضي الله عنه قبل موته بسنة ، 16 ( أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس ، وانهوهم عن الزمزمة ) ، فقتلنا ثلاث سواحر ، وجعلنا نفرق بين الرجل وحريمه في كتاب الله . رواه أحمد وأبو داود .
3078 وفي الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة رضي الله عنه 16 ( أنه بلغه أن حفصة زوج النبي ورضي الله عنها قتلت جارية لها سحرتها ، وكانت قد دبرتها ، فأمرت بها فقتلت ) ؛ وظاهر هذه الآثار القتل بكل حال .
3079 ويروى أن ساحرة طافت في أصحاب النبي وهم متوافرون ، تسألهم هل لها من توبة ، فما أفتاها أحد إلا ابن عباس رضي الله عنهما ، قال لها : 16 ( إن كان أحد من أبويك حياً فبريه ، وأكثري من عمل البر ما استطعت ، ويجاب بأن قصة عائشة رضي الله عنها لا يعرف من رواها ، مع أن الحبر ابن عباس رضي الله عنهما قد جعل لها توبة ) ، وغير ذلك وقائع أعيان .
( وأما في من سب الجناب ) الرفيع :
3080 فلما روى الشعبي عن علي رضي الله عنه 16 ( أن يهودية كانت تشت
____________________
(3/87)
النبي وتقع فيه ، فخنقها رجل حتى ماتت ، فأبطل رسول الله دمها ) ، رواه أبو داود .
3081 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي وتقع فيه ، فينهاها فلا تنتهي ، ويزجرها فلا تنزجر ، فلما كان ذات ليلة ، جعلت تقع في النبي وتشتمه ، فأخذ المعول فوضعها في بطنها ، واتّكأ عليها فقتلها ، فلما أصبح ذكر ذلك للنبيّ ، فجمع الناس فقال : ( أنشدكم الله رجلاً فعل ما فعل ، لي عليه حق ) قال : فقام الأعجمي يتخطى الناس وهو يتزلزل ، حتى قعد بين يدي رسول الله ، فقال : يا رسول الله أنا صاحبها ، كانت تشتمك وتقع فيك ، فأنهاها فلا تنتهي ، وأزجرها فلا تنزجر ، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين ، وكانت بي رفيقة ، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك ، فأخذت المعول فوضعته في بطنها ، واتكأت عليها حتى تقتلها . فقال النبي : ( ألا اشهدوا أن دمها هدر ) رواه أبو داود والنسائي ، واحتج به أحمد في رواية عبد الله .
( وأما فيمن سب الله سبحانه ) فبالقياس على ساب رسول الله بطريق الأولى ، قال أبو محمد : والخلاف في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا ، من ترك قتلهم ، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم ، وأما قبول الله في الباطن ، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطناً وظاهراً فلا اختلاف فيه ، فإن الله تعالى قال في حق المنافقين : 9 ( { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله ، وأخلصوا دينهم لله ، فأولئك مع المؤمنين ، وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً } ) انتهى .
واعلم أن الروايتين في ساب رسول الله ، وإن كان كافراً ، ويكون ذلك نقضاً لعهده ، فيقتل وإن أسلم ، والروايتين في الساحر حيث يحكم بقتله بذلك ، وإنما يحكم بقتله بالسحر حيث كفر به وكان مسلماً ، أما إن كان السحر مما لا يكفر به ، أو يكفر به والساحر من أهل الكتاب ، فإنه لا يقتل .
3082 لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول الله ، وقالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أفلا أحرقته ؟ قال : ( لا ) .
3083 وفي البخاري أن ابن شهاب سئل أعلى من سحر من أهل العهد قتل ؟ قال : بلغنا أن رسول الله قد صنع ذلك فلم يقتل من صنعه ، وكان من أهل الكتاب ، ( وعنه ) ما يدل على قتله كما تقدم عن عمر رضي الله عنه .
إذا تقرّر ذلك فك
____________________
(3/88)
موضع قلنا : لا تقبل التوبة فلا استتابة ، لعدم فائدتها ، وكل موضع قلنا بقبول التوبة فإنه لا يقتل حتى يستتاب ، احتياطاً للدماء .
3084 وعن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري ، عن أبيه قال : قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه في زمن خلافته رجل من أهل اليمن من قبل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ، وكان عاملاً له ، فسأله عمر رضي الله عنه عن الناس ، ثم قال : 16 ( ( هل فيكم من مغربة خبر ) ) قال : نعم ، رجل كفر بعد إسلامه ، قال : فما فعلتم به ؟ قال : قربناه فضربنا عنقه . قال : فهلا حبستموه ثلاثاً ، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً ، واستتبتموه ، لعله يتوب ويراجع أمر الله تعالى ، اللهمّ إني لم أحضر ولم آمر ، ولم أرض إذ بلغني . . . رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده . . . وهل ذلك على سبيل الاستحباب ، لظاهر ( من بدل دينه فاقتلوه ) .
3085 وفي حديث لأبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال له : ( اذهب إلى اليمن ) ثم أتبعه معاذ بن جبل رضي الله عنه فلما قدم عليه ألقى له وسادة ، وقال : انزل ؛ وإذا رجل عنده موثق ، قال : ما هذا ؟ قال : كان يهودياً فأسلم ثم تهوّد ، قال : لا أجلس حتى يقتل ، قضاء الله ورسوله . . . متفق عليه ، ولأحمد : قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه ، وظاهر ذلك من غير استتابة ، وإنكار عمر رضي الله عنه يحمل على الاستحباب ، لأنهم كانوا ينكرون في المستحب ، أو على الوجوب ، وهو المذهب عند الأصحاب ، لظاهر قصة عمر ، وحديث جابر الذي رواه ابن عدي ، وبذلك يتقيد ما تقدم ، على أن في حديث أبي موسى الأشعري في رواية أبي داود : وكان قد استتيب قبل ذلك بعشرين ليلة أو قريباً منها ، فجاء معاذ : فدعاه فأبى ، فضرب عنقه ، إلا أن أبا داود قال : قد روي هذا الحديث من طرق ، وليس فيه ذكر الاستتابة ، انتهى .
ويستتاب ثلاثاً اتباعاً ، لقول عمر رضي الله عنه : 16 ( هلا حبستموه ثلاثاً ، ويضيق عليه ، لقوله أيضاً : وأطعمتموه كل يوم رغيفاً ) ، والله أعلم .
( تنبيه ) : ( الزنديق ) هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، وهو الذي كان يسمى منافقاً في الصدر الأول ، و ( رجز مسيلمة ) و ( حنة ) هنا بمعنى الأحنة ، وهي العداوة ، قال الجوهري : ولا تقل حنة ، وقال الهروي : هي لغة رديئة ، وقد جاءت ( ومغربة خبر ) بكسر الراء وفتحها ، وأصله من الغرب وهو البعد ، المعنى : هل من خبر جديد ، جاء من بلد بعيد ، ( والموثق ) المأسور المشدود في الوثاق من حبل أو قيد ، و ( الوسادة ) المخدة .
____________________
(3/89)
قال : وكان ماله فيئاً بعد قضاء دينه .
ش : قد تقدمت هذه المسألة في كتاب الفرائض وهو أن المرتد متى مات أو قتل على ردته فماله فيىء ، على المشهور من الروايات ، لا لورثته ولا لأهل الدين الذي اختاره ، وزاد هنا أن ذلك بعد قضاء دينه ، لأنه حق واجب عليه ، وأولى ما يؤخذ من ماله .
واعلم أن كلام الخرقي يعتمد أصلاً ، وهو أن أملاك المرتد لا تزول بنفس الردة ، وهذا هو المشهور من الروايتين . والمختار لعامة الأصحاب ، وعليه هل لا تزول إلا بالموت ، أو يتبين بالموت زوالها من حين الردة ، فيكون مراعى ؟ فيه روايتان أيضاً ، واختلف الأصحاب هنا في التصحيح ، وعليها تقضى ديونه مطلقاً . ( والرواية الثانية ) في الأصل تزول أملاكه بنفس الردة ، وهي اختيار أبي بكر ، وعليها فلا تقضى ديونه ، كذا قال القاضي في الجامع الصغير ، وأطلق ، وظاهر كلام أبي البركات أن الذي يمنع على هذه الرواية قضاء الدين المتجدد ، وأما اللازم له قبل الردة فيقضى على الروايات الثلاثة . . . والله أعلم .
قال : وكذلك من ترك الصلاة دعي إليها ثلاثة أيام ، فإن صلّى وإلا قتل ، جاحداً تركها أو غير جاحد .
ش : قد تقدمت هذه المسألة بأتم من هذا اللفظ ، في باب حكم من ترك الصلاة ، وقد يقال إنه إنما أعادها هنا لينبه على أن الزكاة والصوم والحج ليسوا كذلك ، وفيه نظر ، لأنه من ترك واحداً من الثلاثة جاحداً كفر بلا ريب . نعم إذا تركها غير جاحد ، فالمختار لعامة الأصحاب عدم الكفر ، ثم عن أحمد في الزكاة ثلاث روايات ، ثالثهن إن قاتل عليها كفر ، وإلا لم يكفر ، وعنه في الصوم روايتان ، وللأصحاب في الحج ثلاث طرق ، فأبو محمد يقول لا يكفر بحال ، ومقابله أبو بكر يقول يكفر بكل حال ، قال في الخلاف : من تخلف عن الإِقرار بالتوحيد ، مع القدرة عليه ، وعن الصلاة بعد الإِقرار والقدرة على عملها ، وإيتاء الزكاة بعد الإقرار بوجوبها عليه ، وصوم رمضان بعد الإقرار والقدرة عليه ، وكذلك الحج ، فعند أحمد أنه مرتد ، يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، وقال أيضاً : لا فرق بين الصوم والصلاة والزكاة والحج ، لأن هذا كله فرض كالتوحيد ، وتوسط أبو البركات فقال : إن أخره إلى وقت يغلب على ظنه موته قبله ، أو عزم على تركه بالكلية كفر وإلا فلا .
قال : وذبيحة المرتد حرام ، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب .
ش : أما إذا لم تكن ردته إلى دين أهل الكتاب فاتفاق والحمد لله ، وأما إذا كانت إلى دين أهل الكتاب فهو قول العامة ، لأنه لا يقر على دينه ، أشبه الوثني ، ولأنه لا يثبت له أحكام أهل الكتاب في الجزية ، ولا في النكاح ، ولا في الاسترقاق ،
____________________
(3/90)
فكذلك في الذبيحة .
قال : والصبي إذا كان له عشر سنين ، وعقل الإسلام فأسلم فهو مسلم .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، والمختار لعامة الأصحاب ، حتى أن جماعة منهم أبو محمد في المغني وفي الكافي جزموا بذلك .
3986 لعموم قول النبي : ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) .
3087 ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ) . . . الحديث .
3088 وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه انطلق مع رسول الله في رهط من أصحابه رضي الله عنهم قِبَل ابن صياد ، حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة ، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم ، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله ظهره بيده ، ثم قال رسول الله لابن صياد : ( أتشهد ، أني رسول الله ) ، فنظر إليبه ابن صياد ، فقال : أشهد أنك رسول الأميين . فقال ابن صياد لرسول الله : أتشهد أني رسول الله ؟ فرفضه رسول الله وقال : ( آمنت بالله وبرسوله ) وذكر الحديث ، فعرض عليه رسول الله الإسلام وهو دون البلوغ ، وعرضه ( عليه ) يقتضي صحته منه .
3089 وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( كل مولود يولد على الفطرة ، حتى يعرب عنه لسانه ، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكراً وإما كفوراً ) ، رواه أحمد والإعراب منه يحصل قبل البلوغ ، وقد جعله إذاً إما شاكراً وإما كفوراً ولأن علياً رضي الله عنه أسلم صغيراً .
3090 قال عروة : 16 ( أسلم علي رضي الله عنه وهو ابن ثمان سنين ) . . . أخرجه البخاري في تاريخه ، فاعتبر ذلك الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم وعدّ من السابقين .
3091 فعن ابن عباس رضي الله عنهما : 16 ( كان علي رضي الله عنه أول من أسلم من الناس بعد خديجة رضي الله عنها ) ، رواه أحمد .
3092 وعن عمرو بن مرة عن أبي حمزة ، عن رجل من الأنصار ، قال : 16 ( سمعت زيد بن أرقم رضي الله عنه يقول : أول من أسلم عليّ ؛ قال عمرو بن مرة
____________________
(3/91)
فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ) . . . رواه أحمد والترمذي وصححه ، وجمع العلماء بين الأقوال فقالوا : أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي ، ومن الموالي زيد ، ومن العبيد بلال رضي الله عنهم .
وحكى أبو محمد في المقنع ، و أبو البركات رواية بعدم صحة إسلام الصبي ، لأنه ليس بمكلف ، أشبه الطفل ، أو قول يثبت به حكم ، فلم يصح منه كالهبة ، ولحديث : ( رفع القلم عن ثلاث ) وأجيب بأن الطفل لا يعقل بخلاف هذا ، وعدم صحة الهبة ونحوها حذاراً من لحوق الضرر به ، وهذا محض مصلحة ، ولهذا قلنا على الصحيح : تصح وصيته ، والحديث ظاهره أنه لا يكتب عليه شيء ، والإسلام يكتب له لا عليه ، ( فعلى المذهب ) شرطه أن يعقل الإسلام قطعاً ، بأن يعلم أن الله ربه لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، إذ من لا يعقل كلامه لا يدل على شيء ، وهل يحدّ مع ذلك بسن . حكى ابن المنذر عن أحمد أنه لا يحد ، وإليه ميل أبي محمد ؛ إذ المقصود عقل الإسلام ، والسن لا مدخل له في ذلك ، ولأن قوله في الحديث : ( حتى يعرب عنه لسانه ) يقتضي أن الحكم منوط بذلك فقط .
3093 وقد روى البخاري في تأريخه عن جعفر بن محمد عن أبيه ، قال : قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وهذا يقتضي أنه أسلم وله نحو ست سنين ، لأنه أسلم في أول المبعث ، وعاشر رسول الله بعد مبعثه ثلاثاً وعشرين سنة ، وعاش علي رضي الله عنه بعد وفاته نحو الثلاثين ، ( وعن أحمد ) يشترط أن يكون ابن سبع ، لقوله عليه السلام : ( مروهم بالصلاة لسبع ) ، فدلّ على أن ذلك حد لأمرهم ، وظاهره صحة عباداتهم ، والإسلام هو أول العبادات ورأسها ، ( وعنه ) وهو الذي اعتمده الخرقي : يشترط أن يكون ابن عشر ، لتوجه الضرب إذاً ، ولم يتعرض الخرقي لردته ، لكنها تفهم من المسألة الآتية ، وفيها أيضاً روايتان ، لكن الخلاف هنا أشهر ، ولهذا كثير من الأصحاب جزم ثم بالصحة ، وحكى الخلاف هنا ، ومن ثم جمع أبو البركات كلام الأصحاب ، وحكى فيها ثلاث روايات ( الثالثة ) يصح الإسلام دون الردة ، وإليها ميل أبي محمد ، نظراً إلى قوله عليه السلام : ( رفع القلم عن ثلاث ) ، والمذهب عند الأصحاب الصحة ، لحديث جابر المتقدم ، ولأن من صح إسلامه صحت ردته كالبالغ ،
( تنبيهان ) : أحدهما إذا صححنا إسلام الصبي ، أو لم نصحح ردته فلا ريب أنه يحال بينه وبين أهل الكفر ، وكذلك إن لم نصحح إسلامه ، أو صححنا ردته ، حذاراً من فتنته ، ورجاء ثبوته على الإسلام ، أو عوده إليه حين بلوغه . ( الثاني ) : ( الأطم ) البناء المرتفع ، ( وحتى يعرب عنه لسانه ) أي يبين عنه .
____________________
(3/92)
قال : فإن عاد وقال : لم أدر ما قلت . لم يلتفت إلى مقالته ، وأجبر على الإسلام .
ش : إذا حكم بإسلام الصبي فرجع ، وقال : لم أدر ما قلت . لم يلتفت إلى قوله على المشهور ، وأجبر على الإسلام ، لأنه عاقل صح إسلامه ، فلا يلتفت إلى قوله ، كالبالغ إذا أسلم ثم قال : لم أنو الإسلام على المذهب ، ولأنه قد ثبت عقله للإسلام ومعرفته ، فلا يبطل ذلك بمجرد دعواه كالبالغ ، ( وعنه ) يقبل منه ، فلا يجبر على الإسلام . قال أبو بكر : هذا قول محتمل ، لأن الصبي في مظنة النقص ، فجاز أن يكون صادقاً ، والدماء يحتاط لها .
قال : ولا يقتل حتى يبلغ .
ش : يعني إذا أقام على رجوعه ، فإنه يصير مرتداً ، لكن لا يقتل حتى يبلغ ، لأن القتل عقوبة متأكدة ، فلا تجب على الصبي كالحد ، وحذاراً من قتله بأمر محتمل .
قال : ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام ، فإن ثبت على كفره قتل .
ش : قد تقرّر أنه لا يقتل حتى يبلغ ، فإذاً حكم الردة لم يتعلق به إلا بعد البلوغ ، فتكون الاستتابة بعده .
قال : وإذا ارتد الزوجان فلحقا بدار الحرب ، لم يجر عليهما ولا على أحد من أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق .
ش : لا يجوز استرقاق المرتد ، رجلاً كان أو امرأة ، وإنما ذكر الخرقي رحمه الله تعالى الزوجين والله أعلم ، لأجل ذكر الأولاد ، وذلك لعموم ما تقدم : ( من بدّل دينه ماقتلوه ) ، ( قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه ) ونحو ذلك ، وإذا جاز استرقاقه وبقاؤه لم يقتل ، وأدوات الشرط كما تقدم تشمل المذكر والمؤنث ، وأما أولاد المرتدين فمن ولد قبل الردة لم يسترق ، لأنه مسلم تبعاً لأبيه ، فلا يتبعه في الردة ، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وقد تبعوهم في الإسلام ، فلا يتبعونهم في الكفر ، وإذاً لا يسترقون صغاراً ، لأنهم مسلمون ، ولا كباراً لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم فواضح ، ون ارتدوا فحكمهم حكم آبائهم كما تقدم ، ومن علقت به أمه بعد الردة وولدته بعدها جاز استرقاقه على ظاهر كلام الخرقي ، ومنصوص أحمد في رواية الفضل بن زياد ، واختيار أبي بكر في الخلاف ، والقاضي وأبي الخطاب ، والشريف وابن البنا والشيرازي وغيرهم ، لأنه مولود بين أبوين كافرين ، لم يسبق عليه حكم الإسلام ، أشبه ما لو كان أبواه كافرين أصليين ، واختار ابن حامد أنه لا يجوز استرقاقه ، وحكاه رواية ، لأنه لا يقر بالجزية ، فلا يسترق كأبيه ، ولعل ابن حامد إنما أخذ الرواية من عدم إقراره بالجزية ، وإن علقت به في الإسلام ووضعته في الردة فعند أبي البركات وأبي محمد في الكافي حكمه حكم ما لو وضعته في الإسلام ، وهو التحقيق ، لانعقاده مسلماً ، وكلام
____________________
(3/93)
الخرقي يوهم العكس ، وقد أقرّه أبو محمد في المغني على ظاهره ، معلّلاً بأن أكثر الأحكام إنما تتعلق بالوضع ، فكذلك هذا ، وقد وقع نحو هذه العبارة للخرقي في النكاح ، وقد تقدم ذلك .
قال : ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت من الإسلام بعد البلوغ ، استتيب ثلاثاً ، فإن لم يتب قتل .
ش : أما من امتنع منهما أو من أولادهما الذين حكم عليهما من الإسلام ، فلا إشكال في قتلهم إذا لم يتوبوا ، كبقية المرتدين ، وقوله : الذين وصفت ، يعني الذين ولدوا قبل الردة ، وقوله : بعد البلوغ ، لما تقدم من أن حكم الردة إنما يتعلق بالصبي بعد البلوغ ، ومفهوم كلام الخرقي أن أولادهم الذين ولدوا بعد الردة لو امتنعوا من الإسلام لم يقتلوا ، وتحت هذا صورتان ( إحداهما ) اختاروا كفراً لا يقر أهله عليه بالجزية ، فهنا لا ريب في قتلهم . ( الثانية ) اختاروا كفراً يقر أهله عليه بالجزية ، فهنا روايتان ، حكاهما أبو البركات ، وأبو محمد في المقنع ( إحداهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي في روايتيه ، يقرون بالجزية ، لأنهم ولدوا بين كافرين ، ولم يسبق لهم حكم الإسلام ، فجاز إقرارهم بالجزية كأولاد الحربيين . ( والثانية ) ، وهي اختيار أبي بكر ، وبها قطع أبو محمد في الكافي ، وأبو الخطاب في الهداية ، لا يقرون بالجزية ، لأنهم أولاد من لا يقر على كفره ، فلا يقرون بالجزية كالولد الذي قبل الردة . ولهذا الخلاف التفات إلى أن من تهوّد أو تنصّر بعد المبعث هل يقر بالجزية أم لا . . . ؟ وسلك أبو محمد في المغني طريقة لم نرها لغيره ، فقال : إذا وقع أبو الولد في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب ، فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب ، وإن بذل الجزية وهو في دار الحرب ، أو وهو في دار الإسلام ، لم يقر بها ، لانتقاله إلى الكفر بعد نزول القرآن .
قال : ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعاً له .
3094 ش : لما روي عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث ، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ) ، رواه البخاري وأحمد وقال فيه : ( ما من رجل مسلم ) ، وهو يشمل ما إذا كانوا من كافرة .
3095 قال البخاري وكان ابن عباس رضي الله عنهما مع أمه من المستضعفين ، ولم يكن مع أبيه على دين قومه ، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه . ومن علوه التبعية له ، ( وظاهر كلام الخرقي ) أن هذا الحكم ثابت للصغير ما لم يبلغ ،
____________________
(3/94)
وهو المنصوص والمشهور ، لحديث أنس رضي الله عنه المتقدم ، وقيل في المميز : لا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه كالبالغ ، لأنه يصير مستقلاً بنفسه ، ولعله يلتفت إلى أن المميز يصح إسلامه ، فصار كالبالغ ، لكن المذهب صحة إسلام المميز ، والمذهب التبعية إلى البلوغ ، ومراد الخرقي بالأبوين الأبوان الأدنيان الحقيقيان ، ولا يتبع الصغير جده ولا جدته في الإسلام .
قال : وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له من الميراث ، وكان مسلماً بموت من مات منهما .
ش : أما كون الصغير يحكم بإسلامه بموت أحد أبويه الكافرين على المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين .
3096 فلما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء ) ، ثم يقول أبو هريرة : 19 ( { فطرة الله التي فطر الناس عليها } ) الآية . وفي رواية : قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت منهم وهو صغير ؟ قال : ( الله أعلم بما كانوا عاملين ) متفق عليهما . فجعل تهوده وتنصره وتمجسه بسبب أبويه ، فإذا ماتا فقد فات السبب ، وكذلك إذا مات أحدهما إذ لا ريب أن الشيء يفوت بفوات جزئه ، ومتى فات السبب بقي على أصل الفطرة التي خلقه الله عليها ، وهي الإقرار بالربوبية والوحدانية ، ( والرواية الثانية ) : لا يحكم بإسلامه ، لأنه ثبت كفره ، ولم يوجد منه إسلام ، ولا ممن هو تابع له ، فوجب إبقاؤه على ما كان عليه ، ولأنه لم ينقل عن النبي ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر أحداً من أهل الذمة على الإسلام لموت أبيه ، مع أنه لا يخلو زمنهم من موت بعض أهل الذمة عن يتيم ، والحكم في موت الأبوين كالحكم في موت أحدهما . وهل حكم المميز حكم البالغ أو حكم الطفل ؟ فيه القولان السابقان .
وكلام الخرقي يشمل الموت في دار الحرب ودار الإسلام ، وهو قويل بعده أبو البركات ، وعموم الحديث يقتضيه ، والذي أورده أبو البركات مذهباً وبه قطع أبو محمد في المغني اختصاص الحكم بدار الإسلام ، إذ قضية الدار الحكم بإسلام أهلها ، خرج منه الطفل الذي له أبوان ، فإذا عدما أو أحدهما بقي على الأصل . وأمّا كونه يقسم له من ميراث من مات من أبويه الذي جعل مسلماً بموته ، فلأن المانع من الإرث وهو الإسلام لم يتحقق وجوده حين الإرث ، إذ بالموت انتقل الإرث وحصل الإسلام . فالمانع إنما تحقق وجوده لما انتقل الإرث ، أما وقت الانتقال فلم يتحقق ، لا سيما ومن قاعدتنا على المشهور أن من أسلم قبل قسم الميراث قسم له . وقد استشكل
____________________
(3/95)
على هذا نص أحمد في الكافر إذا مات عن حمل منه أنه لا يرثه ، والقاضي أظنه في المجرد حمل هذا على أنها وضعته بعد قسم الميراث ، وجعل أنها متى وضعته قبل ذلك ورث كما في هذه المسألة . وأبو البركات جرى على المنصوص في الموضعين ، وأشار للفرق بأن الحمل حكم بإسلامه قبل وضعه ، والإرث لا يحكم له إلا بانفصاله ، وقد يقال : الظاهر من كلام الأصحاب أنا نتبين بوضعه حياً إرثه ، فالإرث حصل له أيضاً من حين موت أبيه ، فهو كهذه المسألة ، والظاهر أن هذه شبهة القاضي ، فيجاب بأنه على كل حال المانع قد تحقق قبل الحكم بإرثه ، فلم يحصل شرط إرثه إلا والمانع قد تحقق فانتفى الإرث لوجود المانع ،
( تنبيه ) : ( الفطرة ) والله أعلم .
قال : ومن شهد عليه بالردة فقال : ما كفرت ، فإن شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله لم يكشف عن شيء .
ش : من شهد عليه بالردة فأنكر ، وشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله لم يكشف عن شيء مما شهد عليه ، ولم يكلف الإقرار بما نسب إليه .
3097 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) .
3098 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمد رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم ، وحسابهم على الله ) متفق عليهما ، ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي ، فكذا هذا .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلتفت مع ذلك إلى ما شهد عليه به ، ولو كان إنكار فرض ، أو إحلال محرم ، وحمل أبو محمد كلامه على من كفر بجحد الوحدانية أو الرسالة أو هما ، أما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما جحده .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يكفي والحال ما تقدم جحده للردة ، وهذا والله أعلم كأنه مقصود الخرقي من ذكر هذه المسألة ، لينص على مخالفة بعض الحنفية ، وذلك لأنه بالبينة قد بان كفره ، فلم يحكم بإسلامه بدون الشهادتين ، كالكافر الأصلي .
3099 وقد روى الأثرم بإسناده عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل عربي قد تنصر ، فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله ، وأتي برهط يصلون وهم زنادقة ، قد قامت عليهم بذلك الشهود العدول ، فجحدوا وقالوا : ليس لنا دين إلا دين الإسلام ، فقتلهم ولم
____________________
(3/96)
يستتبهم ، ثم قال : تدرون لِمَ استتبت النصراني ؟ استتبته لأنه أظهر دينه ، فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا ، وقد قامت عليهم البينة .
ومقتضى كلام الخرقي أن حصول الشهادتين كاف في إسلام المرتد ، وهو كذلك ، وكذلك كل كافر ، ولا يشترط أن يقول مع ذلك : وأنا بريء من الدين الذي كنت عليه ، لما تقدم .
3100 ولقول النبي للغلام اليهودي : ( يا غلام ، قل : لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ) .
3101 وقوله لعمه أبي طالب : ( أدعوك إلى كلمة أشهد لك بها عند الله ، لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ) نعم من كفر بجحد فرض ، أو تحريم أو تحليل ، أو نبي أو كتاب ، أو رسالة نبينا محمد إلى غير العرب ونحو ذلك ، فلا بد مع الشهادتين أن يقر بالمجحود به ، لأن الشهادتين كانت موجودة منه قبل ذلك .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يكتفي بأشهد أن محمداً رسول الله ، عن كلمة التوحيد ، وهو ( إحدى الروايات ) وهو مقتضى ما تقدم من الأحاديث . . . ( والثانية ) يكتفي بذلك .
3102 لما روى أنس رضي الله عنه أن يهودياً قال لرسول الله : أشهد أنك رسول الله . ثم مات ، فقال رسول الله : ( صلوا على صاحبكم ) ، ذكره أحمد في رواية مهنا محتجاً به ، ولأن الإقرار برسالة النبي يتضمن الإقرار بوحدانية سبحانه ، لتصديق الرسول فيما جاء به . ( والثالثة ) إن كان ممن يقر بالتوحيد كأكثر اليهود اكتفي بذلك ، لأن بانضمام تصديقه بالرسالة إلى ما عنده من التوحيد يكمل إسلامه ، وإن لم يقر بالتوحيد كالنصارى ونحوهم ، لم يكتف بذلك ، لأن الجاحد جحد شيئين ، فلا يزول جحده لهما إلا بالإقرار بهما ، وهده الرواية اختيار أبي محمد .
ومفهوم كلام الخرقي أيضاً أنه إذا قال : أنا مؤمن أو أنا مسلم ، لم يكتف بذلك ، ونص القاضي وابن البنا على الاكتفاء بذلك عن الشهادتين ، لتضمنهما إياها .
3103 وقد روى المقداد أنه قال : يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني ، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ، ثم لاذمني بشجرة فقال : أسلمت ، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال : ( لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها ) رواه مسلم . قال أبو محمد : ويحتمل أن هذا فيمن كفره بغير جحد فرض ، أو كتاب أو نحو ذلك ، أما من كفره بذلك فلا نكتفي منه بقوله : أنا مسلم أو مؤمن ، لأنه قد يعتقد أن الإسلام ما هو
____________________
(3/97)
عليه ، إذ أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون .
( تنبيه ) : لو أقر بالردة ثم رجع ، أو أنكر ، قبل منه بدون تجديد إسلام ، على ما قطع به ابن حمدان في رعايتيه ، و أبو محمد ، لما أورد عليه ذلك في أصل المسألة قال : يحتمل أن يقول فيه كمسألتنا ، وإن سلمنا فالفرق أن هنا ثبت بقوله ، فقبل رجوعه عنه ، وثم ثبت بالبينة فلا يقبل رجوعه كالزنا ، والله أعلم .
قال : ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يفيق ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته ، فإن مات في سكره مات كافراً .
ش : هل تصح ردة السكران ؟ فيه روايتان تقدمتا في طلاقه ، إلا أن أبا محمد كلامه ثم يوهم عدم صحة طلاقه ، وكلامه هنا بالعكس ، وربما أشعر كلام الخرقي بذلك . وبالجملة متى لم تصح ردته فلا كلام . وإن صحت فلا يقتل حتى يفيق من سكره ، ليكمل عقله ، ويفهم ما يقال له ، وتزول شبهته ، ولأن القتل جعل للزجر ، ولا يحصل الزجر في حال سكره ، ويتم له ثلاثة أيام من وقت صحوه ، كما قلنا في الصبي من حين بلوغه . هذا الذي أورده أبو البركات مذهباً ، والخرقي رحمه الله جعل الثلاث من وقت ردّته ، وتبعه على ذلك أبو محمد ، لأن مدة سكره لا تدوم غالباً أكثر من ثلاثة أيام ، بخلاف الصبي فعلى هذا لو استمرّ سكره أكثر من ثلاثة أيام ، فقال أبو محمد : لا يقتل حتى يصحو ويستتاب عقيب صحوه ، فإن تاب وإلا قتل في الحال .
( تنبيه ) : والحكم في إسلامه في سكره كالحكم في ردته ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(3/98)
( كتاب الحدود )
الحدود جمع حد ، والحد في الأصل المنع ، ومنه قيل للبواب حداداً ، لمنعه الداخل والخارج إلا بإذن ، وسمي الحديد حديداً للامتناع به ، أو لامتناعه على من يحاوله ، والحد عقوبة تمنع من الوقوع في مثله ، وحدود الله محارمه . قال سبحانه تعالى : 19 ( { تلك حدود الله فلا تقربوها } ) ، وما قدره كجعل الطلاق ثلاثاً ، ونحو ذلك ، قال سبحانه : 19 ( { تلك حدود الله فلا تعتدوها } ) ولعل تسمية المحارم حدوداً ، وكذلك المقدرات إشارة إلى المنع من قربان ذلك أو تجاوزه والله أعلم .
قال : وإذا زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة جلداً ورجماً حتى يموتا ، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله ، والرواية الأخرى : يرجمان ولا يجلدان .
ش : الزنا مما علم تحريمه من دين الله بالضرورة ، وقد شهد له قوله سبحانه ؛ 19 ( { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } ) ، وقوله سبحانه : 19 ( { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا يزنون ، ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ، يضاعف له العذاب يوم القيامة } ) ، وقوله تعالى : 19 ( { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } ) .
3104 وعدّه النبي في السبع الموبقات ، وجعله من أعظم الذنب .
إذا تقرر ذلك ( فالرواية الأولى ) اختيار أبي بكر عبد العزيز ، ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وصححها الشيرازي ، لقوله الله تعالى : 19 ( { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ) الآية ، وهذا عام في البكر والثيب ثم قد ورد رجم المحصن في سنة رسول الله بلا ريب ، وفعله خلفاؤه من بعده ، بل وفي الكتاب العزيز .
3105 قال ابن عباس رضي الله عنهما : سمعت عمر رضي الله عنه وهو على منبر رسول الله يقول : 16 ( إن الله بعث محمداً بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله
____________________
(3/99)
فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه ، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى ، ) 16 ( إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ، وايم الله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها ) . . . متفق عليه . وإذا ورد رجم الثيب في الكتاب وفي السنة ، وورد الجلد في الكتاب ، وهو يعمّه ويعم غيره ، وجب الجمع بينهما ، وقد أشار عليّ رضي الله عنه والله أعلم إلى ذلك .
3106 ففي البخاري عن الشعبي عن علياً رضي الله عنه حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : 6 ( جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله ) .
3107 مع أن في صحيح مسلم ، وسنن أبي داود والترمذي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة ، ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ) ، وما يعترض على هذا من أن النبي لم يجلد ليس بنص صريح ، إذ غايته أنه لم ينقل أنه جلد ، وعدم النقل لا يدلّ على العدم .
( والرواية الثانية ) هي أشهر الروايتين عن الأثرم ، واختارها ابن حامد ، ونصرها الجوزجاني والأثرم في منتهاهما .
3108 لأن النبي رجم ماعزاً والغامدية ، وامرأة من جهينة ، ورجلاً وامرأة من اليهود ، ولم ينقل مع كثرة الروايات التي يبلغ مجموعها التواتر المعنوي بلا ريب أنه جلدهم .
3109 وقال : ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) متفق عليه ، ولم يأمر بجلدها ، وهذا يبين أن هذا هو آخر الأمرين من رسول الله ، وقد أشار إلى هذا أحمد ، قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة رضي الله عنه : إنه أول حدّ نزل ، وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله ولم يجلده ، وعمر رضي الله عنه رجم ولم يجلد ، وكذلك نقل إسماعيل بن سعيد نحو هذا ، والذي في الآية الكريمة يحمل على البكر .
3110 وقد ورد في أبي داود في رواية ، قال أبو السعادات : ذكرها رزين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما كان الزنا في الإسلام أخبر رسول الل
____________________
(3/100)
فأنزل الله تعالى : 19 ( { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } )9 ( { واللذان يأتيانها منكم فأذوهما ، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } ) ثم نزل بعد ذلك : 19 ( { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ) ، ثم نزلت آية الرجم في النور ، فكان الأول للبكر ، ثم رفعت آية الرجم من التلاوة ، وبقي الحكم بها ، وهذا إن ثبت فيه جمع بين الأدلة .
3111 وقد عمل على ذلك عمر وعثمان رضي الله عنه فرجما ، ولم ينقل أنهما جلد .
وتقييد الخرقي بالحر والحرة ليخرج العبد والأمة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى حدّهما ، وتقييد الحر بالمحصن والحرة بالمحصنة ليخرج غير المحصن كما سيأتي ، ولا نزاع في أن الإحصان شرط في الرجم ، وقد شهد لذلك حديث عبادة وحديث عمر رضي الله عنهما .
3112 وقول النبي : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ) ، وفي رواية : ( أو زنا بعد إحصان ) الحديث . . . وقد تقدم ذلك .
3113 وفي قصة ماعز أنه قال له : ( أحصنت ) ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم . والإحصان قد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب النكاح ، فلا حاجة إلى إعادته .
( تنبيه ) : الزنا الفاحشة يمد ويقصر ، فالقصر لأهل الحجاز ، والمد لأهل نجد ، أنشد ابن سيده :
أما الزناء فإني لست قاربه
والمال بيني وبين الخمر نصفان
والزاني من أتى الفاحشة ، وسيأتي كلام الخرقي إن شاء الله تعالى فيه ، والله أعلم .
قال : ويغسلان ويكفنان ، ويصلّى عليهما ، ويدفنان .
ش : أما الغسل والتكفين والدفن فاتفاق ، حكاه أبو محمد .
3114 وقال أحمد : سئل عليّ رضي الله عنه عن شراحة وكان رجمها فقال : اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم ؛ وصلّى عليّ رضي الله عنه على شراحة ، وأما الصلاة فهي أيضاً قول الأكثرين .
3115 لما روى عمران بن حصين رضي الله عنه أن امرأة من جهينة أتت
____________________
(3/101)
النبي وهي حبلى من الزنا ، فقالت : يا رسول الله أصبت حداً فأقمه علي ، فدعا نبيّ الله وليها فقال : ( أحسن إليها ، فإذا وضعت فأتني بها ) ففعل ، فأمر بها نبيّ الله فشدت عليها ثيابها ، ثم أمر بها فرجمت ، ثم صلى عليها ، قال عمر : أتصلّي عليها وقد زنت ؟ فقال رسول الله : ( لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل ) رواه مسلم وأبو داود والترمذي .
3116 وفي مسلم أيضاً وسنن أبي داود ، من حديث بريدة في قصة ماعز والغامدية قال : ثم أمر بها فصلّي عليها ودفنت .
3117 وما في الصحيح من حديث ابن عباس ، ومن حديث جابر رضي الله عنهم أن النبي لم يصل على ماعز ، فقضية عين ، يحتمل أن النبي لم يحضره ، أو اشتغل عنه لعارض ، أو غير ذلك ، ولأن عموم ( صلوا على من قال لا إله إلا الله ) يدخل فيه من مات بحد .
قال : وإذا زنى الحر بالبكر جلد مائة جلدة ، وغرب عاماً .
ش : أراد بالبكر من لم يحصن ، وإنما عبر بالبكر اتباعاً للفظ الحديث ، وقد حصل اتفاق العلماء ولله الحمد على الجلد ، بشهادة الكتاب والسنة بذلك ، وجمهورهم أيضاً على القول بالتغريب ، لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتقدم .
3118 وعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا : جاء أعرابي إلى النبي وهو جالس ، فقال : يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله . فقال الخصم الآخر وهو أفقه منه : نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي ، فقال النبي : ( قل ) ، قال : إن ابني كان عسيفاً على هذا ، فزنى بامرأته ، وإني أخبرت أن على ابني الرجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله : ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول الله فرجمت ، أخرجه الجماعة ، والدلالة منه من وجهين ( أحدهما ) وهو العمدة قوله عليه الصلاة والسلام : ( وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ) . ( والثاني ) : قوله : سألت أهل العلم ، وأهل العلم هم جلة الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا يدلّ على أن هذا كان معروفاً مشهوراً عندهم ،
____________________
(3/102)
وقد تأكّد قوله عليه السلام بفعله .
3119 فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ضرب وغرّب ، وأن أبا بكر رضي الله عنه ضرب وغرب ، وأن عمر رضي الله عنه ضرب وغرب ، رواه النسائي . لكن قال النسائي : الصواب في هذا الحديث أن أبا بكر رضي الله عنه ، وليس فيه أن النبي ودعوى أن هذا زيادة على النص ، وهو 19 ( { الزانية والزاني } ) الآية ، والزيادة على النص نسخ ، والكتاب لا ينسخ بالسنة ممنوع ، أما ( أولاً ) فلأن النص ليس فيه تعرض لنفي التغريب إلا من جهة المفهوم ، والحنفي لا يقول به ، وبالاتفاق متى عارض المفهوم نص قدم عليه ، وأما ( ثانياً ) فإنا لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ ، كما هو مقرر في موضعه ، وأما ( ثالثاً ) فإنا لا نسلم أيضاً أن النسخ لا يحصل بالسنة ، بل يحصل بالسنة ، وإن كانت آحاداً ، على رواية اختارها فحل الفقهاء أبو الوفاء ابن عقيل ، والله أعلم .
قال : وكذلك المرأة .
ش : يعني أنها تجلد ، ولا نزاع في ذلك ، لنص الكتاب ، وتغرب ، وهو أيضاً قول الأكثرين ممن قال بالتغريب ، ثم وعليه المعول في المذهب ، لعموم حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، ولأن ما كان حداً في حق الرجل كان حداً في حق المرأة كسائر الحدود ، واختار أبو محمد في مغنيه أنها لا تغرب ، كقول مالك ، وله في كتبه الثلاثة احتمال بسقوطه إذا لم تجد محرماً .
3120 ومدركهما قوله عليه السلام : ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم ) ولأن تغريبها بدون محرم تضييع لها ، ومعه يفضي إلى نفي من لا ذنب له ، وإن كلفت بأجرته فذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به .
( تنبيه ) : شرط التغريب أن يكون إلى مسافة القصر في الجملة ، إذ ما دونها في حكم المقيم ، قال أبو محمد : ويحتمل كلام أحمد في رواية الأثرم أنه لا يشترط ذلك ، لقوله : ينفى من عمله إلى عمل غيره . ولا تفريع على هذا ، أما على المذهب فالرجل ينفى إلى مسافة القصر بلا ريب ، وكذلك المرأة إذا كان معها محرمها ، ومع تعذره هل تنفى إلى مسافة القصر لما تقدم ، أو إلى ما دونها ، لحديث : ( لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم ) ؟ على روايتين ، هذه طريقة القاضي في الروايتين ، وأبي محمد في المغني ، وجعل أبو الخطاب في الهداية الروايتين فيها مطلقاً ، سواء نفيت مع محرمها أو بدونه ، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي والمقنع ، وعكس أبو البركات طريقة المغني ، فجعل الروايتين فيها فيما إذا نفيت مع محرمها ، أما بدونه فإلى ما دونها قولاً
____________________
(3/103)
واحداً ، كما اقتضاه كلامه .
قال : وإذا زنى العبد أو الأمة جلد كل واحد منهما خمسين جلدة ، ولم يغربا .
3121 ش : أما جلدهما فلما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا : سئل النبي عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، قال : ( إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير ) ، متفق عليه .
3122 وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال : خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : يا أيها الناس أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ، من أحصن منهم ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله زنت ، فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي فقال : ( أحسنت اتركها حتى تماثل ) رواه مسلم وأبو داود والترمذي ، لكن قال فيه : ( وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ) جعله من لفظ الرسول ، والعبد في معنى الأمة ، وبهذين يضعف دليل خطاب 19 ( { فإذا أحصن } ) .
3123 على أنه نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن المراد بالإحصان الإسلام .
وأما كونه خمسين جلدة ، فلقوله تعالى : 19 ( { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ) والعذاب الذي في كتاب الله هو جلد مائة جلدة ، ولهذا عرفه .
3124 وعن عبد الله بن عياش قال : أمرني عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن أجلد ولائد للإمارة ، أنا وفتية من قريش خمسين خمسين في الزنا . . . أخرجه مالك في الموطأ .
3125 وعن علي رضي الله عنه قال : أرسلني رسول الله إلى أمة له سوداء زنت ، لأجلدها الحد ، قال : فوجدتها في دمها ، فأتيت النبي فأخبرته بذلك ، فقال لي : ( إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين ) ، رواه عبد الله بن أحمد في المسند .
وأما كون ذلك بلا تغريب فلأن ما تقدم جميعه ليس فيه تغريب ، ولو وجب لذكر ، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، والعذاب كما تقدم والله أعلم المراد به الذي في الكتاب ، ولا تغريب فيه ، ثم إن التغريب في حق العبد في الحقيقة عقوبة لسيده دونه ، لما يفوته من خدمته ، وما يحتاجه من حفظه ونفقته ، والعبد غريب أينما
____________________
(3/104)
كان ، والعقوبة لا تشرع على غير الزاني ، والله أعلم .
قال : والزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر .
ش : مقصود الخرقي بهذا والله أعلم أن الموضع الذي يجب فيه الحد في القبل يجب فيه في الدبر ، فلا فرق بين القبل والدبر ، وذلك لأنه فرج مشتهى طبعاً ، محرم شرعاً ، فأشبه القبل ، ولأن الله تعالى قال : 19 ( { والاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } ) الآية ، ثم بين النبي ذلك بقوله : ( قد جعل الله لهن سبيلاً ) الحديث ، والفاحشة تشمل الوطء في القبل والدبر ، وقد سمى الله الوطء في الدبر فاحشة فقال لقوم لوط : 19 ( { أتأتون الفاحشة } ) أي الوطء في دبر الرجل ، ثم إن الخرقي رحمه الله أشار إلى تعريف الزاني الذي يترتب عليه الحد السابق بما ذكره . وفي قوله ( الفاحشة ) إشعار بأن شرط الإتيان في القبل أو الدبر أن يكون حراماً محضاً ، فيخرج بالأول الوطء الحلال ، ووطء الشبهة ، كمن وطىء امرأته في دبرها أو أمته الوثنية ، أو أمة لبيت المال وهو حر مسلم ، أو من ظنها زوجته ، أو بنكاح باطل اعتقد صحته ، أو لم يعلم بالتحريم لقرب عهده بالإسلام ونحو ذلك ، وقد تضعف الشبهة فيجري الخلاف ، كمن وطىء أمته وهي مزوجة ، أو مؤبدة التحريم ، أو أمة والده ، مع علمه بالتحريم ، أو وطىء في نكاح أو ملك مختلف في صحته مع علمه بالتحريم ، ونحو ذلك ، وبيان ذلك وشرحه على ما ينبغي له محل آخر ، إلا أنه لا بد أن يطأ بفرج أصلي ، في فرج أصلي ، وأن يغيب الحشفة أو قدرها ، فلو جامع الخنثى بذكره ، أو جامع في قبله فلا حد ، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لا حد بالإتيان دون الفرج ، ولا بإتيان المرأة المرأة ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : ومن تلوط قتل بكراً كان أو ثيباً ، في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى ، حكمه حكم الزاني .
ش : ( الرواية الأولى ) اختيار الشريف .
3126 لما روي أن النبي قال : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) رواه الخمسة إلا النسائي ، قال الترمذي : وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو شامل للبكر والثيب ، لكن الحديث من رواية عمرو بن أبي عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما وقد اختلف في عمرو بن أبي عمرو ، فعن ابن معين ومالك تضعيفه ، وعن أحمد وأبي حاتم وغيرهما ليس به بأس .
3127 ورواه أبو أحمد ابن عدي من رواية عباد بن منصور ، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي ، ولفظه : ( في الذي يعمل عمل قوم لوط ، وفي الذي يؤتي في نفسه ، وفي الذي يقع على ذات محرم ، وفي الذي يأتي البهيمة
____________________
(3/105)
يقتل ) ، وقد اختلف أيضاً في الاحتجاج بعباد بن منصور .
3128 وقد روى أبو أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموه الأعلى والأسفل ، ارجموهما جميعاً ) لكنه ضعفه ، وبالجملة هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً ، إذ ليس فيها متهم بكذب وسوء الحفظ يزول بتتابعها ، مع أن الجارحين لم يبينوا سبب الجرح ، وقد قال يحيى بن سعيد : عباد بن منصور ثقة ، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه ، وهذا يدل على أن تضعيفهم له كان بسبب خطئه في رأيه ، ويقوي الحديث عمل راويه عليه .
3129 فعن سعيد بن جبير ومجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في البكر يؤخذ على اللوطية يرجم . رواه أبو داود ، ثم عمل الصحابة على ذلك .
3130 فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن علياً أحرقهما ، وأبا بكر هدم عليهما حائطاً ، ذكر ذلك أبو السعادات في جامع الأصول ، ولذلك احتج أحمد بقول علي رضي الله عنه ، وقيل : إن الصحابة أجمعوا على قتله ، وإنما اختلفوا في صفته . ( ووجه الرواية الثانية ) أنه فاحشة ، فكان كالفاحشة بين الرجل والمرأة .
3131 ويروى عن النبي : ( إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ) ، وإذا كان زنا دخل في عموم الآية ، والأخبار السابقة والأحاديث السابقة لم تثبت .
وقول الخرقي : بكراً كان أو ثيباً ، أي محصناً كان أو غير محصن ، وإنما أراد لفظ حديث عبادة ، والله أعلم .
قال : ومن أتى بهيمة أدب وأحسن أدبه .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية ابن منصور ، واختيار الخرقي ، وأبي بكر ، لأنه أتى محرماً لا حد فيه ولا كفارة ، وذلك مقتضى للتأيب .
وقوله : وأحسن أدبه ، أي يبالغ فيه لشدة تحريمه ، إذ قد اختلف في قتل فاعل ذلك ، وورد فيه ما يدل على ذلك ، وذلك يقتضي المبالغة في تحريمه ، وإنما لم يحد لأن الحديث الذي ورد فيه قد تكلم فيه ، وقياسه على الوطء في فرج المرأة متعذر ، إذ ليس بمقصود ، يحتاج في الزجر عنه إلى حد ، بل يكتفي بالباعث الطبعي ، إذ النفوس الشريفة بل وغيرها تنفر من ذلك . ( ونقل عنه ) حنبل يحد حد الزاني ، كذا حكى القاضي في روايتيه ، والشيخان وغيرهما يحكون الرواية أن حده حد اللوطي ، يعني هل يرجم مطلقاً ، أو يحد حد الزاني ، وهذه اختيار القاضي والشيرازي ، وأبي الخطاب والشريف في خلافيهما .
3132 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي . وراويه عمرو بن أبي
____________________
(3/106)
عمرو راوي حديث ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ) الحديث ، فهذا لازم للقائل ثم بالقتل .
3133 إلا أنه هنا قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : 16 ( ليس على الذي يأتي البهيمة حد ) ، رواه أبو داود والترمذي وذلك يوهن روايتيه مع ما فيهما والله أعلم .
قال : وقتلت البهيمة .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار الخرقي ، وبه قطع أبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد في الكافي ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، لما تقدم من الحديث ، وهو وإن تكلم فيه فذلك لا يبلغ اطراحه بالكلية ، بل هو صالح لأن يؤثر شبهة في درء الحد الذي يندريء بالشبهة ، ولا يؤثر في غيره لعدم درئه بالشبهة . ( والرواية الثانية ) لا تقتل ، لأن المعتمد في ذلك على الحديث ، والحديث لم يثبت ، والنبي نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ، فيدخل في عمومه ، وظاهر كلام أبي البركات ، أن قتلها لا يشرع على هذه الرواية ، وعن أبي بكر أنه توسط فقال : الاختيار قتلها ، وإن تركها فلا بأس ، ( ومحل هاتين الروايتين ) إذا قلنا بتعزير الفاعل ، أما إذا قلنا بحده حد اللوطي فإنها تقتل بلا نزاع ، كذا ذكره أبو البركات وهو واضح ، لأنا إذاً اعتمدنا على الحديث ، وهو أخص من النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ، وكلام الخرقي يشمل المملوكة والمأكولة وغيرهما ، وهو كذلك ولم يتعرض الخرقي رحمه الله لأكلها إن كانت مأكولة ، وأحمد كره ذلك ، فخرج لأصحابه فيه وجهان ( أحدهما ) ويحتمله كلام الخرقي الجواز ، لعموم : 19 ( { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ) وغير ذلك . ( والثاني ) وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، وقطع به الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وشيخهما في الجامع ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي المنع ، لأنه حيوان مأمور بقتله ، وكل ما أمر بقتله لا يجوز أكله ، كما هو مقرر في موضعه ، ولعل الخلاف في ذلك مبني على علة قتلها ، فقيل : لئلا يعير فاعلها لذكره برؤيتها .
3134 فروى ابن بطة بإسناده عن النبي أنه قال : ( من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ) قالوا : يا رسول الله ما بال البهيمة ؟ قال : ( لئلا يقال هذه وهذه ) وقيل : لئلا تلد خلقاً مشوهاً ، وبه علل ابن عقيل ، وعلى هذين يباح الأكل ، وقيل القتل لئلا تؤكل .
3135 قيل لابن عباس رضي الله عنهما لما ذكر الحديث : ما شأن البهيمة ؟ قال : 16 ( ما سمعت من رسول الله في ذلك شيئاً ، ولكن أراه كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها ، وقد فعل بها ذلك ) . . . رواه أبو داود والترمذي ، واعلم أن محل الخلاف
____________________
(3/107)
حيث شرعنا قتلها ، أما إن لم نشرعه فلا ريب في جواز أكلها والله أعلم .
قال : والذي يجب عليه الحد ممن ذكرت من أقر بالزنا أربع مرات ، وهو بالغ صحيح عاقل ، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد ، أو يشهد عليه أربعة رجال من أحرار المسلمين عدول ، يصفون الزنا .
ش : ملخص ذلك أن الحد لا يجب إلا بأحد شيئين ، إقرار أو بينة ، فإن ثبت بإقرار اشترط أن يقر أربع مرات ، فلو أقر دونها لم يجب الحد .
3136 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : أتى رجل من أسلم رسول الله وهو في المسجد ، فناداه : يا رسول الله إن الآخر قد زنى ، يعني نفسه ، فأعرض عنه ، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله ، فقال له ذلك فأعرض ، فتنحى الرابعة ، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه ، فقال : ( أهو به جنون ) ؟ قال : لا ، قال النبي : ( اذهبوا به فارجموه ) متفق عليه .
3137 وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً من أسلم جاء إلى النبي فاعترف بالزنا ، فأعرض عنه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ، فقال النبي : ( أبك جنون ) ؟ قال : لا ، قال : ( أحصنت ) ؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم . . . رواه أبو داود والترمذي والنسائي . وظاهر هذا أن الحكم مرتب على الأربعة ، وقد جاء أصرح من هذا .
3138 فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء ماعز إلى النبي فاعترف بالزنا مرتين ، فطرده ، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين ، فقال : ( شهدت على نفسك أربع مرات ، فاذهبوا به فارجموه ) .
3139 وعن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال : كان ماعز بن مالك يتيماً في حجر أبي ، فأصاب جارية من الحي ، فقال له أبي : ائت رسول الله فأخبره بما صنعت ، لعله يستغفر لك ، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج ، فأتاه فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأقم عليّ كتاب الله ؛ حتى قالها أربع مرات ، قال : ( إنك قد قلتها أربع مرات فبمن ) ؟ قال : بفلانة . قال : ( هل ضاجعتها ) ؟ قال : نعم ، قال : ( هل باشرتها ) ؟ قال : نعم ، قال : ( هل جامعتها ) ؟ قال : نعم ، قال : فأمر به أن يرجم ، وذكر الحديث . . . رواهما أبو داود وهذا ظاهر وصريح في أن الأربع علة في ترتب الحكم عليها .
____________________
(3/108)
3140 وفي المسند أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال له بحضرة رسول الله : إنك إن اعترفت الرابعة رجمك ؛ وقوله النبي لأنيس : ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) ونحو ذلك واقعة عين ، إذ يحتمل أنه أحاله على ما عرفه من شرط الاعتراف ، وكذلك قول عمر رضي الله عنه : الرحيم حق على من أحصن ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ، يرجع إلى الاعتراف المعهود كالبينة ، وشرط اعتبار الإقرار أن يكون من مكلف ، وهو العاقل البالغ ، فلو أقر المجنون أو الصبي فلا عبرة بإقرارهما ، إذ لا حكم لكلامهما ، وقد رفع القلم عنهما .
3141 قال رسول الله : ( رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المعتوه حتى يبرأ ) رواه أبو داود .
3142 وفي الحديث أن رسول الله قال لماعز : ( أبك جنون ) ؟ قال : لا ، وفي رواية في الصحيح أنه سأل قومه : ( أتعلمون بعقله بأساً ، تنكرون منه شيئاً ) ؟ فقالوا : ما نعلمه إلا وفي العقل ، من صالحينا فيما نرى ، انتهى .
ومما في معنى المجنون من زال عقله بنوم ، أو إغماء ، أو شرب دواء ، أو سكر ، هذا ظاهر كلام الخرقي ، وأقرّه عليه أبو محمد ، وجزم بذلك . ومقتضى كلام أبي البركات جريان الخلاف فيه ، وفي بعض نسخ الخرقي : وهو صحيح بالغ عاقل ، وعلى ذلك شرح القاضي وأبو محمد ، وفسر القاضي ذلك بحقيقته ، وهو الصحة من المرض ، فلا يجب على مريض في حال مرضه ، وإن وجب عليه أقيم عليه بما يؤمن به تلفه ، وهذا فيه نظر ، فإن الحد إما أن يجب ويؤخر استيفاؤه إلى حين صحته ، أو يجب ويستوفى منه على حسب حاله ، فعلى كل حال ليس الصحة شرطاً للوجوب قاله أبو محمد ، ويحتمل أن يريد بالصحيح الذي يتصور منه الوطء ، فلو أقر بالزنا من لا يتصور منه الوطء كالمجبوب فلا حد عليه ، وهو كالذي قبله ، لأن هذا فهم من قوله : عاقل ، ( قلت ) : ويحتمل أن يريد بالصحيح الناطق فلا يقبل إقرار الأخرس ، لأنه إن لم تفهم إشارته فواضح ، وإن فهمت فهي محتملة ، وذلك شبهة تدرأ الحد ، وهذا احتمال لأبي محمد ، والذي قطع به القاضي الصحة ، ويحتمل أن يريد بالصحة الاختيار ، وأراد الصحة المعنوية فلا يصح إقرار المكره ، ولا نزاع في ذلك .
واعلم أنه يشترط في الإقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة .
3143 وفي قصة ماعز أن رسول الله قال له : ( أنكتها ) ؟ قال : نعم . قال رسول الله : ( حتى غاب ذلك منك في ذلك منها ) ؟ قال : نعم ، قال : ( كما يغيب
____________________
(3/109)
الميل في المكحلة والرشاء في البئر ) ؟ قال : نعم ، قال : ( هل تدري ما الزنا ) ؟ قال : نعم ، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً . . . رواه أبو داود .
3144 وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أتى ماعز النبي قال له : ( لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت ) ؟ قال : لا يا رسول الله ، قال : ( أنكتها ) ؟ قال : لا يكني ، قال : نعم ، فعند ذلك أمر برجمه ، انتهى . ولا يعتبر أن يكون في مجالس ، لأن أكثر الأحاديث ليس فيها تعريض لذلك ، ويعتبر في استقرار الإقرار دوامه ، أن لا ينزع عنه حتى يتم عليه الحد ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، انتهى .
وإن ثبت الزنا بالبينة اعتبر أن يكون أربعة ، وهذا إجماع في الجملة والحمد لله ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } ) . . . الآية ، وقوله سبحانه : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ) ، وقوله تعالى : 19 ( { لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ، فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } ) .
3146 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال رسول الله : أرأيت لو أني وجدت مع امرأتي رجلاً ، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء ؟ فقال رسول الله : ( نعم ) رواه مسلم ومالك في الموطأ اه .
ويعتبر في الأربعة شروط ( أحدها ) أن يكونوا رجالاً ، فلا يقبل فهم امرأة ، ولا خنثى مشكل بحال ، لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكرين ، فظاهره الاكتفاء بأربعة ، فلو أقمنا المرأتين مقام الرجل خرجنا عن ظاهر الآية لاشتراط خمسة . ( الثاني ) : أن يكونوا من المسلمين ، فلا تقبل شهادة أهل الذمة ، كما لا تقبل روايتهم ، ولا أخبارهم الدينية . وسواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي ، ولا عبرة برواية حنبل في قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض . ( الثالث ) أن يكونوا أحراراً ، فلا تقبل شهادة العبد ، للاختلاف في شهادته في سائر الحقوق ، وذلك يؤثر شبهة في عدم قبوله في الحد ، لاندرائه بالشبهة . ( وعن أحمد ) لا يشترط ذلك ، ولعله أظهر ، لدخوله في عامة النصوص . ( الرابع ) أن يكونوا عدولاً ، فلا تقبل شهادة فاسق ، كما لا يقبل خبره ، وكبقية الشهادات بطريق الأولى . وقد قال الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } ) الآية ، ولا مستور الحال ، وإن قبلناه في الأموال ، احتياطاً لهذا الباب وتضييقاً له . ( الخامس ) أن يصفوا الزنا فيقولوا : رأيناه غيّب ذكره أو حشفته
____________________
(3/110)
أو قدرها في فرجها ؛ لما تقدم عن ماعز ، وإذا اعتبر ذلك في الإقرار ففي البينة أولى .
3146 وعن جابر رضي الله عنه قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : ( ائتوني بأعلم رجل منكم ) فأتوه بابني صوريا فنشدهما : ( كيف تجدان أمر هذين في التوراة ) ؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما . قال : ( فما يمنعكم أن ترجموهما ) ؟ قالوا : ذهب سلطاننا فكرهنا القتل ؛ فدعا رسول الله بالشهود ، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحل ، فأمر رسول الله برجمهما . . . رواه أبو داود . وهل يعتبر مع ذلك أن يذكروا ( المكان ) لاحتمال الاختلاف ، فتكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر ، ( والمزني بها ) لاحتمال الاختلاف في إباحتها ، ولذلك قال النبي لماعز : ( فبمن ) ؟ وهو اختيار القاضي ، أو لا يعتبر ذلك ، كما لا يعتبر في الإقرار ، ولهذا لم يذكر المكان في قصة اليهود ، ولا المزني بها في أكثر الأحاديث ، وهذا اختيار ابن حامد ؟ على وجهين ، وأجراهما أبو البركات في الزمان والمكان ، وهو واضح ، وكلام أبي محمد يقتضي أنه لا يشترط ذكر الزمان بلا خلاف . ( السادس ) : أن يشهدوا كلهم في مجلس واحد ، ذكره الخرقي في غير هذا الموضع ، فقال : إن جاء الأربعة متفرقين ، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم ، قبلت شهادتهم ، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة ، وعليهم الحد .
3147 وذلك لما روي أن أبا بكر ونافعاً ، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر رضي الله عنه على المغيرة بن شعبة بالزنا ، ولم يشهد زياد ، فحد الثلاثة ، ولو لم يشترط المجلس لم يحدهم ، لجواز أن يكملوا أربعة في مجلس آخر ، وفيه نظر ، لأن قرينة حالهم تقتضي أنه لا رابع لهم إلا زياد ، ولا يشترط مجيئهم جملة ، بل شهادتهم في مجلس واحد ، وفي قصة المغيرة أن أبا بكرة رضي الله عنه قال لعمر رضي الله عنه : 16 ( أرأيت لو جاء آخر فشهد أكنت ترجمه ؟ قال عمر رضي الله عنه : إي والذي لا إله إلا هو ، والذي نفسي بيده ) ؛ والله أعلم .
قال : ولو رجم بإقراره ، فرجع قبل أن يقتل كف عنه ، وكذلك إن رجع بعد أن جلد ، وقبل كمال الحد خلي عنه .
3148 ش : لأن في الصحيح وفي السنن من رواية أبي هريرة ونعيم بن هزال وغيرهم أن ماعزاً رضي الله عنه لما وجد مسّ الحجارة فر ، وفي رواية : خرج يشتد ، فضرب حتى مات ، وذكر ذلك لرسول الله فقال : ( هلا تركتموه ) وفي هذا تحضيض على تركه ، وفي رواية : ( لعله أن يتوب فيتوب الله عليه ) ، وفي هذا دليل على تركه وقبول رجوعه .
____________________
(3/111)
3149 وفي حديث بريدة رضي الله عنه قال : كنا أصحاب رسول الله نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما ، وإنما رجمهما عند الرابعة . . . رواه أبو داود . ولأن ذلك شبهة ، والحد يدرأ بها ، ولأن الإقرار أحد بينتي الحد ، فسقط بالرجوع ، كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد .
إذا تقرر هذا فصفة الرجوع عن الإقرار أن يقول : كذبت في إقراري ، أو لم أفعل ما أقررت به ، ونحو ذلك ، فإذاً يجب الكف عنه ، ومتى قتل ضمن والحال هذه ، لزوال إقراره صريحاً فكأنه لم يقر وضمانه بالدية فقط ، للاختلاف في صحة رجوعه ، وذلك شبهة دارئه للقصاص ، ولو هرب ، أو قال : ردوني إلى الإمام ونحو ذلك ترك أيضاً ، لكن متى قتل والحال هذه فلا ضمان على قاتله ، لأن ذلك ليس بصريح في رجوعه ، ولذلك والله أعلم لم يضمن النبي ماعزاً من قتله . وقول الخرقي : ولو رجم بإقراره ، فيه أشعاره بأنه لو رجم بالبينة ثم رجع أو هرب لم يسمع منه ، وهو كذلك بالإجماع فيما أظن ، والله أعلم .
قال : ومن زنا مراراً ولم يحد فحد واحد .
ش : حكى ذلك ابن المنذر عمن يحفظ عنه من أهل العلم ، في مسألتي المنطوق والمفهوم ، ولأن قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ) يشمل من زنى مرة ، ومن زنى مراراً ، وقول النبي في الأمة : ( إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ) ، يقتضي أن من زنا بعد أن حد يحد ثانياً .
قال : وإذا تحاكم إلينا أهل الذمة حكمنا عليهم بما حكم الله عزّ وجلّ علينا به .
ش : أما الحكم عليهم بما حكم الله علينا به فلا ريب فيه ، قال الله تعالى : 19 ( { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } )9 ( { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } ) ، وقال تعالى : 19 ( { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } )9 ( { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } )9 ( { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ) . وهل الحكم بينهم ( على طريق الوجوب ) ، ويحتمله كلام الخرقي ، للآية الأولى ، ( أو على طريقة التخيير ) وهو المشهور ، للآية الثانية ، إذ صدرها : 19 ( { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } ) وكالمستأمنين ، ( أو إن اتحدت ملتهم خير ) لأن الآية وردت في اليهود ، وملتهم واحدة ، وإن اختلفت وجب ، كما لو تحاكموا مع مسلم ، ( أو يخير للآية ) إلا أن يتظالموا في حقوق الآدميين ، فيجب دفعاً للظلم الواجب دفعة على كل أحد ، لا سيما على الحكام المنتصبين لذلك ، وهو مختار أبي البركات ؟ على أربع روايات ، وهل
____________________
(3/112)
يحكم آن ويعدى آن خبرناه بطلب أحدهما ، أو لا بد من اتفاقهما كالمستأمنين ؟ على روايتين ، والله أعلم .
قال : وإذا قذف بالغ عاقل حراً مسلماً أو حرة مسلمة بالزنا ، جلد الحد ثمانين جلدة إن طالب المقذوف ، ولم تكن للقاذف بينة .
ش : القذف محرم بالإجماع ، للأذى الحاصل به المأمور بانتفائه شرعاً ، وقد نصّ الله تعالى ورسوله على القذف بالزنا ، لتأكد تحريمه ، قال سبحانه : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، فاجلدوهم ثمانين جلدة ، ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ، وأولئك هم الفاسقون } ) . . . وقال تعالى ؛ 19 ( { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، لعنوا في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم } ) .
3150 وقال النبي : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قالوا : وما هن يا رسول الله ؟ قال : ( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) متفق عليه .
ويجب الحد بالقذف بالزنا بالإجماع ، للآية الكريمة ، ووجوبه بشروط أربعة ، اثنان منها في القاذف ، واثنان في المقذوف ، فأما اللذان في القاذف ( فأحدهما ) أن يكون مكلفاً ، وهو العاقل البالغ ، إذ غيرهما لا يتعلق به حكم خطابي ، لرفع القلم عنه فلا حد على مجنون ، ولا مبرسم ، ولا نائم ، ولا سكران ، على ظاهر كلامه ، وعموم كلام غيره يقتضي أنه على الروايتين ، ولا على صبي ( الثاني ) أن لا يكون له بينة بما قاله على المقذوف ؛ لقوله تعالى : 19 ( { والذين يرمون المحصنات ، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ، فاجلدوهم ثمانين جلدة } ) الآية ، شرط سبحانه للجلد عدم البينة ، وفي معنى البينة الإقرار من المقذوف ، فإن كان القاذف زوجاً اشتُرِط شرط ثالث ، وهو عدم لعانه ، فإن لاعن فلا حدّ عليه ، لقوله سبحانه : 19 ( { والذين يرمون أزواجهم ، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } ) الآية .
وأما الاثنان اللذان في المقذوف ( فأحدهما ) أن يكون محصناً ، والمحصن هنا فسره الأصحاب بالحر المسلم العاقل ، العفيف عن الزنا ، الذي يجامع مثله ، وفي اشتراط سلامته من وطء الشبهة وجهان ، وكذلك في اشتراط بلوغه روايتان ، وهذا قد يؤخذ من كلام الخرقي مفرقاً ، فالحرية والإسلام نص عليهما هنا ، والعفة عن الزنا تؤخذ من الشرط الثاني في القاذف . وكونه يجامع مثله يذكره بعد ، واقتصاره على ذلك يفهم منه أنه لا يشترط البلوغ ، والعقل يؤخذ من نفيه الحد عن قاذف الطفل ، والسلامة من وطء الشبهة لا يشترطها ، وبيان ذلك أما الحرية والإسلام ، فلأن العبد والكافر حرمتهما ناقصة ، فلا ينتهض لإيجاب الحد ، والآية الكريمة وردت في الحرة المسلمة ،
____________________
(3/113)
وغيرهما ليس في معناهما ، وأما العقل فلأن غير العاقل لا يعير بالزنا ، لعدم تكليفه ، والحد إنما وجب دفعاً للعار عن المقذوف ، وأما العفة عن الزنا فلأن غير العفيف لا يشينه القذف ، والحد إنما وجب من أجل ذلك ، وقد أسقط الله تعالى الحد عن القاذف إذا كانت له بينة بما قال ، وأما كونه مثله يجامع فلأن غير ذلك لا يعير بالقذف ، لتحقق كذب القاذف ، والقذف إنما وجب لذلك ، وأقل من يجامع مثله أن يكون له عشر سنين إن كان ذكراً ، أو تسع سنين إن كان أنثى ، كذا ذكر أبو محمد تبعاً لظاهر كلام الخرقي .
وأما اشتراط البلوغ على رواية قيل إنها مخرجة ، وليست بمنصوصة . فلأن غير البالغ غير مكلف أشبه المجنون ، وأما عدم اشتراطه على أخرى وهو مقتضى كلام الخرقي ، وقطع بها القاضي والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم ، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة فلأن ابن عشر سنين ونحوه يلحقه الشين بإضافة الزنا إليه . ويعير بذلك ، ولهذا جعل عيباً في الرقيق ، وأشبه البالغ . وأما اشتراط السلامة من وطء الشبهة وعدمه ، فلعل مبنى ذلك على أن وطء الشبهة هل يوصف بالتحريم أم لا ، وقد تقدم عن القاضي أنه وصفه بالتحريم ، وأن ظاهر كلام الخرقي وجماعة عدم وصفه بذلك ، وكذلك ظاهر كلام جماعة هنا أنه لا يشترط السلامة من ذلك .
( تنبيه ) : ظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط العدالة ، بل لو كان المقذوف فاسقاً لشرب خمر ونحوه أو لبدعة ، ولم يعرف بالزنا ، فإن الحد يجب بقذفه ، وقال الشيرازي : لا يجب الحد بقذف مبتدع ولا مبتدعة .
( الشرط الثاني ) في المقذوف مطالبته بالقذف ، لأنه حق له ، فلا يستوفى بدون طلبه كبقية حقوقه . وهذا سواء قلنا : إنه للقاذف محض حق له ، كما هو المنصوص ، والمختار للأصحاب ، أو قلنا : هو حق الله تعالى ، وليست بالبينة ، لأنه أذى للآدمي فيه حق ، قطعاً للأذى الحاصل له ، مع أن مقتضى كلام أبي البركات نفي الخلاف رأساً ، والقطع بأنه حق للآدمي ، وهو الصواب ، وبيان ذلك له محل آخر ، وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد ، فلو طالب ثم عفى عن الحد سقط ، على المذهب وعلى الرواية المحكية بأنه حق لله تعالى لا يسقط بالعفو .
( تنبيهان ) : أحدهما إذا وجب الحد بقذف من لم يبلغ لم يقم حتى يبلغ ويطالب ، لعدم اعتبار كلامه قبل البلوغ ، وليس لوليه المطالبة ، حذاراً من فوات التشفي ، ولو قذف غائباً اعتبر قدومه وطلبه ، إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته ، فيقام على المذهب ، وقيل : لا ، لاحتمال عفوه ، ولو قذف عاقلاً فجن أو أغمي عليه قبل الطلب ، لم يقم حتى يفيق ويطالب ، فإن كان قد طالب ثم جن أو أغمي عليه جازت إقامته . ( الثاني ) : يستثنى مما تقدم الوالد لا يحد بقذف ولده ، والله أعلم .
قال : وإن كان القاذف عبداً أو أمة جلد أربعين ، بدون السوط الذي يجلد به الحر .
____________________
(3/114)
ش : الإجماع على وجوب الحد على العبد بقذف المحصن ، لشمول الآية الكريمة له ، ثم مقدار الحد إن كان القاذف حراً ثمانون للآية الكريمة ، وإن كان القاذف عبداً فأربعون ، جعلا له على النصف من الحر ، لأن ذلك مما يتبعض .
3151 وقد قال أبو الزناد : 16 ( جلد عمر بن عبد العزيز عبداً في فرية ثمانين ، قال أبو الزناد : فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك ، فقال : أدركت عمر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، والخلفاء هلم جرا ، فما رأيت أحداً جلد عبداً في فرية أكثر من أربعين ) . . . رواه مالك في الموطأ .
3152 وقال سعيد : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، قال : حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبداً في فرية ثمانين ، فأنكر ذلك من حضره من الناس والفقهاء ، وهذا كنقل الإجماع من الصحابة ، والإنكار على من خالفهم ، وهو يخص عموم الآية ، وإن كان القاذف نصفه حراً فبحساب ذلك ، على ظاهر كلام أحمد ، لأن ذلك مما يتبعض ، وقيل : هو كالعبد ، لأن الإجماع إنما انعقد على الثمانين في الحر ، فيبقى فيما عداه على أصل براءة الذمة ، ولو قيل بالعكس لاتجه ، لشمول الآية الكريمة للجميع ، خرج منه العبد لأقوال الصحابة ، فما عداه على العموم .
واشترط الخرقي أن يكون جلد العبد بسوط دون الذي يجلد به الحر ، تخفيفاً للصفة كما خفف في القدر ، ولأبي محمد احتمال بتساويهما ، وهو ظاهر كلام جماعة من الأصحاب ، لأنه على النصف ، ولا يتحقق التنصيف إلا مع المساواة .
قال : وإذا قال له : يا لوطي ، سئل عما أراد ، فإذا قال : أردت أنك من قوم لوط ، فلا شيء عليه ، وإن قال : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط ، فهو كمن قذف بالزنا .
ش : إذا قال له : يا لوطي ، فعند الخرقي وهو إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه أن هذا ليس بصريح في القذف ، لاحتماله له ولغيره ، إذ يحتمل أنه منهم أي ينسب إليهم . وإذا احتمل واحتمل ، والحد يدرأ بالشبهة ، مع أن الأصل براءة الذمة ، لم يحكم بأنه صريح ، وعند ذلك يسأل عما أراد ، فإن فسره بما لا يوجب الحد ، كما إذا قال : أردت أنك من قوم لوط ، أي تنسب إليهم ، فلا حد عليه ، لأنه فسر كلامه بما يحتمله مما لا يوجب حداً ، وإن فسره بما يوجب الحد ، كما إذا قال : أردت أنك تأتي الذكران . وجب الحد عندنا بلا ريب ، لوجوب حد الزنا على فاعل ذلك كما تقدم ، وهذا هو الضابط ، وهو أن كل ما وجب حد الزنا بفعله ، وجب الحد بالقذف به ، وما لا فلا ، ومن ثم خرج الخلاف إذا قذفه بإتيان بهيمة ، انتهى . وكذلك إن فسره بما يشمل الوطء وغيره ، كقوله : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط ؛ لأن من أشهر أعمالهم إتيان الذكران .
____________________
(3/115)
( وعن أحمد ) لا يقبل تفسيره في حال الغضب ، لأن القرينة تكذبه ، والمنصوص عن أحمد في رواية الجماعة وعليه عامة الأصحاب أن ذلك صريح في القذف ، فلا يقبل قوله بما يحيله ، لأن هذا اللفظ إذا أطلق لا يكاد يفهم منه إلا إتيان الذكران ، وإرادة الانتساب إلى قوم لوط بعيدة جداً ؛ إذ الظاهر أو القطع بأنهم لم يبق منهم أحد ، والاحتمال البعيد وجوده كعدمه ، ومن ثم بعد الشيخان قول الخرقي ، فعلى هذا إذا قال : أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الذكران ، فهل يقبل منه ، نظراً إلى أنه من باب إطلاق العام ، وإرادة الخاص ، وهو سائغ كثيراً ، أو لا يقبل ، لمخالفته الظاهر ؟ فيه وجهان . أما على قول الخرقي فيقبل منه بطريق الأولى ، لأنه إذا قبل منه صرف اللفظ عن مقتضاه عرفاً ، فلأن يقبل منه إطلاق العام وإرادة الخاص أولى ، هذا هو التحقيق ، تبعاً لأبي البركات ، وأبو محمد في مغنيه يبني الوجهين على روايتي الصراحة وعدمها ، فإن قلنا صريح لم يقبل وإلا قبل ، والله أعلم .
قال : وكذلك من قال يا معفوج .
ش : هذا التشبيه ( يحتمل ) أن يرجع إلى أصل المسألة السابقة ، فعلى هذا إن فسره بما لا يوجب الحد ، كما إذا قال : أردت أنك معفوج دون الفرج ونحوه ، قبل منه عند الخرقي ، ولم يقبل منه عند غيره ، وعلى هذا جرى الشيخان . ( ويحتمل ) أن يرجع إلى قوله : فهو كمن قذف بالزنا ، فيجب الحد ، ولا يقبل التفسير . ولعله أظهر ، إذ المعفوج مفعول من عفج بمعنى نكح ، فهو بمعنى منكوح أي موطوء .
( تنبيه ) : قد أخذ من كلام الخرقي في هذه المسألة ، وفي التي قبلها أن الحد لا يجب إلا بلفظ صريح ، كقوله : يا زاني ، أو يأتي باللفظ الحقيقي في الجماع ، أما الألفاظ المحتملة كقوله لامرأة : يا قحبة ، أو لرجل : يا مخنث ، أو يقول لعربي : يا نبطي ، يا فارسي ، أو يعرض بالزنا ، كأن يقول لمن يخاصمه : ما أنت بزان ، ما يعرفك الناس بالزنا ، يا حلال ابن الحلال ، ونحو ذلك ، فلا يجب به الحد ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، وأبي محمد . ( والثانية ) : يجب الحد بجميع ذلك في الجملة ، وهي اختيار القاضي ، وكثير من أصحابه في التعريض ، وتحقيق الروايتين وتوجيههما له محل آخر ، والله أعلم .
قال : ولو قذف رجل فلم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف ، لم يزل الحد عن القاذف .
ش : نظراً إلى أن شرط وجوب الحد وهو الإحصان قد وجد ، فلا عبرة بما يطرأ بعده ، وصار هذا كما لو سرق عيناً ثم ملكها ، ونحو ذلك ، وفي قوله : فلم يقم عليه الحد حتى زنى إشعار بأنه لو ثبت أنه كان زنى قبل القذف أن الحد يزول عن القاذف ، وهو كذلك ، لتبين زوال شرط الوجوب ، والله أعلم .
قال : ومن قذف عبداً أو مشركاً ، أو مسلماً له دون العشر سنين أو مسلمة لها
____________________
(3/116)
دون تسع سنين أدب ولم يحد .
ش : قد تقدم أن من شرط وجوب الحد إسلام المقذوف ، وحريته ، وكونه يجامع مثله ، أو بالغ على ما تقدم ، مع العقل ، والعفة عن الزنا ، والسلامة من وطء الشبهة على وجيه ، فمتى عدم واحد من هذه انتفى الوجوب ، وإذاً يؤدب زجراً عن عرض المعصوم ، وكفاً له عن أذاه . ( وعن أحمد ) لا يؤدب لقذف كافر ، والأول المذهب بلا ريب ، ولا عبرة بإيراد ابن حمدان في الكبرى المذهب الثاني ، جعل الأول قويلاً ، ( وعن أحمد ) في أم الولد إذا كان لها ولد يحد قاذفها ، وبه قطع الشيرازي ، وقيل : يحد العبد بقذف العبد ، ولا عمل على ذلك .
( تنبيه ) : لا يحد والد لقذف ولده ، نص عليه في رواية ابن منصور وأبي طالب ، وهل يؤدب ؟ لفظه في رواية ابن منصور : لا يحد ، فيحتمل أنه يؤدب ، ولفظه في رواية أبي طالب : ليس عليه شيء ، لا يؤخذ لابن من أبيه حد ، فيحتمل أنه لا يؤدب ، وهو أظهر ، وهل حكم الأم حكم الأب ؟ فيه وجهان ، أصحهما وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي ، وابن البنا أن حكمهما حكمه ، وحكم الجد والجد ، وإن علوا حكم الأب ، قاله ابن البنا والله أعلم .
قال : ومن قذف من كان مشركاً ، وقال : أردت أنه زنى وهو مشرك . لم يلتفت إلى قوله ، وحد إذا طالب المقذوف .
ش : نظراً إلى الحالة الراهنة ، وهو إذاً مسلم ، فيدخل في الآية الكريمة ، ولو كان قال : زنيت وأنت مشرك ، فهل يحد أو لا يحد ؟ على روايتين ، أصحهما وأنصهما الثاني ، وعليها إذا قال : أردت قذفي في الحال ، فأنكره ، فهل يحد . وهو اختيار القاضي ، أو لا يحد ، وهو اختيار أبي الخطاب ؟ فيه وجهان ، وأبو محمد يحكي الروايتين فيما إذا قال : زنيت في شركك ، ولعل مدرك ذلك أنه وصل قوله بما يبطله ، ومدرك الأول أن الواو هل هي للحال أو عاطفه ؟ وقوله : إذا طالب المقذوف ، زيادة إيضاح ، وإلا لا بد من شروط الوجوب في كل موضع ، والله أعلم .
قال : وكذلك من كان عبداً .
ش : أي إذا قذفه بعد أن أعتق وقال : أردت أنه زنى وهو عبد . لم يلتفت إلى قوله ، كالمسألة السابقة ، لأنهما متساويان معنى ، فتساويا حكماً ، والله أعلم .
قال : ويحد من قذف الملاعنة .
ش : لأن لعانها لم يثبت زناها ، فإحصانها باق .
3153 وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي قضى في الملاعنة أن لا ترمى ، ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، رواه أبو داود ، والله أعلم .
____________________
(3/117)
قال : وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إن كانت الأم في حال الحياة .
ش : لأن الحق لها ، فلا يطالب به غيرها ، ولا فرق بين أن يتعذر الطلب منها لجنونها ونحو ذلك ، أو لا يتعذر ، لما فيه من فوات التشفي المقصود قطعاً .
وقول الخرقي : إذا كانت الأم في حال الحياة ، مفهومه أن للولد المطالبة إذا ماتت الأم ، وهذا بشرط أن تطالب الأم على المذهب المنصوص ، وعلى تخريج لا يشترط الطلب ، واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال ، وإلا جامع المسألة بأن الحي ليس لوارثه المطالبة بموجب قذفه في حياته ، وله ذلك بعد مماته بشرطه ، ثم من يرثه هل هم جميع الورثة ، وهو ظاهر كلام أبي محمد ، وبه قطع القاضي في خلافه فيما أظن ، ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور ، أو يختص به من سوى الزوجين ، وهو قول القاضي في موضع آخر ، أو تختص به العصبة ؟ على ثلاثة أقوال ، والله أعلم .
قال : وإذا قذفت أمه وهي ميتة ، مسلمة كانت أو كافرة ، حرة أو أمة ، حد القاذف إذا طالب الابن وكان حراً مسلماً .
ش : دفعاً للحقوق العار بالابن ، فإنه والحال هذه يلحقه العار ، بخلاف ما إذا كانت الأم في الحياة ، فإن معظم العار لاحق بها ، وقول الخرقي : وهي ميتة ، مسلمة كانت أو كافرة ، حرة أو أمة ، إذا طالب الابن ، وكان حراً مسلماً . تنبيه على أن شرط الوجوب من الإحصان والمطالبة إنما يشترطان في الولد نظراً إلى أن القذف في الحقيقة كأنه له ، لا في الأم .
( تنبيه ) : جعل أبو البركات ذكر الخرقي الأم هنا على سبيل المثال ، فقال : إن حد قذف الميت يثبت لجميع الورثة حتى الزوجين . نص عليه ، وقال في موضع : يختص به من سواهما ، وقيل تختص به العصبة ، وأبو محمد عدى ذلك إلى الأمهات بطريق القياس ، معللاً بالقدح في النسب كالمسألة قبل ، وحكى فيمن يرث قذف الميت الأقوال الثلاثة في القذف الموروث ، والقاضي في الجامع الصغير قطع بأن الوارث هنا جميع الورثة ، وأبو محمد والشيرازي وابن البنا اقتصروا على الأم ، معلّلين بالقدح في النسب ، واقتصر على ذلك . ولا خلاف عنده أنه لو كان المقذوف جده أو أخاه ونحوهما من الأقارب عدا الأمهات أن الحد لا يجب ، لانتفاء القدح في النسب والأقوال التي ذكرها أبو البركات جارية عنده في القذف الموروث ، والمنصوص والله أعلم إنما هو فيه ، فإن القاضي في تعليقه جزم فيه بأنه لجميع الورثة ، معتمداً على قول أحمد في رواية ابن منصور في رجل قذف يهودية أو نصرانية ، ولها ولد مسلم ، أو زوج مسلم ، يقام عليه الحد . قال : فقد جعل للزوج حقاً فيه اه . وأبو محمد يوافق في هذه الصورة أنه لجميع الورثة على ظاهر كلامه ، والله أعلم .
____________________
(3/118)
قال : ومن قذف أم النبي قتل ، مسلماً كان أو كافراً .
ش : لأن ذلك قدح في نسب النبي وتعريض لسبّه وتنقيصه ، وذلك موجب للقتل لما تقدم ، وقوله : قتل . ظاهره ولا يستتاب ، وهو إحدى الروايتين ، وهو المذهب ، وقد تقدم ذلك ، وكذلك الروايتان فيما إذا أسلم الكافر هل يسقط عنه القتل أم لا ، والخلاف في سقوط القتل ، أما توبته فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة بلا ريب ، والله أعلم .
قال : ومن قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوه ، أو واحد منهم .
ش : هذا هو المشهور من الروايات ، نظراً إلى أن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه ، وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف في قوله ، ولأن الذين شهدوا على المغيرة رضي الله عنه تضمن قولهم قذف امرأة ، ولم يحدهم عمر رضي الله عنه إلا حداً واحداً ؛ ( وعن أحمد ) : لكل واحد حد ، نظراً إلى أن كل واحد مقذوف ، والبراءة من المقذوف بحد كامل ، ( والرواية الثالثة ) إن طلبوا جملة فحد واحد وإلا فحدود ، لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع الحد للجميع ، بخلاف ما إذا تفرقوا ، فإن طلب أحدهم لا يكون طلباً من الآخر ، ولا مسقطاً لحقه وعلى المذهب الحق واجب لهم على سبيل البدل ، فأيّهم طلب به استوفى ، ولم يكن لغيره الطلب ، وإن أسقط أحدهم فلغيره طلبه واستيفائه ، لأن المعرة عنه لم تزل .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قذف الجماعة بكلمات أن لكل واحد حداً ، وهو المذهب المشهور من الروايتين ، لأن ظهور كذبه في أحد اللفظين لا يدلّ على كذبه في اللفظ الآخر ، وبهذا فارق ما إذا كان بكلمة واحدة ، ولأنها حقوق لآدميين ، فلم تتداخل كالديون ، ( والرواية الثانية ) إن طلبوا جملة فحد واحد ، لوقوع الحد إذاً لهم كالأيمان ، وإلا فحدود والله أعلم .
قال : ومن أتى حداً خارج الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم لم يبايع ولم يشار حتى يخرج من الحرم ، فيقام عليه الحد .
ش : من حل دمه بقصاص أو ردة ، أو غير ذلك ، أو وجب عليه حد لسرقة ، أو شرب خمرة ونحوه ، ثم لجأ إلى الحرم ، فإنه لا يقام عليه ذلك فيه ، ولكن لا يبايع ، ولا يشارى ، ولا يطعم ولا يسقى ، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه ؛ هذا هو المشهور من الروايتين عن الإمام أحمد ، والمختار لأصحابه ، لقول الله تعالى : 19 ( { ومن دخله كان آمناً } ) أي الحرم ، وهو خبر بمعنى الأمر ، أي آمنوا من دخل الحرم ، أو خبر عما استقرّ في حكم الشرع .
3154 ولقول النبي : ( إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد
____________________
(3/119)
ترخص بقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها كحرمتها بالأمس ، فليبلغ الشاهد الغائب ) متفق عليه . وفي لفظ : ( وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، ثم عادت إلى حرمتها ، فلا يسفك فيها دم ) والحجة فيه من وجهين ( أحدهما ) أنه حرّم سفك الدم بها وأطلق ، وتخصيص مكة بذلك يدل على أن الدم الحلال مراد ، وهو المراد ، إذ سفك الدم الحرام لا يختص بمكة ، مع أن اللفظ الآخر نكرة في سياق النفي ، فيعم كل دم . ( الثاني ) قوله : وإنما حلت لي ساعة من نهار ، والذي أحل له سفك دم حلال ، منع منه الحرم وأحل له ، ثم عادت الحرمة ، وبهذا تتقيد إطلاقات قطع السارق ، وجلد الزاني ، ونحو ذلك ، وما وقع في الحديث من قوله : إن الحرم لا يعيذ عاصياً ، ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة ، هو من قول عمرو بن سعيد الأشدق ، يدفع به الحديث المتقدم ، وقوله هو المدفوع . ( والرواية الثانية ) يجوز استيفاء كل شيء ما عدا القتل ، لأن الحديث إنما صرح فيه بسفك الدم ، وغير النفس لا يقاس عليها ، لعظم النفس ، والمذهب الأول ، وعليه لا يبايع ولا يشارى ، ولا يطعم ولا يؤوى ، ويقال له : اتق الله واخرج ، ليؤخذ منك الحق الذي عليك ، ليكون ذلك وسيلة إلى استيفاء ما عليه ، إذ لا يجوز تركه بالكلية .
3155 وتبعاً لابن عباس رضي الله عنهما فإنه قال ذلك ، رواه عنه الأثرم ، إذا تقرر هذا فالخرقي رحمه الله إنما نصّ على الحد لأنه إذا منع في الحد ، فالقتل ، وقطع الطريق بطريق الأولى ، أو يقال : كلها حدود ، لأن الله تعالى حدها وشرعها .
( تنبيه ) : إذا استوفي منه في الحرم وقع الموقع مع الإساءة .
قال : وإن قتل أو أتى حداً في الحرم ، أقيم عليه الحد في الحرم .
ش : لأنه لما انتهك حرمة الحرم انتهكت حرمته ، وقد قال الله تعالى : 19 ( { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ، فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ) إلى قوله : 19 ( { الشهر الحرام بالشهر الحرام ، والحرمات قصاص ، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) . وعن ابن عباس رضي الله عنهما من أحدث حدثاً في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء ، رواه الأثرم .
( تنبيه ) : التعريف في الحرم لمعهود ذهني ، وهو حرم مكة ، أما حرم مدينة النبي فلا يمنع من إقامة حد ولا قصاص فيه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(3/120)
( كتاب القطع في السرقة )
ش : وهو مشروع بشهادة النص والإجماع ، قال الله تعالى : 19 ( { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، جزاء بما كسبا ، نكالاً من الله والله عزيز حكيم } ) .
3157 وقال النبي : ( تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً ) والله أعلم .
قال : وإذا سرق ربع دينار من العين ، أو ثلاثة دراهم من الورق ، أو قيمة ثلاثة دراهم طعاماً كان أو غيره ، وأخرجه من الحرز قطع .
ش : لا نزاع عندنا أن القطع لا يكون إلا في نصاب ، فلا قطع في القليل .
3158 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً ) وفي رواية قالت : كان رسول الله يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً متفق عليهما . . . وفي رواية قال : ( اقطعوا في ربع الدينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك ) ، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثنا عشر درهماً . رواه أحمد ، وهذا يقيد إطلاق الآية الكريمة .
3159 ويصرف قول النبي في الصحيح : ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده ) عن ظاهره ، أن المراد بذلك ما يساوي ثلاثة دراهم .
