يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب رسول اللَّه حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة . والووقوف عند الجبل ، واستقبال القبلة ، ونحو ذلك من المستحبات ، اتباعاً للنبي ، والغرض الصيرورة بعرفة كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : وعرفة كلها موقف ، ويرفع عن بطن عرنة فإنه لا يجزئه الوقوف فيه .
1679 ش : في رواية لمسلم في حديث جابر أن رسول اللَّه قال : ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت هاهنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف ) ورواه أحمد ، وأبو داود وابن ماجه أيضاً .
1680 وعن مالك : بلغه أن النبي قال : ( عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ، والمزدلفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن محسر ) .
1681 وعن ابن الزبير من قوله كذلك ، رواهما مالك في موطئه .
( تنبيه ) : الوقوف بعرفة ركن إجماعاً .
1682 وقد روي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي اللَّه عنه أن ناساً من أهل نجد أتوا رسول اللَّه وهو واقف بعرفة ، فسألوه ، فأمر منادياً فنادى ( الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فتم حجه ، أيام منى ثلاثة أيام ، { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه } وأردف رجلاً ينادي بمنى . رواه الخمسة .
وعن عروة بن مضرس نحو ذلك ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى والمشترط الحصول بعرفة . عاقلاً ، فلا وقوف لمجنون ، ولا لمغمى عليه ، ولا لسكران ، قاله ابن عقيل وغيره ، لعدم شعورهم بها ، وفي النائم وجهان ، أصحهما عند صاحب التلخيص وبه جزم أبو محمد الإجزاء لأنه في حكم المنتبه ، وكذلك في الجاهل بكونها عرفة [ وجهان ] ، الإجزاء قطع به أبو محمد ، وعدمه قاله أبو بكر في التنبيه .
1683 ويشهد لقول أبي محمد عموم حديث عروة بن مضرس الطائي رضي اللَّه عنه قال : أتيت رسول اللَّه بالموقف ، يعني بجمع قلت : جئت يا رسول اللَّه من جبلي طيء ، فأكللت مطيتي ، وأتعبت نفسي ، واللَّه ما تركت من حبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ، فقال رسول اللَّه ( من أدرك معنا هذه الصلاة ، وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه ) رواه الخمسة وهذا لفظ
____________________
(1/533)
أبي داود وصححه الترمذي ولا يشترط للوقوف طهارة ، ولا نية ، ولا استقبال ، ولا ستارة .
( تنبيه ) : ( جمع ) اسم علم للمزدلفة .
1684 وسميت بذلك قبل لاجتماع آدم بحواء فيه ، كذا روى ابن عباس و ( الحبل ) بالحاء المهملة أحد حبال الرمل ، وهو ما اجتمع منه واستطال ، وروى ( جبل ) بالجيم .
1685 و ( التفث ) قال الأزهري لا يعرف في كلام العرب إلا في قول ابن عباس وأهل التفسير ، وقال غيره : ) هو قص الأظفار ، والشارب ، وحلق العانة ، والرأس ، ورمي الجمار والنحر ، وأشباه ذلك . وقيل : هو إذهاب الشعث والدرن ، والوسخ مطلقاً ، واللَّه أعلم .
قال : ويكبر ويهلل ، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس .
1686 ش : عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده رضي اللَّه عنه أنه قال : أكثر دعاء النبي يوم عرفة ( لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ) رواه أحمد والترمذي ولفظه أن النبي قال : ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ) قيل لسفيان بن عيينة : هذا ثناء وليس بدعاء ؟ فقال : أما سمعت قول الشاعر :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني
حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثنى عليك المرء يوماً
كفاه من تعرضه الثناء
انتهى .
1687 وعن أسامة رضي اللَّه عنه قال : كنت ردف النبي بعرفات ، فرفع يديه يدعو ، فمالت به ناقته ، فسقط خطامها ، فتناول الخطام بإحدى يديه ، وهو رافع يده الأخرى . رواه النسائي . ولمطلوبية الدعاء في هذا اليوم استحب الإفطار كما تقدم ، وإن كان صومه يكفر سنتين .
1688 وقد روى ابن ماجه عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه قال : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق اللَّه فيه عبداً من النار من يوم عرفة ، فإنه ليدنو عز وجل ، ثم يباهي بكم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ) .
____________________
(1/534)
وقول الخرقي : ويكبر ويهلل ، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس . التكبير والتهليل والدعاء مستحب ، وأما الوقوف إلى غروب الشمس فواجب ، ليجمع بين الليل والنهار ، فإن النبي وقف حتى غربت الشمس كذا في حديث جابر ، وفي حديث غيره ، وقد قال : ( خذوا عني مناسككم ) والواجب عليه إذا وقف نهاراً أن يكون قبيل الغروب بعرفة ، لتغرب الشمس عليه وهو بها ، فلو لم يأت عرفة إلا بعد الغروب فلا شيء عليه ، وكذلك لو دفع منها نهاراً ثم عاد قبل الغروب ، فوقف إلى الغروب ، هذا تحصيل المذهب . واللَّه أعلم .
قال : فإذا دفع معه إلى مزدلفة .
ش : الإمام هو الذي إليه أمر الحج ، ولا نزاع في مطلوبية أتباعه ، وأن لا يدفع إلا بعد دفعه ، لأنه الأعرف بأمور الحج ، وما يتعلق بها ، وأضبط للناس من أن يتعدى بعضهم على بعض ، ولا ريب أن النبي وأصحابه معه دفعوا من عرفة ، وكان يأمرهم بالرفق في السير .
1689 فعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه دفع مع النبي يوم عرفة ، فسمع النبي وراءه زجراً شديداً ، وضرباً للإبل فأشار بسوطه إليهم ، وقال : ( أيها الناس عليكم السكينة ، فإن البر ليس بالإيضاع ) متفق عليه ، والإيضاع ضرب من سير الإبل سريع ، واللَّه أعلم .
قال : ويكون في الطريق يلبي ويذكر اللَّه عز وجل .
ش : أما الذكر فلأنه مطلوب في كل وقت إلا أن يمنع منه مانع ، وهنا أجدر ، لكونه في عبادة .
1690 وأما التلبية فلما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن أسامة كان ردف النبي من عرفة إلى مزدلفة ، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى ، فكلاهما قال : لم يزل النبي يلبي حتى رمى جمرة العقبة .
1691 وعن محمد بن أبي بكر الثقفي قال : 16 ( قلت لأنس غداة غرفة : ما تقول في التلبية هذا اليوم ؟ قال : سرت هذا المسير مع رسول اللَّه وأصحابه ، فمنا المكبر ، ومنا المهلل ، لا يعيب أحدنا على صاحبه ، متفق عليهما ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يصلي مع الإمام المغرب وعشاء الآخرة .
ش : يعني بمزدلفة ، ولا نزاع والحال هذه [ أن المطلوب ] تأخير المغرب ليجمع بينها وبين العشاء بمزدلفة ، كما فعل رسول اللَّه ، كما تقدم في حديث جابر ، ول
____________________
(1/535)
ترك ذلك صح ، واللَّه أعلم .
قال : بإقامة لكل صلاة ، وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس .
ش : يجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة ، بإقامة لكل صلاة ، بلا أذان .
1692 لما روى أسامة بن زيد رضي اللَّه عنه قال : دفع رسول اللَّه من عرفة ، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء ، فقلت : الصلاة يا رسول اللَّه ؟ فقال ( الصلاة أمامك ) فركب فلما جاء المزدلفة نزل ، فتوضأ فأسبغ الوضوء ، د ثم أقيمت الصلاة ، فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء ، فصلى ولم يصل بينهما . متفق عليه . وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس .
1693 لأنه يروى عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : جمع رسول اللَّه بين المغرب والعشاء بجمع ، صلى المغرب ثلاثاً ، والعشاء ركعتين ، بإقامة واحدة ، رواه مسلم .
والأول قال ابن المنذر : إنه قول أحمد ، لأنه رواية أسامة ، وهو أعلم بحال النبي ، فإنه كان رديفة ، وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها ، بخلاف المجموعتين بعرفة ، قال أبو محمد : وإن أذن للأولى وأقام ، ثم أقام لكل صلاة فحسن ، لما تقدم في حديث جابر ، وهو متضمن لزيادة ، وكسائر الفوائت والمجموعات ، قلت : وقد يقال : إن حديث جابر لا يخالف حديث أسامة ، إذ قوله : ) 16 ( ثم أقيمت الصلاة ، أي دعي إليها ، وذلك قد يكون بأذان وإقامة ، والارتداف لا يرجح روايته والحال هذه ، لأنه لم يخبر عن شيء وقع من النبي وهو رديفه ، إنما أخبر بعد زوال الارتداف ، واللَّه أعلم .
قال : وإن فاته مع الإمام صلى وحده .
ش : أي يجمع منفرداً كما يجمع مع الإمام ، وهذا إجماع والحمد للَّه ، إذ الثانية منهما تفعل في وقتها ، بخلاف العصر مع الظهر ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا صلى الفجر وقف مع الإمام عند المشعر الحرام فدعا .
ش : كذا في حديث جابر رضي اللَّه عنه : ثم اضطجع رسول اللَّه حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاء اللَّه تعالى وكبره ، وهلله ، ووحده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن تطلع الشمس . وقد قال اللَّه سبحانه : 19 ( { فإذ
____________________
(1/536)
أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم ، وإن كنتم من قبله لمن الضالين ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا اللَّه إن اللَّه غفور رحيم } ) وجميع هذا مستحب إلا المبيت بمزدلفة كما سيأتي ، وفيه نظر ، لأن اللَّه سبحانه أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، وفعله المبين لكتاب ربه ، مع قوله ( خذوا عني مناسككم ) وهذا لا يتقاصر عن الوجوب ، بل قد قال بعض العلماء بركنيته ، ويشهد له حديث عروة بن مضرس .
( تنبيه ) : المشعر الحرام بفتح الميم ، قال المنذري : وأكر كلام العرب بكسرها ، وحكى القتيبي وغيره أنه لم يقرأ بها أحد ، وحكى الهذلي أن أبا السمال قرأ المشعر بالكسر ، وسمي مشعراً لأنه من علامات الحج ، وكل علامات الحج مشاعر ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يدفع قبل طلوع الشمس .
ش : لما تقدم في حديث جابر .
1694 وعن عمر رضي اللَّه عنه قال : كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ، ويقولون : أشرق ثبير . قال : فخالفهم النبي فأفاض قبل طلوع الشمس . رواه البخاري وغيره ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا بلغ محسراً أسرع ولم يقف فيه حتى يأتي منى .
ش : ( محسر ) قيل واد بين عرفة ومنى ، وهو مقتضى قول الخرقي ، لأنه غيا الإسراع فيه إلى إتيان منى ، وقيل : موضع بمنى ، وقيل : ما صب [ من محسر في المزدلفة فهو منا ، وما صب ] منه في منى فهو من منى ، قال المنذري : وصوبه بعضهم ، ويستحب الإسراع فيه إن كان ماشياً ، أو يحرك دابته إن كان راكباً ، تأسياً بمن المأمور اتباعه ، )6 ( . قال جابر في حديثه : حتى أتى محسراً فحرك قليلاً . قال المنذري : لعله سمي بذلك لأنه يحسر سالكيه ويتبعهم . وقال الشافعي في الإملاء : يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع . وقيل : يجوز أن يكون فعله لأنه مأوى الشياطين . وقيل : سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيى . واللَّه أعلم .
قال : وهو مع ذلك ملب .
ش : يعني من الدفع من مزدلفة إلى منى ، لما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عباس ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/537)
قال : ثم يأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة .
ش : الرمي تحية منى ، فلا يشتغل عند الوصول إليها بغيره ، فلذلك ندب أن يأخذ الحصى من طريقه أو من مزدلفة .
1695 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه كان يأخذ الحصى من جمع .
1696 [ وفعله سعيد بن جبير ، وقال : كانوا يتزودون الحصى من جمع ] وعن أحمد : خذ الحصى من حيث شئت . وهذا اختيار أبي محمد ، وهو الذي فعله النبي .
1697 قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : قال لي رسول اللَّه غداة العقبة وهو على راحلته ( هات القط لي ) فلقطت له حصيات من حصى الخذف ، فلما وضعتهن في يده قال ( بأمثال هؤلاء ، وإياكم والغلو في الدين ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين ) رواه النسائي وابن ماجه ولهذا الخبر قلنا لالتقاط أولى من التكسير . واللَّه أعلم .
قال : والاستحباب أن يغسله .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه اللَّه .
1698 لأنه يروى عن ابن عمر أنه غسله ، وكان يتحرى سنة النبي .
( والثانية ) : واختارها أبو محمد لا يستحب ، وقال : لم يبلغنا أن النبي فعله . انتهى ، وهو مقتضى حديث ابن عباس السابق ، وعلى هذا لو رمى بحجر نجس فهل يجزئه لوجود الحجرية ، أو لا يجزئه لأنه يؤدي به عبادة ، أشبه حجر الاستجمار ؟ فيه قولان ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات .
ش : جمرة العقبة هي آخر الجمرات مما يلي منى ، وأولها مما يلي مكة ، وهي عند العقبة ، وبها سميت ، فإذا قدم من مزدلفة إلى منى فأول ما يبدأ برميها بسبع حصيات ، كما فعل رسول اللَّه ، قال جابر : حتى أتى الحمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات . وكذلك في حديث غيره .
وقول الخرقي : رمى . يخرج منه ما لو وضعها بيده في المرمى ، فإنه لا يجزئه ، لعدم الرمي ، نعم لو طرحها طرحاً أجزأته ، لوجود الرمي .
وقوله : حصيات . المستحب كونها مثل حصى الخذف ، ) 16 ( لحديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وفي حديث جابر رضي اللَّه عنه : بمثل حصى الخذف . وفسره الأثرم بأن يكون أكبر من الحمص ، ودون البندق .
____________________
(1/538)
1699 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما : مثل بعر الغنم . وهو قريب من ذلك ، فإن خالف ورمى بحجر كبير أجزأه على قول ، وهو المشهور ، لوجود الحجرية ، وعن أحمد : لا يجزئه حتى يأتي بما فعله رسول اللَّه ، وكذلك القولان في الصغير قاله أبو محمد ، وشرطه على كل حال الحجرية ، فلا يجزىء الرمي بغيره كالكحل ، والجواهر المنطبعة ، والفيروزج ، والياقوت ، ونحو ذلك ، على المشهور والمختار من الروايات ، ( وعنه ) يجزىء مع الجهل دون القصد ، والرخام والكذان والرام ونحو ذلك ملحق بالحجر عند أبي محمد ، وعند القاضي بالفيروزج ، وجعل الدراهم ، والدنانير ، والحديد ، والنحاس ، والرصاص أصلاً قاس عليه المنع .
ولا بد أن يقع الحصى في المرمى ، فلو وقع دونه لم يجزئه ، نعم لو وقعت الحصاة على [ ثوب ] إنسان فطارت فوقعت في المرمى أجزأه ، لاختصاصه بالفعل ، فلو نفضها الإنسان فوقعت في المرمى أجزأت ، قاله أبو بكر في الخلاف ، حاكياً له عن أحمد في رواية بكر بن محمد ، ولم يجز عند ابن عقيل ، واللَّه أعلم .
قال : يكبر في أثر كل حصاة .
ش : في حديث جابر : يكبر مع كل حصاة ، وكذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي اللَّه عنهما .
قال : ولا يقف عندها . واللَّه أعلم .
1700 ش : لما روى سالم أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم يتقدم فيسهل ، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو ، ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال ، فيسهل فيقوم مستقبل القبلة ، ثم يدعو ويرفع يديه ، ويقوم طويلاً ، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ، ويقول : هكذا رأيت رسول اللَّه يفعله . رواه البخاري وغيره . والسنة أن يستبطن الوادي ، وأن يستقبل القبلة لهذا الخبر ، كذا قال أصحابنا وفيه نظر ، إذ ليس في هذا الحديث أنه استقبل القبلة في جمرة العقبة ولا في غيرها .
1701 وقد ورد في الصحيحن عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال : رمى عبد اللَّه بن مسعود جمرة العقبة من بطن الوادي ، بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، وجعل البيت عن يساره ، ومنى عن يمينه ، فقيل له : إن ناساً يرمونها من فوقها . فقال عبد اللَّه : هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت
____________________
(1/539)
عليه سورة البقرة .
1702 لكن قد ورد في رواية النسائي والترمذي أنه استبطن الوادي ، ) 16 ( واستقبل الكعبة ، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن ، وقال : من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة ، ولو رماها من فوقها جاز .
1703 لأن عمر رضي اللَّه عنه رماها كذلك للزحام ، واللَّه أعلم .
قال : ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي .
1704 ش : لما تقدم في الصحيحين عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، عن أسامة والفضل رضي اللَّه عنهما ، أنهما قالا : لم يزل النبي يلبي حتى رمى جمرة العقبة . وفي رواية للنسائي فلما رمى قطع التلبية ، واللَّه أعلم .
قال : وينحر إن كان معه هدي .
ش : في حديث جابر رضي اللَّه عنه : رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثاً وستين بدنة ، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر . ولا فرق في ذلك بين الواجب والتطوع ، فلو لم يكن معه هدي ، وعليه هدي واجب اشتراه ونحره ، وإلا فإن أحب الأضحية اشترى ما يضحي به .
وقوله : وينحر إن كان معه هدي . النحر مختص بالإبل ، وأما غيره فيذبح ، وكأنه أشار بذلك إلى أن الأولى في الهدي أن يكون من الإبل ، اقتداء بالنبي ، ولا إشكال في ذلك ، وفي مسنونية سوقه ، ووقفه بعرفة ، والجمع فيه بين الحل والحرم ، واللَّه أعلم .
قال : ويحلق أو يقصر .
1705 ش : عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن النبي أتى منى ، فأتى الجمرة فرماها ، ثم أتى منزله بمنى ونحر ، ثم قال للحلاق ( خذ ) وأشار إلى جانبه الأيمن ، ثم الأيسر ، ثم جعل يعطيه الناس . متفق عليه ، والسنة البداءة بالجانب الأيمن لهذا ، ويخير بين الحلق والتقصير كما اقتضاه كلام الخري ، ولا ريب فيه ، وقد قال سبحانه : { محلقين رؤسكم ومقصرين } .
1706 قال ابن عمر رضي اللَّه عنهما : إن رسول اللَّه حلق في حجة الوداع وأناس من أصحابه ، وقصر بعضهم ، متفق عليه .
1707 وثبت عنه أنه دعا للمحلقين بالرحمة ، وفي رواية بالمغفرة ثلاثاً ، وللمقصرين مرة ، [ والأولى الحلق ] ، ولهذا قدمه الخرقي ، اقتداء بالنبي .
1708 وقد قال : ( اللهم ااغفر للمحلقين ) قالوا : يا رسول اللَّه والمقصرين ؟ قال : ( اللهم اغفر للمحلقين ) قالوا : يا رسول اللَّه وللمقصرين ؟ قال : ( وللمقصرين ) قال : ذلك في الثالثة أو الرابعة والحكمة في ذلك واللَّه أعلم أنه أبلغ
____________________
(1/540)
في العبادة ، وأدل على صدق النية للَّه تعالى ، لأن المقصر مبق على نفسه بعض الزينة التي ينبغي للحاج أن يكون مجانباً لها .
1709 وقيل : إن سبب دعائه للمحلقين ثلاثاً أنه لما أمرهم يوم الحديبية [ بالحلاق ] لم يقم أحد منهم ، ) 16 ( لما في أنفسهم من أمر الصلح ، فلما حلق النبي ودعا للمحلقين ثلاثاً ، وللمقصرين مرة ، تبادروا إلى ذلك .
1710 وقد ورد في مسلم من حديث أم الحصين أنها سمعت النبي دعا للمحلقين ثلاثاً ، وللمقصرين مرة ، هذا يدل على أن الحديبية لم يكن لها اختصاص بذلك .
وهل يستثنى من ذلك من لبد أو عقص ، أو ظفر ؟ ظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب عدم استثنائه ، وعموم كلام أحمد يقتضيه ، قال في رواية حنبل والميموني : إن شاء قصر ، وإن شاء حلق ، والحلق أفضل ، وذلك للعمومات المتقدمة ، ( وعن أحمد ) رحمه اللَّه : من فعل ذلك فليحلق .
1711 وقد روي عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال : من عقص رأسه أو ظفر أو لبد فقد وجب عليه الحلاق . رواه مالك في الموطأ ، ولأن النبي لبد رأسه وحلق .
1712 ويروى عنه أنه قال : ( من لبد فليحلق ) قال أبو محمد : والأول أصح إلا أن يثبت الخبر .
1713 إذ عمر خالفه ابن عباس رضي اللَّه عنهم ، فتسلم العمومات المتقدمة ، وفعل الرسول لكون الحلاق أفضل لا لتعينه . انتهى .
ولو لم يكن على رأسه شعر كالأصلع ومن رأسه محلوق ، فظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنه يمر الموسى على رأسه ، قال في رواية المروذي في المتمتع : إن دخل يوم التروية فأعجر إلي أن يقصر ، فإن دخل في العشر فأراد أن يحلق حلق ، [ فإن دخل يوم التروية فحلق فلا بأس ، ويمر الموسى على رأسه يوم الحلق ] وحمله القاضي على الاستحباب ، لقوله في رواية بكر بن محمد : لا يعتمر حتى يخرج شعره ، فيمكن حلقه أو تقصيره . قال : فدل على أن إمرار الموسى لا يجب ، فلا يقوم مقام الحلق ، وفي أخذ الاستحباب من هذا نظر ، لكن في الجملة هو قول الأصحاب ، لقول اللَّه تعالى : { محلقين رؤسكم ومقصرين } أي شعور رؤسكم ، فمن لا شعر له لم تتناوله الآية .
1714 وإنما استحب له إمرار الموسى اقتداء بقول عمر : الأصلع يمر الموسى
____________________
(1/541)
على رأسه ، رواه النجاد .
وقوله : يحلق أو يقصر . ظاهره أن الحكم متعلق بالجميع ، فيحلق أو يقصر من جميع رأسه ، فإن كان الشعر مظفوراً قصر من رؤس الظفائر ، إلا جمعه وقصر من أطرافه ، ولا يجب التقصير من كل شعرة ، لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه ، هذا أشهر الروايتين ، والرواية الثانية ) يجزىء حلق بعضه ، أو تقصير بعضه ، ومبنى الخلاف على المسح في الطهارة ، قاله غير واحد ، وعلى هذا ( هل هذا ) البعض هو الأكثر أو قدر الناصية ، أو إنما يكتفي بالبعض في حق المرأة دون الرجل ؟ ) 16 ( مبني على ما تقدم من الخلاف ، واللَّه أعلم .
قال : ثم قد حل من كل شيء إلا النساء .
ش : هذا المذهب والمشهور من الروايتين .
1715 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه ( إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء ) فقال رجل : والطيب ؟ فقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : أما أنا فقد رأيت رسول اللَّه يضمخ رأسه بالمسك ، أفطيب ذلك أم لا ؟ رواه أحمد ، ورواه النسائي موقوفاً على ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، ( والرواية الثانية ) : يحل من كل شيء إلا الوطء في الفرج ، فتحل له القبلة ، واللمس لشهوة ، وعقد النكاح ، لأن الوطء هو الأغلظ ، ولهذا اختص الفساد به ، [ فيختص المنع به ] بخلاف غيره ، ونقل الميموني في المتمتع إذا دخل الحرم حل له بدخوله كل شيء إلا النساء والطيب ، قبل أن يقصر أو يحلق ، وهذا يعطي رواية ثالثة .
1716 ومرجعها قول عمر رضي اللَّه عنه لما خطب الناي في عرفة فقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى غداً فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب ، لا يمس أحد نساء ولا طيباً حتى يطوف بالبيت ، رواه مالك في الموطأ . والمعنى يعضده ، إذ الطيب من دواعي النكاح ، فهو كالقبلة . انتهى .
وقد أشعر كلام الخرقي بأمرين ( أحدهما ) أن الحلق أو التقصير نسك ، ويثاب على فعله ، ويذم بتركه ، وهذا المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين ، حتى أن القاضي في التعليق وغيره لم يذكروا خلافاً ، وذلك لقوله سبحانه : { ثم ليقضوا تفثهم } قيل : المراد به الحلق ، وقيل : بقايا أفعال الحج ، في الرمي ونحوه ، وعلى كليهما فقد دخل الحلق في الأمر ، وظاهره الوجوب ، لا سيما وقد قرن بالوفاء بالنذور ، وبالطواف ، وأيضاً قوله تعالى : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء اللَّه آمنين محلقين رؤسكم ومقصرين } فوصفهم وامتن عليهم بذلك ، فدل على
____________________
(1/542)
أنه من العبادة لتتميز به ، وليعبر عنها به .
1717 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه لبد رأسه وأهدى ، فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن ، قلن : مالك أنت لم تحل ؟ قال : ( إني قلدت هديي ، ولبدت رأسي ، فلا أحل حتى أحل من حجتي ، وأحلق رأسي ) رواه أحمد ، ولو لم يكن نسكاً لم يتوقف الحل عليه ، وقد تقدم أن النبي دعا للمقصرين والمحلقين ، وفاضل بينهم ، فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء ، ولما فاضل فيه ، إذ لا تفاضل في المباح .
( والرواية الثانية ) أنه إطلاق محظور كان محرماً عليه بالإحرام ، ) 16 ( فأطلق فيه عند الحل ، كاللباس والطيب ، قال : لأن النبي قال لأبي موسى رضي اللَّه عنه ( بما أهللت ؟ ) قال : بإهلال النبي قال : ( هل سقت الهدي ؟ ) قلت : لا . قال : ( فطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم حل ) فطفت بالصفا والمروة ، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني ، وغسلت رأسي . الحديث وقد تقدم ، فظاهره أن الحل مرتب على الطواف والسعي ، وهو الذي فهمه أبو موسى رضي اللَّه عنه ، فإنه لم يذكر أنه قصر ، ولا أنه حلق .
1718 وعن سراقة بن مالك المدلجي رضي اللَّه عنه أنه قال : يا رسول اللَّه اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم . فقال : ( إن اللَّه عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة ، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت ، وبالصفا والمروة فقد حل إلا من كان معه هدي ) رواه أبو داود انتهى .
( الأمر الثاني ) ظاهر كلام الخرقي أن الحل مرتب على الرمي والحلق أو التقصير ، لما تقدم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : ( لا أحل حتى أحل من حجتي ، وأحلق رأسي ) .
1719 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : أهل النبي وأصحابه رضي اللَّه عنهم بالحج ، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي وطلحة ، وقدم علي من اليمن معه هدي ، فقال : أهللت بما أهل به النبي ، فأمر النبي أصحابه رضوان اللَّه عليهم أن يجعلوها عمرة ، ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي . مختصر متفق عليه .
1720 وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما : وأمر من لم يكن ساق الهدي
____________________
(1/543)
أن يطوف ويسعى ، ويقصر ، ثم يحل . رواه أبو داود وأصله في الصحيحين . ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن التحلل يحصل بالرمي وحده ، لما تقدم من حديث أبي موسى ، وحديث ابن عباس رضي اللَّه عنهم ( إذا رميتم الجمرة حل لكم كل شيء ) وحديث سراقة .
( تنبيه ) : الخلاف في توقف الحل على الحلق والتقصير مرتب على نسكيته ووجوبه ، فإن قيل بذلك توقف الحل عليه ، وإلا فلا ، هذا مقتضى كلام جماعة ، وصرح به بعضهم ، وجعل القاضي في تعليقه الروايتين في توقف الحل عليه على القول بنسكيته ، ولا نزاع في ذلك ، إذ المبيت بمزدلفة ونحو ذلك نسك ولا يتوقف الحل عليه ، وهذا أعني عدم البناء إليه ميل أبي محمد في المغني ، لأنه صحح القول بأنه نسك ، والقول بأن الحل لا يتوقف عليه .
( تنبيه ) : ليس عند أحمد فيما علمت قولاً يدل على إباحته ، حتى يقول إنه إطلاق محظور ، بل نصوصه متوافرة على مطلوبيته ، وذم تاركه ، نعم عنه ما يدل على أنه غير واجب ، ) 16 ( قال في الذي يصيب أهله في العمرة : الدم كثير . وقال فيمن اعتمر فطاف وسعى ولم يقصر حتى أحرم بالحج : بئس ما صنع ، وليس عليه شيء . ومن هذا وشبهه أخذ أنه إطلاق محظور ، ومن هنا يعلم أن جزم القاضي بأنه نسك يثاب على فعله ، ويذم على تركه وأن حكاية أبي البركات الخلاف فيب وجوبه ، أجود من عبارة غيرهما أنه نسك ، أو إطلاق محظور ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة .
ش : المشروع في حق المرأة التقصير بالإجماع ، حكاه ابن المنذر .
1721 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ( ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير ) رواه أبو داود .
1722 وعن علي رضي اللَّه عنه قال : نهى رسول اللَّه أن تحلق المرأة رأسها . رواه الترمذي .
وظاهر كلام الخرقي أن قدر الأنملة واجب ، وهو ظاهر كلام أحمد والأصحاب .
1723 قال أحمد : تقصر من كل قرن قدر الأنملة ، وهو قول ابن عمر وسئل أحمد : تقصر من كل رأسها ؟ قال : نعم ، تجمع رأسها إلى مقدم رأسها ، ثم تأخذ من أطراف رأسها قدر الأنملة . وحمل أبو محمد ذلك على الاستحباب ، قال : لأن الأمر به مطلق ، وبأي شيء أزال الشعر أجزأه ، وكذلك أن أزاله بنورة ، أو بنتفه ، إذ القصد
____________________
(1/544)
إزالته ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يزور البيت ، فيطوف به سبعاً . وهو الطواف الواجب ، الذي به تمام الحج .
ش : يعني أنه بعد رمي جمرة العقبة ، والنحر ، والحلق أو التقصير يزور البيت ، فيطوف به سبعاً ، لأن في حديث جابر رضي اللَّه عنه بعد أن ذكر النحر قال : ثم ركب رسول اللَّه ، فأفاض إلى البيت . وهذا الطواف هو الذي به تمام الحج بالإجماع قاله ابن عبد البر ، ويشهد له قوله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم ، وليطوفوا بالبيت العتيق } .
1724 وعن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : حججنا مع رسول اللَّه فأفضنا يوم النحر ، فحاضت صفية ، فأراد النبي منها ما يريد الرجل من أهله ، فقلت : يا رسول اللَّه إنها حائض ، قال : ( أحابستنا هي ؟ ) قالوا : يا رسول اللَّه نها أفاضت يوم النحر . قال : ( أخرجوا ) متفق عليه . فدل على أنه حابس لمن لم أت به ، ولا بد في هذا الطواف من تعيينه بالنية ، كما سينص عليه الخرقي ، فلو أطلق ، أو طاف للوداع لم يجزئه ، لأن الأعمال بالنية ، وليتميز عن بقية الأطوفة ، ويسمى هذا ( طواف الفرض ) لأنه فرض عليه فعله بالحج ، ( وطواف الزيارة ) لأنه يزور به البيت ، ) 16 ( و ( طواف الإفاضة ) لأنه يفعل بعد الإفاضة من منى ، و ( طواف الصدر ) لأنه يصدر إليه من منى ، وقيل قال المنذري : وهو المشهور : إن طواف الصدر هو طواف الوداع ، وهو أقرب ، إذ الصدر رجوع المسافر من مقصده ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يصلي ركعتين .
ش : كما تقدم في طواف القدوم .
قال : إن كان مفرداً أو قارناً ، ثم قد حل له كل شيء .
ش : قد تقدم أن القارن والمفرد إذا دخلا مكة يطوفان للقدوم ثم يسعيان ، فإذا طافا والحال هذه لم يبق عليهما شيء من أركان الحج ، فيحلان إذاً الحل كله .
1725 لحديث ابن عمر الصحيح : ثم لم يحلل من شيء حرم عليه حتى قضى حجه ، ونحر هديه يوم النحر ، وأفاض . فطاف بالبيت ، ثم حل من كل شيء حرم عليه ، وفعل مثل ما فعل النبي من أهدى فساق الهدي من الناس . واللَّه أعلم .
قال : وإن كان متمتعاً فيطوف بالبيت [ سبعاً ، وبالصفا والمروة سبعاً ، كما فعل للعمرة ، ثم يعود فيطوف بالبيت ] طوافاً ينوي به الزيارة ، وهو قوله عز وجل : 19 ( { وليطوفوا بالبيت العتيق } ) .
____________________
(1/545)
ش : المتمتع إذا قدم على مكة فإنه يطوف للعمرة ويسعى لها ، ثم يحرم بالحج يوم التروية ، فيسن في حقه طواف القدوم ، لكن على أشهر الروايتين لا يفعله إلا بعد رجوعه من منى ، فإذاً يطوف للقدوم ، ثم يسعى ، ثم يطوف للزيارة ، وأشار الخرقي بقوله : وهو قوله تعالى : 19 ( { وليطوفوا بالبيت العتيق } ) إلى آخره بأن هذا [ هو ] الطواف المتحتم ، المأمور به في كتاب اللَّه عز وجل ، بخلاف طواف القدوم .
1726 واستدل أحمد على ذلك بحديث جابر : أنهم طافوا بعد ما رجعوا من منى .
1727 وبحديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت : 16 ( طاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافاً آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً ) . انتهى .
1728 وقد روى نافع أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ، ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى . رواه مالك في الموطأ ولأن طواف القدوم والحال هذه كتحية المسجد ، عند دخول المسجد قبل شروعه في الصلاة . ( والرواية الثانية ) عن أحمد : يجوز فعله قبل الرجوع ، فيفعله عقب الإحرام .
ومنع أبو محمد مسنونية هذا الطواف رأساً ، ) 16 ( وقال : ولا أعلم أحداً وافق أبا عبد اللَّه على هذا . واعتمد على أن النبي لم ينقل أنه أمر من تمتع في حجة الوداع به ، ولا أن الصحابة المتمتعين فعلوه ، قال : وحديث عائشة رضي اللَّه عنها يدل على هذا ، لأنها إنما ذكرت طوافاً واحداً ، وأضافته للحج ، وهذا هو طواف الزيارة ، وإلا تكون قد أخلت بذكر الركن ، وذكرت ما ليس بركن ، ثم عائشة رضي اللَّه عنها قد قرنت الحج والعمرة بأمره ، ولم تكن طافت للقدوم ، ثم لم ينقل أنها طافت للقدوم ، ولا أمرها النبي به . انتهى .
والحكم في المكي إذا أحرم [ من مكة ] والمفرد ، والقارن الآفاقيان إذا لم يأتيا مكة قبل يوم النحر ، كالحكم في المتمتع على ما سبق ، فعلى قول [ أبي محمد ] هؤلاء كلهم يسعون عقب طواف الإفاضة ، ثم يحلون .
وقد أشعر كلام الخرقي بأن الحل يتوقف على السعي ، ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب ، في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن [ يسعى فسدت عمرته وعليه مكانها ، ولو طاف وسعى ثم وطىء قبل أن ] يحلق أو يقصر ، عليه دم ، إنما العمرة الطواف والسعي والحلاق . انتهى ، ولا نزاع في هذا إن قلنا بركينة السعي ، ( وهو إحدى الروايتين ) عن أحمد ، واختيار القاضي في التعليق الكبير ، أما إن قلنا بسنيته ( وهو الرواية الثانية ) فهل يتوقف الحل عليه ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) نعم ، وهو ظاهر
____________________
(1/546)
كلام أبي البركات ( والثاني ) وبه قطع في التلخيص لا ، وعلى هذا إن قيل بوجوبه كما هو اختيار القاضي في المجرد ، وأبي محمد في المغنى ، وحكاه صاحب التلخيص رواية فالقياس توقف الحل عليه .
( تنبيه ) : الطواف محلل من المحللات ، فيحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة ، الرمي والحلق ، والطواف ، ويحصل التحلل الثاني بالثالث ، هذا إن قلنا : الحلاق نسك ، وإلا حصل الأول بواحد من اثنين ، الرمي ، والطواف ، ويحصل الثاني بالثاني ، صرح به صاحب التلخيص ، وقال أبو محمد : إنه مقتضى قول الأصحاب ، فكأنه لم ير ذلك مصرحاً به ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يرجع إلى منى .
1729 ش : في الصحيحين وغيرهما عن نافع عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : إن رسول اللَّه أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى ، قال نافع : وكان ابن عمر رضي اللَّه عنهما يفيض يوم النحر ، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى . ويذكر أن النبي فعله ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يبيت بمكة ليالي منى .
ش : ظاهر هذا أن المبيت بمنى لياليها واجب ، وهو المشهور ، والمختار من الروايتين .
1730 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : ) 16 ( استأذن العباس رضي اللَّه عنه رسول اللَّه أن يبيت بمكة ليالي منى ، من أجل سقايته ، فأذن له ، متفق عليه . فظاهر هذا أن غيره كان ممنوعاً من ذلك .
1731 وقد روي : لم يرخص النبي لأحد يبيت بمكة إلا للعباس من أجل سقايته . رواه ابن ماجه ، ولأن النبي بات بها ، وقال : ( خذوا عني مناسككم ) .
1732 وقال مالك في الموطأ : زعموا أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه كان يبعث رجالاً يدخلون الناس من وراء العقبة .
( والرواية الثانية ) يسن ولا يجب ، لأنه قد حل من جحه ، فلا يجب عليه المبيت بموضع معين ، كليلة الحصبة .
1733 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت . انتهى ويجب الليالي الثلاث إن لم يرد التعجل ، وإن أراد فليلتان . واللَّه أعلم .
____________________
(1/547)
قال : فإذا كان من الغد وزالت الشمس رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ويقف عندها ويدعو فيطيل ، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات يكبر أيضاً ويدعو ، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات ، ولا يقف عندها .
ش : الجمرة الأولى هي أبعد الجمرات من مكة ، وتلي مسجد الخيف ، فإذا كان غداة يوم النحر ، بدأ بها فرماها بسبع [ حصيات ] .
1734 لحديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ثم يتقدم فيسهل ، فيقوم مستقبل القبلة ، ثم يدعو ، ويرفع يديه ، ويقوم طويلاً ، [ ثم يرمي الجمرة الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ، فيقوم مستقبل القبلة ، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلاً ] ثم يرمي الجمرة ذات العقبة ، من بطن الوادي ، ولا يقف عندها ، ويقول : هكذا رأيت رسول اللَّه يفعله . وهذا الترتيب شرط ، فلو بدأ بجمرة العقبة ، أو الوسطى لم يجزئه ، على المنصوص والمختار من الروايتين أو الروايات ، لأن النبي رتبها ، وفعله خرج بياناً لصفة الرمي المشروع .
1735 لا سيما عضده ما روى جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما قال : رأيت رسول اللَّه يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لنا : ( خذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد جحتي هذه ) رواه مسلم وغيره ، وهذا أمر بالاقتداء به ، فإن فعله ورد بياناً لمجملات الحج ، والأشهر في الرواية : يقول لنا : بلام مفتوحة وبالنون ، وروي ( لتأخذوا ) بكسر اللام للأمر ، وبالتاء باثنين من فوق ، وهي لغة . ( والثانية ) يجزئه . جمرة أرجو أن لا يكون عليه شيء .
1736 وذلك لأنه يروي عن النبي أنه قال : ( من قدم نسكاً بين يدي نسك فلا حرج ) وحكى أبو البركات الرواية بالإجزاء مع الجهل . ) 16 (
وشرط صحة الرمي في الجميع أن يكون بعد الزوال ، على المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين .
1737 لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : رأيت رسول اللَّه يرمي يوم النحر ضحى ، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس . رواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي والنسائي .
1738 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس . رواه الترمذي ، وفعله خرج بياناً كما تقدم ، وقد فهمت هذا الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين .
____________________
(1/548)
1739 قال وبرة بن عبد الرحمن السلمي : سألت ابن عمر رضي اللَّه عنهما متى أرمي الجمار ؟ قال : إذا رمي إمامك فارمه . فأعدت عليه المسألة فقال : كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا . رواه البخاري وغيره ، ( والرواية الثانية ) : إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه ولا ينفر إلا بعد الزوال ، ( والثالثة ) كالثانية إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه ، قال في رواية ابن منصور : إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم نفر . كأنه لم ير عليه دماً .
واختلف في عدد الحصا ، فعنه : لا بد من سبع . كما قال الخرقي ، اتباعاً لعف النبي ، فإنه قد ثبت ذلك عنه من حديث ابن عمر المتقدم ، ومن حديث ابن مسعود ، وعائشة رضي اللَّه عنهم ، وفعله خرج بياناً كما تقدم .
1740 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( الاستجمار تو ، ورمي الجمار تو ، والسعي بين الصفا والمروة تو ، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو ) [ رواه مسلم وغيره ] والتو الوتر . ( وعنه ) تجزىء الست ، ولا يجزىء ما دونها .
1741 لما روى سعد رضي اللَّه عنه قال : رجعنا في الحجة مع النبي وبعضنا يقول : رميت بسبع . وبعضنا يقول : رميت بست ، فلم يعب بعضهم على بعض . رواه النسائي وأحمد . وهذا اتفاق منهم على جواز الاكتفاء بالست .
1742 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما : لا أبالي رميت بست أو بسبع ، ( وعنه ) تجزىء الخمس ، إذ الأكثر يعطى حكم الجميع ، وقد ثبت عن الصحابة التساهل في البعض .
ويسن أن يكبر مع كل حصاة ، لما تقدم من حديث جابر ، وابن عمر ، وابن مسعود ، ويقف يدعو ، ويطيل في الجمرتين الأولتين ، ولا يقف في جمرة العقبة ، لما تقدم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، والخرقي قال : يقف عندها . ولعله يريد قريباً منها ، إذ السنة التقدم كما في الحديث ، واللَّه أعلم .
قال : ويفعل في اليوم الثاني كما فعل بالأمس .
1743 ش : ) 16 ( لا نزاع في ذلك ، وعلى ذلك فعل الخلف ، اقتداء بالسلف ، وقد قالت عائشة رضي اللَّه عنها : أفاض رسول اللَّه من آخر يوم النحر حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى ، فمكث بها ليالي أيام التشريق ، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس ، كل جمرة بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ويقف عند الأولى والثانية ، فيطيل القيام ويتضرع ، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها . رواه أبو داود ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/549)
قال : فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل المغرب .
ش : أيام منى وأيام التشريق ثلاثة أيام بعد النحر ، فمن أحب أن يتعجل في يومين منها خرج قبل المغرب ، لقول اللَّه سبحانه وتعالى : 19 ( { فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه } ) الآية والتخيير هنا واللَّه أعلم نظراً لجواز الأمرين ، وإن كان التأخر أفضل ، وكلام الخرقي وعامة الأصحاب يشمل مريد الإقامة بمكة ، وكذلك عموم الآية الكريمة .
1744 وعن يحيى بن يعمر أن رسول اللَّه قال : ( أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه ) مختصر رواه أبو داود وغيره . ( وعن أحمد ) : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة .
1745 وذلك لما روي عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال : من شاء من الناس كلهم أن ينفر في الأول ، إلا آل خزيمة فلا ينفروا إلا في النفر الأخير فجعل [ أحمد وإسحاق معنى قول عمر رضي اللَّه عنه : إلا آل خزيمة . أي أنهم أهل حرم ، وحمل أبو محمد ] هذا على الاستحباب ، محافظة على العموم ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا غربت الشمس وهو بها لم يخرج حتى يرمي في غد بعد الزوال كما رمى بالأمس .
ش : شرط جواز التعجل في اليومين أن ينفر قبل غروب الشمس لزمه المبيت والرمي من الغد ، لأن اللَّه سبحانه وتعالى جعل التعجل في اليوم ، [ وكذلك المبين ] لكلامه ، واليوم اسم للنهار ، فمن غربت الشمس عليه خرج عن أن يكون في اليوم ، فهو ممن تأخر .
1746 وعن نافع أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان يقول : 16 ( من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى ، فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد ) ، رواه مالك في الموطأ .
وقول الخرقي : حتى يرمي في غد بعد الزوال ، يحترز به عن [ مذهب ] الحنفية من أنه يجوز في هذا اليوم الرمي قبل الزوال ، وهي رواية مرجوحة قد تقدمت واللَّه أعلم .
قال : ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام . ) 16 (
ش : يعني مسجد الخيف ، تأسياً بالنبي .
1747 قال عبد اللَّه بن مسعود : صليت مع رسول اللَّه بمنى ركعتين ، ومع أبي بكر ، وعمر ، وعثمان رضي اللَّه عنهم ركعتين ، صدرا من خلافته . وهذا إن لم
____________________
(1/550)
يمنع [ مانع ، فإن منع مانع ] من فسق أو غيره [ صلى ] في رحله ، واللَّه أعلم .
قال : ويكبر في دبر كل صلاة ، من صلاة الظهر يوم النحر ، إلى آخر أيام التشريق .
ش : قد تقدم الكلام في التكبير في عيد النحر ، وفي صفته ، ومحله ووقته وأن المحل يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة ، وأما المحرم فيكبر من صلاة الظهر يوم النحر ، لأنه قبل ذلك مشتغل بالتلبية حتى يرمي جمرة العقبة ، وليس بعد جمرة العقبة صلاة يكبر فيها إلا الظهر ، فلو رمى جمرة العقبة قبل الفجر إذ وقتها يدخل بانتصاف ليلة النحر ، على المشهور من الروايتين فعموم كلام أصحابنا يقتضي أنه لا فرق ، حملاً على الغالب ، ويؤيد هذا أنه لو أخر الرمي إلى بعد صلاة الظهر فإنه يجتمع في حقه التكبير والتلبية ، ومنصوص أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه أنه يبدأ بالتكبير ثم يلبي ، إذ التلبية قد خرج وقتها المستحب ، وهو الرمي ضحى فبذلك قدم التكبير عليها ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت ، يطوف به سبعاً ، ويصلي ركعتين .
1748 ش : لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول اللَّه : ( لا ينفر أحد حتى يكون آخر
____________________
(1/551)
عهده بالبيت ) رواه أحمد ومسلم وليس بركن اتفاقاً ، بل واجب يجبر بالدم ، لهذا الحديث ، هذا المشهور والمعروف عند الأصحاب ، وقال أحمد في رواية ابن إبراهيم : إذا نسي طواف الزيارة ، فطاف للصدر لا يجزئه التطوع عن الفريضة وكذلك نقل المروذي ، وظاهر هذا أنه سنة لا واجب . إلا أن يقال : أطلق على الواجب تطوعاً حيث قابله بالركن ، إذ واجبات الحج تترك ، وتصح العبادة بدونها ، فلها شبه بالتطوع .
وقول الخرقي : لم يخرج . يقتضي أنه لو أراد المقام بمكة لا وداع عليه ، وهو كذلك ، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده .
وقوله : لم يخرج . ظاهره أنه لو خرج ولو إلى دون مسافة القصر أنه يلزمه الطواف ، وهو ظاهر إطلاق الحديث ، والمراد بالخروج الخروج عن الحرم .
ويجزئه طواف الزيارة إذا طافه عند الخروج عن طواف الوداع ، في أشهر الروايتين لأنه حصل آخر عهده بالبيت طواف ، واللَّه أعلم .
قال : إذا فرغ من جميع أموره ، حتى يكون آخر عهده بالبيت . ) 16 (
ش : يعني أن هذا الطواف يكون في وقت فراغه من جميع أموره ، كي يكون آخر عهده بالبيت ، اتباعاً لنص حديث ابن عباس ، واللَّه أعلم .
قال : فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع ثم رحل .
ش : يعني يتفرغ على ما تقدم أنه لو ودع ثم اشتغل في تجارة ، أو حاجة ، أو عيادة مريض ، أنه يعيد الوداع ، عملاً بقوله ( حتى يكون آخر عهده بالبيت ) ومن أقام في تجارة أو زيارة لم يكن آخر عهده بالبيت الطواف ، وقد بالغ أحمد في ذلك ، فقال له أبو داود : إذا ودع البيت ثم نفر يشتري طعاماً يأكله ؟ قال : لا ، يقولون حتى يجعل الردم وراء ظهره . وقال في رواية أبي طالب : إذا ودع لا يلتفت ، فإن التفت رجع حتى يطوف بالبيت ، وأبو محمد رحمه اللَّه يجوز شراء اليسير ، وقضاء الحاجة في الطريق ، لأنه لا يسمى إقامة ، واللَّه أعلم .
قال : فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب ، وإن أبعد بعث بدم .
ش : نص أحمد رحمه اللَّه على هذا ، محافظة على الإتيان بالواجب ، إذ القريب في حكم المقيم ، أما البعيد فمسافر ، مع أن المشقة تلحقه غالباً ، بخلاف القريب ، ولو تعذر على القريب الرجوع فهو كالعبيد .
1749 وعن يحيى بن سعيد الأنصاري ، أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه رد رجلاً من مر الظهران لم يكن ودع البيت حتى ودع ، رواه مالك في الموطأ .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه اللَّه أنه لو رجع القريب لا دم عليه ، وهو كذلك ، لأنه في حكم المقيم أما البعيد إذا رجع فعن القاضي : لا يسقط عنه الدم ، لاستقراره بالبعد ، ولأبي محمد احتمال ، وحد البعد مسافة القصر ، نص عليه أحمد ، واعتبرها أبو محمد من مكة ، وقد يقال من الحرم ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت ، ولا وداع عليها ولا فدية .
ش : أما سقوط طواف الوداع عن الحائض فقول العامة .
1750 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : 16 ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ) . متفق عليه .
1751 وعن نافع ، أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض ، رخص لهن رسول اللَّه . رواه الترمذي .
1752 وفي مسلم وغيره عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : حاضت صفية ، قالت عائشة : فذكرت حيضها للنبي ، فقال : ( أحابستنا هي ؟ ) قلت : يا رسول اللَّه
____________________
(1/552)
إنها قد كانت أفاضت ، وطافت بالبيت ، ثم حاضت بعد الإفاضة . فقال رسول اللَّه : ) 16 ( ( فلتنفر ) أما انتفاء الفدية فلأن النبي لم يذكرها في شيء من الأحاديث ، ولو وجبت لذكرها ، وحكم النفساء حكم الحائض .
( تنبيه ) : إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل مفارقة البنيان لزمها الرجوع والوداع ، فإن لم ترجع ولو لعذر فعليها الدم ، ولو كان الطهر بعد مفارقة البنيان فلا رجوع عليها ، واللَّه أعلم .
قال : ومن خرج قبل طواف الزيارة رجع من بلده حراماً ، حتى يطوف بالبيت .
ش : قد تقدم أن طواف الزيارة ركن لا يتم الحج إلا به ، فإذا تركه الإنسان ، ورجع إلى بلده ، فإنه لا بد أن يرجع من بلده ، ليأتي بركن الحج ، ويرجع حراماً عن النساء إن كان قد رمى جمرة العقبة ، وإلا فحراماً عن كل شيء كما تقدم ، وقد دل على الأصل قول النبي لصفية ( أحابستنا هي ؟ ) فدل على أن الطواف يحبس صاحبه . واللَّه أعلم .
قال : وإن كان قد طاف للوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة .
ش : لا بد من تعيين النية لطواف الزيارة ، فإذا طاف للوداع ، أو مطلقاً ، لم يجزئه عن طواف الزيارة ، [ نظراً ] لقول النبي ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لامرىء ما نوى ) الحديث ، وهذا لم ينو طواف الزيارة ، فلا يكون له ، ونبه بهذا على مذهب مالك رحمه اللَّه في أنه يجزئه ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد .
ش : هذا هو المذهب ، المختار للأصحاب ، والمشهور عن أحمد في الروايتين ، حتى أن القاضي في تعليقه لم يذكر غيره ، ورواه عن أحمد سبعة من أصحابه ، وذلك لما تقدم من أن الصحيح أن النبي كان نسكه القرآن ، والخصم يسلم ذلك ، ولم ينقل عنه أنه طاف إلا طوافاً واحداً .
1753 كما صرح به جابر رضي اللَّه عنه فقال : إن رسول اللَّه قرن الحج والعمرة ، وطاف لهما طوافاً واحداً . رواه الترمذي والنسائي .
1754 وعنه أيضاً قال : لم يطف النبي ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافاً واحداً طوافه الأول . رواه الجماعة إلا البخاري .
____________________
(1/553)
1755 وروى عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعاً ) رواه الترمذي وهذا لفظه ، والنسائي وقال : إن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قرن الحج والعمرة ، فطاف لهما طوافاً واحداً ، وقال : هكذا رأيت النبي يفعله .
1856 وفي الصحيحين أيضا معنى هذا عنه رضي اللَّه عنه ، في حديث طويل ، لما حج حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير رضي اللَّه عنهما . ) 16 (
1757 وعن عائشة رضي اللَّه عنها في حديثها الصحيح وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى قالت : وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافاً واحداً .
1758 ولمسلم في هذا الحديث : أن النبي قال لها : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) .
1759 ولأبي داود أن النبي قال لها : ( طوافك بالبيت ، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ) لا يقال : الطواف اسم جنس مضاف لها ، فيشمل كل طواف صدر منها ، لأنا نقول : طواف . يقتضي ما يقع عليه اسم الطواف ، وهو يصدق بواحد ، كذا أجاب القاضي ، وفيه شيء ، إذ لا يظهر لي فرق بين [ طوافك ] وعبدك ، ونحوه ، وهو وإن صدق بواحد ، لكن لا يدل على تعيين الواحد ، وإنما الجواب أن المعلوم من قصتها أنها طافت طوافاً واحداً ، والخصم يسلم ذلك ، لأن عنده أن أمرها آل إلى الإفراد ، ثم لو لم يكن كذلك لم يكن [ في قوله ] ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) فائدة ، إذ لا يتوهم أن في القران ثلاثة أطواف ، ولأنهما عبادتان [ من جنس واحد ] فإذا اجتمعا دخلت الصغرى في الكبرى كالطهارتين .
( والرواية الثانية ) يلزمه طواف وسعي للعمرة ، وطواف وسعي للحج ، لا يدخل أحدهما في الآخر ، حكاها جماعة ، وهي نظير الرواية رواية أن عمرة القران لا تجزيء عن عمرة الإسلام ، ( وبالجملة ) قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى : 19 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه } ) وإتمامها أن يأتي بأفعالها على الكمال .
1760 وبأنه قد روي عن رسول اللَّه أنه طاف طوافين ، وسعى سعيين من رواية علي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، رضي اللَّه عنهم .
1761 وروي عنه أيضاً أنه قال : من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان ) .
1762 وأجيب عن الآية بأن الإتمام أن يحرم بهما من دويرة أهله ، كما قال عمر وعلي رضي اللَّه عنهما على أنا نقول بموجبه ، لأنا نقول : إذا طاف وسعى لهما فقد أتمهما ، وعن الأحاديث بضعفها ، قال الحافظ المنذري : ليس فيها شيء يثبت .
____________________
(1/554)
وينبني على الخلاف إذا قتل القارن صيداً ، أو أفسد نسكه ، فالمنصوص جزاء واحد للصيد ، وبدنة للوطء ، وخرج جزاآن للصيد ، وبدنة وشاة ، كما لو فعل ذلك في كل من النسكين .
( تنبيه ) : لا نزاع في اتحاد الإحرام والحلق ، واللَّه أعلم .
قال : إلا أن عليه دماً ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، يكون آخرها يوم عرفة ، وسبعة إذا رجع إلى أهله .
ش : ) 16 ( هذا استثناء منقطع ، لأن الدم ليس من عمل القارن ، فالتقدير : لكن عليه دم . أو التقدير ليس في عمل القارن ، ولا في حكمه زيادة على عمل المفرد ، ولا في حكمه ، إلا أن عليه دماً ، وبالجملة وجوب الدم قول الجمهور ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } ) الآية ، وقد تقدم أن القارن يدخل في ذلك .
1763 ويؤيد ذلك ما قال سعيد بن المسيب قال : اجتمع علي وعثمان بعسفان ، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة ، فقال له علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول اللَّه تنهى الناس عنه . فقال له عثمان : دعنا . قال : إني لا أستطيع أن أدعك . فلما رأى ذلك أهل بهما جميعاً ، متفق عليه ، وفي رواية : لما رأى ذلك علي أهل بهما : لبيك بعمرة وحجة . ففهم علي دخول القران في لفظ التمتع ، ففعله ليعلم الناس أنه غير منهي عنه .
1764 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : نحر رسول اللَّه عن عائشة رضي اللَّه عنها بقرة يوم النحر . رواه مسلم . وقد تقدم أنها كانت قارنة ، ولأنه ترفه بأحد السفرين ، فلزمه دم كالمتمتع .
وإذا لم يجد الهدي صام على الصفة المذكورة كالمتمتع ، وسيأتي [ ذلك ] إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : ومن اعتمر في أشهر الحج ، فطاف وسعى وحل ، ثم أحرم بالحج من عامه ، ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة ، فهو متمتع ، وعليه دم .
ش : وجوب الدم على المتمتع في الجملة إجماع ، وقد شهد له الآية الكريمة { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } أي فعليه أو فالواجب { ما استيسر من الهدي } .
1765 وفي مسلم وغيره عن جابر رضي اللَّه عنه قال : كنا نتمتع مع رسول
____________________
(1/555)
اللَّه بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها .
ويشترط لذلك شروط ( أحدها ) أن يعتمر في أشهر الحج ، فلو اعتمر بها في غير أشهره لم يكن متمتعاً ، لأن قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } ) أي أوصل ذلك بالحج ، وهذا إنما يكون إذا كان في أشهر الحج ، والاعتبار عندنا بالشهر الذي أحرم فيه ، لا بالشهر الذي حل فيه ، فلو أحرم بالعمرة في رمضان ، ثم حل في شوال لم يكن متمتعاً ، نص عليه أحمد في رواية جماعة .
1766 ويروى ذلك عن جابر رضي اللَّه عنه ، وعليه اعتمد أحمد رحمه اللَّه ( الشرط الثاني ) أن يحل من عمرته ثم يحرم بالحج ، فلو أدخل الحج على العمرة قبل طوافها صار قارناً ، ) 16 ( إذ أحد نوعي القران أن يدخل الحج على العمرة .
1767 كما صنع ابن عمر رضي اللَّه عنهما عام حجة الحرورية ، وقال : هكذا صنع رسول اللَّه وقد تقدم ، ( الثالث ) أن يحج من عامه ، لظاهر الآية الكريمة ، مع أن هذا كالإجماع .
( الرابع ) أن لا يخرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة ، فإن خرج إلى ما تقصر فيه الصلاة لم يكن متمتعاً ، نص عليه أحمد ، إلا أن لفظه : إن خرج من الحرم سفراً تقصر في مثله الصلاة ، ثم رجع فحج فليس بمتمتع ، وبينه وبين كلام الخرقي فرق ، إذ الخرقي اعتبر الخروج من مكة ، وأحمد اعتبر الخروج من الحرم .
1768 وبالجملة العمدة في ذلك ما روي عن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال : إذا اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع ، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع . وعن ابنه نحو ذلك ، رواه أبو حفص ، وهذه الشروط الأربعة لا أعلم فيها خلافاً بين الأصحاب ، ويشترط أيضاً ( شرط خامس ) لا نزاع فيه بينهم وهو أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } ) إلى قوله تعالى : 19 ( { ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } ) أي ( ذلك ) الحكم وهو وجوب الدم ( لمن لم يكن أهله ) من ( حاضري المنسجد الحرام ) أي ثابت ( لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) وهذا أجود من جعل اللام بمعنى ( على ) أي ذلك الواجب على من لم يكن أهله حاضري كما في قوله تعالى : 19 ( { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ، وإن أسأتم فلها } ) إذ هذا [ مجاز ] للمقابلة ومهما أمكن استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي فهو أولى ، لا يقال : ( ذلك ) إشارة إلى قوله : { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } أي هذا التمتع ( لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) فيخرج المكي ، لأنا نقول : قوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع } ) شرط ، و 19 ( { فما استيسر } ) جزاء ، و 19 ( { ذلك لمن لم يكن } ) استثناء ،
____________________
(1/556)
[ والاستثناء ] يرجع إلى الجزاء دون الشرط ، كقول القائل : من دخل داري فأعطه درهماً ، إلا أن يكون أعجمياً . انتهى وهذا الشرط يعم المتمتع والقارن .
( تنبيه ) : إلا حاضري المسجد الحرام المقيم بالحرم ، سواء كان من أهله أو داخلاً إليه ، فلو دخل الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ، ثم أقام بمكة ، ) 16 ( فاعتمر في أشهر الحج ، وحج من عامه فهو متمتع ، نص عليه ، وبالغ القاضي فقال : في الآفاقي : إذا تجاوز الميقات إلى أن بقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر ، فلا دم عليه ، لأنه من حاضريه ، وخالفه أبو محمد ، لأن الحضور بالإقامة . انتهى .
واختلف في ثلاثة شرائط ( أحدها ) هل يشترط أن لا يحرم من الميقات ، فإن أحرم منه فليس بمتمتع ؟ وفيه روايتان ، أنصهما وبه جزم أبو البركات الاشتراط ، قال أحمد في رواية يوسف بن موسى ، وأحمد بن الحسن : إذا أقام فأنشأ الحج من مكة فهو متمتع ، فإن خرج إلى الميقات فأحرم بالحج فليس بمتمتع ، وذلك لأنه لم يترفه بترك أحد الميقاتين ، فلم يلزمه الدم ، كما لو لم يحج من عامه ، ( والثانية ) : لا يشترط ذلك ، إنما المشترط مفارقة الحرم بمسافة القصر ، قال أحمد في رواية حرب في من أحرم بعمرة في أشهر الحج فهو متمتع إذا أقام حتى يحج ، فإن خرج من الحرم سفراً تقصر في مثله الصلاة ، ثم رجع فحج فليس بمتمتع ، وهذا اختيار القاضي في تعليقه ، وبالغ فحمل الأولى على أن بين الميقات وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة ، ولا يعرف أبو محمد غير هذا ، نظراً إلى أن القريب في حكم الحاضر ، ويظهر أثر هذا الشرط في ( قرن ) ميقات أهل نجد ، فإنه [ على ] يوم وليلة من مكة ، أما ما عداه فإن بينها وبين مكة مسافة القصر فأزيد ، فلا حاجة إلى هذا الشرط فيها : ( الثاني ) هل تشترط النية في ابتداء العمرة أو أثنائها ؟ فيه وجهان ، والاشتراط اختيار القاضي وأبي الخطاب ، وصاحب التلخيص ، وعدمه هو اختيار أبي محمد ( الثالث ) هل يشترط أن يكون النسكان عن رجل واحد ، فلو كانا عن شخصين فلا تمتع ؟ اشترط ذلك صاحب التلخيص ، قال : لأنه لا يختلف أصحابنا أنه لا بد للإحرام بالنسك الثاني من الميقات ، إذا كان عن غير الأول ، يعني والإحرام من الميقات يسقط التمتع ، ولم يشترط ذلك الشيخان ، و أبو محمد يخالف صاحب التلخيص في الأصلين اللذين بنى عليهما كما عرفت ، أما أبو البركات فيوافقه في الأصل الثاني ، فظاهر كلامه مخالفته في الأول وإذاً يزول البناء .
( تنبيه ) : هذه الشروط كلها للتمتع الموجب للدم ، لا للتمتع المطلق كما تقدم التنبيه عليه ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، آخرها يوم عرفة ، وسبعة إذا رجع .
ش : أي إذا لم يجد الدم صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة ، ) 16 ( وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله ، لقوله سبحانه : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم ، تلك عشرة كاملة } ) ويعتبر الوجدان بالموضع الذي
____________________
(1/557)
هو فيه ، دون بلده ، ولا ريب في وجوب الصوم على العادم للهدي في الجملة .
والكلام فيه في ثلاثة أشياء ، في وقت وجوبه ووقت استحبابه ، ووقت جوازه ، فأما وقت الوجوب فهو وقت وجوب الهدي ، لأنه بدل عنه ، قاله القاضي وأبو محمد ، وقد سئل أحمد في رواية ابن القاسم : متى يجب صيام المتعة ؟ فقال : إذا عقد الإحرام ، قال القاضي في التعليق : أي إن عقده سبب للوجوب ، لأن الوجوب يتعلق به ، وهذا التأويل بعيد ، لتصريح السائل بالوجوب ، ووقت وجوب الهدي عند القاضي في تعليقه ، ومن تابعه كصاحب التلخيص وغيره بطلوع فجر يوم النحر ، واعتمد القاضي على قول أحمد في رواية المروذي ، وقيل له : متى يجب على المتمتع الدم ؟ قال : إذا وقف بعرفة . قال القاضي : معناه إذا مضى وقت الوقوف . وأجرى أبو محمد الرواية على ظاهرها ، فحكى الرواية أنه يجب بالوقوف ، وقال : إنها اختيار القاضي ، ولعله في المجرد .
وحكى أبو محمد وغيره رواية أخرى أنه يجب بالإحرام بالحج ، ولعلهم أخذوه من رواية ابن القاسم التي أولها القاضي ، وهي محتملة ، إذ الإحرام يحتمل إحرام الحج ، وإحرام العمرة ، ويتلخص على هذا أربعة أقوال ، ومدركها واللَّه أعلم أن قوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر } ) أي : فمن تمتع بالعمرة قاصداً إلى الحج أو : فمن تمتع بالعمرة موصلاً بها إلى الحج . وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج ، وهذا أظهر ، أو أن الحج إنما يتحقق بالحصول بعرفة ، إذ هو الركن الأعظم ، وقبل ذلك هو معرض للفوات ، أو أن وقت نحر الهدي هو يوم النحر ، فلا يجب قبله ، لعدم قدرته على الفعل ، وعلله القاضي بأن الهدي من جنس ما يحصل به التحلل ، فكان وقته بعد وقت الوقوف ، كالطواف والحلق ، وفي كلا التعليلين نظر .
( تنبيه ) : على كل الأقوال لا ينحر إلا يوم النحر ، على ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور ، واختيار الجمهور ، والمنصوص عنه في رواية أبي طالب وغيره أنه إن قدم [ في ] العشر فكذلك ، اتباعاً لفعل الصحابة ، وقبله ينحر حذاراً من ضياع الهدي أو تلفه ، انتهى .
وأما وقت الاستحباب ( ففي الثلاثة ) يكون آخرها يوم عرفة ، ) 16 ( كما ذكره الخرقي ، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم ، وأبي طالب ، واختاره القاضي في تعليقه ، وأبو محمد وغيرهما ، فيصوم السابع ، والثامن ، والتاسع ، وفي المجرد : ويكون آخرها يوم التروية ، فيصوم السادس ، والسابع ، والثامن ، حذاراً من صوم يوم عرفة ، والأولون قالوا : يوم فاضل ، فكان أولى بصوم الواجب ، وحذاراً من تقديم الإحرام ، فعلى الأول قال أبو محمد : يقدم الإحرام على يوم التروية ، فيحرم يوم السابع ، وعلى ما في المجرد يحرم يوم السادس ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فصيام ثلاثة أيام في الحج } ) أي بعد الإحرام بالحج ، وخروجاً من الخلاف ، ( وفي السبعة ) إذا رجع إلى أهله ، للآية الكريمة .
____________________
(1/558)
1769 وفي حديث ابن عمر رضي اللَّه عنه المتفق عليه ( فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ) .
وأما وقت الجواز ( ففي الثلاثة ) إذا أحرم بالعمرة ، على المختار للأصحاب ، إناطة [ للحكم ] بالسبب ، كالتكفير قبل الحنث ونحوه ، وقد أشار أحمد إلى هذا ، قال : إذا عقد الإحرام فصام ، أجزأه إذا كان في أشهر الحج ، وهذا قد يدخل على من قال : لا تجزىء الكفارة إلا بعد الحنث ، ولعل هذا ينصرف فلا يحج . انتهى ، ومن هذا أخذ القاضي هذا الحكم ، وقال : قوله : عقد الإحرام . أي إحرام العمرة قال : لتشبيهه بالكفارة ، وإنما يقع التشبيه إذا كان صومه قبل الإحرام بالحج ، لأنه وجد أحد السببين ، قال : ولأنه قال : إذا عقد الإحرام في أشهر الحج ، وهذا إنما يقال في إحرام العمرة ، ليوجد شرط التمتع ، انتهى . ( وعن أحمد رواية ثانية ) حكاها أبو محمد : وقت الجواز إذا حل من العمرة . ليتحقق وجود السبب ( وحكى بعضهم رواية ثالثة ) : يجوز تقديم الصوم على إحرام العمرة ، قال أبو محمد : وليست بشيء ، لما فيه من تقديم الصوم على سببه ووجوبه ، و أحمد رحمه اللَّه ينزه عن هذا . انتهى وكأن هذه الرواية أخذت من قول أحمد في رواية الأثرم في قوله تعالى : 19 ( { فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذ رجعتم } ) : يجعل آخرها يوم عرفة ، ولا يبالي أن يقدم أولها ، بعد أن يصومها في أشهر الحج ، وإن صامها قبل أن يحرم فجائز ، انتهى ، فجعل أشهر الحج ظرفاً وقال : قبل أن يحرم . وأطلق ، و القاضي قال : أراد قبل أن يحرم بالحج .
وقد أورد على هذا قوله تعالى : 19 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استسسر من الهدي } ) فظاهره أن الصوم إنما يكون بعد أن يصل العمرة بالحج ، ) 16 ( وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج ، وقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله : 19 ( { فصيام ثلاثة أيام في الحج } ) جعل الحج ظرفاً للصوم ، وإنما يكون ذلك بعد الإحرام به ( وأجيب ) بأن المحرم بالعمرة وهو يريد الحج يصير متمتعاً ، بدليل لو ساق هدياً كان هدي متعة ، فإذا معنى الآية الكريمة واللَّه أعلم : فمن تمتع بالعمرة مريداً إيصالها بالحج ، وأما الأمر بالصوم فلا بد فيه من تقدير ، إذ نفس الحج لا يصام فيه فالخصم يقدر : في إحرام الحج . ونحن نقدر : في وقت الحج . وهو أولى ، لأن الوقت ظرف للفعل حقيقة ، والإحرام ليس بظرف له حقيقة ، مع أنا نقول بموجب تقدير الخصم ، والآية إذاً إنما دلت على الوجوب حالة الإحرام بالحج ، ونحن نلتزمه ، قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي وسئل عن صيام المتعة : متى يجب ؟ قال : إذا عقد الإحرام . والكلام هنا في الجواز . انتهى .
ووقت الجواز في السبعة بعد الفراغ من الحج ، هذا قول القاضي ، وحكى أبو محمد : بعد أيام التشريق . وهما متقاربان ، وقد قال أحمد في رواية أبي طالب : إن
____________________
(1/559)
قدر على الهدي ، وألا يصوم بعد الأيام ، قيل له : بمكة أو في الطريق ؟ قال : كيف شاء . ومراده باويام واللَّه أعلم أيام التشريق ، وذلك لأنه متمتع صام بعد الفراغ من النسك ، في وقت يصح فيه الصوم ، فوجب أن يجزئه إذا لم يكن معه هدي ، كما لو رجع إلى وطنه ، وأما قوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } فيحتمل : إذا رجعتم من الحج . أي رجعتم إلى ما كنتم عليه من الحل ، وعلى هذا فحديث ابن عمر رضي اللَّه عنه السابق بين الاستحباب ، والآية بينت الجواز ، ويحتمل أن المراد بالرجوع في الآية الرجوع إلى الأهل كالحديث ، ولا ينافي ذلك مدعانا ، لأن معنى الآية إذاً : وسبعة في وقت رجوعكم إلى أهليكم ، وبالفراغ من الحج غالباً يشرع في الرجوع إلى الأهل فيجوز الصوم ، ولو سلم أن المراد بالرجوع إلى الأهل الحصول في الأهل ذلك رخصة من الشارع ، تخفيفاً على المكلف ورفقاً به ، ولا إشكال في مطلوبية ذلك ، ويجوز معه الأخذ بالعزيمة والفعل وقت الوجوب .
( تنبيه ) : هنا سؤالات ( أحدها ) كيف جاز تقديم الصوم قبل وجوبه ؟ وجوابه أنه كتقديم الزكاة والكفارة ونحوهما ، مما يقدم بعد سببه ، وقبل وجوبه . ( ثانيها ) أن الصوم بدل عن الهدي ولا ينتقل إلى البدل إلا عند العجز عن المبدل ، ولا يتحقق العجز إلا في وقت الوجوب ووقت الوجوب عندهم على المشهور يوم النحر ؟ ) 16 ( وجوابه أنا اكتفينا بالعجز الظاهر ، إذ الأصل استمراره . ( وثالثها ) أن وقت الوجوب على زعمهم يدخل بيوم النحر ، ولا يجوز الصوم إذاً ، بل ولا يصح ، وإذا فعله بعد ، فعله قضاء كما صرح به القاضي وغيره ، فهذا واجب ليس له وقت أداء أصلاً ، وإنما يفعل قبل وقته على سبيل التعجيل ، وأبلغ من هذا أنه لو لم يعجل وأخر إلى وقت الوجوب وجب عليه دم على رواية ، ولا يعرف لهذا نظير إلا أن يقال : الحائض يتعلق بها وجوب الصوم ، ولا يتصور في حقها ، وكذلك من أدرك من الوقت قدر تكبيرة ، لأنا نقول ثم : الفعل له وقت إذاً في الجملة ، وإن تعذر في فرد .
ولو قيل إن الوجوب بالإحرام بالحج ، كما هو ظاهر كلام أحمد ، بل ليس في كلامه ما يدل على خلافه ، لسلمنا من هذه الإيرادات أو غالبها ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى ، في إحدى الروايتين عن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه ، والرواية الأخرى : لا يصوم أيام منى ، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام ، وعليه دم .
ش : أيام منى أيام التشريق ، وقد تقدم كلام الخرقي في أنه هل يصومها عن الفرض أو لا ؟ وتقدم الكلام عليه ، فلا حاجة إلى إعادته .
لكن هنا شيء آخر ، وهو أنه إذا أخر صوم الثلاثة عن يوم النحر ، وعن أيام منى ، لمنعه من الصوم فيها أو مطلقاً ، فإنه يقضيها فيما بعد ، لأنه واجب ، فلا يسقط [ بخروج ] وقته ، كصوم رمضان ، وبناء على أصلنا ، وهو أن القضاء بالأمر الأول لا بأمر
____________________
(1/560)
جديد . ( وهل عليه دم ) والحال هذه ؟ فيه ثلاث روايات ( إحداها ) نعم ، اختارها الخرقي ، ونص عليها أحمد .
1770 معتمداً على [ أن ] هذا قول ابن عباس ولأنه أخر واجباً من مناسك الحج عن وقته ، فلزمه دم [ كرمي الجمار ] ( والثانية ) لا دم عليه ، وهي التي نصبها القاضي في تعليقه ، ونص عليها أحمد في الهدي إذا أخره ، وذلك لأنه أخره إلى وقت جواز فعله ، فلم يجب به دم ، كما لو أخر الوقوف إلى الليل ونحوه ، ( والثالثة ) يجب الدم إلا مع العذر ، حملاً عليه ، نص عليها أحمد في الهدي أيضاً إذا أخره ، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد ، وصرح في التعليق بأن المذهب عدم التفرقة ، وقد علمت أن المنصوص في الصوم وجوب الدم ، وفي الهدي عدم الوجوب ، والوجوب مع انتفاء العذر ، فحصل من المجموع ثلاث روايات في المسألتين .
والخرقي رحمه اللَّه خص وجوب الدم بما بعد أيام منى ، فمقتضاه أنه لو صام أيام منى لا دم عليه ، ويقرب منه كلام القاضي ، قال : إذا لم يصم قبل يوم النحر صامها قضاء ، ) 16 ( وهل عليه دم لتأخيرها عن أيام الحج ؟ انتهى ، وأيام منى هي أيام الحج ، واللَّه أعلم .
قال : ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي ، لم يكن عليه أن يخرج من الصوم إلى الهدي إلا أن يشاء .
ش : لأنه تلبس بالصوم ، فلم يلزمه الانتقال إلى الهدي ، كما إذا دخل في صوم السبعة فإنه اتفاق ، ودعوى الخصم بأن الهدي بدل عن الثلاثة لا السبعة ، فإذا وجد الهدي في الثلاثة بطل حكمها ، للقدرة على المبدل ، لا نسلم ، بل نقول : الهدي بدل عن الجميع وهو ظاهر الآية الكريمة : 19 ( { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجعتم } ) [ والمعطوف والمعطوف عليه في حكم الشيء الواحد ، ويرجح هذا قوله سبحانه ] { تلك عشرة كاملة } .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قدر على الهدي قبل الشروع في الصوم أنه يلزمه الانتقال إليه ، وهو إحدى الروايتين ، ومبنى الخلاف على ما قال في التلخيص : هل الإعتبار في الكفارات بحال الوجوب ، أو بأغلظ الأحوال ؟ فيه روايتان مشهورتان ، تأتيان إن شاء اللَّه تعالى في محلهما ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت ، وخشيت فوات الحج أهلت بالحج ، وكانت قارنة .
ش : إذا دخلت المرأة متمتعة وحاضت ولم تطف ، فإنها ممنوعة من الطواف كما تقدم ، ولا يمكن أن تحل من عمرتها إلا به ، فحينئذ إن خشيت فوات الحج ، بأن كان ذلك قريب وقت الوقوف ، وخشيت أنها إن بقيت في عمرتها فاتها الحج ، فإنها تحرم
____________________
(1/561)
بالحج ، وتصير قارنة ، لتأمن بذلك الفوات ، إذ إدخال الحج على العمرة مع الأمن جائز ، فكيف مع عدمه .