3160 ففي الحديث قال الأعمش : 16 ( كانوا يرون أنه بيض الحديد ، وأن من الحبال ما يساوي دراهم ) . وهذا نقل للإجماع ، أو قول قريب منه ، أو أن المراد البيضة والحبل على ظاهرهما ، وأن ذلك وسيلة إلى القطع ، لأنه إذا سرق التافه تدرج إلى ما هو أعلى منه ، إلى أن يسرق نصاباً فيقطع .
واختلف عن إمامنا رحمه الله في قدر النصاب ، ولا نزاع عندنا أن الفضة أصل في القطع وفي التقويم ، وأن أقل نصابها ثلاثة دراهم .
3161 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قطع يد
____________________
(3/121)
السارق في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم . وفي رواية : ثمنة ثلاثة دراهم . رواه الجماعة . والأصل عدم القطع فيما دون ذلك ، إذ قد علم أن إطلاق الآية الكريمة ليس بمراد .
3162 وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : 16 ( إن سارقاً سرق في زمن عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تقوم ، فقومت بثلاثة دراهم ، من صرف اثني عشر درهماً بدينار ، فقطع عثمان يده ) . . . رواه مالك في الموطأ ، وهذا ظاهر في أن التقويم حصل بهما . واختلف عن أحمد في المذهب هل هو أصل في القطع بنفسه ( فعنه ) نعم ، وهو المذهب ، لحديث عائشة المتقدم . ( وعنه ) لا ، ولعل ذلك يحتج له برواية أحمد في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم : وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، فعلى هذه يقوم بالدراهم ، فما يساوي منه ثلاثة دراهم قطع به ، وإن لم يبل ربع الدينار ، [ وما لو يساو ثلاثة دراهم لم يقطع به ، وإن بلغ ربع دينار ] ، ( وعلى المذهب ) أقله ربع دينار ، فلو كان دونه وساوى ثلاثة دراهم لم يقطع ، لعموم حديث عائشة رضي الله عنها : ( لا قطع إلا في ربع دينار ) ، ثم على هذا هل هو أصل في التقويم ، وهو اختيار ابن عقيل في تذكرته ، وأبي محمد في كافيه ، لأنه أحد النقدين ، فكان التقويم به كالأجزاء ، وأن ما كان أصلاً في القطع ، كان أصلاً في التقويم كالأجزاء ، أو ليس بأصل في التقويم ، وإنما الأصل الدراهم ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أكثر الأصحاب ، القاضي والشيرازي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا ؛ لأن التقويم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما حصل بها ، وكذلك عثمان رضي الله عنه قوم بها ؟ على روايتين ، فعلى الأولى متى بلغت قيمة المسروق أدنى النصابين قطع . وعلى الثانية الاعتبار بالدراهم فقط ، وسواء كان المسروق طعاماً أو غيره ، بعد أن يكون مالاً ، لما تقدم عن عثمان رضي الله عنه ولما سيأتي إن شاء الله تعالى في حديث الثمر . وإنما يجب القطع إذا أخرج ذلك من حرز مثله .
3163 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، قال : سئل رسول الله عن الثمر المعلق ، فقال : ( من أصاب منه بفيه من ذي حاجة ، غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ) رواه الترمذي والنسائي ، وأبو داود وزاد : ( ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة ، ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع ، ومن سرق دون ذلك فعليه القطع ، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة ) ، وللنسائي في رواية قال : سئل رسول الله : في كم تقطع اليد ؟ قال : ( لا تقطع في تمر معلق ، فإذا ضمّه الجرين قطعت في ثمن المجن ، ولا تقطع في
____________________
(3/122)
حريسة الجبل ، فإذا ضمها المراح قطعت ) .
3164 وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي ، أن رسول الله قال : ( لا قطع في تمر معلق ، ولا في حريسة جبل ، فإذا آواه المراح أو الجرين ، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ) رواه مالك في الموطأ ، فنفى القطع في التمر المعلق ، وفي حريسة الجبل ، لعدم الحرز فيهما ، وأوجب القطع فيما ضمه الجرين أو المراح ، لوجود الحرز فيهما ، والأحراز تختلف باختلاف الأموال ، وبيان ذلك له محل آخر .
هذا بيان كلام الخرقي مجملاً ، أما بيانه مفصلاً فقوله : وإذا سرق ، يخرج منه المنتهب والمختلس ، والغاصب والخائن ، فلا قطع على واحد منهم .
3165 لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي قال : ( ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع ) راه الخمسة وصححه الترمذي ، ولأن الله ورسوله إنما أوجب القطع على السارق ، وهؤلاء ليسوا بسارقين ، ويخرج منه أيضاً جاحد العارية ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار ابن شاقلا ، وأبي الخطاب في الهداية ، وأبي محمد ، لما تقدم من أن الشارع إنما أوجب القطع على السارق ، وجاحد العارية ليس بسارق ، ولدخوله في الخائن ، وقد أسقط عنه الشارع القطع . ( والرواية الثانية ) وهي أشهرهما ، وبها قطع القاضي في جامعه ، وأبو الخطاب والشريف في خلافيهما ، وابن البنا وغيرهم ، يقطع .
3166 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كانت مخزومية تستعير المتاع
____________________
(3/123)
وتجحده ، فأمر النبي بقطع يدها ، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه ، فكلم النبي فيها ، فقال له النبي : ( يا أسامة ألا أراك تشفع في حد من حدود الله عزّ وجلّ ) ، ثم قام النبي خطيباً فقال : ( إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه ، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ) رواه مسلم وغيره . وفي رواية قالت : استعارت امرأة تعني حلياً على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي ، فباعته ، فأخذت ، فأتي بها النبي فأمر بقطع يدها ، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد ، وقال فيها النبي ما قال . . . رواه أبو داود والنسائي .
3167 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده ، فأمر النبي بها فقطعت يدها . . . رواه أبو داود والنسائي وقال فيه : كانت تستعير متاعاً على ألسنة جاراتها وتجحده ، وفي رواية : كانت تستعير الحلي للناس وتمسكه ، فقال رسول الله : ( لتتب هذه إلى الله ورسوله ، وترد ما تأخذ على القوم ) ثم قال : ( قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها ) ، وهذه الألفاظ منها ما هو ظاهر ، ومنها ما هو صريح في أن القطع كان لجحد العارية ، وتسميتها سارقة في الصحيح . دليل على أن جاحد العارية يسمى سارقاً ، والاعتبار بالتسمية الشرعية اه .
ويخرج من كلامه أيضاً الطرار ، وهو الذي يبط الجيب أو غيره ، ويأخذ منه ، وهذا أيضاً إحدى الروايتين . ( والثانية ) يقطع ، وإليها ميل أبي محمد ، وبني القاضي في روايتيه الخلاف على أن الجيب والكم هل هما حرز مطلقاً ، أو بشرط أن يقبض على كمه ، ويزر جيبه ، ونحو ذلك . وقوله : ربع دينار من العين ، أو ثلاثة دراهم من الورق . ظاهره أن يكون ذلك خالصاً من الغش ، أما إن كان فيه غش ، فلا قطع حتى يبلغ ما فيه نصاباً ، وهل يكفي وزن التبر منهما ، أو تعتبر قيمته بالمضروب ؟ فيه وجهان ، المذهب منهما الأول ، وقوله : أو قيمة ثلاثة دراهم ، قد تقدم أن من مذهب الخرقي أن الذهب أصل في القطع ، وليس بأصل في التقويم ، ثم إن أبا محمد قال : إذا قومنا بذلك قومنا بالمضروب ، لأن الإطلاق إنما ينصرف إليها دون المكسرة . وقوله : طعاماً كان أو غيره . قد تقدم أنه يشترط أن يكون مالاً ، ليخرج الحر ، ولا نزاع في ذلك في غير النائم والمجنون ، أما فيهما فروايتان ، ويدخل في ذلك العبد ، بشرط أن يكون صغيراً أو نائماً ، أو مجنوناً ، أو أعجمياً لا يميز بين سيده وبين غيره .
وقد استثني من ذلك ما لا يتموّل عادة كالماء ونحوه ، والمحرم كالصليب ونحوه ، والتابع لغيره كإناء الخمر ونحوه ، على خلاف في الجميع ، واستقصاء ذلك له محل آخر . وقوله : وأخرجه من الحرز ، مفهومه أنه لو أتلفه في الحرز ، أو أكله أنه لا قطع عليه ، وهو كذلك ، نعم لو ابتلع جوهراً ونحوه وخرج به ففي القطع ثلاثة أوجه ، ثالثها إن خرج قطع وإلا فلا . وقوله : وأخرجه ، سواء أخرجه بنفسه ، أو كان الإخراج ينسب إليه ، كأن تركه في ماء فخرج به ، أو على دابة فخرجت به ، أو دفعه لمجنون فأخرجه ، ونحو ذلك ، ومقتضى كلامه أن الإخراج يترتب الحكم عليه ، ولو ملكه بعد ذلك بهبة أو غيرها وهو كذلك .
( تنبيه ) : ( الخبنة ) ما تحمله في حضنك ، وقيل : هو ما تأخذه في خبنة ثوبك ، وهو ذيله وأسفله ، ( والجرين ) موضع التمر الذي يجفف فيه ، مثل البيدر للحنطة ، ( والمجن ) الترس ، ( وحريسة الجبل ) فعيلة بمعنى مفعولة ، أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع ، لأنه ليس بموضع حرز ، ( والمراح ) بضم الميم الموضع الذي تأوي إليه
____________________
(3/124)
الماشية ليلاً ، ( والخائن ) اسم فاعل من خان ، وهو يشمل الخيانة في الوديعة وفي غيرها .
( والمنتهب ) اسم فاعل من انتهب الشيء استلبه ولم يختلسه ، ( والمختلس ) اسم فاعل من اختلس الشيء اختطفه . قاله ابن فارس . ( والسرقة ) فسرها أبو محمد بأنها أخذ المال في وجه الخفية والاستتار ، قال : ومنه استراق السمع ، وقال : إن الاختلاس نوع من الخطف والنهب ، وإنما المختلس يختفي في ابتداء اختلاسه ، بخلاف السارق والله أعلم .
قال : إلا أن يكون المسروق ثمراً أو كثراً فلا قطع فيه .
ش : الكثر جمار النخل ، وهذا الاستثناء من قوله : طعاماً كان أو غيره .
أو من قوله : وأخرجه من الحرز ، لأنه إذا كان في بستان محوط ، وأخرجه منه ، يتوهم أنه محرز ، فلذلك استثناه ، والأصل في عدم القطع بذلك حديث عمرو بن شعيب ، المتقدم .
3168 وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا قطع في ثمر ولا كثر ) رواه الترمذي والنسائي ، وأبو داود . وقد علم مما تقدم أنه لا فرق بين أن يكون ذلك في بستان محوط أو غيره ، واستثنى من ذلك أبو محمد ما إذا كانت النخلة أو الشجرة في دار محرزة ، فسرق منها نصاباً ، فإن عليه القطع .
( تنبيه ) : ويغرم ذلك بمثليه للخبر ، ثم إن بعض الأصحاب اقتصر على ذلك .
وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم عدوا ذلك إلى الماشية تسرق من المرعى ، إذا لم تكن محرزة ، واقتصروا على ذلك ، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب في حريسة الجبل ، وكذلك الحديث الذي في الموطأ ، وأن أبا بكر عدى ذلك إلى كل ما سرق من غير حرز ، أنه يغرم بمثليه .
وحكى أبو البركات ذلك نصاً ، قياساً على ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب .
3169 وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، أن رقيقاً لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها ، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب ، فأمر عمر رضي الله عنه كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم ، ثم قال عمر رضي الله عنه : 16 ( أراك تجيعهم ، ثم قال عمر رضي الله عنه : والله لأغرمنك غرماً يشق عليك ، ثم قال للمزني : كم ثمن ناقتك ؟ فقال المزني : كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم ؛ فقال عمر رضي الله عنه : أعطه ثمان مائة درهم ) . . . رواه مالك في الموطأ ، واحتج به أحمد ، فأوجب غرامة مثليها ، لما أسقط القطع ، ومقتضى هذا الحديث ، وكذلك مقتضى حديث عمرو بن
____________________
(3/125)
شعيب أن المسروق متى فات القطع فيه ، إما لعدم حرزه ، أو عدم بلوغه نصاباً ، أو لشبهة ونحو ذلك ، أنه يغرم بمثليه ، وهذا مقتضى احتجاج أحمد ، وإذاً يتلخص في المسألة أربعة أقوال ، هل يختص غرامة المثلين بالثمر والكثر ، أو بهما وبالماشية ، أو بكل ما سرق من غير حرز ، أو يتعدى ذلك لكل ما سقط فيه القطع ، وهو أظهر ، ثم هل يجب مع غرامة المثلين تعزير ؟ أوجبه ابن عقيل في تذكرته ، وأكثر الأصحاب لم يذكروا ذلك .
قال : وابتداء قطع يد السارق أن تقطع يده اليمنى .
3170 ش : لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما .
3171 وفي الموطأ عن القاسم بن محمد ، 16 ( أن رجلاً من اليمن أقطع اليد والرجل قدم المدينة ، فنزل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فشكى إليه أن عامل اليمن ظلمه وقطع يده ، وكان يصلّي من الليل ، فيقول أبو بكر رضي الله عنه : وأبيك ماليلك بليل سارق ، ثم إنه بيت حليا لأسماء بنت عميس ، فافتقدوه ، فجعل يطوف معهم ، ويقول : اللّهمّ عليك بمن بيت أهل دويرة الرجل الصالح ، ثم وجدوا الحلي عند صائغ ، فزعم أن الأقطع جاء به ، فاعترف الأقطع أو شهد عليه ، فأمر به أبو بكر رضي الله عنه فقطعت شماله ، فقال أبو بكر : والله إن دعاءه على نفسه أشدّ عندي من سرقته ، وهذا يدلّ على أن عادتهم كان البداءة باليمين ) .
3172 وفي قراءة ابن مسود ( فاقطعوا أيمانهما ) وهذا إن ثبت فهو حجة عندنا على المشهور ، ولأنها آلة السرقة غالباً ، فناسب عقوبته بإزالتها ، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك اتفاقاً ، والله أعلم .
قال : من مفصل الكف .
ش : حكى ذلك أبو محمد أيضاً اتفاقاً ، ولأنه اليقين ، وما زاد عليه مشكوك فيه .
3173 وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن النبي أمر بقطعه من المفصل ، أي السارق .
قال : وتحسم .
ش : الحسم غمس اليد في زيت مغلى بعد القطع ، لتشتد أفواه العروق ، لئلا ينزف الدم فيموت .
3174 والأصل فيه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله أتي بسارق قدسرق شملة ، فقالوا : يا رسول الله إن هذا قد سرق . فقال رسول الله : ( ما إخاله سرق ) فقال السارق : بلى يا رسول الله ، فقال رسول الله : ( اذهبوا به
____________________
(3/126)
فاقطعوه ثم احسموه ، ثم ائتوني به ) فقطع فأتي به النبي فقال : ( تب إلى الله ) فقال : تبت إلى الله ، فقال : ( تاب الله عليك ) رواه الدارقطني ، ورواه عبد الرزاق من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلاً ، وهل الزيت من بيت المال ، أو من مال السارق ؟ فيه وجهان ، المجزوم به منهما عند أبي محمد أنه من بيت المال ، وابن حمدان بنى على أنه احتياط له ، أو من تتمة الحد .
قال : فإذا عاد فقطعت رجله اليسرى .
ش : أما قطع رجله فلما يأتي في المسألة الآتية ، مع الأمن من المحذور الذي في قطع الثالثة .
3175 مع أن ذلك قول العامة ، منهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم ، وناهيك بهم .
3176 وما روى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله : ( لا قطع على السارق بعد قطع يمينه ) فمنقطع ، مع أنه والله أعلم مخالف للإجماع ، وأما كونها اليسرى فلأنه أرفق به ، لتمكنه من المشي على خشبة ونحو ذلك ، بخلاف ما لو قطعت اليمنى ، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في المحاربين ، فقال : 19 ( { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ) والله أعلم .
قال : من مفصل الكعب .
ش : كما في اليد .
قال : وحسمت .
ش : لما تقدم في اليد ، والله أعلم .
قال : فإن عاد حبس ولا تقطع غير يد ورجل .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار الخرقي وأبي بكر ، وأبي الخطاب في خلافه ، وابن عقيل والشيرازي ، وأبي محمد وغيرهم ، لعموم :
____________________
(3/127)
19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فساداً } ) إلى قوله : 19 ( { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ) وهذا محارب لله ورسوله ، فشملته الآية وقد أشار علي رضي الله عنه إلى ذلك .
3177 فروى سعيد : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك بن حرب ، عن عبد الرحمن بن عائذ قال : أتي عمر رضي الله عنه برجل أقطع اليد والرجل قد سرق ، فأمر به عمر رضي الله عنه أن تقطع رجله . فقال علي رضي الله عنه : إنما قال الله تعالى ؛ 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ) إلى آخر الآية ، وقد قطعت يد هذا ورجله ، فلا ينبغي أن تقطع رجله ، فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها ، إنما تعزره ، أو تودعه السجن ، فاستودعه السجن ، ولأن ذلك بمنزلة إهلاكه ، فإنه لا يمكنه أن يتوضأ ، ولا يغتسل ، ولا يتحرز من نجاسته ، ولا يزيلها عنه ، ولا يدفع عن نفسه ، ولا يأكل ولا يبطش ، وبذلك علل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه .
3178 فروى سعيد : حدثنا أبو معشر ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، قال : 16 ( حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل ، فقال لأصحابه : ما ترون في هذا ؟ قالوا : اقطعه يا أمير المؤمنين ، قال : قتلته إذاً وما عليه القتل ، بأي شيء يأكل الطعام ، بأي شيء يتوضأ للصلاة ؟ بأي شيء يغتسل من جنابته ؟ بأي شيء يقوم على حاجته ؟ فرده إلى السجن أياماً ثم أخرجه ، فاستشار الصحابة فقالوا مثل قولهم الأول ، وقال لهم مثل ما قال أول مرة ، فجلده جلداً شديداً ثم أرسله ) . . . ( والرواية الثانية ) تقطع يده اليسرى في الثالثة ، والرجل اليمنى في الرابعة .
3179 لما روى جابر رضي الله عنه قال : جيىء رسول الله بسارق فقال : ( اقتلوه ) قالوا : يا رسول الله إنما سرق ، فقال : ( اقطعوه ) فقطع ثم جيء به الثانية ، فقال : ( اقتلوه ) فقالوا : يا رسول الله إنما سرق . فقال : ( اقطعوه ) فقطع ثم جيء به في الثالثة فقال : ( اقتلوه ) قالوا : يا رسول الله إنما سرق . فقال : ( اقطعوه ) فقطع ثم أتي به الرابعة فقال : ( اقتلوه ) فقالوا : يا رسول الله إنما سرق . فقال : ( اقطعوه ) فقطع فأتي به الخامسة فقال : ( اقتلوه ) قال جابر رضي الله عنه : فانطلقنا به فقتلناه ، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر ، ورمينا عليه بالحجارة . . . رواه أبو داود وهذا لفظه والنسائي . وروى النسائي نحو ذلك أيضاً من رواية الحارث بن حاطب رضي الله عنه ، ولأن أبا بكر رضي الله عنه فعل ذلك ، كما تقدم عنه .
3180 وكذلك روي عن عمر رضي الله عنه حكاه عنه أحمد ، واحتجّ به ، وهما اللذان أمرنا بالاقتداء بهما ، وقد أجاب أبو محمد عن الحديث بأنه في شخص استحق القتل ، بدليل الأمر بقتله في أول مرة ، وقد يقال على هذا بأنه إذا كان مستحق القتل فكيف جاز تأخيره ، مع أنه إذا اجتمع مع القتل غيره سقط ، واستوفي القتل ، فكيف قطع ، والذي يظهر في الجواب عن الأمر بالقتل أن هذا مما علم الرسول حقيقة الأمر فيه ، وأن أمر هذا يؤول إلى القتل ولا بدّ ، وأنه لا يجيىء منه خير ، فهو كالصبي الذي قتله الخضر ، الذي طبع كافراً .
3181 وفي النسائي ما يشعر بهذا ، فروى عن الحارث بن حاطب أن
____________________
(3/128)
الرسول أتي بلص فقال : ( اقتلوه ) فقالوا : يا رسول الله إنما سرق ، فقال : ( اقتلوه ) فقالوا : يا رسول الله إنما سرق ، قال : ( اقطعوا يده ) قال : ثم سرق فقطعت رجله ، ثم سرق على عهد أبي بكر رضي الله عنه ، حتى قطعت قوائمه كلها ، ثم سرق أيضاً الخامسة ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : كان رسول الله أعلم بهذا ، حين قال اقتلوه ، ثم دفعه إلى فتية من قريش ، منهم عبد الله بن الزبير ، وكان يحب الإمارة . فقال : أمروني عليكم ، فأمروه عليهم ، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه . اه .
والذي يظهر الرواية الثانية إن ثبتت الأحاديث ، فإن النسائي ضعف حديث جابر رضي الله عنه وقال : لا أعلم في هذا الباب حديثاً صحيحاً ، فعلى المذهب فيمنع من تعطيل منفعة الجنس ، وهما اليدان والرجلان ، وهل يمنع من تعطيل عضوين من شق ؟ على وجهين . ( وعلى الثانية ) لا أثر لذلك ، فعلى هذا من سرق وهو أقطع اليد اليسرى ، والرجل اليمنى ، قطعت يده اليمنى على الثانية دون الأولى ، لإفضائه إلى تعطيل منفعة الجنس ، وإن كان أقطع اليد اليسرى فقط ، قطعت يمينه على الثانية دون الأولى . لكن في قطع رجله اليسرى وجهان ، بناء على تعطيل منفعة الشق ، واستقصاء التفريع له محل آخر .
( تنبيه ) : أطلق الخرقي الحبس ، وتبعه الشيخ ، وقال القاضي في الجامع ، والشيرازي وابن البنا : يحبس حتى يحدث توبة ، وقال ابن حمدان : يحبس ويعزر حتى يتوب ، والله أعلم .
قال : والحر والحرة والعبد والأمة في ذلك سواء .
ش : الاتفاق في الحر والحرة بشهادة النص بذلك . قال سبحانه وتعالى : 19 ( { والسارق والسارق فاقطعوا أيديهما } ) الآية ، ولفعل رسول الله فإنه قطع سارق رداء صفوان ، وقطع المخزومية ، أما العبد والأمة فهو قول العامة ، لعموم النص ، ولما تقدم عن عمر رضي الله عنه في الرقيق الذين سرقوا الناقة .
3182 وروى القاسم عن أبيه أن عبداً أقر بالسرقة عند عليّ رضي الله عنه فقطعه . . هـ رواه أحمد .
3183 وعن نافع 16 ( أن عبداً لابن عمر رضي الله عنهما سرق وهو آبق ، فبعث به إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده ، فقال سعيد : لا تقطع يد الآبق ، فقال له ابن عمر رضي الله عنهما : في أي كتاب الله وجدت هذا ؟ فأمر به ابن عمر رضي الله عنهما فقطعت يده ) .
3184 وكذلك قضى به عمر بن عبد العزيز أيضاً ، رواه مالك في الموطأ .
3185 وقطعت عائشة رضي الله عنها يد عبد . . . رواه مالك أيضاً في الموطأ ، وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر ، فكانت حجة . ويدخل في الحر المسلم والكافر ،
____________________
(3/129)
فيقطع الذمي بسرقة مال المسلم ، وكذلك يقطع المسلم بالسرقة من مال الذمي .
أما الحربي الذي لا أمان له فلا يقطع المسلم بالسرقة من ماله ، ولا هو بسرقة مال المسلم ، فإن كان له أمان قطع المسلم بسرقة ماله .
وهل يقطع هو بسرقة مال المسلم ؟ فيه وجهان أصحهما يقطع ، والثاني وهو اختيار ابن حامد : لا يقطع ، ويدخل في العبد العبد الآبق ، وذلك لعموم ما تقدم ، ويؤيّده قصة ابن عمر .
3186 أمّا ما رواه الدارقطني عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله : ( ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع ، ولا على الذمي ) فقال : الصواب أنه موقوف ، والله أعلم .
قال : ويقطع السارق وإن وهبت له السرقة بعد إخراجها .
3187 ش : لما روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله قال : ( تعافوا الحدود فيما بينكم ، فما بلغني من حد فقد وجب ) رواه النسائي وأبو داود .
3188 وعن صفوان بن أمية قال : كنت نائماً في المسجد على خميصة لي ، ثمن ثلاثين درهماً ، فجاء رجل فاختلسها مني ، فأخذ الرجل فأتي به النبي ، فأمر رسول الله به ليقطع ، فأتيته فقلت : تقطعه من أجل ثلاثين درهماً ، أنا أبيعه وأنسيه ثمنها . قال : ( فهلا كان قبل أن تأتيني به ) ، زاد في أخرى : إني قد وهبتها له . . . رواه النسائي ، وهذا يدل على أن ملك العين المسروقة بعد الرفع إلى الحاكم لا يؤثر ، بخلاف ما قبله . وكذلك قيد أبو محمد المسألة بل وزاد : والمطالبة بها ؛ وإن كان كلام الخرقي مطلقاً . وقوله : بعد إخراجها يحترز عما لو وهبت له السرقة قبل إخراجها ، فإنه لا قطع قطعاً والله أعلم .
قال : ولو أخرجها وقيمتها ثلاثة دراهم ، فلم يقطع حتى نقصت قيمتها قطع .
ش : اعتباراً بحال الإخراج ، لأنه به كمل السبب ، ولعموم : 19 ( { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } ) والله أعلم .
قال : وإذا قطع فإن كانت السرقة قائمة ردت إلى مالكها .
ش : هذا اتفاق ولله الحمد ، لأنها عين ماله ، ولا مقتضي لنقله عنه والله أعلم .
قال : وإن كانت متلفة فعليه قيمتها ، موسراً كان أو معسراً .
____________________
(3/130)
ش : أما إن كانت تالفة وقد قطع ، فعليه مثلها إن كانت مثلية ، وقيمتها إن كانت متقومة ، كما لو أتلفها من غير سرقة ، ولأن القطع والغرم حقان لمستحقين ، فجاز اجتماعهما ، كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك .
والخرقي رحمه الله ذكر المسألة فيما إذا قطع ، لأن النعمان يقول : إذا كانت تالفة إذاً فلا غرم عليه ، وقال : موسراً كان أو معسراً ، لأن مالكاً يوافق النعمان في المعسر ، ونحن في الموسر ، والله أعلم .
قال : وإذا أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع .
3189 ش : يروى هذا عن عائشة وابن الزبير رضي الله عنهم ، ولأنه أخذ للمال على وجه الخفية ، فدخل في مسمى السارق ، وإذاً يدخل في الآية الكريمة ، والأحراز تختلف باختلاف الأموال ، ألا ترى أن حرز الباب تركيبه في موضعه .
3189 م وقد روى أبو داود عن أبي ذر رضي الله عنه قال : دعاني رسول الله فقلت : لبيك ، فقال : كيف أنت إذا أصاب الناس موت ، يكون البيت فيه بالوصيف يعني ( القبر ) ، قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : ( عليك بالصبر ) ، قال حماد : فبهذا قال من قال بقطع يد النباس ، لأنه دخل على الميت بيته ، والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعاً ، فلو سرق لفافة رابعة من على الرجل ، أو التابوت الذي هو فيه ، ونحو ذلك لم يقطع ، لعدم مشروعيته . وقوله : أخرج من القبر ، فلو أخرجه من اللحد فلا قطع ، والله أعلم .
قال : ولا يقطع في محرم .
ش : كالخمر والخنزير والميتة ونحو ذلك ، لأن له سلطاناً على ذلك ، لإباحة الشرع إزالته ، ولأنه غير مال ، أشبه الحشرات ، وبذلك علّل أحمد رحمه الله في رواية الميموني ، فيمن سرق لذمي خمراً أو خنزيراً : لا يقطع ، ليس لهما قيمة عندنا . اه .
وقد يتخرج لنا قول أن الذمي يقطع بسرقة خمر الذمي ، بناء على أنها مال لهم ، ولهذا قلنا بتضمينها على الذمي للذمي على تخريج ، وقد يقال بعدم التخريج ، لقيام الشبهة ، وهو وقوع الخلاف في ذلك ، وقد يدخل في كلام الخرقي إذا سرق صليباً ، أو صنم ذهب ونحو ذلك ، وهو قول القاضي ، وخالفه تلميذه أبو الخطاب ، فأوجب القطع والله أعلم .
قال : ولا في آلة لهو .
ش : كالطنبور ، والمزمار ، والشبابة ونحو ذلك ، وإن بلغت قيمته مفصلاً نصاباً ، لأنه آلة للمعصية بالإجماع . فأشبه الخمر ، ولأن الشارع سلّطه عليه ، حيث جعل له
____________________
(3/131)
إفساده وزواله .
3190 ودليل الأصل أمر النبي بكسر دنان الخمر ، وشق زقاقه ، مع أنه يمكن زوال المحرم وتبديده ، وقد حرق موسى العجل ، وقذفه في البحر ، ولم يكتف بحرقه ودفع الحلي إلى أربابه ، والله أعلم .
قال : ولا يقطع الوالد فيما أخذه من مال ولده ، لأنه أخذ ماله أخذه .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله ، وهو أنه أخذ ماله أخذه ، ومن أخذ ماله أخذه لا يقطع ، لأنه أخذ مباحاً له .
3191 ودليل ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم ) رواه الخمسة .
3192 وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله لي مالاً وولداً ، وإن أبي يريد أن يحتاج مالي . فقال : ( مالك لأبيك ) رواه ابن ماجه ، وروى أحمد نحوه من حديث عمرو بن شعيب ، والخرقي رحمه الله في تعليله قصور ، لأنه لو أخذ ما ليس له أخذه ، كما إذا كان الأخذ يضر بالولد لم يقطع ، ثم إن جواز الأخذ مختص بالأب الأدنى ، وعدم القطع يتناول الأب وإن علا ، فإذاً توجيه ذلك أن له فيه شبهة ، وهو وجوب نفقته أو نحو ذلك والله أعلم .
قال : ولا تقطع الوالدة فيما أخذت من مال ولدها .
ش : لما تقدم في الأب الأعلى ، ولأنها أحد الأبوين فأشبهت الآخر ، وكذلك أمها وإن علت ، واقتصار الخرقي على الوالد والوالدة يخرج به غيرهما ، ولا نزاع أن هذا المذهب في غير الابن ، لظاهر الكتاب ، فإن قيل : فالنفقة تجب لغير هؤلاء ، فيصير له في المال شبهة ، وإذاً لا قطع ، قيل : النفقة وإن وجبت لبعضهم لكن وجوبها لمن تقدم أقوى ، ثم إن القرابة التي بينهما لا تمنع قبول الشهادة ، فلا تمنع القطع ، بخلاف الوالدين .
وجرى الشيرازي على مطلق الشبهة ، فلم ير القطع على ذي الرحم المحرم ، أما الابن فالمذهب المجزوم به عند القاضي والشيخين والشيرازي ، وابن عقيل والشريف ، وأبي الخطاب وابن البنا أنه لا يقطع بسرقة مال أبيه وإن سفل ، لأن بينهما قرابة تمنع من قبول شهادة أحدهما لصاحبه ، فلم يقطع بماله كالأب ، ولأن النفقة تجب على الأب حفظاً للابن ، فلا يناسب إتلافه حفظاً لمالِهِ ، وكلام الخرقي يوهم القطع ، وهو رواية حكاها ابن حمدان ، وهو مقتضى ظواهر النصوص والله أعلم .
____________________
(3/132)
قال : ولا العبد فيما سرق من مال سيده .
3193 ش : لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : 16 ( جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه بغلام له ، فقال : اقطع يده ، فإنه سرق مرآة لامرأتي . فقال عمر رضي الله عنه : لا قطع عليه ، هو خادمكم أخذ متاعكم ) . . . رواه مالك في الموطأ . وعن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه ، ولا يعرف لهما مخالف ، ولأن له فيه شبهة ، وهو وجوب النفقة ، والمدبر ، وأم الولد ، والمكاتب كالقن .
قال : ولا يقطع السارق إلا بشهادة عدلين أو إقرار مرتين .
ش : أما كونه لا يقطع إلا يشهادة عدلين فلعموم قوله تعالى : 19 ( { وأشهدوا ذوي عدل منكم } ) ، أمّا قوله تعالى : 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ) فنزلت في سياق الأموال ، فاقتصر على ذلك ، وغير المال من النكاح والحدود ونحوهما ليس في معناه ، لأن ذلك يحتاط له ما لا يحتاط للمال ، ومن الاحتياط له عدم قبول المرأة ، لضعف عقلها ، وسرعة نسيانها ، وأما قطعه بشهادتهما فللآية الكريمة أيضاً ، وقال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع يد السارق تجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان ، ووصفا ما يوجب القطع ، ويشترط في الشاهدين أن يكونا رجلين لما تقدم ، مسلمين وإن كان السارق ذمياً ، حرين على المذهب ، عدلين وإن قبلنا مستور الحال في الأموال ، احتياطاً للأموال ، ويشترط مع ذلك أن يصفا السرقة والحرز ، وجنس النصاب وقدره ، والمسروق منه ، ليزول الاختلاف في ذلك .
وأما كونه يقطع بإقرار مرتين ، ولا يقطع بما دونهما .
3194 فلما روى أبو أمية المخزومي ، أن رسول الله أتي بلص فاعترف اعترافاً ، ولم يوجد معه متاع ، فقال له رسول الله : ( ما إخالك سرقت ) ؟ قال : بلى ، مرتين أو ثلاثاً ، قال : فقال رسول الله : ( اقطعوه ) مختصر . . . رواه أحمد وأبو داود ، ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره .
3195 وعن القاسم بن عبد الرحمن ، عن عليّ رضي الله عنه قال : 16 ( لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين ) . حكاه أحمد في رواية مهنا ، واحتج به . ولأنه حد يتضمن إتلافاً ، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا ، قال أبو محمد : ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة من النصاب ، والحرز ، وإخراجه منه .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين الحر والعبد ، وهو المذهب بلا ريب ، كبقية الحدود . وروى مهنا عن أحمد : إذا أقر العبد أربع مرات أنه سرق قطع ، وظاهر هذا اعتبار أربع مرات ، ليكون على النصف من الحر .
____________________
(3/133)
قال : ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع .
ش : لأنه حد لله ثبت بالاعتراف ، فقبل رجوعه عنه كحد الزنا ، وهذا بخلاف ما لو ثبتت سرقته بالبينة ، فإن رجوعه لا يقبل كالزنا سواء ، هذا إن شهدت البينة على الفعل ، أما إن شهدت على إقراره بالسرقة ثم جحد ، فقامت البينة بذلك ، فهل يقطع نظراً للبينة ، أو لا يقطع نظراً للإقرار ؟ على روايتين حكاهما الشيرازي . ( واعلم ) أن هذا الذي ذكره الخرقي من أن القطع لا يثبت إلا بإقرار مرتين ، وأنه إذا رجع عن الإقرار قبل منه ، مختص بالقطع ، أما المال فيكفي في ثبوته مرة ، وإذا رجع عنه لم يقبل رجوعه والله أعلم .
قال : وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع ، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص ، والمعنى في ذلك أن الشارع له نظر إلى حفظ الأموال كالأنفس ، فكما أن في الأنفس تقتل الجماعة بالواحد سداً للذريعة ، فكذلك في الأموال ، واختار أبو محمد في مغنيه عدم القطع إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصاباً ، لأن كل واحد لم يسرق نصاباً ، فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد .
3196 ويرجح ذلك ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً ) رواه ابن ماجه .
3197 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام أن يخطىء في العفو خير من يخطىء في العقوبة ) رواه الترمذي وقال : وروي موقوفاً وهو أصح اه .
3198 وروي نحو ذلك عن غير واحد من الصحابة ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون المسروق ثقيلاً ، يشترك الجماعة في حمله ، وبين أن يخرج كل واحد منه جزءاً ، ونص عليه أحمد والأصحاب ، لاشتراكهم في الهتك والإخراج ، ولهذا أيضاً قلنا : لا فرق إذا هتكا الحرز بين أن يدخلا معاً ، أو يدخل أحدهما فيخرج بعض النصاب ، ثم يدخل الآخر فيخرج باقيه والله أعلم .
قال : ولا يقطع وإن اعترف بالسرقة أو قامت بينة ، حتى يأتي مالك المسروق فيدّعيه .
ش : هذا المذهب المختار للخرقي ، والقاضي وأصحابه ، لأن المال مما يباح بالبذل ، فيحتمل أن مالكه أباحه له ، أو وقفه على طائفة السارق منهم ، أو أذن له في
____________________
(3/134)
دخول حرزه ونحو ذلك ، فاعتبرت المصالبة لتزول الشبهة ، ويرشح هذا ما تقدم في المسألة قبل ، وقال أبو بكر في الخلاف : لا تشترط المطالبة ، وهو قوي ، عملاً بإطلاق الآية الكريمة ، وعامة الأحاديث ، فإنه ليس في شيء منها اشتراط المطالبة ولا ذكرها ، ولو اشترطت لبين ذلك وذكرها ، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، والإخلال بما الحكم متوقف عليه ، وإنه لا يجوز .
( تنبيه ) : وهل يفتقر إلى المطالبة في القطع بالكفن كسائر المسروقات ، ويكون المطالب ورثة الميت ، أو لا يفتقر ، لأن الطلب شرع لاحتمال كون المسروق مملوكاً للسارق . وقد يئس من ذلك هنا ؟ فيه احتمالان ، أظهرهما الثاني والله أعلم .
____________________
(3/135)
( كتاب قطاع الطرق )
ش : والأصل فيهم قول الله تعالى : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً } ) إلى قوله : 19 ( { فاعلموا أن الله غفور رحيم } ) .
وقد اختلف أهل العلم في سبب نزول هذه الآية .
3199 فعن ابن عمر رضي الله عنهما 16 ( أن ناساً أغاروا على إبل رسول الله وارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا راعي رسول الله مؤمناً ، فبعث في آثارهم ، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، قال : فنزلت فيهم آية المحاربة وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك رضي الله عنه حين سأله الحجاج ) .
2200 وعن أبي الزناد أن رسول الله لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار ، عاتبه الله في ذلك ، فأنزل الله تعالى : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ، ويسعون في الأرض فساداً } ) الآية ، رواهما أبو داود والنسائي .
3201 وفي حديث أنس رضي الله عنه في رواية لأبي داود ، في قصة العرنيين قال : فبعث رسول الله في طلبهم ، فأتي بهم ، قال : فأنزل الله في ذلك : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ) الآية .
وأصل الحديث متفق عليه . . . فهؤلاء أخبروا أن الآية نزلت في العرنيين ، وكانوا مرتدين .
3202 وكذلك حكي عن سعيد بن جبير .
3203 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : 19 ( { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ) الآية إلى قوله : 19 ( { غفور رحيم } ) نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدروا عليهم لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه . رواه أبو داود والنسائي ، وهو قريب من قول الأوّلين ، وقال أبو محمد : إن الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين .
____________________
(3/136)
3204 وكأن مدرك أبي محمد في حكاية ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ما روى الشافعي رضي الله عنه في مسنده عنه رضي الله عنه ، أنه قال في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالاً نفوا من الأرض .
وقد يجمع بين القولين ، بأن الآية نزلت في المرتدين ، كما أخبر ابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم ، وابن عباس رضي الله عنهما رأى أن نزول الآية على سبب لا يقتضي الاختصاص به ، بل يتبع لفظها ، ولفظها دل على أن كل محارب لله ورسوله هذا حكمه ، وقطاع الطريق من المسلمين محاربون لله ولرسوله ، لمخالفتهم أمره وارتكابهم نهيه .
( تنبيه ) : ( اللقاح ) جمع لقحة ، وهي ذوات اللبن من الإبل ، وقيل : ذوات المخاض ( وسملت عينه ) إذا فقئت بحديدة محماة ، والله أعلم .
قال : والمحاربون هم الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء ، فيغصبونهم المال مجاهرة .
ش : لا نزاع أن هؤلاء محاربون ، تثبت لهم أحكام المحاربة التي تذكر بعد ، واختلف فيمن يفعل ذلك في المصر ، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يكون محارباً ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، لأن الغوث يلحقه غالباً ، فتزول شوكة المعتدي ، ويكون في حكم المختلس ، والمختلس ليس بمحارب ؛ وقال أبو بكر : يكون محارباً ، وتبعه على ذلك القاضي في الجامع ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وغيرهم ، قال أبو محمد : إنه قول كثير من أصحابنا ، وقال أبو العباس : إنه قول الأكثرين ، تمسكاً بعموم الآية الكريمة .
ونظراً إلى أن ذلك في المصر أعظم خوفاً ، وأكثر ضرراً ، فكان بذلك أولى . وتوسط القاضي أطنه في المجرد أو في الشرح الصغير فقال : إن كانوا في المصر مثل أن كبسوا داراً ، وكان أهل الدار بحيث لو صرخوا أدركهم الغوث فليسوا بمحاربين ، وللحوق الغوث عادة ، وإن حصروا قرية أو بلداً ففتحوه ، وغلبوا على أهله ، أو محلة مفردة ، بحيث لا يلحقهم الغوث فهم محاربون ، لعدم لحوق الغوث لهم ، وهو يرجع إلى الأول ، غايته أنه نقح كلام الخرقي ، وأحمد رحمه الله توقف عن الجواب في المسألة .
وقول الخرقي : يعرضون للقوم السلاح ، مفهومه أنهم لو عرضوا بغير سلاح لم يكونوا محاربين ، وهو كذلك .
ويدخل في السلاح كل ما أتى على النفس أو الطرف ، وإن لم يكن محدداً ،
____________________
(3/137)
كالحجر والعصا ، وقوله : فيغصبونهم المال مجاهرة . مفهومه أنهم لو أخذوا المال خفية ، أو على وجه الخطف فليسوا بمحاربين ، وهو كذلك .
وأنه لو خرج الواحد والاثنان على رخر الركب فأخذوا منه شيئاً فليسوا بمحاربين ، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم محاربون ، والله أعلم .
قال : فمن قتل منهم وأخذ المال قتل وإن عفا صاحب المال ، وصلب حتى يشتهر ، ودفع إلى أهله ، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى في مقام واحد ، ثم حسمتا وخلي .
ش : مذهب أحمد رحمه الله أن قاطع الطريق إذا قتل وأخذ المال قتل وصلب ، وإن قتل ولم يأخذ المال قتل فقط ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، وإن لم يأخذ المال ولم يقتل نفي ، لما تقدم عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما .
3205 وذكر الزجاج أنه روي في التفسير أن أبا بردة الأسلمي كان عاهد النبي أن لا يعرض لمن يريد النبي وأن لا يمنع من ذلك ، وأن النبي لا يمنع من يريد أبا بردة ، فمرّ قوم يريدون النبي بأبي بردة ، فعرض أصحابه لهم فقتلوهم وأخذوا المال ، فأنزل الله على نبيه ، وأتاه جبريل وأعلمه أن الله عزّ وجلّ يأمره أن من أدركه منهم قد قتل وأخذ المال قتله وصلبه ، ومن قتل ولم يأخذ المال قتله ، ومن أخذ المال ولم يقتل قطع يده لأخذ المال ، ورجله لإخافته السبيل اه .
وفي ثبوت هذا نظر ، فإنه قد ثبت عن ابن عمر وغيره رضي الله عنهم أن الآية نزلت في غير هذا ، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي أن قضية أبي بردة رواها أبو داود ، فقد قال هو في المغني قيل رواها أبو داود .
قلت : والقطع أنها ليست في سنن أبي داود ، وإلا لذكرها ابن الأثير في جامع الأصول وغيره .
والمعتمد في ذلك على قول ابن عباس رضي الله عنهما وهو إن خالف ظاهر الآية الكريمة لكن يرجحه أن قوله موافق للقاعدة الشرعية ، من أن العقوبات على قدر الإجرام .
ولهذا اختلف حد الزاني والسارق والقاذف وغيرهم ، بخلاف ظاهر الآية الكريمة . . . فإن ظاهرها أن من حارب حصل فيه هذا التخيير من القتل أو القطع ، وإن لم يقتل ولا أخذ المال ، وأيضاً عموم قول النبي : ( لا يحل دم امرئ مسلم ، يشهد أن لا إله إلاّ الله إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنا بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير الحق ) . وهذا قد يعترض عليه بأنه عموم ، والآية تخصه . وكون العقوبة تختلف باختلاف الجرم مسلّم ، ولكن الشارع رأى أن هذه المفسدة العظيمة جزاؤها هذا
____________________
(3/138)
الجزاء ، سداً للذريعة ، وحسماً للمادة ، ثم إن صاحب الشرع لم يذكر القتل أو القطع فقط في مقابلة مجرد المحاربة ، وإنما خير بين عقوبات ، والأمر في ذلك موكول إلى الأئمة والحكام الذين عليهم إقامة الحدود ، وتخييرهم تخيير مصلحة ، لا تخيير استشفاء ، فهم لا يفعلون إلا ما يرون أنه أصلح ، فإذا رأوا توزيع العقوبات على قدر الإجرام وجب ذلك عليهم ، وإن رأوا أن هذا المحارب وإن لم يقتل لا يندفع شره إلا بالقتل ، ككبير محاربين يجمعهم قوله ، ويفرقهم عدمه ، ونحو ذلك وجب قتله ، وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فيسأل أولاً عن صحة سنده ، فإن صح فهو معارض بنص القرآن اه .
( وعن أحمد ) رواية أخرى أن من قتل وأخذ المال يقتل لقتله ، ويقطع لأخذه المال ، لأن كلاً منهما لو انفرد لأوجب ذلك ، فإذا اجتمعا وجبا معاً كالزنا والسرقة .
( وعنه ) أيضاً فيمن قتل ولم يأخذ المال أنه يصلب مع القتل ، والمذهب الأول .
وقول الخرقي : قتل وإن عفى صاحب المال : يعني أنه يقتل حتماً ، ولا يدخله العفو ، قال ابن المنذر : أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم ، وذلك لأنه أجري مجرى الحدود ، فلم يدخله العفو كبقيتها ، ولهذا قلنا على إحدى الروايتين : لا يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول ، بل يؤخذ الحر بالعبد ، والمسلم بالذمي ، والأب بالابن ، واعتبرناه على أخرى ، نظراً إلى أن الحد فيه انحتامه بدليل أنه لو تاب قبل القدرة سقط الانحتام ، وبقي القصاص .
ولعموم قول النبي : ( لا يقتل مسلم بكافر ) . فعلى هذه إذا فاتت المكافأة قطعت يده ورجله إن كان قد أخذ المال ، وإلا نفي ، وأغرم دية الذمي أو قيمة العبد ، وهذا اختيار أبي الخطاب ، والشريف والشيرازي وغيرهم ، وهو أمشى على قاعدة المذهب .
وقوله : وصلب حتى يشتهر ، هذا أحد الوجهين ، واختيار أبي محمد ، وأبي الخطاب ، وشيخه في الجامع .
وقال : إنه ظاهر كلام أحمد ، لأن المقصود من الردع للغير والزجر إنما يحصل بذلك . ( والثاني ) وقاله أبو بكر : يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب ، اعتماداً منه على أن أحمد لم يوقت الصلب ، .
ونظراً إلى إطلاق الآية الكريمة ، وظاهر كلام الخرقي أن صلبه بعد قتله ، وهو كذلك ، إذ هو تتمة للحد ، وكمال له ، ولهذا قلنا : إذا مات قبل أن يقتله ، أو قتل لغير المحاربة لم يصلب على أشهر الوجهين ، إذ الحد قد فات بموته ، كبقية المحدودين ، وإنما قطعت يمنى يدي من أخذ المال لما تقدم في السارق ، وإنما قطعت يسرى رجليه لتتحقق المخالفة المأمور بها ، وإنما حسمتا لما تقدم في السارق .
____________________
(3/139)
( تنبيه ) : إذا كان القتل شبه عمد فقال أبو محمد : ظاهر كلام الخرقي أنه يقتل بذلك .
( قلت ) : وفي هذا نظر ، فإنه متى اعتبر إطلاق الخرقي دخل فيه قتل الخطأ وقد جعله أصحاب الخلاف محل وفاق ، قاسوا عليه إذا فاتت المكافأة ، والله أعلم .
قال : ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله .
ش : لعموم قول النبي : ( لا قطع إلا في ربع دينار ) . وقد يتخرج لنا عدم اشتراط ذلك ، من رواية عدم اعتبار المكافأة ومن ثم قلت إن الأمشى على المذهب اعتبارها .
( تنبيه ) : ويشترط الحرز ، وانتفاء الشبهة في المال المسروق ، والله أعلم .
قال : ونفيهم أن يشردوا ، فلا يتركون يأوون في بلد .
ش : يعني من لم يقتل من المحاربين ، ولم يأخذ المال ، فإنه ينفى كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ثم إن النفي الكلي هو التشريد .
وهذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي وغيره ، لظاهر الآية ، ( وعن أحمد ) نفيهم تعزيرهم بما يردعهم من تشريد وغيره ، ( وعنه ) نفيهم حبسهم .
وعلى الأول إذا شردوا لم يتركوا يأوون في بلد ، لظاهر 19 ( { أو ينفوا من الأرض } ) فظاهره نفيهم عن جميعها ، ولا يتأتى إلا بما قلناه .
( تنبيه ) : قال أبو محمد : ولم يذكر أصحابنا قدر مدرة نفيهم ، فيحتمل أن يتقدر ذلك بما تظهر فيه توبتهم ، ويحتمل أن يقدر بعام ، كنفي الزاني والله أعلم .
قال : فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم حدود الله عزّ وجلّ ، وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال ، إلا أن يعفى لهم عنها .
ش : إذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم سقطت عنهم حدود الله تعالى ، كالصلب والقطع ، والنفي وانحتام القتل ، أما بعد القدرة فلا يسقط عنهم شيء للآية الكريمة : 19 ( { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } ) الآية .
أوجب سبحانه الحدود ، واستثنى من تاب قبل القدرة ، فمن عداه يبقى على العموم ، والمعنى في ذلك أن من تاب قبل القدرة الظاهر أن توبته توبة إخلاص ، بخلاف من تاب بعدها ، فالظاهر أنه إنما فعل ذلك تقية ، أما حقوق الآدميين فلا تسقط إلا بأدائها ، أو إسقاط أربابها كالضمان ، ووقع في المبهج في أول باب قطاع الطريق أن توبتهم قبل القدرة لا تسقط عنهم الحدود في رواية كما بعدها ، وجزم في آخر الباب بالقبول كما يقوله الجماعة ، وهو الصواب والله سبحانه أعلم .
____________________
(3/140)
( كتاب الأشربة وغيرها )
قال : ومن شرب مسكراً قل أو كثر جلد ثمانين جلدة ، إذا شربها مختاراً لشربها ، وهو يعلم أن كثيرها يسكر .
ش : تحريم الخمر إجماع أو كالإجماع ، وقد شهد لذلك من الكتاب قوله تعالى : 19 ( { إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ، فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون } ) .
3206 قال بعض المفسرين : نزل في الخمر أربع آيات ، نزلت بمكة : 19 ( { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } ) فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فنزلت 19 ( { فيهما إثم كبير ، ومنافع للناس } ) فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن ناساً منهم فشربوا وسكروا ، فأم بعضهم فقرأ : 19 ( { قل يا أيها الكافرون ، أعبد ما تعبدون } ) فنزلت : 19 ( { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ) . فقل من يشربها ، ثم دعا عتبان بن مالك قوماً فيهم سعد بن أبي وقاص ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا ، حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء للأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه موضحة ، فشكى إلى رسول الله ، فقال عمر رضي الله عنه : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت : 19 ( { إنما الخمر والميسر } ) . . . إلى قوله : 19 ( { فهل أنتم منتهون } ) فقال عمر رضي الله عنه : 16 ( انتهينا يا رب ) .
3207 وفي السنن قريب من ذلك ، فعن عمر رضي الله عنه أنه قال : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت التي في البقرة ؛ 19 ( { يسألونك عن الخمر والميسر ، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } ) الآية فدعي عمر فقرأت عليه ، فقال : اللّهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت التي في النساء : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } ) الآية ، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت التي في المائدة : 19 ( { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر } ) إلى قوله : 19 ( { فهل أنتم منتهون } )
____________________
(3/141)
فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : 16 ( انتهينا انتهينا ) . . . رواه أبو داود والترمذي والنسائي .
قال بعض العلماء : والتحريم في الآية من نحو عشرة أوجه ، تسميتها رجساً وهو المستقذر ، وجعلها من عمل الشيطان ، والأمر باجتنابها ، وجعل الفلاح مرتباً على اجتنابها ، فمن لم يجتنبها لا يفلح ، وجعلها توقع العداوة والبغضاء ، وتصد عن ذكر الله ، وعن الصلاة ، ثم طلب الانتهاء عنها بقوله سبحانه : 19 ( { فهل أنتم منتهون } ) أي جدير وحقيق أن ينتهي عن شيء جمع هذه الأوصاف .
وورد في تحريمها من السنة ما يبلغ مجموعه التواتر .
3208 فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال : ( كل شراب أسكر فهو حرام ) .
3209 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ) رواهما الجماعة . وفي رواية لمسلم : ( ومن شرب الخمر في الدنيا ، ومات وهو يدمنها لم يتب منها ، لم يشربها في الآخرة ) .
3210 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( كل مخمر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال ) قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال : ( صديد أهل النار ) .
3211 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لعن الله الخمر ، وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ) رواهما أبو داود . والأخبار في ذلك كثيرة جداً ، وسيمر بك إن شاء الله تعالى طرف منها وبالغ الصحابة رضي الله عنهم في تحريمها والمباعدة منها .
3212 فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : 16 ( اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبّد ، فلقيته امرأة أغوته ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت : إنها تدعوك لشهادة ، فانطلق مع جاريتها ، فطفق كلما دخل باباً أغلقته دونه ، )6 ( حتى أفضى إلى امرأة وضيئة ، عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : والله ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع علي ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً ، أو تقت
____________________
(3/142)
هذا الغلام . قال : فأسقيني من هذا الخمر كأساً ، فسقته كأساً ، فقال : زيدوني . فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام ، فاجتنبوا الخمر ، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر . . . إلا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ) . . . رواه النسائي .
3213 وعن علي رضي الله عنه قال : 6 ( لو بني مكانها منارة لم أؤذن عليها ، ولو نبت مكانها كلأ لم أرعه ) .
3214 وما روي عن بعض الصحابة كقدامة بن مظعون ، وعمرو بن معدي كرب ، وأبي جندل بن سهيل ، أنهم قالوا : إنها حلال تمسكاً بقوله تعالى : 9 ( { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } ) الآية ، فتأويل منهم أخطأوا فيه ، فبين لهم علماء الصحابة معنى الآية ، وحدهم عمر رضي الله عنه لشربها فقيل إنهم رجعوا عن قولهم .
3215 وقد قال البراء رضي الله عنه في هذه الآية قال : مات رجل من أصحاب رسول الله قبل أن تحرم الخمر ، فلما حرمت قال رجال : كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر ؟ فنزلت : 9 ( { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } ) .
3216 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قالوا : يا رسول الله أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريم الخمر ؟ فنزلت : 9 ( { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } ) الآية . . . رواهما الترمذي .
3217 وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة تحريم الخمر قال : فقال بعض القوم : قد قتل قوم وهي في بطونهم ، فأنزل الله تعالى : 9 ( { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } ) .
إذا تقرر هذا فالاتفاق أيضاً على حد شاربها في الجملة ، واختلف في مقداره ، وعن إمامنا رضي الله عنه في ذلك روايتان ( إحداهما ) أن مقداره ثمانون . اختارها الخرقي ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وغيرهم .
3218 لما روى ثور بن زيد الديلي 6 ( أن عمر رضي الله عنه استشار في حد الخمر ، فقال له علي رضي الله عنه أرى أنه يجلد ثمانين جلدة ، فإنه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هدى افترى ، فجلد عمر رضي الله عنه في حد الخمر ثمانين ) . . . رواه مالك في الموطأ والدارقطني .
____________________
(3/143)
3219 وفي الصحيح أن عمر رضي الله عنه استشار الناس ، فقال عبد الرحمن رضي الله عنه : 16 ( أخفّ الحدود ثمانون ) . فأمر به عمر رضي الله عنه . وهذا كالإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على الجلد ثمانين الرواية الثانية وهي اختيار أبي بكر قدره أربعون .
3220 لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي ضرب في الخمر بالجريد والنعال ، وجلد أبو بكر أربعين . . . وفي رواية أن النبي أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريد نحو أربعين . قال : وفعله أبو بكر رضي الله عنه ، فلما كان عمر رضي الله عنه استشار الناس ، فقال عبد الرحمن أخفّ الحدود ثمانون ، فأمر به عمر رضي الله عنه . . . متفق عليه .
3221 وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن حضين بن المنذر ، قال : 16 ( شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه أتي بالوليد قد صلى الصبح ثم قال : أزيدكم ؟ فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر ، وشهد آخر أنه رآه يتقيأها . فقال عثمان رضي الله عنه : إنه لم يتقيأها حتى شربها ، فقال : يا علي قم فاجلده . فقال علي رضي الله عنه : قم يا حسن فاجلده ، فقال الحسن رضي الله عنه : ولّ حارها من تولى قارها ؛ فكأنه وجد عليه . فقال : يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده ؛ فجلده وعلي رضي الله عنه يعدّ حتى بلغ أربعين . فقال : أمسك ثم قال : جلد النبي أربعين ، وأبو بكر رضي الله عنه أربعين ، وعمر رضي الله عنه ثمانين ، وكل سنة ، وهذا أحب إلي ) . ورواه أبو داود أيضاً مختصراً قال : فقال علي رضي الله عنه : 16 ( جلد رسول الله في الخمر وأبو بكر رضي الله عنه أربعين ، وكمّلها عمر رضي الله عنه ثمانين ، وكل سنة ) . وفعل كل أحد بل وقوله المخالف لفعل رسول الله ملغى ، واعلم أن عامة الأصحاب يحكون الروايتين كما تقدم ، وأبو العباس يحكي الرواية الثانية أن الواجب أربعون ، وأن الزيادة على الأربعين يفعلها الإمام عند الحاجة ، إذا أدمن الناس الخمر . أو كان الشارب لا يرتدع بدونها ، قال : وهذا أوجه القولين . قلت : ولا ريب أن هذا القول هو الذي يقوم عليه الدليل ؛ إذ النبي ضرب نحواً من أربعين ، ولم يوقت فيه مقداراً معيناً .
3222 قال علي رضي الله عنه : 16 ( ما كنت لأقيم على أحد حداً فيموت فأجد في نفسي شيئاً ، إلا صاحب الخمر ، فإنه لو مات وديته ، وذلك أن رسول الله لم يسنه ) ، متفق عليه . وفي رواية أبي داود : فإن رسول الله لم يسن فيه شيئاً ، إنما هو شيء قلناه نحن .
____________________
(3/144)
3223 وعن ابن عباس رضي الله عنهما 16 ( أن رسول الله لم يوقت في الخمر حداً ) ، رواه أبو داود .
وإذا كان رسول الله لم يوقت فيه قدراً معيناً ، وضرب نحواً من أربعين ، وجب اتباع فعله ، وكذلك فعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه في صدر خلافته .
ولما رأى رضي الله عنه عتوّ الناس وازديادهم ضرب ثمانين .
3224 قال السائب بن يزيد رضي الله عنه : 16 ( كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله فإمرة أبي بكر رضي الله عنه وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه ، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا ، حتى كان آخر إمرة عمر ، فجلد أربعين ، حتى إذا عتوا ، وفشوا جلد ثمانين ) . . . رواه البخاري ، ووافقه الصحابة على ذلك ، بل وأشاروا عليه كما تقدم .
3225 ولما كان عثمان رضي الله عنه جلد الحدين كليهما ثمانين وأربعين كما في أبي داود ، وعلي رضي الله عنه جلد أربعين ، وقال : إن الكل سنة . وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه زاد فيه النفي وحلق الرأس لما كثر الشرب ، مبالغة في الزجر .
وهذا كله يدلّ على جواز الزيادة على الأربعين اه .
وقول الخرقي ( ومن ) يدخل فيه الرجل والمرأة ، والحر والعبد ، وسيأتي الكلام على العبد ، والمسلم والكافر ، ولا يخلو الكافر إما أن يكون ملتزماً أو غير ملتزم ، فغير الملتزم كالحربي لا حدّ عليه ، والملتزم كالذمي والمستأمن فيه روايتان ، أصحهما عند أبي محمد وأبي الخطاب في الهداية لا حد عليه ، لأنا صالحناهم على أن لا نتعرض لهم فيما لا ضرر علينا فيه . ( والثانية ) عليه الحد ، لأنه مكلف ، فجرى عليه الحد كالمسلم .
وقد تنبني الروايتان على تكليفهم بالفروع ، لكن المذهب ثم قطعا تكليفهم بها . واختار أبو البركات هنا أنه إن سكر حد وإلا فلا ، إناطة باعتقاده التحريم وعدمه ، وقوله ( شرب ) خرج على الغالب ، وكذلك الحكم لو ثرد الخمر أو اصطبغ به ، أو لتَّ به سويقاً ، أو خلطه بطعام فأكله أو استعط به ، أو احتقن به ، نص أحمد على أكثر ذلك ، وأومأ إلى بقيتها ، وكذلك إن طبخ به لحماً فأكل من مرقته ، قاله أبو محمد . أما إن عجن به دقيقاً وخبزه فإنه لا يحد بأكله ، لأن النار أكلت أجزاء الخمر ، ولم يبق إلا أثره . وكذلك مختار أبي محمد في الاحتقان ، كما لو داوى به جرحه ، وكلامه يوهم أن ذلك رواية ، ووقع في كلام أحمد أنه لو تمضمض به وجب الحد .
____________________
(3/145)
فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه في الرجل يستعط بالخمر ، أو يحتقن به ، أو يتمضمض أرى عليه الحد ، فهم يقولونه : لو أن رجلاً لت سويقاً بخمر أو صب على خمر ماء كثيراً ثم شربه لم يحد ؛ ذكر هذا النص القاضي في التعليق ، وهو محمول على أن المضمضمة وصلت إلى حلقه .
قال ابن حمدان في الكبرى : وكذا قيل في المضمضة به يعني يحد .
قال : وهو بعيد اه .
وقوله : مسكراً قلّ أو كثر ، يخرج به غير المسكر وهو واضح ، ويعم كل مسكر وإن قل ولم يسكر به .
وهذا مذهبنا لما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها : ( كل شراب أسكر فهو حرام ) وحديث ابن عمر رضي الله عنهما : ( كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام ) ، وحديث ابن عباس : ( كل مخمر خمر ، وكل مسكر حرام ) وإذا كان كل مسكر خمراً فقد دخل في آية التحريم ، مع أن رسول الله نصّ على تحريمه .
3226 ودخل في وجوب الحد ، بقوله عليه السلام : ( من شرب الخمر فاجلدوه ) ، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية معاوية وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم .
3227 وعن جابر رضي الله عنه أن رجلاً قدم من جيشان ، وجيشان من اليمن ، فسأل رسول الله عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة ، يقال له المزر ، فقال رسول الله : ( أو مسكر هو ) ؟ قال : نعم ، قال رسول الله : ( كل مسكر حرام ، وإن الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ) .
قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : ( عرق أهل النار ، أو عصارة أهل النار ) رواه مسلم والنسائي .
3228 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله فذكر آية الخمر ، فقال رجل : يا رسول الله أرأيت المزر ؟ قال : ( وما المزر ) ؟ قال : حبة تصنع باليمن ، قال : ( تسكر ) ؟ قال : نعم ، قال : ( كل مسكر حرام ) .
وفي رواية : ( المسكر قليله وكثيره حرام ) .
3229 وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( أنهاكم عن قليل ما أسكر وكثيره ) ، رواه النسائي .
____________________
(3/146)
3230 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سئل رسول الله عن البتع ، وهو نبيذ العسل ، وكان أهل اليمن يشربونه ، فقال : ( كل شراب أسكر فهو حرام ) متفق عليه .
3231 وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) .
3232 وعن عائشة رضي الله عنها أيضاً قالت : قال رسول الله : ( كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ) رواهما أبو داود والترمذي .
والأحاديث في الباب كثيرة ، وقد صنف الإمام أحمد في ذلك كتاباً كبيراً وافياً بالمقصود ، وقد اختلف الناس في الحشيش هل يحد بها أو لا يحد ، ومختار أبي العباس وجوب الحد بها .
وقول الخرقي : وهو مختار لشربها ، يعلم أن كثيرها يسكر . يعني أنه يشترط لوجوب الحد شرطان ( أحدهما ) أن يكون مختاراً ، فإن كان مكرهاً فلا حد عليه ، هذا هو المذهب المعروف ، والمختار من الروايتين .
3233 لقول النبي : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) الحديث .
قال أبو محمد : وسواء أكره بالوعيد ، أو بالضرب أو ألجى إلى شربها بأن فتح فوه وصب فيه .
( والرواية الثانية ) يحد ، حملاً للحديث على الإكراه على الأقوال ، والأفعال تؤثر ما تؤثر الأقوال ، ولا نزاع أنه يجوز أن يدفع بها لقمة غص بها ، إذا لم يجد مائعاً سواها ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ) .
( الثاني ) أن يعلم أن كثيرها يسكر ، لأنه إذا لم يعلم ذلك لم يقصد ارتكاب المعصية ، فهو كمن زفت إليه غير زوجته ، وفي معنى ذلك من لم يعلم بالتحريم لما تقدم .
3234 وعن عمر وعثمان رضي الله عنهما لا حد إلا على من علمه . نعم مدعي ذلك إن نشأ بين المسلمين لم تقبل دعواه ، وإلا قبل ، ولا تقبل دعوى الجهل بالحد ، قاله ابن حمدان .
قال : فإن مات في جلده فالحق قتله .
____________________
(3/147)
ش : لأنه مأذون في جلده من جهة الحق سبحانه ، فإذا مات في ذلك من غير اعتداء فقتله منسوب إلى البارئ سبحانه ، ولأنه حد وجب لله ، فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود . وما تقدم عن علي رضي الله عنه في شارب الخمر من قوله : لو مات وديته ، محمول على التورع لأن الرسول لم ينص عليه بلفظه ، وليس فيه أنه يديه من بيت المال ، وقد قال هو ؛ إن النبي جلد أربعين . وحصل الإجماع على ذلك ، فهو كبقية الحدود ، ولا فرق بين أن يموت في الأربعين أو بعد الأربعين ، وإن قلنا : الزيادة عليها تعزير ، إذ التعزير واجب فهو كالحد .
قال : ويضرب الرجل في سائر الحدود قائماً .
ش : هذا هو أشهر الروايتين .
3225 لأنه يروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : لكل موضع من الجسد حظ . يعني في الحد إلا الوجه والفرج ، وقال للجلاد : اضرب وأوجع ، واتق الرأس والوجه ، وقيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب .
( والرواية الثانية ) يضرب جالساً ، لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام ، واستعمل الخرقي ( سائر ) بمعنى جميع على قاعدته ، ومراده الحدود التي فيها ضرب .
قال : بسوط .
ش : يعني أن الضرب يكون بسوط ، لا بعصا ولا بغيرها ، إذ الجلد إذا أطلق إنما يفهم منه الضرب بالسوط .
3236 وقد روى زيد بن أسلم أن رجلاً اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله ، فدعا رسول الله بسوط ، فأتي بسوط مكسور ، فقال : ( فوق هذا ) فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال : ( بين هذين ) فأتي بسوط قد لان وركب به فأمر به فجلد ، وهذا بيان للجلد المأمور به في الآية الكريمة .
وقد دخل في كلام الخرقي حد الخمر ، ولا ريب عندنا أنه يجوز الجلد فيه بالسوط لما تقدم .
3237 وقد جاء عن عمر رضي الله عنه أنه جلد قدامة بن مظعون بسوط ، ولا يتعين ذلك ، بل للإمام أن يضربه بالجريد والنعال إذا رأى ذلك ، لما تقدم . قاله أبو الخطاب في الهداية ، وأبو البركات وابن حمدان .
وعموم كلام الخرقي يقتضي تعين ذلك ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني ، فأورده مذهباً ، وهو ظاهر كلامه في الكافي ، وكلام القاضي في الجامع الصغير ، والشريف والشيرازي وابن عقيل وغيرهم ، قالوا : يضرب بسوط . وأجاب أبو محمد عما تقدم بأنه كان في بدء الإسلام ، ويرده حديث السائب بن يزيد وقد تقدم .
قال : لا جديد ولا خلق .
____________________
(3/148)
ش : لما تقدم عن زيد بن أسلم ، ولأنه إن كان خلقاً قل ألمه ، وإن كان جديداً جرح ، والمقصود ردعه لا قتله .
3228 وعن علي رضي الله عنه أنه قال : ضرب بين ضربين ، وسوط بين سوطين . ومن ثم قال أحمد : لا يبدي إبطه في شيء من الحدود ، أي لا يبالغ في رفع يده فيبالغ في الألم ، وربما قتله ، وقال الأصحاب : يضرب وعليه القميص والقميصان لا الفراء ونحوها .
قال : ولا يمد ولا يربط .
ش : لأن ذلك لم ينقل عن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم .
3239 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ليس في ديننا مد ، ولا قيد ، ولا تجريد .
3240 وفي مسلم في قصة ماعز قال : فما أوثقناه ولا حفرنا له .
قال : ويتقي وجهه .
3241 ش : ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه ) رواه أبو داود ، واقتصر الخرقي على الوجه لهذا الحديث ، وزاد غيره ( الرأس ) لما تقدم عن علي رضي الله عنه ( والمقاتل ) حذاراً من قتله ، ويفرق الضرب على جميع أعضائه .
وهذا على رواية أنه يضرب قائماً ، وعلى الأخرى يضرب الظهر وما قاربه .
قال : 16 ( وتضرب المرأة جالسة ) .
ش : لأن المرأة عورة ، وجلوسها أستر لها .
3242 وعن علي رضي الله عنه قال : تضرب المرأة جالسة والرجل قائماً .
قال : وتشد عليها ثيابها ، وتمسك يداها لئلا تنكشف .
ش : ذكر الخرقي الحكم ودليله ، وهو خشية تكشفها وهي عورة .
قال : ويجلد العبد والأمة أربعين بدون سوط الحر .
ش : يجلد العبد والأمة نصف جلد الحر ، وذلك أربعون على اختيار الخرقي ، وعشرون على اختيار أبي بكر .
3243 لأن ابن شهاب رضي الله عنه سئل عن حد العبد في الخمر فقال : بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر وكان عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم يجلدون عبيدهم في الخمر نصف حد الحر . . . رواه مالك في الموطأ ، ويكون سوطه
____________________
(3/149)
دون سوط الحر ، تخفيفاً للصفة كما في العدد ، ولأبي محمد احتمال وهو ظاهر إطلاق جماعة أنه كسوط الحر ، لأن التنصيف إنما يتحقق إذا كان كذلك .
قال : والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلي قبل ذلك فيحرم .
ش : لا ريب أن العصير إذا غلى وقذف بالزبذ أنه حرام وإن لم تأت عليه ثلاثة أيام .
3244 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : علمت أن رسول الله كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فأخذه فإذا هو ينش ويغلي فقال لي : ( اضرب به الحائط ، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ) رواه أبو داود والنسائي ، نعم إذا علم من شيء أنه لا يسكر فلا بأس به وإن غلى كالفقاع ، إذ العلة في التحريم الإسكار ، ولا إسكار فيه .
ولا ريب أنه إذا لم يغل ولم يأت عليه ثلاثة أيام ، أنه مباح .
3245 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كنا ننبذ لرسول الله في سقاء غدوة فيشربه عشية ، وعشية فيشربه غدوة ، مختصر . . . رواه أبو داود والترمذي والنسائي ، واختلف فيما إذا أتت عليه ثلاثة أيام ولم يغل ، فمنصوص أحمد وعليه عامة أصحابه تحريمه .
3246 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله ينبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك ، والليلة التي تجيء ، والغد والليلة الأخرى ، والغد إلى العصر ، فإن بقي شيء سقى الخادم ، أو أمر به فصب .
وفي رواية : كنّا ننقع لرسول الله الزبيب فيشربه اليوم والغد ، وبعد الغد إلى مساء الثالثة ، ثم يأمر فيسقى أو يهراق . رواه مسلم وأحمد وأبو داود ، وظاهر هذا أن هذا كان دأبه وعادته ، لا أنه فعل ذلك في شيء ،
____________________
(3/150)
الغالب أنه يتخمر بعد ذلك .
3247 وقد روى الشالنجي بإسناده عن النبي أنه قال : ( اشربوا العصير ثلاثاً ما لم يغل ) .
3248 وقال ابن عمر رضي الله عنهما في العصير : اشربه ما لم يأخذه شيطانه . قيل : وفي كم يأخذه شيطانه ؟ قال : في ثلاث . . . حكاه أحمد . والمعنى في ذلك أن الشدة تحصل في الثلاث كثيراً ، وهي خفية تحتاج إلى ضابط ، فجعلت الثلاث ضابطاً لها ، ولم يلتفت أبو الخطاب إلا إلى الغليان ، وحمل كلام أحمد على عصير الغالب أن يتخمر في الثلاث ، ولأبي محمد احتمال بكراهة ذلك من غير تحريم ، لأن 16 ( أحمد ) قال في موضع : أكرهه .
قال : وكذلك النبيذ .
ش : يعني أنه مباح ما لم يغل ، أو يأت عليه ثلاثة أيام لما تقدم من حديث ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء .
قال : والخمرة إذا أفسدت فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها .
ش : هذا هو المذهب المشهور المجزوم به .
3249 لما روي عن أنس رضي الله عنه أن النبي سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال : ( لا ) . . . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه .
3250 وعنه أيضاً أن أبا طلحة سأل رسول الله عن أيتام ورثوا خمراً ، فقال : ( أهرقوها ) قال : أفلا نجعلها خلاً ؟ قال : ( لا ) رواه أحمد وأبو داود ، فنهى عن التخليل ، والنهي يقتضي الفساد ، وأمر بإراقتها مع كونها لأيتام ، ولو زال تحريمها بالتخليل لأرشده إلى ذلك ، حذاراً من ضياع المال ، لا سيما وهي لأيتام .
3251 وقد روي أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر فقال : لا تحل خمر أفسدت ، حتى يكون الله تعالى هو الذي تولى إفسادها ، ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلاً ما لم يعتمد إفسادها ، فعند ذلك يقع النهي . رواه أبو عبيد في الأموال بنحو من هذا المعنى ، وهذا قاله بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر فكان إجماعاً ، وقيل : يزول تحريمها مطلقاً ، لأن علة التحريم الشدة المطربة ، وقد زالت فيزول التحريم ، وقيل وهو احتمال لأبي محمد إن قصد تخليلها بنقلها من الشمس إلى الفيحاء أو بالعكس حلت لما تقدم ، وإن خللت بما يلقى فيها لم تحل ، لنجاسة الملقى فيها ، فإذا انقلبت بقي الملقى فيها على نجاسته .
قال : وإن قلب الله تعالى عينها فصارت خلاً فهي حلال .
ش : لما تقدم عن عمر رضي الله عنه ولزوال علة التحريم من غير فعل محرم .
قال : والشرب في آنية الذهب والفضة حرام .
3252 ش : لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) متفق عليه . ولمسلم :
____________________
(3/151)
( الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب ) .
3253 وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة بالمدائن فاستسقى فسقاه مجوسي في إناء من فضة ، فرماه به وقال : إني قد أمرته أن لا يسقيني فيه ، إني سمعت رسول الله يقول : ( لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ) متفق عليه .
فنهي والنهي يقتضي التحريم ، وأخبر أن الذي يفعل هذا تجرجر النار في بطنه ، أو أنه هو يجرجرها في بطنه ، وعلى كليهما لا يكون ذلك إلا بفعل محرم .
( تنبيه ) : ( الديباج ) كذا ، والله أعلم .
قال : وإن كان قدح عليه ضبة فضة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس .
ش : إباحة الضبة في الجملة إجماع حكاه أبو البركات .
3254 ويشهد له ما روى أنس رضي الله عنه أن قدح النبي انكسر ، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة . . . رواه البخاري ، ولفظه : انصدع .
وهذا يخصص حديث ابن عمر رضي الله عنه المتقدم في الآنية : ( أو إناء فيه شيء من ذلك ) إن صح ، إلا أن البيهقي أشار للاعتراض على حديث البخاري فقال : إنه يوهم أن يكون النبي اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة قال : فصح بهذا السند أيضاً إلى أنس وفيه : فجعلت مكان الشعب سلسلة .
3255 وروى أيضاً عن عاصم الأحول قال : رأيت قدح النبي عند أنس رضي الله عنه وكان قد انصدع فسلسله بفضة ، قلت : وإنما يجيىء الوهم إذا ضبط الرواة ( جعلت ) مبنياً للفاعل ، أما إن لم يضبطوا ذلك فيحتمل البناء للمفعول ، وإذاً لا يتعين أن يكون الفاعل هو أنس رضي الله عنه بل يجوز أن يكون النبي هو الفاعل ، وهذا أولى ، لموافقته رواية البخاري ، ثم على البناء للفاعل ليس فيه أن ذلك كان بعد موت النبي ، فيجوز أن يكون في حياته بأمره ، ثم تارة أضاف الفعل إلى نفسه لأنه الفاعل حقيقة ، وتارة أضافه إلى النبي لأمره بذلك ، كما يقال : بنى الأمير المدينة ، ونحو ذلك .
وعاصم فيه كلام ، ثم قوله : فسلسله ليس فيه أن ذلك بعد موت النبي ، فيجوز أن يكون في حياته ، وأضاف الفعل إليه كما تقدم ، وبالجملة بالإجماع فيه كفاية ، على أنا نقول بحجية قول الصحابي ، وتخصيصه للعموم .
____________________
(3/152)
إذا تقرر هذا ، فظاهر كلام الخرقي اختصاص الجواز بضبة الفضة ، وهو المذهب المنصوص اتباعاً لقضية النص .
( وعن أبي بكر ) جواز اليسيرة من الذهب لحاجة .
وظاهر كلامه أيضاً أنه يشترط أن لا يباشر الضبة بالاستعمال ، ولا يشرب من موضعها ، وهو ظاهر كلام أحمد ، واختيار ابن عقيل ، وابن عبدوس ، إذ الأصل التحريم تبعاً للنص ، ثم أبيح ما تدعو الحاجة إليه ، فما عداه يبقى على الأصل ، وقيل : يكره ذلك من غير تحريم .
وبه قطع أبو الخطاب في الهداية ، وابن البنا ، وصاحب التلخيص ، و أبو محمد في الكافي والمغني ، ولابن تميم احتمال بالإباحة ، ويحتمله كلام القاضي في تعليقه ، وأبي البركات في محرره ، وطائفة لسكوتهم عن ذلك .
ومحل الخلاف إذا لم يحتج إلى المباشرة ، أما إن احتاج إلى ذلك كلحس الطعام والشراب إذا كانت في موضعه فيباح .
واختلف في شرطين آخرين ( أحدهما ) هل يشترط في الضبة أن تكون يسيرة ، وهو المذهب ، لأنها إذاً تابعة في حكم العدم ، أو لا يشترط ، بل تجوز الكبيرة للحاجة إناطة بها وهو اختيار ابن عقيل ؟ على قولين .
( الثاني ) هل يشترط أن تكون مع قلتها للحاجة ، وهو المنصوص ، قاله أبو البركات ، وقطع به أبو الخطاب في هدايته ، وابن البنا ، وصاحب التلخيص فيه ، قصراً للحكم على مورد الأثر ، أو لا يشترط ، وجزم به جماعة ، نظراً لاغتفار اليسير مطلقاً كما تقدم ؟ على قولين ، ثم على الثاني هل تكره والحال هذه ، وبه جزم القاضي في تعليقه ، ويحتمله كلام أحمد في رواية أحمد بن نصر ، وجعفر بن محمد ، قال : لا بأس بالضبة ، وأكره الحلقة ، أو تباح ، وبه قطع ابن عقيل ، والشيرازي ؟ على قولين أيضاً .
وكلام الخرقي محتمل في الشرطين ، لكن لا نعرف قائلاً بجواز الكبيرة لغير حاجة بل ملخص الشرطين أن الكبيرة لغير حاجة لا تباح ، واليسيرة لحاجة تباح ، وفي الكبيرة لحاجة واليسيرة لغير حاجة قولان .
( تنبيه ) : المراد بالحاجة هنا أن يحتاج إلى تلك الصورة ، سواء كانت من حديد أو فضة ، أو نحاس أو غير ذلك ، لا أن يحتاج إلى كونها من فضة ، بل هذه ضرورة يباح معها الذهب ولو مفرداً ، كما لو احتاج إلى اتخاذ أنف من ذهب ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : ولا يبلغ بالتعزير الحد .
ش : أصل التعزير في اللغة المنع ، فقوله تعالى ؛ 19 ( { وعزروه } ) أي منعوا أعداءه من الظفر به . وقول القائل : عزرت فلاناً ، إذا ضربته في معصية ، أي منعته بضربي إياه من
____________________
(3/153)
معاودة مثل ذنبه .
وقال السعدي : عزرته ، أي أدبته ، وعزرته وقرته ، فهو من الأضداد ، وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة ، كالوطء دون الفرج ، وسرقة ما لا قطع فيبه ، والجناية على الناس في أموالهم أو في أبدانهم بما لا قصاص فيه . . . ونحو ذلك .
3256 سئل علي رضي الله عنه عن قول الرجل للرجل : يا فاسق يا خبيث ، قال : هن فواحش فيهن تعزير ، وليس فيهن حد . ولا يشرع فيما فيه حد إلا على ما قاله أبو العباس في شارب الخمر ، وفيما إذا أتى حداً في الحرم ، فإن بعض الأضحاب قال : إن حده يغلظ ، وهو نظير تغليظ الدية بالقتل في ذلك .
وكذلك نص أحمد ، وقاله جماعة من الأصحاب فيمن شرب الخمر في رمضان : يغلظ حده ، وهل يشرع فيما فيه كفارة ، كالظهار ، وقتل شبه العمد ونحوهما ؟ فيه وجهان .
إذا تقرر هذا فلا تقدير لأقل التعزير ، بل هو على قدر ما يراه الإمام ، إلا في وطء جارية زوجته التي أحلتها له ، فإنه لا ينقص عن مائة ، بل ولا يزاد عليها للنص ، ويختلف باختلاف الأشخاص والأجرام ، ولا يتعين الضرب فيه ، بل يجوز بالحبس والإحراق إلا في وطء جارية زوجته .
قال في الكافي : والجارية المشتركة ، ولا يجوز بقطع الطرف والجرح ، وأخذ المال . قاله أبو محمد . وجوّز أبو العباس التعزير بقطع الخير ، والعزل عن الولايات .
3257 مستنداً لعزل عمر رضي الله عنه بعض نوابه لما بلغه عنه أنه تمثل بأبيات في العقار .
3258 وعنه أيضاً رضي الله عنه أنه عزر فيه بالنفي وحلق الرأس ، واختلف في أعلاه ، فروى جماعة عن أحمد أنه لا يزاد فيه على عشر جلدات .
3259 اعتماداً على حديث أبي بردة هانىء بن نيار رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول : ( لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط ، إلا في حد من حدود الله عز وجل ) ، وفي لفظ : ( لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله تعالى ) رواه البخاري ، وهذا عام في كل عقوبة ، خرج منه الاستثناء حدود الله تعالى . والمتيقن من ذلك الحدود المقدرة الطرفين ، فما عداها يبقى على العموم .
وحكى أبو الخطاب ( رواية أخرى ) أنه لا يزاد على تسع جلدات ، ولا يظهر لي وجهها ، ونقل جماعة عن أحمد في الرجل يطأ جارية بينه وبين شريكه : يجلد مائة إلا سوطاً .
____________________
(3/154)
3260 قال : كذا قال سعيد بن المسيب ، قال الراوي : وذهب إلى حديث عمر رضي الله عنه ونص أيضاً فيما إذا وطىء جارية زوجته وقد أحلتها له أنه يجلد مائة .
3261 لحديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أنه رفع إليه رجل غشي جارية زوجته ، فقال : لأقضين فيها بقضاء رسول الله إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة ، وإن كانت لم تحلها لك رجمتك . رواه الخمسة ، فاستثنى القاضي في الروايتين هاتين الصورتين .
وقال : المذهب عندي أنه لا يزاد على عشر جلدات إلا في هاتين الصورتين ، لقضية النص .
وقال : هو في خلافه ، وعامة أصحابه وغيرهم : إنه يؤخذ من هذا أن كل ما كان سببه الوطء كوطء الجارية المشتركة والمزوجة ، والمحرمة برضاع ، ووطء الأجنبية دون الفرج ، وإذا كان مع امرأة في لحاف ، ووطء الأب جارية ابنه ، ووطء البهيمة حيث قيل بالتعزير فيهما : يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات ، ما لم يبلغ به الحد في ذلك الجنس ، فيجوز أن يضرب الحر مائة ، ولا ينفي ، وبعضهم يقول مائة إلا سوطاً ، أو مائة بلا نفي .
وبعض الأصحاب اعتمد نص أحمد كما تقدم ، ففي المشتركة مائة إلا سوطاً ، وفي أمة الزوجة مائة ، ونص أيضاً فيما إذا وطىء دون الفرج أنه يضرب مائة .
3262 وقد نقل عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف يضربان مائة ، وفرع أبو البركات على هذا في أن العبد يضرب خمسين إلا سوطاً ، قال ابن حمدان : وقيل خمسون ، ومن قال بهذا وهم الأكثرون قالوا : إن في ما عدا الوطء يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات ، ولا يبلغ به أدنى الحدود .
3263 أخذاً بما روى صالح قال : حدثني أبي ، ثنا وكيع ، ثنا سفيان ، عن عطاء بن أبي مروان أن علياً رضي الله عنه ضرب النجاشي ثمانين ، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين ، وقال : هذا لتجريك على الله ، وإفطارك في رمضان . قال أبي : أذهب إليه ، وظاهر كلام الخرقي أن جميع التعزيرات يجوز أن يزاد فيها على العشر ، ولا يبلغ به أدنى الحدود ، كذا فهم عنه القاضي وغيره .
ثم أكثر الأصحاب يقولون : لا يبلغ بالحر أدنى حده وهو الأربعون أو الثمانون ، ولا بالعبد أدنى حده ، وهو عشرون أو أربعون . وقيل : لا يبلغ بكليهما حد العبد .
وقال أبو محمد : إن كلام أحمد في وطء الأمة المشتركة ونحوها ، وكلام الخرقي يحتمل أن لا يبلغ بالتعزير في الذنب حد جنسه ، ويجوز أن يزيد على حد جنس آخر ،
____________________
(3/155)
وإلى هذا ميل أبي العباس ، وهو أقعد من جهة الدليل .
3264 لما روي عن عمر رضي الله عنه أن رجلاً نقش على خاتمه ، وأخذ من بيت المال ، فضربه مائة ، ثم ضربه في اليوم الثاني ، مائة ، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة ، وهذا كله دون حد جنسه وهو القطع ، وحديث النعمان لم يبلغ بع الحد في جنسه ، لأن حد واطىء جارية امرأته الرجم لإحصانه . وكذلك قصة عمر والخلفاء رضي الله عنهم في الأمة المشتركة ، وفيمن وجد مع امرأة في لحاف ، ويحمل حديث أبي بردة رضي الله عنه على أن أحداً لا يؤدب فوق عشرة أسواط ، والتأديبات تكون في غير محرم ، وقوله : ( إلا في حد من حدود الله تعالى ) فالمراد به في المحرمات التي حرمها الله سبحانه ، كما في قوله : 19 ( { تلك حدود الله فلا تقربوها } ) ، وذلك يشمل الحدود المقدرة وغيرها ، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
قال : وإذا حمل عليه جمل صائل ، فلم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه ، فضربه فقتله فلا ضمان عليه .
ش : إذا صالت عليه بهيمة فلم يقدر على التخلص منها إلا بضربها ، فله ذلك إجماعاً ، ولا ضمان عليه ، لأنه حيوان جاز إتلافه ، فلم يضمنه كالآدمي المكلف ، ولأنه قتله لدفع شره ، فأشبه العبد ، وفارق المضطر إلى طعام الغير ، حيث يضمنه فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه ، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته .
قال : ولو دخل رجل منزله بسلاح ، فأمره بالخروج فلم يفعل ، فله ضربه بأسهل ما يخرجه به ، فإن علم أنه يخرج بضرب عصا لم يجز أن يضربه بحديدة .
ش : إذا دخل رجل منزل غيره بغير إذنه فلصاحب المنزل أمره بالخروج ، لتعديه بالدخول ، قال الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم ، حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } ) الآية .
3265 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله أرأيت أن عدي على مالي ، قال : ( فأنشده بالله ) قال : فإن أبوا عليّ ؟ قال : ( فقاتل ، فإن قتلت ففي الجنة ، وإن قتلت ففي النار ) رواه النسائي . فإن خرج بالأمر لم يكن له ضربه لظاهر الحديث ، ولزوال تعديه وإن لم يخرج بالأمر فله ضربه ، دفعاً للضرر الحاصل له بتسليط الغير عليه . وللحديث ، ويضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به ، لأن الزائد لا حاجة به إليه ، إذ المقصود الدفع ، ولهذا قلنا في البغاة لا يتبع مدبرهم ، ولا يجاز على جريحهم ، وقد أشار في الحديث إلى هذا حيث أمر بالإنشاد أولاً ، ويتفرع على هذا أنه إذا علم أنه يندفع بعصا لم يجز أن يضربه بحديدة ، وكذلك لو غلب على ظنه أنه يندفع بقطع بعض أعضائه لم يكن له قتله ، فلو قتله
____________________
(3/156)
والحال هذه ضمنه ، وكذلك لو ضربه فقطع يده فولى ، لم يكن له ضربه ثانياً ، فإن فعل فقطع رجله ضمنها فقط ، وعلى هذا .
3266 وقد يستشكل هذا بالحديث الصحيح : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) . والأمر باللسان أسهل على المنكر عليه من التغيير باليد بكسر أو إتلاف ونحو ذلك .
3267 وقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى لصاً فأصلت عليه السيف ، قال : فلو تركناه لقتله . وحمل أبو محمد فعل ابن عمر على قصد الترهيب ، وقد يحمل على أنه خشي إن لم يبادره بذلك بادره اللص بالقتل . وفي هذه الصورة يجوز بدأته بالقتل .
( تنبيه ) الخرقي ذكر الحكم فيما إذا كان مع الداخل سلاح ، وأبو محمد قال في المغني : وإن لم يكن معه سلاح ، ولعل كلام الخرقي أصوب إذ المسألة مفروضة عند كثير من الأصحاب فيمن دخل متلصصاً أو صائلاً ، والغالب من حال هذين أن معهما سلاحاً ، أما إن دخل إنسان على غير هاتين الحالتين ، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا يجرى عليه هذا الحكم . نعم يؤمر بالخروج قطعاً ، فإن لم يخرج فينبغي أن يخرج بالشرط ونحو ذلك .
قال : فإن آل الضرب إلى نفسه فلا شيء عليه .
ش : يعني إذا آل الضرب إلى نفس الداخل فلا شيء على الضارب ، لأنه تلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي .
3268 وقد روي أن رجلاً أضاف إنساناً من هذيل ، فأراد امرأة على نفسها ، فرمته بحجر ، فقتلته فقال عمر رضي الله عنه : والله لا يودى أبداً .
3269 وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه السابق في رواية مسلم قال : يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال : ( فلا تعطه مالك ) قال : أرأيت ءن قاتلني ؟ قال : ( قاتله ) قال : أرأيت إن قتلني ؟ قال : ( فأنت شهيد ) قال : أرأيت إن قتلته ؟ قال : ( هو في النار ) .
قال : وإن قتل صاحب الدار كان شهيداً .
ش : لأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيداً كالعادل يقتله الباغي ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه .
____________________
(3/157)
3270 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي . . .
3271 وقد روي من حديث بريدة رواه النسائي ، ومن حديث سعيد بن زيد رواه الترمذي ، وأبو داود والنسائي ، ولفظه : سمعت رسول الله يقول : ( من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد ) .
قال : وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها ، وما أفسدت من ذلك نهاراً لم يضمنوه .
ش : كذا قال جماعة من الأصحاب ، منهم القاضي في الجامع الصغير ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، وابن عقيل في التذكرة ، وغيرهم .
3272 لما روى حرام بن محيصة رضي الله عنهما أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً فأفسدت فيه ، فقضى نبيّ الله أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه . قال ابن عبد البر : هذا وإن كان مرسلاً فهو مشهور ، حدث به الأئمة الثقات ، وتلقاه فقهاء بالحجاز بالقبول . ولأن عادة أهل المواشي إرسالها نهاراً ، وحفظها ليلاً ، وعادة أهل الحوائط حفظها نهاراً لا ليلاً ، فإذا أتلفت ليلاً فالتفريط من أهلها لتركهم حفظها ، وإن أتلفت نهاراً فالتفريط من أرباب الحوائط ، لعدم حفظها ، ومن التفريط منه الغرم عليه .
وحكى أبو البركات رواية ، وأوردها مذهباً ، وقطع بها أبو الحسين في فروعه ، أن الضمان إنما يجب على أرباب البهائم في الليل إذا لم يحفظوها عن الخروج فيه ، لتفريطهم إذاً ، بخلاف ما إذا حفظوها فأفسدت ، كما إذا انفلتت من الربط ، أو سقط الحائط أو فتح اللص الباب ونحو ذلك ، فخرجت فأفسدت فلا ضمان ، لانتفاء التفريط ولعموم ( العجماء جبار ) نعم في صورة ما إذا فتح الباب لص ونحوه الضمان على الفاتح ، قاله في الكافي ، واستثنى أبو البركات من عدم الضمان في النهار ما إذا أرسلت عمداً بقرب ما تفسده عادة ، لقصد التعدي والحال هذه ، ونحو هذا قول القاضي في موضع قال : المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعي ، أما القرى العامرة التي لا يرعى فيها إلا بين قراحين كساقية وطريق ، وطرق زرع ، فليس لصاحبها إرسالها
____________________
(3/158)
بغير حافظ عن الزرع ، فإن فعل فعليه الضمان لتفريطه .
والخرقي رحمه الله نص على الزرع ، فقد يوهم كلامه أن غير الزرع لا ضمان فيه على أربابها مطلقاً ، وصرح بذلك أبو محمد .
3273 مستنداً لقول النبي : ( العجماء جبار ) ، ولم يفرق القاضي في الجامع ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وأبو البركات وغيرهم بين الزرع ، وغيره ، ويرشحه حديث ناقة البراء رضي الله عنه ، فإن الحوائط البساتين .
( تنبيه ) : ( العجماء ) الدابة ، ( والجبار ) الهدر الذي لا شيء فيه .
قال : وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال ، وكذلك إن قادها أو ساقها .
ش : لإمكان حفظها والحال هذه عن الجناية ، فإذا لم يحفظها الراكب أو السائق أو القائد فقط فرط ، والمفرط عليه الضمان .
3274 وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الرجل جبار ) رواه أبو داود ، فمفهومه أن غير الرجل ليس بجبار ، فيحمل على ما إذا كان معها راكب أو سائق أو قائد ، وتحمل روايته في الصحيحين : ( العجماء جرحها جبار ) ، على ما إذا لم يكن معها أحد ، وحكم ما أتلفته بفمها حكم ما أتلفته بيدها ، وكلام الخرقي يشمل الليل والنهار وهو كذلك ، وعلم من ذلك أن المسألة السابقة فيما إذا لم تكن في يد أحد .
قال : وما جنت برجلها فلا ضمان عليه .
ش : يعني راكبها ، وهذا إحدى الروايتين ، وبه قطع الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، لعموم الحديث السابق .
3275 وفي رواية ذكرها رزين أن رسول الله قضى في الدابة تنفح برجلها أنه جبار . ( والثانية ) عليه الضمان في الحال التي يضمن فيها اليد أو الفم ، قياساً للرجل عليهما ، وفصل أبو البركات فجعل وطأها يضمنه من معها من راكب أو سائق أو قائد ، لإمكان حفظها إذاً بخلاف نفحها ابتداء ، فإنه لا يضمنه ، لعدم إمكان حفظها ، ونحو ذلك ، قاله ابن البنا قال : إن نفحت برجلها وهو يسير عليها فلا ضمان ، وإن كان سائقاً لها ضمن ما جنت برجلها . واتفق الشيخان على أنه يضمن نفحها لكبحها باللجام ونحوه ، قال أبو البركات : ولو أنه لمصلحته ، لأنه السبب في جنايتها ، ومن ثم قيل : إذا كان السبب من غيره كأن نخسها ونحو ذلك ، فالضمان على ذلك الغير .
____________________
(3/159)
( تنبيه ) : لو أوقفها في طريق فإنه يضمن جنايتها بيدها أو رجلها ، وإن لم يكن معها ، قاله ابن عقيل وابن البنا ، إن كان الطريق ضيقاً ، وإن كان واسعاً فروايتان ، حكاهما ابن البنا .
3276 ومنشأهما حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين ، أو في سوق من أسواقهم ، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن ) رواه الدارقطني ، فهل يؤخذ بعمومه مطلقاً ، أو يحمل على ما إذا وقفها في طريق ضيق ، أو حيث يضر بالمارة ، لتعدّيه إذاً بخلاف الطريق الواسع .
قال : وإذا تصادم الفارسان فماتت الدابتامن ضمن كل واحد منهما قيمة الآخر .
ش : لأن كلاً منهما ماتت دابة الآخر بصدمته ، فكان عليه ضمانها كما لو أتلفها من غير صدم ، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها .
قال : قال : وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفاً فتلفت الدابتان ، فعلى السائر قيمة دابة الواقف .
ش : هذا الذي أورده أبو البركات مذهباً ، ونص عليه أحمد ، قاله أبو محمد ، لأن السائر والحال هذه هو الصادم المتلف ، فوجب عليه الضمان ، واختار أبو محمد أنه إن كان الواقف في طريق ضيق فلا ضمان على السائر ، لتعدي الواقف إذاً بخلاف السائر ، ويشهد لهذا الحديث النعمان وقد تقدم .
ومقتضى كلام الخرقي أن الواقف لا يضمن السائر مطلقاً ، وهو منصوص أحمد ، لأنه هو المتلف لنفسه أو ماله بصدمته ، وقيل يضمنه مطلقاً ، لأنه لولاه ما تلف . وقيل : يضمنه مع ضيق الطريق ، لتعديه بالوقوف إذاً دون سعته ، لعدم تعديه ، وهو مختار أبي محمد ، ومقتضى حديث النعمان رضي الله عنه .
قال : وإذا تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر ، وفي مال كل واحد منهما عتق رقبة .
ش : لأن كل واحد منهما مات من صدمة الآخر ، ووجوب الدية على عاقلتيهما ، لأن ذلك إما خطأ أو شبه عمد ، لأنهما وإن تعمدا ذلك فالصدمة لا تقتل غالباً ، ولا فرق بين البصيرين والأعميين ، والبصير والأعمى والله أعلم .
قال : وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة ، فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة ، أو أرش ما نقصت إذا أخرجت ، إلا أن تكون المنحدرة غلبتها الريح فلم يقدر على ضبطها .
____________________
(3/160)
ش : أما كون السفينة المنحدرة إذا وقعت على المصعدة على قيم المنحدرة قيمة السفينة المصعدة إن غرقت ، أو أرش ما نقصت إن خرجت من الغرق ، لأن المنحدرة تنزل عليها من علوّ فتكون بمنزلة السائر ، والمصعدة بمنزلة الواقف ، وأما كونه يستثنى من ذلك إذا غلب المنحدرة ريح فلم يقدر على ضبطها ، لأنه والحال هذه لا ينسب للقيم تفريط ألبتة ، بخلاف ما تقدم .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو غرقت المنحدرة أنه لا شيء على قيم المصعدة ، وهو كذلك كالسائر مع الواقف ، نعم يستثنى من ذلك إذا كان قيم المصعدة مفرطاً بأن كان يمكنه العدول بسفينته ، والمنحدرة غير قادر ولا مفرط ، فإن الضمان على المصعد ، إناطة بالتفريط . . . ولهذه المسألة التفات إلى مسألة السائر مع الواقف ، والله أعلم .
____________________
(3/161)
( كتاب الجهاد )
ش : لا ريب في مشروعية الجهاد والحث عليه .
3277 وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي قال ) ( لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ) متفق عليه .
3278 وعن أبي عبس الحارثي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النار ) رواه البخاري والترمذي والنسائي .
3279 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنّة ) رواه أحمد والترمذي .
3280 وعن ابن أبي أوفى رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إن الجنة تحت ظلال السيوف ) رواه أحمد والبخاري . . .
3281 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للنبي : ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ( لا تستطيعونه ) قال : فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك يقول : ( لا تستطيعونه ) قال في الثالثة : ( مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم بآيات الله ، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ) رواه مسلم .
3282 وللبخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة ) مختصر . والأحاديث في فضله كثيرة جداً ، وكيف لا وبه قيام الدين .
قال : والجهاد فرض على الكفاية .
____________________
(3/162)
ش : هذا قول عامة أهل العلم ، لقول الله تعالى : 19 ( { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون } ) إلى : 19 ( { وكلا وعد الله الحسنى } ) الآية . وهذا يدل على أن القاعد بلا ضرر غير آثم مع جهاد غيره .
3283 وفي الصحيحين عن البراء رضي الله عنه قال : لما نزلت 19 ( { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله تعالى } ) قال النبي : ( ادعوا فلاناً ) فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف ، فقال : اكتب 19 ( { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } ) وخلف النبي ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله أنا ضرير ، فنزلت مكانها : 19 ( { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون } ) الآية ، وقوله تعالى : 19 ( { وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } ) الآية .
3284 قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : 19 ( { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } ) ، و 19 ( { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } ) قال : نسختها 19 ( { وما كان المئمنون لينفروا كافة } ) . . . رواه أبو داود . ولأن النبي كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه . وعلى هذا تحمل الأوامر المطلقة ؛ كقوله تعالى : 19 ( { كتب عليكم القتال } ) ، وقوله : 19 ( { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } ) وقوله تعالى : 19 ( { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } ) وقوله : 19 ( { انفروا خفافاً وثقالاً } ) ونحو ذلك .
3285 وقول النبي : ( الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً ) رواه أبو داود .
3286 وقوله : ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم ) رواه أبو داود والنسائي .
3287 وقوله عليه السلام : ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) رواه مسلم وغيره . وابن المبارك يقول في هذا الحديث : نرى أن ذلك كان على عهد رسول الله .
( تنبيه ) : يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع ( أحدها ) إذا التقى الزحفان ، وتقابل الصفان ، لقوله
____________________
(3/163)
تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } ) ، وقوله تعالى ؛ 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } ) إلى قوله : 19 ( { فقد باء بغضب من الله } ) . ( الثاني ) إذا استنفره الإمام ، لقوله سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض } ) إلى قوله : 19 ( { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } ) .
3288 وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله قال : ( لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا ) . ( الثالث ) إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ، والنفير إليهم ، لأنهم في معنى حاضري الصف فتعين عليهم كما يتعين عليه لعموم : 19 ( { انفروا خفافاً ثقالاً } ) الآية . . . ولم يذكر أبو محمد في الكافي والمقنع تعينه إلا في موضعين ، إذا حضر الصف ، وإذا حضر العدو بلدة ، وكلام ابن المنجا يقتضي أن ( حصر ) بالصاد المهملة ، لأنه قال : ولأن البلد إذا حصر قرب شبه من فيه بمن حضر الصف ، وإنما هو بالمعجمة ، فإن عبارته في الكافي والمغني كما تقدم .
قال : وإذا قام به قوم سقط عن الباقين .
ش : هذا تفسير لفرض الكفاية ، وهو يشترك وفرض العين أن الجميع مخاطبون به على الصحيح ، وأن الكل إذا تركوه أثموا وقوتلوا عليه ، كما في فرض العين سواء ، ويخالفه في أنه إذا قام البعض به سقط عن الباقين ، بخلاف فرض العين كالصلاة ونحوها ، فإنه لا يسقط عن البعض بفعل البعض ، قال أحمد في رواية حنبل : الغزو واجب على الناس كلهم ، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم ، والفرض في ذلك موقوف على غلبة الظن ، فإذا غلب الظن أن الغير يقوم بذلك سقط عن الباقين ، كما إذا كان ثم جند لهم ديوان لذلك ، وفيهم كفاية ، أو قوم أعدوا أنفسهم لذلك وفيهم منعة للقاء العدو ، ونحو ذلك . وإن غلب على الظن أن لا قائم به وجب على كل أحد القيام به .
( تنبيه ) : إذا قام بفرض الكفاية طائفة ، ثم قام به أخرى ، فهل يقع فعل الثانية فرضاً ؟ فيه وجهان ، وكلام ابن عقيل يقتضي أن فرضيته محل وفاق ، وكلام أحمد رضي الله عنه محتمل .
قال : قال أبو عبد الله رحمه الله : لا أعلم شيئاً من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد .
ش : روى ذلك عن أحمد جماعة ، قال الأثرم : قال أحمد : لا نعلم شيئاً من أبواب البر أفضل من السبيل . وقال في رواية الفضل بن زياد : ما من أعمال البر أفضل منه ، وذلك لما تقدم في فضله ، وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقيل للنبي : ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : ( لا تستطيعونه ) .
____________________
(3/164)
3289 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : مرّ رجل من أصحاب النبي بشعب فيه عيينة من ماء عذبة ، فأعجبته لطيبها ، فقال : لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله فذكر ذلك لرسول الله ، فقال : ( لا تفعل ، فإن مقام أحدكم يوماً في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً ، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة ، اغزوا في سبيل الله ، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ) .
3290 وعن المقدام بن معديكرب قال : قال رسول الله : ( للشهيد عند الله ست خصال ، يغفر الله له في أول دفعة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار ، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويشفع في سبعين من أقاربه ) رواهما الترمذي ، وقال في الثاني : حسن صحيح غريب .
3291 وفي الصحيحين واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي فقال : أي الناس أفضل ؟ قال : ( رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ) قال : ثم من ؟ قال : ( ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب ، يعبد ربه ويدع الناس من شره ) .
3292 وفيهما أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( إيمان بالله ورسوله ) قيل : ثم ماذا ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) قيل : ثم ماذا ؟ قال : ( الحج المبرور ) .
3293 وفيهما أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : ( الصلاة على وقتها ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( بر الوالدين ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( الجهاد في سبيل الله ) قال : حدثني بهن رسول الله ولو استزدته لزداني .
3294 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( ألا أخبركم بخير الناس ؛ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله ) . . . رواه الترمذي وحسّنه .
3295 وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : كنت عند منبر رسول الله
____________________
(3/165)
فقال رجل : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج . وقال آخر : ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام . وقال آخر : الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم . فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه . فأنزل الله تعالى : 19 ( { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد كمن آمن بالله } ) إلى آخرها . رواه مسلم . ولأن فيه إعلاء كلمة الله سبحانه ، وبذل المهجة ، ونفعه يعم جميع المسلمين .
قال : وغزو البحر أفضل من غزو البر .
3296 ش : روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله أنه كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله فأطعمته ، ثم جلست تفلي رأسه ، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك ، قالت : فقلت : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : ( أناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر ، ملوكاً على الأسرة ، أو مثل الملوك على الأسرة ) مختصر رواه مسلم .
3297 وعن أم حرام رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد ، والغريق له أجر شهيدين ) رواه أبو داود .
3298 وفي حديث رواه ابن ماجه : ( شهيد البحر مثل شهيد البر ، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر ، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله ، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الأرواح ، إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم ، يغفر لشهداء البر الذنوب كلها إلا الدين ، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين ) .
وقد دل كلام الخرقي على مشروعية الغزو في البحر ، وقد دل عليه ما تقدم ، والله أعلم .
قال : ويغزى مع كل بر وفاجر .
3299 ش : روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الجهاد واجب عليكم مع كل أمير ، براً كان أو فاجراً ) مختصر .
3300 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( ثلاث من أصل الإيمان ، الكف عمن قال لا إله إلا الله ، لا نكفره بذنب ، ولا نخرجه من الإسلام بعمل ، والجهاد ماض منذ بعثني الله ، إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ، لا
____________________
(3/166)
يبطله جور جائر ، ولا عدل عادل ، والإيمان بالأقدار ) رواهما أبو داود .
( تنبيه ) : قال أحمد : لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين ، وإنما يغزو مع من له شفقة على المسلمين . فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه ، إنما ذلك على نفسه .
3301 ويروى عن النبي : ( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) .
قال : ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو .
ش : نص أحمد على ذلك ، مستدلاً بقوله تعالى : 19 ( { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } ) الآية ، وهذا إذا لم يكن ثم عذر ، فإن كان ثم عذر بكون الأبعد أخوف ، أو الأقرب مصالحاً ، ونحو ذلك ، فلا بأس بتقديم الأبعد .
قال : وتمام الرباط أربعون يوماً .
3302 ش : ويروى هذا عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم .
3303 وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب عن النبي أنه قال : ( تمام الرباط أربعون يوماً ) أما أقل الرباط فقال أحمد : يوم رباط ، وليلة رباط ، وساعة رباط .
3304 وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ) رواه أحمد والنسائي والترمذي .
3305 ولأحمد عنه رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها ) .
3306 وفي مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان ) .
قال : وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعاً إلا بإذنهما .
3307 ش : الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى رسول الله فاستأذنه في الجهاد ؟ قال : ( أحيّ والداك ) ؟ قال : نعم ، قال : ( ففيهما فجاهد ) رواه الجاعة .
____________________
(3/167)
3308 وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله فقال له : ( هل لك أحد باليمن ) ؟ قال : أبواي . قال : ( أذنا لك ) قال : لا . قال : ( فارجع إليهما فاستأذنهما ، فإن أذنا لك فجاهد ، وإلا فبرّهما ) رواه أبو داود .
9 3 وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة رضي الله عنه جاء إلى النبي فقال : يا رسول الله أردت الغزو ، وقد جئت أستشيرك ، فقال : ( هل لك من أم ) ؟ قال : نعم . قال : ( فالزمها ، فإن الجنة عند رجليها ) رواه النسائي . وهذا نص في المنع منه بدون إذنهما وجوازه بإذنهما .
وقول الخرقي : مسلمين . وكذلك إذا كان أحدهما مسلماً ، إذ يجب بر الواحد منهما كما يجب برهما . وحديث جاهمة في أحدهما ، وعموم كلام الخرقي يشمل وإن كانا رقيقين ، ويؤيد ذلك عدم الاستفصال من رسول الله ، وقيل : لا يعتبر إذنهما إذا كانا رقيقين ، وبه قطع أبو البركات ، لعدم ولايتهما ، أشبها المجنونين ، ويخرج به ما إذا كانا كافرين ، وهو كذلك ، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وغيره كانوا يجاهدون بدون إذن آبائهم ، وقوله : تطوعاً . المراد به إذا لم يتعين عليه الجهاد ، وسماه تطوعاً لأن فرض الكفاية له شبه بالتطوع ، لسقوطه عن البعض بفعل البعض . ويخرج منه ما إذا تعين عليه ، وقد صرح به حيث قال : وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما .
قال : وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لأبويه .
ش : أي إذا خوطب به على التعيين ، لأنه والحال هذه تركه معصية ، ولا طاعة لأحد في معصية الله ، وقد قال سبحانه وتعالى في حقهما : 19 ( { وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما } ) .
3310 نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كانت أمي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمداً عليه السلام فأنزل الله تعالى : 19 ( { وإن جاهداك على أن تشرك بي } ) الآية .
قال : وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها .
ش : كالحج ، والصلاة في الجماعة ، وطلب العلم الواجب ، ونحو ذلك ، لمساواتها للحج معنى ، فتساويا حكماً وقد نص أحمد رحمه الله على الحج والصلاة في الجماعة ، معللاً بالفرضية .
3311 وما أحسن ما قال الحسن رضي الله عنه وسئل عن البر والعقوق ، قال : البر أن تبذل لهما ما ملكت ، وتطيعهما فيما أمراك به ، ما لم يأمراك بمعصية الله ،
____________________
(3/168)
والعقوق أن تهرجهما وتحرمهما .
قال : ويقاتل أهل الكتاب والمجوس ، ولا يدعون ، لأن الدعوة قد بلغتهم .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وعلّته ، وهو أن الدعوة قد بلغتهم ، فلا حاجة إليها ثانياً .
3312 وفي الصحيحين عن ابن عون قال : كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال ، فكتب إلي : إنما كان ذلك في أول الإسلام ، وقد أغار رسول الله على بني المصطلق وهم غارون ، وأنعامهم تسقى على الماء ، فقتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث ، حدثني به عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وكان في ذلك الجيش .
قال : وتدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا .
3313 ش : لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما قاتل رسول الله قوماً قط إلا دعاهم . رواه أحمد .
3314 ولمسلم وغيره من حديث بريدة قال : ( إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو ثلاث خلال ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ) وذكر الحديث إلى آخره .
3315 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله كتب إلى كسرى وقيصر ، وإلى النجاشي ، وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى . رواه مسلم وليس هذا بالنجاشي الذي صلى عليه النبي ، وهذا من الخرقي رحمه الله خرج على الغالب ، إذ لو كان في عبدة الأوثان من بلغته الدعوة لجاز قتالهم من غير دعوة ، ولو كان في أهل الكتاب ونحوهم من لم تبلغه الدعوة لدعوا قبل القتال ، فالحكم منوط بالبلوغ وعدمه . قال أحمد : الدعوة قد بلغت وانتشرت ، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة ، لم يجز قتالهم قبل الدعوة ، وعن أحمد ما يدل على أن اليوم لا يجب أن يدعى أحد ، وأن الدعاء كان في ابتداء الإسلام . قال : كان النبي يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب ، حتى أظهر الله الدين وعلا الإسلام . ولا أعرف اليوم أحداً يدعى ، قد بلغت الدعوة كل أحد ، والروم قد بلغتهم الدعوة ، وعلموا ما يراد منهم ، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام ، وإن دعا فلا بأس . وعلى هذا حديث ابن عمر رضي الله عنهما وإذاً تكون الدعوة مستحبة مطلقاً .
____________________
(3/169)
3316 وقد روى سهيل بن سعد أنه سمع النبي يوم خيبر قال : ( أين علي ) ؟ فقيل : إنه يشتكي عينيه فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرئ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء ، فقال : نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا ، فقال : ( على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) متفق عليه ، وأهل خيبر كانت الدعوة قد بلغتهم .
قال : ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
ش : أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، ومن اتخذ التوراة والإنجيل كتاباً ، كالسامرة والأفرنج ونحوهم ، والمجوس عباد الشمس والقمر ، فهؤلاء يقاتلون على أحد شيئين الإسلام أو الجزية . . . وهذا والله أعلم اتفاق ، وقد شهد له ( أما في أهل الكتاب ) ومن دان بدينهم ، فقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ) .
3317 وعن ابن شهاب قال : أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران وكانوا نصارى . رواه أبو عبيد في الأموال .
3318 ( وأما في المجوس ) فلما روى بجالة بن عبدة قال : كنت كاتباً لجزء بن معاوية ، عم الأحنف بن قيس ، فأتى كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل موته بسنة : فرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس ، ولم يكن عمر رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله أخذها من مجوس هجر . رواه البخاري وغيره .
3319 وعن جعفر بن محمد عن أبيه ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذكر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله يقول : ( سنّوا بهم سنة أهل الكتاب ) رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده .
3320 وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قال لعامل كسرى : أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده ، أو تؤدوا الجزية ، رواه أحمد والبخاري .
____________________
(3/170)
ومقتضى كلام الخرقي أن المجوس ليسوا أهل كتاب ، لعطفهم على أهل الكتاب ، والعطف يقتضي المغايرة ، وهو كذلك ، ويدل عليه قوله : ( سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب ) فدل على أنهم غيرهم .
وقال الله سبحانه : 19 ( { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } ) فدل على أن الكتاب إنما أنزل على طائفتين فقط ، وهم اليهود والنصارى ، ومما يرشح ذلك توقف عمر رضي الله عنه في أخذ الجزية منهم ، ولو كان لهم كتاب لما توقف ، لدخولهم في الذين أوتوا الكتاب ، المأمور بأخذ الجزية منهم .
3321 وما يروى عن علي رضي الله عنه أن لهم كتاباً ، فقال أبو عبيد : لا أحسبه محفوظاً ، ثم عموم كلام الخرقي يشمل أهل الكتاب والمجوس من العرب وغيرهم ، وهو كذلك لما تقدم أن النبي أخذ الجزية من أهل نجران وهم من العرب .
3322 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى أكيدر دومة ، فأخذوه فأتوا به ، فحقن له دمه ، وصالحه على الجزية . رواه أبو داود ، وهو عربي من غسان .
3323 ولا يغرنك ما روى أبو داود في المراسيل عن الحسن ، قال : أمر النبي أن يقاتل العرب على الإسلام ، ولا يقبل منهم غيره ، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب على الإسلام ، فإن أبوا فالجزية ؛ إذ مراسيل الحسن عند أهل العلم بالحديث من أضعفها ، وقول الخرقي : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . تبع فيه لفظ الآية . قال أبو الخطاب : يمتهنون عند أخذها ، ويطال قيامهم ، وتجر أيديهم .
قال : ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، لعموم 19 ( { اقتلوا المشركين } ) ونحو ذلك . وقول النبي : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) الحديث ، خرج من ذلك أهل الكتاب والمجوس بالآية الكريمة وبالحديث ، فيبقى فيما عداه على العموم ، ثم في قول النبي : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) دليل على أن أهل الكتاب هم المختصون ببذل الجزية وإلا فليس للتخصيص فائدة .
ومما يرشح ذلك أيضاً توقف عمر رضي الله عنه فيهم حتى أخبره عبد الرحمن بما أخبره ، ولو جاز أخذ الجزية من كل كافر لم يكن لتوقفه معنى .
( وعن أحمد ) رواية أخرى : يقبل من جميع الكفار ، إلا عبدة الأوثان من العرب ، لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق ، فأقروا بالجزية كالمجوس .
____________________
(3/171)
وقد دخل في كلام الخرقي أهل الصحف ، كصحف إبراهيم وشيث ونحو ذلك ، وهو المذهب بلا ريب ، لعدم دخولهم في الكتاب إذا أطلق ، ولهذا قال سبحانه : 19 ( { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } ) الآية ، ولأنها مواعظ ، لا أحكام فيها ، وقيل : يقر أهلها بالجزية ، لأنه يصدق أنه نزل لهم كتاب .
قال : وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا .
ش : هذا أحد الصور الثلاث التي يتعين الجهاد فيها ، وهو ما إذا نزل العدو بالبلد ، وقد تقدم ذلك ، والدليل عليه ، ونزيد هنا بأنه لا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إليه لحفظ البلد ، ومن يمنعه الأمير من الخروج ، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال ، ونحو ذلك .
قال : المقل منهم والمكثر .
ش : يعني أن العدو إذا نزل بالبلد وجب على كل أحد الخروج إليه ، سواء كان غنياً يقدر على الزاد ، أو فقيراً لا يقدر على ذلك ، إذ العدو نازل على البلد ، فلا حاجة إلى ذلك ، فإن كان قريباً من البلد دون مسافة القصر اشترط الزاد ، ولم تشترط الراحلة .
قال : ولا يخرجون إلى العدو إلا بإذن الأمير ، إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه ، فلا يمكنهم أن يستأذنوه .
ش : لا يجوز الخروج إلى العدو إلا بإذن الأمير ، إذ أمر الحرب موكول إليه ، وهو أعلم بكثرة العدو وقلته ومكامنه ، فاتبع رأيه في ذلك ، إلا أن يتعذر استئذانه ، كطلوع عدو غالب عليهم بغتة ، ويخافون شره إن استأذنوه فإن أذنه إذاً يسقط ، ارتكاباً لأدنى المفسدتين لدفع أعلاهما .
3324 وقد أغار الكفار على لقاح النبي فصادفهم سلمة بن الأكوع خارجاً من المدينة ، فتبعهم فقاتلهم من غير إذن ، فمدحه النبي وقال : ( خير رجالنا سلمة بن الأكوع ) وأعطاه سهم فارس وراجل .
( تنبيه ) لا يكون الإذن العام كالنفير مثلاً إذناً لمن منعه الإمام قبل ذلك . وقال : لا تصحبني ، نص عليه أحمد .
قال : ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا امرأة طاعنة في السن ، لسقي الماء ومعالجة الجرحى ، كما فعل النبي .
ش : لا تدخل النساء مع المسلمين أرض العدو ، حذاراً من ظفر العدو بهن ، واستحلال ما حرم الله منهن مع أنهن لسن من أهل القتال ، إذ الغالب عليهن الجبن والخور .
____________________
(3/172)
3325 وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذنت النبي في الجهاد ، فقال : ( جهادكن الحج ) ويجوز دخول المرأة الكبيرة لسقي الماء ، ومعالجة الجرحى .
3326 لما روي عن أم عطية الأنصارية قالت : غزوت مع رسول الله سبع غزوات ، أخلفهم في رحالهم ، وأصنع لهم الطعام ، وأداوي الجرحى ، وأقوم على المرضى .
3327 وعن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار ، يسقين الماء ، ويداوين الجرحى . رواه أحمد ومسلم .
وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، وهو ظاهر كلام أبي البركات ، قال : يلزم الإمام أن يمنع المخذل والمرجف والنساء . وجعله في المغني مكروهاً ، وجوز للأمير خاصة أن يدخل بالمرأة الواحدة إذا احتاج إليها ، كما كان النبي يقرع بين نسائه فتخرج معه من تقع عليها القرعة .
قال : وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لاْحد أن يتعلف ولا يحتطب ، ولا يبارز علجاً ، ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثاً إلا بإذنه .
ش : لأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو ، ومكامنهم وقوتهم ، فإذا خرج إنسان أو بارز بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كميناً للعدو فيأخذوه ، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك ، أو يكون ضعيفاً لا يقوى على المبارزة فيظفر العدو به ، فتنكسر قلوب المسلمين . بخلاف ما إذا أذن ، فإنه لا يأذن إلا إذا انتفت المفسدة ، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك حيث قال : 19 ( { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ، وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه } ) الآية .
وقد فهم من كلام الخرقي جواز المبارزة بإذن الأمير ، وهو قول العامة ، وقد شاع وذاع مبارزة الصحابة في زمن النبي ومن بعده .
3328 قال قيس بن عباد : سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقسم قسماً أن 19 ( { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ) أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر ، حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، وعتبة وشيبة ابني ربيعة ، والوليد بن عتبة . . . متفق عليه .
3329 وكذلك قال علي رضي الله عنه : نزلت هذه الآية في مبارزتنا يوم بدر 19 ( { هذان خصمان اختصموا في ربهم } ) رواه البخاري .
____________________
(3/173)
3330 ويروى عن علي رضي الله عنه أنه قال : قتلت تسعة وتسعين رئيساً من المشركين مبارزة ، سوى من شاركت فيه .
وقد صرح الخرقي بأن المبارزة بدون إذن حرام ، وظاهر كلام أبي محمد في المغني الكراهة ، قال : ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن .
قال : ومن أعطي شيئاً يستعين به في غزاته فما فضل فهو له ، فإن لم يعط لغزاة بعينها رد ما فضل في الغزو .
ش : من أعطي شيئاً ليستعين به في الغزاة فله حالتان ( إحداهما ) أن يعطى لغزوة بعينها ، فهذا إذا غزا وفضلت فضله فهي له ، لأن المقصود أن يغزو هذا المعين هذه الغزوة ، والدفع على سبيل المعاونة ، أشبه ما لو وصى أن يحج عنه فلان بألف .
3331 وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعطى شيئاً للغزو يقول لصاحبه : إذا بلغت وادي القرى فشأنك به .
( الثانية ) أن يعطى للغزو مطلقاً ، أو للنفقة في سبيل الله ، فهذا إذا غزا وفضلت منه فضلة أنفقه في غزاة أخرى ، لأن الدفع لجهة قربة ، فلزم صرف جميعه فيها ، كما إذا أوصى أن يحج عنه بألف ، وهذه المسألة غير مسألة الدفع في الزكاة .
قال : وإذا حمل الرجل على دابة فإذا رجع من الغزو فهي له ، إلا أن يقول : هي حبيس فلا يجوز بيعها إلا أن تصير في حال لا تصلح للغزو ، فتباع وتجعل في حبيس آخر .
ش : إذا حمل الرجل على دابة للغزو ، فإذا رجع من الغزو فالدابة له ، كالنفقة المدفوعة إليه .
3332 وقال عمر : حملت على فرس في سبيل الله ، فأضاعه صاحبه الذي كان عنده ، فأردت أن أشتريه منه ، وظننت أنه بائعه برخص ، فسألت رسول الله فقال : ( لا تشتره ، ولا تعد في صدقتك ، وإن أعطاكه بدرهم ، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه ) متفق عليه . وهذا يدل على ملكه له ، ولولا ذلك لما باعه ، ولم يفرق الخرقي هنا بين أن يدفعه ليغزو عليه غزوة معينة ، أو للغزو وأطلق ، وقياس ما تقدم التفرقة ، وهذا كله مع الإطلاق ، أما لو صرح له بالعارية أو بالحبسية ، ونحو ذلك فإنه يعمل على ذلك ، ففي العارية يرد إلى مالكه ، وفي الحبسية يجعل في الحبس ، ولا يجوز بيعه ، لما تقدم في الوقف من أنه لا يجوز بيع العين الموقوفة إلا أن يؤول الفرس إلى حال لا يصلح للغزو ، فإنه يباع ويجعل في حبيس آخر ، وقد تقدم ذلك في الوقف .
____________________
(3/174)
قال : وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله ، أو كان في مكان لا يصلى فيه ، جاز أن يباع ويصير في مكان ينتفع به .
ش : يعني وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله ، أو كان في مكان لا ينتفع به ، كأن ينتقل أهل القرية عنه ، أو يخاف في الذهاب إليه من اللصوص ونحو ذلك ، فإنه يجوز بيعه على المذهب المشهور ، قال أحمد في رواية صالح : يحول المسجد خوفاً من اللصوص ، وإذا كان موضعه قذراً ، قال القاضي : يعني إذا كان يمنع من الصلاة فيه . ونص على بيع عرصته في رواية عبد الله ، وذلك لما تقدم في جواز بيع الوقف ، وبيع الفرس الحبيس ، وقد بالغ أحمد في رواية أبي داود ، فقال في مسجد أراد أهله رفعه من الأرض ، ويجعل تحته سقاية وحوانيت ، فامتنع بعضهم من ذلك ، فقال : ينظر إلى قول أكثرهم ، وقد أخذ القاضي بظاهر اللفظ ، وأن أهل المسجد لهم رفعه ، وجعل سقاية تحته ، لحاجتهم إلى ذلك ، وأبى ذلك ابن حامد ، وحمل كلام أحمد على مسجد أراد أهله إنشاءه ابتداء ، واختلفوا كيف يعمل ، وفي هذا التأويل بعد من اللفظ .
( وعن 16 ( أحمد ) ) رواية أخرى في أصل المسألة أن المساجد لا تباع ، ولكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر ، لإمكان بقاء العين مع صرفه في جهة المسجدية ، ولذلك قلنا على المذهب أنه إذا لم يمكن إنشاء مسجد بالثمن صرف في شقص مسجد .
( تنبيه ) يكون البائع لذلك الإمام أو نائبه ، نص عليه ، وكذلك المشتري بالثمن ، وكذلك كل وقف لا ناظر له .
قال : وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها .
ش : سيأتي الكلام على الأضحية إن شاء الله تعالى في بابها .
قال : وإذا سبى الإمام فهو مخير إن رأى قتلهم ، وإن رأى منّ عليهم وأطلقهم بلا عوض ، وإن رأى فادى بهم ، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم ، وإن رأى استرقهم ، أي ذلك رأي أن فيه نكاية للعدو وحظاً للمسلمين فعل .
ش : يخيّر الإمام في الأسرى بين أربعة أشياء في الجملة ، القتل ، والمنّ ، والفداء ، والاسترقاق ، أما القتل فلعموم : 19 ( { اقتلوا المشركين } ) ولأن النبي قتل رجال بني قريظة ، وهم بين الستمائة والسبعمائة ، وقتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث ، وفيه تقول أخته :
ما كان ضرك لو مننت وربما
منّ الفتى وهو المغيظ المحنق
3333 فقال رسول الله : ( لو سمعت شعرها لما قتلته ) . ( وأما المن والفداء ) فلقوله سبحانه : 19 ( { فإما منّاً بعد وإما فداء } ) .
____________________
(3/175)
3334 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبي وأصحابه من جبال التنعيم ، عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم النبي سلماً فأعتقهم ، فأنزل الله سبحانه : 19 ( { وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم } ) إلى آخر الآية رواه مسلم وغيره .
3335 وعن جبير بن مطعم أن النبي قال في أسارى بدر : ( لو كان المطعم بن عدي حياً ، ثم كلمني في هؤلاء النتني لتركتهم له ) رواه البخاري وغيره .
3336 وثبت في الصحيحين أن النبي منّ على ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة .
3337 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة .
3338 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم ، بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة ، أدخلتها بها على أبي العاص ، قالت : فلما ررها رسول الله رق لها رقة شديدة . وقال : ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها الذي لها ) ؟ قالوا : نعم . رواهما أبو داود .
3339 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل ، رواه أحمد والترمذي وصححه .
3340 ( وأما الاسترقاق ) فلما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله يقولها فيهم ، سمعت رسول الله يقول : ( هم أشد أمتي على الدجال ) ، قال : وجاءت صدقاتهم فقال النبي : ( هذه صدقات قومنا ) قال : وكان سبية منهم عند عائشة رضي الله عنها ، فقال رسول الله : ( أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل ) متفق عليه .
3341 وعنها أيضاً رضي الله عنها قالت : لما قسم رسول الله سبايا بني المصطلق ، وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس ، أو لابن عم له ، فكاتبته على نفسها ، وكانت حلوة ملاحة ، فأتت رسول الله فقالت : يا
____________________
(3/176)
رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار ، سيد قومه ، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، فجئتك أستعينك على كتابتي ؛ قال : ( فهل لك في خير من ذلك ) ؟ قالت : وما هو يا رسول الله ؟ قال : ( أقضي كتابتك ، وأتزوجك ) ؟ قالت : نعم يا رسول الله ، قال : ( قد فعلت ) قالت : وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله تزوج جويرية ابنة الحارث ، فقال الناس : أصهار رسول الله فأرسلوا ما بأيديهم . قالت : فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها . رواه أحمد واحتج به ، وهذا التخيير تخيير مصلحة واجتهاد ، لا تخيير تشهي فمتى رأى الإمام المصلحة في خصلة تعينت عليه ، لأنه ناظر للمسلمين ، فوجب عليه فعل الأصلح كولي اليتيم ، ومتى تردد فقال أبو محمد : القتل أولى .
( وقوله ) : فادى بهم ، أي بمسلم ، ولا نزاع في جواز ذلك ، لما تقدم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ، ( وقوله ) : وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم . هذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي ، وأبي البركات ، وأبي محمد في المغني ، وغيرهم ، لأن النبي فادى أهل بدر بالمال بلا ريب .
وحكى أبو محمد في المقنع رواية أنه لا تجوز المفاداة بمال ، وحكاها أبو الخطاب في هدايته وجهاً ، لأن الله سبحانه عاتب نبيّه على ذلك ونزل : 19 ( { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى } ) الآية .
3342 قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما أسروا الأسارى يعني يوم بدر قال النبي لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ) ؟ قال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام ، فقال رسول الله : ( ما ترى يا ابن الخطاب ) ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكنني أرى أن تمكنني فنضرب أعناقهم ، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان نسيباً لعمر فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوي رسول الله ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت . فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . فقال رسول الله : ( أبكي للذي عرض على أصحابك من هذه الشجرة ) شجرة قريبة منه ، وأنزل الله عزّ وجلّ : 19 ( { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ) إلى قوله : 19 ( { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } ) ، فأحلّ الله لهم الغنيمة . رواه أحمد ومسلم . ( وأجيب ) بأن
____________________
(3/177)
العقاب كان على أخذ المال ابتداء ، ثم إن الله سبحانه أقرّ ما فعله وأحل لهم الغنيمة كما في الحديث .
3343 قال عمر رضي الله عنه لما كان يوم بدر وأخذ يعني النبي الفداء فأنزل الله عزّ وجلّ : 19 ( { ما كان لنبي أن يكون له أسرى ، حتى يثخن في الأرض } ) إلى قوله : 19 ( { لمسكم فيما أخذتم } ) من الفداء 19 ( { عذاب عظيم } ) ثم أحل لهم الغنائم . . . رواه أبو داود .
إذا تقرر هذا ، فاعلم أن هذا التخيير الذي ذكره الخرقي هو في الأحرار المقاتلة ، أما الأرقاء فءن الإمام يخير بين قتلهم إن رأى ذلك لمضرة بقائهم ونحو ذلك ، أو تركهم غنيمة كالبهائم ، وأما النساء والصبيان فيصيرون أرقاء بنفس السبي ، لأن النبي نهى عن قتلهم ، وكان النبي يسترقهم إذا سباهم ، وأما من يحرم قتله غير النساء والصبيان كالشيخ الفاني ، والراهب ، والزمن ، والأعمى فقال أبو محمد في الكافي والمغني : لا يجوز سبيهم لتحريم قتلهم ، وعدم النفع من اقتنائهم . ( وحكى عنه ) ابن المنجا أنه قال في المغني : يجوز استرقاق الشيخ والزمن ، ولعل هذا في المغني القديم ، وحكى أيضاً عن الأصحاب أنهم قالوا : كل من لا يقتل كالأعمى ونحوه يرق بنفس السبي ، وأما أبو البركات فجعل من فيه نفع من هؤلاء حكمه حكم النساء والصبيان ، وظاهر كلامه أن من لا نفع فيه لا يسبى ، وهذا هو أعدل الأقوال .
( تنبيه ) : إذا أسلم الأسير تعين رقه ، نص عليه أحمد ، وعليه الأصحاب ، لأنه أسير يحرم قتله ، أشبه المرأة ، وقال أبو محمد في الكافي : يسقط القتل ، ويخير فيه بين الثلاثة الأخر ، لأن القتل امتنع لمانع ، وهو ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ) ونحوه ، فيبقى ما عداه على الأصل .
3344 وفي مسلم وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل ، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله وأسر أصحاب رسول الله رجلاً من بني عقيل ، وأصابوا معه العضباء ، فأتى عليه رسول الله وهو في الوثاق ، فقال : يا محمد ، فأتاه فقال : ( ما شأنك ) فقال : بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج ؟ يعني العضباء ، فقال : ( أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ) ثم انصرف عنه فناداه فقال : يا محمد يا محمد ، قال : ( ما شأنك ) ؟ قال : إني مسلم . قال : ( لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ) ثم انصرف عنه فناداه : يا محمد يا محمد ، فأتاه فقال ؛ ( ما شأنك ) ؟ فقال : إني جائع وظمآن فأسقني . قال : ( هذه حاجتك ) ففدي بعد بالرجلين . ( وأجاب ) القاضي بأن النبي يحتمل أنه علم من
____________________
(3/178)
حاله أنه كان منافقاً ، وفيه نظر ، وأجاب أبو محمد في المغني بأن هذا لا ينافي رقه ، فإن رقيق المسلمين يجوز أن يفادى بهم ، ويعترض على هذا بأنه إذا صار رقيقاً فكيف ترك موثوقاً ، ثم إنه إنما تجوز المفاداة برقيق المسلمين بإذنهم على قوله ، وليس في الحديث إذن ، ويجاب بأن ترك ذكر الإذن في الحديث لا يدل على عدمها ، ثم لو ثبت أنه لم يستأذنهم فذلك لعلمه أنهم راضون بما يفعله .
قال : وسبيل من استرق منهم وما أخذ منهم على إطلاقهم سبيل تلك الغنيمة .
ش : طريق من استرق منهم ، والمال الذي أخذ منهم على إطلاقهم طريق الغنيمة ، في أنه يخمس ، ثم تقسم أربعة أخماسه بين الغانمين ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، لأنه مال غنمه المسلمون ، أشبه الخيل والسلاح .
قال : وإنما يكون له استرقاقهم ، إذا كانوا من أهل الكتاب ، أو مجوساً ، فأما من سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من بالغي رجالهم إلا الإسلام أو السيف أو الفداء .
ش : يعني أن الذين يجرى عليهم الاسترقاق هم الذين يقرون بالجزية ، وهم أهل الكتاب والمجوس . أما من عداهم من مشركي العرب والعجم ، فالمنصوص عن 16 ( أحمد ) في رواية محمد بن الحكم وإليه ميل أبي محمد ، وهو الصواب جواز استرقاقهم ، واحتج بحديث جويرية وقد تقدم .
3345 وقال : لا أذهب إلى قول عمر رضي الله عنه : ليس على عربي ملك . وقد سبى النبي العرب في غير حديث . وأبو بكر وعلي رضي الله عنهما حين سبى بني ناجية .
3347 ونقل عنه ابن منصور ، وقد سئل عن قول عمر رضي الله عنه في العربي يتزوج الأمة فولدت : لا يسترقون يفديهم . قال : لا أقول في العربي شيئاً ، قد اختلفوا فيه ، فتوقف عن الجواب ، فيخرج له قول بعدم الجواز ، و ابن حامد قال : في المسألة روايتان ، وتبعه من بعده على ذلك ، وكأن مستند المنع قول عمر رضي الله عنه ولأنه لا يقر بالجزية فأشبه المرتد . وهذه الرواية هي اختيار الخرقي ، والشريف ، وابن عقيل في التذكرة والشيرازي .
( تنبيه ) : أبو محمد وأبو الخطاب ومن تبعهما يحكون الخلاف كما تقدم في غير أهل الكتاب والمجوس ، وأبو البركات جعل مناط الخلاف فيمن لا يقر بالجزية ، فعلى قوله نصارى بني تغلب يجرى فيهم الخلاف ، لعدم أخذ الجزية منهم ، ويقرب من هذا قول القاضي في الروايتين ، فءنه حكى الخلاف في مشركي العرب من أهل الكتاب ، ثم حكى كلام الخرقي ، وكلام أحمد في رواية محمد بن الحكم ، فيمن لا كتاب له ، وأحمد رحمه الله إن لم يكن عنه نص بالمنع إلا رواية ابن منصور ، فليس له توقف إلا في العرب ، وهو لم يعلل بعدم الإقرار بالجزية ، حتى يؤخذ بعموم علته في كل من لا
____________________
(3/179)
يقر بالجزية من العجم ونحوهم .
قال : وينفل الإمام ومن استخلفه الإمام كما فعل النبي في بدأته الربع بعد الخمس ، وفي رجعته الثلث بعد الخمس .
ش : النفل في اللغة الزيادة ، ومنه نفل الصلاة ، زيادة على فرضها ، وقوله تعالى : 19 ( { ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة } ) فيعقوب عليه السلام هو ولد ولد إبراهيم وهو زائد على ما طلبه إبراهيم من الولد .
إذا تقرر هذا فينبغي للإمام أو نائب الإمام إذا غزا غزاة أن يبعث أمامه سرية تغير على العدو ، ويجعل لها الربع بعد الخمس ، أو تغير خلفه إذا رجع ، ويشترط لها الثلث بعد الخمس ، فما أتت به أخرج خمسه ، وأعطى السرية ما جعل لها ، ثم قسم الباقي على الجيش والسرية معاً ، اقتداء برسول الله .
3347 فعن حبيب بن مسلمة أن النبي نفل الربع بعد الخمس في بدأته ، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته ، رواه أحمد وأبو داود .
3348 وعن عبادة بن الصامت مثله ، ولم يقل : بعد الخمس . . . رواه أحمد والترمذي .
3349 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة ، سوى قسم عامة الجيش ، والخمس في ذلك كله واجب .
3350 وعنه أيضاً أن رسول الله بعث سرية قبل نجد ، فخرجت فيها فبلغت سهماننا اثني عشر بعيراً ، ونفلنا رسول الله بعيراً بعيراً . . . متفق عليهما ، وهذا على سبيل الندبية ، فللإمام أن لا ينفل شيئاً ، وأن ينفل ما دون ذلك ، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه قال : كان ينفل بعض من يبعث من السرايا ، وقال : إن الرسول نفلهم بعيراً بعيراف ، ( وهل له ) أن ينفل ذلك بلا شرط ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وظاهر الأحاديث ، أو ليس له ذلك إلا بشرط ، وهو الذي ذكره في المغني ، لأن مع عدم الشرط تتعلق جميع حقوق الغازين بالمال ، فلا يخص بعضهم ببعضه ؟ على روايتين . ( وهل له ) أن يزيد على الثلث ، لا يجوز له بلا شرط رواية واحدة ، لأن النبي لم ينقل عنه أنه زاد على ذلك ، وهل له ذلك بالشرط ، لأن زيادة النبي ونقصه يدل على أن ذلك غير مقدر ، أو ليس له ذلك ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وبه قطع أبو محمد لما تقدم ؟ على روايتين .
قال : ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه .
ش : يعني أنه إذا جاء بعض السرية بشيء فنفله ، ولم يأت بعضهم بشيء فلم
____________________
(3/180)
ينفله ، فإن من نفل يرد على من لم ينفل من السرية ، لما علّله الخرقي ، من أن بقوة من لم ينفل صار المال لمن نفل .
ش : ومن قتل منا واحداً منهم مقبلاً على القتال فله سلبه .
ش : القاتل يستحق السلب في الجملة بلا ريب .
3351 لقول النبي : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه ) متفق عليه ، رواه أبو قتادة وغيره ، إذا علم هذا فيشترط لاستحقاقه شروط ( أحدها ) أن يغر بنفسه في قتله في حال الحرب ، بأن يقتله حال المبارزة ، أو والحرب قائمة ، ونحو ذلك ، قال أحمد : السلب للقاتل إنما هو في المبارزة ، لا يكون في الهزيمة .
3352 لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال : نفلني رسول الله يوم بدر سيف أبي جهل وكان قتله . رواه أبو داود .
3353 وإنما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق ، فأجهز عليه ، كذا روي معنى ذلك في أبي داود وغيره ، ولو لم يكن التغرير شرطاً لدفع إليه السلب أجمع ، فعلى هذا لو رمى بسهم إلى صف الكفار ، فقتل فلا سلب له ، لعدم التغرير ، وكذلك لو حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه ، فلا سلب لهم ، ويكون غنيمة لذلك ، وكذلك إذا قتله اثنان على المنصوص في رواية حرب ، ( وعن القاضي ) : هو لهما ؛ لعموم ( من قتل قتيلاً ) واستثنى أبو محمد ما إذا قتله اثنان ، وكانت ضربة أحدهما أبلغ في قتله من الأخرى ، أن السلب يكون له .
3354 مستدلاً بأن أبا جهل ضربه معاذ بن عفراء ، ومعاذ بن عمرو بن الجموح ، وأتيا النبي فأخبراه ، فقال : ( أيكما قتله ) ؟ فقال كل واحد منهما : أنا قتلته . فقال : ( هل مسحتما سيفيكما ) ؟ قالا : لا ، فنظر في السيفين فقال : ( كلاكما قتله ) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ، متفق عليه . وهذا يحتمل أن يكون كما قاله أبو محمد ، ويحتمل أنه نفل السلب لمعاذ بن عمرو وإن لم يستحقه ، ويكون في هذا دليل على أن للإمام أن ينفل بعض الغانمين .
ومن صور التغرير أن يكون المقتول مقبلاً على القتال ، فإن كان مدبراً فلا سلب له ، لعدم التغرير في قتله ، ولأن المسلمين قد كقوا شره بانهزامه ، فأشبه ما لو كان مأسوراً ، واستثنى أبو محمد من ذلك ما إذا انهزم والحرب قائمة ، فأدركه إنسان فقتله فإن سلبه له .
____________________
(3/181)
3355 معتمداً على أن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قتل طليعة الكفار وهو منهزم ، فقال النبي : ( من قتل الرجل ) ؟ قالوا : سلمة بن الأكوع ، قال : ( له سلبه أجمع ) ، والحديث في الصحيحين ، ومن صوره أيضاً أن يكون الكافر ممتنعاً ، فإن كان مثخناً بالجراح ، وقتله إنسان فلا شيء له ، لعدم التغرير ، وقد تقدم حديث ابن مسعود في ذلك ، ( واعلم ) أن جماعة من الأصحاب يجعلون كل واحد من هذه شرطاً ، والذي يظهر أنها كلها ترجع إلى التغرير ، والإشارة إلى هذا الشرط في قول الخرقي : مقبلاً على القتال .
( الشرط الثاني ) أن يقتل الكافر ، كما في الحديث ( من قتل قتيلاً ) أو يثخنه يصيره في حكم المقتول ، لأنه إذاً صار في حكم الميت ، ولو قطع أربعته ، وقتله آخر فسلبه للقاطع ، [ لا أعلم فيه خلافاً ] ، لأنه الذي كفى المسلمين شره ، وصيره في حكم الميت . وكذلك لو قطع يديه أو رجليه على وجه لذلك ، وعلى آخر هو للقاتل ، لعموم الحديث ، وعلى ثالث هو غنيمة ، كما لو اشترك اثنان في قتله ، وكذلك الأقوال الثلاثة فيما إذا قطع يده ورجله ، ثم قتله آخر ، والمنصوص أنه غنيمة ، وهو المقدم في التي قبلها أيضاً ، ولو قطع يداً أو رجلاً ثم قتله آخر ، فالسلب للقاتل على ما قطع به أبو البركات ، وحكاه في المغني احتمالاً ، لأنه الذي كفى المسلمين شره ، وقطع في الكافي بأنه غنيمة ، كما لو اشترك اثنان في قتله ، وهذا الذي أورده في المغني مذهباً ، ولو أسره فقتله الإمام فلا شيء له من السلب ، على المذهب المنصوص لعدم القتل .
( الشرط الثالث ) أن يكون القاتل ممن له حق في الغنيمة ، فإن لم يكن له فيها حق أصلاً ، كالمخذل والمرجف ، والمعين على المسلمين فلا شيء له لأنه ليس من أهل الجهاد ، وإن كان له فيها حق لكن إرضاخ لا إسهام ، كالصبي والمرأة ونحوهما ، فهل يستحق السلب إذا قتل ، لعموم الحديث ، وبه قطع أبو محمد ، أو لا يستحقه ، لأن السهم آكد منه للإجماع عليه وهو لا يستحقه ، فالسلب أولى ؟
( الشرط الرابع ) أن يكون المقتول من اتلمقاتلة ، فإن كان شيخاً فانياً ، أو صبياً ، أو امرأة ، ونحو ذلك ممن قد نهي عن قتله ، لم يستحق قاتله سلبه ، بلا خلاف نعلمه ، فإن قاتل هؤلاء فهل يستحق قاتلهم سلبهم ، وبه قطع أبو محمد ، لجواز قتلهم إذاً ، أو لا يستحق سداً للذريعة ؟ فيه وجهان .
( تنبيه ) : قال أبو محمد : إذا بارز العبد بغير إذن مولاه لم يستحق السلب ، لأنه عاص ، وكذلك كل عاص كمن دخل بغير إذن ، ( وعن أحمد ) فيمن دخل بغير إذن يؤخذ منه الخمس ، وباقيه له كالغنيمة ، قال : ويخرج في العبد مثله ، قلت : قد يقال تعلق الحق بالغنيمة آكد للإجماع عليها ، بخلاف السلب ، فإن منهم من يجعله كالنفل ،
____________________
(3/182)
لا يستحق إلا بالشرط ، ثم قال : إنه لا يشترط في استحقاق السلب أن تكون المبارزة بإذن الإمام ، لعموم الخبر ، ولأن كل من قضي له بالسلب في عصره لم ينقل أنه أذن له في المبارزة ، ( قلت ) : وهذا يتمشى على قوله ، من أن الإذن في المبارزة مندوب إليه لا واجب ، أما على ما يقوله الخرقي وغيره فلا .
قال : غير مخموس .
ش : يعني أن القاتل يستحق السلب إذا وجدت شروطه من غير تخميس ، لعموم ما تقدم .
3356 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم حنين : ( من قتل رجلاً فله سلبه ) فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلاً ، وأخذ أسلابهم . رواه أحمد وأبو داود ، وفي لفظ : ( من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه ) قال : فجاء أبو طلحة بسلب أحد وعشرين رجلاً . رواه أحمد ، وفيه دليل على أن من شرط استحقاق السلب التغرير في القتل ، وأن المشركين في القتل لا يستحقان السلب كما تقدم .
3357 وعن عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أن النبي لم يخمس السلب ، رواه أحمد وأبو داود .
ومقتضى كلام الخرقي أن السلب يكون من أصل الغنيمة ، لا من خمس الخمس ، وهو كذلك لإطلاق الحديث .
قال : قال ذلك الإمام أو لم يقل .
ش : يعني أن السلب يستحقه القاتل ، اشترط ذلك الإمام أو لم يشترطه ، هذا هو المنصوص المشهور ، والمذهب عند عامة الأصحاب ، واختار أبو بكر أنه لا يستحقه إلا من شرطه له الإمام ، وحكى ذلك غير واحد من الأصحاب رواية عن أحمد ، وأخذها القاضي في الروايتين من قول أحمد في رواية حرب : ليس له ذلك إلا أن يكون قتاله بإذن الإمام ، وهذا المأخذ لا يدلّ على المدعى ، وبالجملة مدرك الخلاف في ذلك أن قوله : ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) هل ذلك بيان لشرع عام ، أو مختص بتلك الواقعة ، فلا يستحق إلا بالشرط ، وكذلك حكم النبي بالسلب للقاتلين ، كسلمة بن الأكوع وغيره ، هل ذلك لاستحقاقهم إياه مطلقاً ، أو من باب النفل ؟ ويرجح الأول أن الأصل عدم التخصيص ، وبيان الشرع العام ، ثم إن أبا قتادة كان قد قتل القتيل قبل أن يقول النبي : ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) وأعطاه النبي سلبه ، ولو كان إنما يستحق بالشرط لما أعطاه النبي السلب .
____________________
(3/183)
3358 قال أبو قتادة : خرجنا مع النبي عام حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، قال : فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين ، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه ، وضربته على حبل عاتقه ، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ما للناس ؟ فقلت : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله فقال : ( من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه ) قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك ، قال : فقمت فقلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال ذلك الثالثة ، فقمت فقال رسول الله : ( ما لك يا أبا قتادة ) ؟ فقصصت عليه القصة ، فقال رجل من القوم : صدق يا رسول الله ، سلب ذلك القتيل عندي ، فأرضه من حقه ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لا ها اللَّه إذاً لا يعمد إلى أسد من أسد الله ، يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه . فقال رسول الله : ( صدق فأعطه إياه ) متفق عليه . لا يقال : فالرسول دفع إليه السلب من غير بينة ولا يمين ، لأنا نقول : قد شهد له واحد ، وقد يكتفي في مثل ذلك بالواحد ، لتعذر إقامة اثنين ، أو يكون قبول الواحد إذاً خاصاً بأبي قتادة رضي الله عنه .
3359 وما في مسلم والمسند عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال : قتل رجل من حمير رجلاً من العدو ، فأرتد سلبه فمنعه خالد بن الوليد رضي الله عنه وكان والياً عليهم ، فأتى رسول الله عوف بن مالك ، فأخبره فقال لخالد : ( ما منعك أن تعطيه سلبه ) ؟ قال : استكثرته يا رسول الله ، قال : ( ادفعه إليه ) فمرّ خالد بعوف فجرّ بردائه ، ثم قال : هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله ، فسمعه رسول الله فاستغضب فقال : ( لا تعطه يا خالد ، هل أنتم تاركون لي أمرائي ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استرعى إبلاً وغنماً ، فرعاها ثم تحين سقيها ، فأوردها حوضاً ، فشرعت فيه ، فشربت صفوه وتركت كدره ، فصفوه لكم ، وكدره لهم ) فقيل : منع رسول الله السلب عقوبة ، ويرد أنه عاقب من لم يذنب ، والله أعلم .
قال : والدابة وما عليها من آلتها من السلب ، إذا قتل وهو عليها ، وكذلك جميع ما عليه من الثياب والسلاح والحلي وإن كثر ، فإن كان معه مال لم يكن من السلب ، وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله قول آخر في الدابة أنها ليست من السلب .
ش : في الدابة ثلاث روايات ( إحداها ) أنها من السلب مطلقاً ، أعني سواء كان يقاتل عليها أو ممسكاً بعنانها .
3360 أما إذا كان يقاتل عليها فلما روى عوف بن مالك رضي الله عنه قال :
____________________
(3/184)
خرجت مع زيد بن حارثة رضي الله عنه في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من أهل اليمن ، ومضينا فلقينا جموع الروم ، وفيهم رجل على فرس أشقر ، عليه سرج مذهب ، وسلاح مذهب ، فجعل الرومي يغري بالمسلمين ، فقعد له الممددي خلف صخرة ، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله ، وحاز فرسه وسلاحه ، فلما فتح الله عزّ وجلّ للمسلمين ، بعث إليه خالد بن الوليد رضي الله عنه فأخذ منه السلب ، قال عوف : فأتيته فقلت : يا خالد أما علمت أن رسول الله قضى بالسلب للقاتل ؟ قال : بلى ، ولكني استكثرته . وذكر الحديث إلى آخره . . . رواه أحمد وأبو داود ، وأما إذا كان ماسكاً بعنانها فلأنها معدة للقتال عليها ، متمكن من ذلك ، فأشبهت سيفه أو رمحه الذي في يده .
( والثانية ) : ليست من السلب مطلقاً ، اختارها أبو بكر ، لأن السلب اسم لما كان على البدن ، وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معديكرب : فأخذ سواريه ومنطقته ، يعني ولم يذكر فرسه .
( والثالثة ) : إن قاتل عليها فهي من السلب ، لما تقدم في حديث عوف ، وإن كان ممسكاً بعنانها فليست من السلب ، لما تقدم في دليل الثانية ، خرج منه إذا كان يقاتل عليها ، لفهم الصحابة ، فيبقى ما عداه على مقتضى اللغة ، وهذه الرواية أعدل الأقوال ، وهي اختيار الخرقي ، والخلال ، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي : إن اختيار الخلال الرواية الثانية كتلميذه ، فإنه وهم ، ولا نزاع أن التي في بيته أو مع غلامه أو مجنوبة ونحو ذلك لا تكون من السلب ، وحيث حكم بالدابة أنها من السلب فكذلك ما عليها من آلتها ، من سرج ولجام ونحو ذلك ، لا ما كان محمولاً عليها من دراهم ونحو ذلك ، إذا علم حكم الدابة ، فالذي هو سلب عندنا بلا ريب ما كان على المقتول ، من ثياب كعمامة ، ودرع ومغفر ونحو ذلك ، وسلاح كرمح وسيف ، وسكين ونحو ذلك ، وحلي كتاج وأسورة ونحوهما ، لأن ذلك يدخل في اسم السلب . فشمله قول الرسول : ( من قتل قتيلاً فله سلبه ) .
3361 وفي حديث عمرو بن معديكرب أنه حمل على أسوار فطعنه فدق صلبه فصرعه ، فنزل إليه فقطع يده ، وأخذ سوارين كانا عليه ، ويلمقاً من ديباج وسيفاً ومنطقة ، فسلم ذلك له ، فأما المال الذي معه في كمرانة أو خريطته فليس من السلب ، وكذلك خيمته ورحله ، ونحو ذلك مما ليس في يده ، لأن ذلك لا يدخل في مسمى السلب ، فلا يتناوله الحديث .
قال : ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه .
ش : يصح إعطاء الأمان للكفار في الجملة بالإجماع ، فيحرم قتلهم ومالهم
____________________
(3/185)
والتعرض لهم ، قال الله تعالى ؛ 19 ( { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ) وقد شاعت الأحاديث بذلك .
3362 قالت أم هانىء أخت علي رضي الله عنهما : ذهبت إلى رسول الله عام الفتح ، فوجدته يغتسل ، وفاطمة ابنته تستره بثوب ، فسلمت عليه فقال : ( من هذه ) ؟ فقلت : أنا أم هانئ بنت أبي طالب ، فقال : ( مرحباً بأم هانىء ) ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات ، ملتحفاً في ثوب واحد ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلاً قد أجرته ، فلان بن هبيرة ، فقال رسول الله : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء ) قالت أم هانىء : وذلك ضحى . . . متفق عليه .
3363 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله : ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً ) . . . رواه البخاري والنسائي ، وقال ) ( من قتل قتيلاً من أهل الذمة ) .
3364 وعن صفوان بن سليم ، عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله عن ربائهم رضي الله عنهم ، أن رسول الله قال : ( من ظلم معاهداً أو انتقصه ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس ، فأنا حجيجه يوم القيامة رواه أبو داود .
إذا تقرر هذا فيشترط لمعطي الأمان أن يكون ( مسلماً ) ، ولهذا قال الخرقي : منا . فلا يصح أمان الكافر ، وإن كان ذمياً .
3365 لما روي علي رضي الله عنه عن النبي قال : ( ذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ) رواه أحمد ، وهو بعض حديث في الصحيح ، فقيد ذلك بالمسلمين ( عاقلاً ) فلا يصح من مجنون ، ولا طفل ، ولا مغمى عليه ، لأن كلامهم غير معتبر ، وكذلك السكران ، قاله أبو محمد ، ويخرج فيه قول ( مختاراً ) فلا يصح من مكره بلا ريب ، وهل يشترط البلوغ ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي أنصهما وأشهرهما لا يشترط ، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير ، والشيرازي ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وأبو بكر ، وقال : رواية واحدة ، حاملاً لرواية الاشتراط على غير المميز ، وهو مقتضى كلام شيخه ، وذلك لعموم الحديث ، إذ هو من المسلمين . ( والثانية ) ويحتملها كلام الخرقي يشترط ، لأنه غير مكلف ، ولا يلزمه بقوله حكم ، فلا يلزم غيره كالمجنون ، فعلى الأولى من شرطه أن يكون عاقلاً ، قاله جماعة وبعضهم
____________________
(3/186)
يقول : مميزاً ، وقيده الخلال بابن سبع ، بشرط أن يعقل التخيير بين أبويه ، ( ولا فرق ) بين الرجل والمرأة بالإجماع ، لحديث أم هانىء .
3366 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( إن المرأة لتأخذ على القوم ) يعني تجير على المسلمين ، رواه الترمذي ، ( ولا بين ) الحر والعبد ، لعموم الحديث .
3367 وقد جاء أن عبداً أعطى أماناً ، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إن العبد المسلم رجل من المسلمين ، ذمته ذمّتهم ، رواه سعيد ولا بين المطلق والأسير ، والأجير والتاجر وغيرهم ، لعموم الحديث .
قال : ومن طلب الأمان ليفتح الحصن ففعل ، فقال كلٌّ واحد : أنا المعطي ، لم يقتل واحد منهم .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية أبي طالب وأبي داود ، وإسحاق بن إبراهيم ، في قوم في حصن استأمن عشرة ، ونزلت عشرة عشرة ، فيقولوا : لنا الأمان ، فيؤمنون كلهم ولا يقتل واحد منهم ، مع أن هذا والله أعلم اتفاق ، لأنه اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه ، فحرم الكل ، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية ، أو ميتة بمذكاة ، وهل يجوز استرقاقهم ؟ فيه قولان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلامه السابق لا ، لما تقدم . ( والثاني ) : يقرع بينهم ، فيخرج واحد بالقرعة ، ويسترق الباقون ، لأن الحق لواحد منهم ، فعين بالقرعة ، كما لو أعتق عبداً من عبيده وأشكل ، وهذا القول عزاه الشيخان وغيرهما إلى أبي بكر ، والذي في الروايتين أن أبا بكر قال : من أصحابنا من قال : يقرع بينهم ، وأن أبا بكر قال : ظاهر كلام أحمد أنه لا يسترق واحد منهم ، وذكر كلام أحمد السابق .
قال : ومن دخل إلى أرضهم من الغزاة فارساً ، فنفق فرسه قبل إحراز الغنيمة ، فله سهم راجل ، ومن دخل راجلاً فأحرزت الغنيمة وهو فارس ، فله سهم فارس .
ش : نفق فرسه أي مات ، وكذلك يقال في كل دابة ، ولا يقال لغيرها إلا مجازاً ، والاعتبار في الاستحقاق بحال الإحراز ، فءن أحرزت الغنيمة وهو راجل فله سهم راجل ، وإن أحرزت وهو فارس فله سهم فارس ، ولا عبرة بما قبل ذلك ، قال أحمد : أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى ، إن كان فارساً ففارس ، وإن كان راجلاً فراجل .
3368 لأن عمر رضي الله عنه قال : الغنيمة لمن شهد الوقعة اه ، وذلك لأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك ، فكان الاعتبار به بخلاف غيره .
____________________
(3/187)
قال : فيعطى ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .
ش : أي يعطى الفارس ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه .
3369 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قسم للفرس سهمين ، وللراجل سهماً . متفق عليه في رواية لأبي داود وأحمد : أن رسول الله أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم ، سهماً له وسهمين لفرسه .
3370 وعن ابن الزبير رضي الله عنهما قال : ضرب رسول الله عام خيبر للزبير رضي الله عنه أربعة أسهم ، سهم للزبير ، وسهم لذي القربى بصفية بنت عبد المطلب أم الزبير رضي الله عنها وسهمان للفرس . . . رواه النسائي .
3371 وعن أبي عمرة عن أبيه قال : أتينا رسول الله أربعة نفر ، ومعنا فرس ، فأعطى كل إنسان منا سهماً ، وأعطى الفرس سهمين ، رواه أحمد وأبو داود .
3372 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين .
3373 وعن خالد الحذاء قال : لا يختلف فيه عن رسول الله قال : ( للفارس ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم ) رواهما الدارقطني .
3374 ولا يعارض الأحاديث هذه حديث مجمّع بن حارثة الأنصاري قال : قسمت خيبر على أهل الحديبية ، فقسمها رسول الله على ثمانية عشر سهماً ، فأعطى الفارس سهمين ، والراجل سهماً . . . رواه أبو داود ، لترجحها عليه بكثرة رواتها ، وأعلميتهم ، وأصحيتها ، ولذلك قال أبو داود : حديث ابن عمر رضي الله عنهما أصح ، قال : وأتى الوهم في حديث مجمع أنه قال : ثلاثمائة فرس ، وإنما كانوا مائتي فرس ، ثم إن حديث مجمع يحتمل أنه أعطى الفارس سهمين لفرسه ، والراجل سهماً ، أي صاحبه ، توفيقاً بين الكل .
قال : إلا أن تكون فرسه هجيناً ، فيكون له سهمان ، له سهم ، ولهجينه سهم .
ش : الهجين الذي أبوه عربي وأمه غير عربية ، وعكسه يسمى المقرف ، فإن كان أبواه غير عربيين فهو البرذون ، وهذه الثلاثة حكمها واحد ، ولهذا قال أبو محمد : أراد
____________________
(3/188)
الخرقي بالهجين ما عدا العربي ، واختلف في هذه ( هل يسهم لها ) وهو المذهب ، كما يسهم لمن أبواه عربيان بالإجماع . ويسمى العتيق ، لدخولها في قوله تعالى : 19 ( { والخيل } ) وفي مسمى الفرس ، وقد قال الصحابة : إن النبي أسهم للفرس سهمين ، ( أو لا يسهم لها ) لأنها لا تعمل عمل العراب ، فأشبهت البغال ، ( أو إن أدركت ) العراب أسهم لها مثل العربي ، لأنها من الخيل ، وقد عملت عمل العراب فأعطيت حكمها ، وإن لم تدركها لم يسهم لها ، لأنها كالبغال إذاً ؟ على ثلاث روايات ، وحيث قلنا : يسهم لها . فهل يسهم لها كما يسهم للعربي سهمان ، وهو اختيار الخلال ، لما تقدم من أن النبي أسهم للفرس سهمين ، وهذه من الأفراس ، أو لا يسهم لها إلا سهم ، وهو اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن عقيل ، وأبي محمد .
3375 لما روى مكحول أن النبي أعطى الفرس العربي سهمين ، وأعطى الهجين سهماً ، رواه سعيد ، وأبو داود في المراسيل ، وروي موصولاً عن مكحول ، عن زياد بن حارثة ، عن حبيب بن سلمة ، عن النبي ، قال عبد الحق : والمرسل أصح . ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أفضل ، فيكون سهمه أرجح ، وقول الصحابي : أسهم للفرس سهمين . حكاية واقعة عين لا عموم لها ، فيحتمل أنه لم يكن في تلك الخيل غير عربي ، وهو الظاهر ، لقلتها عند العرب ؟ على روايتين .
قال : ولا يسهم لأكثر من فرسين .
ش : يعني أن الرجل إذا كان معه أفراس ، أسهم لفرسين منها فقط ، لأن به إلى الثاني حاجة ، لاحتمال موت الواحد ، وضعفه بإدامة ركوبه .
3376 وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن يسهم للفرس سهمين ، وللفرسين أربعة أسهم ، ولصاحبهما سهم ، فذلك خمسة أسهم ، وما كان فوق الفرسين فهو جنائب .
3377 وعن الأوزاعي أن رسول الله كان يسهم للخيل ، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين ، وإن كان معه عشرة أفراس . . . رواهما سعيد في سننه .
قال : ومن غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان .
ش : ( هل يسهم ) للبعير مطلقاً ، وهو منصوص أحمد في رواية مهنا ، واختيار القاضي ، وجمهور أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل . وحكاه في الهداية عن الأصحاب ، لقول الله تعالى : 19 ( { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ) ولأنه حيوان يسابق عليه بعوض ، فجاز أن يسهم له كالخيل ( أو لا يسهم له ) وهو اختيار أبي الخطاب في الهداية ، وأبي محمد في المغني ، وأورده في المقنع ، وكذا أبو البركات مذهباً ، لأن النبي لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل ، مع أنه لم
____________________
(3/189)
تخل غزوة من غزواته من الإبل ، ولو أسهم لها لنقل ، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكرّ والفرّ عليه ، فلم يسهم له كالبغل والحمار ، ( أو إن قدر ) على غيره لم يسهم له ، وإلا أسهم له لمكان العذر ، وهو منصوص أحمد في رواية الميموني ، واختيار الخرقي ، وابن البنا ؟ على ثلاثة أقوال ، وحيث أسهم له فهل يسهم له سهم واحد ، وهو قول العامة ، لأنه لا يساوي الخيل قطعاً ، فاقتضى أن ينقص عنها ، أو حكمه حكم الهجين ، وهو مقتضى قول أبي محمد في المغني ، وقول القاضي في الأحكام السلطانية ؟ على قولين ، وشرط أبو محمد في استحقاق السهم له أن يشهد الوقعة عليه ، ويمكن القتال عليه ، قال : فأما الإبل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا يستحق راكبها شيئاً ، لأنه أذنى حالاً من الراجل .
( تنبيه ) : ما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة لا يسهم لها على المذهب المعروف ، لأن النبي وخلفاءه لم ينقل عنهم أنهم أسهموا لشيء من ذلك ، وجعل القاضي في الأحكام السلطانية حكم الفيل حكم البعير ، وهو حسن .
قال : ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في قسمه .
ش : لأنه والحال هذه ملك الحاضرون الوقعة الغنيمة واستحقوها ، فالميت بعد ذلك مات عن حق ، فيكون لورثته ، لقوله عليه السلام : ( من مات عن حق فلورثته ) .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو مات قبل ذلك لا حق له ، وهو كذلك ، لعدم الملك . وهذا هو مناط المسألة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .
قال : ويعطى الراجل سهماً .
ش : هذا اتفاق والله أعلم ، وقد استفاضت الأحاديث بذلك .
قال : ويرضخ للمرأة والعبد .
ش : الرضخ قال الجوهري : العطاء ليس بالكثير ، والمراد هنا إعطاء شيء دون السهم من غير تقدير .
3378 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ، ويحذين من الغميمة ، وأما سهم فلا يضرب لهن .
3379 وعنه أيضاً أنه كتب إلى نجدة الحروري : سألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس ؟ وإنه لم يكن لهما سهم معلوم ، إلا أن يأخذا من غنائم القوم ، رواهما أحمد ومسلم .
3380 وعنه أيضاً قال : كان النبي يعطي المرأة والمملوك من الغنائم دون
____________________
(3/190)
ما يصيب الجيش . . . رواه أحمد .
3381 وما روي عن الأوزاعي قال : أسهم النبي للصبيان بخيبر ، رواه الترمذي .
3382 وكذلك قول بعض الصحابيات رضي الله عنهن : أسهم لنا في خيبر ، كما أسهم للرجال . رواه أحمد وأبو داود محمولان إن صحا على الإرضاخ ، وقولها : كما أسهم للرجال ، أي أعطانا كما أعطى الرجال ، فالتشبيه في الإعطاء ، لا في القدر ، وحكم الصبي المميز حكم العبد ، يرضخ له كما يرضخ له ، لتساويهما معنى ، وهو كونهما ليسا من أهل القتال ، فتساويا حكماً .
3383 وعن سعيد بن المسيب قال : كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة ؛ والمدبر ، والمكاتب ، والمعلق عتقه بصفة كالقن ، لأنهم عبيد ، أما المعتق بعضه فقال أبو بكر : يرضخ له بقدر ما فيه من الرق ، ويسهم له بقدر الحرية ، لأن ذلك مما يتبعض ، فأشبه الميراث . وظاهر كلام أحمد على ما قال أبو محمد أنه يرضخ له فقط ، لعدم وجوب القتال عليه ، ومن ثم قلنا في الخنثى المشكل أنه يرضخ له ، ولأبي محمد احتمال أنه يعطى نصف سهم ، ونصف رضخ كالميراث ، قال : فإن انكشف حاله فتبين أنه رجل أعطي تمام السهم ، لأنا تبينا أنه أخذ دون حقه .
قال : ويسهم للكافر إذا غزا معنا .
ش : هذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار الخرقي ، والخلال وصاحبه والقاضي ، وجماعة من أصحابه الشريف ، والشيرازي وابن عقيل وغيرهم .
3384 لما روى الزهري أن النبي أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه . رواه الترمذي وأبو داود في المراسيل ، ولفظه استعان بناس من اليهود فأسهم لهم ، ولأن الكفر نقص في الدين ، فلم يمنع السهم كالفسق ، ( والثانية ) لا يسهم له ، بل يرضخ له ، لأنه من غير أهل الجهاد ، فأشبه المرأة والعبد ، وقد يمنع من هذا لمخاطبته بالفروع على الصحيح .
وقول الخرقي : غزا معنا . لم يشترط أن يكون بإذن الإمام ، وشرط ذلك الشيخان ، وأبو الخطاب ، لأنه غير مأمون ، فأشبه المخذل ، وكون المشهور أنه يسهم له ، مع أن المشهور فيما أظن أنه لا يستعان به ، قد يتناقض .
قال : وإذا غزا العبد على فرس لسيده ، قسم للفرس وكان للسيد ، ويرضخ للعبد .
____________________
(3/191)
ش : أما الرضخ للعبد فلما تقدم ، وأما القسم للفرس فلأنه فرس حضر الوقعة ، وقوتل عليه ، فاستحق السهم ، كما لو كان السيد راكبه ، وفارق فرس الصبي ونحوه حيث لا يستحق السهم ، لأن الفرس له ، فإذا لم يستحق السهم لنفسه فلفرسه أولى ، والعبد الفرس لغيره ، وكأن الخرقي أشار إلى هذا التعليل بقوله : وكان للسيد ، وإلا فالرضخ الذي يدفع للعبد هو للسيد .
قال : وإذا أحرزت الغنيمة لم يكن فيها لمن جاءهم مدداً أو هرباً من أسر حظ .
ش : هذا يعتمد أصلاً ، وهو أن الغنيمة تملك بالإحراز على ظاهر كلام الخرقي ، لأن به يحصل تمام الاستيلاء ، فعلى هذا إذا جاء مدد بعد ذلك ، أو انفلت أسير فلا شيء له ، لأنه حصل بعد ملك الغنيمة . وإن وجد قبل ذلك شاركهم ( وعن القاضي ) أن الغنيمة تملك بانقضاء الحرب ، وإن لم تحرز ، وهو الذي اعتمده أبو البركات في محرره ، لأنها إذاً حصل الاستيلاء عليها ، فملكت كسائر المباحات ، فعلى هذا إذا جاء المدد أو الأسير بعد انقضاء الحرب فلا شيء له وإن لم تحرز الغنيمة .
3385 وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قبل نجد ، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله بخيبر ، بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف ، قال أبان : اقسم لنا يا رسول الله ، قال أبو هريرة فقلت : لا تقسم لهم يا رسول الله . فقال أبان : وأنت بهذا يا وبر متحدر من رأس ضأن . فقال النبي : ( اجلس يا أبان ) ولم يقسم لهم رسول الله ، رواه أبو داود ، والبخاري تعليقاً ، وهذا ظاهره أنه بعد الإحراز .
3386 وما جاء عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : 16 ( قدمنا فوافقنا رسول الله حين افتتح خيبر ، فأسهم لنا ؛ أو قال : أعطانا منها شيئاً ؛ وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا ، مع جعفر وأصحابه ، قسم لهم معهم . محمول على أنهم قدموا وقت الفتح ، قبل الإحراز ، أو أن هذا كان خاصاً بهم ) .
قال : ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الوقعة أسهم له .
ش : وذلك كالطليعة والجاسوس والرسول .
3387 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قام يعني يوم بدر فقال : ( إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله ، وأنا أبايع له ) فضرب له رسول الله بسهم ، ولم يضرب لأحد غاب غيره ، رواه أبو داود .
____________________
(3/192)
3388 وعنه أيضاً قال : أما تغيب عثمان رضي الله عنه عن بدر فإنه كان تحته بنت رضي الله عنه وكانت مريضة ، فقال له النبي : ( إن لك أجر رجل وسهمه ) رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه ، ولأنه في مصلحتهم ، فأشبه السرية مع الجيش .
قال : وإذا سبوا لم يفرق بين الوالد وولده ، ولا بين الوالدة وولدها .
ش : يعني لا يفرق بينهم في القسم .
3389 أما بين الوالدة وولدها فلما روي عن أبي أيوب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة ) رواه أحمد والترمذي .
3390 وعن علي رضي الله عنه أنه فرق بين والدة وولدها ، فنهاه النبي عن ذلك ، ورد البيع . رواه أبو داود ، مع أن هذا إجماع فيها مع ولدها الطفل ، وأما بين الوالد وولده فلأنه أحد الأبوين فأشبه الأم ، ولما سيأتي في الأخوين ، وإذا منع التفريق بين الأخوين فبين الأب وولده أولى ، والله أعلم .
قال : والجد في ذلك كالأب ، والجدة كالأم .
ش : لأنه إذا منع التفريق بين الأخوين فبين الجد وابن ابنه والجدة وابن ابنها أولى ، ويقال من الأعز من الولد وولد الولد ، ولأنهما يقومان مقام الأبوين في الحضانة ، والميراث ، والنفقة ، فكذلك في تحريم التفريق ، ولا فرق بين الجد والجدة من قبل الأب والأم ، ولا بين الجد الأعلى والأدنى ، لأن للجميع ولاية .
قال : ولا يفرق بين أخوين ولا أختين .
3391 ش : لما روي عن علي رضي الله عنه قال : أمرني النبي أن أبيع غلامين أخوين ، فبعتهما وفرقت بينهما ، فذكرت ذلك له فقال : ( أدركهما فارتجعهما ، ولا تبعهما إلا جميعاً ) رواه أحمد . وفي رواية : وهبني النبي غلامين أخوين ، فبعت أحدهما ، فقال لي رسول الله : ( ما فعل غلامك ) ؟ فأخبرته ، فقال : ( ردّه ) رواه الترمذي وابن ماجه . وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز التفريق بين سائر الأقارب عدا من تقدم ، وهو الذي نصبه أبو محمد في المغني للخلاف ، إذ الأصل حل البيع ، خرج منه من تقدم ، فمن عداه يبقى على مقتضى الأصل ، وقال عامة الأصحاب وتبعه أبو
____________________
(3/193)
محمد في كتابه الصغير : لا يفرق بين كل ذي رحم محرم ، قياساً على الإخوة ، ولا نزاع في جواز التفريق بين سائر الأقارب عدا ذي الرحم المحرم ، كما يجوز التفريق بين الأم وابنتها من الرضاع ، لعدم النص في ذلك ، وامتناع القياس على المنصوص لقوّته ، وحيث منع التفريق ( فهل ذلك مطلقاً ) وإن حصل البلوغ . وهو ظاهر إطلاق الخرقي ، وإطلاق الأحاديث السابقة ( أو يجوز ) ذلك بعد البلوغ .
3391 م لما روى سلمة بن الأكوع قال : خرجنا مع أبي بكر رضي الله عنه أمّره علينا رسول الله فغزونا فزارة ، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر رضي الله عنه فعرّسنا ، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر رضي الله عنه فشنينا الغارة ، فقتلنا على الماء من قتلنا ، قال : فنظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل ، وأنا أعدو في أثرهم ، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل ، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل ، قال : فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر ، وفيهم امرأة من فزارة ، عليها قشع من أدم ، ومعها ابنة لها من أحسن العرب ، قال : فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها ، فلم أكشف لها ثوباً حتى قدمت المدينة ، ثم بت فلم أكشف لها ثوباً ، قال : فلقيني النبي في السوق ، فقال : ( يا سلمة هب لي المرأة ) فقلت : يا رسول الله لقد أعجبتني ، وما كشفت لها ثوباً ، فسكت وتركني ، حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق فقال : ( يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك ) فقلت : هي لك يا رسول الله ، قال : فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين ، ففداهم بتلك المرأة ، رواه أحمد ومسلم وأبو داود .
( تنبيه ) : والتفريق الممنوع منه التفريق في الملك ، سواء كان ذلك بالبيع أو بالهبة ، أو بغير ذلك إلا في العنق ، وافتداء الأسرى ، وكذلك إذا اشترى أمة فحملت عنده وولدت ، ثم اطلع على عيب فأراد رد الأم وإمساك الولد ، قاله جماعة من الأصحاب ، وخالفهم الشيخان وهو الصواب ، فقالا : يتعين هنا الأرش لتعذر التفرقة .
قال : ومن اشترى منهم وهم مجتمعون ، فتبين أن لا نسب بينهم رد إلى المقسم الفضل الذي فيه بالتفريق .
ش : إذا اشترى إنسان من لا يجوز التفريق بينهم ، أو حصلوا في سهمه ، ثم تبين أن لا نسب بينهم ، رد الفضل الذي فيهم على المغنم ، أو على الذي اشترى منه ، لأن قيمتهم تزيد بذلك وتنقص ، لكونهما نسيبين ، وصار هذا كما لو اشترى شيئاً فبان معيباً ، فإنه أرجع بالأرش ، كذلك هنا ، يرجع عليه بالزيادة ( واعلم ) أن الخرقي لم يذكر إلا أنه يرد الفضل ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني والكافي ، والقياس أنه يخير بين الرد أو رد الفضل ، والله أعلم .
____________________
(3/194)
قال : ومن سبي من أطفالهم منفرداً ، أو مع أحد أبويه فهو مسلم ، ومن سبي مع أبويه كان على دينهما .
ش : من سبي من أطفال الكفار منفرداً عن أبويه حكم بإسلامه إجماعاً ، لانقطاع تبعيته عنهما الذي صار بها كافراً ، وإن سبي معهما فهو باق على دينهما في قول العامة ، لبقاء التبعية .
3392 قال : ( كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) الحديث وقد تقدم ، فهنا الأبوان باقيان ، فهو باق على كفره ، وفي التي قبلها قد عدما ، فيصير على أصل الفطرة ، وإن سبي مع أحدهما ( فهل يحكم ) بإسلامه ، لانقطاع تبعيته عن مجموع الأبوين ، إذ تبعيته لهما معلقة بوجودهما ، وتغليباً للسابي والدار ، وهو الذي قطع به أبو محمد ، ( أو لا يحكم ) بإسلامه ، لأنه قد ثبتت له التبعية ، فلا تنقطع إلا بانعدامهما ؟ على روايتين .
( تنبيه ) المميز كالطفل على المنصوص ، وقيل بل كالبالغ ، فلا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه .
قال : وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم ، فأدركه صاحبه قبل القسمة فهو أحق به .
3393 ش : لما روى نافع أن عبداً لابن عمر رضي الله عنهما أبق فلحق بالروم ، فظهر عليه خالد فرده إلى عبد الله وأن فرساً لعبد الله غار فظهروا عليه ، فرده إلى عبد الله ؛ رواه البخاري وأبو داود . قال البخاري : وقال في رواية في الفرس : على عهد رسول الله ولأبي داود في العبد في رواية قال : فرد عليه رسول الله ولم يقسم .
3394 ولحديث العضباء ناقة رسول الله .
3395 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : ( من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له ) رواه الدارقطني ، ولكنه ضعيف .
3396 وعن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما : فيما أحرز المشركون من المسلمين ، ثم ظهر المسلمون عليهم بعد ؟ قال : ومن وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم ، رواه سعيد .
قال : فإن أدركه مقسوماً فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم ، في إحدى
____________________
(3/195)
الروايتين ، والرواية الأخرى إذا أقسم فلا حق له فيه بحال .
ش : ( الرواية الأولى ) نص عليها في رواية إسحاق بن إبراهيم ، جمعاً بين الحقين ، إذ حق مالكه تعلق به قبل القسمة ، فلما قسم أو بيع ءن قيل : إنه يأخذه بغير شيء . أفضى إلى ضياع حق الآخذ له ، وإن قلنا : لا يأخذه أصلاً أفضى إلى ضياع حقه ، فقلنا : يرجع فيه ، ويغرم القيمة أو الثمن جميعاً ، إعمالاً للحقين ما أمكن .
3397 ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً وجد بعيراً له في المغنم ، وقد كان المشركون أصابوه قبل ذلك ، فسأل عنه النبي ، فقال رسول الله : ( إن وجدته قبل أن يقسم فهو لك ، وإن وجدته قد قسم أخذته بالثمن إن شئت ) ذكره ابن حزم أو ابن عدي ، لكنه من رواية الحسن بن عمارة وهو متروك ، وروي أيضاً من حديث مسلمة بن علي ، وإسماعيل بن عياش وهما ضعيفان . ( والرواية الثانية ) رواها عنه جماعة ، لما تقدم عن عمر رضي الله عنه .
3398 وعنه أيضاً أنه كتب إلى السائب : 16 ( أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه أو متاعه بعينه فهو أحق به من غيره ، وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما قسم فلا سبيل إليه ) .
3399 وعن سلمان بن ربيعة : إذا قسم فلا حق له فيه . رواهما سعيد . ولأن الأصل أن صاحبه لا يرجع فيه بحال ، لأنه مال انتقل إلى المسلمين من أموال الكفار ، فكان غنيمة كبقية أموالهم ، خرج منه ما قبل القسمة لقضية النص ، ولعدم تعلق حق معين به ، فما عداه يبقى على مقتضى الأصل .
وقول الخرقي : أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم ، يحتمل أنه يريد إذا اشتراه مشتر من المغنم بثمن ، فصاحبه أحق به بذلك الثمن ، ويحتمل أن يريد إذا حسب عليه بثمن ، أي بقيمة فصاحبه أحق به بذلك ، والأول أظهر في كلامه ، وبالجملة الخلاف في كلتي الصورتين ، و أبو البركات يحكي رواية ثالثة : أن في المقسوم لا حق له ، وفي المشتري يأخذه بالثمن ، وقال : إنه المشهور عن الإمام .
واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي يستدعي أصلاً ، وهو أن الكفار يملكون أموال المسلمين في الجملة ، وإلا إذا لم يملكوها فلا فرق بين قبل القسم وبعده ، وهذا هو المشهور ، وعليه تجري عامة نصوص الإمام ، واختار أبو الخطاب في تعليقه أنهم لا يملكونها ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد ، وتوجيه القولين ، والتفريع عليهما له محل آخر ، ومن المتأخرين من قال : إن الخلاف في الملك مبني على الخلاف في تكليف الكفار بالفروع ، وليس بجيد ، فإنه لا ريب أن المشهور ثم تكليفهم بها ، والمشهور الحكم بملكهم هنا ، ثم إنه لا نزاع أن الحربي لا يجري عليه حكم الإسلام في زناه وسرقته وقتله ونحو ذلك ، إنما فائدة ذلك العقاب في الآخرة ، وإذا قلنا يملكونها فهل
____________________
(3/196)
ذلك بمجرد القهر والغلبة ، أو لا بد مع ذلك من الحوز إلى ديارهم ، وهو اختيار القاضي في روايتيه ؟ فيه روايتان .
قال : ومن قطع من مواتهم حجراً أو عوداً ، أو صاد حوتاً أو ظبياً ، رده على سائر الجيش إذا استغنى عن أكله والمنفعة به .
ش : ملخصه أن من أصاب من مباح دار الحرب شيئاً له قيمة فهو غنيمة .
3400 لما روي عن أبي الجويرية قال : أصبت جرة حمراء فيها دنانير ، في إمارة معاوية ، في أرض الروم ، قال : وعلينا رجل من أصحاب النبي من بني سليم ، يقال له معن بن يزيد ، فأتيته بها فقسمها بين المسلمين ، وأعطاني مثل ما أعطى رجلاً منهم ، ثم قال : لولا أني سمعت رسول الله يقول : ( لا نفل إلا بعد الخمس ) لأعطيتك . قال : ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت . رواه أحمد وأبو داود ، ولأنه أخذ بقوة المسلمين ، فكان غنيمة كالمأخوذ منهم ، وإن كان المأخوذ لا قيمة له ، كالأقلام والأحجار فهو لآخذه ، وإن صار له قيمة بعد ذلك بنقله ومعالجته ، نص عليه أحمد ، وقاله الشيخان اعتباراً بحاله الراهنة ، وهذا يدخل في كلام الخرقي ، وشرط الرد في المغنم أن يستغني عن أكله والمنفعة به ، لأنه لو وجد طعاماً مملوكاً لهم كان له أكله إذا احتاج إليه ، فالمباح أولى .