1771 وقد وقع هذا لعائشة رضي اللَّه عنها ، قالت : خرجنا مع رسول اللَّه ، موافقين هلال ذي الحجة ، فلما كان بذي الحليفة قال : ( ممن شاء إن يهل بحجة فليهل ، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل ، وإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة ) قالت : فكنت فيمن أهل بعمرة ، فلما كان في بعض الطريق حضت ، فدخل علي رسول اللَّه وأنا أبكي ، فقال : ( ما يبكيك ؟ ) قلت : وددت أني لم أكن خرجت العام . فقال : ( ارفضي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهلي بالحج ) فلما كان ليلة الصدر أمر تعني النبي عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم ، فأهلت بعمرة مكان عمرتها ، فطافت بالبيت ، رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ مختلفة .
1772 ولمسلم في رواية : قال لها رسول اللَّه ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) .
1773 ولأبي داود : قال لها النبي ( طوافك بالبيت ، ) 16 ( وبين الصفا والمروة ، يكفيك لحجك وعمرتك ) وإنما يسعها أو يكفيها طوافها لحجها وعمرتها إذا حصلا لها .
1774 وعن جابر رضي اللَّه عنه في حديث له قال : وأقبلت عائشة رضي اللَّه عنها مهلة بعمرة ، حتى إذا كانت بسرف عركت . وذكر الحديث إلى أن قال : ثم دخل رسول اللَّه على عائشة رضي اللَّه عنها ، فوجدها تبكي ، فقال : ( ما شأنك ؟ ) قالت : شأني أني قد حضت ، وقد أحل الناس ولم أحل ، ولم أطف بالبيت ، والناس يذهبون إلى الحج الآن ، قال : ( إن هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم ، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ) ففعلت ووقفت المواقف كلها ، حتى إذا طهرت طافت بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم قال : ( قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً ) قالت : يا رسول اللَّه إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت ، قال : ( فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم ) وذلك ليلة الحصبة ، رواه مسلم ، والنسائي ، وأبو داود وهذا لفظه . وهو صريح في حصول النسكين لها كما قلناه ( وقد اعترض ) على حديث عائشة رضي اللَّه عنها بأنها إنما كانت مفردة .
1775 بدليل أن في رواية في الصحيح قالت : فدخل عليَّ رسول اللَّه وأنا
____________________
(1/562)
أبكي ، فقال : ( ما يبكيك يا هنتاه ؟ ) فقلت : سمعت قولك لأصحابك ، فمنعت العمرة ، قال : ( وما شأنك ؟ ) قلت : لا أصلي . قال : ( فلا يضرك ، إنما أنت امرأة من بنات آدم ، كتب عليك ما كتب عليهن ، فكوني في حجك ، فعسى اللَّه أن يرزقكيها ) وفي رواية : خرجنا مع رسول اللَّه لا نذكر إلا الحج ، [ حتى جئنا سرف ] فطمثت . وذكرت القصة ، وفيها : قال لها رسول اللَّه : ( افعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري ) .
1776 وأيضاً ففي لفظ لمسلم عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : ( فقضى اللَّه حجتنا وعمرتنا ، ولم يكن في ذلك هدي ، ولا صدقة ، ولا صوم ) والقارن على قول العامة لا يخلو من أحدها . ( ويجاب ) بأنها قد أخبرت عن نفسها كما سبق بأنها كانت ممن أهل بعمرة .
1777 وكذلك أخبر عنها جابر رضي اللَّه عنه ، وكذلك قول الرسول ( ارفضي العمرة ) ونحو ذلك ، وقوله ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) يدل على أنها كانت معتمرة ، وأما قوله : ( افعلي ما يفعل الحاج ) أي أنشيء ما ينشيء الحاج من الإهلال به والاغتسال [ له ، كما جاء مصرحاً به ، ( وأهلي بالحج ) وكذلك يحمل ( فكوني في حجك ) أي ادخلي في الحج ] ونحو ذلك ، إذ هذا ونحوه مما نقل بالمعنى قطعاً ، فإن الواقعة واحدة ، واللفظ واحد ، وأما قولها : ولم يكن في ذلك هدي ، ولا صدقة ، ) 16 ( ولا صوم . ويكون الرسول تحمل عنها ذلك ، وهو يعلم رضاها بذلك ، فلا يحتاج إلى أذنها في التكفير .
والنعمان رحمه اللَّه يقول : آل أمرها إلى الإفراد ، ويوافق [ على ] أن إحرامها كان بعمرة ، ثم لما حاضت أمرها بترك العمرة ، ثم بالإهلال بالحج .
1778 مستدلاً بقوله لها : ( ارفضي العمرة ، وانقضي رأسك وامتشطي ) وفي رواية : ( اتركي العمرة ) وفي رواية ( دعي العمرة ) وهذه الألفاظ كلها في الصحيح والسنن .
1779 ويرشح هذا ما في الحديث : فأهلت بعمرة مكان عمرتها ، وفي رواية : أرسلني رسول اللَّه مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم ، فاعتمرت ، فقال : ( هذه مكان عمرتك ) وفي رواية : قالت يا رسول اللَّه أترجع صواحبي بحج وعمرة ، وأرجع أنا بحج ؟ فأمر رسول اللَّه عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب بها إلى التنعيم ، فلبت بالعمرة .
وقد أجيب عن قوله لها : انقضي رأسك ، وامتشطي ) أن ذلك [ يجوز أن ]
____________________
(1/563)
يكون لعذر ، كما جوز لكعب بن عجرة الحلق ، مع أن المحرم يجوز له نقض الشعر ، والامتشاط غايته أن يكون برفق ، حذاراً من نتف الشعر ، وإنما قال ذلك الرسول لعائشة رضي اللَّه عنها هنا لأجل اغتسالها للحج ، وأما قوله : ( ارفضي العمرة ) ونحو ذلك فحمله الإمام الشافعي وغيره على ترك أفعال العمرة ، لا على ترك العمرة رأساً ، ليوافق قوله : ( يسعك طوافك لحجك وعمرتك ) وقوله : في حديث جابر رضي اللَّه عنه ( قد حللت من حجك وعمرتك ) وأحمد رحمه اللَّه قال في رواية أبي طالب : إنما قال النبي لعائشة : ( أمسكي عن عمرتك ، وامتشطي وأهلي بالحج ) وقال في رواية الميموني وذكر له عن أبي معاوية يرويه ( انقضي عمرتك ) فقال : غير واحد يرويه ( أمسكي عن عمرتك ) أيش معنى : انقضي ، هو شيء تنقضه ، هو ثوب تلقيه ؟ وعجب من أبي معاوية .
وأما قوله : ( هذه مكان عمرتك ) [ أي مكان عمرتك ] التي أحرمت بها مفردة ، وقولها : أترجع صواحبي بحج وعمرة . إلى آخره أي بحج ، وعمرة مفردة عن الحج ، وأرجع بحج اندرجت فيه العمرة ، وأما إعمارها من التنعيم فتطييب لقلبها ، كذا قال الإمام أحمد وغيره ، ويشهد له حديث جابر رضي اللَّه عنه المتقدم ، انتهى .
وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه يلزمها إدخال الحج والحال هذه ، وكذلك كل من خشي فوات الحج ، حذاراً من تفويت الحج الواجب على الفور . ) 16 (
( تنبيه ) : ( هنتاه ) كناية عن البله ، وقلة المعرفة بالأمور ( وليلة الصدر ) و ( ليلة الحصبة ) ( وليلة البطحاء ) كل ذلك واحد ، وهو نزوله بالمحصب ليلة النفر الآخر ، والمحصب والأبطح ، والمعرس وخيف بني كنانة واحد ، وهو بطحاء مكة [ وهو بين مكة ] ومنى ، و ( سرف ) على فرسخين من مكة ، وقيل على أربعة أميال و ( عركت ) بفتح العين والراء ، أي حاضت ، والعارك الحائض ، وكذلك ( طمثت ) حاضت ، واللَّه أعلم .
قال : ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم .
ش : أي إذا طهرت ، لأن النبي لم يأمر عائشة رضي اللَّه عنها بقضائه ، وهذا مما يورد على المتمتع في قضائه طواف القدوم ، ويجاب عنه بأنه هنا سقط عنها لمكان العذر ، كما يسقط طواف الوداع عن الحائض ، أما ثم فلا عذر ، واللَّه أعلم .
قال : ومن وطيء قبل أن يرمي جمرة العقبة فقد أبطل حجهما .
____________________
(1/564)
ش : قد تقدمت هذه المسألة في قوله : فإن وطيء محرم في الفرج . إلا أنه ثم فصل بين أن يطأ في الفرج أو دونه ، وبيّن هنا أن شرط بطلان الحج أن يكون قبل رمي جمرة العقبة ، أما إن كان بعد رمي الجمرة فإن النسك لا يبطل لما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : وعليه دم إن كان استكرهها ، ولا دم عليها .
ش : تقدمت هذه المسألة أيضاً ، وأن الدم بدنة ، وأنها إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما [ بدنه ] . واللَّه أعلم .
قال : وإن وطيء بعد رمي جمرة العبة فعليه دم .
ش : وإذا كان الوطء بعد التحلل الأول كما إذا رمى جمرة العقبة فإن النسك لا يفسد .
1780 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى ، قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنة ، وفي رواية عن عكرمة قال : 16 ( لا أظنه إلا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي . رواه مالك في الموطأ ) .
1781 ولعموم ( الحج عرفة ، من صلى صلاتنا ، ووقف معنا ، حتى ندفع ، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة في ليل أو نهار ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه ) وقد تقدم ذلك .
ويلزمه دم ، وهل هو بدنة ، كما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، أو شاة ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، كالوطء دون الفرج إذا لم ينزل ، والجامع عدم البطلان بهما ؟ فيه روايتان ، واللَّه أعلم .
قال : ويمضي إلى التنعيم فيحرم ، ليطوف وهو محرم [ وكذلك المرأة ] .
ش : قد تقرر أن الحج لا يبطل بالوطء بعد رمي جمرة العقبة ، وإذا لم يبطل فما بقي من الإحرام يبطل ، ) 16 ( لحصول الوطء فيه ، وإذاً يلزمه أن يحرم ، ليأتي بطواف الركن في إحرام صحيح ، ويحرم من الحل ، ليجمع في الإحرام بين الحل والحرم ، وأقرب الحل إلى مكة التنعيم ، فلذلك ذكره الخرقي رحمه اللَّه .
وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنه إذا أحرم أتى بالطواف ، وإن كان لم يسع أتى بالسعي ، على ما تقدم ، ثم قد حل ، لأن هذا هو الذي بقي عليه من حجه ، قال أبو محمد : والمنصوص عن أحمد أنه يعتمر ، قال : فيحتمل أنه يريد هذا ، وهو يسمى عمرة ، لأنه هو أفعال العمرة ، ويحتمل أنه يريد عمرة حقيقية ، فيلزمه سعي وتقصير .
وظاهر كلامه أيضاً أن الوطء بعد رمي جمرة العقبة لا يفسد ، وإن كان قبل الحلق وظاهر كلام جماعة أنه إذا أوقفنا الحل عليه فسد النسك به ، لأنهم ينيطون الحكم بالحل الأول . والخرقي ظاهر كلامه أنه متوقف على الحلق ، وقرر أبو محمد الأول على ظاهره ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمة .
____________________
(1/565)
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) إذا وطيء بعد الطواف وقبل الرمي فظاهر كلام جماعة أنه كالأول ، لإناطتهم الحكم بالوطء بعد التحلل الأول ، ولأبي محمد في موضع في لزوم الدم والحال هذه احتمالان ، وله في موضع في لزوم الدم متابعة للأصحاب ( الثاني ) لم يتعرض الخرقي لحكم الوطء في العمرة ، والحكم أنه يجب بالوطء فيها شاة ، وهل تفس ؟ إن كان قبل السعي فسدت ، وإن كان بعده وجب دم ولم تفسد ، نص عليه أحمد ، وقاله الشيخان ، ومقتضى كلامهما وإن قلنا : الحلق نسك ، بل هو صريح كلام أبي محمد ، وبنى [ ذلك ] صاحب التلخيص على الحلق ، إن قيل إطلاق محظور فكذلك ، وإن قيل نسك فسدت ، واللَّه أعلم .
قال : ومباح لأهل السقاية والرعاء أن يرموا بالليل .
ش : تخفيفاً ، ودفعاً للحرج والمشقة عنهما ، إذ أهل السقاية مشتغلون بالسقي [ نهاراً ] ، وكذلك الرعاة مشتغلون بالرعي [ كذلك ] فعلى هذا يرمون كل يوم في الليلة التي تعقبه ، فجمرة العقبة في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق ، ورمي اليوم الأول في ليلة الثاني ، ورمي الثاني في ليلة الثالث ، والثالث إذا أخروه إلى الغروب سقط عنهم ، كسقوطه عن غيرهم .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يباح الرمي في الليل لغير الصنفين ، وهو ظاهر كلام أحمد ، قال في رواية ابن منصور وقد سئل عن الرمي في الليل إذا فاته فقال : أما الرعاء فقد رخص لهم ، وأما غيرهم فلا يرمون إلا بالنهار من الغد إذا زالت الشمس يرمي رميين ، وكذلك صرح صاحب التلخيص بأن آخر الوقت غروب الشمس ، ) 16 ( والليل على هذا كقبل الزوال .
( تنبيه ) : ( أهل السقاية ) هم الذين يسقون على زمزم . ( والرعاة ) بضم الراء ، وبهاء في آخره ، وبكسر الراء ممدوداً بلا هاء ، لغتان مشهورتان ، والثانية لغة الكتاب والسنة ، واللَّه أعلم .
قال : ومباح للرعاء أن يؤخروا الرمي ، فيقضوه في اليوم الثاني واللَّه أعلم .
ش : الرعاء يشق عليهم المبيت ، ليرموا في كل يوم ، فلذلك رخص لهم في ترك رمي يوم ، ليرموه في الذي بعده .
1782 وقد روى أبو البداح بن عاصم بن عدي ، عن أبيه أن رسول اللَّه رخص للرعاء أن يرموا يوماً ، ويدعوا يوماً ، رواه أبو داود ، والنسائي والترمذي وصححه ، وفي رواية : أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى ، يرمون يوم النحر ، ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر ، فيرمونه في آخرهما ، قال مالك : ظننت أنه قال :
____________________
(1/566)
في الأول منهما ، ثم يرمون يوم النفر .
وقد تضمن هذا الكلام أن للرعاء ترك المبيت بمنى ، وكذلك الحكم في أهل السقاية ، إلا أن الخرقي لم يتعد هذا الحديث ، وقد تقدم أن العباس رضي اللَّه عنه استأذن رسول اللَّه أن يبيت بمكة ليالي منى ، من أجل سقايته فأذن له . إلا أن بين الرعاء وأهل السقاية فرقاً ، وذلك أن الرعاء متى غربت الشمس وهم بمنى لزمهم المبيت ، بخلاف أهل السقاية .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يباح تأخير الرمي من يوم إلى آخر لغير من تقدم ، ولعل مراده نفي الإباحة الاصطلاحية ، وهو ما استوى طرفاه ، لا الإباحة التي هي بمعنى الإذن في الفعل ، ومراده بالإباحة في التأخير إلى الليل الإذن في الفعل ، والذي ألجأ إلى هذا أن ظاهر كلام الأصحاب أنه يجوز تأخير الرمي كله إلى آخر أيام التشريق ، ولا يجوز مجاوزة أيام التشريق ، قال أبو محمد ، وصاحب التلخيص : إذا أخر إلى آخر أيام منى ترك السنة ولا شيء عليه ، وقال أبو البركات : إذا أتى بالرمي كله في آخر أيام منى جاز ، وأصرح من هذا كلام القاضي في التعليق قال : أيام التشريق كلها بمنزلة اليوم الواحد ، واعتمد على نص أحمد المتقدم في رواية ابن منصور ثم قال بعد لما قيل له : إن التأخير لليوم الثاني منهي عنه . قال : لا نسلم ، بل جميع الثلاثة وقت للرمي إذاً لا قضاء وإنما يكون تاركاً للفضيلة . انتهى .
وقوة كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك ، وهو ظاهر الحديث ، وكلام أحمد في [ غير ] رواية إنما يدل على أن اليوم الثاني [ والثالث ] يرمي فيه ، ولا دم عليه ، وليس فيه فيما رأيت تصريح بجواز التأخير . ) 16 (
( تنبيه ) : وحيث أخر فرمى في اليوم الثاني أو الثالث فإنه لا بد من ترتيب ذلك بالنية . واللَّه أعلم .
( باب الفدية وجزية الصيد )
قال : ومن حلق أربع شعرات فصاعداً ، عامداً أو مخطئاً ، فعليه صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين ، أو ذبح شاة ، أي ذلك فعل أجزأه .
ش : لا نزاع في وجوب الفدية بحلق الرأس في الجملة ، وقد شهد لذلك [ نص ] الكتاب ، قال سبحانه : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، فمن كان منكم مريضاً ، أو به أذى من رأسه ، ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك } ) أي فحلق فعليه فدية ، أو فالواجب فدية .
1783 ونص السنة ، وهو ما روي عن كعب بن عجرة رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه مر به زمن الحديبية ، فقال : ( قد آذاك هوام رأسك ؟ ) قال : نعم . فقال النبي ( احلق ، ثم اذبح شاة نسكاً ، أو صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ثلاثة آصع من
____________________
(1/567)
تمر ، على ستة مساكين ) رواه الشيخان وغيرهما ، وفي أبي داود قال : أصابني هوام في رأسي ، وأنا مع رسول اللَّه عام الحديبية ، حتى تخوفت على بصري ، فأنزل اللَّه تعالى : { فمن كان منكم مريضاً أو بهد أذى من رأسه } الآية : فدعاني رسول اللَّه وقال لي : ( احلق رأسك وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين فرقاً من زبيب ، أو انسك ضاة ) فحلقت رأسي ثم نسكت .
واختلفت الرواية عن أحمد في القدر الذي يتعلق به الفدية ، ( فعنه ) وهو اختيار القاضي وأصحابه وغيرهم تجب في ثلاث فصاعداً ، إذ بذلك يسمى حالقاً ، فيدخل تحت قوله تعالى : { ففدية } إذ التقدير : فحلق ، ( وعنه ) وهو الأشهر عنه ، واختيار الخرقي لا يجب إلا في أربع فصاعداً ، إذ الثلاثة آخر حد القلة ، وما زاد عليه كثير ، فيتعلق الحكم به دون القليل ، ( وعنه ) وهو أضعفها ، واختيار أبي بكر لا يتعلق إلا بخمس فصاعداً ، ( وزوال الشعر ) بنوره أو غيره كحلقاة ، إناطة بالترفه ، وإنما ذكر الخرقي الحلق إناطة بالغالب .
وقد دخل في كلام الخرقي شعر الرأس والبدن ، ولا إشكال في تعلق الفدية عندنا بشعر البدن ، لحصول الترفه به ، ثم هل هو مع شعر الرأس كالشيء الواحد ، فلو حلق منه شعرتين ، ومن شعر الرأس شعرتين وجبت الفدية ، ولو حلق منه أربع شعرات ، ومن شعر الرأس أربع شعرات لم يجب إلا فدية واحدة ، لأن الشعر كله جنس واحد ، أو لكل واحد منهما حكم منفرد ، لحصول التحلل بأحدهما دون الآخر ، فلا تكمل الفدية في الصورة الأولى ، وتجب في الصورة الثانية فديتان ؟ فيه روايتان منصوصتان ، الأولى اختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، والثانية اختيار القاضي في التعليق وفي غيره ، وابن عقيل .
ولا فرق في زوال الشعر بين من له عذر وهو الذي ورد فيه النص ، ومن لا عذر له ، ولا بين العامد والناسي ونحوه ، على المنصوص ، والمعمول به في المذهب ، إذ غاية الناسي ونحوه أنه معذور ، وقد وجبت [ الكفارة بالنص على المعذور ، والفقه ] في ذلك أنه إتلاف لا يمكن تداركه ، بخلاف اللباس ونحو . .
ونص أحمد رحمه اللَّه في الصيد أنه لا كفارة إلا في العمد ، فخرج القاضي ومن بعده منه قولاً أنه لا يجب إلا في العمد ، تعلقاً بظاهر آية الصيد ، وبقول النبي : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) الحديث .
والفدية واحد من ثلاثة أشياء ، الصوم ، والصدقة ، والنسك ، كما نص اللَّه عليها ،
____________________
(1/568)
وبينها من له البيان بأنها صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة ، ويجزىء فيها ما يجزىء في الفطرة ، وغالب الروايات وردت بالتمر ، ولذلك اقتصر عليه الخرقي ، وورد أيضاً الزبيب كما تقدم ، وفي رواية في الصحيح ( نصف صاع طعام لكل مسكين ) وهو يشمل البر والشعير ، ولا نزاع في وجوب نصف صاع من التمر ، والزبيب ، والشعير ، وأما من البر فروايتان ( إحداهما ) كذلك ، لظاهر ( نصف صاع طعام ) و ( الثانية ) وهي أشهرهما يجزيء مد بر كما في كفارة اليمين وغيرها ، ويخير بين الثلاثة مع العذر بلا ريب للنص .
1784 وفي رواية أبي داود أن رسول اللَّه قال له ( إن شئت فانسك نسيكة ، وإن شئت فصم ثلاثة أيام ، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين ) .
ومع عدمه فيه روايتان ( إحداهما ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، وإليها ميل أبي محمد أنه كذلك ، لأن الحكم يثبت فيه بطريق التنبيه ، والفرع لا يخالف أصله . ( والثانية ) يتعين الدم ، وبها جزم ابن أبي موسى ، والقاضي في جامعه وفي تعليقه ، ونص عليها أحمد ، ولفظه : لا ينبغي أن يكون مخيراً ، لأن اللَّه سبحانه خيَّر الحالق لوجود الأذى ، فإذا عدم الأذى عدم التخيير ، ووجوب الدم مع عدم العذر للجناية على الإحرام ، لا بالقياس على المعذور ، واللَّه أعلم .
قال : وفي كل شعرة من الثلاث مد من الطعام .
ش : لما كان الثلاث عند الخرقي هي حد القلة ، ووجوب الفدية منوط بما زاد عليها ، جعل في كل واحدة من الثلاث مدا من طعام ، وعلى المذهب تجب الفدية في الثلاث ، فيجب في الشعرتين مدان ، وعلى الرواية الضعيفة لا تجب الفدية إلا في خمس ، فيجب المد في كل واحدة من الأربع ، وبالجملة وجوب المد في الشعرة هو المشهور من الروايات ، والمختار لعامة الأصحاب ، الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي وأصحابه ، غيرهم ، نظراً إلى أن هذا لا مقدر فيه ، والمد أقل ما وجب في الشرع فدية ، فوجب الرجوع إليه ، ولا ينتقص منه ، إذ لا ضابط لذلك ، ولا يزاد عليه إذ الأصل براءة الذمة .
فإن قيل : فلا يجب شيء نظراً للأصل ؟ قيل : ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد ( والثانية ) يجب في كل شعرة قبضة من طعام ، لأنه حصل نوع تكفير ، والنص عن أحمد الذي فيه هذه الرواية أن في الشعرة والشعرتين قبضة ، ( والثالثة ) يجب في كل شعرة درهم ، أو نصف درهم ، خرجها القاضي ومن بعده من ليالي منى ، ويلزم على ذلك أن يخرج أن لا شيء ، وأن يجب كما حكي ذلك في ليالي منى ، وفي بعض
____________________
(1/569)
الشعرة ما في كلها على الأشهر ، وقيل : يجب بالقسط ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك الأظفار .
ش : الحكم في الأظفار كالحكم في الشعر سواء ، في جميع ما تقدم ، والجامع حصول الترفه بكل منهما ، واللَّه أعلم .
قال : وإن تطيب المحرم عامداً غسل الطيب ، وعليه دم .
ش : أما غسل الطيب فلا ريب فيه ، إذ كل من فعل محظوراً فإنه يجب عليه تركه ، والرجوع إلى أمر ربه .
1785 وقد ورد في غير هذا عن صفوان بن يعلى بن أمية ، عن أبيه أن رجلاً أتى النبي وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق ، أو قال صفرة ، وعليه جبة ، فقال : يا رسول اللَّه كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ فأنزل اللَّه سبحانه على النبي الوحي ، فلما سري عنه قال : ( أين السائل عن العمرة ؟ ) قال : ( اغسل عنك أثر الخلوق أو قال أثر الصفرة ، واخلع الجبة عنك ، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك ) متفق عليه .
وأما وجوب الدم فلا نزاع فيه ، لأنه ترفه بما منع منه ، فوجبت الفدية كحلق الرأس ، وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير وهو كذلك ، وقول الخرقي : عليه دم . فيه تجوز ، إذ لا يتعين الدم . بل الواجب فدية كفدية حلق الرأس كما تقدم ، وقوله : عامداً . يحترز به عن الناسي ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك إن لبس المخيط ، أو الخف عامداً وهو يجد النعل ، خلع وعليه دم .
ش : لا نزاع أيضاً في وجوب الفدية بلبس المخيط ، وتغطية الرأس ، ولبس الخف ، بالقياس على حلق الرأس .
( تنبيه ) : إذا جمع الجميع ، فلبس وغطى رأسه ، ولبس الخف ، لم تجب إلا فدية واحدة ، لأن الجميع جنس واحد .
وقول الخرقي : وهو يجد النعل ، احترازاً مما إذا عدمه ، فإنه يلبس الخف ولا شيء عليه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن تطيب أو لبس ناسياً فلا فدية عليه .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أبي محمد ، والقاضي في روايتيه ، لعموم قول النبي ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) الحديث . ويلتزم العموم في المضمرات ولحديث يعلى بن أمية السابق ، إذ النبي لم يذكر له فدية ، ولو وجبت
____________________
(1/570)
لذكرها ، إذ هو سائل عن حالة ، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وأنه لا يجوز ، ولا يلزم الحلق ، والتقليم ، وقتل الصيد ، لتعذر تلافيها ، بخلاف ما نحن فيه ، ( والثانية ) واختارها القاضي في تعليقه تجب الفدية ، لأنه معنى يخظره الإحرام ، فاستوى عمده وسهوه ، كالحلق [ وقلم الظفر ] ، واعتمد أحمد رحمه اللَّه على أن اللَّه أوجب الكفارة في قتل الخطأ ، مع انتفاء القصد ، فكذلك هنا ، ومنع القاضي العموم في المضمرات ، وجعل التقدير : رفع المأثم . وأجاب عن حديث يعلى بأن ذلك قبل تحريم الطيب ، بدليل انتظاره للوحي ، قال : ولا أثر للتفرقة بالتلافي وعدمه ، لأن الفدية تجب لما مضى ، وذلك مما لا يمكن تلافيه . انتهى ، وحكم الجاهل بالتحريم حكم الناسي ، قاله غير واحد من الأصحاب ، وكذلك المكره قاله أبو محمد ، واللَّه أعلم .
قال : ويخلع اللباس ، ويغسل الطيب .
ش : لما تقدم من الحديث ، واللَّه أعلم .
قال : ويفزع إلى التلبية .
ش : أي يسرع إليها استذكاراً للحج أنه نسيه ، واستشعاراً بإقامته [ عليه ] ، واللَّه أعلم .
قال : ولو وقف بعرفة نهاراً ، ودفع قبل الإمام فعليه دم .
ش : أما وجوب الدم بما إذا وقف نهاراً أي ولم يقف إلى الليل فلأن النبي وقف إلى الليل ، وقال ( خذوا [ عني ] مناسككم ) .
1786 وقد قال ابن عباس : من ترك نسكاً فعليه دم . والواجب على من وقف نهاراً أن يجمع في وقوفه بين الليل والنهار ، لا أن يستمر الوقوف إلى الليل ، فلو دفع قبل الغروب [ ثم عاد قبل الغروب ] فوقف إليه فلا شيء عليه ، ولو لم يواف عرفة إلا ليلاً فلا شيء عليه .
وأما وجوب الدم فيما إذا دفع قبل الإمام فاقتداء بأصحاب النبي ، فإنهم لم يدفعوا إلا بعده ، وهذه إحدى الروايتين . ( والثانية ) وهي اختيار جمهور الأصحاب لا دم عليه ، ولا يجب الوقوف حتى يدفع مع الإمام ، بل يستحب ، إذ لم يثبت أن ذلك نسك ، حتى يدخل تحت قوله ( خذوا عني مناسككم ) وفي بعض النسخ : ولو وقف بعرفة نهاراً ، ودفع قبل الإمام . فلا يستفاد منه إلا مسألة واحدة ، وهي الدفع قبل الإمام ، ويكون وجوب الدم مشروطاً بمن وقف نهاراً ، وأظنها أشهر ولا يحتاج معها إلى تقدير ، ولكن الأولى عليها شرح أبو محمد ، واللَّه أعلم .
قال : ومن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل من غير الرعاء وأهل سقاية الحاج فعليه دم .
ش : المبيت بمزدلفة ليلتها واجب في الجملة ، لأن النبي وأصحابه باتوا
____________________
(1/571)
بها ، وقال ( خذوا عني مناسككم ) ويجب بتركه دم نص عليه ، لما تقدم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وكبقية الواجبات ، وقيل عنه : لا دم عليه . ولا عمل عليه .
والواجب أن لا يدفع قبل نصف الليل ، ولو دفع بعده جاز ، لأن النبي قدم ضعفة أهله بعد نصف الليل .
1787 وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه : 16 ( أنا ممن قدم النبي ليلة المزدلفة في ضعفه أهله ) . أخرجه الجماعة .
1788 وقالت عائشة رضي اللَّه عنها : 16 ( أرسل النبي بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت فأفاضت ، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول اللَّه . تعني عندها ) ، رواه أبو داود وغيره .
1789 وعن أم حبيبة : أن النبي بعث بها من جمع بليل ، وفي رواية قالت أم حبيبة : كنا نفعله على عهد النبي نغلس من جمع إلى منى . رواه النسائي .
واستثنى الخرقي رحمه اللَّه الرعاء ، وأهل السقاية ، فلم يجعل عليهم مبيتاً ، لأن بهم حاجة إلى حفظ مواشيهم ، وسقي الحاج ، فلذلك رخص لهم ، بخلاف غيرهم ، ولم أر من صرح باستثنائهما إلا أبا محمد ، حيث شرح كلام الخرقي ، واللَّه أعلم .
قال : ومن قتل وهو محرم من صيد البر عامداً أو مخطئاً ، فداه بنظيره من النعم ، إن كان المقتول دابة .
ش : وجوب الجزاء بقتل صيد البر على المحرم إجماع في الجملة ، وقد شهر له قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } الآية .
ويستثنى من ذلك ثلاثة أشياء ( أحدها ) إذا صال الصيد عليه ، ولم يقدر على دفعه إلا بقتله ، فإنه يباح له قتله ولا جزاء عليه ، لأنه قد التحق بالمؤذيات طبعاً ، مع أنه المتعدي على نفسه ، وعن أبي بكر فيه الجزاء ، نظراً إلى أن قتله لحاجة [ نفسه ] أشبه قتله لحاجة الأكل . ( الثاني ) إذا خلص الصيد من سبع ، أو شبكة ، ونحو ذلك ، فأفضى ذلك إلى قتله ، فلا ضمان فيه ، نظراً إلى أنه فعل مباح مطلوب ، أشبه مداواة الولي [ لموليه ] ونحوه ، وقيل : عليه الضمان ، إذ غايته أنه لم يقصد قتله ، كالخاطىء ، ( الثالث ) إذا قتله في مخمصة ، فعن أبي بكر : لا ضمان عليه ، إناطة بإباحة قتله ، والمذهب المجزوم به عند الشيخين وغيرهما وجوب الضمان ، لعموم الآية ، ولأن إتلافه لمحض
____________________
(1/572)
نفع نفسه ، من غير تعد من الصيد ، أشبه حلق الشعر لأذى برأسه . انتهى .
والصيد [ الذي يتعلق به الجزاء ما كان وحشياً ، مأكولاً ، ليس بمائي ، فيخرج بالوصف الأول ما ليس بوحش كبهيمة الأنعام ونحوها ، والاعتبار ] في ذلك بالأصل لا بالحال ، فلو استأنس الوحش وجب الجزاء ، ولو توحش الأهلي فلا جزاء ، ويستثني من ذلك ما تولد بين وحشي وغيره ، تغليباً للتحريم ، واختلف في الدجاج السندي ، والبط ، هل فيهما جزاء ، على روايتين ، والصحيح في البط [ وجوب ] الجزاء ، نظراً لأصله وهو التوحش .
ويخرج بالوصف الثاني ما ليس بمأكول ، كسباع البهائم ، وجوارح الطير [ ونحو ذلك ] قال أحمد رحمه اللَّه : إنم جعلت الكفارة في [ الصيد ] المحلل أكله ، واختلف في الثعلب ، وسنور البر ، والهدهد ، والصرد ، هل فيها جزاء ، كما اختلف في إباحتها ، وكذلك كل ما احتلف في إباحته ، مختلف في جزائه ، هذا الصحيح من الطريقتين عند أبي محمد ، والقاضي وغيرهما ، وقيل : لا يلزم ذلك ، بل يجب الجزاء في الثعلب ونحوه وإن حرمنا أكله ، تغليباً للتحريم ، كما وجب الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره ومما يستثنى من القاعدة القمل على رواية قد تقدمت ، واستثنى بعض الأصحاب أم حبين ، وهي دابة منتفخة البطن ، تستخبث عند الأصحاب .
1790 فأوجب فيها جدياً تبعاً لعثمان رضي اللَّه عنه ، فإنه روي عنه أنه قضى فيها بذلك ، والصحيح عدم استثنائها ، جرياً على القاعدة .
ويخرج بالوصف الثالث ما كان مائياً لقوله سبحانه : 19 ( { أحل لكم صيد البحر } ) الآية ، والمائي هو ما يعيش في الماء ، ويبيض فيه ، ويفرخ فيه ، وإن كان يعيض في البر ، كالضفدع والسلحفاة ، [ ونحوهما ] ، وعن ابن أبي موسى أنه أوجب الجزاء في الضفدع ، وعلى قياسه كل ما يعيش في البر ، تغليباً للتحريم .
ويخرج مما تقدم طير الماء ، لكونه مما يفرخ ، ويبيض في البر ، وإنما يدخل في الماء ليتعيش فيه ، ويتكسب منه .
واختلف عن أحمد رحمه اللَّه في الجراد ، فقيل : هو من صيد البر ، لأنه يطير فيه ، فهو كغيره من الطيور ، ولذلك يهلكه الماء .
1791 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ما يدل عليه أو أنه من صيد البحر .
1792 ويحكى ذلك عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما .
1793 وعن عروة : هو من نثرة حوت .
1794 وعن النبي ( الجراد من صيد البحر ) وفي حديث [ آخر ] ( إنما هو
____________________
(1/573)
من صيد البحر ) لكن قال أبو داود : كلا الحديثين وهم . وقال أبو بكر المعافري : ليس في الباب حديث صحيح ، على روايتين . انتهى .
ولا فرق في وجوب الجزاء بقتل الصيد بين العمد والخطأ ، على المنصوص المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين ، لأنه ضمان إتلاف ، فاستوى عمده وخطؤه ، كغيره من المتلفات .
1795 وأيضاً قول جابر رضي اللَّه عنه : جعل رسول اللَّه في الضبع يصيبه المحرم كبشاً . وفي رواية عن النبي قال : ( في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ) فعلق الوجوب على إصابة المحرم ، وكذلك حكم الصحابة على ما سيأتي يدل على ذلك . ( والثانية ) يختص الضمان بالعمد ، لظاهر قوله سبحانه : 19 ( { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } ) ودليل خطابه أن غير المعتمد لا جزاء عليه ، وأجيب بأن الآية نزلت في المتعمد بدليل 19 ( { ليذوق وبال أمره عفا اللَّه عما سلف ومن عاد فينتقم اللَّه منه } ) وما نزل على سبب لا مفهوم له اتفافاً ، انتهى .
والجزاء هو فداء الصيد بنظيره من النعم إن كان المقتول دابة ، لقوله سبحانه 19 ( { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } ) وهذا على قراءة من نون ( جزاء ) ورفع ( مثل ) واضح ، إذ التقدير : فعليه جزاء مثل الذي قتل من النعم . أي صفته مثل ما قتل ، ف ( مثل ) هي نعت للجزاء وأما على قراءة من لم ينون ( جزاء ) وخفض ( مثل ) بإضافته إليه فقد يقال : ظاهره وجوب القيمة إذ ينجلي إلى فجزاء من مثل المقتول من النعم ، أي من مثل جنس المقتول من النعم ، والواجب [ في المقتول من النعم القيمة ، فكذلك في الصيد ، وهذا أولاً ممنوع ، لأن الحيوان قد يجب فيه مثله ، بدليل وجوب المثل في الضبع ونحوه ، وقد ثبت ذلك بالسنة ثم لو سلم ثم لا نسلمه هنا ، إذ ثمة الحق لآدمي ، والواجب ] المثلية في جميع الصفات ، أو في المقصود منها ، ويتعذر غالباً وجود ذلك ، فلذلك عدل إلى القيمة ، وهنا الحق للرب سبحانه وتعالى ، والواجب المثل تقريباً ، وقد وكله سبحانه إلى اجتهاد ذوي عدل منا ، وتعين هذا القراءة الأخرى ، إذ الأصل توافق القراءتين .
ثم إن المبين لكتاب ربه ، وكذلك أصحابه نجوم الهدى ، الذين خوطبوا بالحكم إنما حكموا بالمثل لا بالقيمة .
1795 م فعن جابر رضي اللَّه عنه قال : جعل رسول اللَّه في الضبع يصيبه المحرم كبشاً ، وجعله من الصيد . رواه أبو داود وابن ماجه .
____________________
(1/574)
1796 وعنه أيضاً عن النبي قال : ( في الضبع إذا أصابه المحرم كبش ، وفي الظبي شاة ، وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة ) قال : والجفرة التي قد ارتعت . رواه الدارقطني .
1797 وعن محمد بن سيرين أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال : إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية ، فأصبنا ظبياً ونحن محرمان ، فماذا ترى ؟ فقال عمر رضي اللَّه عنه لرجل إلى جنبه : تعالَ حتى نحكم أنا وأنت . قال : فحكما عليه بعنز ، فولى الرجل وهو يقول : هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي ، حتى دعا رجلاً فحكم معه . فسمع عمر قول الرجل ، فدعا فسأله : هل تقرأ سورة المائدة ؟ فقال : لا . فقال : هل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي ؟ فقال : لا . فقال : لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً ، ثم قال : إن اللَّه عز وجل يقول في كتابه : { يحكم به ذوا عدل منكم ، هدياً بالغ الكعبة } وهذا عبد الرحمن بن عوف . رواه مالك في الوطأ .
1798 وعن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية ، رضي اللَّه عنهم ، في النعامة بدنة .
1799 وعن عمر رضي اللَّه عنه أنه حكم في حمار الوحش ببقرة .
1800 وعن ابن عباس ، وأبي عبيدة رضي اللَّه عنهما ، أنهما حكما فيه ببدنة ، لا يقال : الحكم بذلك لأنه وافق القيمة ، لأنا نقول : الرسول قد حكم حكماً عاماً ، وكذلك الصحابة ، وعمر وعبد الرحمن رضي اللَّه عنهم لم يحضرا الظبي ، ولا سألا عن صفته ، ووجوب القيمة متوقف على ذلك ، أما وجوب النظير في الصورة تقريباً فلا يتوقف على ذلك . انتهى .
والمرجع في النظير إلى ما حكم به النبي أو أصحابه ، فإن لم يكن فقول عدلين من أهل الخبرة وإن كانا قتلاً ، وبيان تفاصيل ذلك له موضع آخر .
وقول الخرقي : إن كان المقتول دابة . يحترز عما إذا كان طائراً كما سيأتي ، فأطلق الدابة على ما في البر من الحيوان ، وهو عزيز إذ الدابة في الأصل لكل ما دب ، ثم في العرف للخيل والبغال والحمير ، وكأنه رحمه اللَّه نظر إلى قوله سبحانه : 19 ( { وما من دابة في الأرض ، ولا طائر يطير بجناحيه } ) الآية واللَّه أعلم .
قال : وإن كان طائراً فداه بقيمته في موضعه ، إلا أن تكون نعامة ، فيكون فيها بدنة ، أو حمامة وما أشبهها ، فيكون في كل واحد منها شاة .
ش : هذا قسيم : إن كان المقتول دابة . وملخصه أن الطيور على أربعة أقسام
____________________
(1/575)
( أحدها ) النعامة ، وسماها طيراً لأن لها جناحين ، وفيها بدنة بلا ريب ، لقضاء الصحابة بذلك ، ولشبهها لها في الصورة ( الثاني ) الحمام ، فيجب فيه شاة .
1801 لأن عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وابن عباس ، رضي اللَّه عنهم حكموا بذلك ، ويلحق به ما أشبهه مما يعب الماء ، أي يكرعه كرعاً ككرع الشاة ، ولا يأخذه قطرة قطرة كالعصفور ونحوه ، فيجب فيه شاة ، لشبهه لها في كرع الماء ( الثالث ) ما كان أصغر [ من الحمام ] ولم يشبهها ، فتجب قيمته ، لتعذر مثله من النعم ، ( الرابع ) ما كان أكبر من الحمام كالحبارى ، والكركي ونحوهما ، ففيه وجهان ( أحدهما ) وهو اختيار ابن أبي موسى يجب شاة ، إذ وجوبها في الحمام تنبيه على وجوبها هنا .
1802 مع أن ذلك يروى عن ابن عباس وجابر رضي اللَّه عنهم ( والثاني ) وهو ظاهر كلام أبي البركات تجب القيمة ، إذ المعروف عن الصحابة القضاء في الحمام ، وإذاً لم يتحقق لهذا مثل ، فيرجع إلى قيمته كالعصافير .
وقول الخرقي : فداه بقيمته في موضعه . أي بقيمة الطائر في الموضع الذي أتلفه فيه ، كغيره في المتلفات ، واللَّه أعلم .
قال : وهو مخير إن شاء فداه بالنظير ، أو قوّم النظير بدراهم ، ونظر كم يجيء به طعاماً ، فأطعم كل مسكين مداً ، أو صام عن كل مد يوماً ، موسراً كان أو معسراً .
ش : يخير قاتل الصيد الذي له نظير بين التكفير بواحد من هذه الثلاثة المذكورة ، موسراً كان أو معسراً ، على المختار للأصحاب ، والمنصوص من الروايتين ، للآية الكريمة ، إذ أصل ( أو ) التخيير . قتل أحمد رحمه اللَّه : هو على ما في القرآن وكل شيء في القرآن ( أو ) فإنما هو على التخيير .
1803 وهذا اللفظ يروى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أيضاً ، ولأنها فدية وجبت بفعل محظور ، فخير فيها كفدية الأذى . ( والثانية ) لا يخير ، بل الجزاء مرتب ، فيجب المثل ، فإن لمي يقدر عليه أطعم ، فإن لم يجد صام ، لأن النبي وأصحابه حكموا بالنظير ، وظاهر حكمهم تعينه ، وإلا لذكروا قسيميه ، وبالقياس على دم المتعة ، ( وجوابه ) بأن حكمهم بالنظير لتبيينه لا لتعيينه ، والقياس فاسد ، لمخالفته النص . انتهى .
والتخيير أو الترتيب بين الثلاثة على المذهب بلا ريب ، ( وعنه ) أن ذلك بين شيئين ، وأنه لا مدخل للإطعام في جزاء الصيد ، وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام .
1804 ويحكى هذا عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، ولا عمل عليه .
إذا تقرر هذا فمن أراد إخراج النظير لزمه ذبحه ، لأن اللَّه سماه هدياً ، والهدي يجب ذبحه ، والتصدق به على مساكين الحرم ، لأن اللَّه سبحانه قال : 19 ( { هدياً بالغ الكعبة } ) ولا يختص ذبحه بأيام النحر ، بل بالحرم ، ومن أراد التقويم فإنه
____________________
(1/576)
على المشهور والصحيح من الروايتين يقوم المثل . ( والرواية الثانية ) يقوم الصيد ، وأيما قوم فإنه يشتري بالقيمة طعاماً ، ويطعمه المساكين ، على المذهب أيضاً من الروايتين ، والرواية الأخرى يجوز أن يتصدق بالقيمة ، حكاها ابن أبي موسى ، وإذا أطعم أطعم كل مسكين مد بر ، أو نصف صاع من غيره ، على المنصوص والمشهور كبقية الكفارات .
وظاهر كلام الخرقي الاجتزاء بمد مطلقاً ، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع ، ولا يجزىء من الطعام إلا ما يجزىء في الفطرة قاله أبو محمد هنا ، وفي فدية الأذى ، لكنه فسر ذلك بالبر ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وقد يوهمم كلام أبي البركات الاقتصار على البر والشعير والتمر ، ولأبي محمد هنا احتمال أنه يجزىء ما يسمى طعاماً ، نظراً لإطلاق الآية .
( تنبيه ) : يعتبر قيمة المثل في الحرم ، لأنه محل ذبحه ، ومن أراد الصيام فالذي قال الخرقي [ / قه ] وتبعه أبو محمد في كتابه الصغير أنه يصوم من كل مد يوماً ، وحكى ذلك في المغني رواية وحكى رواية أخرى أنه يصوم عن كل نصف صاع يوماً ، ثم حكى هو وصاحب التلخيص عن القاضي أنه حمل رواية المد على الحنطة ، ورواية نصف الصاع على التمر والشعير ، إذ الصيام مقابل بإطعام لمسكين في كفارة الظهار وغيرها ، فكذلك هنا ، والذي رأيته في روايتي القاضي أن حنبلاً وابن منصور نقلاً عنه أن يصوم عن كل نصف صاع يوماً ، وأن الأثرم نقل في فدية الأذى عن كل مد يوماً وعن كل نصف صاع تمر أو شعير يوماً ، [ قال : وهو اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، قال : ويمكن أن يحمل قوله : عن كل نصف صاع يوماً . على أن نصف الصاع من التمر والشعير لا من البر ] ، انتهى . وعلى هذا فإحدى الروايتين مطلقة ، والآخرى مقيدة ، لا أن الروايتين مطلقتان ، وإذاً يسهل الحمل ، وكذلك قطع به أبو البركات وغيره ، إلا أن عزو ذلك إلى الخرقي فيه نظر .
وما لا نظير له من الصيد يخير قاتله على المذهب بين أن يشتري بقيمته طعاماً فيطعمه المساكين ، وبين أن يصوم ، واللَّه أعلم .
قال : وكلما قتل صيداً حكم عليه .
ش : يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني والثالث ، كما يجب بالأول ، ولا يتداخل ، على المختار ، والمشهور من الروايات لأنه بدل متلف ، يجب فيه المثل أو القيمة ، فلم يتداخل ، كبدل مال الآدمي ، قال أحمد : روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ فيمن قتل ، ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أو لا ( والثانية ) : إن كفر عن الأول فللثاني كفارة ، وإلا يتداخلا ، لأنها كفارة تجب لفعل محظور في الإحرام ، فتداخل جزاؤها قبل التكفير ، كاللبس ، والطيب ( ويجاب ) بأن هذا بدل متلف ، فلم يتداخل ، بخلاف ثم فإنه لمحض [ المخالفة فهو ] كالحدود . ( والثالثة ) لا يجب إلا جزاء الأول
____________________
(1/577)
فقط ، تمسكاً بظاهر قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم اللَّه منه } . [ ويجاب ] بأن الانتقام لأجل المخالفة ، وانتهاك محارم الرب سبحانه ، وذلك لا يمنع وجوب البدل ، ويرشح هذا أن قوله سبحانه 19 ( { وهو قتله منكم متعمداً } ) أي واللَّه أعلم قاصداً للفعل ، غير عالم بالتحريم ، وهذا هو الخاطىء ، ثم قوله بعد { ومن عاد } أي إلى القتل ، بعد أن علم النهي ، فإن اللَّه تعالى ينتقم منه لمخالفته ، والجزاء على ما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : ولو اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد .
ش : هذا المختار من الروايات ، اختاره ابن أبي موسى وابن حامد ، والقاضي ، وأبو الخطاب ، وأبو محمد وغيرهم ، لظاهر قوله سبحانه : { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم } أي : فالواجب مثل [ ما قتل ] من النعم . أو : فعلى القاتل مثله . وهذا يشمل الواحد والجماعة ، ويمنع من إيجاب زائد على ذلك ، ولأنه بدل متلف ، فلم يجب فيه إلا جزاء واحد ، كبدل مال الآدمي ، ( والثانية ) على كل واحد جزاء ، اختاره أبو بكر ، نظراً لوجود المخالفة من كل واحد منهم ، وزجراً له عن فعله ، ( والثالثة ) إن كفروا بالمال فكالأول ، لأنه إذاً تمحضت بدليته ، وإن كفروا بالصيام فعل كل واحد كفارة ، لأنها إذاً تتمحض كفارة ، وهي كفارة قتل ، فأشبهت قتل الآدمي على المذهب .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) هذه المسألة فيما إذا [ كان ] كل منهم صالحاً لترتب الجزاء عليه ، كما لو كانوا محرمين ، أما لو لم يكن كذلك كما إذا كان أحدهم حلالاً فإنه لا شيء عليه ، ثم إن سبق الحلال بالجرح فعلى المحرم جزاؤه مجروحاً ، وإن سبق المحرم ضمن أرش الجرح فقط ، وإن وجدت الجراحات معاً فهل على المحرم بقسطه كما لو كان المشارك له مثله ، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه ، أو يكمل الجزاء عليه ، لتعذر إيجاب الجزاء على شريكه ؟ فيه وجهان ، هذا تفصيل أبي محمد ، وفيه بحث .
( والثاني ) : قال القاضي و أبو الخطاب : إن المنصوص في الصوم أن على كل واحد كفارة ، وأن ابن حامد قال بالاشتراك ، كما لو كان التكفير بغيره ، واللَّه أعلم .
قال : وم لم يقف بعرفة حتى يطلع الفجر من يوم النحر تحلل بعمرة .
ش : من فاته الوقوف بعرفة فهل يجب عليه أن يمضي في حج فاسد ويقضي ، لأنه بالإحرام لزمه إتمامه ، وتعذر الإتيان بالبعض لا يمنع الإتيان بما بقي ، أولا يجب عليه ، بل يتحلل منه لقضاء الصحابة رضي اللَّه عنهم بذلك .
1805 فعن سليمان بن يسار أن أبا أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه خرج حاجاً ، حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة أضل رواحله ، وإنه قدم على عمر رضي اللَّه عنه يوم النحر ، فذكر ذلك له ، فقال عمر رضي اللَّه عنه : اصنع ما يصنع المعتمر ، ثم قد
____________________
(1/578)
حللت ، فإذا أدركك الحج قابلاً فاحجج ، واهد ما استيسر من الهدي .
1806 وعنه أيضاً قال : إن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه ينحر هديه ، فقال : يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة ، كنا نرى أن هذا اليوم يوم عرفة . فقال عمر رضي اللَّه عنه : اذهب إلى مكة وطف أنت ومن معك ، وانحروا هدياً إن كان معكم ، ثم احلقوا أو قصروا ، وارجعوا ، فإذا كان عاماً قابلاً فحجوا وأهدوا ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع . رواهما مالك في الموطأ .
1807 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنه نحو ذلك .
1808 وعن عطاء أن النبي قال : ( من لم يدرك الحج فعليه الهدي ، وحج من قابل ، وليجعلها عمرة ) رواه ابن أبي شيبة وغيره ، لكنه مرسل ، قيل : وضعيف ؟ على روايتين المذهب منهما بلا ريب الثاني ، وعليه : المذهب أيضاً المنصوص أنه يتحلل بعمرة ، اختاره الخرقي ، وأبو بكر ، والقاضي وأصحابه ، والشيخان ، فيطوف ويسعى ، ويحلق أو يقصر ، ثم قد حل ، وهذا ظاهر ما تقدم عن عمر وابنه رضي اللَّه عنهما .
1809 ويروى أيضاً عن ابن عباس ، وابن الزبير رضي اللَّه عنهما .
( وعن أحمد رواية أخرى ) حكاها أبو الحسين ، وأبو الخطاب ، وهو قول ابن حامد : إحرامه بحاله ، ويتحلل منه بطواف وسعي ، إذ هذا مقتضى الإحرام المطلق ، فعلى الأولى صرح أبو الخطاب ، وصاحب التلخيص وغيرهما أن إحرامه ينقلب بمجرد الفوات إلى عمرة ، ولفظ أبي محمد في المغني : يجعل إحرامه بعمرة ، ولا فرق بين الفوات لعذر من مرض ، أو ضياع نفقة ، أو غلط عدد ونحو ذلك أو لغير عذر من توان ، أو نوم ، أو تتشاغل بما لا يغني ، إلا في المأثم ، قال ذلك صاحب التلخيص وغيره .
وقد استفيد من كلام الخرقي أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر ، ولا نزاع في ذلك ، وحديث عروة بن مضرس وقد تقدم يدل على ذلك ، وكذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر ( الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك ) .
واختلف في أول الوقت ، فالمذهب عندنا أنه من طلوع الفجر يوم عرفة ، لحديث عروة بن مضرس ( وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ) الحديث ، واختار أبو عبد اللَّه بن بطة ، وأبو حفص العكبريان بأن أوله زوال الشمس ، لأن النبي وقف حينئذ .
____________________
(1/579)
قال : وذبح إن كان معه هدي .
ش : يعني إذا فاته الحج ، وتحلل بعمرة ، فإن كان معه هدي ساقه فإنه يذبحه ، كما لو أحرم بعمرة ابتداء ، وساق هدياً ، قال ابن أبي موسى وصاحب التلخيص : ولا يجزئه عن دم الفوات . وأطلقا ، وقال أبو محمد في المغني : لا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء ، والذي يظهر النظر في هذا الهدي ، فإن كان واجباً فإنه ليس له صرف هذا الوجوب إلى وجوب آخر ، وذبحه عن دم الفوات ، وإن قلنا : لا قضاء عليه وإن كان تطوعاً ، فهذا باق على ملكه ، فله أن يذبحه عن الفوات إن قيل بعدم القضاء ، واللَّه أعلم .
قال : وحج من قابل وأتى بدم .
ش : يعني يلزم من فاته الحج القضاء على الفور ، والهدي ، وهذا إحدى الروايات ، وأصحها عند الأصحاب ، لما تقدم من قضاء الصحابة رضي اللَّه عنهم ، ومن حديث عطاء ( والثانية ) نقلها الميموني : يلزمه القضاء ، ولا يلزمه الهدي ، وإلا لزم المحصر هديان ، هدي للإحصار ، وهدي للفوات ، ولا يلزمه إلا هدي واحد ، ( والثالثة ) نقلها أبو طالب : يلزمه الهدي لما تقدم ، ولا يلزمه القضاء حذاراً من وجوب الحج على إنسان مرتين ، والنص قد شهد بمرة ، فعلى هذا يذبح الهدي في عامه ، وعلى الأول يذبحه في حجة القضاء .
ومحل الخلاف في القضاء فيما إذا كان الذي فاته تطوعاً ، أما إن كان واجباً بأصل الشرع أو بغيره ، فإنه يفعله ولا بد بالوجوب السابق .
( تنبيه ) : قال أبو محمد : إذا اختار من فاته الحج البقاء على إحرامه ليحج من قابل فله ذلك ، لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه كالعمرة ، قال : ويحتمل أنه ليس له ذلك ، لظاهر قول الصحابة رضي اللَّه عنهم ، ولأن إحرام الحج يصير في غير أشهره . انتهى ، وهذا ظاهر في أن الإحرام لا ينقلب بمجرد الفوات بعمرة ، وقد صرح أبو الخطاب بأن فائدة الخلاف أنه إذا قيل بالانقلاب له أن يدخل عليه الحج ، وإذا قيل بعدم الانقلاب [ كما يقوله ابن حامد ] لا يدخل عليه الحج ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان عبداً لم يكن له أن يبح .
ش : العبد لا يلزمه هدي ، لأنه في حكم المعسر ، إذ لا مال له ، بل هو أسوأ حالاً منه ، لأنه لا يملك ، ولو ملك على ما عليه الفتيا ، ولهذا قال الخرقي : إنه ليس له الذبح مطلقاً ، بناء على قاعدته ، من أنه لا يملك ، والتكفير إنما يكون بما يملكه ، إذ ذلك محنة ، ولا محنة بما لا يملك ، أما على الرواية الأخرى التي نقول فيها : إنه يملك ، فمتى ملكه سيده مالاً ، وأذن له في التكفير فله ذلك ، لوجود المقتضي وانتفاء
____________________
(1/580)
المانع ، هذا هو الجادة عند القاضي ومن بعده ، وذهب كثير من متقدمي الأصحاب أن له التكفير بإذن سيده وإن لم نقل بملكه ، بناء على أحد القولين من أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر عنه ، أو أنه يثبت له ملك خاص [ بقدر ما يكفر ] كما نقوله في التسري ، على ما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى .
وحيث جاز له التكفير . بإذن السيد فهل يلزمه ذلك ؟ قال القاضي ، وابن عقيل وتبعه أبو محمد هنا باللزوم ، لأنه واجب ، فيدخل تحت قوله تعالى : { فما استيسر من الهدي } لا تحت قوله تعالى : { فمن لم يجد } وقال أبو محمد في الكفارات على كلتي الروايتين : لا يلزمه التكفير ، وإن أذن له سيده ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى الكلام على ذلك بما هو أبسط من هذا .
( تنبيه ) : الحكم في كل دم لزم العبد في الإحرام حكم ما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : وكان عليه أن يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً .
ش : إذا انتفى الهدي في حق العبد انتفى الإطعام أيضاً ، إذ المعنى فيهما واحد ، وإذاً يتعين في حقه الصوم ، ويصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوماً ، جرياً على قاعدة الخرقي من أن اليوم يقابل المد ، وقد تقدم أن المذهب أنه يقابل المد من البر ، أما من غيره فنصف الصاع ، وقال أبو محمد : الأولى أن يكون الواجب هنا من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة ، اقتداء بقول عمر رضي اللَّه عنه المتقدم لهبار ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يقصر ويحل .
ش : هذا تنبيه على أن العبد لا يحلق ، لا هنا ولا في موضع آخر ، لأن الشعر ملك للسيد ، ويزيد في قيمته ، ولم يتعين زواله ، فلم يكن له ذلك كغير حال الإحرام ، نعم إن أذن له سيده جاز ، إذ الحق له ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا أحرمت المرأة بواجب لم يكن لزوجها منعها .
ش : إذا أحرمت المرأة بحج أو عمرة فلا يخلو إما أن يكون بإذن زوجها أو بغير إذنه .
فإن كان بإذنه لم يملك تحليلها بلا ريب ، وإن كان ما أذن فيه تطوعاً ، لأنه قد أسقط حقه فيما يلزمها المضي فيه ، وهذه الصورة ترد على عموم مفهوم [ كلام ] الخرقي ، إذ مفهومه أن له منعها في التطوع مطلقاً .
وإن كان إحرامها بغير إذنه فلا يخلو إما إن يكون بواجب أو بتطوع .
فإن كان بواجب فلا يخلو إما أن يكون وجوبه بأصل الشرع ، أو بإيجابها على نفسها .
فإن كان بأصل الشرع لم يملك منعها على المذهب ، كما لو صلت الفريضة في
____________________
(1/581)
أول وقتها ونحو ذلك . قال في التلخيص : وقيل في ذلك روايتان ، [ ولا فرق ] بين أن تكمل شروط الحج في حقها أولاً ، كما إذا لم تجد الاستطاعة أو المحرم ، على ظاهر إطلاق الأصحاب ، وصرح به أبو محمد في شرط الاستطاعة وله فيه احتمال . أن له منعها .
وإن كان بإيجابها على نفسها فروايتان ، ذكرهما القاضي ، وصاحب التلخيص ، والمنصوص منهما أنه ليس له ذلك ، قال في رواية ابن إبراهيم في المرأة تحلف بالحج والصوم ، ويريد زوجها منعها ، فقال : ليس في ذلك ، قد ابتليت ، وابتلي زوجها . قال القاضي : حلفت : أي نذرت . ( الثانية ) خرجها القاضي من إحدى الروايتين في أن للسيد تحليل عبده ، والفرق أن النذر من جهتها ، أشبه التطوع .
والمذهب الأول ، وبه قطع الشيخان ، إذ بعد الإيجاب تحتم عليها الفعل ، فهو كالواجب الأصلي . ولهذا المعنى قال القاضي : لا يمتنع أن نقول : إذا نذرت أن تحج متى شاءت : أن له تحليلها . انتهى .
وإن كان الإحرام بتطوع فروايتان : ( إحداهما ) : وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن حامد وأبي محمد له منعها ، حذاراً من أن تتسبب في إسقاط واجب عليها ، وهو حق الزوج ، [ بما ليس بواجب ] ، لا يقال : بعد الإحرام قد صار واجباً ، فلا فرق ، لأنا نقول : وجوب حق الزوج مقدم ، فاقتضى تقديمه . ( والثانية ) وهي أصرحهما ليس له منعها ، اختارها أبو بكر في الخلاف ، والقاضي ، وقال : تأملت كلام أحمد فوجدت أكثره يدل على ذلك ، لأنها عبادة تلزم بالدخول فيها ، فإذا عقدها بغير إذن سيده لم يملك فسخها أصله الإيمان ولعموم ( ولا تبطلوا أعمالكم )9 ( { وأتموا الحج والعمر للَّه } ) انتهى . ولا نزاع عندهم فيما علمت أن إحرامها ينعقد بدون إذنه ، لأن الحج عبادة محضة أشبه الصلاة والصوم .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) معنى منعها أنه يأمرها بالتحلل ، فتصير كالمحصر على ما تقدم ، فإن أبت أن تتحلل فله مباشرتها والإثم عليها ، قاله صاحب التلخيص .
( الثاني ) : إذا لم تحرم فله منعها من حج التطوع بلا نزاع ، وكذلك من حج الفرض إذا لم تكمل الشروط ، قاله أبو محمد [ ومع استكمالها ليس له منعها من الواحب بأصل الشرع . وفي المنذور روايتان ] وهذا أيضاً وارد على عموم مفهوم كلام الخرقي ، إذ مفهومه أنها إذا لم تحرم فله منعها مطلقاً ، واللَّه أعلم .
قال : ومن ساق هدياً واجباً فعطب دون محله صنع به ما شاء .
ش : سوق الهدي يقع على ضربين : واجب وتطوع ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، والواجب على ضربين أيضاً : ( أحدهما ) : واجب عيّنه عما في ذمته ، من هدي متعة ، أو قران ، أو نذر ، أو غير ذلك ، وهذا مراد الخرقي ، فهذا إذا عطب دون ملحه الذي هو
____________________
(1/582)
الحرم فهل له استرجاعه ، فيصنع به ما شاء ، من أكل وبيع ونحو ذلك ، أم لا ؟ فيه روايتان : ( إحداهما ) وهو اختيار الخرقي ، وابن أبي موسى : له ذلك ، لأنه إنما أوجبه عما في ذمته ، ولم يقع عنه ، فيكون له العود فيه ، كمن أخرج زكاة ماله الغائب ، فبان أنه كان تالفاً .
1810 وقد روى سعيد : حدثنا سفيان ، عن عبد الكريم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : إذا أهديت هدياً تطوعاً فعطب فانحره ، ثم اغمس النعل في دمه ، ثم اضرب بها صفحته ، فإن أكلت أو أمرت به غرمت ، وإذا أهديت هدياً واجباً فعطب فانحره ، ثم كله إن شئت ، وأهده إن شئت ، وبعه إن شئت ، وتقوّ به في هدي آخر . ( والثانية ) : ليس له ذلك ، لأن حق الفقراء قد تعلق به ، أشبه ما لو عينه ابتداء بنذره .
( الثاني ) : من ضربي الواجب عيّنه ابتداء لا عما في ذمته ، كأن قال : هذا للَّه . ونحو ذلك ، فهذا إذا عطب لا يرجع فيه بلا ريب ، لأنه قد صار للَّه تعالى ، أشبه الدراهم ونحوها .
1811 ولدخوله تحت قول النبي لعمر رضي اللَّه عنه ( لا تعد في صدقتك ) الحديث ، ويصنع به ما يصنع بهدي التطوع على ما سيأتي .
( تنبيه ) : تعيين الهدي لا يحصل إلا بالقول ، بأن يقول : هذا هدي ، أو نحو ذلك ، من ألفاظ النذر ، على المذهب المعروف المشهور ، ولأبي الخطاب احتمال بالاكتفاء بالنية ، وتوسط أبو محمد فضم مع النية التقليد أو الإشعار ، وحكاه مذهباً ، ولا يتابع على ذلك ، وقد يشهد لقوله صحة الوقف بالفعل ، كما إذا بنى بيته مسجداً ، أو جعل أرضه مقبرة ونحو ذلك ، لكن ثم لا بد من قوله وهو أن يأذن للناس في الصلاة في المسجد ، أو الدفن في المقبرة ، واللَّه أعلم .
قال : وعليه مكانه .
ش : إذا عين واجباً عما في ذمته ، فعطب دون محله ، فإن عليه مكانه ، إذ ما في ذمته لا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه ، أشبه ما إذا أخرج الدراهم ليدفعها عن دينه ، فتلفت قبل الأداء .
1812 وقد روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي قال : ( من أهدى تطوعاً ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء ، وإن كانت نذراً فعليه البدل ) وفي رواية ( ثم عطبت ) رواه الدارقطني لكنه ضعيف وقد رواه مالك في الموطأ من قول ابن
____________________
(1/583)
عمر رضي اللَّه عنهما نفسه .
وقد يقال : مفهوم كلام الخرقي أن ما عطب في محله لا يرجع فيه ، أو ليس عليه بدله ، وليس كذلك ، فلا فرق بين أن يعطب في محله أو دونه ، في أنه إن كان عن واجب في الذمة فلا بد من نحره صحيحاً ، وإن كان معيناً ابتداء نحره مطلقاً ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان ساقه تطوعاً فعطب دون محله ] نحره موضعه ، وخلى بينه وبين المساكين ، ولم يأكل منه ، ولا أحد من أهل رفقته .
ش : إذا ساق هدياً يقصد به التقرب إلى اللَّه سبحانه ، لا عن واجب في ذمته ، أو عن واجب لم يعينه عنه كما تقدم ، فإنه إذا عطب دون محله فإنه ينحره في موضعه ، ويخلي بينه وبين [ المساكين ] ولا يأكل منه ، ولا أحد من رفقته .
1813 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن ذؤيباً أبا قبيصة حدثه أن رسول اللَّه كان يبعث معه بالبدن ، ثم يقول : ( إن عطب منها شيء ، فخشيت عليها موتاً ، فانحرها ، ثم اغمس نعلها في دمها ، ثم اضرب بها صفحتها ، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ) رواه مسلم وغيره .
1814 وبهذا يتقيد حديث ناجية الخزاعي قال قلت : يا رسول اللَّه كيف أصنع بما عطب من الهدي ، قال : ( انحرها ، ثم اغمس نعلها في دمها ، ثم خل بينها وبين الناس فيأكلونها ) رواه الترمذي وأبو داود . والمعنى واللَّه أعلم في منع رفقته ونفسه من الأكل ليبالغ في حفظها ، لأنه إذا علم أنها إذا عطبت لا يحصل له منها نفع البتة بالغ في حفظها . وحكم الواجب المعين حكم التطوع ، إلا أن بينهما فرقاً ، وهو أن الواجب المعين لا بد من نحره مع عطبه ، فلا طريق له في رجوعه إلى ملكه ، وفي التطوع وما نواه عن الواجب ولم يعينه ، له أن يفسخ نيته فيه ، فيرجع إلى ملكه ، يصنع به ما يشاء ، واللَّه أعلم .
قال : ولا بدل عليه .
ش : إذا لم يلتزم شيئاً في ذمته لم يلزمه بدله ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع .
ش : [ وكذلك القران ] وكأن الخرقي رحمه اللَّه استغنى بذكر التمتع عن القران لأنه نوع تمتع ، لترفهه بأحد السفرين ، وبالجملة لا نزاع في المذهب فيما علمت أنه لا يأكل من جزاء الصيد ، لتمحض بدليته ، ولا من المنذور لتعيينه للَّه ، نعم أجاز أبو بكر
____________________
(1/584)
ومال إليه أبو محمد الأكل من أضحية النذر ، ولا نزاع أنه يأكل من هدي المتعة ، وكذلك القران على المذهب ، وقد تقدم أن عائشة رضي اللَّه عنها كانت قارنة ، وبقية نسائه كن متمتعات .
1815 لأن في حديث عائشة الطويل قالت : فأمرني رسول اللَّه فأفضت ، قالت : فأتينا بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : أهدى النبي عن نسائه بالبقر .
1816 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن . رواه أبو داود .
وقد يقال : إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يأكل [ منه ، وهل يأكل ] مما عدا ذلك ، نظراً للإباحة الأصلية ، ولا نص مانع ، أو لا يأكل ، وهو الأشهر ، لأنه وجب بفعل محظور ، أشبه جزاء الصيد ؟ فيه روايتان ، وألحق ابن أبي موسى الكفارة بجزاء الصيد والنذر ، وجوّز الأكل مما عدا ذلك ، ويتركب من مجموع الأقوال ما عدا جزاء الصيد والنذر ، وهدي المتعة أربعة أقوال ، الجواز ، وعدمه ، والجواز إلا في دم الكفارة ، وعدمه إلا في دم القران .
( تنبيه ) : مفهوم كلام الخرقي أنه يأكل من التطوع ، وهو كذلك ، بل يستحب ، قال سبحانه : 19 ( { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } ) وفي حديث جابر رضي اللَّه عنه المتقدم : ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها . وهدي التطوع ما ساقه تطوعاً ، وكذلك ما أوجبه ابتداء ، قاله أبو محمد .
قال : وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم ، إن قدر على إيصاله إليهم ، إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه .
ش : جميع الهدايا ما عدى جزاء الصيد ، ودم الإحصار ، وما وجب بفعل محظور محلها الحرم ، لقوله سبحانه : 19 ( { ثم محلها إلى البيت العتيق } ) وكذلك جزاء الصيد ، على المذهب بلا ريب ، لقوله سبحانه : 19 ( { هدياً بالغ الكعبة } ) ( وعنه ) يفدي حيث القتل كبقية المحظورات ، وعلى المذهب إن اضطر إليه فهل يأتي بالجزاء موضع اضطراره أو يختص بالحرم ؟ فيه وجهان .
وأما دم الإحصار ففيه روايتان أيضاً وقد تقدمتا ، والمذهب منهما عكس المذهب في الصيد .
وأما ما وجب بفعل محظور كفدية حلق الرأس ، واللبس ، ونحوهما فعنه يختص بالحرم ، لظاهر { ثم محلها إلى البيت العتيق } وعنه : ينحر حيث فعل .
____________________
(1/585)
1817 لما تقدم من حديث كعب رضي اللَّه عنه ، فإن النبي أمره بالفدية وهو بالحديبية ، ولم يأمره ببعثها إلى الحرم . وفي رواية أنه قال : فحلقت رأسي ثم نسكت . وقال القاضي ، و ابن عقيل ، و أبو البركات : ما فعله لعذر ينحر هديه [ حيث استباح ] ، وما فعله لغير عذر اختص بالحرم .
والخرقي رحمه اللَّه إنما نص على الحلق مع العذر فقط ، فيحتمل أن يختص الجواز به ، دون غيره من المحظورات ، لأن النص ورد به ، فيخرج من عموم ( ثم محلها ) ويبقى فيما عداه على قضية العموم ، والقاضي ومن وافقه يقيسون على الصورة ما في معناها ، وهو أوجه ، إذ المذهب تخصيص العموم بالقياس ، [ والطعام تبع للنحر ففي أي موضع قبل النحر فالطعام كذلك ] .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : إنما يجب النحر في الحرم إذا قدر على إيصال الهدي إليه ، إما بنفسه ، أو بمن يرسله معه ، فإن عجز مطلقاً نحر حيث كان ، كما دل عليه كلام الخرقي ، لأنه فعل ما استطاع ، فلا يكلف زيادة عليه ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وخرج ابن عقيل رواية وصححها فيمن حصر عن الخروج لذبح الهدي المنذور ، أنه يذبحه في موضع حصره ، ولا يلزمه تنفيذه ، كدم الإحصار على المذهب . ( الثاني ) : حيث قيل : النحر في الحرم ، فإنه لا يجوز في الحل ، لكنه لا يختص بمحل من الحرم ، بل في أي موضع نحر من الحرم أجزأه ، وحيث قيل : النحر في الحل فذلك على سبيل الجواز ، على مقتضى كلام الشيخين ، وظاهر كلام الخرقي ، وصاحب التلخيص وطائفة الوجوب ، ويحتمله كلام أحمد : وما كان من فدية حلق الرأس فحيث حلقه . ( الثالث ) : مساكين الحرم من كان فيه ، من أهله أو وارد إليه ، من الحاج وغيرهم ، وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم ، واللَّه أعلم .
قال : وأما الصيام فيجزئه بكل مكان .
ش : لا نزاع في ذلك .
1818 وعن ابن عباس : الهدي والطعام بمكة ، والصوم حيث شاء . والمعنى فيه واللَّه أعلم أن نفعه لا يتعدى إلى أحد ، فلم يتخصص بمكان ، بخلاف الهدي والإطعام ، واللَّه أعلم .
قال : ومن وجبت عليه بدنة فذبح سبعاً من الغنم أجزأه .
ش : تجزيء السبع من الغنم عند عدم البدنة بلا نزاع .
1819 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي أتاه رجل فقال : إن علي بدنة وأنا موسر لها ، ولا أجدها فأشتريها ؟ فأمره النبي أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن . رواه أحمد وابن ماجه .
____________________
(1/586)
وأما مع وجودها فقولان : ( أحدهما ) : واختاره ابن عقيل ، وزعم أنه ظاهر كلام أحمد : لا يجزئه لأنها بدل ، والبدل لا يجزىء مع وجود المبدل ، ولذلك جوزها الشارع عند العدم . ( والثاني ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد : يجزئه ، لأن الشاة معدولة بسبع بدنة .
1820 بدليل أن النبي أمر السبعة بالإشتراك في البدنة فالسبع شياه يعدلن البدنة شياه يعدلن البدنة ، وما أجزأ فيه أحد المثلين أجزأ فيه المثل الآخر ، والسؤال وقع عن حال العدم ، فأجاب بالجواز ، ولا مفهوم له اتفاقاً ، ولا نسلم أن أحدهما بدل عن الآخر .
وعكس هذا من وجب عليه سبع من الغنم تجزئه البدنة إن كان في غير جزاء الصيد ، لما تقدم من أنهما مثلان ، أما في جزاء الصيد فلا ، لأن معتمده التقويم ، واللَّه أعلم .
قال : وما لزم من الدماء فلا يجزيء فيه إلا الجذع من الضأن ، والثني من غيره ، واللَّه أعلم .
ش : لأنه دم مشروع إراقته ، فلا يجزيء فيه إلا ما يجزيء في الأضحية ، والجامع مشروعية الإراقة ، ودليل الأَصل يأتي إن شاء اللَّه تعالى ، وبيان الجذع من الضأن ، والثني من المعز قد تقدم في الزكاة ، والثني من البقر ما كمل سنتين ، ومن الإبل ما كمل خمساً ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/587)
( ( كتاب البيوع ) )
ش : البيوع جمع بيع ، مصدر : باع يبيع . بمعنى ملك ، وبمعنى اشترى ، وكذلك شرى يكون بالمعنيين ، وعن أبي عبيدة وغيره : أباع بمعنى باع ، وهو ( في اللغة ) قيل : أن يدفع عوضاً ويأخذ معوضاً منه . وقال أبو عبد اللَّه السامري : إنه الإيجاب والقبول إذا تناول علنين ، أو عيناً بثمن . ( وفي الشرع ) قال القاضي و ابن الزاغوني وغيرهما : إنه عبارة عن الإيجاب والقبول ، إذا تضمن عينين للتمليك ، وأبدل السامري : عينين . بمالين ، ليحترز عما ليس بمال ، فلا يطرد لدخول الربا ، وقد يدخل القرض على الثاني ، فلا ينعكس ، لخروج بيع المعاطاة ، على رواية مختارة ، وخروج المنافع كممر الدار ونحوه ، والبيع في الذمة وقال أبو محمد : مبادلة المال بالمال لغرض التمليك ، فدخلت المعاطاة ، وقد يدخل القرض ، إلا أنه وإن قصد فيه التملك لكن المقصود الأعظم فيه الإرفاق ، لكنه يدخل عليه الربا .
وحده بعض المتأخرين بأنه : تمليك عين مالية ، أو منفعة مباحة ، وعلى التأبيد ، بعوض مالي على التأبيد ، ويدخل عليه أيضاً القرض والربا ، وبالجملة الحدود قل ما يسلم منها ، انتهى .