قال : ومن تعلف
____________________
(3/197)
فضلاً عما يحتاج إليه رده على المسلمين .
ش : إذا تعلف الإنسان من دار الحرب علفاً ، فله أن يعلف دابته بغير إذن .
3401 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه ، رواه البخاري .
وعنه أيضاً أن جيشاً غنموا في زمان رسول الله طعاماً وعسلاً ، فلم يؤخذ منه الخمس . رواه أبو داود .
3403 وعن عبد الله بن مغفل قال : أصبت جراباً من شحم يوم خيبر ، فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم من هذا شيئاً ، فالتفت فإذا رسول الله مبتسماً . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي ، وحكم علف دوابنا حكم طعامنا ، بجامع أن الحاجة قد تدعو إليهما ، إذ الحمل فيه مشقة ، وكذلك الشراء من دار الحرب ، فاقتضت الحكمة إباحة ذلك توسعة على الناس ، ورفعاً للحرج والمشقة ، ومن ثم إذا كان معه فهد أو كلب لم يكن له إطعامه ، لأن هذا يراد للتفريج ، فلا حاجة إليه في الغزو ، فإن تعلف فضلاً عما يحتاج إليه رد الفاضل ، لأن المقتضي للجواز في الأصل الحاجة ، فإذا انتفت انتفى الجواز ، وإذاً يرد الفاضل على المسلمين ، إما في المغنم وإما لبعض الجيش ، فيصير ذلك كالواجد له ابتداء ، وحكم الطعام حكم العلف إذا أخذ طعاماً له أن يأكل منه ، والأحاديث إنما وردت فيه ، فإن أخذ أكثر مما يحتاج إليه رد الفاضل .
3404 وقد روى ابن أبي أوفى قال : أصبنا طعاماً يوم خيبر ، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق . رواه أبو داود .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) الاحتياج هنا أن يكون به حاجة إلى مثله في الجملة ، وإن كان مما يمكنه أن يستغني ، فلو أصاب طعاماً أو علفاً وعنده مثل ذلك ، كان له أكله ، وعلف دوابه ، وإمساك ما عنده ، هذا مقتضى كلام أبي محمد ، وهو حسن ، ونظير الحاجة هنا نظير الحاجة إلى الضبة كما تقدم . ( الثاني ) قد تقدم للخرقي وغيره من الأصحاب أنه لا يجوز التعلف إلا بإذن الأمير . وقالوا هنا : من أخذ علفاً له أن يعلف دوابه منه بغير إذن ، وهذا يشمل ما إذا تعلف بإذن وبغير إذن ، وأبلغ من هذا أن في كلام أبي محمد ما يقتضي أن له ذلك وإن نهاه الإمام ، قال : إذا دخل الغزاة دار الحرب فلهم أن يأكلوا ما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم .
3405 وقال الزهري : لا يؤخذ إلا بإذن الإمام ، وقال سليمان بن موسى : لا يتركه إلا أن ينهى عنه الإمام ، وهذا يقتضي أنه ينتفع بذلك وإن نهى عنه الإمام ، لا يقال تحمل هذه المسألة على ما إذا وجد علفاً ، وثم على ما إذا تعلف ، أي خرج لطلب العلف ، لأن الخرقي قال هنا : تعلف كما قال ثم .
قال : فإن باعه رد ثمنه في المقسم .
ش : أي إذا باع شيئاً من العلف رد ثمنه في المغنم ، كذا قال الشيخان وغيرهما .
3406 لما روى سعيد في سننه أن صاحب جيش الشام كتب إلى عمر رضي الله عنه : إنا أصبنا أرضاً كثيرة الطعام والعلف ، وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك ، فكتب إليه عمر رضي الله عنه : دع الناس يعلفون ويأكلون ، فمن باع منهم شيئاً بذهب أو فضة ففيه خمس الله ، وسهام المسلمين . ولأن له فيه حقاً فصح بيعه ، كما إذا تحجر مواتاً ، وفرق القاضي ، وتبعه أبو محمد في الكافي ، فقال : إن باعه لغير غاز فالبيع باطل ، لأنه باع مال الغنيمة بغير إذن ، وإذاً يرد المبيع إن كان باقياً ، أو قيمته أو ثمنه إن كان أكثر إن كان تالفاً ، وإن باعه لغازٍ فلا يخلو إما أن يبيعه بطعام أو علف مما له الانتفاع به ، أو بغير لك . ( فالأول ) ليس بيعاً في الحقيقة ، إنما دفع إليه مباحاً ، وأخذ مثله ، فلكل منهما الانتفاع بما صار إليه ، ويصير أحق به لثبوت يده عليه ، ويتفرع على هذا أنه لو باع صاعاً بصاعين ، أو افترقا قبل القبض جاز إذ لا بيع ، وإن أقرضه
____________________
(3/198)
إياه فقبضه فهو أحق به ، ولا يلزمه إيفاؤه ، فإن وفاه أو ردّه إليه عادت يده كما كانت ، ( والثاني ) لا يصح البيع أيضاً ، ويصير المشتري أحق به ، استناداً لليد ، ولا ثمن عليه ، حتى لو أخذ منه رد إليه . قال : ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم .
ش : يعني أن الجيش إذا دخل دار الحرب ، فخرجت منه سرية أو أكثر ، فإذا غنم الجيش شاركته السرية ، وإن غنمت السرية شاركها الجيش ، بعد أن يدفع إليها نفلها كما تقدم .
3407 لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله : ( المسلمون تتكافؤ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويجير عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم ، ويرد مشدهم على مضعفهم ، ومتسريهم على قاعدهم ) رواه أبو داود ، وقال أحمد في رواية أبي طالب قال النبي : ( السرية ترد على العسكر ، والعسكر يرد على السرية ) .
قال : ومن فضل معه من الطعام ، فأدخله البلد ، طرحه في مقسم تلك الغنيمة ، في إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى : مباح له أكله إذا كان يسيراً .
ش : الرواية الأولى نص عليها في رواية ابن إبراهيم ، واختارها الخلال وصاحبه والقاضي وأبو الخطاب في خلافيهما ، للاستغناء عنه ، وإذاً يزول المقتضي للإمساك . ( والثانية ) نص عليها في رواية أبي طالب في الطبخة والطبختين من اللحم ، والعليقة والعليقتين من الشعير ، يدخله طرسوس ، لا بأس به ، لأن اليسير مما تجري المسامحة فيه .
3408 وقد قال الأوزاعي : أدركت الناس يقدمون بالقديد ، فيهديه بعضهم إلى بعض ، لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة .
3409 وعن القاسم مولى عبد الرحمن ، عن بعض أصحاب رسول الله قال : كنّا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه ، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملوءة . رواه أبو داود ، وهذه واقعة عين ، لأنه يحمل إلى رحالهم وهم مسافرون ، ولا نزاع في وجوب رد الكثير ، إذ المسامحة لم تجربه ، بخلاف الكثير ، ولأن المبيح الحاجة ، وفي الكثير قد بينا أن لا حاجة به إليه .
قال : وإذا اشترى المسلم أسيراً من أيدي العدو ، لزم الأسير أن يؤدي إليه ما اشتراه به .
ش : لأن الأسير يجب عليه فداء نفسه ، ليخرج من حكم الكفار ، فإذا ناب عنه
____________________
(3/199)
غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه ، كما لو قضى الحاكم عنه حقاً امتنع من أدائه .
3410 وقد روى سعيد في سننه بسنده عن الشعبي قال : أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب ، فأصابوا سبايا من سبايا العرب ، فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر رضي الله عنه في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم ، قد اشتراه التجار من أهل ماه ، فكتب عمر رضي الله عنه : أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره ، وإن أصابه في أيدي التجار بعد ما قسم فلا سبيل إليه ، وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رؤوس أموالهم ، فإن الحر لا يباع ولا يشترى ؛ ولم يفرق الخرقي بين أن يكون ذلك بإذن الأمير أو بغير إذنه ، وصرح به غيره ، ولم يجروا فيه رواية الضمان .
وقول الخرقي : إذا اشترى المسلم ، خرج مخرج الغالب ، وإلا لو اشترى الأسير ذمي كان الحكم كذلك .
قال : وإذا سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية ، ثم قدر عليهم ردوا إلى ما كانوا عليه ولم يسترقوا .
ش : أهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا ، ثم قدر عليهم وجب ردهم إلى ذمتهم ، فلا يجوز استرقاقهم ، لبقاء ذمتهم ، وانتفاء ما يوجب نقضها ، وهذا والله أعلم اتفاق .
قال : وما أخذه العدو منهم من رقيق أو مال رد إليهم إذا علم به قبل أن يقسم .
ش : يعني أن حكم أموالهم حكم أموال المسلمين ، على ما تقدم شرحه .
3411 قال علي رضي الله عنه : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا ، وأموالهم كأموالنا ، فيدفع إليه قبل القسمة وفيما بعدها على الخلاف .
قال : ويفادى بهم بعد أن يفادى بالمسلمين .
ش : ظاهر كلام الخرقي أنه يجب فداؤهم وإن لم يكونوا في معونتنا ، وتبعه على ذلك أبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد في المغني ، لأنا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم ، فلزمنا القتال دونهم ، فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم ، لزمنا ذلك كالمسلمين ، والمنصوص عن أحمد ، واختيار القاضي أنه إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام ، لأن أسرهم إذاً كان لمعنى من جهته ، وحيث وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم ، إذ حرمة المسلمين أعظم ، وهو بصدد أن يفتن عن دينه الحق ، بخلاف الذمي ، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجب فداء المسلم ، وهو كذلك .
3412 وقد فادى رسول الله .
3413 وفي الحديث : ( أطعموا الجائع ، وعودوا المرضى ، وفكّوا العاني )
____________________
(3/200)
أي الأسير .
قال : وإذا حاز الأمير المغانم ، ووكل بها من يحفظها ، لم يجز أن يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون .
ش : هذا تقييد للمسألة السابقة ، وهو أن من أخذ من دار الحرب طعاماً أو علفاً ، فله أكله وعلف دابته منه بغير إذن ، بشرط أن لا يجوز الإمام المغانم ، أما إذا حازها ووكل بها من يحفظها ، فإنه لا يجوز لأحد أخذ شيء منه إلا لضرورة على المنصوص ، واختيار أبي محمد ، لأنها قبل ذلك بمنزلة المباحات ، فإذا فعل فيها ذلك قوي ملك المسلمين فيها ، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب ودار الإسلام ، وجوز القاضي في المجرد الأكل منها في دار الحرب مطلقاً لأن دار الحرب مظنة الحاجة ، بخلاف دار الإسلام .
قال : ومن اشترى من المغنم في بلاد الروم ، فتغلب عليه العدو ، لم يكن عليه شيء ، وإن كان قد أخذ منه الثمن رد إليه .
ش : إذا باع الإمام بعض الغنيمة لمصلحة قبل قسمها ، أو قسمها فباع بعضهم بعضاً وتقابضا ، ثم غلب العدو على المشتري فأخذه ، فهل هو ( من ضمان البائع ) وهو اختيار الخرقي ، لعدم كمال القبض ، إذ الغنيمة في دار الحرب على خطر من العدو ، لتشوف أنفسهم إليها ، فأشبهت التمر المبيع على رؤوس النخل إذا تلف قبل الجذاذ ، أو ( من ضمان المشتري ) وهو المشهور عن أحمد ، واختيار الخلال وصاحبه ، والقاضي ، لأنه مال مقبوض ، أبيح لمشتريه التصرف فيه ، فكان ضمانه عليه ، كما لو أحرز إلى دار الإسلام ، ولأن نماءه للمشتري ، فكان ضمانه عليه ، لقوله عليه السلام : ( الخراج بالضمان ؟ ) على روايتين ، وقيد أبو محمد الخلاف بما إذا لم يحصل تفريط من المشتري ، أما إن حصل منه تفريط ، كأن خرج بما اشتراه من العسكر ونحو ذلك ، فإن ضمانه عليه بلا خلاف .
ثم إن الخرقي إنما ذكر ذلك فيما اشترى من المغنم ، وكذلك الشيخان وأبو الخطاب ، ونصوص أحمد أيضاً إنما وردت في ذلك ، فعلى هذا ما اشتري من غير الغنيمة يكون ضمانه على المشتري بلا نزاع ، والقاضي ترجم المسألة في روايتيه فيما إذا تبايع نفسان في دار الحرب وتقابضا ، ثم غلب المشركون على المبيع فأخذوه ، وعلل رواية أن الضمان على البائع بأنه إذا كانت حال خوف فالقبض غير حاصل ، بدليل ما لو ابتاع شيئاً في دار الإسلام ، وسلمه في موضع فيه قطاع الطريق ، لم يكن ذلك قبضاً صحيحاً ، ويتلف من ضمان البائع ، كذلك هنا ، وهذه الترجمة والتعليل يشمل الغنيمة وغيرها ، وهنا شيء آخر وهو أن القاضي والشيخين إنما حكوا الخلاف
____________________
(3/201)
بعد القبض ، ومقتضى هذا أن قبل القبض يكون ذلك من ضمان البائع . رواية واحدة . والخرقي رحمه الله لم يتعرض للقبض ، فقد يقال : إن كلامه محمول على ما قبل القبض ، والذي أخذ منه القاضي في روايتيه مذهب الخرقي ، وهو رواية أبي طالب ، ظاهرها كذلك ، فإنه قال : إذا اشتروا الغنيمة في أرض العدو ، ثم غلبوا عليها ، لا يؤخذ منهم الثمن ، لأنه لم يسلم لهم ما اشتروه ، وعلى هذا يرتفع الخلاف ، ويكون قبل القبض من مال البائع ، وبعده من مال المشتري ، وأبو الخطاب ترجم المسألة بما إذا وقع بعد لزوم البيع ، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجوز قسم الغنيمة وتبايعها في دار الحرب ، وهو كذلك .
قال : وإذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار .
ش : أي لا يرموا بالنار ونحو ذلك ، ( وهو إحدى الروايتين ) وبها قطع أبو محمد في المغني .
3414 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : بعثنا رسول الله في بعث فقال : ( إن وجدتم فلاناً وفلاناً لرجلين من قريش فأحرقوهما بالنار ) ثم قال حين أردنا الخروج ( إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً ، وإن النار لا يعذب بها إلا الله ، فإن وجدتموهما فاقتلوهما ) ، رواه البخاري وأبو داود والترمذي وصححه .
3415 وفي الصحيح أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال : ( لا يعذب بالنار إلا رب النار ) ، ويستثنى من ذلك إذا لم يقدر عليهم إلا بذلك ، ارتكاباً لأدنى المفسدتين لدرء أعلاهما ، ولهذا جاز رمي المسلم المتترس به إذا خيف على المسلمين ، وكذلك إذا كانوا يفعلون ذلك بنا نفعل بهم ، لينتهوا عن ذلك ، ولعموم 19 ( { وجزاء سيئة سيئة مثلها } ) ، وقوله تعالى : 19 ( { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } ) ، ونحو ذلك .
3416 وعلى هذا يحمل ما روي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : بعثني رسول الله إلى قرية يقال لها أبنى فقال : ( أيتها صباحاً ثم حرق ) رواه أحمد وأبو داود ، ويحمل ذلك على أنه كان قبل النهي عن التحريق .
( والرواية الثانية ) يجوز رميهم بالنار ، لحديث أسامة .
3417 ولما روى سعيد بإسناده عن صفوان بن عمرو وحريز بن عثمان ، أن جنادة بن أبي أمية الأزدي ، وعبد الله بن قيس الفزاري ، وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم ، كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار ، ويحرقونهم
____________________
(3/202)
هؤلاء لهؤلاء ، وهؤلاء لهؤلاء . قال عبد الله بن قيس : ولم يزل أمراء المسلمين على ذلك . ويحمل ما تقدم على ما إذا صاروا في قبضتنا ، فإنه لا نزاع أنهم لا يحرقون ، ويستثنى من ذلك على هذه الرواية ما إذا كان تحريقهم يضر بالمسلمين ، فإنه لا يفعل بلا ريب .
قال : ولم يغرقوا النخل .
3418 ش : لما روي عن يحيى بن سعيد ، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعث جيوشاً إلى الشام ، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان ، وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع ، فقال : إني موصيك بعشر خلال : لا تقتلوا امرأة ، ولا صبياً ، ولا كبيراً هرماً ، ولا تقطع شجراً مثمراً ، ولا تخربن عامراً ، ولا تغرقن شاة ، ولا بعيراً إلا لمأكله ، ولا تغرقن نخلاً ، ولا تحرقه ، ولا تغلل ، ولا تجبن . رواه مالك في الموطأ .
3419 وروي عن مكحول قال : أوصى رسول الله أبا هريرة رضي الله عنه ثم قال : ( إذا غزوت فذكر أشياء قال ولا تحرقن نخلاً ، ولا تغرقنه ، ولا تؤذين مؤمناً ) .
3420 وعن القاسم مولى عبد الرحمن ، قال : قال النبي وذكر نحوه ( ولا تحرقن نخيلاً ولا تغرقها ، ولا تقطع شجرة ثمر ، ولا تقتلن بهيمة ليست لك بها حاجة ، واتق أذى المؤمن ) رواهما أبو داود في المراسيل .
3421 ولعموم نهي النبي عن قتل النحل ، وقتل شيء من الحيوان صبراً ، وحكم تغريقه حكم قتله .
قال : ولا تعقر شاة ولا دابة إلا لأكل لا بد لهم منه .
ش : أما عقر ذلك وإتلافه لغير الأكل فلا يخلو إما أن يكون في الحرب ، أو في غيرها ، فإن كان في الحرب فإنه يجوز بلا خلاف ، قاله أبو محمد ، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك ، إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم ، وهو المراد كيف ما أمكن . ولهذا جاز قتل نسائهم وصبيانهم في البيات ، بخلاف ما إذا قدر عليهم منفردين ، وقد تقدم حديث المددي الذي عقر فرس الرومي ، وإن كان في غير حال الحرب لم يجز ، لما تقدم في وصية أبي بكر رضي الله عنه ولنهيه عن قتل الحيوان صبراً ، واختار أبو محمد جواز ذلك إن كان مما يستعين به الكفار في القتال ، كالخيل ، بشرط أن يعجز المسلمون عن سياقته وأخذه ، لأنه يحرم إيصال ذلك إلى الكفار بالبيع ونحوه ، فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم ، ومال أبو العباس إلى الجواز على سبيل المقابلة ، كما سيأتي في الزرع ، وأما العقر للأكل فإن لم يكن بد من ذلك فيباح بلا خلاف . إذ ذلك يبيح مال المعصوم ، فالكافر أولى ، وإن لم تكن الحاجة داعية إلى
____________________
(3/203)
ذلك فإن كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام ، وسائر الطيور ، فهذا كالطعام في قول الجميع ، قاله أبو محمد ، وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل ، لم يبح ذبحه للأكل في قولهم جميعاً ، قاله أبو محمد أيضاً . وإن كان قد تقدم أنه هو يبيح عقر هذا لغير الأكل بشرطه فللأكل أولى ، وإن كان غير ذلك كالبقر والغنم ونحوهما لم يبح في قول الخرقي وغيره .
3422 لما روي عن رجل من الأنصار رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله في سفر ، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد ، وأصابوا غنماً فانتهبوها ، فإن قدورنا لتغلي ، إذ جاء رسول الله يمشي على قوسه ، فأكفأ قدورنا بقوسه ، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ، ثم قال : ( إن النهبة ليست بأحل من الميتة ، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة ) رواه أبو داود . وقال القاضي : ظاهر كلام أحمد إباحة ذلك ، وهو اختيار أبي محمد ، لظاهر ما تقدم عن أبي بكر رضي الله عنه وقياساً لذلك على الطعام ، و أبو البركات قال : لا يعقر إلا لأكل يحتاج إليه ، فيحتمل أن يكون كقول الخرقي ، ويحتمل أن يكون أعم ، واستثنى أبو محمد من قول الخرقي أن يأذن الإمام في ذلك .
3423 لما روى عطية بن قيس قال : كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنماً نادى منادي ازمام : ألا من أراد أن يتناول شيئاً من هذه الغنم فليتناول ، إنا لا نستطيع سياقها . رواه سعيد .
قال : ولا يقطع شجرهم ، ولا يحرق زرعم إلا أن يكونوا يفعلون ذلك في بلدنا ، فنفعل بهم ذلك لينتهوا .
ش : حرق الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام ، ( أحدها ) : يجوز بلا خلاف على ما قال أبو محمد ، وهو ما إذا كانوا يفعلون ذلك بنا فنفعل ذلك بهم لينتهوا ، ولما تقدم ، أو لا يقدر عليهم إلا بذلك ، كالذي يقرب من حصونهم ، ويمنع من قتالهم ، أو يستترون به من المسلمين ونحو ذلك ، قال أبو محمد : أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق ، أو تمكن من قتال أو سد بثق أو إصلاح طريق ، أو ستارة منجنيق ، ونحو ذلك .
( القسم الثاني ) ما يضر بالمسلمين قطعه ، لكونهم ينتفعون ببقائه للعلف أو الاستظلال ، أو أكل الثمرة ، أو لكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا ، فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا ، فلا يجوز دفعاً للضرر المنفي شرعاً .
( القسم الثالث ) ما عدا هذين ، وهو ما لا ضرر فيه ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم ، فهذا فيه روايتان . ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي وأبي الخطاب لا يجوز ، لما تقدم في وصية أبي بكر رضي الله عنه وحديث القاسم . ( والثانية ) وهي
____________________
(3/204)
أظهر يجوز ، لما تقدم في حديث أسامة رضي الله عنه .
3424 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قطع نخل بني النضير وحرق ، ولها يقول حسان :
وهان على سراة بني لؤي
حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت ؛ 19 ( { ما قطعتم من لينة أو تركتموها } ) الآية متفق عليه ، ويحمل دليل الرواية الأولى على ما فيه نفع لنا ، وقرينة ذلك قوله : شجر مثمر .
قال : ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة ، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها ، ولا يتزوج منهم .
ش : هذا تقييد لكلامه السابق ، وهو أن حرائر أهل الكتاب حلال ، وقد تقدم أن ظاهر كلامه الجواز ، بناء على عدم القيد ، وإذاً ظاهر كلامه المنع في دار الحرب وإن اضطر ، والجواز في دار الإسلام كما هو القول الثالث ثَم ، والقاضي لما كان مختاره جواز نكاح الحربيات من أهل الكتاب ، حمل كلام الخرقي على الكراهة التنزيهية ، وأبو محمد حمل كلام الخرقي على من دخل إليهم بأمان ، دون من كان في جيش المسلمين ، فيباح له التزويج .
3425 لما روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله زوج أبا بكر رضي الله عنه أسماء بنت عميس رضي الله عنها وهم تحت الرايات . . . رواه سعيد . وقال : إن ظاهر كلام أحمد في الأسير المنع ، وإذاً هذا قول خامس : يمنع الأسير ، ومن دخل بأمان ، دون الداخل في الجيش .
وقال الخرقي : إنه إذا تزوج مسلمة يعزل عنها ، لأن أحمد كما تقدم إنما منع من أجل الولد ، خشية أن يستعبد ، ويصير على دينهم .
قال : ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم .
ش : هذا من نمط الذي قبله ، لأنه إذا وطىء في الفرج لا يأمن أن تلد ويغلبوه على ولدها ، فيسترقوه ويفتنوه عن الفطرة التي فطره الله عليها .
قال : ومن دخل في أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم .
ش : لأن إعطاءه الأمان مشروط بذلك عرفاً ، وإن لم يكن مذكوراً لفظاً ، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضاً للعهد ، وإذا كان ذلك مشروطاً لزم الوفاء به ، إعمالاً للشرط ، وحذاراً من الغدر ، فعلى هذا إن خانهم أو سرق منهم ، أو اقترض منهم ، ونحو ذلك وجب عليهم رد ذلك إلى أربابه ، وقوله : لم يخنهم في مالهم . يفهم
____________________
(3/205)
منه بطريق التنبيه أنه لا يخونهم في أنفسهم .
قال : ولم يعاملهم بالربا .
ش : لأن ذلك نوع خيانة ، ولأن عقد الأمان اقتضى أنه يجري معهم على حكم الإسلام ، ومن حكم الإسلام تحريم الربا .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يكن ثم أمان كان له أن يعاملهم بالربا ، وهذا إحدى الروايتين . وبه قطع أبو البركات ، نظراً إلى أن له أن يتحيل على أخذ أموالهم بكل وجه من الوجوه ، إذ ليس ذلك بأسوأ حالاً من السرقة ونحوها ، ( والرواية الثانية ) وبها قطع أبو محمد لا يجوز ، إعمالاً لعموم آية تحريم الربا .
قال : ومن كان لهم مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا وقتل رجالهم .
ش : لأن المقتضي لعدم حربهم العهد وقد زال .
قال : ولم تسب لهم ذرية ، ولم يسترقوا إلا من ولد بعد نقضه .
ش : لأن العهد يشمل الرجال والذرية ، والنقض إنما وجد من الرجال ، فتختص إباحة الدم بهم ، وتبقى عصمة ذريتهم .
3426 قال 16 ( الإمام أحمد ) : قالت امرأة علقمة بن علاثة لما ارتد : إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد ، أما من حملت به أمه وولدته بعد النقض فإنه يجوز سبيه واسترقاقه بلا ريب ، لعدم ثبوت الأمان له بحال ، وكذلك من حملته قبل النقض ثم ولدته بعده ، على ظاهر كلام الخرقي ، وكلام أبي محمد ، اعتباراً بالولادة ، لأن بها ترتب الأحكام ، وظاهر كلام أبي البركات أنه لا يجوز سبيه ولا استرقاقه ، اعتباراً بحال انعقاده ، وقد تقدم للخرقي مثل ذلك في موضعين فنبهنا عليهما ، وحكم النساء حكم الذرية ، ولا فرق في هذا بين أن يكون العهد الذي لهم بذمة أو بأمان ، أما لو كان بهدنة فإن عهد ذريتهم ونسائهم ينتقض لنقضه فيهم ، لأن النبي سبى ذراري بني قريظة حين نقضوا عهده .
قال : وإذا استأجر الأمير قوماً يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم ، وأعطوا ما استؤجروا به .
ش : ظاهر هذا أنه يصح الاستئجار على الجهاد مطلقاً ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وغيره ، قال في قوم استأجرهم الأمير في دار الإسلام ، على أن يغزو بهم ، هل يسهم لهم مع سهام المسلمين ؟ فقال : لهم الأجرة التي استؤجروا بها ، وليس لهم في الغنيمة شيء ، ولا يسهم لهم .
3427 وذلك لما روي عن جبير بن نفير قال : قال رسول الله : ( مثل الذي يغزون من أمتي ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم ، مثل أم موسى ، ترضع ولدها وتأخذ أجرها ) رواه سعيد في سننه ، ولأنه أمر لا يختص فاعله أن يكون من أهل
____________________
(3/206)
القربة ، بدليل صحته من الكافر ، فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد ، ( وعن أحمد ) رضي الله عنه : أنه لا يصح الاستئجار عليه مطلقاً ، وهو اختيار القاضي في تعليقه ، وحمل كلام أحمد والخرقي على الاستئجار لخدمة الجيش ، كالاحتطاب ونحوه لا للقتال ، وذلك لأنه قربة وطاعة ، فلا يصح الاستئجار عليه ، كالأذان وصلاة الجنازة ، وتوسط القاضي في غير التعليق ، وأبو محمد في المقنع ، فصححه بمن لا يلزمه الجهاد ، كالعبد والمرأة ، بخلاف من يلزمه كالرجل الحر ، لأنه يتعين عليه بحضوره ، فلم يصح استئجاره عليه كالحج ، ومقتضى اختيار أبي محمد وأبي البركات صحة الاستئجار وإن لزمه ، إلا أن يتعين عليه فلا يصح ، وعليه حمل أبو محمد إطلاق الخرقي ، وهو متعين ، وحيث قلنا : لا يصح الاستئجار فإن وجود الإجارة كعدمها ، فللأجير السهم كما لو لم يكن إجارة ، وحيث قلنا بالصحة فهل يقسم للأجير ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع لا يسهم له .
3428 لما روى يعلى بن منية قال : أذن رسول الله بالغزو وأنا شيخ كبير ، ليس لي خادم ، فالتمست أجيراً يكفيني ، وأجري له سهمه ، فوجدت رجلاً ، فلما دنا الرحيل أتاني فقال : ما أدري ما السهمان ، وما يبلغ سهمي ؟ فسم لي شيئاً ، كان السهم أو لم يكن ، فسميت له ثلاثة دنانير ، فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي فذكرت له أمره ، فقال : ( ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سماها ) رواه أبو داود . ( والثانية ) وهي اختيار الخلال وصاحبه : يسهم له ، لما تقدم من حديث جبير بن نفير ، وقول عمر رضي الله عنه : الغنيمة لمن شهد الوقعة .
3429 وفي مسلم وغيره في حديث طويل أن سلمة بن الأكوع كان أجيراً لطلحة رضي الله عنهما حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة ، لما أغار على سرح رسول الله فأعطاه النبي سهم الفارس والراجل . وقد حمل هذا على أجير يقصد مع الخدمة والجهاد ، وحديث يعلى على من لم يقصد الجهاد أصلاً ، فعلى الرواية الأولى يعطى ما استؤجر به للجهاد ، لأنه عوض على عمل وقد عمله فاستحق ما جعل له في مقابلته ، وكذلك ينبغي على الثانية ، غايته أنه حصل له مع العوض زيادة وهو السهم .
( تنبيه ) : محل الخلاف فيمن استؤجر للجهاد ، أما الغزاة الذين يدفع إليهم من الفيء فلهم السهم ، لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا ، لا أنه عوض عن الجهاد ، وكذلك من يعطى من الصدقات ، وكذلك لو دفع دافع إلى الغزاة ما يتقوون به كان له
____________________
(3/207)
أجره ولم يكن عوضاً .
3430 قال : ( من جهز غازياً كان له مثل أجره ) .
قال : ومن غل من الغنيمة حرق كل رحله إلا المصحف وما فيه روح .
ش : الغال هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ، ولا يطلع عليه الإمام ، وهو محرم بلا ريب .
3431 فعن عمر رضي الله عنه قال : لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي فقالوا : فلان شهيد ، وفلان شهيد . حتى مروا على رجل فقالوا : فلان شهيد . فقال رسول الله : ( إني رأيته في النار في بردة غلّها أو عباءة ) ثم قال رسول الله : ( يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنّة إلا المؤمنون ) رواه أحمد ومسلم .
3432 وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : كان على ثقل رسول الله رجل يقال له كركرة ، فمات فقال رسول الله : ( هو في النار ) ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها ، رواه أحمد والبخاري .
3433 وحكمه أنه يحرق رحله لما روي عن صالح بن محمد بن زائدة قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم ، فأتي برجل قد غل ، فسأل سالماً عنه فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي قال : ( إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه ) قال : فوجدت في متاعه مصحفاً ، فسألت سالماً عنه فقال : بعه وتصدق بثمنه . رواه أحمد وأبو داود والترمذي .
3434 وعهن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما حرقوا متاع الغال ، رواه أبو داود وزاد في رواية تعليقاً : ومنعوه سهمه ، ويختص التحريق بالمتاع الذي غل وهو معه ، فلو استحدث متاعاً ، أو رجع إلى بلده وله فيه متاع ، أحرق ما معه حال الغلول فقط ، وإن انتقل المتاع عنه بهبة أو بيع ونحوهما فهل ينقض ذلك ويحرق لتعلق التحريق به قبل ذلك ، أو لا لأنه صار إلى غيره ، أشبه ما لو مات فصار إلى الورثة ؟ فيه احتمالان ( ويستثنى ) من المتاع الذي يحرق ( المصحف ) لحرمته . ولما تقدم من قول سالم فيه ( وما فيه روح ) لحرمته أيضاً ، ولنهي النبي أن يعذب بالنار إلا ربها ، ولم يستثن الخرقي غير هذين . ( واستثنى
____________________
(3/208)
غيره السلاح ) لحاجته إليه في القتال ، وآلة دابته تبعاً لها ، وثيابه التي عليه ، حذاراً من تركه عرياناً ، ونفقته لأنها لا تحرق عادة ، قال أبو محمد : وينبغي أن يستثنى أيضاً كتب العلم والحديث ، إذ نفع ذلك يعود إلى الدين ، والمقصود ما أبقت النار من حديد ونحوه فإنه يبقى للغال ، ولأبي محمد احتمال في المصحف أن يباع ويتصدّق بثمنه ، اتباعاً لقول سالم ، وقول الخرقي : ومن غل . يشمل الذكر والأنثى ، والمسلم والذمي ، وهو كذلك ، وكذلك يشمل العبد والصغير ، وهما مستثنيان ، فالعبد ، لأن متاعه لسيده ، ولا يجني جان إلاّ على نفسه ، والصبي ، لأن الإحراق عقوبة ، والصبي ليس من أهلها .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يحرم سهمه ، وهو إحدى الروايتين ، إذ أكثر الروايات ليس فيها ذلك ، ( والثانية ) يحرم ، للرواية التي رواها أبو داود ، وظاهر كلامه أيضاً أن الحكم مختص بالغال ، فيخرج السارق ، وهو أحد الوجهين ، اقتصاراً على مورد النص . ( والثاني ) حكم السارق حكم الغال ، بجامع الخيانة فيهما .
قال : ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو .
3435 ش : لما روى بسر بن أرطاة أنه وجد رجلاً سرق في الغزو ، فجلده ولم يقطع يده . وقال : نهانا رسول الله عن القطع في الغزو . رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، ولأن إقامة الحد والحال هذه مما يطمع العدو في المسلمين ، وربما كان المقام عليه الحد ضعيف الإيمان فيلحق بالعدو ، وبذلك علّل الصحابة رضي الله عنهم .
3436 فعن علقمة قال : كنّا في جيش في أرض الروم ، ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعلينا الوليد بن عقبة ، فشرب الخمر ، فأردنا أن نحده فقال حذيفة : أتحدون أميركم ، وقد دنوتم من عدوكم ، فيطمع فيكم .
3437 وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية ، ولا رجلاً من المسلمين حراً وهو غاز ، حتى يقطع الدرب قافلاً ، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار ، رواه سعيد .
3438 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه مثل ذلك . وقد أشعر كلام الخرقي أنه إذا رجع من أرض العدو أقيم عليه الحد ، وهو كذلك ، لعموم أمر الله ورسوله بإقامة الحدود ، ولقصة عمر رضي الله عنه .
قال : وإذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم ، أو ينب ، أو يبلغ خمس عشرة سنة .
ش : إذا ظفر الأمير بالكفار لم يقتل صبياً .
____________________
(3/209)
3439 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله ، فنهى رسول الله عن قتل النساء والصبيان ، وفي رواية : فأنكر . رواه الجماعة إلا النسائي ، ولأن الصبي رقيق بنفس السبي ، ففي قتله إتلاف مال بلا ضرورة ، وإنه ممتنع والحال هذه بلا ريب .
والصبي هو من لم يبلغ ، ويعرف البلوغ بواحد من ثلاثة أشياء ( أحدها ) الاحتلام إجماعاً ، بشهادة النص بذلك ، قال الله تعالى : 19 ( { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ، كما استأذن الذين من قبلهم } ) .
34440 وقال النبي : ( لا يتم بعد احتلام ، ولا صمات يوم إلى الليل ) .
3441 وقال لمعاذ رضي الله عنه : ( خذ من كل حالم ديناراً ) .
3442 وقال : ( رفع القلم عن ثلاثة ذكر منها الصبي حتى يحتلم ) رواه أبو داود . ( والثاني ) إنبات الشعر الخشن حول القبل .
3443 لما روي عن عطية القرظي قال : عرضنا على النبي يوم قريظة ، فكان من أنبت قتل ، ومن لم ينبت خلي سبيله ، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي . رواه الخمسة وصححه الترمذي . وفي لفظ : فمن كان محتلماً أو نبتت عانته قتل ، ومن لا ترك . رواه أحمد والنسائي . ( الثالث ) بلوغ خمس عشرة سنة .
3444 لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : 16 ( عرضت على النبي يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني . رواه الجماعة ، قال نافع : فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال : هذا فصل ما بين الرجال وبين الغلمان . فمن لم يوجد فيه علامة من هذه فهو صبي ، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى ، وتزيد الأنثى بالحيض والحمل ) .
قال : ومن حارب من هؤلاء أو النساء أو الرهبان أو المشايخ في المعركة قتلوا .
ش : هذا والله أعلم اتفاق .
____________________
(3/210)
3445 وقد روي عن رباح بن ربيع رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله في غزوة غزاها ، وعلى مقدمته خالد بن الوليد رضي الله عنه فمر رباح وأصحاب رسول الله على امرأة مقتولة ، مما أصابت المقدمة ، فوقفوا ينظرون إليها ، ويعجبون من خلقها ، حتى لحقهم رسول الله على راحلته ، فانفرجوا عنها ، فوقف عليها رسول الله فقال : ( ما كانت هذه لتقاتل ) ، فقال لأحدهم : ( الحق خالداً فقال له : لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً ) ، رواه أحمد وأبو داود . وهذا يدل على أن المانع من القتل عدم القتال ، فمتى وجد القتال زال المانع ، ولعموم : 19 ( { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ) . وفي معنى القتال إذا كان لهم رأي فيه ، لأن الرأي أبلغ من القتال . قال أبو الطيب :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة
بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه
بالرأي قبل تطاعن الفرسان
3446 ولهذا قتل الصحابة رضي الله عنهم دريد بن الصمة ، لأنه يدبر أمر الحرب .
وقد فهم من كلام الخرقي أن النساء والرهبان والمشايخ إذا لم يقاتلوا لا يقتلون وهو كذلك ، أما في النساء فلما تقدم .
3447 ( وأما في الرهبان ) فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله إذا بعث جيوشه قال : ( اخرجوا بسم الله ، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع ) . رواه أحمد .
3448 ( وأما في المشايخ ) فلما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( انطلقوا بسم الله وبالله ، وعلى ملة رسول الله ، لا تقتلوا شيخاً فانياً ، ولا طفلًا صغيراً ، ولا امرأة ، ولا تغلوا ، وضموا غنائمكم ، أصلحوا ، وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) رواه أبو داود ، ولما تقدم في وصية أبي بكر رضي الله عنه : لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ، ولا كبيراً هرماً .
3449 وعن راشد بن سعد قال : نهى رسول الله عن قتل الشيخ الذي لا
____________________
(3/211)
حراك به . رواه ابن حزم من طريق ابن أبي شيبة ، وهو مرسل .
3450 وروى أيضاً من طريق حماد بن سلمة قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه أن رسول الله قال : ( لا تقتلوا صغيراً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ) .
3451 وعن عمر رضي الله عنه أنه وصى سلمة بن قيس فقال : لا تقتلوا امرأة ولا صبياً ولا شيخاً . رواه سعيد .
3452 ويحمل حديث سمرة أن النبي قال : ( اقتلوا شيوخ المشركين ، واستحيوا شرخهم ) رواه أبو داود والترمذي ، وقيل : إنه صححه . ( على الشيوخ ) الذين فيهم قوة على القتال ، إذ عدم القتال مختص بالشيوخ الفانين ، لما تقدم من النصوص ، والخاص مقدم على العام ( أو على شيوخ ) لهم رأي في القتال ، جمعاً بين الأدلة ، على أنه قد ذكر عبد الحق سنده ، وأنه من رواية حجاج بن أرطأة وسعيد بن بشير ، وقال : إنه لا يحتج بهما ؛ ثم لو تعذر الجمع من كحل وجه فحديثنا أولى ، لعمل الشيخين عليه ، وذلك دليل على أنه آخر الأمرين من رسول الله وحكم الزمن والأعمى حكم الراهب ونحوه . وقد أشار النبي في حديث رباح إلى ذلك ، حيث علل بكون المرأة لم تقاتل ، وكذلك المريض الميئوس من برئه ، أما لو كان ممن لو كان صحيحاً لقاتل فإنه يقتل ، لأنه بمنزلة الإجهاز على الجريح ، قال ذلك أبو محمد ، وكذلك قال في العبيد لا يقتلون لحديث رباح ، وقال في الفلاحين إذا لم يقاتلوا : ينبغي أن لا يقتلوا ، قياساً لهم على الشيوخ والرهبان ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد ، والخنثى المشكل لا يقتل لاحتمال كونه امرأة ، ذكره في الكافي .
قال : وإذا خلي الأسير منا وحلف لهم أن يبعث إليهم بشيء بعينه أو يعود إليهم فلم يقدر عليه لم يرجع إليهم .
ش : إذا أسر الكفار مسلماً ، وأطلقوه بشرط أن يبعث إليهم شيئاً معلوماً ، أو يعود إليهم إن لم يقدر على ذلك ، فإنه يلزمه الوفاء لهم ، كما اقتضاه كلام الخرقي ، لعموم 19 ( { وأوفوا بعهد الله } )9 ( { وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤلا } )9 ( { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } ) .
ولما تقدم من نهيه عن الغدر .
3453 وقال : ( إنه لا يصلح في ديننا الغدر ) .
3454 وجعل ذلك من علامات المنافق ، ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى ، وفي تركه مفسدة ، لأنهم لا يؤمنون بعده ، والشارع بعث بجلب المصالح ، ودرء المفاسد ، ولأنه عاهدهم على مال ، فلزمه الوفاء لهم ، كثمن المبيع ، أو كالمشروط في
____________________
(3/212)
عقد الهدنة ، فإن لم يقدر عليه ( فإن كان امرأة ) لم ترجع إليهم ، بل ولا يحل لها ، لقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } ) الآية .
3455 وفي قصة الصلح بين النبي وقريش التي رواها البخاري وغيره من حديث أنس رضي الله عنه قال فيها : ثم جاء نساء مؤمنات ، فأنزل الله تعالى 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } ) حتى بلغ 19 ( { بعصم الكوافر } ) .
3456 وعن مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما قالا : لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل على النبي أنه قال : لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه ، فكره المؤمنون ذلك ، وامتعضوا منه ، وأبي سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي على ذلك ، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ، وجاء المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله يومئذ وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون النبي أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم ، لما أنزل الله فيهن 19 ( { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن } ) إلى 19 ( { ولا هم يحلون لهن } ) . رواه البخاري . فمنع الله سبحانه من رجوع النساء إلى الكفار ، وامتنع النبي من ردهن ، وقد اختلف في دخول النسوة في قضية الصلح ، فقيل : لم يدخلن ، لقوله في القصة : على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته . وقيل : دخلن فيه ، لقوله في رواية أخرى : ولا يأتيك منا أحد . لكن نسخ ذلك أو بين فساده بالآية اه ، ( وإن كان رجلًا ) فهل يرجع إليهم ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي التي ذكرها الخرقي لا يرجع أيضاً كالمرأة ، ولأن تمكنهم منه والبقاء في أيديهم معصية ، فلم يجز كما لو شرط قتل مسلم ، أو شرب خمر . ( والثانية ) يلزمه الرجوع إليهم وفاء بالعهد ، لما تقدم في بعث المال ، ولأن النبي لما عاهد قريشاً على رد من جاءه مسلماً ، وفي لهم بذلك ، ولم ينهه الله سبحانه عن ذلك ، وقول الخرقي : حلف . ذكره على سبيل المثال ، وإلا المقصود الشرط .
قال : ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين ، ومباح له أن يهرب من ثلاثة .
ش : الأصل في ذلك قول الله سبحانه 19 ( { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } ) إلى قوله تعالى : 19 ( { والله مع الصابرين } ) أوجب سبحانه أولًا على الواحد الثبات للعشرة . ثم رحم ضعفنا وخفف عنا ، فأوجب ثبات الواحد للاثنين ، إذ هذا خبر في معنى الأمر ، أو خبر عما استقر في حكم
____________________
(3/213)
الشرع ، وهذا أحسن ، أو متعين هنا ، إذ لو كان خبراً بمعنى الأمر لكان التقدير : إذا كان عشرون صابرون فليغلبوا ؛ فيكون التكليف إنما هو للصابر فقط ، والصبر واجب على المكلف ، لا شرط في التكليف ، وأيضاً فيكون أمراً بالغلبة من الله تعالى ، فإذاً المعنى المقرر في حكم الشرع أن المائة الصابرة تغلب مائتين فلتصبر ، وحيث غلبت المائة من المائتين فلعدم صبرها .
3457 وقد بين ذلك وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت 19 ( { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } ) كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ، ولا عشرون من مائتين ، ثم نزلت 19 ( { الآن خفف الله عنكم } ) الآية فكتب أن لا يفر مائة من مائتين . رواه البخاري ، وله أيضاً في رواية ، ولأبي داود قال : لما نزلت 19 ( { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } ) شق ذلك على المسلمين ، فنزلت 19 ( { الآن خفف الله عنكم } ) الآية ، قال : فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم من الصبر بقدر ما خفف عنهم .
3458 ويروى عنه أيضاً أنه قال : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فما فر .
وعلى هذا يحمل ما ورد من النهي المطلق عن تحريم الفرار يوم الزحف ، كقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً } ) الآية .
3459 وقول النبي : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قالوا : وما هن يا رسول الله ، قال : ( الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) متفق عليه . ( ويستثنى ) من تحريم الفرار من المثلين فما دون ( الفرار للتحرف ) لمصلحة قتال بأن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن ، كما إذا كان في مقابلة الشمس ، أو الريح فاستدبرهما ، أو كان في وهدة أو في معطشة ، فانحاز إلى علو أو إلى ماء ، أو استند إلى جبل ، أو نفر بين أيدي الكفار لتنتقض صفوفهم ، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب ، أو ( الفرار للتحيز ) إلى فئة من المسلمين ، ليتقووا بها على عدوهم ، وإن بعدت الفئة ، حتى قال القاضي : لو كانت الفئة بخراسان ، والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها ، وذلك لقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة } ) الآية .
____________________
(3/214)
3460 ويروى أن عمر كان يوماً في خطبته إذ قال : 16 ( يا سارية بن زنيم الجبل ، ظلم الذئب من استرعاه الغنم . فأنكرها الناس ، فقال علي رضي الله عنه : دعوه فلما نزل سألوه عما قال ، فلم يعترف به ، وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق ليغزوهم ، فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم ، فسمعوا صوت عمر رضي الله عنه فتحيزوا إلى الجبل ، فنجوا من عدوهم ، وانتصروا عليهم ) .
3461 ويروى عنه أيضاً أنه قال : أنا فئة كل مسلم ، وكان بالمدينة ، وجيوشه بمصر والعراق والشام وخراسان . رواه سعيد .
3462 وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف ؟ وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ، ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال : ( من الفرارون ؟ ) فقلنا : نحن الفرارون . قال : ( لا بل أنتم العكارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين ) قال فأتيناه حتى قبلنا يده . رواه أحمد وأبو داود . وقوله : حاصوا حيصة ، أي حادوا حيدة . ومنه قوله تعالى : 19 ( { ما لهم من محيص } ) .
وقول الخرقي : ومباح له أن يهرب من ثلاثة . ذكره على سبيل المثال ، والمراد أنه يباح للمسلمين الفرار مما زاد على مثليهم . هذا هو المعروف ، واختار أبو العباس تفصيلًا ملخصه أن القتال لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب ، ( فالأول ) كأن يكون العدو كثيراً لا يطيقهم المسلمون ، ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين ، قال : فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب عليهم أن يبذلوا مهجهم في الدفع حتى يسلموا ، ونظير ذلك أن يهجم العدو على بلاد المسلمين ، والمقاتلة أقل من النصف ، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم ، ( والثاني ) لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة أو قبلها ، فقبلها هي مسألة الكتاب ، وبعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقاً إلا لتحرف أو تحيز ، كما دل عليه قوله سبحانه : 19 ( { إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار } ) وقصة بدر مرادة منها ، والمشركون إذ ذاك ثلاثة أضعاف المسلمين ، مع أحاديث الفرار من الزحف ، ومفهوم آية الأنفال الناسخة تحمل على ما قبل الشروع ، إذ المفهوم يكتفي فيه بمطلق المخالفة اه .
وظاهر كلامه أنه يباح لهم الفرار والحال هذه وإن غلب على ظنهم الظفر ، وهو المعروف عن الأصحاب ، عملًا بإطلاق الآية الكريمة ، ولأبي محمد في المغني احتمال بوجوب الثبات والحال هذه ، لما فيه من المصلحة ، وهو ظاهر كلامه في المقنع ،
____________________
(3/215)
وظاهر كلام الشيرازي ، قال : إذا كان العدو أكثر من مثلي المسلمين ، ولم يطيقوا قتالهم ، لم يعص من انهزم ، لأن الله تعالى جعل الرجل منا بإزاء الرجلين منهم ، فإذا صاروا ثلاثة جاز للمسلم أن ينهزم منهم إذا خشي قهرهم . اه ولو غلب على ظنهم والحال هذه الهلاك فالفرار أولى ، حذاراً من كسر قلوب المسلمين ، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الثبات وفي الانصراف فالأولى أن يقاتلوا ، ولا يفروا ولا يستأسروا ، لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين ، ويسلموا من تحكم الكفار عليهم ، ولجواز أن يغلبوا ، قال الله تعالى : 19 ( { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } ) ، ويجوز لهم أن يفروا لظاهر الآية ، وأن يستأسروا على المشهور المختار من الروايتين فيهما .
3463 لأن خبيباً الأنصاري وابن الدثنة سلما أنفسهما للأسر عند العجز والغلبة ، وامتنع من ذلك عاصم بن ثابت الأنصاري في سبعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين حتى قتلوا ، وكان الكل محمودين والقصة في البخاري وغيره ، ( والرواية الثانية ) : يلزمهم القتال .
3464 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( ليس منا من استأسر للمشركين من غير حاجة ) . ذكره ابن حزم لكنه ضعيف ، وهو اختيار الخرقي ، قال : فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل .
قال : ومن آجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة ، فمباح له ما أخذ إن كان راجلًا أو على دابة يملكها .
ش : يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه على حفظ الغنيمة ، ويباح له ما أخذ ، لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة ، فجاز كما لو أجر نفسه . [ ليدلهم على الطريق ونحو ذلك ، وهذا إذا كان راجلًا أو على دابة يملكها ، أما لو أجبر نفسه ] على حفظ الغنيمة وأطلق ، فإنه يجوز له أن يركب دابة من المغنم ، حذاراً من استعمال ملك الغير بغير إذن شرعي ، ولا عرفي ، فإن شرط في الإجارة ركوب دابة معينة فقال الشيخان : يجوز إذ ذاك بمنزلة الأجرة وإطلاق الخرقي يحتمل المنع .
وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه أنه لا يجوز لأحد ركوب دابة من المغنم ، ولا ريب في ذلك في غير الغانمين ، وكذلك في الغانمين في غير القتال ، وأما في القتال فهل يجوز كما في السلاح ، أولًا يجوز لتعرض الفرس للعطب غالباً بخلاف السلاح ؟ على روايتين .
3465 وقد روى رويفع بن ثابت رضي الله عنه أن رسول الله قال يوم حنين : ( لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبتاع مغنماً حتى يقسم ، ولا يلبس
____________________
(3/216)
ثوباً من فيئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه ، ولا أن يركب دابة من فيئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ) رواه أحمد وأبو داود .
قال : ومن لقي علجاً فقال له : قف أو ألق سلاحك . فقد أمنه .
ش : الخرقي رحمه الله ذكر ما فيه اشتباه ، إذ ذلك تنبيه على الواضح كأجرتك وأمنتك ، ولا تخف ولا تذهل ، ولا خوف عليك ، ولا بأس عليك ، ونحو ذلك مما يدل على الأمان ، وقد ورد الشرع بأجرتك وأمنتك . قال النبي لأم هانئ : ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ ) .
3466 وقال : ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) وبقية الألفاظ في معناهما ، وعند أصحابنا أن حكم : قف أو ألق سلاحك . حكم ذلك ، لأن الكافر يعتقده أماناً ، أشبه ما لو قال : أمنتك .
3467 وقد روى مالك في موطئه عن رجل من أهل الكوفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى عامل جيش كان بعثه : بلغني أن رجالًا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع قال رجل : مترس . يقول لا تخف ؛ فإذا أدركه قتله . وإني والذي نفسي بيده لا أعلم مكان أحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه . وحكى أبو محمد احتمالًا ومال إليه أنه لا يكون أماناً ، لأن ذلك يستعمل للإرهاب والتخويف ، أشبه ما لو قال : لأقتلنك ؛ ويرجع إلى القائل ، فإن نوى به الأمان فهو أمان ، وإلا فيسأل الكافر فإن قال : اعتقدته أماناً رد إلى مأمنه ، وإلا فليس بأمان .
قال : ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع .
ش : من سرق من الغنيمة ممن له فيها حق لم يقطع ، لأن له فيها شبهة ، وهو حقه المتعلق به ، والحد يدرأ بالشبهة ، وصار كما لو سرق من مال مشترك بينه وبين غيره ، وكذلك إذا سرق من غنيمة لولده فيها حق ، لأن له في مال ولده حقاً في الجملة ، ولهذا لا يقطع بسرقته ، وحق ولده متعلق بهذا المال ، فصار كالذي قبله ، وكذلك إذا سرق العبد من الغنيمة الذي لسيده فيها حق ، لأنه لا يقطع بسرقة مال سيده ، كما تقدم ، فكذلك بما لسيده فيه جزء . وقوله : ممن له فيها حق . يخرج ما إذا لم يكن له فيها حق ، وله حالتان ( إحداهما ) : سرق قبل أن تخمس ، وهو حر مسلم ، فلا قطع عليه ، لأن له حقاً في الفيىء ، ( الثاني ) : سرق بعد أن خمست ، فإنه يقطع لانتفاء الحقية .
قال : وإن وطيء جارية قبل أن يقسم أدب ولم يبلغ به حد الزاني .
____________________
(3/217)
ش : يعني ممن له في الغنيمة حق أو لولده ، فإنه لا حد عليه ، لأن الملك يثبت للغانمين في الغنيمة ، فيكون للواطئ حق في الجارية أو لولده ، فيدرأ عنه الحد لذلك للشبهة ، وصار كالجارية المشتركة ، وإذا انتفى الحد وجب التعزير بلا ريب ، للمعصية المنتفي فيها الحد والكفارة ، وقدره قد سبق بيانه فلا حاجة إلى إعادته ، وقوله : لا يبلغ به حد الزاني . يبين أن قوله ثم : لا يبلغ بالتعزير الحد ، أن مراده ليس أدنى الحدود بل إما أعلاها ، وإما أن كل ذنب لا يبلغ به حد جنسه .
قال : وأخذ منه مهر مثلها فطرح في المغنم .
ش : لأن ذلك بدل منفعتها ومنفعتها لجميع الغانمين ، فكذلك بدلها ، فعلى هذا يطرح في المغنم ليعم جميع الغانمين ، وقال القاضي يسقط عنه من المهر قدر حصته منها ، ويجب عليه بقيته كالجارية المشتركة . ورده أبو محمد بأن قدر حصته قد لا يمكن ، لكثرة الغانمين وقلة المهر ، ثم إذا أخذناه فقد لا يمكن قسمته على بقية الغانمين مفرداً ، وإن طرح في المغنم وقسم على الجميع أخذ سهماً مما ليس له فيه حق .
قال : إلا أن تلد منه فتكون عليه قمتها .
ش : يعني أنها إذا ولدت منه والحال هذه فإنها تصير أم ولد له ، لأنه وطء لحق به النسب لشبهة الملك ، أشبه وطء الأب جارية ابنه ، وإذا صارت أم ولد له فعليه قيمتها تطرح في المغنم ، لأنه أتلفها بفعله ، أشبه ما لو قتلها ، وسواء كان موسراً أو معسراً .
وعن القاضي : إذا كان معسراً حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد ، وباقيها رقيق للغانمين كالإعتاق . وفرق بأن الاستيلاد أقوى ، لكونه فعلًا ، ولهذا نفذ من المجنون .
وظاهر كلام الخرقي أنها إذا صارت أم ولد لا مهر لها عليه ، لأنه استثنى ذلك من وجوب المهر ، وهو إحدى الروايتين ، ولعل مبناهما على أن المهر هل يجب بمجرد الإيلاج فيجب المهر أولًا يجب إلا بتمام الوطء ، وهو النزع ، فلا يجب لأنه إنما تم وهي ملك له ، وظاهر كلامه أيضاً أنه لا تجب قيمة الولد ، وهو إحدى الروايتين ، لأن ملكه حصل بالعلوق ولا قيمة للولد إذاً .
( والثانية ) : يجب عليه قيمة الولد حين وضعه ، لأنه فوته عليهم ، إذ من حقه أن يصير لهم .
وقد علم من كلام الخرقي أن الولد حر لاحقٌ نسبه بالواطىء ، وإلا لم تصر أم ولد ، وذلك لأنه وطء سقط فيه الحد لشبهة الملك ، أشبه واطىء جارية ابنه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(3/218)
( كتاب الجزية )
ش : الجزية قال أبو محمد : الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام . وظاهر هذا التعريف أن الجزية أجرة الدار .
قال : مشتقة من جزاه بمعنى قضاه ، كقوله : 19 ( { لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً } ) .
وقال القاضي في الأحكام السلطانية : اسمها مشتق من الجزاء ، إما جزاء على كفرهم ، لأخذها منهم صغاراً ، أو جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقاً .
قال أبو العباس : وهذا أصح ، وهو يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة ، والأصل في جوازها الإجماع . وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى وهم صاغرون } ) . وما تقدم من أن النبي أخذ الجزية من نصارى نجران .
3468 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي وشكوه إلى أبي طالب ، فقال : يا ابن أخي ما تريد من قومك ؟ قال : ( أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ) قال : كلمة واحدة ؟ قال : ( كلمة واحدة ، قولوا : لا إله إلا الله ) قالوا : إلهاً واحداً ؟ 19 ( { ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق } ) . قال : فنزل فيهم القرآن 19 ( { ص والقرآن ذي الذكر إلى قوله إن هذا إلا اختلاق } ) . رواه أحمد والترمذي وحسنه ، في أحاديث أخر .
قال : ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني ، أو مجوسي إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه ، ومن سواهم فالإسلام أو القتل .
ش : قد تقدم أن الجزية تقبل من اليهود والنصارى والمجوس ، وإن كانوا من العرب ، ولا تقبل ممن سواهم على المذهب وإن كانت لهم صحف على الأشهر ، ونزيد هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن من أحد أبويه غير كتابي فاختار دين الكتابي أنه تقبل منه الجزية .
وكذلك ظاهر كلامه أن من انتقل إلى أحد هذه الأديان الثلاثة بعد مبعث سيدنا
____________________
(3/219)
ونبينا أنه لا تقبل منه الجزية ، وهو أحد القولين في الصورتين ، نظراً لعموم النص .
وشرط الخرقي لكل من تقبل منه الجزية أن يكون مقيماً على ما عوهد عليه ، من بذل الجزية في كل عام ، لقوله سبحانه : 19 ( { حتى يعطوا الجزية } ) . أي يلتزموا أداءها والتزام أحكام الملة ، من ضمان الأنفس والأموال وإقامة الحدود ، وغير ذلك على ما هو مقرر في بابه ، إعمالًا لحكم الإسلام لنسخه كل ملة .
قال : والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات ، فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر درهماً ، ومن أوسطهم أربعة وعشرون درهماً ، ومن أيسرهم ثمانية وأربعون درهماً .
ش : لأن ذلك يروى عن عمر رضي الله عنه ولم ينكره منكر ، وعمل عليه فكان إجماعاً .
3469 ففي البخاري عن ابن أبي نجيح قال : قلت لمجاهد : ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير ، وأهل اليمن عليهم دينار ؟ قال : فعل ذلك من قبل اليسار .
3470 وفي الموطأ عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير ، وعلى أهل الورق أربعين درهماً ، ومع ذلك أرزاق المسلمين ، وضيافة ثلاثة أيام ، لكن مقتضى هذا أن عمر رضي الله عنه قابل الدينار بعشرة دراهم ، وأبو محمد نقل عنه أنه قابله باثني عشر درهماً ، وزعم أنه حديث لا شك في صحته ، مع أنه لم يذكر من رواه ، وليس هو والله أعلم في السنن .
3471 فإن قيل : ففي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل ، أن رسول الله لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم يعني محتلماً ديناراً ، أو عدله من المعافري ثياب تكون باليمن . فظاهر هذا إجزاء الدينا في حق كل أحد ؟ قيل : هو محمول على أن الغالب على أهل اليمن كان الفقر ، كما أشار إليه مجاهد ، أو أن للإمام الزيادة والنقصان في الجزية كما هو إحدى الروايات ، واختيار الخلال ، قال : العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه عنه الجماعة ، بأنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص عنه ، على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع ، فاستقر قوله على ذلك اه .
3472 وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : صالح رسول الله أهل نجران على ألفي حلة ، النصف في صفر ، والبقية في رجب ، يؤدونها للمسلمين ، وعارية ثلاثين درعاً ، وثلاثين فرساً ، وثلاثين بعيراً ، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح ، يغزون بها ، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد ذات غدر ، على أن لا تهدم لهم بيعة ، ولا يخرج لهم قس ، ولا يفتنوا عن دينهم ، ما
____________________
(3/220)
لم يحدثوا حدثاً ، أو يأكلوا الربا . رواه أبو داود ، وهذا مع الذي قبله مع فعل عمر رضي الله عنه يدل على أن المرجع في ذلك إلى رأي الإمام فيما يطيقونه من الزيادة والنقصان .
والرواية الثانية : لا تجوز الزيادة ولا النقص على ما تقدم من أن على الأدون اثنا عشر درهماً ، والمتوسط أربعة وعشرون درهماً ، والغني ثمانية وأربعون درهماً ، وهي اختيار القاضي في روايتيه ، وقال : إنها اختيار الخرقي ، ولا شك أنها ظاهر كلامه ، وذلك لما روي عن عمر رضي الله عنه .
والرواية الثالثة : تجوز الزيادة ولا يجوز النقص ، قال في رواية يعقوب بن بختان : لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك ، وله أن يزيد ، وهذا اختيار أبي بكر ، لأن عمر رضي الله عنه لم ينقص عن الدينار ، بل زاد عليه ، فيقتصر على ذلك ، فظاهر هذه الرواية أن الأدون لا ينقص عن الدينار ، والمتوسط لا ينقص عن الدينارين ، والغني عن الأربعة ، ويجوز أن يزادوا على ذلك . وقال ابن أبي موسى : لا يجوز النقص عن الدينار بحال ، وتجوز الزيادة عليه ، وهذا قول رابع .
( تنبيهات ) أحدها : الغني هنا من عده أهل العرف غنياً ، على المشهور والمقطوع به لأبي البركات ، وأبي محمد في المغني وغيرهما ، لأن ما لا تقدير فيه من جهة الشرع المرجع فيه إلى العرف كالقبض والحرز ، ( وقيل عن أحمد ) : الغني من ملك نصاباً ( وقيل عنه ) بل من ملك عشرة آلاف درهم ( وقيل ) بل من ملك مائة ألف درهم فهو غني ، ومن ملك دونها إلى عشرة آلاف فمتوسط ، ومن ملك عشرة آلاف فما دون ففقير .
الثاني : يقوم الدينار مقام الاثني عشر درهماً .
الثالث : ( عدله من المعافري ) عدل الشيء ما يعادله ويماثله ، والمعافري منسوب إلى معافر بفتح الميم ، موضع باليمن ، وهي ثياب تكون به .
قال : ولا جزية على صبي .
ش : هذا والله أعلم اتفاق ، وقد شهد له مفهوم حديث معاذ المتقدم ( خذ من كل حالم ديناراً ) مع أن الله تعالى إنما أمر بأخذ الجزية ممن يقاتل ، فقال سبحانه : 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ، ولا باليوم الآخر } ) إلى 19 ( { حتى يعطوا الجزية } ) ، والصبي لا يقاتل .
3473 وعن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية ، ولا تضربوها على النساء والصبيان ، ولا تضربوها إلا على من جرت عليه
____________________
(3/221)
الموسى . رواه سعيد وأبو عبيد .
قال : ولا زائل العقل .
ش : لأنه أسوأ حالًا من الصبي ، ولقول النبي : ( رفع القلم عن ثلاث ، عن الصبي حتى يحتلم ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ) مع أن هذا أيضاً والله أعلم اتفاق والحمد لله .
قال : ولا امرأة .
ش : هذا أيضاً والله أعلم اتفاق ، لما تقدم ولأن الجزية تؤخذ حقنا للدم ، كما أشعرت به الآية الكريمة ، والمرأة محقون دمها ، بدليل ما تقدم .
قال : ولا فقير .
ش : سواء كان معتملًا أو غير معتمل ، أما غير المعتمل فبالاتفاق مذهباً ، لعموم 19 ( { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ) الآية ، وهذا خبر ، فتخصيص غيره من الإنشاءات أولى بلا ريب ، لقول النبي : ( خذ من كل حالم ديناراً أو نحوه ) وأما المعتمل ففيه روايتان : ( إحداهما ) وبه قطع أبو محمد في كتبه ، وأبو الخطاب في الهداية تجب عليه ، لعموم 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } ) إلى 19 ( { حتى يعطوا الجزية } ) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( خذ من كل حالم ديناراً ) أخرج منه غير المعتمل ، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم ، ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، وأوردها أبو البركات مذهباً لا يجب عليه ، لأنه مال يجب بحلول الحول ، فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل . والرواية الأولى أسعد دليلًا ، ولأبي الخطاب احتمال بوجوب الجزية على الفقير غير المعتمل ، ويطالب بها إذا أيسر ، والمراد بالفقير هنا والله أعلم الفقير الذي هو أحد الأصناف في الزكاة ، ويدخل فيه المسكين لأنهما في غير باب الزكاة صنف واحد .
قال : ولا شيخ فان ، ولا زمن ولا أعمى .
ش : لما تقدم من أن الجزية وجبت لحقن الدم ، وهؤلاء دماؤهم محقونة ، ودليل الأصل ما تقدم ، وفي معنى هؤلاء الراهب ونحوه ممن لا يقتلون على ما تقدم ، لحقن دمائهم ، ولأبي محمد احتمال بوجوبها على الراهب ، ويحتمله كلام الخرقي لعموم النصوص .
قال : ولا على سيد عبد عن عبده ، إذا كان السيد مسلماً .
ش : هذا والله أعلم اتفاق ، حذاراً من إيجاب الجزية على مسلم ، إذ ما يجب على العبد إنما يؤديه السيد .
ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا كان ذمياً وجبت عليه الجزية عن عبده ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، لعموم ( خذ من كل حالم ديناراً ) ونحوه مع انتفاء المحذور
____________________
(3/222)
المتقدم ، ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر والقاضي ، و أبي محمد : لا يجب عليه أيضاً ، كما لو كان السيد مسلماً ، لأن العبد محقون الدم ، فأشبه المرأة والصبي ، أو لا مال له فأشبه الفقير .
3474 ويروى عن النبي أنه قال : ( لا جزية على العبد ) ، وقد قال ابن المنذر : إن هذا مما أجمع عليه كل من نحفظ عنه من أهل العلم .
قال : ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن تؤخذ منه سقطت عنه .
ش : الجزية تجب بحلول الحول ، فإذا أسلم الذمي بعد حلول الحول فقد وجبت عليه الجزية ، فإن لم تكن أخذت منه سقطت عنه ، لعموم قول الله تعالى : 19 ( { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ) .
3475 وقول النبي : ( الإسلام يجب ما قبله ) ويؤيد دخول ذلك في العموم أن الجزية عقوبة سببها الكفر ، فسقطت بالإسلام كالقتل ، وخرج بذلك الديون ، فإن سببها ليس هو الكفر ، فلذلك لا تسقط بالإسلام .
3476 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( ليس على مسلم جزية ) . رواه الترمذي ، وأبو داود وهذا لفظه ، وقد فسره سفيان الثوري بما قلناه ، قال : معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت عليه الجزية بطلت عنه .
3477 ويروى أن ذمياً أسلم ، فطولب بالجزية ، وقيل : إنما أسلمت تعوذاً . قال : إن في الإسلام معاذاً . فرفع إلى عمر رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه : إن في الإسلام معاذاً . وكتب أن لا تؤخذ منه الجزية ، رواه أبو عبيد بنحو من هذا المعنى ، وقد دل كلام الخرقي من طريق التنبيه أنه لو أسلم قبل الوجوب لا تؤخذ منه ، وهو واضح .
قال : وإذا أعتق العبد لزمته الجزية لما يستقبل ، سواء كان المعتق له مسلماً أو كافراً .
ش : هذا هو الصحيح المشهور من الروايتين أو الروايات ، إذ هو حر مكلف موسر ، من أهل القتال ، فدخل في عمومات النصوص ، ( ونقل أبو محمد ) عن أحمد رواية أخرى أنه يقر بغير جزية مطلقاً ، لأن الولاء شعبة من الرق ، وهو ثابت عليه ، فلم تجب عليه الجزية ، كما لو لم يعتق ، ووهن الخلال هذه الرواية ، وقال : هذا قول قديم رجع عنه أحمد ، والعمل على ما رواه عنه الجماعة ، وحكى أبو البركات الرواية أنه لا جزية عليه ، إذا كان المعتق له مسلماً ، قال : وقال أي أحمد لأن ذمته ذمة مولاه ، اه . والمسلم لا يجب عليه جزية ، فكذلك مولاه ، ويجتمع من النقلين على هذا ثلاث روايات .
____________________
(3/223)
وقول الخرقي : لزمته الجزية لما يستقبل ، أي لما بقي من الحول الذي عتق فيه بالقسط ، ثم لما بعده . وظاهر كلامه أنه لا يحتاج إلى عقد ذمة ، بل يتبع أهل الذمة في ذلك ، وهذا هو المشهور ، وللقاضي في موضع أنه يخير بين التزام العقد ، وبين أن يرد إلى مأمنه ، فإن اختار الذمة عقدت له ، وإلا ألحق بمأمنه .
وحكم الصبي يبلغ ، أو المجنون يفيق ، أو الفقير يوسر في أثناء الحول ، حكم العبد يعتق على ما مر ، إلا أنه لا خلاف فيما أعلمه أنهم لا يقرون بغير جزية .
قال : ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب .
ش : ( تغلب ) علم منقول من تغلب مضارع غلبت ، لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل ، وبنو تغلب هم بنو تغلب ابن وائل ، من العرب ، من ربيعة بن نزار .
3478 انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية ، فدعاهم عمر رضي الله عنه إلى أداء الجزية فأبوا وأنفوا ، وقالوا : نحن عرب ، خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة . فقال عمر رضي الله عنه : لا آخذ من مشرك صدقة ، فلحق بعضهم بالروم ، فقال النعمان بن زرعة : يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة ، وهم عرب يأنفون من الجزية ، فلا تعن عليك عدوك بهم ، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة ، فبعث عمر رضي الله عنه في طلبهم ، فردهم وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين ، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعان ، ومن كل عشرين ديناراً دينار ، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم ، وفيما سقت السماء الخمس ، وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر ، فاستقر ذلك من قول عمر رضي الله عنه ولم ينقل أن أحداً من الصحابة خالفه ، مع أن ذلك مشتهر فكان إجماعاً أو بمنزلته .
وظاهر كلام الخرقي أن الجزية لا تؤخذ منهم وإن بذلوها راضين ، بها ، وفصل أبو محمد فقال : إن بذلها حربي قبلت منه ، لعموم قوله سبحانه : 19 ( { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ) الآية . وغيرها من الأحاديث ، وإن بذلها من دخل في عقد صلحهم وذمتهم فهل تقبل منه ، وهو احتمال ذكره لما تقدم ، أو لا تقبل ، وهو الذي أورده مذهباً ، وقطع به غيره ، حذاراً من تغيير ما وقع عليه الصلح ؟ فيه قولان .
قال : وتؤخذ الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين .
ش : لما تقدم ، وظاهر كلام الخرقي أنه يؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم ، وكل من يؤخذ منه الزكاة ، ولا تؤخذ ممن لا تؤخذ منه الزكاة وإن كان له مال ، بأن يكون غير زكوي كالدور ونحوها ، وعلى هذا الأصحاب ، نظراً إلى أن السؤال وقع منهم على أن يأخذ منهم كما يأخذ بعضنا من بعض ، فأجابهم إلى ذلك بعد الامتناع ، واستقر رأيه على ذلك ، والذي يأخذه بعضنا من بعض زكاة ، ولأن
____________________
(3/224)
صبيانهم ونحوهم دخلوا في حكم الصلح ، فدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء ، ومال أبو محمد إلى أن هذا المأخوذ جزية باسم الصدقة ، فلا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالصبيان ونحوهم ، لأن النعمان بن زرعة قال لعمر رضي الله عنه : خذ منهم الجزية باسم الصدقة .
3479 ولهذا يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال : هؤلاء حمقى ، رضوا بالمعنى وأبوا الاسم ، ولأن الزكاة طهرة ، ولا طهرة لهم .
فعلى هذا مصرف المأخوذ منهم مصرف الجزية ، وعلى المذهب هل مصرفه مصرف الجزية ، وهو اختيار القاضي وأبي محمد ، نظراً للمعنى ، أو مصرف الزكاة ؟ وهو اختيار أبي الخطاب ، ويحتمله كلام الخرق نظراً للاسم ؟ فيه روايتان . وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بنصارى بني تغلب ، ولا يشاركهم غيرهم ممن تهود أو تنصر أو تمجس من العرب ، وهو الذي أورده أبو محمد في المقنع والمغني مذهباً .
3480 وقال في المغني : نص عليه أحمد ، ورواه عن الزهري ، قال : نذهب إلى أن تؤخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة ، وتضعف عليهم . كما فعل عمر رضي الله عنه وذلك لعموم 19 ( { حتى يعطوا الجزية } ) ولأخذ النبي الجزية من أكيدر دُومة وغيره من العرب ، وقد تقدم ذلك ، ( وعن القاضي ) وأبي الخطاب حكم من تنصر من تنوخ وبهرا ، أو تهود من كنانة وحمير ، أو تمجس من تميم حكم بني تغلب ، قياساً لهم عليهم ، والمنصوص أن من كان من العرب من أهل الجزية وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة ، وله شوكة يخشى الضرر منها ، فإنه يجوز مصالحتهم على مثل ما صولح عليه بنو تغلب ، لأنهم إذاً في معناهم ، والقياس حيث فهم المعنى وهذا هو الصواب ، وعليه يحمل إطلاق أحمد أو لا ، وإطلاق القاضي ومن تبعه ، ولهذا قطع به أبو البركات ، وعليه استقر قول أبي محمد في المغني ، لكنه شرط مع ذلك أن يكون المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو أزيد ، وهذا الشرط ليس في كلام أحمد ، ولا هو مشترط في بني تغلب ، ولا يشترط في غيرهم .
قال : ولا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين . عن أبي عبد الله رحمه الله ، والرواية الأخرى تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم .
ش : الرواية الأولى هي المشهورة عند الأصحاب .
3481 اتباعاً لعلي رضي الله عنه فإن ذلك يروى عنه . وقال : لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر ، وألحق بعض الأصحاب بهم تنوخ وبهرا ، وبعضهم جميع نصارى العرب ، بناء على ما تقدم لهم قبل .
والرواية الثانية : اختيار أبي محمد ، وقال : إنها آخر الروايتين عن أحمد ، وأن إبراهيم الحربي ، قال : فكان آخر قوليه أنه لا يرى بذبائحهم بأساً ، لعموم : 19 ( { وطعا
____________________
(3/225)
الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ) [ ب 1 ] .
3482 ويروى ذلك عن ابن عباس وعمر رضي اللَّه عنهم .
قال : ومن اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده أخذه منه نصف العشر في السنة .
ش : من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده يبيع فيه أو يشتري منه أخذ من تجارته نصف العشر في الجملة .
3483 لما روي عن حرب بن عبد اللَّه عن جده أبي أمه ، عن أبيه رضي اللَّه عنه قال : أتيت النبي فأسلمت ، فعلمني الإسلام ، وعلمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممن أسلم ، ثم رجعت إليه فقلت : يا رسول اللَّه كل ما علمتني فقد حفظته إلا الصدقة ، أفأعشرهم ؟ قال : ( إنما العشور على النصارى واليهود ) رواه أبو داود ، وفي رواية : ( ليس على المسلم العشور على اليهود والنصارى ) .
3484 ولأن هذا يروى عن عمر رضي اللَّه عنه ولم ينكر ، فكان بمنزلة الإجماع .
3485 وروى الإمام أحمد عن سفيان ، عن هشام ، عن أنس بن سيرين قال : بعثني أنس بن مالك إلى العشور ، فقلت : تبعثني إلى العشور من بين عمالك ؟ قال : أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع الشعر . ومن أهل الذمة نصف العشر .
3486 وعن لاحق بن حميد ، أن عمر رضي اللَّه عنه بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة ، فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كلا عشرين درهماً درهماً . رواه أبو عبيد في الأموال ، وظاهر هذا كله أن هذا حكم مقرر في الشرع ، لا أنه موقوف على مصالتهم على ذلك ، ولا على أخذهم منا ذلك . اه .
3487 ولا تأخذ منهم في السنة إلا مرة ، كما ذكره الخرقي ، ونص عليه أحمد ، وقال : كذا روي عن إبراهيم النخعي ، عن عمر رضي الله عنه حين كتب أن لا تؤخذ في السنة إلا مرة واحدة ، أن يأخذ من الذمي نصف العشر ، وروى أحمد بإسناده قال : جاء شيخ نصراني إلى عمر رضي الله عنه فقال : إن عاملك عشرني في السنة مرتين . قال : ومن أنت ؟ قال : أنا الشيخ النصراني ، قال عمر رضي الله عنه : وأنا الشيخ الحنيفي ، ثم كتب إلى عامله أن لا تعشروا في السنة إلا مرة .
وقول الخرقي ومن اتجر . يدخل فيه المرأة ، وهو المذهب ، لعموم ما تقدم ، وقال القاضي : لا يلزم المرأة إلا أن تتجر بالحجاز ، وقوله : من أهل الذمة . يحتمل أ
____________________
(3/226)
يدخل فيه التغلبي ، لكونه من أهل الذمة ، ويحتمل أن لا يدخل لتقدم حكم التغلبي ، وفيه روايتان ، فعدم التعشير لأن المشترط عليه ضعف ما على المسلمين في ماله ، سواء اتجر أو لم يتجر ، والتعشير لعموم : ( إنما العشور على اليهود والنصارى ) ولأن ما جعل عليه في مقابلة الجزية ، فعلى هذا يكمل عليه العشر مضاعفة عليه ، نص عليه أحمد .
3488 وروى بإسنادن عن زياد بن حدير أن عمر رضي الله عنه بعثه مصدقاً ، فأمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر ، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر .
وقال أبو محمد : إن الأقيس أن يجب عليهم ضعف ما على المسلمين ، لا ضعف ما على أهل الذمة ، كما في بقية أموالهم . قال : وهو ظاهر كلام الخرقي ، لقوله : مثلي ما يؤخذ من المسلمين ، ومقتضى حديث لاحق بن حميد .
قال : وإذا دخل إلينا منهم تاجر عربي بأمان أخذ منه العشر .
3489 ش : لأن في حديثه عن عمر رضي الله عنه أنه بعث مصدقاً ، وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً ، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهماً ، ومن أهل الحرب من كل عشرة واحداً .
3490 وعلى ذلك يحمل ما روى السائب بن يزيد قال : كنت عاملًا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود ، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكنا نأخذ من النبط العشر . رواه مالك في الموطأ .
3491 وقال : سألت ابن شهاب على أي وجه كان يأخذ عمر رضي الله عنه من النبط العشر ؟ فقال : كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية ، فألزمهم ذلك عمر رضي الله عنه ، وقول الخرقي : أخذ منه العشر ، ولم يقل في السنة . كما تقدم له في الذمي ، فيحتمل أنه اكتفى بما تقدم قبل ، وهذا منصوص أحمد ، ويحتمل أنه أراد الإِطلاق ، وأنه يؤخذ منه كلما دخل إلينا ، وهو قول ابن حامد ، وإطلاق كلام الخرقي يقتضي الأخذ من كل قليل وكثير من المال ، وهو قول ابن حامد ، ويستدل به بإطلاقات ما تقدم ، والمذهب المشهور أنه إنما يؤخذ من شيء مقدر ، لأن أنساً رضي الله عنه قال : أمرني عمر رضي الله عنه أن آخذ من المسلمين ربع العشر ، ومن أهل الذمة نصف العشر ، وإنما يؤخذ من المسلم إذا كان معه نصاب ، فكذلك الذمي ، ثم اختلف في ذلك المقدر ، ( فعنه ) وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع ، وحكاه في الهداية عن القاضي أنه عشرة دنانير مطلقاً ، للذمي والحربي ، لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار ، فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم . ( وعنه ) اعتبار العشرين مطلقاً لهما ، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دونها ، فكذلك هما ، ( وعنه ) اعتبار العشرين
____________________
(3/227)
للذمي ، والعشرة للحربي ، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دون العشرين ، فكذلك الذمي ، والعشرة في حق الحربي كالعشرين في حق الذمي . واعتبر القاضي أبو الحسين للذمي عشرة ، وللحربي خمسة ، إذ الخمسة في حق الحربي كالعشرة في حق الذمي .
ومقتضى كلام الخرقي أنه إنما يؤخذ من مال التجارة لا من غيره ، وهو كذلك ، فلو مر الذمي بنا منتقلًا ، ومعه أمواله لم يؤخذ منه شيء ، ثم هو يشمل جميع أموال التجارة ، وكذا ظاهر كلام جماعة من الأصحاب ، وقال القاضي : إذا دخلوا لنقل ميرة بالناس حاجة إليها أذن لهم في الدخول بغير عشر ، ومال إلى هذا أبو محمد ، لكنه عمم في الكافي ، فجوز للإِمام الترك رأساً للمصلحة .
3492 لما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر ، يريد بذلك أن يكثر الحمل بالمدينة ، ويأخذ من القطنية العشر ؛ وهذا دليل على التخفيف عنهم للمصلحة ، وإذاً له الترك للمصلحة ، ( قلت ) : وهذا والله أعلم كان في المستأمنين ، إذ غيرهم يؤخذ منهم نصف العشر مطلقاً ، واختلف في الخمر والخنزير المتبايع بينهم هل يعشران أو لا يعشران ؟ على روايتين منصوصتين .
3493 وقد اضطرب في النقل عن عمر رضي الله عنه وخرج أبو البركات قولًا بتعشير ثمن الخمر دون الخنزير ، بناء والله أعلم على أنها مال دون الخنزير ، ولو كان في يد التاجر منهم جارية فادعى أنها أخته أو نحو ذلك ، فهل يقبل قوله ، لأن الأصل عدم الملك فيها ، أو لا يقبل نظراً لليد ؟ فيه روايتان ، ولا يقبل مجرد قوله : إن عليه ديناً ، نظراً للأصل ، فإن ثبت ذلك فقال أبو محمد : ظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع الأخذ منه إذا كان الدين بقدر ما عليه ، أو ينقص به نصابه المعتبر ، قياساً على الزكاة .
قال : ومن نقض العهد بمخالفته شيئاً مما صولحوا عليه حل دمه ماله .
ش : ينبغي للإِمام عند عقد الذمة أن يشترط عليهم شروطاً ، كما روي في السنة ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم ، الذي رواه أبو داود في مصالحة النبي أهل نجران ، فقال : ( ما لم تحدثوا حدثاً ، أو تأكلوا الربا ) والحدث الشيء الذي ينكر فعله .
3494 وفي البخاري وسنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أتى رسول الله أهل خيبر ، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم ، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل ، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ، ولرسول الله الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ، ويخرجون منها ، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئاً ، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد ، فغيبوا مسكاً فيه
____________________
(3/228)
مال وحلي لحيِّي بن أخطب ، كان احتمله معه إلى خيبر ، حين أجليت النضير ، فقال رسول الله لعم حيي واسمه سعية ( ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير ؟ ) فقال : أذهبته النفقات والحروب ، فقال : ( العهد القريب ، والمال أكثر من ذلك ) وقد كان حيي قتل قبل ذلك ، فدفع رسول الله سعية إلى الزبير فمسه بعذاب ، فقال : قد رأيت حيياً يطوف في خربة رسول الله ابني أبي الحقيق ، أحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب ، وسبى رسول الله نساءهم وذراريهم ، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا ، وذكر الحديث إلى آخره .
3495 وروى سفيان الثوري عن مسروق ، عن عبد الرحمن ، قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام ، وشرط فيها أن لا يحدثوا في مدينتهم ، ولا ما حولها ديراً ولا كنيسة ، ولا قلية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب ، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم ، ولا يأووا جاسوساً ، ولا يكتموا غشاً للمسلمين ، ولا يعلموا أولادهم القرآن ، ولا يظهروا شركاً ، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإِسلام إن أرادوه ، وأن يوقروا المسلمين ، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا رأوا الجلوس ، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ولا فرق شعر ، ولا يتسموا بأسماء المسلمين ولا يتكنوا بكناهم ، ولا يركبوا سرجاً ولا يتقلدوا سيفاً ، ولا يتخذوا شيئاً من سلاح ، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ، ولا يبيعوا الخمور ، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم ، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا ، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم ، ولا يظهروا صليباً ، ولا شيئاً من كتبهم في شيء من طرق المسلمين ، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضرباً خفيفاً ، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين ، ولا يخرجوا شعانين ، ولا يرفعوا مع أمواتهم أصواتهم ، ولا يظهروا النيران معهم ، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين ، فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم ، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق . ورواه الخلال بنحو من هذا ، وزاد عليه ، وفيه قال : ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده .
إذا تقرر هذا فإذا شرط عليهم الإِمام هذه الشروط ونحوها مما روي عن عمر رضي الله عنه كما هو مقرر في موضعه ، فخالف بعضهم شيئاً منها ، فظاهر كلام الخرقي أن عهده ينتقض بذلك ، هو مقتضى ما تقدم ، إذ في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا . وفي قصة خيبر أن النبي قتل
____________________
(3/229)
وسبى ، وأخذ المال بالنكث الذي نكثوا ، وفي قصة عمر رضي الله عنه : ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده . وقال : فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم ، وقد تقدم .
وظاهر كلامه أيضاً أن ما لم يصالحوا عليه لا ينتقض به عهدهم وإن لزمهم ، لعدم دخولهم على ذلك ، ولا يرد عليه بذل الجزية ، والتزام أحكام الملة ، لأن عقد الذمة عبارة عن هذين ، فمتى زالا أو أحدهما زال عقد الذمة .
وأما حكم المذهب فملخصه أن ما لزم أهل الذمة بشرط أو غيره كما هو مقرر في موضعه ينقسم أربعة أقسام ، ( أحدها ) ما ينتقض به العهد بلا خلاف ، وهو ما إذا امتنعوا من بذل الجزية ، والتزام أحكام الملة لما تقدم ، لكن قال أبو محمد في المغني : إذا حكم بها حاكم . ولم أر هذا الشرط لغيره ، وكذلك قتال المسلمين ، لأن إطلاق الأمان يقتضي ترك القتال ، فإذا فعلوه نقضوا الأمان ، ( الثاني ) ما لا ينتقض به إلا أن يشترط عليهم ، كما يقوله الخرقي ، وهو قذف المسلم أو إيذاؤه في تصرفاته بسحر ، على المنصوص في رواية الجماعة .
3496 لما روى أنس رضي الله عنه أن امرأة يهودية أتت رسول الله بشاة مسمومة ، فأكل منها ، فجيء بها إلى رسول الله فسألها عن ذلك فقالت : أردت أن أقتلك . قال : ( ما كان الله ليسلطك على ذلك ) قالوا : ألا نقتلها ؟ قال : ( لا ) فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله رواه أحمد ، والأذى بالقذف دون ذلك ، وقيل ينتقض ، وحكاه أبو محمد في المقنع رواية ، ولعله أراد مخرجة مما سيأتي .
( والثالث ) ما ينتقض به على المنصوص والمختار للأصحاب ، وإن لم يشترط عليهم ، كما إذا فتن المسلم عن دينه أو قتله ، أو قطع الطريق عليه ، أو الزنا بمسلمة ، أو التجسس للكفار ، أو إيواء جاسوس ، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء ، ذكر هذه الشيخان وغيرهما ، وزاد أبو محمد وغيره ذكر دين الله بسوء ، وزاد جماعة أصاب مسلمة بعقد نكاح ، أو الاجتماع على قتال المسلمين ، ثم إن أبا الخطاب في خلافة الصغير قيد القتل بأن يكون عمداً وهو حسن ، وأطلقه غيره ، وقد جاء في القتل قول عمر رضي الله عنه : ومن ضرب مسلماً عمداً فقد خلع عهده ، وجاء في سب رسول الله ما تقدم في قتل سابه .
3497 وجاء في قتل من تجسس ما روي عن
____________________
(3/230)
فرات بن حيان رضي الله عنه أن رسول الله أمر بقتله ، وكان عيناً لأبي سفيان ، وحليفاً لرجل من الأنصار ، فمر بحليفه من الأنصار ، فقال : إني مسلم . فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله إنه يقول : إنه مسلم . فقال رسول الله : ( إن منكم رجالًا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان ) . رواه أحمد وأبو داود ، وترجمه بحكم الجاسوس الذمي .
3498 وجاء في الزنا ما روي أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا ، فقال : ما على هذا صالحناكم . وأمر به فصلب في بيت المقدس ، وبقية الصور في معنى ذلك ، وحكى كثير من أصحاب القاضي ، وتبعهم أبو محمد رواية أخرى بعدم النقض بذلك ما لم يشترط عليهم ، على رأي الخرقي ، وقال أبو البركات : إنهم خرجوها من نصه في القذف ، واختار هو التفرقة ، وتقرير النصوص على بابها .
( الرابع ) ما عدا ذلك من عدم إظهار المنكر ، وعدم رفع صوتهم بكتابهم ، ونحو ذلك مما هو مذكور في أحكام الذمة ، فهذا لا خلاف فيما أعلمه أنه إذا لم يشترط عليهم لا ينتقض به عهدهم ، وأما إن شرط عليهم فقولان ، اختار الخرقي النقض كما تقدم ، واختيار الأكثرين عدمه ، وحيث لم ينتقض العهد فإنه يلزمه موجب ما فعله من حد أو قصاص وإلا يعزر ، قال أبو محمد : وفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله ، وحيث انتقض العهد به فإن كان بسب الرسول تعين قتله كما تقدم ، وإن أسلم على المذهب ، وإن كان بغير ذلك فظاهر كلام الخرقي تعين قتله ، وهو المنصوص ، وظاهر قصة فرات بن حيان ، وقطع فيه أبو محمد بالتخيير كالأسير الحربي ، وهو اختيار القاضي .
ومن انتقض عهده في نفسه انتقض عهده في ماله ، على ما قاله الخرقي ، وهو ظاهر كلام الإِمام ، واختيار أبي البركات فيكون فيئاً ، لأن المال لا حرمة له في نفسه ، إنما هو تابع لمالكه حقيقة ، وقد انتقض عهد المالك في نفسه ، فكذلك في ماله ، ( وقال أبو بكر ) لا ينتقض العهد في ماله ، كما لا ينتقض في نسائه وذريته على ما تقدم ، فعلى هذا يدفع إليه إن طلبه ، وإن مات فهو لورثته ، فإن لم يكن له وارث فهو فيء .
قال : ومن هرب إلى دار الحرب من ذمتنا ناقضاً للعهد عاد حربا لنا .
ش : يعني أنه يصير حكمه حكم الحربي الأصلي ، فيخير الإِمام فيه إذا قدر عليه كالأسير الحربي ، وينتقض عهد ماله إعمالًا لحكم الدار ، ولا خلاف فيما أعلمه في التخيير ، أما انتقاض عهد ماله ففيه الخلاف ، فإذا قيل بعدم النقض فيه فقد تقدم أنه يعطاه إن طلبه ، وإن مات فهو لورثته ، ولو لم يمت حتى أسر واسترق فقيل يوقف ماله ، ثم إن عتق رد إليه وإن مات رقيقاً ففي كونه فيئا أو لورثته لو كان حراً وجهان ، واختار أبو البركات أنه يصير فيئا بمجرد استرقاقه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(3/231)
( كتاب الصيد والذبائح )
ش : الصيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيداً فهو صائد ، ثم أطلق على المصيد ، تسمية للمفعول بالمصدر ، قال الله تعالى : 19 ( { لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ) والصيد : قال ابن أبي الفتح : ما كان ممتنعاً حلالًا لا مالك له . والأجود قول بعضهم : ما كان متوحشاً طبعاً ، غير مقدور عليه ، مأكولًا بنوعه .
والأصل في إباحته في الجملة الإجماع ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح } ) . الآية . وقوله تعالى : 19 ( { أحل لكم صيد البحر } ) . الآية . وقوله : 19 ( { وإذا حللتم فاصطادوا } ) . ومن السنة فكثير ، وسيأتي طرف من ذلك إن شاء الله تعالى .