واشتقاقه قال أبو محمد وكثير من الفقهاء : إنه مشتق من الباع ، لأن كل واحد منهما يمد باعه للأخذ . ورد ( من جهة الصناعة ) بأنه مصدر ، والمصدر على رأي البصريين منبع الاشتقاق ، فهو مشتق منه ، لا أنه مشتق ، فإن أجيب بالتزام مذهب الكوفيين بأن الأصل والاشتقاق للفعل رد بأنه الفعل الذي منه المصدر ، لا فعل مقدر آخر ، لأن الباع عينه واو ، إذ هو من : بوع . والبيع عينه ياء ، من : بيع . وشرط الاشتقاق موافقة الأصل والفرع في الحروف الأصول ، وقد يجاب عن هذا وعن كثير من اشتقاقات الفقهاء بأن هذا من الاشتقاق الأكبر ، الذي يلحظ فيه المعنى ، دون الموافقة في الحروف ، ولا ريب أن بين البيع والباع مناسبة ما كما تقدم ، على أن بعض البيانيين لم يشترط الموافقة على المعنى [ أيضاً ] فقال في قوله تعالى : 19 ( { إن لعملكم من القالين } ) : إنه من الاشتقاق الكبير ، المشبه للاشتقاق الصغير ، مع أن : قال . من
____________________
(2/3)
القول ، ( والقالين ) من القلي وهو البغض فالحروف لم تتفق ، والمعنى لم يتحد .
( ومن جهة المعنى ) بالبيع في الذمة ونحوه ، لانتفاء مد الباع فيه .
وقيل : إنه مشتق من البيعة ، وفيه نظر ، إذ المصدر لا يشتق من المصدر ، ثم معنى البيع غير معنى المبايعة . انتهى .
وهو مما علم جوازه من دين اللَّه سبحانه بالضرورة ، وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك ، قال سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ) وقال تعالى : 19 ( { وأحل اللَّه البيع } ) إن قيل : إن الألف واللام فيه للاستغراق أو للعهد ، بناء على أنه منقول شرعي ، أما إن قيل : إنه مجمل . فلا ، وأما السنة فما لا يحصى كثرة ، وسيأتي جملة منه إن شاء اللَّه ، وأما الإجماع فبنقل الأثبات ، ثم الحكمة تقتضيه ، إذ الإنسان قد يحتاج إلى ما في يد صاحبه من مأكول ، وملبوس ، وغير ذلك ، وليس كل أحد يسمح أن يبذل ماله مجاناً ، فاقتضت الحكمة جواز ذلك ، تحصيلاً للمصلحة من الطرفين .
واعلم أن ماهية البيع مركبة من ثلاثة أشياء ، عاقد ، ومعقود عليه ، ومعقود به ( أما العاقد ) فيشترط له أهلية التصرف ، وهو أن يكون بالغاً ، عاقلاً ، مأذوناً له ، مختاراً ، غير محجور عليه ، ( وأما المعقود به ) فهو كل ما دل على الرضا ، ولا يتعين : بعت واشتريت . على أشهر الروايتين ، وهل يتعين [ اللفظ ] فلا يصح بيع المعاطاة ، أو لا يتعين ، فيصح ، أو يتعين فيما له خطر دون المحقرات ؟ على ثلاثة أقوال ، وفصل الخطاب في ذلك أن قوله سبحانه : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } هل المعتبر حقيقة الرضى ، فلا بد من صريح القول ، أو ما يدل عليه ، فيكتفي بما يدل على ذلك ؟ فيه قولان للعلماء .
ثم رتبة الإيجاب التقدم ، ورتبة القبول التعاقب له ، فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الطلب نحو : بعني . فروايتان منصوصتان ، وخرجهما أبو الخطاب وجماعة فيما إذا تقدم بلفظ لماضي ، نحو : ابتعت منك . وظاهر كلام أبي محمد في الكافي منع ذلك ، والجزم بالصحة ، أما الاستفهام نحو : أتبيعني ؟ فليس بقبول ، وإذاً لا مدخل له في التقسيم ، وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في مجلس العقد ، ولم يتشاغلا بما يقطعه .
وأما المعقود [ عليه ] فيشترط له شروط ، ( أحدها ) كونه مما فيه منفعة مباحة لغير حاجة ( الثاني ) كونه مأذوناً للعاقد في بيعه ، بملك أو إذن ( الثالث ) كونه معلوماً للمتعاقدين برؤية حال العقد بلا ريب ، وكذلك على المذهب بصفة ضابطة لما يختلف به الثمن غالباً ، أو برؤية متقدمة بشرط عدم تغير المبيع غالباً ( الرابع ) كونه مقدوراً على
____________________
(2/4)
تسليمه ، ثم مع ذلك لا بد من انتفاء مانعه ، وهو مقارنة نهي من الشارع ، وتحقيق ذلك يحتاج إلى بسط طويل ، لا يليق بهذا الكتاب واللَّه أعلم .
قال :
( باب خيار المتبايعين )
ش : الخيار اسم مصدر من : اختار يختار اختياراً . وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه ، واللَّه أعلم .
قال : والمتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما .
1821 ش : الأصل في ذلك ما روى عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما عن رسول اللَّه قال : ( إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا ، وكانا جميعاً ، أو يخير أحدهما الآخر ، فإن تبايعا على ذلك فقد وجب البيع ، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ) متفق عليه .
1822 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي قال : ( البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا ، إلا أن تكون صفقة خيار ، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وحسنه الترمذي ، وللدارقطني فيه ( حتى يتفراق من مكانهما ) وهذا نص في أن التفرق بالأبدان لا بالأقوال ، ويقرب منه حديث ابن عمر لقوله ( وإن تفرقا بعد أن تبايعا ) وحقيقة ذلك بعد صدور البيع ، ثم يعين ذلك فعل راويه المشافه لقائله .
1823 ففي مسلم عن نافع ، أن ابن عمر رضي اللَّه عنه كان إذا بايع رجلاً فأراد أن لا يقيله مشى هنية ثم رجع ، وراوي الحديث إذا فسره بما يقتضي ظاهره أكد ذلك الظاهر ، ومنع تأويله عند العامة ، [ ثم يرجح ذلك أن البائع اسم مشتق من البيع ، وحقيقته بعد البيع ] .
واعتراض المالكي بعمل أهل المدينة مردود بمخالفة سعيد بن المسيب ، والزهري ، وابن أبي ذئب ، ولقد بالغ ابن أبي ذئب في الإنكار على من خالف الحديث .
واعترض الحنفي بكونه خبر آحاد فيما تعم به البلوى مردود باستفاضة الحديث .
1824 فقد رواه الجماعة من حديث عبد اللَّه بن عمر ، وحكيم بن حزام ، وأبو داود والترمذي والنسائ من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ، والترمذي ، وأبو داود
____________________
(2/5)
من حديث أبي هريرة ، والنسائي من حديث سمرة بن جندب ، وأبو داود من حديث أبي برزة والترمذي من حديث جابر ، ثم قد عمل الصحابة عليه ، على أنا لا نسلم الأصل ، بل نقول بخبر الواحد والحال ما تقدم .
وقول الخرقي : والمتبايعان . يدخل فيه جميع أنواع البيع ، من التولية ، والمرابحة ، والشركة ، والمواضعة ، وكذلك ( الصلح ) بمعنى البيع ، كما إذا أقر له بدين أو بعين ، ثم صالحه عنه بعوض ، ( والإجارة ) لأنها بيع منافع ، وفي الكافي وجه بالمنع إذا كانت الإجارة على مدة تلي العقد ، ويدخل أيضاً الصرف ، والسلم ، لأنهما بيع حقيقة ، وعنه : لا خيار فيهما ، وخص القاضي في روايتيه الخلاف بالصرف ، وتردد في السلم هل يلحق بالصرف أو ببقية البياعات ؟ على احتمالين ، ويدخل أيضاً ( الهبة بعوض ) ، إذ المغلب إذاٍ حكم البيع على المشهور ، والإقالة ، والقسمة ، حيث قيل : إنهما بيع ، ويدخل أيضاً ( الحوالة ) إن قيل : إنها بيع . لا إن قيل : إنها إسقاط ، أو عقد مستقل ، لوجود البيع في جميع ما تقدم .
ويستثنى من عموم كلامه إذا اشترى من يعتق عليه ، فإنه لا خيار له ، كما لو باشر عتقه ، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، وفي سقوط حق صاحبه وجهان .
ويخرج من كلامه كل ما ليس ببيع ، كالنكاح ، والخلع ، والقرض والكتابة ، وغير ذلك ، وكذلك المساقاة ، والمزارعة ، والسبق ، والشفعة ، إذا أخذ بها ، وفي الأربعة إن قيل بلزومها وجه .
وقد يخرج من كلامه ما إذا اتحد العاقد ، كما إذا اشترى لنفسه من مال ابنه الصغير ، ونحو ذلك ، إذ لا متبايعان ، وقد يدخل لأنه في حكم متبايعين ، وبالجملة في ثبوت الخيار لمن هذه حالته قولان ، المجزوم به منهما لصاحب [ التلخيص ] وابن حمدان في الصغرى ، وأورده أبو محمد مذهباً عدم الثبوت ، وعلى القول بالثبوت هل يعتبر مفارقة المجلس ، أو لا بد من اختيار اللزوم ؟ قولان أيضاً .
وقوله : ما لم يتفرقا بأبدانهما . يقتضي أن الخيار لهما ولو طال المجلس بنوم ، أو بناء حاجز ، أو مشي منهما ، ونحو ذلك ، وهو كذلك ، لظاهر الحديث .
1825 وكذا فهم أبو برزة رضي اللَّه عنه أحد رواة الحديث .
وكلامه ( شامل ) لما إذا مات أحدهما ، لعدم التفرق بالأبدان ، وهو أحد الوجهين ، ( والثاني ) وبه جزم ابن حمدان ، وصاحب التلخيص ، ويحتمله كلام الخرقي كما سيأتي أن الخيار والحال هذه يبطل ، إذ الموت أعظم الفرقتين ، ( وشامل ) أيضاً لما إذا تبايعا على أن لا خيار بينهما ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي في تعليقه ، وأبي الخطاب في خلافه الصغير ، وأبي الحسين ، وابن عقيل في الفصول ، لأن أكثر الأحاديث ( البيعان بالخيار ) من غير زيادة ، ولأنه إسقاط للحق قبل وجوبه ،
____________________
(2/6)
( والثانية ) وهي اختيار ابن أبي موسى ، والقاضي في روايتيه ، والشيرازي ، وأبي محمد يبطل الخيار والحال هذه ، لما تقدم في حديث ابن عمر ( أو يخير أحدهما الآخر ، فإن تبايعا على ذلك فقد وجب البيع ) والأخذ بالزائد أولى ، والتبايع على ذلك يمنع انعقاد السبب مؤقتاً . ( فعلى الأولى ) في فساد العقد باشتراط ذلك قولان ، أظهرهما وهو ظاهر كلام الخرقي عدم الفساد .
ومفهوم كلامه أنه متى حصل تفرقهما بطل خيارهما ، ويدخل في ذلك ما لو حصلت الفرقة بهرب ، أو من غير قصد ، أو جهلا ، أو بإكراه ، وهو كذلك ، نعم في الإكراه ( وجه آخر ) ، يحكى عن القاضي ، وأورده في التلخيص مذهباً : أن خيار المكره لا ينقطع ، وإذاً يكون له الخيار في المجلس الذي زال عنه الإكراه فيه دون صاحبه ، ( وقول ثالث ) : إن كان المكره قادراً على كلام يقطع به خياره انقطع ، وإلا فلا ، ثم إن أبا محمد في المغني خص الخلاف بما إذا أكره أحدهما ، أما إن أكرها فقال : ينقطع خيارهما ، لأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر ، فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه ، وصرح في الكافي بالخلاف في الصورتين ، [ وهو أجود ] وقد قطع ابن عقيل في الفصول ببقاء خيارهما مع إكراههما ، وجعل من صور ذلك إذا رأيا سبعاً ، أو ظالماً يؤذيهما ، أو احتملهما السيل أو أحدهما ، أو حملت الريح أحدهما ، وجعل في جميع ذلك الخيار لهما في موضع زوال المانع ، ويتلخص من ذلك على ما قطع به ابن عقيل ، وأورده في المغني مذهباً ، فيما إذا أكرها أو أحدهما ثلاثة أقوال ، يبطل الخيار في الصورتين ، لا يبطل فيهما ، يبطل فيما إذا أكرها ، ولا يبطل فيما إذا أكره أحدهما ، بل يكون الخيار له دون صاحبه .
ثم هل له الخيار مطلقاً ، أو بشرط عدم قدرته على كلام يقطع به خياره ؟ فيه قولان .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) المرجع في التفرق إلى العرف لعدم نص من الشارع ببيانه ، وقد ضبط ذلك بأنهما إن كانا في رحب واسع فبأن يمشي أحدهما مستدبراً لصاحبه خطوات ، على ما قطع به ابن عقيل ، وأورده في المغني مذهباً ، اتباعاً لفعل ابن عمر المتقدم ، وقيل وقطع به في الكافي : [ بل ] يبعد منه ، بحيث لا يسمع كلامه عادة ، وإن كانا في دار كبيرة فمن بيت إلى آخر ، أو إلى مجلس أو صفة ، بحيث يعدُّ مفارقاً له ، وفي صغيرة يصعد أحدهما سطحها ، أو يخرج منها ، وفي سفينة صغيرة يخرج أحدهما ويمشي ، وفي كبيرة يصعد أحدهما أعلاها وينزل الآخر أسفلها ، ونحو ذلك .
( الثاني ) : قول الخرقي : ما لم يتفرقا وكذلك في الحديث قال الأزهري : سئل أحمد بن يحيى ثعلب عن الفرق بين التفرق والافتراق ، فقال : أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال : يقال : فرقت بين الكلامين مخففاً فافترقا ، وفرقت بين اثنين مشدداً فتفرقا ، فجعل الافتراق في الأقوال ، والتفرق في الأبدان وهو يؤيد ما ذهبنا إليه .
وقوله في حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ( إلا أن يكون صفقة خيار ) أصل
____________________
(2/7)
الصفقة ضرب اليد [ على اليد ] في البيع ، ثم جعل عبارة عن العقد ، أي إلا أن يكون عقد خيار ، ثم يحتمل أن المراد عقد شرط فيه الخيار ، ويكون مستثنى مما بعد الغاية ، ويحتمل أنه عقد نفي فيه الخيار ، فيكون مستثنى من المنطوق ، ولعله أظهر وقول نافع : مشى هنيهة . تصغير ( هنة ) وهي كلمة يعبر بها عن كل شيء قليل ، واللَّه أعلم .
قال : فإن تلفت السلعة ، أو كان عبداً فأعتقه المشتري أو مات ، بطل الخيار .
ش : إذا تلفت السلعة في مدة الخيار بطل في إحدى الروايتين عن أحمد ، اختارها الخرقي وأبو بكر ، نظراً إلى أن التالف لا يتأتى عليه الفسخ ( والثانية ) وهي أنصهما ، واختارها الشريف ، وابن عقيل ، وحكاها في موضع من الفصول عن الأصحاب يبطل خيار المشتري ، لحصول التلف في ملكه ، ولا يبطل خيار البائع ، بل له الفسخ ، والرجوع إلى البدل ، لتعذر الرجوع في العين ، نظراً إلى أن الفسخ للعقد ، وإنما ورد على موجود ، ولعموم ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وكأن محل التردد هل النظر إلى حال العقد أو إلى الحال الراهنة ، وحكم عتق المشتري للعبد [ المبيع ] حكم تلفه ، لأنه تلف معنوي ، لانتفاء المالية منه ، ولما كان التلف المعنوي قد يتوهم أنه يخالف التلف الحسين نبه الخرقي عليه ، مع زيادة فائدة يأتي بيانها إن شاء اللَّه تعالى ، ثم لما فصل العبد من بقية السلع ، ذاكراً لحكم عتقه ، رمبا أوهم أن تلفه ليس كذلك ، فأزال ذلك الوهم فقال : أو مات . ويحتمل أن يعود الضمير لعله أظهر في : أو مات . إلى المشتري ، فيفيد أن المشتري إذا مات [ في ] مدة خيار المجلس يبطل الخيار ، لما تقدم من أن الموت أعظم الفرقتين .
والفائدة التي أشرنا إليها ثم في كلام الخرقي هي أن عتق المشتري يصح ، وهو مبني على انتقال الملك إليه بمجرد العقد ، كما هو المشهور والمختار من الروايتين ، وعلى الرواية التي تقول لا ينتقل الملك إليه إلا بانقضاء الخيار لا ينفذ عتقه ، بل عتق البائع ، إناطة بالملك .
واعلم أنه لا يصح تصرف المشتري فيما صار إليه ، ولا تصرف البائع فيما بذل له ، بشيء في مدة الخيار ، على المشهور من الروايتين ، حذاراً من إبطال حق الغير من الخيار أو التصرف في غير ملك ، ( والثانية ) يقع التصرف موقوفاً على انقضاء الخيار ، [ ولا يبطل حق من لم يتصرف من الخيار ] فإن انقضى ولا فسخ صح التصرف ، وإن فسخ من لم يتصرف ، بطل التصرف ، ويستثنى من ذلك العتق ، فإنه يصح ممن له الملك بلا نزاع نعلمه عندنا .
1826 اعتماداً على عموم مفهوم قوله : ( لا عتق لابن آدم فيما لا يملك ) [ ولبنائه على التغليب والسراية ] ولتشوف الشارع إليه ، [ ولهذا يسري في ملك
____________________
(2/8)
الغير ] وفي إلحاق الوقف به خرف ، الأصح : لا ، واستثنى أبو الخطاب في الانتصار والشيخان تصرف المشتري والخيار له وحده ، وزاد أبو البركات بتصرفه مع البائع ، ونبه بذلك على [ تصرفه بإذن البائع ، أو تصرف البائع ، بوكالة المشتري أنه يصح بطريق الأولى ، كما صرح به أبو محمد ، وله في تصرف البائع بإذن المشتري احتمالان ، ولصاحب التلخيص احتمال بعدم ] صحة تصرف المشتري ، والخيار له وحده ، وبناه على القول بأن الملك إنما يحصل له بالعقد واللزوم ، على الرواية الضعيفة ، وقد عرف من هذا أن لشيخين فرعا على الرواية المشهورة ، من حصول الملك له بالعقد ، وأن إيراد ابن حمدان المذهب بمنع التصرف مطلقاً إلا في العتق تبعاً لإطلاق بعض الأصحاب المنع ليس بشيء .
( تنبيه ) : كلام الخرقي ومن حذا حذوه واللَّه أعلم في التلف إنما هو فيما كان من ضمان المشتري ، أما ما كان من ضمان البائع فسيأتي أنه تارة ينفسخ العقد فيه بمجرد التلف ، وتارة يخير المشتري بين الفسخ والإمضاء ، ومطالبة المتلف بالبدل ، وكلامهم يشمل ما إذا كان في مدة الخيارة أو بعدها ، وقد نبه على ذلك أبو محمد ، وإن كان في كلامه تجوز ، فإنه قال : إن التلف إن كان قبل القبض وكان مكيلاً أو موزوناً انفسخ العقد ، وكان من مال البائع ، قال : ولا أعلم فيه خلافاً ، إلا أن يتلفه المشتري ، فيكون من ضمانه ، ويبطل خياره ، وفي خيار البائع روايتان ، فأطلق والحال ما تقدم أن العقد ينفسخ ، وهو ممنوع لأنه إذا أتلفه أجنبي لم ينفسخ العقد كما سيأتي ، بل يخير المشتري بين الفسخ ومطالبة متلفه ببدله ، وقد وقع لابن عقيل أيضاً نحو قوله ، واللَّه أعلم .
قال : وإن تفرقا من غير فسخ لم يكن لواحد منهما الرد إلا بعيب أو خيار .
ش : إذا تفرق المتبايعان من غير فسخ لم يكن لواحد منهما الرد في الجملة ، لما تقدم من قوله : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) وفي رواية ( حتى يتفرقا ) غياه إلى غاية هي التفرق فمفهومه أنه لا خيار لهما بعد التفرق ، وأصرح من ذلك قوله : ( وإن تفرقا بعد أن تبايعا ، ولم يترك واحد منهما البيع ، فقد وجب البيع ) أي ثبت واستقر .
وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ما يفتقر إلى القبض ، وهو المذهب بلا ريب ، لظواهر الأحاديث وعن القاضي في [ موضع ] أن ما يفتقر إلى القرض لا يلزم إلا بقبضه .
واستثنى الخرقي رحمه اللَّه شيئين ( أحدهما ) أن من اطلع منهما على عيب فإن له الرد ، وهو كذلك في الجملة ، وقيل : إنه لم يصح فيه حديث ، ولكنه إجماع ، وفي معنى العيب إذا أخبره في المرابحة بثمن ، فبان أنه أقل ، أو أخبره أن الثمن حال ، فبان مؤجلاً ، ونحو ذلك ، والتدليس بما يختلف به الثمن ، ويقرب منه اشتراط صفة تقصد فلم توجد .
( الثاني ) : إذا اشترطا أو أحدهما خيار اليوم أو الشهر ، فإن له الرد بذلك .
1827
____________________
(2/9)
لعموم قوله : ( المؤمنون عند شروطهم ) الحديث ، ولما تقدم في حديث عبد اللَّه بن عمرو ( إلا أن تكون صفقة خيار ) على أحد الاحتمالين فيه ، ولأنها مدة ملحقة بالعقد ، فصحت كالأجل ، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك في الكافي إجماعاً ، لكنه معترض ، نعم هو قول العامة ، وهذا يلقب بخيار الشرط ، والأول بخيار المجلس .
وقوله : بعيب أو خيار . الباء للسببية ، أي بسبب عيب ، أو بسبب خيار ، فيحتمل أن يريد ما تقدم من شروط الخيار ، وهو أظهر لما سيأتي ، ويحتمل أن يريد حيث ثبت لواحد منهما خيارد ، فيدخل في ذلك خيار تلقي الركبان والنجش ، ويأتيان إن شاء اللَّه تعالى ، وخيار المسترسل ، وهو الجاهل بقيمة المبيع ، كفقير يشتري جوهرة ، ونحو ذلك ، والمذهب صحة معاوضة من هذه حاله ، والمذهب أيضاً على صحة البيع ثبوت الخيار له إذا غبن ، والمذهب المنصوص أيضاً عدم تحديد الغبن ، وإناطته بما لا يتغابن بمثله ، أما إن كان عالماً بالقيمة فإنه لا خيار له وإن غبن ، قاله القاضي وغيره ، ولأن ذلك الغبن حصل بعجلته ، وعدم تأمله عادة وقدره أبو بكر ، وابن أبي موسى بالثلث ، وبعض الأصحاب بالسدس ، ويدخل أيضاً خيار الخلف في الصفة حيث صح البيع بها ، أو برؤية متقدمة ، وخيار الرؤية على المشهور من الروايتين ، حيث صح البيع بلا رؤية مطلقاً ولا صفة ، كما هو رواية مرجوحة ، واللَّه أعلم .
وقال : والخيار يجوز أكثر من ثلاث .
ش : الألف واللام لمعهود تقدم ، هو خيار الشرط ، وقوله : أكثر من ثلاث أي ثلاث ليال بأيامها ، إذ التاريخ يغلب فيه الليالي ، وكأن الخرقي رحمه اللَّه تبع لفظ الحديث .
1828 وهو ما روي عن [ محمد بن ] يحيى بن حبان قال : هو جدي منقذ بن عمرو كان رجلاً قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه ، وكان لا يدع على ذلك التجارة ، فكان لا يزال يغبن ، فأتى النبي فذكر ذلك له ، فقال : ( إذا أنت بايعت فقل : لا خلابة ، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال ، إن رضيت فأمسك ، وإن سخطت فارددها ) رواه البخاري في تأريخه ، وابن ماجه والدارقطني .
1829 وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر أن رجلاً ذكر لرسول اللَّه أنه كان يخدع في البيوع ، فقال النبي : ( من بايعت فقل : لا خلابة ) فكان إذا بايع قال : لا خلابة . رواه البخاري ورواية مسلم قال : لا خيابة . إذا عرف هذا فالأصل
____________________
(2/10)
في جواز الخيار أكثر من ثلاث قوله سبحانه : 19 ( { أوفوا بالعقود } ) وقول النبي : ( المسلمون عند شروطهم ) ولأنها مدة ملحقة بالعقد ، فجاز ما اتفقا عليه كالأجل ، ولا يرد خبر منقذ ، لأنه خاص به .
1830 بدليل أنه عاش إلى زمن عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه ، وكان يبايع ويغبن ، ويرد السلع على التجار ، ويقول : الرسول جعل لي الخيار ثلاثاً ، فيمر الرجل من أصحاب الرسول فيقول : ويحك صدقك ، إن رسول اللَّه جعل له الخيار ثلاثاً .
ويدخل في عموم كلام الخرقي إذا كان المبيع لا يبقى في المدة المشترطة كطعام رطب [ ونحوه ] ، وصرح بذلك القاضي في أثناء مسألة اشتراط الخيار [ في الإجارة ] ، وأورد عليه فقال : يصح ويباع ، ويحفظ ثمنه إلى المدة ، قلت : وهذا قياس ما قالوه في الرهن إذا كان لا يبقى إلى المدة ، قال أبو العباس : ويتوجه عدم الصحة من وجه في الإجارة ، أي من وجه عدم صحة اشتراط الخيار في إجارة تلي العقد ، ومن أن تلف المبيع يبطل الخيار .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : من شرط الخيار أن يكون معلوماً ، فلا يصح مجهولاً على المشهور المعمول عليه من الروايتين ، ( والثانية ) يصح وينقطع بانقطاع من له الخيار أو انقطاع مدته ( ثم محل الخيار البيع ) وما في معناه ، إلا بيع بشرط القبض ، كالصرف ، والسلم ، ( وفي الإجارة ) ، لأنها بيع في الحقيقة ، لا إجارة تلي العقد في وجه ، ( الثاني ) قد تقدم عن يحيى بن حبان أن الذي كان يغبن هو جده منقذ بن عمرو ، وقال جماعة : إنه والده حبان ، وهو بفتح الحاء وبالموحدة ( والأمة ) [ هي التي تصل إلى جلدة الدماغ كما ] سيأتي بيانها إن شاء اللَّه تعالى ، ( ولا خلابة ) بكسر الخاء ، أي لا خديعة ، ومنه قولهم : ( إذا لم تغلب فاخلب ) وقوله : ( لا خيابة ) لأنه كان ألثغ ، يبدل اللام ياء ورواه بعضهم : لا خيانة . بالنون وهو تصحيف ، واللَّه أعلم .
قال رحمه اللَّه تعالى :
( باب الربا والصرف وغير ذلك )
ش : الربا مقصور ، وأصله الزيادة ، والمادة حيث تصرفت لذلك ، قال اللَّه سبحانه : 19 ( { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } ) أي علت وارتفعت ، وقال تعالى : 19 ( { أن تكون أمة هي أربى من أمة } ) أي أكثر عدداً ، وقال تعالى : 19 ( { كمثل جنة بربوة } ) أي بمكان عال ، وهو في الشرع : زيادة في شيء مخصوص .
والصرف بيع أحد النقدين بالآخر قيل : سمي بذلك من صريفهما وهو تصويتهما في الميزان ، وقيل : لانصرافهما عن مقتضي البياعات ، من عدم جواز التفرق قبل
____________________
(2/11)
القبض والبيع نساء .
( وغير ذلك ) أي من حكم العيب إذا وجد في الصرف ، وبيان العرايا ، والراب نوعان ، قد شملهما كلام الخرقي ربا الفضل ، وربا النسيئة ، وكلاهما محرم ، وممنوع منه في الجملة ، لقوله تعالى : { وأحل اللَّه البيع ، وحرم الربا } إن لم نقل : إنها مجملة كما تقدم .
1831 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه عن النبي أنه قال : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) قيل : يا رسول اللَّه وما هن ؟ قال : ( الإشراك باللَّه ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ) متفق عليه .
1832 وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه ، أن النبي لعن آكل الربا ، وموكله ، وشاهديه ، وكاتبه ، رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، وأجمع المسلمون على تحريم ربا النسيئة تحريما لا ريب فيه ، وعامتهم على تحريم ربا الفضل .
1833 ووقع خلاف في الصدر الأول عن أسامة بن زيد ، وزيد بن أرقم ، وابن الزبير ، وابن عباس وعنه اشتهر .
1834 لما روى رضي اللَّه عنه عن النبي أنه قال : ( لا ربا إلا في النسيئة ) رواه البخاري وقد أقر رضي اللَّه عنه لأبي سعيد أنه سمع ذلك من أسامة .
1835 وحديث أسامة في الصحيحين ( الربا في النسيئة ) وفي رواية ( إنما الربا في النسيئة ) وفي أخرى ( لا ربا فيما كان يداً بيد ) وهذه أصرحها ، ثم قد صار إجماعاً ، ورجع من تقدم إلى قول الجماعة ، واختلف في رجوع ابن عباس ، وبالجملة . يشهد لقول العامة إطلاق ما تقدم .
1836 وعن عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه ، عن النبي قال : ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد ) رواه أحمد ، ومسلم ، وغيرهما .
1837 وعن أبي سعيد رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه ( لا تبيعوا الذهب بالذهب
____________________
(2/12)
إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) متفق عليه وفي رواية لأحمد والبخاري ( الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، يداً بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء ) .
1838 وفي الصحيح أيضاً هذا المعنى من حديث فضالة بن عبيد ، وأبي بكرة رضي اللَّه عنهما ، وحديث أسامة لا يقاوم هذه ، لكثرة رواتها ، وصراحة دلالتها ، إذ هي دلالة منطوق بلا ريب ، ثم يحمل على أنه وقع جواباً لسؤال عن الجنسين من أموال الربا ، أو مطلقاً ، فقال : ( لا ربا إلا في النسيئة ) أي من المسؤول عنه وهو الجنسان ، أو أن المراد نفي الربا الأغلظ الذي ورد نص القرآن في تحريمه بلا ريب ، وهو الذي كانت العرب تعرفه ، تقول للغريم إذا حل الدين : إما أن تقضي ، وإما أن تربي في الدين ، أي تزيد .
1839 وهو الذي نسخه النبي يوم عرفة ، وقال عنه : ( ألا أن كل ربا موضوع ، وإن أول ربا أضعه ربا عباس ) وهذا كما يقال : إنما المال الإبل ، وإنما الشجاع علي ، ونحو ذلك ، ثم لو قدر التعارض من كل وجه ، فقد يقال : نسخ حديث أسامة أولى ، لورود النسخ إذاً على مباح الأصل ، لأن الشارع إنما منع من النساء ، وبقي التفاضل على ما كان عليه .
( تنبيه ) : ( لا تشفوا بعضها على بعض ) أي لا يكون لأحدهما شفوف على الآخر ، أي زيادة ، و ( الناجز ) المعجل الحاضر ، واللَّه أعلم .
قال : وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنساً واحداً .
ش : قد تقدم أن الإجماع قد انعقد على تحريم ربا الفضل في الجملة ، وإن كان قد وقع في الصدر الأول خلاف ، وأجمعوا على ذلك في الأعيان الستة المذكورة في حديث عبادة ، ثم اختلفوا هل جرى الربا فيها لأعيانها أو لمعان فيها ؟ فقال داود ومتابعوه : لأعيانها ، فلا يتعدى الحكم إلى غيرها ، وقال العامة : لمعان فيها ، ثم اختلفوا هل عرف ذلك المعنى أم لا ؟ فعن ابن عقيل في العمد أنه تردد في المعنى ، ولم يتعد الستة ، لتعارض الأدلة عنده في المعنى وتكافئها ، ويحتمل هذا قول طاوس وقتادة ، فإنه حكي عنهما القصر على الستة ، ويحتمل أن قولهما كقول داود ، وأن عندهما أن ( وأحل اللَّه البيع ) عام ، خرج منه الأعيان الستة ، بقي ما عداها على مقتضى العموم ، ولا يريان تخصيص العام بالقياس .
____________________
(2/13)
وجمهور أهل العلم على معرفة العلة ، وتعديها إلى غير الستة ، ثم اختلفوا فيها على سبعة أقوال ، وعن إمامنا رحمه اللَّه من ذلك ثلاثة أقوال .
( أحدها ) : وهو الأشهر عنه ، ومختار عامة أصحابه ، قال القاضي : اختارها الخرقي وشيوخ أصحابنا أن العلة في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس ، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مكيلات جنس ، فيتعدى الحكم إلى كل موزون ، ومكيل بيع بحبسه ، كالحديد ، والنحاس ، والحبوب ، والأبازير ، وغير ذلك ، دون ما لا يكال ولا يوزن من مطعوم وغيره .
1840 لما روي عن أبي سعيد ، وأبي هريرة رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه استعمل رجلاً على خيبر ، فجاء بتمر جنيب ، فقال : ( أكل تمر خيبر هكذا ؟ ) فقال : لا يا رسول اللَّه ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول اللَّه : ( لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيباً ) وقال في الميزان مثل ذلك ، ولمسلم ( وكذلك الميزان ) متفق عليه فقوله : في الميزان أي في الموزون ، وإلا فنفس الميزان ليس من أموال الربا .
1841 وقال الإمام إسحاق بن راهويه : أخبرنا روح بن عبادة ، حدثنا حيان بن عبيد اللَّه ، وكان رجلاً صدوقاً عن أبي مجلز ، عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( التمر بالتمر ) وذكر الحديث ، إلى قوله : ( فما زاد فهو ربا ) قال : ( وكذلك ما يكال وما يوزن ) من قول أبي سعيد ، قال : دل على ذلك قوله : قال : وكذلك ما يكال وما يوزن . وليس في هذا دليل ، لاحتمال عود الضمير إلى النبي ، وهو الأصل ، ويؤيده رواية البخاري السابقة : وقال في الميزان مثل ذلك .
1842 وعن الحسن عن أنس وعبادة ، أن رسول اللَّه قال : ( ما وزن مثلاً بمثل ، إذا كان نوعاً واحداً ، وما كيل فمثل ذلك ) رواه الدارقطني .
1843 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه : ( لا تبيعوا الدينار بالدينارين ، ولا الدرهم بالدرهمين ، ولا الصاع بالصاعين ، فإني أخاف عليكم الرماء ) وهو الربا ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول اللَّه أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس ، والنجيبة بالإبل ؟ فقال : ( لا بأس إذا كان يداً بيد ) رواه أحمد .
( والقول الثاني ) : أن العلة في الذهب والفضة الثَمَنِيَّة ، فلا يتعدى إلى غيرهما ، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مطعوم جنس .
1844 لما روى معمر بن عبد اللَّه أنه أرسل غلامه بصاع قمح ، فقال : بعه ثم
____________________
(2/14)
اشتر به شعيراً ، فذهب الغلام فأخذ صاعاً زيادة بعض الصاع ، فلما جاء معمراً أخبره بذلك ، فقال له عمر : لم فعلت ذلك ؟ انطلق به فرده ، وقال : لا تأخذ إلا مثلاً بمثل ، فإني كنت أسمع رسول اللَّه يقول : ( الطعام بالطعام مثلاً بمثل ) وكان طعامنا يومئذ الشعير ، قيل له : فإنه ليس بمثله ، قال : إني أخاف أن يضارع ، رواه مسلم والطعام يشمل كل مطعوم ، ولأن الطعم وصف شريف ، إذ به قوام الأبدان ، وكذلك الثمنية ، إذ بها قوام الأموال ، فاقتضت الحكمة التعليل بهما .
( والقول الثالث ) : العلة في النقدين الثمنية ، والعلة في الأربعة الباقية الطعم والتقدير في الجنس ، فإن الأربعة مكيلة ، غير أن المؤثر إنما هو التقدير المنضبط ، فيدخل فيه الوزن ، فيتدى ذلك إلى كل مطعوم مقدر بكيل أو وزن بيع بجنسه ، وهذا اختيار أبي محمد ، نظراً إلى ما ذكرناه من أن هذه الأربعة مطعومة ، والمماثلة إنما تعتبر بالمعيار الشرعي ، وهو الكيل والوزن ، وجمعاً بين الأحاديث ، فنهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل ، يحمل على ما فيه معيار شرعي ، وهو الكيل أو الوزن ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين [ ونحوه ] يحمل على المطعوم ، توفيقاً بينهما .
ويرجح الأول بأن الطعام بعض أفراد الصاع [ الصاعين ] ونحو ذلك ، لما تقدم من أن المثلية لا تتحقق إلا بكيل أو وزن ، وهو المدعى على القول الأول علة ، ويجاب بمخالفته له في المفهوم ، وهو مبني على اعتبار مفهوم اللقب ، والمذهب اعتباره ، ثم على اعتباره والحال هذه ، وفيه وجهان ، انتهى واتفق الكل على اعتبار الجنس في ربا الفضل ، كما نص عليه الخرقي .
1845 إلا سعيد بن جبير ، فإنه جعل الشيئين المتقارب نفعهما الحنطة مع الشعير ، والتمر مع الزبيب كالجنس الواحد ، وهو مردود بالنصوص السابقة .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) على المذهب يجري الربا في كل مكيل ، وإن لم يكن مطعوماً ، كالأشنان ونحوه ، وفي كل موزون ، وإن لم يكن كذلك ، كالحديد ونحوه ، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن ، كالبيض والماء ونحوهما ، والمعتبر كون جنس ذلك مكيلاً أو موزوناً ، وإن لم يأت فيه ذلك ، إما لقلته ، كتمرة ، وحبة شعير ونحو ذلك ، وإما لثقله ، كالزبرة العظيمة من الحديد ونحوه ، وإما للعادة كلحم الطير ونحوه ، فلا يجوز بيع بعض ذلك ببعض إلا مثلاً بمثل ، بمعياره الشرعي ، وهو الكيل أو الوزن ويحتمل قول الخرقي جواز ذلك ، لقوله : وكل ما كيل أو وزن . وهو محمول على ما جنسه الكيل أو الوزن ، وهل يعم المعمول من الموزون بأصله ، أو بحاله بعد العمل ؟ نص أحمد في رواية : جماعة : أنه لا يباع فلس بفلسين ، ولا سكين بسكينين ، ولا إبرة بإبرتين ، معللاً بأن أصل ذلك الوزن ، ونص في رواية جماعة أنه لا بأس ببيع
____________________
(2/15)
ثوب بثوبين ، وكساء بكسائين ، فنقل القاضي في المجرد إحدى المسألتين إلى الأخرى ، فجعل فيهما جميعاً روايتين ، والمنع اختيار جماعة منهم ابن عقيل في الفصول وغيره اعتباراً بأصله ، والجواز اختيار أبي محمد في المغني ، نظراً للحال الراهنة ، ومقتضى كلام القاضي في التعليق ، وفي الجامع الصغير ، حمل النص على اختلاف حالين ، فإنه لما قال : يجري الربا في معمول الحديد ونحوه ، وذكر نصه على ذلك ، فأورد عليه النص الآخر في جواز ثوب بثوبين ، فقال : هذا في ثياب لا ينبغي بها الوزن ، أما الإبريسم ونحوه فإنه لا يجوز ، ونحو هذا قول جماعة [ وهو أوجه ] فينظر في حاله بعد العمل ، فإن قصد وزنه جرى فيه الربا ، وإلا فلا ، وأبو محمد في الكافي نظر إلى هذا المعني في الموزون ، وقطع في منسوج القطن والكتان بأنه لا ربا فيه وأطلق ، وصاحب التلخيص جعل الروايتين فيما لا يتعين وزنه بعد عمله ، أما ما يقصد وزنه بعد عمله فجزم بوجوب التماثل فيه . انتهى . ثم إن صاحب التلخيص قال في الفلوس بعد أن حكى فيها الروايتين : وسواء كانت نافقة أو كاسدة ، بيعت بأعيانها أو بغير أعيانها ، وكذلك قال القاضي في الجامع الصغير ، وابن عقيل ، والشيرازي وغيرهم ، وجزم أبو الخطاب في خلافه الصغير بأنها مع نفاقها لا تباع بمثلها إلا متماثلة ، معللاً بأنها أثمان فأشبهت الدراهم والدنانير ، ثم عقب ذلك بذكر الخلاف في معمول الحديد ، وظاهر هذا أنها مع كسادها يجوز التفاضل فيها إن لم يعتبر الوزن ، ويتلخص من ذلك أن الفلوس النافقة هل تجري مجرى الأثمان ، فيجري الربا فيها ، إن قلنا ، العلة في النقدين الثمنية مطلقاً ، وهو ظاهر ما حكاه عن أبي الخطاب في خلافه الصغير ، أو لا تجري مجراها ، نظراً إلى أن العلة ما هو ثمن غالباً ، وذلك يخص الذهب والفضة ، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الكبير ؟ على قولين ، فعلى الثاني لا يجري الربا فيها إلا إذا اعتبرنا أصلها ، وقلنا : العلة في النقدين الوزن ، كالكاسدة ، وعلى رواية الطعم والثمنية في النقدين يجري الربا في كل مطعوم قوتاً كان أو أدماً ، أو فاكهة ، أو دواء .
ويستثني من ذلك الماء ، على ما قطع به القاضي في الجامع الصغير ، وأبو محمد وصاحب التلخيص ، والسامري ، وغيرهم ، مع أنه مطعوم ، قال سبحانه : 19 ( { ومن لم يطعمه فإنه مني } ) وعلل ذلك صاحب التلخيص بأن أصله الإباحة ، وهو منتقض بلحم الطير ، وبالطين الأرمين ونحوهما ، وبأنه مما لا يتمول ، وهو مردود ، بأن العلة عندنا ليست المالية ، والقياس جريان الربا فيه على هذه الرواية ، وهو ظاهر ما في خلاف أبي الخطاب الصغير .
والمعتبر الطعم للآدميين لا لغيرهم ، فلا يجري الربا في التبن ونحوه على مقتضى كلام أبي محمد ، ويجري الربا في الذهب والفضة ، تبرهما ومضروبهما ، وكيف ما كانا ، على المشهور ، وعنه أنه منع من بيع الصحاح بالمسكرة ، ولا عمل عليه ، لظواهر النصوص ، وهل يجري الربا في الفلوس النافقة ؟ فيه تردد تقدم ، وعلى رواية
____________________
(2/16)
اعتبار الطعم مع الكيل أو الوزن لا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن ، كالتفاح ، والرمان ، والسفرجل ، والخوخ ، والكمثري ، والإجاص ، والجوز ، والأترج ، والخيار والبيض ، ونحو ذلك ، [ ولا في غير مطعوم ، كالأشنان ، والحديد والرصاص ، ونحو ذلك ] .
( التنبيه الثاني ) : قول أحمد : لا تباع سكين بسكينتين . محمول على ما إذا اختلف الوزنان ، أما إن اتحدا جاز ، إذ العبرة به لا بالعدد .
( الثالث ) : ( سائر ) استعملها الخرقي هنا ، وفي قوله بعد وسائر اللحمان جنس واحد . وفي مواضع بمعنى ( جميع ) وهو خلارف اللغة المشهورة ، حتى أن بعضهم أنكر ذلك ، وقد استعمل الخرقي رحمه اللَّه اللغة المشهورة أيضاً في الغسل ، في قوله : ثم يفيض الماء على سائر جسده . وكذلك في باب المصراة .
1846 وهي التي نطق بها النبي في قوله لغيلان بن سلمة ( أمسك أربعاً ، وفارق سائرهن ) وعلى هذا هي مأخوذة من السؤر ، وهو البقية ، وعلى الأول من سور البلد ، وهو ما أحاط به ، ( والتمر الجنيب ) بفتح الجيم وكسر النون ، وآخره باء موحدة ، نوع من جيد التمر ، ( والجمع ) بفتح الجيم ، وسكون الميم ، تمر مختلف ، من أنواع متفرقة ، غير مرغوب فيه للاختلاط ، إذ ما يخلط إلا لرداءته ( والرماء ) بفتح الراء مخففاً ممدوداً ، لغة في الربا ، ( ويضارع ) أي يشابه ( وأبي مجلز ) بكسر الميم ، وسكون الجيم ، وآخره زاي ، ( وحيان ) بحاء مهملة مفتوحة ، وبعدها ياء مشددة ، مثناة من تحت ، واللَّه أعلم .
قال : وما كان من جنسين جاز التفاضل فيه يداً بيد ، ولا يجوز نسيئة .
ش : قد تقدم أن شرط جريان ربا الفضل الجنس عند العامة ، فإذا عدم الجنس امتنع ربا الفضل ، وجرى ربا النسيئة ، إن اجتمع الجنسان في علة واحدة ، كمكيل بمكيل ، وموزون بموزون ، ومطعوم بمطعوم ، إن علل بالطعم ، وذلك لما تقدم من حديث عبادة ، وأبي سعيد ( يداً بيد ) وفي حديث أبي سعيد ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) .
وإن اختلفا في العلة كمكيل مع موزون فروايتان ، ( إحداهما ) وهي ظاهر كلام الخرقي جريانه أيضاً ، لحديث عبادة المتقدم ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يداً بيد ) ( والثانية ) لا يجري ، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل ، فأشبه الثياب ، والحيوان ، كما سيأتي .
ويستثني مما تقدم إذا كان أحد العوضين ثمناً والآخر مثمناً ، فإنه يجوز النساء بغير خلاف نعلمه ، وإن اتحدا في الوزنية ، لئلا ينسد باب السلم في الموزونات .
____________________
(2/17)
وقول الخرقي : يداً بيد . يقتضي وجوب التقابض في الجنسين من مالي الربا ، إذا بيع أحدهما بالآخر ، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه في ذلك ، إن كانت العلة واحدة ، لما تقدم من حديثي عبادة ، وأبي سعيد .
1847 وعن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء ، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء ) متفق عليه أي : إلا هاك وهات . كذا فهمه عمر رضي اللَّه عنه .
1848 ففي الموطأ : قال مالك بن أوس بن الحدثان النصري : أنه التمس صرفاً بمائة دينار ، قال : فدعاني طلحة بن عبيد اللَّه ، فتراوضنا حتى اصطرف مني ، وأخذ الذهب يقلبها في يده ، ثم قال : حتى يأتيني خازني من الغابة ، وعمر بن الخطاب يسمع ، فقال : واللَّه لا تفارقه حتى تأخذ منه ، ثم قال : قال رسول اللَّه . وذكر الحديث ، وهذا يمنع تأويل من ادعى أن ( يداً بيد ) أي لا يكون نسيئة انتهى .
أما إن اختلفت العلة فظاهر إطلاق الخرقي وجوب التقابض أيضاً ، وصرح بذلك ابن عبدوس على رواية منع النساء التي هي أيضاً ظاهر كلام الخرقي ، وهو ظاهر حديث عبادة المتقدم ، والمعروف عند كثير من المتأخرين حتى أن أبا الخطاب قال : إنه رواية واحدة جواز التفرقة قبل القبض ، وإن منعنا النساء ، وحيث أوجبنا التقابض فتفرقا قبله بطل العقد .
( تنبيه ) : ( هاء وهاء ) بالمد ، وفتح الهمزة ، وفيه أربع لغات هذه إحداهن ، وفيها لغتان ( إحداهما ) أنها تقال بلفظ واحد مطلقاً ، ( وثانيتهما ) تلحق بها العلامات المفرقة ، فللمذكر ( ها ) وللمؤنث ( هات ) وللاثنين ( هاءآ ) وللجميع ( هاؤا ) كالحال في ( هاؤم ) ( اللغة الثانية ) في الأربع ( هأ ) بالقصر والهمزة الساكنة على وزن ( خف ) وفيها اللغتان المتقدمتان ، فعلى التفريق للمذكر ( هأ ) كخف وللمؤنث ( هائي ) كخافي ، وللاثنين ( هاآ ) كخافا ، وللجمع ( هاؤا ) كخافوا ( اللغة الثالثة ) ( هاء ) بالمد ، وكسر الهمزة ، [ بلفظ واحد مطلقاً ، غير أنهم زادوا ياء مع المؤنث ، فقالوا : هائي . ( الرابعة ) بالقصر وترك الهمزة ] ، حكاها بعض اللغويين ، وأنكرها أكثرهم ، حتى أن الخطابي خطأ من روى من المحدثين كذلك ، ومعنى ( هاء وهاء ) : خذ وهات في الحال ، كما قيل : يداً بيد . ( وتراوضنا ) تجارينا ، واللَّه أعلم .
قال : وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز التفاضل فيه يداً بيد ، ولا يجوز نسيئه .
ش : قد علم من ترجمة هذه المسألة أن وضع المسألة السابقعة فيما كان مكيلاً أو
____________________
(2/18)
موزوناً ، وهذا واللَّه أعلم الذي أحوج الخرقي إلى فصل المسألتين ، ليفصل مسألة الوفاق من مسألة الخلاف ، وإلا فحكم المسألتين عنده واحد .
إذا عرف هذا فقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه اللَّه فيما إذا انتفت علة ربا الفضل ، هل يجوز النساء ؟ على أربع روايات ( إحداهن ) وهي اختيار القاضي وأبي الخطاب ، وابن عبدوس ، وأبي محمد ، وغيرهم يجوز .
1849 لما روى عبد اللَّه بن عمرو بن العاص ، أن رسول اللَّه أمره أن يجهز جيشاً ، فنفذت الإبل ، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة ، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والدارقطني وصححه .
1850 وعن علي رضي اللَّه عنه أنه باع جملاً له يسمى عصيفيرا بعشرين بعيراً إلى أجل ، رواه مالك في موطئه ، والشافعي في مسنده .
1851 وعن ابن عمر ، ورافع بن خديج نحوه ، ذكر ذلك البخاري وغيره . ( والثانية ) واختارها ابن أبي موسى ، وأبو بكر ، والخرقي فيما قاله القاضي ، وأبو الخطاب وغيرهما لا يجوز .
1852 لما روى الحسن عن سمرة أن النبي نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نيسئة ، رواه الخمسة وصححه الترمذي .
1853 وقد روي من حديث جابر بن سمرة رواه عبد اللَّه بن أحمد ، ومن رواية ابن عباس ، رواه البزار ، ومن رواية ابن عمر رضي اللَّه عنهم جميعاً وهو يشمل بعمومه الجنس والجنسين ، ولا يضر التكلم في بعضها ، إذ الحجية تحصل بمجموعها ، لتقوي بعضها ببعض ، مع أن الترمذي قد صحح الأول ، وأحمد احتج به في رواية ابن إبراهيم ، وحديث عبد اللَّه بن عمرو قضية عين ، فلعل ذلك كان في بدء الإسلام ، قبل نزول تحريم الربا ، أو كانت المعاملة مع أهل الحرب ، جمعاً بين الأدلة .
ومن نصر الأول رجحه بفعل الصحابة ، وطعن في الأحاديث بأن أحمد قال : ليس فيها حديث يعتمد عليه ، ويعجبني أن يتوقاه ، وقال في حدث ابن عمر وابن عباس : إنهما مرسلان ، وإن الحسن لا يصح سماعه من سمرة ، ولا يخفى أن مثل هذا الطعن لا يسقط الحجية ، لما تقرر من أن المرسل حجة عندنا ، بل وعند العامة في مثل هذا الموطن لاعتضاده بحديث آخر ، وبمرسل آخر ، فعلى هذه الرواية لو باع عرضاً بعرض ، ومع أحدهما دراهم ، العروض نقداً ، والدراهم نسيئة جاز ، إذ لا نساء بين
____________________
(2/19)
الثمن والمثمن ، ولو كانت الدراهم نقداً ، والعرضان أو أحدهما نسيئة لم يجز ، حذاراً من النسيئة في العروض ، نص عليه أحمد ، وقاله القاضي وغيره ( والرواية الثالثة ) يحرم في الجنس الواحد ، ولا يحرم في الجنسين لأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل ، فمنع النساء كالكيل والوزن ، ويحمل حديث سمرة بن جندب ونحوه على ذلك ، وهو مردود بأن الجنس شرط الجريان ربا الفضل أو محل في ذلك ، لا وصف في العلة ، والحمل على ما ذكر فيه تعسف ( والرابعة ) يحرم في الجنس الواحد متفاضلاً لا متماثلاً ، ولا في الجنسين .
1854 لما روى جابر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال ( لا يصلح الحيوان بالحيوان اثنان بواحد نسيئة ، ولا بأس به يداً بيد ) رواه الترمذي وحسنه ، ومفهومه جواز الواحد بالواحد ، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة ، وقد قال أحمد : زاد فيه ( نساء ) وليث ابن سعد سمعه من أبي الزبير ، لا يذكر فيه ( نساء ) قال أبو محمد : ويحتمل أن الخرقي أراد هذه الرواية ، قلت : وعلى هذا يكون تقدير الكلام : وما كان مما لا يكال ولا يوزن ، فجائز التفاضل فيه يداً بيد ، إذا كان جنساً واحداً ، ولا يجوز نسيئة ، وعلى ما قال الجماعة أنه اختيار الخرقي التقدير في الثاني : أي ولا يجوز بيعه نسيئة ، ويحتمل كلام الخرقي منع النساء مع التفاضل مطلقاً ، والتقدير إذاً : ولا يجوز التفاضل فيه نيسئة ، وهذا يرجحه أن في اللفظ ما يدل عليه وهو ذكر التفاضل ، ويبعده ما تقدم في صدر المسألة .
( تنبيه ) : ( القلائص ) جمع قلوص ، وقد تقدم في أول الكتاب ، ( والراحلة ) ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يباع شيء من الرطب بيابس من جنسه إلا العرايا .
ش : الألف واللام في الرطب لمعهود ذهني ، وهو رطب يجري فيه الربا ، كالرطب والعنب ، فلا يباع الأول بالتمر ، ولا الثاني بالزبيب ، متماثلاً ولا متفاضلاً .
1855 لما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : نهى رسول اللَّه أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً ، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام ، نهى عن ذلك كله ، متفق عليه .
1856 وعن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قال : سمعت النبي يسأل عن اشتراء التمر بالرطب ؟ فقال لمن حوله ( أينقص الرطب إذا يبس ؟ ) قالوا : نعم . فنهى عن ذلك ، رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، وهذا السؤال إرشاد للعلة ، وهي
____________________
(2/20)
النقص في ثاني الحال ، أو انفراد أحدهما بالنقص ، سؤال تقرير وتنبيه ، لا استفهام حقيقي ، لعلمه بذلك .
واستثنى الخرقي العرايا ، وسيأتي ذلك إن شاء اللَّه ، ومفهوم كلامه جواز بيع الرطب بالرطب ، ويأتي أيضاً إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزناً ، ولا ما أصله الوزن كيلاً .
ش : المساواة المعتبرة فيما يحرم فيه التفاضل هي المساواة في معياره الشرعي ، وهو الكيل في المكيل ، والوزن في الموزون ، فلا يباع المكيل بجنسه ، إلا كيلاً ، ولا الموزون بجنسه إلا وزناً ، إلا إذا علم مساواته في معياره [ الشرعي ] .
1857 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( الذهب بالذهب وزناً بوزن ، مثلاً بمثل ، والفضة بالفضة ، وزناً بوزن ، مثلاً بمثل ، فمن زاد أو استزاد فهو ربا ) رواه مسلم .
1858 وفي حديث عبادة في رواية أبي داود أن رسول اللَّه قال : ( الذهب بالذهب تبرها وعينها ، والفضة بالفضة تبرها وعينها ، والبر بالبر مدي بمدي ، والشعير بالشعير مدي بمدي ، والتمر بالتمر مدي بمدي ، والملح بالملح مدي بمدي ، فمن زاد أو ازداد فقد أربى ) فاعتبر في الموزون الوزن ، وفي المكيل الكيل ، فمن خالف ذلك خرج عن المشروع المأمور به .
1859 وإذاً يدخل تحت قوله : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردلإ نعم لا يعتبر كيل جرت العادة به ، بل يجوز التعديل بإناء لم تجر العادة بالكيل به ، كما يجوز بالوضع في كفتي الميزان ، ذكره في التلخيص .
ومفهوم كلام الخرقي جواز بيع المكيل بمكيل من غير جنسه كيلاً ، وهو كذلك لحديث عبادة ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ) .
1860 وفي الصحيح من حديث أبي بكرة رضي اللَّه عنه : وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا ، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا ، متفق عليه ، ومن ثم اختار الشيخان وابن عقيل ، وصاحب التلخيص ، وغيرهم جواز بيع المكيل بالمكيل جزافاً ، وبيع الموزون بالموزون جزافاً ، ومنع ذلك ابن أبي موسى ، والقاضي في المجرد ، والشريف ، وغيرهم ونص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب وغيره .
____________________
(2/21)
1861 لنهيه عن بيع الطعام بالطعام مجازفة ، وهو محمول على الجنس الواحد ، جمعاً بين الأدلة .
( تنبيه ) : المرجع في الكيل إلى مكيال أهل المدينة ، وفي الوزن إلى ميزان أهل مكة ، في زمن النبي .
1862 لما روى ابن عمر أن رسول اللَّه قال : ( الوزن وزن أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة ) رواه النسائي .
1863 وهو لأبي داود من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، وما لا عرف له بهما فهل يعتبر عرفه في موضعه ، أو يرد إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز ؟ فيه احتمالان حكاهما القاضي في التعليق ومن بعده ، وما لا أصل له بالحجاز في كيل ولا وزن ، ولا له شبهه بما جرى فيه العرف ، كالثياب ، والحيوان ، والمعدود من الجوز ، والبيض ، والرمان ، والقثاء ، والخيار ، والخضروات ، والبقول ، [ والسفرجل ] ، والكمثري ، والخوخ ونحو ذلك ، فإذا اعتبر التماثل فيه اعتبر بالوزن ، لأنه أضبط ، قاله أبو محمد ، وكذلك ذكر القاضي في الفواكه الرطبة .
إذا عرف هذا فالبر والشعير مكيلان بالنص [ قال أبو محمد : وكذلك سائر الحبوب ، والأبازير ، والأشنان ، والجص ، والنورة ونحوها ] ، وسائر ما تجب فيه الزكاة كالزبيب ، والفستق ، والبندق ، والعنب ، والمشمش ، والبطم ، والزيتون ، واللوز .
والملح [ مكيل بالنص ، والذهب والفضة موزونان ، قال أبو محمد : وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد ، والرصاص ، والصفر والنحاس ، والزجاج والزئبق ] ، وكذلك الإبرسيم ، والقطن والصوف والكتان ، وغير ذلك [ وكذلك الخبز واللحم ، والشحم ، والزبد ، والجبن ، وكذا الشمع وما أشبهه ] وكذلك الزعفران ، والعصفر ، والورس .
والدقيق ، والسويق مكيلان عند أبي محمد ، نظراً لأصلهما ، وجوز القاضي بيعهما بالوزن كالخبز ، أما المائعات كاللبن ، والأدهان ، من الزيت ، والشيرج ، والعسل ، والدبس ، فقال أبو محمد : الظاهر أنها مكيلة ، وكذا قال القاضي في الأدهان أنها مكيلة ، وقال في اللبن : يصح السلم فيه كيلاً ، وعن أحمد أنه سئل عن السلف في اللبن ، فقال : نعم كيلاً أو وزناً . واللَّه أعلم .
قال : والتمور كلها جنس واحد ، وإن اختلفت أنواعها .
ش : الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة [ بأنواعها ، والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة ] بأشخاصها ، والمراد هنا الجنس الأخص ، والنوع الأخص ، إذ قد يكون الشيء
____________________
(2/22)
جنساً بالنسبة إلى ما تحته ، ونوعاً بالنسبة [ إلى ما فوقه ، وكالإنسان فإنه جنس بالنسبة إلى الزنجي ، والتركي ، وغير ذلك ، ونوعاً بالنسبة ] إلى الحيوان ، والمعتبر هنا الإتفاق في الاسم الخاص من أصل الخلقة ، كالحنطة والتمر وغيرهما ، لأن النبي اعتبر التمر بالتمر ، والبر بالبر وأطلق ، بل ومنع من بيع الجنيب بالجمع متفاضلاً كما تقدم .
إذا عرف هذا فالأدقة والأدهان تختلف باختلاف أصولها ، [ فدقيق الحنطة والشعير والفول أجناس ، كما أن أصولها ] كذلك ، والزيت ، والشيرج ، ودهن بزر الكتان ، ودهن السمك ، ونحو ذلك أجناس كأصولهن ، ودهن الورد ، ودهن البنفسج ونحوهما جنس ، إن كان أصلهما واحداً ، والخلول أجناس من المذهب كأصولها ، ( وعنه ) أن خل العنب والتمر في حكم الجنس الواحد ، وفي التلخيص وجه أن الخلول كلها جنس واحد ولا معول عليهما ، أما على المذهب فيجوز بيع خل العنب بخل التمر متماثلاً ومتفاضلاً ، وخل التمر بخل التمر متماثلاً لا متفاضلاً ، ويغتفر ما فيهما من الماء ، لأنه غير مقصود للمصلحة ، أما خل العنب بخل الزيت فالمنصوص وقاله القاضي وغيره منع بيع أحدهما بالآخر مطلقاً ، لانفراد أحدهما بالماء ، فأشبها تمرين في أحدهما نواه ، والآخر نزع منه واللَّه أعلم .
قال : والبر والشعير جنسان .
ش : هذا على المذهب المنصوص بلا ريب ، لحديث عبادة ( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم ) وللنسائي وأبي داود فيه : وأمرنا أن نبيع البر بالشعير ، والشعير بالبر ، يداً بيد ، كيف شئنا ؛ ( وعنه ) ما يدل على أنهما جنس واحد ، قال : الحنطة والشعير والسلت صنف ، وقال : يكره أن يبيع الحنطة بالشعير اثنين بواحد ؛ لما تقدم عن معمر بن عبد اللَّه ، وهو محمول على التورع ، كما أشار هو إليه فقال : أخاف أن يضارع . أي يشابه ، ثم مع النص السابق لا يعرج على غيره ، واللَّه أعلم .
قال : وسائر اللحمان جنس واحد .
ش : هذا إحدى الروايات عن أحمد رحمه اللَّه ( والثانية ) أنها أجناس باختلاف أصولها ، اختارها أبو بكر ، والقاضي في تعليقه ، وأبو الحسين ، وأبو الخطاب في خلافه ، وابن عقيل ، وأبو محمد ومبناهما واللَّه أعلم على أن الإعتبار هل هو بحال جريان الربا فيه ، وهو إذاً يشمله اسم واحد ، ويرجحه نهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل ، وهي كلها طعام ، أو باعتبار أصوله ، وأصوله مختلفة ، وينقض الأول بعسل النحل ، وعسل القصب ، والحديث محمول على ما إذا اتفق الجنس ، بدليل ما تقدم ( والثالثة ) أنها أربعة أجناس ، لحم الأنعام جنس ، ولحم الوحش جنس ، ولحم الطير جنس ، ولحم دواب الماء جنس ، وهي اختيار القاضي في روايتيه ، وحمل كلام الخرقي على ذلك ، لأن لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها ، والقصد إليها ، فجعل كل واحد جنساً ، نظراً لذلك ، فعلى الثانية لحم الإبل كله جنس واحد ، وكذلك البقر ،
____________________
(2/23)
وكذلك الغنم على المشهور ، ولأبي محمد احتمال بأنهما جنسان ، ضأن ومعز ، لتفريقه سبحانه بينهما حيث قال : 19 ( { من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين } ) وكل ما له اسم يخصه من الوحش والطير جنس .
( تنبيهات ) ( أحدها ) اللبن ، والشحم ، والأكبدة ، والأطلحة ، والرئات ، والجلود ، والأصواف ، والعظام ، والرؤوس ، والأكارع ، ونحو ذلك مما اشتمل عليه اللحم ، فجيري فيهن ما يجري فيه من الخلاف ، وكذلك مقلو البيض ، لصيرورته موزوناً ، أما قبل ذلك فهو معدود ، فلا يجري فيه الربا على المذهب .
( الثاني ) اللحم والشحم جنسان على المشهور ، فيخرج [ بيع أحدهما بالآخر متماثلاً ومتفاضلاً ، وعن القاضي منع ] بيع أحدهما بالآخر مطلقاً .
( الثالث ) اللحم الأبيض كسمين الظهر والأحمر جنس واحد على الأشهر ، قاله القاضي ، وابن البنا ، وغيرهما ، وقال أبو محمد : إن ظاهر كلام الخرقي أنهما جنسان ، لقوله : إن اللحم لا يخلو من شحم ، قال : ولو لم يكن هذا شحماً لم يختلط لحم بشحم ، وفرع على قوله أن كل أبيض في الحيوان يصير دهناً جنس واحد ، واختار ذلك في المغني ، وبنى على ذلك أن الألية والشحم جنس ، والمشهور عند الأصحاب أنهما جنسان ، وهو الذي قاله في المقنع .
( الرابع ) هل لحم رأس شيء جنس برأسه كالقلب ونحوه ، أو نوع من لحم جنسه ؟ فيه وجهان .
( الخامس ) هل يجوز بيع اللبن باللبأ ؟ فيه وجهان ، حكاهما ابن البنا ، وعن القاضي أنه خصهما بما إذا مست النار أحدهما ، وعند أبي محمد والسامري أنهما جنس واحد ، يجوز بيع أحدهما ، وعلى ما إذا مست النار أحدهما حمل السامري وجه منع ابن البنا ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطباً ، ويجوز إذا تناهى جفافه مثلاً بمثل .
ش : لا إشكال في جواز بيع ما كان رطباً ، عند تناهي جفافه ، من التمر ، واللحوم ، وغيرهما بمثله ، واختلف في بيع كل رطب بمثله رطباً ، فعنه المنع مطلقاً ، حكاه ابن الزاغوني ، واختاره أبو حفص العكبري ، وحمل كلام الخرقي عليه ، لنصه عليه في اللحم ، لأن النبي نهى عن بيع الرطب بالتمر ، مشيراً للتعليل بالنقص ، وهذا موجود في الرطبين ، لأنهما ينقصان ، يحققه أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا .
1864 بدليل نهيه عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر ، رواه مسلم ، وهنا يجهل التساوي في ثاني الحال ، وذهب جمهور الأصحاب
____________________
(2/24)
القاضي ، وأبو الخطاب ، والشيخان وغيرهم ، وهو مقتضى مفهوم كلام الخرقي السابق ، ونص عليه أحمد في الرطب بالرطب إلى الجواز ، لنهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل ، والرطبان إذا بيعا مثلاً بمثل قد استويا في المثلية ، فدخلا في عموم المستثنى ، ولأنهما استويا في الحال ، على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص ، فأشبها اللبن باللبن ، وخرج بيع الرطب بالتمر ، لانفراد أحدهما بالنقص واشتراط عدم الجهل بالتساوي [ في ثاني الحال ] لا نسلمه ، بل المشترط عدمه في الحال ، فكان مناط المسألة واللَّه أعلم التساوي ، هل يشترط في الحال ولا يضر الجهل به في ثاني الحال ، أو يشترط حالاً ومآلاً ؟ على قولين ، إلا أنه استثنى على الثاني بيع رطب لا يجيء منه تمر ، وعنب لا يجيء منه زبيب ، فإنه يجوز بيعه بمثله قبل جفافه ، نظراً إلى أن كمال ذلك في حال رطوبته ، وفساده في حال جفافه ، قاله في التلخيص .
( تنبيه ) : اشترط القاضي والأكثرون في بيع اللحم بمثله نزع العظم ، لتتحقق المساواة المعتبرة شرعاً ، وكالعسل بالعسل ، لا يباع إلا بعد التصفية ، ومال أبو محمد إلى عدم اشتراط ذلك ، وذكر أنه ظاهر كلام الإمام ، وعلله بأن العظم تابع من أصل الخلقة ، فأشبه النوى في التمر ، وخرج الشمع في العسل ، لأنه من فعل النحل .
قال : ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان .
ش : لا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه ، كبيع لحم بقر ببقر ، ونحو ذلك .
1865 لما روي عن سعيد بن المسيب رضي اللَّه عنه ، أن النبي نهى عن بيع اللحم بالحيوان ، رواه مالك في الموطأ ، وأبو داود في المراسيل .
1866 وعنه أيضاً أن رسول اللَّه نهى عن بيع الحي بالميت . احتج به أحمد ، ورواه أبو داود في المراسيل أيضاً ، وناهيك بمراسيل سعيد ، مع أن الأول قد أسند من حديث ثابت بن زهير ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي إلا أن ثابتاً منكر الحديث ، قاله أبو حاتم الرازي .
1867 وقال أبو الزناد : 16 ( كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان . ولأنه مال ربوي ، بيع بما فيه من جنسه ، مع جهالة المقدار ، أشبه السمسم بالشيرج ، والزيتون بالزيت ) [ ونحو ذلك ] .
واختلف في بيع اللحم بحيوان من غير جنسه ، كلحم بقر بإبل ، وظاهر كلام أحمد والخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي في تعليقه ، وجامعه الصغير ، وأبي الخطاب في خلافه الصغير ، وغيرهم ، أنه لا يجوز ، نظراً لإطلاق ما تقدم .
1868 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن جزوراً نحرت ، فجاء رجل بعناق ،
____________________
(2/25)
فقال أعطوني جزءاً بهذا العناق . فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه : لا يصلح هذا . رواه الشافعي ، وقال : لا أعلم مخالفاً لأبي بكر في ذلك .
واختار القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد الجواز ، لأنه مال ربوي بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز ، كما لو باعه بذهب أو فضة ، وبعض المتأخرين بنى القولين على الخلاف في اللحم ، هل هو جنس من أجناس ، ؟ وصرح أبو الخطاب في الانتصار بأنهما على القول بأنه أجناس ، وهو الصواب ، ولهذا اختلف في بيع اللحم بحيوان لا يؤكل ، كعبد وحمار ونحوهما ، قال أبو الخطاب : ولا رواية في ذلك ، فيحتمل وجهين . والجواز صرح به في خلافه الصغير ، وكذا شيخه في التعليق ، وابن الزاغوني ، وهو ظاهر كلام أبي جعفر ، وشيخه في الجامع الصغير ، والمنع أورده ابن عقيل في التذكرة مذهباً ، وهو احتمال له في الفصول ، والصحيح عنده فيه كقول الأكثرين ، ولم يطلع أبو محمد على المسألة صريحاً ، فقال : ظاهر كلام الأصحاب الجواز . واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى ذهباً بورق عيناً بعين ، فوجد أحدهما فيما اشترى عيباً فله الخيار بين أن يرد أو يقبل ، ويأخذ قدر ما نقص بالعيب ، إذا كان بصرف يومه ، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه .
ش : لما فرغ الخرقي رحمه اللَّه من بيان الربا ، شرع يتكلم في الصرف ، ومعنى العين بالعين أن يقول : بعتك هذه الدراهم بهذه الدنانير ، ونحو ذلك ، فإذا وقع العقد كذلك ، فوجد أحدهما بما اشتراه عيباً فله حالتان ، ( إحداهما ) أن يكون من غير جنس المعقود عليه ، كالرصاص في الفضة ، ونحو ذلك ، فهنا يبطل العقد على المذهب ، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، ( الثانية ) أن يكون العيب من جنس المعقود عليه ، كالسواد في الفضة ، ونحو ذلك ، وهذا الذي ذكره الخرقي هنا ، ولا بد من بنائه على أصل ، وهو أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا ؟ فإن قلنا : لا تتعين ، فحكم ذلك حكم التصارف في الذمة كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ، وإن قلنا : تتعين وهو المذهب ، وعليه بنى الخرقي كلامه فلواجد العيب والحال ما تقدم الخيار بين الرد والإمساك بلا خلاف نعلمه ، كغير الذهب والفضة من المبيعات ، فإن اختار الرد بطل العقد ، ولم يكن له أخذ البدل ، كما لو كان المبيع عرضاً ، لأن البيع تعلق بعينه ، فيفوت بفواته ، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا نزاع نعلمه أيضاً ، وله مع ذلك أخذ ما نقص المبيع بالعيب في الجملة ، وعلى المذهب المجزوم به عند الشيخين ، وصاحب التلخيص ، والسامري ، وهو جار على قاعدة المذهب في سائر المبيعات ، من جواز أخذ الأرش مع القدرة على الرد .
وظاهر ما أورده أبو الخطاب في الهداية مذهباً وأحد نسخ الخرقي أنه لا يجوز أخذ الأرض مطلقاً ، لأن ذلك زيادة على ما وقع عليه العقد ، وهذا قد يتوجه من
____________________
(2/26)
جهة الدليل ، وهو قياس الرواية الضعيفة في سائر المبيعات ، لأنه لا أرش مع القدرة على الرد ، فعلى الأول لا يجوز أخذ الأرض في الجنس الواحد مطلقاً ، كفضة بفضة ، حذاراً من فوات المماثلة المشترطة .
وعن القاضي أنه خرج وجهاً بالجواز في المجلس ، نظراً أن الزيادة طرأت بعد العقد ، وأبو الخطاب في الهداية يخرج قولاً بجواز أخذ الأرش ، ويطلق ، ويدخل في كلامه الجنس والجنسان ، وفي المجلس وبعده ، وابن عقيل يحكي ذلك رواية في صورة تلف أحد العوضين ، ووجهه جعل الصنعة مقومة فإنه لا يجوز أخذ عوضها مع اتحاد الجنس بلا ريب ، بل يمنع على هذا القول من بيع الصحاح بالمكسرة ونحو ذلك ، وأما قول القاضي فقد رده أبو محمد بأن الأرش من العوض ، بدليل أنه يخبر به في المرابحة ، ويأخذ به الشفيع ، وقوله : إن الأرش من العوض . ليس بجيد ، كما سيأتي ، مع أن هذا القول لا وجه له ، لأن الأرش في المعيب عوض عن جزء من مقابله ، وهو الصحيح ، إذ الثمن يتقسم على المثمن ، فالعيب لم يقابله شيء فيرجع بقسطه ، فلو جاز أخذ الأرش في الجنس الواحد لكان صاحب الدينار الصحيح دفع ديناراً [ إلا جزءاً وهو الأرض الذي أخذه في مقابلة العيب وأخذ ديناراً ] معيباً ، وإنه عين الربا ، انتهى .
ويجوز في الجنسين مطلقاً ، أعني قبل المجلس وبعده ، على ظاهر إطلاق الخرقي ، وصاحب التلخيص ، وأبي البركات ، والسامري ، وهو الصواب ، الذي لا ينبغي عل المذهب غيره ، لما تقدم من أن الأرض عوض عن الجزء الفائت من الثمن ، فالدافع لأرض دينار ظهر معيباً بيع بعشرة دراهم ، إنما يدفعه عوضاً عن جزء من العشرة [ دراهم ] تبيناً عدم استحقاقه ، وإذاً فالعوضان في الصرف قد قبضا بكمالهما ، ومع أحدهما زيادة تبيناً عدم استحقاقه لها .
وفصل أبو محمد فقال : إن كانا في المجلس جاز أخذ الأرش ، إذ قصاراه تأخر قبض بعد عوض الصرف عن بعض ، وإنه جائز ما داما في المجلس ، وإن تفرقا لم يجز ، حذاراً من التفرق قبل قبض بعض الصرف ، إلا أن يجعلا أرش الفضة مثلاً ثوباً ، نحو ذلك فيجوز ، لعدم اشتراط القبض لذلك ، وهذا منه يقتضي أن الأرش عوض عن الجزء الفائت من المعيب ، [ فكأنه من جملة العوض ، وهذا ليس بشيء على المذهب ، وإنما هو بدل ما قابل الجزء الفائت من المبيع بالعيب ] [ ويدل على ذلك قطعاً نسبة الأرش إلى الثمن ، ولو كان عوض الجزء الفائت من المبيع المعيب ] لكان المأخوذ ما نقص بالعيب فقط ، من غير نسبة إلى ثمن ولا غيره ، نعم أظن أن هذا اختيار أبي العباس ثم يلزم أبا محمد أن يقول : بالتفرق بطل العقد ، أو بطل في قدر ما يقابل العيب ، لحصول التفرق قبل كمال الصرف ، ويلزمه أيضاً أن لا يجوز أخذ أرش عيب الفضة ذهباً ، ولا أرش عيب الذهب فضة ، حذاراً من مسألة مد عجوة ، وهو لم يشترط
____________________
(2/27)
ذلك ، بل هذا الإلزام وارد في سائر المبيعات ، فإنا إذ أخذنا أرش ثوب بيع بعشرة دراهم درهماً مثلاً ، كان على مقتضى قوله قد بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض ، مع أحدهما من غير جنسهما ، فكان ينبغي أن لا يجوز ذلك ، والظاهر أن الإجماع على خلافه .
إذا تحققت هذا فشرط الخرقي رحمه اللَّه للتخيير المتقدم أن يكون المردود بصرف يومه أي يوم الصرف ، فلو نقصت قيمته عن يوم الصرف كأن كان الدينار بعشرة ، فصار بتسعة زال التخيير وتعين الأرش ، كذا فهم عنه ابن عقيل ، وأبو محمد ، وهو ظاهر كلام أحمد على ما قال أبو محمد ، وقطع به السامري ، حذاراً من أن يرد المبيع مع تعيبه في يده ، والصحيح عند أبي محمد أن التخيير بحاله ، بناء على أن تغير السعر ليس بعيب ، بدليل عدم ضمانه في الغصب ، ثم لو سلم أنه عيب فظاهر المذهب وهو الذي قاله الخرقي كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى أن تعيب المبيع عند المشتري لا يمنع الرد ، انتهى . هذا شرح أبي محمد أو نحوه ، بناء على أحد نسخ الخرقي ، ولفظها : فله الخيار بين أن يرد أو يقبل إذا كان بصرف يومه ، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه ، وليس فيها ذكر الأرش ، إلا أنه جعل الشرط راجعاً للرد ، ويلزم على قوله أن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، التقدير : له الخيار بين أن يرد إذا كان بصرف يومه ، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه ، أو يقبل ، والظاهر جعل الشرط راجعاً للتخيير كما تقدم ، حذاراً من تقديم وتأخير الأصل عدمه ، انتهى . ثم على هذه النسخة قد عطف على اشتراط كون المردود بصرف يومه ، كون العيب من جنس المعقود عليه ، فثبوت الخيار مشروط بشرطين ، كون المردود على صرف يومه ، وكون عيبه من جنسه ، فلو كان عيبه من غير جنسه زال التخيير ، وأما الحكم فيأتي ، وهو أن الصرف يكون فاسداً .