قال : ومن سمى فأرسل كلبه أو فهده المعلم فاصطاد وقتل ولم يأكل منه جاز أكله .
ش : وذلك لقوله تعالى : 19 ( { يسألونك ماذا أحل لهم ، قل أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح مكلبين ، تعلمونهن مما علمكم الله ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه } ) . أي أحل الطيبات ، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح ، وقرينة ذلك قوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) ولو لم يقدر ذلك لزم أن يحل ما علمنا من الجوارح كالكلب ونحوه ، ولا قائل بذلك ، إذ القائل بحل الكلب لا يخصه بالمعلم .
3499 وقد روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إنا بأرض صيد ، أصيد بقوسي ، وبكلبي المعلم ، وبكلبي الذي غير معلم ، فما يصلح لي . ؟ فقال : ( ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك المعلم ، فذكرت اسم الله عليه فكل ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت تذكاته فكل ) .
3500 وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي ، وأذكر اسم الله ؛ فقال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ) قلت : وإن قتلن ؟ قال : ( وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس معها ) قلت : فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ قال : ( إذا رميت بالمعراض
____________________
(3/232)
فخرق فكله ، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله ) . متفق عليهما .
إذا تقرر هذا فيشترط لإباحة الصيد شروط .
( أحدها ) : التسبمية عند إرسال الجارح ، على المشهور والمختار للأصحاب من الروايات ، لما تقدم من الآية الكريمة ، ولقوله تعالى : 19 ( { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ) . الآية ، أمر سبحانه بالتسمية ، كما أن النهي ظاهر في التحريم ، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم رضي الله عنهما فإنه وقف حل الأكل على التسمية ، فقال : ( وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل ) . وفي رواية في الصحيح ( واذكر اسم الله ) بصيغة الأمر ، ( والرواية الثانية ) لا تشترط التسمية مطلقاً [ وإنما تسن ، حملًا لهذه الظواهر على ذكر اسم الله بالقلب ، وهو لا يخلو حال المسلم عنه ] وفي لفظ في الصحيح أيضاً في حديث عدي : فإن وجدت مع كلبي كلباً آخر فلا أدري أيهما أخذه ؟ قال : فلا تأكل ، فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره ) وهو لا يخلو حال المسلم عنه إذ معنى ذلك القصد إلى فعل ما أباحه الله تعالى على الوجه الذي شرعه ، وأصل ذلك أن الذكر هو التنبه بالقلب للمذكور . ومنه قوله تعالى : 19 ( { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم } ) .
3501 وقوله : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) ثم يسمى القول الدال على الذكر ذكرا .
3502 وقد روى أبو داود في المراسيل ، وأسنده الدارقطني قال : قال رسول الله : ( ذبيحة المسلم حلال ، ذكر اسم الله أو لم يذكر ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله ) 8 .
3503 وعن أبي هريرة رضي الله عنه فيمن نسي التسمية .
قال : قال رسول الله : ( اسم الله على فم كل مسلم ) . رواه الدارقطني . وقد قال الزجاج في قوله تعالى : 19 ( { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ) أي ما لم يخلصوا ذبحه لله ونحوه . قال أحمد : في معنى الميتة ، وقيل : إن الآية المراد بها ذبائح المشركين . وعلى هذه الرواية تسن خروجاً من الخلاف .
( والرواية الثالثة ) : تشترط في العمدة ، ولا تشترط في السهو .
3504 [ لعموم قول النبي : ( عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ) . الحديث .
ولا نزاع أن المذهب هو الأول ، وحمل التسمية على ذكر الله بالقلب خلاف
____________________
(3/233)
ظاهر اللفظ ، ثم لا تخصيص للصيد بذلك إذ جميع ما يفعله المكلف يجب أن يذكر اسم الله تعالى فيه بأن يفعله على الوجه ذكره سبحانه ، ثم قول النبي : ( فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره ) ظاهر في إبطال هذا التأويل ، وحديثاً ( ذبيحة المسلم حلال ) ، ( واسم الله على فم كل مسلم ) ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث ، والعفو في النسيان عن الإثم ، ثم قصارى النسيان أن يجعل الموجود كالمعدوم ، كالأكل في الصوم ، والكلام في الصلاة ، ونحو ذلك ، لا أنه يجعل المعدوم كالموجود ، بدليل أن من نسي الطهارة أو الستارة ونحوهما لا تصح صلاته ، وقد خطأ الخلال حنبلا في التفرقة هنا بين العمد والسهو ، وقال : إن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل .
إذا تقرر هذا فصفة التسمية المعتبر ( بسم الله ) .
3505 وقد ثبت أن رسول الله كان إذا ذبح قال : ( بسم الله والله أكبر ) فإن كبر أو هلل ، أو سبح بدلًا عنها لم يجزئه . نص عليه أحمد في رواية أبي طالب في التكبير والتحميد ، نظر إلى أن النبي بين ذلك بقوله : ( بسم الله ) فيقتصر عليه ، وللشيخين احتمال بالإِجزاء ، لأنه يصدق عليه أنه ذكر اسم الله ، فيدخل في الآية والحديث ، ولا نزاع أنه لو قال : اللهم اغفر لي ، أنه لا يجزئه ، إذ ذلك طلب حاجة ، ولو سمى بغير العربية وهو يحسنها فقولان ، نظرا إلى ما تقدم من أن المقصود المعنى أو اللفظ ، وأبو محدم جزم هنا بالجواز ، وهو موافق لاحتماله ثم ، و القاضي بالمنع ، وقال : إنه المنصوص ، وأظنه أراد رواية أبي طالب .
ومحل التسمية عند الإِرسال ، لأنه الفعل الموجود من المرسل ، فاعتبرت التسمية عنده ، كما تعتبر عند الذبح من الذابح ، ولا يضر التقديم اليسير كالنية في العبادات ، وكذلك التأخير اليسير على إطلاق أحمد ، قال : إذا أرسل ثم سمى فانزجر ، أو أرسل فسمى . فالمعنى قريب من السواء ، وصرح بذلك أبو بكر في التنبيه ، وكذلك في التأخر الكثير ، بشرط أن يزجره فينزجر ، كما دل عليه كلام أحمد ، وقاله أبو محمد والشيرازي ، نظراً إلى أن الإرسال بدون تسمية وجوده كعدمه ، لفقدان شرطه ، فتعلق الحكم بالزجر ، ومنع ذلك القاضي ، نطراً إلى أن الحكم تعلق بالإِرسال الأول .
( تنبيه ) : عموم كلام الخرقي يشمل الكتابي ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى لإطلاق : 19 ( { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ) . ولعله الحكمة في عدم التصريح بالفاعل ، وقياساً على المسلم . ( والرواية الثانية ) لا تشترط التسمية في حق الكتابي ، بخلاف المسلم ، لإِطلاق 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) .
3506 قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أي ذبائحهم . وهي من آخر
____________________
(3/234)
ما نزل ، ونصوص السنة ، وكذلك قوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه } ) الخطاب فيه للمسلم .
( الشرط الثاني ) : أن يرسل الجارح قاصداً للصيد ، لقول النبي : ( إذا أرسلت كلبك المعلم ، وذكرت اسم الله عليه فكل ) فعلق الحل على ذكر اسم الله مع إرسال كلبه المعلم ، ( وأفعل ) فعل الفاعل ، فلا بد أن يوجد منه فعل ، وعلى هذا لو استرسل الكلب أو الفهد بنفسه لم يبح ، نعم لو استرسل بنفسه فزجره فزاد في طلب الصيد فإنه يباح ، لأن زجره لما أثر في عدوه صار بمنزلة إرساله له ، إذ فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره أنيط الحكم بالإِنسان ، بدليل ما لو صال كلب على آدمي فأغراه آخر تعلق الضمان عليه به . ( ويحتمل ) كلام الخرقي المنع ، لأنه إنما علق الحكم بالإِرسال .
( الشرط الثالث ) : أن يكون الجارح معلماً بلا نزاع ، للآية الكريمة ، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم رضي الله عنهما وتعليم ذي الناب كالكلب والفهد بأن يسترسل إذا أرسل ، وينزجر إذا زجر بلا نزاع ، وبأنه إذا أمسك لم يأكل ، لقوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) . والإِمساك علينا بأنه لا يأكل إذا أمسك علي نفسه ) وفي رواية ( فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ) فدل على أن إمساكه علينا علامته ترك الأكل .
3507 وقد صرح بذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل ، فإنما أمسكه على نفسه ، وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل ، فإنما أمسك على صاحبه ) رواه أحمد .
3508 ولا يعارض هذا ما رواه أبو داود وغيره في حديث أبي ثعلبة : ( إذا أرسلت كلبك ينظر هل فيه ( المعلم ) وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ) لترجح ما تقدم بكثرة رواته وصحته ، ثم هو محمول على كلب معلم أكل بعد تعليمه ، ومن ثم اختلف عن الإِمام أحمد رحمه الله فيما أكل منه الصائد بعد تعليمه هل يحرم ؟ على روايتين ، ( إحداهما ) وهو المذهب بحرم ، تقديما لحديث عدي لصحته ، قال أحمد : حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي وقال في حديث أبي ثعلبة : يختلفون عن هشيم فيه ؛ ولاعتضاده بحديث ابن عباس رضي الله عنهما . وظاهر قوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) . ( والثانية ) لا يحرم ، لحديث أبي ثعلبة ، جمعاً بين الدليلين كما تقدم ، وأحمد رحمه الله جمع
____________________
(3/235)
بأن حمل حديث عدي على الكراهة .
3509 فقال : الرخصة في الكلب يأكل من صيده أربعة من أصحاب النبي ، وإنما حديث عدي في الكراهة . قلت : ويخرج لنا من هذا أنه لا يعتبر ترك الأكل في التعليم رأساً ، إذ العمدة في ذلك حديث عدي ، وقد حمله الإِمام على الكراهة ، وقد يقال : العمدة الآية ، ويرجح حمل حديث عدي على الكراهة قول النبي فيه في الصحيح : ( فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ) فعلله بالخوف .
ويرشح ذلك بأن عديا رضي الله عنه لما كان موسعاً عليه أفتاه بالكف ، ورعا ، بخلاف أبي ثعلبة .
إذا تقرر هذا فهل يعتبر فيما ذكرناه من التعليم التكرار ، لاحتمال أن يكون تركه في أول مرة شبعاً ؟ التكرار ، لاحتمال أن يكون تركه في أول مرة شبعا ؟ وهو قول القاضي ، واختيار أبي محمد في المغني وغيرهما ، أولًا يعتبر التكرار ، بل يكتفي بأول مرة ، وبه قطع أبو الخطاب في كتابيه ، والشريف وأبو محمد في المقنع ، وأورده أبو البكرات مذهباً ، لأنه تعليم صناعة ، فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع ؟ على قولين ، ( وعلى الأول ) هل المرجع في ذلك إلى العرف من غير تقدير بمرة أو مرات ، لعدم التقدير من الشارع ، وهو قول ابن البنا في الخصال ، أو يعتبر أن يكرر ذلك منه مرتين ، فيباح صيده في الثالثة ، أو ثلاثة مرات فيباح صيده في الرابعة ، وهو قول القاضي ، ولعل أصل القولين الروايتان في التكرار في الحيض ؟ على ثلاثة أقوال .
( تنبيه ) . الانزجار بالزجر يعتبر قبل إرساله على الصيد أو رؤيته ، أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال .
( الشرط الرابع ) أن يكون الإرسال على صيد ، فإن أرسل وهو لا يرى شيئاً فأصاب صيداً لم يبح ، إذ الإِرسال جعل بمنزلة الذكاة ، ولو نصب سكينا لا لقصد الصيد ، فانذبحت بها شاة لم تبح ، كذلك ها هنا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا الشرط مزيد تمام عند قوله : إذا رمس صيدا فأصاب غيره ، ومن ثم يؤخذ هذا . ( الشرط الخامس ) أن يكون الصائد من أهل الذكاة ، فإن كان وثنياً أو مرتداً ، أو من غير المسلمين وأهل الكتاب ، أو مجنوناً ونحو ذلك لم يبح صيده ، إذ الاصطياد أقيم مقام الذكاة ، والصائد بمنزلة المذكي ، ولهذا قال النبي : ( فإن أخذ الكلب ذكاته ) وإذاً تشترط الأهلية في المذكي ، وهذ الشرط يؤخذ من قول الخرقي : ولا يؤكل صيد مرتد ، وبقية الشروط أخذها من كلامه واضح ، واختلف في شرطين آخرين .
( أحدهما ) هل يعتبر في الجارح المعلم أن لا يأكل من الصيد ؟ وقد تقدم فيه روايتان ، وتقدم أن المذهب اعتبار ذلك ، وهو الذي ذكره الخرقي ، وعليه لو شرب من دمه ولم يأكل فإنه لا يحرم ، إذ المنع إنما ورد في أكل ما أكل منه الكلب ، فيبقى فيما
____________________
(3/236)
عداه على مقتضى عموم الآية والخبر .
( والثاني ) : هل يعتبر في الجارح أن يجرح الصيد ، فلا يباح ما قتله بخنقه أو صدمته ، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه ، وبه قطع القاضي في الجامع ، والشريف ، والشيرازي ، وأبو محمد في المغني ، أو لا يعتبر فيباح ذلك ، وهو اختيار ابن حامد ، وظاهر كلام الخرقي ، وقال القاضي في المجرد : إنه ظاهر كلام أحمد ؟ على روايتين ، مناطهما أن خنق الجارح أو صدمه هل هو بمنزلة قتل المعراض بعرضه أم لا ؟ .
3510 ويرشح الأول مفهوم قول النبي : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ) ويرشح الثاني قول النبي : ( فإن أدركته حياً فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاته ) . . متفق عليه ، وهو يشمل القتل صدماً أو خنقاً . وأيضاً فالجارح حيوان له اختيار ما ، وقد أمسك على صاحبه ، فيدخل تحت قوله : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) ، بخلاف المعراض ، فإنه لا يقال فيه : أمسك عليك .
قال : فإن أكل الكلب أو الفهد من الصيد لم يؤكل منه ، لأن أمسكه على نفسه ، فبطل أن يكوم معلماً .
ش : قد تقدمت هذه المسألة ، وقد نبه الخرقي على علتها ، وهو كونه أمسكه على نفسه ، ثم قوله : بطل أن يكون معلما . ظاهر أنه يصير كالمبتدئ تعليمه ، فيعتبر له شروط التعليم ابتداء ، وظاهر كلام أحمد وهو اختيار أبي محمد عدم ذلك ، لاحتمال أن يكون ذلك لفرط جوع أو نحو ذلك .
قال : وإذا أرسل البازي أو ما أشبهه فاصطاد وقتل أكل وإن أكلد من الصيد ، لأن تعليمه بأن يأكل .
ش : مذهب أحمد رحمه لله أنه لا يقتصر على الكلب في الصيد ، بل يلحق به ما في معناه مما يقبل التعليم ويصطاف به من سباع البهائم كالفهد ، كما ذكر الخرقي رحمه الله ، والنمر كما ذكر بعضهم ، أو جوارح الطير كالبازي والصقر ونحوهما ، نظراً للمعنى ، إذ ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلًا ، فلا فارق في المعنى ، وهذا هو القياس في معنى الأصل .
3511 ولما روي عن عدي رضي الله عنه أن النبي قال : ( ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليه ) قلت : وإن قتل : قال : ( وإن قتل ولم يأكل منه شيئاً ، فإنما أمسك عليك ) رواه الإمام أحمد وأبو
____________________
(3/237)
داود ، ثم قوله تعالى : 19 ( { وما علمتم من الجوارح } ) الجوارح يشمل الجميع ، إذ الجوارح الكواسب ، ومنه قوله تعالى : 19 ( { ويعلم ما جرحتم بالنهار } ) أي كسبتم ، وقوله سبحانه : 19 ( { أم حسب الذين اجترحوا السيئات } ) وقوله تعالى : 19 ( { مكلبين } ) ، أي مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب ، فالتكليب التضرية ، وقال أبو محمد : التكليب الإِغراء .
إذا تقرر هذا فلا بد في الجميع من التعليم بلا ريب ، فتعليم الفهد ونحوه من سباع البهائم كما تقدم في الكلب ، وأما جوارح الطير فبأن ينزجر إذا زجر ، ويجيب إذا دعي ، ولا يعتبر ترك الأكل ، فيخالف الكلب من هذه الحيثية .
وقد أشار الخرقي إلى الفرق ، وهو أن تعليم الجوارح بالأكل ، ويتعذر تعليمها بدونه ، بخلاف الكلب ونحوه .
5312 وهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل الصيد ، وإذا أكل الصقر فكل ، لأنك تستطيع أن تضرب الكلب ، ولا تستطيع أن تضرب الصقر . رواه الخلال ، فإن قيل : فحديث عدي صريح في التسوية بين الكلب والبازي ؟ قيل : هو كذلك ، لكنه من رواية مجالد وهو ضعيف عندهم ، قال أحمد رضي الله عنه تصير القصة واحدة : كم من أعجوبة لمجالد ! والرواية الصحيحة تخالفه . اه والله أعلم .
قال : ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما ، لأنه شيطان .
ش : قذ ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وأشار إلى دليله وهو أنه شيطان ، والشيطان آلة محرمة ، وإباحة الصيد المقتول رخصة ، والرخصة لا تباح بمحرم .
3513 ودليل كونه شيطاناً ما روى جابر رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله بقتل الكلاب ، حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله ، ثم نهى رسول الله عن قتلها ، وقال : ( عليكم بالأسود البهيم ذي الطفيتين فإنه شيطان ) . رواه أحمد ومسلم .
3514 وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها الأسود البهيم ) . رواه الخمسة وصححه الترمذي ، ثم إنه مأمور بقتله ، وإذاً يحرم اقتناؤه وتعليمه ، فلم يبح صيده كغير المعلم ، وقد قال أحمد : لا أعلم أحداً يرخص فيه يعني من السلف .
تنبيه ) : البهيم الذي لا يخالطه لون آخر قال ثعلب وإبراهيم الحربي : كل لون لم يخالطه لون آخر فهو بهيم ، قيل لهما : من كل لون ؟ قالا : نعم ، فإن كان فيه نكتتان
____________________
(3/238)
فوق عينيه فهل يخرج بذلك عن كونه بهيما ؟ فيه روايتان أصحهما وبه قطع أبو محمد لا ، للخبر .
قال : وإذا أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات لم يؤكل .
ش : الذي تقدم للخرقي فيما إذا قتل الجارح الصيد ، وأما إذتا لم يقتله وأدركه الصائد حياً فلا يخلو إما أن يكون فيه حياة مستقرة أم لا ، تفإن لم يكن بل كانت كحياة المذبوح فإنه يحل بلا ريب ، إذ ذلك مذكى ، أو بمنزلة المذكى ، فالذكاة لا تفيد فيه شيئاً ، وإن كانت فيه حياة مستقرة فلا يخلو إما أن يتسع الزمان لذكاته أم لا ، فإن لم يتسع فهو كالأول ، لأنه لم يقدر على ذكاته بوجه ، أشبه الذي قبله ، وفي حديث أبي ثعلبة ( فأدركت ذكاته فكل ) أي فذكه وكل ، وهذا لم يدرك ذكاته ، فلم يدخل تحت الأمر بالذكاة ، وإن اتسع الزمان لذكاته لم يحل إلا بها ، لأنه حيوان مقدور عليه ، وأشبه ما لو لم يصده ، وقد تقدم قول النبي في حديث عدي : ( فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخذ الكلب ذكاته ) واعلم أن هذا التقسيم تبعت فيه أبا محمد ، وقد يقال : إن القسم الأول لا يدخل تحت التقسيم ، إذا ما حركته كحركة المذبوح هو بإطلاق المذكى عليه أولى من إطلاق الحي ، وعلى هذا لا يدخل هذا القسم تحت كلام الخرقي ، نعم كلامه يشمل القسمين الآخيرين ، وهذا ظاهر حديث عدي .
قال : فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل .
ش : هذا إحدى الروايات عن إمامنا رحمه الله واختيار الخرقي ، وأبي الخطاب في الهداية ، لأنه صيد قتله الجارح ، من غير إمكان ذكاته فيباح ، كما لو أدركه ميتاً يحققه أن قتل الجارح الصيد ، إنما جعل ذكاة له رخصة لتعذر تذكيته ، وهذا قد تعذرت تذكيته ، ومقتضى هذه الرواية أنه لو مات من غير إشلاء لم يحل وإن كان عن قرب ، وهو اختيار أبي محدم وأبي الخطاب ، لأنه حيوان مقدور عليه أشبه ما لو وجد آله ، ( والرواية الثاني ) : عكس هذه الرواية ، يحل بالموت من الجرح عن قرب الزمان ، دون إشلاء الصائد ، اختاره القاضي أظنه في المجرد ، إذ ما قارب الشيء بمنزلته ، ولو كان الزمان لا يتسع للذكاة أبيح ، فكذلك ما قاربه ، وأما قتل الجارح فإنما يؤثر في غير المقدور عليه ، وهذا مقدور عليه ، ( والرواية الثالثة ) : يحل بهما بإشلاء الجارح ، أو الموت عن قرب الزمان لما تقدم ، ( والرواية الرابعة ) : وهي اختيار أبي بكر وابن عقيل في التذكرة لا يحل مطلقاً ، وهو الراجح ، لظاهر حديثي عدي وأبي ثعلبة ، فإنهما ظاهران في وجوب تذكية ما أدركه حياً ، ولأنه مقدور عليه ، فأشبه بهيمة الأنعام ، وقرب الزمان فسره أبو البركات بأن لا يمضي عليه معظم يوم .
ومحل الخلاف إذا لم يوجد ما يذكيه به ، كما ذكره الخرقي ، وفي معناه إذا كان يمكنه الذهاب به إلى منزله فيذكيه ونحو ذلك ، فإنه لا يحل إلا بالذكاة .
( تنبيه ) : ( أشلى ) بمع
____________________
(3/239)
نى ذعى ، يقال : أشليت الكلب . إذا دعوته إليك ، والعامة تقول : أشليته إذا حرضته على الصيد وأغريته به ، وإنما يقال في ذلك أشرته على الصيد ، فعلى هذا يحمل كلام الخرقي على أنه دعاه ثم أرسله ، لأن إرساله على الصيد يتضمن دعاءه إليه ، مع أن بعضهم أجاز أشلى بمعنى أغرى .
قال : وإذا أرسل كلبه فأصاب معه غيره لم يأكل الصيد إلا أن يدركه في الحياة فيذكيه .
ش : أما إذا أدركه في الحياة وذكاه فواضح ، وأما إذا لم يدركه في الحياة ، والحال ما تقدم فإنما لم يحل لأن في حديث عدي ( إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ) قلت : وإن قتلن ؟ قال ؛ ( وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس معها ) وفي رواية : ( وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل ) وفي رواية : قلت : فإن وجدت مع كلبي كلباً آخر ، فلا أدري أيهما أخذه ؟ قال : فلا تأكل ، فإنما سميت على كلبك ، ولم تسم على غيره ) وفي رواية ( فإن وجدت عنده كلب آخر ، فخشيت أن يكون أخذه معه وقد قتلنه فلا تأكل ، فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ، ولم تذكر على غيره ) وروى الجميع مسلم .
وقد علم من تعليل هذه الروايات وعليه يحمل كلام الخرقي أن هذا الحكم في كل كلب جهل حاله هل سمي عليه أو لم يسم ، وهل استرسل بنفسه أو أرسله صاحبه ، أو جهل حال مرسله هل هو من أهل الذكاة أم لا ، ولا يعلم أيهما قتله ، أو يعلم أنهما قتلاه ، معاً ، وكذلك بطريق الأولى إن علم أن المجهول هو القاتل ، أما إن علم حال الكلب الذي وجده مع كلبه ، وأن الشرائط المعتبرة قد وجدت فيه ، فإنه يحل ، ثم إن كان الكلبان قد قتلاه معاً فهو لصاحبيهما ، وإن علم أن أحدهما قتله فهو لصاحبه ، وإن جهل الحال فإن كان الكلبان متعلقين به فهو بينهما ، كما لو كان الصيد في يد عبديهما ، وإن كان أحدهما متعلقاً به دون الآخر ، فهو لمن كلبه متعلق به ، إذ هو بمنزلة يده ، وعلى من حكم له به اليمين كصاحب اليد ، وإن كان الكلبان ناحية والصيد قتيل ، فقال أبو محمد : يقتف الأمر حتى يصطلحا ، وحكى احتمالًا بالقرعة ، فمن قرع حلف وأخذ ، وهذا قياس المذهب فيما إذا تداعيا عينا ليست بيد أحد ، وعلى الأول إن خيف فساده بيع واصطلحا على ثمنه ، والله أعلم .
قال : وإذا سمى ورمى صيداً فأصاب غيره جاز أكله .
ش : لعموم قوله تعالى : 19 ( { فكلوا مما أمسكن عليكم } ) ، وحديث عدي وغيره ، ونه أرسل آلة الصيد قاصداً للصيد ، فحل ما صاده ، كما لو أرسلها على كبار ، فتفرقت عن صغار ، فأخذها على مالك ، أو كما لو أخذ صيداً لا يحل في طريقه على الشافعي .
____________________
(3/240)
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو رمى لا إلى صيد فأصاب صيداً أنه لا يحل ، لأن قوله عليه السلام ( إذا أرسلت كلبك ) معناه إلى صيد ، وهنا لم يرسل إلى صيد ، ولأبي محمد في الكافي احتمال بالحل ، كما لو أرسل على صيد فأصاب غيره ، وعموم مفهوم كلام الخرقي يشمل ما إذا قصد غير صيداً قصداً محققاً ، كأن قصد حجراً أو هدفاً أو إنساناً فأصاب صيداً ، أو مظنوناً كأن رأى سواداً أو خشباً فظنه آدمياً ، فرماه فإذا هو صيد ، وما إذا رمى لا إلى صيد فأصاب صيداً .
وقول الخرقي : ورمى صيداً . يحتمل أن يريد ما يظنه صيداً ، إذ الأحكام تنبني على غلبة الظن ، فيدخل في ذلك ما إذا رأى سواداً فظنه صيداً ، فوجده كذلك ، وما إذا رمى حجراً يظنه صيداً محققاً ، فيخرج هاتين الصورتين ، لكن صورة السواد لم نر فيها خلاقاً .
وقد علم من كلام الخرقي جواز الصيد بالسهام ، ويلحق بها ما في معناها من المحددات ، ولا نزاع في ذلك وفي الصحيح في حديث عدي : ( وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله ) وفي حديث أبي ثعلبة : ( ما صدت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل ) .
قال : وإذا رماه فغاب عن عينيه ، فأصابه ميتاً وسهمه فيه ، ولا أثر به غيره ، جاز أكله .
ش : هذا هو المشهور من الروايات ، واختيار الخرقي والقاضي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وأبي محمد وغيرهم .
3515 لأن في حديث عدي : ( وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه ، فإن غاب عنك يوماً فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت ، وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل ) رواه مسلم وغيره ، وفي رواية ( إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس فيه إلا أثر سهمك فكل ، فإن وقع في الماء فلا تأكل ) . رواه البخاري .
3516 وفي حديث أبي ثعلبة الخشني : ( إذا رميت بسهمك فغاب عنك فكل ما لم ينتن ) وفي رواية : في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فكله ما لم ينتن . رواهما مسلم وغيره .
( والرواية الثانية ) إن غاب نهاراً فلا بأس ، وإن غاب ليلًا لم يأكله ، قال في رواية ابن منصور : إذا غاب الصيد فلا تأكله إذا كان ليلًا ، وإذا كان نهاراً ولم ير به أثراً غيره يأكله .
____________________
(3/241)
3517 لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إذا رميت فأقعصت فكل ، وإن رميت فوجدت فيه سهمك من يومك أو ليلتك فكل ، وإن بات عنك ليلة فلا تأكل ، فإنك لا تدري ما حدث فيه بعدك .
( والرواية الثالثة ) إن كان جرحه موحياً حل وإن فلا ، لأن مع الإيحاء يبعد تأثير المشاركة ، بخلاف ما إذا لم يوح .
3518 وفي بعض روايات حديث عدي رضي الله عنه قال : سألت رسول الله قلت : أرضنا أرض صيد ، فيرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه ليلة أو ليلتين ، فيجد فيه سهمه ؟ قال : ( إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثراً غيره ، وعلمت أن سمهمك قتله فكله ) . رواه أحمد والنسائي ، وفي رواية أخرى قلت : يا رسول الله أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد ؟ قال : ( إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكله ) . رواه الترمذي وصححه . فوقف الحل على العلم بكون سهمه قتله ، ولا نعلم ذلك إلا إذا كان الجرح موحياً .
( والرواية الرابعة ) : إن غاب مدة طويلة لم يبح ، وإن كانت يسيرة أبيح ، قيل له : إن غاب يوما ؟ قال : يوم كثير . ذكرها أبو محمد ، ولم يذكرها عامة الأصحاب ، كأنهم حملوها على الرواية الثانية .
وعن أحمد ( رواية خامسة ) كراهية ما غاب مطلقاً .
3519 ويروى نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما خروجاً من الخلاف .
والمذهب هو الأول بلا ريب . وأرجح الروايات بعده رواية التفرقة بين الإِيحاء وعدمه ، بناء على الزيادة المذكورة في حديث عدي ، وقد تقدم أن الترمذي صحح ذلك ، والزيادة من الثقة مقبولة ، ويجاب عن ذلك بأن رواية الصحيحين وغيرهما تخالف ذلك ، أو يحمل العلم بالقتل على الظن ، وإذا وجد فيه سهمه أو أثره فقد ظن أن سهمه قتله ، وإذاً تتفق الروايان .
واعلم أن علم المذهب يشترط للحل شرطان :
( أحدهما ) أن يجد فيه سهمه ، ليتحقق وجود السبب المقتضي للحل ، إذ الأصل عدم ما سواه ، ويقوم مقام وجود سهمه وجود أثره ، قاله الشيخان وغيرهما ، لما تقدم في حديث عدي رضي الله عنه ( ليس به إلا أثر سهمك فكل ) . وفي رواية ( فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل ) وظاهر ذلك الاكتفاء بأثر السهم . وكلام الخرقي وطائفة من الأصحاب يوهم اشتراط وجود سهمه فيه ، وسؤال أحمد وقع عمن عرف سهمه فيه أيأكله ؟ قال : نعم . ولو لم يجد سهمه فيه ولا أثره ، كأن غاب الصيد قبل تحقق
____________________
(3/242)
الإِصابة ، ثم وجده عقيراً ، والسهم ناحية ، فإنه لا يباح ، لأن السبب المقتضي للحل لم يعلم ، وصل التحريم .
( الشرط الثاني ) أن لا يجد به أثراً آخر يحتلم أنه أعان في قتله ، لما تقدم في الحديث ، وذلك لأنه والحال هذه قد تحقق المعارض ، والأصل التحريم ، فم يبح بالشك ، ولو كان الأثر مما لا يحتمل القتل به كالسنور ونحوه لم يؤثر ، إذا المعارض والحال هذه وجوده كعدمه ، وفي الصحيحين في حديث عدي رضي الله عنه ( فإن وجدته قد قتل فكل ، إلا أن تجده قد وقع في ماء ، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) وإذ كان الأثر مما لا يحتمل إعانته في القتل فقد روي أنه ليس بقاتل فلا شك .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) حكم الكلب إذا عقر ثم غاب حكم السهم ، على ما تقدم من الخلاف إن لم يجد الصيد في فمه ، فأما إن وجده في فم الكلب ، أو وهو يعبث به ، فإنه يحل بلا خلاف ، على ما حكى أبو البركات .
( الثاني ) ( ينتن ) رباعي مضموم الأول ، من : أنتن الشيء . إذا تغيرت رائحته ، وقال بعض اللغويين : يقال : أنتن اللحم إذا تغير بعد طبخه ، وقيل وأصله إذا تغير وهو نيء . وهذا الحديث يرد ما قاله ، بل يقال : أنتن اللحم نيئاً أو مطبوخا .
قال : وإذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل .
ش : هذا يشمل ما إذا كانت الجراحة موحية ، كما إذا ذبحه ، أو أخرجت حشوته ونحو ذلك ، وما إذا لم تكن موحية ، ولا خلاف في التحريم إذا لم تكن موحية ، للشك في السبب المقتضي للحل ، وقد قال النبي : ( وإن وجدته قد قتله فكل ، إلا أن تجده قد وقع في ماء ، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) . متفق عليه .
وأما إذا كانت موحية ( فعنه ) وقال أبو محمد : إنه المشهور عنه ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، و أبي بكر ، وبه جزم الشيرازي التحريم أيضاً ، لما تقدم من قوله عليه السلام ( وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل ) . رواه مسلم ، وفي البخاري ( وإن وقع في الماء فلا تأكل ) ( وعنه ) وهو الصواب ، وقال أبو محمد : إنه اختيار أكثر المتأخرين لا يحرم ، لما تقدم من قوله : ( فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) وإذا كان الجرح موحياً فقد علم أن سهمه قتله فلا تردد ، ومحل الخلاف فيما إذا كان الماء أو التردي يقتله ، مثله ، فلو لم يكن يقتله مثله ، كما إذا كان رأس الحيوان خارجاً من الماء ، أو كان مما لا يموت بالماء كطير الماء ، فإنه لا خلاف في إباحته ، قاله أبو محمد ، إذ لا شك إذاً في أن الماء لم يقتله . ولهذا قال النبي : ( وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكل ) .
____________________
(3/243)
( تنبيه ) لو رمى طائرا في الهواء ، أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حلّ ، قاله أبو محمد ، ولم يذكر خلافاً ، لعدم إمكان التحرز من ذلك ، ومسألة الخرقي فيما إذا رمى الصيد فوقع على جبل ، ثم تردى منه ، أو على شجرة ثم تردى منها والله أعلم .
قال رحمه الله : وإذا رمى صيداً فقتل جماعة فكل ذلك حلال .
ش : قد تقدم نحو هذه المسألة في قوله : إذا رمى صيداً فأصاب غيره . إلا أن ثم أصاب غير الصيد الذي قصده ، وهنا أصابه مع غيره ، وهو أولى بالجواز مما ثم ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا رمى صيداً فأبان منه عضماً لم يأكل ما أبان منه ، وأكل ما سواه في إحدى الروايتين عن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه والرواية الأخرى يأكله وما أبان منه .
ش : محل هذا الخلاف فيما إذا أبان منه عضواً وبقيت فيه حياة غير مستقرة ، وقد أشار الخرقي إلى ذلك بقوله : وأكل ما سواه . وإنما يأكل ما سواه إذا مات في الحال ، وذلك إذا كانت الحاية فيه غير مستقرة ، أما لو ضربه فقطع رأسه ، أو قطعه نصفين ، فإن هذا يحل بلا نزاع ، إذ هذا ذكاة ، ولو أبان منه عضواً وبقيت فيه حياة معتبرة فإنه لا يحل ما بان منه بلا نزاع .
3520 لانطباق قوله : عليه السلام ( ما أبين من حي فهو ميت ) عليه ، اللهم إلا أن يكون مما يحل ميتته كالسمك والجراد ، فإنه يحل ما بان منه ، إذ غاية المبان أنه ميتة ، وميتة هذا حلال .
إذا تقرر هذا ( فوجه الرواية الأولى ) قول النبي : ( ما أبين من حي فهو ميت ) . وهذا يصدق عليه أنه أبين من حي فيكون ميتاً ، ( ووجه الثانية ) وهي المشهورة ، والمختارة لعامة الأصحاب ، أبي بكر والقاضي والشريف ، وأبي الخطاب والشيرازي ، وابن عقيل وابن البنا أن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجمعية ، والخبر نقول بموجبه ، إذ هذا ما أبين من حي ، إنما أبين ممن هو في حكم الميت ، وقد أشار أحمد إلى ذلك فقال : إنما حديث النبي ما قطعت من الحي ميتة ، إذا قطعت وهي حية تمشي وتذهب ، أما إذا كانت البينونة والموت جميعاً ، أو بعده بقليل فلا بأس به ، ألا ترى الذي يذبح ربما مكث ساعة ، وربما مشى حتى يموت . اه .
وقول الخرقي : أبان منه عضواً . ظاهره أنه لو بقي معلقاً بجلده حل بحل الصيد بلا خلاف ، وهو كذلك ، صرح به أبو الخطاب ، وغيره واللَّه أعلم .
قال رحمه اللَّه : وكذلك إذا نصب المناجل للصيد .
____________________
(3/244)
ش : يعني أنه يباح الصيد المقتول بها ، وأن ما أبين منه هل يحل أم لا ؟ على الخلاف والتفصيل السابق .
3521 وذلك لدخوله في عموم ( كل ما ردت عليك يدك ) ولأنه قتل الصيد بحديدة ، على الوجه المعتاد ، أشبه ما لو رماه بها ، وحكم السكاكين حكم المناجل ، ولا بدّ أن يلحظ أن شرائط الصيد موجودة في الناصب ، كأن يكون أهلاً للذكاة ويسمي ، بقي هل يشترط أن يرى الصيد كما في السهم والكلب ؟ لم أر من صرح بذلك ، بل ربما كلامهم يوهم عدم ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا صاد بالمعراض أكل ماقتل بحده ، ولم يأكل ما قتل بعرضه .
ش : في الصحيح من حديث عدي رضي اللَّه عنه قال : فقلت له : إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ؟ قال : ( إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله ) وفي لفظ ( إذا أصابه بحده فكل ، وإذا أصابه بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكله ) .
( تنبيهان ) : أحدهما : المعراض خشبة ثقيلة أو عصا غليظة في طرفها حديدة ، وقد تكون بغير حديدة ، غير أنها يحدد طرفها ، وقال أبو عبيد : هو سهم لا ريش فيه ولا نصل ، والتفسير الأول أليق بالحديث ، وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد ، وإن قتلت بحدها أبيح ، إلا أن لا تجرح .
3522 وفي المسند من حديث رضي اللَّه عنه قال : قلت يا رسول اللَّه إنا قوم نرفي فما يحل لنا ؟ قال : ( يحل لكم ما ذكرتم اسم اللَّه عليه وخزقتم فكلوا منه ) .
( الثاني ) : ( الوقيذ ) فعيل بمعنى مفعول ، أي الموقوذ ، وهو المضروب بالعصا حتى يموت ، وبه فسر قوله تعالى 19 ( { والموقوذة } ) واللَّه أعلم .
قال : وإذا رمى صيداً فعقره ، ورماه آخر فأثبته ، ورماه آخر فقتله لم يؤكل .
ش : أما عقر الأول فلم يؤثر في الصيد ملكاً لعدم إثباته له ، وأما رمي الثاني فإنه ملكه بإثباته ، لأنه أزال امتناعه ، وإذاً تتعين ذكاته للقدرة عليه ، فلما رماه الثالث فقتله لم يؤكل ، لأن ذاته بذبحه أو نحره ، ولم يوجد واحد منهما .
وكلام الخرقي محمول على أن من أثبته لم يوحه ، ولذلك نسب القتل إلى الثالث ، وعلى أن الثالث لم يذبحه ، ولذلك أتى بلفظ القتل في حقه ، أما إن كان المثبت له جرحه موحياً ، وجرح الثالث غير موح فإنه يحل بلا ريب ، لأنه قد صار بالجرح الأول في حكم المذبوح ، فلم يؤثر الثاني شيئاً ، وكذلك إن كان جرح الثالث
____________________
(3/245)
موحياً لذلك ، وخرج التحريم من قول الخرقي فيمن ذبح فأتى على المقاتل ، فلم تخرج الروح حتى وقعت في ماء ، أو وطىء عليها شيء لم تؤكل ، وقوله أيضاً فيما إذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل ، وأما إن كان الثالث أصاب مذبحه فإنه يحل ، لمصادفته محل الذب ، نعم إن قيل أن من ذبح ملك الغير لا يحل ، فكذلك ههنا .
قال : وكان لمن أثبته القيمة مجروحاً على من قتله .
ش : قد علم من هذا أن العاقر له لا شيء له ، لأنه لم يثبت له فيه حق ، لبقائه على امتناعه ، ولا عليه ، لأنه حين ضربه كان مباحاً ، أما من أثبته فله القيمة على قاتله ، لأنه ملكه بالإثبات لإزالته امتناعه ، فالثالث قتل حيواناً مملوكاً لغيره ، فيكون عليه الضمان ، وقد تقدم أن مسألة الخرقي فيما إذا كان المثبت له لم يوحه . وأن القاتل لم يذبحه .
ولنبين ذلك إن شاء اللَّه تعالى بياناً شافياً فنقول : المثبت إن أوحاه فلا شيء على الثالث إلا قيمة ما خرق من جلده ، لأنه هو الذي فوته على المثبت ، وإن كان المثبت لم يوحه فلا يخلو ، إما أن يكون الثالث ذبحه برميته أو لا ، فإن كان قد ذبحه بها فقال الشيخان في ممختصريهما : لا شيء عليه أيضاً إلا قيمة ما خرق من جلده .
وقال في المغني : عليه أرش ذبحه ، كما لو ذبح شاة لغيره ، وهذا أصوب في النظر ، فإن الفرض أن المثبت لم يوحه ، فلو ترك لعاش ، فالثالث فوت حياته ، فيكون عليه أرش ذلك ، وهو تفاوت ما بين قيمته مجروحاً حياً بالجرح الأول ، وبين قيمته مذبوحاً ، وإن لم يكن ذبحه برميته فلا يخلو إما إن يوحيه برميته أو لا ، فإن أوحاه ضمن جميعه ، لأنه حرمه على مالكه ، وحال بينه وبينه ، وكذلك إن لم يوحه ولم يدرح مالكه ذكاته ، أما إن أدرك مالكه ذكاته وذبحه أو تركه فعاش فلا شيء عليه الثالث إلا أرض جرحه ، وإن تركه بلا ذكاة حتى مات بالجرح ( فقيل ) : إن الثالث يضمن جميعه أيضاً ، نظراً إلى أنه مات من جرحين مباح ومحرم ، فاختص الضمان بالمحرم . ( وقيل ) وهو قول القاضي : يضمن نصف قيمته مجروحاً بالجرحين ، مع أرش ما نقصه بجرحه ، لأنه مات من الجرحين ، ومالكه لما ترك ذكاته اختار موته ، فتعلق الضمان بجرحه ، ثم يجب لعى الثالث مع نصف القيمة أرض ما نقه بجرحه ، لانفراده إذاً بالتعدي ، ( وقيل ) وهو اختيار أبي البركات إن الثالث إنما يضمن نصف قيمته مجروحاً بالجرح الأول لا غير ، ويدخل أرش الجرح في بدل النفس ، كما في الجناية على الآدمي ، واللَّه أعلم .
قال : ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فسقطت في حجره فهي له دون صاحب السفينة .
____________________
(3/246)
ش : السمك من المباح ، يملكه من سبق إليه ، فإذا وقع في حجر إنسان فهو له ، لثبوت يد الإنسان على ما في حجره ، وهذا اختيار الخرقي ، وتبعه عليه أبو محمد وغيره ، ( وقيل ) : هو قبل الأخذ على الإباحة ، إذ حجره ملكه ، فهو كما لو وقع في أرضه صيد .
ومفهوم كلام الخرقي أن السمكة لو وقعت في السفينة كانت لمالكها ، وكذلك قال ابن أبي موسى ، وقياس القول الآخر أنها تكون قبل الأخذ على الإباحة .
قال : ولا يصاد السمك بشيء نجس .
ش : كالميتة والعذرة ونحو ذلك ، لما يتضمن من أكل السمك للنجاسة ، وكره أحمد أيضاً الصيد ببنات وَرْدَان معللاً بأن مأواها الحشوش ، وكذلك الصيد بالضفدع ، معللاً بالنهي عن قتله ، وهذا المنع من الخرقي يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة ، وهو المشهور ، وكذلك كلام أحمد يحتمل وجهين ، لأنه كره ذل .
قال : ولا تؤكل ذبيحة مرتد ولا صيده وإن تدين بدين أهل الكتاب .
ش : لأنه كافر لا يقر على كفره ، أشبه عبده الأوثان وقوله : وإن تدين بدين أهل الكتاب . ينبه به على مذهب إسحاق والأوزاعي فإنهما أجازا ذبيحته إذا تدين بدين أهل الكتاب ، وقوله : ( ولا يؤكل صيد مرتد ) . أي ما قتله من الصيد ، أما ما لم يقتله وذكاه من هو من أهل الذكاة فلا إشكال في حله . واللَّه أعلم .
قال : ومن ترك التسمية على صيد عامداً أو ساهياً لم يؤكل .
ش : قد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرقي بين الصيد بالكلب والسهم ، وهو المذهب ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى يعفى عن تركها سهواً في السهم ، إلحاقاً له بالذبح ، بخلاف الكلب ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ترك التسمية على الذبيحة عامداً لم تؤكل ، وإن تركها ساهياً أكلت .
ش : ملخص ذلك أن الخلاف الذي تقدم في الصيد مثله في الذبيحة ، والتوجيه كالتوجيه ، إلا أن الأصحاب لا يختلفون فيما علمت في اشتراط التسمية في ا لصيد مطلقاً ، ثم منهم من المذهب عنده في الذبيحة كذلك ، كأبي الخطاب في خلافه ، ومنهم وهم العامة من فرق بينهما ، ثم منهم من قال بعدم الاشتراط في الذبيحة مطلقاً وهو أبو بكر ، ومنهم من قال بالاشتراط في العمدية دون حالة السهوية وهم الأكثرون ، الخرقي والقاضي في روايتيه ، وأبو محمد وغيرهم .
ووجه الفرق أن اللَّه تعالى أمرنا بالتسمية على الصيد بقوله : 19 ( { واذكروا اسم اللَّه عليه } ) . وكذلك النبي في حديث أبي ثعلبة وعدي وغيرهما ، والذبيحة لم يرد فيها ذلك ، فالأصل عدم الاشتراط ، مع أن عموم قوله تعالى : 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) والظاهر أنهم لا يسمون يقتضي ذلك .
____________________
(3/247)
3523 وقد جاء في حديث رواه ابن منصور في سننه ، عن راشد بن سعد قال : قال رسول اللَّه : ( ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم ) . وقوله تعالى : 19 ( { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللَّه عليه } ) وقد تقدم أن المراد بها الميتة وذبائح المشركين ، وقيل المراد بها ما تعمد ترك التسمية عليه ، بدليل قوله تعالى : ( وإنه لفسق ) . مع أنها متقدمة على قوله : 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) ، ويعضد هذا من جهة المعنى أن الذبح وقع في محله ، فجاز أن يسامح فيه بخلاف الصيد .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) الجاهل بوجوب التسمية لا يعذر ، بخلاف الناسي ، ولذلك أفطر الجاهل بالأكل في الصوم دون الناسي ؛ ( الثاني ) : يشترط قصد التسمية على ما يذبحه ، فلو سمى على شاة وأخذ غيرها فذبحها بتلك التسمية لم يجزئه ، لعدم قصدها بالتسمية ، وكذلك لو رأى قطيعاً فسمى وأخذ منه شاة فذبحها بالتسمية الأولى لم يجزئه ، ولا يشترط أن يقصده بالتسمية صيداً معيناً ، فلو سمى على صيد فأصاب غيره حل ، دفعاً للحرج والمشقة ، نعم هل يشترط قصد الآلة بالتسمية ، فلو سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى بالثاني من غير تسمية لم يجزئه ، لأنه لما تعذر غالباً اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على آلته ، أو لا يشترط كما في الذبيحة ، فإنه لو سمى على سكين ثم ألقاها وأخذ غيرها أجزأه ؟ فيه قولان ، واللَّه أعلم .
قال : وإن ند بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه وقتله أكل .
3524 ش : الأصل في ذلك ما روى رافع بن خديج قال : كنا مع النبي في سفر ، فعند بعير من إبل القوم ، ولم يكن معهم خيل ، فرماه رجل بسهم فحبسه ، فقال رسول اللَّه : ( إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش ، فما فعل منها هذا فافعلوه به هكذا ) . رواه الجماعة ، وزاد الحميدي ( وكلوه ) .
3525 وعليه يحمل حديث أبي العشراء ، عن أبيه رضي اللَّه عنهما قال : قلت : يا رسول اللَّه أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة ؟ قال : ( لو طعنت في فخذها لأجزأك ) . رواه الخمسة .
وقول الخرقي : ندّ بعير : تبع فيه وقعة الحديث ، ويلحق به ما في معناه ، ولهذا عمم النبي الحكم فقال : ( إن لهذه البهائم ) . وقوله : فلم يقدر عليه . هذه صورة المسألة ، وإلا لو قدر عليه وجبت ذكاته ، وقوله : فرماه بسهم أو نحوه ، يحترز به عما
____________________
(3/248)
لو رماه بما لا يجرحه فقتله فإنه لا يباح ، كما إذا قتل بثقل المعراض ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك إن تردى في بئر أو نحوه فلم يقدر على تذكيته ، فجرحه في أي موضع قدر عليه فقتله أكل .
ش : لأنه ساوى البعير إذا ندّ معنى ، فساواه حكماً إذ المعنى فيهما عدم القدرة على الذكاة الأصلية .
3526 ويروى أن بعيراً تردى في بئر فذكي من قبل شاكلته ، فبيع بعشرين درهماً ، فأخذ ابن عمر رضي اللَّه عنهما عشره بدرهمين واللَّه أعلم .
قال : إلا أن يكون رأسه في الماء فلا يجوز أكله ، لأن الماء يعين على قتله .
ش : يعني أن المتردي في بئر أو نحوه إذا كان رأسه في الماء فلا يحل ، لما علل به الخرقي من أن الماء قد أعان على قتله ، وإذاً حصل قتله بسبب مباح ومحرم فغلب جانب التحريم ، وأيضاً من شرط الحل وجود الذكاة المعتبرة أو مايقوم مقامها ، وهنا لم يعلم وجود ذلك ، وبهذا فارق إذا رمى الصيد فوقع في ماء وكان جرحه موحياً ، لأن ثم قد علم وجود السبب ، وشك في المانع .
وقد علم من كلام الخرقي هنا بطريق التنبيه أن من شرط الماء ثم أن يعين على قتل الصيد .
قال : والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء .
ش : يعني في الاصطياد ، فيباح ما صادوه ، خلافاً لمالك في منعه في صيدهم ، بخلاف ذبائحهم ، والحجة عليه ، عموم 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) . وفي أنه يشترط لصيدهم ما يشترط لصيد المسلمين ، وكذلك يشترط لذبيحتهم التسمية حيث اشترطت في المسلمين ، وقد تقدم ، وعن أحمد في هذه المسألة روايتان ، ثم ظاهر كلام الخرقي أن حربي أهل الكتاب كذميهم ، وقد طال أحمد في ذبائح أهل الحرب : لا بأس بها . وحديث عبد اللَّه بن مغفل في الشحم قال : إسحاق أجاد . وحكى ابن المنذر إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ذلك .
وظاهر كلامه أيضاً أن عربي أهل الكتاب كغيره ، وهو إحدى الروايتين . واختيار أبي محمد ، تمسكاً بعموم الكتاب ، ( والرواية الثانية ) وهي المختارة للقاضي وأصحابه لا تباح ذبيحة نصارى العرب ، ومنهم من يحكي الخلاف في بعض العرب ، وقد تقدمت هذه المسألة في النكاح .
وظاهر كلامه أيضاً أن العبرة بالذابح لا بأبويه ، إلا أنه قد نص في النكاح على أن من أحد أبويه غير كتابي لا تؤكل ذبيحته ، ولا تنكح نساؤه ، وقد تقدم الكلام على ذلك واللَّه أعلم .
قال : ولا يأكل ما قتل بالبندق ولا الحجر لأنه موقوذة .
____________________
(3/249)
ش : وكذلك ما في معنى البندق والحجر مما ليس بمحدد ، كالعصا والشبكة والفخ ونحو ذلك ، والأصل في ذلك آية المائدة 19 ( { حرمت عليكم الميتة } ) إلى قوله 19 ( { والموقوذة } ) ، مع القياس على المعراض .
3527 وقد قال ابن عمر رضي اللَّه عنهما في المتقولة بالبندق : تلك الموقوذة .
3528 وعن عبد اللَّه بن المغفل رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه نهى عن الخذف ، وقال : ( إنها لا تصيد صيداً ، ولا تنكأ عدوا ، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ) متفق عليه .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر وإن خرق ، حتى لو قطع الحجر رأس الطائر وذهب به فإنه لا يحل ، وهو كذلك ، لإطلاق ما تقدم .
3529 وعن إبراهيم عن عدي بن حاتم رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( إذا رميت فسميت فخزق فكل ، وإن لم يخزق فلا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت ) . رواه أحمد ، وهو مرسل ، لأن إبراهيم لم يلق عديا ، واعلم أن كلام الخرقي محمول على حجر لا حد له ، أما ماله حد فحكمه حكم سائر المحددات إن أصابت بحدها أبيح وبغيره لم يبح .
قال : ولا يؤكل صيد المجوسي إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له .
ش : أما صيد المجوسي عدا ما لا ذكاة له كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى فإن عدم إباحته إجماع أو كالإجماع ، قال أحمد : لا أعلم أحداً قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة ، وقال أيضاً : هاهنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأساً ، ما أعجب هذا ؟ يعرض بأبي ثور ، وقال إبراهيم الحربي : خرق أبو ثور الإجماع ، فقد حكى هذا الإمام أن ثور خرق الإجماع ، مع أن خلاف الواحد في الاعتداد به نزاع .
وقد دل مفهوم قوله تعالى : 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لم } ) . . على أن طعام غير أهل الكتاب لي حلاً لنا ، وقد دللنا على أن المجوس لا كتاب لهم في النكاح بما فيه كفاية فلينظر ثم ، وأما ما لا يشترط له ذكاة كالسمك ، وما لا يعيش إلا في الماء ، وكذلك الجراد على المذهب فإن صيد المجوس لا يضره ، لأن قصاراه أنه ميتة ، وميتة ذلك حلال .
3530 فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه : ( أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال ) . رواه
____________________
(3/250)
أحمد وابن ماجه والدارقطني لكنه ضعيف ، وهذا واللَّه أعلم السبب في ذكر الخرقي الحوت .
وقد تقدم قول النبي في البحر : ( هو الطهور ماؤه الحل ميتتة ) . قال أحمد : هذا خير من مائة حديث .
3531 وقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : كل من صيد البحر صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي . ذكره البخاري في صحيحه .
( تنبيه ) حكم من لا كتاب له كعبدة الأوثان ونحوهم حكم المجوس بطريق الأولى ، وإنما نص الخرقي على المجوس لوقوع الخلاف فيهم ، وإن كان الخلاف شاذاً .
قال : وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء .
ش : هذا معطوف على قوله : إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له . أي فيؤكل ، وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء فإنه يؤكل ، وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي اللَّه عنهم والخرقي نص على الحيتان اتباعاً للحديث ، فيلحق بذلك كل ما في معناه مما يسمى سمكاً ، أو مما لا يعيش إلا في البحر ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللَّه تعالى واللَّه أعلم .
قال : وإن طفا .
ش : يعني وإن طاف ما مات من الحيتان ، أي علا على وجه الماء ، وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن بعض السلف كرهه ، والمذهب عندنا بلا ريب حله ، قال أحمد : الطافي يؤكل ، وما جزر عنه الماء أجود ، والسمك الذي نبذه البحر لم يختلف الناس فيه ، وإنما اختلفوا في الطافي ، وليس به بأس ، وذلك لعموم ما تقدم .
3532 وعن أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه قال : الطافي حلال .
3533 وعن عمر رضي اللَّه عنه في قوله تعالى : 19 ( { أحل لكم صيد البحر وطعامه } ) . قال : صيده ما أصيد ، وطعامه ما رمى به ، ذكرهما البخاري في صحيحه ، وخرج أبو البركات فيه قولاً أنه لا يباح منه ما مات بلا سبب ، من رواية ضعيفة في الجراد .
3534 ووجه ذلك في الجملة ما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه ) . رواه أبو داود . وهذا نص ، إلا أن الصحيح وقفه على جابر ، قال أبو داود : رواه الثقات
____________________
(3/251)
فأوقفوه على جابر ، وقد أسند من وجه ضعيف .
( تنبيه ) على المذهب هل يكره أكل الطافي ؟ ظاهر كلام أبي محمد الكراهة ، لأنه قال في حديث جابر : إن صح نحمله على نهي الكراهة ، لأنه إذا مات رسب ، فإذا انتن طفا فره لنتنه لا لتحريمه .
3535 قلت : وقد جاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما نحو هذا ، فقال في قوله تعالى : 19 ( { أحل لكم صيد البحر وطعامه } ) . طعامه ميتته إلا ما قذرت منها . ذكره البخاري في صحيحه ، وكلام أحمد السابق محتمل الكراهة وعدمها واللَّه أعلم .
قال : وذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة .
ش : قد تقدم حكم غير المقدور عليه منهما ، أما المقدور عليه منهما فإن ذكاته في الحلق واللبة والذكاة هي الذبح والنحر ، فالذبح في الحلق ، والنحر في اللبة ، وهي الوهدة التي في أصل العنق والصدر ، وهذا واللَّه أعلم إجماع .
3536 وقد شهد له ما روى الدارقطني عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : بعث رسول اللَّه : بديل بن الورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى ( ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق ، وأيام منى أيام أكل وشرب وبعال ) .
3537 وعن عمر رضي اللَّه عنه أيضاً أنه نادى : إن النحر في الحلق واللبة لمن قدر ، وحديث أبي العشراء المتقدم يقتضي أن المعروف عندهم ذلك .
وظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي بقطع الحلقوم وهو مجرى النفس ، والمريء وهو مجرى الطعام والشراب ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير ، لظاهر ما تقدم ، لأنه قطع في محل الذكاة ما لا تبقى الحياة معه ، أشبه ما لو قطع مع ذلك الودجين ، ( والرواية الثانية ) : يشترط مع ذلك قطع الودجين ، اختارها أبو بكر وابن البنا .
3538 لما روي عن ابن عباس وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما قالا : نهى رسول اللَّه : عن شريطة الشيطان ، زاد ابن عيسى : وهي التي تذبح فيقطع منها الجلد ، ولا تفرى الأوداج ، ثم تترك حتى تموت ، رواه أبو داود .
3539 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه كان يقول : ما فرى الأوداج فكله . رواه مالك في الموطأ ، واجتزأ في الكافي بقطع أحد الودجين عنهما ، وحكى
____________________
(3/252)
الرواية على ذلك ، والمعروف في النقل الأول .
( تنبيه ) ( شريطة الشيطان ) وهي الناقة ونحوها التي شرطت أي أثر في حلقها أثر يسير ، كشرط الحجام ، من غير قطع الأوداج ولا إجراء الدم ، وكان هذا من فعل الجاهلية ، وأضيفت إلى الشيطان فإنه حملهم على ذلك ، والفري القطع ، والأوداج جمع ودج ، وهو عرق في العنق ، وهما ودجان في جانبي العنق .
قال : ويستحب أن ينحر البعير ، ويذبح ما سواه من الأنعام .
ش : هذا اتفاق والحمد للَّه وقد قال اللَّه تعالى : 19 ( { فصل لربك وانحر } ) . وقال تعالى : 19 ( { إن اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة } ) .
3540 قال مجاهد : أمرنا بالنحر ، وأمر بنو إسرائيل بالذبح ، ولأن النبي بعث في قوم ما شيتهم الإبل ، وبنو إسرائيل ماشيتهم البقر .
3541 وفي الصحيح أن رسول اللَّه نحر بدنه ، وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده .
قال : فإن ذبح ما ينحر ، أو نحر ما يذبح فجائز .
3542 ش : هذا هو المذهب المعروف لما في الصحيحين من حديث أسماء رضي اللَّه عنها قالت : نحرنا فرساً على عهد رسول اللَّه : فأكلناه . متفق عليه . والظاهر أن مثل هدا لا يخفى على النبي ، ثم حكايتها ذلك تدل على أن هذا كان أمراً مشتهراً بينهم .
قال : وإذا ذبح فأتت على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء ، أو وطىء عليها شيء لم تؤكل .
ش : هذه المسألة نظير مسألة ما إذا رمى الصيد فوقع في ماء ، أو تردى من جبل ، والكلام فيها كالكلام ثم نقلا ودليلاً ، ولا بد أن يلحظ أن الماء والوطء يقتل مثله غالباً ، وقد تقدم نحو ذلك .
قال : فإن ذبحها من قفاها وهو مخطىء ، فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت .
ش : فسر القاضي الخطأ بأن تلتوي الذبيحة عليه ، فتأتي السكين على القفا ، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها ، فيسقط اعتبار المحل ، المتردية في بئر ، أما مع عدم الالتواء فلا تباح ، إذ الجرح في القفا سبب للزهوق ، وهو في غير محل الذبح ، فإذا اجتمع مع الذبح منع الحل ، لخروج الروح بجائز وممنوع منه ، وإذاً يغلب جانب المنع .
____________________
(3/253)
وقد روي عن أحمد ما يعضد هذا التفسير ، فقال الفضل بن زياد : سألت أبا عبد اللَّه عن ذبح القفا ، قال : عامداً أو غير عامد ؟ قلت : عامداً . قال فلا بأس . ففسر غير العمد بالالتواء ، وأبدل أبو البركات لفظ الخطأ بالسهو ، وهو أعم من كلام القاضي ، لدخول غير الإلتواء فيه ، ويقرب من كلام الخرقي ، إلا أن إطلاق الخرقي يدخل فيه حال الجهل اه .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا فعل ذلك عمداً أنها لا تؤكل ، وهو منصوص أحمد المتقدم ، لخروج الروح بسبب مباح ومحرم ، فغلب جانب التحريم .
3543 وعن ابن عباس وابن عمر وأنس رضي اللَّه عنهم : إذا قطع الرأس مع ابتداء الذبح من الحلق فلا بأس ، ولا يتعمد ، فإن ذبح من القفا لم تؤكل ، سواء قطع الرأس أو لم يقطع ، ( وحكى القاضي ) والشيرازي وغيرهما رواية أخرى بالإحاطة بشرطه ، وهو اختيار القاضي ، والشيرازي ، وأبي محمد وغيرهم ، لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله ، دليله المتردية ، وأكيلة السبع ، ونحوهما .
وشرط الحل حيث قلنا به أن تأتي السكين على موضع الذبح وفيه حياة مستقرة ، ويعلم ذلك بوجود الحركة القوية قاله القاضي ، ولم يعتبر أبو البركات القوة ، وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أنه لا بد من علم ذلك ، وقال أبو محمد : إن لم يعلم ذلك فإن الغالب البقاء لحدة الآلة . وسرعة القطع ، فالأولى الإباحة ، وإن كانت الآلة كالة ، وأبطأ القطع لم يبح ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا ذبح الشاة وفي بطنها جنين أكلا ، لأن ذكاتها ذكاة جنينها .
3544 ش : لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( ذكاة الجنين ذكاة أمه ) . رواه أبو داود .
3545 وعن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه عن النبي مثله رواه الترمذي ، ورواه أبو داود ، ولفظه قال : قلنا : يا رسول اللَّه ننحر الناقة ، ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين ؟ قال : ( كلوه إن شئتم ، فإن ذكاته ذكاة أمه ) وهذا ظاهره جواز الأكل مطلقاً ، وبين علة ذلك ، وهو كون ذكاته ذكاة أمه ، وهو يبعد رواية من روى ( ذكاة أمه ) بالنصب ، على تقدير : يذكى تذكية مثل تذكية أمه ، ثم حذف المصدر وصفته ، وأقيم المضاف ءليه مقامع ، أو التقير كذكاة أمه ، فحذف الجار ونصب ، وتترجح رواية الرفع من وجه آخر ، وهو أنه لا تقدير فيها ، ورواية النصب لا بد فيها من تقدير ، ثم إن ابن المنذر قد قال : لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذبح غير ما روء عن النعمان ، ( واعلم ) أن
____________________
(3/254)
شرط كون ذكاته ذكاة أمه أن يخرج ميتاً ، أو متحركاً كحركة المذبوح ، أما إن كانت فيه حياة مستقرة فإنه كالمنخنقة ، قاله أبو البركات ، وقال أحمد : إن خرج حياً فلا بد من ذكاته ، لأنه نفس أخرى . ( وعنه ) رواية ( أخرى ) : إن مات بالقرب حل .
قال : أشعر أو لم يشعر .
ش : يعني أن ذكاة الأم عين ذكاة جنينها ، أشعر الجنين أي نبت عليه الشعر أو لم يشعر ، أي لم ينبت عليه الشعر .
3546 وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن ابن عمر رضي اللَّه عنهما وجماعة من التابعين والأئمة رضي اللَّه عنهم قالوا : إن أشعر فذكاته ذكاة أمه ، وإن لم يشعر فلا فنبه الخرقي على عدم التفرقة ، اتباعاً لإطلاق الحديث .
قال : ولا يقطع عضواً مما ذكي حتى تزهق نفسه .
ش : لما تقدم عن النبي أنه قال : ( ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق ) .
3547 وعن عمر رضي اللَّه عنه كذلك ، لأن فيه تعذيباً للحيوان وإنه منهي عنه .
وظاهر إطلاق الخرقي أن هذا النهي على سبيل التحريم ، وإذاً قد يقال : لا يحل أكله على قياس قوله : إذا ذبح فأتى على المقاتل ، ثم وقعت في ماء ، أو وطىء عليها شيء أنها لا تؤكل ؛ إذ الزهوق حصل من مباح وممنوع منه ، وظاهر كلام أبي محمد الكراهة ، لأنه قال : كره ذلك أهل العلم ، ثم قال في العضو : أن الظاهر إباحته .
قال : وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال .
ش : هذا واللَّه أعلم مما لا نزاع فيه ، وقد قال أبو محمد : لانعلم فيه خلافاً ، وقد دخل فيه البصير والأعمى ، والعدل والفاسق ، والمجبوب والأقلف على المذهب .
3548 ( وعنه ) لا تصح ذكاة الأقلف ، اعتماداً في ذلك على ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، والطاهر والجنب ، والناطق والأخرس ، وسيأتيان ، والرجل والمرأة ، والبالغ والصبي ، وقد حكاه ابن المنذر فيهما إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم .
3549 وفي صحيح البخاري وغيره عن نافع أنه سمع ابنا لكعب بن مالك يخبر ابن عمر رضي اللَّه عنهم أن أباه أخبره ، أن جارية لهم كانت ترعى غنماً بالجبيل الذي بالسوق وهو بسلع ، فأبصرت بشاة منها موتاً ، فكسرت حجراً فذبحتها ، فقال لأهله : لا تأكلوا حتى آتي رسول اللَّه فأسأله أو أرسل إليه من يسأله ، فسأل رسول اللَّه فأمره بأكلها والحر والعبد سواء في الاعتبار اه .
____________________
(3/255)
ويشترط مع الإطاقة للذبح العقل فلا تصح ذكاة مجنون ولا طفل ولا سكران ، لانتفاء القصد منهم المعتبر في الذكاة شرعاً .
قال : إذا سموا أو نسوا التسمية .
ش ؛ لما تقدم هذا ، وأن مذهب الخرقي اشتراط التسمية في العمد دون السهو ، وإنما نص الخرقي على ذلك ليصرح بأن حكم أهل الكتاب حكم المسلمين في اشتراط التسمية ، وقد تقدم هذا أيضاً والخلاف فيه ، وإن كان الأليق ذكره هنا .
( تنبيه ) إذا لم يعلم أسمى الذابح أم لا أو ذكر اسم غير اللَّه أم لا ؟ فالذبيحة حلال ، لعدم الوقوف من ذلك على كل ذابح .
3550 وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : إن قوماً قالوا لرسول اللَّه : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم اللَّه عليه أم لا ؟ قال : ( سموا عليه أنتم وكلوه ) قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر . رواه البخاري ، وأبو داود ولفظه قالوا : يا رسول اللَّه إن قوماً حديث عهد بكفر ، وذكره بمعناه .
قال : فإن كان أخرس أومأ إلى السماء .
ش : قد دل على حل ذبيحة الأخرس . وقد حكاه ابن المنذر إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم ويشترط له ما يشترط للناطق من التسمية ، إلا أنه لما تعذر النطق في حقه أقيمت إشارته مقام نطقه ، كما أقيمت مقام ذلك في سائر تصرفاته .
وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا بد من الإشارة إلى السماء ، لأن ذلك علم على قصد تسمية الباري سبحانه وتعالى .
3551 وهذا كما قال النبي للجارية : ( أين اللَّه ) ؟ فأشارت إلى السماء ، فقال : ( من أنا ) ؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول اللَّه وإلى السماء ، أي أنت رسول اللَّه ، فقال رسول اللَّه : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) فجعل رسول اللَّه إشارتها إلى السماء علماً على الوحدانية ، وإلى رسالته ، وحكم بإيمانها ، قال أبو محمد : ولو أشار الأخرس إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافياً ؛ قلت : وهذا يقتضي أن التنبيه السابق في حال الغيبة ، أما في حال الحضور فلا بد من العلم أو الظن بوجود التسمية .
قال : وإن كان جبناً جاز أن يسمي ويذبح .
ش : لبقاء أهليته ، إذ الجنابة لا تخرجه عن الإسلام ، وقد قال ابن المنذر : لا أعلم أحداً منع من ذلك . ويسمي كما يسمي عند اغتساله ، لأن الذي منع منه هو قراءة القرآن ، وليس المقصود بالتسمية على الذبيحة القراءة .
____________________
(3/256)
قال : والمحرم من الحيوان ما نص اللَّه عز وجل عليه في كتابه .
ش : الذي نص اللَّه عز وجل عليه في كتابه هو قوله سبحانه : 19 ( { حرمت عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير اللَّه به } ) . إلى آخرها . ولا نزاع في تحريم هذه الأشياء في الجملة ، ( أما لحم الخنزير ) فلا ريب في تحريمه ، وكذلك بقية أجزائه ، اعتماداً على الإجماع ، أو أن الشحم ونحوه داخل في مسمى ذكر اللحم لكونه صفة له ، بدليل قوهم : لحم سمين . أي لحم شحيم ، أو أن ذكر اللحم خرج مخرج الغالب ، لأنه معظم ما يقصد ، مع ما فيه من مراغمة الكفار الذين يتدينون بأكل لحمه ، ( وأما الميتة ) فيستثني منها ما استثناه المبيّن لكتاب ربه وهو الحوت والجراد ، ويلحق بالحوت ما في معناه مما يسمى سمكاً ، أو مما لا يعيش إلا في البحر ، أو مما مات فيه على ما تقدم نعم بقي النظر في الطافي فإن عموم الآية يقتضي تحريمه .
3552 وعموم قوله : لما سئل عن التوضىء بماء البحر ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) يقتضي إباحته ، فلا بد من مرجح ، ( فقد يقال ) بترجيح عموم الكتاب لقوته ، ولهذا قيل : إن عموم الكتاب لا يتخصص بالسنة ، وبما تقدم من حديث جابر رضي اللَّه عنه ( وما مات فيه وطفا فلا تقربوه ) .
3553 وبما روي عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال : ما طاف من صيد البر فلا تأكله ، ( وقد يقال ) بترجيح عموم السنة ، لأن عموم الكتاب قد دخله التخصيص ولا بد ، بخلاف عموم السنة فإنه قد شك في تخصيصه ، والأصل عدم التخصيص ، وبما تقدم من قول أبي بكر رضي اللَّه عنه : الطافي حلال .
3554 وقول عمر رضي اللَّه عنه في قوله سبحانه : 19 ( { أحل لكم صيد البحر وطعامه } ) قال : صيده ما أصيد ، وطعامه ما رمى به . وهذا تفسير من عمر رضي اللَّه عنه ، وإذاً يكون مخصصاً لقوله تعالى : 19 ( { حرمت عليكم الميتة } ) . وتكون السنة عاضدة لهذا التفسير ، وما روي عن علي رضي اللَّه عنه فلا يعرف أصله ، وحديث جابر الصحيح وقفه عليه ، وقد قال بعضهم : إن الآية الكريمة لا تخصيص فيها ، بل وردت على ما يتعارفه الناس في العادة ، والعرف في السمك أنه لا يطلق عليه ميتة ، ولهذا إذا قيل : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد ، وكذلك إذا قال أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال .
وقد أدخل بعضهم في الآية الكريمة الأجنة ، وقد تقدم الاعتماد على رواية الرفع ، وأن ذكاته عين ذكاة أمه ، وإذاً هي مذكاة لا ميتة على أن رواية النصب تخرج الحديث عن كثير فائدة ، إذ الجنين إذا خرج حياً حياة مستقرة فلا يخفى حكم الذكاة في حقه ، لأنه نفس أخرى .
ومما قيل بدخوله في الميتة جلدها ، ولبنها ، وشعرها ، وعظمها ، والكلام على
____________________
(3/257)
تسليم ذلك أولاً وعلى خروجه بالتخيصيص ليس هذا محله .
وأما الدم فالمراد به ما عدا الكبد والطحال ، إما بالخطاب العرفي ، أو ببيان النبي وقيل : إن ذلك خرج بقوله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى : 19 ( { أو دماً مسفوحاً } ) إذ الكبد والطحال لا يمكن سفحهما فلا يدخلان في الدم المحرم ، ( ومما قيل ) أنه خرج بقوله سبحانه : 19 ( { دما مسفوحاً } ) ما على العروق ، وما يبقى على اللحم من الدم ، ( ومما قيل ) أيضاً بخروجه الذباب ونحوه مما لا دم له سائل ، ولذلك قيل بطهارة ميتته على المذهب ، وبحله في رواية ، وتحريم الخنافس ونحوهنا للخبث .
وأما 19 ( { ما أهل به لغير اللَّه } ) أي الذي رفع عليه الصوت بتسمية غير اللَّه ، كأن يسمى عليه اسم المسيح صلوات اللَّه عليه أو اسم صنم ، ونحو ذلك كما كانوا في الجاهلية يذبحون فيقولون : باسم اللات والعزى ؛ وقد اختلف في حل ما ذبح كذلك ، على قولين للعلماء هما روايتان عن إمامنا ( إحداهما ) وبها قطع أبو محمد ، وحكاه عن القاضي ، وصححها أبو البركات التحريم ، لذلك .
3555 ولما في صحيح مسلم وغيره عن علي رضي اللَّه عنه أنه سمع النبي يقول : ( لعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه ) ، و ( الثانية ) ويحكى ذلك عن الشافعية الحل ، لقوله سبحانه : 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) . وقد علم أنهم يذكرون اسم المسيح ، فيكون المراد بالآية الأولى من عدا أهل الكتاب .
وأما ( المنخنقة ) فهي التي اختنقت بحبل أو غيره ، ( والمتردية ) التي تردت من جبل أو نحوه ، ( والنطيحة ) التي تنطح أو تنطح فتموت ، ( والموقوذة ) التي تقتل ضرباً يقال : وقذتها أقذها وقذا . وأوقذتها أوقذها إيقاذاً . إذا أثخنتها ضرباً ، ( وما أكل السبع ) التي أكل منها السبع ، والعرب تسمي ما قتله السبع ، وما أكل منه وبقيت منه بقية أكيلة السبع ، وهي فريسته ، والحكم في هذه الأربعة أنها إذا أدرك ذبحها على التمام حلت وإلا فلا ، وبيان ذلك أن قوله تعالى : 19 ( { إلا ما ذكيتم } ) إنما يرجع إلى ما تمكن ذكاته ، وهو المنخنقة وما بعدها ، أما الميتة والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير اللَّه به ، فلا يتصور فيه ذكاة ، والمعنى : إلا الشي الذي أدركت ذكاته من هذه الأربعة ، وأصل الذكاة في اللغة تمام الشيء ، ومنه الذكاء في السن والفهم تمامهما ، فتمام السن النهاية في الشباب ، فقبل ذلك أو بعده لا يسمى ذكاء ، وتمام الفهم سرعة القبول ، وذكيت النار ، أتممت إشعالها ، فقوله سبحانه : 19 ( { إلا ما ذكيتم } ) أي ما أدركتم ذبحه على التمام .
واختلف في الذبح على التمام ما هو في هذه الآية ، ( وعن إمامنا ) في ذلك ثلاث روايان . ( إحداهن ) : بأن يكون في ذلك حياة يمكن أن تزيد على حركة المذبوح ، أو
____________________
(3/258)
تتحرك كحركة المذبوح عند الذبح ، ولو بيد أو رجل أو طرف عين ونحو ذلك ، ( الثانية ) : أن ما يمكن أن يبقى معظم اليوم يحل ، وما يعلم موته لأقل منه في حكم الميت ، ( والثالثة ) : ما تيقن أنه يموت من السبب في حكم الميت مطلقاً ، اختارها ابن أبي موسى ، واختار أبو محمد قولاً رابعاً أنها إن تيقن موتها بالسبب ، كأن تعيش زمناً يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح ، وإن كانت مما لا يتيقن موتها فكالمريضة ، متى تحركت وسال دمها حتل وإلا فلا ، وتوجيه هذه لأقوال ، والاتساع في الآية الكريمة يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا الشرح .
وقوله سبحانه : 19 ( { وما ذبح على النصب } ) . أي الحجارة التي كانت لهم يعبدونها ، واحدها نصاب ، و ( على ) قيل بمعنى اللام ، أي وما ذبح لأجل الأصنام ، والذابح للأصنام هم عبادها فالمنع هنا للشرك ، وعلى هذا يحل ما ذبحه الكتابي لعيده أو لكنيسته ونحو ذلك ، وهو مذهبنا ، لعموم 19 ( { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } ) . نعم يكره ذلك على الصحيح ، وعلى هذا تستوي هذه الآية ، قووله تعالى : 19 ( { وما أهل لغير اللَّه به } ) إن قيل : المراد بها ذبائح المشركين ، وظاهر هذه أن المنع إنما كان لأجل الذبح للصنم ، وإذاً فالذبح للكنيسة ونحوها في معناه .
3556 ويؤيده حديث علي رضي اللَّه عنه ( لعن اللَّه من ذبح لغير اللَّه ) وقد قيل : إن الذبح لهذه الأشياء يدخل أيضاً في قوله تعالى : 19 ( { وما أهل لغير اللَّه به } ) وإذاً هذا من ذكر الخاص بعد العام .
قال : وما كانت العرب تسميه طيباً فهو حلال ، وما كانت تسميه خبيثاً فهو محرم ، لقوله تعالى : 19 ( { ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث } ) .
ش : يعني أن اللَّه سبحانه وتعالى نص على تحريم أشياء وقد تقدمت ، وأجمل حل أشياء وتحريم أشياء ، وترك بيان ذلك إحالة على عرف من وقع الخطاب لهم وهم العرب ، والمراد بهم أهل الحجاز من أهل الأمصار ، لأنهم الذين نزل عليهم الكتاب ، ولا عبرة بأهل البوادي ، لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا ، ولو وجد شيء لا يعرفه أهل الحجاز ، رد إلى أقرب الأشياء شبهاً به في الحجاز ، فإن تعذر شبهه بشيء منها فهو مباح ، كذا قاله الشيخان ، لدخوله في قوله تعالى : 19 ( { قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً } ) . الآية .
3557 وعن سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه قال : سئل رسول اللَّه : عن الجبن والسمن والفراء ، فقال : ( الحلال ما أحل اللَّه في كتابه ، والحرام ما حرم اللَّه في كتابه ، وما سكت اللَّه عنه فهو مما عفي عنه ) رواه ابن ماجه والترمذي .
قلت : وقد يستشكل هذا يعني أن الأصل في الأطعمة الحل ، وظاهره مخالف لما
____________________
(3/259)
هو مقرر في الأصول من أن الأصل في الأعيان ( هل هو الحظر ) كما هو اختيار ابن حامد والقاضي والحلواني ، ( أو الإباحة ) كما هو اختيار أبي الحسين الخرزي وأبي الخطاب ( أو الوقف ) كما هو اختيار ابن عقيل وأبي محمد على ثلاثة أقوال ، وبنوا على ذلك أن من حرم شيئاً أو أباحه ، وقال : طلبت دليل الشرع فلم أجد ، فبقيت على حكم الأصل من حضر أو إباحة ، فهل يصح ذلك أم لا ، وكذلك من كان في بريّة لا يعرف شيئاً من الشرعيات ، وهناك فواكه وأطعمة ، فهل تكون في حقه على الإباحة أو الحضر ، وبسط ذلك يحتاج إلى طول .
إذا علم هذا فمن السمتخبثات الحشرات ، كالديدان ، وبنات وردان ، والخنافس ، والفأر والأوزاغ ، والجراذين ، والعقارب والحيات ، ونحو ذلك ، وكذلك القنفذ .
3558 لما في السنن من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال ذكر القنفذ لرسول اللَّه فقال : : ( هو خبيثة من الخبائث ) .
قال : وبسنة رسول اللَّه الحمر الأهلية .
ش : أي والمحرم من الحيوان بسنة رسول اللَّه أشياء منها الحمر الأهلية .
ظ 3559 وذلك لما روى البراء بن عازب رضي اللَّه عنه قال : نهى رسول اللَّه يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية نضيجاً ونيئاً .
3560 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : إن رسول اللَّه نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية .
3561 وعن أبي ثعلبة الخشني رضي اللَّه عنه قال : حرم رسول اللَّه الحمر الأهلية متفق عليهن قال ابن عبد البر : روي عن النبي تحريم الحمر الأهلية علي وعبد اللَّه بن عمر ، وعبد اللَّه بن عمرو ، وجابر والبراء ، وعبد اللَّه بن أبي أوفى ، وأنس ، وزاهر الأسلمي رضي اللَّه عنهم بأسانيد صحاح حسان ، قال : ولا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها ، وقال 16 ( أحمد ) : خمسة عشر من أصحاب رسول اللَّه : كرهوها . واللَّه أعلم .
قال : وكل ذي ناب من السباع .
ش : أي ومن المحرم بسنة رسول اللَّه كل ذي ناب من السباع .
3562 وذلك لما روى أبو ثعلبة الخشني رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه
____________________
(3/260)
نهى عن أكل ذي ناب من السباع . رواه الجماعة .
3563 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( كل ذي ناب من السباع حرام ) . رواه مسلم وغيره ، وهذا نص في أن المراد بالنهي التحريم كما هو ظاهره ، ولا يعارض هذا قوله تعالى : 19 ( { قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرماً } ) . الآية . لأن سورة الأنعام مكية نزلت قبل الهجرة ، وكان القصد بالآية الكريمة الرد على الجاهلية في تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، ولم يكن في ذلك الوقت محرم إلا ما ذكر في الآية ، ثم بعد ذلك حرم أموراً كثيرة كالحمر والبغال وغير ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : وهي التي تضرب أنيابها الشيء وتفرس بها .
ش : هذا تبيين وتوضيح لصاحب الناب من السباع ، ولأنياب مما يلي الرباعيات من الأسنان ، ويدخل في هذا الأسد والنمر والفهد ، والذئب والكلب والخنزير ، والفيل وابن آوى وابن عرس والنمس . وسئل أحمد عن ابن آوى وابن عرس فقال : كل شيء ينهش بنابه فهو من السابع . فكأنه لم يتحقق عنده حالهما ، كما لم يتحقق عنده كال الدبّ ، فقال : إن لبم يكن له ناب فلا بأس به ، وكذلك قال أبو محمد : ينظر فيه فإن كان ذا ناب يفرس به حرم وإلا أبيح ، وقطع أبو بكر بتحريمه ، وقطع أبو محمد في ابن آوى وابن عرس والنمس بأنها من السباع فتحرم ، واختلفت الرواية عن أحمد في الثعلب وسنور البر هل هما محرمان أو مباحان ، على روايتين ، للتردد في كون لهما نابان يفرسان به أم لا .
والشيخ رحمه اللَّه تعالى علل التحليم بكونهما من السباع ، والإباحة بكونهما يفديان في الحرم والإحرام ، ولا يفدي إلا المأكول ، وقد يقال : الفداء للتردد فيهما احتياطاً ، وكذلك اختلف الأصحاب في السنجاب فرآه القاضي مما له ناب فحرمه ، ولم يتحقق ذلك لأبي محمد ، فحكى فيه احتمالاً بالإباحة ، ورجحه اعتماداً على الأصل .
قال : وكل ذي مخلب من الطير .
ش : هذا عطف على ما تقدم .
3564 وذلك لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : نهى رسول اللَّه عن كل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير . رواه مسلم وغيره .
____________________
(3/261)
3565 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : حرم رسول اللَّه يعني يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ، ولحوم البغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير . رواه أحمد والترمذي .
قال : وهي التي تعلق بمخاليبها ( الشيء ) وتصيد بها .
ش : كالعقاب ، والبازي ، والصقر ، والشاهين ، والحدأة ، والبومة ، ونحو ذلك .
قال : ومن اضطر إلى أكل الميتة فلا يأكل منها إلا ما يأمن معه الموت .
ش : أي الميتة التي نص اللَّه تعالى على تحريمها في الآية الكريمة ، وإباحتها في حالة الاضطرار في الجملة إجماع والحمد للَّه ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { إنما حرم عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير اللَّه ، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ، إن اللَّه غفور رحيم } ) وفي آية المائدة : 19 ( { فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم ، فإن اللَّه غفور رحيم } ) . ولا نزاع في إباحة ما يؤمن معه الموت ، كما أنه لا نزاع في تحريم ما زاد على الشبع ، لانتفاء الاضطرار المبيح إذاً ، وفي الشبع روايتان أنصهما وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار عامة الأصحاب ليس له ذلك ، لأن اللَّه سبحانه حرم الميتة أولاد ، ثم أباح ما اضطررنا إليه بقوله تعالى : 19 ( { فمن اضطر } ) . وفي آية أخرى 19 ( { إلا ما اضطررتم إليه } ) . ومع أمن الموت لا اضطرار ، ويؤيده ذلك قوله سبحانه : 19 ( { غير باغ ولا عاد } ) . أي ولا عاد سد لجوعه ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه عنه الشيخ وغيره ، والذي رأيته في التنبيه ظاهره الرواية الأولى له ذلك .
3566 لما روى جابر بن سمرة رضي اللَّه عنه أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهله وولده ، فقال رجل : إن لي ناقة لي ضلت ، فإن وجدتها فأمسكها . فوجدها فلم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت امرأته : انحرها . فأبى ، فنفقت ، فقالت : اسلخها حتى نقدد حتى شحمها ولحمها ونأكله . فقال : حتى أسأل رسول اللَّه فأتاه فسأله فقال : ( هل عندك غني يغنيك ؟ ) قال : لا . قال : ( فكلوه ) . قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك . رواه أبو داود ، فأطلق رسول اللَّه الأكل ، ولم يقيده بما يسد الرمق .
وفرق أبو محمد بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة كاحل الأعرابي فيجوز له الشبع ، اتباعاً لإطلاق الحديث ، إذ لو اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب ، وأفضى إلى ضعف بدنه ، وربما أدى ذلك إلى تلفه ، وبين ما إذا لم يكن مستمرة فلا يجوز له الشبع ، لانتفاء المحذور المتقدم ، وعملاً بمقتضى الآية .
____________________
(3/262)
إذا تقرر هذا ، فمعنى الاضطرار أنه متى ترك الأكل خاف التلف ، قال 16 ( أحمد ) : إذا كان يخشى على نفسه ، سواء كان من جوع ، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي ، وانقطع عن الرفقة فهلك ، أو يعجز عن الركوب فيهلك . ومقتضى هذا أنه يجوز له الشبع إذا كان سد الرمق يقطعه عن الرفقة ، أو يعجزه عن الركوب ( فيهلك ) ، وهو مقتضى كلام الخرقي ، وظاهر الآية الكريمة ، لأنه والحال هذه مضطر .
ولم يفرق الخرقي رحمه اللَّه بين الحاضر والمسافر وهو كذلك ، اعتماداً على ظاهر الآية ، ولأن الاضطرار قد يكون في الحضر في سنة المجاعة ، ( وعن أحمد ) أنه قال : أكل الميتة إنما يكون في السفر ، قال أبو محمد : يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال ، قال : وهذا من أحمد خرج مخرج الغالب ، إذ الغالب وجود الطعام الحلال في الحضر ، ودفع الضرورة بالسؤال ، قلت : وظاهر هذا التقرير أن الميتة لا تباح لمن يقدر على دفع الضرورة بالمسألة ، وقد قال أبو محمد : إنه ظاهر كلام أحمد . اه .
وكلام الخرقي في شموله للمسافر يشمل السفر الجائز والمحرم ، وهو اختيار صاحب التلخيص ، وقال عامة الأصحاب : لا يباح للعاصي بسفره تناول الميتة بحال . وأصل هذا أن قوله تعالى : 19 ( { غير باغ } ) هل هو غير باغ على المسلمين ، أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه ، أو بمن أكلها تلذذاً ؟ فيه ثلاثة أقوال للمفسرين . وكذلك في قوله سبحانه 19 ( { غير متجانف الإثم } ) هل التجانف بالسفر أو بالزيادة على سد الرمق ؟ فيه أيضاً قولان . ويرجح ظاهر إطلاق الخرقي بقوله تعالى : 19 ( { لا ما اضطررتم إليه } ) فإنه أطلق فيه ، وبقوله تعالى : 19 ( { ولا تقتلوا أنفسكم } ) وبأن أكل الميتة عزيمة واجبة ، حتى لو امتنع كان عاصياً ، كما هو المشهور من الوجهين لهذه الآية وهو ظاهر كلام أحمد .
3567 قال في رواية الأثرم وقد سئل عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل ، فذكر قول مسروق : ومن اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار . وعلى هذا اعتمد صاحب التلخيص ، وقد يقال أن أصل هذا الخلاف أن المسكين إذا امتنع من المسألة حتى مات هل يأثم أم لا ؟ قال القاضي : كلام أحمد يقتضي روايتين ، فإن قلنا يأثم وجب الأكل ، وإن قلنا لا يأثم لم يجب الأكل .
( تبيه ) حكم جميع المحرمات حكم الميتة فيما تقدم في الجملة ( والحرة ) أرض تركبها حجارة سود ( وضلت ) أي ضاعت ( ونفقت ) أي ماتت .
قال : ومن مر بثمرة فله أن يأكل منها ولا يحمل ، فإن كان عليها محوطاً فلا يدخل إلا بإذن .
ش : اختلفت الرواية عن إمامنا في هذه المسألة ( فروي عنه ) إباحة ذلك مطلقاً ، أعني سواء كان محتاجاً أو لم يكن ، وسواء أكل من المعلق أو من المتساقط ، وهذه
____________________
(3/263)
ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي وغيره ، وقال القاضي في خلافه الصغير : اختاره عامة أصحابنا ، وقال أبو الخطاب في هدايته : عامة شيوخنا .
3568 وذلك لما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي قال : ( من دخل حائطاً فليأكل ولا يتخذ خبنة ) رواه الترمذي وابن ماجه .
3569 وعن عبد اللَّه بن عمرو رضي اللَّه عنهما قال : سئل رسول اللَّه عن الرجل يدخل الحائط فقال : ( يأكل غير متخذ خبنة ) رواه أحمد ( وعنه ) : لا يحل له ذلك مطلقاً إلا بإذن المالك . . حكاها ابن عقيل في التذكرة .
3570 لعموم ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام ) متفق عليه .
3571 وعن العرباض بن سارية أن رسول الله قال : ( ألا وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن ، ولا ضرب نسائهم ، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم ) أخرجه أبو داود . وغاية هذين عموم فنخصه بما تقدم ، ( وعنه ) جواز ذلك من المتساقط دون غيره .
3572 لما روى رافع بن عمرو ، قال : كنت أرمي نخل الأنصار ، فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله فقال : ( يا رافع لم ترم نخلهم ؟ ) قلت : يا رسول الله الجوع . قال : ( لا ترم ، وكل ما وقع ، أشبعك الله وأرواك ) . وقد يقال : إن الرسول علم أنه يسقط من نخلهم ما يشبعه ، وكيف لا يحصل له الشبع ، وقد حصل له دعاء النبي ، ومع حصول ذلك فلا حاجة إلى الرمي ، لأنه نوع إفساد ، ( وعنه ) يحل له ذلك لحاجة ، ولا يحل لغير حاجة .
3573 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، عن النبي أنه سئل عن التمر المعلق ، فقال : ( ما أصاب منه من ذي الحاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ، ومن أخرج منه شيئاً فعليه غرامة مثليه ، والعقوبة ) رواه الترمذي وحسنه . ( وعنه ) إن كان مضطراً أكل وإلا لم يأكل . . حكاها القاضي في الجامع وغيره ، وهي ظاهر كلامه في رواية أبي طالب ، وسئل إذا لم يكن تحت الشجرة شيء يصعد ؟ فقال : لم أسمع يصعد ، فإن اضطر أرجو أن لا يكون به بأس ، ( وهذه الرواية ) قد تحمل على أن المراد بالضرورة الحاجة ، لأن أبا محمد صرح بأنه هنا لا يعتبر حقيقة الاضطرار ،
____________________
(3/264)
والظاهر حملها على ظاهرها ، وأن المراد بالضرورة هنا الضرورة المبيحة للميتة ، ولهذا قال القاضي هنا بعد أن ذكر الرواية : وعندي أنه يباح له الأكل إذا احتاج إلى ذلك ، مثل أن تشتهي نفسه الثمرة وتلتهف عليها ، ولا شيء معه لشرائها ، ولا يجد من يبيعه إياها نسيئاً ، لا يقال : فلا فائدة في هذه المسألة على هذه الرواية ، لأن غير الثمرة تباح أيضاً عند الضرورة ، لأنا نقول : فائدة ذلك أن الثمرة تباح مجاناً حيث أبيح تناولها ، ( وعنه ) يباح ذلك في السفر دون الحضر ، قال في الرواية صالح وسئل عن ذلك : إنما الرخصة للمسافر ، وهذه الرواية قد تحمل على رواية اشتراط الحاجة .