وفي بعض النسخ وعليها شرح ابن الزاغوني : فله الخيار بين أن يرد ، أو يأخذ قدر ما نقص بالعيب ، وهذه واضحة ، وفي أخرى : له الخيار بين أن يرد أو يقبل ، إذا كان بصرف يومه ، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه ، أو يأخذ أرش ما نقص بالعيب ، وعلى هذه النسخة يكون في الكلام أيضاً تقديم وتأخير ، أي له الخيار بين أن يرد بشرط كذا وكذا ، وبين أن يقبل ويأخذ الأرش ، ويكون ( أو ) بمعنى الواو .
وأما على النسخة التي كتبناها فالظاهر رجوع الشرط إلى الأرش ، أي : له الخيار بين أن يرد أو يقبل ويأخذ الأرش ، بشرط كونه على حساب يوم اصطرفا [ لا على أزيد منه ، كما إذا كان الدينار يوم اصطرفا ] بعشرة ، فصار باثني عشر ، ولا على أنقص ، كما إذا صار بثمانية ، وما ذاك إلا أن الثمن ينقسم على المثمن يوم العقد ، فالفائت بالعيب فات على حساب يوم العقد ، وهذا فرع من مسألة تقويم المبيع المعيب ، وقد صرحوا
____________________
(2/28)
بأنه يقوم يوم العقد ، إلا ما كان من ضمان البائع فتقويمه يوم القبض ، وعلى هذا يسلم من الاعتراض السابق ، ومن دعوى تقديم وتأخير الأصل عدمه ، بقي أنه عطف على ذلك كون العيب من جنس المعقود [ عليه ] ، فلو كان من غير الجنس لم يتصور أخذ الأرض كما سيأتي .
فإن قيل : ظاهر هذا أن العيب إذا كان من غير الجنس امتنع الأرش ، وله القبول ، قيل : إذا حصل التصريح بخلاف ذلك فلا عبرة بالظاهر ، انتهى .
وقول الخرقي : فوجد أحدهما فيما اشتراه عيباً . يشمل العيب في الجميع وفي البعض ، وهو كذلك ، إلا أنه إذا اختار إمساك الصحيح ورد العيب فهل له ذلك ؟ على قولي تفريق الصفقة ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا تبايعا ذلك بغير عينه ، فوجد أحدهما عيباً فله البدل ، إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه ، كالوضوح في الذهب ، والسواد في الفضة .
ش : هذا هو المعبر عنه بالصرف في الذمة ، ومثاله : بعتك ديناراً مغربياً ، بعشرة دراهم ناصرية ، ونحو ذلك ، وهو جائز عندنا ، لظاهر قوله ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) فمقتضاه جواز ما عدا ذلك ، بشرط القبض في المجلس ، بدليل الرواية الأخرى ( يداً بيد ) ونحو ذلك ، إذا ثبت هذا فتصارفا عينا في الذمة ، ثم وجد أحدهما بما قبضه عيباً ليس من غير جنس المعقود عليه ، بل من جنسه كما مثل الخرقي رحمه اللَّه ، فلا يخلو إما أن يجد ذلك قبل التفرق أو بعده ، فإن وجده قبل التفرق فله المطالبة بالبدل الذي وقع عليه العقد وهو صحيح لا عيب فيه ، وله الإمساك ، إذا قصاراه الرضى بدون حقه ، وله أخذ الأرض في الجنسين ، لا في الجنس على المذهب فيهما ، وإن وجده بعد التفرق واختار الرد فهل يبطل العقد برده ، وهو اختيار أبي بكر ، لوجود التفرق قبل القبض ، لأن البدل إنما يأخذه عوضاً عما وقع عليه العقد ، أو لا يبطل وله البدل في مجلس الرد ، فإن تفرقا قبله بطل العقد ، وهو اختيار الخرقي والخلال ، والقاضي وأصحابه ، وغيرهم ، لأن القبض وقع صحيحاً ، وإلا لبطل العقد بالتفرقة مطلقاً ، وبدله يقوم مقامه ؟ فيه روايتان ، وحكى عنه ثالثة : أن البيع قد لزم ، وهي بعيدة ، لأنه يلزم منها إلزام العاقد بما لم يلتزمه .
فعلى الأولى إن وجد البعض رديئاً فرده بطل فيه ، وفي البقية قولا تفريق الصفقة .
وعلى الثانية : له بدل المردود في مجلس الرد . انتهى ، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا ريب ، لكن إن طلب مع ذلك الأرش فقال أبو محمد بناء على ما تقدم : له ذلك على الثانية لا الأولى ، وأما على المحقق وقد تقدم فله ذلك في الجنسين على الروايتين ، إذ الذي يأخذه عوض عن جزء فات من الثمن ، ولا يجوز في الجنس
____________________
(2/29)
الواحد مطلقاً حذاراً مما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : فأما إن كان عيب ذلك دخيلاً عليه من غير جنسه ، كان الصرف فيه فاسداً .
ش : لما فرغ الخرقي رحمه اللَّه من بيان العيب إذا كان من الجنس شرع في بيانه إذا كان من غير الجنس ، ثم إنه فصل بين ما إذا تصارفا بعين وبين ما إذا تصارفا في الذمة ، وهنا أطلق فشمل كلامه المسألتين ، ثم كلامه أيضاً شامل لما قبل التفرق وبعده ، وعلى ذلك جرى السامري مصرحاً به ، وزاعماً أن أحمد رحمه اللَّه نص عليه ، وذكره الخرقي ، والظاهر أن مستنده من كلام أحمد إطلاق ، كما هو في كلام الخرقي ، وكذلك تبعه أبو العباس ، حتى أنه وهم جده في قوله : وعنه أنها لا تتعين فتبدل مع الغصب والعيب بكل حال ، لشمول كلامه للعيب من الجنس ومن غيره ، وفي توهيمه بهذا الإطلاق نظر ، لأنه قد تقدم له قبل ذلك بأسطر أن المتصارفين إذا تفرقا فوجد أحدهما بما قبضه عيباً من غير الجنس بطل الصرف ، فيحمل كلامه هنا على غير الصرف ، توفيقاً بين كلاميه .
وإذا عرف هذا فلا بد من التعرض للتفصيل ، وبيان محل الوفاق من محل الخلاف ، فنقول : إذا تصارفا مثلاً ذهباً بفضة عيناً بعين ثم وجدا أو أحدهما عيباً من غير جنس المعقود عليه مثل أن ظهرت الدراهم أو بعضها رصاصاً ، أو الدنانير نحاساً ، ونحو ذلك فلا يخلو إما أن نقول : إن النقود تتعين بالتعيين ، أم لا ، فإن قلنا ، لا تتعين . فكما لو تصارفا في الذمة على ما سيأتي ، وإن قلنا : تتعين وهو المذهب كما تقد فإنا نتبين فساد الصرف على المعروف المجزوم به لعامة الأصحاب ، لأن البدل متعذر ، لتعلق البيع بالعين ، وكذلك الرضى بالموجود ، لأنه غير ما وقع عليه العقد ، فهو كما لو قال : بعتك هذه البغلة . فإذا هي حمار ، ونحو ذلك ، وقيل عنه : يلزم العقد والحال هذه ، تغليباً للإشارة ، ولا معول عليه ، فعلى المذهب إن ظهر البعض معيباً بطل فيه ، وهل يبطل في غيره ؟ قولاً تفريق الصفقة ، وإن تصارفا في الذمة ثم وجدا أو أحدهما العيب السابق ، فإن كان قبل التفرق رد وأخذ بدله ، والصرف صحيح ، وفاقاً لابن عقيل ، والشيرازي وصاحب التلخيص ، وأبي محمد ، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب ، إذ المقبوض تبين أنه غير الذي وقع عليه العقد ، وظاهر إطلاق الخرقي وهو الذي قاله السامري وأبو العباس فساده كما بعد التفرق .
وإن كان بعد التفرق وعليه عندي يحمل كلام الخرقي ، نظراً للغالب فإنا نتبين فساد الصرف على المذهب المحقق ، لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه فيما شرط له القبض ، ولا قبض ما يصلح أن يكون عوضاً عنه ، وبهذا خرج إذا كان العيب من الجنس ، لصلاحية المقبوض للعوضية عن ذلك ، ولا أرش قبل التفرق ولا بعده لما قلناه من أن المقبوض لا يصلح أن يكون عوضاً ، وأجرى أبو محمد في الكافي وصاحب التلخيص فيه هنا والحال هذه الروايتين اللتين فيما إذا كان العيب من
____________________
(2/30)
الجنس ، إحداهما أن العقد يبطل برده ، والثانية لا يبطل ، وبدله في مجلس الرد يقوم مقامه ، فمجرد وجود العيب من غير الجنس عندهما بعد التفرق لا يبطل قولاً واحداً ، عكس المذهب ، وليس بشيء ، فعلى ما اختاره أبو محمد وغيره إن وجد العيب في البعض فقبل التفرق يبدل ، وبعده يبطل فيه ، وفي غير المعيب قولاً تفريق الصفقة .
واعلم أن كلام الأصحاب في هذه المسألة فيه اضطراب كثير ، وقد تقدم أن أبا العباس وهم جده فيها ، مع أن في توهيمه ما فيه ، وناهيك بهما ، وقد بالغت في تحريره على غاية الضعف وباللَّه المستعان .
وقول الخرقي : وجد . أي ظهر ، فيخرج منه ما إذا علم حال العقد ، والحكم فيه أن العيب إن كان من الجنس فالعقد لازم ولا كلام .
نعم إن كان الصرف في جنس ، والعيب في البعض ، فقد يبطله من يمنع بيع النوعين بنوع منه ، وإن كان العيب من غير الجنس والصرف في جنسين انبنى على إنفاق [ المغشوشة ] ، وفيه روايتان ، المختار منهما الجواز ، وأبو محمد يحمل رواية الجواز على ما ظهر غشه ، واصطلح عليه ورواية المنع على ما خفي غشه ، ويقع في اللبس ، ونحو ذلك قال ابن عقيل في الفصول .
وإ كان الصرف في جنسين ، فإن كان العيب في أحد العوضين ، ويخل بالمماثلة ، ولا قيمة له ، لم يجز ، لإفضائه إلى عدم التماثل المشترط شرعاً ، وإن كان له قيمة خرج على مسألة مد عجوة ، وإن كان العيب في العوضين وتساوى العيبان فقولان ، أظهرهما عند أبي محمد الجواز ، وقطع ابن عقيل في الفصول ، والسامري بالمنع .
ثم اعلم أنا قد ذكرنا أصلاً بنينا عليه ما تقدم ، وهو : أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا ؟ فنشير إلى بيان ذلك فنقول : المذهب المنصوص في رواية الجماعة ، والمعمول عليه عند الأصحاب كافة ، أن النقود تتعين بالتعيين كالعروض بالإتفاق ، لأن ذلك عوض مشار إليه في العقد ، فوجب أن يتعين كالعروض ، ولأن ما تعين في الغصب والوديعة تعين بالعقد كالعروض ، ومعنى تعين ذلك في الغصب أنه لو طولب بذلك لزمه تسليمه بعينه ، ولا يجوز العدول عنه .
1869 ومما استدل به على ذلك أيضاً حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه : سمعت رسول اللَّه ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا سواء بسواء ، عيناً بعين . ولو كان الذهب والفضة في الذمة لم يكن عيناً بعين ، وإنما يكون عيناً بعين إذا ملكت عين كل واحد منهما ، وفيه نظر ، إذ يلزم منه أن لا يباع الذهب بمثله إلا عيناً بعين ، وقد حكي الإجماع على خلافه ، والذي يظهر أن المراد من الحديث واللَّه أعلم حضور
____________________
(2/31)
الطرفين المصطرف عليهما ، كما يحكى عن مالك أو تعيينهما بإقباضهما ، وحضورهما في المجلس ، وكونهما حالين ، كما يقوله أصحابنا وغيرهم ، بدليل أن في رواية أخرى في هذا الحديث ( يداً بيد ) بدلك ( عيناً بعين ) وكذا في رواية أخرى ( يداً بيد ) وفي وراية أخرى ( ولا تبيعوا منها غائباً بناجز ) وقول القاضي وأبي الخطاب وغيرهما : إن رواية عبادة ( يداً بيد ، عيناً بعين ) وإن ( يداً بيد ) أن لا يكون نسيئة ( وعيناً بعين ) تعينهما بالتعيين ، لم أرهما مجموعين في روايته ، ولا في رواية غيره ، مع أنه معترض بما تقدم ، انتهى .
ونقل أبو داود عن أحمد وسأله عن عبد دفع إلى رجل مالاً ، وأمره أن يشتريه فاشتراه به فأعتقه قال : يرد الدراهم على المولى ، ويؤخذ المشتري بالثمن ، والعبد حر . فظاهر هذا أنه لم يحكم بتعيينه ، وإلا لبطل العقد ، ولم تقع الحرية ، وتأول القاضي ذلك في تعليقه على أن قوله : اشتراه به . أي نقده في ثمنه ، واشترى في ذمته ، توفيقاً بين نصوصه ، وأبى ذلك أبو الخطاب والجمهور ، نظراً للظاهر ، ووجه ذلك أنه لا غرض في أعيان الدارهم والدنانير ، وإنما الغرض في مقدارها ، فإذا عينت كان تعيينها كالمكيال والميزان ، وكما لو استأجر أرضاً ليزرعها حنطة ، فإن الحنطة لا تتعين ، بل له أن يزرع ما هو مثلها ضرراً ، ولأن الفراء قال في قوله سبحانه { وشروه بثمن بخس } الآية : الثمن ما يثبت في الذمة . فجعل من صفة الثمن ثبوته في الذمة ، ومن قال بالتعيين لم يجعلها تثبت في الذمة ، وهي ثمن قطعاً ، ونقض الأول بالغصوب والعواري ، فإنها لا تبدل وإن ك ان المعنى واحداً ، وبما إذا باع قفيزاً معيناً من صبرة ، لم يكن للبائع إبداله بمثله من تلك الصبرة ، وإن لم يتعلق به غرض ، على أنا نمنع أن التعيين لا غرض فيه ، إذ قد يكون فيه غرض ، وهو اعتقاد حلها ونحو ذلك ، وقول الفراء لا يقبل في الأحكام ، وإنما يقبل في ما طريقه اللغة ، والتعيين وعدمه حكم شرعي .
وفائدة الخلاف على ما قال أبو الخطاب في الانتصار أن على المذهب لا يجوز للمشتري إبدالها ، وإذا خرجت مستحقة بطل العقد ، وإذا وجد البائع بها عيباً كان له الفسخ ، وإذا تلفت قبل القبض تلفت من مال البائع ، بناء على المذهب من أن المتعين ، لا يفتقر إلى قبض .
وعلى المرجوح للمشتري إبدالها ، ولا يبطل العقد بكونها مستحقة ، ولا يفسخ البائع بالعيب فيها ، ويجب إبدالها ، وإذا تلفت كانت من مال المشتري ، ما لم يقبض البائع .
( تنبيه ) : في نسخة من التلخيص بخط الموفق المصري فيما أظن : الثمن إن عين تعين بالتعيين ، في البيع وغيره من عقود المعاوضات ، في أصح الروايتين ، وينفسخ العقد بتلفه قبل القبض في كل معاوضة محضة ، كالإجارة ، والصلح بمعنى البيع ، وإن
____________________
(2/32)
لم يتمحض لم ينفسخ بتلفه كالمهر ، وهذا سبق قلم منه أو من الناسخ ، لأنه إذا تعين تلف من مال البائع كما تقدم ، واستقر الملك فيه ، أما إن لم تعين فيتلف من مال المشتري ، وينفسخ العقد فيه ، واللَّه أعلم .
قال : ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما .
ش : الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض كما تقدم ، والقبض في المجلس شرط لصحة العقد ، نص عليه القاضي ، وابن عقيل ، والشيخان ، وغير واحد ، مع أن ابن المنذر قد حكاه إجماعاً ، فقال : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد ، وقد شهد لذلك النصوص السابقة ( الذهب بالورق رباً إلا هاء وهاء ) وغير ذلك ، والمجلس هنا مجلس الخيار في البيع ، فلا يضر طوله مع تلازمهما ، فلو مشيا ولو يوماً ونحوه إلى منزل أحدهما مصطحبين صح ، وقبض الوكيل يقوم مقام قبض موكله ، بشرط قبضه قبل مفارقة موكله المجلس ، فإن فارق الموكل المجلس فسد الصرف ، وإن قبض الوكيل في المجلس ، وموت أحد المتصارفين قبل القبض يفسد الصرف ، لعدم تمام العقد ، فإن قبض البعض دون البعض فلا بيع بينهما فيما لم يقبض ، وفيما قبض قولاً تفريق الصفقة .
واعلم أن عبارة الخرقي هنا أجود من عبارة من قال : بطل الصرف . فإنه يوهم وجود عقد ثم بطلانه ، وليس كذلك ، إذ هنا القبض بمنزلة القبول ، لا يتم العقد إلا به ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال : والعرايا التي رخص رسول اللَّه فيها هو أن يوهب للإنسان من النخل ما ليس فيه خمسة أوسق ، فيبيعها بخرصها تمراً ، لمن يأكلها رطباً .
1870 ش : الرخصة التي رخصها رسول اللَّه هي ما قال زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه : إن رسول اللَّه رخص [ لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر ، وفي رواية : رخص ] في العرية ، يأخذها أهل البيت بخرصها يأكلونها رطباً .
1871 وعن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم .
1872 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه نحوهما ، متفق عليهن .
إذا عرف هذا فقد اختلف في العرية لغة ، فقيل : إنها نوع من العطية ، خصت باسم كالنحلة ، لا بيع ، قال الجوهري : العرية النخلة يعريها رجلاً محتاجاً ، فيجعل تمرها له عاماً ، فعليه ، بمعنى مفعوله وأنشد لسويد بن الصامت :
____________________
(2/33)
وليست بسنهاء ولا رجبية
ولكن عرايا في السنين الجوائح
وقال غيره : إنه من عراه يعروه ، إذا أتاه يطلب منه عرية ، فأعراه أي أعطاه إياها ، كما يقال : سألني فأسألته . وهو نحو الأول ، وعن أبي عبيد : العرية اسم لكل ما أفرد عن جملة ، سواء كان للهبة ، أو للبيع ، أو للأكل . ونحو ذلك قال أبو بكر وغيره من أصحابنا ، قال بعضهم : سميت بذلك هنا لأنها معرية من البيع المحرم ، أي مخرجة منه .
واختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في العرية التي وقع الترخيص فيها شرعاً ، على نحو اختلاف أهل اللغة ، فظاهر كلام الخرقي وتبعه صاحب التلخيص تخصيصها بالهبة ، وهو ظاهر ك ** لام أحمد ، قال أيضاً في رواية سندي ، وابن القاسم : العرية أن يهب الرجل للجار أو ابن العم النخلة والنخلتين ، ما لا يجب فيه الزكاة ، فللموهوب له أن يبيعها بخرصها تمراً للمرفق .
ومختار القاضي وجمهور الأصحاب عدم اختصاصها بالهبة ، بل هي عندهم [ في الجملة ] شراء الرطب على رؤوس النخل ، سواء كان ذلك موهوباً أو غير موهوب .
1873 وقد روي عن محمود بن لبيد قال : قلت لزيد : ما عراياكم هذه ؟ فسمى رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول اللَّه أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يتبايعون به رطباً ، وعندهم فضول من التمر ، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم ، يأكلونه رطباً ، وهذا بظاهره إن صح يدل لما قاله الجمهور .
1874 ويرشحه ما في الصحيح من حديث سهل أنه رخص في بيع [ العرية أن تباع بخرصها تمراً ، يأكلها أهلها رطباً ، وقد يقال : إنه لا دليل في كليهما ، إذ فيهما أنه رخص في بيع ] العرايا ، وليس في الحديث بيان العرايا ما هي .
1875 ومما استدل به أيضاً لقول القاضي ومن وافقه تفسير يحيى بن سعد ، أحد رواه الحديث ، فإنه قال : العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات ، لطعام أهله رطباً ، بخرصها تمراً .
1876 وعورض بتفسير ابن إسحاق ، فإنه فسرها بالهبة ، كذا نقل عنه أبو داود ، مع أن كليهما غير صحابي ، فلا حجة في تفسيرهما .
وبالجملة يشترط لجوازها على كلا القولين شروط ( أحدها ) كونه رطباً على رؤوس النخل ، لما تقدم ، أما الرطب على وجه الأرض فلا يجوز بتمر ، لنهيه عن بيع الرطب بالتمر ، خرج منه ما تقدم بحكم الأخذ شيئاً فشيئاً ، لحاجة التفكه كما دلت عليه قصة محمود بن لبيد ، وهذا المعنى مفقود في الرطب المجذوذ ، فيبقى فيه على المنع .
____________________
(2/34)
( الثاني ) : كونها فيما دون خمسة أوسق .
1877 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه : أن رسول اللَّه رخص في العرايا بخرصها ، فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق . متفق عليه ، شك داود بن الحصين ، أحد الرواة ، وهذا يخص ما تقدم من حديث زيد ، ورافع وسهل ، وغيرهم ، ويقضي عليها ، فلا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق ، على المذهب المعروف ، المجزوم به ، وبعض الأصحاب يقول : رواية واحدة ، وأغرب ابن الزاغوني في وجيزه فلم يشترط الأوسق أصلاً فيما إذا كان المشتري هو الواهب ، بأن شق عليه دخول الموهوب له وخروجه في بستانه ، أو كره الموهوب له دخول بستان غيره ، ولا نظير لهذا .
أما على المذهب ففي الخمسة ( روايتان ) المختار منهما عند الأصحاب المنع ، لأن النهي عن المزابنة مطلق ، خرج منه ما دون الخمسة بيقين ، ووقع الشك في الخمسة بيقين ، فيبقى على مقتضى الأصل من المنع ، ( والثانية ) الجواز ، نظراً إلى عموم أحاديث الرخصة ، خرج منها ما زاد على الخمسة بيقين ، فما عداه يبقى على مقتضى الترخيص .
( الثالث ) : كون ذلك بخرصة لا جزافاً ، لما تقدم من الأحاديث ، وأيضاً فالشارع أقام الخرص للحاجة مقام الكيل ، فلا يجوز العدول عنه ، كما لا يعدل عن الكيل فيما يشترط فيه الكيل ، ثم هل الخرص على ما يؤول إليه عند الجفاف ، وهو اختيار القاضي ، وأبي محمد ، وصاحب التلخيص ، ارتكاباً لأخف المفسدتين وهو الجهل بالتساوي دون أعظمهما وهو العلم بالتفاضل أو على ما هو عليه إذاً نظراً للتساوي في الحال ، ولعله ظاهر الأحاديث وقيل : إنه المنصوص هنا ؟ على روايتين .
( الرابع ) : كون البيع بتمر ، فلا يجوز بيعها بخرصها رطباً ، لما تقدم من حديثي زيد وسهل ، نعم لا إشكال في جواز البيع بنقد أو بعرض ، لانتفاء المزابنة رأساً ، ويشترط في التمر المشتري به ( أن يكون ) كيلاً لا جزافاً .
1878 لأن في البخاري عن ابن عمر عن زيد مرفوعاً : ورخص في العرايا [ أن تباع بخرصها كيلاً ، ولأن الأصل كما تقدم اعتبار الكيل من الجانبين ، سقط في أحدهما ، وأقيم الخرص مقامه للحاجة ، ففي الآخر يبقى على مقتضى الأصل ، ( وأن يكون ) التمر مثل ما حصل به الخرص ، لا أزيد ولا أنقص .
1879 لأن في الترمذي في حديث زيد : أذن لأهل العرايا ] أن يبيعوها بمثل خرصها .
____________________
(2/35)
( السادس ) اشتراط الحلول والقبض من الطرفين في مجلس العقد ، نص عليه ، لأن بيع تمر بتمر ، فاعتبر فيه جميع شروطه ، عدا ما استثناه الشارع ، وقبض كل منهما بحسبه ، ففي النخلة بالتخلية ، وفي التمر باكتياله ، فإن سلم أحدهما ثم مشى الآخر فسلم جاز . ( السابع ) اعتبار الحاجة ، لما تقدم من قصة محمود بن لبيد ، وذكر الرخصة يؤذن بذلك . ثم الحاجة [ تارة ] تكون للمشتري ، بأن يحتاج إلى أكل الرطب ، ولا ثمن معه إلا التمر ، وهذا الذي في قصة محمود بن لبيد ، وهو الذي قاله الخرقي ، ( وتارة ) تكون للبائع ، بأن يحتاج إلى أكل [ التمر ] ، ولا ثمن معه إلا الرطب ، وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي وطائفة من الأصحاب ، ونص عليها أبو بكر ، وأبو البركات ، وغيرهما ، وجوازها بطريق التنبيه ، لأنه إذا جاز مخالفة الأصل لحاجة التفكه فلحاجة الإقتيات أولى ، وهذا يعتمد أصلاً ، وهو جواز القياس على الرخصة ، وعليه المعوّل ، إن فهمت [ العلة ] كمسألتنا ، وعن ابن عقيل أنه جعل من صور الحاجة إذا كانت موهوبة أن يشق على الواهب دخول الموهوب له بستانه وخروجه ، أو يكره الموهوب دخول بستان غيره ، فيجوز إذاً البيع ، انتهى .
ويكتفي بالحاجة المتقدمة من جهة البائع أو المشتري على المشهور ، والمختار لأبي محمد وغيره ، وظاهر ما في التلخيص أنه يشترط مع حاجة المشتري المتقدمة أن يشق على الموهوب له القيام عليها ، وحكى أبو محمد عن القاضي ، وأبي بكر اشتراط [ الحاجة من جانبي البائع والمشتري ، والذي في ( التنبيه ) : العرية أن يكون للرجل النخلة والنخلتان حملهما دون خمسة أوسق ، وهو محتاج إلى التمر ] ، أو يكون إنسان يحتاج إلى الرطب ولا يمكنه شراؤه إلا بالتمر ، فيتبايعان الرطب بالتمر ، وهذا صريح في الاكتفاء بالحاجة من أحد الجانبين ، [ نعم اشتراط الحاجة من الجانبي ] هو المقدم عند ابن عقيل .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) يتفرع على اشتراط الحاجة من الجانبين أنه لو باع رجل عريتين [ من رجلين ] ، فيهما أكثر من خمسة أوسق لم يجز ، أما من اكتفى بالحاجة من أحد الجانبين فإنه ألغى جانب البائع ، ولم يعتبر إلا المشتري ، فيجوز للبائع أن يبيع مائة وسق في عقود متعددة ، بالشروط السابقة ، ولا يجوز للمشتري أن يشتري أكثر من خمسة أوسق ، ولو في صفقتين .
( الثاني ) ( هل تختص ) الرخصة بعرية النخل ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار ابن حامد ، وابن عقيل ، وأبي محمد ، اقتصاراً على مورد النص ، إذ غيرها لا يساويها في الحاجة ، لجمعها بين المصلحتين ، التفكه والاقتيات .
1880 ثم في الترمذي في حديث رافع وسهل : أن النبي نهى عن
____________________
(2/36)
المزابنة التمر بالتمر ، إلا أصحاب العرايا ، فإنه قد أذن لهم ، وعن بيع العنب بالزبيب ، وعن كل ثمر بخرصة . ( أو لا تختص ) ، فتجوز في سائر الثمار وهو قول القاضي ، إلحاقاً لذلك بعرية النخل ، بجامع الحاجة ، أو يلحق العنب فقط ، وهو احتمال لأبي محمد ، لقوة شبهه بالرطب في الاقتيات والتفكه على ثلاثة أقوال ، وخرج أبو العباس على ذلك بيع الخبز باليابس في برية الحجاز ونحوها ، وكذلك بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة ، نظراً للحاجة .
188( الثالث ) المزابنة فسرها أبو سعيد الخدري ، ورافع ، وسهل ، ببيع الثمر بالتمر وفي حديث سهل في الصحيح : أن رسول اللَّه نهى عن بيع الثمر بالتمر ، وقال ( ذلك الربا ، تلك المزابنة ) .
1882 وفسرها ابن عمر بأن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً ، وإن كان كرماً بزبيب كيلاً ، وإن كان زرعاً أن يبيعه بكيل طعام ، نهى عن ذلك كله . متفق عليه ، زاد مسلم : وعن كل تمر بخرصة .
( والمزابنة ) : مفاعلة ، مأخوذة من ( الزبن ) بفتح الزاي ، وإسكان الموحدة ، والزبن في اللغة الدفع الشديد ، ومنه وصفت الحرب بالزبون ، [ لشدة الدفع فيها ، وسمي الشرطي زبنياً ، لأنه يدفع الناس بعنف وشدة ، ومن ذلك أيضاً ] واللَّه أعلم ( الزبانية ) ولما كان كل واحد من المتبايعين في هذه المبايعة يدفع الآخر عن حقه سميت بذلك ، ( والخرص ) بكسر الخاء اسم للمخروص ، وبفتحها المصدر ، والرواية بالكسر ، قاله القرطبي ، وقال النووي : ( بخرصها ) بفتح الخاء وكسرها ، الفتح أشهر ، فمن فتح قال مصدر ، ومن كسر قال اسم للشيء المخروص ، وعلى هذا يترجح بل يتعين ما قاله القرطبي ( ونهى عن بيع الثمر بالتمر ) الأول بثلاث نقط ، والثاني باثنتين ، والمراد بذلك واللَّه أعلم بيع الرطب بالتمر ، ( والرجبية ) من النخل منسوبة إلى رجب ، جمع رجبة ، كركبة وركب ، قاله في الصحاح ، وقال القزاز في جامعه : ومعنى البيت : ليست هذه النخلة كريمة علينا ، ولكن نعريها الزائر والضيف ، والترجيب التعظيم ، وإن فلاناً لمرجب ، أي معظم ، واللَّه أعلم .
قال : فإن تركها حتى تتمر بطل البيع .
ش : الضمير في ( تركها ) يرجع للمشتري ، وهذا هو المذهب من الروايتين ، إذ بتأخره علمنا عدم الشرط ، وهو عدم الحاجة إلى أكل الرطب ، ولأن النبي قال ( يأكلها أهلها رطباً ) أي حالها أن يأكلها أهلها رطباً ، فإذا لم يأكلها أهلها رطباً انتفت صفتها التي هي حكمة الرخصة ، ولا فرق بين الترك لعذر أو غيره ، سداً للذريعة ( والثانية ) لا يبطل ، لاستكمال الشروط حال العقد ، وعن أحمد فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم تركها ، إن قصد ذلك حال العقد بطل ، وإلا لم يبطل ، فيخرج هنا كذلك ، والقول بالبطلان كما دل عليه كلام الخرقي فيما إذا كانت الحاجة في الرطب
____________________
(2/37)
للمشتري ، أما إن كان للبائع في التمر فترك المشتري لها حتى تتمر وعدمه سيان ، واللَّه أعلم . ( باب بيع الأصول والثمار )
ش : ( الأصول ) جمع أصل ، كفلس وفلوس والمراد هنا الأشجار ( والثمار ) جمع ثمر ، كجبل وجبال ، وواحدة الثمر ثمرة ، وجمع الثمار ثمر ، ككتاب وكتب ، وجمع الثمر أثمار كعنق وأعناق ، واللَّه أعلم .
قال : ومن باع نخلاً مؤبرً وهو ما قد تشقق طلعه فالثمرة للبائع متروكة في رؤوس النخل إلى الجذاذ ، إلا أن يشترطها المبتاع .
ش : من باع نخلاً مؤبراً فإن ثمرته تكون للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع .
1883 على نص حديث عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما ، قال : سمعت رسول اللَّه يقول : ( من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع ) متفق عليه وتكون للبائع متروكة في النخل إلى الجذاذ ، ولا يلزمه قطعها في الحال ، إذ النقل والتفريغ جار على العرف ، كما لو باع داراً له فيها قماش ونحو ذلك ، فلا يلزم بالنقل ليلاً ، ولا جمع دواب البلد لذلك ، بل إنما ينقله على المعتاد ، والمعتاد في الثمرة أخذها عند جذاذها ، والمرجع في ذلك إلى العادة ، فإن كان نخلاً فحين تتناهى حلاوة ثمره ، إلا أن تجري العادة بأخذه بسراً ، أو يكون بسره خيراً من رطبه ، فإنه يجذه حين استحكام حلاوة بسره ، وإن كان فاكهة فأخذه حين [ يتناهى ] إدراكه ، ويجذ مثله ، وإن قيل : إن بقاءه خير له ، فلو أصابت الثمرة آفة ، بحيث لم يبق في بقائها فائدة ، فهل يجب تفريغ الأشجار منها في الحال ، لعدم الفائدة في بقائها إذاً ؟ فيه احتمالان ، ولو خيف على الأصول ضرر كثير كالجفاف ونحوه فهل يجبر أيضاً رب الثمرة على القطع حفظاً للأصول ، أو لا ، لأن رب الأصول دخل على ذلك ؟ فيه وجهان أيضاً ، وإن احتاجت الثمرة مدة بقائها على الأصول إلى سقي لم يلزم المشتري ، لأن البائع لم يملكها من جهته ، لكنه لا يملك منع البائع منه إن احتاجت إليه الثمرة ، وإن أضر بالأصل ، لاقتضاء العقد البقاء ، وكذلك إن احتاجت الأصول إلى سقي ، لم يملك صاحب الثمرة منع ربها ، وإن أضر بثمرته كذلك أيضاً .
ومفهوم كلام الخرقي أن الثمرة إذا لم تؤبر فهي للمشتري بإطلاق العقد ، وهو مفهوم الحديث أيضاً .
والخرقي رحمه اللَّه إنما حكم على النخل إذا أبر جميعه ، أما إذا أبر بعضه فلم يتعرض له ، والحكم أن النخلة الواحدة ، ما لم يؤبر منها يتبع ما أبر ، فيكون الجميع
____________________
(2/38)
للبائع ، بلا خلاف نعلمه ، وكذلك الحكم في النوع عند ابن حامد ، حذاراً من سوء المشاركة ، واختلاف الأيدي ، والمنصوص أن لكل حكم نفسه نظراً لظاهر الحديث ، فعلى الأول هل الجنس كالنوع ، فيتبع النوع الذي لم يؤبر النوع الذي أبر جميعه وبعضه ، ويكون الجميع للبائع إذا بيع جميع الجنس ، أم لكل حكمه ؟ فيه قولان ، أشهرهما الثاني ، أما الحائطان فلا يتبع أحدهما الآخر ، ولهذه المسألة التفات إلى مسألة بدو الصلاح في البعض ، ويأتي الكلام عليها إن شاء اللَّه تعالى بما هو أتم من هذا .
( تنبيه ) : أصل التأبير التلقيح ، وهو وضع الذكر في الأنثى ، والخرقي رحمه اللَّه فسره بالتشقق ، لأن الحكم عنده منوط به ، وإن لم يلقح ، لصيرورته في حكم عين أخرى ، وعلى هذا فإنما أنيط الحكم واللَّه أعلم في الحديث بالتأبير لملازمته للتشقق غالباً ، وهذا الذي قاله الخرقي هو أشهر الروايتين ، وقد بالغ أبو محمد فقال : إنه لا اختلاف فيه بين العلماء .
( والثانية ) : لا بد من التلقيح بعد التشقق وإلا يكون للمشتري ، عملاً بظاهر الحديث ، وتمسكاً بالمقتضي اللغوي ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك بيع الشجر إذا كان فيه ثمر باد .
ش : أي ظاهر كالتين ونحوه ، والحكم في ذلك كالحكم فيما تقدم أنه إن ظهر فهو للبائع ، والحكم في ذلك كالحكم فيما تقدم أنه إن ظهر فهو للبائع ، لأنه قد صار كعين أخرى إلا أن يشترطه المبتاع ، وإن لم يظهر فهو للمشتري ، قياساً على ما تقدم ، لمساواته له في المعنى ، والأصحاب قد قسموا الشجر على أضرب ليس هذا موضع بيانها ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ولم يبد صلاحها على الترك لم يجز ، وإن اشتراها على القطع جاز .
ش : بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بدون أصلها له ثلاثة أحوال .
( أحدها ) أن تباع بشرط التبقية ، فلا يصح إجماعاً .
1884 لما رواه عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمبتاع ، وفي رواية قال ( لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه ) .
1885 وعن أنس رضي اللَّه عنه أن النبي نهى عن بيع التمر حتى تزهو ، قلنا لأنس : ما زهوها ؟ قال : حتى تحمر وتصفر . قال : ( أرأيت إن منع اللَّه الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه ) وفي رواية : قال النبي : ( إن لم يثمرها اللَّه فبم تستحل مال أخيك ) متفق عليه .
____________________
(2/39)
1886 وروي نحو ذلك من حديث جابر ، وأبي هريرة ، وابن عباس رضي اللَّه عنهم .
( والثاني ) : أن يشتريها بشرط القطع في الحال ، فيجوز في قول العامة ، لأمن المفسدة التي علل بها صاحب الشريعة ، وهو منع اللَّه الثمرة ، واستحلال مال أخيه بغير شيء ، وهنا الأخذ في الحال ، فالاستحلال بما أخذ في الحال .
( الثالث ) : اشتراها وأطلق ، وهذا لم يتعرض الخرقي رحمه اللَّه للحكم عليه بنفي ولا إثبات ، وفيه قولان للعلماء ، هما روايتان عن إمامنا ، أشهرهما وفيه قولان للعلماء ، هما روايتان عن إمامنا ، أشهرهما وبه جزم الشيخان والأكثرون لا يصح ، لأن الإطلاق يقتضي النقل على ما جرت به العادة ، والعادة في الثمر كما تقدم قطعها إذا بدا صلاحها ، فصار كأنه مشروط عدم القطع .
( والثانية ) : يصح إن قصد القطع ، ويلزم به في الحال ، نص عليها في رواية عبد اللَّه ، حملاً على عرف الشرع والحال هذه ، وتصحيحاً لكلام المكلف ما أمكن ، والشيرازي يحكي رواية بالصحة من غير اشتراط قصد القطع ، وما حكاه السامري عن ابن عقيل في التذكرة أنه ذكر في هذه المسألة أربع روايات ليس بجيد ، إنما حكى ذلك على ما اقتضاه لفظه فيما إذا شرط القطع ثم ترك ، انتهى ، أما بيعها مع أصلها فيجوز إجماعاً ، لأنها إذاً تتبع الأصل ، فأشبهت الحمل مع أمه ، وأس الحيط ، وأيضاً قول النبي ( من باع نخلاً قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ) .
وإن بيعت لمالك الأصل كما إذا باع أصولها بعد أن أبرت ، ولم يشترطها المشتري ، ثم باعها له ، وكذلك لو وصى بنخل مؤبر ثم باع الورثة الثمرة للموصى له فوجهان ( أحدهما ) : يصح ، وهو اختيار السامري ، وصاحب التلخيص فيه ، لأنه اجتمع الأصل والثمرة للمشتري ، فأشبه ما لو اشتراهما معاً ( والثاني ) : وهو ظاهر كلام الخرقي لا يصح ، لعموم الحديث ، ولأنه لا متبوع ولا تابع ، وعلى هذا لو شرط القطع صح ، قال أبو محمد : ولا يلزم الوفاء بالشرط ، لأن الأصل له ، ومقتضى هذا أن اشتراط القطع حق للآدمي ، وفيه نظر ، بل هو حق للَّه تعالى كما سيأتي .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : الزرع قبل اشتداده كالثمرة قبل بدو صلاحها ، يجري فيها ما تقدم .
1887 ولمسلم وأبي داود ، والترمذي ، في رواية في حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي نهى عن بيع النخل حتى يزهو ، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ، نهى البائع المشتري .
1888 وعن أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه نهى عن بيع العنب حتى
____________________
(2/40)
يسود ، وعن بيع الحب حتى يشتد ، رواه أبو داود والترمذي .
( الثاني ) : ( الزهو ) قد فسره أنس رضي اللَّه عنه ، وفيه لغتان : زهى يزهو ، وأزهى يزهي ، حكاهما أبو زيد ، قال الأصمعي : لا يقال النخل يزهو . وإنما يقال : يزهي ، قال الخطابي : هكذا روي الحديث . يعني ( يزهو ) ، والصواب في العربية ( تزهي ) قال ابن الأثير : وهذا القول منه ليس عند كل أحد ، فإن اللغتين قد جاءتا عند بعضهم ، وبعضهم لا يعرف في النخل إلا ( أزهى ) ، انتهى وابن الأعرابي فسر ( زهى يزهو ) بمعنى : ظهر . ( وأزهى يزهي ) إذا احمر أو اصفر ، ( والحب ) الطعام ، واشتداد الحب قوته وصلابته ، واللَّه أعلم .
قال : فإن تركها حتى يبدو صلاحها بطل البيع .
ش : هذا هو المذهب المنصوص ، والمختار من الروايات للأصحاب الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي وأصحابه ، وغيرهم ، لعموم نهيه عن بيع الثمرة حتى تزهو ، خرج منه صورة اشتراط القطع ، وفعله عقب العقد بما هو كالإجماع فيبقى فيما عداه على مقتضى النهي ، ولأنه أخر قبضاً مستحقاً للَّه تعالى ، فأبطل العقد ، كتأخير [ قبض ] رأس مال السلم والصرف .
والمعتمد في المسألة سد الذرائع ، فإنه قد يتخذ اشتراط القطع حيلة ، ليسلم له العقد ، وقصده الترك ، والذرائع معتبرة عندنا في الأصول وقد عاقب اللَّه سبحانه وتعالى أصحاب السبت بما عاقبهم به ، لما نصبوا الشباك يوم الجمعة ، حيلة على الصيد بها يوم السبت ، وعاقب أصحاب الجنة بما عاقبهم ، لما قصدوا حرمان الفقراء ، والتحيل على إسقاط حق اللَّه سبحانه ، ونهى سبحانه عن سب الآلهة التي تدعى من دون اللَّه ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب اللَّه جل وعلا ، بقوله : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللَّه ، فيسبوا اللَّه عدواً بغير علم } .
1889 وامتنع النبي من قتل المنافقين ، حذاراً من أن يقال : إن محمداً يقتل أصحابه .
1890 ومنع سائق الهدي أن يأكل منه هو أو أحد من رفقته إذا عطب دون محله ، حذاراً من أن يقصر في علفه ويفرط فيه .
1891 ومنع القاتل من الإرث ، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى تعجيل الميراث .
1892 وأمر عمر بقتل الجماعة بالواحد ، سداً للذريعة أيضاً ، وأدلة هذا اوصل كثيرة ، وقد عمل إمامنا على ذلك في كثير من المسائل . ( والرواية الثانية ) لا يبطل
____________________
(2/41)
البيع ، نظراً إلى أن المبيع بحاله ، وغاية الأمر أنه انضاف إليه غيره ، وذلك لا يقتضي البطلان ، بدليل ما لو اشترى حنطة فاختلطت بأخرى ولم تتميز ، ( والثالثة ) : نقلها أبو طالب إن قصد الحيلة فسد البيع ، لمقارنة النهي للعقد إذاً ، وإن لم يقصد الحيلة لم يفسد ، لخلو العقد عن النهي ظاهراً وباطناً ، وقد اختلف الأصحاب في هذه الرواية والتي قبلها ، فأثبتها ابن عقيل وغيره ، وتأول الثالثة شيخه فقال : معناها ما إذا لم يقصد الحيلة وهو أسهل ، يعني أنه لا يأثم ، وإن قصد الحيلة أثم ، قال : وإلا فهما يتفقان في حكم الصحة والبطلان ، إذ ما يبطل العقد لا فرق فيه بين القصد وعدمه ، قال : فمحصول المذهب فيه روايتان ، وأبو محمد تأول الثانية على ما إذا لم يقصد الحيلة ، ومع القصد يبطل البيع عنده رواية واحدة ، ومحل الخلاف عنده مع عدم القصد ، وطريقته أخص الطرق ، كما أن عم الطرق طريقة ابن عقيل . ( وحيث قيل ) بالفساد فإن المبيع بزيادته للبائع ، نص عليه أحمد ، ويرد الثمن ، لأنه قد تبين عدم الشرط المصحح للعقد ، فبطل من أصله . ( وحيث قيل ) بالصحة فهل يشترك البائع والمشتري في الزيادة ، لحدوثها عن ملكيهما ، أو يتصدقان بها استحساناً للاختلاف ؟ فيه روايتان منصوصتان ، وحمل القاضي في روايتيه وفي تعليقه كلا النصين على الاستحباب ، وجعل الزيادة للمشتري ، هذا هو التحقيق في النقل ، وفاقاً لنصوص الإمام وللقاضي في التعليق ، وأبي البركات ، وحكى ابن الزاغوني وأبو محمد وغيرهما رواية أن البائع يتصدق بالزيادة على القول بالبطلان ، وكأنهم تبعوا القاضي في روايتيه ، فإنه زعم أن حنبلاً روى ذلك عن الإمام ، وفيه نظر ، فإنه صرح في التعليق بأن حنبلاً وابن سعيد اتفقا على الصحة ، إلا أن ابن سعيد [ قال ] : يشتركان ، وحنبلاً قال : يتصدقان ، وفي الكافي رواية بالشركة على القول بالبطلان أيضاً ، وكأنه أخذها من قول ابن أبي موسى : وقيل عنه . ويتلخص من ذلك أن على القول بالبطلان ثلاثة أقوال ، كما ذلك على القول بالصحة .
ومعنى التصدق بالزيادة أو الاشتراك فيها أن ينظر كم قيمتها وقت العقد ، وكم قيمتها بعد الزيادة ، فما بينهما محل التردد ، فإذا قيل مثلاً قيمتها وقت العقد مائة ، ثم صارت قيمتها بعد الزيادة مائتين ، فالصدقة أو الشركة له بالمال الزائد .
ثم من المباشر للصدقة فيها ؟ قد تقدم أن على رواية البطلان يتصدق بها البائع ، أما على رواية الصحة فظاهر نص الإمام كما سيأتي أنهما يتصدقان بها ، وقال ابن الزاغوني : لا تدخل في ملك واحد منهما ، ويتصدق بها المشتري .
( تنبيه ) : ترجم الخرقي رحمه اللَّه المسألة إذا ترك حتى بدا الصلاح ، وكذا القاضي وجماعة ، وكذا وقعت نصوص أحمد الذي حكم فيها بالبطلان ، أما نصاه اللذان حكم فيهما بالصحة ، فقال فيهما : إذا كبرت وزادت ، قال في رواية ابن سعيد : لا يشتري الرطبة إلا جزة ، فإن تركها حتى تطول وتكبر كان البائع شريكاً للمبتاع في
____________________
(2/42)
الثمن ، إلا أن يكون يسيراً ، قدر يوم أو يومين ، وكذلك النخل ، ومن ثم استثن ابن عقيل من كون البائع يشارك المشتري الزمن اليسير ، تبعاً لنص الإمام انتهى ، وقال في رواية حنبل : إذا باعه زرعاً على أن يجزه ، أو نخلاً على أن يصرمه ، فتركه حتى زاد ، فالزيادة لا يستحقها واحد منهما ، ويتصدقان بها ، فقد يقال بتقرير نصوصه ، فالبطلان إذا بدا الصلاح ، والصحة إذا لم يبد ، واللَّه أعلم .
قال : وإن اشتراها بعد أن يبدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز .
ش : اوصل في ذلك ما تقدم من نهيه عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، وعن بيعها حتى تزهو ، ونحو ذلك .
1893 وعن عمرة أن رسول اللَّه نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة ، رواه مالك في الموطأ .
ودلالة هذه الأحاديث من أوجه ( أحدهما ) : أنه غيا النهي بغاية ، فبوجودها يزول النهي ، ويبقى على أصل الإذن في جواز البيع ( الثاني ) أن ما بعد الغاية والحال هذه يعطى عكس حكم ما قبلها ، وإلا فذكر الغاية إذاً وعدمها سيان ، وما قبلها لا يجوز إلا بشرط القطع ، فما بعدها يجوز وإن شرط الترك ، ( الثالث ) : أنه علل المنع بعلة ، وهي الخوف من تلفها ، ووقوع العاهة بها ، والحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، وإذا بدا الصلاح زالت العلة غالباً ، فيزول المنع انتهى ، والخرقي رحمه اللَّه على ما إذا اشتراها بشرط القطع ، ليصرح بمخالفة الخصم ، ويفهم منه بطريق التنبيه صورة الوفاق ، وهي ما إذا أطلق .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) بدو الصلاح في شجرة صلاحج لجميعها ، بلا خلاف أعلمه بين الأصحاب ، وكثير منهم يقول : رواية واحدة ، واختلف في صلاح بعض النوع ، هل يكون صلاحاً [ لسائر ذلك النوع الذي في القراح ؟ فيه روايتان ، أشهرهما عن الإمام : لا يكون صلاحاً له كما لا يكون صلاحاً ] لقراح آخر ، وهذا اختيار أبي بكر في الشافي ، وابن شاقلا في تعاليقه ، واستدل له ابن شاقلا بقوله ( حتى يبدو صلاحه ) وقال : وهو يقتضي الكل بدلالة قوله تعالى : { كما بدأكم تعودون } فإنه يقتضي الكل لا البعض ( والثانية ) : وهي اختيار الأكثرين ، ابن أبي موسى ، وابن حامد ، والقاضي وأصحابه وغيرهم يكون صلاحاً كما في النخلة الواحدة [ إذ سوء المشاركة والاختلاط موجود في النوع ، كما في النخلة الواحدة ] ، وخرج بذلك قراح آخر ، واختلف القائلون بهذه الرواية في النوع كالبرني مثلاً هل يكون صلاحاً لسائر الجنس الذي في القراح ؟ فقال القاضي ، وابن عقيل ، وأبو محمد والأكثرون : لا يكون صلاحاً ، وقال أبو الخطاب : يكون صلاحاً ، وهو ظاهر النص الآتي .
____________________
(2/43)
ولا نزاع أن المذهب أن صلاح الجنس لا يكون صلاحاً لجنس آخر ، وكذلك صلاح نوع من بستان ، لا يكون صلاحاً لنوع آخر من بستان آخر ، وعنه أن بدو الصلاح في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه .
( الثاني ) نص أحمد في الرواية الأولى : إذا احمر بعضه وبعضه أخضر ، يباع الذي بلغ ، وهذا يشمل النخلة والنخلات ، لكن القاضي قال : يجب أن يحمل هذا على أنه لا يكون صلاحاً لنخلة أخرى ، أما النخلة فيكون صلاحاً لها رواية واحدة ، ونصه في الثانية ، في بستان بعضه بالغ ، وبعضه غير بالغ : بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ ، فمن القائلين بالرواية الثانية ، من قصر الحكم على الغلبة ، كالقاضي في تعليقه ، وأبي حكيم النهرواني ، وأبي البركات ، تبعاً لهذا النص ، ومنهم من سوى بين القليل والكثير ، كابن أبي موسى مصرحاً به ، وأبي الخطاب وغير واحد ، تبعاً واللَّه أعلم للنص المحكي أخيراً ، ويتلخص في المسألة ثلاث روايات ، ( الثالثة ) الفرق بين الغلبة وغيرها ، ثم كلا النصين اللذين حكم فيهما الإمام بالصلاح يشملان النوع ، والجنسين ، كما يقوله أبو الخطاب ، عكس المشهور .
واعلم أن معنى : ما لم يبد صلاحه في حكم ما بدا صلاحه ، في جواز بيعه مع ما بدا صلاحه تبعاً له ، فلو أفرد بالبيع فوجهان ، وحكاهما القاضي في المجرد ، فيما لم يؤبر من النوع ، إذا أفرد بالبيع أن ثمرته تكون للبائع ، إن قيل : إن ما لم يؤبر تبع لما أبر ، وخالفه ابن عقيل فقال : إن الثمرة والحال هذه تكون للمشتري قولاً واحداً ، واللَّه أعلم .
قال : فإن كانت ثمرة نخل فبدو صلاحها أن تظهر فيها الحمرة أو الصفرة ، وإن كانت ثمرة كرم فصلاحها أن تتموه ، وصلاح ما سوى النخل والكرم أن يبدو فيه النضح .
ش : لما أناط الخرقي رحمه اللَّه جواز البيع ببدو الصلاح فسره وبينه ، بأنه ظهور الحمرة أو الصفرة في ثمرة النخل ، وذلك لما تقدم عن أنس رضي اللَّه عنه : حتى تحمر وتصفر .
1894 وعن جابر رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه نهى أن تباع الثمرة حتى تشقح ، قيل : وما تشقح ؟ قال ( حتى تحمار وتصفار ويؤكل منها ) .
1895 وسأل سعيد بن فيروز ابن عباس عن بيع النخل ، فقال : نهى رسول اللَّه عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤمل ، وحتى يوزن ، قال فقلت : وما يوزن ؟ فقال رجل عنده : حتى يحزر . متفق عليهما ، وصلاح ثمرة الكرم أن تتموه ، أي
____________________
(2/44)
يجري فيها الماء الحلو وتلين ، وكذلك ما سوى ثمرة النخيل والكرم ، صلاحه أن يبدو فيه النضج لصلاحيته ، وكذلك الذي قبله للأكل ، وإذاً يدخل في معنى الأحاديث السابقة ، وعلى هذا أيضاً ينبغي أن يحمل كلام الخرقي في ثمرة النخل ، أنه لا بد مع احمرارها واصفرارها من صلاحيتها للأكل ، وفاقاً لحديث جابر وابن عباس ، وكذلك جعل أبو البركات الضابط في جميع الثمار أن يطيب أكلها ، ويظهر فيها النضج ، وأبو محمد جعل ما يتغير لونه عند صلاحه ، كالإجاص ، والعنب الأسود ، صلاحه تغير لونه كثمرة النخل ، والضابط الذي ذكره أبو البركات أجود .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) اختلف الأصحاب فيما يؤكل صغاراً وكباراً ، كالقثاء والخيار ، ونحوهما ، فقال القاضي وابن عقيل : صلاحه تناهي عظمه ، وقال أبو محمد : أكله عادة . وتوسط صاحب التلخيص فقال : صلاحه التقاطه عرفاً ، وإن طاب أكله قبل ذلك .
( الثاني ) ( تشقح ) بضم التاء وإسكان الشين ، وتخفيف القاف ، مضارع ( أشقح ) وقد فسره جابر ، و ( تحزر ) بتقديم الزاي على الراء ، أي تخرص ، وفي بعض الأصول بتقديم الراء ، قيل : إنه تصحيف ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يجوز بيع القثاء والخيار ، والباذنجان ، وما أشبهها إلا لقطة لقطة .
ش : لا يجوز بيع الخيار ، والباذنجان ، وما أشبه ذلك كالقثاء والبطيخ إلا لقطة لقطة ، لأن الزائد على ذلك غير معلوم ، فلم يجز بيعه ، لعدم العلم به .
واعلم أن هذه الأشياء عند جمهور الأصحاب أصولها كالشجر النابت ، وثمرتها كثمرته ، فتباع أصولها مطلقاً ، وثمرتها قبل بدو صلاحها [ معها ] ، أو لمالكها على وجه ، أو بشرط القطع ، أو مطلقاً بشرطه على رواية ، وبعد بدو الصلاح يباع الموجود منها واختار صاحب التلخيص المنع من بيع ثمارها قبل بدو صلاحها إلا بشرط القطع ، وإن بيعت مع أصولها ، لتعرضها للآفة مع الأصول إلا أن بيعت مع الأرض ، أو لمالكها ، وقياس قوله أن أصولها لا تباع صغرة إلا إذا أمنت العاهة ، إلا أن تباع مع الأرض أو لمالكها ، أو بشرط القطع ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك الرطبة كل جزة .
ش : حكم الرطبة وما ثبت أصوله في الأرض ويؤخذ دفعة بعد دفعة كالنعنع ، والهندباء ، ونحو ذلك حكم الخيار ، والباذنجان ، لا يباع إلا الموجود منه جزة جزة ، بشرط القطع في الحال ، إذ ما لم يظهر معدوم ، والموجود متى ترك ولم يقطع اختلط بغيره ، وإذاً يفضي إلى مشاجرة ونزاع ، وذلك مما لا يرضاه الشارع .
( تنبيه ) : حكم بيع الخيار ونحوه ، والرطبة ونحوها إذا بيع بشرط القطع ، ثم ترك حتى طالت الجزة ، أو حدثت ثمرة أخرى ولم يتميزا حكم بيع الثمرة قبل بدو
____________________
(2/45)
صلاحها ، إذا بيعت بشرط القطع ، ثم تركت حتى بدا صلاحها على ما تقدم ، قال غير واحد : ونص أحمد وقع في رواية ابن سعيد في الرطبة إذا تركها حتى طالت بالصحة ، وأظن أن ذلك وقع لابن عقيل أيضاً .
أما إن اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها ، فحدثت ثمرة أخرى للبائع ، فإن تميزتا فلا كلام ، وإن لم تتميزا اشتركا بقدر ما لكل منهما ، فإن لم يعلم القدر وقف الأمر حتى يصطلحا ، هذا رأي ابن عقيل ، وأبي محمد وهو الصواب ، بخلاف الثمرة قبل بدو صلاحها ونحوها ، لارتكاب النهي ثم ، وسدا للذريعة ، لئلا يتخذ ذلك حيلة لما هو ممنوع منه شرعاً ، وأجرى أبو الخطاب في ذلك الروايتين اللتين في الثمرة قبل بدو صلاحها ، وقال القاضي : إن كانت الثمرة للبائع ، فحدثت أخرى ، قيل لكل منهما : اسمح بنصيبك . فإن فعل أجبر الآخر على القبول ، وإن امتنعا فسخ العقد ، وإن اشترى ثمرة فحدثت أخرى لم يقل للمشتري اسمح ، إذ الثمرة كل المبيع ، ويقال للبائع ذلك ، فإن سمح أجبر المشتري على القبول ، وإلا فسخ العقد ، قال ابن عقيل : ولعل هذا القول لبعض أصحابنا ، فإني لم أجده معزياً إلى أحمد ، واللَّه أعلم .
قال : والحصاد على المشتري .
ش : الحصاد قطع الزرع ، والخرقي رحمه اللَّه كأنه استعمله في جميع ما تقدم ، لأن الجميع قطع ، وإنما كان ذلك على المشتري لأنه لتفريغ ملكه عن ملك البائع ، وأنه عليه كنقل الطعام ونحوه ، وفارق الكيل والوزن والذرع والعدد ، فإنهن من تمام التسليم ، وذلك على البائع ، والتسليم هنا حصل بالتخلية ، واللَّه أعلم .
قال : فإن شرطه على البائع بطل البيع .
ش : اختلف الأصحاب أولاً في جواز هذا الشرط ، فذهب جماعة منهم كأبي بكر ، وابن حامد ، والقاضي وجماعة من أصحابه وغيرهم إلى جوازه ، لما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى من أن البيع لا يبطله شرط واحد ، ولأن قصاراه أنه بيع وإجارة ، وإنهما جائزان منفردين ، فجازا مجتمعين ، وذهب الخرقي إلى منعه ، وهو الذي أورده ابن أبي موسى مذهباً ، لأنه اشترط العمل في المبيع قبل ملكه ، أشبه ما لو استأجره ليخيط له ثوب زيد إذا ملكه ، وأجيب بأن في مسألتنا حصلت الإجارة والملك معاً ، ومثل ذلك لا يمنع ، على المنصوص في جواز رهن المبيع على الثمن ، بخلاف ما تقدم ، وعلى هذا القول هل يبطل البيع لبطلان الشرط ؟ فيه روايتان حكاهما ابن أبي موسى .
والخرقي قطع بالبطلان ، فيحتمل أن مذهبه بطلان البيع بالشرط الفاسد ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي وابن عقيل ، ويحتمل أن يخص البطلان هذا الشرط ، وهو المرجح عند أبي محمد .
( تنبيه ) : خرج أبو الخطاب وجماعة من أتباعه من قول الخرقي عدم صحة
____________________
(2/46)
اشتراط منفعة البائع في المبيع مطلقاً ، وأبو البركات وصاحب التلخيص ذكرا ذلك رواية ، فيحتمل أن مستندهما ذلك ، ويحتمل أنهما اطلعا على نص ، وتردد أبو محمد في التخريج ، والأرجح عنده عدمه ، وقصر كلام الخرقي على هذه المسألة وشبهها مما يفضي إلى التنازع ، فإن البائع يريد القطع من أسفل ، ليبقى له بقية ، والمشتري يريد الاستقصاء ليزيد له ما يأخذه ، وإنما ترجح ذلك عنده لما تقدم من إفضاء ذلك إلى التنازع ، وليوافق المذهب [ في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع ، إذ القاضي قد قال : إنه لم يجد بما قال الخرقي رواية في المذهب ] لأن الخرقي قال بعد : والبيع لا يبطله شرط واحد .
وجميع ذلك معترض ، أما الإفضاء إلى التنازع فممنوع ، إذ القطع على ما جرت به العادة ، كما لو لم يشترطه عليه ، وأما موافقة المذهب فإن المذهب أياً عند الأكثرين صحة هذا الشرط ، والقاضي إنما كلامه فيه ، وأما قول الخرقي فلا بد من تخصيصه بهذا الشرط ، أو بشرط منفعة البائع في المبيع .
وبالجملة يتلخص في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع ثلاثة أقوال ، ( الصحة ) مطلقاً ، وهو المختار للأكثرين ، والمنصوص عن الإمام .
1896 محتجاً بأن محمد بن مسلمة رضي اللَّه عنه اشترى من نبطي جزرة حطب ، وشارطه على حملها ، ( والمنع ) مطلقاً ، ( والمنع ) في جز الرطبة وما في معناها ، والصحة فيما عدا ذلك ، ثم محل الخلاف إذا كانت المنفعة معلومة ، أما إن جهلت لهما أو لأحدهما فإنه لا يصح اشتراطها بلا نزاع نعلمه ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا باع حائطاً واستثنى منه صاعاً لم يجز ، فإن استثنى نخلة أو شجرة بعينها جاز .
ش : لا نزاع فيما نعلمه في جواز الثنيا كانت معلومة ، ولم تعد على المستثني بجهالة ، كما إذا باع حائطاً واستثنى منه نخلة بعينها أو نخلات كذلك ، ونحو ذلك .
1897 لما روى جابر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه نهى عن المحاقلة والمزابنة ، والثنيا إلا أن تعلم ، رواه النسائي ، والترمذي وصححه ، وهذه الثنيا معلومة ، فصحت بمقتضى الحديث ، ولأن مثال ذلك إذا كان في الحائط مائة نخلة مثلاً ، واستثنى نخلة منه فقال : بعتك تسعاً وتسعين .
ولا إشكال أيضاً في منع الثنيا إذا كانت مجهولة ، كما لو قال والحال ما تقدم : إلا نخلة ، أو إلا جزءاً من الثمرة ، ونحو ذلك ، للحديث أيضاً ، ولأن جهالة المستثني تفضي إلى جهالة المستثنى منه ، ومن شرط المبيع كونه معلوماً .
____________________
(2/47)
1898 بدليل نهيه عن بيع الغرر ، ونحو ذلك .
واختلف فيما إذا باع حائطاً واستثنى منه صاعاً ، أو صبرة لا يعلمان قفزانها واستثنى منها قفيزاً ، ونحو ذلك ، أو باع حائطاً واستثنى ثلث ثمرته أو ربعها ، أو صبرة واستثنى سبعها أو ثمنها ونحو ذلك ، على ثلاثة روايات ، ( إحداهما ) : الصحة في الجميع ، اعتماداً على الحديث ، إذ الثنيا والحال هذه معلومة ، وقد قيل : إنه إجماع أهل المدينة ، ( والثانية ) : وهي اختيار أبي بكر ، وابن أبي موسى عدم الصحة في الجميع ، لأن الثنيا والحال هذه تفضي إلى جهالة المبيع ، وبيانه أن المبيع والحالة هذه إنما علم بالمشاهدة ، وبعد إخراج المستثنى تختل المشاهدة ، وإذاً يدعى تخصيص الحديث لذلك ( والثالثة ) : يصح في : إلا ثلثها ، إلا سبعها ، ونحو ذلك ، إذ معناه ، بعتك ثلثيها ، بعتك ستة أسباعها ، وهو معلوم ، ولا يصح في : إلا صاعاً ، إلا قفيزاً ، ونحو ذلك ، لما تقدم من أن المصحح للبيع والحال هذه الرؤية ، وبإخراج الصاع ونحوه تختل ، وهذه الرواية اختيار القاضي وجماعة من أصحابه ، وأبي محمد وغيرهم .
واختلف الأصحاب فيما إذا باع نخلة واستثنى منها صاعاً ونحو ذلك ، فأجرى أبو محمد فيه الخلاف ، وقطع القاضي في شرحه ، وفي جامعه الصغير بالصحة ، معللاً بأن الجهالة هنا يسيرة فتغتفر ، بخلاف ثم ، وكذا وقع نص أحمد في رواية حنبل بالصحة ، وتردد القاضي في التعليق فيه ، هل يجري على ظاهره ، لما تقدم من قلة الجهالة ، أو يحمل على الرواية التي قال فيها ثم بالصحة .
واختلفوا أيضاً فيما إذا قال : بعتك هذا الحيوان إلا ثلثه ، أو إلا ربعه ، ونحو ذلك ، فأجازه أبو محمد ، وابن عقيل ، كما لو قال في الصبرة : إلا ثلثها ، ومنع ذلك القاضي في المجرد ، قال : على قياس قول الإمام في الشحم ، ورد بأن الشحم مجهول ، ولا جهالة هنا ، وحمل ابن عقيل كلام شيخه على أنه استثنى ربع لحم الشاة ، لا ربعها مشاعاً ، ثم اختار الصحة في ذلك أيضاً ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى الثمرة دون الأصل فلحقتها جائحة من السماء رجع بها إلى البائع .
ش : لا نزاع عندنا فيما نعلمه في وضع الجوائح في الجملة .
1899 لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئاً ، بم تأخذ من مال أخيك بغير حق ؟ ) وفي رواية : أن النبي أمر بوضع الجوائح . رواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وللنسائي في رواية أخرى ( من باع ثمراً فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه
____________________
(2/48)
شيئاً ، علام يأكل أحدكم مال أخيه المسلم ) ولأن الثمار على رؤوس الأشجار تجري مجرى الإجارة ، لأنها تؤخذ شيئاً فشيئاً كالمنافع ، ثم المنافع إذا تلفت قبل مضي المدة كانت من ضمان المؤجر ، كذلك الثمار ، لا يقال : المنافع قبل مضي المدة غير مقبوضة ، بخلاف الثمار فإنها مقبوضة ، لأنا نقول : كلاهما في حكم المقبوض من وجه ، ولهذا جاز التصرف في كل منهما على المذهب ، ثم لا نسلم أن الثمرة مقبوضة القبض التام ، بدليل أنها لو تلفت بعطش كانت من ضمان البائع ، فلا ترد صحة التصرف فيها ، فإنا نمنعه على رواية اختارها أبو بكر ، فيما حكاه عنه ابن شاقلا .
1900 وقال : إنه قول زيد بن ثابت ، وإن سلمناه فالإجارة ، يجوز التصرف فيها ، وإذا تلفت كانت من ضمان المؤجر .
1901 وقد اعترض على هذا بالحديث الصحيح أن رجلاً أصيب على عهد رسول اللَّه في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول اللَّه ( تصدقوا عليه ) قال : فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال رسول اللَّه ( خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك ) ولو كان الضمان على البائع لكانت المصيبة عليه ، وأجيب بأن هذا واقعة عين ، فيحتمل أنه أصيب بعد حرزها وقبضها القبض التام .
1902 واعترض أيضاً بحديث عمرة بنت عبد الرحمن ، قالت : ابتاع رجل ثمرة حائط في زمان رسول اللَّه ، فعالجه وقام فيه ، حتى تبين له النقصان ، فسأل رب الحائط أن يضع له أو يقيله ، فحلف أن لا يفعل ، فذهبت أم المشتري إلى رسول اللَّه ، فذكرت ذلك له ، فقال رسول اللَّه ( تألى فلان أن لا يفعل خيراً ) رواه أحمد ومالك في الموطأ وظاهره أن الوضع غير واجب على البائع ، وإلا لطلب رسول اللَّه البائع ، وأمره بذلك ، وأنكر عليه حلفه ، وامتناعه من الواجب ، وقد أجيب بأن الجائحة هنا يحتمل أن تكون بفعل آدمي والضمان عليه ، ويحتمل أنه علم أنه ينزجر بقوله ، ويخرج من الحق ، فلم يحتج إلى طلبه .
1903 ويشهد لذلك ما في المسند أن الرجل بلغه ، فأتى النبي فقال : يا رسول اللَّه إن شئت الثمن كله ، وإن شئت ما وضعوا ، فوضع عنهم ما وضعوا .
1904 وفي الموطأ فسمع بذلك رب الحائط ، فأتى رسول اللَّه فقال : يا رسول اللَّه هو له ويحتمل أنه كان قبل الأمر بوضع الجوائح ، على أنه ليس في الحديث أن الثمرة أصابتها جائحة ، مع أن الحديث مرسل ، ثم يضعفه اختلاف ألفاظه ، وما في
____________________
(2/49)
المغني من أن المرأة قالت : فأذهبتها الجائحة ، وأنه متفق عليه [ الظاهر ] أنه وهم .
واعترض أيضاً بالأحاديث الصحيحة من نهيه عن بيع الثمرة حتى تزهو ، وقوله : ( أرأيت إن لم يثمرها اللَّه بم تستحل مال أخيك ؟ ) ولو كان الضمان على البائع لما استحل مال أخيه ، وهذا أقوى ما اعترض به .
وقد أجاب عنه القاضي بأن معناه : بم تستحل جواز الأخذ ، فهو إنكار على البائع في أخذ الثمن ، نظيره قوله تعالى : 19 ( { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } ) ولا يخفى أن ظاهر اللفظ خلاف هذا .
والذي يظهر لي عدم القول بوضع الجوائح ، وأن ذلك كان أولاً ، حين كانوا يتبايعون الثمار قبل بدو الصلاح .
1905 بدليل ما قال زيد بن ثابت رضي اللَّه عنه : كان الناس في عهد رسول اللَّه يتبايعون الثمار ، فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم ، قال المبتاع : إنه أصاب الثمر الدمان ، أصابه مراض ، أصابه قشام ، عاهات يحتجون بها ، فقال رسول اللَّه لما كثرت عنده الخصومة ( إما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر ) كالمشورة يشير بها ، لكثرة خصومتهم ، رواه البخاري ، وأبو داود ، وزاد : يتبايعون الثمار قبل بدو صلاحها ، وهذا بين في أنهم كانوا يتبايعون الثمار [ قبل بدو صلاحها ، وأن الجوائح ما كانت توضع ، وإلا لم يكن في الخصومة فائدة ، وأن رسول اللَّه قطع ذلك ، بأن منع البيع ] قبل بدو الصلاح .
ولا تفريع على هذا ، أما على المذهب ، فهل توضع الجوائح مطلقاً ، عملاً بعموم الحديث ، وهو اختيار جمهور الأصحاب ، إلا القدر اليسير الذي لا بد من تلفه غالباً ، قال أحمد : لا أقول في عشر تمرات ، ولا عشرين تمرة ، وما أدري ما الثلث ؟ أو لا يوضع إلا أن أتلفت الثلث فصاعداً ، وهو اختيار الخلال ، لأن اليسير مغتفر إذ لا بد من تلف ما غالباً ، وما دون الثلث يسير .
1906 بدليل قول النبي ( الثلث والثلث كثير ) ؟ على روايتين ، وقيدهما ابن عقيل وصاحب التلخيص بما بعد التخلية ، وظاهره أن قبل التخلية الكل على البائع ، ثم على الثانية : عل يعتبر الثلث بالقدر أو بالقيمة ؟ فيه قولان .
ومعنى وضع الجوائح أن الثمرة إذا تلفت أو بعضها قبل الجذاذ كان ذلك من ضمان البائع على المذهب ، فيرجع المشتري عليه بالثمن أو ببعضه حسب التالف . وعلى الرواية الأخرى إن أتلفت دون الثلث فمن ضمان المشتري ، وإن أتلفت الثلث فصاعداً فمن ضمان البائع ، وإن تعيبت الثمرة ولم تتلف خير المشتري بين الإمضاء
____________________
(2/50)
والأرش ، وبين الرد وأخذ الثمن كاملاً .
ثم الجائحة التي هذا حكمها ما لم يكن بفعل آدمي ، كالريح ، والمطر ، والجراد ، والبرد ، ونحو ذلك ، أما ما كان بفعل آدمي كالحاصلة من قطاع الطريق ، ونهب الجيوش ، ونحو ذلك ، فإن المشتري مخير بين فسخ العقد ، ومطالبة البائع بالثمن ، وبين إمضائه ومطالبة المتلف بالبدل ، قاله القاضي وغير واحد ، واختار أبو الخطاب في الانتصار أن الضمان والحال هذه يستقر على المشتري ، فيلزم العقد في حقه ، ثم يرجع هو على المتلف ، وفي التلخيص وغيره أن في إحراق اللصوص ، ونهب الحرامية والجيوش وجهان ، يعني هل هو من الجائحة أم لا ؟ وكأن مرادهم خلاف أبي الخطاب وشيخه انتهى .
وقول الخرقي : اشترى الثمرة . الألف واللام للعهد ، أي الجائز بيعها ، وذلك بعد بدو صلاحها مطلقاً ، وقبله بشرط القطع ، ( وقوله ) : دون الأصل ، يخرج به ما إذا اشتراها مع الأصل ، فإن ضمانها يستقر عليه ، لحصولها تابعة لما ضمانه عليه ، وهو الأرض . ( وقوله ) : ولحقتها جائحة من السماء . يخرج به الجائحة من آدمي ، وكذا قال أبو البركات ، وظاهره كقول أبي الخطاب . ( وقوله ) : رجع بها على البائع . هذا فيما قبل تناهي الثمرة ، أما إن جذت فلا نزاع في استقرار العقد ، ولزوم الضمان للمشتري ، وكذلك إن حصل تناهياً ، لأن التفريط إذاً من المشتري ، وكذلك إن تمكن من قطعها ولم يقطعها ، فيما إذا بيعت قبل الصلاح بشرط القطع ، قاله أبو البركات ، والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد ، وهو احتمال له في التعليق ، لما تقدم ، وزعم فيه أن ظاهر كلام الإمام الوضع أيضاً ، اعتماداً على إطلاقه ، ونظراً إلى أن القبض لم يحصل .
ثم قول الخرقي : اشترى الثمرة . يشمل ثمرة النخل وغيرها ، وأحمد قال فيما حكاه عنه ابن عقيل : إنما الجوائح في النخل ، فظاهره إخراج ثمرة الشجرة ، لكن قال القاضي : إنما أراد إخراج [ الزرع ] ، والخضروات إذ لا فرق يظهر بين الشجر ، والنخل .
ويخرج من قول الخرقي وأحمد ما عدا الثمار ، من الزرع ، والخضراوات ، فلا وضيعة في ذلك ، بل ضمانه على المشتري ، وهذا أحد احتمالي القاضي : وقال : إنه الأشبه ، بعد أن قال : إنه لا يعرف الرواية في ذلك ، وفرق بأن الزرع لا يباع من غير شرط القطع إلا بعد تكامل صلاحه ، فإذا تركه بعد فقد فرط ، والثمرة تباع بعد بدو الصلاح ، وقبل تكاملها على الترك ، فلا تفريط . ( والثاني ) : وبه قطع أبو البركات حكم ذلك حكم الثمرة بالقياس عليها .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : ليس من الجائحة إذا استأجر أرضاً للزراعة فزرعها ثم تلف الزرع بغرق أو نحوه ، نص عليه أحمد ، وقاله الأصحاب ، قال أبو محمد : ولا نعلم فيه خلافاً ، لأن المعقود عليه منفعة الأرض ، وقد استوفيت بالزراعة ، والتلف حصل لمال المستأجر ، فهو كما لو استأجر بهيمة لحمل متاع ، فحملته فتلف أو سرق .
____________________
(2/51)
( الثاني ) : ( الجائحة ) في اللغة واحدة الجوائح ، وهي الآفات التي تصيب الثمار فتتلفها ، يقال : جاحهم الدهر يجوحهم ، واجتاحهم ، إذا أصابهم مكروه عظيم ، ( وتألى ) حلف ، و ( الدمان ) بفتح الدال ، [ وتخفيف الميم ] ، عفن يصيب النخل فيسوده و ( المراض ) داء يقع في الثمرة فتهلك ، يقال : أمرض الرجل . إذا وقع في ماله العاهة ، و ( القشام ) هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحا و ( إما لا ) أصله ، إن ما لا . فأدغمت النون في الميم ، والمعنى : إن لم يفعل فليكن هذا . وتمال إمالة خفيفة ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال : وإذا وقع البيع على مكيل ، أو موزون ، أو معدود ، فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع ، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض ، فإذا تلف فهو من مال المشتري .
ش : المبيع على ضربين ، متميز ، وغير متميز ، فغير المتميز قسمان ( أحدهما ) مبهم تعلق به حق توفية ، كقفيز من هذه الصبرة ، ورطل من هذه الزبرة ، ونحو ذلك ، فهذا يفتقر إلى القبض ، على المذهب المعروف ، المقطوع به عند عامة الأصحاب ، حتى أن بعضهم يقول : رواية واحدة .
1907 لما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه قال : مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعاً فهو من مال المبتاع . ذكره البخاري من قول ابن عمر رضي اللَّه عنهما تعليقاً ، واحتج به أحمد ، وقول الصحابي : مضت السنة . ينصرف إلى سنة رسول اللَّه ، وهو يدل بمفهومه على أن المبيع من مال البائع ، وفي كلام أبي محمد ما يقتضي حكاية رواية بعدم افتقار ذلك إلى القبض ، ولا يتابع عليها .
( القسم الثاني ) : مبهم لم يتعلق به حق توفيه ، كنصف العبد ، وربع الإناء ، وسدس القربة ، ونحو ذلك ، فاختلف كلام صاحب التلخيص فيه ، ففي البلغة أنه كالذي قبله ، قال : وإنما يفترقان في أنه لو تلفت الصبرة إلا قفيزاً منها تعين أنه المبيع ، بخلاف الجزء المشاع . وفي التلخيص في البيع وفي الرهن جعله من المتميزات ، فيه الخلاف الآتي . والمتميز قسمان أيضاً ( أحدهما ) ما تعلق به حق توفية ، كبعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم ، وهذا الثوب على أنه عشرة أذرع . فالمشهور عند الأصحاب وبه قطع أبو البركات وغيره أنه كالمبهم الذي تعلق به حق توفية ، إناطة بها ، قال في التلخيص : وخرج بعض الأصحاب فيه وجهاً أنه كالعبد والثوب ، بناء على أن العلة ثم اختلاط المبيع بغيره . قلت : وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ، وذكر له قول الثوري : كل شيء ليس فيه كيل ، ولا وزن ، ولا عدد ، فخراجه ، وحمله ، ونقصه على المشتري ، وكل بيع فيه كيل ، أو وزن ، أو عدد ، فلا بد للبائع أن يوفيه . فقال أحمد : أما العدد فلا ، ولكن كل ما يكال ويوزن فلا بد للبائع أن يوفيه ، لأن ملكه قائم فيه .
( القسم الثاني ) متميز لم يتعلق به حق توفية ، كالعبد ، والدار ، والصبرة ، ونحو ذلك من الجزافيات ، ففيه روايات .
( إحداهن ) وهي الأشهر عن الإمام ، والمختار لجمهور الأَصحاب عدم افتقار
____________________
(2/52)
ذلك إلى القبض ، لمنطوق ما تقدم عن ابن عمر .
1908 وعن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي قضى ( أن الخراج بالضمان ) رواه الخمسة ، أي : حاصل أو ثابت بسبب الضمان ، وفي رواية : أن رجلاً ابتاع غلاماً فاستعمله ، ثم وجد به عيباً ، فرده بالعيب ، فقال البائع : غلة عبدي ؟ فقال النبي : ( الغلة بالضمان ) رواه أحمد ، وأبو داود وظاهره أن المبيع المتعين من ضمان المشتري ، لأنه جعل خراجه له ، بسبب أن ضمانه عليه .
( والثانية ) افتقار ذلك إلى القبض ، حكاها جماعة منهم أبو الخطاب في الانتصار ، وأخذها من قول أحمد في رواية الأثرم : إن الصبر لا تباع حتى تنقل . قال : وهي معينة كالعبد والثوب . وأظهر من هذا أخذها من رواية مهنا ، فيمن تزوج امرأة على غلام بعينه ، ففقئت عين الغلام ولم تقبضه فهو على الزوج ، وهذه قال في التلخيص : إنها اختيار ابن عقيل ، والذي في الفصول تصحيح الأولى ، ثم إنه حكى عن أبي بكر ما يقتضي تأويل الثانية ، واختار هو أنها على ظاهرها ، وأن عليها لا يكون الضمان على المشتري ، وهذا ليس منه اختياراً للرواية ، إنما فيه إثباتها ، نعم هو يختار أنه لا يجوز التصرف في ذلك قبل قبضه .
1909 وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : ابتعت زيتاً في السوق ، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحاً حسناً ، فأردت أن أضرب على يده ، فأخذ رجل من خلفي بذراعي ، فالتفت فإذا زيد بن ثابت ، فقال : لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك ، فإن رسول اللَّه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع ، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ، رواه أحمد ، وأبو داود .
1910 وعن حكيم بن حزام رضي اللَّه عنه قال : قلت : يا رسول اللَّه إني أبتاع هذه البيوع ، فما يحل لي منها وما يحرم علي ؟ قال ( يا ابن أخي إذا اشتريت بيعاً فلا تبعه حتى تقبضه ) رواه البيهقي في سننه .
( والرواية الثالثة ) : أن المفتقر من ذلك إلى القبض هو الطعام ، وإن كان غير مكيل ولا موزون ، على ظاهر ما نقله أحمد بن الحسين الترمذي ، وقد سأله عن بيع الفاكهة قبل القبض ، فقال : في هذا شيء إن خرج مخرج الطعام ، لأن الحديث في الطعام ، وأصرح من هذا رواية الأثرم ، وسأله عن قوله : نهى عن ربح ما لم يضمن . قال : هذا في الطعام وما أشبهه ، من مأكول ، أو مشروب ، فلا تبعه حتى تقبضه ،
____________________
(2/53)
ونحوه نقله المروذي ، وهذه الرواية قال ابن عبد البر : إنها الأصح عن إمامنا ، وإليها ميل أبي محمد بل ظاهر كلامه إناطة الحكم بها ، وعدم النظر إلى كون المبيع مبهماً أو مما تعلق به حق توفية ، أو غير ذلك .
1911 وقد استدل لها بما روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه قال : ( من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) قال : وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول اللَّه أن نبيعه حتى ننقله من مكانه .
1912 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه نهى أن يبيع الرجل طعاماً حتى يستوفيه ، وفي رواية : حتى يكتاله . متفق عليهما .
1913 وفي مسلم نحوهما من حديث جابر ، وأبي هريرة رضي اللَّه عنه . وهذه الأحاديث شاملة بمنطوقها لكل طعام ، ومفهومها أن غير الطعام ليس كذلك ، وهو في معنى مفهوم الصفة ، لأٌّ هـ اسم مشتق ، لا اسم جامد كزيد ونحوه ( والرابعة ) : المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل والموزون ، بشرط أن يكون مطعوماً ، قال في رواية مهنا : كل شيء يباع قبل قبضه ، إلا ما كان يكال أو يوزن ، مما يؤكل أو يشرب ( والخامسة ) : وهي ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل أو الموزون ، أخذاً من نصه في رواية الأثرم : أن الصبر لا تباع حتى تنقل .
والخرقي رحمه اللَّه أناط الحكم بالمكيل ، والموزون والمعدود ، وظاهره خلاف هذه الأقوال ، فيكون قولاً سادساً ، ويحتمل أنه أراد ما تعلق به حق توفية ، وهو أولى ، وفاقاً للمذهب المنصوص . واللَّه أعلم .
واعلم أن أكثر هذه الروايات وأدلتها أخذت من المنع من البيع قبل القبض ، أو هو من كون الضمان على البائع ، وهو مبني على ما يقوله أكثر الأصحاب ، من أن المنع من البيع ، ولزوم الضمان للبائع ، متلازمان كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى . والمذهب عند العامة أن الذي يفتقر إلى القبض هو ما تعلق به حق توفية دون غيره .
إذا عرف هذا فالمفتقر إلى القبض يكون قبله من ضمان البائع ، ولا يجوز لمشتريه التصرف فيه كما سيأتي ، وما لا يفتقر إلى قبض من ضمان مشتريه ، وله التصرف فيه ، سواء قدر على القبض أو لم يقدر ، لكن متى منعه البائع منه بعد المطالبة ، واتساع الوقت للتسليم ، ضمن ضمان غصب ، لا ضمان عقد ، وليس اللزوم من أحكام القبض ، على المذهب كما تقدم ، ولا الضمان وعدمه مرتباً على اللزوم ، وقول السامري : إذا تم العقد بغير خيار ، أو بخيار وانقضت مدته من غير فسخ ، فإن كان المبيع غير متميز . إلى آخره ، يوهم ترتب الضمان على اللزوم وليس بشيء ،
____________________
(2/54)
وكذلك ليس الملك من أحكام القبض هنا ، بل يحصل الملك بمجرد العقد ، على المذهب كما تقدم ، نص عليه أحمد في رواية محمد بن موسى ، في من اشترى قفيزاً من طعام من جملة أقفزة ، فهو من مال البائع ، [ فقيل له : أليس قد ملكه المشتري ؟ فقال : بلى ولكن هو من ضمان البائع ] انتهى ، وإذاً ما حصل من نماء في يد البائع فهو أمانة في يده للمشتري ، إذ النماء تابع للملك .
ومعنى تضمين البائع ما تقدم أنه إن تلف بأمر سماوي بطل العقد فيه ، وكان من مال البائع ، فيلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه ، وإلا فلا شيء له ، قال القاضي وغيره : على قياس قوله في الثمرة إذا تلفت قبل أخذها بآفة سماوية ، وإن تلف بفعل من جهة آدمي ، فإن كان المشتري فقد استقر العقد ، وتلف من ماله ، وإن كان البائع أو أجنبياً خير المشتري بين فسخ العقد والرجوع بالثمن إذا كان قد دفعه ، وبين إمضائه ومطالبة متلفه بعوضه ، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن تلف البائع يبطل العقد .
وقد يقال : إن ظاهر إطلاق الخرقي بطلان العقد مطلقاً ، ونص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد ، في رجل باع ثوباً من رجل ، ثم باعه من آخر قبل التفرق ، ولما يسلمه للأول ، واستهلكه البائع ، أخذ بخلاصه ، فإن لم يقدر أن يخلصه فعليه قيمته يوم استهلكه ، فإن كان ذلك مما يكال أو يوزن فعليه المثل ، وظاهر هذا أن التلف إذا كان من جهة البائع ضمنه ، ولم يبطل العقد ، ولا يخير المشتري ، ويتلخص من هذا أن في تلف البائع ثلاثة أقوال ، والقاضي قال : يجب أن يحمل هذا النص على أنه اختار الإمضاء ، أما إن اختار الفسخ فله ذلك ، كما إذا ظهر على عيب بعد القبض ، فإنه يخير بين الإمضاء وبين الفسخ . ( قلت ) : وليس هذا نظير المسألة ، إنما نظيرها أن يظهر على عيب بعد التلف ، وإذاً لا تخيير على المعروف ، انتهى .
والعوض مثله إن كان مثلياً ، أو قيمته إن لم يكن مثلياً ، كما نص عليه أحمد ، وقاله جماعة ، ووقع لأبي البركات وجماعة أن الواجب القيمة ، فقيل : مرادهم كما تقدم ، وأرادوا بالقيمة البدل الشرعي . وكان شيخنا رحمه اللَّه ورضي عنه القاضي موفق الدين ينصر أن المراد القيمة على ظاهرها ، انتصاراً للمجد ، إذ هو في كلامه أظهر منه في كلام غيره ، ونظراً إلى تحقيقه ، ويعلله بما ملخصه : أن الملك هنا استقر على المالية ، فلذلك وجبت القيمة ، والمثلية لم يستقر الملك عليها ، فلذلك لم تجب ، ونص ابن سعيد يقطع النزاع . واللَّه أعلم .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : إذا اختلط ما تقدم بغيره ولم يتميز ، فإنه يبنى على أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا ؟ فيه وجهان ، ومحل ذلك كتاب الغصب ، ولو تلف بعض المبيع بآفة سماوية انفسخ في قدره ، وفي الباقي قولاً تفريق الصفقة ، قال في التلخيص : والذي قطع به الشيخان عدم الفسخ في الباقي ، لكن يخير المشتري ، لتفريق الصفقة عليه ، ثم ظاهر كلام أبي محمد أنه يخير بين قبول كل المبيع ناقصاً ولا
____________________
(2/55)
شيء له ، وبين الفسخ والرجوع بكل الثمن ، وظاهر كلام غيره أن التخيير في الباقي ، وأن التالف يسقط ما قابله من الثمن ، وإن كان تلف البعض بفعل المشتري كان ذلك بمنزلة قبضه له ، وإن كان بفعل البائع أو أجنبي ، خير المشتري بين الفسخ والرجوع بكل الثمن ، وبين الإمضاء والرجوع على المتلف بعوض ما أتلف ، أما إن تعيب ولم يتلف ، فإن كان بفعل البائع أو أجنبي ، فالمشتري بالخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن ، وبين الإمضاء ومطالبة المتلف بالأرش ، وإن كان بغير فعل آدمي ، خير بين أخذه ناقصاً ، ولا شيء له ، وبين الفسخ والرجوع بالثمن ، قاله أبو محمد ، وصاحب التلخيص ، فلو كان المبيع داراً فتلف سقفها قبل القبض ، وقلنا : إنها من ضمان البائع ، على الرواية الضعيفة ، فهل ذلك بمنزلة العيب ، كما لو تلفت يد العبد ، أو بمنزلة تلف البعض كأحد العبدين ؟ فيه وجهان .
( الثاني ) : في معنى ما يتعلق به حق توفية وإن لم يكن هو المبيع برؤية أو صفة متقدمة ، فإنه من ضمان بائعه حتى يقبضه المبتاع ، ذكره ابن أبي موسى وغيره ، واللَّه أعلم .
قال : ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه .
ش : قد تقدم أن جمهور الأصحاب جعلوا المنع من البيع والضمان متلازمين ، وأن الافتقار إلى القبض علم عليهما ، فكل ما افتقر إلى القبض فضمانه على بائعه ، ومشتريه ممنوع من بيعه قبل قبضه ، وما لا فلا .
1914 لأن النبي نهى عن ربح ما لم يضمن ، ومنع من بيع أشياء حتى تقبض ، والظاهر أن منعه من ذلك حذاراً من أن يربح فيما لم يضمن ، وإذاً إنما يبقى النظر في الممنوع من بيعه قبل قبضه ، هل هو كل شيء ، كما في حديثي زيد بن ثابت وحكيم بن حزام ، وأحاديث المنع من بيع الطعام بعض أفراد ذلك ، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره ، إذ لا ريب أن أحاديثه أثبت ، ورواته أكثر ، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه ما تعلق به حق توفية ، فقط ما دل عليه قول ابن عمر تضمنه أن المنع من البيع ، وتضمين البائع متلازمان ، ويحتمله حديث عائشة في المتعين ؟ انتهى .
وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول أن المنع من البيع غير ملازم للضمان ، لأنه حكى أن ما تعلق به حق توفية من ضمان البائع ، وفي غيره من المتعيان كالعبد والصبرة ونحوهما روايتان ، ثم قال : إذا ثبت أن المبيع المتعين من ضمان مشتريه ، فهل يصح بيعه قبل قبضه ؟ نقل الأثرم : لا يجوز بيع الصبرة قبل قبضها . ونقل ابن القاسم ما يدل على الجواز ، ثم حكى الخلاف أيضاً في المكيل والموزون إذا لم يكن مطعوماً ، وفي المطعوم إذا لم يكن مكيلاً ، وهذا أيضاً ظاهر ما حكى السامري عن القاضي ، فإنه حكى عنه في الصبرة هل هي من ضمان البائع أو من ضمان المشتري ؟ على روايتين [ وأنه هل يجوز للمشتري التصرف فيها قبل القبض ؟ على روايتين ] قال :
____________________
(2/56)
الأقيس جواز التصرف ، لأنه لم يتعلق به حق توفية ، ولو تلف قبل القبض كان من مال المشتري ، فهو كالعبد ، وظاهر كلاميهما أن الخلاف في جواز التصرف على القول بالضمان ، والذي يظهر لي من جهة الدليل عدم التلازم ، وأن المتعينات من ضمان المبتاع لظاهر حديث عائشة رضي اللَّه عنها وقول ابن عمر ، وغيرها من ضمان البائع ، لمفهوم قول ابن عمر ، وأن جميع الأشياء يمنع من بيعها قبل قبضها ، لحديث زيد بن ثابت ، وحكيم بن حزام ، إذ الذي منع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره انتهى .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : عموم كلام الخرقي المنع للبائع ولغيره ، وهو كذلك انتهى ، ( الثاني ) : حيث جوزنا البيع قبل القبض فباع قبل أن يقبض فالمشتري الثاني مخير بين أن يطالب به الأول ، وبين أن يطالب به الثاني ، والثاني يطالب الأول ( الثالث ) : بيان القبض يأتي إن شاء اللَّه تعالى للخرقي في الرهن ، فلنتكلم عليه ثم ، واللَّه أعلم .
قال : والشركة فيه والتولية والحوالة به كالبيع .
ش : الشركة في المبيع بيع بعضه بقسطه من الثمن ، بأن يقول : أشركتك في نصفه بنصف الثمن ، أو في سدسه بسدس الثمن ، ونحو ذلك ، والتولية فيه بيع جميعه بكل الثمن ، وهما نوعان من أنواع البيع ، فما ثبت في البيع ثبت فيهما ، وقد ثبت المنع من البيع قبل القبض فيما تقدم ، فكذلك فيهما ، ومثلهما بيع المرابحة ، نحو : رأس مالي فيه مائة ، بعتك بها وربح عشرة ، والمواضعة ، كأن يقول والحال هذه : ووضيعة عشرة . والصلح بمعنى البيع ، كأن يقر له بمائة فيعطيه عنها عرضاً ، ونحو ذلك ، والهبة بثواب ، لأن المغلب فيها حكم البيع ، على المذهب ، والإجارة ، لأنها بيع في الحقيقة ، ويتصور في ذلك في الأواني الموزونة ، وفي المبهم في الموزون ، كرطل من صنجة حديد ، وفي المعين على رواية اعتبار القبض فيه ، وعليها التزويج كالإجارة ، قاله في التلخيص ، والقسمة حيث قيل إنها بيع ، والخرقي رحمه اللَّه ذكر الشركة والتولية على سبيل التمثيل ، أما الحوالة فقد منع الخرقي منها فيحتمل لأنها عنده بيع ، ويحتمل وإن قيل : إنها عقد مستقل . لأنه تصرف في المبيع المفتقر إلى القبض قبل قبضه ، فلم يجز كالبيع ، ويكون الخرقي قد نبه بهذه الصورة على بقية التصرفات ، وهذا أوفق لعبارة القاضي ، وأبي الخطاب وغيرهما ، لقولهم : يجوز التصرف في المبيع المتعين قبل قبضه ، ولا يجوز فيما لم يتعين قبل قبضه ، إلا أن القاضي وأبا الخطاب وقع في أثناء كلامهما استثناء العتق يريدان على القول بأن جميع الأشياء تفتقر إلى القبض ، وقد صرح باستثناء العتق أيضاً صاحب التلخيص وغيره ، وحكى صاحب التلخيص عن القاضي وابن عقيل أنهما ذكرا في موضع أن رهن ما افتقر إلى القبض يصح بعد قبض الثمن ، لأن قبضه قد صار مستحقاً من غير خلاف ، وخرج هو على ذلك الهبة بغير ثواب ، وفي هذا التعليل نظر ، لأن مقتضاه جواز كل التصرفات في المفتقر إلى القبض
____________________
(2/57)
بعد قبض ثمنه ، لاستحقاق قبضه ، واللَّه أعلم .
قال : وليس كذلك الإقالة ، لأنها فسخ ، وعن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه : الإقالة بيع .
ش : أي ليست الإقالة كالتولية والشركة ونحوهما ، لما علل به من أنها فسخ ، والممنوع منه إنما هو البيع وما في معناه ، ( والرواية الثانية ) الإقالة بيع ، أي في معناه ، فتلحق بالتولية والشركة ونحوهما ، وقد فهم من كلام الخرقي وتعليله إناطة الحكم بالبيع وما في معناه ، وإذاً ظاهره مخالف لما تقدم من قول القاضي وغيره .
( تنبيه ) : المشهور من الروايتين وهو اختيار جمهور الأصحاب ، القاضي ، وعامة أصحابه ، وأبي الحسين ، وأبي محمد ، وحكاه عن أبي بكر الذي قدمه الخرقي ، لأن الإقالة هي الرفع والإزالة ، يقال : أقالك اللَّه عثرتك . أي أزالها .
1915 قال : ( من أقال نادماً أقاله اللَّه عثرته ) رواه أبو داود ، والرفع والإزالة غير البيع ، إذ هو عقد ، وهي رفع له فهما ضدان ، ومن ثم لا يحصل أحدهما بلفظ الآخر ، وجازت الإقالة في المسلم فيه ، مع الاتفاق على أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه ، وعللها بأنها إزالة ملك إلى مالك ، ويريد فيه بعوض على وجه التراضي ، وإذاً هي في معنى البيع ، فتلحق به .
وللخلاف فوائد ، ( منها ) أن على الأول يجوز قبل القبض فيما يعتبر له القبض ، ولا يحتاج إلى كيل ثان ، وحكى أبو محمد عن أبي بكر أنه لا بد فيها من كيل ثان إقامة للفسخ مقام البيع ، والذي في التنبيه إيجاب الكيل على القول بأنها بيع ، لا على القول بأنها فسخ ، ( ولا تجوز ) إلا بمثل الثمن ، ( ولا تستحق ) بها شفعة ، ( ولا يحنث ) بفعلها فيما إذا حلف لا يبيع فأقال ، ( ويكون النماء ) للبائع ، قاله القاضي في الجامع الصغير ، وعلى الثانية تنعكس هذه الأحكام إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين ، أما وجوب الاستبراء على البائع إذا عادت إليه بإقالة فالذي قطع به أبو بكر في التنبيه وجوبه على القول بأن الإقالة بيع ، وكذلك الشيرازي قطع بالوجوب وقاله وبنى المسألة على أن الإقالة بيع ، ومقتضى كلاميهما عدم الوجوب إن لم يقل إنها بيع ، والمنصوص عن أحمد في رواية ابن القاسم وابن بختان وجوب الاستبراء مطلقاً ، ولو قبل القبض ، وهو مختار القاضي وجماعة من أصحابه ، إناطة بالملك ، واحتياطاً للأبضاع ، ونص في رواية أخرى أن الإقالة إن كانت بعد القبض والتصرف وجب الاستبراء ، وإلا لم يجب ، وكذلك حكى الرواية القاضي ، وأبو محمد في الكافي ، والمغني ، وكأن أحمد رحمه اللَّه لم ينظر في هذه إلى انتقال الملك ، إنما نظر إلى الاحتياط .
والعجب من أبي البركات ، حيث لم يذكر : قبل التفرق ، مع جودته وتصريح
____________________
(2/58)
الإمام به ، لكنه قيد المسألة بقيد لا بأس به ، وهو بناؤها على القول بانتقال الملك ، أما لو كانت الإقالة في بيع خيار وقلنا : ولم ينتقل الملك . فظاهر كلامه أن الاستبراء لا يجب ، وإن وجد القبض ، ولم يعتبر أبو البركات أيضاً القبض فيما إذا كان المشتري لها امرأة ، بل حكى فيها الروايتين وأطلق ، وخالف أبا محمد في تصريحه بأن المرأة بعد التفرق كالرجل ، ونص أحمد الذي فرق فيه بين التفرق وعدمه وقع في الرجل ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها .
ش : وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما وغيره أن رسول اللَّه قال : ( من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه ) وقال ابن عمر : 16 ( كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول اللَّه أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ) . وهذا يقال : إنه استفيد مما تقدم ، بناء على أن مراد الخرقي بالكيل ما تعلق به حتى توفية وغيره ، وهو ظاهر ما شرح عليه أبو محمد وغيره ، وقد يقال بالمنع هنا وإن قيل : إنه من ضمان المشتري ، اتباعاً لإطلاق النص .
( تنبيه ) : ( الصبرة ) قال الأزهري : هي الكومة المجموعة من الطعام . قال : وسميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض . واللَّه أعلم .
قال : ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة .
ش : هذا منصوص أحمد رحمه اللَّه ، وعليه الأصحاب ، حذاراً من تغرير المشتري وغشه ، إذ البائع لا يفعل ذلك غالباً والحال هذه إلا لذلك ، والغش حرام .
1916 قال ( من غشنا فليس منا ) .
1917 وقد روي أن النبي قال : ( من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافاً حتى يبينه ) وهذا نص في المسألة ، وعن مالك رحمه اللَّه أنه قال : لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك .
وعن أحمد رحمه اللَّه ما يدل على كراهة ذلك وإساءة فاعله ، من غير تحريم ، إذ المشتري يحتاط لنفسه ، فلا يشتري ما يجهله ، وإذا اشترى مع الجهل فالتفريط منسوب إليه ، وعلى هذه الرواية البيع صحيح لازم ، نص عليه ، أما على الأولى فهل يفسد البيع لأجل النهي ، وبه قطع أبو بكر في التنبيه ، وطائفة من الأصحاب ، أو لا يفسد ، وهو قول القاضي ، وكثير من أصحابه ، إذ قصاراه أنه تدليس ، وهو غير مفسد ، بدليل حديث المصراة ؟ فيه وجهان ، ثم على القول بالصحة إن علم المشتري بعلم البائع فلا خيار له ، لدخوله على بصيرة ، وإن لم يعلم فله الخيار كالتدليس ، ولو انفرد المشتري
____________________
(2/59)
بالعلم دون البائع فحكمه حكم انفراد البائع بذلك ، في أنه ينهى عن الشراء ، وإذا اشترى ففي صحة شرائه الخلاف السابق ، أما مع علمهما فعموم كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك أيضاً ، وقد غالى أبو بكر فجزم بالبطلان فيه ، وهو أحد الوجهين على القول بالبطلان مع علم أحدهما ، حكاهما في التلخيص ، وأما مع جهلهما فيصح البيع بلا تردد ، كما فهم ذلك من كلام الخرقي ، وقد دل عليه حديث ابن عمر وغيره . ولا فرق عندنا بين عين الأثمان والمثمنات .
ولا يشترط معرفة باطن الصبرة ، دفعاً للحرج والمشقة ، اعتماداً على تساوي أجزائها غالباً ، بخلاف الثوب ونحوه ، وشرط أبو بكر في التنبيه لجواز بيع الصبرة تساوي موضعها ، فإن لم يتساوَ لم يجز ، إلا أن يكون يسيراً يتغابن بمثله ، وعامة الأصحاب لا يشترطون ذلك ، وعندهم أنه إن ظهر تحتها ربوة أو فيها حجر ونحو ذلك مما يتغابن بمثله في مثلها ، ولم يعلم به المشتري ، فله الخيار بين الرد والإمساك ، كما لو وجد باطنها رديئاً ، نص عليه أحمد ، ولابن عقيل احتمال أنه يرجع بمثل ما فات ، إذا أمكن تحقيق ذلك أو حزره ، وإن بان تحتها حفرة تأخذ العين المذكورة أو بان باطنها خيراً من ظاهرها ، فلا خيار للمشتري ، وللبائع الخيار إن لم يعلم ، ولأبي محمد احتمال أنه لا خيار له ، إذ الظاهر علمه بذلك ، ولابن عقيل احتمال أنه يأخذ منها ما حصل في الانخفاض ، حتى يتساوى وجه الأرض ، واختار صاحب التلخيص أن حكم الأولى حكم ما لو باعه أرضاً على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة ، وحكم الثانية حكم ما لو باعه أرضاً على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى صبرة على أن كل مكيلة منها بشيء معلوم جاز .
ش : لأن المبيع معلوم بالمشاهدة ، وقدر ما يقابل كل جزء من المبيع من الثمن معلوم ، فصح للعلم بالعوض .
1918 وعن علي رضي اللَّه عنه 16 ( أنه أجر نفسه كل دلو بتمرة ، وجاء إلى النبي بالتمر فأكل ) ، واللَّه أعلم .
( باب المصراة وغير ذلك )
ش : معنى التصرية عند الفقهاء أن يجمع اللبن في ضرع البقرة أو الشاة ونحوهما اليومين والثلاثة ، حتى يعظم ، فيظن المشتري أن ذلك لكثرة اللبن ، وإذاً هي المصراة ، والمحفلة أيضاً ، يقال : ضرع حافل . أي عظيم ، والحفل الجمع العظيم ، واختلف في معناها لغة فقال الشافعي رحمه اللَّه تعالى : التصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة ، ويترك حلبها اليومين والثلاثة ، حتى يجتمع لبنها ، فيزيد المشتري في ثمنها لما يرى من
____________________
(2/60)
ذلك . وقال أبو عبيد : المصراة هي الناقة ، أو البقرة ، أو الشاة يصرى اللبن في ضرعها ، أي يجمع ويحبس . قال : ولو كانت من الربط لقيل فيها : مصرورة . وإنما جاءت مصراة وهذا هو المشهور . وقال الخطابي : قول أبي عبيد حسن ، وقول الشافعي صحيح ، والعرب تصر الحلوبات ، وتسمي ذلك الرباط صراراً ، واستشهد بقول العرب : العبد لا يحسن الكر ، وإنما يحسن الحلب والصر . انتهى .
والتصرية حرام ، إذا قصد بها التدليس على المشتري لما سيأتي ولأنها غش وخديعة ، وقد قال : ( من غشنا فليس منا ) .
1919 وقوله : ( بيع المحفلات خلابة ، ولا تحل الخلابة لمسلم ) .
وقول الخرقي : وغير ذلك . أي مما إذا وجد بالمبيع عيباً ، لأن ذلك يقع عن تدليس وعن غيره ، ومن اختلاف المتبايعين ، ومن بيوع منهى عنها ، ونحو ذلك مما ستقف عليه ، إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : ومن اشترى مصراة وهو لا يعلم ، فهو بالخيار بين أن يقبلها ، أو يردها وصاعاً من تمر .
1920 ش : الأصل في هذا ما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا تصروا وفي رواية لا تصر الإبل والغنم ، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين ، بعد أن يحلبها ، إن شاء أمسك ، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر ) متفق عليه .
1921 وعن ابن مسعود رضي اللَّه عنه ( من اشترى محفلة فردها فليرد معها صاعاً ) رواه البخاري ، والبرقاني على شرطه وزاد ( من تمر ) .
1922 وروي نحوه من حديث ابن عمر وأنس .
ولا يقال : إن هذا مخالف لقواعد كلية ، ( منها ) أن اللبن مثلي ، والتمر ليس بمثل له ، والقاعدة ضمان المثلي بمثله لا بغيره ، ( ومنها ) أن الصاع محدود ، واللبن ليس بمحدود ، فإنه يختلف بالقلة والكثرة ، والقاعدة أن الضمان على قدر الذهاب ، ثم لما عدل عن المثل إلى غيره فقد يجيء به نحو المتابعة ، فهو بيع الطعام بالطعام غير يد بيد ، فهو الربا ، لأنا نقول : حديث المصراة أصل مستثنى من تلك القواعد ، لمعنى يخصه ، وبيانه أن اللبن الحادث بعد العقد ملك للمشتري ، فيختلط باللبن الموجود حال العقد ، وقد يتعذر الوقوف على قدره ، فاقتضت حكمة الشرع أن جعل ذلك مقدراً ، لا
____________________
(2/61)
يزيد ولا ينقص ، دفعاً للخصام ، وقطعاً للمنازعة ، وإنما خص ذلك واللَّه أعلم بالطعام لأنه قوت كاللبن ، وجعل تمراً لأنه غالب قوتهم ، ولا يحتاج في تقوته إلى كلفة ، ومن ثم واللَّه أعلم وصفه بقوله : ( لا سمراء ) دفعاً للحرج في تكلف السمراء ، لقلتها عندهم ، ثم لا نظر للقياس مع وجود النص .
وقد عارض بعضهم حديث المصراة بقوله ( الخراج بالضمان ) ونشأ له ذلك من جعله التمر في مقابلة اللبن الحادث بعد العقد ، وهو ممنوع ، وإنما هو في [ مقابلة الموجود حال العقد .
1923 بدليل ما في البخاري وأبي داود في الحديث ( من اشترى غنماً مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها ، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ) على تقدير تسليم أنه في ] مقابلة الحادط وإنه لبعيد فهو عام ، وحديث المصراة خاص ، ولا معارضة بين العام والخاص انتهى .
وقول الخرقي : مصراة . يشمل بعمومه الآدميات ، والأتان ، والفرس ، وهو أحد الوجهين ، واختيار ابن عقيل ، اعتماداً على عموم الحديث ، ونظراً إلى أن الثمن يختلف بذلك ، ( والثاني ) : لا يثبت ، ويحتمله كلام الخرقي بعد في قوله : وسواء كان المشتري ناقة ، أو بقرة ، أو شاة . لاقتصاره على ذلك ، وزعم ابن البنا تبعاً لشيخه أنه قياس المذهب ، بناء منهما على أن لبن الآدمية لا يجوز بيعه ، وذلك لأن لبن ما ذكر لا يعتاض عنه عادة ، ولذلك لا يجب في مقابلته شيء ، ولا يقصد قصد بهيمة الأنعام ، والخبر ورد فيما يقصد عادة .
وقوله : وهو لا يعلم . يخرج ما إذا علم التصرية ، فإنه لا خيار له ، وهو كذلك لعلمه بالعيب .
وقوله : فهو بالخيار ، أي إذا علم بالتصرية ، إذ ثبوت أمر لشخص يعتمد علمه به . ثم كلامه يشمل قبل الحلب ، ويعلم ذلك ببينة ، أو بإقرار من البائع ، وإذاً له الرد عندنا ولا شيء عليه ، بناء على ما تقدم من أن التمر في مقابلة اللبن الموجود حال العقد ، ولا وجوب للبدل مع وجود المبدل ، وهذه الصورة تستثني من كلام الخرقي .
ويشمل أيضاً ما إذا حلب اللبن وأراد رده ، فإنه لا يجزئه إلا التمر ، وهذا أحد الوجوه ، وهو الذي جعله أبو الخطاب وأبو البركات مذهباً ، نظراً لإطلاق الحديث ، ( والثاني ) يجزئه رده ، ولا شيء عليه وإن تغير ، لما تقدم من أن البدل إيحابه منوط بعدم المبدل ، والمبدل موجود ، وإن حصل نقص فبتدليس البائع ، ( والثالث ) وهو اختيار القاضي ، وأبي محمد إن كان اللبن بحاله لم يتغير فكالثاني ، لما تقدم ، وإن
____________________
(2/62)
تغير فكالأول ، دفعاً للضرر عن البائع .
ويشمل أيضاً ما إذا صار لبنها عادة ، ومراده واللَّه أعلم بالحكم الذي حكم به صورة واحدة ، وهو ما إذا حلبها ولم يصر لبنها عادة ، أما إذا صار لبنها عادة فلا خيار ، لزوال العيب الذي لأجله ثبت الرد ، وهذه الصورة أيضاً مستثناة من كلام الخرقي .
[ وقول الخرقي ] : بين أن يقبلها . ظاهره ولا أرش له ، وهو المشهور عند الأحاب ، وظاهر الحديث .
1924 وفي رواية لمسلم ( إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة ، أو شاة مصراة فهو بخير النظرين [ بعد أن يحلبها ] ، إما هي ، وإلا فليردها وصاعاً من تمر ) ( وعن أحمد ) في رواية ابن هانىء : إن شاء رجع عليه بقدر العبي ، وكذا ذكر أبو بكر في التنبيه ، وتبعه الشيرازي ، وصاحب التلخيص فيه قياساً على بقية العيوب .
وقوله : وصاعاً من تمر . يقتضي أنه لا يجزئه غيره ، وهو كذلك اتباعاً للنص ، وما ورد في الحديث ( صاعاً من طعام ) فالمراد به واللَّه أعلم التمر ، إذ في رواية أخرى ( صاعاً من طعام لا سمراء ) وما ورد في حديث ابن عمر وسيأتي إن شاء اللَّه ( فإن ردها رد معها مثل أو قال مثلي لبنها قمحاً ) أشار البخاري إلى تضعيفه ، ويؤيد ضعفه أنه لا قائل به ، وقال الشيرازي : الواجب أحد شيئين ، صاع من تمر ، أو صاع من قمح .
1925 لأن في حديث رواه البيهقي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن رجل ، عن النبي أنه قال ( من اشترى مصراة فهو بخير النظرين ، فإن حلبها ورضيها أمسكها ، وإن ردها رد معها صاعاً من طعام ، أو صاعاً من تمر ) والطعام إذا أطلق غالباً يراد به البر ، ويجاب أنه بعد تسليم صحته محمول على أنه شك من الراوي ، توفيقاً بين الأحاديث ، ويعين ذلك قوله في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم ( صاعاً من طعام لا سمراء ) .
وإطلاق الخرقي يقتضي [ وجوب ] التمر وإن زادت قيمته على قيمة الشاة ، وهو كذلك للخبر ، والواجب فيه أن يكون سليماً من العيب ، لأن الإطلاق يقتضي السلامة .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : لم يبين الخرقي رحمه اللَّه مقدار الخيار ، وكذلك جماعة ، وقال أبو الخطاب في الهداية : عندي أنه إذا تبين له التصرية ثبت له الرد ، قبل الثلاث وبعدها ، إلحاقاً لها بالعيوب . وييتخرج من قوله قول آخر أن الخيار على الفور ، بناء
____________________
(2/63)
على القول به ثم ، وقدره ابن أبي موسى ، والقاضي ، وأبو البركات ، وغيرهم بثلاثة أيام .
1926 لأن في الحديث في رواية مسلم وغيره ( من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام ) .
1927 [ وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه قال ( من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام ) ، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً ) رواه أبو داود ، ثم اختلف هؤلاء فقال القاضي وزعم أبو محمد أنه ظاهر كلام أحمد : الثلاثة أيام مضروبة لتتبين بها التصرية ، إذ في اليوم الأول لبنها لبن التصرية ، وفي الثاني والثالث يجوز أن يكون نقص لاختلاف العلف ، وتغير المكان ، فإذا مضت الثلاثة تحققت التصرية غالباً ، فيثبت الخيار إذاً على الفور ، وقال ابن أبي موسى على ظاهر كلامه وأبو البركات : له الخيار في الثلاثة أيام إلى انقضائها . وهذا هو ظاهر الحديث ، وعليه المعتمد ، وهو عكس قول القاضي ، ثم إن أبا البركات صرح بأن ابتداء المدة بتبين التصرية ، وهو ظاهر قول ابن أبي موسى قال : هو بالخيار ثلاثة أيام ، إن شاء ردها ، وإن شاء أمسكها . ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في الكافي أن ابتداءها على قول ابن أبي موسى من حين البيع .
( الثاني ) : ( تصروا ) الرواية الصحيحة فيه ضم التاء ، وفتح الصاد ، وتشديد الراء [ المضمومة ] ، بعدها واو الجمع ، نحو 19 ( { فلا تزكوا أنفسكم } ) من : صراها يصريها تصرية ، كزكاها يزكيها تزكية ، وأصل ( تصروا ) : تصريوا . استثقلت الضمة على الياء ، فنقلت إلى ما قبلها ، لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً ، فانقلبت الياء واواً ، فاجتمع ساكنان فحذفت الواو الأولى وبقيت واو الجمع ، ( والإبل ) نصب على أنه مفعول تصروا ، وفيه رواية أخرى ( لا تصروا الإبل ) بفتح التاء ، وضم الصاد ، من : صريصر . ( والغنم ) على هذا أيضاً منصوبة الميم ، وروي ثالثة ( لا تصر الإبل ) بضم التاء بغير واو بعد الراء ، وبرفع الإبل على ما لم يسم فاعله ، من الصر أيضاً وهو الربط ، وهاتان الروايتان يجيئان على تفسير الشافعي ، والأولى على تفسير أبي عبيد ( والمحفلة ) قد تقدم تفسيرها ، ( والسمراء ) حنطة الشام ، والبيضاء حنطة مصر ، وقيل : السمراء الحنطة مطلقاً ، والبيضاء الشعير . ( واللقحة ) بفتح اللام وكسرها وهو أفصح الناقة القريبة العهد بالولادة ، بنحو الشهرين والثلاثة ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يقدر على التمر فقيمته .
ش : من وجب عليه شيء فعجز عنه رجع إلى بدله ، وبدل المثلي عند إعوازه هو
____________________
(2/64)
القيمة ، كما هو مقرر في موضعه ، وتجب قيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد ، واللَّه أعلم .
قال : وسواء كان المشتري ناقة ، أو بقرة ، أو شاة .
ش : لا نزاع عندنا نعلمه في ذلك ، لورود النص به في الإبل والغنم ، ولبن البقر أغزر ، فيثبت الحكم فيه بطريق التنبيه ، ثم عموم ( مصراة ) يشمل الجميع ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى أمة ثيباً فأصابها أو استغلها ثم ظهر على عيب كان مخيراً بين أن يردها ويأخذ الثمن كاملاً ، لأن الخراج بالضمان ، والوطء كالخدمة ، وبين أن يأخذ ما بين الصحة والعيب .
ش : هذا يبنى على قواعد ، فنشير إليها ، ثم نتعرض للفظ المصنف .
( منها ) : أن المذهب المشهور حتى أن أبا محمد لم يذكر فيه خلافاً أن من اشترى معيباً لم يعلم عيبه ثم علم ذلك فإنه يخير بين الرد ، وبين الإمساك وأخذ الأرش .
أما الرد فلا نزاع فيه نعلمه ، دفعاً للضرر عن المشتري ، إذ إلزامه بالعقد والحال هذه ضرر عليه ، والضرر منفي شرعاً .
1928 وعن عائشة رضي اللَّه عنها أن رجلاً اشترى غلاماً في زمن النبي ، وفيه عيب لم يعلم به ، فاستغله ، ثم علم العيب فرده ، فخاصمه إلى النبي ، فقال : يا رسول اللَّه إنه استغله منذ زمن ، فقال رسول اللَّه : ( الغلة بالضمان ) رواه أبو داود وغيره ، وهذا يدل على أن العيب سبب للرد .
1929 وعن العداء بن خالد رضي اللَّه عنه قال : كتب لي رسول اللَّه : ( هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوزة من رسول اللَّه ، اشترى منه عبداً أو أمة ، لا داء ، ولا غائلة ولا خبثة ، بيع المسلم للمسلم ) رواه الترمذي وابن ماجه وهذا يدل على أن بيع المسلم هذا حاله ، وأيضاً ما ثبت من أحاديث المصراة المتقدمة .
وأما الإمساك وأخذ الأرش فلأن البائع والمشتري تراضيا على أن العوض في مقابلة المعوض ، فكل جزء من العوض يقابله جزء من المعوض ، ومع وجود العيب قد فات جزء من المعوض ، فيرجع ببدله وهو الأرش . ( وعن أحمد ) رواية أخرى اختارها أبو العباس وهي أصح نظراً : لا أرش لممسك له الرد ، حذاراً من أن يلزم البائع ما لم يرض به ، فإنه لم يرض بإخراج ملكه إلا بهذا العوض ، فإلزامه بالأرش إلزام له بشيء لم يلتزمه ، ويوضح هذا ويحققه المصراة ، فإن النبي لم يجعل فيها
____________________
(2/65)
أرشاً ، ودعوى أن التصرية ليست عيباً ممنوع ، انتهى .
والأرش ما بين قيمة الصحيح والمعيب منسوباً إلى الثمن ، وبيانه أن يقال مثلاً فيما اشترى بمائة وخمسين : كما يساوي هذا وهو صحيح ؟ فإذا قيل : مائة . قيل : وكم يساوي وهو معيب ؟ فإذا قيل : تسعين . فما بين القيمتين هو العشر ، فإذا نسبت ذلك إلى الثمن وجدته والحال هذه خمسة عشر درهماً ، فهو الواجب للمشتري ، ولو كان الثمن خمسين درهماً لكان عشرة خمسة دراهم ، فهو الواجب له ، وإنما نسب إلى الثمن ، ولم يجعل ما بين القيمتين من غير نسبة ، لئلا يجتمع للمشتري العوض والمعوض ، [ كما لو اشترى شيئاً بمائة ، ثم وجد به عيباً ، وكانت قيمته وهو صحيح مائتين وقيمته وهو معيب مائة ، فما بينهما مائة ، فلو أوجبت المائة للمشتري لاجتمع له العوض والمعوض ] وعلى ما تقدم لا يلزم ذلك ، إذ يجب له والحال هذه نصف الثمن ، ولا فرق فيما تقدم بين علم البائع بالعيب وعدمه .
( تنبيه ) : هل يملك المشتري أخذ الأرش من عين الثمن أو لا يملكه ؟ فيه احتمالان ذكرهما في التلخيص . ( القاعدة الثانية ) أن المبيع المعيب تعيبه عند المشتري هل يمنع من رده ؟ فيه نزاع يأتي إن شاء اللَّه تعالى ، واختلف في وطء الثيب هل هو عيب ، لأنه نقص في الجملة ، أو ليس بعيب ، وهو اختيار العامة ، لأنه لم يحصل به نقص جزء ولا صفة ، وكما لو كانت مزوجة فوطئها الزوج ؟ على روايتين ، وعلى الأولى فإن لم يمنع العيب الرد فالأرش هنا هو مهر المثل .
( القاعدة الثالثة ) : أن المبيع إذا زاد وأراد المشتري رده بعيب وجده فهل يلزمه رد الزيادة ؟ لا يخلو إما أن تكون متصلة كالسمن وتعلم صنعة ، أو منفصلة كالولد والكسب ، فإن كانت متصلة فلا يتصور مع الرد إلا ردها ، لكن هل يكون له قيمتها لحدوثها عن ملكه ، وتعذر فصلها ، أو لا قيمة لها ، لئلا يلزم البائع معاوضة لم يلتزمها ، وهو قول عامة الأصحاب ؟ على قولين ، وعن ابن عقيل : القياس أن له القيمة ، بناء على قولهم في الصداق ، إذا زاد زيادة متصلة ، ثم وجد ما يقتضي سقوطه أو تنصفه ، فإن المرأة لها أن تمسك ذلك وترد القيمة أو نصفها ، قلت : وفي هذا القياس نظر ، وإنما قياس الصداق أن المشتري يمسك ويرد قيمة العين ، نعم ما يحكى عن ابن عقيل سيأتي أنه رواية منصوصة أو ظاهرة .
وإن كانت الزيادة منفصلة فلا يخلو إما أن تكون حدثت من عين المبيع ، كالولد والثمرة ، أو لم تكن ، كالأجرة والهبة ، ونحو ذلك ، ( فالثاني ) فيما نعلمه لا نزاع أن للمشتري إمساكه ، ورد المبيع دونه ، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في الكافي ، من أن فيه الخلاف الآتي ، فإنه في المغني لم يذكر فيه عن أحد خلافاً ، أما ( الأول ) وهو ما إذا كانت الزيادة من عين المبيع ، فالمنصوص ، والمعمول عليه عند اوصحاب حتى أن أبا محمد في المغني جزم به أن الحكم كذلك ، الزيادة للمشتري فيرد
____________________
(2/66)
المبيع دونها .
1930 لحديث عائشة رضي اللَّه عنها قالت : قال رسول اللَّه : ( الخراج بالضمان ) وفي رواية : قضى أن الخراج بالضمان . رواه أبو داود وغيره ، وقد ورد في المسند وسنن أبي داود ، وابن ماجه ، أن الحديث ورد على مثل هذا ، فعن عائشة رضي اللَّه عنها : أن رجلاً اشترى غلاماً في زمن النبي ، وبه عيب لم يعلم به ، فاستغله ثم علم العيب ، فخاصمه إلى النبي ، فقال : يا رسول اللَّه إنه استغله منذ زمان ، فقال رسول اللَّه ( الغلة بالضمان ) وقضية السبب داخلة في العموم قطعاً .
وحكى القاضي وجماعة من أصحابه ، والشيرازي ، والشيخان ، وغير واحد ، عن أحمد رواية أخرى ، أنه يلزم البائع رد النماء مع الأصل ، جعلا للنماء كالجزء من الأصل ، ونظراً إلى أن الفسخ رفع للعقد من أصله حكماً ، ويرد عليه الكسب ونحوه ، وهذه الرواية قال أبو العباس : إن القاضي وأصحابه أخذوها من نص أحمد في رواية ابن منصور ، فيمن اشترى سلعة فنمت عنده ، فبان بها داء ، فإن شاء المشتري حبسها ورجع بقدر الداء ، وإن شاء ردها ورجع عليه بقدر النماء ، فجعلوا الراجع بقدر النماء هو البائع ، قال : وكذا صرح به ابن عقيل في النظريات ، قال أبو العباس : وهو غلط ، بل الراجع المشتري على البائع بقدر النماء ، فإن قوله : نمت عنده ، ظاهر في النماء المتصل ، ولو فرض أنه غير المتصل [ فلم يذكر أنه تلف بيد المشتري ، والأصل بقاؤه ، قال : فتكون هذه الرواية أن الزيادة المتصلة ] لا يجب على المشتري الرد بها ، بل له إذا إراد رد العين أن يأخذ من البائع قيمة الزيادة . انتهى .
ويستثنى على المذهب إذا كانت الزيادة ولد أمة ، فإنه يتعذر على المشتري الرد ، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعاً ، هذا اختيار الشيخين ، وظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ، لكن إذا اختار ردهما معاً فهل يلزم البائع القبول ؟ يحتمل وجهين ، الظاهر اللزوم ، وقال الشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وشيخهما فيما أظن في تعليقه : له إمساك الولد ورد الأم ، لأنه موضع حاجة ، وهو ممنوع ، للتمكن من الأرش .
إذا عرف ذلك رجعنا إلى لفظ المصنف رحمه اللَّه ، فقوله : إذا اشترى أمة ثيباً . يحترز عن البكر كما سيأتي ، وقوله : فأصابها أو استغلها . لأنه إذا لم يصبها ولم يستغلها المبيع بحاله ولا كلام ، وقوله : ثم ظهر على عيب ، يخرج ما إذا كان عالماً حال العقد ، لدخوله على بصيرة ، وإذاً لا رد له ولا أرش ، وقوله : كان مخيراً . إلى آخره ، مبني على القواعد الثلاث المتقدمة ، وهي أن مشتري المبيع المعيب غير عالم بعيبه يخير بين الرد ، والإمساك مع الأرش ، وأن وطء الثيب ليس بعيب ، وأن الغلة للمشتري ، ولا يمنع الرد ، وقوله : لأن الخراج بالضمان . تعليل لأن الغلة للمشتري ،
____________________
(2/67)
وقوله : والوطء كالخدمة . بيان لأن الوطء ليس بعيب . والألف واللام في الوطء لمعهود تقدم ، وهو وطء الثيب ، واللَّه أعلم .
قال : فإن كانت بكراً فأراد ردها كان عليه ما نقصها .
ش : أي فأراد ردها بعدما أصابها ، ولا إشكال أن وطء البكر يعيبها عرفاً ، وينقصها حساً ، لأنه يذهب جزءاً منها ، وإذاً فقد تعيب المبيع عنده ، فهل يمنعه ذلك من الرد إذا اطلع على عيب ؟ فيه روايتان مشهورتان ، ( أشهرهما ) عن الإمام وهو اختيار الخرقي ، والقاضي أبي الحسين ، وأبي الخطاب في الانتصار ، وأبي محمد ، وغيرهم ، قال في التلخيص : هي المشهورة ، وعليها الأصحاب : أن ذلك لا يمنع الرد ، لما تقدم من حديث المصراة ، فإن النبي جعل للمشتري الرد ، مع ذهاب جزء من المبيع وهو اللبن ، وجعل التمر بدله .
1931 وروى الخلال بسنده ، عن ابن سيرين ، أن عثمان رضي اللَّه عنه قال في رجل اشترى ثوباً ولبسه ، ثم اطلع على عيب : يرده وما نقص . فأجاز الرد مع النقصان ، وعليه اعتمد أحمد .
1932 وعن عمر رضي اللَّه عنه نحو ذلك أيضاً ، قال : إن كانت ثيباً رد معها نصف العشر ، وإن كان بكراً رد العشر . لكنه ضعيف ، ولهذا لم يعتمده الإمام ، ولأن ثبوت الرد كان ثابتاً له قبل حدوث العيب عنده ، والأصل البقاء ما لم يأت دليل ، ثم الحمل على البائع أولى ، لأنه ما مدلس ، أو مفرط ، حيث لم يختبر ملكه . ( والثانية ) واختارها أبو بكر ، وابن أبي موسى ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير يمنع ذلك الرد ، إذ الرد كان لإزالة الضرر [ عنه ، ومع وجود العيب يلحق الضرر بالبائع ، والضرر لا يزال بالضرر ] .
1933 وعن علي رضي اللَّه عنه في رجل اشترى جارية فوطئها فوجد بها عيباً قال : لزمته ، ويرد البائع ما بين الصحة والداء ، وإن لم يكن وطئها ردها . لكنه ضعيف أيضاً ومن ثم قال الشافعي رحمه اللَّه : لا نعلمه يثبت عن عمر ولا علي . فعلى هذه الرواية يتعين للمشتري الأرش ، وعلى الأولى على المشتري مع الرد أرش النقص الحادث عنده ، وهو ما نقص المبيع المعيب بالعيب ، مثاله أن يقال في مسألتنا : كم قيمتها بكراً معيبة بالعيب القديم ؟ فإذا قيل : مائة . فيقال : وثيباً ؟ فإذا قيل : ثمانون . فما بينهما عشرون ، فهو الواجب ، وعلى هذا .
وعن أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى أن الواجب في وطء البكر المهر ، مع أرش البكارة . واللَّه أعلم .
قال : إلا أن يكون البائع دلس العيب ، فيلزمه رد الثمن كاملاً .
ش : هذا استثناء مما إذا تعيب المبيع عنده ، فإنه على رأيه يرده مع الأرش ،
____________________
(2/68)
واستثنى من ذلك إذا دلس البائع العيب ، أي كتمه وأخفاه ، فإن للمشتري الرد بلا أرش ، وإذاً يلزم البائع رد الثمن كاملاً ، وهذا هو المذهب المنصوص المعروف ، وقد نص الإمام على أن المبيع لو تلف عند المشتري والحال هذه ثم علم العيب رجع بالثمن كله ، ولا شيء عليه للتلف ، وبالغ ابن أبي موسى فقال في صورة الخرقي : له الرد قولاً واحداً ، ولا عقر عليه ، وذلك لأن البائع مع التدليس قد ورط المشتري وغره ، فاقتضى الحمل عليه ، وصالا كالغار بحرية أمة ، الضمان عليه بقضاء الصحابة ، فكذلك هنا ، ومال أبو محمد إلى وجوب الأرش والحال ما تقدم ، مستدلاً بحديث المصراة ، فإن الشارع جعل لبائعها بدل اللبن ، مع تدليسه وارتكابه النهي ، وبحديث ( الخراج بالضمان ) والمشتري والحال هذه له الخراج ، فيكون الضمان عليه لعموم الحديث ، وهذا هو الصواب ، وقد حكاه أبو البركات رواية ، وكذلك صاحب التلخيص ، لكنه إنما حكاها في التلف ، إذ المشتري لا يرجع إلا بالأرش ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك سائر المبيع .
ش : استعمل الخرقي رحمه اللَّه ( سائر ) هنا بمعنى ( باقي ) وهي اللغة الفصحى ، كما تقدم ، أي باقي المبيع حكمه حكم الأمة فيما تقدم ، في أنه إذا اطلع على عيب فيه ، خير بين الرد وبين الأرش ، [ وفي أنه إذا استغله أو فعل فيه فعلاً ليس بعيب ، لم يمنع ذلك من رده ] ، وفي أنه إذا تعيب عنده له الرد ، مع رد النقص الحادث عنده ، إلا مع التدليس فلا أرش عليه .
واعلم أن مذهب أبي بكر في التنبيه أن وطء الأمة يمنع الرد مطلقاً ، معللاً باحتمال أن تحمل منه ، وتعيب المبيع لا يمنع الرد ، فهو قول ثالث ، واللَّه أعلم .
قال : ولو باع المشتري بعضها ثم ظهر على عيب ، كان مخيراً بين أن يرد ملكه منها بمقداره من الثمن ، أو يأخذ أرش العيب بقدر ملكه فيه .
ش : إذا لم يعلم المشتري بالعيب حتى باع بعض المبيع ، فله أرش الباقي في ملكه بلا نزاع نعلمه ، فإذا باع النصف مثلاً ، كان له أخذ نصف الأرش ، وإن باع الربع كان له ثلاثة أرباع الأرش ، وهل له أرش ما باعه ؟ فيه روايتان مبنيتان على ما إذا باع الجميع ثم علم بالعيب ، هل له الأرش ، وهو اختيار القاضي ، وأبي محمد ، كما لو لم يبعه إذ الأرض بدل الجزء الفائت ، أو لا أرش له إلا أن يعود إليه ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لتوقع العود ، أو لاستدراك ظلامته بالبيع ؟ فيه روايتان ، وهل له رد ما بقي من ملكه من المبيع ؟ فيه روايتان أيضاً ، بناهما القاضي ، وابن الزاغون ، وغيرهما على تفريق الصفقة ، قال أبو محمد عن القاضي : سواء كان المبيع عيناً واحدة أو عينين ، وابن الزاغوني مثل بالعينين ، وخص أبو محمد الخلاف بما إذا كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق ، كالعبدين ، والثوبين ، أما إن كان عيناً واحدة ، أو عينين لكن ينقصهما التفريق ، كزوجي خف ، ونحو ذلك ، فيمتنع عليه الرد ، دفعاً للضرر عن البائع ، لنقص
____________________
(2/69)
المبيع والحال هذه بالتفريق ، إلا أن يكون البائع دلس المبيع ، فإن للمشتري الرد مطلقاً ، لأن نقص المبيع عنده مع التدليس لا أثر له .
قلت : الضرر يندفع عن البائع برد أرش نقص التشقيص ، وقد صرح بذلك صاحب التلخيص وإذاً فما قاله غيره أوجه .
وقول الخرقي : ولو باع المشتري بعضها . ( يحتمل ) أن يرجع الضمير إلى بعض السلعة المبيعة ، وعلى هذا شرح ابن الزاغوني ، وإذاً يكون اختيار الخرقي جواز رد الباقي ، وكذا حكى أبو محمد عنه ، وعلى هذا إن حصل بالتشقيص نقص رد أرشه من كلامه السابق ، إلا مع التدليس كما تقدم ( ويحتمل ) أن يرجع إلى بعض السلعة المدلسة ، وعلى هذا لا يكون في كلامه تعرض لرد الباقي ، فيما إذا كان المبيع غير مدلس .
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه ليس له رد ما باعه ، وهو واضح ، نعم إذا عاد إليه ولو بعقد فله الرد إن لم يأخذ أرشه ، ولم يعلم بعيبه حين بيعه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن ظهر على عيب بعد إعتاقه لها أو موتها في ملكه فله الأرش .
ش : إذا ظهر المشتري على عيب في السلعة المبيعة ، بعد أن تلفت تلفاً معنوياً كالإعتاق ، ونحوه الوقف ، والاستيلاد ، أو حسياً كالموت فله الأرش رواية واحدة ، لأنه كان له قبل ذلك ، والأصل البقاء ، وفارق البيع على رواية ، لعدم توقع العود ، وعدم استدراك الظلامة ، وهل له الفسخ ، والرجوع بالثمن ، وغرامة القيمة ؟ عامة الأصحاب على أنه ليس له ذلك ، ولأبي الخطاب تخريج بجواز ذلك ، كأنه من رواية تلف المبيع في مدة الخيار ، وفرق صاحب التلخيص بأن هنا يعتمد الرد ولا مردود ، وثم يعتمد الفسخ .
وظاهر كلام الخرقي أن أرش العبد المعتق يكون للمشتري ، ولا يلزمه صرفه في الرقاب ، وهو إحدى الروايتين وأصحهما ، إذ العتق إنما صادف الرقبة ، لا الجزء الفائت ، ( والثانية ) : يجب صرفه في الرقاب ، لأنه خرج عن الرقبة للَّه تعالى ، ظاناً سلامتها ، وذلك يقتضي خروجه عن هذا الجزء ، وأبو محمد يحمل هذه الرواية على الاستحباب ، والقاضي يحملها على ما إذا كان العتق كان واجب ، أما إن كان تبرعاً فالأرش له قولاً واحداً .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لو حصل تصرف المشتري بالبيع ، أو العتق ، ونحوهما ، بعد العلم بالعيب ، أنه لا أرش له ، وهو المشهور عند الأصحاب ، لأنه قد رضي بالمبيع ، فسقط حقه من الأرش ، كما سقط من الرد بلا نزاع ، وحكى صاحب التلخيص [ عن بعض الأصحاب أن الأرش لا يمنع التصرف مطلقاً ، وأبو محمد يقول : إن هذا ] قياس المذهب ، كما لو اختار الإمساك والمطالبة بالأرش ، ولأن الأرش عوض الجزء
____________________
(2/70)
الفائت بالعيب ، وذلك موجود مع التصرف .
( تنبيه ) : إذا لم يعلم بالعيب حتى خرجت السلعة المبيعة عن ملكه بهبة ، فهل له الأرش ؟ إن قلنا : فيما إذا باعها : له الأرش . فكذلك هنا ، وإن قلنا : لا أرش له ثم . فهنا روايتان مبنيتان على تعليل عدم الأرش في البيع ، فإن علل باستدراك الظلامة وجب هنا ، لعدم الاستدراك ، وإن علل بتوقع العود لم يجب هنا لذلك ، ومختار القاضي وأبي محمد الوجوب ، واللَّه أعلم .
قال : وإن ظهر على عيب يمكن حدوثه بعد الشراء وقبله حلف المشتري ، وكان له الرد أو الأرش .
ش : إذا ظهر المشتري على عيب يحتمل حدوثه بعد الشراء وقبله ، كالسرقة ، والإباق ، والخرق في الثوب ، ونحو ذلك ، ففيه روايتان مشهورتان ، ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي القول قول المشتري مع يمينه ، إذ الأصل عدم القبض في الجزء الفائت ، فكان القول قول من ينفيه ، كما لو اختلفا في قبض المبيع ، ( والثانية ) وهي أصوبهما واختيار القاضي في الروايتين ، وأبي الخطاب في الهداية القول قول البائع مع يمينه ، لأن الأصل السلامة ، وعدم استحقاق الفسخ ، فكان القول قول من يدعي ذلك ، ولو لم تحتمل الدعوى إلا قول المشتري كالإصبع الزائدة ، والجراحة المندملة عقب العقد ، ونحو ذلك فإن القول قوله بلا يمين ، للعلم بصدقه بلا نزاع ، وكذلك إن لم تحتمل إلا قول البائع كالجرح الطارىء الذي لا يحتمل كونه قديماً ، ونحو ذلك فإن القول قوله بلا يمين أيضاً لما تقدم .
( تنبيه ) : صفة يمين المشتري أن يحلف أنه اشتراه وبه هذا العيب ، أو أنه ما حدث عنده ، أما يمين البائع فعلى حسب جوابه ، إن أجاب أن هذا العيب لم يكن فيه حلف على ذلك ، وإن أجاب أنه ما يستحق علي ما يدعيه من الرد حلف على ذلك ، ويحلف على البت ، على المشهور من الروايتين ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه ، فكسره فوجده فاسداً ، فإن لم يكن له مكسوراً قيمة كبيض الدجاج رجع بالثمن على البائع ، وإن كان له مكسوراً قيمة كجوز الهند فهو مخير في الرد ، ويأخذ الثمن ، وعليه أرش الكسر ، أو يأخذ ما بين صحيحه ومعيبه .
ش : مناط هذه المسألة إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه إلا بكسره ، كالذي ذكره الخرقي ونحوه ، فكسره فوجده معيباً ، هل له شيء ، أو لا شيء له ما لم يشترط سلامته ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) لا شيء له ما لم يشترط سلامته ، اعتماداً على العرف ، إذ الناس في بياعاتهم على ذلك ( والثانية ) وهي المذهب بلا ريب له شيء ، نظراً إلى أن إطلاق العقد يقتضي السلامة من عيب لم يطلع عليه المشتري ، [ فاعتمد ذلك ] .
____________________
(2/71)
1934 ودليل هذا الأصل ما روي عن العداء رضي اللَّه عنه ، قال : كتب لي رسول اللَّه ( هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة ، من محمد رسول اللَّه ، اشترى منه عبداً أو أمة شك عباد أحد الرواة لا داء ، ولا غائلة ولا خبثة ، بيع المسلم ) رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وهذا يدل على أن بيع المسلم هذا حاله .
وعلى هذا لا يخلو إما أن يكون لمكسور ذلك قيمة ، أو لا قيمة له ، فإن لم يكن لمكسوره قيمة كبيض الدجاج ، والجوز الخرب ، قال أبو محمد : والبطيخ التالف فإنا نتبين فساد العقد ، لانتفاء شرطه وهو المنفعة ، وإذاً يرجع المشتري بالثمن كله .
وإن كان لمكسوره قيمة كجوز الهند ، وبيض النعام فإن كسره كسراً لا ينتفع به معه فقد أتلفه ، فيتعين له الأرش ، وإلا إن كان الكسر بقدر استعلام المبيع فهل ذلك بمنزلة العيب الحادث عنده ؟ يخرج فيه روايتيه ، أو ليس بعيب ، فيرده بلا أرش ، وهو اختيار القاضي ، لأنه لا يمكنه معرفة المبيع إلا بذلك ، مع أن البائع سلطه عليه ، أو له الرد مع الأرش ، وهو أعدل الأقوال ، واختيار أبي محمد ، وصاحب التلخيص ، ويشهد له قصة المصراة ، فإن النبي جعل المشتري الرد ، مع رد بدل ما تلف بيده من المبيع ، وهو اللبن ، مع تدليس البائع وغروره ، فهنا أولى ؟ على ثلاثة أقوال .
وإن كان كسراً يمكن استعلام المبيع بدونه ، فلا ريب أنه على الرواتين المتقدمتين ، فيما إذا عاب عنده ، نعم على قول القاضي في الذي قبله ، إذا رد هل يلزمه أرش الكسر أولا يلزمه إلا الزائد على استعلام المبيع ؟ محل تردد ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا باع عبداً وله مال قليلاً كان المال أو كثيراً فماله للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع ، إذا كان قصده العبد لا المال .
ش : إذا باع عبداً وله مال فماله للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع ، فيكون له بشرطه .
1935 لما روى ابن عمر رضي اللَّه عنه [ قال : سمعت رسول اللَّه يقول : ( من ابتاع نخلاً قد أبرت ، فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع ، ومن ابتاع عبداً له مال ، فماله للذي باعه ، إلا أن يشترط المبتاع ) ] رواه مسلم وغيره .
1936 وعن جابر رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه نحوه ، رواه أبو داود .
1937 وعن علي رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه قضى بذلك .
____________________
(2/72)
1938 وعن عبادة نحوه ، رواه البيهقي في سننه .
وشرط الخرقي لصحة اشتراط المبتاع مال العبد مطلقاً ، أن يكون قصده العبد لا المال ، لأن المال إذاً يدخل عن طريق التبع ، فلا تضر جهالته ولا غير ذلك ، كأساسات الحيطان ، لا يقال : فباشتراطه يدل على أنه مقصود ، لأنا نقول : المقصود بالشرط والحال هذه بقاء المال في يد العبد ، من غير التفات إلى المال ، وتحقيق ذلك ألا ترى أن الشارع جوز قرض الدراهم وغيرها ، مع أنه مفض إلى بيع دراهم بدراهم إلى أجل ، لكن لما كان القصد منه الرفق ، لا بيع دراهم بدراهم نسيئة ، لم يمنع منه ، أما إن كان قصده المال فإنه يشترط لصحة الشرط اشتراط شروط المبيع ، من العلم بالمال ، وكونه مع العوض المبذول لا يجري الربا بينهما ، وغير ذلك ، كما يشترط ذلك في العينين المبعتين ، لأنه إذاً بمنزلتهما .
واعلم أن من مذهب الخرقي رحمه اللَّه أن العبد لا يملك ، فكلامه خرج على ذلك ، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق ، وتبعهما أبو البركات ، أما إن قلنا : العبد يملك . فصرح أبو البركات بأنه يصح شرطه إن كان مجهولاً ، ولم يعتبر أبو محمد الملك ، بل أناط الحكم بالقصد وعدمه ، وزعم أن هذا منصوص أحمد والخرقي ، وفي نسبة ذلك إليهما نظر ، لاحتمال بنائهما على الملك كما تقدم ، وهو أوفق لكلام الخرقي ، ولمشهور كلام الإمام ، وحكى أبو محمد عن القاضي أنه رتب الحكم على الملك وعدمه ، فإن قلنا : يملك . لم يشترط ، وإن قلنا : لا يملك . اشترط ، وحكى صاحب التلخيص عن الأصحاب أنهم رتبوا الحكم على القصد وعدمه ، كما يقوله أبو محمد ، ثم قال : وهذا على القول بأن العبد يملك ، أما على القول بأنه لا يملك ، فيسقط حكم التبعية ، ويصير كمن باع عبداً ومالاً ، وهذا عكس طريق أبي البركات ، ثم يلزم منه التفريع على الرواية الضعيفة ، ويتلخص في المسألة أربع طرائق ، واللَّه أعلم .
قال : ومن باع حيواناً أو غيره بشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ ، سواء علم به البائع أم لم يعلم .
ش : من باع شيئاً وشرط البراءة من كل عيب بأن يقول : بعتك وأنا بريء من كل عيب لم يبرأ ، وكذلك إن لم يعمم ولم يبين ، بأن قال : من عيب كذا إن كان فيه ، ولا فرق في ذلك بين علم البائع وعدمه ، على المنصوص والمختار للأصحاب من الروايات ، لأنه خيار ثبت شرعاً بمطلق العقد ، فلم يسقط بشرط الإسقاط ، الدليل عليه خيار الرؤية ، وخيار الفسخ عند انقطاع المسلم فيه في المحل ، ولأن في ذلك خطراً وغرراً ، وهما منفيان شرعاً .
( والرواية الثانية ) : إن علم البائع بالعيب وكتمه لم يبرأ ، لأنه إذاً مدلس مذموم .
____________________
(2/73)
1939 قال : ( ليس منا من غش ) وقال : ( من غش فليس مني ) .
وقال : ( المسلم أخو المسلم ، لا يحل لمسلم إن باع من أخيه بيعاً أن لا يبينه له ) وإن لم يعلم برىء ، لعدم ارتكابه الذم ، وتمهد عذره في ذلك .
1941 وبهذا قضى عثمان رضي اللَّه عنه ، ففي الموطأ أن ابن عمر باع غلاماً له بثمانمائة درهم ، وباعه بالبراءة ، فقال الذي ابتاعه : بالغلام داء ولم يسمه ، فاختصما إلى عثمان رضي اللَّه عنه ، فقال الرجل : باعني عبداً وبه داء ولم يبينه لي . فقال ابن عمر : بعته بالبراءة ، فقضى عثمان على ابن عمر باليمين ، أن يحلف له : لقد باعه الغلام وما به داء يعلمه . فأبي عبد اللَّه أن يحلف له ، وارتجع العبد ، فباعه عبد اللَّه بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم ، ومثل هذا يشتهر ولم ينكر ، فينزل منزلة الإجماع ، مع أن مالكاً قد حكاه إجماعاً لهم ، فقال : الأمر المجتمع عليه عندنا في من باع عبداً أو حيواناً بالبراءة ، فقد برىء من كل عيب ، إلا أن يكون علم في ذلك عيباً فكتمه ، فإن كان علم عيباً فكتمه لم تنفعه تبرئته ، وكان ما باع مردوداً عليه ، ( وعن أحمد ) رضي اللَّه عنه صحة البراءة من المجهول ، فخرج من ذلك أبو الخطاب وأتباعه صحة هذا الشرط ، لأن أحمد رحمه اللَّه علل الرواية بالجهالة ويستدل لهذا التحريم بعموم ( المسلمون عند شروطهم ) ونحو ذلك .
1942 وبدليل الأصل ، وهو ما روي أن رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول اللَّه ، فقال رسول اللَّه ( استهما وتوخيا الحق ، وليحلل كل منكما صاحبه ) انتهى . ( فعلى المذهب ) يلغو الشرط ، ويصح العقد ، وخرج أبو الخطاب أيضاً ومن تبعه قولاً ببطلانهما ، من الرواية في الشروط الفاسدة ، وفرق القاضي في المجرد بأن إطلاق العقد يقتضي عدم الرد ، إذ الأصل السلامة ، واشتراط عدم الرد شرط من مقتضى العقد ، وكأنه اشتراه بغير شرط البراءة ، وقد أصاب به عيباً ، فيخير بين الإمساك والرد . ( وعلى الثانية ) لو ادعى المشتري أن البائع علم بالعيب ، وإنما اشترط البراءة تدليساً ، فالقول قول البائع مع يمينه ، ولا تفريع على الثالثة .
ونص الخرقي على الحيوان لينبه على مذهب الغير .
( تنبيه ) ليس منصوص المسألة : بعتك على أن به عيب كذا ، وأنا بريء منه ، بل هنا يصح الشرط ، كما لو قال : وبه هذا العيب ، وأوقفه عليه ، واللَّه أعلم .
قال : ومن باع سلعة بنسيئة ، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به .
____________________
(2/74)
ش : أي نقداً ، بقرينة ذكر النسيئة أولاً .
1943 وذلك لما روى الدارقطني بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي ، عن امرأته ، أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم ، فقالت : يا أم المؤمنين إني بعت غلاماً من زيد بثمانمائة درهم نسيئة ، وإني ابتعته منه بستمائة نقداً ، فقالت لها عائشة رضي اللَّه عنها : بئس ما اشتريت ، وبئس ما شريت ، إن جهاده مع رسول اللَّه قد بطل إلا أن يتوب . ومثل هذا لا يقال قياساً ، إنما يقال توقيفاً ، وأيضاً ما تقدم من سد الذرائع ، إذ ذلك وسيلة إلى بيع ثمانمائة بستمائة إلى أجل ، وإنه لا يجوز .
1944 ومن ثم يروي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما في مثل ذلك أنه قال : أرى مائة بخمسين بينهما حريرة .
1945 وقد روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : سمعت رسول اللَّه يقول : ( إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط اللَّه عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم ) رواه أبو داود وقد فسر أبو عبيد الهروي العينة بما تقدم .
وقيل : بالجواز ، كما لو كان الشراء بعد قبض ثمنه بدونه ، أو قبله بمثله أو أكثر ، ونحو ذلك ، وينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يكن حيلة ، أما إن قصد الحيلة ابتداء فإن العقدين يبطلان ، وقول الشافعي رحمه اللَّه : إن كان هذا ثابتاً أي ما روي عن عائشة فتكون عابت عليه بيعاً إلى العطاء ، لأنه أجل غير معلوم ، بناء منه على أن في بعض الروايات : إني بعته جارية إلى العطاء . مردود بأن في رواية أخرى قالت : أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ قالت عائشة رضي اللَّه عنها : 19 ( { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى } ) وهذا دليل على أنها رضي اللَّه عنها رأت أن ذلك ربا ، وعابته لذلك ، ( وقوله أيضاً ) : إن زيداً خالفها ، وإن القياس معه ، فقوله أولى . معترض بأنه لم ينقل أنه خالفها بعد إنكارها عليه ، والظاهر أنه لم يكن عنده علم بالمسألة ، فاعتمد على الأصل في الإذن في البيع ، وإذاً فتوعد عائشة رضي اللَّه عنها على استمراره على ذلك ، ولا نعلم أن القياس معه ، بل القياس المنع ، اعتماداً على [ قاعدة سد الذرائع ، ثم لا نسلم أن موافقة القياس تقتضي ترجح قوله ، بل العكس ، إذ من ] خالف القياس الظاهر أن قوله عن توقيف ، ومن ثم قال بعض العلماء : إن قول الصحابي إذا خالف القياس حجة ، بخلاف ما إذا لم يخالفه . انتهى .
والخرقي رحمه اللَّه ترجم المسألة بقوله : ومن باع سلعة إلى آخره ، اكتفاء بالمعتاد في ذلك ، وتمام ترجمتها ( بأن يشتري ما باعه نقداً ، هو أو وكيله ، من مشتريه ،
____________________
(2/75)
بدون ما باعه به نسيئة ، قبل قبض ثمنه ، مع بقاء صفته ) ( فنقداً ) يخرج ما لو كان البيع بعرض والشراء بنقد ، أو بالعكس ، أو البيع بعرض والشراء بآخر ، فإنه يجوز إذ لا ربا بين الأثمان والعروض ، ولا بين عرضين ، ( وهو أو وكيله ) يخرج ما لو كان المشتري أباه أو ابنه ، ونحو ذلك ، فإنه يجوز ، وفيه تصريح بأن فعل الوكيل كفعل الموكل ، و ( من مشتريه ) يخرج ما لو اشتراه من غيره ، بعد انتقاله إليه ، ونحو ذلك ، فإنه يجوز ، و ( بدون ما باعه به ) يخرج ما إذا باعه بمثله أو أزيد ، فإنه يجوز ، ويخرج ما إذا باعه بجنس كالدراهم مثلاً واشتراه بجنس آخر ، كالدنانير ، فإنه يجوز على قول الأصجاب ، كما لو اشتراه بعرض ، وأبو محمد يختار المنع ، لأن النقدين كالجنس الواحد في معنى الثمنية ، و ( نسيئة ) هو أحد شقي المسألة ، أن يبيع نقداً ويشتري نسيئة ، و ( قبل قبض ثمنه ) يخرج ما إذا باعه بعد قبض الثمن ، فإنه يجوز ، و ( مع بقاء صفته ) يخرج ما إذا تغيرت صفته بما ينقصه ، فإنه يجوز شراؤه بأقل مما باع به ، أما لو تغيرت بزيادة فبطريق التنبيه لا يجوز ، ويفهم من تغير الصفة أنه لا أثر لتغير السعر .