واعلم أن هذا الخلاف كله في الأكل بفيه دون الحمل كما صرح به الخرقي ، وشهدت به الأحاديث ، وهو أن لا يتخذ خبنة ، وهي ما تحمله في حضنك ؛ وقيل : هو أن يأخذه في خبنة ثوبه ، وهو ذيله وأسفله .
ثم شرط جواز الأكل حيث قيل به أن لا يكون على الثمرة حائط ، نص عليه أحمد والأصحاب ، قال 16 ( أحمد ) : لأنه شبه الحريم .
3574 وبأنه استند في ذلك إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما : إن كان عليها حائط فهو حريم فلا تأكل ، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس ، وسيأتي في الحديث ما يرشد إلى ذلك أيضاً . ( نعم ) إن كان مضطراً جاز له الدخول والأكل ، وفي معنى الحائط الناطور . قاله غير واحد من الأصحاب ، وقال في المغني : قال بعض أصحابنا : الناطور بمنزلة المحوط .
وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بالثمرة ، فلا يثبت هذا الحكم لغيرها من مال الغير ، ولا نزاع في ذلك إلا في صورتين ، فإنه قد اختلف عن إمامنا فيهما ، ( إحداهما ) الزرع ( فعنه ) المنع كغيره من الأموال ، وقال : إنما رخص في الثمار ، وقال : ما سمعنا في الزرع أن يمس منه ، وذلك لأن الثمار النفوس تتشوف إليها رطبة ، بخلاف الزرع ، ( وعنه ) يأكل من الفريك ، إذ العادة جارية بأكله رطباً فأشبه الثمرة ، قال أبو محمد : وكذلك الحكم في الباقلاء والحمص وشبههما مما يؤكل رطباً ، فأما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الأكل منه .
قلت : ولهذه المسألة التفات إلى ما تقدم في الزكاة من أنه يوضع لرب المال عند خرص الثمرة الثلث أو الربع ، ولا يترك له شيء من الزرع إلا ما العادة أكله فريكاً .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) قد علم أن الخلاف إنما هو في الفريك ، وأبو محمد ألحق بذلك ما في معناه كما تقدم وهو حسن ، والشيخان في مختصريهما وغيرهما يحكون الخلاف في الزرع على الإطلاق .
( الثاني ) ظاهر كلام أحمد أن الخلاف في الزرع حيث رخص له في الثمرة ، وأبو البركات جعل الخلاف على الرواية الأولى ، وظاهر كلامه المنع على ما بعدها مطلقاً .
____________________
(3/265)
( الصورة الثانية ) شرب لبن الماشية ، فيه أيضاً روايتان ، ( إحداهما ) له أن يحلب ويشرب ولا يحمل ، اختارها أبو بكر .
3575 لما روى الحسن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي قال : ( إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب ، وإن لم يكن فليصوت ثلاثاً ، فإن أجابه فليستأذنه ، فإن أذن له فليحتلب وليشرب ولا يحمل ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، وقال ابن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح .
3576 وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي قال : ( إذا أتى أحدكم حائطاً فأراد أن يأكل فليناد : يا صاحب الحائط . ثلاثاً ، فإن أجابه وإلا فليأكل ، وإذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد : يا صاحب الإِبل ، أو يا راعي الإِبل . فإن أجابه وإلا فليشرب ) رواه أحمد وابن ماجه .
( والثانية ) ليس له ذلك ، نص عليه .
3577 مفرقاً بينه وبين الثمر بأن أكل الثمر فعله غيره واحد من أصحاب النبي .
3578 ومستدلًا على المنع هنا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وقال : هو أجود إسناداً ، وهو ما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه ، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتقل طعامه ، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم ، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ) متفق عليه . ( قلت ) : وقد يحمل على ما إذا كان صاحبها فيها ، توفيقاً بين الحديثين .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) الخلاف أيضاً في الماشية حكاه أبو البركات على الرواية الأولى ، وينبغي أن يكون حيث أبيح الأخذ ، ( الثاني ) إذا جوزنا الأكل من الثمار وغيرها فقال أبو محمد : الأولى أن لا يأكل إلا بإذن ، للخلاف والأخبار الدالة على التحريم ، ( قلت ) : وينبغي أن يتقيد جواز الحلب والشرب من الماشية بما إذا صوت بصاحبها ثلاثاً فلم يجبه ، كما في الحديث ، وقد نص أحمد على ذلك فقال : ناد ثلاثاً ، فإن أجابك وإلا فاشرب .
قال : ومن اضطر فأصاب ميتة وخبزاً لا يعرف مالكه أكل الميتة .
ش : هذا منصوص أحمد ، وبه قطع عامة الأصحاب ، منهم أبو محمد في المغني ، لأن الميتة منصوص عليها ، ومال الغير مجتهد فيه ، والمنصوص عليه أولى ،
____________________
(3/266)
ولأن حق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة ، بخلاف حق الآدميين .
ولأبي محمد في المقنع احتمال بجواز أكل طعام الغير ، بشرط أن لا تقبل نفسه الميتة ، وبه جزم في الكافي لأنه والحال هذه عليه ضرر في أكل الميتة ، وإنه منفي شرعاً .
قال : فإن لم يصب إلا طعاماً لم يبعه مالكه أخذه منه قهراً ، ليحيي به نفسه ، وأعطاه ثمنه ، إلا أن يكون صاحبه مثل ضرورته .
ش : إذا لم يجد المضطر إلى طعام الغير فلا يخلو إما أن يكون صاحبه مضطراً إليه أيضاً أو لا ، فإن كان صاحبه مضطراً إليه فهو أحق به ، وليس لأحد أخذه منه ، لمساواتهما في الضرورة ، ويرجح المالك بالملك ، وقد أشار النبي إلى ذلك حيث قال : ( ابدأ بنفسك ) وإن لم يكن مضطراً إليه لزمه أن يبذل للمضطر ما يسد رمقه على المذهب ، أو قدر شبعه على رواية بقيمته ، لما فيه من إحياء نفس آدمي معصوم ، أشبه بذلك منافعه في إنجائه من الغرق ونحو ذلك ، فإن امتنع من ذلك فللمضطر أن يأخذ منه ما يسد رمقه أو قدر شبعه ولو قهراً ، حتى لو قتل صاحب الطعام فهو هدر ، ولو قتل المضطر ضمنه صاحب الطعام ، لأنه والحال هذه مستحق له دون مالكه ، ويلزمه عوض ما أخذ ، فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته .
وقول الخرقي : فإن لم يصب إلا طعاماً لم يبعه مالكه . إلى آخره ، ظاهره أنه لو وجد ميتة وطعاماً وامتنع صاحبه من بذله له ببيع أو غيره لم يجز له أخذه منه قهراً ، وهو كذلك ، لأنه لم يتعين طريقاً لإِحياء نفسه ، ( وقوله ) : لم يبعه مالكه أخذه قهراً . مقتضاه أنه لو باعه له لم يكن له أخذه منه قهراً وهو واضح ، وفي معنى ذلك إذا بذله له مجاناً .
وكلام الخرقي يشمل ما إذا باعه له بأكثر من ثمن المثل ، وهو مختار أبي محمد في المغني ، وجوز القاضي والحال هذه أخذه قهراً وقتاله عليه ، وعلى كلا القولين لا يلزمه أكثر من ثمن مثله ، لأنه صار مستحقاً له بذلك ( ثم قول الخرقي ) : لم يبعه . يريد البيع الشرعي ، فلو امتنع المالك من البيع إلا بعقد ربا كان للمضطر أخذه قهراً ، على ظاهر كلام الخرقي ، ونص عليه بعض الأصحاب ، معللًا بأن عقد الربا محظور لا تبيحه الضرورة ، والمقاتلة والحال هذه طريق أباحه الشرح ، نعم إن لم يقدر على قهره دخل في العقد ملافظة وعزم على أن لا يتم عقد الربا ، بل إن كان نسأ عزم على أن العوض الثابت في الذمة يكون قرضاً ، وقال بعض المتأخرين : لو قيل : إن له أن يظهر معه صورة الربا ولا يقاتله ، بل يكون بمنزلة المكره فيعطيه من عقد الربا صورته لا حقيقته لكان أقوى .
____________________
(3/267)
وقوله : وأعطاه ثمنه . وبعضهم يقول قيمته ؛ والأجود عوضه ، وهي عبارة المغني ، لشمولها المثلي والمتقوم .
قال : ولا بأس بأكل الضب .
3579 ش : لما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله سئل عن الضب فقال : ( لا آكله ولا أحرمه ) وفي رواية لمسلم أنه قال : ( كلوه فإنه حلال ، ولكنه ليس من طعامي ) .
3580 وقال أبو سعيد رضي الله عنه كنا معشر أصحاب محمد لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة .
قال : والضبع .
3581 ش : لما روي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمار قال : قلت لجابر : الضبع أصيد هي ؟ قال : نعم . قلت : آكلها ؟ قال : نعم . قلت : أقاله رسول الله ؟ قال : نعم . رواه الخمسة وصححه الترمذي والبخاري ، واحتج به أحمد ، ولفظ أبي داود : عن جابر رضي الله عنه سألت رسول الله عن الضبع فقال : ( هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم ) وبهذا يتخصص عموم النهي عن كل ذي ناب من السباع إن سلم أن له ناباً ، وقد قيل : إنه لا ناب له ، وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس .
قال رحمه الله : والثعلب .
ش : قد تقدمت الروايتان في الثعلب ، وأن الخلاف فيه للتردد فيه هل هو من السباع العادية فيدخل في عموم النهي ، أم لا فيبقى على أصل الإِباحة ، والشريف أبو جعفر يختار إباحته كالخرقي ، و أبو محمد يقول : إن أكثر الروايات عن أحمد رضي الله عنه التحريم ، والله أعلم .
قال : ولا يؤكل الترياق ، لأنه يقع فيه لحوم الحيات .
ش : الترياق دواء مركب يتعالج به من السم وغيره ، وقد علل الخرقي المنع منه لما فيه من لحوم الحيات ، وقد تقدم أن ذلك من الخبائث الممنوع منها ، وفي كلام الخرقي إشارة إلى أنه لا يجوز التداوي بمحرم ، ولا ريب في ذلك عندنا .
3582 لما روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إن الله تعالى أنزل الداء والدواء ، وجعل لكل داء دواء ، فتداووا ولا تداووا بحرام ) . رواه
____________________
(3/268)
أبو داود .
3583 وعن وائل بن حجر ، أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي عن الخمر فنهاه عنها ، فقال : إنما أصنعها للدواء . فقال : ( إنه ليس بدواء ولكنه داء ) رواه مسلم وغيره .
3584 وقال ابن مسعود رضي الله عنه في المسكر : إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم . رواه البخاري .
قال : ولا يؤكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم إذا علم أن السم أعان على قتله .
ش : لأنه مات من سبب مباح وهو السهم ، ومحرم وهو السم ، فلم يبح كما لو مات من رمية مسلم ومجوسي ، وكما لو رماه فوجده غريقاً في الماء ، وقد دل على الأصل قول النبي : ( وإن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكله ، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يعلم أن السم أعان على قتله أنه يباح وله صورتان ، تارة يعلم عدم إعانته وتارة يشك ، وهو كذلك ، لأن سبب الحل قد وجد ، وشك في المحرم ، والأصل عدمه ، وكأن مراد الخرقي رحمه الله بالعلم هنا الظن ، لإناطة الأحكام بغلبة الظن كثيراً ، وكذا قال الشيخان في مختصريهما ، وإن كان أبو محمد لم ينبه على ذلك في شرح الكتاب والله أعلم .
قال : وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر لم يؤكل إذا مات في بر أو بحر .
ش : وذلك ككلب الماء وطيره والسلحفاة ونحو ذلك ، لأنه حيوان له نفس سائلة ، يعيش في البر ، فأشبه بهيمة الأنعام ، ولمفهوم ( أحل لنا ميتتان ) وسيأتي ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار عامة الأصحاب . ( والرواية الثانية ) وعن بعض الأصحاب أنه صححها أنه يحل ميتة كل بحري ، لقول النبي في البحر : ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) وهو حديث صحيح ، تقدم الكلام عليه في أول الكتاب ، قال أحمد : هذا خير من مائة حديث . وهو شامل لكل ما مات في البحر .
3585 وعن شريح من أصحاب النبي قال : قال رسول الله : ( إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم ) رواه الدارقطني ، وذكره البخاري عن شريح موقوفاً .
3586 وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : كل ما في البحر قد ذكاه الله تعالى لكم . واستثنى أبو محمد في المغني السرطان ، فأباحه من غير ذكاة ،
____________________
(3/269)
معللًا بأن مقصود الذبح إخراج الدم ، وتطييب اللحم بإزالته عنه ، والسرطان لا دم فيه ، فلا حاجة إلى ذبحه ، وظاهر كلامه في المقنع الصغير وغيره من الأصحاب جريان الخلاف فيه ، وظاهر كلام أبي محمد أيضاً استثناء الطير وأن شرط حله الذكاة بلا خلاف ، لأنه جعله أصلًا قاس عليه ، وقال : لا خلاف فيه فيما علمناه .
ومفهوم كلام الخرقي أن ما لا يعيش إلا في البحر تباح ميتته ، ويحل بلا ذكاة ، وهو يشمل شيئين ( أحدهما ) السمك ، ولا نزاع في حل حل ميتته ما عدا الطافي على ما تقدم ، لقول النبي : ( أحل لنا ميتتان ودمان ، فالميتتان الحوت والجراد ، والدمان الكبد والطحال ) وغير الحوت مما يسمى سمكاً في معناه ، مع ما تقدم من قول النبي في البحر : ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) وغير ذلك . ( الثاني ) ما عدا السمك مما لا يعيش إلا في البحر ، وفيه روايتان . ( إحداهما ) وبها قطع أبو محمد في كتبه ، بل قال في كتابه الكبير : لا نعلم فيه خلافاً . وهي ظاهر كلام الخرقي أنه يحل بلا ذكاة ، لحديثي أبي هريرة وشريح .
3587 وفي الصحيح أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر ، فأكلوا منها شهراً حتى سمنوا وادهنوا ، فلما قدموا على النبي أخبروه ، فقال : ( هو رزق أخرجه الله لكم ، فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا ) ( والرواية الثانية ) وهي ظاهر اختيار جماعة من الأصحاب لا يحل شيء من ذلك إلا بالذكاة ، نظراً لتخصيص حديثي أبي هريرة وشريح بمفهوم ( أحل لنا ميتتان الحوت والجراد ) فإن التخصيص بالحوت يدل على نفي الحكم عما عداه ، وإنما ألحق بالحوت ما يسمى سمكاً بقياس أن لا فارق ، وقد يمنع صاحب الرواية الأولى هذا المفهوم ، لأنه مفهوم لقب وهو غير حجة ، ولو قيل بحجيته فلا يقاوم عموم ما تقدم ، ولصاحب الرواية الثانية أن يقول : حدثنا أبي هريرة وشريح قد دخلهما التخصيص باتفاقنا بما يعيش في البر ، فالتخصيص بمفهوم الحديث في الصورتين ، أولى من إخراج أحد الصورتين بقياس يعارضه العموم مع أنه طردي .
( تنبيه ) كلام الخرقي السابق في الحوت إذا مات في البحر أنه يحل ، فقد يقال مفهوم أنه إذا مات في البر أنه لا يحل ، وليس كذلك بالاتفاق والله أعلم .
قال : وإذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه نجس .
ش : ما أشبهه من اللبن والخل ونحو ذلك ، وعموم هذا يشمل القليل والكثير ، وما أصله الماء كالخل ونحوه وغيره ( وهذا إحدى الروايات ) واختيار عامة الأصحاب .
3588 لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن ميمونة رضي الله عنهما أن رسول الله سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال : ( إن كان جامداً ألقوها
____________________
(3/270)
وما حولها ، وإن كان مائعاً فلا تقربوه ) . رواه أبو داود والنسائي ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه ، رواه أحمد وأبو داود ، وقد احتج أحمد بهذا الحديث ، وثبته محمد بن يحيى الذهلي والمائع يشمل القليل والكثير ، وهو حكاية حال مع قيام الاحتمال ، فينزل منزلة العموم في المقال ، لا يقال : هذا خرج على ما يتعارفه أهل المدينة ، ولم يكن عند أهل المدينة وعاء في الغالب يبلغ خمسمائة رطل ونحوه ، لأنا نقول الخطاب وإن وقع لأهل الحجاز ، فالحكم لا يخصهم بل يعمنا أيضاً ، فلا احتيج إلى تفصيل لفصل النبي ( والرواية الثانية ) أن حكم المائع حكم الماء ، اختارها أبو العباس ، نظراً إلى أن المعروف في الحديث : ( ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ) أما التفرقة بين المائع وغيره فضعيف ، وبأنه خرج على المعتاد لأهل الحجاز ، وهم لا يعتادون السمن إلا في أوان صغار ، ( والرواية الثالثة ) ما أصله الماء كالخل ونحوه حكمه حكم الماء اعتباراً بأصله ، وما لا كاللبن ونحوه فلا .
قال : واستصبح به إن أحبّ .
ش : يجوز الاتصباح بالدهن المتنجس في ( إحدى الروايتين ) عن أبي عبد الله ، وهي أشهرهما عنه ، واختيار الخرقي وغيره .
3589 لأن ذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأنه انتفاع أمكن من غير ضرر ، فأشبه الطاهر .
3590 وقد جاء عن النبي في العجين الذي عجن بماء من أبيار ثمود ، أنه نهاهم عن أكله ، وأمرهم أن يعلفوه النواضح ، ( والرواية الثانية ) لا يجوز ، لأنه دهن نجس فلم يجز الاستصباح به كدهن الميتة .
3591 ودليل الأصل أن النبي لما سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ، فقال : ( لا هو حرام ) ولا تفريع على هذه ، أما على الرواية الأولى فيستصبح به على وجه لا يمسه ، ولا تتعدى نجاسته إليه ، بأن يجعل الزيت في إبريق له بلبلة ، ويصب منه في المصباح ولا يمسه ، أو يضع على رأس الوعاء الذي فيه الزيت سراجاً مثقوباً ، ويطينه على رأس الوعاء ، وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء ، بحيث يرتفع الزيت ، حذاراً من تلطخه بالنجاسة .
3592 ولهذا منع أحمد رحمه الله من دهن الجلود به ، وعجب من قول ابن عمر رضي الله عنهما أنه تدهن به الجلود .
____________________
(3/271)
قال : ولم يحل أكله .
ش : هذا مما لا ريب فيه ؛ لأن النجس خبيث ، والله سبحانه وتعالى قد حرم الخبائث ، ولهذا قال النبي : ( فلا تقربوه ) والله أعلم .
قال : ولا ثمنه .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، والمجزوم به عند عامة الأصحاب .
3593 لما في الصحيح أن النبي قال : ( لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم ، فجملوها فباعوها فأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ) ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنه يجوز بيعه لكافر يعلم بنجاسته ، نظراً لاعتقاد الكافر حله .
3594 واعتماداً على أن ذلك روي عن أبي موسى الأشعري ، وخرج أبو الخطاب في الهداية ومن تبعه كصاحب التلخيص وأبي محمد وغيرهما قولًا بجواز بيعه مطلقاً من رواية الاستصباح به ، لأنه إذاً منتفع به ، وضعف لأن المعروف عن أحمد وغيره جواز الاستصباح وتحريم البيع ، فدل على أنهم فرقوا بينهما ، وخرج ذلك أبو البركات على القول بتطهيره بالغسل ، لأنه إذاً كالثوب النجس ، وهذا واضح ، لأنه بناء ضعيف على ضعيف .
وكلام الخرقي كله في الدهن المتنجس ، أما الدهن النجس العين ، كدهن الميتة ، فلا يجوز الانتفاع به باستصباح ولا غيره .
3595 لما في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح : ( إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ) فقيل : أرأيت يا رسول الله شحوم الميتة ، فإنه تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها الناس ، فقال : ( لا ، هو حرام ) ثم قال رسول الله عند ذلك : ( قاتل الله اليهود ، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنه ) لا يقال : يحتمل أن يرجع الضمير إلى البيع ، لأنا نقول : الاستصباح ونحوه أقرب مذكور ، فالرجوع إليه أولى ، ثم الرجوع إلى البيع تأكيد لما علم حكمه وهو التحريم ، بخلاف الرجوع إلى الاستصباح ونحوه ، فإنه لم يعلم حكمه ، فيكون تأسيساً ، ولا ريب أن التأسيس أولى والله أعلم .
____________________
(3/272)
( كتاب الأضاحي )
ش : الأضاحي جمع أضحية ، وإضحية بضم الهمزة وكسرها ، والضحايا جمع ضحية ، وقد أتى الخرقي بهذا الجمع بعد ، والأضحى جمع أضحاة كأرطأة وأرطى ، وبها سمي يوم الأضحى .
قال : والأضحية سنة ، لا يستحب تركها لمن يقدر عليها .
ش : لا نزاع في مشروعية الأضحية ومطلوبيتها ، اقتداء بالنبي فعلًا وقولًا .
3596 فقد صح عنه أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، ووضع رجله على صفاحهما .
3597 وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قلت أو قالوا : يا رسول الله ما هذه الأضاحي ؟ قال : ( سنة أبيكم إبراهيم ) قالوا : ما لنا فيها ؟ قال : ( بكل شعرة حسنة ) قالوا : فالصوف ، قال : ( بكل شعرة من الصوف حسنة ) . رواه أحمد وابن ماجه .
3598 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ( ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد ) رواه الدارقطني ، في أحاديث أخر ، وقد قيل في قوله تعالى : 19 ( { فصل لربك وانحر } ) : المراد الأضحية .
3599 قال الحسن : صلاة يوم النحر والبدن ، وقال عطا ومجاهد : صل الصبح بجمع ، وانحر البدن بمنى ، واختلف في هذه المطلوبية هل تنتهي إلى الوجوب ؟ والمعروف المشهور المنصوص من مذهبنا أنه لا ينتهي إلى ذلك .
3600 لما روي عن جابر رضي الله عنه قال : صليت مع رسول الله عيد الأضحى ، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه ، وقال : ( بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، فمن لم يضح منا
____________________
(3/273)
فقد كفاه تضحية النبي وناهيك بها أضحية .
3601 وعن علي بن حسين ، عن أبي رافع ، رضي الله عنه أن النبي كان يضحي بكبشين يقول في أحدهما : ( اللهم هذا عن أمتي جميعاً ، من شهد لك بالتوحيد ، وشهد لي بالبلاغ ) ويقول في الآخر : ( هذا عن محمد وآل محمد ) قال فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي ، قد كفاه الله المؤمنة برسول الله والغرم . رواه أحمد .
3602 وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال : ( ثلاث كتبت عليّ وهي لكم تطوع ، الوتر والنحر وركعتا الفجر ) رواه الدارقطني . وهو نص إن ثبت .
3603 وفي الصحيح أن النبي قال : ( من أراد أن يضحي فدخل العشر ) الحديث وسيأتي ، فعلق ذلك على الإرداة ، والواجب لا يتعلق على الإرادة ، وحكى أبو الخطاب ( رواية بالوجوب مع الغنى ) وأخذها من نص أحمد على أن للوصي أن يضحي عن اليتيم من ماله قال : فأجراها مجرى الزكاة وصدقة الفطر ، ونازعه أبو محمد في ذلك ، وقال : بل هذا على سبيل التوسعة عليه في يوم العيد ، كما يشتري له في ذلك اليوم ما جرت عادة أمثاله بلبسه . قلت : وهذا حسن ، ويرجحه أنه قال : للوصي أن يضحي . وما قال : عليه أن يضحي له . كما أن عليه أداء الزكاة عنه .
3604 وبالجملة استدل للوجوب بما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ) رواه أحمد وابن ماجه .
3605 وعن مخنف بن سليم عن النبي قال : ( يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة ) رواه أحمد وأبو داود وقال : العتيرة منسوخة . وقد ضعفا ، أما الأول فقال الترمذي والدارقطني وغيرهما : الصحيح وقفه ، وأما الثاني فقال عبد الحق : إسناده ضعيف ، ثم على تقدير صحتهما يحملان على تأكيد الاستحباب ، جمعا بين الأدلة ، وقول الخرقي : سنة لا يستحب تركها . إشعار بتأكيدها .
قال : ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته ( شيئاً ) .
3606 ش : لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله قال :
____________________
(3/274)
( إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره ) رواه الجماعة إلا البخاري ، ولفظ أبي داود وغيره ( فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي ) .
وظاهر كلام الخرقي وابن أبي موسى والشيرازي وطائفة أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، وهو أحد الوجهين ، ونصره أبو محمد ، اعتماداً على ظاهر الحديث ، ( والوجه الثاني ) وهو اختيار القاضي وطائفة أن ذلك على سبيل الكراهة .
3607 لقول عائشة رضي الله عنها : ( كنت أفتل قلائد هدي رسول الله ثم يقلدها بيده ، ثم يبعث بها ، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له حتى ينحر الهدي ) . متفق عليه . ولا ريب أن دلالة الأول أقوى ، لاحتمال خصوصية النبي بذلك ، واحتمال أن قص الشعر ونحوه مما يقل فعله ، إذ لا يفعل في الجمعة إلا مرة واحدة ، فلعل عائشة رضي الله عنها لم ترد بقولها ذلك ثم حديث أم سلمة في الأضحية ، وحديث عائشة رضي الله عنها في الهدي المرسل ، فلا تعارض بينهما ، وعلى هذا إذا فعل فليس عليه إلا التوبة ، ولا فدية إجماعاً .
( تنبيه ) ينتهي المنع بذبح الأضحية ، صرح به ابن أبي موسى وغيره ، لأن المنع لذلك ، فيزول بزواله ، فإذا نحر استحب له الحلق ، قاله ابن أبي موسى والشيرازي .
قال : وتجزىء البدنة عن سبعة وكذلك البقرة .
3608 ش : لما روي جابر رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة . متفق عليه وفي لفظ : قال لنا رسول الله : ( اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة ) رواه البرقاني على شرط الصحيحين . وفي رواية أنه قال : اشتركنا مع النبي في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة ؛ فقال رجل لجابر : أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور فقال : ما هي إلا من البدن . رواه مسلم وهو كذلك .
( تنبيه ) : فلو اشترك جماعة في بدنة أو بقرة على أنهم سبعة فبانوا ثمانية ، ذبحوا معها شاة وأجزأتهم ، وصححه الشيرازي على ما قاله أبو بكر وصاحب التلخيص ، قال الشيرازي وقال بعض أصحابنا : لا يجزىء عن الثامن ، ويعيد الأضحية .
قال : ولا يجزىء إلا الجذع من الضأن ، والثني من غيره .
3609 ش : لما روى جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( لا
____________________
(3/275)
تذبحوا إلا مسنة ، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ) . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي .
3610 وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة ، فقال له رسول الله : ( شاتك شاة لحم ) فقال : يا رسول الله إن عندي داجنا جذعة من المعز . قال : ( اذبحهما ولا تصلح لغيرك ) . متفق عليه .
3611 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي يقول : ( نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن ) . رواه أحمد والترمذي .
3612 وعلى هذا يحمل ما روى مجاشع بن سليم أن النبي قال : ( إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية ) . رواه أبو داود ، أي الجذع من الضأن .
قال : والجذع من الضأن الذي له ستة أشهر وقد دخل في السابع .
ش : قد تقدم الكلام على ذلك في الزكاة ، وأن لنا وجهاً آخر أن الجذع من الضأن ما استكمل ثمانية أشهر ، وقد قال وكيع : الجذع من الضأن يكون ابن ستة أشهر أو سبعة وعرفه الخرقي هنا بصفة يعرف بها عند اشتباه سنّه فقال : وسمعت أبي يقول : سألت بعض أهل البادية : كيف تعرفون الضأن إذا أجذع ؟ قال : لاتزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملًا ، فإذا نامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع .
قال : وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية .
ش : قد تقدم أيضاً الكلام على هذا ، وأن هذا الذي قاله الأصحاب وأن ابن الأثير قال : ما كمل له سنتان .
قال : والبقرة إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة .
ش : لأنه يروى عن النبي أنه قال : ( لا تذبحوا إلا مسنّة ) ومسنة البقر التي لها سنتان ، ورأيت في نسخة من الجامع الصغير أن الثنية من البقر التي كمل لها ثلاث سنين .
قال : والإبل إذا صار لها خمس سنين ودخلت في السادسة .
ش : قال الأصمعي ، وأبو زياد الكلابي ، وأبو زيد الأنصاري : إذا مضت السنة الخامسة على البعير ، ودخل في السادسة ، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني . ويرى أنه يسمى
____________________
(3/276)
ثنياً لأنه ألقى ثنيته ، فظاهر هذا أن أهل اللغة يعتبرون في تسميته ثنياً حين كمال خمس سنين وإلقاء ثنيته ، والفقهاء جعلوا الضابط استكمال خمس سنين .
قال : ويجتنب في الضحايا العوراء البين عورها . والعرجاء البين عرجها ، والمريضة التي لا يرجى برؤها ، والعجفاء التي لا تنقي .
ش : لا إشكال في اجتناب هذه الأربعة في الضحايا ، وأنها لا تجزيء .
3613 لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أربع لا تجوز في الأضاحي ، العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين عرجها وفي لفظ ظلعها والكسيرة التي لا تنقي ) رواه الخمسة وصححه الترمذي وفي لفظ ( والعجفاء التي لا تنقي ) بدل الكسيرة ، وهذا نص .
وفسر الخرقي العوراء بالبين عورها كما في الحديث ، وقال أصحابنا : هي التي انخسفت عينها وذهبت ، إذ العين عضو مستطاب ، فإن كان بها بياض لا يمنع النظر أجزأت ولو نقصه ، وكذلك إن أذهبه على أشهر الوجيهن ، لأن ذلك لا ينقص لحمها ، ( وفسر العجفاء ) بالتي لا تنقي كما في الحديث ، ( والكسيرة التي لا تنقي ) وفي لفظ كما تقدم ( العجفاء التي لا تنقي ) وهي التي لا مخ في عظامها لهزالها ، والنقي المخ ، وهذه بالمنع أجدر من التي قبلها ، لأنها عظام مجتمعة ، ( وفسر العرجاء ) بالبين عرجها كما في الحديث ، وفسر ذلك أبو الخطاب وابن البنا ، وصاحب التلخيص ، وأبو محمد وغيرهم بالتي تعجز عن مصاحبة جنسها في المشي ، والمشاركة في العلف ، لأن ذلك ينقص لحمها ، ويفضي إلى هزالها ، فلو كان عرجها يسيراً لا يفضي بها إلى ذلك ، أجزأت ، وقال أبو بكر وتبعه القاضي في الجامع الصغير ، هي التي لا تطيق أن يبلغ المنسك ، فإن كانت تقدر على المشي إلى موضع الذبح أجزأت .
وفسر الخرقي المريضة بالتي لا يرجى برؤها ، لأن ذلك ينقص لحمها نقصاً كثيراً ويهزلها ، والحديث قال فيه : ( البين مرضها ) أي التي تبين أثره عليها ، واختاره أبو محمد ، معللًا بأن ذلك ينقص اللحم ويفسده ، وقال القاضي ، و أبو الخطاب وابن البنا : المريضة هي الجرباء ، لأن الجرب يفسد اللحم . وأناط أبو البركات وصاحب التلخيص الحكم بفساد اللحم ، وهو أضبط وأشمل ، ولعل القاضي ومن تبعه أرادوا ضرب مثال .
قال : والعضباء .
ش : أي ومما يجتنب في الضحايا العضباء .
2614 وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه قال : ( نهى رسول الله
____________________
(3/277)
أن يضحى بأعضب القرن أو الأذن ) ، قال قتادة : فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال : العضب النصف فأكثر من ذلك . رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وظاهر النهي التحريم والفساد ، وبهذا يتخصص مفهوم ( أربع لا تجوز في الضحايا ) إن سلم المفهوم وأن له عموماً .
قال : والعضب ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن .
ش : العضب القطع مطلقاً ، والعضب المانع هنا هو المذهب لأكثر الأذن أو القرن على أشهر الروايتين . واختيار أكثر الأصحاب ، لأن الأكثر يعطى حكم الكل ، بخلاف اليسير فإنه في حكم العدم ، إذ اعتباره يشق ، وقد تقدم عن ابن المسيب وناهيك به أنه النصف فأكثر ، ولهذا والله أعلم قال أبو محمد في الهدايا إنه النصف ، لكن الأصحاب وهو أيضاً هنا على حكاية المذهب كما تقدم . ( والرواية الثانية ) أن المانع ذهاب الثلث فأكثر ، اختاره أبو بكر ، لتسمية النبي له كثيراً . ومنهم من حكى الرواية على أنه ذهاب أكثر من الثلث ، وملخصه أن للأصحاب في الثلث على هذه الرواية قولين ، كما أنه يتلخص في النصف على الأولى كذلك ، لكن الخلاف في الثلث أشهر من الخلاف ثم .
( تنبيه ) : يفهم من كلام الخرقي أن ما عدا هذه الخمسة لا يجتنب فيجزىء ، وهو كذلك ، إلا أن منها ما جعل في معنى ما تقدم فيمنع من التضحية به ، ويكون قد دخل في كلام الخرقي ، إما بطريق التنبيه ، وإما بطريق المساواة ، ومنها ما اختلف في التضحية به ، ونشير إن شاء الله تعالى إلى طرف من ذلك فمما جعل في معنى الممنوع منه فلا تجوز الأضحية به ( العمياء ) ، فإنها لا تجزىء بلا ريب ، إذ هي أولى بالمنع من العرجاء بلا ريب ، لمنعها من المشي مع جنسها ، ومشاركتها لهم في الرعي ، وما أحسن ما قال أبو البركات : لا تجزىء قائمة العينين . فإنه نبه على أن العلة ما قلناه ، لإذهاب عضو كما في العوراء التي انخسفت عينها ، ومن ذلك ( الجدباء ) وقال السامري : الجدباء . قال أحمد : هي التي قد يبس ضرعها ، لأن ذلك أبلغ من ذهاب شحمة العين ، ومنه على ما قال في التلخيص ( العصماء ) وهي التي انكسر غلاف قرنها ، وفيه شيء ومنه ( الهتماء ) وهي التي ذهبت ثناياها من أصولها ، قاله صاحب التلخيص ، زاعماً أنه قياس المذهب قال : لأن أثر ذهاب الأسنان لا سيما إذا ذهبت كلها أكثر من ذهاب بعض القرن ، وقال : إنه لم يعثر فيه للأصحاب بشيء .
ومما اختلف في التضحية به ( الجماء ) وهي التي لم يخلق لها قرن ، وقال ابن البنا : ولا أذن . فقال ابن حامد : لا يجوز ، لأن ذهاب جميع القرن أبلغ من ذهاب
____________________
(3/278)
بعضه ، وقال القاضي و ابن البنا وأبو محمد وغيرهم : يجوز ، نظراً إلى أن هذا ليس بعيب ، بخلاف كسر بعض القرن ، ومن ذلك ( البتراء ) وهي التي لا ذنب لها قال أبو محمد : سواء كان خلقة أو مقطوعاً ، واختار هو الإجزاء .
3615 وقد روي من حديث الحجاج بن أرطأة ، عن بعض شيوخه ، أن النبي سئل أيضحى بالبتراء ؟ قال : ( لابأس به ) إلا أن هذا منقطع ، مع أن الحجاج ضعيف ، وقطع صاحب التلخيص بالمنع ، وقال : وهي المبتورة الذنب ، وظاهر هذا أنها المقطوعة الذنب ، وقد قال أبو محمد : إن التي قطع منها عضو كالألية لا يجوز التضحية بها ، ومنه أيضاً ( الخصي ) قاله جماعة من الأصحاب منهم الشيخان .
3616 لما روي عن أبي رافع رضي الله عنه قال : ( ضحى النبي بكبشين أملحين موجوءين خصيين ) . وعن عائشة رضي الله عنها نحوه . . . رواه أحمد والوجاء رض الخصيتين ، وما قطعت خصيتاه أو شلتا فكالموجوء ، ولأن الخصاء إذهاب عضو غير مستطاب ، يسمن الحيوان ويطيب لحمه ، بخلاف ذهاب شحمة العين ، وقيد ابن حمدان ذلك تبعاً لصاحب التلخيص بغير المجبوب فظاهره أن المجبوب لا يجزء عندهما . وقد فسر ابن البنا الخصي بالذي قطع ذكره وهو صريح لمخالتهما ، ومن ذلك ( المقابلة ) وهي التي قد انقطع من طرف أذنها قطعة ( والمدابرة ) وهي التي قد انقطع من خلف الأذن مثل ذلك ( والخرقاء ) وهي التي شقت أذنها ، وقال القاضي : التي انثقبت أذنها . ( والشرقاء ) وهي التي تشق أذنها لسمة ، فقال عامة الأصحاب بإجزاء ذلك مع الكراهة ، عملًا بمفهوم حديث البراء بن عازب ( أربع لا تجوز في الأضاحي ) وقال ابن أبي موسى بالمنع في الأربعة ، اتباعاً للنهي عن ذلك .
3617 فعن علي رضي الله عنه قال : ( أمرنا رسول الله أن نستشرف العين والأذن ، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء ) . رواه الخمسة وصححه الترمذي ؛ وهذا منطوق فيقدم على عموم ذلك المفهوم .
قال : ولو أوجبها سليمة فعابت عنده ذبحها وكانت أضحية .
ش : نص أحمد على هذا في رواية صالح .
3618 لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : اشتريت كبشاً لأضحي به ، فعدا الذئب فأخذ الألية قال : فسألت النبي فقال : ( ضح به ) . رواه أحمد وابن ماجه ، ويخرج لنا عدم الإجزاء بناء على القول بوجوب الأضحية ، كما لو
____________________
(3/279)
أوجبها بنذره ثم عينها فعابت ، وقول الخرقي : فعابت . أي عيباً يمنع الإجزاء ، وإلا ما لا يمنع الإجزاء لا يحتاج إلى التنبيه عليه ، وفي قوله : فعابت . إشعار بأنه لو أعانها هو أنها لا تجزيه وهو كذلك .
قال : وإن ولدت ذبح ولدها معها .
ش : حكم ولد المعينة حكمها ، يذبحه كما يذبحها لأنه كجزئها ، ولأنه حكم قد ثبت له بطريق السراية من الأم ، فيثبت له ما ثبت لها كولد أم الولد .
3619 وعن علي رضي الله عنه أن رجلًا سأله فقال : يا أمير المؤمنين إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها ، وإنها ولدت هذا العجل . فقال علي رضي الله عنه : ( لا تحلبها إلا فضلًا عن تيسير ولدها ، فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة ) . رواه سعيد في سننه ، وكذلك قال أبو بكر وغيره من الأصحاب : إذا أوجب سبعة أنفس أضحية ذبحت وولدها عن السبعة ، والضمير في : وإن ولدت . راجع للتي أوجبها ، فلو لم يوجبها كان ولدها له كبقية نمائها ، ثم إن كلامه يشمل الولد الموجود حال التعيين وبعده وهو كذلك .
( تنبيه ) : لو عين أضحية عما ثبت في ذمته فولدت ذبح ولدها معها ، فلو تعيبت الأم فبطل التعيين فيها فهل يتبعها الولد كما يتبعها ابتداء فيبطل التعيين فيه ، أو لا ، لأن البطلان في الأم لمعنى اختص بها ؟ فيه وجهان .
قال : وإيجابها أن يقول : هي أضحية .
ش : لا ريب في صيرورة الحيوان واجباً بقوله هذا أضحية ، لأن هذا هو اللفظ الموضوع لذلك ، أشبه ما لو قال لعبده : هذا حر . ولا يتعين لفظ الأضحية ، بل كل لفظ دل على ذلك كقوله : هذا لله . ونحوه من ألفاظ النذر ، كما هو قاعدة المذهب ، وصرح به الأصحاب ، وقد يتعين بالنية كما في البيع والوقف والهبة ونحوهن ، في رواية ضعيفة . والخرقي والله أعلم إنما أراد بذلك المبالغة في أنه لا يحصل بالنية مع الشراء ، كما يقوله المالكي والحنفي ، وهو احتمال قاله أبو الخطاب ، وذلك لأنه إزالة ملك على وجه القربة ، فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف .
( تنبيه ) : وكذلك حكم الهدي يحصل بقوله : هذا هدي ، أو لله ، ونحو ذلك ، لا بالنية ولو مع سوقه ، ولا بإشعاره وتقليده ، قاله عامة الأصحاب ، وخالفهم أبو محمد فقال بوجوبه بذلك ، جازماً به كما يحصل الوقف ببناء مسجد والإذن في الصلاة فيه والله أعلم .
قال : ولو أوجبها ناقصة وجب عليه ذبحها ولم تجزئه .
ش : إذا أوجب التي اشتراها ناقصة أي نقصاً يمنع الإجزاء وجب عليه ذبحها ، لأن إيجابها كالنذر لذبحها ، فيلزمه الوفاء به ، وصار هذا كنذر هدي من غير
____________________
(3/280)
بهيمة الأنعام ، فلا يجزئه عن الأضحية الشرعية ، لقول النبي : ( أربع لا تجوز في الأضاحي ) ويكون شاة لحم منذورة ، فإن زال عيبها كأن كانت عجفاء فزال عجفها ونحو ذلك أجزأت عن الأضحية ، قاله جماعة من الأصحاب .
قال : ولا تباع أضحية الميت في دينه .
ش : لأن ذبحها قد تعين ، أشبه ما لو كان حياً ، ولأنه خرج عنها لله تعالى في حياته ، أشبه الوقف ، ولم يفرق الأصحاب فيما علمته بين أن يوجبها في حال صحته أو في حال مرضه ، وقد يقال : إن قولهم : إن التبرعات في المرض تعتبر من الثلث وتنقض للدّين المستغرق . يخرج ذلك ، وقول الخرقي : أضحية الميت . يشمل ما إذا أوجبها ، أو ذبحها ثم مات ، فإنها إذاً تتعين بالذبح ، وخرج منه ما إذا عدم ذلك ، كما لو اشتراها بنية الأضحية ثم مات ، فإنها تباع في دينه لانتفاء تعيينها بذلك على المذهب .
قال : تعيينها بذلك على المذهب .
قال : ويأكلها ورثته .
ش : يعني على الوجه المشروع في الأكل كما سيأتي ، لقيامهم مقامه والله أعلم .
قال : والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته ويتصدق بثلثها ويهدي ثلثها .
ش : قال الإمام أحمد : نحن نذهب إلى حديث عبد الله ، يأكل هو الثلث ، ويطعم من أراد الثلث ، ويتصدق على المساكين بالثلث .
3620 قال علقمة : ( بعث معي عبد الله بهديه فأمرني أن آكل ثلثها ، وأن أرسل إلى أهل أخيه بالثلث ، وأن أتصدق بالثلث ) .
3621 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : ( الهدايا والضحايا ثلث لك ، وثلث لأهلك ، وثلث للمساكين ) .
3622 وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في صفة أضحية النبي قال : ( ويطعم أهل بيته الثلث ، ويطعم فقراء جيرانه الثلث ، ويتصدق على السؤال بالثلث ) . رواه الحافظ أبو موسى في ( الوظائف ) وقال : حديث حسن . ولأن الله قال : 19 ( { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } ) .
وظاهر ذلك القسم على ثلاثة .
وقول الخرقي : والاستحباب . ظاهر في أنه لو أكل أو أهدى أو تصدق بأكثر من الثلث جاز ، ولا ريب في ذلك ، نعم كلامه أيضاً يقتضي أنه لو أكلها كلها ، أو أهداها كلها ، أو تصدق بها كلها جاز ، وليس كذلك ، بل الأصحاب على أنه لا يجب الأكل منها ، ويجب أن يتصدق منها ولو بأوقية ، نظراً لقوله تعالى : 19 ( { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } ) . وقوله تعالى : 19 ( { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } ) أمر ، وظاهر الأمر الوجوب ، خرج منه الأكل .
____________________
(3/281)
3623 بدليل ما روى عبد الله بن قرط أن رسول الله قال : ( أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر ) .
3624 وقرب إلى رسول الله خمس بدنات أو ست ينحرهن ، فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها ، فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفهمها ، فسألت بعض من يليني ما قال ؟ قالوا : قال ( من شاء اقتطع ) وظاهر هذا أنه لم يأكل من ذلك شيئاً ، وفيه نظر ، لأن هذه واقعة عين ، والمعتمد أن الأمر بالأكل يرد كثيراً والمراد به الإباحة ، كما في قوله تعالى : 19 ( { كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه } ) . ونحوه فكذلك ها هنا ، بخلاف الأمر بالصدقة ، وغاية ما يقال أنه يلزم إذاً استعمال الأمر في حقيقته ومجازه ، ونلتزمه على أن المندوب مأمور به عندنا حقيقة .
إذا تقرر هذا فالذي يجب عليه الصدقة به هو أقل ما ينطلق عليه الاسم ، قاله جمهور الأصحاب ، نظراً لإطلاق الآيتين المتقدمتين ، وقال أبو بكر في التنبيه : لا يدفع إلى المساكين ما يستحي من توجهه به إلى خليطه . اه ومن لم يأت بالواجب من الصدقة ، بأن أكل الجميع ، أو أهدى الجميع ، فهل يضمن ما كان يجب أن يتصدق به ، أو ما كان يشرع أن يتصدق به وهو الثلث ؟ فيه وجهان .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) عموم كلام الخرقي في الإطعام يشمل الكافر ، وهو كذلك في الصدقة المستحبة منها ، كبقية صدقة التطوع ، أما الصدقة الواجبة منها فلا تدفع إليه كالزكاة ونحوها ، ولهذا قيل : لا بد من دفع الواجب إلى فقير وتمليكه ، وهذا بخلاف الإهداء فإنه يجوز بناء على قوله باستحباب الأضحية ، ففي الأكل وجهان ( الجواز ) كما في هدي التمتع والقران ( وعدمه ) كالأحضية المنذورة على قول الأكثرين ، وعن أبي بكر وتبعه أبو محمد جواز الأكل من الأضحية المنذورة أيضاً ، لأن أكثر ما في النذر التزام حكم الأضحية ، ومن حكمها جواز الأكل ، والله أعلم .
قال : ولا يعطي الجازر بأجرته شيئاً منها .
3625 ش : قال علي رضي الله عنه : ( أمرني رسول الله أن أقوم على بدنه ، وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ، وأن لا أعطي الجزار منها شيئاً ، وقال : ( نحن نعطيه من عندنا ) . متفق عليه . وفي قوله : بأجرته . إشعار بأنه يجوز الدفع إليه لا على سبيل الأجرة ، كأن يدفع إليه لفقره أو هدية ، وهو كذلك ، لأنه ساوى غيره في ذلك ، وزاد عليه بمباشرته لها ، وتشوف نفسه إليها ، وبهذا المعنى يتخصص عموم الحديث ، ولو قيل بعمومه سدا للذريعة لكان حسناً .
____________________
(3/282)
قال : وله أن ينتفع بجلدها .
ش : لا نزاع في ذلك ، لأن الجلد جزء من الأضحية ، أشبه اللحم .
3626 وعن أبي سعيد الخدري أن قتادة بن النعمان أخبره ، أن النبي قام فقال : ( إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا من الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم ، وإني أحله لكم ، فكلوا منه ما شئتم ، ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي ، وكلوا وتصدقوا ، واستمتعوا بجلودها ، وإن أطعتم من لحومها شيئاً فكلوا إن شئتم ) . رواه أحمد ، وفي قول النبي : ( وإن أطعمتم من لحومها شيئاً فكلوا إن شئتم ) إشعار بوجوب الإطعام منها ، وتوقف الأكل عليه .
قال : ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئاً منها .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لما تقدم من حديثي علي والنعمان رضي الله عنهما قال أحمد : سبحان الله كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى ! .
وحكى قول النبي ( لا يعطي في جزارته شيئاً منها ) ( وعن أحمد ) رواية أخرى : يجوز بيع الجلد والصدقة بثمنه .
3627 لأن ذلك يروى عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأنه إذا كان له منع الفقراء منه رأساً بأن ينتفع به ، فلأن يمنعهم من عينه ويدفع ثمنه إليهم أولى ( وعنه ثالثة ) يباع بمتاع البيت كالغربال ونحوه ، فيكون إبدالًا بما يحصل منه مقصودها ، كما جاز إبدال الأضحية ، ( وعنه رابعة ) يباع جلد البقرة والبدنة ويتصدق بثمنه ، دون الشاة ، ولعله اعتمد في ذلك على أثر .
( تنبيه ) : حكم جل الأضحية حكم جلدها ، قاله أبو البركات ، لكنه إنما حكى الروايتين الأولتين .
قال : ويجوز أن يبدل الأضحية إذا أوجبها بخير منها .
ش : هذا مبني على أصل ، وهو أنه إذا أوجب أضحية فهل يزول ملكه عنها ؟ بذلك قال عامة الأصحاب ، وزعم أبو محمد في الكافي أن أحمد نص على أنه لا يزول بذلك ، إذ النذور محمولة على أصولها في الفروض ، وفي الفرض لا يزول ملكه وهو الزكاة ، وله إخراج البدل فكذلك في النذر ، وخالفهم أبو الخطاب في هدايته وخلافه الصغير ، فقال بالزوال ، معتمداً على قول أحمد في الهدي إذا عطب في الحرم : قد أجزأ عنه . وقوله في الأضحية إذا هلكت : ليس عليه بدلها . وقوله إذا عين الهدي أو الأضحية فأعورت أو عجفت يذبحها وتجزئه ، وكذا لو ذبحت فسرقت ، أو ذبحها ذابح بغير إذنه أجزأت ، قال : ولو كان ملكه باقياً لوجب عليه بدلها في جميع
____________________
(3/283)
هذه المواضع ، ووجه ذلك أنه جعلها لله تعالى ، فأشبهت المعتق والموقوف ، فعلى هذا القول لا يجوز البيع ولا الابدال مطلقاً .
أما على المذهب فيجوز إبدالها بخير منها وقد نص عليه أحمد ، نظراً لمصلحة الفقراء في ذلك ، ولا يجوز بدونها قطعاً ، لما فيه من تفويت حرمتها وإنه لا يجوز ، وهل يجوز بمثلها ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختاره أبو محمد لا يجوز ، لأنه تفويت للعين من غير فائدة تحصل ، أشبه ما لو أبدلها بدونها . ( والثاني ) يجوز لأن الواجب لم ينقص .
وحيث جاز الإبدال فهل يجوز البيع ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار أبي بكر و القاضي يجوز ، إذ الإبدال بيع في الحقيقة ، ولأن النبي ساق مائة بدنة في حجته ، وقدم علي من اليمن فأشركه فيها . رواه مسلم وغيره ، ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد لا يجوز .
3628 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أهدي عمر رضي الله عنه بختيا ، فأعطي بها ثلاثمائة دينار ، فأتى النبي فقال : يا رسول الله إني أهديت بختيا فأعطيت بها ثلثمائة دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدناً ؟ قال : ( لا انحرها إياها ) رواه أحمد وأبو داود ، والبخاري في تأريخه ، وهذا نص ، وفيه دليل على المنع من الإبدال ، كما يقوله أبو الخطاب ، ويجاب عن تشريك النبي بأن ذلك في الأجر والثواب ، أو كان قبل الإيجاب .
وحيث جاز البيع فهل ذلك بشرط أن يبيعها لمن يضحي بها ، قاله الشيرازي ، وصاحب التلخيص ، أو مطلقاً ، وهو ظاهر كلام القاضي وأبي بكر ؟ فيه قولان ، ثم على القولين يشتري خيراً منها ، قاله أبو بكر وصاحب التلخيص ، وحكاه أبو محمد عن القاضي ، وظاهر كلام القاضي في الجامع جواز شراء مثلها ، قال : عليه بدنة مكانها . ثم قال صاحب التلخيص : يصرف ثمنها في خير منها ، وقال غيره : يشتري خيراً منها ، وأطلق .
( تنبيه ) : حكم الهدي الواجب حكم الأضحية فيما تقدم .
قال : وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة الإمام العيد وخطبته فقد حل الذبح .
ش : يوم الأضحى يوم لذبح الأضحية في الجملة بالإجماع ، واختلف بماذا يدخل وقت الذبح ، فعند الخرقي أنه يدخل بمقدار مضي صلاة العيد وخطبته ، لأن الصلاة تتقدم وتتأخر ، وقد تفعل وقد لا تفعل ، وذلك ضابط لا يختلف ، فأنيط الحكم به ، ولم يعتبر أبو محمد في المقنع تبعاً لأبي الخطاب في الهداية غير قدر الصلاة ،
____________________
(3/284)
لأن المذكور في الأحاديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى الصلاة ، وقال القاضي وعامة أصحابه الشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل في التذكرة ، والشيرازي وابن البنا ، وأبو محمد في المغني ، وهو إحدى الروايات عن الإمام : المعتبر في حق أهل المصر صلاة الإمام فقط .
3629 لما روي عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه أنه صلى مع رسول الله يوم أضحى ، قال : فانصرف فإذا هو باللحم وذبائح الأضحى تفرق ، فعرف رسول الله أنها ذبحت قبل أن يصلي ، فقال : ( من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح بسم الله ) .
3630 وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله يوم النحر : ( من كان ذبح قبل الصلاة فليعد ) متفق عليهما وللبخاري من حديث أنس ( من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب نسك المسلمين ) ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي محمد في الكافي ، وزعم في المغني أنها ظاهر كلامه : المعتبر مع الصلاة الفراغ من الخطبة ، لأن النبي إنكاره كان بعد الفراغ من الخطبة ، ولأن الخطبة كالجزء من الصلاة . ( والرواية الثالثة ) : يعتبر مع ذلك ذبح الإمام .
3631 لما روي عن جابر رضي الله عنه قال : ( صلينا مع رسول الله يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا ، وظنوا أن النبي قد نحر ، فأمر النبي من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر ، ولا ينحروا حتى ينحر النبي ) . . رواه أحمد ومسلم .
وهذه الروايات في حق أهل الأمصار ، أما أهل القرى الذين لا صلاة عليهم لقلتهم ، ومن كان في حكمهم كأصحاب الطنب والخركاوات ، فعامة الأصحاب هنا يوافقون الخرقي ، لأنه تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة اعتبر قدرها ، ثم إن عامة أصحاب القاضي على أن المعتبر قدر الصلاة فقط ، بعد دخول وقتها ، بناء على اعتبارهم الصلاة ثم ، وظاهر كلام القاضي في الجامع و أبي محمد أن المعتبر قدر الصلاة والخطبة ، ولنا وجه ثالث أن المعتبر مع ذلك ذبح الإمام من الرواية الثالثة ثم ، وحكى صاحب التلخيص وجهاً آخر أن المعتبر ذلك الوقت ، أي وقت صلاة الإمام ، وهو ظاهر إطلاق أبي البركات ، أو صلاة الإمام وخطبته ، أو خطبته وذبحه ، ويتلخص أن في أهل الأمصار خمسة أقوال ، وفي أهل القرى ستة .
____________________
(3/285)
إذا تقرر هذا فلا فرق في أهل الأمصار بين من عليه الصلاة ومن لا صلاة عليه ، كالنساء ونحوهن ، ثم إن الخرقي رحمه الله وكثيراً من الأصحاب أطلقوا قدر الصلاة والخطبة ، فيحتمل أن يعتبروا ذلك بمتوسطي الناس ، و أبو محمد اعتبر قدر صلاة وخطبة تامتين في أخف ما يكون ، وإذا اعتبرنا الصلاة فإذا صلى الإمام في المصلى واستخلف من صلى في المسجد ، فمتى صلوا في أحد الموضعين جاز الذبح ، ولو لم يصل الإمام في المصر لعذر أو غيره لم يجز الذبح حتى تزول الشمس ، لأن الصلاة تفوت إذاً ، وأما الذبح في اليوم الثاني والثالث فيجوز قبل الصلاة ، لأنه مرتب على أداء صلاة العيد ، وذلك قد سقط .
قال : إلى آخر يومين من أيام التشريق .
ش : وقت الذبح عندنا ينتهي بمضي يومين من أيام التشريق ، فأيام النحر عندنا ثلاثة أيام يوم الأضحى ، ويومان بعده .
3632 لأن النبي قد ثبت عنه بلا ريب أنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، ويلزم منه تأقيت الذبح بثلاث ، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه ، لا يقال : فقد ثبت نسخ ذلك ، لأنا نقول الحديث دل على حكمين ، المنع من الاودخار فق ثلاث ، وأن وقت الذبح ذلك ، ونسخ المنع من الادخار فوق ثلاث لا يلزم منه نسخ الحكم الآخر .
3633 ثم إن هذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس ، وأبي هريرة وأنس رضي الله عنهم قال أحمد : أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله . وفي رواية قال : خمسة من أصحاب رسول الله ولم يذكر أنساً .
3634 ولا مخالف لهم إلا رواية رويت عن علي رضي الله عنه .
( تنبيه ) : فإن خرج الوقت ولم ينحر ذبح الواجب قضاء ، إذ الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم ، وخير في التطوع ، فإن ذبح فهو شاة لحم ، والله أعلم .
قال : نهاراً ولا يجوز ليلًا .
ش : لما تكلم الخرقي رحمه الله على أول وقت الأضحية وآخره ، شرع يتكلم على محله ، فقال إن محله النهار دون الليل ، ولا نزاع أن النهار محل للذبح ، واختلف في الليل هل هومحل لذلك أم لا ؟ ( فعنه ) وهو اختيارالخرقي ليس بمحل لذلك ، نظراً لظاهر قوله تعالى : 19 ( { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ) واليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
____________________
(3/286)
3635 وفي مراسيل أبي داود فيما أظن من طريق بقية بن الوليد ، عن مبشر بن عبيد ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : ( نهى رسولي الله عن الذبح بالليل ) ، لكن مبشراً قالوا : متروك . فهو عكس اسمه ( وعنه ) وهو اختيار أبي بكر ، والقاضي وأصحابه ، وصاحب التلخيص وغيرهم هو محلّ للذبح أيضاً ، لأن النهي عن الادخار فوق ثلاث ، يدخل فيه الليل ، واليوم يطلق ويراد مع ليلته ، ومحل الخلاف فيما عدا ليلة النحر ، وهذا واضح ، لأن الوقت في الذبح إنما يدخل بعد مضي جزء من النهار كما تقدم اه ، فعلى الأولى إن ذبح ليلًا لم تجزئه أضحيته ، لكن في الواجب يلزمه البدل ، وفي التطوع يكون ذبحه ذبح لحم ، وعلى الثانية تجزىء لكنه يكره حذاراً من الخلاف والله أعلم .
قال : فإن ذبح قبل ذلك لم تجزئه .
ش : إذا ذبح قبل وقت الذبح ، بأن ذبح في اليوم الأول قبل مقدار الصلاة والخطبة ، أو مقدار الصلاة على ما تقدم من الخلاف ، وفي اليوم الثاني ، وكذا الثالث قبل طلوع فجرهما على مختاره لم تجزئه لإيقاع ذلك في غير وقته ، أشبه ما لو صلى قبل الوقت ، وقد شهد لذلك ما تقدم في حديث أنس رضي الله عنه ( من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ) والله أعلم .
قال : ولزمه البدل .
ش : لما تقدم من قول النبي ( من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ) وفي لفظ ( فليعد ) وكلام الخرقي يشمل الأضحية الواجبة وغيرها ، وهو ظاهر الحديث ، لكن أبا محمد وغيره حملوا على الواجب بنذر أو بتعيين ، أما ما ذبحه تطوعاً فلا بدل عليه إلا أن يشاء ، لأن غايته أنه قصد تطوعاً فأفسده ، فصار كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها لغير مستحقها ، وحمل أبو محمد الحديث على الندب ، أو على التخصيص بمن وجبت عليه . قلت : وأولى المحملين الأول ، لأن النبي حكم حكماً عاماً ، فدعوى التخصيص لا دليل عليه .
والبدل الواجب مثل المذبوح أو خير منه ، قال أبو محمد : وهو بظاهره مشكل ، إذ الحيوان عند الأصحاب متقوم بلا ريب ، وكأن أبا محمد إنما أراد أن يشتري بقيمته مثله ، وترك بيان ذلك إحالة على ما تقدم له ، وقد قال هو والأصحاب فيما إذا أوجب أضحية ثم أتلفها : إنه يضمنها بقيمتها تصرف في مثلها ؛ ثم اختلفوا هل يضمنها بقيمتها يوم الإتلاف فقط ، وهو قول القاضي ، وتبعه أبو الخطاب في خلافه ، أو بأعلى القيمتين ، وهو قول أكثر أصحاب القاضي ؟ على قولين . وعلى القول الثاني : أعلى القيمتين هو من حين الإيجاب إلى حين التلف ، عند ابن عقيل ، وصاحب التلخيص ، ومن حين التلف إلى حين جواز الذبح ، عند الشريف وأبي الخطاب في الهداية ، والشيرازي والشيخين وغيرهم .
____________________
(3/287)
( تنبيه ) : الشاة المذبوحة شاة لحم كما في الحديث ، يصنع بها ما شاء ، هذا المشهور ، ولأبي محمد احتمال أن حكمها حكم الأضحية ، كالهدي إذا عطب ، لا يخرج عن حكم الهدي على رواية ، ويكون معنى قوله ( شاة لحم ) أي في فضلها وثوابها خاصة ، دون ما يصنع بها .
قال : ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم .
ش : لا نزاع في ذلك ، لأنها قربة وطاعة ، فلا يليها غير أهل القرب ، ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز أن يذبحها غير المسلم ، ومراده بذلك الكتابي ، بدليل ما تقدم له ، وقد اختلف عن أحمد في ذلك ، ( فعنه ) وهو اختيار الخرقي وعامة الأصحاب يجوز ، لأنه يجوز له ذبح غير الأضحية ، فجاز له ذبح الأضحية كالمسلم ، ولأن الكافر يجوز أن يتولى ما هو قربة للمسلم كبناء المساجد ونحو ذلك ، ( وعنه ) المنع .
3636 لأن في حديث ابن عباس الطويل ( ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر ) .
3637 وقال جابر : لا يذبح النسك إلا مسلم . وحملًا على الكراهة التنزيهية اه .
ويشترط أن ينوي المسلم ذلك ، ويكون توكيل الذمي في مجرد النحر ، نعم في المعينة لا يحتاج إلى نية ، نظراً للتعيين .
( تنبيه ) : عامة الأصحاب على حكاية الروايتين على الإطلاق ، وخصهما ابن أبي موسى والشيرازي بالبقر والغنم ، وجزما في الإبل بعدم الإجزاء ، وقال الشريف و أبو الخطاب في خلافيهما : هذا أي جواز ذبح الكتابي على الرواية التي تقول : الشحوم المحرمة على اليهود لا تحرم علينا ، زاد الشريف : أو على كتابي نصراني ، ومقتضى هذا أن محل الروايتين على القول بحل الشحوم ، أما إن قلنا بتحريم الشحوم فلا يلي اليهودي بلا نزاع ، وقد أشار أبو محمد إلى هذا ، فإنه علل المنع بأن الشحم محرم علينا ، فيكون ذلك إتلاف جزء منها ، وأجاب بمنع تحريم الشحم .
قال : فإن ذبحها بيده كان أفضل .
ش : اقتداء بالنبي ، فإنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين ، ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ، ووضع رجله صفاحهما ، ونحر من البدن التي ساقها في حجته ثلاثاً وستين بدنة ، ولأن فعل القرب أولى من الاستنابة فيها ، فإن استناب جاز بلا نزاع ، وقد استناب النبي فيما غبر عليه من بدنه ، والمستحب إذا لم يذبح بيده أن يمسك المدية بيده حال الإمرار ، فإن لم فليحضر ، لأن في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الطويل ( واحضروها إذا ذبحتم ، فإنه يغفر لكم عند أول قطرة من دمها ) والله أعلم .
قال : ويقول عند الذبح : بسم الله والله أكبر .
ش : قد تقدم هذا ، وأن النبي سمى وكبر ، والأولى أن يكون ذلك عند
____________________
(3/288)
تحريك يده بالذبح والله أعلم .
قال : فإن نسي لم يضره .
ش : إذا نسي التسمية فلا يضره ، وقد تقدم ذلك والخلاف فيه ، فلا حاجة إلى إعادته .
قال : وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن ، لأن النية تجزئ .
ش : لا ريب في الاكتفاء بالنية ، إذ الأعمال بها ، نعم إن ذكر من ضحى عنه فحسن .
3638 لأن في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( اللهم منك وإليك عن محمد وأمته ، بسم الله والله أكبر ) ثم ذبح .
وقول الخرقي : لأن النية تجزئ . إشعار بأنه لا بد من النية ، ولا إشكال أنها لا تصير أضحية إلا بالنية ، بقي هل تحتاج إلى تجديد النية عند الذبح ؟ قال في التلخيص : إذا قال : جعلت هذه أضحية . أغناه عن تجديد النية عند الذبح ، وكذا إذا نذرها بعينها ، بخلاف ما إذا نذرها في ذمته ثم قال : جعلتها هذه . فإنه لا بد وأن ينويه وقت الذبح . قلت : وعلى هذا ففي المتطوع به لا بد وأن ينويه عند الذبح .
قال : ويجوز أن يشترك السبعة فيضحوا بالبقرة أو البدنة .
ش : قد تقدمت هذه المسألة في أول الباب ، وقد يقال : إنه إنما أعادها ها هنا لأن كلامه السابق في أن البدنة أو البقرة تجرئ عن سبعة ، فهذا قد يقال فيما إذا ذبحها ذابح عنهم ونحو ذلك ، وهذه المسألة فيما إذا اشتركوا فيها ، والأجود أن يقال : إن كلامه السابق في الواجب ، إذ الإجزاء مشعر بذلك ، وهنا في التطوع ، ونبه بذلك على مخالفة من فرق بينهما اه .
( تنبيه ) : الاعتبار أن يشترك الجميع دفعة ، فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية وقالوا : من جاء يريد أضحية شاركناه . فجاء قوم فشاركوهم ، لم تجزئ إلا عن الثلاثة ، قاله الشيرازي .
قال : والعقيقة سنة .
ش : قال الأزهري : قال أبو عبيد : قال الأصمعي وغيره : العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد ، وسميت الشاة المذبوحة عند حلق شعره عقيقة ، على عادتهم في تسمية الشيء باسم سببه ، ثم اشتهر ذلك فلا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة ، وقال ابن عبد البر : أنكر أحمد هذا التفسير ، وقال : إنما العقيقة الذبح نفسه ، وذلك لأن أصل العق القطع ، ومنه : عق والديه . إذا قطعهما ،
____________________
(3/289)
والذبح قطع الحلقوم والمريء .
والعقيقة مشروعة مطلوبة عندنا بلا ريب .
3639 لما روي عن أم كرز الكعبية رضي الله عنها أنها سألت رسول الله عن العقيقة ، فقال : ( نعم عن الغلام شاتات ، وعن الأنثى واحدة ، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثاً ) . رواه أحمد والترمذي وصححه .
3640 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً . رواه أبو داود والنسائي وقال : بكبشين كبشين .
3641 وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال : كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها ، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران . رواه أبو داود وقال 16 ( أحمد ) : العقيقة سنة عن رسول الله قد عق عن الحسن والحسين ، وفعله أصحابه .
واختلف أصحابنا هل تنتهي هذه المطلوبية إلى الوجوب ؟ فقال أبو بكر في التنبيه بانتهائها إلى ذلك ، قال أبو الخطاب : ويحتمله كلام أحمد .
3642 لما روى الحسن عن سمرة أن رسول الله قال : ( كل غلام مرتهن بعقيقته ، تذبح عنه يوم سابعه ، ويحلق رأسه ويسمى ) . رواه الخمسة وصححه الترمذي . وقال الإمام أحمد والنسائي وغيرهما : لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة .
3643 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن النبي أمر بتسمية المولود يوم سابعه ، ووضع الأذى عنه والعق . رواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وقال عامة الأصحاب وهو المعروف عن أحمد بعدم انتهائها إلى ذلك ، ووقفوا عند القول باستحبابها .
3644 لما روي عن عمرو بن شعيب أيضاً عن أبيه عن جده ، قال : سئل النبي عن العقيقة فقال : ( لا أحب العقوق ) وكأنه كره الاسم ، فقالوا : يا رسول الله إنما نسألك عن أحدنا يولد له . قال : ( من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل ، عن الغلام شاتان متكافئتان ، وعن الجارية شاة ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، وإذاً
____________________
(3/290)
يحمل ما تقدم على تأكيد الاستحباب ، جمعاً بين الأدلة ، ويرجحه الأمر بالتسمية يوم السابع والحلق ، ليس ذلك بواجب ، وإذا كانا مستحبين فكذلك الذبح ، حذاراً من استعمال الأمر في حقيقته ومجازه ، لا لمجرد دلالة الاقتران .
قال : عن الغلاام شاتان ، وعن الجارية شاة .
ش : لما تقدم من حديثي أم كرز وعبد الله بن عمرو ، وعق النبي عن الحسن والحسين قد جاء فيه كبش ، وجاء كبشان ، مع أن رواية الكبش قد تحمل على الجواز ، وعلى عدم الوجدان ، وكذا نقول بجواز أن يذبح شاة واحدة إذا لم يقدر على غيرها ، والأولى كون الشاتين متماثلتين ، لما تقدم في الحديث ( متكافيتان ) قال أحمد : يعني متقاربتين أو متساويتين .
قال : تذبح يوم السابع .
ش : وذلك لما تقدم من حديثي سمرة وعبد الله بن عمرو ، وظاهر كلام الخرقي أن جميع العقيقة تذبح يوم السابع ، وقال ابن البنا : تذبح إحدى شاتي الغلام يوم ولادته ، والأخرى يوم سابعه ، والأول هو المعروف في النقل ، وهو ظاهر الحديث ، فإن فات السابع فقال اوصحاب في أربع عشرة ، فإن فات ففي إحدى وعشرين .
3645 لأن ذلك يروى عن عائشة رضي الله عنها ، وهذا على سبيل الاستحباب وبعد يجزئ لحصول المقصود ، وكذلك قبل بعد الولادة ، إذ هو أول الوقت ، فإن تجاوز إحدى وعشرين ففيه احتمالان ( أحدهما ) : يستحب في كل سابع ، فيذبح في ثمانية وعشرين ، ثم في خمس وثلاثين ، وعلى هذا قياساً على ما تقدم ، ( والثاني ) يفعل في كل وقت ، لأن هذا قضاء ، فلم يتوقف كقضاء الأضحية وغيرها .
قال : ويجتنب فيها من العيوب ما يجتنب في الأضحية .
ش : يجتنب في العقيقة من العيب ما يجتنب في الأضحية ، لأنها قربة يتقرب بها إلى الله تعالى ، شكرا على نعمته ، فأشبهت الأضحية ، فعلى هذا لا يعق بعوراء بين عورها ، ولا عرجاء بين عرجها ، ولا مريضة بين مرضها ، ولا عجفاء لا تنقي ، وبيان مفصلًا قد تقدم .
قال : وسبيلها في الأكل والصدقة والهدية سبيلها .
ش : لأنها نسيكة مشروعة ، أشبهت الأضحية ، قال أبو محمد : وإن طبخها ودعا إخوانه فأكلوها فحسن .
قال : إلا أنها تطبخ أجدالًا .
ش : يعني أن الأولى في العقيقة أن تفصل الأعضاء ، فتطبخ كذلك ، ولا تكسر عظامها ، تفاؤلًا بسلامة المولود .
____________________
(3/291)
3646 وفي مراسيل أبي داود عن جعفر عن أبيه ، أن النبي قال : في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين رضي الله عنهم ( أن يبعثوا إلى بيت القابلة برجل ، وكلوا وأطعموا ، ولا تكسروا منها عظماً ) ولهذا قال أبو بكر في التنبيه : يعطي القابلة منها فخذاً .
( تنبيه ) الأجدال واحدها جدل بالدال غير المعجمة وهو العضو ، والله سبحانه أعلم .
____________________
(3/292)
( كتاب السبق والرمي )
ش : الأصل في مشروعية ذلك الإجماع .
3647 وقد شهد له ما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفيا ، وكان أمدها ثنية الوداع ، وسابق بالخيل التي لم تضمر من الثنية ، إلى مسجد بني زريق ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما فيمن سابق فيها . متفق عليه واللفظ لمسلم زاد البخاري قال سفيان : من الحفيا إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة ، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل .
3648 وعن أنس رضي الله عنه قال : كانت لرسول الله ناقة تسمى العضباء ، وكانت لا تسبق ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها ، فاشتد ذلك على المسلمين ، فقال رسول الله : ( إن حقاً على الله أن الله تعالى لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه ) رواه أحمد والبخاري ، وقال الله سبحانه : 19 ( { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ) .
3649 قال عقبة بن عامر رضي الله عنه : سمعت النبي يقول : ( ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي ) رواه مسلم وغيره .
3650 وعنه أيضاً عن النبي قال : ( من علم الرمي ثم تركه فليس منا ) . رواه أحمد ومسلم وغيره .
3651 وعنه أيضاً عن النبي قال : ( إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة ، صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير ، والذي يجهز به في سبيل الله ، والذي يرمي به في سبيل الله ) وقال : ( ارموا واركبوا ، وأن ترموا خير لكم من أن تركبوا ) ، وقال : ( كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثاً ، رميه عن قوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته أهله ، فإنهن من الحق ) رواه الخمسة ، والله أعلم .
____________________
(3/293)
قال : والسبق في الحافر والنصل والخف لا غير .
ش : السبق بفتح الباء الجعل المخرج في المسابقة ، وبسكونها مصدر سبقه سبقاً ومسابقة ، ولا نزاع في جواز المسابقة بغير عوض مطلقاً ، من غير تقييد بشيء معين ، كالمسابقة على الأقدام والسفن والمزاريق ، والطيور والفيلة ونحو ذلك ، وكذلك المصارعة ، ورفع الحجر ليعرف الأشد .
3652 وقد سابقت عائشة النبي على رجليها . رواه أبو دادو .
3653 وصارع النبي ركانة فصرعه . رواه الترمذي .
3654 ومر النبي بقوم يربعون حجراً ، أي يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم ، وأما المسابقة بعوض فمذهبنا أنه لا يجوز إلا في الثلاثة التي ذكرها الخرقي ، ( في النصل ) ، وهو السهام من النشاب والنبل دون غيرها ( والخف ) وهو الإبل وحدها ( والحافر ) وهو الخيل وحدها ، وهو تسمية الشيء باسم جزئه ، أو على حذف مضاف ، أي ذي خف ، وذي حافر ، وذي نصل ، وتبع الخرقي في ذلك لفظ الحديث الذي هو المعتمد عليه في المسألة .
3655 وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل ) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي ، وصححه ابن القطان أي لا سبق شرعي ، أو لا سبق يعتبر في الشرع في غير هذه الثلاثة ، وقد صرح بمعنى هذا في رواية النسائي فقال : ( لايحل سبق إلا على خف ، أو حافر ، أو نصل ) وإنما خصت هذه الثلاثة والله أعلم بتجويز العوض فيها ، لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وأحكامها ، ولأنها المعهودة المعتادة للنبي وأصحابه ، ولهذا قلنا : إن المراد بالنصل والخف والحافر ما تقدم ، دون المزاريق ، والفيلة ، والبغال والحمير ، نظراً للمعتاد .
قال : وإذا أراد أن يستبقا أخرج أحدهما ولم يخرج الآخر .
ش : لا نزاع في جواز جعل العوض في المسابقة من الإمام ، لما في ذلك من الحث على تعلم الجهاد ، والنفع للمسلمين ، وكذلك يجوز عندنا جعله من غير المتسابقين ، نظراً لما فيه من المصلحة ، فأشبه شراء السلاح والخيل لذلك ، ويجوز أيضاً عندنا جعله من أحد المتسابقين ، كأن يقول مثلًا من أراد الإخراج : إن سبقتني فلك عشرة ، وإن سبقتك فلا شيء عليك ، لما في ذلك من المصلحة ، وبهذا خرج عن
____________________
(3/294)
أن يكون قماراً ، إذ المتقامران لا يخلو كل منهما من أن يكون غارماً أو غانماً ، فكل منهما دخل على خطر ، وهنا ليس كذلك ، إذ أحدهما لا خطر عليه ، لأنه إما أن يكون غانماً ، أو غير غارم ، وصاحبه إما غارماً أو غير غانم .
( تنبيه ) وشرط العوض كونه معلوماً بالمشاهدة ، أو بالقدر ، والصفة .
قال : فإن سبق من أخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من المسبوق شيئاً ، فإن سبق من لم يخرج أحرز سبق صاحبه .
ش : اعتماداً على الشرط السابق .
قال : وإن أخرجا جميعاً لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللًا يكافىء فرسه فرسيهما ، أو بعيره بعيرتهما ، أو رميه رمييهما .
ش : قد تقدم أن الفاصل بين المسابقة الشرعية والقمار ، أن المقامر يكون على خطر من أن يغنم أو يغرم ، بخلاف المسابق ، فعلى هذا إذا كان الجعل منهما ، ولم يدخلا محللًا لم يجز ، لوجود معنى القمار فيه وهو الخطر في كل واحد منهما .
3656 وقد نبه النبي على ذلك حيث قال فيما رواه عنه أبو هريرة رضي لله عنه ( من أدخل فرساً بين فرسين ، وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس به ، ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار ) . رواه أحمد واللفظ له ، وأبو داود وابن ماجه ، فجعله قماراً إذا أمن أن يسبق ، لأن كل واحد منهما إذاً على خطر من أن يغنم أو يغرم ، ولم يجعله قماراً إذا لم يأمن أن يسبق ، لأن كل واحد منهما إذاً يجوز أن يخلو من ذلك ، وإن كان الجعل منهما ، وأدخلا محللًا جاز للحديث ، لكن بشرط أن يكون كما قال الشيخ رحمه الله يكافىء ، أي يماثل فرسه فرسيهما إن كانت المسابقة على الخيل ، أو بعيره بعيرتهما إن كانت على الإبل . أو رميه رمييها إن كانت على الرمي لأنه إذا كان كذلك لم يؤمن أن يسبق ، فيجوز كما في الحديث ، لانتفاء معنى القمار ، وإن لم يكن كذلك بأن كان فرساهما جوادين ، وفرسه بطيئاً ، فهو مأمون سبقه ، فيكون وجوده كعدمه ، وإذاً يكون قماراً كما في الحديث .
( تنبيه ) : سمي الداخل بينهما محللًا لأن العوض صار حلالًا به ، فهو السبب لحل العوض ، والله أعلم .
قال : فإن سبقهما أحرز سبقهما ، وإن كان السابق أحدهما أحرز سبقه ، وأخذ سبق صاحبه ، فكان كسائر ماله ، ولم يأخذ من المحلل شيئاً .
ش : إذا جاز إخراج السبق وهو الجعل من كل واحد منهما بالشرط السابق ، فلا يخلو من خمسة أحوال . ( الحال الأولى ) جاءوا جميعاً ، فإن كل واحد منهما يحرز سبق
____________________
(3/295)
نفسه ، ولا شيء للمحلل ، لأنه لا سابق فيهم . ( الثانية ) سبق المستبقان المحلل ، فكذلك لتساويهما ، وانتفاء سبق المحلل ( الثالثة ) سبقهما المحلل ، فإنه يحرز سبقيهما لسبقه . ( الرابعة ) سبق أحدهما ، فإنه يحرز سبق نفسه ، لأنه لا سابق له ، ويأخذ سبق صاحبه لسبقه ، ولا يأخذ من المحلل شيئاً ، إذ وضع المحلل أنه لا يدفع شيئاً . ( الخامسة ) سبق أحدهما مع المحلل ، فإن السابق يحرز سبقه ، ويكون سبق الآخر بينهما .
( واعلم ) أنه يشترط في المسابقة ( تعيين ) المركوبين والراميين ، لا الراكبين والقوسين ، ( واتحاد ) نوع القوسين والمركوبين ، فلا يجوز بين قوس عربية وفارسية ، ولا بين فرس عربي وهجين على المذهب ، وخرج الجواز بناء على تساويهما في السهم ( وتحديد ) المسافة بما جرت به العادة ، وقد تقدم شرط العوض .
قال : ولا يجوز إذا أرسل الفرسان أن يجنب أحدهما إلى فرسه فرساً يحرضه على العدو ، ولا يصيح به في وقت سباقه ، لما روي عن النبي أنه قال : ( لا جنب ولا جلب ) .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله .
3657 وهو ما روى عمران بن حصين ، عن النبي قال : ( لا جلب ولا جنب يوم الرهان ) . رواه أبو داود والنسائي وزاد ( ولا شغار في الإسلام ) وكذلك الترمذي وزاد ( ومن انتهب نهبة فليس منا ) .
3658 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( لا جلب ولا جنب ، ولا شغار في الإسلام ) . رواه أحمد ، والمعروف في تفسير الحديث ما قاله الخرقي ، وفسر القاضي وكذلك ابن الأثير في جامع الأصول الجنب بأن يجنب فرساً آخر معه ، فإذا قصر المركوب ركب المجنوب ، وهذا التفسير قديم ، فإن ابن المنذر قال : كذا قيل ، ولا أحسب هذا يصح ، لأن الفرس التي يسابق بها لا بد من تعيينها ، فإن كانت التي يتحول عنها فما حصل السبق بها ، وإن كانت التي يتحول إليها فما حصلت المسابقة بها في جميع الحلبة . ومن شرط السباق ذلك ، وعن أبي عبيد أنه فسر الجلب بأن يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم ، قال : فلا يفعل ، ليأتيهم على مياههم فيصدقهم ، وهذا يرده ظاهر الحديث ، وقد يقال يوم الرهان ظرف للجلب فقط ، فلا دلالة في الحديث ، والله أعلم .
____________________
(3/296)
( كتاب الأيمان والنذور )
ش : الأيمان جمع يمين ، وهي في أصل اللغة الحلف بمعظم في نفسه أو عند الحالف ، على أمر من الأمور ، بصيغ مخصوصة ، كقوله : والله لأفعلن . وحياتك لأركبن ، والأصل في مشروعيتها الإجماع ، وقد شهد لذلك أمر الله تعالى نبيه بها ، قال سبحانه : 19 ( { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق } ) وقال تعالى : 19 ( { قل بلى وربي لتبعثن } )9 ( { قل بلى وربي لتأتينكم } ) وقال سبحانه : 19 ( { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ) الآية .
3659 ومن السنة قول النبي ( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ) متفق عليه .
قال : ومن حلف أن يفعل شيئاً فلم يفعله ، أو لا يفعل شيئاً ففعله فعليه الكفارة .
ش : الأصل في هذا في الجملة قول الله تعالى : 19 ( { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين } ) الآية .
3660 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) رواه مسلم وغيره .
3661 وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ، أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ) متفق عليه . في عدة أحاديث سوى هذين .
وقد شمل كلام الخرقي ما كان فعله معصية ، فلو حلف أن يفعل معصية فلم يفعلها فعليه الكفارة ، وهذا قول العامة لما تقدم ، وقيل لا كفارة في ذلك .
3661 لما روي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : قال
____________________
(3/297)
رسول الله ( لا نذر فيما لا يملك ابن آدم ، ولا في معصية ، ولا في قطيعة رحم ، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليدعها ، وليأت الذي هو خير ، فإن تركها كفارتها ) رواه أبو داود والنسائي ، لكن قال فيه أبو داود : الأحاديث كلها عن النبي ( وليكفر عن يمينه ) إلا ما لا يعبأ به . وهذه إشارة إلى ضعفه وشذوذه .
3663 وقد روى الأحوص عن أبيه رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أرأيت ابن عم لي آتية أسأله فلا يعطيني ، ولا يصلني ، ثم يحتاج إلي فيأتيني فيسألني ، وقد حلفت أن لا أعطيه ولا أصله ؟ فأمرني أن آتي الذي هو خير ، وأكفر عن يميني . رواه النسائي .
وقول الخرقي : حلف أن يفعل شيئاً فلم يفعله ، هذا إذا كانت يمينه مؤقتة ففات الوقت ، أو كانت مطلقة ففات وقت الإمكان ، وبيان ذلك له محل آخر والله أعلم .
قال : فإن فعله ناسياً فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق .
ش : لما قال رحمه الله أن من حلف على ترك شيء ففعله فعليه الكفارة ، قال إن هذا مقيد بما إذا فعله ذاكراً ليمينه ، أما إذا فعله ناسياً لها واليمين بغير الطلاق والعتاق فلا شيء عليه ، لعموم قول الله تعالى : 19 ( { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ، ولكن ما تعمدت قلوبكم } ) .
3664 وقول النبي : ( إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) .
وإن كانت اليمين بالطلاق والعتاق فإنهما يلزمانه ، لترددهما بين التعليق بالشرط لأن صورتهما صورته وبين اليمين ، لوجود معنى اليمين فيهما وهو الحث أو المنع ، فغلب جانب التعليق احتياطاً للفروج ، ولفكاك الرقاب ، وأيضاً فقد تقدم أن أصل اليمين في اللغة الحلف بمعظم ، والحلف بالطلاق والعتاق كقوله : إن دخلت الدار فأنت طالق ، أو فعبدي حر ليس كذلك ، وإنما هو جزاء أو شرط ، والأصل الباء وعدم النقل ، وتسمية ذلك حلفا إنما هو مجاز ، لما فيه من الحث أو المنع ، والأصل الحقيقة ، وهذا هو المذهب عند الأصحاب .
وفي المذهب ( رواية ثانية ) لا يحنث في الجميع ، اعتماداً على عموم الآية والحديث ، إذ الحث والمنع في اليمين بمنزلة الطاعة والمعصية في الأمر والنهي ، وقد استقر أن فاعل المنهي عنه ناسياً أو مخطئاً لا يكون آثماً ولا مخالفاً ، فكذلك من فعل المحلوف على تركه ناسياً أو جاهلًا ، لا يكون حانثاً ، ولا مخالفاً ليمينه ، وهذه الراوية
____________________
(3/298)
اختيار أبي العباس ، وقال : قد نظرت جوابه في هذه الرواية فوجدت الناقلين له بقدر الناقلين لجوابه في الرواية الأولى ، التي هي رواية التفرقة ( وعنه رواية ثالثة ) يحنث في الجميع ، وهي أضعفهن ، لأنه فعل ما حلف عليه قاصداً لفعله ، فأشبه الذاكر .
( تنبيه ) وحكم جاهل المحلوف عليه كمن حلف لا يسلم على فلان ، فسلم عليه يحسبه غيره ، أو أن لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه ، فأعطاه قدر حقه ، ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه ردئياً ونحو ذلك حكم الناسي على ما تقدم ، ( أما المكره ) بغير الإلجاء ففيه روايتان ، والدي نصره أبو محمد عدم الحنث ، نظرا إلى أن الفعل لا ينسب إليه ، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما من الرواية ثم وإن كان الإكراه بالإِلجاء كمن حلف لا يدخل دارا ، فحمل وأدخلها ، ولم يقر على الامتناع لم يحنث ، لعدم نسبه الفعل إليه ، وإن قدر على الامتناع فوجهان ( الحنث ) لأن قدرته على الامتناع بمنزلة فعله ( وعدمه ) لانتفاء الفعل منه حقيقة ، والفاعل في حال الجنون قيل كالناسي ، لأن فعله قد يعتبر ، بدليل صحة إيلائه ، والأصح عدم حنثه مطلقاً كالنائم .
قال : من حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه ، لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة .
ش : كذلك قال أحمد رضي الله عنه في رواية الجماعة : هو أعظم من أن تكون فيه كفارة . وعليه الأصحاب .
3665 وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( خمس ليس لهن كفارة ، الشرك بالله ، وقيل النفس بغير حق ، ونهب المؤمن ، والفرار يوم الزحف ، ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق ) .
3666 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : اختصم إلى النبي رجلان ، فوقعت اليمين على أحدهما ، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء . قال فنزل جبريل على النبي فقال : إنه كاذب ، إن له عنده حق ، أمره أن يعطيه حقه وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته . . رواهما أحمد ، وروى الثاني أبود داود بنحوه ، فأخبر النبي في الأول أن هذه اليمين لا كفارة لها ، وأخبر جبريل في الثاني أن كفارتها الشهادة ، لا الكفارة التي أوجبها الله تعالى في تعقيد الأيمان ، وكلامنا فيها ، وأيضاً فإن هذه اليمين أعظم من أن تكفر كما قال أحمد إذ الكفارة لا ترفع إثمها ، ولا تمحو ما حصل بها ، وبيان ذلك أنها كبيرة ، أو من أعظم الكبائر .
____________________
(3/299)
3667 ففي البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : جاء أعرابي إلى النبي فقال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ قال : ( الإشراك بالله ) قال : ثم ماذا ؟ قال : ( ثم عقوق الوالدين ) قال : ثم ماذا ؟ قال : ( اليمين الغموس ) قلت : وما اليمين الغموس ؟ قال : التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب .
3668 وعن عبد الله بن أنيس ، عن النبي قال : ( من أكبر الكبائر الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر ، فأدخل فيها جناح بعوضة ، إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة ) رواه أبو داود ، وأيضاً فهي يمين غير منعقدة ، فلا توجب كفارة كاللغو ، وبيان عدم انعقادها أنها لا تقتضي براً ، ولا يمكن فيها ، واليمين المنعقدة هي التي يمكن فيها البر والحنث .
3669 وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( اليمين حنث أو ندم ) فجعل اليمين مترددة بين شيئين الحنث أو الندم ، وهذه حنث فقط بل وندم .
( وعن أحمد ) رواية أخرى تجب فيها الكفارة ، لأنه وجدت منه اليمين والمخالفة مع القصد ، فأوجبت الكفارة كالمستقبلة ولأن الكفارة إذا وجبت مع غير الغموس أولى ، وجواب هذا قد تقدم ، وهو أن هذه لعظمها قصرت الكفارة عن الدخول فيها .
3670 قال ابن مسعود رضي الله عنه : كنا نعد من الأيمان التي لا كفارة فيها اليمين الغموس .
( تنبيه ) اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار ، وهي يمين الصبر ، وأصل الصبر الحبس ، فيمين صبر أي يمين حبس ، لأنها تحبس صاحبها .
قال : والكفارة إنما تلزم من حلف وهو يريد عقد اليمين .
ش : الكفارة إنما تلزم من حلف وهو قاصد لعقد اليمين ، فلو مرت اليمين على لسانه من غير قصد إليها ، كقوله : لا والله ، وبلى والله ، في عرض حديثه ، فلا كفارة عليه ، لأنه من لغو اليمين .
3671 قالت عائشة رضي الله عنها أنزلت هذه الآية : 19 ( { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } ) في قول الرجل : لا والله وبلى والله . أخرجه البخاري وأبو داود ، وقال بعض المحدثين : وطريقة البخاري في صحيحه تقتضي أن نحو هذا من باب المرفوع ، قلت : وكذلك جاء مصرحاً به في رواية أخرى لأبي داود ، قال : اللغو في اليمين قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله : ( هو قول الرجل في بيته كلا والله ، وبلى والله ) وكذلك قال أهل اللغة : اللغو ما اطرح ولم يعقد عليه ،
____________________
(3/300)
وإذا كان من اللغو فلا كفارة فيه بدليل الآية الكريمة ، فإن الله سبحانه نفى المؤاخذة فيه ، وجعل المؤاخذة والكفارة فيما عقدنا من الأيمان ، وكلام الخرقي يشمل الماضي والمستقبل ، وهو ظاهر قول عائشة رضي الله عنها ( وفي المذهب رواية أخرى ) في المستقبل أنه ليس من اللغو ، فيجب فيه الكفارة .
وقد خرج من كلام الخرقي من لا قصد له أصلًا ، كالنائم والطفل ، والمجنون ، ونحوهم ، وفي معنى ذلك السكران ، لانتفاء القصد منه ، وأبو محمد يجري فيه القولين من الروايتين في طلاقه .
ومما يلحق بذلك المكره ، لأن قصده كلا قصد ، وكذلك الصبي ، لأنه وإن كان له قصد إلا أن الشارع رفع القلم عنه ، ورفع القلم يقتضي أن لا تلزمه كفارة .
ودخل في كلامه الكافر فتصح يمينه ، وتلزمه الكفارة ، وإن حنث في كفره ، لأنه مكلف ، ولأن النبي أمر عمر بالوفاء بنذر الاعتكاف الذي نذره في الجاهلية والنذر حلف .
قال : ومن حلف على شيء وهو يرى أنه كما حلف عليه فلم يكن فلا كفارة عليه ، لأنه من لغو اليمين .