( تنبيه ) : عكس هذه المسألة إذا كان البيع حالاً ، والشراء بأكثر مما باعها به نسيئة ، وفي ذلك روايتان ، حكاهما أبو العباس ( إحداهما ) ونص احتمال لأبي محمد الجواز ما لم يكن حيلة ، نظراً لأصل حل البيع ، خرج منه الصورة المتقدمة ، وهذه لا تساويها ، لندرة وقوعها ، فتبقى على الأصل ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا باع شيئاً مرابحة ، فعلم أنه زاد في رأس المال ، رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح .
ش : المرابحة البيع برأس المال وربح معلوم ، نحو : بعتك برأس مالي وربح عشرة . أو : على أن أربح في كل عشرة درهماً ، وهو ( ده يازده ) ويشترط للصحة في الصورتين معرفة البائع والمشتري لرأس المال حال العقدين ، فلو جهلا أو أحدهما لم يصح .
إذا عرف هذا ، وتبايعا كذلك ، ثم علم المشتري بعد ذلك ببينة أو إقرار أن البائع زاد في رأس المال ، كأن كان رأس المال تسعين ، فأخبر أنه مائة فإن المشتري يرجع عليه بالزيادة لأن البائع التزم له البيع برأس المال بحظها من الربح ، لأن العشرة مثلاً إذا سقطت يسقط ما يقابلها ، لأنه إنما ثبت تبعاً لها ، ولأبي محمد احتمال في : وربح عشرة . أن المشتري لا يرجع بشيء من الربح ، لأن البائع إنما رضي بإخراجها عن ملكه بهذا الربح . انتهى .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار للمشتري والحال هذه ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار صاحب التلخيص فيه ، لأنه ازداد خيراً ، إذ من رضي بمائة وعشرة مثلاً ، يرضى بتسعة وتسعين ، ( والثانية ) : له الخيار . لاحتمال أن له غرضاً في الشراء بالثمن الأول ، لتحلة قسم ، أو وفاء بعهد ، ونحو ذلك ، ثم مع ظهور خيانة البائع يزول ائتمان
____________________
(2/76)
المشتري له في الثمن الثاني ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أخبر بنقصان من رأس ماله ، كان للمشتري ردها أو إعطاؤه ما غلط به .
ش : إذا باع مرابحة ثم أخبر بنقصان من رأس المال مثل أن يخبر أن رأس ماله مائة ، ثم يدعي أن رأس ماله إنما هو مائة وعشرة ، وأنه غلط فيما أخبر به أولاً فهل ( القول قوله ) وهو ظاهر قول الخرقي ، لأن البائع لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه ، والقول قول الأمين ، ( أو لا يقبل قوله ) إلا أن يكون معروفاً بالصدق ، لترجح قوله إذاً ، بخلاف ما إذا لم يكن معروفاً بذلك ، فإن الظاهر كذبه ، فيلغى قوله ، ( أو لا يقبل إلا ببينة ) ، لأن مجرد قوله الثاني يعارضه قوله الأول ، فيتساقطان ، بخلاف ما إذا كان مع الثانية بينة ، فإنه يترجح بها ، وهذا اختيار أبي محمد ، وحمل كلام الخرقي عليه ، مدعياً أن الخرقي إنما لم يذكر ذلك لأنه عطفه على قوله قبل : فعلم أنه زاد في رأس المال . والعلم يكون ببينة أو إقرار ، كذلك هنا . ( أو لا يقبل قوله ) وإن أتى ببينة ، لتكذيبه لها ظاهراً ؟ أربع روايات .
فعلى الأولى إن صدق المشتري البائع فلا يمين عليه ، وإن كذبه فعليه اليمين ، كغيره من الأمناء ، وهذه اليمين تستفاد من قول الخرقي بعد : وكل من قلنا : القول قوله . فلصاحبه عليه اليمين . وصفة هذه اليمين كما قاله أبو الخطاب : إني غلطت ، وشراؤها علي كذا ، لأنه يحلف على فعل نفسه ، فيمينه على البت ، وكذلك الحكم على الثانية إن كان معروفاً بالصدق ، وإلا فدعواه ملغاة رأساً إن لم يكن له بينة ، وكذلك تلغى دعواه على الثالثة إن لم يكن له بينة ، وكذلك على الرابعة مطلقاً ، بقي إذا لم يقبل مجرد قوله ، فادعى أن المشتري يعلم غلطه ، فأنكر ، فإن القول قوله ، لإنكاره ، وهل ذلك مع يمينه ، وهو رأي أبي محمد ، أو لا يمين عليه ، وهو رأي القاضي لأنه مدع ، واليمين على المدعى عليه ؟ على قولين ، ورد قول القاضي بأنه والحال هذه مدعى عليه .
إذا عرف هذا فحيث ثبت أنه أخبر بنقصان إما بتصديق المشتري له ، وإما بقوله ، أو ببينة ، ونحو ذلك فإن المشتري يخير بين إعطاء البائع ما غلط به ، لأن بيعه كان برأس ماله ، ورأس ماله قد ثبت أنه كذلك ، فإن لم يعطه كان له الفسخ ، وبين الرد ، لأنه لم يرض بالزائد ، نعم إن رضي البائع بترك الزيادة فلا رد له .
ولم يذكر الخرقي رحمه اللَّه أن البائع والحال هذه يرجع على المشتري بحظ ما غلط به من الربح ، وكذا أبو الخطاب في الهداية ، وصاحب التلخيص فيه ، وأبو البركات ، وقال أبو محمد : يرجع بحظ ذلك من الربح ، فإذا قال : وربح درهم في كل عشرة . رجع بدرهم ، إذا كان الغلط بعشرة ، وكذلك إن قال : وربح عشرة . وكان ما أخبر به أولاً مائة ، وله احتمال في هذه الصورة فقط ، أنه لا يرجع بشيء ، لرضاه في
____________________
(2/77)
السلعة بربح عشرة ، واللَّه أعلم .
قال : وله أن يحلفه أنه وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها أكثر من ذلك .
ش : حيث ثبت أن البائع أخبر بنقصان إما بقوله ، أو ببينة ، ونحو ذلك فادعى عليه المشتري أنه وقت البيع كان عالماً أن شراءها أكثر مما أخبر به ، فإن دعواه تسمع ، لأن البائع لو أقر بذلك لزم البيع في حقه بما أخبر به ، أولاً ، لرضاه به ، وتعاطي سببه ، فهو كمشتري المعيب عالماً بعيبه ، ثم إن أقر البائع بذلك لزم البيع بما حصل الإخبار به أولاً ، لما تقدم ، وإن أنكر بأن قال : ما علمت ذلك . ونحوه فللمشتري أن يحلفه على حسب جوابه ، فإن حلف فلا كلام ، وإن نكل ، أو أقر قضي عليه ، واللَّه أعلم .
قال : وإن باع شيئاً واختلفا في ثمنه تحالفا .
ش : إذا اختلف المتبايعان في ثمن المبيع كأن قال البائع : بعته بمائة . مثلاً ، وقال المشتري : إنما اشتريته بخمسين . ونحو ذلك فإن كانت لأحدهما بينة حكم بها ، وإلا تحالفا ، على المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايات .
1946 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي قال ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدعى عليه ) متفق عليه واللفظ لمسلم .
1947 وللبيهقي ( البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر ) وكل من المتبايعين مدع ومنكر ، إذ البائع في مثالنا يدعي فضل الثمن ، والمشتري ينكره ، والمشتري يدعي السلعة بأقل ، والبائع ينكره ، وإذاً يحلف كل واحد منهما على ما أنكره ، عملاً بعموم الحديث .
1948 وللبيهقي في سننه عن ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن [ الفقهاء من ] أهل المدينة ، كانوا يقولون : إذا تبايع الرجلان واختلفا في الثمن تحالفا ، فأيهما نكل لزمه القضاء ، فإن حلفا فالقول قول البائع ، وخير المبتاع ، إن شاء أخذ بذلك الثمن ، وإن شاء ترك ، وقد زعم أبو محمد أن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود الآتي ( إذا اختلف المتبايعان ، والسلعة قائمة ، ولا بينة لأحدهما تحالفا ) ( والثانية ) القول [ قول ] البائع مع يمينه ، حكاها ابن أبي موسى ، وابن المنذر ، وزاد : ويترادان البيع .
1949 لما روى ابن مسعود رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه : ( إذا اختلف المتبايعان ، وليس بينهما بينة ، فالقول ما يقول صاحب السلعة ، أو يترادان )
____________________
(2/78)
رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وفي رواية ( أو يتتاركان ) وفي أخرى ( فالقول ما قال البائع ، والمبتاع بالخيار ) وفي أخرى لأحمد والنسائي عن أبي عبيدة ، وأتاه رجلان تبايعا سلعة ، فقال هذا : أخذت بكذا وكذا ، وقال هذا : بعت بكذا وكذا . فقال أبو عبيدة : أتي عبد اللَّه في مثل هذا ، فقال : حضرت النبي في مثل هذا ، فأمر بالبائع أن يُسْتَحْلَفَ ، ثم يخير المبتاع ، إن شاء أخذ ، وإن شاء ترك . ولم أر في شيء من ألفاظ الحديث ( تحالفاً ) .
وهذه الرواية ، وإن كانت خفية مذهباً ، فهي ظاهرة دليلاً ، اعتماداً على هذا الحديث ، لا يقال : هذا الحديث منقطع ، كما قال الشافعي رحمه اللَّه ، وكذا قال ابن عبد البر [ وغيره : إن فيه انقطاعاً . لأنا نقول : لما تعددت طرقه ، تقوى بعضها ببعض ، ودل ذلك على أن له أصلاً ، وقد قال ابن عبد البر ] : هو محفوظ ، مشهور ، أصل عند جماعة العلماء ، تلقوه بالقبول ، وبنوا عليه كثيراً من فروعه ، قد اشتهر عنهم بالحجاز ، والعراق ، شهرة يستغنى بها عن الإسناد .
1950 كما اشتهر حديث ( لا وصية لوارث ) انتهى .
ويشهد لذلك أيضاً ( من جهة المعنى ) أن السلعة كانت للبائع ، والمشتري يدعي نقلها بعوض ، والبائع ينكره إلا بالعوض الذي عينه ، والقول قول المنكر ، وعدم الرضى إلا بذلك ، ( ومن جهة المذهب ) إذا اختلف المكاتب وسيده في عوض الكتابة : القول قول السيد . على رواية مرجحة عند البعض .
وما ذكر للرواية الأولى فغايته أنه عموم ، على أنه قد يمنع أن كلاً منهما ، منكر ، بل قد يقال : البائع هو المنكر للنقل بالعوض الذي ذكره المشتري ، أو المنكر هو المشتري ، لأن حقيقة ما يدعي عليه قدر رأس المال ، وهو ينكره .
( والثالثة ) : حكاها أبو الخطاب في الإنتصار : إن كان قبل القبض تحالفا ، لما تقدم أولاً ، وإن كان بعده فالقول قول المشتري ، لاتفاق البائع والمشتري على حصول الملك له ، ثم البائع يدعي عليه عوضاً ، والمشتري ينكر بعضه ، والقول قول المنكر ، واللَّه أعلم .
قال : فإن شاء المشتري أخذه بعد ذلك بما قال البائع ، وإلا انفسخ البيع بينهما .
ش : هذا تفريع على المذهب من أنهما يتحالفان ، وإذاً هل ينفسخ البيع بينهما بنفس التحالف ، وهو المنصوص ، على ما زعم ابن الزاغوني ، لأن المقصود من التحالف رفع العقد ، فاعتمد ذلك أوْ لا ينفسخ بذلك ، وهو المشهور ، والمعروف ، والمختار للخرقي ، وابن أبي موسى وأبي الخطاب ، والشيخين وغير واحد ، لأنه عقد صحيح ، فتنازعهما لا يقتضي فسخه ، كما لو أقام كل منهما بينة ؟ على قولين ، وعلى
____________________
(2/79)
الثاني إن شاء المشتري الأخذ بما قال البائع أخذ به ولا فسخ ، لما تقدم من حديث ابن مسعود ، وكذلك إن رضي البائع بما حلف عليه المشتري .
وإن امتنعا من ذلك فهل ينفسخ البيع بمجرد إبائهما ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، أو لا ينفسخ بذلك ، وهو المعروف عند الشيخين وغيرهما ؟ على قولين ، وعلى الثاني : هل يفتقر الفسخ إلى حاكم ؟ وهو احتمال لأبي الخطاب في الهداية ، وقطع به ابن الزاغوني ، لوقوع الخلاف في ذلك ، أو لا يفتقر إلى ذلك ، بل لكل منهما الفسخ ، وهو مختار الشيخين وغيرهما ، لما تقدم من حديث ابن مسعود ( أو يترادان البيع ، أو يتتاركان البيع ، ثم يخير المبتاع ، إن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ) وفي الحديث أن الأشعث بن قيس قال لعبد اللَّه بن مسعود وكانا اختلفا في ثمن مبيع : فإني تارك لك البيع ؟ على قولين ، واللَّه أعلم .
قال : والمبتدي باليمين البائع .
ش : لما قال رحمه اللَّه : إن البائع والمشتري يتحالفان . فلا بد من أن أحدهما يبدأ باليمين ، فقال : إن المبتدىء بها هو البائع ، وذلك لتساويهما من حيث الإنكار ، وترجح البائع لكون العين ترجع إليه بعد التحالف ، ومن نكل منهما عن اليمين ، أو عن بعضها قضي عليه .
( تنبيه ) صفة اليمين أن كلا منهما يحلف يميناً واحدة ، يجمع فيها بين النفي والإثبات ، فيحلف البائع : ما بعته بكذا ، وإنما بعته بكذا ، أو ما بعته إلا بكذا . ثم يحلف المشتري : ما اشتريته بكذا ، وإنما اشتريته بكذا . أو : ما اشتريته إلا بكذا ، لأن كلا منهما مدع ومدعى عليه ، فالإثبات لدعواه ، والنفي لما ادعي عليه ، ثم هل يبدأ بالنفي ، وهو المشهور ، لدفع قول الخصم ، أو بالإثبات ، لإثبات دعواه ابتداء ؟ على وجهين ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كانت السلعة تالفة تحالفاً .
ش : يعني أنه لا فرق بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة ، أنهما يتحالفان ، وهذا إحدى الروايتين ، ( والثانية ) وهي أنصهما ، واختيار أبي البركات : إن كانت السلعة باقية تحالفاً ، وإن كانت تالفة فالقول قول المشتري مع يمينه .
1951 لأن في حديث ابن مسعود في رواية ابن ماجه ( والبيع قائم بعينه ) وفي رواية لأحمد ( والسلعة كما هي ) ومفهومه أن السلعة إذا تلفت لا يكون القول قول البائع ، وإذاً يكون قول المشتري ، لأن حقيقة ما يدعى عليه قدر رأس المال ، وهو ينكر بعضه ، والقول قول المنكر ، وقد صرح بذلك الدارقطني في رواية فقال ( إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع ، فإذا استهلك فالقول ما قال المشتري ) وهذا نص .
والرواية الأولى اختيار الخرقي والأكثرين ، لأن المشهور والصحيح من الرواية في
____________________
(2/80)
الحديث ما تقدم ، وهذه الرواية قد ضعفت ، من قبل أن راويها محمد بن أبي ليلى ، وهو سيء الحظ ، ورواية الدارقطني فيها الحسن بن عمارة ، وهو متروك .
1952 ثم يعارضه ما روى الدارقطني أيضاً في الحديث عن عبد اللَّه عن النبي قال : ( إذا اختلف البيعان ، والمبيع مستهلك ، فالقول قول البائع ) لكنه من رواية عبد اللَّه بن عصمة ، وهو ضعيف ، انتهى .
واعلم أن هذه الرواية المنصورة ، وقد أخذها القاضي في روايتيه من إطلاق أحمد أن المتبايعين إذا اختلفا تحالفاً ، ولم يفرق ، وعلى هذا من يخص عام كلام إمام بخاصه تكون المسألة عنده رواية واحدة ، في أن القول مع التلف قول المشتري . ثم اعلم أن أبا محمد ينصر الرواية المنصورة عند الأصحاب ، لكن يقول : ينبغي أن قيمة السلعة إذا كانت مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري ، أن القول قول المشتري مع يمينه ، لعدم الفائدة في يمين البائع ، وفسخ البيع ، إذ حاصله يرجع إلى ما ادعاه المشتري ، وله فيما إذا كانت القيمة أقل احتمالان ( أحدهما ) : كالأول ، إذ لا فائدة للبائع في الفسخ ، بل وفيه ضرر عليه ( والثاني ) يشرع التحالف ، لحصول الفائدة للمشتري ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال ورجعا إلى قيمة مثلها ، إلا أن يشاء المشتري أن يعطي الثمن على ما قاله البائع .
ش : يعني إذا كانت السلعة تالفة وتحالفا فإن شاء المشتري أن يعطي الثمن عل ما قال البائع ، وإلا انفسخ البيع بينهما على ما قاله الخرقي ، وإذاً يرجع كل منهما إلى ما خرج عنه ، والذي خرج عن المشتري هو الثمن ، فيرجع فيه ، إن كان قد قبض ، والذي خرج عن البائع هو السلعة ، وقد تعذر الرجوع فيها ، فيرجع في بدلها وهو القيمة ، فإن تساويا ، وكانا من جنس واحد ، تقاصا وتساقطا ، وإلا سقط الأقل ، ومثله من الأكثر ، هذا المشهور والمعروف .
ومثال ابن المنجا : إن كلام أبي الخطاب أن القيمة إن زادت على الثمن أن المشتري لا تلزمه الزيادة ، لأنه قال : المشتري بالخيار بين دفع الثمن الذي ادعاه البائع ، وبين دفع القيمة ، وذلك لأن البائع لا يدعي الزيادة ( قلت ) : وكلام أبي الخطاب ككلام الخرقي ، وليس فيه أن ذلك بعد الفسخ ، بل هذا التخيير مصرح به بأنه بعد التحالف ، وليس إذ ذاك فسخ ، ولا شك أن المشتري والحال هذه مخير على المشهور كما تقدم عند قيام السلعة ، فكذلك عند تلفها ، والذي قاله ابن المنجا كأنه بحث لصاحب النهاية ، فإنه حكى عنه بعد ذلك أنه قال : وجوب الزيادة أظهر لأن بالفسخ سقط اعتبار الثمن .
____________________
(2/81)
وقد بحث أبو العباس ذلك أيضاً فقال : يتوجه أن لا تجب قيمته إلا إذا كانت أقل من الثمن ، أما إن كانت أكثر فهو قد رضي بالثمن ، فلا يعطى زيادة ، لاتفاقهما على عدم استحقاقها ، قال : كما قلنا مثل هذا في الصداق ولا فرق ، إلا أن هنا انفسخ العقد الذي هو سبب استحقاق المسمى ، بخلاف الصداق ، فإن المقتضي لاستحقاقه قائم . واللَّه أعلم .
قال : فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري مع يمينه في الصفة .
ش : أي إذا تحالفا ورجعا إلى قيمة السلعة ، فإن اتفقا على قيمتها فلا كلام ، وإن اختلفا في صفتها ، والصفة ليست عيباً كالسمن والكتابة ونحوهما فالقول قول المشتري مع يمينه ، بلا نزاع نعلمه ، لأنه غارم ، والقول قول الغارم ، واعتماداً على أصل براءة الذمة ، ثم الأصل عدمها ، وإن كانت عيباً ، كالبرص ، والخرق في الثوب ، ونحو ذلك ، فهل القول قول المشتري ، وهو المشهور ، وظاهر كلام الخرقي ، لما تقدم من أنه غارم ، أو قول البائع في نفي ذلك ، لأن الأصل عدمها ؟ فيه وجهان ، وملخص الأمر أنه قد تعارض أصلان ، فخرج قولان ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يجوز بيع الآبق .
ش : لأنه بيع غرر ، وإنه منهي عنه شرعاً ، والنهي يقتضي الفساد .
1953 ودليل النهي ما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه نهى عن بيع الغرر .
1954 على أن في المسند ، وسنن ابن ماجه ، عن أبي سعيد : نهى رسول اللَّه عن بيع ما في بطون الأنعام ، وعما في ضروعها إلا بكيل ، وعن شراء الغنائم حتى تقسم ، وعن شراء الصدقات حتى تقبض ، وعن شراء العبد وهو آبق ، وعن ضربة الغائص . إلا أن فيه كلاماً ، ومن ثم قال البيهقي : هذا وإن لم يثبت فكله داخل في بيع الغرر ، [ قلت وهذا صحيح ، إذ الغرر ] على ما فسره القاضي من أصحابنا [ وغيره ] ما تردد بين جائزين ، ليس هو في أحدهما أظهر ، والآبق كذلك ، لأنه متردد بين الحصول والعدم ، وكلام الخرقي شامل لآبق يعلم خبره أو لا يعلم ، وهو كذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ولا الطائر قبل أن يصاد .
ش : لأن ذلك من الغرر المتقدم ، وقد دخل في كلام الخرقي المملوك وغير المملوك ، وما يألف العود أو لا يألفه ، وهو كذلك .
____________________
(2/82)
وقوله : قبل أن يصاد ، يخرج منه ما إذا صيد [ وهو واضح ، ثم : ما صيد . يدخل فيه ما صيد ] ببرج ونحوه ، وقد اختلف في بيع الطائر في البرج ، فأجازه أبو محمد ، بشرط كون الباب مغلوقاً ، إناطة بالقدرة على التسليم ، وشرط القاضي مع ذلك إمكان أخذه بسهولة ، فإن لم يمكن أخذه إلا بتعب ومشقة لم يجز ، لأن قدر ذلك غير معلوم ، واللَّه أعلم .
قال : ولا السمك في الآجام .
ش : لما تقدم أيضاً .
1955 وقد روي عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا تشتروا السمك في الماء ، فإنه غرر ) رواه الإمام أحمد ، لكن قال البيهقي : إن فيه انقطاعاً .
وقوله : في الآجام . يخرج منه ما إذا كان بيده ونحوه ذلك ، كأن كان في بركة معدّة للصيد ، وعرف إما برؤيته كما إذا رؤي في الماء لصغر البركة ، ونحوها ، وأمكن أخذه ، صح بيعه ، لانتفاء المحذور ، وهو عدم القدرة على التسليم ، نعم إن كان في أخذه كلفة ومشقة خرج فيه ما تقدم من الخلاف في الطائر في البرج ، وأبو محمد هنا يسلم أن البركة إذا كانت كبيرة ، وتطاولت المدة في أخذه ، أنه لا يجوز بيعه ، للجهل بوقت إمكان التسليم ، واللَّه أعلم .
قال : والوكيل إذا خالف فهو ضامن ، إلا أن يرضى الآمر فيلزمه .
ش : أما ضمان الوكيل إذاً فلأنه خرج بمخالفته من حيز الأمانة ، إلى حيز الخيانة ، وإذاً يضمن ، لتعديه وظلمه ، وأما زوال الضمان عنه برضى الآمر فلأن الضمان كان لمخالفته ، وبرضى الآمر كأن المخالفة قد زالت .
هذا من حيث الجملة ، أما من حيث التفصيل فمخالفة الوكيل تارة تكون في أصل ما وكل فيه ، كأن يوكله في شراء عبد ، فيشتري ثوباً ، أو في بيع عبده زيد ، فيبيع عبده سعيداً ، ونحو ذلك ، فهذا لا إشكال في ضمان ما فوته على المالك ، لعدم موافقته المأمور بوجه ، ثم ينظر فإن كان البيع لأعيان مال الموكل ، أو الشراء بعين ماله ، لم يصح تصرفه ، على الصحيح المشهور من الروايتين ، لارتكابه النهي .
1956 بدليل حديث حكيم بن حزام : نهاني رسول اللَّه أن أبيع ما ليس عندي . وفي لفظ ( لا تبع ما ليس عندك ) رواه البخاري وغيره ، أي ما ليس في ملكك .
1957 بدليل ما في سنن البيهقي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول اللَّه أرسل عتاب بن أسيد إلى أهل مكة ( أن أبلغهم عن أربع خصال ، إنه لا يصلح شرطان في بيع ، [ ولا بيع وسلف ] ، ولا بيع ما لم يملك ، ولا ربح
____________________
(2/83)
ما لم يضمن ) .
( والثانية ) يقع التصرف موقوفاً على إجازة مالكه ، إن أجازه جاز ، وإن رده بطل .
1958 لحديث عروة بن أبي الجعد البارقي ، أن النبي أعطاه ديناراً ليشتري به شاة ، فاشترى له به شاتين ، فباع إحداهما بدينار ، وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ، فكان لو اشترى التراب لربح فيه ، رواه البخاري وغيره .
وإن كان الشراء في الذمة فهل ذلك كما لو كان الشراء بالعين ، تجري فيه الروايتان ، وهو قول القاضي في روايتيه ، أو يصح هذا في الجملة بلا خلاف ، وهو المعروف المشهور ؟ على طريقتين للأصحاب ، وعلى الثاني : هل من شرط الصحة أن لا يسمي الموكل في العقد ، وهو رأي القاضي ، وأبي البركات ، أو لا يشترط ذلك ، وهو رأي أبي محمد ؟ وفيه قولان ، وحيث حكم بالصحة فإن رضي الموكل بذلك التصرف لزمه ، وزال الضمان عن الوكيل ، فيما دفعه من مال ونحو ذلك ، وإلا لزم الوكيل ما اشتراه ، وعليه ضمان الثمن إن كان قد نقده ، وعلى هذه الصورة يحمل كلام الخرقي ، انتهى .
وتارة يخالف الوكيل في صفة ما وكل فيه ، فهذا إن شهد العرف أن مخالفته كلا مخالفة لم تضر ، وذلك كأن يوكله في بيع شيء بمائة ، فيبيعه بمائة وعشرة ، أو بدرهم فيبيعه بدينار ، على أحد الوجهين ، لحصول المقصود بالدرهم من الدينار من كل وجه ، بخلاف العرض ، أو يأمره بالبيع نساء ، أو الشراء حالاً ، فيبيع حالاً ، أو يشتري نسيئة ، ولا ضرر على الموكل في حفظ الثمن ، وعن القاضي أنه لم يشترط نفي الضرر ، أو يأمره بالبيع بثمن في سوق ، فيبيع به في آخر ، لعدم تعلق الغرض به غالباً ، بخلاف ما لو قال : بعه لزيد ، فباعه لعمرو ، فإنه لا يصح لتعلق عرضه بذلك غالباً ، انتهى .
وإن لم يشهد العرف بذلك لكن يمكن تدارك ما حصل من الضرر عن الموكل ، مثل أن يوكله في بيع شيء بمائة ، أو شراء شيء بخمسين فيبيع بخمسين ويشتري بمائة ، ونحو ذلك ، فهذا هل يصح ويضمن الوكيل الزيادة والنقص ، لتفريطه ، ومخالفته ، وهو المنصوص ، لزوال الضرر عن الموكل ، ولا يلزم من زوال الوصف زوال الأصل ، أو لا يصح ، وهو اختيار أبي محمد في المغني ، وبه جزم صاحب التلخيص ، وقال : إنه الذي تقتضيه أصول المذهب ، ويحكى رواية ، لأنه مع مخالفته خرج عن حيز الأمانة ، فصار بمنزلة الأجنبي ، أو يصح البيع ولا يصح الشراء ، لئلا يلزم العوض لغير من حصل له المعوض ، وهذا المحذور فائت في البيع وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع ؟ على ثلاثة أقوال ، انتهى .
وإن لم يشهد العرف بذلك ، ولم يمكن التدارك ، كما تقدم فيما إذا أمره بالبيع
____________________
(2/84)
لزيد فباع لعمرو ، ونحو ذلك ، فإنه لا يصح قولاً واحداً ، واللَّه أعلم .
قال : وبيع الملامسة والمنابذة غير جائز .
ش : المراد هنا بالجواز الصحة ، وبعدمه البطلان ، وإنما لم يصحا للنهي عنهما ، المقتضي للفساد شرعاً .
1959 ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه نهى عن الملامسة والمنابذة ، وفي رواية لمسلم ( أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه ، بغير تأمل ، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر ، ولم ينظر كل واحد منهما ثوب صاحبه ) .
1960 وفي الصحيحين عن أبي سعيد نحوه ، متناً وتفسيراً ، والمنع من ذلك كان لاختلال شرط في المبيع ، وهو العلم به ، وقد فسر أيضاً بأن يقول : أي ثوب لمسته فهو علي بكذا ، أو أي ثوب نبذته فهو علي بكذا ، وهنا يجتمع مفسدان ، الجهالة ، والتعليق على شرط ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك بيع الحمل في البطن دون الأم .
ش : أي غير جائز ، وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك .
1961 وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، أن رسول اللَّه نهى عن بيع حبل الحبلة ، وكان بيعاً يتبايعه أهل الجاهلية ، يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ، وتنتج التي في بطنها .
1962 وروى مالك عن ابن شهاب ، أن سعيد بن المسيب كان يقول : 16 ( لا ربا في الحيوان ، وإن رسول اللَّه إنما نهى في بيع الحيوان عن ثلاث ، المضامين والملاقيح ، وحبل الحبلة ، فالمضامين ما في بطون إناث الإبل ، والملاقيح ما في ظهور الجمال ) ، والنهي عن ذلك لعدم العلم بالمبيع ، وانتفاء القدرة على التسليم .
وقول الخرقي : دون الأم . احترازاً مما إذا باعه مع أمه ، فإنه يصح ، تبعاً لأمه ، كأس الحيط ، ويدل هذا من كلامه على أن للحمل حكماً ، وأنه يأخذ قسطاً من الثمن ، وهو التحقيق ، واختيار أبي محمد وغيره ، وعن القاضي أنه لا حكم له وبيان ذلك ، وما يتفرع عليه له محل آخر .
( تنبيه ) : ( حبل الحبلة ) بفتح الباء فيهما على الصحيح رواية ولغة ، والحبل مصدر : حبلت المرأة . بكسر الباء : تحبل . بفتحها ، إذا حملت ، والحبلة جمع حابل كظالم وظلمة ، وأصل الحبل في بنات آدم ، والحمل في غيرهن ، قاله أبو عبيد ، وقد
____________________
(2/85)
فسر ابن عمر ذلك ، وإلى تفسيره صار الفقهاء ، وقال المبرد : حبل الحبلة حمل الكرمة قبل أن تبلغ ، والحبلة الكرمة ، بسكون الباء وفتحها ( والمضامين ، والملاقيح ) قد فسرهما سعيد بن المسيب ، قال الشافعي : الملاقيح ما في بطون الإناث ، والمضامين ما في ظهور الجمال . وكذا فسره أبو عبيد وغيره ، واللَّه أعلم .
قال : وبيع عسب الفحل غير جائز .
ش : عسب الفحل ضرابه ، وبيع ذلك وكذلك إجارته لذلك لا تصح ، للنهي عن ذلك .
1963 ففي البخاري عن ابن عمر أن النبي نهى عن عسب الفحل .
1964 وفي مسلم : نهى النبي عن ضراب الفحل ، ولأنه لا يتحقق تسليم ذلك ، لأنه معلق باختيار الفحل وشهوته .
ولابن عقيل احتمال : يجوز إجارته لذلك ، لأنها منفعة مقصودة ، والغالب حصول النزو ، فيكون ذلك مقدوراً عليه ، وجوز أبو محمد دفع الأجرة دون أخذها ، لاحتياج الدافع إلى ذلك .
1965 ولأن النبي أعطى الحجام .
1966 وقال : ( إن كسبه خبيث ) وفيما قاله نظر ، لأنه إن سلم أن الخبيث المحرم فالمراد بالكسب الأجرة ، والنبي لم يدفع إليه ذلك أجرة ، وإلا يلزم أنه أعانه على المعصية ، وهو ممتنع قطعاً ، وإنما دفع إليه ما دفعه على سبيل البر والصلة .
وقد بالغ إمامنا رحمه اللَّه ، فمنع أن يعطى صاحب الفحل شيئاً على سبيل الهدية ونحوها ، وقوفاً على ما ورد ، وقال : لم يبلغنا أن النبي أعطى في مثل هذا شيئاً ، كما بلغنا في الحجام ، وقد قرر القاضي ذلك ، وقال : إنه مقتضى النظر ، لكن ترك في الحجام للنص ، فيبقى فيما عداه على مقتضى المنع ، وأبو محمد حمل كلام الإمام أحمد على التورع ، وجوز الدفع إليه على سبيل الهدية ونحوها .
1967 لما روي عن أنس رضي اللَّه عنه أن رجلاً من بني كلاب سأل رسول اللَّه عن عسب الفحل ، فنهاه عن ذلك ، فقال : يا رسول اللَّه إنا نطرق ونكرم ، فرخص في الكرامة ، رواه الترمذي ( قلت ) : وهذا الحديث الظاهر أنه لم يثبت عند الإمام ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال : والنجش منهي عنه .
____________________
(2/86)
ش : هذا مما لا ريب فيه .
1968 فعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه قال : ( لا تتلقوا الركبان ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، ولا تناجشوا ، ولا يبع حاضر لباد ) .
1969 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، قال : نهى رسول اللَّه عن النجش ، والنجش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها ، وليس في نفسك شراؤها ، فيقتدي بك غيرك .
1970 وقال ابن أبي أوفى : الناجش آكل ربا ، خائن ، وهو خداع باطل لا يحل . ذكره البخاري تعليقاً .
وظاهر كلام الخرقي رحمه اللَّه أن البيع مع النجش صحيح ، لأنه قال : والنجش منهي عنه ، وقال فيما تقدم : غير جائز ، وهذا هو المذهب المشهور ، لأن النهي لحق آدمي معين ، ويمكن تداركه ، فأشبه تلقي الركبان ، وبيع المدلس ، ونحو ذلك ، وقيل عن أحمد رواية أخرى ، أن البيع باطل تغليباً لحق اللَّه تعالى في النهي ، وقال أبو محمد : إن هذا اختيار أبي بكر ، والذي في التنبيه : أن النجش لا يجوز .
وفي المذهب قول ثالث ، صححه ابن حمدان : إن نجش البائع ، أو واطأ على ذلك بطل البيع ، وهذا القول خرجه صاحب التلخيص من قول أبي بكر ، في إبطال البيع بتدليس العيب ، وهو يؤيد رد ما حكاه عنه أبو محمد من البطلان مطلقاً ، انتهى ، ووجه هذا القول أن البائع أحد ركني العقد ، فارتكابه النهي يفسد البيع ، بخلاف الأجنبي .
وإذا صح البيع فحيث غر المشتري وذلك بأن كان جاهلاً بالقيمة ، فغبن غبناً يخرج عن العادة ثبت له الخيار ، نص عليه ، دفعاً للضرر عنه المنفي شرعاً ، أما إن كان عارفاً بالقيمة فلا خيار له ، لأنه الظالم لنفسه بتفريطه .
والخرقي رحمه اللَّه لم يتعرض للخيار ، فيحتمل أنه لم ير ذلك ، كما هو قول بعض أهل العلم ، لأنه فرط ، حيث اشترى ما لا يعرف قيمته ، واللَّه أعلم .
قال : وهو أن يزيد في السلعة ، وليس هو مشترياً لها .
ش : هذا تفسير النجش ، وإذاً يغر المستام ، وهو نحو تفسير ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، وهو حرام وخداع ، كما قال ابن أبي أوفى ، وقد زاد بعض أصحابنا في تفسيره فقال : ليغر الغر . وهو حسن ، لأن غير الغر وهو العارف بالقيم لا يغتر بمثل ذلك ، وإن اغتر فذلك لعجلته ، وعدم تأمله ، وأصل النجش قيل : الإستثارة والاستخراج ، ومنه
____________________
(2/87)
سمي الصائد ناجشاً ، لاستخراجه الصيد من مكانه ، فالزائد في السلعة كأنه استخرج من المستام في ثمن السلعة ما لا يريد أن يخرجه ، وقيل : أصل النجس مدح الشيء وإطراؤه ، والناجش يغر المشتري بمدحه ، ليزيد في الثمن ، انتهى ، وحكم زيادة المالك في الثمن كأن يقول : أعطيت في هذه السلعة كذا . وهو كاذب حكم نجشه ، واللَّه أعلم .
قال : فإن باع حاضر لباد فالبيع باطل .
ش : الحاضر المقيم في المدن والقرى ، والبادي المقيم بالبادية ، والمراد هنا بالبادي على ما قال أبو محمد من يدخل البلدة من غير أهلها ، وإن كان من قرية أو من بلدة أخرى ، والحاضر المقيم في البلد ، ولا ريب أن النبي نهى عن بيع الحاضر للبادي .
1971 فعن جابر رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه ( لا بيع حاضر لباد ، دعوا الناس يرزق اللَّه بعضهم من بعض ) رواه مسلم والترمذي ، وأبو داود والنسائي .
1972 وعن أنس رضي اللَّه عنه ، قال : نهى رسول اللَّه أن يبيع حاضر لباد ، وإن كان أخاه لأبيه وأمه .
1973 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه ( لا تلقوا الركبان ، ولا يبع حاضر لباد ) متفق عليهما .
1974 وروي أيضاً ذلك من حديث ابن عمر ، وأبي هريرة ، وطلحة بن عبيد اللَّه وإنما نهى عن ذلك واللَّه أعلم لأنه متى ترك القادم يبيع سلعته اشتراها الناس منه برخص ، وتوسع عليهم السعر ، بخلاف ما إذا توفى الحاضر بيعها ، فإنه لا يبيعها غالباً إلا بغلاء ، وإذاً يحصل الضرر لأهل البلد ، وقد أشار النبي في تعليله إلى ذلك .
ولما كان هذا المعنى وجوده في أول الإسلام أكثر ، لما كان عليهم من الضيق ، اختلف العلماء في بقاء النهي ، وعن إمامنا رحمه اللَّه في ذلك روايتان ( إحداهما ) زواله ، وقال : كان ذلك مرة . ( والثانية ) وهي المشهورة عنه ، وعليها الأصحاب بقاؤه ، لعمومات النهي ، ووجود المعنى إذاً ، فعلى الأولى لا تفريع ، أما على المذهب فإذا باع الحاضر لهم ، فهل يبطل البيع بشرطه ، وبه قطع الخرقي ، اعتماداً على النهي لاقتضائه فساد المنهي عنه ، ولأن الضرر لا يمكن تداركه لأنه لآدمي غير معين ،
____________________
(2/88)
بخلاف تلقي الجلب ، أولا يبطل ، لأن النهي لمعنى يتعلق بعين المعقود عليه ، وهو النظر لأهل البلد ، لمقصود التوسعة ، فهو كتلقي الركبان ، نظراً لحق الجالبين ، لكن ثبت الخيار ثم ، لاختصاص الضرر بالعاقد ، وهنا غلاء السعر عام ؟ على روايتين ، وجعل ابن المنجا الصحة على القول بزوال النهي ، والبطلان على القول ببقائه ليس بشيء ، إنما الروايتان على القول بالبقاء .
ومقتضى كلام الخرقي صحة الشراء للبادي ، وهو كذلك ، لأن النهي إنما ورد عن البيع ، لمعنى يختص به ، وهو الرفق بأهل الحضر ، وهذا غير موجود في الشراء للبادي ، إذ لا يتضرر الحاضر إذا لم يغبن البادي ، والخلق في نظر الشارع على السواء .
( تنبيه ) : هل للحاضر أن يشير على البادي ، من غير أن يباشر العقد ؟ مال أبو محمد إلى جواز ذلك .
1975 اقتداء بطلحة بن عبيد اللَّه ، فإنه قال لباد سأله أن يبيع له : إن رسول اللَّه نهى أن يبيع حاضر لباد ، ولكن اذهب إلى السوق ، فإن جاءن من يبايعك فشاورني ، حتى آمرك وأنهاك .
1976 ( قلت ) : وقد روى البيهقي في سننه عن جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه : ( ادعوا الناس يرزق اللَّه بعضهم من بعض ، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه ) وهذا نص إن صح ، واللَّه أعلم .
قال : وهو أن يخرج الحضري إلى البادي وقد جلب السلع ، فيعرفه السعر ، ويقول : أنا بيع لك بكذا ، فنهى رسول اللَّه عن ذلك ، وقال ( دعوا الناس يرزق اللَّه بعضهم من بعض ) .
ش : أي بيع الحاضر للبادي الذي قد نهى عنه رسول اللَّه ، والذي هو باطل هو هذا ، وهو ( أن يخرج الحضري إلى البادي ) أي ليبيع له ، فإن كان القاصد هو البادي لم يكن للحاضر أثر في الفعل ، وإذاً يصح البيع ، ويزول النهي ، وعموم الأحاديث وهو الذي فهمه طلحة ابن عبيد اللَّه يقتضي عدم اشتراط ذلك انتهى ( وأن يكون ) البادي جلب السلع ، أي للبيع لا للخزن ونحو ذلك ، [ لأن المنع كان لأجل التوسعة ، ومع قصد الخزن ونحو ذلك التوسعة في ترغيبه في البيع ] ( وأن يكون ) البادي جاهلاً بالسعر ، والحاضر عارفاً به ، ليعرفه إياه ، لأنه إذا كان عارفاً بالسعر لم يزده الحاضر على ما عنده شيئاً ، وحكى ابن أبي موسى رواية بالبطلان وإن عرف البادي السعر ، ورواية بالبطلان أيضاً وإن جهل الحاضر السعر .
____________________
(2/89)
وزاد القاضي وغيره شرطين آخرين ( أحدهما ) أن يريد البادي البيع بسعر اليوم ، فإن كان قصده البيع بسعر معلوم ، كان المنع من البيع من جهته ، لا من جهة الحاضر ، وزاد بعضهم في هذا الشرط : أن يقصد البيع بسعر اليوم حالاً لا نسيئة . ( الشرط الثاني ) أن يكون بالناس حاجة إليها ، لأن مع عدم حاجتهم التوسعة مستغنى عنها ، وهذه الشروط الخمسة شروط للبطلان والنهي ، متى فقد واحد منها صح البيع ، وزال النهي ، واللَّه سبحانه أعلم .
قال : ونهى عن تلقي الركبان .
1977 ش : الأصل في ذلك ما روى ابن عمر أن رسول اللَّه نهى عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق .
1978 وعن ابن عباس : نهى رسول اللَّه أن تتلقى الركبان ، ولا يبيع حاضر لباد . متفق عليهما .
1979 وفي الصحيح أيضاً نحو ذلك عن ابن مسعود ، وأبي هريرة .
( تنبيه ) : يجوز تلقي الجلب في أعلى السوق ، قاله أبو محمد ، لأن في حديث ابن عمر : أن رسول اللَّه نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها إلى السوق . واللَّه أعلم .
قال : فإن تلقوا واشترى منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق ، وعرفوا أنهم قد غبنوا ، إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا .
ش : إذا تلقيت الركبان فاشترى منهم ، فهل يصح البيع ، وهو المذهب المنصوص المقطوع به .
1980 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا تلقوا الجلب ، فمن تلقاه فاشترى منه شيئاً فصاحبه بالخيار إذا جاء السوق ) روه مسلم ، وأبو داود والترمذي . ولأن الحق في النهي لآدمي معين ، أمكن تداركه ، وبهذا فارق الحاضر للبادي ، والبيع في وقت النداء ، أو لا يصح ، اعتماداً على عامة الأحاديث في النهي المطلق ؟ على روايتين .
وعلى المذهب للركبان الخيار إذا هبطوا السوق ، ورأوا أنهم قد غبنوا ، على ظاهر الحديث ، وقول عامة الأصحاب ، ولم يشترط ذلك بعض المتأخرين ، بل العلم بالغبن لأن دخول السوق في الحديث حيلة واللَّه أعلم بمعرفة الغبن ، فإذا عرف قبل ثبت له الخيار .
____________________
(2/90)
وشرط ثبوت الخيار بالغبن أن يكون فاحشاً ، يخرج عن العادة على المذهب ، وقدره بعض الأصحاب بالسدس ، وبعضهم بالثلث ، والخرقي رحمه اللَّه أطلق الغبن فيحتمل أنه اكتفى بمجرد الغبن ، ويحتمل أن يكون موافقاً للأصحاب ، إذ الغبن إذا لم يخرج عن العادة لم يطلق عليه في العرف غبن .
وحكم البيع لهم حكم الشراء منهم ، إذ الخديعة موجودة فيهما ، وإذاً الخرقي إنما ذكره الشراء لأنه الغالب .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الحكم مخصوص بقصد التلقي ، فلو خرج بغير قصد ، فوافقهم فاشترى منهم ، لم يحرم عليه ذلك ، وهو احتمال لأبي محمد ، وقال القاضي : لا فرق بين القصد وعدمه في امتناع الشراء منهم ، إذ النهي دفعاً للخديعة والغبن عنهم ، وهذا موجود وإن لم يقصد التلقي .
( تنبيه ) : المعنى في النهي عن التلقي واللَّه أعلم أن المتلقي غالباً إما أن يكذب في سعر البلد ، وإذاً يكون غارّاً غاشّا ، أو يسكت فيكون مدلساً خادعاً ، أما إن صدق في سعر البلد ، فهل يثبت للركبان الخيار ، لعموم النهي أو لا يثبت لانتفاء الخديعة ؟ فيه احتمالان واللَّه أعلم .
قال : وبيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لأنه وسيلة إلى المحرم ، والوسيلة إلى المحرم محرمة بلا ريب ، وإذاً يبطل البيع لارتكاب المحرم ، قال جل وعلا 19 ( { وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ) .
1981 وفي السنن أن النبي لعن الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وشاربها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وساقيها ، وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها .
وفي المذهب قول آخر : يصح البيع مع التحريم ، وشرط البطلان على البائع قصد المشتري ذلك ، إما بقوله ، أو بقرائن دلت على ذلك ، أما إن ظن ذلك ولم يتحققه فإن البيع يصح مع الكراهة ، قاله صاحب التلخيص ، وحكم ما كان وسيلة إلى المحرم كذلك ، كبيع السلاح للبغاة ، أو لأهل الحرب ، أو الجارية للغناء ، أو الأقداح والخبز والفواكه والمشموم والشموع لمن يشرب عليها المسكر ، والبيض للقمار ، والحرير لمن يحرم عليه ، ونحو ذلك ، أما بيع السلاح من أهل العدل لقتال البغاة ، وقطاع الطريق ، فجائز ، واللَّه أعلم .
قال : ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان ، ولا يبطله شرط واحد .
____________________
(2/91)
ش : يبطل البيع بشرطين في الجملة .
1982 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، عن النبي أنه قال : ( لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا بيع ما ليس عندك ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، ولا يبطل بشرط واحد ، لمفهوم ما تقدم .
1983 وللحديث الصحيح ( من باع نخلاً مؤبرة فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المتباع ) .
1984 قال الإمام أحمد رحمه اللَّه : إنما نهى رسول اللَّه عن شرطين في البيع ، قال : وحديث جابر يدل على إباحة الشرط ، حين باعه جملة ، واستثنى ظهره إلى المدينة ، ويستثنى من ذلك على رأي الخرقي جز الرطبة فقط ، وما في معناها على ما تقدم .
وعموم كلام الخرقي يدخل فيه الشرط الفاسد ، فلا يفسد البيع به ، وهو إحدى الروايتين ، وقد تقدم ذلك أيضاً .
( تنبيه ) : اختلف في الشرطين المبطلين للعقد ، فعن القاضي في المجرد أنهما شرطان مطلقاً ، أي سواء كانا صحيحين أو فاسدين ، من مصلحة العقد أو من غير مصلحته ، زاعماً أن هذا ظاهر كلام أحمد ، ومعتمداً على إطلاق الحديث ، وكذلك قال ابن عقيل في التذكرة ، معللاً بأن اشتراط الشرطين يفضي إلى اشتراط الثلاثة ، وما لا نهاية له ، وعن أحمد أنه فسرهما بشرطين صحيحين ، ليسا من مصلحة العقد ، كأن يشتري حزمة حطب ، ويشترط على البائع حملها وتكسيرها ، أو ثوباً ويشترط خياطته وتفصيله ، ونحو ذلك ، لا ما كان من مصلحته ، كالرهن ، والضمين ، فإن اشتراط مثل ذلك لا يؤثر ، وإن كثر ، ولا ما كان من مقتضاه بطريق الأولى ، ولا الشرطين الفاسدين ، إذ الواحد كاف في البطلان ، وهذا اختيار الشيخين ، وصاحب التلخيص ، والقاضي في شرحيه ، وغالى أبو محمد فقال : إن ما كان من مقتضى العقد كاشتراط تسليم المبيع ، وحلول الثمن ، لا يؤثر فيه بلا خلاف . وعن الإمام أنه فسرهما بشرطين فاسدين ، وكذلك بعض الأصحاب ، وضعفه صاحب التلخيص ، بأن الواحد يؤثر في العقد ، فلا حاجة إلى التعدد ، ويجاب بأن الواحد في تأثيره خلاف ، أما الشرطان فلا خلاف في تأثيرهما ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا قال : أبيعك بكذا ، على أن آخذ منك الدينار بكذا ، لم ينعقد البيع ، وكذلك إن باعه بذهب ، على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه .
ش : إذا شرط عقداً في عقد ، مثل أن باعه شيئاً بدراهم ، وشرط أن يصارفه عن
____________________
(2/92)
الدراهم بدنانير معلومة : أو بذهب وشرط أن يأخذ دراهم ، أو باعه داره على أن يبيعه داره الأخرى ، أو على أن يبيعه المشتري داره ، أو على أن يؤجرها له ، ونحو ذلك ، فالمذهب المشهور أن العقد يبطل .
1985 لما روي أبو هريرة رضي اللَّه عنه ، أن النبي نهى عن بيعتين في بيعة ، رواه الترمذي وصححه ، قال إمامنا : هذا معناه . ولما تقدم في حديث عبد اللَّه بن عمرو ( لا يحل سلف وبيع ) وفي المذهب قول آخر ، حكاه أبو محمد ، تخريجاً من الشروط المنافية لمقتضى العقد ، كأن لا يبيع ، ولا يهب ، وأبو البركات حكاه رواية : يصح العقد ، ويبطل الشرط ، كما ثبت ذلك بالنص في شرط الولاء .
واعلم أن الخرقي رحمه اللَّه قال قبل : إن البيع لا يبطله شرط واحد ، وقال هنا بالبطلان ، فيحتمل أن مذهبه أن كل الشروط الفاسدة تبطل البيع ، ويكون ما تقدم مراداً به الشرط الصحيح ، ويحتمل أن يخص البطلان بهذا الشرط وما في معناه من اشتراط عقد في عقد .
( تنبيه ) : للعلماء في تأويل بيعتين في بيعة تأويل آخر ، قاله مالك ، والشافعي وغيرهما ، وهو أن يقول بعتك بعشرة نقداً ، أو بعشرين نسيئة ، أو بعتك بدينار ، أو بعشرة دراهم ، ونحو ذلك ، وهذا أيضاً لا يصلح على المذهب ، لعدم العلم بالمبيع ، وخرج أبو الخطاب في الهداية صحة ذلك ، من رواية : إن خطته اليوم فلك درهم ، وإن خطته غداً فلك نصف درهم ، وتردد أبو محمد في التخريج ، وفرق على البيع بأن العقد ثم تمكن صحته ، لكونه جعالة ، تحتمل فيها الجهالة ، وبأن العمل الذي يستحق به الأجرة لا يقع إلا على إحدى الصفتين ، فتتعين الأجرة المسماة عوضاً ، فلا تنازع ، بخلاف هنا ، وفي كليهما نظر ، لأن العلم بالعوض في الجعالة شرط ، كما هو في الإجارة ، والبيع والقبول أيضاً في البيع لا يقع إلا على إحدى الصفتين فيتعين ما سمي لها ، واللَّه أعلم .
1986 ش : لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي قال : ( من ولي ليتيم مالاً فليتجر به ، ولا يدعه حتى تأكله الصدقة ) رواه الترمذي .
1987 وروي نحوه عن عمر رضي اللَّه عنه ، قال علماء الحديث : وهو أصح من المرفوع .
1988 وعن القاسم رضي اللَّه عنه ، قال : كانت عائشة تزكي أموالنا وإنها لتتجر بها في البحرين . ولأن ذلك أحظ لليتيم ، لكون نفقته تكون في ربحه ، والولي يفعل الأحظ ، ويشعر هذا التلعيل بأن شرط الاتجار به كونه في المواضع الآمنة ، ولا بد من ذلك ، وحكم الأب والحاكم ، وأمينه حكم الوصي بل أولى ، وظاهر كلام أبي محمد
____________________
(2/93)
في المغني أو صريحه أن ذلك على سبيل الجواز والندبية ، لا على سبيل الوجوب ، إلا لا يجب على الولي أن يحصل له نفعاً ، بل الواجب عليه أن لا يضره ، وأورد على هذا إذا وهب له من يعتق عليه ، ولا تلزمه نفقة ، أنه يجب على الولي القبول ، ويجاب بأن هنا محض مصلحة ، من غير ضرر ما ، بخلاف ما تقدم ، فإن على الولي ضرراً في تفويت منافعه . واللَّه أعلم .
قال : ولا ضمان عليه .
ش : أي إذا اتجر الوصي بمال اليتيم ، فخسر المال أو تلف ، فلا ضمان عليه ، لأنه فعل ما أذن له فيه ، أشبه ما لو أحرزه في حرز مثله فتلف ، ونحو ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : والربح كله لليتيم .
ش : لأنه نماء ملكه ، فكان له ، كبقية أملاكه ، وليس للولي من ذلك شيء ، لأنه إنما يكون له ذلك بعقد ، وليس له أن يعقد مع نفسه ، لقوة التهمة عليه في ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : فإن أعطاه لمن يضارب له به فللمضارب من الربح ما وافقه عليه الوصي .
ش : للوصي أن يدفع المال إلى من يتجر فيه ، كما لو أن يتجر فيه بنفسه .
1989 وقد روي عن عمر رضي اللَّه عنه أنه فعل ذلك وله أن يجعل للمدفوع إليه جزءاً من الربح ، لأن ذلك مما يعد في العرف [ مصلحة ] و [ تصرف ] الولي منوط بالمصلحة ، واللَّه أعلم .
قال : وما استدان العبد فهو في رقبته ، يفديه سيده ، أو يسلمه ، فإن جاوز ما استدان قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته ، إلا أن يكون مأذوناً له في التجارة ، فيلزم مولاه جميع ما استدان .
ش : للعبد في استدانته ونحوها حالتان ( إحداهما ) أن يكون مأذوناً له في التجارة ، فهذا ما استدانه كبيع أو قرض ونحوهما ( هل يلزم سيده ) ؟ وهو المشهور من الروايات واختيار الخرقي ، والقاضي ، وأبي الخطاب ، وغيرهم لأنه أغرى الناس بمعاملته ، بإذنه فيها ، أشبه ما لو قال : داينون .
1990 ولعموم ما روي عن جابر رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه قال : ( من باع عبداً وله مال ، فله ماله وعليه دينه ، إلا أن يشترط المبتاع ) رواه البيهقي في سننه ، وقال : هذا إن صح فالمراد العبد المأذون له في التجارة . ( أو برقبة العبد ) ؟ لأنه القابض للمال ، المتصرف فيه ، أشبه غير المأذون له . ( أو بذمة السيد ) لإذنه ،
____________________
(2/94)
( ورقبة العبد ) لقبضه المال ؟ على ثلاث روايات ، وبنى أبو العباس الروايتين الأولتين على أن تصرفه مع الإذن هل هو لسيده فيتعلق ما أدانه بذمته كوكيله ، أو لنفسه فيتعلق برقبته ؟ على روايتين . انتهى . ومحل الخلاف فيما ثبت ببينة ، أو بإقرار السيد ، أما ما أنكره السيد ، ولا بينة به ، فإنه يتعلق بذمة العبد إن أقر به ، وإلا فهو هدر .
وعموم كلام الخرقي وكثير من الأصحاب يقتضي جريان الخلاف [ وإن كان في يده مال ، ويؤيد إرادة ذلك ما حكاه أبو محمد ، بعد حكاية الخلاف ] عن مالك ، والشافعي رحمهما اللَّه ، أنهما قالا : إن كان في يده مال قضي دينه منه ، وإلا تعلق بذمته ، ومقتضى ذلك أنا نخالفهما في ذلك ، ثم إذا قلنا : إنه كالوكيل . فإن العهدة تتعلق بالموكل الذي هو السيد هنا ، وإن كان له في يد موكله مال ، وجعل ابن حمدان محل الخلاف فيما إذا عجز ما في يده عن الدين .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : حكم ما استدانه أو اقترضه بإذن سيده حكم ما استدانه حيث أذن له في التجارة ، قاله في المغني ، وقطع في التلخيص والبلغة بلزومه للسيد ، وكذا قال أبو العباس ، وهو ظاهر كلام المجد ( الثاني ) : قال أبو محمد وتبعه ابن حمدان : لا فرق في الذي استدانه بين أن يكون في [ الذي ] أذن له فيه ، أو في الذي لم يأذن له فيه ، كأن يأذن له في التجارة في البر مثلاً ، فيتجر في غيره ، إناطة بتغرير السيد ، وفيه نظر .
( الحالة الثانية ) العبد غير المأذون له ، ولتصرفه حالتان أيضاً ( إحداهما ) : أن يتصرف في عين المال ، إما لنفسه أو للغير ، فهذا كالغاصب ، أو كالفضولي ، على ما هو مقرر في موضعه ( الثانية ) أن يتصرف في الذمة ، فهل يصح تصرفه ، إلحاقاً له بالمفلس ، إذ الحجر عليه لحق غيره وهو السيد ، أو لا يصح إلحاقاً له بالسفيه ، إذ أهليته ناقصة ، وإذن السيد مكمل لها ؟ فيه قولان ، حكاهما أبو محمد ، وصاحب التلخيص وجهين ، وأبو البركات روايتين ، فعلى الأول ما اشتراه أو اقترضه ، إن وجد في يده انتزع منه ، لتحقق إعساره ، قاله أبو محمد وصاحب التلخيص ، وغيرهما ، وإن أخذه سيده لم ينتزع منه على المشهور ، لأنه وجده في يد مملوكه بحق ، أشبه ما لو وجد في يده صيداً ونحو ذلك ، واختار صاحب التلخيص جواز الانتزاع منه ، معللاً بأن الملك واقع للسيد ابتداء ، وإن تلف بيد السيد لم يضمنه ، ثم هل يتعلق ثمنه برقبة العبد ، أو بذمته ، على الخلاف الآتي ؟ وكذلك إن تلف بيد العبد ، ومقتضى كلام أبي البركات أنه لا ينتزع ولو كان بيد العبد ، وأن الثمن يتعلق بذمته بلا نزاع ، ويظهر قوله إن علم البائع أو المقرض بالحال ، أما إذا لم يعلم فيتوجه قول الأكثرين ، وعلى الثاني وهو بطلان التصرف يرجع مالك العين في عينه حيث وجدها ، فإن تلفت في يد العبد فهل تتعلق قيمتها برقبته كجناياته ، وهو المشهور ، واختيار الخرقي ، وأبي بكر ، أو بذمته ، يتبع بها إذا عتق ، حذاراً من تضرر السيد .
____________________
(2/95)
1991 ولعموم ما روى ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن الفقهاء التابعين من أهل المدينة ، قال : كانوا يقولون : دين المملوك في ذمته . رواه البيهقي في سننه ، أو إن علم رب العين بكونه عبداً فلا شيء له ، لأنه المتلف لماله ، نص عليها في رواية حنبل ، معللاً بما تقدم ؟ على ثلاث روايات ، وإن تلفت بيد السيد فكذلك ، على مقتضى كلام المجد وقال أبو محمد ، وصاحب التلخيص ، وغيرهما : يرجع إن شاء على السيد ، وإن شاء على العبد ، ثم إن أبا محمد مال إلى رقبته ، ومال صاحب التلخيص وابن حمدان إلى ذمته .
وحيث علق شيء من ذلك برقبة العبد ، فإن سيده يخير بين تسليمه أو فدائه ، فإن سلمه برىء ، وإن لم تف قيمته بالحق ، أما إن سلم فبيع ، وفضلت من ثمنه فضلة عن أرش جنايته ، فهل تكون لسيده وهو اختيار أبي محمد ، أو للمجني عليه وهو ظاهر كلام الإمام ، على ما قاله القاضي ؟ فيه قولان ، وإن فداه وكذا إن أعتقه فهل يلزمه أرش الجناية ، بالغة ما بلغت ، أو لا يلزمه إلا الأقل من قيمته ، أو أرش جنايته ، وهو المشهور ؟ على روايتين ، واللَّه أعلم .
قال : وبيع الكلب باطل ، وإن كان معلماً .
1992 ش : لما في الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري رضي اللَّه عنه ، أن رسول اللَّه نهى عن ثمن الكلب ، ومهر البغي وحلوان الكاهن .
1993 وقال ( ثمن الكلب خبيث ) رواه مسلم .
1994 وأصرح منها ما في سنن البيهقي وقد جود إسناده عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ، قال : قال رسول اللَّه : ( لا يحل ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغي ) .
وقول الخرقي : وإن كان معلماً . لأن بعض العلماء أجاز بيع المعلم دون غيره ، وإليه ميل بعض المتأخرين من أصحابنا .
1995 لأن في رواية لأبي هريرة ( إلا كلب الصيد ) وكذلك في حديث لجابر ، لكنهما ضعيفان ، قال البيهقي : الثابت عن النبي خال من هذا الاستثناء والاقتناء ، ونحو ذلك قال الدارقطني وغيره ، واللَّه أعلم .
قال : ومن قتله وهو معلم فقد أساء .
ش : فسر أبو محمد رحمه اللَّه ( أساء ) بالتحريم ، وذلك لأنه حيوان يباح اقتناؤه ،
____________________
(2/96)
والانتفاع به ، فحرم إتلافه كالشاة .
1996 ولعموم ( لا ضرر ولا ضرار ) وكذلك حكم كل كلب يباح اقتناؤه ككلب الماشية والزرع ، لا لحفظ البيوت على الأشهر ، أما ما لا يباح اقتناؤه ، ولا أذى فيه ، فقال أبو محمد : لا يباح قتله . ويحتمله كلام الخرقي في المحرم في قوله : وله أن يقتل الحدأة ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور ، وكل ما عدا عليه ، أو آذاه ، ولا فداء عليه .
1997 لما روى جابر رضي اللَّه عنه ، قال : أمرنا رسول اللَّه بقتل الكلاب ، حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها ، فنقتله ، ثم نهى عن قتلها ، وقال : ( عليكم بالأسود البهيم ، ذي النقطتين ، فإنه شيطان ) رواه مسلم .
وقوة كلام الخرقي هنا يقتضي عدم التحريم ، لتخصيصه الحكم بالمعلم ، وبه قطع أبو البركات ، مع القول بالكراهة ، وقد ينبني ذلك على النهي بعد الأمر . [ هل هو لما قبل الأمر ] ، أو للكراهة ؟ على قولين ، أشهرهما الأول ، ويستثنى على كل حال الكلب الأسود البهيم ، فإنه يباح قتله للحديث ، وكذلك الكلب العقور .
1998 لحديث عائشة رضي اللَّه عنها : أن رسول اللَّه قال : ( خمس من الدواب كلهن فواسق ، يقتلن في الحرم ، الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ) ويقتلان وإن كانا معلمين ، ويلحق بالكلب العقور كل ما آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم ، فإنه يباح قتله ، وما لا أذى فيه لا يباح قتله على قول أبي محمد ، ويباح على قول المجد ، ولا غرم عليه عند المجد ، لكن يكره تنزيهاً ، واللَّه أعلم .
قال : ولا غرم عليه .
ش : إذا قتل الكلب قاتل غرم عليه ، وإن كان معلماً لأنه لا يقابل بالعوض شرعاً للنهي عنه وجعله خبيثاً .
1999 وقد جاء في حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، قال : نهى رسول اللَّه عن ثمن الخمر ، ومهر البغي ، وثمن الكلب ، وقال : ( إذا جاء يطلب ثمن الكلب ، فاملأ كفه تراباً ) رواه أبو داود .
2000 وما جاء عن عثمان رضي اللَّه عنه ، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما أنهما غرما قاتل الكلب ، فقد ضعفا . واللَّه أعلم .
____________________
(2/97)
قال : وبيع الفهد والصقر المعلم جائز .
ش : وكذلك ما في معناهما كالشاهين ، والبازي ، ونحوهما ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، لأنه حيوان يباح نفعه واقتناؤه مطلقاً ، فأشبه البغل والحمار ، [ ولعموم { وأحل اللَّه البيع } إن قيل بعمومه ( والثانية ) : واختارها أبو بكر ، وابن أبي موسى لا يجوز ، إلحاقاً لها بالكلب ، لنجاستها ، إذ المنع منه معلل بذلك ، وخرج البغل والحمار ] ، وإن قيل بنجاستهما بالإجماع ، على أن ابن عقيل خرج فيهما قولا بالمنع . انتهى ، ومقتضى هذا التعليل تخصيص محل الخلاف ، وجعله على القول بنجاسة ذلك ، وكثير من الأصحاب يطلق الخلاف ، وقد أكد ابن حمدان إرادة الإطلاق ، فقال بعد ذكر الروايتين : وقيل : ما قيل بطهارته منها صح بيعه ، وما لا فلا .
وقول الخرقي : المعلم . يحترز عن غير المعلم فإنه لا يجوز بيعه ، لعدم الانتفاع به ، نعم إن قبل التعليم جاز بيعه على الأشهر ، كالجحش الصغير ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك بيع الهر .
ش : أي يجوز بيعه ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، لما تقدم .
2001 ولما في الصحيح أن امرأة دخلت النار في هرة لها حبستها ، والأصل في اللام أنها للملك ( والثانية ) : واختارها أبو بكر : لا يجوز .
2002 لما في مسلم عن جابر رضي اللَّه عنه ، أنه سئل عن ثمن الكلب والسنور ، فقال : زجر رسول اللَّه [ عن ذلك .
2003 وعنه أيضاً : نهى رسول اللَّه ] عن ثمن الهر ، رواه أبو داود ، وحمل على غير المملوك ، أو على ما لا نفع فيه ، أو على الهر المتوحش ، أو على أن ذلك كان في الابتداء ، لما كان محكوماً بنجاسته ، ثم لما حكم بطهارة سؤره حل ثمنه ، وكلها محامل ودعوى لا دليل عليها ، واللَّه أعلم .
قال : وكل ما فيه المنفعة .
ش : أي يجوز بيعه ، وقد علم من هذا إناطة الحكم عنده بما فيه منفعة ، وكذلك الثياب ، والعقار ، وبهيمة الأنعام ، ونحو ذلك ، لأن الحكمة في جواز البيع الانتفاع وشرط المنفعة أن تكون مباحة ، لتخرج آلات اللهو ونحوها ، ويستثنى من ذلك الوقف ، وأم الولد ، والمدبر ، والزيت النجس ، على خلاف في بعض ذلك ، وبسط ذلك يحتاج إلى طول ، واللَّه سبحانه أعلم .
ابن عمر أن رسول اللَّه نهى عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق .
1978 وعن ابن عباس : نهى رسول اللَّه أن تتلقى الركبان ، ولا يبيع حاضر لباد . متفق عليهما .
1979 وفي الصحيح أيضاً نحو ذلك عن ابن مسعود ، وأبي هريرة .
( تنبيه ) : يجوز تلقي الجلب في أعلى السوق ، قاله أبو محمد ، لأن في حديث ابن عمر : أن رسول اللَّه نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها إلى السوق . واللَّه أعلم .
قال : فإن تلقوا واشترى منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق ، وعرفوا أنهم قد غبنوا ، إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا .
ش : إذا تلقيت الركبان فاشترى منهم ، فهل يصح البيع ، وهو المذهب المنصوص المقطوع به .
1980 لما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا تلقوا الجلب ، فمن تلقاه فاشترى منه شيئاً فصاحبه بالخيار إذا جاء السوق ) روه مسلم ، وأبو داود والترمذي . ولأن الحق في النهي لآدمي معين ، أمكن تداركه ، وبهذا فارق الحاضر للبادي ، والبيع في وقت النداء ، أو لا يصح ، اعتماداً على عامة الأحاديث في النهي المطلق ؟ على روايتين .
وعلى المذهب للركبان الخيار إذا هبطوا السوق ، ورأوا أنهم قد غبنوا ، على ظاهر الحديث ، وقول عامة الأصحاب ، ولم يشترط ذلك بعض المتأخرين ، بل العلم بالغبن لأن دخول السوق في الحديث حيلة واللَّه أعلم بمعرفة الغبن ، فإذا عرف قبل ثبت له الخيار .
وشرط ثبوت الخيار بالغبن أن يكون فاحشاً ، يخرج عن العادة على المذهب ، وقدره بعض الأصحاب بالسدس ، وبعضهم بالثلث ، والخرقي رحمه اللَّه أطلق الغبن فيحتمل أنه اكتفى بمجرد الغبن ، ويحتمل أن يكون موافقاً للأصحاب ، إذ الغبن إذا لم يخرج عن العادة لم يطلق عليه في العرف غبن .
وحكم البيع لهم حكم الشراء منهم ، إذ الخديعة موجودة فيهما ، وإذاً الخرقي إنما ذكره الشراء لأنه الغالب .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الحكم مخصوص بقصد التلقي ، فلو خرج بغير قصد ، فوافقهم فاشترى منهم ، لم يحرم عليه ذلك ، وهو احتمال لأبي محمد ، وقال القاضي : لا فرق بين القصد وعدمه في امتناع الشراء منهم ، إذ النهي دفعاً للخديعة والغبن عنهم ، وهذا موجود وإن لم يقصد التلقي .
( تنبيه ) : المعنى في النهي عن التلقي واللَّه أعلم أن المتلقي غالباً إما أن يكذب في سعر البلد ، وإذاً يكون غارّاً غاشّا ، أو يسكت فيكون مدلساً خادعاً ، أما إن صدق في سعر البلد ، فهل يثبت للركبان الخيار ، لعموم النهي أو لا يثبت لانتفاء الخديعة ؟ فيه احتمالان واللَّه أعلم .
قال : وبيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لأنه وسيلة إلى المحرم ، والوسيلة إلى المحرم محرمة بلا ريب ، وإذاً يبطل البيع لارتكاب المحرم ، قال جل وعلا 19 ( { وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } ) .
1981 وفي السنن أن النبي لعن الخمر ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وشاربها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وساقيها ، وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها .
وفي المذهب قول آخر : يصح البيع مع التحريم ، وشرط البطلان على البائع قصد المشتري ذلك ، إما بقوله ، أو بقرائن دلت على ذلك ، أما إن ظن ذلك ولم يتحققه فإن البيع يصح مع الكراهة ، قاله صاحب التلخيص ، وحكم ما كان وسيلة إلى المحرم كذلك ، كبيع السلاح للبغاة ، أو لأهل الحرب ، أو الجارية للغناء ، أو الأقداح والخبز والفواكه والمشموم والشموع لمن يشرب عليها المسكر ، والبيض للقمار ، والحرير لمن يحرم عليه ، ونحو ذلك ، أما بيع السلاح من أهل العدل لقتال البغاة ، وقطاع الطريق ، فجائز ، واللَّه أعلم .
قال : ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان ، ولا يبطله شرط واحد .
ش : يبطل البيع بشرطين في الجملة .
1982 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، عن النبي أنه قال : ( لا يحل سلف وبيع ، ولا شرطان في بيع ، ولا بيع ما ليس عندك ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، ولا يبطل بشرط واحد ، لمفهوم ما تقدم .
1983 وللحديث الصحيح ( من باع نخلاً مؤبرة فثمرتها للبائع ، إلا أن يشترط المتباع ) .
____________________
(2/98)
( كتاب السلم )
ش : يقال : سلم وأسلم ، وسلف وأسلف ، والسلم والسلف عبارتان عن معنى واحد ، قاله الأزهري وغيره ، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب السلم ، لأن السلف يقال على القرض ، ولذلك بوب الخرقي وغيره السلم ، دون السلف ، وهو نوع من البيع ، ينعقد بما ينعقد به ، وبلفظه ، ويشترط له ما يشترط له ، ويزيد شروطاً يأتي بيانها إن شاء الله تعالى ، وهو جائز بالإِجماع ، وسنده قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } ) .
2004 قال ابن عباس رضي الله عنهما : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله ، وأذن فيه ، ثم قرأ هذه الآية ، وفي رواية : إن الله قد أحله في كتابه ، وأذن فيه ، وقال الآية ، رواهما البيهقي في سننه . ولا ريب أن الآية الكريمة شاملة له .
2005 وفي الصحيحين عنه قال : قدم رسول الله المدينة ، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث ، فقال : ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) أقر على ذلك ، وبين شرطه ، والله أعلم .
قال : وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز .
ش : يشترط للمسلم فيه شروط ، دل كلامه هنا منها على شرطين ( أحدهما ) : أن يكون مما يتأتى ضبطه بالصفة ، ليوجد شرط المبيع ، وهو العلم به ، فعلى هذا يصح السلم في المكيل ، والموزون ، والمذروع ، ونحوها ، لتأتي الصفة على ذلك ، وقد أقر النبي على السلف في الثمار ، وقال : ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ، ووزن معلوم إلى أجل معلوم ) .
2006 وروى البخاري عن عبد الرحمن بن أبزى ، وعبد الله بن أبي أوفى ، قالا : 16 ( كنا نصيب المغانم مع رسول الله ، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام ، فنسلفهم في الحنطة ، والشعير ، والزبيب ، في كيل معلوم إلى أجل معلوم ، فقلت : أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع ؟ قالا : ما كنا نسألهم عن ذلك ) . وأجمع المسلمون
____________________
(2/99)
على جواز السلم في الثياب ، وعلى جوازه في الطعام ، قاله ابن المنذر ، ولا يصح فيما لا ينضبط بالصفة ، كجوهر ، وما فيه أخلاق مقصودة لا تتميز ، كمعجون ، وثمن مغشوش ، وحامل من حيوان ، وشاة لبون ، على الصحيح فيها ، وفي الرؤوس ، والجلود والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط ، ونحو ذلك ، وكذلك ما يجمع أخلاطاً تتميز ، كالخفاف ، والقسي ، والنبل المريش ، والثوب المنسوج من نوعين ، والمعدود المختلف ، كالحيوان ، والبيض ، والرمان ، ونحو ذلك ، واللحم المشوي ، والمقلي ، والمطبوخ خلاف ، وبسط ذلك له محل آخر .
ويشترط في الصفة أن تكون بحيث يعرف بها المبيع عرفاً ، لما تقدم ، فيصفه بما يختلف به الثمن غالباً ، فيذكر جنسه كتمر ، ونوعه كبرني ، وبلده كعراقي ، وقدره كصغار أو كبار ، وحداثته كحديث ، وجودته كجيد ، أو عكسهما كقديم ورديء ، ولا يصح : أجود ، ويصح : أردى ، على أصح الوجهين ، وقد يزاد على هذه ، أو ينقص منها ، بحسب المسلم فيه وليس هذا موضع استقصاء ذلك .
( الشرط الثاني ) : كونه في الذمة ، فلا يصح في عين ، لأن لفظ السلم والسلف للدين .
2007 وعن رجل من أهل نجران قال : قلت لابن عمر : أسألك عن السلم في النخل ، قال : أما السلم في النخل فإن رجلًا أسلم في نخل لرجل ، فلم يحمل ذلك العام ، فذكر ذلك لرسول الله فقال : ( بم يأكل ماله ؟ فأمره فرده عليه ، ثم نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه ، رواه أبو داود وغيره .
2008 وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : نهي عن بيع النخل حتى يبدو صلاحه . وقيل : إن أهل المدينة كانوا يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها ، فلما قدم النبي نهاهم عن ذلك ، وقال : ( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ) الحديث ، والله أعلم .
قال : إذا كان كيل معلوم أو وزن معلوم ، أو عدد معلوم .
ش : هذا ( الشرط الثالث ) : وهو أن يقدر المسلم فيه : بكيل معلوم عند العامة ، إن كان مما يكال ، أبو بوزن كذلك إن كان مما يوزن ، لما تقدم من حديث ابن عباس ، أو بعدد ، أو ذرع كذلك ، قياساً على ما تقدم ، ولأنه عوض ثبت في الذمة ، فاشترط معرفة قدره كالثمن ، ولا يتعين ما عيناه من كيل العامة ، ونحوه على المذهب ، لعدم الفائدة في ذلك ، وهل يفسد به العبد ؟ فيه وجهان ، ولا يصح بإناء أو صنجة غير معلومين عند العامة ، لاحتمال هلاك ذلك ، وإذاً يتعذر المسلم فيه ، وذلك غرر ، ولا
____________________
(2/100)
حاجة إليه ، ومن ثم اشترط أن يكون المكيال والميزان وكذلك الوصف بلغة يفهمها غير المتعاقدين ، فإن فهمها عدلان دون أهل الاستفاضة كفى على المقدم ، لارتفاع التنازع بالرجوع إليهما انتهى .
ومقتضى ما تقدم أنه لا يصح السلم فيما يكال وزنا ، ولا فيما يوزن كيلًا ، وهو المشهور ، والمختار للعامة ، ونص عليه الإِمام في المكيل لا يسلم فيه وزناً قياساً كالربويات ، وكالمذروع وزناً وعكسه ، فإنه لا يصلح اتفاقاً ، وعنه ما يدل واختاره أبو محمد ، ويحتمله كلام الخرقي أنه يجوز ، لحصول معرفة القدر ، ومقتضى كلام الخرقي أنه يسلم في جميع المعدودات عدداً ، ولا ريب في ذلك في الحيوان ، أما في غيره فثلاثة أقوال ، وزناً ، عدداً ، ما تقارب كالجوز ، والبيض ، عدداً ، وما تفاوت كالبطيخ ، والرمان ، والبقول ، وزناً ، والله أعلم .
قال : إلى أجل .
ش : هذا ( الشرط الرابع ) وهو أن يكون مؤجلًا على المذهب المعروف ، لما تقدم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، فإنه أمر ، والأمر للوجوب .
2009 قال القرطبي في شرح مسلم : لا سيما على رواية من روى : ( من أسلم فلا يسلم إلا في كيل معلوم ) إلى آخره انتهى .
2010 وفي سنن البيهقي عن ابن عباس أنه قال : اضرب له أجلًا . ولأن السلم إنما جاز رخصة ، لأنه للارتفاق لأنه بيع معدوم ، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل ، والله أعلم . قال : معلوم بالأهلة .
ش : يشترط في الأجل كونه معلوماً ، لما تقدم من الحديث ، ولقول الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } ) فلا يصح إلى نزول المطر ، أو قدوم زيد ، ونحو ذلك ، وهل يصح إلى الحصاد ونحوه ، أو إلى نفس العطاء ، لتقارب الزمن أو لا يصح ، لتقدم ذلك وتأخره .
2011 وهو قول ابن عباس ، وابن عمر رضي الله عنهم ، واختاره عامة الأصحاب ؟ فيه قولان ، وقيل : محل الخلاف في الحصاد إذا جعله إلى زمنه ، أما فعله فلا يصح ، واختلف أيضاً فيما إذا علقه باسم يتناول شيئين كربيع ، ويوم النفر ، هل يصح ويتنزل على أول يوم ، وبه قطع في المغني ، أو لا يصح ، [ وهو الذي أورده في التلخيص مذهباً ؟ وفيما إذا قال : شهر كذا . هل يصح . ويتعلق بأوله ، وهو اختيار أبي محمد ، أو لا يصح رأساً ، وفيما إذا قال مثلًا : أول رمضان أو آخره ، هل يصح ويتعلق بأول جزء ، وآخر جزء ، أو لا يصح ] ، لأن أول الشهر يعبر به عن النصف الأول ، وكذا الآخر ، وهو احتمال لصاحب التلخيص ؟ على قولين في الجميع . انتهى .
____________________
(2/101)
ثم ظاهر كلام الخرقي وكذلك ابن أبي موسى وابن عبدوس أن علم ذلك لا غير بالأهلة ، بأن يجعل حلوله في أول جزء من رمضان ، أو يوم عاشوراء ، أو إلى شهر رجب ، ونحو ذلك ، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التأقيت : بهن ، قال تعالى : 19 ( { يسألونك عن الأهلة ، )9 ( قل هي مواقيت للناس والحج } ) فعلى هذا لا يصح تأقيت بعيد من أعياد الكفار مطلقاً ، وقال القاضي وغيره : إن كان مما يتقدم ويتأخر كعيد السعانين للنصارى ، ونحو ذلك لم يصح ، وإلا صح ، كالنيروز ونحوه .
( تنبيه ) : يشترط للأجل شرط آخر ، وهو أن يكون له وقع في الثمن ، بحيث يختلف به السعر ، ومثل ذلك أبو محمد في الكافي بالشهر ، ونصفه ، لا اليوم ونحوه ، وكثير من الأصحاب يمثل بالشهر ، والشهرين ، فمن ثم قال بعضهم : أقله شهر . نعم يصح كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما يأخذ منه كل يوم قدراً معلوماً ، كالخبز ، واللحم ، ونحو ذلك ، نص عليه ، والله أعلم .
قال : موجوداً عند محله .
ش : هذا ( الشرط الخامس ) وهو كون المسلم فيه عام الوجود في وقت حلوله غالباً ، لوجوب تسليمه إذاً ، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك ، فإن الغالب عدم تسليمه ، فلم يصح بيعه ، كالآبق ونحوه ، وذلك كالسلم في العنب والرطب في الصيف ، لا في الشتاء ، لندرة وجودهما فيه ، وفي معنى ذلك إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه ، أو قرية صغيرة ، ونحو ذلك لاحتمال جائحة ذلك ، وقد حكى الجوزجاني الإِجماع على كراهة ذلك ، قال ابن المنذر : إن المنع منه كالإِجماع ، وقال أبو بكر في التنبيه : إن كان قد بلغ ، وأمنت عليه الجائحة صح . قلت : وهو حسن إن لم يحصل إجماع ، إذ الغالب له التسليم إذاً ، ثم حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم ، أنهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه ، يشهد لذلك .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط [ وجوده حال العقد ، وهو كذلك ، وكذلك لا يشترط ] عدمه ، وهو الصحيح من الوجهين ، حكاهما ابن عبدوس ، والله أعلم .
قال : ويقبض الثمن كاملًا وقت السلم ، قبل التفرق .
ش : هدا ( الشرط السادس ) وهو خاتمة الشروط عنده ، وهو أن يقبض رأس مال السلم قبل التفرق عن مجلس العقد ، حذاراً من أن يصير بيع دين بدين .
2012 فيدخل تحت النهي عن بيع الكالى بالكالى ، وقد استنبط ذلك الشافعي رحمه الله من قوله : ( من أسلف فليسلف ) قال : أي فليعط . قال : لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما سلفه فيه ، قبل أن يفارق من سلفه . انتهى ولأنه لا يجوز شرطاً تأجيل العوض فيه ، فلم يجز التفرق فيه قبل القبض كالصرف ، وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما لم يقبض ، وهل يبطل في المقبوض وهو ظاهر كلام الخرقي ،
____________________
(2/102)
و أبي بكر في التنبيه ، لقوله : إذا أسلفه دراهم ، فخرج بعضها رديئاً فالسلم كله باطل أو لا يبطل وهو المشهور ؟ فيه روايتا تفريق الصفقة ، والله أعلم .
( تنبيه ) : المجلس هنا كمجلس الصرف ، وكلاهما كمجلس الخيار ، هذا مقتضى كلام الأصحاب ، ووقع للقاضي في الجامع الصغير أنه إذا تأخر قبض رأس مال السلم اليومين والثلاثة ، لم يصح العقد ، والله أعلم .
قال : ومتى عدم شيء من هذه الأوصاف بطل .
ش : الإِشارة إلى الأوصاف المتقدمة ، وهذا هو شأن الشروط يعدم المشروط عند عدمها ، أو عدم بعضها ، ولو قال الخرقي : فسد العقد . كما قال في الصرف : ومتى افترق المتصارفان فسد العقد . لكان أولى ، لئلا يوهم وجود عقد ثم بطلانه .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك ، وقد تقدم أن في اشتراط عدم المسلم فيه حين العقد خلاف ، وكذلك في اشتراط وصف رأس المال ، والعلم بقدره إذا كان مشاهداً وجهان ، ( أحدهما ) وهو قول القاضي ، وأبي الخطاب ، وصاحب التلخيص ، وغيرهم اشتراطه ، كما لو كان في الذمة ، ولأنه عقد يتأخر تسليم المعقود عليه ، فوجب معرفة رأس ماله ، ليرد بدله ، كالقرض والشركة ، وعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال جوهراً ونحوه ، لعدم تأتي الصفة عليه ( والثاني ) وإليه ميل أبي محمد لا يشترط ، كما في بيوع الأعيان ، وكذلك في اشتراط ذكر مكان الإِيفاء تردد ، فالقاضي لا يشترطه مطلقاً ، ويقول في مثل البرية ونحوها : يوفي في أقرب الأماكن إلى مكان العقد ، وابن أبي موسى ، وصاحب التلخيص ، يشترطانه في البرية ونحوها ، واتفق الفريقان على عدم الاشتراط حيث أمكن الوفاء في محل العقد ، نعم لو شرطه في غيره والحال هذه صح شرطه ، على أصح الروايتين ، ولم يصح في الأخرى ، وبها قطع أبو بكر في التنبيه ، والقاضي ، وأبو الخطاب أطلقا الروايتين ، فيشمل كلامهما ما إذا شرطاه في محل العقد أيضاً وهو ضعيف ، والله أعلم .
قال : وبيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد .
ش : بيع المسلم فيه قبل قبضه من بائعه مثل أن يسلم إليه في أردب قمح ، فيأخذ عنه فولًا ، أو شعيراً أو دراهم ، أو نحو ذلك فاسد .
2013 لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره ) رواه أبو داود إلا أنه ضعيف ، والمعتمد على نهيه عن بيع الطعام قبل قبضه ، وعن ربح ما لم يضمن .
2014 وقد سئل ابن عمر عن ذلك فقال : 16 ( خذ رأس مالك ولا ترده في سلع
____________________
(2/103)
أخرى ) ، رواه البيهقي في سننه ، ( وعنه ) فيمن أسلم في بر ، فعدمه عند المحل ، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكانه جاز ، ولم يجز أكثر من ذلك ، وحمله أبو محمد على رواية أن البر والشعير جنس ، ولكن بيعه من غير بائعه لا يصح ، للنهي عن ربح ما لم يضمن ، وبيع الطعام قبل قبضه ، والله أعلم .
قال : وكذلك الشركة فيه ، والتولية ، والحوالة به ، طعاماً كان أو غيره .
ش : أي فاسد كالبيع ، أما الشركة والتولية فلأنهما نوعان من أنواع البيع ، فيثبت لهما حكمه ، وأما الحوالة فلأنها إما بيع أو فيها شائبته ، فلم تجز كالبيع ، والحوالة تارة تقع عليه ، كما إذا أحال المسلم بما عليه من قرض ، أو بدل متلف ، على المسلم إليه ، وهنا قد حصل التصرف في المسلم فيه قبل قبضه ، أشبه بيعه ، ثم الحوالة وقعت على غير مستقر ، وتارة تقع به ، كأن يحيل المسلم إليه ، بما عليه من السلم ، على من له عليه مثله ، من قرض ، أو بدل متلف ، وهذه صورة الخرقي ، وهنا لا يظهر لي وجه المنع ، والله أعلم .
قال : وإذا أسلم في جنسين ثمناً واحداً ، لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس .
ش : مثل أن يسلم ديناراً مثلًا في أردب قمح ، وأردب فول ، فلا يصح حتى يبين قسط كل واحد منهما من الدينار ، كأن يقول مثلًا : ثلثه عن الفول ، وثلثاه عن الشعير ، وهذا هو المشهور من الروايتين ، والمختار لعامة الأصحاب ، إذ لا يؤمن الفسخ بتعذر أحدهما ، فلا يعرف ما يرجع به ، فيفضي إلى التنازع المطلوب عدمه ( والرواية الثانية ) يجوز وإن لم يبين قسط ما لكل منهما كبيوع الأعيان ، ولهذه المسألة التفات إلى معرفة رأس مال السلم وصفته ، ولعل الوجهين ثم من الروايتين هنا ، وأبو محمد لما لم يطلع على الرواية الثانية خرج هنا وجهاً من الوجه [ ثم ] ، إن ابن أبي موسى ، وأبا بكر وغيرهما [ منعوا ] من ذلك إذا أسلم في خمسة دنانير ، وخمسين درهماً ، في أردب حنطة ، فقالوا : لا يجوز حتى يبين حصة ما لكل واحد منهما [ من الثمن ، وخالف أبو محمد فقال بالجواز هنا ، وهو الصواب ، إذ بتعذر المسلم فيه يرجع ] بقسطه منهما ، والله أعلم .
قال : وإذا أسلم في شيء واحد ، على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة فجائز .
ش : مثل أن يسلم إليه عشرة دراهم في قنطار خبز ، يأخذ منه كل يوم عشرة أرطال ، أو في عشرين رطل لحم ، يأخذ كل يوم رطلين ، ونحو ذلك ، لحصول الرفق الذي لأجله شرع السلم ، والله أعلم .
قال : وإذا لم يكن السلم كالحديد ، والرصاص ، وما لا يفسد ، ولا يختلف قديم
____________________
(2/104)
وحديثه ، لم يكن عليه قبضه قبل محله .
ش : السلم أي المسلم فيه ، تسمية للمفعول بالمصدر ، كتسمية المرهون رهناً ، والمسروق سرقة ، ونحو ذلك ، ولا يخلو المسلم فيه إما أن يؤتى به في وقته ، أو بعده ، أو قبله ، فإن أتي به في وقته [ أو بعده لزم قبوله ، وإن تضرر المسلم بذلك ، وإن أتي به قبل وقته ] فإن كان في قبضه ضرر ولو مآلا لكونه مما يتغير ، كالفاكهة ونحوها ، أو لكون قديمه دون حديثه كالحبوب ، أو كان مما يتغير قبل الوقت المشترط ، أو لكونه مما يحتاج في حفظه إلى مؤونة كالحيوان ونحوه ، أو كان مما يخاف عليه إذاً من ظالم ، ونحو ذلك لم يلزم المسلم قبوله ، لأن عليه في ذلك ضرراً ، وإنه منفي شرعاً ، قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) وإن كان مما لا ضرر في قبضه كالحديد ، والرصاص ، إذ لا فرق بين قديمه وحديثه ، وكان الوقت آمناً ، ولا مؤونة لحفظه لزمه قبوله ، لأن غرضه حاصل مع زيادة منفعة لا ضرر عليه فيها ، فأشبه زيادة الصفة على المذهب ، وهذا كله إذا أتى به على صفته ، فإن أتى به على غير صفته فإن كان دونها جاز قبوله مع اتحاد الجنس ، ولم يلزم ، وإن كان فوقها واختلف الجنس لم يجز كما تقدم ، وإن اتحد الجنس والنوع لزم القبول على المذهب بلا ريب ، وقيل : لا يلزم بل يجوز ، وقيل : لا يجوز ، [ وعلى المذهب فإن اختلف النوع فهل يلزم القبول ، وهو قول القاضي والمجد ، أو لا يلزم ، وهو قول أبي محمد ، أو لا يجوز ] ويحكى رواية ؟ على ثلاثة أقوال ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يأخذ رهناً ولا كفيلًا من المسلم إليه . ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر في التنبيه ، وابن عبدوس ، إذ وضع الرهن الإِستيفاء من ثمنه ، عند تعذر الإِستيفاء من ذمة الغريم ، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن ، ولا من ذمة الضامن ، حذاراً من أن يصرفه إلى غيره ، وإنه منهي عنه ، وفيه نظر ، لأن الضمير في ( لا يصرفه ) راجع للمسلم فيه ، وإذاً يشتري ذلك من ثمن الرهن ويدفع ولا محذور ، وكذلك يشتريه الضامن ويسلمه ، وإذاً لم يصرف إلى غيره ( والثانية ) وهي الصواب إن شاء الله تعالى ، واختيار أبي محمد ، وحكاها القاضي في روايتيه عن أبي بكر : يجوز ذلك ، لقول الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } ) إلى قوله : 19 ( { فرُهُن مقبوضة } ) وقد شهد ترجمان القرآن أن السلم مراد منها وداخل فيها ، فهي كالنص فيه ، والكفيل كالرهن بجامع التوثقة .
2015 ومن ثم روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، 16 ( أنه كان لا يرى بأساً بالرهن والقبيل في السلم ) ، وروى نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما .
____________________
(2/105)
2016 وحكاية أبي محمد الكراهة عنهما في الرهن والكفيل ، يحتمل أنه رواية أخرى عنهما .
2017 وقد استدل على ذلك أيضاً بما في الصحيح أن النبي اشترى من يهودي طعاماً ، ورهنه درعاً من حديد ، وليس بالبين ، ومقتضى كلام الأصحاب أنا إذا منعنا أخذ الرهن لم يجز وإن تراضيا بذلك ، وأنا إن جوزناه كان كبقية الرهون ، يلزم بالقبض ، أو بمجرد العقد إن لم يكن معيناً على رواية ، وإذا لم يلزم ، ولم يقبض فللمسلم الفسخ ، وقال ابن عبدوس : ليس للمسلم طلب رهن ، فإن شرطاه لم يلزم المسلم إليه الدفع إلا أن يشاء ، والله أعلم .
____________________
(2/106)
( كتاب الرهن )
ش : الرهن في اللغة الثبوت والدوام ، يقال : ماء راهن . أي راكد ، ونعمة راهنة ، أي ثابتة دائمة ، وقيل : هو مأخوذ من الحبس ، ومنه قوله سبحانه : { كل امرىء بما كسب رهين } أي حبيس بمعنى محبوس ، وهو قريب من الأول ، لأن المحبوس ثابت في مكانه لا يزايله ، وهو في اصطلاح الفقهاء : توثقة دين بعين أو بدين على قول يمكن أخذه من ذلك ، إن تعذر الوفاء من غيره ، وهو جائز بالإِجماع ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { فرهان مقبوضة } ) .
2018 وفي الصحيحين أن النبي اشترى من يهودي طعاماً ، ورهنه درعاً من حديد .
2019 وفي البخاري عن عائشة : توفي النبي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير ، والله أعلم .
قال : ولا يصح الرهن إلا أن يكون مقبوضاً .
ش : ظاهر كلام الخرقي ، وابن أبي موسى ، وابن عقيل في التذكرة ، والقاضي في الجامع الصغير ، وابن عبدوس أن القبض شرط في صحة الرهن ، والمعروف عند الأصحاب أنه إنما هو شرط للزومه ، وعلى ذلك حمل القاضي فيما أظن وابن الزاغوني وأبو محمد كلامه ، وكذلك قال في الهبة أيضاً : إن القبض شرط لصحتها ، وهو مقتضى كلام طائفة ثم ، وقد جعل القاضي في التعليق القبض في الرهن آكد منه في الهبة ، معللًا بأن استدامة القبض في الرهن شرط فيه ، بخلاف الهبة ، وبأن القصد التوثقة ، ولا تحصل إلا بالقبض ، بخلاف الهبة ، إذ القصد منها الملك ، قال : وهو يحصل وإن لم تقبض .
إذا عرف هذا فجعل القبض شرطاً للصحة أو للزوم إنما هو في غير المعين المفرز ، كقفيز من صبرة ، ورطل من زبرة ، ونحوهما ، أما المعين كالعبد والدار ونحوهما ، والمشاع المعلوم بالنسبة من معين ، فهل حكمه حكم ما تقدم ، يشترط لصحته أو للزومه القبض ؟ وهو مقتضى كلام الخرقي ، وأبي بكر في التنبيه ، وابن أبي موسى ، ونصبها أبو الخطاب والشريف وقال في الكافي : إنه المذهب لظاهر قوله
____________________
(2/107)
تعالى : 19 ( { فرهان مقبوضة } ) وصفها سبحانه بكونها مقبوضة ، ولأنه عقد إرفاق أشبه القرض ، أو لا يشترط له ذلك ، بل يلزم بمجرد العقد وقال في التلخيص : إنه الأشهر ، قياساً على البيع ؟ على روايتين .
( تنبيه ) : حيث اعتبر اللزوم فذلك في حق الراهن ، إذ لا لزوم في حق المرتهن ، والله أعلم .
قال : من جائز الأمر .
ش : الجار والمجرور في موضع الحال ، أي لا يصح الرهن إلا مقبوضاً في حال كونه من جائز الأمر ، وصاحب الحال محذوف دل عليه السياق ، وتقديره : من مقبض جائز الأمر ، وهو المكلف ، الرشيد ، المختار ، فلو رهن وهو كذلك فحجر عليه لجنون ، أو سفه ، أو فلس لم يصح تقبيضه ، بل ويبطل إذنه في القب إن كان قد أذن ، لأنه نوع تصرف ، وتصرف هؤلاء غير صحيح ، وكذلك إن أغمي عليه ، نعم يقوم ولي المجنون والسفيه مقامه في ذلك ، وفي المفلس يعتبر إذن الغرماء في القبض ، ولو رهن وهو مختار ، ثم أكره على القبض لم يصح ذلك ، ويستفاد مما تقدم أنه إذا لم يصح التقبيض من هؤلاء وإن كان قد وجد الرهن فلأن لا يصح عقد الرهن بطريق الأولى ، والله أعلم .
قال : والقبض فيه من وجهين ، فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه إياه من راهنه منقولًا ، وإن كان مما لا ينقل كالدور ، والأرضين فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه ، لا حائل دونه .
ش : قبض كل شيء بحسبه ، على ما جرت العادة فيه ، على المشهور والمختار من الروايتين ، فقبض ما ينقل كالصبر ونحوها بالنقل .
2020 قال ابن عمر رضي الله عنهما : 16 ( كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول الله أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ) . متفق عليه ، والنهي عن ذلك لعدم قبضه .
2021 لأن في البخاري عنه أيضاً أن رسول الله قال : ( من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه ) وفي لفظ ( حتى يستوفيه ) وقبض ما يكال ، أو يوزن ، أو يعد ، أو يذرع ، بكيله أو وزنه أو عدده أو ذرعه ، نظراً للعرف في ذلك ، ولما تقدم .
2022 وعن عثمان رضي الله عنه ، أن رسول الله قال : ( إذا اشتريت فاكتل ، وإذا بعت فكل ) رواه أحمد والبيهقي ، وللبخاري منه كلام النبي بغير
____________________
(2/108)
إسناد ، وفي رواية للبيهقي ( إذا ابتعت كيلًا فاكتل ، وإذا بعت كيلًا فكل ) .
2023 وعن حكيم بن حزام ، وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا يجلبان الطعام من أرض قينقاع إلى المدينة ، فيبيعانه بكيله ، فأتى عليهما رسول الله ، فقال : ( ما هذا ؟ ) قالا : جلبناه من أرض كذا وكذا ، ونبيعه بكيله ، قال : ( لا تفعلا ذلك ، إذا اشتريتما طعاماً فاستوفياه ، فإذا بعتماه فكيلاه ) رواه البيهقي في سننه ، ولا يشترط مع ذلك نقله على المذهب ، لظاهر ما تقدم ، وفيه احتمال ، وشرط الإِعتداد بكيل ذلك أو وزنه ونحوهما حضور المشتري أو وكيله ، فلو كيل أو وزن بغير حضوره لم يكن قبضاً إلا أن يشتري منه مكيلًا بعينه ، ويدفع إليه ظرفاً ويقول : كله لي . فيفعل ، فإنه يصير مقبوضاً ، قال صاحب التلخيص : وفيه نظر إذ الفرق بين كيله في ظرف أو غير ظرف بعيد جداً .
وهل يكتفي بعلم كيل ذلك أو وزنه [ ونحو ذلك ] عن الكيل والوزن ونحوهما ؟ نص أحمد رحمه الله في المكيل على روايتين ، كما إذا اشترى مكيلًا قد شاهد كيله قبل البيع ، ولم يغب عنه ، ( إحداهما ) لا يكتفي بذلك ، ولا يكون قبضاً صحيحاً ، وهي اختيار أبي بكر ، والقاضي .
2024 لما روي عن جابر رضي الله عنه ، قال : نهى رسول الله عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان ، صاع البائع ، وصاع المشتري ، رواه ابن ماجه ، والبيهقي . واحتج به أحمد في رواية ابن إبراهيم .
2025 ورواه البيهقي من رواية أبي هريرة أيضاً ، وزاد ( فيكون للبائع الزيادة ، وعليه النقصان ) ( والثانية ) يكتفي بذلك ، قبضاً صحيحاً ، إذ المقصود معرفة المقدار وقد حصل ، وعلى هذا للمشتري التصرف فيه بذلك ، وليس له مطالبة البائع بكيل ، وإن ادعى نقصانه لم يقبل منه ، وعلى الأول تنعكس هذه الأحكام ، وظاهر كلام المجد ، وغيره الإِكتفاء بعلم ذلك في غير المكيل ، وصاحب التلخيص أجرى ذلك في الوزن أيضاً فقال فيما اشتري بكيل أو وزن ، وقبض بمعياره ، ثم بيع من بائعه ، أن فيه الروايتين .
( تنبيه ) : فإن كان المبيع في الكيل ، وعقد البيع الثاني ، ففرغه المشتري الثاني ، صح القبض ، وأغنى عن الإِستئناف ، انتهى .
وقبض ما يتناول كالجواهر ، والأثمان ، ونحوهما بالتناول ، إذ العرف فيها ذلك ، وقبض الحيوان بمشيه من مكانه . وما عدا ذلك كالدور ، والعقار ، والثمرة على
____________________
(2/109)
الشجرة ، ونحو ذلك بالتخلية بينه وبين مرتهنه ، من غير حائل بينهما ، بأن يفتح له باب الدار ، أو يسلم إليه مفتاحها ، ونحو ذلك ، وإن كان فيها متاع للراهن ، وعن أحمد رواية أخرى أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز ، قياساً على العقار ونحوه .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه لم يجعل للقبض إلا وجهين فقط ، النقل ، والتخلية ، فقد يقال في الجواهر ونحوها : إن تناولها نقل لها ، لأنها انتقلت من يد البائع إلى يد المشتري ، وكيل المكيل ونحوه نقله من محله إلى محل آخر ، وخلاصته أن صفات النقل تختلف ، وأحال الخرقي رحمه الله بيانها على موقف ، ثم إنه رحمه الله لم يتعرض لصفة القبض فيما يعتبر له القبض في البيع ، فليعتمد هنا .
وقوله : أخذ من راهنه . إشارة إلى أنه لا بد في القبض من التسليم من الراهن ، أو ما يقوم مقامه ، وهو إذنه في ذلك ، أما إن لم يوجد واحد منهما فإن وجود ذلك كعدمه ، على المعروف المجزوم به ، وفي التلخيص في الهبة حكاية رواية بصحة قبض ما قبضه المتهب بدون إذن الواهب ، فيخرج هنا كذلك ، ولا معرج على ذلك ، أما على المذهب فلو كان الرهن في يد المرتهن ، بإعارة ، أو وديعة ، ونحو ذلك ، ففي اشتراط إذنه له في القبض روايتان ، وقيل : وجهان ، فإن اشترط فلا بد من مضي زمن يتأتى القبض فيه ، فإذا كان المرهون حاضراً بين يدي الراهن ، أكتفي بمضي مدة يتأتى قبض ذلك فيها ، فاكتياله أو وزنه ، أو نقله حسب ما هو ، وإن كان في بيته ، أو دكانه ، ونحو ذلك ، فلا بد من أن يمضي إليه ، ويشاهد المرهون ، ليتحقق التمكين ، ثم بعد ذلك تمضي مدة يمكن القبض فيها على ما ذكر ، وإن لم يشترط الإِذن ففي اعتبار مضي زمن يتأتى القبض فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : وإذا قبض الرهن من تشارطا أن يكون الرهن على يده صار مقبوضاً .
ش : تصح النيابة في قبض الرهن ، لأنه قبض في عقد ، فجاز التوكيل فيه كسائر القبوض ، فعلى هذا إذا اتفق الراهن والمرتهن حال العقد أو بعده على جعل الرهن في يد إنسان صح ، وصار مقبوضاً للمرتهن ، قاله في المغني ، وفيه تساهل ، لأنه يوهم أن له أخذه منه ، وليس كذلك كما سيأتي .
ثم قول الخرقي : من . يشمل المسلم والكافر ، والعدل والفاسق ، والذكر والأنثى ، والحر والعبد ، وغيرهم ، وهو كذلك ، إلا أنه لا بد أن يقيد بكونه جائز التبرع ، ليخرج الصبي ، والمجنون ، والعبد بغير إذن سيده ، والمكاتب بلا جعل ، أما إن أذن السيد ، أو جعل للمكاتب جعل ، فإنه يجوز ، لزوال المانع ، وانتفاء التبرع ( ويشمل ) أيضاً الاثنين ، والجماعة ، وهو كذلك ، وليس لواحد منهم الإِنفراد بحفظه .
وقوله : من تشارطا قوته تقتضي أن يكون غيرهما ، فلو استناب المرتهن الراهن في القبض لم يصح ، قاله في التلخيص ، وعبد الراهن القن ، وأم ولده ، ومستولدته
____________________
(2/110)
كهو ، نعم يجوز استنابة مكاتبه ، وكذلك عبده المأذون له في أصح الوجهين ، وفي الآخر لا يجوز إلا أن يكون عليه دين .
وقوله : صار مقبوضاً . يقتضي أنه ليس لواحد منهما نقله عن من جعل على يده ، وهو كذلك ، كما لو كان بيده المرتهن ، نعم إن اتفقا على ذلك جاز ، وكذلك إن تغيرت حال المجعول على يده ، كأن كان عدلًا ففسق ونحون ، كان لكل منهما طلب التحويل إلى آخر ، ثم إن اتفقا عليه وإلا جعله الحاكم عند عدل ، وكذا لو تغيرت حال المرتهن ، فللراهن رفع الأمر إلى الحاكم ، ليضعه على يد عدل ، والله أعلم .
قال : ولا يرهن مال من أوصي إليه بحفظ ماله إلا من ثقة .
ش : لأن ولي اليتيم إنما يتصرف بالأحسن ، قال سبحانه : 19 ( { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ) والأحسن بل الحسن أن لا يرهن مال اليتيم إلا عند ثقة ، إذ الرهن أمانة ، وغير الثقة لا يؤتمن ، ولا بد أن يكون الحظ لليتيم في الرهن ، كأن يحتاج إلى نفقة على نفسه ، أو عقاره المتهدم ، ونحو ذلك ، وله مال ينتظر وروده ، فالأحظ إذاً في الإِقتراض ، ورهن بعض أصوله ماله ، أما إن لم يكن له مال ينتظر ، فلاحظ في الاقتراض ، وإذاً يبيع بعض أصول ماله ، فإن لم يجد من يقرضه ، ووجد من يبيعه نساء ، وكان أحظ من بيع ماله ، جاز الشراء نساء ، ورهن شيء من ماله ، قاله في المغني ، وظاهره أنه لا ينتقل إلى الشراء نسيئة إلا عند عدم من يقرضه ، والذي ينبغي مراعاة الأصلح لليتيم . انتهى .
وحكم الحاكم وأمينه حكم الوصي في ذلك ، وكذلك الأب بطريق الأولى ، ومن ثم له أن يرتهن من نفسه ، بخلاف غيره على المحقق ، وفي المغني حكاية رواية بجواز ذلك لغيره ، وفيها نظر ، إذ أصل ذلك والله أعلم البيع ، ولا يعرف فيه رواية مطلقة بالجواز ، والله أعلم .
قال : وإذا قضاه بعض الحق كان الرهن بحاله على ما بقي .
ش : العين المرهونة رهن بجميع الدين ، وبكل [ جزء ] من أجزائه ، وقد حكى ابن المنذر الإِجماع على نحو ذلك ، والله أعلم .
قال : وإذا أعتق الراهن عبده المرهون فقد صار حراً .
ش : هذا هو المشهور والمختار من الروايات للأكثرين ، لأنه عتق من مالك .
2026 فشمله مفهوم قول النبي : ( لا عتق فيما لا يملك ابن آدم ) . وفارق غيره من التصرفات ، لتشوف الشارع إليه ، ومن ثم نفذ في ملك الغير ، وفي المبيع قبل القبض ، وفي الآبق ، والمبهم ، ونحو ذلك ، ( والثانية ) واختارها الشيرازي :
____________________
(2/111)
لا ينفذ مطلقاً ، حذاراً من إبطال حق المرتهن من الوثيقة ، وأنه لا يجوز ، كما لا يجوز بيعه ، وهبته ، ونحوهما ، ( والثالثة ) ينفذ عتق الموسر لا المعسر ، تخريجاً على المفلس ، إذ الموسر لا ضرر على المرتهن في عتقه ، لإِمكان أخذ القيمة منه ، بخلاف المعسر ، وهذا كله في نفوذ العتق ، أما الإِقدام عليه فإنه لا يجوز ، لما فيه من إدخال الضرر على المرتهن ، بإبطال حقه من الوثيقة ، نعم إن أذن المرتهن في العتق جاز ، ونفذ بلا ريب ، لزوال المانع ، والله أعلم .
قال : ويؤخذ إن كان له مال بقيمة المعتق فيكون رهناً .
ش : إذا قلنا بنفوذ العتق نظرنا في الراهن ، فإن كان له مال أخذت منه قيمة المعتق ، لتفويته إياه على المرتهن ، فتجعل رهناً ، لأنها بدل المرهون والحال هذه ، وبدل الشيء يقوم مقامه ، وخير أبو بكر في التنبيه المرتهن بين الرجوع بقيمة العبد ، أو بعبد مثله ، وإن لم يكن له مال بأن كان معسراً ، بقيت القيمة في ذمته إلى حين يساره ، ولا يستسعى العتيق ، فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه كما تقدم ، وإن أيسر بعده فلا فائدة في جعل القيمة رهناً ، ويؤمر بالوفاء ، وتعتبر القيمة حين العتق ، لأنه وقت التلف ، وإن لم نقل بالنفوذ ، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا ينفذ بعد زوال الرهن ، ولابن حمدان احتمال بالنفوذ إذاً ، هذا كله إذا لم يأذن المرتهن ، أما إن أذن في العتق فإن حقه يبطل من الوثيقة ، ولا قيمة له ، والله أعلم .
قال : وإن كانت جارية فأولدها الراهن خرجت أيضاً من الرهن .
ش : لأن الإِيلاد إتلاف معنوي ، فنزل منزلة الإِتلاف الحسي ، وعامة الأصحاب يجزمون هنا بذلك ، بخلاف العتق ، لأن الفعل أقوى من القول ، بدليل نفوذ إيلاد المجنون ، دون عتقه ، وظاهر كلامه في التلخيص إجراء الخلاف فيه ، فإنه قال : والإِستيلاد مرتب على العتق ، وأولى بالنفوذ ، لأنه فعل ، والله أعلم .
قال : وأخذ منه قيمتها تكون رهناً .
ش : أي إذا كان له مال ، وإلا بقيت القيمة في ذمته إلى يسرته ، على ما تقدم في العتق ، والإِعتبار في القيمة بيوم الإِحبال ، قاله في الرعاية ، ولا بد أن يلحظ أيضاً أن المرتهن لم يأذن في الوطء ، قال في التلخيص : وصدقه المرتهن أنها ولدته من وطئه ، أماإن أذن المرتهن في الوطء وحملت ، فإن الرهن يبطل ، ولا قيمة للمرتهن ، بشرط أن يصدقه أن الراهن وطيء ، وأنها ولدته لمدة يمكن أن يكون من ذلك الوطء ، أما إن صدقه في الإِذن ، وكذبه في أنه وطيء ، أو أنها ولته أو في المدة ، فالقول قوله ، والرهن بحاله ، لأن الأصل معه ، والله أعلم .
قال : وإذا جنى العبد المرهون ، فالمجنى عليه أحق برقبته من مرتهنه ، حتى يستوفى حقه . فإن اختار سيده أن يفديه وفعل فهو رهن بحاله .
____________________
(2/112)
ش : مراد الخرقي والله أعلم إذا جنى المرهون على أجنبي ، لا على السيد ، ولا على عبد السيد ، ولا موروثه ، إذ بيان ذلك يحتاج إلى بسط وتطويل ، لا يليق بمختصره ، ولا بهذه التعليق ، وجناية العبد على الأجنبي ، أو على ماله ، تتعلق برقبة العبد .
2027 لقوله : ( لا يجني جان إلا على نفسه ) فإن كان مرهوناً قدم حق المجني عليه ، على حق المرتهن ، لأن حقه ثبت بطريق الاختيار ، وحق المجني عليه ثبت لا بطريق الاختيار ، فكان أقوى ، ثم حق المرتهن يرجع إلى بدل وهو الذمة ، فلا يفوت بخلاف حق المجني عليه ، فإنه يفوت بفوات العين ، ويتفرع على هذا أن المجني عليه أحق برقبة العبد من المرتهن ، حتى يستوفي حقه ، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فللمجني عليه ذلك ، فإن فعل والجناية على النفس بطل الرهن ، وإن كانت على الطرف فالرهن بحاله ، لوجود سببه ، وزوال ما يقتضي التقديم ، وكذلك إن عفا مجاناً ، وإن عفا على مال ، أو كانت الجناية ابتداء موجبة للمال ، فالسيد يخير بين فدائه أو بيعه في الجناية ، على إحدى الروايات ( والثانية ) يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية ، ( والثالثة ) : يخير بين الثلاثة ، فإن اختار البيع والجناية مستغرقة لقيمته ، بيع فيها وبطل الرهن ، وإن لم تستغرق قيمته ، فهل يباع جميعه ، دفعاً لضرر الشريك ؟ وإذاً يكون باقي ثمنه رهناً ، أو لا يباع منه إلا قدر الجناية ، ويكون باقيه رهناً ، لسلامته من معارض ؟ فيه وجهان ، فإن اختار السيد فداءه ، قبل منه فداؤه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته ، على المشهور من الروايتين ( والثانية ) لا يقبل منه إذا اختار الفداء إلا أرش الجناية كاملة ، فإذا فداه فهو رهن بحاله ، لزوال ما تعلق به ، وإن أراد السيد الدفع في الجناية ، واختار المرتهن فداءه فله ذلك ، ثم بكم يفديه ؟ فيه الروايتان المتقدمتان ، وإذا فداه وهو متبرع لم يرجع ، وبإذن الراهن يرجع ، وبغير إذنه فيه الوجهان في من أدى عن غيره واجباً بغير إذنه ، والمشهور ثم الرجوع ، وبه قطع القاضي ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وغيرهم هنا ، وقيل : لا يرجع عنا ، وإن رجع ثم ، وهو اختيار أبي البركات ، لعدم تحتم الفداء على السيد .
( تنبيه ) : إذا شرط المرتهن جعله رهناً بالفداء مع الدين الأول صح ، قاله القاضي ، لأن الرهن مع الجناية صيرته بمنزلة الجائز ، وقيل : لا يصح ، لأن رهن المرهون لا يصح ، والله أعلم .
قال : وإذا جرح العبد المرهون أو قتل فالخصم في ذلك سيده .
ش : لأنه مالكه ومالك بدله ، والمرتهن إنما يملك حبسه ، فهو كالمستأجر ، نعم إن ترك السيد المطالبة لعذر أو غيره ، فللمرتهن المطالبة ، لأن حقه يتعلق بموجب
____________________
(2/113)
الجناية ، قاله القاضي ، وغير واحد من أصحابه ، وفرقوا بينه وبين المودع ، على المشهور عندهم ، بأن ثم مجرد حفظ وائتمان ، بخلاف الرهن والإِجارة ، فإن له فيها حق الوثيقة والمنفعة ، والله أعلم .
قال : وما قبض بسبب ذلك من شيء فهو رهن .
ش : قد تقدم أن العبد المرهون إذا قتل أو جرح أن الخصم في ذلك هو السيد ، إلا أنه على ما قال صاحب التلخيص وغيره ليس له القصاص إلا أن يأذن الراهن ، قال في التلخيص : أو إعطائه قيمة العبد ، وجعل ابن حمدان ذلك قولًا ، فإن اقتص كذلك فلا شيء عليه ، وإلا فعليه ، أقل الأمرين ، من قيمة العبد المرهون ، أو قيمة الجاني إن كانت [ الجناية على النفس ، أو أقل الأمرين من أرش الجرح ، أو قيمة الجاني ، إن كانت ] على ما دونها ، بجعل ذلك رهناً ، لتفويته ذلك باقتصاصه على المرتهن ، أشبه ما لو كانت الجناية موجبه للمال ، هذا هو المشهور عند الأصحاب ، والمنصوص عن أحمد .
وعن القاضي وبه قطع ابن الزاغوني في الوجيز ، واختاره المجد لا شيء عليه ، لأن الجناية لا توجب مالًا ، وإن لم يقتص السيد ، بل عفا إلى مال ، أو مطلقاً وقيل : الواجب أحد شيئين أو كانت الجناية موجبة للمال ابتداء ، ثبت المال ، وأخذ فجعل رهناً مكان العبد ، لأنه بدله فقام مقامه ، وإن عفا إلى غير مال ، وقلنا : الواجب القصاص عيناً ، أو مطلقاً ، وقلنا كذلك ، كان كما لو اقتص ، فيه القولان السابقان ، قاله أبو محمد ، وصحح صاحب التلخيص أنه لا شيء على السيد هنا ، مع قطعه ثم بالوجوب كما هو المنصوص ، وإن عفا عنا لمال بعد ثبوته ، أو إلى غير مال ، وقلنا : الواجب أحد شيئين ، فهل يصح عفوه ، ويؤخذ منه أرش الجناية ، فيجعل رهناً ؟ وهو قول أبي الخطاب وصاحب التلخيص ، أو لا يصح ، ويؤخذ الأرش من قبل الجاني ؟ وهو اختيار أبي محمد ، أو يصح بالنسبة إلى الراهن دون المرتهن ، فيؤخذ الأرش فيجعل رهناً ، فإذا انفك الرهن رد الأرش إلى الجاني ؟ وهو قول القاضي ، على ثلاثة أقوال ، وعلى الثالث لو استوفي الدين من الأرش فهل يرجع الجاني على العافي أم لا ؟ فيه احتمالان ، والله أعلم .
قال : وإن اشترى منه سلعة على أن يرهنه بها شيئاً من ماله يعرفانه ، أو على أن يعطيه بالثمن حميلًا يعرفانه ، فالبيع جائز ، فإن أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل ، فالبائع مخير في فسخ البيع ، وفي إقامته بلا رهن ولا ضمين .
ش : الحميل الضمين فعيل بمعنى فاعل ، يقال : ضمين ، وحميل ، وكفيل ، وزعيم ، وقبيل ، وصبير ، بمعنى ، فإذا اشترى شيئاً وشرط للبائع رهناً أو ضميناً على الثمن ، صح البيع والشرط ، لأنه شرط واحد ، من مصلحة العقد ، لما تقدم في قوله : والبيع لا يبطله شرط واحد ، ويشترط في الرهن والضمين أن يكونا معينين ، فلا يصح
____________________
(2/114)
اشتراط أحد هذين العبدين ، كما لا يصح بيع أحدهما ، ولا ضمان أحد هذين الرجلين ، لأن الغرض يختلف ، وإذا صح الشرط فإن حصل الوفاء به فلا كلام ، وإن لم يحصل الوفاء به بأن امتنع من عين للضمان منه إذ هو التزام ، فلا يلزمه بدون رضاه ، كبقية الالتزامات أو امتنع المشتري من تسليم الرهن ، لأن الشرط لا يوجب عليه ذلك فإن البائع يخير بين فسخ العقد ، لفوات الشرط عليه ، وبين إمضائه بلا رهن ولا كفيل ، ثم هل له الأرش إذاً إلحاقاً له بالعيوب ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً ، ويحكى عن ابن عقيل في العمد ، أو لا أرش له ، إلحاقاً له بالتدليس ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، والقاضي ، وأبي الخطاب ، وصاحب التلخيص فيه ، والسامري ، وأبي محمد ؟ على قولين ، واتفق الفريقان على وجوب الأرش عند تعذر الرد ، على مقتضى قول المجد ، والله أعلم .
قال : ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشي إلا ما كان مركوباً أو محلوباً ، فيركب ويحلب بقدر العلف .
ش : نماء الرهن ملك للراهن ، إذ النماء تابع للملك .
2028 وعن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا يغلق الرهن ، لصاحبه غنمه ، وعليه غرمه ) رواه الشافعي والدارقطني وحسن إسناده ، وروي مرسلًا عن سعيد ، وناهيك بمراسيله ، قال الشافعي رحمه الله : غنمه زيادته ، وغرمه هلاكه ونقصه ، انتهى ، وإذا كان النماء للراهن فلا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء ، لا من الأصل ، ولا من النماء .
2029 لقول النبي : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ) نعم إن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع ، ولم يكن الدين عن قرض جاز لوجود طيب النفس .
2030 وإن كان الدين عن قرض لم يجز ، حذاراً من ( قرض جر منفعة ) .
وهل يستثنى مما تقدم إذا كان الرهن مركوباً أو محلوباً أو لا ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) لا ، فلا ينتفع المرتهن من ذلك بشيء إلا بإذن مالكه ، كما تقدم للحديث .
2031 وعن إبراهيم النخعي وذكر له قوله : ( الرهن محلوب ومركوب ) فقال : إن كانوا ليكرهون أن يستمتعوا من الرهن بشيء . رواه البيهقي .
( والثانية ) : وهي المشهورة ، والمعمول عليها في المذهب للمرتهن أن يركب ما يركب ، ويحلب ما يحلب ، بمقدار العلف ، متحرياً للعدل في ذلك .
____________________
(2/115)
2032 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول لله : ( الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً ، ولبن الدار يشرب بنفقته إذا كان محلوباً ، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة ) رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي ، وقول الشافعي رحمه الله : يشبه قول أبي هريرة أن من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الراهن ظهرها ودرها ، لأن له رقبتها .
2023 يرده ما في المسند ( إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ، ولبن الدر يشرب ، وعلى الذي يشرب نفقته ) فجعل المنفق هو المرتهن ، فيكون هو المنتفع ، ثم قوله : ( الظهر يركب بنفقته ) أي بسبب نفقته ، وهو إشارة إلى أن الانتفاع عوض النفقة ) أي بسبب نفقته ، وهو إشارة إلى أن الانتفاع عوض النفقة ، وذلك إنما يتأتى في المرتهن ، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه ليسا بسبب المعاوضة ، وإنما ذلك بسبب الملك ، ولأن ذلك محض مصلحة ، من غير مفسدة ، ومبنى الشرع على ذلك ، وبيانه أن منفعة الركوب لو تركت لذهبت مجاناً ، وكذلك اللبن لو ترك لفسد ، وبيعه أولًا فأولًا ربما تعذر ، ثم هذا الحيوان لا بد له من نفقة ، فأخذها من مالكه ربما أضر به ، وربما تعذر أخذها منه ، فإن بيع بعض الرهن فيها فقد يفوت الرهن بالكلية ، فجوز الشارع للمرتهن الإِنفاق والاستيفاء بقدره ، إذ لا حرج عليه في ذلك ، بل فيه دفع الحرج عنه ، وحفظ الرهن ، وإذاً تحصل المصلحة من الطرفين . انتهى .
ويدخل في المحلوب إذا كانت أمة مرضعة ، فإن للمرتهن أن يسترضعها بقدر نفقتها ، كما أشار إليه أبو بكر في التنبيه ، ونص عليه ابن حمدان ، وهل يلحق بالمركوب والمحلوب ما يخدم من عبد أو أمة ؟ فيه روايتان ( أشهرهما ) لا ، قصراً للنص على مورده ، كما أشار إليه الإِمام في رواية الأثرم ، إذ الأصل المنع مطلقاً .
2034 لقوله : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه ) خرج منه ما تقدم ( والثانية ) نعم ، قياساً على ما تقدم ، لفهم العلة وهو ذهاب المنفعة .
إذا عرف هذا فشرط الاستيفاء أن يكون بقدر العلف ، مع تحري العدل ، ولا ينهك ولا يعجف بالركوب والحلاب ، حذاراً من الضرر المنفي شرعاً ، ثم إن فضل من اللبن شيء عن النفقة ولم يمكن بقاؤه إلى وقت حلول الدين ، فإن المرتهن يبيعه إن أذن له في ذلك ، أو الحاكم إن لم يؤذن له ، ويجعل ثمنه رهناً ، وإن فضل من النفقة شيء رجع به على الراهن ، قاله أبو بكر ، و ابن أبي موسى ، وغيرهما ، وظاهر كلامهم الرجوع هنا ، وإن لم يرجع إذا أنفق على الرهن في غير هذه الصورة ، لكن ينبغي إذا
____________________
(2/116)
أنفق متطوعاً أنه لا يرجع بلا ريب .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لجواز الإنفاق والاستيفاء فيما تقدم تعذر النفقة من المالك بامتناعه أو غيبته ، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية ، وأبي البركات ، وطائفة ، وصرح به أبو محمد في المغني ، نظراً لإِطلاق الحديث ، وشرط أبو بكر في التنبيه امتناع الراهن من النفقة ، والقاضي في الجامع الصغير ، وأبو الخطاب في خلافه وصاحب التلخيص وغيرهم غيبة الراهن ، وابن عقيل في التذكرة إذا لم يترك له راهنه نفقة ، وينبغي أن يكون هذا محل وفاق .
( تنبيه ) : قوله : ( لا يغلق الرهن ) في رواية ( من صاحبه ) الحديث أي لا يستحقه المرتهن ، يقال : غلق الرهن إذا لم يوف الراهن الحق ، فاستحق المرتهن الرهن ، قال زهير :
وفارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
فأخبر النبي أن الرهن لا يغلق ، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث مرسل .
2035 فروى البيهقي في سننه بسنده إلى معاوية بن عبد الله بن جعفر ، قال رسول الله : ( لا يغلق الرهن ) وإن رجلًا رهن داراً بالمدينة إلى أجل ، فلما جاء الأجل قال الذي ارتهن : هي لي . فقال رسول الله : ( لا يغلق الرهن ) انتهى .
2036 وقال معمر : قلت للزهري : يا أبا بكر قوله : ( الرهن لا يغلق ) قال : يقول : إن لم آتك إلى كذا وكذا فهو لك . والله أعلم .
قال : وغلة الدار وخدمة العبد ، وحمل الشاة وغيرها ، وثمرة الشجرة المرهونة من الرهن .
ش : نماء الرهن كأجرة الدار والعبد ، وما يكتسبه باصطياد ونحوه وثمرة الشجرة وولد الأمة ونحو ذلك تبع للرهن ، فيكون مرهوناً كالأصل ، لأنه حكم ثبت في العين بعقد المالك ، فدخل فيه النماء والمنافع كالملك ، ولا يرد قوله : ( له غنمه ) لأنا نقول بموجبه ، وأن الغنم مال للراهن ، ولا يمنع ذلك من تعلق حق المرتهن به كالأصل .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله جواز إجارة المرهون في الجملة ، مع بقائه على الرهنية واللزوم ، لقوله : وغلة الدار . ولا غلة للدار إلا بالإِجارة ، وهذا اختيار أبي محمد ، وإحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، نص عليها في رواية ابن منصور ، فقال : له أن يكريه بإذن الراهن ، وتكون الأجرة للراهن . ( والثانية ) : يزول لزوم الرهن بذلك ، أومأ إليها في رواية ابن منصور أيضاً ، في رجل ارتهن داراً فأكراها من
____________________
(2/117)
صاحبها ، فلا تكون رهناً حتى ينقضي ذلك ، فإذا انتقضى كراه رجعت إليه وصارت رهناً ، ونحوه نقل ابن ثواب ، وهذا اختيار أبي بكر في الخلاف ، قال : إن منافع الرهن تعطل ، ومبنى الخلاف على ما أشار إليه أبو الخطاب في الانتصار ، أن مقصود الرهن هل هو الاستيفاء من ثمنه ، عند تعذر الاستيفاء من الغريم ، والاختصاص به دون بقية الغرماء ، وذلك لا ينافي إجارته ، أو ذلك مع استحقاق حبسه ، وكونه تحت اليد على الدوام ، والإِجارة تخرجه عن يده .
وفي المذهب قول ثالث : إن أجر المرتهن بإذن الراهن فالرهن بحاله ، لعدم خروجه عن يد المرتهن وتصرفه ، وإن أجر الراهن بإذن المرتهن ، خرج من الرهن ، لخروجه إلى يد الراهن ، وإلى هذا القول ميل أبي الخطاب ، ومنصوص أحمد مما يدل على ذلك ، ومحل الخلاف إذا اتفقا على الإِيجار ، أما إن امتنع أحدهما من الإِيجار فإن منافعه تعطل على المذهب ، واختار ابن حمدان أنها لا تعطل ، فيجبر من أبى منهما على الإِيجار ، والحكم في إعارته كالحكم في إجارته ، والله أعلم .
قال : ومؤونة الرهن على الراهن .
ش : مؤونة الرهن من طعام ، وكسوة ، ومسكن ، وغير ذلك على الراهن ، لأن ملكه ، فكان ذلك عليه كبقية الأملاك ، وقد تقدم قوله : ( له غنمه ، وعليه غرمه ) والمؤونة من الغرم ، والله أعلم .
قال : وإن كان عبداً فمات فعليه كفنه .
ش : لأن الكفن من الغرم وهو عليه ، والله أعلم .
قال : وإن كان مما يخزن فعليه كراء مخزنه .
ش : لأنه من مؤونته ، وهي عليه لما تقدم ، والله أعلم .
قال : والرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن ، رجع المرتهن بحقه عند محله ، وكانت المصيبة فيه من راهنه ، وإن كان تعدى المرتهن ، أو لم يحرزه ضمن .
ش : الرهن أمانة في يد المرتهن ، لما تقدم من قول النبي : ( لا يغلق الرهن ، لصاحبه غنمه ، وعليه غرمه ) وهذا يدل على أن الغرم على الراهن لا المرتهن ، وهذا هو المذهب المعروف . ونقل أبو طالب عن أحمد إذا ضاع الرهن عند المرتهن لزمه . وظاهرها لزوم الضمان له مطلقاً ، لكن تأول ذلك القاضي على ما إذا تعدى ، وأبى ذلك ابن عقيل ، جريا على الظاهر .
2037 وبالجملة استدل لهذه الرواية بما يروى عن النبي أنه قال : ( الرهن بما فيه ) رواه الدارقطني والبيهقي ، لكنه ضعيف ، بل قيل : إنه موضوع . على أنه
____________________
(2/118)
يحتمل أنه محبوس بما فيه ، وبما روي عن عطاء أن رجلًا رهن فرساً فنفق في يده ، فقال رسول الله للمرتهن : ( ذهب حقه ) رواه الدارقطني أيضاً وغيره ، وهو ضعيف أيضاً مع إرساله ، وقد قال أحمد : مرسلات سعيد صحاح ، وأما الحسن وعطاء فهي أضعف المرسلات ، لأنهما كانا يأخذان عن كل .
2038 قال الشافعي : ومما يدلك على وهن هذا عند عطاء إن كان رواه أن عطاء يفتي يخلافه ، ويقول فيما ظهر هلاكه أمانة ، وفيما خفي هلاكه : يترادان الفعل . انتهى .
ويتفرع على المذهب أن المصيبة فيه كأنها حصلت من راهنه ، فلو تلف أن نقص كان ذلك على راهنه ، وحق المرتهن بحاله ، يرجع به عند محله ، هذا كله إذا لم يتعد المرتهن ولم يفرط ، أما إن تعدى بأن استعمال الرهن أو فرط بأن لم يحرزه حرز مثله ونحو ذلك فإنه يضمن ، كما يضمن المودع ونحوه ، والله أعلم .
قال : إن اختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه .
ش : حيث لزم المرتهن الضمان ، فاختلف هو والراهن في قيمة العين ، وهي تالفة أن ناقصة بأن يدعي الراهن مثلًا أن قيمتها ثلاثون ، ويدعي المرتهن أن قيمتها عشرون ، ولا بينة بما قال واحد منهما ، فالقول في ذلك قول المرتهن ، لأنه غارم ، ومنكر للزيادة ، والقول قول المنكر مع يمينه ، والله أعلم .
قال : وإن اختلفا في قدر الحق فالقول قول الراهن مع يمينه ، إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة .
ش : إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي به الرهن ، مثل أن يقول الراهن : رهنتك هذا على ألف . فيقول المرتهن : بل على ألفين . فإذاً القول قول الراهن مع يمينه ، سواء أقر بالألف الأخرى أو أنكرها ، لأنه منكر للرهن بالزيادة التي يدعيها المرتهن ، والقول قول المنكر ، وكما لو اختلفا في أصل الرهن ، وهذا مع عدم البينة ، أما إن وجدت ، فإن الحكم لها ، لأنها تبين الحق وتظهره .
وقول الخرقي : إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة . الشرط راجع لهذه الصورة والتي قبلها ، والله أعلم .
قال : والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه ، حياً كان الراهن أو ميتاً .
ش : لا يختلف المذهب فيما نعلمه أن المرتهن أحق بثمن الرهن إلى أن يستوفي حقه من بقية الغرماء ، في حياة الراهن لترجح حقه على حق غيره ، والراجح مقدم ، وبيانه أن حقه قد تعلق بالعين والذمة ، وحق غيره إنما تعلق بالذمة فقط ، فعلى هذا إذا حجر على الراهن لفلس فإن المرتهن يقدم بثمن الرهن ، فإن كان وفق حقه فلا كلام ،
____________________
(2/119)
وإن نقص ضرب مع الغرماء بالنقص ، وإن زاد رد الفاضل على الغرماء .
أما مع موت الراهن . وضيق التركة عن جميع الديون ، فهل المرتهن أسوة الغرماء ، لأن التركة انتقلت إلى الورثة ، وتعلق حق الغرماء بها تعلقاً واحداً ، أو يقدم بثمن الرهن كما في حال الحياة ، إذ التركة إنما تنتقل إلى الورثة بصفة ما كانت للموروث ، وهذا هو المعروف عند الأصحاب ؟ على روايتين منصوصتين ، ولا يرد على الخرقي إذا جنى العبد المرهون ، فإن حق المجني عليه يقدم على الراهن ، لأن المجني عليه في الحقيقة ليس غريماً للراهن ، إذ حقه متعلق بعين الرهن فقط ، لا بذمة الراهن ، مع أن الخرقي قد ذكر حكم ذلك ، والله أعلم .
قال :
( باب المفلس )
ش : المفلس في عرف الفقهاء من فلسه الحاكم بالحجر عليه ، وسببه أن يكثر دينه على ماله ، ويطلب ذلك الغرماء ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى ، والفلس في اللغة ذهاب المال غير الفلوس ، قال ابن فلوس : يقال : أفلس الرجل . إذا صار ذا فلوس ، بعد أن كان ذا دراهم ، وقيل : هو العدم ، يقال : أفلس بالحجة إذا عدمها ، وقيل : هو من قولهم : تمر مفلس . إذا خرج منه نواه ، فهو خروج الإِنسان من ماله ، وعلى هذا سمي المفلس مفلساً ، وإن كان له مال يضيق عن دينه ، لأن ماله مستحق للصرف ، أشبه من لا مال له ، أو باعتبار ما يؤول إليه ، لأنه يؤول إلى أنه لا شيء له .
2039 وفي الصحيحين أن النبي قال لأصحابه : ( أتدرون من المفلس ؟ قالوا : يا رسول الله إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : ( ليس ذلك المفلس ، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، ويأتي وقد ظلم هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فرد عليه ، ثم طرح في النار ) فأخبرت الصحابة رضي الله عنهم عن المفلس في عرفهم ولغتهم ، وهو الذي لا شيء له ، فقال : هذا الفلس كلا فلس ، إنما الفلس المعتبر ، الذي معه الحسرة العظيمة ، والفقر الدائم ، هو فلس الآخرة ، حتى أن فلس الدنيا عنده بمنزلة الغنى .
2040 ونحو هذا قوله : ( ليس الغنى عن كثرة العرض ، إنما الغنى غنى النفس ) والله أعلم .
قال : وإذا فلس الحاكم رجلًا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به .
____________________
(2/120)
ش : إذا ثبت على شخص دين حال ببيّنة أو إقرار ، وماله أقل منه قال ابن حمدان : أو قدره ، ولا كسب له ، ولا ما ينفق عليه منه ، أو خيف تصرفه فيه . انتهى فسأل غرماؤه قال في التلخيص : أو بعضهم ودينهم أكثر من ماله ، وحكى ابن حمدان ذلك قولًا . انتهى الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم ، لأن النبي حجر على معاذ ، وباع ماله [ في دينه .
2041 فروى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن أبيه أن النبي حجر على معاذ بن جبل ماله ، وباعه ] في دين كان عليه ، وكان معاذ شاباً حليماً سمحاً ، من أفضل شباب قومه ، ولم يكن يمسك شيئاً ، فلم يزل يدان ، حتى أغرق ماله كله في الدين ، فأتى النبي فكلم غرماءه ، فلو تركوا أحداً من أجل أحد لتركوا معاذاً من أجل رسول الله ، فباع لهم رسول الله يعني ماله ، حتى قام معاذ بغير شيء .
2042 وكذلك حجر عمر رضي الله عنه على الأسيفع ، أسيفع جهينة .
فإذا حجر الحاكم عليه وهو معنى تفليسه له ترتب بذلك أحكام ( أحدها ) تعلق حق غرمائه بماله ، فلا يقبل إقراره عليه ، ولا يصح تصرفه المستأنف فيه ، إلا بالعتق على رواية ، وخرج بقيد ( المستأنف ) الرد بالعيب فيما اشتراه قبل الحجر ، والفسخ لخيار مشترط كذلك ، فإن تصرفه في ذلك صحيح ، لكن هل يتقيد بالأحظ ؟ وفي التلخيص أنه قياس المذهب بناء على إجبار المفلس على اكتساب المال بما لا منة عليه فيه ، أو لا يتقيد بذلك ، وهو المشهور ، لعدم استقرار العقد إذاً ؟ فيه قولان ، وبقيد ( المال ) التصرف في الذمة ، وكذلك التصرف في البضع ، وفي الدم ، وفي النسب ، ( والحكم الثاني ) بيع الحاكم ماله ، وقسم ثمنه بين غرمائه لما تقدم ، ( الثالث ) : انقطاع المطالبة عنه ما دام كذلك ، لظهور عسرته ، ووجوب إنظاره إلى ميسرته .
( الرابع ) : أن من وجد من الغرماء متاعه بعينه عنده فهو أحق به من بقية الغرماء ، بمعنى أن له فسخ البيع ، وأخذ سلعته ، بشروط تذكر إن شاء الله تعالى ، وهذه مسألة الكتاب .
2043 وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس ، أو إنسان قد أفلس فهو أحق به ) وفي رواية ( متاعه بعينه ) متفق عليهما .
2044 ومن ثم قضى بذلك عثمان رضي الله عنه ، رواه عنه البيهقي ، ولقد
____________________
(2/121)
بالغ إمامنا رحمه الله في اتباع السنة كما هو دأبه ، فقال : لو أن حاكماً حكم أنه أسوة الغرماء ، ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث ، رد حكم الحاكم .
ومقتضى كلام الخرقي أن الفسخ والرجوع لا يفتقر إلى حكم حاكم ، وهو كذلك ، لثبوت ذلك بالنص ، فهو كخيار المعتقة ومن ثم أجاز أحمد نقض حكم من حكم بخلاف ذلك ، وعموم كلامه يشمل البيع ، والقرض ، والدابة ، والأرض المؤجرة إذا أفلس المستأجر قبل مضي مدة لمثلها أجر ، وكذلك الصداق ، كأن يصداق امرأة عيناً ، ثم يستحق الرجوع فيها أو في نصفها ، بأن ينفسخ النكاح لسبب من جهتها كردتها ، أو من جهته كطلاقه وقد أفلست فإنه يرجع في عين ماله بشرطه .
وقوة كلام المصنف يقتضي أن الرجوع في عين المال مختص ببيع ونحوه وجد قبل الفلس ، فيخرج ما وجد بعده فلا يرجع فيه ، وهو أحد الوجوه ، لدخوله على بصيرة أو تفريطه ، ( والثاني ) : يرجع أيضاً ، لإِطلاق الخبر ، ( والثالث ) : يفرق بين العلم بالفلس وعدمه ، وهو حسن .
( تنبيه ) : ( الأسيفع ) تصغير ( أسفع ) والسفعة في اللون السواد ، والله أعلم .
قال : إلا أن يشأ تركه ، ويكون أسوة الغرماء .
ش : يعني أن البائع إذا وجد ماله بعينه عند من أفلس ، فإنه يخير ، إن شاء رجع فيه لما تقدم ، وإن شاء لم يرجع ، وكان أسوة الغرماء ، لأن الشارع جعله أحق به وأولى به ، ولم يحتم ذلك عليه ، وظاهر كلام المصنف أنه لو بذل له الغرماء الثمن ، لم يلزمه القبول ، لأنه لم يستثن ذلك ، ونص عليه أحمد ، لظاهر الخبر ، ودفعا للمنة عنه ، [ نعم إن بذلوا الثمن للمفلس فبذله له امتنع عليه الفسخ ، لزوال سببه وهو عجزه عن أخذ الثمن ] ، ومن ثم لو أسقط الغرماء حقوقهم ، أو وهب له مال بحيث يمكن أداء الثمن زال الفسخ ، والله أعلم .
قال : فإن كانت السلعة قد تلف بعضها ، أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها ، أو نقد بعض ثمنها ، كان البائع فيها كأسوة الغرماء .
ش : قد تقدم أن أحد الغرماء إذا وجد متاعه بعينه عند من فلسه الحاكم أنه أحق به ، لكن ذلك بشروط ( أحدها ) أن يكون المتاع باقياً بحاله ، لم يتلف بعضه ، فإن تلف بعضه كأن تلف بعض الدار ، أو الثوب ، أو الثمرة المبيعة مع الشجرة ، أو قطعت بعض أطراف العبد ، ونحو ذلك فلا رجوع للبائع ، بل يكون أسوة الغرماء ، نظراً للخبر ، فإنه لم يجد المتاع بعينه ، فلو تعدد المبيع ، كعبدين أو ثوبين ، فتلف أحدهما فهل يمتنع الرجوع رأساً ، أو يرجع في الموجود ، ويضرب مع الغرماء بقسط التالف من الثمن ؟ فيه روايتان ، ولعل مبناهما أن العقد هل يتعدد بتعدد المبيع أم لا ؟ وحكم انتقال البعض ببيع ونحوه حكم التلف ، نعم إن عاد المنتقل إلى ملك المفلس فهل هو كالذي
____________________
(2/122)
لم يزل ، أو كالذي لم يعد ؟ فيه وجهان مشهوران ، وحكى أبو محمد وجهاً ثالثاً : إن عاد بسبب جديد كبيع أو هبة ، ونحوهما فكالذي لم يعد ، وإن عاد بفسخ كالإِقالة ، والرد بالعيب فكالذي لم يزل ، وجعل أبو محمد من صور تلف البعض إذا استأجر أرضاً للزرع ، فأفلس بعد مضي مدة لمثلها أجرة ، تنزيلًا للمدة منزلة المبيع ، ومضي بعضها بمنزلة تلف بعضه ، وقال القاضي ، وصاحب التلخيص : له الرجوع ، ويلزمه تبقية زرع المفلس بأجرة المثل ، ثم هل يضرب بها مع الغرماء ، وهو المحكي عن القاضي أو يقدم بها عليهم وهو الذي في التلخيص ؟ على وجهين .
وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه فيما إذا تلف المبيع جميعه ، فإنه لا رجوع ، وكذلك لو انتقل عنه ، وفهم من كلامه أيضاً أن نقص الصفات كالهزال ، ونسيان صناعة ونحو ذلك لا يمنع الرجوع ، وهو كذلك ، لأن المتاع موجود بعينه ، وإذا أخذ إنما يأخذ بجميع حقه ، واختلف في وطء البكر ، وجرح العبد ، هل هو من فقد الصفات فلا يمنع الرجوع وبه قطع أبو بكر أو من فقد الأجزاء فيمنع ؟ على وجهين ، أما وطء الثيب فبمنزلة فقد الصفات على المشهور ، وأجرى ابن أبي موسى فيه الوجهين ، وإذا قيل بالرجوع مع الجرح ، فإن كان الجرح مما لا أرش له ، كالحاصل بفعل بهيمة أو المفلس ، ونحو ذلك فلا شيء له مع الرجوع ، وإن كان مما له أرش كالحاصل بفعل أجنبي ، نظر ما نقص من قيمته ، فرجع بقسطه من الثمن ، قاله أبو محمد ، وقياس جعله من باب فقد الصفات ، أنه لا شيء له مطلقاً .
( تنبيه ) : إذا خلط المبيع أو بعضه بما لا يتميز منه كأن كان زيتاً فخلطه بمثله ، ونحو ذلك فقال أبو محمد : يسقط حقه من الرجوع ، لأنه لم يجد عين ماله ، [ وقد يقال : إنه ينبني على الوجهين في أن الخلط هل هو بمنزلة الإِتلاف أم لا ؟ ولا نسلم أنه لم يجد عين ماله ] ، بل وجده حكماً .
( الشرط الثاني ) : أن لا يزيد المتاع زيادة متصلة ، كالسمن ، وتعلم صناعة ، ونحو ذلك ، على اختيار الخرقي ، والشيرازي ، ولم يعتبر ذلك الإِمام في رواية الميموني ، بل جوز للبائع الرجوع بالزيادة مجاناً ، ومناط ذلك أن المبيع مع الزيادة المتصلة هل خرج عن أن يكون بعينه أم لا ؟ وخرج من كلام الخرقي الزيادة المنفصلة ، فإنها لا تمنع الرجوع في الجملة ، بلا خلاف نعلمه بين الأصحاب ، لوجود المتاع بعينه ، ثمهل تكون الزيادة للمفلس في الجملة ويحتمله كلام الخرقي ، لمنعه من الرجوع مع الزيادة المتصلة ، وهو اختيار ابن حامد ، والقاضي في روايتيه ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وأبي محمد ، لأنهما نماء ملكه أو للبائع وهو اختيار أبي بكر ، والقاضي في الجامع ، تمسكاً بإطلاق أحمد في رواية حنبل في ولد الجارية ، ونتاج الداية ، أنه للبائع ، وهو محمول عند ابن أبي موسى ، وابن حامد ، والقاضي ، وأبي محمد على ما إذا باعها حاملًا ؟ عل قولين ، فعلى الأول لو كانت الزيادة ولد الأمة فهل يمتنع الرجوع مطلقاً ، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعاً
____________________
(2/123)
وهو قول ابن أبي موسى أو لا يمتنع إلا إن امتنع البائع من دفع القيمة ، أما إن دفع قيمة الولد فله الرجوع ، أو لا يمتنع مطلقاً ، بل تباع الأم وولدها ، ويصرف للبائع ما خص الأم من الثمن ، على أنها ذات ولد ؟ على ثلاثة أوجه .
ويدخل في قول الخرقي : أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها . ما إذا زادت بصناعة ، كقصارة ، ونحو ذلك ، وهو أحد الوجهين ، واختيار ابن أبي موسى ، ( والثاني ) وقال صاحب التلخيص : إنه المذهب لا يمنع ذلك الرجوع ، ثم هل تسلم للبائع مجاناً ، كالزيادة المتصلة على المنصوص أم عليه الأجرة ؟ فيه وجهان ، وقد تحرز الخرقي بقوله : مزيدة بما لا تنفصل زيادتها . عما إذا كان المتاع باباً فسمر فيه مسامير ، أو نحو ذلك ، فإن الزيادة تنفصل ، ويرجع البائع في عين ماله .
( الشرط الثالث ) : أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئاً ، فإن قبض منه شيئاً سقط حقه في الرجوع .
2045 لأن في الحديث في رواية لأبي داود ( أيما رجل باع سلعة ، فأدرك سلعته بعينها ، عند رجل قد أفلس ، ولم يقبض من ثمنها شيئاً فهي له ، فإن كان قضاه من ثمنها شيئاً فما بقي فهو أسوة الغرماء ) وفي معنى قبض البعض الإِبراء منه ، والله أعلم .
قال : ومن وجب له بشاهد فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه ويستحقوا .
ش : لأنهم غير مدعين ، واليمين إنما هي على المدعي مع شاهده .
2046 لقوله : ( البينة على المدعي ) واليمين لا تدخلها النيابة ومقتضى قول الخرقي أن المفلس إذا حلف صح حلفه ، وهو كذلك ، وأنه إذا لم يحلف لم يجبر ، وهو كذلك ، لاحتمال قيام شبهة عنده تمنعه من اليمين ، والله أعلم .
قال : وإذا كان على المفلس ديون مؤجلة لم تحل بالتفليس .
ش : هذا المذهب المشهور ، حتى أن القاضي جعله رواية واحدة ، لأن الأجل حق للمفلس ، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ، وعنه : يحل . حكاها أبو الخطاب ، دفعاً للضرر عن ربه ، ( وعنه ) : إن وثق لم يحل ، لزوال الضرر ، وإلا حل ، نقلها ابن منصور ، فإن قلنا بحلوله فهو كبقية الديون الحال ، وإن قلنا بعدم حلوله ، فإنه لا يوقف لربه شيء ، ولا يرجع على الغرماء به إذا حل ، نعم إذا حل قبل القسم شارك الغرماء ، [ وإن حل بعد قسمة البعض شاكهم أيضاً ، وضرب بجميع دينه ، وباقي الغرماء ] ببقية ديونهم ، والله أعلم .
____________________
(2/124)
قال : وكذلك في الدين الذين على الميت ، إذا وثق الورثة .
ش : أي لا يحل بالموت إذا وثق الورثة بأقل الأمرين ، من قيمة التركة ، أو الدين ، بكفيل مليء ، أو رهن يفي بالحق ، لأن الأجل حق للميت ، فورث عنه كبقية حقوقه .
2047 قال : ( من ترك حقاً أو مالًا فلورثته ) هذا هو المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ( والثانية ) وهي اختيار ابن أبي موسى : يحل . لأن ذمة الميت قد خربت ، أو في حكم الخراب ، لتعذر المطالبة ، والورثة لم يلتزموا الدين ، ولا رضي صاحبه بذممهم ، وتعلقه بالتركة فيه ضرر على الميت ، لأن ذمته مرتهنة بدينه .
2048 كما في الترمذي وحسنه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) وعلى رب الدين ، لاحتمال تلف التركة ، ولا نفع فيه للورثة ، لعدم تصرفهم في التركة إن قيل بتعلق الدين بها ، انتهى ، فإن لم يوثق الورثة حل على المشهور والمجزوم به للشيخين وغيرهما ، لغلبة الضرر ، وظاهر كلام أبي الخطاب في الانتصار أن الوارث لا يلزمه التوثيق إذا كانت ذمته مليئة ، وإنما يلزمه إذا كان على غير مليء .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) فعلى المذهب إن لم يكن له وارث فهل يحل الدين ، أو لا وينتقل المال إلى بيت المال ، ويضمن للغرماء ؟ فيه احتمالان ذكرهما في الانتصار ، ( الثاني ) لا خلاف نعلمه أن دين الميت المؤجل لا يحل بموته ، وكذلك لا يحل دين المفلس المؤجل بفلسه ، والله أعلم .
قال : وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يوقفه الحاكم فجائز .
ش : معنى إيقاف الحاكم هو تفليسه ، لأنه بالتفليس أوقفه عن التصرف في ماله ، ويحتمل أن يريد بإيقاف الحاكم له إظهار الحجر عليه ، بالمناداة عليه بأن فلاناً قد حجر الحاكم عليه فلا تعاملوه ، وبالجملة ما فعله المفلس قبل تفليس الحاكم له في ماله ، من بيع ، أو قضاء بعض الغرماء ، ونحو ذلك فهو جائز ، لأنه رشيد غير محجور عليه ، فنفذ تصرفه كغيره .
ومفهوم كلام الخرقي أن ما فعله في ماله بعد الحجر عليه لا يجوز ، أي لا يصح وهو كذلك ، وقد تقدم ، ويدخل في عموم المفهوم عتقه لبعض أرقائه ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي الخطاب ، وأبي محمد ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه ، والقاضي والشريف : ينفذ ، وإنما قيد ذلك بالمال لأن تصرفه في الذمة يصح مطلقاً ، لكن لا يشارك أصحابه بعد الحجر عليه الغرماء ، والله أعلم .
____________________
(2/125)
قال : وينفق على المفلس ، وعلى من تلزمه مؤونته من ماله ، إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه .
ش : ينفق على المفلس من ماله ، لأن ملكه باق .
2049 وقد قال : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) وكذلك ينفق على من تلزمه مؤنته للحديث ، وشرط أبو محمد للنفقة عليه وعلى من تلزمه مؤونته أن لا يكون له صناعة تفي بذلك ، والواجب من النفقة أدنى نفقة مثله بالمعروف ، وحكم الكسوة حكم النفقة ، والله أعلم .
قال : ولا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها .
ش : لأن حاجته داعية إلى ذلك ، فأشبه النفقة ، والكسوة ، ولابن حمدان احتمال أن من أدان ما اشترى به مسكناً ، أنه يباع ، ولا يترك له ، ولو كان المسكن عين ماله بعض الغرماء أخذه بالشروط السابقة ، وقد تقدم ذلك للخرقي ، وحكم الخادم المحتاج إليه حكم الدار ، وقد خرج من كلام الخرقي إذا كان له داران ، فإن إحداهما تباع ، لغناه عنها ، وكذلك لو كانت له دار واسعة ، لا يسكنها مثله ، ويشترى له مسكن مثله والله أعلم .
قال : ومن وجب عليه دين فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بمعسرته .