ش : اليمين على الماضي إما صادقاً فيها فهو بار إجماعاً ، وإما كاذباً فيها متعمداً فهي اليمين الغموس ، وقد تقدمت ، وإما مخطئاً معتقداً أن الأمر كما حلف عليه ، فهذه صورة الخرقي ، وهي عنده من لغو اليمين وإذا كانت من لغو اليمين فلا كفارة فيها وبيان أنها من لغو اليمين أن المؤاخذة منتفية فيها ، إذ المؤاخذة إنما تكون مع قصد المخالفة ولا مخالفة ، ولهذا لا يأثم الحالف والحال هذه ، وقيل عن أحمد ( رواية أخرى ) إن هذا ليس من لغو اليمين ، وتجب به الكفارة ، نظراً لظاهر حديث عائشة رضي الله عنها فإن ظاهره حصر اللغو في الأول ، ولأن اليمين بالله وجدت مع المخالفة ، فأوجبت الكفارة ، كاليمين على مستقبل .
( تنبيه ) الخرقي رحمه الله يجعل لغو اليمين شيئين ( أحدهما ) أن لا يقصد عقد اليمين ، كقوله : لا والله وبلى والله ، سواء كان ذلك في الماضي أو في المستقبل ( والثاني ) أن يحلف على شيء فيتبين بخلافه ، وهذه طريقة ابن أبي موسى وغيره ، وهي في الجملة ظاهر المذهب ، والقاضي يجعل الماضي لغواً قولًا واحداً ، وفي سبق اللسان في المستقبل روايتان ، وأبو محمد عكسه يجعل سبق اللسان في المستقبل لغواً قولًا واحداً وفي الماضي روايتان ، ومن الأصحاب من يحكي روايتين في الصورتين ، ويجعل اللغو في إحدى الروايتين هذا دون هذا ، وفي الأخرى هذا دون هذا ، وجمع أبو البركات بين طريقتي القاضي وأبي محمد ، فحكى المسألة على ثلاث روايات ، فإذا سبق على لسانه في الماضي : لا والله ، وبلى والله . في اليمين معتقداً أن الأمر كما
____________________
(3/301)
حلف عليه فهذا لغو اتفاقاً ، وإن سبق على لسانه اليمين في المستقبل ، أو تعمد اليمين على أمر يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه ، فثلاث روايات ( كلاهما لغو ) وهو المذهب ( الحنث ) في الماضي دون ما يسبق على لسانه ( وعكسه ) وقد تلخص لك في المسألة خمس طرق ، والمذهب منها في الجملة قول الخرقي .
قال : واليمين المكفرة أن يحلف بالله عز وجل ، أو باسم من أسمائه .
ش : لا نزاع أن الحلف بالله عز وجل يمين مكفرة .
3672 وقد قال رسول الله ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) متفق عليه ، وكذلك الحلف باسم من أسمائه في الجملة ، وقد أمر الله سبحانه النبي أن يحلف بربه كما تقدم .
3673 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أكثر ما كان النبي يحلف ( لا ومقلب القلوب ) رواه البخاري وغيره .
3674 وفي النسائي والمسند أن النبي أمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة . ولا يناقض هذا قول النبي ( من كان حالفاٍ فلا يحلف إلا بالله ) إذ الحالف بجميع أسماء الله أو صفاته حالف بالله ، وأسماء الله بالنسبة إلى هذا المقام تنقسم ثلاثة أقسام ، ( أحدها ) ما لا يسمى به غيره ، نحو والله ، والأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، ورب العالمين ، ومالك يوم الدين ، والحي الذي لا يموت ، وخالق الخلق ، ونحو ذلك ، وكذلك والرحمن ، على الصحيح ، فهذا القسم به يمين مكفرة بكل حال ، لاستحالة صرف ذلك إلى غير الله تعالى ، ( الثاني ) ما قد يسمى به غير الله ، لكن إطلاقه ينصرف إلى الله سبحانه ، كالخلق ، والرازق والرب ، والمولى والرحيم ، ونحو ذلك ، فهذا إن نوى به اسم الله أو أطلق كان يميناً ، نظراً لما يفهم منه عند ذلك ، وإن نوى غير الله فليس بيمين على المذهب ، لصحة إطلاقه عليه ، قال الله سبحانه حكاية عن يوسف عليه السلام : 19 ( { ارجع إلى ربك } ) و 19 ( { اذكرني عند ربك } ) وقال سبحانه : 19 ( { فارزقوهم منه } ) وقال عن نبيه 19 ( { بالمؤمنين رؤوف رحيم } ) وإذا نوى بلفظه ما يحتمله فينصرف إليه ، وقال طلحة العاقولي : إن أتى بذلك معرفاً نحو : والخالق والرازق . كان يميناً مطلقاً ، لأنه لا يستعمل مع التعريف إلا في اسم الله تعالى . ( الثالث ) ما يسمى به الله سبحانه ، لكن لا ينصرف إطلاقه إلى الله
____________________
(3/302)
سبحانه ، كالحي والعالم والموجود ، والكريم ، فهذا إن نوى به غير الله ، أو أطلق فليس بيمين ، نظراً لما يفهم منه عند الإطلاق ، وإن نوى به الله تعالى فهو يمين عند الشيخين وغيرهما ، لأنه قصد الحلف بما يسمى به الله سبحانه ، أشبه القسم الذي قبله ، وقال القاضي وابن البنا : لا يكون يميناً ، لأن اليمين انعقادها لحرمة الاسم ، ومع الاشتراك لا حرمة ، والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين ، وأجيب بأن الانعقاد بالاسم المحتمل المنوي به أحد محتملاته ، فيصير كالمصرح به ، والله أعلم .
قال : أو بآية من القرآن .
ش : لما قال الشيخ رحمه الله إن الحالف بالله تعالى أو بأسمائه تكون يمينه مكفرة ، أشار إلى أن الحالف بصفاته سبحانه كذلك ، كأن يحلف بكلام الله ، أو بالمصحف ، أو بالقرآن ، أو بآية منه ، أو بعزة الله ، أو بعظمته ، أو علمه ، ونحو ذلك .
3675 وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال : انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها . فقال : وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها ) .
3676 وفي حديثه أيضاً عن النبي ( يبقى رجل بين الجنة والنار ، فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار ، لا وعزتك لا أسألك غيرها ) متفق عليهما .
3677 وفي حديث اغتسال أيوب ( بلى وعزتك ) ثم إن الصفات أيضاً تنقسم ثلاثة أقسام ( أحدها ) ما هو صفة لذاته سبحانه ، لا يحتمل غيرها ، كعزة الله ، وعظمته ، وكبريائه ، وكلامه ، ونحو ذلك ، فهذا القسم به يمين بكل حال ( الثاني ) ما هو صفة لذاته لكن قد يعبر به عن غيرها مجازاً ، كعلم الله وقدرته ، فإنها قد يراد بها معلوم الله ومقدوره ، كقولهم : اللهم اغفر لنا علمك فينا . أي ما علمته فينا ، ويقال : انظر إلى قدرة الله ، أي مقدوره ، فهذا مع الإطلاق يكون يميناً ، اعتماداً على ما يفهم منه عند التخاطب ، وكذلك مع قصد صفة الله تعالى بلا ريب ، ومع إرادة المعلوم أو المقدور لا يكون يميناً ، على قياس ما تقدم فيما إذا نوى بالرب غير الله سبحانه ، والمنصوص عن أحمد أن ذلك يكون يميناً بكل حال ، ولا يقبل منه فيه غير صفة الله ، ولعله يريد في الحكم .
( الثالث ) ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى ، لكن ينصرف بالنية أو بإضافته إليه لفظاً ، كالعهد والميثاق ، ونحو ذلك ، فهذا لا يكون يميناً مكفرة إلا بالنية . أو بالإضافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قال : أو بصدقة ملكه أو بالحج .
____________________
(3/303)
ش : أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بصدقة ملكه أو الحج ، كأن يقول : إن دخلت الدار ، أو كلمت زيداً ، أو نحو ذلك فعلي الحج ، أو فلله علي الصدقة بمالي أو عتق عبدي ، ونحو ذلك ، وضابطه أن يخرج النذر مخرج اليمين ، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئاً ، أو يحث به على شيء ، ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب ، واختلف عن أحمد في حكمه ، ( فعنه ) أن الواجب فيه الكفارة ليس إلا ، حتى لو فعل المنذور لم يجزئه .
3678 لما روى سعيد بن منصور في سننه قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه ، عن عمران بن حصين ، عن النبي قال : ( لا نذر في غضب ، وكفارته كفارة يمين ) لكنه ضعيف من قبل محمد بن الزبير .
3679 وروى عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير ، عن رجل من بني حنيفة ، وعن أبي سلمة كلاهما عن النبي ( لا نذر في غضب ، ولا في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين ) ، وهذا وإن كان مرسلًا لكنه يتقوى بالذي قبله .
3680 ثم يعضد ذلك ما روى أبو داود في سننه عن سعيد بن المسيب ، أو رجلين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني فكل مال لي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر رضي الله عنه : إن الكعبة غنية عن مالك ، كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت رسول الله يقول : ( لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ، ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك ) .
3681 ويروى نحو هذا أيضاً عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وحفصة ، وزينب بنت أبي سلمة رضي الله عنهم . ولا يعرف عن غيرهم خلافهم ، ومثل ذلك لا يتقاصر عن تخصيص إطلاق الأمر بالوفاء بالنذر ، ثم بالنظر إلى المعاني ، وقد علم أن قول القائل : إن فعلت كذا فعلي الحج ، ونحو ذلك ليس مقصوده الشرط ولا الجزاء ، بل منع نفسه من ذلك ، فهو كاليمين ، فيدخل في قوله تعالى : 19 ( { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } ) الآية وهذا بخلاف قوله : إن شفى الله مريضي فعلي الحج . ونحو ذلك ، فهذا المقصود فيه وجود الشرط والجزاء ، والمعتبر المقاصد ، ( وعنه ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، والمذهب بلا ريب يتخير بين فعل ذلك ، عملًا بما التزمه ، وبين كفارة اليمين لما تقدم ، ويحكى عن ابن عقيل في الواضح أنه قال : يفعله .
قال : أو بالعهد .
ش : أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالعهد ، وقد يشمل كلام الخرقي ( ما إذا نوى بذلك صفة الله تعالى ) ، وما إذا لم ينو ، ولا ريب أنه إذا نوى به صفة الله تعالى أنه يكون يميناً ، إذ العهد يحتمل أن يراد به كلام الله تعالى الذي أمرنا أو نهانا به ،
____________________
(3/304)
كقوله تعالى : 19 ( { ألم أعهد إليكم يا بني آدم } ) ولا ريب أن كلامه صفة له سبحانه ، ويحتمل أن يراد به استحقاقه لما تعبدنا به ، فإذا نوى بالعهد الأول فقد نوى به أحد محتمليه ، بل هو الظاهر منه ، فيصير كما لو صرح به ، ( أما إذا لم ينو ) فهل هو يمين وهو ظاهر كلام الخرقي ، إذ الألف واللام بدل من المضاف ، فكأنه قال : وعهد الله . ولو قال ذلك فهو يمين بلا ريب أو ليس بيمين وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية ، لتردده بين صفة الله تعالى وغيرها والأصل براءة الذمة ؟ فيه روايتان .
( تنبيه ) حكم الميثاق ، والعظمة والجلال ، والأمانة ، حكم العهد ، إن أضاف ذلك إلى الله ، أو نوى به صفة الله ، فهو يمين ، وإن أطلق فروايتان .
قال : أو بالخروج من الإسلام .
ش : أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالخروج من الإسلام ، كأن يقول : إن فعل كذا فهو يهودي ، أو مجوسي ، أو بريء من الإسلام ، أو القرآن ، أو النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أو يعبد الصليب ، أو يستحل الزنا ، أو ترك الصلاة ، ونحو ذلك ، ( وهذا أشهر الروايتين ) عن أحمد ، واختيار جمهور الأصحاب القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وابن عقيل وغيرهم ، لأن التزام ذلك يقتضي الكفر ، وذلك أبلغ في انتهاك الحرمة من انتهاك حرمة القسم ، فكان بإيجاب الكفارة أولى .
3682 وقد روي عن النبي أنه سئل عن الرجل يقول : هو يهودي أو نصراني ، أو مجوسي ، أو بريء من الإسلام ، في اليمين يحلف بها ، فيحنث في هذه الأشياء ، قال : ( عليه كفارة يمين ) . رواه أبو بكر ، وهذا نص إن ثبت ، لكنه بعيد الثبوت ، ( والرواية الثانية ) لا كفارة في ذلك ، وهي اختيار أبي محمد ، إذ الوجوب من الشرع ، ولم يثبت ، ولأن ذلك ليس باسم الله ولا صفته ، فلا يدخل في الأيمان المشروع الحلف بها .
3683 وقد قال النبي : ( من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله ) .
3684 وفي الصحيحين أن رسول الله قال : ( من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذباً فهو كما قال ) ولم يأمر في ذلك بكفارة ، قال أبو محمد : ويحتمل أن يحمل كلام أحمد رضي الله عنه في الرواية الأولى على الندب ، لأنه قال في رواية حنبل : أحب إلي أن يكفر كفارة يمين .
( قلت ) : وهذا الذي أخذ القاضي منه عدم وجوب الكفارة ، وقد نقل عنه حرب التوقف .
____________________
(3/305)
وقد خرج من كلام الخرقي إذا قال : أنا أسرق ، أو أقتل النفس التي حرم الله ، أو قال : أخزاه الله ، ونحو ذلك أنه لا يكون يميناً ، لأنه ليس بخروج من الإسلام ، وكذلك إن قال : عصيت الله في كل ما أمرني به إن فعلت كذا ، عند الأصحاب ، لأن المتبادر إلى الفهم من ذلك المأمور به من الفروع واختار أبو البركات أنه من الأول ، لدخول التوحيد فيه ، نظراً للعموم ، وكذلك عندهم في : محوت المصحف ، ونص عليه أحمد ، واختار ابن عقيل أنه يمين ، لأن ذلك إهانة للمصحف ، وإسقاط لحرمته ، وإنه كفر ، ولو قال : لا يراني الله في موضع كذا إن فعلت كذا ، فعند القاضي وقال : إن أحمد نص عليه وأبي البركات ، هو من الأول ، وهو واضح ، وخالف أبو محمد فلم يوجب في ذلك كفارة ، وظاهر كلامه وإن سلم وجوب الكفارة في الأول .
( تنبيه ) حيث وجبت الكفارة فيما تقدم فإنما تجب بالحنث .
3685 وفي صحيح مسلم ( من حلف باللات فليقل : لا إله إلا الله ) فجعل كفارة ما حصل منه قول لا إله إلا الله .
قال : أو بتحريم مملوكه أو شيء من ماله .
ش : أي ومن الأيمان المكفرة إذا حلف بتحريم مملوكه ، أو بتحريم شيء من ماله ، كأن قال : هذا العبد أو هذا الطعام علي حرام ؛ أو الحل علي حرام . ونحو ذلك ما عدا الزوجة إن فعلت كذا ، وفعله فعليه الكفارة . نص عليه أحمد ، مستدلًا بحديث العسل ، وهو الذي نزل فيه على الصحيح قول الله تعالى : 19 ( { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ، والله غفور رحيم ، قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ) فسمى سبحانه تحريم ما أحله يميناً ، وفرض له تحلة وهي الكفارة ، وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية .
3686 ففي الصحيحين أنها نزلت في العسل لما شربه ، وقال : ( لن أعود له ) أو ( لا حاجة لي فيه ) ثم اختلف في الحديث هل كان ذلك عند حفصة رضي الله عنها وأن عائشة وسودة رضي الله عنهما في حديث طويل وصفية رضي الله عنها تواصوا وقالوا للنبي : نجد منك ريح مغافير . أو كان ذلك عند زينب بنت جحش رضي الله عنها وأن عائشة وحفصة رضي الله عنهما تواصيا بما تقدم . وقيل نزلت في تحريمه أمة له .
3687 فعن أنس رضي الله عنه أن النبي كان له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة رض الله عنهما حتى حرمها على نفسه ، فأنزل الله عز وجل : 19 ( { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك } ) . رواه النسائي ، وقيل : إن هذه الأمة
____________________
(3/306)
مارية القبطية ، وأيا ما كان فهو حجة لما تقدم .
ولم يتعرض الخرقي رحمه الله لما حرمه هل يحرم أم لا ؟ والمذهب أنه لا يحرم ، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بالتحريم ، لكنه يزول بالكفارة ، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أنه تحريم لمباح ألحقه بتحريم الزوجة بالظهار ، فحرمه كما تحرم هي ، ومن نظر إلى أن هذا داخل بظاهر الآية في الأيمان ، فيعطى حكمها ، وحكمها أنها لا تحرم شيئاً ، لم يحرمه الله . ونص الخرقي رحمه الله على تحريم المملوك والمال ، لتخرج الزوجة ، لأن عنده أن ذلك ظهار ، وقد تقدم ذلك .
قال : أو بنحر ولده .
ش : هذا ساقط في بعض النسخ ، وثابت في أكثرها ، ] وبالجملة قد ذكر فيه بعد روايتين ، فلنؤخر الكلام عليه إن شاء الله تعالى إلى ثم ، والله أعلم .
قال : أو يقول : أقسم بالله ، أو أشهد بالله ، أو أعزم بالله .
ش : أي ومن اليمين المكفرة الحلف بواحد من هذه الأشياء ، هذا قول عامة أهل العلم ، إذ لو قال : بالله . ولم يقل : أقسم ولا أشهد . كان يميناً ، بتقدير الفعل قبله ، لأن الباء تتعلق بمقدر ، فإذا نطق بالفعل المقدر كان أولى بثبوت الحكم ، لا سيما وقد ثبت لذلك عرف الشرع والاستعمال ، قال الله تعالى : 19 ( { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } ) .
3688 وعن عبد الرحمن بن صفوان رضي الله عنه وكان صديقاً للعباس أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله فقال : يا رسول الله بايعه على الهجرة ، فأبى وقال : ( إنها لا هجرة ) فانطلق إلى العباس ، فقام العباس معه فقال : يا رسول الله قد عرفت ما بيني وبين فلان ، وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت ، فقال النبي : ( إنها لا هجرة ) فقال العباس : أقسمت عليك لتبايعنه : قال : فبسط رسول الله يده فقال : ( هات أبررت عمي ولا هجرة ) .
3689 وعن أبي الزاهرية عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة أهدت إليها تمراً في طبق ، فأكلت بعضه وبقي بعضه ، فقالت : أقسمت عليك ألا أكلت بقيته ، فقال رسول الله : ( أبريها فإن الاثم على المحنث ) رواهما أحمد ، وإذا كان يميناً من غير ذكر اسم الله ، فمع اسم الله أولى وأحرى .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في هذه الثلاثة بين أن ينوي اليمين أو لا ينوي ، وهو قول الجمهور ، وخالف أبو بكر في : أعزم بالله . فقال : إن لم ينو اليمين لم يكن يميناً ، زاعماً بأنه لم يثبت لذلك عرف الشرع ولا الاستعمال ، وللأول احتمال اليمين
____________________
(3/307)
مع الاقتران بما يقوم مقام النية ، وهو الجواب بجواب القسم ، والخرقي صور المسألة فيما إذا أتى بذلك بلفظ الاستقبال مع ذكر اسم الله ، فلو أتى به بلفظ الماضي ، كأن قال : شهدت بالله ، أو أقسمت بالله . فكذلك ، لما تقدم من حديثي عائشة وعبد الرحمن ، ولو لم يأت باسم الله ، كأن قال : أقسم أو أقسمت ، وفي حديث سليمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى أنه قال : ( لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ) ولم يذكر اسم الله ، وهو ظاهر في انعقاد اليمين وإن لم يذكر اسم الله في لفظه ، أو شهدت أو أشهد ، فإن نوى اليمين فهو يمين عندنا بلا خلاف نعلمه ، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله ، وإن لم ينو اليمين فروايتان . ( إحداهما ) وهي اختيار عامة الأصحاب ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن عقيل ، والشيرازي ، والخرقي ، وأبي بكر ، فيما قاله أبو الخطاب في الهداية هو يمين ( أيضاً ) لما تقدم من حديثي عبد الرحمن وعائشة رضي الله عنهما فإن الرسول لم يستفصل فيهما هل نويا اليمين أم لا .
3690 وكذلك في حديث أبي بكر رضي الله عنه لما قال : أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت . فقال النبي : ( لا تقسم يا أبا بكر ) . رواه أبو داود ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر لا تكون يميناً ، لاحتماله للقسم بالله وبغيره ، وإذاً لا بد من النية لتميز المراد وتبينه .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) ظاهر كلام أبي محمد في المقنع ، وأبي البركات أن حكم : أعزم . حكم أقسم وأشهد ، إن نوى به اليمين كان يميناً ، وإن أطلق فروايتان ، وقال أبو محمد في المغني : إذا قال : أعزم أو عزمت . لم يكن قسماً ، نوى به القسم أو لم ينو ، لأنه لم يثبت له عرف في الشرع ، ولا الاستعمال في كونه قسماً . قلت : وأكثر الأصحاب لم أرهم ذكروا ذلك ، وإنما ذكروا : أشهد وأقسم . وزادوا مع ذلك أحلف .
( الثاني ) لو قال : نويت بأقسمت بالله الخبر عن قسم ماض ، أو بأقسم . الخبر عن قسم يأتي دين ، وهل يقبل منه في الحكم ، وهو اختيار أبي محمد ، أو لا يقبل ، وهو اختيار القاضي ؟ فيه قولان .
قال : أو بأمانة الله .
ش : أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بالأمانة ، وحكم الحلف بذلك حكم الحلف بعهد الله أو ميثاقه ، على ما مر إن أضافها إلى الله ، أو نوى بها صفة الله تعالى فهو يمين ، وإن قال : والأمانة . وأطلق فروايتان .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) قال أبو محمد : يكره الحلف بالأمانة .
3691 لأن في السنن أن النبي قال : ( من حلف بالأمانة فليس منا ) .
____________________
(3/308)
3692 وعن عمر رضي الله عنه أنه كان ينهى عن ذلك أشد النهي . ( قلت ) وظاهر الحديث والأثر التحريم .
( الثاني ) ظاهر كلام الخرقي أن ما عدا ما تقدم من الأيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته ، وما ذكره لا يكون يميناً مكفرة ، وذلك كالحلف بغير الله تعالى ، سواء كان معظماً أو غير معظم ، أضافه إلى الله تعالى أو لم يضفه ، كقوله : ومعلوم الله ومقدوره وخلقه ، والكعبة ، والنبي ، ورأس السلطان ، وزيد ، ونحو ذلك ، وهو كذلك ، للنهي عن الحلف بذلك .
3693 ففي الصحيح أن النبي قال : ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت ) .
3694 وقال : ( من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله ) .
3695 وقال : ( إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ) وإذا كان منهياً عن الحلف بذلك فلا يدخل في الأيمان المشروعة .
واستثنى من ذلك عامة الأصحاب الحلف برسول الله فجعلوا الحلف به يميناً مكفرة . ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب لأنه أحد شطري الشهادة ، فأشبه الحلف بالشطر الآخر وهو اسم الله ، وخالفهم أبو محمد نظراً لما تقدم ، ولأنه مخلوق ، فأشبه إبراهيم عليه السلام وأورد أبو البركات المذهب عدم وجوب الكفارة ، وظاهر نقله أن المسألة على روايتين ، وخرج على رواية وجوب الكفارة بجواز الحلف به ، أما إن لم يجب بالحلف به كفارة فحكمه في الحلف به حكم غيره ، هل يكره ذلك وهو الذي جزم به أبو الخطاب في الهداية ، وأبو علي ، وابن البنا ، وأورده أبو محمد مذهباً ، أو يحرم وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، وهو ظاهر الحديث ؟ على قولين ، ( وعن أحمد ) ما يحتملهما وقال حرب : قلت لأحمد : الرجل يقول : وبيت الله . فكرهه ، وقال : هذا حلف بغير الله ، والله أعلم .
قال : ولو حلف بهذه الأيمان على شيء واحد فحنث لزمته كفارة واحدة .
ش : كأن حلف بالله ، وبالرب ، وبالرحمن ، وبعهد الله وميثاقه . ونحو ذلك على شيء واحد ، فكفارة واحدة ، لأن ذلك يمين واحدة ، وإنما ذلك تأكيد ومبالغة في الحلف ، فهو كما لو قال : والله الذي لا إله إلا الله هو ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب . إلى غير ذلك من تعداد الصفات ، وعكس هذه المسألة في الصورة مع الاتفاق في الحكم إذا حلفت يميناً واحدة على أشياء مختلفة ، إناطة بأنها يمين واحدة ، فلم يجب بها أكثر من كفارة واحدة .
____________________
(3/309)
وقول الخرقي : ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شيء واحد . مفهومه أنه لو حلف بها على أشياء فحنث أنه يجب عليه لكل يمين كفارة ، وقد اختلف فيما إذا كرر اليمين على شيء واحد ، بأن قال : والله لا أكلت ، والله لا أكلت والله لا أكلت . أو على أشياء بأن قال : والله لا لبست ، والله لا شربت ، والله لا مشيت ، ثم أكل وشرب ، ولبس ومشى ( فعنه ) وهو اختيار أبي بكر والقاضي تجزئه كفارة واحدة ، نظراً إلى أن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود والحدود تتداخل ، فكذلك الكفارات ، ( وعنه ) يجب عليه كفارات بعدد ما حلف عليه ، نظراً إلى أن كل واحدة يمين منعقدة ، فأشبهت الأيمان المختلفة الكفارة ( وعنه ) وإليه ميل أبي محمد ، ويحتمل كلام الخرقي أنها إن كانت على فعل واحد كوالله لا أكلت ، ووالله لا أكلت ، ووالله لا أكلت فكفارة واحدة ، نظراً إلى أن ذلك غالباً يستعمل للتأكيد ، وإن كانت على أفعال كوالله لا شربت ، ووالله لا لبست ، ووالله لا مشيت فكفارات ، لانتفاء التأكيد إذاً ، ( ومحل الخلاف ) في الأول إذا لم يرد بلا ريب ، كما قد نص عليه أحمد في رواية حرب ، ( ومحل الخلاف ) في الثاني إذا كان ذلك قبل التكفير ، أما إن حنث مثلًا كفارة ثانية بلا ريب ، لانتفاء التداخل إذاً .
قال : ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفين الكفارة لزمته في كل واحدة من اليمينين كفارتها .
ش : كأن حلف بالله وبالظهار ، لانتفاء التدخل ، إذ التداخل إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس ، والكفارات هنا جنسان ، فأشبهتا حدّ الزنا والسرقة .
قال : ولو حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين .
ش : نص أحمد على هذا في رواية حرب وغيره .
3696 وذلك لما ذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الإعراب قال : وروينا من طريق الحجاج بن منهال ، قال : حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن ، أو رسول الله قال : ( من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة يمين صبر ، إن شاء بر وإن شاء فجر ) وذكر أبو محمد بن قدامة أن الأثرم رواه عن مجاهد ، عن رسول الله فيحتمل أنه روي من طريقين .
3697 وهو إن كان مرسلًا ، فقد عضده أن ذلك قول ابن مسعود ، ولا يعرف عن صحابي غيره خلافه ، ( وعنه ) وقال أبو محمد : إنه قياس المذهب يجزئه كفارة واحدة ، بناء على أن الحلف بجميع صفات الله تعالى كما تقدم لا يجب بها أكثر من كفارة واحدة ، فالحلف بصفة واحدة وهي كلامه سبحانه أولى ، قال أبو محمد : ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الأول على الاستحباب ، لأنه قال : عليه بكل آية
____________________
(3/310)
كفارة ، فإن لم يمكنه فكفارة واحدة . قلت : وهذا للوجوب أقرب منه للاستحباب ، لأن أحمد إنما نقله لكفارة واحدة عند العجز ، إذ 19 ( { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ) وهو لا يطيق إلا ذلك ، والحكم فيما إذا حلف بالمصحف أو بكلام الله ، كالحكم فيما تقدم ، لأن ذلك عبارة عن القرآن ، والحكم فيما إذا حلف بسورة القرآن كالحكم في الحلف بكله ، هل يجب عليه بكل آية منها كفارة ، أو لا تجب إلا كفارة واحدة ؟ فيه القولان .
قال : وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله فيمن حلف بنحر ولده روايتان ، إحداهما كفارة يمين ، والأخرى يذبح كبشاً .
ش : هذا أولًا مبني على قاعدة تأتي للخرقي رحمه الله وهو أن نذر المعصية ينعقد موجباً لكفارة يمين ، إذ ذبح الولد معصية ، بل من أعظم المعاصي ، قال الله تعالى : 19 ( { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } ) وقال تعالى : 19 ( { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } ) .
3698 وقال النبي : ( أكبر الكبائر أن تجعل لله نداً وهو خلقك ) قيل : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك ) وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده أمر مختص به ، لا يتعداه إلى غيره ، ثم قد نسخ ذلك بالفداء بالكبش .
إذا تقرر هذا فمن أوجب كفارة يمين جرى على القاعدة في نذر المعصية ، إذ الواجب فيه كفارة يمين كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وإلى هذا ميل أبي محمد ، وقال أبو الخطاب في خلافه : إنه الأقوى . ومن أوجب ذبح كبش قال : لأنه الذي أوجبه الله تعالى على إبراهيم عليه السلام بدلًا عما أوجبه الله تعالى عليه من ذبح ولده ، إذ مقتضى النذر أن يلزم ذبح الولد ، لكن لما منعنا الله من ذلك كان بمنزلة منع إبراهيم من ذبح ولده ، ثم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أوجب الله عليه ذبح كبش بدلًا عن ذبح الولد ، فكذلك نحن .
3699 وقد اختلف عن الحبر ابن عباس رضي الله عنهما على قولين ، كالروايتين السابقتين ، وأنصبهما عنه ذبح كبش ، كما هو نص الروايتين عن أحمد ، وهو اختيار القاضي ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما .
و الخرقي رحمه الله صور المسألة فيمن حلف بنحر ولده ، كأن قال : إن فعلت كذا فلله علي نحر ولدي . أو : ولدي نحير إن فعلت كذا ، وكذلك الحكم فيما إذا نذر وأطلق ، كأن قال : لله علي نحر ولدي ، والحكم في نذر نحر نفسه أو نحر أجنبي كذلك ، قاله القاضي وأبو محمد ، وقد نص عليه أحمد في ذبح نفسه ، في رواية
____________________
(3/311)
ابن منصور ، وأشار إليه في ذبح الأجنبي ، في رواية أبي طالب .
وقول الخرقي : فيمن حلف بنحر ولده ، هذه العبارة تشمل ما إذا كان له ولد واحد أو أولاد ، لكن مراده والله أعلم إذا لم يكن له إلا ولد واحد ، لأن أحمد نص في الثانية أن الكبش بتعدد الأولاد ، وهو جار على قاعدته ، ومنصوصه في الطلاق وغيره من أن المفرد المضاف يعم .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا تجب عليه الكفارة إلا إذا حنث ، ونص عليه أحمد فيمن نذر أن ينحر نفسه يفدي نفسه إذا حنث ، وقوله : يذبح كبشاً ، كذا قال بعضهم ، وبعضهم قال شاة وأحمد قد أجاب تارة بهذا ، وتارة بهذا .
قال : ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده ، وإمائه ، ومدبريه ، وأمهات أولاده ، ومكاتبيه وشقص يملكه من مملوك .
ش : صورة هذه المسألة إذا قال : إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر ، أو كل مملوك لي عتيق إن فعلت كذا ، فإذا فعل ذلك فقد وجد الشرط فيعمل بمقتضاه ، وهو عتق من تقدم ، كما لو قال : إن فعلت كذا ، فكل زوجة لي طالق ، ونحو ذلك ، وماذاك إلا أن هذا صورته صورة الشرط حقيقة ، وكذلك معناه ، إذ ليس فيه التزام حتى يشبه اليمين ، كما في نذر اللجاج : إن فعلت كذا فلله علي عتق عبيدي ، ونحو ذلك ، وإنما عتق عليه عبيده وإماؤه لأن ملكه عليهم تام بلا ريب ، وإنما عتق مكاتبوه ومدبروه وأمهات أولاده لبقاء ملكه عليهم ، فيدخلون فيما يملك ، وكذلك أيضاً عتق الشقص الذي يملكه ، لدخوله فيما يملكه ( وقيل عن أحمد ) رواية أخرى لا يعتق الشقص إلا أن ينويه ، لأن ذلك لا يخطر ببال الحالف غالباً ، فلا يتعلق به اليمين والله أعلم .
قال : ومن حلف فهو مخير في الكفارة قبل الحنث أو بعده وسواء كانت الكفارة صوماً أو غيره ، إلا في الظهار والحرام ، فعليه الكفارة قبل الحنث .
ش : قد تقدم أن مذهب الخرقي أن الحرام ظهار ، فحكمه حكمه وإنما عطفه عليه لتغاير لفظيهما كما في قوله :
فألفيت قولها كذباً وميناً .
وقد تقدم أيضاً أن كفارة الظهار يجب إخراجها قبل الحنث ، فلا حاجة إلى إعادة ذلك ، والكلام الآن في كفارة اليمن ، ومذهبنا ومذهب جمهور السلف أن الحالف إذا أراد الحنث في الجملة فهو مخير إن شاء أخرج الكفارة قبل الحنث ، وإن شاء بعده .
3700 لما روي عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال : قال لي رسول
____________________
(3/312)
الله : ( يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك . وائت الذي هو خير ) . متفق عليه . وهذا أمر ، وأقل أحواله الجواز ، وللبخاري ( فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ) ، وفي لفظ ( إذا حلفت علي يمن ، فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك ، ثم ائت الذي هو خير ) رواه أبو داود والنسائي ، وهذا أصرح من الذي قبله .
3701 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من حلف علي يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليكفر عن يمينه ، وليفعل الذي هو خير ) رواه مسلم وغيره .
3702 وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إني والله إن شاء الله لا أحلف علي يمين ، فأرى غيرها خيراً منها ، إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ) أو قال : ( أتيت الذي هو خير ، وكفرت عن يميني ) هذا لفظ أبي داود ، وعند النسائي في رواية ( إلا كفرت عن يميني ، وأتيت الذي هو خير ) وهو في الصحيحن بنحو ذلك أيضاً .
وظاهر كلام الخرقي أن التكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة ، لا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وهو اختيار أبي محمد ، لورود الأحاديث بهذا تارة ، وبهذا أخرى ، فدل على استواء الأمرين ، وقال ابن أبي موسى : بعده أفضل عند أحمد ، للخروج من الخلاف ، وإذاً ينبغي براءة الذمة ، إذ عند الحنفي لا يجزئ الإخراج إلا بعد الحنث ، وكذلك عند الشافعي في الصوم فقط ، وهذا المقتضي لتنصيص الخرقي على التسوية بين الصوم وغيره ، وعورض الخروج من الخلاف بتعجيل النفع للفقراء .
وظاهر كلام الخرقي أن التخيير جار وإن كان الحنث محظوراً ، وهو أحد الوجهين ، إناطة بوجود السبب ( والوجه الثاني ) : لا يجزئه ، لأن النبي قال : ( إذا حلف على يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك ، وائت الذي هو خير ) والإتيان هنا ليس بخير ، فلا يتناوله الأمر بالتقديم ، على أن الملحوظ في التقديم الرخصة ، والرخص لا تباح بالمعاصي .
( تنبيه ) . الكفارة قبل الحنث محللة لليمين ، قال الله تعالى : 19 ( { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ) وبعد الحنث مكفرة ، قال سبحانه : 19 ( { ذلك كفارة أيمانكم إذ
____________________
(3/313)
حلفتم } ) قال بعضهم : أي فحنثتم .
قال : وإذا حلف بيمين فقال : إن شاء الله ، فإن شاء فعل ، وإن شاء ترك ، ولا كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام .
ش : إذا حلف فقال مثلًا : والله لأدخلن الدار إن شاء الله . فهو مخير في الجملة بين الفعل والترك ، فإن ترك لم يحنث إجماعاً .
3703 وقد شهد له ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال : ( من حلف علي يمين فقال : إن شاء الله ، فلا حنث عليه ) رواه الخمسة وحسنه الترمذي .
3704 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من حلف فقال : إن شاء الله ، لم يحنث ) رواه الترمذي والنسائي .
3705 وفي الصحيحين أيضاً من حديثه ( لو قال سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام : لأطوفن الليلة بمائة امرأة ، تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله . فقال له الملك ، قل : إن شاء الله ، فلم يقل ونسي ، وطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان ) قال النبي : ( قال إن شاء الله ، لم يحنث ، وكان دركاً لحاجته ) .
إذا تقرر هذا فشرط صحة الاستثناء الاتصال المعتاد على المذهب المعروف ، س فلو كت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ، أو تكلم بكلام أجنبي ، ونحو ذلك بطل استثناؤه ، ولا يضر السكوت لعارض من تنفس أو عطاس ، ونحو ذلك ، إذ الاستثنتاء أحد المخصصات ، فاعتبر اتصاله كبقية المخصصات ، من الشرط والصفة وغيرهما .
3706 وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما من رواية أبي داود وغيره ( من حلف علي يمين فاستثنى ) فظاهره أن الاستثناء يكون عقب الحلف ، وقال أحمد : حديث النبي لعبد الرحمن بن سمرة ( إذا حلفت علي يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها ، فكفر عن يمينك ) ولم يقل : واستثن . قلت والظاهر أن النبي إنما حكم على اليمين التي يحنث بتركها ، ولهذا لم يقل له ولم يستثن ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى : لا يضر الفصل اليسير ، بشرط أن لا يخلط كلامه بغيره .
3707 لما روي عن عكرمة أن النبي قال يوماً ( والله لأغزون قريشاً ، والله لأغزون قريشاً ) ثم قال : ( إن شاء الله ) ، وفي رواية عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي وفي رواية عن عكرمة يرفعه أنه قال : ( والله لأغزون قريشاً
____________________
(3/314)
ثم قال : ( إن شاء الله ) ثم قال : ( والله لأغزون قريشاً إن شاء الله ) ثم قال : ( والله لأغزون ) ثم سكت ثم قال : ( إن شاء الله ) زاد فيه بعض الرواة : ثم لم يغزهم . رواه أبو داود ، واحتج به أحمد فقال : حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( والله لأغزون قريشاً ) ثم سكت ثم قال : إنما هو استثناء بالقرب ، ولم يخلط كلامه بغيره اه .
3708 وفي الصحيحين أن النبي قال في مكة ( لا يختلى خلاها ) الحديث ، فقال له العباس : يا رسول الله إلا الإذخر ، فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : ( إلا الإذخر ) فأثر الاستثناء وهو منفصل .
3709 وفي حديث سليمان عليه السلام أن الملك قال له : قل إن شاء الله ، فلم يقل ، وظاهره أنه قال له ذلك بعد الفراغ من اليمين . وقد قال عليه السلام : ( لو قال : إن شاء الله يعني وقت قال له الملك لم يحنث ) ( وحكى ابن أبي موسى ) عن بعض الأصحاب أن المشترط المجلس ، لأن حالة المجلس كحالة الكلام ، وينبغي أن يقيد هذا أيضاً بما قيد به الذي قبله ، من أنه لا يخلط كلامه بغيره ، وكلام الخرقي رحمه الله محتمل للقولين الأولين ، ( واشترط ) القاضي ، وأبو البركات وغيرهما مع ما تقدم أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه ، لأن المخرج بالاستثناء غير مراد بالحكم عليه ، وإلّا لزم أن يكون مراداً غير مراد ، وهو متناقض ، فيلزم منه رفع ما أوقعه ، وظاهر بحث أبي محمد أن المشترط قصد الاستثناء فقط ، حتى لو نوى عند تمام يمينه صح استثناؤه ، وفيه نظر ، وظاهر إطلاق الخرقي عدم الاشتراط أصلًا ، وهو وجه حكاه ابن البنا ، وبناه على أن لغو اليمين عندنا صحيح ، وهي ما كان على الماضي ، وإن لم يقصده ، وهو ظاهر حديث الإذخر وحديث سليمان .
وقول الخرقي : وإذا حلف ، يشمل كل حلف ، وكذلك ظاهر الحديث ، وقد استثنى من ذلك الطلاق والعتاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وإذاً يصير ملخص الأمر أن كل يمين تدخلها الكفارة ، كاليمين بالله تعالى ، والنذر والظهار يدخلها الاستثناء ، وقد نص أحمد على ذلك .
وقوله : فقال . ظاهره أنه لا ينفعه الاستثناء بقلبه ، وهو كذلك لظاهر الحديث ، ولأن الاستثناء كالجزء من اليمين ، واليمين لا تنعقد بالنية ، فكذلك الاستثناء ، وعن أحمد في المظلوم يستثنى في نفسه : أرجو أن يجوز إذا خاف على نفسه ، وكأنه رضي الله عنه نظر إلى أن ذلك تأويل ، والمظلوم ينفعه تأويله .
قال : وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله رحمه
____________________
(3/315)
الله أنه توقف عن الجواب ، وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء .
ش : وذلك كأن قال لزوجته : أنت طالق إن شاء الله . أو لعبده : أنت حر إن شاء الله . وتوقف أحمد عن الجواب في ذلك ، لاختلاف الناس فيه ، مع عدم نص قاطع في ذلك ، وحظر ذلك ، وهو الحكم بحل فرج أو تحريمه ، والذي استقر عليه قوله أنه لا ينفعه الاستثناء ، معللًا ذلك في رواية حنبل بأنهما ليسا من الأيمان ، وإذا لم يكونا من الأيمان فلا يدخلان في قول النبي ( من حلف فقال : إن شاء الله لم يحنث ) ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في أول الباب ، وأن المغلب فيهما التعليق على شرط ، وإذاً هذا الشرط الذي قد علق عليه الطلاق وهو مشيئة الله تعالى أمر لا سبيل إلى علمه ، فهو كالتعليق على مستحيل ، أو أمر يفضي اعتباره إلى رفع الطلاق بالكلية ، أشبه ما لو قال : أنت طالق طلقة لا تلزمك . ونحو ذلك .
3710 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قال الرجل لامرأته : أنت طالق إن شاء الله . هي طالق . رواه أبو حفص بسنده ، وعن أبي بردة نحوه .
3711 وعن ابن عمر رضي الله عنهما وأبي سعيد رضي الله عنه قالوا : كنا معاشر أصحاب رسول الله نرى الاستثناء جائزاً في كل شيء إلا في العتاق والطلاق . ذكره أبو الخطاب ( وحكى أبو محمد رواية أخرى ) عن أحمد رضي الله عنه بصحة الاستثناء في الطلاق والعتاق ، بناء على أنهما من الأيمان ، فيدخلان في عموم ( من حلف على يمين ) إذ ذلك نكرة في سياق الشرط ، فتشمل كل يمين ، ونظراً إلى أن التعليق يحصل على مشيئة لم يعلم وجودها ، أشبه ما لو علقه على مشيئة زيد ، وأجيب بأن مشيئة الله تعالى قد علمت بمباشرة الآدمي بسب ذلك وهو النطق بالطلاق ، ونقل الشيخ أبو حامد الاسفرائيني ومن تبعه عن إمامنا رواية بالتفرقة بين الطلاق العتاق ، وقطع أبو البركات وغيره بأن ذلك غلط على الإمام ، وسبب الغلط والله أعلم أن أحمد قال فيمن قال : إن ملكت فلاناً فهو حر إن شاء الله ، فملكه صار حراً ، وقال فيمن قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق إن شاء الله ، فتزوجها لم تطلق ، ففرق بين التعليقين ، وذلك أن من أصله أن العتق يصح أن يعلق بالملك ، بخلاف الطلاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ففرق أحمد لأجل هذا ، لا لأجل الاستثناء بالمشيئة ، وللمسألة فروع أخر ليس هذا موضعها والله أعلم .
قال : وإن قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، لم تطلق إن تزوج بها ، وإن قال : إن ملكت فلاناً فهو حر ، فملكه صار حراً .
ش : اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هاتين المسألتين على ثلاث روايات ( إحداهن ) صحة التعليق فيهما ، فيقع العتق والطلاق ( والثانية ) عدم الصحة فيهما فلا يقعان ، وهي اختيار أبي محمد ، وأبي الخطاب .
____________________
(3/316)
3712 ومدركهما أن قول النبي : ( لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، ولا عتق له فيما لا يملك ، ولا طلاق له فيما لا يملك ) . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده .
3713 وقول النبي : ( لا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك ) رواه ابن ماجه من رواية المسور بن مخرمة ، هل هذا الطلاق والعتاق وقعا قبل ملك ، أو لم يقعا إلا في ملك ، وأصل هذا فيما قيل إن الشرط هل منع انعقاد السبب ، أو إنما منع ترتب حكمه عليه ، فمن نظر إلى الأول قال بوقوع الطلاق والعتاق ، لوجود سببهما في الملك ، ومن نظر إلى الثاني قال بعدم وقوعهما ، لوجود السبب قبل الملك ، والمشهور عن أحمد وهو المختار لعامة أصحابه ، حتى إن بعضهم لا يثبت ما يخالف ذلك التفرقة بين الطلاق والعتاق ، كما قاله الخرقي ، فيقع العتق دون الطلاق ، نظراً إلى أن العتق قربة وطاعة ، فصح تعليقه على الملك كالنذر ، وقد دل على الأصل قول الله تعالى : 19 ( { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين } ) الآية . وهذا بخلاف الطلاق ، فإنه ليس بقربة من حيث هو ، بل عدمه هو القربة ، والأصل أن الإنسان لا ينفذ له تصرف إلا فيما يملك ، وأيضاً الملك قد يقصد للعتق ، كما في شراء من يعتق عليه برحم أو بشرط ، والنكاح لا يقصد للطلاق ، بل قد تذهب فائدته . اه . و الخرقي رحمه الله صور المسألة فيما إذا علق طلاق معينة على تزوجها ، وكذلك الحكم في غير المعينة ، كما إذا قال : كل امرأة أتزوجها فهي طالق . وكلامه في تعليق العتق يشمل ما إذا كان المكلف حراً أو عبداً ، والصحيح عندهم أن العبد لا يصح تعليقه ، وإن صح تعليق الحر ، لعدم ملكه حين التعليق .
قال : ولو حلف أن لا ينكح فلانة ، أو لا اشتريت فلانة ، فنكحها نكاحاً فاسداً ، أو اشتراها شراء فاسداً لم يحنث .
ش : هذا هو المشهور والمختار من الأوجه ، حملا لذلك على النكاح الشرعي والشراء الشرعي ، ولا ريب أنهما الصحيحان إذ كلام المكلف محمول على المراد من كلام الشارع ، وكلام الشارع المراد به الصحيح ، فكذلك كلام المكلف ، ( وقيل بحنثه ) مطلقاً ، نظراً لإطلاق اللفظ الشامل للشرعي واللغوي ، وملخصه أن الأول غلب الحقيقة الشرعية ، والثاني غلب الحقيقة اللغوية ( وفي المذهب وجه ثالث ) اختاره ابن أبي موسى ولا بأس به أنه يحنث بالنكاح أو الشراء المختلف فيه ، لعدم الجزم بكونه ليس بشرعي ، مع تيقن دخوله في الحقيقة اللغوية ، دون النكاح أو الشراء المتفق على بطلانهما ، لتيقن كونه ليس بشرعي ، مع أن المغلب في الإطلاق هو الشرعي ، والله أعلم .
____________________
(3/317)
قال : ولو حلف أن لا يشتري فلاناً ، أو لا يضربه ، فوكل في الشراء أو الضرب حنث ما لم تكن له نية .
ش : لأن فعل الوكيل قائم مقام فعل الموكل ، فكأنه هو ، والدليل على أن الفعل يضاف إلى الموكل قال الله تعالى : 19 ( { محلقين رؤوسكم } ) وقال : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ) وقال رسول الله : ( اللهم ارحم المحلقين ) ولا ريب في تناول ذلك لمن حلق رأسه بأمره ، ولو حلف لا يدخل داراً ، فأمر من حمله وأدخله إليها حنث ، والخرقي رحمه الله ذكر الصورتين على سبيل المثال ، ولينبه بهما على مذهب المخالف ، والحكم منوط بما إذا حلف لا يفعل شيئاً ، وإنما ذكر هاتين الصورتين على سبيل المثال ، إذ الشافعي يخالف فيهما في الجملة ، والنعمان يخالف في صورة البيع دون الضرب ، ثم محل هذه المسألة إذا لم يكن ثم نية أو ما يقوم مقامها من قرينة حال ونحو ذلك ، أما مع النية أو بدلها فإن الحكم يناط بها ويعتمد عليها والله أعلم .
قال : وإذا حلف بعتق أو طلاق أو لا يفعل شيئاً ففعله ناسياً حنث .
ش : قد تقدمت هذه المسألة في قوله : وإن فعله ناسياً فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق ، والخلاف فيها فلا حاجة إلى إعادتها ، والله أعلم .
قال : ومن حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوماً ، فإن كان ظالماً لم ينفعه تأويله ، لما روي عن النبي أنه قال : ( يمينك على ما يصدقك به صاحبك ) .
ش : التأويل أن يقصد بلفظه ما يخالف ظاهره مع احتمال اللفظ له ، كأن يحلف أنه أخي وينوي بذلك أخوة الإسلام ، قال الله تعالى : 19 ( { إنما المؤمنون إخوة } ) أو المشابهة استعارة ، أو يحلف أنه كان تحت سقف ، وينوي به السماء ، قال الله تعالى : 19 ( { وجعلنا السماء سقفا محفوظا } ) أو يحلف أنه كان على فراش أو بساط ، مريداً بذلك الأرض ، قال سبحانه : 19 ( { والأرض فرشناها } ) وقال سبحانه : 19 ( { والله جعل لكم الأرض بساطا } ) أو يحلف ما لفلان عندي وديعة ، مريداً ب ( ما ) الذي ، أو ما فلان ههنا ، ويريد موضعاً معيناً ، ونحو ذلك مما هو سائغ في اللغة ، مع أن السابق إلى فهم السامع خلافه .
ولا يخلو المتأول من ثلاثة أحوال . ( أحدها ) أن يكون الحالف مظلوماً ، كأن يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لناله أو مسلماً أو ذمياً ضرر ، فهذا له تأويله بلا ريب .
3714 لما روى سويد بن حنظلة رضي الله عنه قال : خرجنا نريد رسول الله ، ومعنا وائل بن حجر ، فأخذه عدو له ، فتحرج القوم أن يحلفوا ، وحلفت أنا
____________________
(3/318)
أنه أخي ، فخلي عنه ، فأتينا رسول الله فذكرت ذلك له ، فقال : ( أنت كنت أبرهم وأصدقهم ، صدقت ، المسلم أخو المسلم ) رواه أحمد وابن ماجه .
3715 وفي حديث الإسراء المتفق عليه : ( مرحبا بالأخ الصالح ، والنبي الصالح ) .
3716 وقال عليه السلام : ( إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ) ( الحال الثانية ) : أن يكون ظالماً ، كالذي يستحلف على حق عنده ، فهذا لا ينفعه التأويل ، وتنصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي يقصده المستحلف بلا ريب أيضاً .
3717 لما استدل به الشيخ رحمه الله وهو حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( يمينك على ما يصدقك به صاحبك ) وفي لفظ : ( يصدقك عليه صاحبك ) وعنه رضي الله عنه أيضاً قال : قال رسول الله : ( اليمين على نية المستحلف ) رواهما مسلم وغيره ، ولأنه لو ساغ التأويل والحال ما تقدم لاتخذ ذلك وسيلة إلى جحود الحق ، وبطل المعنى المقصود باليمين ، وهو تخويف الحالف من عاقبة اليمين ، ولا ريب أن الشريعة تأبى مثل ذلك ، والشيخ رحمه الله اعتمد في الاستدلال على اللفظ الأول ، وكذلك غيره من الأئمة من أصحابنا وغيرهم ، وبعض العلماء اعتمد في الاستدلال على الثاني ، وقال : إن معنى الأول أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها هي التي تكون صادقة في نفسها ، بحيث لو اطلع عليها صاحبك لعلم أنها حق وصدق ، وأن ظاهرها كباطنها ، فيصدقك على ما حلفت عليه ، وإذاً فائدة هذا الحديث أن الحالف يعرض على نفسه اليمين ، فإن وجدها كما تقدم حلف إن شاء ، وإلا أمسك .
( الحال الثالثة ) إذا كان المتأول لا ظالماً ولا مظلوماً ، وهذه الحالة لم يتعرض الخرقي لها بنفي ولا إثبات ، وفيها قولان حكاهما أبو العباس ، وقال : إن ظاهر كلام أحمد المنع في اليمين اه . وظاهر كلام الشيخين الجواز ، واعتمد أبو محمد على ما روي أن مهنا كان عنده هو والمروذي وجماعة ، فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه ، فوضع مهنا إصبعه في كفه فقال : ليس المروذي ها هنا ، وما يصنع المروذي ها هنا ، يريد ليس في كفه ، ولم ينكر ذلك الإمام أحمد .
3718 واستدل بأن النبي كان يمزح ولا يقول إلا حقاً ، والمزح أن يوهم السامع بكلامه غير ما يفهم من ظاهره ، كما قال لتلك العجوز : ( لا يدخل الجنة عجوز ) يعني أن الله ينشئهن أبكاراً ، عرباً أتراباً .
____________________
(3/319)
3719 وعن أنس رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي فقال : يا رسول الله احملني . فقال رسول الله : ( إنا حاملوك على ولد ناقة ) فقال : وما أصنع بولد الناقة . قال : ( وهل تلد الإبل إلا النوق ) رواه أبو داود .
3720 وقال النبي لرجل احتضنه من ورائه : ( من يشتري العبد ) فقال : يا رسول الله تجدني إذاً كاسداً . قال : ( لكنك عند الله لست بكاسد ) ، وهذا كله من التأويل الحق الجائز ، فإن رسول الله لا يقول إلا حقاً ، ( قلت ) : وهذا كله ورد في غير اليمين وهو واضح ، أما اليمين فلها حرمة ، فقد يقال : لا حاجة إلى ارتكابها والتعريض فيها ، لا سيما وقد عضد هذا قول النبي : ( اليمين على نية المستحلف ) خرج منه المظلوم لما تقدم ، وللاتفاق أيضاً فيما أظن ، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم ، والله أعلم .
____________________
(3/320)
( كتاب الكفارات )
ش : أجمع المسلمون على مشروعية الكفارة ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ، واحفظوا أيمانكم ، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون } ) ، ومن السنة ما تقدم من قوله : ( فأت الذي هو خير ، وكفر عن يمينك ) ونحوه والله أعلم .
قال : وإذا وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم .
ش : لما تقدم للخرقي رحمه الله اليمين الموجبة للكفارة شرع يبين الكفارة فقال : ومن وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم ، وهذا والحمد لله إجماع في أنه إن شاء أطعم ، وإن شاء كسى ، وإن شاء أعتق ، وقد شهد النص المتقدم لذلك وهو واضح ، إذ أصل موضوع ( أو ) للتخيير بين شيئين أو أشياء .
3721 ولهذا قال ترجمان القرآن كما ذكره عنه الإمام أحمد في التفسير : كل ما كان في كتاب الله ( أو ) فهو للتخيير ، وما كان ( فمن لم يجد ) فالأول الأول ، والله أعلم .
قال : عشرة .
ش : الكلام في الإطعام في ثلاثة أمور ( أحدها ) في عددهم ، وهو عشرة بنص الكتاب ، نعم هل يقوم تكرار إطعام الواحد مقام تعداد الأشخاص ، أم لا ، أو يفرق بين العدم والوجود ؟ فيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : مساكين مسلمين أحراراً ، كباراً كانوا أو صغاراً ، إذا أكلوا الطعام .
ش : هذا ( الأمر الثاني ) مما يتعلق بالإطعام وهو صفة المطعمين ، وقد اشترط 16 ( الخرقي ) رحمه الله لهم أربعة أوصاف . ( الأول ) أن يكونوا مساكين ، اعتماداً على ما تقدم من الآية ، وعلى قوله تعالى : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } ) الآية . ويدخل في المسكين الفقير ، لأنه مسكين وزيادة على قاعدتنا ، ولما تقدم من أن الفقير والمسكين في غير الزكاة صنف واحد ، لأن جهة استحقاقهم واحدة وهي الحاجة ، وإنما جعلا صنفين في الزكاة للتفريق بينهما في الاسم والعطف المقتضي للمغايرة ، ويخرج ما عدا هذين ، وإن كان من أهل الزكاة ، نعم يجوز الدفع للغارم
____________________
(3/321)
لإصلاح نفسه لاحتياجه ، فهو كالمسكين ، وكلام أبي محمد يوهم المنع . ( الثاني ) أن يكونوا مسلمين ، وقد تقدم هذا في الظهار فلا حاجة إلى إعادته . ( الثالث ) أن يكونوا أحراراً ، وهذا أيضاً قد تقدم في كفارة الظهار ، ونزيد هنا بأن ظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب ، لأنه ليس بحر ، وهذا ( إحدى الروايتين ) واختيار القاضي في المجرد ، وأبي الخطاب في الهداية ، وأبي محمد ، لأنه صنف آخر غير المساكين ، والله سبحانه إنما جعل الإطعام للمساكين ، ولأنه يأخذ ليفك رقبته ، لا لتحصيل كفايته كالمسكين . ( والثانية ) وهي اختيار القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافاتهم يجوز ، لأنه محتاج للأخذ فأشبه المسكين ، ( الرابع ) أن يكونوا قد أكلوا الطعام ، فلا يجوز دفعها إلى صغير لم يأكل الطعام ، وهذا ( إحدى الروايتين ) واختيار القاضي ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فإطعام } ) فظاهره أن الواجب إطعامهم ، فإذا لم يعتبر ذلك فلا أقل من اعتبار إمكانه ومظنته ، ولا يتحقق المظنة فيمن لم يأكل . ( والثانية ) وهي اختيار أبي الخطاب لا يشترط ذلك ، إذ حقيقة الأكل ليس بشرط ، والإطعام مصدر أريد به المطعوم ، فالواجب مطعوم عشرة مساكين ، بأن يملكهم ذلك ، وهذا يمكن في حق من لم يأكل الطعام ، بأن يقبض له وليه فيحصل له الملك ، كما يقبض للصغير الذي قد أكل الطعام .
قال : لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق ، أو رطلان بالعراقي خبزاً أو مدان تمراً أو شعيراً .
ش : هذا الأمر الثالث ، وهو في قدر ما يدفع للمساكين وهو مد حنطة ، أو نصف صاع تمر أو شعير ، وقد تقدمت هذه المسألة في الظهار ، وتقدم أن غيره قال : يجزىء في الكفارة ما يجزىء في الفطرة ، وقد نص الخرقي هنا على جواز إخراج الدقيق ، ولم يتعرض له في الظهار ، ولا ريب في إجزائه في الكفارتين ، كما يجزىء في الفطرة ، ومراد الخرقي بالدقيق الحنطة ، أما دقيق الشعير فالواجب منه مدان ، ثم المعتبر في الدقيق الوزن لتفرق أجزائه في الطحن ، ولهذا قال 16 ( أحمد ) : يجزئه بالوزن رطل وثلث ، ولا يجزئه إخراج مد دقيق بالكيل اه ، نعم لو طحن مد الحنطة وأخرجه أجزأه ، وكذلك إن أخرج من الدقيق ما يعلم أنه مد .
ونص هنا أيضاً على جواز إخراج الخبز ، ( وهو إحدى الروايتين ) عن أحمد ، واختيار القاضي وعامة الأصحاب ، لدخول ذلك في قوله : 19 ( { فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم } ) والخبز من أوسط طعام أهلينا ، وعلى هذا جرى السلف .
3722 فروى الإمام أحمد في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما : 19 ( { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ) قال : الخبز واللبن ، وفي رواية عنه قال : الخبز والتمر ، والخبز والزيت ، والخبز والسمن .
____________________
(3/322)
3723 وعن علي رضي الله عنه الخبز والتمر ، الخبز والسمن ، الخبز واللحم .
3724 وعن الأسود بن يزيد : الخبز والتمر .
3725 وعن ابن سيرين كانوا يقولون : إن أفضله الخبز واللحم ، وأوسطه الخبز والسمن ، وأخسه الخبز والتمر . وهذا يقرب من حكاية الإجماع ، وفارق زكاة الفطر ونحوها ، لأن النص هنا تناول الخبز ، بخلاف ثم ، فإن قول الراوي : فرض رسول الله صدقة الفطر صاعاً من تمر . لا يتناوله ، مع أنه لو قيل بالإجزاء في زكاة الفطر دون غيرها لكان متوجهاً ، لأن قوله عليه السلام : ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) الملحوظ فيه سد حاجتهم ، وحاجتهم تندفع بدفع الخبز ، وهذا بخلاف غير زكاة الفطر ، فإن الدفع يراد للاقتيات في جميع العام ، فيحتاج إلى الادخار ولا بد في المدخر من أن يكون على صفة يمكن ادخاره ، ( والرواية الثانية ) لا يجوز إخراج الخبز ، لخروجه عن حال الكمال والادخار ، أشبه الهريسة ونحوها .
فعلى المذهب لا بد أن يدفع رطلي خبز بالعراقي ، لأن ذلك لا يكون أقل من مد ، نعم لو طحن مداً وخبزه ودفع خبزه أجزأه ، نص عليه أحمد .
تنبيهان ( أحدهما ) شرط إجزاء المخرج في الكفارة أن يكون سالماً من العيب ، بأن لا يكون مسوساً ، ولا فيه تراب يحتاج إلى تنقية ، لأنه مخرج في حق الله تعالى عما في الذمة ، أشبه الشاة المخرجة في الزكاة . ( الثاني ) قال أبو محمد : الأفضل البر ، خروجاً من الخلاف ، قلت : وهذا كأنه على مختاره في الفطرة . وعلى المذهب ثم الأفضل التمر ، فكذلك هنا ، وقد قال أحمد : التمر أعجب إلي ، والدقيق ضعيف ، والتمر أحب إلي . ولأبي محمد احتمال بأفضلية الخبز على غيره ، نظراً لرفع الكلفة عن المسكين وهوواضح والله أعلم .
قال : ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته ورقاً لم يجزئه .
ش : لما ذكر صفة الدفع للفقراء في الإطعام أراد أن يبين أنه لا يجزىء إخراج قيمة ذلك ، وأرشد إلى ذلك بمثال ، وهو أنه لا يجزىء إخراج أضعاف قيمة ذلك من الورق ، وذلك لما فيه من العدول عن المنصوص ، لأن المطعوم أو الثياب ليسا بورق ولا ذهب ، ولأن الشارع خير بين ثلاثة ، وجواز إخراج القيمة يفضي إلى التخيير بين أربعة ، وهو خلاف النص أيضاً ، وقد حكى أبو محمد في المقنع وغيره من الأصحاب رواية بالجواز ، وقطع في المغني هنا بالمنع ، وكأنه بنى ذلك على المذهب . والله أعلم .
قال : ويعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله .
ش : لأنه حق لله واجب ، فجرى مجرى الزكاة ، فعلى هذا لا يجوز الدفع للوالدين وإن علوا ، أو للولد وإن سفل ، وفي بقية الأقارب الواجبة نفقتهم روايتان ،
____________________
(3/323)
ويجوز الدفع إلى من عدا ذلك من الأقارب .
قال : ومن لم يصب إلا مسكيناً واحداً ردده عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام .
ش : إذا ردّد الكفارة على مسكين واحد عشرة أيام في كفارة اليمين ، أو ستين يوماً في كفارة الظهار ونحوها ، فهل يجزئه ؟ فيه ثلاث روايات ( إحداها ) وهي اختيار أبي بكر وابن بطة فيما حكاه عنه أبو حفص في تعاليقه يجزئه مطلقاً ، نظراً إلى أن تكرار الإطعام قائم مقام تكرار الأشخاص ، ولأنه لو أطعم كل يوم مسكيناً حتى كملت العدة جاز بلا ريب ، فكذلك إذا كرر إطعام الواحد ، لأنه صدق عليه أنه أطعم كل يوم مسكيناً . ( والثانية ) وهي اختيار ابن شهاب لا يجزئه مطلقاً ، اعتماداً على قوله تعالى : 19 ( { فكفارته إطعام عشرة مساكين } ) فمن لم يطعم عشرة لم يمتثل الأمر . ( والرواية الثالثة ) وهي اختيار الخرقي ، والقاضي وأصحابه ، وعامة الأصحاب لا يجزئه مع الوجود ، لما تقدم في التي قبلها ، ويجزئه مع العدم ، إناطة بالعذر ، إذ معنى الشيء يقوم مقامه عند تعذره ، كما أقيم التراب مقام الماء عند تعذره ، وكذلك غيره من المبدلات والله أعلم .
قال : وإن شاء كسا .
ش : قد تقدم الدليل على التخيير بين الإطعام والكسوة والعتق .
قال : عشرة مساكين ، للرجل ثوب يجزئه أن يصلي فيه ، وللمرأة درع وخمار .
ش : الكلام في الكسوة على ثلاثة أشياء ( أحدها ) في عدد المكسوين وذلك عشرة بنص الكتاب . ( والثاني ) في صفتهم بأن يكونوا مساكين ، وهو بنص الكتاب أيضاً ، وقد تقدم إيضاح ذلك في الإطعام ، إذ هؤلاء المساكين هم الذين في الإطعام فيشترط لهم ما يشترط لهم . ( والثالث ) في صفة ما يدفع إليهم من الكسوة ، وهو ما تصح صلاة الفريضة معه ، إذ الكفارة عبادة ، تعتبر فيها الكسوة ، فلم يجز فيها أقل مما ذكرناه كالصلاة ولأن اللابس لما لا يستر عورته ليس بمكتس شرعاً ، إذا تقرر هذا فيدفع للرجل ثوب يستر عورته وعاتقه أو بعضه ، على الخلاف في الواجب في المنكب ، وللمرأة ما يستر عورتها وهي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها على إحدى الروايتين ، ولما كان ذلك لا يحصل غالباً إلا بدرع وهو القميص ، وخمار ، ذكر الخرقي ذلك ، وإلا لو أعطاها ثوباً واسعاً يستر بدنها ورأسها أجزأه ذلك ، إناطة بستر عورتها المعتبرة في الصلاة ، وقد وقع لابن البنا أنه يدفع للرجل قميص ومنديل ، وفيه نظر ، والله أعلم .
قال : وإن شاء أعتق .
قال : قد تقدم الإجماع على التخيير في ذلك .
قال : رقبة مؤمنة قد صلت وصامت ، لأن الإيمان قول وعمل ، وتكون سليمة
____________________
(3/324)
ليس فيها نقص يضر بالعمل .
ش : الكلام في العتق في شيئين : ( أحدهما ) في عدد المعتق وهو رقبة واحدة بالإجماع ، وشهادة الكتاب والسنة .
( والثاني ) : في صفة الرقبة ، ويعتبر لها أمران ( أحدهما ) أن تكون مؤمنة ، وهو اتفاق في كفارة القتل ، لنص الكتاب عليه ، وهو قوله تعالى : 19 ( { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } ) أما في غيرها من الكفارات فروايتان تقدمتا في الظهار ، والمذهب منهما بلا ريب عند الأصحاب اشتراط ذلك أيضاً ، وأبو بكر يختار عدم الاشتراط كالرواية الأخرى ، ومبنى ذلك على أنه هل يحمل المطلق على المقيد مع الاختلاف في السبب ، والاتحاد في الحكم أم لا ؟ وفيه ثلاثة أقوال ، ثالثها وهو اختيار أبي الخطاب يحمل بضرب من القياس ، وبيانه هنا أن الإعتاق يتضمن تكميل أحكامه ، ومن تكميل أحكامه بل هو رأسها الإسلام ، فاشترط فيه ذلك ، كالمعتق في كفارة القتل وحيث اشترط الإيمان فهل يشترط له الصوم والصلاة أم لا ؟ فيه عن أحمد ما يدل على روايتين ( إحداهما ) وهي اختيار الأكثرين لا يشترط ذلك ، فعلى هذا يجوز عتق الطفل الصغير ، لأنه محكوم بإيمانه شرعاً ، قال سبحانه : 19 ( { والذين آمنوا وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان ، ألحقنا بهم ذرياتهم ، وما ألتناهم من عملهم من شيء } ) .
3726 وفي الصحيح من حديث معاوية بن الحكم أنه أتى النبي بجارية ، فقال لها : ( أين الله ؟ ) قالت : في السماء ، قال : ( من أنا ؟ ) قالت : أنت رسول الله ، قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) فحكم لها بالإيمان بهذا القول ، وكذلك في حديث أبي هريرة ، ولأن أحكام الإسلام جارية على الطفل في إرثه وغسله ، ودفنه والصلاة عليه ، وغير ذلك ، فكذلك في عتقه في الكفارة ، وعلى هذه الرواية لا يجزئ الجنين ، لعدم ثبوت أحكام الدنيا له . ( والثانية ) وهي اختيار الخرقي يشترط ذلك ، وعللها الخرقي تبعاً لأحمد في رواية الأثرم بأن الإيمان قول وعمل ، وإذاً لا بد من وجود العمل ، إما حقيقة ، وإما تأهلًا ، وعلى هذا هل يشترط حقيقة العمل أو التأهل لذلك ؟ فيه أيضاً عن أحمد ما يدل على قولين ( أحدهما ) المشترط التأهل ، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل : أحب إلي أن يكون كبيراً ، وهو الذي اعتمده القاضي ، وأبو البركات ، فحكيا الرواية على أنه لا يجزئ من له دون سبع سنين ، ويجزئ من بلغها لتأهله لعمل ذلك . ( والثاني ) المشترط العمل ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وأحمد في رواية الأثرم ، وقد تقدمت ، فعلى هذا من صام وصلى وصح ذلك منه أجزأ وإن كان صغيراً ، ومن لا فلا وإن كان كبيراً اه .
وحيث لم يشترط الإيمان فأحمد إنما نص على إجزاء اليهودية والنصرانية ،
____________________
(3/325)
وكذلك قال أبو محمد ( وعنه ) تجزئ الذمية ، وهذا ربما أعطى أنه لا يجزئ غير الذمية بلا خلاف ، وبعض الأصحاب يطلق الخلاف في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل وعدمه اه .
( الأمر الثاني ) أن تكون الرقبة سليمة ، ومعنى سلامتها أن لا يكون فيها نقص يضر بالعمل ، وقد تقدم ذلك في الظهار ، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم .
قال : ولو اشتراها بشرط العتق وأعتقها في الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب ، لأن عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه ، كما لو اشترى قريبه ينوي به عتقه عن الكفارة ، أو علق عتقه على شرط ، ونواه عند وجوده . ( والثانية ) تجزئ لأن عتقه لم يتحتم ، أشبه المعلق عتقه هل هو حق لله تعالى بحيث يجبر المشتري عليه ، وإذاً لا يجزئ في الكفارة ، أو لآدمي ، فلا يجبر المشتري عليه ، بل للبائع الفسخ ، وإذاً يجزئ في الكفارة ؟ فيه قولان .
وقد فهم من كلام الخرقي جواز اشتراط هذا الشرط في البيع ، وصحة البيع المشروط فيه هذا الشرط ، ولنشر إلى المسألتين ، ( فأما ) جواز اشتراط العتق في البيع ففيه روايتان ، ( المذهب منهما ) عند الأصحاب جواز ذلك وصحته .
3727 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق ، فاشترطوا ولاءها ، فذكرت ذلك لرسول الله فقال : ( اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق ) متفق عليه . إلا أن البخاري لم يذكر لفظ : أعتقيها .
( والثانية ) لا يصح ذلك ، وهي ظاهر كلام صاحب الوجيز ، لأن شرط مناف لمقتضى البيع ، أشبه اشتراط أن لا يبيعه ولا يهبه ، ونحو ذلك على المذهب ، ( فعلى الأولى ) هل يجبر المشتري على العتق إن أباه ، وهو المشهور ، أو يكون للبائع الفسخ ؟ فيه قولان مبنيان على ما تقدم ، ( وعلى الثاني ) هل يبطل البيع ، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه ، لأن فواته يفوت الرضى الذي هو شرط لصحة البيع قطعاً ، أو لا يبطل ، وهو اختيار أبي محمد ، لحديث بريرة ، فإن أهلها اشترطوا الولاء ، ولم يبطله النبي ؟ فيه روايتان والله أعلم .
قال : وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه ، ينوي بشرائه الكفارة ، عتق ولم يجزئه .
3728 ش : أما العتق فلعموم ( من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ) وأما عدم الإجزاء في الكفارة فلأن الواجب تحرير الرقبة ، كما نص الله عليه سبحانه ، والتحرير
____________________
(3/326)
فعل العتق ، ولم يحصل هنا ، إنما الذي حصل الشراء ، ولأنه لم يخلص العتق لله سبحانه ، أشبه ما لو أعتقه رياء وسمعة ، والله أعلم .
قال : ولا يجزىء في الكفارة أم ولده .
ش : هذا هو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين ، لأن عتقها مستحق بسبب آخر ، أشبه المعلق عتقه بصفة عند وجودها ونحوه . ( والثانية ) يجزىء لدخول ذلك تحت قوله سبحانه : 19 ( { فتحرير رقبة } ) والله أعلم .
قال : ولا مكاتب قد أدى من كتابته شيئاً .
ش : هذا إحدى الروايات ، واختيار القاضي وأصحابه وغيرهم ، لأنه إذا أدى فقد حصل العوض عن بعض الرقبة في المعين ، فلم يجزكما لو أعتق بعضها ، وإذا لم يؤد فهي رقبة كاملة لم يؤد عن شيء منها عوض ، أشبهت المدبرة . ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر يجزىء مطلقاً ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم ، كما ثبت بالنص فأجزأ عتقه كغيره ، ولدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { فتحرير رقبة } ) . ( والثالثة ) لا يجزئه مطلقاً ، لأن عتقه مستحق بسبب آخر ، أشبه أم الولد ، ولا نزاع أنه لو أعتق عبداً على مال يأخذه منه لم يجزئه عن الكفارة ، والله أعلم .
قال : ويجزىء المدبر .
ش : لدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { فتحرير رقبة } ) ولأن التدبير إما وصية أو تعليق بصفة ، وأيًّا ما كان فإنه يجزىء كما يجزىء الموصى به ، والمعلق عتقه بصفة وجودها .
قال : والخصي .
ش : لأن ذلك لا يضر بالعمل ، فأشبه الفحل ، ولا فرق بين المقطوع والأشل والموجوء ، لتساويهم في المعنى والله أعلم .
قال : وولد الزنا .
ش : لدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { فتحرير رقبة } ) ولأنه كغيره في جواز بيعه وعتقه ، وقبول شهادته ونحو ذلك ، فكذلك في إعتاقه عن الكفارة .
3729 وما ورد من قول النبي : ( ولد الزنا شر الثلاثة ) فقد قال الطحاوي : المراد به الملازم للزنا ، كما يقال : ابن السبيل ، للملازم لذلك ، وقال غيره : هو شر الثلاثة أصلًا ونسباً وعنصراً ، لخبثه ، وهو نشوءه من ماء الزنا ، على أن الكلام في أحكام الدنيا ، وليس في الحديث تعرض لذلك ، والله أعلم .
قال : فمن لم يجد من هذه الثلاثة واحداً صام ثلاثة أيام .
ش : إذا لم يجد واحداً من الثلاثة السابقة وهي الإطعام والكسوة والعتق بأن
____________________
(3/327)
لا يجد ذلك أصلًا أو وجده وتعذر عليه شراؤه لعدم الثمن ، أو لكونه محتاجاً إلى ما هو أهم منه ، كما هو مفصل في موضعه ، فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام بالإجماع ، وشهادة الكتاب والله أعلم .
قال : متتابعة .
ش : قدر الصيام ثلاثة أيام بنص الكتاب والإجماع ، وشرطها التتابع على المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين .
3730 نظراً إلى أن ذلك قد ورد في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ذكره الإمام أحمد في التفسير وغيره ، وناهيك بهما ، وهو وإن لم يثبت كونه قرآناً لعدم تواتره فلا أقل من أن ينزل منزلة خبر الآحاد ، على أنهما سمعاه من النبي على سبيل التفسير ، فظناه قرآناً ، وإذاً فهو حجة يجب المصير إليه . ( والثانية ) لا يجب التتابع فيها ، عملا بإطلاق الآية الكريمة ، والصحابي إنما نقل اذلك على كونه قرآناً ، وإذا لم يثبت كونه قرآناً سقط اعتباره رأساً ، وأصل ذلك أن ما صح من القراءة الشاذة هل يكون حجة ، بحيث يخصص العام ، ويقيد المطلق ، ونحو ذلك أم لا ؟ فيه قولان للعلماء ، وهما روايتان عن إمامنا أشهرهما نعم ، وهو مذهب الحنفية ، والثانية لا ، وهو مذهب الشافعية ، وحيث اشترطنا التتابع فأفطر فيها فلا يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر ، وبيان ذلك قد تقدم مفصلًا في الظهار والله أعلم .
قال : ولو كان الحانث عبداً لم يكفر بغير الصوم .
ش : قد تقدم الكلام على هذا في الظهار بما فيه كفاية ، ونزيد هنا بأن ظاهر كلامه صحة يمين العبد ، ولا ريب في ذلك ، لدخوله تحت الخطاب ، وأن السيد ليس له منعه من الصيام وإن أضرّ به ، وهو كذلك ، لأنه حق لله تعالى ، فأشبه صوم رمضان أو قضائه ، وهذا بخلاف الحج ، لأن الضرر كثير ، لطول مدته ، وفوات خدمته والله أعلم .
قال : ولو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق فعليه الصوم ولا يجزئه غيره .
ش : هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم ، في عبد حلف فحنث وهو عبد ، ولم يكفر حتى عتق : يكفر كفارة عبد ، لأنه إنما يكفر ما وجب عليه يوم حنث ، ولو افترى وهو عبد ثم أعتق فإنما يجلد جلد العبد ؛ وقد ذكر أحمد الحكم ودليله ، وملخص القياس أن هذا حق تعلق به وهو رقيق فلم يتغير بحريته كالحد ، وأيضاً فإن الذي خوطب به وتعلق به هو الصوم ، لا سيما على قول الخرقي ، فإنه لو أذن له في التكفير بالمال لم يكن له ذلك ، فإذا فعل غير ما خوطب به لم يجزئه . [ كما لو وجبت عليه صلاة الصبح فصلى بدلها مائة ركعة أو أكثر فإنها لا تجزئه ] .
وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى .
____________________
(3/328)
واعلم أن هذا على مختار الخرقي من أنه ليس له التكفير بغير الصوم ، أما من قال : يجوز له التكفير بالمال في الجملة في حال رقه فبعد عتقه أولى ، ولهذا قال القاضي في قول الخرقي : إن فيه نظراً ، قال : لأن المنصوص أنه يكفر كفارة عبد ، أي لا يلزمه التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه . ( قلت ) ولا نظر في ذلك على قول الخرقي ، إنما النظر لو كان الخرقي يجوز له التكفير بالمال في حال رقه ، كما يقوله القاضي ، ثم قال ذلك اه .
وظاهر كلام الخرقي أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب ، إذ لو اعتبر أغلظ الأحوال لأوجب على العبد التكفير بالمال إذا قدر عليه قبل أن يأتي بالصوم ، وقد اختلف عن إمامنا رحمه الله في هذه المسألة ، ( فعنه ) كما هو ظاهر كلام الخرقي الاعتبار بحال الوجوب ، وهذا اختيار القاضي في تعليقه ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن شهاب وأبي الحسين ، والشيرازي ، وابن عقيل وغيرهم ، لأنه حين الاستقرار في الذمة ، لأنه لو فعل ما وجب عليه إذ ذاك لأجزأه بلا ريب ، ولأن الكفارة وجبت على وجه الطهرة ، فاعتبرت بحال الوجوب كالحد ( وعنه ) الاعتبار بأغلظ الأحوال ، اختارها القاضي في روايتيه ، وحكاها الشريف وأبو الخطاب عن الخرقي ، وكأنهما أخذا ذلك من قوله : ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء . إذ ظاهره أن من لم يدخل في الصوم كان عليه الانتقال إلى العتق أو الإطعام ، وما تقدم أظهر ( وبالجملة ) وجه هذا القول بأنه حق يجب في الذمة بوجود مال ، فاعتبر بأغلظ الحالين كالحج ، والجواب القول بالموجب في الحج ، لأنه ليس له حالتان ، إنما له حالة واحدة ، وهي حالة اليسار ، يجب فيها ويستقر ، وقبل ذلك لا يخاطب به أصلًا ، والكفارة يخاطب بها على كل حال ، ( وعنه ) رواية ثالثة حكاها الشيرازي : الاعتبار بحال الأداء ، قياساً على الوضوء ، فالجامع أنه حق له بدل من جنسه ، فكان الاعتبار فيه بحال الأداء كالوضوء .
إذا تقرر هذا ( فعلى الرواية الأولى ) يعتبر اليسار والاعسار حال الوجوب عليه ، فإذا كان موسراً إذ ذاك ففرضه العتق لا يجزئه غيره ، وإن كان معسراً ففرضه الصوم ، ولا يجب عليه العتق بعد وإن أيسر ، ( وعلى الثانية ) متى وجد رقبة من حين الوجوب إلى حين التكفير لم يجزئه إلا العتق ، ( وعلى الثالثة ) الاعتبار بحال الأداء ، فإذا كان موسورا إذا وجب عليه العتق ، وإن كان حين الوجوب معسراً ، ولو كان حين الأداء معسراً أجزأه الصوم ، وإن كان حين الوجوب موسراً اه .
وقول الخرقي : ولو حنث وهو عبد . إلى آخره إشعار بأن حالة الوجوب هي حالة الحنث ، وهو كذلك قطعاً ، فعلى هذا لو حلف العبد ولم يحنث حتى عتق فحكمه حكم الأحرار ، وهذا في اليمين ، أما في الظهار والقتل فوقت الوجوب العود والزهوق ، والله أعلم .
____________________
(3/329)
قال : ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوت عياله يومه وليلته مقداراً ما يكفر به .
ش : قد تقدم أن من لم يجد واحداً من الثلاثة المتقدمة وهي العتق ، والإطعام والكسوة انتقل إلى الصيام ، وبيان عدم الوجدان أن لا يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته مقدار ما يكفر به ، لأنه إذاً يدخل تحت قوله : 19 ( { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ) بخلاف ما إذا وجد ما يكفر به فاضلًا عما تقدم ، فإنه واجد ، فلا يدخل تحت الآية الكريمة .
وعموم كلام الخرقي رحمه الله يقتضي أن من وجد ما يكفر به فاضلًا عما تقدم لا يجوز له أن يكفر بالصوم ، وإن كان ماله غائباً ، وهو كذلك بلا نزاع فعلمه ، فيما إذا أمكنه الشراء بنسيئة ، وكذلك إن لم يمكنه كما هو مقتضى كلام الخرقي ، ومختار عامة الأصحاب ، حتى أن أبا محمد ، وأبا الخطاب والشيرازي وغيرهم جزموا بذلك ، وقيل : يجوز والحال هذه العدول إلى الصوم ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، وقيل : إنما يعدل إليه في كفارة الظهار خاصة إذا رجا إتمامه قبل حصول المال ، وحكم الدين الرجو الوفاء حكم المال الغائب قاله أبو محمد .
وعموم كلامه أيضاً يقتضي أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة ، وهو إحدى الروايتين ، والرواية الثانية وصححها أبو محمد يمنعها ، ثم أن أبا محمد في المغني جعل محلهما في الدين غير المطالب به ، أما المطالب به فيمنعها بلا خلاف ، وغيره يطلق الخلاف .
قال : ومن له دار لا غنى له عن سكناها ، أو دابة يحتاج إلى ركوبها ، أو خادم يحتاج إلى خدمته ، أجزأه الصيام في الكفارة .
ش : لأن ذلك من حوائجه الأصلية ، أشبه الطعام المحتاج إليه ، وفي معنى ما تقدم ما يلبسه ولو للتجمل ، وما يحتاج إليه من كتب علم ونحو ذلك .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه متى استغنى عن سكنى الدار ، أو لم يحتج إلى دابة أو عبد ، فإن الصيام لا يجزئه ، وهو كذلك في الجملة ، كما إذا كان له داران أو عبدان أو دابتان ونحو ذلك ، يستغني بإحداهما ، فإنه يبيع الأخرى ، وينتقل إلى التكفير بالمال ، وكذلك إذا كان له دار واحدة أو دابة واحدة ، ونحو ذلك ، وأمكنه بيعها وشراء ما يسكنه مثله أو يركبه مثله ، ويفضل ما يشتري به رقبة ، فإنه يلزمه ذلك ، جمعا بين الحقين ، وكذلك إذا كان مثله يخدم نفسه وله خادم ، فإنه يلزمه عتقه ، قاله أبو محمد ، لأنه غير محتاج إليه ، وعلى قياسه لو كان له دار يسكنها ، ومثله يسكن بالأجرة ، ولا ضرر عليه في ذلك ، فإنه يلزمه بيعها والتكفير بالمال ، ويستثنى من ذلك إذا كان له سرية يمكنه بيعها وشراء سرية ورقبة يعتقها ، فإنه لا يلزمه ذلك ، وينتقل إلى الصيام ، لتعلق الغرض بعينها ، وكذلك إذا تعذر عليه بيع ما تقدم ، أو أمكن البيع وتعذر
____________________
(3/330)
الشراء ، فإن له الانتقال إلى الصوم ، لتعذر الجمع بين الحقين ، فأشبه ما لو لم يكن له فضل ، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر ، والله أعلم .
قال : ويجزئه إن أطعم خمسة مساكين وكسى خمسة .
ش : مناط المسألة أن يطعم بعضاً ويكسو بعضاً ، بحيث يستوفي من المجموع عشرة ، والخرقي ذكر صورة على سبيل المثال ، وإنما أجزأ ذلك لأن كل كل فقير من العشرة مخير فيه بين إطعامه وكسوته ، فإذا أطعم مثلًا خمسة وكسى خمسة ، فقد قام بالواجب عليه ، فوجب أن يجزئه ، ولأن كلا من الطعام والكسوة يقوم مقام الآخر في جميع العدد ، فكذلك في بعضه ، كالتيمم لما قام مقام الماء في البدن كله في الجنابة ، قام مقام البعض فيما إذا كان بعض البدن صحيحاً وبعضه جريحاً .
ويتخرج لنا وجه آخر أنه لا يجزئه ، كما لو أعطى في الجبران شاة وعشرة دراهم ، لاستلزامه التخيير ثم بين ثلاثة أشياء ، وهنا بين أربعة أشياء ، والشارع إنما خيره ثم بين شيئين ، وهنا بين ثلاثة أشياء .
( تنبيه ) لو أطعم المسكين بعض الطعام وكساه بعض الكسوة لم يجزئه بلا ريب ، لأنه لم يأت بالواجب من أحدهما ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن أعتق نصفي عبدين ، أو نصفي أمتين ، أو نصفي عبد وأمة أجزأ عنه .
ش : هذا اختيار القاضي في تعليقه ، وعامة أصحابه كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا والشيرازي ، لأن نصف الشيئين بمنزلة الشيء الواحد ، بدليل ما لو كان له نصف ثمانين شاة مشاعاً ، وجبت عليه الزكاة كما لو ملك أربعين ، واختار ابن حامد فيما حكاه القاضي في روايتيه ، وأبو بكر وحكاه نصاً عن أحمد أنه لا يجزئه ذلك ، لأن إطلاق الرقبة ينصرف إلى الكاملة ، ثم إن المراد من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل من ذلك ، وفي المذهب وجه ثالث اختاره الشيخان : إن كان نصفهما حراً أجزأ لتكميل الأحكام ، إذ بذلك يحصل تكميل عبدين لا عبد واحد ، فهو بالجواز أولى ، وإلا لم يجزىء لما تقدم في دليل أبي بكر ، والله أعلم .
قال : وإن أعتق نصف عبد ، وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه .
ش : لأن الأصل عدم التلفيق ، لأنه عدول عن المنصوص ، وإنما قلنا به في الإطعام والكسوة لتساويهما في المعنى ، وهنا لم يتساويا ، بل تباينا ، إذ القصد من العتق تكميل الأحكام ، وتخليص الرقبة من الرق ، والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة بدفع الحاجة ، ودفع ضرر الحرّ والبرد مع ستر العورة ، وهما متباينان ، بخلاف الطعام والكسوة ، فإنهما لتقاربهما أجريا مجرى الجنس الواحد ، و الخرقي رحمه الله نص على جواز التلفيق من الطعام والكسوة ، وعلى منع ذلك في العتق مع أحدهما ،
____________________
(3/331)
وبقي عليه لو أتى ببعض واحد من الثلاثة ثم عجز عن تمامه ، هل له التتميم بالصوم ؟ ليس له ذلك قاله أبو محمد ، قال : لأنه إذا لم يجز تكميل أحد نوعي المبدل من الآخر وهو الطعام أو الكسوة فتكميله بالمبدل أولى . ( قلت ) : وقد يقال بذلك كما في الغسل والوضوء مع التيمم ، فإنه لو وجد ماء يكفي لبعض طهارته لزمه استعماله ثم تيمم للباقي ، وأبو محمد استشعر هذا ، وأجاب عنه بأن التيمم لا يأتي ببعضه عن بعض الطهارة ، وإنما يأتي به بكماله ، قال : وها هنا لو أتى بالصيام جميعه أجزأه . قلت : وهذا الجواب فيه نظر ، فإنه وإن أتي به بكماله ، فإنه إنما يأتي به عن بعض الطهارة لا عن كلها ، ولهذا لو قدر على الماء لزمه غسل مابقي من بدنه ولا يلزمه غسل الجميع وإنما كان يأتي به بكماله ، لأنه التيمم ليس له إلا صفة واحدة ويرجح هذا أيضاً قول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
قال : ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإِطعام إلا أن يشاء .
ش : هذا المذهب المجزم به عند عامة الأصحاب ، منهم أبو محمد في المغني ، لأنه بذل لا يبطل بالقدرة على المبدل ، فلم يلزمه الخروج إلى المبدل بعد الشروع فيه ، كالمتمتع العاجز عن الهدي إذا شرع في صوم السبعة الأيام ، فإنه لا يلزم منه الخروج اتفاقاً ، وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه ، وليس كذلك الصوم ، فإنه لا يبطل إذا قدر على العتق وأيضاً فإن الصوم يجري كل يوم منه مجرى عبادة منفردة ، بدليل افتقاره إلى نية ، وعدم تعدي فساده إلى ما قبله ، وليس كذلك الصلاة .
ولأبي محمد في المقنع احتمال أنه يلزمه الانتقال ، لقدرته على المبدل قبل إتمام البدل ، فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام الصلاة ، وقد تقدم الفرق .
وصريح كلامن الخرقي أن له أن ينتقل إلى العتق والإطعام إذا شاء ذلك ، لأنه إنما سقط عنه ذلك للرفق به ، فإذا أتى به أجزأه ، كالمريض الساقط عنه حضور الجمعة إذا حضرها ، وقد تقدم للخرقي في العبد أنه إذا أعتق لا يجزئه غير الصوم ، والفرق أن العبد ليس له أهلية التكفير بغير الصوم كما تقدم ، بخلاف الحر المعسر ، وخرج أبو الخطاب في الحر المعسر قولًا أنه كالعبد لا يجزئه غير الصوم ، نظراً إلى أنهما إنما خوطباً بالصوم ، ففعل غيره يكون عدولًا عماً وقع به الخطاب ، ويتلخص أن في العبد والحر والمعسر ثلاثة أقوال ( ثالثها ) للحر الانتقال بخلاف العبد ، وهو اختيار الخرقي .
( تنبيه ) قال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما : فائدة هذه المسألة إذا قلنا : الاعتبار بأعلى الحالين ، أما إن قلنا بحال الوجوب فلا ، لأنه إذاً لو قدر على العتق قبل الشروع في الصوم لم يلزمه . ( قلت ) ومن هنا قالا : إن مذهب الخرقي أن الاعتبار بأعلى الحالين ، والذي يظهر أن الخرقي إنما نص على هذه المسألة للخلاف فيها . إذ مذهب الحنفية لزوم الانتقال والحال ما تقدم ، ومن هنا يقال : إنه لا مفهوم لقوله : ومن
____________________
(3/332)
دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج منه . والله سبحانه أعلم .
( باب جامع الأيمان )
ش : الأولى قراءة باب ، أي هذا باب جامع الأيمان ، لأن المقصود الحكم على أيمان مختلفة ، لا الحكم على من جمع أيمانا والله أعلم .
قال : ويرجع في الأيمان إلى النية .
ش : وذلك لما تقدم في المعاريض من حديث سويد بن حنظلة رضي الله عنه .
3731 وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أقبل النبي وهو مردف أبا بكر ، وأبو بكر شيخ يعرف ، ورسول الله شاب لا يعرف ، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول : يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك ؟ فيقول : هذا الرجل يهديني السبيل . فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق ؛ وإنما يعني سبيل الخير . رواه أحمد والبخاري .
3732 وفي حديث ركانة الذي في السنن أنه لما طلق امرأته ألبتة ، وقال للنبي : والله ما أردت إلا واحدة : فقال رسول الله : ( والله ما أردت إلا واحد ) : فقال رسول الله : ( والله ما أردت إلا واحدة ؟ ) فقال : والله ما أردت إلا واحدة . وأيضا قول النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لامرئ ما نوى ) وأيضا فإن كلام الشارع ورد على لغة العرب ، ولا ريب أنه محمول على مراده الثابت بالدليل .
3733 كما في قوله تعالى : 19 ( { الذين قال لهم الناس } ) والمراد نعيم بن مسعود 19 ( { إن الناس قد جمعوا لكم } ) والمراد أبو سفيان وأصحابه ، وهو كثير لا يكاد يحصى ، فكذلك كلام غيره يحمل عغلى مراده ، إذا تقرر هذا فشرط الرجوع إلى النية احتمال اللفظ لها كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، أما إذا نوى باللفظ ما لا يحتمله أصلًا ، كأن حلف لا يكلم زيداً ، وأراد لا يدخل بيتا ونحو ذلك فهذه نية مجردة ، لا ارتباط لها باللفظ ، فوجودها كعدمها ، ثم النية تارة توافق ظاهر اللفظ ، كما إذا نوى بالعموم العموم ، وبالخصوص الخصوص ، وبالإطلاق الإطلاق ، ونحو ذلك ، فهذه مؤكدة للفظ ومقوية له ، كالشرط الموافق في العقد لمقتضاه ، وتارة تخالف ظاهره ، كأن يريد بعام خاصاً ، أو بمطلق مقيدا ، أو بخاص مثلا لا غيره ، أو ليعتقن عبدا ، ويريد عبدا بعينه ، أو لا يأوي مع امرأته في دارها مثلا ، ويريد جفاءها بترك اجتماعه معها في جميع الدور ونحو ذلك .
( تنبيه ) رجوع الحالف إلى نيته هو فيما بينه وبين الله تعالى ، بشرط احتمال اللفظ
____________________
(3/333)
له كما تقدم ، وعدم ظلمه كما تقدم أيضاً ، أما عند الحاكم فإن قرب ما ادعاه أنه قصده من الظاهر سمع منه ، وإن بعد لم يسمع ، وإن توسط فروايتان ، والناظر الفهم في مظان ذلك لا يخفى عليه ما قلناه والله أعلم .
قال : فإن لم ينو شيئاً رجع إلى سبب اليمين وما هيجها .
ش : إذا لم ينو شيئاً لا ظاهر اللفظ ولا غير ظاهره كما تقدم رجع إلى سبب اليمين وما هيجها ، أي أثارها ، فإذا حلف مثلًا أن لا يأوي مع امرأته في هذا الدار وكان سبب يمينه غيظاً من جهة الدار ، لضرر لحقه من جيرانها ، أو منة حصلت عليه بها ونحو ذلك اختصت يمينه بها كما هو مقتضى اللفظ ، وإن كان لغيظ من المرأة يقتضي جفاءها ، ولا أثر للدار فيه ، تعدى ذلك اختصت يمينه بها ، كما هو مقتضى اللفظ ، وإن كان لغيظ من المرأة يقتضي جفاءها ، ولا أثر للدار فيه ، تعدى ذلك إلى كل دار ، المحلوف عليها بالنص ، وما عداها بعلة الجفاء التي اقتضاها السبب ، ( وكذلك ) إذا حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه ، أو لا يكلم زيداً لشربه الخمر مثلًا ، فزال الظلم ، وترك زيد شرب الخمر ، جاز له الدخول والكلام ، لزوال العلة المقتضية لليمين ، وذلك لأن السبب يدل على النية . لأنه الداعي للحالف على الحلف ، والداعي إلى الشيء تتعلق الإرادة به فيصير مراداً ، ولهذا لما قال الحطيئة يهجو بني عجلان :
ولا يظلمون الناس حبة خردل .
كان ذلك هجاء قبيحاً ، ولو قاله في مقام المدح كان مدحاً حسناً ، وما ذاك إلا لاختلاف المقام .
وكلام الخرقي يشمل ما إذا كان اللفظ خاصاً والسبب يقتضي التعميم كما مثلناه أولًا ، أو عاماً والسبب يقتضي التخصيص كما مثلناه ثانياً ، ولا نزاع بين الأصحاب فيما علمت في الرجوع إلى السبب المقتضي للتعميم لما تقدم ، واختلف في عكسه فقيل فيه وجهان ، وقيل روايتان ، وبالجملة فيه قولان أو ثلاثة ( أحدها ) وهو المعروف عن القاضي في التعليق . وفي غيره ، واختيار عامة أصحابه ، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما يؤخذ بعموم اللفظ وهو مقتضى نص أحمد في رجل حلف لا صدت من هذا النهر . وكان سبب يمينه ظلم السلطان فزال السلطان ، لم يصطد فيه ، وكذلك قال فيمن حلف لا يدخل بلداً لظلم رآه فيه فزال الظلم ، فقال : النذر يوفى به ، وقال أيضاً في رواية المروذي فيمن قالت له زوجته : قد تزوجت علي ، فقال : كل امرأة لي طالق ، فإن المخاطبة تطلق مع نسائه مع أن دلالة الحال تقتضي إخراجها ، إذا القصد إرضاؤها ، ووجه ذلك الاعتماد على ظاهر اللفظ وهو العموم ، والسبب لا ينافيه ولا معارضة
____________________
(3/334)
بينهما ، وصار هذا كألفاظ الشارع العافة ، على المعرف عندنا وعند الأصوليين ، تحمل على مقتضاها من العموم ، ولا تخصص بأسبابها ، وبنى أبو الخطاب ذلك على ما إذا اجتمع التعيين والإضافة .
والقول الثاني وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، وحكي عن القاضي في موضع : يحمل اللفظ العام على السبب ، ويكون ذكر السبب مبنياً على أن العام أريد به خاص ، لما تقدم ، وأيضاً فإن السبب هو العلة المقتضية للحكم ، فيزول الحكم بزوالها ، وخرج عن ذلك ألفاظ الشارع ، فإن العلة في وجودها ليس السبب ، ثم المقصود في ألفاظ الشارع تقرير الحكم وتعميمه لجميع المكلفين وفي جميع الصور ، بخلاف غيره .
والقول الثالث : لا يقتضي التخصيص فيما إذا حلف لا يدخل البلد لظلم رآه فيه ، ويقتضي التخصيص فيما إذا دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى ، أو حلف لا يخرج عبده أو زوجته إلا بإذنه والحال يقتضي ما داما كذلك ، وقد أشار القاضي إلى هذا في التعليق ، فقال بعد ذكر صورة الغداء ، وفيما إذا تأهبت امرأته للخروج فقال : إن خرجت فأنت طالق : لا يعرف الرواية عن أصحابنا في هذا ، وقياس المذهب أن يمينه لا تقصر على الخروج الذي تأهبت له ، ولا على الغداء عنده ، لعموم اللفظ ، ولقول أحمد وذكر مسألة الصيد من النهر قال : وقيل تقصر يمينه على الغداء عنده ، وعاى الخروج الذي تأهبت له لأنه لا عموم لهذا اللفظ إذ قوله : إذا خرجت ، يقتضي خروجاً واحداً ، وكذلك : إن تغديت ، يقتضي غداءً واحداً ، فيختص ذلك الواحد المنكر بدلالة الحال .
تنبيهان ( أحدهما ) هذا الذي قاله الخرقي من تقديم النية على السبب هو الذي اعتمده عامة الأصحاب ، وعكس ذلك الشيرازي ، فقدم السبب على النية .
( الثاني ) إذا اختلف السبب والنية ، كأن تمن امرأته عليه بغزلها ، فحلف : لا لبست ثوباً من غزلها . وقصده اجتناب اللبس خاصة ، دون الانتفاع بالثمن ، قدمت النية على السبب وجهاً واحداً ، لموافقتها مقتضى اللفظ ، وإن قصد ثوباً واحداً فكذلك في ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، إذ السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد ، فإذا خالف حقيقة القصد كان وجوده كعدمه ، وقدم القاضي والحال هذه السبب لموافقته العموم ، فيجتمع ظاهران على مخالفة النية ، قلت : وهذا متوجه في الحكم .
( الثالث ) بحث شهاب الدين القرافي بحثاً ملخصه الفرق بين النية المخصصة والمؤكدة ، وقال : إن أهل العصر لا يكادون يفرقون بينهما ، فالحالف إذا حلف لا يلبس ثوباً ونوى الكتان لا يحنثوه بغيره ، قال : وهو خطأ بالإجماع ، إذ العام إذا أريدت به أفراده حصل التحنيث بها في اللفظ والنية المؤكدة ، وإن لم ترد حنث باللفظ ، وإن نوى بعض الأفراد غافلاً عن البعض الآخر حنث في المنوى واللفظ والنية المؤكدة وفي البعض الآخر باللفظ أطلق العام ونوى إخراج بعض أفراده لم يحنث بالمخرج ،
____________________
(3/335)
ثم بين ذلك بقاعدة ، وهي أن من شرط المخصص أن يكون منافياً للمخصص ومعارضاً له ، وقصد البعض مع الغفلة عن الباقي لا معارضة فيه ، ونظر ذلك ب ( اقتلوا الكفار ، اقتلوا اليهود ) فاقتلوا اليهود ، لا يعارض الأول ، بل يؤكد بعض أنواعه ، ولو قال : لا تقتلوا أهل الذمة . لخصص لحصول المنافاة ، ثم أورد على نفسه أن العلماء يستعملون العام في الخاص وهو ما تقدم ، وأنه لو قال : لا لبست ثوباً كتاناً . اختصت يمينه بالكتان ، وأجاب عن الأول بأن معنى قولهم ، إطلاق اللفظ ، وإخراج بعض مسمياته عن الحكم المسند للعموم ، لا قصد بعض العموم ، وعن الثاني بأن المستقل إذا لحقه غير مستقل صيره غير مستقل ، والصفة هنا وهي ( كتاناً ) لا تستقل ، فإذا لحقت مستقلًا وهو الموصوف قبلها صيرته غير مستقل فأبطلت عمومه ، وأورد على هذا لم لا تجعل الصفة لفظ له مفهوم مخالفة ، وهو دلالته على العدم عن غير المذكور ، والمفهوم من دلالة الالتزام ، والنية لا دلالة لها ، لا مطابقة ولا تضمناً ولا التزاماً ، لأنها من المعاني والمعاني مدلولات ، فليس فيها ما يقتضي إخراج غير المنوي ، فبقي الحكم للعموم ، وهذا البحث الذي قاله حسن ، إلا أن ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يخالفه ، والظاهر أن مثل هذا من باب إطلاق العام وإرادة الخاص ، وقوله : إن معنى ذلك إطلاق اللفظ وإخراج بعض مسمياته ؛ منازع فيه ، بل هو إطلاق العام مريداً لخاص ، كإطلاق الثوب مريداً به الكتان ، وقد وقع للقاضي من أصحابنا أن اللفظ في نفسه لا يتصف بعموم ولا خصوص إلا بقصد المتكلم ، فإذا قال الحالف : لا لبست ثوباً . يقصد الكتان ، فقصده لا يتناول غير الكتان ، فلا يحنث إلا به ، وقد حكى القاضي عبد الوهاب وناهيك به أن العموم هل يقصر على مقصوده ، أو يحمل على عموم لفظه ؟ على قولين لأصحابه وغيرهم ، ونصر قصره ، وهذا هو هذه المسألة بعينها والله أعلم .
قال : ولو حلف لا يسكن داراً هو ساكنها خرج من وقته ، فإن تخلف عن الخروج حنث .
ش : لأن يمينه اقتضت المنع من السكنى ، فمتى تأخر عن الخروج حنث ، لأنه يصدق عليه أنه ساكن ، ( وظاهر ) إطلاق الخري يقتضي أنه لو أقام لنقل متاعه وأهله ، أو لخوف من الخروج ، ونحو ذلك أنه يحنث ، والمعروف خلاف هذا ، إذ الانتقال عرفا إنما يكون بالأهل والمال وعلى وجه يمكنه ، فهو غير داخل في اليمن ، ( وظاهر ) إطلاقه أيضاً أنه لو خرج دون أهله ومتاعه أنه لا يحنث ، والمعروف حنثه أيضاً في الجملة ، اعتماداً على العرف كما تقدم ، إذ العرف أن السكنى تكون بالأهل والمال ، ألا ترى أنه يقال : فلان ساكن في كذا . وهو غائب عنه ، وفرق أبو محمد في المغني ، فحنثه بالأهل دون المتاع ، واتفق هو والأصحاب فيما علمت أنه لو أودع متاعه أو أعاره ، أو أزال ملكه عنه ، أو أبت امرأته من الخروج ولم يمكنه إكراهها أنه لا يحنث بالخروج وحده .
____________________
(3/336)
( تنبيه ) هذا مع عدم النية والسبب ، أما مع وجود أحدهما فالاعتماد عليه كما تقدم ، وكذلك في كل صورة تأتي والله أعلم .
قال : ولو حلف لا يدخل داراً فحمل وأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث .
ش : لأن الفعل غير منسوب إليه ولا موجود منه ، وخرج من كلامه ما إذا دخلها من غير حمل فإنه يحنث مطلقاً ، حتى لو دخلها في ماء أو من ظهرها ، لوجود المحلوف عليه ، نعم يستثنى من ذلك ما إذا دخلها ناسياً على المذهب ، إلا في الطلاق والعتاق ، أو مكرهاً على أشهر الروايتين ، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما وخرج أيضاً ما إذا أمكنه الامتناع ولم يمتنع فإنه يحنث ، وهو أحد الوجهين ، واختيار أبي محمد ، لأن له نوع اختيار ، أشبه ما لو كان الدخول بأمره ( الوجه الثاني ) وحكي عن القاضي لا يحنث ، لأن الفعل منسوب إلى غيره ، وحيث لم نحنثه بالدخول ففي حنثه بالاستدامة وجهان ، والله أعلم .
قال : ولو حلف لا يدخل داراً فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئاً منه حنث .
ش : إذا حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه كما إذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ، أو لا يشرب ماء هذا الإناء ، فأكل أو شرب بعضهما ففيه روايتان مشهورتان ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي والقاضي وغيره وأبي بكر ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن البنا ، وابن عقيل في التذكرة ، وغيرهم يحنث بفعل البعض ، لأنه منع نفسه من فعل المحلوف عليه ، فوجب أن يمتنع من كل جزء منه كالنهي والجامع المنع فيهما .
ودليل الأصل قول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ) ، وقد رد هذا بأن النهي عن الشيء ليس نهياً عن أجزائه ، كالنهي عن خمس ركعات في الظهر ، نعم النهي عن الشيء نهي عن أجزائه ، كالنهي عن الحرير ، نهي عن الأسود والأبيض منه ، فالقياس على النهي غير صحيح ، ( والرواية الثانية ) واختارها أبو الخطاب فيما قاله أبو محمد لا يحنث إلا بفعل الجميع .
3734 لأن النبي كان يخرج رأسه إلى عائشة رضي الله عنها وهو معتكف فتغسله وهي حائض ، والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد .
3735 ويروى أنه قال لأبي بن كعب : ( لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة من القرآن ) فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها ، ولأن اليمين تناولت الجميع فلم يحنث بالبعض كالإثبات ، وبهذا استدل 16 ( أحمد ) فقال : الكل لا يكون بعضاً ، والبعض لا يكون كلا ، وقد يجاب عن هذا بأن الاعتكاف عبارة عن ملازمة المسجد
____________________
(3/337)
للطاعة ، ومن أخرج بعضه يصدق عليه أنه ملازم للمسجد ، لا أنه مفارق له ، على أن هذه واقعة عين ، فيحتمل أن الرسول استثنى هذا القدر ، وهذا هو الجواب عن قصة أبي بن كعب إذ هي واقعة عين ، فيحتمل أن الرسول ترك ذلك ناسياً ، ولعله الظاهر ، فلما ذكر حين خرج استدرك فعلمه في الحال .
إذا تقرر هذا ( فمن صور ) الخلاف إذا حلف لا يلبس ثوباً من غزلها أو نسجها أو شرائها فلبس ثوباً شوركت في غزله أو نسجه أو شرائه ، أو لا يبيع أمته أو لا يهبها فباع بعضها ووهب بعضها ، وما أشبه ذلك ، واختلف الأصحاب فيما إذا قال : لا ألبس من غزلها ، فلبس ثوباً فيه منه ، فقال القاضي و أبو الخطاب في الهداية : إنه على الروايتين ، لأن المعنى لا ألبس ثوباً من غزلها لأن الغزل لا يلبس بمفرده ، واختار الشيخان تحنيثه على الروايتين ، لأنه يصدق أنه لبس من غزلها ، ( ومن صور ) المسألة عند الأكثرين والقاضي وغيره مسألة الخرقي ، وهو ما إذا حلف لا يدخل داراً فأدخلها بعض جسده ، يده أو رجله ونحو ذلك ، لأنه منع نفسه من الدخول ، وإذا تساويا معنى حكماً ، كمنع نفسه من أكل الرغيف مثلًا ، ولا ريب أن المسألة يها روايتان منصوصتان ، والأكثرون على التحنيث كالمسألة السابقة ، تسوية بينهما ، وأبو بكر وأبو الخطاب في الهداية اختارا عدم التحنيث ، بخلاف المسألة السابقة ، فإن أبا بكر يختار فيها الحنث كالجماعة ، وكأن الفرق أن الحالف لا يدخل داراً إذا أدخلها بعض جسده لا يصدق عليه أنه دخل ، وإنما أدخل يده أو رجله مثلًا ، فلا يكون مخالفاً ليمينه .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) محل الخلاف كما تقدم في اليمين المطلقة ، أما إن نوى الجميع أو البعض اعتمدت نيته ، وكذلك إذا قامت قرينة تقتضي أحد الأمرين كما إذا حلف لا يشرب النهر ، أو : لا أكلت الخبز ، أو لا كلمت المشركين ، أو لا أهنت الفقراء . ونحو ذلك ، فإن يمينه تتعلق ببعض ذلك وجهاً واحداً ، وعكس هذا إذا حلف لا يصوم يوماً ، أو لا يصلي صلاة ، أو علق طلاق امرأته على وجود حيضة ونحو ذلك ، فإن يمينه تتعلق بالجميع .
( الثاني ) مما مثل به أبو محمد في الكافي ، وابن عقيل في التذكرة للمسألة : إذا حلف لا يأكل رغيفاً فأكل بعضه ، وترجمها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما : إذا حلف لا يفعل شيئاً ففعل بعضه ، وظاهر هذا أنه لا فرق بين أن تكون اليمين على شيء معين أو مبهم ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل جميعه .
ش : لا نزاع في هذا فيما نعلمه ، إذ اليمين تناولت فعل الجميع ، فلم يبر إلا به ، كما لو أمر بشيء فإنه لا يخرج عن عهدة الأمر إلا بفعل الجميع بلا ريب ، ومثل هذا إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف ونحوه ، فإنه لا يبر إلا بأكل جميعه والله أعلم .
____________________
(3/338)
قال : ولو حلف أن لا يلبس ثوباً هو لابسه ، نزعه من وقته ، فإن لم يفعل حنث .
ش : أما نزعه من وقته فليمتثل ما حلف على تركه ، وأما تحنيثه إذا لم ينزع في الحال فلأن استدامة ذلك يسمى لبساً ، ولذلك يقال : لبست هذا الثوب شهراً ويرشح هذا منع الشارع من استدامة المخيط في الإحرام كابتدائه ، وحكم : لا يركب دابة هو راكبها كذلك ، بخلاف : لا يتزوج ، ولا يتطيب ، ولا يتطهر ، فإنه لا يحنث باستدامة ذلك على المذهب ، لأنه لا يقال : تزوج شهراً . إنما يقال : منذ شهر ، وكذلك في التطيب والتطهير ، وحنثه القاضي في كتاب إبطال الحيل ، والله أعلم .
قال : وإن حلف أن لا يأكل طعاماً اشتراه زيد ، فأكل طعاماً اشتراه زيد وبكر ، حنث إلا أن يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء .
ش : أما مع النية فواضح ، وأما مع عدمها فا ختلف الأصحاب في ذلك ، فعن بعضهم أنه خرجها على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه ، لأن الضمير في : اشتراه . يرجع إلى الطعام ، والطعام لم ينفرد زيد بشرائه ، إنما اشترياه معاً . واختار الشيخان أنه يحنث على الروايتين ، لأن زيداً مشتر لنصفه ، ونصفه طعام ، فوجب أن يحنث به لوجود المحلوف عليه ، كما لو انفرد زيد بشرائه ، وهذا مقتضى قول القاضي في جامعه ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا وغيرهم ، فإنهم جزموا في هذه الصورة بالحنث ، مع حكايتهم الخلاف في الصورة السابقة ، وكذلك قطع هؤلاء بالحنث فيما إذا قال : لا آكل مما طبخه زيد ، أو لا ألبس ثوباً خاطه زيد ، أو لا أدخل داراً لزيد ، مع حكايتهم الخلاف في الأصل السابق ، ووافقهم أبو محمد في الأولى ، وخالفهم في اللتين بعدها ، فأجرى فيهما الخلاف ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يكلمهما أو لا يزورهما ، فكلم أو زار أحدهما حنث ، إلا أن يكون أراد أن لا يجتمع فعله بهما .
ش : أما إذا كانت له نية فلا إشكال في اعتمادها ، كما إذا قصد أن لا يجتمع فعله وهو الزيارة أو الكلام بأحدهما ، فإنه لا يحنث إلا بزيارتهما أو كلامهما ، ولو قصد ترك كلام أو زيارة كل منهما منفرداٍ حنث بكلام أو زيارة أحدهما ، وإن أطلق خرج على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه ، لأن الحالف على كلام شخصين أو زياراتهم إذا كلم أو زار أحدهما فعل بعض المحلوف عليه ، قال أبو محمد : ويمكن أن يقال : إن تقدير يمينه : لا كلمت هذا ، ولا كلمت هذا . لأن المعطوف يقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه ، فيصير كقوله تعالى : 19 ( { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم } ) أي وحرمت عليكم بناتكم ، وإذاً يصير كل واحد منهما محلوفاً عليه منفرداً ، كما لو صرح بذلك . قلت : هذا على القول الضعيف للنحاة من أنه يقدر للمعطوف عامل مثل عامل المعطوف عليه ، أما على القول المشهور من أن العامل فيهما واحد وهو الأول فلا يمشي ما قاله ، وحكم : لا آكل
____________________
(3/339)
خبزاً ولحماً ونحو ذلك حكم ما تقدم ، أما : لا أدخل هاتين الدارين ، ولا أعصي الله في هذين البلدين ونحو ذلك ففيه الروايتان بلا ريب ، ولا يجري فيه تردد أبي محمد ، إذ لا عاطف ومعطوف ، أما إن كان تعليق على شيئين ، كأن قال لزوجته : إن كلمت زيداً وعمراً فأنت طالق ، أو قال لامرأتيه : إن حضتما فأنتما طالقتان . ونحو ذلك ، فعن بعض الأصحاب تخريجه على الخلاف ، واختار أبو محمد في المغني وهو احتمال له في الكافي أنه لا يحنث إلا بفعل الشيئين ، إذ المشروط لا يوجد إلا بتكامل مشروطه ، وجعل في الكافي مسألة : إن حضتما . مسألة اتفاق ، في أنه لا يحنث إلا بوجود الحيض منهما . والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يلبس ثوباً ، فاشترى به أو بثمنه ثوباً فلبسه حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب ، وكذلك إن انتفع به أو بثمنه .
ش : هذه المسألة من فروع اعتبار سبب اليمين ، وأن الحكم قد يتعدى لغير الملفوظ به ، نظراً لسبب اليمين الجاري مجرى العلة الشرعية ، فإذا امتنت عليه زوجته بثوب ، فحلف أن لا يلبسه ، والباعث له على ذلك المنة ، فإن يمينه تتعدى سبب ذلك إلى غير الثوب ، فإذا اشترى به أو بثمنه ثوباً حنث ، وكذلك إن انتفع بثمنه ، لوجود المنة بالثوب ، إذ بدل الشيء يقوم مقامه ، وخرج ما إذا انتفع لها بثوب آخر ، لأن المعلوف عليه ثوب بعينه ، فتعلقت اليمين به .
وقول الخرقي : إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب . يحترز عما إذا لم يمتن عليه به ، ولا قصد هو أيضاً قطع منتها ، فإن يمينه تتعلق بلبسه خاصة ، اعتماداً على اللفظ المجرد .
قال : ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار ، فأوى معها في غيرها ، حنث إذا كان أراد بيمينه جفاء زوجته ، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه .
ش : هذا من فروع اعتبار النية ، فإذا حلف لا يأوي مع زوجته في دار عينها ، يقصد بذلك جفاءها ، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه ، فأوى معها في غيرها حنث ، لأن وجود الدار والحال هذه كعدمها ، لما اقتضته نيته من جفائها الموجود بالإيواء معها في كل دار ، وإن كان للدار سبب باعث على اليمين ، كأن امتن عليه بها ونحو ذلك ، لم يحنث بالإيواء معها في غيرها ، لعدم ما يقتضي التعدية إلى غيرها ، فصار ذلك كما لو عدمت النية والسبب ، فإن يمينه لا تتجاوز ما حلف عليه ، وهو الإيواء معها في تلك الدار .
( تنبيه ) معنى الأيواء المبيت والله أعلم .
قال : ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه .
ش : لأن اليمين على الغد ، وفي الغد لم يكن الحالف مكلفاً ، فلم يتعلق به
____________________
(3/340)
حنث ، وكذلك لو جن في اليوم واستمر به ذلك إلى فوات الغد ، لما تقدم من خروجه عن التكليف في وقت اليمين . ( قلت ) : وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه ، فإنه يحنث ، لبقاء التكليف ، أما لو ارتد فينبغي بناؤه على تكليف الكفار بالفروع ، والمذهب التكليف .
ومقتضى كلامه أنه لو مات الحالف في غد أنه يحنث ، وهو يشمل وإن لم يتمكن من ضربه ، وهو المذهب ، لأنه أدرك وقت الفعل وهو من أهل التكليف ، ويشهد لهذا من قاعدتنا أن الوجوب في الصلاة والزكاة ونحوهما يتعلق بأول الوقت ، . وإن لم يتمكن من الفعل ، وقيل : لا يحنث مطلقاً ، وقيل : إن تمكن من الضرب في الغد حنث ، وإن لم يتمكن فلا ، لأن الترك لم يكن باختياره فهو كالمكره ، وهذه الأقوال الثلاثة لم أرها مصرحاً بها في هذه المسألة بعينها ، لكنها تؤخذ من مجموع كلام أبي البركات وغيره .
ومقتضى كلام الخرقي أيضاً أنه لو لم يمت الحالف في اليوم لكنه مرض فيه أو نحو ذلك ، بحيث تعذر عليه الفعل في الغد أنه يحنث ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : فإن مات العبد حنث .
ش : لا نزاع في هذا إذا كان موت العبد باختيار الحالف ، كما إذا قتله ، أما إن كان بغير اختياره فلا يخلو إما أن يكون قبل الغد أو فيه ، فإن كان قبل الغد ففيه قولان ، المذهب المنصوص منهما الحنث أيضاً ، كما قاله الخرقي ، لعدم المحلوف عليه في وقته ، أشبه ما لو ترك الضرب مع بقاء العبد لصعوبته عليه ، ونحو ذلك . ( والثاني ) : لا يحنث ، لأن عدم ضربه بغير فعل منه ، أشبه المكره .
وحيث حنث فهل يحنث في الحال وهو المذهب المنصوص لأن يمينه منعقدة وقد تحقق عدم الفعل ، فأشبه ما لو لم يوقت بوقت ، أو لا يحنث إلا إذا جاء الغد ، أو لا يحنث إلا في آخر الغد ؟ على ثلاثة أقوال ، وإن كان في الغد بعد التمكن من ضربه حنث ، وكذلك قبله على المذهب ، ثم هل يحنث عقب التلف ، أو في آخر اليوم ؟ فيه القولان السابقان والله أعلم .
قال : وإذا حلف أن لا يكلمه حيناً ، فكلمه قبل ستة أشهر حنث .
ش : الحين عند الإطلاق يحمل على ستة أشهر ، نص عليه أحمد والأصحاب ، فإذا حلف لا يكلمه حيناً ، وكلمه قبل ستة أشهر حنث ، لمخالفته لما حلف عليه ، وإن كلمه بعدها لم يحنث ، لأنه وفى بمقتضى يمينه ، وهو عدم كلامه حيناً ، وإنما قلنا : الحين عند الإطلاق ستة أشهر وإن كان الحين في أصل الوضع زمناً مبهماً ، يطلق على القليل والكثير لأن الله سبحانه أطلقه وفسر بذلك في قوله تعالى : 19 ( { تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها } ) .
____________________
(3/341)
3736 كذا قال سعيد بن جبير ، وقتادة ، والحسن ، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وناهيك به لمعرفته بالقرآن إن صح عنه ، وما أطلق والمراد به أكثر من ذلك ، كما في قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { ليسجننه حتى حين } ) فإنه عبر به عن عدة سنين ، قيل : ثلاث عشرة سنة . فما ذكرناه هو الأقل وهو المتيقن ، ولا يرد نحو قوله سبحانه : 19 ( { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } ) لقيام القرينة الدالة على أن المراد وقت المساء ووقت الصباح ، ولا نحو : 19 ( { ولتعلمن نبأه بعد حين } ) أي يوم القيامة ، لقيام القرينة أيضاً على إرادة الزمن الطويل ، والله أعلم .
قال : وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت ، فقضاه قبله لم يحنث ، إذا كان أراد بيمنه أن لا يجاوز ذلك الوقت .
ش : كما إذا حلف ليقضينه حقه في رمضان ، فقضاه في شعبان ونحو ذلك ، وهذه المسألة من فروع اعتبار النية ، فإنه إذا قصد أن لا يتجاوز رمضان ، فمعنى يمينه أني لا أؤخر القضاء لبعد رمضان ، فما قبل رمضان كله ظرف للقضاء ، فإذا قضاه في شعبان مثلًا لم يحنث ، لوجود القضاء في وقته ، وكذلك إذا كان السبب يقتضي ذلك ، لقيامه مقام النية ، كما تقدم ذلك للخرقي ، أما إن عدما فظاهر كلام الخرقي وأبي البركات واختاره أبو محمد أنه لا يبر إلا بالقضاء في الوقت الذي حلف عليه ، وهو رمضان على ما مثلنا ، اعتماداً على اللفظ ، وقال القاضي : يبر مطلقاً ، نظراً للعرف ، فإنه يقضي بالتعجيل في مثل هذه اليمين ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث ، إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله .
ش : هذه المسألة قد تقدم الكلام عليها عند قوله : إذا حلف لا يدخل داراً فأدخلها بعض جسده . فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم .
قال : ولو قال : والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك . فهرب منه لم يحنث .
ش : لأن يمين الحالف انصبت على أنه لا يفارقه ، فهي على فعل نفسه ، فمتى هرب منه المحلوف عليه لم يوجد منه فعل ، فلم يحنث ، ومنصوص أحمد رحمه الله في رواية جعفر ابن أحمد بن شاكر أنه يحنث لأن المقصود من نحو هذه اليمين أن لا يحصل بيننا مفارقة ، فاليمين توجهت على فعل الحالف والمحلوف فيحنث ، فهو كما لو قال : لا افترقنا ، واختار أبو البركات متابعة لما جزم به أبو محمد في الكافي أنه متى أمكنه متابعته وإمساكه فلم يفعل حنث ، لأنه والحال هذه مختار للمفارقة ، فينسب إليه ، بخلاف ما إذا لم يمكنه ذلك ، فإنه لم توجد منه المفارقة ولا نسبت إليه .
( تنبيه ) لو فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه ، فهل يحنث نظراً إلى أن المفارقة وإن
____________________
(3/342)
كان سببها من غيره قد وجدت منه ، أو لا يحنث لأن الفعل والحال هذه لا ينسب إليه ، لعدم اختياره له ؟ يخرج على روايتي ما إذا فارقه مكرهاً بضرب ، وما أجري مجراه والله أعلم .
قال : ولو قال : لا افترقنا . فهرب منه حنث .
ش : قد تقدمت الإشارة إلى هذا ، وأن المحلوف عليه هنا عدم المفارقة منهما . وقد وجدت مع الهرب ، فيحنث ، نعم لو أكرها معاً على الفرقة ففي الحنث خلاف كما تقدم .
( تنبيه ) الفرقة ما يعده الناس فراقاً كما في البيع ، والله أعلم .
قال : ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك في كل مرة ، إلا أن يكون نوى مرة واحدة .
ش : إذا حلف على زوجته أنها لا تخرج إلا بإذنه ، أو بغير إذنه ، أو حتى يأذن لها ، فخرجت بغير إذنه حنث ، لوجود المخالفة فيما حلف عليه ، وانحلت يمينه بلا نزاع ، إذ حرف ( أن ) لا يقتضي التكرار ، وإن أذن لها فخرجت لم يحنث بلا ريب ، لعدم المخالفة ، ثم هل يحتاج بعد ذلك في كل خروج إلى إذن أو قد انحلت يمينه بالإذن الأول ؟ فيه روايتان ، المذهب منهما الأول ، وهذا معنى قول الخرقي : فذلك في كل مرة ، أي إذا لم يحنث ، وأصل الخلاف والله أعلم من قوله : إن خرجت . معناه خروجاً ، وخروجاً نكرة في سياق الإثبات ، لكنها في سياق الشرط ، فمن لحظ كونها في سياق الشرط وهو التحقيق قال : تعم كل خروج ، فكل خروج محلوف عليه أنها لا تخرج إلا على صفة ، وهو الإذن فإذا خرجت بغير إذنه حنث ، وإن كان قد أذن لها في خروج سابق ، ومن لحظ كونها نكرة في سياق الإثبات ، مع قطع النظر إلى الشرط ، قال : إنما تناولت خروجاً واحداً على صفة وهو الإذن ، فإذا أذن لها فخرجت زالت اليمين ، لوجود المحلوف عليه ، هذا كله مع الإطلاق ، أما مع التقييد باللفظ ، كما إذا قال : حتى آذن لك مرة ، أو في كل مرة ، فلا ريب في اعتماد ذلك ، وتقوم مقام اللفظ النية ، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله .
( تنبيه ) أخذ أبو الخطاب في الهداية الرواية الثانية من قول عبد الله عن أبيه : إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه ، إذا أذن لها مرة فهو إذن لكل مرة ، وتكون يمينه على ما نوى ، وإن قال : كلما خرجت فهو بإذني ، أجزأه مرة واحدة ، وهذا ظاهر في الأخذ ، وكذلك تبعه أبو البركات ، وأبو محمد في المقنع على حكاية الرواية ، إلا أن قول أحمد رحمه الله في : كلما خرجت فهو بإذني . أنه يجزئه مرة واحدة ، فيه نظر ، لأن هذا صريح في العموم ، وقد يحمل قوله : أجزأه مرة واحدة . إذا نوى بالمرة الإذن في كل مرة ، أو أنه عبر بالعام وهو كل خروج عن الخاص ، وهو خروج واحد
____________________
(3/343)
مجاز اه . وقطع أبو محمد في المغني بالرواية الأولى ، وجعل رواية عبد الله فيما إذا أذن لها مرة أنه يسمع منه ، وكأنه أخذ ذلك من قوله في الرواية : وتكون يمينه على ما نوى . والظاهر خلافه والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يأكل هذا الرطب . فأكله تمراً حنث ، وكذلك كلما تولد من ذلك الرطب .
ش : أصل هذه المسألة إذا اجتمع في المحلوف عليه التعيين والصفة ، أو التعيين والاسم ، فهل يغلب التعيين كما اختاره الخرقي وعامة الأصحاب ، منهم ابن عقيل في تذكرته ، ولهذا كان التعريف بالإشارة من أعرف المعارف أو الصفة والاسم ، وهو اختيار ابن عقيل على ما حكاه عنه أبو البركات ، وأومأ إليه أحمد في رواية مهنا ، فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ ، فثرد فيه وأكله أنه لا يحنث ، لأن ذلك بمنزلة العلة ، فيزول الحكم بزوالها ؟ على قولين .
ويدخل تحت ذلك صور ( منها ) مسألة الخرقي وهي ما إذا حلف لا يأكل هذا الرطب ، فصار تمراً أو دبساً أو خلًا ، ونحو ذلك ( ومنها ) إذا حلف لا آكل هذه الحنطة . فصارت دقيقاً ، أو خبزاً ، أو هريسة أو نحو ذلك ( ومنها ) : لا آكل هذا اللبن ، فصار جبناً ، أو كشكاً ونحو ذلك ، أو لا آكل هذا الحمل ، فصار كبشاً ، أو لا أدخل هذه الدار ، فصارت فضاء أو حماماً ، ونحو ذلك ، أو لا أكلم هذا الصبي . فصار شيخاً ، أو لا أكلم زوجة فلان هذه ، أو عبده سعيداً ونحو ذلك ، فطلق الزوجة ، وباع العبد ، أو : لا لبست هذا القميص فصار سراويل أو رداء ونحو ذلك ، واستثنى أبو محمد من ذلك إذا استحالت الأجزاء ، أو تغير الاسم ، مثل أن يحلف لا آكل هذه البيضة ، فتصير فرخاً ، أو الحنطة ، فتصير زرعاً ، فهذا لا يحنث بأكله ، قال : وعلى قياسه الخمر إذا صارت خلًا ، وعن ابن عقيل أنه طرد القول حتى في البيضة والزرع ، ولعله أظهر ، إذ لا يظهر بين صيرورة البيضة وأبعد من ذلك الخمر إذا صارت خلًا ، فإن الماهية باقية ، وإنما تغيرت الصفة ، وقد قال أبو البركات : إذا ناطفا أو شرابا ، بر على القول بتقديم التعيين ، ولا يبر على القول باعتبار الصفة ، وليس في الشراب إلا مائية ماء من التفاح .
( تنبيه ) محل الخلاف مع عدم النية والسبب ، أما مع وجود أحدهما فالحكم له كما تقدم والله أعلم .
قال : وإذا حلف أن لا يأكل تمراً فأكل رطباً لم يحنث .
ش : هذا واضح ، إذ المحلوف عليه التمر ، والرطب غيره فلا يحنث به والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يأكل اللحم ، فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث ،
____________________
(3/344)
إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم ، فيحنث بأكل الشحم .
ش : أما مع عدم الإرادة فلأن الشحم والمخ وهو الذي في العظام والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ليسوا بلحم حقيقة ولا عرفاً ، فالحالف لا يأكل لحماً لا يحنث بذلك ، لعدم تناول يمينه له ، وعلى قياس ذلك الألية وكل ما لا يسمى لحماً ، كالكبد والطحال ، والرئة والمصران ، والكرش والقانصة ، والقلب والأكارع والكلية ، وكذلك ما كان لحماً إلا أنه اختص باسم ، إما لغة أو عرفاً ، كلحم خد الرأس ، على ظاهر كلام أحمد ، واختيار القاضي ، وكاللسان على أظهر الاحتمالين ، وعن أبي الخطاب : يحنث بأكل لحم الخد ، وهو مناقض لاختياره في الهداية ، فيما إذا حلف لا يأكل رأساً ؛ لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة بأكله منفرداً ، فغلب العرف ، مع أنه قد يقال : إنه عرف فعلي ولم يغلب هنا العرف مع أنه نقلي ، وقد ناقض القاضي أيضاً قوله هذا فقال تبعاً لابن أبي موسى فيما إذا أكل هنا مرقاً يحنث ، لأنه لا يخلو من أجزاء لحم تذوب فيه ، وجرى أبو الخطاب على الصواب ، وتبعه الشيخان فقالا : لا يحنث . لأنه على تقدير تسليم أن فيه أجزاء لحم ذائبة فذلك لا يسمى لحماً ، لا حقيقة ولا عرفاً ، وأحمد قال في رواية صالح لا يعجبني . اه .
وأما مع إرادة الدسم ، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يحنث بشيء من ذلك إلا بالشحم ، لأنه المتبادر من إرادة الدسم ، وقال الشيخان وغيرهما من الأصحاب : يحنث بجميع ذلك ، لوجود الاسم فيه .
( تنبيه ) اختلف في بياض اللحم كسمين الظهر ونحوه ( هل حكمه حكم اللحم ) فيحنث من حلف لا يأكل لحماً فأكله ، وهو قول ابن حامد والقاضي ، وظاهر كلام أبي البركات أن المسألة اتفاقية ، لدخوله في مسمى اللحم ، ولهذا لو اشتراه من وكل في شراء لحم لزم موكله ، ( أو حكم الشحم ) فيحنث من حلف لا يأكل شحماً فأكله ، وهو اختيار أكثر الأصحاب ، القاضي والشريف ، وأبي الخطاب والشيرازي وابن عقيل ، واختيار أبي محمد ، وقال : إنه ظاهر كلام الخرقي ، وقول طلحة العاقولي ، لشبهه للشحم في صفته وذوبه ، ولأن الله تعالى استثناه من الشحم حيث قال : 19 ( { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما } ) الآية ؟ على قولين ، وفي كلا الدليلين نظر . إذ مجرد شبه الشيء بالشيء لا يقتضي أن يسمى باسمه ، ويعطى حكمه ، على أن شبه سمين الظهر بالألية أقرب من شبهه بالشحم ، وأما الاستثناء فقال البغوي وغيره : 19 ( { إلا ما حملت ظهورهما } ) أي ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما اه فالمستثنى شحم حقيقة وعرفا ، إلا أن الله تعالى أرخص لهم فيه دفعاً للحرج عنهم ، والله أعلم .
قال : فإن حلف أن لا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث ، لأن اللحم لا يخلو من شحم .
____________________
(3/345)
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم وذكر دليله ، وهو أن اللحم لا يخلو من شحم ، فالحالف لا يأكل الشحم يمينه تشمل كل شحم ، وهذا شحم فيدخل في يمينه ، وقال عامة الأصحاب : لا يحنث ، لأن وجود هذا والحالة هذه كالعدم ، فاليمين لا تتناوله عرفاً .
( تنبيه ) استنبط أبو محمد من هذا أن الشحم عند الخرقي كل ما يذوب بالنار ، قال : وهذا ظاهر قول أبي الخطاب ، وقول طلحة ، قال : ويشهد له ظاهر الآية والعرف ، وبنى على هذا أنه يحنث بأكل الألية ، وقال القاضي وغيره : إن الشحم هو الذي يكون في الجوف ، من شحم الكلى أو غيره ، فعلى هذا لا يحنث بأكل الألية واللحم الأبيض ، ونحو ذلك ، وهذا هو الصواب ، وقد تقدم أن الآية لا تدل على ما ادعاه ، وأن العرف عكس هذا والله أعلم .
قال : وإن حلف أن لا يأكل لحماً ولم يرد أكل لحم بعينه ، فأكل من لحم الأنعام أو الطائر أو السمك حنث .
ش : أما إذا أكل من لحم الأنعام أو الطائر فلا نزاع فيما نعلمه في حنثه ، لدخول المحلوف عليه ، وهو اللحم حقيقة وعرفاً ، وأما إذا أكل من لحم السمك ففي الحنث به وجهان ، المشهور منهما وهو اختيار الخرقي والقاضي ، وعامة أصحابه الحنث ( والثاني ) وهو اختيار ابن أبي موسى عدمه ، ولعله الظاهر ، لأن لحم السمك وإن كان لحماً حقيقة ، بدليل قوله تعالى : 19 ( { لتأكلوا منه لحما طريا } ) وقوله تعالى : 19 ( { ومن كل تأكلون لحما طريا } ) إلا أن أهل العرف خصصوا ذلك ، كما خصصوا لفظ الدابة بذوات الأربع ، وصاروا لا يسمونه لحما ، وإنما يسمونه سمكا ، ولهذا لا يكادون يقولون إذا أكلوا سمكاً : أكلنا لحماً . وإنما يقولون : سمكاً ، ولا ريب أن العرف ناسخ للحقيقة اللغوية ، إذ هي بالنسبة إليه مجاز ، ولعل هذا الخلاف مبني على أنه هل وصل إلى حد النقل أم لا ؟ فيكون الخلاف في تحقيق المناط ، والظاهر وصوله ، لأن ضابط المنقول أن يتبادر الذهن عند الإطلاق للمنقول إليه ، ولا ريب أن إطلاق اللحم لا يفهم منه عند الإطلاق السمك اه .
وظاهر إطلاق الخرقي أنه يحنث بأكل كل لحم ، فيدخل في ذلك اللحوم المحرمة ، كلحم الخنزير ونحوه ، وهو أشهر الوجهين ، وبه قطع أبو محمد ، لدخوله في مسمى اللحم حقيقة وعرفاً ( والثاني ) لا يدخل ذلك ، لأن قرينة حال المسلم تقتضي أنه لا يريد ذلك ، والقرائن تخصص ، وينبغي على هذا التعليل في كلام الخرقي أيضاً لحم الخد ، ولحم اللسان ، وقد تقدم الكلام على ذلك ، والله أعلم .
قال : وإذا حلف أنه لا يأكل سويقاً فشربه ، أو لا يشربه فأكله حنث ، إلا أن يكون له نية .
____________________
(3/346)
ش : أما مع النية فلا كلام كما تقدم غير مرة ، وأما مع عدمها ففيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) الحنث كما قاله الخرقي ، لأن مقصود اليمين في مثل ذلك الاجتناب ، فكأنه حلف أن يتجنب ذلك عن إيصاله إلى باطنه ( والثاني ) عدم الحنث ، أخذاً من قول أحمد في رواية مهنا فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ ، فثرد فيه وأكل : لا يحنث ، لأن أنواع الأفعال كالأعيان ، ولا ريب أنه لو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره ، فكذلك الأفعال ( والثالث ) إن عين المحلوف عليه : كلا أكلت هذا السويق . حنث بشربه تغليباً للتعيين كما تقدم ، بخلاف ما إذا لم يعين : كلا أكلت سويقاً . فإنه لا يحنث ، وهذا قول القاضي في المجرد ، وعنده في الروايتين أن محل الخلاف مع التعيين ، أما مع عدمه فلا يحنث قولًا واحداً ، وخرج أبو الخطاب وأبو محمد الخلاف في كل ما حلف لا يأكله فشربه ، أو لا يشربه فأكله ، حتى قال أبو محمد فيمن حلف لا يشرب شيئاً فمصه ورمى به : أنه يجيء على قول الخرقي أنه يحنث ، ونص أحمد في رواية إبراهيم الحربي فيمن حلف لا يشرب شيئاً ، فمص قصب السكر : ليس عليه شيء ، وكذلك لو حلف لا يأكل شيئاً ، فمص قصب السكر ، لم يكن عليه شيء ، على ما يتعارفه الناس أن الرجل لا يقول : أكلت قصب السكر ، وتبع النص ابن أبي موسى . والله أعلم .
قال : وإذا حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة ، فوقعت في تمر ، فإن أكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها ، ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله .
ش : مسألة الخرقي رحمه الله إذا شك في التمرة التى أكلها هل هي المحلوف عليها أم لا ، واختياره والحال هذه اجتناب الزوجة ، للشك في تحريمها ، أشبه ما لو اشتبهت أخته بأجنبية ، وتبعه على ذلك ابن البنا ، وقال أبو الخطاب وغيره : إنه لا يجب عليه اجتنابها ، بل الأولى له ذلك ، إذ الأصل الحل ، فلا يزول بالشك ، وفارق المقيس عليه ، إذ الأصل عدم الحل ، إلا بعقد يتحقق صحته ، بوجود شروطه ، وانتفاء موانعه ولم يوجد ، أما إذا علم أكل التمرة التي حلف عليها ، بأن أكل التمر كله ، أو الجانب الذي وقعت فيه ، ونحو ذلك فلا ريب في حنثه ، وإن علم أن التمرة التي أكلها غير المحلوف عليها فلا ريب أيضاً في عدم حنثه ، وحل زوجته .
وقول الخرقي : من حلف بالطلاق . يشمل البائن والرجعي ، وهو مبني على قاعدته في تحريم الرجعية ، أما على قول غيره في حلها فلا اجتناب ، إذا كان الطلاق رجعياً لأن قصاراه وطء رجعية وهو مباح ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط ، فجمعها فضربه بها ضربة واحدة ، لم يبر في يمينه .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، لأن الأسواط آلة أقيمت مقام المصدر ، فمعنى
____________________
(3/347)
الكلام : لأضربنه عشر ضربات بسوط ، ولو قال كذلك لم يبر إلا بعشر ضربات ، فكذلك هذا ، يحقق ذلك أنه لو ضربه عشر ضربات بسوط بر اتفاقاً ، ولو عاد إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد ، كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط .
3737 ولا ترد أيوب عليه السلام وإن قلنا : شرع من قبلنا شرع لنا . لأن ذلك رخصة في حقه ، رفقاً بامرأته ، لإحسانها إليه ، ولذلك امتنّ عليه بذلك ، ولو كان الحكم عاماً له ولغيره لما اختص بالمنة ، وكذك الكلام في المريض الذي يخشى تلفه ، يقام عليه الحد بعثكال من النخل ونحوه ، ترخيصاً من الشارع ، رفعاً للحرج والمشقة ، ولهذا لا يجوز أن يضرب في حال الصحة بالسياط المجموعة بلا ريب ، ( وعن ابن حامد ) أنه يبر بذلك ، أخذاً من قول أحمد في المريض عليه الحد : يضرب بعثكال النخل ، يسقط عنه الحد ، واستدلالًا بقصة أيوب عليه السلام .
3738 وبقول النبي في المريض الذي زنا ( خذوا له عثكالًا ، فيه مائة شمراخ ، فاضربوه بها ضربة واحدة ) وقد تقدم الجواب عن ذلك ، ثم كان من حق ابن حامد أن يسوي بين الأصل والفرع ، فلا يقول بالبر إلا في حق من له عذر يبيح ضربه في الحد بالعثكال ، وإذاً كان يقرب قوله ، ولهذا قال أبو محمد : لو قيل بهذا كان له وجه ، والله أعلم .
قال : ولو حلف أن لا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولًا حنث ، إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه .
ش : أما إذا قصد بيمينه أن لا يكلمه مشافهة ، أو كان السبب يقتضي ذلك ، فلا إشكال في أنه لا يحنث بمكاتبته أو مراسلته ، لعدم التكليم مشافهة ، وإن قصد ترك مواصلته ، أو كان السبب يقتضي ذلك ، فلا ريب أيضاً في حنثه بمكاتبته ومراسلته ، لوجود مواصلته المحلوف على تركها ، وإن عريت اليمين عن قصد وسبب ففيه روايتان ، حكاهما في الكافي ( إحداهما ) وهي التي حكاها في المغني عن الأصحاب الحنث أيضاً ، لأن الظاهر من هذه اليمين هجرانه ، فتحمل يمينه عليه ، اعتماداً على الظاهر من هذه اليمين هجرانه ، فتحمل يمينه عليه ، اعتماداً على الظاهر ( والثانية ) وإليها ميل أبي محمد عدم الحنث والحال هذه ، لأن ذلك ليس بكلام حقيقة ، ولهذا يصح نفيه فيقال : ما كلمته ، وإنما كاتبته ، ولأن الله تعالى امتنّ على موسى عليه السلام فقال سبحانه : 19 ( { يا موسى إني اصطفتيك على الناس برسالاتي وبكلامي } ) ولو كانت الرسالة تكليماً لشارك موسى غيره من الرسل ، وأما قوله تعالى : 19 ( { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ، أم من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا } ) فاستثنى الرسول من التكليم ، وذلك بالنظر إلى الاشتراك في أصل معنى التكليم وهو التأثير ، إذ هو
____________________
(3/348)
مأخوذ من الكلم وهو الجرح ، ولا شك أن المراسلة والمكاتبة يؤثران في المرسل إليه والمكتوب له ، ولذلك جعل سبحانه الكلام قسيماً للوحي في موضع آخر ، لا من أقسامه فقال تعالى : 19 ( { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } ) الآية إلى قوله تعالى : 19 ( { وكلم الله موسى تكليما } ) نظراً إلى أن كلا منهما يختص عند الإطلاق باسم ، وبالجملة ميل أبي محمد هنا إلى الحقيقة ، وميل الأصحاب إلى المعنى ، وهو أوجه ، والله أعلم .
____________________
(3/349)
( كتاب النذور )
ش : النذور جمع نذر ، كفلس وفلوس ، يقال : نذرت أنذر وأنذر بفتح الذال في الماضي ، وكسرها وضمها في المضارع ، ونذرت بالقوم أنذر ، بالكسر في الماضي ، والفتح في المضارع ، إذا علمت بهم ، واستعددت لهم ، ولا نزاع في صحة النذر ، ولزوم الوفاء به في الجملة ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { يوفون بالنذر } ) وقوله : 19 ( { وليوفوا نذورهم } ) .
3739 وقول النبي : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه ) وهو عبارة عن قول يلتزم به المكلف المختار لله تعالى حقاً ، والله أعلم .
قال : ومن نذر أن يطيع الله عز وجل لزمه الوفاء به ، ومن نذر أن يعصيه لم يعصه وكفر كفارة يمين ، ونذر الطاعة الصلاة والصيام ، والحج والعمرة ، والعتق والصدقة ، والاعتكاف والجهاد ، وما كان في هذه المعاني ، سواء نذره مطلقاً ، بأن يقول : لله على أن أفعل كذا وكذا . أو علقه بصفة ، مثل قوله : إن شفاني الله عز وجل من علتي ، أو شفى فلاناً ، أو سلم مالي الغائب ، أو ما كان في هذا المعنى ، فأدرك ما أمل بلوغه من ذلك ، فعليه الوفاء به ، ونذر المعصية أن يقول : لله على أن أشرب الخمر ، أو أقتل النفس المحرمة ، وما أشبهه ، فلا يفعل ذلك ، ويكفر كفارة يمين لأن النذر كاليمين وإذا قال : لله على أئن أركب دابتي ، أو أسكن داري ، أو ألبس أحسن ثيابي ، وما أشبهه ، لم يكن هذا نذر أن يطلق زوجته ، استحب له أن لا يطلق ، ويكفر كفارة يمين .
ش : النذر أولًا على ضربين ، مطلق ومقيد ( فالمطلق ) أن يقول : لله علي نذر ، ولا ينوي شيئاً ، فيجب عليه كفارة يمين .
3740 لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي قال : ( كفارة النذر إذا لم يسم شيئاً كفارة يمين ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، ومسلم والنسائي ولم يقولا : ( إذا لم يسم شيئاً ) .
3741 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( من نذر
____________________
(3/350)
نذراً لم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذراً أطاقة فليف به ) رواه أبو داود ، ( والمقيد ) على ضربين ( أحدهما ) ما يقصد به المنع من الشيء ، أو الحمل عليه ، ويسمى نذر اللجاج والغضب ، وقد تقدم الكلام عليه في الأيمان ( والثاني ) ما ليس كذلك ، وهو على خمسة أقسام ( أحدها ) أن ينذر قربة تستحب ولا تجب ، من صوم وصلاة ونحوهما ، فيجب الوفاء به بلا خلاف نعلمه عندنا ، سواء نذره مطلقاً ، كقوله : لله علي صوم يوم ، أو صلاة ركعتين ، أو مقيداً كقوله : إن شفاني الله أو شفى ولدي فلله علي الحج ، فوجد القيد ، وسواء كانت القربة مما لها أصل وجوب في الشرع كما تقدم ، أو لم تكن كالاعتكاف ، وهو إجماع في المقيد ، وفيما له أصل وجوب ، وقول الجمهور في الآخرين ، ويشهد للجميع عموم حديث ابن عباس ، وقوله تعالى : 19 ( { وليوفوا نذورهم } ) الآية .
3742 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله يقول : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) وفي رواية ( فليف بنذره ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به ) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي .
3743 ويشهد لغير المقيد ولما لا أصل لوجوبه في الشرع ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة ، وفي رواية يوماً في المسجد الحرام . فقال : ( أوف بنذرك ) متفق عليه .
3744 وعن جابر رضي الله عنه أن رجلًا قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله : إني نذرت لله عز وجل إن فتح الله عليك مكة أن أصلي صلاة في بيت المقدس . فقال : ( صل ها هنا ) ثم أعاد عليه ، فقال : ( صل ها هنا ) ثم أعاد عليه ، فقال : ( فشأنك إذاً ) . رواه أبو داود ، وله في رواية : فقال النبي : ( والذي بعث محمداً بالحق لو صليت ها هنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس ) .
( الثاني ) أن ينذر معصية ، كشرب الخمر ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق ، وصوم يوم الحيض ، والتصدق بمال الغير ، ونحو ذلك ، فلا يجوز الوفاء به إجماعاً ، ويشهد له حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم .
3745 ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول
____________________
(3/351)
الله يقول : ( لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله تعالى ، ولا يمين في قطيعة رحم ) .
3746 وللنسائي عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( لا نذر في معصية ، ولا فيما لا يملك ابن آدم ) ثم فيه روايتان ( إحداهما ) أنه لاغ ولا شيء فيه ، قال 16 ( أحمد ) فيمن نذر ليهدِمنَّ دار غيره لبنة لبنة : لا كفارة عليه . وذلك لما تقدم .
3747 ولأن النبي قال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس ، ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم : ( مروه فليتكلم ، وليجلس وليستظل ، وليتم صومه ) رواه البخاري وغيره .
3748 وقال للمرأة التي نذرت أن تنحر ناقته : ( لا نذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك العبد ) رواه مسلم وغيره ، وظاهر هذا أنه لا نذر صحيح في معصية الله ، أو لا نذر مشروع ، وغير المشروع وجوده كعدمه ، مع أن النبي لم يأمر في ذلك بكفارة ، ولو وجبت لبينها . ( والرواية الثانية ) وهي المذهب المعروف عند الأصحاب أنه منعقد .
3749 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( لا نذر في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين ) رواه أبو داود والترمذي والنسائي .
3750 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( النذر نذران فما كان نذر طاعة فذلك لله فيه الوفاء ، وما كان نذر معصية فذلك للشيطان ولا وفاء فيه ، ويكفره ما يكفر اليمين ) . رواه النسائي ، رواه النسائي ، وهذا المبين يقضي على ذلك المجمل ويبين أن المراد به : لا وفاء لنذر في معصية الله . وكذلك جاء مصرحاً به في مسلم في التي نذرت نحر ناقة النبي قال لها : ( لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه العبد ) .
3751 وقد استشهد ترجمان القرآن لذلك من الكتاب ، فعن يحيى ابن سعيد ، أنه سمع القاسم بن محمد يقول : أتت امرأة إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقالت : إني نذرت أن أنحر ابني . فقال ابن عباس رضي الله عنهما : لا تنحري ابنك ، وكفري عن يمينك . فقال شيخ عند ابن عباس رضي الله عنهما : كيف يكون في هذا كفارة ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : قال تعالى : 19 ( { الذين يظاهرون من نسائهم } )
____________________
(3/352)
ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت . رواه مالك في الموطأ ، فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره من المعصية وجبت عليه كفارة يمين ، وإن فعل ذلك أثم ولا شيء عليه على المعروف ، كما لو حلف على فعل معصية ففعلها ، ولأبي محمد احتمال بوجوب الكفارة مطلقاً ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وظاهر الحدي .
( الثالث والرابع ) نذر مكروهاً أو مباحاً ، كطلاق زوجته من غير حاجة ونحوه ، أو ركوب دابة ، أو لبس ثوب له ونحوها ، وفي ذلك أيضاً روايتان ، ( إحداهما ) أنه لاغ لا شيء فيه ، لما تقدم من قول النبي : ( لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ) وهذا لم يبتغ به وجه الله تعالى ، ولحديث أبي إسرائيل ، فإنه نذر أفعالًا تكره المداومة عليها وقد تحرم ، ولم يأمره النبي بكفارة .
3752 وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية ، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله فاستفتيته فقال : ( لتمش ولتركب ) .
3753 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله رأى شيخاً يهادى بين ابنيه ، فقال : ( ما بال هذا ؟ ) قالوا : نذر أن يمشي . قال : ( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ) وأمره أن يركب ، متفق عليهما ، ولم يأمره في ذلك بكفارة ، ولو وجبت لبينها ( والثانية ) وهي المذهب أنه منعقد ، لأن في حديث عقبة رضي الله عنه أن رسول الله قال له : ( إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئاً ، فلتحج راكبة ، ولتكفر عن يمينها ) . رواه أبو داود ، وفي رواية له أيضاً وللترمذي ( ولتصم ثلاثة أيام ) وهذه زيادة فيجب قبولها ، ولعموم قول النبي : ( كفارة النذر كفارة يمين ) فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره وجبت عليه الكفارة ، وإن فعل فلا شيىء عليه ، إلا أنه في المكروه لا يستحب له الفعل ، وفي المباح يتخير بين الفعل وتركه قاله الأصحاب .
3754 وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن امرأة قالت : يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف . قال : ( أوفي بنذرك ) .
( القسم الخامس ) نذر الواجب ، كقوله : لله علي أن أصوم رمضان ، أو أحج
____________________
(3/353)
حجة الإسلام ، ونحو ذلك ، فحكى أبو محمد عن الأصحاب عدم انعقاد النذر والحال هذه ، لأن النذر التزام ، والواجب لازم له ، فالتزامه تحصيل الحاصل ، وحكى في المغني احتمالًا وجعله في الكافي قياس المذهب أنه ينعقد موجباً للكفارة إن لم يفعله ، كما لو حلف على ذلك .
3755 وقد سمى النبي ذلك يميناً فقال : ( النذر حلف ) ولا نسلم أن نذر الواجب تحصيل الحاصل ، لاختلاف جهة الإيجاب ، إذ الواجب بالشرع غير الواجب بإيجاب المكلف ، ولهذا لو ترك الناذر صوم رمضان والحال ما تقدم لزمه كفارة يمين ، ولو تركه من غير نذر لم يلزمه غير القضاء ، وقال في المغني في موضع آخر : إن قياس قول الخرقي الانعقاد ، وقول القاضي عدمه ، فيما إذا نذر صوم يوم يقدم فلان ، فوافق قدومه يوماً من رمضان ، وأبو البركات حكى المسألة على روايتين ، وأورد المذهب بالانعقاد كنذر المباح .
( تنبيه ) قد علم من كلام الخرقي أن الطلاق مكروه ، وهذا مع عدم الحاجة إليه ، وهو المذهب ، ( وعنه يحرم ) والحال هذه ، كالطلاق في حال الحيض ، وطلاق الثلاث في رواية ، أما عند الحاجة إليه فيباح ، وقد يستحب ، كما إذا كان بقاء النكاح ضرراً ، وقد يجب كالمولي إذا امتنع من الفيئة .
قال : ومن نذر أن يتصدق بكل ماله أجزأه أن يتصدق بثلثه لما روي عن النبي أنه قال لأبي لبابة حين قال : إن من توبتي يا رسول الله أن أنخلع من مالي فقال رسول الله : ( يجزئك الثلث ) .
ش : لما تقدم للخرقي رحمه الله أن نذر الطاعة يلزم الوفاء به ، والصدقة طاعة وقربة ، أراد أن ينبه على هذه المسألة ، وإلا لاقتضى كلامه وجوب الصدقة بالجميع ، والذي قاله الخرقي هو المذهب المعروف .
3756 لما ذكره من حديث أبي لبابة وهو رفاعة بن عبد المنذر أنه قال : يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك ، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله . فقال رسول الله : ( يجزئ عنك الثلث ) رواه أحمد .
3757 وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي ( سقط : صدقة إلى الله وإلى رسوله ، قال : أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك قلت : فإني أمسك سهمي الذي بخيبر ، رواه البخاري ، وأبو داود برواية قلت يا رسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى )
____________________
(3/354)
( سقط : الله وإلى رسوله قدقة ، قال : لا ، قلت : فنصفه ، قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم قلت : فإني )
سهمي من خيبر . وقد اعترض على هذا بأنه ليس فيه تصريح بالنذر ، فيحتمل أنه أراد أن يتصدق بذلك ، فأرشده النبي إلى ما هو أولى ، ويجاب بأن هذا ظاهر في جعله لله تعالى ، ويرشحه قول النبي : ( يجزئ عنك الثلث ) إذ لفظة الإجزاء ظاهرة في الوجوب ، ثم لو سلم أنه ليس بنذر ، فلا نسلم أن الصدقة بما زاد على الثلث قربة لمنع النبي من ذلك ، وهو لا يمنع القرب ، ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به .
ويحكى عن أحمد رواية أخرى أن الواجب في ذلك كفارة يمين .
3758 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن رجل قال : مالي في رتاج الكعبة ، فقالت : يكفره ما يكفر اليمين . رواه مالك في الموطأ اه ( وعنه ثالثة ) حكاها ابن أبي موسى : يجب إخراج الجميع نظراً إلى أن الصدقة قربة وطاعة ، فدخل تحت قوله : ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ) .
ومقتضى كلام الخرقي أن من نذر الصدقة ببعض ماله لزمه ذلك البعض ، وإن كان أكثر من النظف ، ( وهو إحدى الروايتين ) وزعم أبو محمد في المغني أنه الصحيح من المذهب ، عملًا بما تقدم من الوفاء بنذر الطاعة ، خرج منه إذا نذر الجميع فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل ( والرواية الثانية ) أنه يجزئه إخراج ثلث ذلك البعض المعين أو المقدر ، وبها قطع القاضي في الجامع ، جعلفا للبعض كالكل ولأبي محمد احتمال أن البعض إن كان الثلث فما دون لزمه ، وإن كان أثر أجزأه قدر ثلث المال ، لما تقدم من أن الحديث يتضمن أن الصدقة بزيادة على الثلث ليس بقربة ، وهذا الاحتمال هو الرواية الثانية التي حكاها أبو البركات وصححها ، وعنده أن محل الخلاف فيما إذا زاد المسمى على ثلث الكل ، هل يلزمه الكل أو قدر ثلث المال ؟ على روايتين ، أما إذا كان المسمى قدر الثلث فما دون فإنه يلزمه الوفاء به رواية واحدة ، تضمن هذا أن للأصحاب في نقل الخلاف طريقتين ، والأولى طريقة أبي الخطاب ، وأبي محمد ، ومقتضى كلام القاضي ، وجمع ابن حمدان في رعايتيه الطريقتين ، فحكى المسألة على ثلاث روايات .
( تنبيه ) هل يختص ذلك بالصامت ، أو يعم كل مال ، إن لم يكن له نية وهو ظاهر إطلاق الأكثرين ، ومقتضى حديث كعب بن مالك ، لأنه جعل سهمه الذي بخيبر من المال ، وأقره النبي على ذلك ، وقياس مسألة إذا حلف لا مال له ومال غير زكوي ، أو دين على الناس أنه يحنث ؟ على روايتين .
____________________
(3/355)
قال : من نذر أن يصوم وهو شيخ كبير ، لا يطيق الصيام ، كفر كفارة يمين ، وأطعم لكل يوم مسكينا .
ش : هذا هو المذهب المنصوص ( أما الكفارة ) فلأنه لم يأت بالمنذور بعينه ، ولما تقدم في حديث أخت عقبة الذي رواه أبو داود قال فيه : ( ولتكفر يمينها ) .
3759 وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال : ( من نذر نذراً ولم يسمه فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذراً لم يطقه فكفارته كفارة يمين ) . رواه داود ، ( وأما الإطعام ) فالكالصوم الواجب بأصل الشرع وقيل : لا يجب إلا الكفارة لظاهر الحديثين ، وقيل : لا يجب إلا الإطعام ، كالواجب بأصل الشرع وهو صوم رمضان ، وقيل : إن هذا النذر غير منعقد أصلًا ، لأنه تكليف ما لا يطيق ، وهو غير جائز شرعاً ، وحكم ما إذا نذر الصوم وهو قادر ثم عجز حكم ما تقدم ، إلا أنه لا نزاع في انعقاد نذره .
قال : وإذا ندر صياماً ولم يذكر عدداً ولم ينوه فأقل ذلك صوم يوم .
ش : لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم ، فيجب ذلك ، لأنه اليقين ، وهذا مع الإطلاق ، أما مع التقييد بلفظه أو بنيته فيعمل على ذلك بلا ريب .
قال : وأقل الصلاة ركعتان .
ش : أي وإذا نذر صلاة فأقلها ركعتان ، ما لم ينو أكثر أو يسمه ، وهو إحدى الروايتين ، وهي التي نصبها أبوالخطاب والشريف في خلافيهما ، وقطع بها القاضي في الجامع ، وابن عقيل في التذكرة ( والرواية الثانية ) يجزئه ركعة ، ومبناهما على أن أقل ما يصح التطوع به هل هو ركعة أو ركعتان ؟ على روايتين تقدمتا ومفهوم كلامه ثم أن أقله ركعتان ، وعليه جرى ها هنا .
قال : وإذا نذر نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة .
ش : من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره ، كما تضمنه كلام الخرقي ، لأنه قربة وطاعة فلزمه كنذر الصلاة .
3760 ودليل الأصل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى ) متفق عليه ، ولا يجزئه الذهاب إلا في حج أو عمرة لأنه المشي المعهود في الشرع إلى البيت ، فحمل إطلاق الناذر عليه ، ولقد غالى أبو محمد فقال :
____________________
(3/356)
إذا نذر إتيان البيت غير حاج ولا معتمر لزمه الحج أو العمرة ، وسقط شرطه ، لمناقضته لنذره . وفيه نظر ، لجواز التصريح بخلاف الظاهر ، والكلام إنما يتم بآخره ويلزمه المشي من دويرة أهله ، والإحرام من حيث يحرم للواجب ، وحكم من نذر المشي إلى موضع من الحرم كذلك ، بخلاف غيره ، كعرفة وغيرها ، والله أعلم .
قال : فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين .
ش : إذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي ، لظاهر حديثي أنس وأخت عقبة رضي الله عنهما وسيأتيان ، ولأن المشي والحال هذه قربة ، لأنه مشي إلى عبادة ، والمشي إلى العبادة أفضل فإن عجز عن المشي جاز له الركوب .
3761 لحديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله رأى شيخا يهادي بين ابنيه فقال : ( ما بال هذا ؟ ) قالوا : نذر أن يمشي . قال : ( إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني ) وأمره أن يركب . متفق عليه .
3762 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى رسول الله فقال : يا رسول الله إن أختى نذرت أن تمشي إلى البيت ، أو قال : أن تحج ماشية ، فقال رسول الله : ( إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئاً ، فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها ) .
رواه أبو داود .
وإذا ركب كفر كفارة يمين ( على إحدى الروايتين ) واختيار القاضي ، وأبي محمد ، لهذا الحديث ، وبه احتج أحمد ، ولأبي داود في رواية والترمذي في حديث عقبة بن عامر قال : ( ولتصم ثلاثة أيام ) ولعموم قول النبي : ( كفارة النذر كفارة يمين ) ( وعن أحمد رواية أخرى ) : يجب عليه هدي من الميقات لأنه أخل بواجب في الإحرام ، فلزمه الهدي كتارك الإحرام من الميقات ، والإحرام دونه .
3763 ولما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية ، وإنها لا تطيق ذلك ، فقال النبي : ( إن الله لغني عن مشي أختك ، فلتركب ولتهد بدنة ) ، وفي رواية : أمرها أن تركب وأن تهدي هديا . رواه أبو داود ، ويخرج لنا ( رواية ثالثة ) أنه لا شيء عليه ، بناء على تارك المنذور لعذر ، وهو ظاهر حديث أنس رضي الله عنه المتقدم .
3764 وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : نذرت أختى أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية ، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله ، فاستفتيته فقال : ( لتمش ولتركب ) متفق عليه وليس في الصحيح ذكر كفارة .
____________________
(3/357)
وإن عجز عن مشي البعض وقدر على البعض ، فإنه يمشي ما قدر عليه ، ويركب ما عجز عنه ، لقول النبي لأخت عقبة : ( لتمش ولتركب ) أي لتمشي ما قدرت عليه ولتركب ما عجزت عنه ، وحكم الكفارة على ما سبق .
هذا كله إذا ترك المشي لعجزه عنه ، أما إذا تركه مع قدرته عليه فلا ريب في وجوب الكفارة عليه ، ثم هل هي كفارة يمين أو هدي ؟ على الروايتين السابقتين والمذهب على إجزاء حجه ، وقال أبو محمد : قياس المذهب أنه يستأنف الحج ماشياً لتركه صفة النذر ، كما لو نذر صوماً متتابعاً ففرقه ، وعلى هذا لو مشى بعضاً وركب بعضاً ففيه احتمالان ( أحدهما ) يحج ثانياً فيمشي ما ركب ( والثاني ) لا يجزيه إلا حج يمشي في جميعه ، اعتماداً على ظاهر نذره .
تنبيهان ( أحدهما ) عكس مسألة الخرقي إذا نذر الركوب إلى بيت الله الحرام فإنه يلزمه ، لأن فيه إنفاقاً في الحج ، فإن تركه ومشى لزمته الكفارة ، ثم هل هي كفارة أو هدي ؟ ، على الروايتين السابقتين ، وهذا كله مع الإطلاق ، أما لو نوى بالمشي أو بالركوب إتيانه ، فإنه يلزمه إتيانه في حج أو عمرة ، ولا يلزمه مشي ولا ركوب . ( الثاني ) يلزم المنذور من المشي أو الركوب في الحج أو العمرة إلى التحلل ، لانقضاء النسك إذاً ، وقال 16 ( أحمد ) : يركب في الحج إذا رمى ، وفي العمرة إذا سعى ، لأنه لو وطىء بعد ذلك لم يفسد حجاً ولا عمرة ، وظاهر هذا أنه إنما يلزمه ذلك إلى التحلل الأول والله أعلم .
قال : وإذا نذر عتق رقبة فهي التي تجزئ ، عن الواجب ، إلا أن يكون نوى رقبة بعينها .
ش : إذا نذر رقبة وأطلق حمل ذلك على ما يجزىء في الواجب ، وهي الرقبة المؤمنة على المذهب ، السالمة من عيب مضر بالعمل على ما تقدم ، حملًا للمطلق على المعهود الشرعي ، وهو الواجب في الكفارة وإن نوى رقبة معينة أجزأته وإن كانت كافرة أو معينة ، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله ، قال أحمد فيمن نذر عتق عبد بعينه فمات العبد قبل أن يعتقه : يلزمه كفارة يمين ، ولا يلزمه عتق عبد ، لأن هذا شيء فاته ، على حديث عقبة بن عامر ، وإليه أذهب في الفائت وما عجز عنه اه .
قال : وإذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان ، فقدم في أول يوم من شهر رمضان ، أجزأه صيامه لشهر رمضان ونذره .
ش : النذر والحال هذه منعقد في الجملة ، قال القاضي في روايتيه : من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان انعقد نذره ، ذكره أبو بكر في الاعتكاف من كتاب الخلاف ، وحكى صحته عن أحمد في مواضع اه ، وكذلك جزم غير واحد من الأصحاب بالصحة وذلك لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالباً ، فأشبه غيره من النذور ، فإذا قدم
____________________
(3/358)
فلان في أول شهر رمضان فهل يتبين بذلك عدم انعقاده ، المشهور وه اختيار أبي محمد ة وظاهر كلام الخرقي نعم لقوله : أجزأه يامه لرمضان ونذره وعن القاضي أن ظاهر كلام الخرقي عدم الانعقاد وأخذ ذلك من كون الخرقي لم يوجب القضاء والحال هذه .
إذا تقرر هذا فلقدوم زيد حالات ( إحداها ) أن يقدم والناذر صائم صوماً واجباً ، ففيه روايتان ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي ، وابن عقيل في التذكرة : يجزئه صومه عن الواجب والنذر ، لأن الذي نذره صوم يوم يقدم فلان وقد صامه ( والثانية ) وهي أنصهما ، واختيار أبي بكر والقاضي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما لا يجزئه عن النذر ، لأنه لم يأت بما وجب عليه لأن الواجب عليه صوم يوم قدوم زيد عن النذر ، ولم يأت به عن النذر ، إنما أتى ببعضه عنه ، ولهذا الخلاف التفات إلى نذر صوم الواجب ، وإلى أنه هل يلزمه الصوم حين القدوم ، أو من أول اليوم ؟ وعلى هذا فمذهب الخرقي صحة نذر الواجب كما هو المذهب ، وأنه إنما يلزمه من حين القدوم ، وهو أحد الوجهين أو الروايتين ، ونظير ذلك إذا قال : أنت طالق يوم يقدم زيد ، هل تطلق من حيث قدومه أو من أول اليوم ؟ على قولين اه فإن قلنا : لا يجزئه لزمه القضاء لتركه المنذور ، وهل عليه كفارة ؟ فيه روايتان يأتي الكلام عليهما إن شاء الله تعالى ، ويتخرج أن لا شيء عليه ، كنذر الواجب في رواية وقد تقدم في كلام القاضي ما يدل عليه .
( الحال الثانية ) : وهي التي ذكرها الخرقي في قوله :
ومن نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم يوم فطر أو أضحى لم يصمه ، وصام يوماً مكانه ، وكفر كفارة يمين .
ش : إذا قدم يوم فطر أو أضحى فقيه روايتان ( إحدهما ) لا شيء عليه ، لأن يوم الفطر والأضحى ليس بمحل للصوم ، لمنع الشارع منه ، فأشبه ما لو قدم ليلًا ، إذ الممنوع منه شرعاً كالممنوع منه حساً ، وحكى أبو محمد هذه الرواية تخريجا من نذر المعصية ، وفيه نظر ، لأن العصيان يعتمد المخالفة ، ولا مخالفة هنا من الناذر ( والرواية الثانية ) وهي المذهب عليه القضاء ، لأن النهار محل للصوم في الجملة ، بخلاف الليل ، والمانع عارض ، وإذاً يجب القضاء لترك المنذور ، ولهاتين الروايتين التفات إلى الصلاة في الدار المغصوبة ، من حيث إنه هل ينظر إلى عين الصلاة ، أو إلى الصلاة من حيث هي ؟ لكن المشهور ثم النظر إلى عين الصلاة ، والمشهور هنا النظر إلى ذات اليوم من حيث هو ، وقد يفرق بأن ثم المصلي آثم عاص لارتكابه النهي . بخلاف هنا فإنه لا مخالفة منه ، وإنما وجد أمر بغير اختياره ، منعه من الصوم . اه وعلى هذه إذا قضى هل عليه كفارة ؟ فيه روايتان ( أشهرهما ) عن الإمام وعند الأصحاب : نعم لتركه المنذور في وقته ( والثانية ) لا لأنه معذور في الترك ، أشبه المكره ، وخرج أبو محمد ( قولًا رابعاً ) بوجوب الكفارة من غير قضاء ، مما إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها ،
____________________
(3/359)
وحكم ما لو وافق يوم حيض أو نفاس حكم ما تقدم إلا أن عن أحمد رواية فيما إذا وافق يوم عيد أنه إن صام صح صومه ، وهنا لا يصح الصوم بلا خلاف .
( الحال الثالثة ) : قدم وهو مفطر ، ففيه روايتان إحداهما لا شيء عليه ، والثانية وهي المذهب عليه القضاء ، وقد تقدم توجيههما ، وعلى هذه ففي الكفارة روايتان ، بناء على تارك المنذور لعذر .
( الحال الرابعة ) : إذا قدم وهو ممسك ، ففيه روايتان ( إحداهما ) وهي ظاهر كلام الشيرازي ، واختيار ابن عبدوس أنه ينوي صيامه عن النذر ولا شيء عليه ، لوجود الصوم منه في اليوم ، ولا تضر نيته من النهار لأن الواجب إنما تعلق به إذاً ، وقد شهد لذلك قضية صوم يوم عاشوراء ( والثانية ) عليه القضاء ، ويمنع أن الواجب إنما تعلق به إذ ذاك ، بل تبين تعلقه به من أول اليوم ، وفي الكفارة لكونه معذورا روايتان ، هذا نقل الشيخين ، وقال القاضي في الجامع : إنه ينوي صوم ذلك اليوم ويقضي ويكفر . وهذا الذي نصبه الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وقال الشريف : إنه اختيار أبي بكر وهو مبني على لزوم الإمساك له وإن لم يصح صومه عن النذر كرمضان ، والمختار خلافه . ( الحال الخامسة ) قدم وهو صائم تظوعا ، ففيه أيضاً روايتان كالممسك ( إحداهما ) أنه يعتقده عن النذر ويجزئه . ( والثانية ) عليه القضاء ، وفي الكفارة الخلاف . ( الحال السادسة ) إذا قدم في الليل ، أو والناذر مجنون ، فلا شيء عليه وإن أفاق في اليوم ، على ظاهر إطلاق أبي البركات ، وقد يقال فيما إذا أفاق في اليوم إنه كالمفيق في أثناء يوم من رمضان . ( الحال السابعة ) قدم في النهار ، وكان قد بيت له النية ، لخبر سمعه من الليل ، فيجزئه بلا ريب .
قال : وإن وافق قدومه يوماً من أيام التشريق صامه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله ، والرواية الأخرى لا يصومه ، ويصوم يوما مكانه ، ويكفر كفارة يمين .
ش : هذا مبني على أصل تقدم ، وهو أن أيام التشريق هل يصح صومها عن الفرض أم لا ؟ فإن قلنا يصح صام هنا ، وصار كما لو كان القدوم في غير يوم تشريق ، وإن قلنا لا يصح فهو كما لو قدم في يوم عيد وقد تقدم ، وقد علم من هذا أن يوم العيد لا يصح صومه وهو المذهب ، وعن أحمد رواية أخرى أنه إن صام صح صومه ، كالصلاة في الدار المغصوبة . ( تنبيهان ) ( أحدهما ) إذا قلنا بالإجزاء عن رمضان والنذر ، فهل ينوي النذر ؟ قد يقال : إنه ينويه كما إذا قلنا فيما إذا كان صائماً تطوعاً أو ممسكاً ، ويحتمل هذا كلام الخرقي ، وعلى هذا يكون كلامه مشعراً بصورتي التطوع والممسلك اه ( الثاني ) إذا كان القدوم في الليل ، أو والناذر مجنون فقد يقال : بطل النذر إذاً لعدم تصور الفعل ، إذ الليل ليس بمحل للصوم أصلًا ، والمجنون لا يتوجه إليه خطاب تكليفي ، وقد يقال : بل قد تبيناً عدم انعقاده ، فيكون النذر موقوفاً . وهذان المدركان
____________________
(3/360)
يلحظان أيضاً فيما إذا كان القدوم في يوم عيد أو وهو مفطر ، والله أعلم .
قال : ومن نذر أن يصوم شهراً متتابعاً ولم يسمه فمرض في بعضه أفطر فإذا عوفي بنى ، وكفر كفارة يمين ، وإن أحب أتى بصيام شهر متتابع ولا كفارة عليه .
إذا نذر أن يصوم شهراً والحال هذه فصام ثم في أثنائه مرض مرضا مجوزاً للفطر فأفطر فإنه إذا عوفي يخير بين الإتيان بشهر متتابع ولا كفارة عليه ، لإتيانه بالمنذور على وجهه ، وبين البناء على ما صامه والتكفير بكفارة يمين ، لتركه صفة المنذور ، كما أمر النبي أخت عقبة بالكفارة لتركها المشي ، ويخرج رواية أخرى بعدم وجوب الكفارة للعذر ، لإمكانه الإتيان بالمنذور على وجهه .
وقول الخرقي : مرض . قد قلنا : أي مرضاً مجوزاً للفطر . وهو شامل للموجب للفطر وهو المخوف ، وغير الموجب وهو المبيح ، ولا ريب أن حكم الموجب ما تقدم ، أما المبيح فهل حكمه كذلك أو حكم من أفطر لغير عذر ، فيلزمه الاستئناف بلا كفارة ؟ على وجهين ، وكذلك هذان الوجهان فيما إذا سافر سفراً يبيح الفطر ، ولنا وجه ثالث يفرق بين المرض والسفر ، ففي المرض يخير ، لأن السبب وجد بغير اختياره ، وفي السفر يتعين الاستئناف ، لوجود السبب منه باختياره ، وقد تقدم نحو ذلك في الظهار ، وكلام الخرقي مشعر بأنه لو نذر شهراً وأطلق أنه لا يلزمه التتابع فيه ، وهو إحدى الروايتين ، لوقوع الشهر على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوماً ، ولهذا لو صام ثلاثين يوماً أجزأه بلا ريب واللَّه أعلم .
قال : وكذلك المرأة إذا نذرت صيام شهر متتابع وحاضت فيه .
ش : يعنى إنها تخير بين الاستئناف فلا شيء عليها وبين البناء مع الكفارة .
وقال : ومن نذر أن يصوم شهراً بعينه فأفطر يوماً بغير عذر ابتدأ شهراً وكفر كفارة يمين .
ش : إذا نذر صوم شهر بعينه كرجب مثلاً فأفطر يوماً فيه أو أكثر ، فلا يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر ، فإن كان لغير عذر ففيه روايتان ( إحداهما ) وهي المشهورة واختيار الخرقي وأبي الخطاب في الهداية وابن البنا أنه ينقطع صومه ويبتدىء شهراً كاملاً ، ( والثانية ) وقال أبو محمد : إنها الأقيس لا ينقطع صومه ، فيتم على ما صامه ثلاثين يوماً إذا زال عذره وأصل الخلاف أن التتابع في الشهر المعين هل وجب لضرورة الزمن ، وإليه ميل أبي محمد ، أو لإطلاق النذر ، وإليه ميل الخرقي والجماعة ، ولهذا لو شرط التتابع بلفظه أو نواه لزمه الاستئناف قولاً واحداً ، ومما ينبني على ذلك أيضاً إذا ترك صوم الشهر كله ، فهل يلزمه شهر متتابع ، أو يجزئه متفرقاً ؟ على الروايتين ولهاتين الروايتين أيضاً التفات إلى ما إذا نذر صوم شهر وأطلق ، هل يلزمه متتابعاً أم لا ؟ وقد تقدم أن كلام الخرقي يشعر بعدم التتابع ، وقضية البناء هنا
____________________
(3/361)
يقتضي التتابع ، كما هو المشهور عند الأصحاب ثم . انتهى . وعلى كلتا الروايتين يلزمه كفارة ، جبراً للفطر الذي أفطره فيه ، وإن كان الفطر لعذر فإنه يبني قولاً واحداً ، لكن هل يجب وصل القضاء وتتابعه أم لا ؟ على الروايتين السابقتين ، وهل يلزمه كفارة ؟ على الروايتين أيضاً في ترك المنذور لعذر .
قال : ومن نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به صام عنه ورثته من أقاربه .
ش : أما جواز صوم النذر عن الميت في الجملة فهو المذهب المعروف .
3765 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن امرأة قالت : يا رسول اللَّه إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ؟ أفأصوم عنها فقال : ( أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ذلك يؤدي عنها ؟ ) قالت : نعم قال : ( فصومي عن أمك ) متفق عليه ، وفي رواية : أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن اللَّه نجاها أن تصوم شهراً ، فأنجاها اللَّه فلم تصم حتى ماتت ، فجاءت قرابة لها إلى رسول اللَّه فذكرت ذلك له ، فقال : ( صومي عنها ) رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي .
3766 وعلى هذا يحمل عموم ما روت عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه قال : ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) متفق عليه .
3767 بدليل ما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم ، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء ، وإن نذر قضى عنه وليه . رواه أبو داود ، فقد فهم من الحديث الأول اختصاص الحكم بالنذر ، وأنه لا يتعدى إلى غيره ، وقد جاء نحو هذا صريحاً عن النبي .
3768 فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي قال : ( من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكيناً ) إلا أن سنده ضعيف ، وقال الترمذي : الصحيح أنه عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما موقوف .
وقيل : لا يصوم أحد عن أحد ، كما لا يفعل ذلك عنه في الحياة ، وهو مردود بالنصوص ، والذي يصوم عنه ورثته من أقاربه ، لأنهم لما خلفوه في أخذ ميراثه كذلك فيما عليه ، وهذا على سبيل الاستحباب ، فلو لم يصوموا فلا شيء عليهم ، إلا أنه وقع للقاضي في تعليقه ما ظاهره أنه لو خلف إذاً تركة فالورثة مخيرون ، إن شاؤوا صاموا ، وإن شاؤوا أنفقوا على من يصوم ، وهو حسن ، ولو صام عنه قريبه غير الوارث ، أو
____________________
(3/362)
وارثه غير القريب أو أجنبي أجزأ عنه ، كما لو قضى عنه دينه ، وقد شبهه النبي بالدين ، ولتشبيهه بالدين قلنا : لا يجب على الوارث القريب بالقضاء ، بل يستحب له ، إذ قضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركة يقضي منها ، وقول النبي : ( صومي عنها ) ونحو ذلك أمر بالصوم على جهة الفتوى فيما سئل عنه ، والغرض منه بيان الجواز .
3769 وقد جاء مصرحاً به ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه لمن شاء ) .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب مع القضاء فدية ، وهو كذلك ، لظاهر الحديث .
قال : وكذلك كل ما كان من نذر طاعة .
ش : كحج وصدقة ، وعتق واعتكاف ، ونحو ذلك من القرب .
3770 وقد جاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى رسول اللَّه فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : ( نعم ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا اللَّه فاللَّه أحق بالوفاء ) رواه البخاري والنسائي بمعناه ، وفي رواية لأحمد والبخاري قال : جاء رجل فقال : إن أختي نذرت أن تحج . وهو دليل على الإجزاء من الوارث وغيره ، حيث لم يستفسره النبي أوارث هو أم لا ، فقد ورد النص بالقيام في الصوم والحج خصوصاً ، وورد في غيرهما عموماً .
3771 فعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن سعد بن عبادة استفتى رسول اللَّه فقال : إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه ؟ فقال رسول اللَّه ( اقضي عنها ) رواه أبو داود والنسائي .
وقد عمل على ذلك ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وعن عائشة رضي اللَّه عنها ، وهما راويا الحديث ، وكذلك ابن عمر رضي اللَّه عنهما .
3772 قال البخاري : أمر ابن عمر رضي اللَّه عنهما امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء يعني ثم ماتت فقال : صلي عنها ، قال : وقال ابن عباس نحوه .
3773 وروى سعيد عن سفيان ، عن عبد الكريم أبي أمية عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف ، قال : صم عنها ، واعتكف عنها .
3774 وقال : حدثنا أبو الأحوص ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن عامر بن مصعب ، أن عائشة رضي اللَّه عنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن رضي اللَّه عنه
____________________
(3/363)
بعدما مات .
ولنا قول آخر ضعيف أنه لا يفعل شيئاً من ذلك كما تقدم في الصوم .
وقد شمل كلام الخرقي الصلاة المنذورة ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر ، والقاضي في التعليق وغيرهما ، قياساً على ما تقدم ( والرواية الثانية ) لا يفعل الصلاة بخلاف الصوم وغيره ، لأنها عبارة تختص بالبدن ، لا بدل لها بحال .
ومفهوم كلام الخرقي أن الولي لا يفعل ما هو واجب بغير النذر ، من قضاء رمضان ، وصوم كفارة ، وصوم السبعة أيام للمتمتع ، وحج ، وزكاة مال ، وعتق في كفارة ، وقد صرح بذلك الأصحاب في قضاء رمضان ، لما تقدم من الإشارة في الاستدلال ، وكذلك نص عليه أحمد في السبعة الأيام للمتمتع في رواية المروذي ، قياساً على قضاء رمضان ، لوجوبها بأصل الشرع ، وهو فرق صوري ، وقد يقال : الأصل عدم الاستنابة إلا ما استثناه الدليل ، وكذلك نص أحمد في صوم الكفارة في رواية ابن منصور ، إذ الكفارة زاجرة كالحد ، فلم ينب فيها الولي . بخلاف نذر الصوم فإنه نذر طاعة ، أشبه نذر صدقة المال .
وأما الحج الواجب فقد قال الأصحاب إن لوارثه ولغير وارثه أن يفعله عنه بعد مماته وإن لم يوص بذلك ، سواء كان له تركة أو لم يكن .
3775 وقد شهد لذلك ما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : أتى النبي رجل فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال : ( أرأيت لو أن أباك ترك ديناً عليه أقضيته عنه ؟ ) قال : نعم . قال : ( فاحجج عن أبيك ) رواه الدارقطني ، وأما زكاة المال فلا يحضرني الآن فيه نقل ، والقياس أنه كالعتق الواجب ، وقد صرح القاضي وأبو البركات وغيرهما بصحته عن الميت مطلقاً ، وقد علم من مجموع هذا أن مفهومه إنما عمل به في الصوم فقط .
( تنبيه ) قول الخرقي : صام عنه ورثته من أقاربه ، ظاهره كما تقدم أن الذين يطلب منهم الصوم هم الورثة من الأقارب ، وأحمد رحمه اللَّه قال في من مات وعليه اعتكاف : ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه . وهو شامل للوارث وغير الوارث ، وقال ابن عبدوس : إذا صام الولي صام الأقرب من الأولياء . ثم قول الخرقي أيضاً : ورثته . يشمل جميع الورثة ، وظاهره أنه لو صام عنه الكل صح ، كأن يكونوا مثلاً عشرة ، وعليه عشرة أيام ، فيصوموا عنه كل واحد يوماً ، وقد ذكر لأحمد في رواية أبي طالب من كان عليه صوم شهر ، هل يصوم عشرة أنفس شهراً ؟ فقال : يصوم واحد وقد قرر القاضي في تعليقه هذا النص على ظاهره ، لما أورده على لسان الخصم ، وقال فيه : كما لا يصح أن يطوف واحد ويسعى آخر واللَّه أعلم .
____________________
(3/364)