ش : من وجب عليه دين فإن كان مؤجلًا لم يطالب به ولم يلازم به ، وإن كان حالًا فطولب به وله مال ظاهر أمر بوفائه ، وإن لم يكن له مال ظاهر فذكر أنه معسر ، فإن صدقه الغريم أو لم يصدقه وقامت بينة كما سيأتي بذلك لم يتعرض له لقوله تعالى : 19 ( { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ) ، وإن لم يصدقه ولم تقم بينة بذلك ، فإن علم له مال ، أو كان دينه ثبت عن مال كالبيع والقرض والغالب بقاؤه ، أو من غير مال كالضمان ونحوه وأقر أنه مليء ، فالقول قول غريمه مع يمينه أنه لا يعلم عسرته بدينه ، وفي الرعاية أنه يحلف أنه موسر بدينه ، ولا يعلم إعساره به ، فإن نكل عن اليمين حلف المفلس وخلي سبيله ، وإن حلف حبس المدين ليظهر حاله إلى أن يقيم بينة ولو بعد يوم [ تشهد بتلف أو إعساره هذا هو التحقيق ، وفاقاً للمجد وغيره ، وفي التلخيص أنها لابد وأن تشهد بالتلف ، وظاهر كلامه : والإِعسار . وكذا في الرعاية ، قال : ] تشهد بذهابه وإعساره ، لا أنه لا يملك شيئا ، ثم إن شهدت بالإِعسار اعتبر خبرتها بباطنه وإن شهدت بالتلف لم يعتبر ذلك ، إذ التلف يطلع عليه كل أحد ، بخلاف الإِعسار ، وهل يحلف مع بينته ؟ فيه قولان ، والتحقيق منهما وقطع به أبو محمد في الكافي ، وأبو البركات ، وصححه ابن حمدان أنها إن شهدت
____________________
(2/126)
بالتلف فطلب منه اليمين على عسرته وجب عليه ذلك ، لأن اليمين على أمر محتمل ، خلاف ما شهدت به البينة ، وإن شهدت بالإِعسار فلا ، لما فيه من تكذيب البينة ، وإن لم يعلم له مال ، ولم يكن دينه عن مال ، كعوض النكاح وغيره ، ولم يقر بالملاءة به ، أو عن مال والغالب ذهابه ، فالقول قوله مع يمينه ، لترجحة جانبه ، إذ الأصل عدم المال ، ومن ثم يرجح جانب غريمه فيما إذا ثبت له مال إذ الأصل بقاؤه ، والخرقي رحمه الله لم يفرق بين حالة وحالة والمعروف التفرقة .
وقد علم من كلام الخرقي أن البينة تسمع على الإِعسار وهو كذلك .
2050 لحديث قبيصة بن المخارق وقد تقدم في الزكاة ( حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لبد أصابت فلاناً فاقه ) والله أعلم .
قال : وإذا مات فتبين أنه كان مفلساً لم يكن لأحد من الغرماء أن يرجع في عين ماله .
ش : هذا الشرط الرابع في رجوع البائع في عين ماله ، وهو أن يكون المفلس حياً ، فإن مات فلا رجوع له ، سواء مات بعد الحجر عليه أو قبله فتبين فلسه .
2051 لأن في بعض ألفاظ الحديث : عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، عن النبي : ( أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه منه ، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئاً ، فهو أحق به ، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء ) رواه مالك في الموطأ وأبو داود ، ولا يعترض بأنه مرسل ، إذ المرسل عندنا حجة مع أن أبا داود قد رواه أيضاً فوصله فقال : عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة أن النبي ولفظه ( وأيما امريء هلك وعنده متاع امرىء بعينه ، اقتضى منه شيئاً أو لم يقتض ، فهو أسوة الغرماء ) . وقول الشافعي : إنه موجود في حديث أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي أنه انتهى بالقول فهو أحق به ، وأنه يشبه أن يكون ما زاد من قوله : وإن مات . إلى آخره من رأيه لا روايته الظاهر خلافه ، وتركه الزيادة إن ثبت فلعله لعدم الحاجة إلى ذكرها إذاً ، مع كون الحكم لا يختل بتركها ، أو لنسيانها .
2052 واعتراضه بحديث ابن خلدة قاضي المدينة الذي رواه الطيالسي ، قال : 16 ( أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فأصاب رجل متاعه بعينه ، فقال أبو هريرة : هذا الذي قضى رسول الله أن من أفلس أو مات فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به ، إلا أن يدع الرجل وفاء ) . يجاب عنه بضعفه ، قال ابن المنذر : إنه مجهول الإِسناد ، وقال ابن عبد البر : يرويه أبو المعتمر ، عن ابن خلدة ، وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم وهذا الشرط أهمله صاحب التلخيص انتهى .
____________________
(2/127)
وقد بقي من شروط رجوع البائع فيما تقدم شروط ، ولم يتعرض لها الخرقي ( منها ) ما هو متفق عليه ، ومنها ما هو مختلف فيه ( أحدها ) أن لا يتغير المبيع تغيراً يزيل اسمه ، كأن كان حنطة فصار دقيقاً ، أو دقيقاً فصار خبزاً ، أو زيتاً فصار صابوناً ، أو غزلًا فصار ثوباً ، أو ثوباً فصار قميصاً ونحو ذلك ، لأن المبيع لم يبق بعينه ، واختلف فيما إذا كان بذراً فصار زرعاً ، أو بيضاً فصار فراخاً ونحو ذلك ، هل يسلك به سبيل الزيادة المتصلة كالجنين إذا صار ولداً ، فيجري في الرجوع فيه الخلاف السابق ، وهو رأي القاضي ، وصاحب التلخيص فيه ، أو سبيل ما تقدم مما تغير اسمه بصناعة ، فيمتنع الرجوع فيه ، وهو ظاهر كلام أبي محمد ؟ على قولين ( الشرط الثاني ) فيه ، وهو ظاهر كلام أبي محمد ؟ على قولين ( الشرط الثاني ) : أن لا يتعلق بالمبيع حق الغير ، كأن يجده مرهوناً ، لئلا يزال الضرر بالضرر ، ولأن الحديث ( من وجد متاعه عند رجل قد أفلس ) وهذا لم يجده عند المفلس ، واختلف فيما إذا كان عبداً فجنى ، هل يكون تعلق الجناية به مانعاً من الرجوع فيه ، ما في الرهن ، إذ حق الجاني مقدم على حق الراهن ، والمقدم على المقدم مقدم ، أو ليس بمانع ، لأن تعلق الجناية لا يمنع التصرف في الجاني بخلاف الرهن ؟ على وجهين ، وكذلك اختلف فيما إذا كان شقصاً مشفوعاً هل يمنع تعلق الشفعة به من الرجوع فيه ، لتعلق حق الشفعي به ابتداء ، وهو اختيار أبي الخطاب ، أو لا يمنع ، لأن بالرجوع يعود كما كان ، فيزول الضرر ، وهو اختيار ابن حامد ، أو إن طالب الشفيع امتنع الرجوع ، لتأكد حق الشفيع بالطلب [ وإن لم يطالب ] رجع ؟ على ثلاثة أوجه : ( الشرط الثالث ) أن يكون ثمن العين المبيعة حالًا ، فإن كان مؤجلًا فلا رجوع للبائع ، قاله أبو بكر في التنبيه ، وصاحب التلخيص فيه ، لعدم تمكنه من مطالبة الثمن إذاً الذي العجز عنه سبب الرجوع ، والمنصوص عن أحمد في رواية الحسن بن ثواب وعليه الجمهور أن هذا ليس بشرط ، لكن المنصوص أن المتاع يوقف إلى الأجل ، ثم عند انقضائه يخير البائع بين الأخذ والترك ، إعمالًا لحقيهما ، حق البائع في الرجوع ، وحق المفلس في الأجل ، وابن أبي موسى يقول : يؤخذ في الحال لعدم الفائدة في الوقف ( الشرط الرابع ) العجز عن أخذ الثمن ، فلو تجدد للمفلس مال بعد الحجر وقبل الرجوع فلا رجوع ، وقد تقدمت الإِشارة إلى هذا . ( الخامس ) كون البائع حياً ، فلا رجوع للورثة ، لظاهر الحديث ، وحكى الآمدي رواية أن هذا ليس بشرط ، فترجع الورثة ، وهو ظاهر كلام الشيخين ، لعدم اشتراطهم [ ذلك ] وعلى هذا مجموع الشرائط تسعة أو ثمانية أو سبعة ، والله أعلم .
قال : ومن أراد سفراً وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه .
ش : كمن أراد السفر من أهل مصر إلى الحجاز ، وعليه دين يحل في أول المحرم ونحو ذلك لما يلحق الغريم من الضرر بتأخير حقه ، والضرر منفي شرعاً قال : ( لا ضرر ولا ضرار ) وإن كان الدين لا يستحق إلا بعد مدة السفر ، كما إذا كان قدومه
____________________
(2/128)
في أواخر المحرم ، والدين يحل في أول ربيع ، ونحو ذلك ، فإن كان السفر للجهاد منع ، لما فيه من المخاطرة بالنفس ، فلا يؤمن فوات النفس ، وإن كان لغير الجهاد فروايتان ( إحداهما ) له منعه ، لاحتمال التأخير بحدوث حادث أو غيره ، فيلحق الغريم الضرر ( والثانية ) : وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي ليس له منعه ، لأن الأصل بل والغالب عدم الضرر ، إذ الأصل عدم الحادث ، وحيث قيل بالمنع فذلك معتبر بتوثيق برهن يفي بالحق ، أو كفيل مليء ، فيزول المنع لزوال الضرر إذاً .
( تنبيه ) : محل الخلاف على مقتضى كلام أبي محمد في السفر الطويل والله أعلم .
____________________
(2/129)
( كتاب الحجر )
الحجر في اللغة المنع [ والتضييق ] ومنه سمي الحرام حجراً ، قال تعالى : 19 ( { ويقولون حجراً محجورًأُ } ) أي حراماً محرماً ، ويسمى العقل حجراً لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته ، قال تعالى : 19 ( { هل في ذلك قسم لذي حجر } ) أي عقل ، وهو في الشرع منع خاص وهو : منع الصبي ، والمجنون ، والسفيه ، من التصرف في مالهم مطلقاً ، ومنع العبد ، والمكاتب ، والمريض والراهن والولي ، ونحوهم من تصرف خاص ، ثم الحجر تارة لحق نفسه ، كالحجر على الصبي ، والمجنون ، والسفيه ، وهذا الذي عقد الباب لأجله ، وتارة لحظ غيره ، وهو ما عدا ذلك .
والأصل في مشروعية الحجر قول الله تعالى : 19 ( { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } ) الآية وأضيفت الأموال إلى الأولياء لأنهم القائمون عليها ، المدبرون لها ، وقال تعالى : 19 ( { وابتلوا اليتامى } ) الآية ، وإذا ثبت الحجر على هذين ، ثبت على المجنون بطريق التنبيه . والله أعلم .
قال : ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ .
ش : هذا مما لا خلاف فيه في الجملة ، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً ، ويشهد له قول الله تعالى : 19 ( { وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } ) ، ولأن الحجر كان لمعنى ، فيزول بزوال ذلك المعنى ، وهل يعتبر مع ذلك حكم الحاكم ؟ أما في المجنون فلا يعتبر لظهوره ، وأما في غيره فثلاثة أوجه ( ثالثها ) يعتبر في حجر السفيه دون الصبي ، وهو الصحيح عند الشيخين وغيرهما .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه إنما حكم على الصبي ، وحكم المجنون والسفيه حكمه ، فيدفع إلى المجنون إذا عقل ، وإلى السفيه إذا رشد ، وحكم حاكم على الصحيح ، وقد يقال : إن كلامه يشمل الثلاثة ، إذ الرشد لا بد منه فيها ، وإذاً تقدير كلامه : ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله ، فإن كان صبياً فإذا بلغ ، وفيه شيء .
ومفهوم كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يدفع المال قبل البلوغ والرشد ، وهو صحيح ولو صار شيخاً ، لأن الله تعالى شرط للدفع ذلك ، والمشروط عدم عند عدم شرطه .
2053 وروى الجوزجاني في كتابه المترجم قال : كان القاسم بن محمد يلي
____________________
(2/130)
أمر شيخ من قريش ، ذي أهل ومال ، فلا يجوز له أمر في ماله دونه ، لضعف عقله .
ويستفاد من كلامه بطريق الإِشارة أنه يحجر على الصبي ونحوه ، وقد تقدم ذلك والله أعلم .
( تنبيه ) : البلوغ يحصل في حق الغلام والجارية بالاحتلام ، وهو خروج المني الدافق بلذة ، لقوله تعالى : 19 ( { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا } ) .
2054 وقول النبي : ( رفع القلم عن ثلاثة ، عن الصبي حتى يحتلم ) .
وبنبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل ، وفرج المرأة ، وحول الفرجين إن كان خنثى .
2055 لأن النبي لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ، فحكم بقتل مقاتلتهم ، وسبي ذراريهم ، وأمر بأن يكشف عن مؤتزرهم ، فمن أنبت فهو من المقاتلة ، ومن لم ينبت ألحق بالذرية ، وقال له النبي : ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ) .
2056 وعن عمر رضي الله عنه ، أنه كتب إلى عامله أن 16 ( لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه الموسى ) .
2057 وباستكمال خمس عشرة سنة لأن ابن عمر رضي الله عنهما قال : 16 ( عرضت على النبي يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة لم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ) . متفق عليه .
2058 وفي مسند الشافعي رضي الله عنه أن عمر بن عبد العزيز أخبر بذلك ، فكتب إلى عامله : 16 ( أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة ) .
2059 وتزيد الجارية بالحيض لقول النبي : ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) .
وأما الحمل فهو دليل إنزالها ، فيحكم ببلوغها إذا ولدت منذ ستة أشهر ، لأنه اليقين ، إذ الولد إنما يخلق من مائهما ، قال سبحانه وتعالى : 19 ( { فلينظر الإِنسان مِمَّ خلق ، خلق من ماء دافق ، يخرج من بين الصلب والترائب } ) . قال صاحب التلخيص فيه : فإن كانت ممن لا توطأ كأن طلقها زوجها ، وأتت بولد لأكثر مدة الحمل من حين طلاقه ، فيحكم ببلوغها قبل المفارقة .
____________________
(2/131)
( تنبيه ) : هل الإِنزال من أحد فرجي الخنثى المشكل علم على بلوغه ؟ فيه وجهان .
( أحدهما ) : لا ، لأن لا يكون إلا من أحدهما وهو مشكوك فيه ، والثاني نعم ، قال في التلخيص : لأن الاعتبار عندنا بالانتقال ، وهذا مختار أبي محمد ، لكنه لا يعتبر هذا [ البناء ، وفي الحيض ] أيضاً ، فأما إن حاض وأنزل فإنه يحكم ببلوغه عند القاضي ، وصاحب التلخيص وقيل : لا . والله أعلم .
قال : وكذلك الجارية وإن لم تنكح .
ش : حكم الجارية حكم الغلام ، عند الخرقي ، وأبي محمد ، فيدفع إليها مالها إذا رشدت وبلغت ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { وابتلوا اليتامى } ) الآية ، ومنصوص الإِمام أحمد . في رواية أبي طالب أنه لا يدفع إليها بعد بلوغها ورشدها ، حتى تتزوج وتلد ، أو يمضي عليها حول في بيت زوجها ، وهذا مختار أبي بكر والقاضي ، والشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة .
2060 لما روى سعيد بن منصور في سننه ، عن شريح أنه قال : 16 ( عهد إليّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولًاأو تلد ولداً ) . وعلى هذا إن لم تتزوج فقال القاضي : عندي أنها يدبفع إليها مالها إذا عنست ، أي كبرت وبرزت للرجال .
قال أبو محمد : ويحتمل دوام الحجر عليها مطلقاً . والله أعلم .
قال : والرشد الصلاح في المال .
ش : هذا المشهور المعروف في المذهب ، اتباعاً لتفسير ابن عباس رضي الله عنه .
2061 فإنه قال في قوله سبحانه : 19 ( { فإن آنستم منهم رشداً } ) : يعني صلاحاً في أموالهم . ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام ، فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا ، فعلى هذا إذا كان مصلحاً لماله ، دفع إليه ماله ، وإن كان مفسداً لدينه ، كمن يترك الصلاة ، أو يمنع الزكاة ، أو يغتاب الناس ، ونحو ذلك ، نعم إن كان فسقه يلزم منه تبذير المال ، كمن يشتري الخمر ، أو المغنيات ، ونحو ذلك فليس برشيد ، لا لفسقه ، بل لعدم حفظه ، وذهب ابن عقيل إلى أن الرشد الصلاح في المال وفي الدين ، قال : وهو الأليق بمذهبنا وقولنا ، بحسب الذرائع ، واستدل لذلك بالآية الكريمة ، فإنها نكرة في سياق الشرط فتعم والله أعلم قال : فإن عاوده السفه حجر عليه .
ش : إذا فك الحجر عن المحجور عليه بشرطه ، فعاود السفه أو جن أعيد الحجر عليه ، نظراً إلى دوران الحكم مع العلة .
____________________
(2/132)
2062 ويروى أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعاً ، فقال علي رضي الله عنه : 16 ( لآتين عثمان ليحجر عليك . فأتى عبد الله بن جعفر الزبير ، فقال : قد ابتعت بيعاً ، وإن علياً يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان ، )6 ( فيسأله الحجر علي . فقال الزبير : أنا شريكك في البيع . فأتى علي عثمان ، فقال : إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه . فقال الزبير : أنا شريكه في البيع . فقال عثمان : كيف أحجر على رجل شريكه الزبير ) .
( تنبيه ) : الذي يحجر هنا هو الحاكم لا غير ، ولا ينفك الحجر إلا بحكمه على الصحيح والله أعلم .
قال : فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله .
ش : من عامل السفيه بعد الحجر عليه ببيع أو قرض ، أو غيرهما لم تصح معاملته لأنه محجور عليه ، أشبه المجنون ، ثم ما أخذ منه يجب انتزاعه إن كان باقياً ، أو بدله أن كان تالفاً ، وما أخذه السفيه رد على مالكه إن كان باقياً ، وإن كان تالفاً فهو من ضمان مالكه ، علم بالحجر أو لم يعلم ، إذ مع العلم هو المتلف لما له ، حيث دفعه لمن ليس من أهل الدفع ، وسلطه عليه ، ومع عدم العلم هو المفرط ، حيث عامل من لم يعرف ، واختار ابن عقيل وجوب الضمان على السفيه ، لكونه من أهل الضمان ، سيما مع عدم العلم بالحجر ، ( وخرج ) بقيد المعاملة شيئان ( أحدهما ) ما قبضه السفيه بإذن مالكه ، لكن من غير أن يسلطه عليه ، كما لو أودعه ، أو أعاره فأتلف ذلك ، أو تلف بتفريطه ، كما لو أودعه ، أو أعاره فأتلف ذلك ، أو تلف بتفريطه ، فقال القاضي : يضمن ، نظراً إلى أن المالك لم يسلطه على ذلك ، بخلاف القرض ونحوه ، وقيل : لا يضمن ، لأن المالك مفرط ، حيث دفع المال لفاقد الأهلية ، ولعل منشأ الخلاف هل يصح استحفاظه أم لا ؟ لكن مقتضى كلام أبي البركات أن محل الخلاف فيما أتلفه ، أما ما تلف بتفريطه فإنه من ضمان مالكه بلا نزاع ، لأنه مفرط ، حيث دفعه في غير حرز ، ( الثاني ) : ما أخذه بغير اختيار صاحبه ، وأتلفه ، كأن غصب أو جنى ، فإن عليه ضمانه ، لانتفاء التفريط من المالك ، والله أعلم .
قال : وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حداً أو قصاصاً ، أو طلق زوجته لزمه ذلك .
ش : إذا أقر المحجور عليه لسفه بما يوجب حداً ، كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، أو قصاصاً كالقتل العمد ، أو قطع اليد ونحو ذلك لزمه ذلك ، لأنه تصرف في غير مال ، والحجر إنما وقع على المال ، وقد حكى ابن المنذر الإِجماع على ذلك ، وكذلك إذا طلق زوجته صح طلاقه ، لكونه غير مال ، وبطريق الأولى إذا خالع ، وحكم المفلس حكم السفيه ، والله أعلم .
قال : وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره .
____________________
(2/133)
ش : لئلا يزول معنى الحجر ، وقياساً على الصبي والمجنون ، ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله وغيره من الأصحاب أنه يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه ، لأنه مكلف ، وإنما منع من إعمال ما أقر به الحجر ، وقد زال ، فيلزمه ما أقر به ، واختار أبو محمد أنه لا يلزمه مطلقاً ، إذ المنع من نفوذ إقراره في حال الحجر عليه حفظ ماله ، ودفع الضرر عنه ، ونفوذه بعد فك الحجر عليه يلزم منه تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه وحكم ما يوجب الدين كجناية الخطأ والغصب ، ونحو ذلك حكم الدين والله سبحانه أعلم .
____________________
(2/134)
( كتاب الصلح )
ش : الصلح يتنوع أنواعاً ، صلح بين المسلمين وأهل الحرب ، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي ، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بنهما ، وصلح بين المتخاصمين في غير مال ، أو في المال وهو المراد هنا ، والأصل فيه [ عموم ] قوله تعالى : 19 ( { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ) وقوله تعالى : 19 ( { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً ، فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير } ) .
2063 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( الصلح بين المسلمين جائز ، إلا صلحاً حرم حلالًا ، أو أحل حراماً ) رواه الترمذي . وقال : حديث حسن صحيح . وأجمعت الأمة على جواز الصلح في الجملة والله أعلم .
قال : والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه ، فيصطلحان على بعضه ، فإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل .
ش : الصلح على الإِنكار جائز في الجملة ، لعموم قوله : ( الصلح بين المسلمين جائز ) ولأن الشريعة جاءت بجلب المصالح ، ودرء المفاسد ، وهذا كذلك ، إذ المدعي يأخذ عوض حقه الثابت له في اعتقاده ، والمدعى عليه يدفع ما يدفعه لدفع الشر عنه ، واليمين ، وحضور مجالس الحكام ، إلى غير ذلك ، ويتفرع على هذا أن الإِنسان إذا ادعى حقاً يعتقد ثبوته على إنسان ، فأنكره لاعتقاده أنه لا حق عليه ، ثم صالحه عنه بعوض ، جاز ، لما تقدم من أن المدعي يأخذ عوض حقه ، والمدعى عليه يدفع ذلك افتداء ليمينه ، ودفع الخصومة عنه .
2064 وفي الصحيح أن رجلين اختصما في مواريث درست بينهما ، فقال النبي : ( استهما وتوخيا ، وليحلل كل منكما صاحبه ) مختصر من حديث طويل ويكون هذا الصلح بيعاً في حق المدعي ، لاعتقاده أن الذي يأخذه عوض ماله ، حتى أنه إن وجد بما أخذه عيباً فله رده ، وإن كان شقصاً تثبت فيه الشفعة وجبت فيه ، اللهم إلا أن يكون المأخوذ بعض العين المدعاة ، فلا رد له ولا شفعة فيه ، لأنه يزعم أنه أخذ بعض حقه وترك بعضاً ، ويكون إبراء في حق المدعى عليه ، فلا يرد ما صالح عنه
____________________
(2/135)
بعيب ، ولا يؤخذ منه بشفعة ، لاعتقاده أنه لم يزل ملكه عنه ، وأن الذي دفعه إنما هو لافتداء اليمين ، وقطع الخصومة .
وإن كان المدعي عليه يعلم ما عليه فجحده ثم صالح عنه ، فالصلح باطل في حقه ، لأنه توصل بإنكاره إلى هضم الحق ، وأكل مال الغير بالباطل ، وهذا صلح حلل حراماً في الظاهر ، وكذلك لو ادعى المدعي شيئاً لا يعتقد أنه له ، ثم صالح عنه ، فالصلح أيضاً باطل في حقه ، لأنه أكل للمال بدعواه الباطلة الكاذبة ، والله أعلم .
قال : ومن اعترف بحق فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحاً ، لأنه هضم للحق .
ش : من اعترف بحق وصالح على بعضه فله حالتان ( إحداهما ) أن يمتنع من الأداء إلا بالمصالحة ، فهذا ليس بصلح صحيح ، لما علل به المصنف من أنه هاضم للحق ، آكل لمال الغير بامتناعه المحرم . ( الحالة الثانية ) أن يكون باذلًا ، وتقع المصالحة ، كأن يقول : صالحني بخمسين عن المائة التي لك عليّ ، أو على نصف دارك ، ونحو هذا ، فهل فيه روايتان ، المشهور منهما وهو مختار القاضي ، وابن عقيل وغيرهما ، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يصح ، لأنه صالح عن بعض ماله ببعض ، ( والثانية ) يصح ، لأن معنى الصلح الإِتفاق والرضا ، وقد حصل هذا من غير هضم للحق ، ولا امتناع من أداء الواجب ، وحقيقة هذا أن المدعي يرضى بترك بعض حقه وأخذ البعض ، فصار كما لو قال : أبرأتك من نصف المائة ، فأعطني نصفها ، أو وهبتك نصف داري . ونحو هذا ، وهذا غير ممنوع منه بالإِتفاق ، قال أبو البركات : وكذلك يخرج في قوله : أبرأتك من كذا على أن توفيني الباقي .
واعلم أن مقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يسمى الصالح على الإِقرار صلحاً ، وكذلك ابن أبي موسى ، وسماه القاضي وطائفة من أصحابه صلحاً ، وصورته الصحيحة عندهم أن يعترف له بعين فيعاوضه عنها ، أو يهبه بعضها ، أو بدين فيبرئه من بعضه ، ونحو ذلك فيصح إن لم يكن بشرط ، ولا امتناع من أداء الحق بدونه ، قال أبو محمد : والخلاف في التسمية ، أما المعنى فمتفق عليه ، وهو فعل ما عدا وفاء الحق وإسقاطه ، على وجه يصح ، والله أعلم .
قال : وإذا تداعى نفسان جداراً معقوداً ببناء كل واحد منهما ، تحالفاً وكان بينهما .
ش : لاستوائهما في الدعوى بلا مرجح ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن كان محلولاً من بنائهما .
ش : أي تحالفا وكان بينهما ، لما تقدم ، وصفة اليمين قال أبو محمد : أن يحلف كل واحد منهما على نصف الحائط أنه لو ولو حلف كل واحد منهما على جميع الحائط أنه له دون صاحبه جاز ، وكان بينهما ، قلت : والذي ينبغي أن تجب
____________________
(2/136)
اليمين على حسب الجواب والله أعلم .
قال : وإن كان معقوداً ببناء أحدهما كان له مع يمينه .
ش : لأنه ترجح بالعقد ببنائه دون صاحبه ، واليمين في جنبة أقوى المتداعيين ، لكن شرط هذا العقد أن لا يمكن إحداثه عادة ، عند القاضي وأبي البركات ، وظاهر كلام الخرقي الإِطلاق ، والله أعلم .
____________________
(2/137)
( كتاب الحوالة والضمان )
ش : الحوالة مشتقة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة ، ولها شبه بالمعاوضة ، من حيث إنها دين ، وشبه بالاستيفاء ، من حيث إنه يبرأ بها المحيل ، ولترددها بين ذلك ألحقها بعض الأصحاب بالمعاوضة ، وبعضهم بالإِستيفاء ، واختار أبو محمد أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه ، ليس بمحمول على غيره ، إذ لو كانت بيعاً للزم بيع الدين بالدين ، ولما جاز التفرق قبل القبض ، لأنه بيع مال الربا بجنسه ، ولجازت بين جنسين كالبيع ، قال : وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله ( والضمان ) يأتي إن شاء الله تعالى بيانه ، والألف واللام فيه للجنس ، فيشمل ضمان المال ، وضمان النفس ، والأصل في جواز الحوالة في الجملة الإِجماع .
2065 وسنده ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( مطل الغني ظلم ، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع ) .
قال : ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي ، فقد برىء المحيل أبداً .
ش : من أحيل بحقه من عليه مثل ذلك الحق فرضي بالحوالة ، برىء المحيل ، سواء أمكن استيفاء الحق ، أو تعذر لمطل أو فلس ، أو غير ذلك ، أما مع استيفاء الحق فواضح ، إذ وضع الحوالة انتقال الحق من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، وإذاً يبرأ المحيل ، وأما مع تعذره فلأنه مفرط ، حيث لم يشترط اليسار .
2066 ويروى أن حزناً جد سعيد بن المسيب كان له على علي رضي الله عنه دين ، فأحاله به ، فمات المحال به عليه ، فأخبره فقال : اخترت علينا أبعدك الله . فأبعده بمجرد احتياله ، ولم يخبره أن له الرجوع ، وهذا هو المشهور في المذهب ، وبه قطع أبو البركات وغيره ، قال أبو محمد : وعن أحمد ما يدل على أن المحال عليه إذا كان مفلساً ، ولم يعلم المحتال بذلك ، فله الرجوع ، قال : وبه قال جماعة من أصحابنا ، إذ الفلس عيب في المحال عليه ، فكان له الرجوع ، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة .
ويستثنى من كلام الخرقي إذا شرط المحتال ملاءة المحال عليه ، فإنه إذا بان معسراً يرجع على المحيل ، بلا خلاف ، لأنه لا تلزمه الحوالة على غير مليء لمفهوم
____________________
(2/138)
الحديث ، ومن هنا يتبين لك أن الرضى مسقط لرجوع المحتال على المحيل ، لا أنه شرط لصحة الحوالة ، إذ الحوالة تصح بدونه ، لكن لصحتها شروط ( أحدها ) : رضى المحيل اتفاقاً ، ( الثاني ) : تماثل الحقين ، وقد أشار الخرقي إلى ذلك ، والتماثل في الجنس ، كدراهم بدراهم ، وفي الصفة ، كناصرية بناصرية ، وفي الحلول أو التأجيل ، كحال بحال ، ومأجل بمؤجل ، بشرط اتفاق الأجلين فإن أحاله بناصرية على دمشقية أو بالعكس ، لم يصح عند أبي محمد ، وكذلك عند من ألحقها بالمعاوضة ، إذ اشترط التفاوت فيهما ممتنع كالقرض ، وأما من ألحقها بالاستيفاء فقال : إن كان تفاوتاً يجبر على أخذه عند بذله كالجيد عن الرديء صحت وإلا فلا ، ( الشرط الثالث ) أن يكون بمال معلوم كالمثليات لا بمالًا يصح السلم فيه كالجوهر ونحوه ، وفيما يصح السلم فيه غيل المثلي كالمذروع والمعدود وجهان ، وفي الحوالة بإبل الصدقة على من عليه مثلها وجهان ، وإن أحال بإبل الدية على إبل القرض صح إن قيل برد المثل في القرض ، وإن قيل برد القيمة لم يصح ، لاختلاف الجنس ، وفي العكس كأن أحال المقرض بإبل الدية لا يصح مطلقاً ، لأنا وإن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفته ، وقيمته [ ومن عليه الدية لا ] يلزمه ذلك ( الرابع ) الديون على أربعة أقسام ، دين سلم ، ودين كتابة ، وما عداهما وهو قسمان ، مستقر ، وغير مستقر ، كثمن المبيع في مدة الخيار ، [ ونحو ذلك ] ، فلا تصح الحوالة بدين السلم ، ولا عليه ، وهل يجري هذا الحكم على رأس ماله بعد الفسخ ؟ فيه وجهان ، وتصح بدين الكتابة الصحيح دون عليه ، ويصحان في سائر الديون ، مستقرها وغير مستقرها ، وقيل : لا تصح على غير مستقر بحال ، وإليه ذهب أبو محمد ، وجماعة من الأصحاب ، وقيل : ولا بما ليس بمستقر ، وهو اختيار القاضي في المجرد ، وتبعه أبو الخطاب والسامري ، والله أعلم .
قال : ومن أحيل بحقه على ملئ فواجب عليه أن يحتال .
ش : نص أحمد رحمه الله على ذلك ، اتباعاً لظاهر الأمر في الحديث ، وفسر المليء في رواية إسماعيل العجلي بأن يكون بماله ، وقوله ، وبدنه ، قلت : فالمال أن يقدر على الوفاء ، والقول أن لا يكون مماطلًا ، والبدن أن يمكن حضوره إلى مجلس الحكم ، هذا الذي يظهر لي في التفسير ، فإن امتنع من القبول أجبر على ذلك ، لكن هل تبرأ ذمة محيلة قيل أن يجبره الحاكم ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) نعم ، فلو هلك المحال عليه معسراً فلا شيء له ، وهي التي صححها القاضي يعقوب . ( والثانية ) : لا ، لكن تنقطع المطالبة بمجرد الحوالة ، ويصير بمثابة من بذل ماعليه من دين ، فامتنع صاحبه من القبض ، فإن الحاكم يجبره على القبض ، ولا تبرأ ذمة الغريم قبل ذلك .
وفهم من كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يعتبر رضى المحتال ، ولا المحال عليه ، وهو الصحيح ، أما المحتال فللحديث ، وأما المحال عليه فلأن للإِنسان أن يستوفي حقه
____________________
(2/139)
بنفسه وبوكيله ، والمحتال قد أقامه المحيل مقام الوكيل ، والله أعلم .
قال : ومن ضمن عنه حق بد وجوبه عليه ، أو قال : ما أعطيته فهو علي فقد لزمه ما صح أنه أعطاه .
ش : الضمان مشتق عند أبي محمد من الضم ، فهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق ، ورد بأن لام الكلمة في الضم ميم ، وفي الضمان نون ، وشرط صحة الإِشتقاق وجود حروف الأصل في الفرع ، ويجاب بأنه من الإِشتقاق الأكبر ، وهو المشاركة في أكثر الأصول ، مع ملاحظة المعنى ، وعند القاضي من التضمن فذمة الضامن تتضمن الحق ، وعند ابن عقيل : من الضمن ، فذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه ، والخلاف في الإِشتقاق ، أما المعنى فواحد ، وعرفه أبو البركات بأنه التزام الإِنسان في ذمته دين المديون ، مع بقائه [ عليه ] ، وليس بمانع ، لدخول كل من لم يصح تبرعه ، ولا جامع ، لخروج ضمان ما لم يجب ، والأعيان المضمونة ، ودين الميت إن برىء بمجرد الضمان عنه ، على رواية .
وهو جائز في الجملة بالإِجماع ، وسنده قوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير ، وأنا به زعيم } .
2067 قال ابن عباس : الزعيم الكفيل .
2068 وقول النبي : ( الزعيم غارم ) إلى غير ذلك من الأحاديث . إذا تقرر هذا عندنا إلى لفظ الخرقي رحمه الله ، فقوله : ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فقد لزمه . أي لزم الضامن ذلك الحق ، وذلك لما تقدم من قول النبي : ( الزعيم غارم ) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه . وقوة كلام الخرقي تقتضي أنه لا بد من رضى الضامن ، وهو واضح ، إذ الإِنسان لا يلزمه عقد لم يلتزمه ، لكن لا بد مع رضاه من أن يصح تبرعه ، ومقتضى كلامه أنه لا يعتبر رضى المضمون له ، ولا رضى المضمون عنه ، ولا معرفتهما ، لحديث أبي قتادة ، وقال القاضي : تعتبر معرفتهما . وقيل : تعتبر معرفة المضمون له ، دون المضمون عنه وقوله أو قال : ما أعطيته فهو علي . فهذه مسألة ضمان المجهول ، وضمان ما لم يجب ، ومذهبنا الصحة فيهما ، فما ثبت أنه أعطاه ولو في المستقبل فإنه يلزمه ، للآية الكريمة ، إذ حمل البعير مجهول ، وغير واجب حينئذ .
وقول الخرقي : ما أعطيته . قال أبو محمد : مراده الإِستقبال ، دفعاً للتكرار ، ولأنه عطفه على الأول ، فدل على أنه غيره ، إذ العطف يقتضي المغايرة ، واحتمل أن مراده الماضي ، ويكون فائدة المسألة بيان صحة ضمان المجهول ، وقد حكى الأصحاب في نحو هذا اللفظ ، هل هو للماضي أو للمستقبل وجهين ، ذكرهما ابن أبي موسى ،
____________________
(2/140)
وكذلك النحاة قالوا : الفعل الماضي الواقع صلة لموصول ، أو لنكرة موصوفة ، يحتمل أن يحمل على الماضي ، كما في قوله تعالى : 19 ( { الذين قال لهم الناس } ) ويحتمل أن يحمل على المستقبل ، كما في قوله تعالى : 19 ( { إلا الذين تابوا } ) أي يتوبوا ، ويرجح الأول إعمال الحقيقة والله أعلم .
قال : ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن .
ش : لا يبرأ المضمون عنه بنفس الضمان ، بل يثبت الحق في ذمة الضامن ، مع بقائه في ذمة المضمون عنه ، لقول النبي : ( نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه ) .
2069 وفي المسند عن جابر رضي الله عنه قال : توفي صاحب لنا ، فأتِينا به النبي ليصلي عليه ، فخطا خطوة ثم قال : ( أعليه دين ) ؟ قلنا : ديناران ، فانصرف ، فتحملهما أبو قتادة فقال : الديناران عليَّ ، فقال رسول الله : ( وجب حق الغريم ، وبرىء الميت منهما ؟ ) قال : نعم . فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك : ( ما فعل الديناران ) ؟ قال : إنما مات أمس . قال : فعاد إليه من الغد ، فقال : قد قضيتهما ، فقال رسول الله : ( الآن بردت جلدته .
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى أن المضمون عنه إذا كان ميتاً برىء بمجرد الضمان عنه ، استدلالًا بقوله في حديث جابر : ( وبرىء الميت منهما ) ويجاب عنه بأنه هذا ليس إخباراً منه ببراءته ، وإنما هو استفهام من أبي قتادة ، في أنه هل ضمن متبرعاً لا ليرجع ، ولهذا أجابه بنعم .
( تنبيه ) : حكى أبو الخطاب وأبو محمد وغيرهما هذه الرواية في الميت مطلقاً ، وخصها أبو البركات بالميت المفلس والله أعلم .
قال : فمتى أدى رجع به عليه ، سواء قال له : اضمن عني أو لم يقل .
ش : إذا أدى الضامن الدين لم يخل من أحوال ، ( الأول ) ضمن بإذنه وأدى بإذنه ، ( والثاني ) ضمن بإذنه وأدى بغير إذنه ( الثالث ) بالعكس ، ولا خلاف عندنا أنه يرجع في هذه الصور الثلاث ، ( الرابع ) ضمن وقضى بغير إذنه ، لكن نوى الرجوع فعنه لا يرجع ، لأن أبا قتادة لو استحق الرجوع لصار له دين على الميت ، وإذاً لم يصل النبي عليه ، لعدم فائدة الضمان إذاً ، إذ ذمة الميت لم تزل مشغولة بدين ، ( وعنه ) وهي اختيار الخرقي ، والقاضي ، وأبي الخطابي ، والشريف ، وابن عقيل ، والشيرازي وابن البنا ، وغيرهم يرجع ، لأنه قضاء مبرىء من واجب عليه ، فكان من ضمان من هو عليه ، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه ، وقوله تعالى : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوه
____________________
(2/141)
أجورهن } ) وهو شامل لما إذا أرضعت بأمره أو بلا أمره ، وأما حديث أبي قتادة فإنما قضى متبرعاً ، لعلمه أنه لا وفاء له ، وقصده أن النبي يصلي عليه ، بل قد يقال : في حديث أبي قتادة دليل على أن غير المتبرع يرجع ، لقوله له : ( وجب حق الغريم ) أي عليك ( وبرى الميت منهما ) ( الحال الخامس ) إذا ذهل عن قصد الرجوع وعدمه ، وظاهر كلام الخرقي وتبعه صاحب الوجيز أنه يرجع ، وإذاً المقتضي للرجوع هو تأدية الواجب عن الغير والمسقط له هو قصد التبرع وقد عرفت من هذا ( حالًا سادساً ) وهو إذا نوى التبرع ، فلا يرجع بلا ريب ، وهذه الصور تستثنى من عموم كلام الخرقي ، والله أعلم .
قال : ومن تكفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها .
ش : الكفالة بالنفس صحيحة ، في قول الجمهور ، حتى قيل : إنه إجماع ، لقول الله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام : 9 ( { لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } ) وفيه نظر ، إذ الظاهر أن المراد بالموثق اليمين ، ولأن النفس يجب تسليمها بعقد ، فوجب تسليمها بالكافلة كالمال ، فعلى هذا إن لم يسلم النفس مع بقائها لزمه ما عليها ، لعموم قوله : ( الزعيم غارم ) وقياساً على الكفالة بالمال .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه لا بد من رضى الكفيل ، وهو واضح ، وأنه لا يشترط لصحتها رضى الكفيل ، وهو واضح ، وأنه لا يشترط لصحتها رضى المكفول له ، وهو أحد الوجهين ككفالة المال ، والوجه الآخر يشترط ، لئلا يفوت معنى الكفالة ، إذ معناها حضور المكفول به ، وإذا كان بلا إذنه لم يلزمه الحضور .
وشرط صحة الكفالة بالنفس أن تكون بالمال ، فلا تصح الكفالة ببدن من عليه حد أو قصاص ، وتخصيص الخرقي الكفالة بالنفس يخرج منه الكفالة بالعين وهو واضح في غير المضمونة ، وفي المضمونة وجهان ، والله أعلم .
قال : فإن مات برىء المتكفل .
ش : إذا مات المكفول به برىء المتكفل ، لأن الكفالة على الحضور ، وبموت المكفول به يسقط عنه الحضور ، وإذا سقط عنه الحضور سقط عن فرعه وهو الكفيل ، والله سبحانه أعلم .
____________________
(2/142)
( كتاب الشركة )
الشركة بوزن نعمة ، وبوزن سرقة ، وحكى بعضهم شركة بوزن ثمرة ، وهي : الاجتماع في استحقاق أو تصرف . ، وهي جائزة بالإِجماع ، وسند ذلك قوله سبحانه وتعالى : { وإن كثيراً من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض } أي من الشركاء .
2070 وقول النبي : ( يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا ) والشركة على ضربين ، شركة ملك ، وشركة عقود ، وهذا المقصود هنا .
قال : وشركة الأبدان جائزة .
ش : نص أحمد على ذلك .
2071 مستدلًا بأن النبي أشرك بين عمار وسعد وابن مسعود ، فجاء سعد بأسيرين ، ولم يجيئا بشيء ، ومعنى شركة الأبدان أو يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما ، وكلام الخرقي يشمل [ الإِشتراك ] في المباح ، [ كالإِشتراك ] في الإِصطياد ، والمعادن ونحو ذلك ، وكلام أحمد واستدلاله نص فيه ، وإطلاق الخرقي يشمل مالو اختلفت الصنائع ، وهو أحد الوجهين ، واختيار القاضي ، لأن من لزمه عمل شيء لا يعرفه أمكنه القيام به ، بأن يستأجر عليه من يفعله ، ونحو ذلك ( والثاني ) وهو اختيار أبي الخطاب لا يصح ، لئلا يلزم الشخص ما لا قدرة له على فعله ، والله أعلم .
قال : وإن اشترك بدنان بمال أحدهما ، أو بدنان بمال غيرهما ، أو بدن ومال ، أو مالان وبدن صاحب أحدهما ، أو بدنان بماليهما ، تساوى المال أو اختلف ، فكل ذلك جائز .
ش : أنواع الشركة الصحيحة أربعة ( أحدها ) شركة الأبدان وقد تقدمت ، ( الثاني ) : شركة العنان ، وهي المذكورة في قوله : أو بدنان بماليهما . أي يشترك رجلان بماليهما ، ليعملا فيه بأبدانهما ، وهي جائزة بالإِجماع ، حكاه ابن المنذر . ومأخوذة قيل : من تساوي عناني الفرسين في السير . لأن كلا من الشريكين مساو لصاحبه في المال والتصرف ، وقيل : بل من ( عن ) إذا عرض ، فكل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه ، وقيل : من عانه إذا عارضه . فكل واحد منهما عارض الآخر بمثل ماله
____________________
(2/143)
وعمله ، ( الثالث ) : شركة المضاربة ، وهي المذكورة في قوله : أن يشترك بدنان بمال أحدهما ، أو بدن ومال . والأصل فيها أن يكون من أحدهما المال ، ومن الآخر العمل فيه .
2072 والأصل في جوازها ما روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه ، أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرجا في جيش إلى العراق ، فتسلفا من أبي موسى مالًا وابتاعا به متاعاً ، وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه ، فأراد عمر رأس المال والربح كله ، فقالا : لو تلف كان ضمانه علينا ، فلم لا يكون ربحه لنا . فقال رجل : يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً ؟ قال : قد جعلته . وأخذ منهما نصف الربح ، وهذا دليل على جواز القراض .
2073 وقد روي جوازه أيضاً عن عثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وحكيم بن حزام ، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة فكان إجماعاً ، مع أن ابن المنذر قد حكى ذلك إجماعاً ، وحكمة الشرع تقتضي جوازها . [ إذ الدراهم والدنانير لا تنمي إلا بالتجارة ، وقد يملكها من لا يخسن التجارة ، ويحسن التجارة من لا يملكها ، فالحكمة تقتضي جوازها من الجانبين ] ، وهي مأخوذة قيل من الضرب في الأرض ، وهو السفر فيها غالباً للتجارة ، قال سبحانه : { وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } وقيل : بل من ضرب كل واحد منهما في الربح وتسمى قراضاً ، قيل : من القطع ، يقال : قرض الفأر الثوب . إذا قطعه ، فصاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلمها للعامل ، واقتطع له قطعة من الربح . وقيل : بل من المساواة والموازنة ، يقال : تقارض الشاعران ، إذا وازن كل واحد منهما الآخر بشعره ، وهنا من العامل العمل ، ومن الآخر المال فتوازنا . انتهى .
وأما إذا اشترك بدنان بمال أحدهما فهذه مضاربة يشترط فيها عمل رب المال ، والذي ذكره الخرقي [ وهو ] منصوص أحمد في رواية أبي الحارث الجواز لأن من لا مال له يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره ، وهذا [ هو ] حقيقة المضاربة ، وذهب ابن حامد ، وتلميذه ، وتلميذ تلميذه القاضي ، وأبو الخطاب ، وطائفة إلى أن هذا لا يصح ، إذ وضع المضاربة تسليم المال إلى المضارب ، ومع اشتراط عمله لا تسليم وعلى هذا في اشتراط عمل غلامه وجهان ، ( المنع ) وهو قول القاضي ، إذ يد الغلام كيد السيد ( والجواز ) إذ هو مال فصح [ كما ] لو ضم إليه بهيمة يحمل عليها ونحو ذلك .
( الرابع ) : شركة الوجوه ، وهي أن يشترك اثنان على أن يشتريا بجاههما ديناً ، وهي جائزة ، إذ معناها وكالة كل واحد منهما صاحبه في الشراء والبيع ، والكفالة بالثمن ، وكل ذلك صحيح ، ولأنها مشتملة على مصلحة من غير مضرة ، وأخذها أبو
____________________
(2/144)
محمد من [ قول ] الخرقي : أو بدنان بمال غيرهما ، كيلا يخل بنوع من أنواع الشركة وقال القاضي : مراد الخرقي بهذا أن يدفع واحد ماله إلى اثنين مضاربة ، فيكون المضاربان شريكين في ربح بمال غيرهما [ لأنهما إذا أخذا المال بجاههما فلا يكونان مشتركين بمال غيرهما ] وهذا الذي قال القاضي هو ظاهر اللفظ ، وعلى هذا يكون هذا نوعاً من أنواع المضاربة قد ذكر للمضاربة ثلاث صور ، وبيقي من كلام الخرقي قوله : أو مالان وبدن صاحب أحدهما ، وهذا يجمع شركة ومضاربة ، فمن حيث إن من كل واحد منهما المال ، يشبه شركة العنان ، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه بجزء من الربح هو مضاربة ، ونبه الخرقي رحمه الله بهذا على أنه كما يجوز كل واحد من أنواع الشركة الى انفراده ، كذلك يجوز اجتماع الجميع والله أعلم .
قال : والربح على ما اصطلحا عليه .
ش : يعني فيما تقدم من أنواع الشركة ، أما في المضاربة فإجماع حكاه ابن المنذر ، وأما في شركة العنان فاعتماداً على الشرط ، ولأن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر فيجوز اشتراط زيادة في الربح في مقابلة عمله ، كاشتراط الربح في مقابلة عمل المضارب ، وكذلك شركة الأبدان لأنهما قد يتفاضلان في العمل ، وأما شركة الوجوه فإن قلنا : هي داخلة في كلام الخرقي ، اقتضى كلامه أن يكون حكمها كذلك وهذا الذي قطع به أبو البركات .
وقال أبو محمد : إنه قياس المذهب ، لأنها شركة فيها عمل ، فجاز ما اتفقا عليه كسائر الشركات ، وقال القاضي : الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى لأن الربح يستحق بالضمان ، لوقوع الشركة عليه خاصة ، والضمان لا تفاضل فيه .
وأما ما جمع شركة ومضاربة كأن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما ، مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفاً ليعمل أحدهما فيهما فلا بد وأن يشترط للعامل أكثر من ربح ماله ، كأن يشترط له الثلثان ، أو النصف والربع ، ونحو ذلك في مسألتنا ، ليكون الزائد على ربح ماله مقابلًا لعمله في نصيب صاحبه ، ولو جعل للعامل في صورتنا دون النصف لم يصح ، لأن الربح : [ استحقاقه إما بمال أو بعمل ، وهذا الجزء الزائد على النصف الذي شرط ] لغير العامل ليس في مقابلة مال ، ولا عمل ، ولو جعلا الربح والحال هذه بينهما نصفين فلا شركة ولا مضاربة ، إذ شركة العنان وضعها الشركة في المال والعمل ، وقد فات العمل من أحدهما ، والمضاربة وضعها جعل جزء من [ الربح في مقابلة عمل ] العامل ، وقد فات الجعل ، ويكون هذا إبضاعاً وهو جائز إن لم يكن عوضاً [ عن قرض ، كأن كان العامل اقترض الألف ، وجعل عمله في مال صاحبه عوضاً ] عن قرضه ، فإن ذلك غير جائز ، هذا كله إذا اصطلحا على ذكر شيء ، فأما إن لم يصطلحا على شيء فإن في المضاربة يكون الرح لمالك المال ، وللعامل أجرة المثل ، وفي العنان يكون الربح على قدر المالين ، وفي شركة الوجوه على قدر ملكي
____________________
(2/145)
المشتري ، وفي شركة الأبدان يقسم أجرة ما تقبلاه بالسوية ، وهل يرجع كل واحد على الآخر بأجرة عمله ؟ فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : والوضيعة على قدر المال .
ش : الوضيعة تختص المال وتتقدر به ، بلا خلاف نعلمه ، ففي شركة العنان على قدر المالين ، وفي شركة الوجوه على قدر ملكي المشتري ، وفي المضاربة تختص المال لا تتعداه إلى العامل ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم .
ش : أو يجعل نصيبه كله من الربح دراهم كأن يشترط له ثلث الربح [ مثلًا ] وعشرة دراهم ، أو يشترط له مائة درهم ، من غير جزء من الربح ، وفي كليهما يفسد العقد ، وقد حكاه ابن المنذر في القراض إجماعاً ، والمعنى في ذلك احتمال أن لا يربح غيرها ، فيحصل على جميع الربح ، وفي ذلك ضرر وغرر بالآخر ، والشريعة تأباه ، والله أعلم .
قال : والمضاربة إذا باع بنسيئة بغير أمير ضمن في إحدى الروايتين والأخرى : لا يضمن .
ش : إذا أذن للمضارب أو لغيره من الشركاء أن يبيع نسيئة أو أمر بذلك أو نهى [ عنه ] اعتمد الإِذن ، ومتى خالف ضمن ، وإن أطلق له جاز أن يبيع بالحال ، وهل يجوز أن يبيع بالنسيئة ؟ فيه روايتان ، ( الجواز ) ، واختاره ابن عقيل ، إذ ذلك عادة التجار فكان مأذوناً له عرفاً ، ( والمنع ) إذ التصرف المأذون فيه ما كان على وجه الحظ ، ومع النسيئة لاحظ ، لما في ذلك من التغرير بالمال ، فكأنه منهي عنه عرفاً ، فعلى الأول : لا ضمان عليه ما لم يفرط ببيع من لم يوثق به ، أو من لم يعرفه ، وعلى الثاني : يلزمه ضمان الثمن . ( قلت ) : وينبغي أن يكون حالًا ، والبيع صحيح على مقتضى كلام الخرقي ، وجعله أبو محمد من تصرف الفضولي ، فيبطل على الصحيح ، والله أعلم .
قال : وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر ، إذا كان فيه ضرر على الأول ، [ فإن فعل وربح رده في شركة الأول ] .
ش : إذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول ، كأن يكون المال الثاني كثيراً ، يشغله عن [ العمل في ] الأول أو الأول كثير ، متى اشتغل بغيره تعطل العمل في بعضه ، إذ وضع المضاربة على الحظ والنماء ، ومع وجود الضرر لاحظ ولا نماء ، فإن خالف وفعل رد ما ربح في المضاربة الثانية في [ شركة ] الأول ، لأن الأول والحال هذه يستحق منافعه ، فيستحق ما حصل في مقابلتها ، وخرج من كلام الخرقي إذا لم يكن على الأول ضرر بالمضاربة ، لقلة المال ونحو ذلك ، فإن للمضارب المضاربة لآخر ، إذ منافعه لم تملك عليه ، إنما الذي ملك عليه فعل ما فيه حظ
____________________
(2/146)
ونحون ، والله أعلم .
قال : وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال .
ش : وضع المضاربة أن ينض مال المضاربة ، ثم يقسم الربح ، والله أعلم .
قال : وإذا اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى ، جبرت الوضيعة من الربح .
ش : لأن رأس المال واحد ، فلا يستحق المضارب فيه ربحاً حتى يستوفي رأس المال ، كالتي قبلها ، والله أعلم .
قال : وإذا تبين للمضارب أن في يده فضلًا ، لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال .
ش : لأن الربح وقاية لرأس المال ، فربما خسر بعد ، فتبين أن لا ربح ، ولأن رب المال شريكه في الربح ، فلا يقاسم نفسه إلا بإذنه ، وخرج إذا أذن رب المال لأن الحق لهما ، لا يخرج عنهما ، نعم : متى خسر المال والحال هذه لزم العامل رد أقل الأمرين مما أخذه ، أو نصف الخسران ، إذا قسما الربح نصفين .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن العامل يملك الربح بنفس الظهور ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله والمنصوبة في المغني للخلاف ، اعتماداً على الشرط ، إذ هو صحيح ، فوجب العمل بمقتضاه . ( والرواية الأخرى ) لا يملكه إلا بالقسمة ، إذ لو ملكه بالظهور لكان ربحه له ، وكان شريكاً لرب المال به ، وكل ذلك ممتنع ، والله أعلم .
قال : وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما ، كان الربح بينهما والوضيعة على المال .
ش : لا إشكال في صحة شرط الربح ، ولا في بطلان اشتراط الوضيعة أو بعضها على المضارب ، لمنافاة هذا الشرط لمقتضى المضاربة ، ومقتضى كلام الخرقي أن العقد لا يفسد بهذا الشرط ، وهو منصوص أحمد والمذهب ، لعدم تأثيره في جهالة الربح ، وعنه يفسد العقد ، لأنه شرط فاسد ، أشبه اشتراط فضل دراهم ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدين الذي عليك .
ش : حكى ابن المنذر هذا إجماعاً عمن يحفظ عنه من أهل العلم ، لأن المال ما دام في يد المدين لا يصير للغريم إلا بقبضه ، ولم يوجد القبض هنا ، وخرج أبو البركات الصحة من صحة المضاربة بالعروض ، لأنه إذا اشترى شيئاً للمضاربة ، ودفع الدين ، فقد وقع الشراء [ والدفع بإذن الغريم ] فيصير كما لو دفع إليه عرضاً وقال : ضارب به ، والله أعلم .
____________________
(2/147)
قال : وإن كان في يده وديعة جاز له أن يقول : ضارب بها .
ش : لأن الوديعة ملك لصاحبها ، فجازت المضاربة عليها ، كما لو كانت حاضرة ، ومراد الخرقي رحمه الله بهذه الوديعة الدراهم والدنانير ، إذ غرضه بهذه المسألة بيان أن الوديعة يجوز دفعها لمن هي في يده مضاربة ، وقد يقال : إن إطلاقه يشمل ما إذا كانت غير الدراهم والدنانير ، فيكون من مذهبه جواز المضاربة على العروض ، كالرواية المرجوحة ، مع أن المسألة السابقة قد تأتي ذلك . والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(2/148)
( كتاب الوكالة )
الوكالة بفتح الواو وكسرها التفويض ، وفي الإِصطلاح : التفويض في شيء خاص في الحياة ، وهي جائزة بالإِجماع ، وسنده قوله تعالى : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء ، والمساكين ، والعاملين عليها } ) ولهذا كان النبي يبعث السعاة لقبض الصدقات ، وقوله تعالى : 19 ( { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة ، فلينظر أيها أزكى طعاماً ، فليأتكم برزق منه } ) .
2074 وأيضاً توكيل النبي عروة بن الجعد في شراء الشاة .
2075 وتوكيل أبي رافع في تزويج ميمونة .
2076 وعمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة .
قال : ويجوز التوكيل في الشراء والبيع ، ومطالبة الحقوق ، والعتق ، والطلاق ، حاضراً كان الموكل أو غائباً .
ش : يجوز التوكيل في الشراء ، لما تقدم من الآية والخبر ، ولذلك قدمه الخرقي ، وفي البيع ، لأنه في معناه ، وكذلك ما في معناهما من الإِجارة ، والصلح ، والرهن ، والجعالة ، والمساقاة ، والنكاح ، ونحو ذلك من عقود المعاوضات ، ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق .
2077 لأن علياً رضي الله عنه وكل عقيلًا عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقال : ما قضي له فلي ، وما قضي عليه فعلي .
2078 ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان ، وقال : إن للخصومة قحماً ، وإن الشيطان ليحضرها ، وإني لأكره أن أحضرها . قال أبو زياد : القحم المهالك . ومثل هذا يشتهر ، ولم ينقل إنكاره فكان إجماعاً ، ويجوز التوكيل في العتق ، والطلاق ، لأن الحاجة قد تدعو إليهما ، أشبهاً ما تقدم ، ولأنه إذا جاز التوكيل في الإِنشاء جاز في الإِزالة بطريق الأولى ، وفي معناهما الوقف ، والهبة ، والخلع ، ونحو ذلك مما يزيل ملك المال ، أو ملك البضع ، وسواء في جميع ذلك حضور الموكل وغيبته ، لعموم الأدلة ، وإنما ذكر المصنف ذلك تنبيهاً على مخالفة الإِمام أبي حنيفة رحمه الله ، إذ
____________________
(2/149)
عنده أن للخصم الامتناع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضراً ، والله أعلم .
قال : وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه إلا أن يجعل ذلك إليه .
ش : لا يجوز للوكيل التوكيل إلا بإذن ، على المشهور من الروايتين ، واختاره الخرقي ، وأبو محمد ، وغيرهما ، إذ إذن الموكل إنما يتناول تصرف الوكيل بنفسه ، فلا يتعداه إلى غيره ، كما لو نهاه ، فإنه ليس له التوكيل اتفاقاً ، وعنه : له ذلك ، لأن له أن يتصرف بنفسه ، فله أن يفوض ذلك إلى نائبه كالمالك ، أما إن جعل التوكيل إليه إما بنص ، ولفظ عام ، بأن قال له : اصنع ما شئت . أو قرينة حالية كأن يكون الوكيل لا يتولى مثله ذلك ، لدناءة الموكل فيه ، وشرف الوكيل ، ونحو ذلك ، أو يعجز عنه لكثرته فإنه يجوز ، اعتماداً على الإِذن اللفظي أو العرفي ، نعم هل يجوز التوكيل فيما يعجز عنه في الجميع ، أو في القدر الذي يعجز عنه فقط ؟ فيه وجهان ، وحيث جوز له التوكيل فإنه يتقيد بأمين ، لأن ذلك هو الحظ دون غيره ، والله أعلم .
قال : وإذا باع الوكيل ثم ادعى تلف الثمن ، من غير تعد منه ، فلا ضمان عليه ، فإن اتهم حلف .
ش : الوكيل في البيع وكيل فيه وفيما ينشأ عنه ، وهو حفظ الثمن ، فإذا باع وقبض الثمن ، ثم ادعى تلف الثمن ، والحال أنه من غير تعد منه ، فالقول قوله ، لأنه أمين ، والقول قول الأمين والحكمة في ذلك أنه لو كلف إقامة البينة على ذلك لتعذر عليه أو شق ، فيمتنع الناس من الدخول في الأمانة مع الحاجة إليه ، فيحصل الضرر ، ولهذا قلنا : إذا ادعى التلف بأمر ظاهر كحريق عام ، ونهب جيش ، ونحو ذلك مما تسهل إقامة البينة عليه ، كلف إقامة البينة على وجود ذلك ، ثم القول قوله في التلف ، ويتفرع على أن القول قوله أنه لا ضمان عليه ، أما لو ثبت تعديه ببينة أو إقرار فإن الضمان عليه ، لزوال أمانته ، فهو كالغاصب ، ومتى قلنا : القول قوله . فأنكره الموكل فإنه يحلف ، لأن ما ادعاه عليه محتمل ، والله أعلم .
قال : ولو وكله أن يدفع إلى رجل مالًا ، فادعى أنه دفعه إليه ، لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة .
ش : إذا وكل وكيلًا أن يدفع إلى رجل مالًا ، فادعى أنه دفعه إليه ، وأنكره من أمر بدفعه إليه ، فإن قول الوكيل لا يقبل على الآمر ، ويلزمه الضمان على المذهب ، لأنه مفرط ، حيث لم يشهد على الدفع ، أشبه ما لو أمره بذلك فخالف ، ( وعنه ) : يقبل قول الوكيل على الآمر ، فلا ضمان عليه ، حملًا للتفريط على المالك ، لأنه لم يحتط لنفسه ، حيث لم ينص له على الإِشهاد ، ولهذا قلنا على الصحيح : أنه لو دفع المال بحضرته لم يضمن ، لأن حضوره قرينة رضاه بالدفع بغير بينة ، وقيل : لا ينتفي الضمان . اعتماداً على أن الساكت لا ينسب له قول ، ( هذا كله ) إذا لم يكن بينة ، أما
____________________
(2/150)
مع البينة فإن قوله يقبل على الآمر ، وينتفي عنه الضمان ، لعدم تفريطه ، ولا فرق بين أن تكون البينة قائمة ، أو غائبة ، أو ميتة ، إذا كانت على حال لو وجدت قبلت ، نعم لو كانت ممن اختلف في ثبوت الحق بشهادتها كشاهد واحد ، أو رجل وامرأتين فهل يبرأ من الضمان ؟ قال أبو محمد : يخرج على روايتين .
وقول الخرقي : ولو وكله أن يدفع إلى رجل مالًا . يشمل الدف على أي صفة كان ، فدخل في كلامه ما لو أمره بالإِيداع ، والأصحاب على أنه في الإِيداع لا يلزمه الإِيداع إذا لم يشهد ، لعدم الفائدة في الإِشهاد ، إذ القول قول المودع في الرد والتلف ، ويرد بأن فيه فائدة ، وهو ثبوت الوديعة ، فلو مات أخذت من تركته .
وقول الخرقي : لم يقبل قوله على الآمر . دل بطريق التنبيه أنه لا يقبل قوله على من أمر بالدفع إليه ، لأنه إذا لم يقبل قوله على من ائتمنه ، فعلى من لم يأتمنه أولى ، ومقتضى كلام الخرقي أن الآمر أنكر الوكيل ، وعلى هذا لو صدق الآمر الوكيل في الدفع فلا ضمان عليه ، وصرح القاضي وغيره من الأصحاب أنه لا فرق في تضمين الوكيل بين تصديق الآمر له أو تكذيبه ، لأن مناط الضمان كونه فرط ، حيث لم يشهد ، والله أعلم .
قال : وشراء الوكيل من نفسه غير جائز .
ش : هذا هو المشهور من الروايات ، اختارها الخرقي ، والشريف ، وأبو الخطاب ، وابن عقيل ، وغير واحد ، للتهمة ، إذ الإِنسان طبع على طلب الحظ لنفسه ، ومقتضى الوكالة طلب الحظ للموكل ، فيتنافى الغرضان ، أو أن مقتضى الإِذن في البيع أن يبيع من غيره ، لا من نفسه ، فكأنه قال : بع هذا ولا تبع من نفسك . ( والرواية الثانية ) : يجوز ، بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء ، لانتفاء التهمة غالباً ، ويلزم على هذه الرواية أن يقول بجواز التوكيل للوكيل ، إما مطلقاً ، وإما مع وجود قرينة تدل على ذلك ( والرواية الثالثة ) : يجوز ، بشرط أن يوكل من يبيع ، ويكون هو أحد المشتركين ، معللًا بأنه لا يأخذ بإحدى يديه من الأخرى ( والرواية الرابعة ) : يجوز أن يشارك فيه ، لا أن يشتريه كله ، لانتفاء التهمة أو ضعفها إذاً ، وعلى الروايات كلها إذا أذن له في الشراء من نفسه جاز له الشراء بلا نزاع ، نعم على مقتضى تعليل أحمد في الرواية الثالثة لا يجوز ؛ لأنه يأخذ بإحدى يديه من الأخرى ، والله أعلم .
قال : وكذلك الوصي .
ش : حكم الوصي حكم الوكيل ، لا يجوز له الشراء من مال موليه إلا حيث يجوز للوكيل ، لاستوائهما معنى ، فاستويا حكماً ، إذ كل منهما متصرف على الغير ، والله أعلم .
قال : وشراء الرجل لنفسه من مال ولده [ الطفل ] جائز ، وكذلك شراؤه له من نفسه .
____________________
(2/151)
ش : يجوز للأب أن يشتري لنفسه من مال ولده الذي تحت حجره ، ويبيع له من ماله ، لانتفاء التهمة في حقه غالباً ، لكمال شفقته ، والله أعلم .
قال : وما فعل الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فباطل .
ش : أما إذا علم الوكيل بفسخ الموكل أو موته ، فلا شك في بطلان ما فعله بعد ذلك ، وأما إذا لم يعلم ، فظاهر كلام الخرقي وهو اختيار الشريف ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل وغيرهم أن تصرفه غير نافذ أيضاً ، لأنه متصرف بلا إذن ، لزواله بالفسخ أو الموت ، ولا ملك ، أشبه الفضولي ، قال القاضي : وهذا أشبه بأصول المذهب وقياسه ، لقولنا : إن الخيار إذا كان لهما كان لأحدهما الفسخ من غير محضر من الآخر ، ولم يذكر عن أحمد نصاً ، والمنصوص عن أحمد رحمه الله في رواية ابن منصور ، وجعفر بن محمد ، وأبي الحارث أن تصرفه نافذ ، اعتماداً على أن الحكم لا يثبت في حقه قبل العلم ، كما نقول في الأحكام المبتدأة ، قال سبحانه : 19 ( { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف } ) ومقتضى كلام الخرقي أن الوكالة عقد جائز ، لبطلانه إياها بالموت والفسخ ، وهو صحيح .
( تنبيه ) : القاضي وأبو محمد وغيرهما يجعلون الخلاف في نفس انفساخ عقد الوكالة قبل العلم ، وأبو البركات وغيره وهو مقتضى كلام الخرقي يجعلون الخلاف في نفوذ التصرف ، لا في نفس الانفساخ ، وهذا أوفق لمنصوصات أحمد ، قال أبو العباس : وهو لفظي ، والله أعلم .
قال : وإذا وكله في طلاق زوجته فهو في يده ، حتى يفسخ أو يطأ .
ش : الوكالة تنفسخ بما يدل على الفسخ من لفظ أو فعل ، إناطة للحكم على المعنى ، فإذا وكله في طلاق زوجته فإنه يملك ذلك مطلقاً ، لعدم تقييده له بزمان ولا مكان ، إلى أن يفسخ أو يطأ ، إذ وطؤه دليل رغبته فيها ، وعلى هذا إذا باشرها دون الفرج فقال أبو محمد : فيه احتمالان ، بناء على التردد في حصول الرجعة بذلك ، والله أعلم .
قال : ومن وكل في شراء شيء فاشترى غيره ، فإن الآمر مخير في قبول الشراء ، فإن لم يقبل لزم الوكيل ، إلا أن يكون اشتراه بعين المال ، فيبطل الشراء .
ش : من وكل في شراء شيء فاشترى غيره كأن وكل في شراء عبد زيد ، فاشترى عبد عمرو ، أو في شراء عبد ، فاشترى ثوباً ، ونحو ذلك فلا يخلو إما أن يقع الشراء بعين مال الموكل أو في ذمة الوكيل ، فإن وقع بعين مال الموكل فهل يبطل وهو المذهب .
2079 لقول النبي لحكيم بن حزام : ( لا تبع ما ليس عندك ) أو يقف
____________________
(2/152)
على إجازة المالك لحديث عروة بن الجعد فيه روايتان ، وإن وقع في ذمة الوكيل بنية الشراء للموكل فهل الشراء صحيح . وهو المذهب المعروف المشهور ، وجزم به الشيخان وغيرهما ، إذ التصرف وقع في الذمة ، وهي قابلة لذلك أو باطل كالشراء بالعين ، حكاه القاضي في الروايتين ؟ فيه خلاف ، وعلى الأول فهل يلزم المشتري ، لكونه اشترى لغيره بغير أمره ، أشبه ما لو لم ينوه له ، أو يقف على إجازة الموكل ، فإن أجازه لزمه ، لأنه اشترى له ، أشبه ما لو أذن فيه ، وإن رده لزم الموكل لصدور الشراء منه ؟ فيه روايتان حكاهما أبو محمد ، ثم شرط القاضي وتبعه أبو البركات أن لا يسمي الموكل في العقد إذا كان الشراء في الذمة ، فإن سماه بطل ، وظاهر كلام الخرقي وأبي محمد عدم اشتراط هذا الشرط ، والله أعلم .
( باب الإِقرار بالحقوق )
الإِقرار الاعتراف ، وحده الإِظهار لأمر متقدم ، وليس بإنشاء ، والأصل فيه قوله تعالى : 19 ( { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين إلى قوله أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، قالوا أقررنا } ) وقال تعالى : 19 ( { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } ) .
2080 وثبت أن النبي رجم ماعزاً بإقراره ، وقال : ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ) وأجمع المسلمون على صحة الإِقرار في الجملة .
قال : ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه ، كان استثناؤه باطلًا ، إلا أن يستثني عيناً من ورق ، أو ورقاً من عين .
ش : إذا أقر بشيء واستثنى من جنسه كأن أقر بعشرة دراهم ،
____________________
(2/153)
واستثنى منها درهماً ونحو ذلك فإنه يصح بلا نزاع ، ويكون مقراً بالباقي بعد المستثنى ، لورود ذلك في الكتاب ، والسنة ، وكلام العرب ، قال سبحانه : { فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً } .
2081 وقال النبي في الشهيد : ( تكفر عنه خطاياه كلها إلا الدين ) ويدخل في كلام الخرقي ما إذا أقر بنوع من جنس ، واستثنى نوعاً آخر ، كأن أقر بتمر برني ، واستثنى تمراً معقلياً ، ونحو ذلك ، وهو أحد احتمالي [ المغني ، والإِحتمال الآخر وهو الصحيح عند ] أبي محمد لا يصح ، لعدم دخول المعقلي في البرني ، وإن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه ، فلا يخلو إما أن يكون ذلك في الدراهم والدنانير ، أو في غيرهما ، فإن كان في غيرهما كأن أقر بدراهم واستثنى منها ثوباً ، أو بثياب واستثنى منها دراهم ، أو بتمر واستثنى منه براً ، ونحو ذلك فالمذهب المعروف المشهور أنه لا يصح ، لأن الإِستثناء إما إخراج بعض ما يتناوله اللفظ ، أو ما يصلح أن يتناوله اللفظ ، مأخوذ من قولهم : ثنيت فلاناً عن رأيه . إذا صرفته عن رأي كان عازماً عليه ، وأحد الجنسين لا يتناوله الآخر ، ولا يصح أن يتناوله إلا على سبيل المجاز ، والأصل الحقيقة ، وعن أبي الخطاب صحة ذلك ، بناء على جواز استثناء أحد النقدين من الآخر . انتهى .
وإن كان ذلك في الدراهم والدنانير مثل أن أقر بمائة درهم ، واستثنى منها ديناراً ، أو بدينار واستثنى منه خمسة دراهم ففيه روايتان ( إحداهما ) لا يصح ، اختارها أبو بكر ، لما تقدم ، ( والثانية ) يصح ، اختارها الخرقي ، لأنهما في معنى الجنس الواحد ، لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر ، فإذا قال : له علي مائة درهم إلا ديناراً فمعناه إلا عشرين درهماً ، ويعبر بأحدهما عن الآخر ، فمعنى : له عليّ دينار إلا درهمين ، له على عشرون درهماً إلا درهمين . إذ الدينار يعبر به عن عشرين درهماً ، ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح حمل عليه ، فعلى هذا يرجع في تفسير الدينار إلى المقر إن لم يكن للدينار بالبلد سعر معلوم ، وإن كان له سعر فهل يرجع إلى سعره ، أو إلى التفسير ؟ فيه قولان ، قال أبو محمد : ويمكن حمل الروايتين على اختلاف حالين ، فالموضع الذي قال بالصحة فيه ، إذا عبر بأحدهما عن الآخر ، أو علم قدره منه ، والموضع الذي قال بالبطلان فيه ، إذا انتفى ذلك ، والله أعلم .
قال : ومن ادعي عليه شيء فقال : قد كان ذلك وقضيته . لم يكن ذلك إقراراً .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية جماعة ، وجزم به الجمهور ، كالشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وشيخهم ، وقال : لم أجد رواية بغير هذا ، وذلك لأن الكلام بآخره ، والذي تضمنه مجموع كلامه أنه لا شيء له عليه ، لأن الاستصحاب إنما يعمل عمله إذا لم يرد ما يخالفه .
وعن أحمد رواية أخرى اختارها أبو الخطاب ، أنه يكون مقراً مدعياً للقضاء ، ولا يقبل قوله في دعوى القضاء إلا ببينة . إذ كلامه انطوى على جملتين ، إحداهما : كان له عليّ ألف . والثانية ) وقضيته . فيقبل قوله فيما عليه ، ولا يقبل قوله فيما له إلا ببينة .
وعنه رواية ثالثة ، حكاها أبو البركات : أن هذا ليس بجواب صحيح ، فيطالب برد الجواب ، إذ إقراره الأول يناقضه دعوى القضاء ثانياً ، وإذا تناقضا تساقطا ، ولو قال : له عليّ ألف وقضيته . ولم يقل ( كان ) ففيه الروايتان الأولتان ، وثالثة أنه مقر بالحق ، مكذب لنفسه في الوفاء ، فلا يسمع منه ، وإن أتى ببينة ، لأن : له عليّ ألف . يقتضي بقاءها في ذمته ، ودعوى القضاء تناقض ذلك ، ولو قال : كان له عليّ ألف . ولم يقل : وقضيته . فهو إقرار ، وخرج عدمه ، والله أعلم .
____________________
(2/154)
قال : ومن أقر بعشرة دراهم ، ثم سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ، ثم قال : زيوفاً ، أو صغاراً ، أو إلى شهر . كانت عشرة جياداً . وافية . حالة .
ش : إذا أقر بدراهم لزمته جياد وافية حالة ، إذ هذا مقتضى الإِطلاق ، كما لو وقع البيع على ذلك ، نعم إذا كان في بلد أوزانهم ناقصة ، أو دراهمه مغشوشة ، فهل يلزمه من دراهم البلد ، كثمن المبيع بها وهو مقتضى كلام ابن الزاغوني ، وما صححه صاحب التلخيص أو جياد وافية ، إذ إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إلى ذلك ، بدلبل نصاب الزكاة وهو مقتضى كلام الخرقي ؟ فيه وجهان ، وحيث قلنا مع الإِطلاق يلزمه جياد وافية حال ، ففسرها بزيوف وهي الرديئة أو بصغار وهي الناقصة كدراهم طبرية ، وهي أربعة دوانيق ، بخلاف دراهم الإِسلام فإنها ستة دوانيق أو قال : مؤجلة . فلا يخلو إما أن يكون بكلام متصل ، أو ما في حكمه ، كالسكوت لتنفس ، أو عطاس ، ونحو ذلك ، أو منفصل ، فإن كان بكلام منفصل لم يسمع منه ، لإِفضائه إلى إبطال بعض ما اقتضاه ظاهر إقراره ، وهو الجودة ، والحلول ، والكمال ، فإن كان [ بمتصل ونحو سمع منه ، إذ الكلام بآخره ، فالإِقرار إنما حصل على صفة ، فلا يلزم غيرها ] ، نعم إذا قال : زيوف . وفسرها بما لا فضة فيه لم يسمع ، لأن قوله : دراهم . يناقضه ، وشرط القاضي فيما إذا قال : صغار . أن يكون للناس دراهم صغار ، وإن لم يكن لهم دراهم صغار لم يسمع منه ، وحكى أبو الخطاب احتمالًا فيما إذا فسر بالتأجيل أنه لا يسمع منه ، والله أعلم .
قال : ومن أقر بشيء واستثنى الكثير وهو أكثر من النصف أخذ بالكل ، وكان استثناؤه باطلًا .
ش : لا نزاع في جواز استثناء الأقل ، ولا في منع استثناء الكل ، ولا في أن المذهب المعروف المشهور أنه لا يجوز استثناء الأكثر ، حتى أن أبا محمد قال : لا يختلف المذهب في ذلك ، نظراً إلى أن هذا الذي ورد في كلام العرب ، قال الزجاج : لم يأتِ الاستثناء إلا في القليل من الكثير ، ولو قال قائل : مائة إلا تسعة وتسعين . لم يكن متكلماً بالعربية ، وكان عيّاً من الكلام والكنة ، وقال القتيبي : يقال : صمت الشهر إلا يوماً . ولا يقال : صمت الشهر إلا تسعة وعشرين . ولأن القليل في معرض النسيان ، فقبل وإن خالف مقتضى ما نطقه به ، بخلاف الكثير فإن احتمال السهو فيه بعيد ، وقيل : يجوز استثناء الأكثر ، نظراً لقوله تعالى : 19 ( { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين } ) والغاوون أكثر ، بدليل 19 ( { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } ) ومنع أن الغاوين أكثر ، إذ العابد يدخل فيهم الملائكة ، والجن ، والإِنس ، وعلى تقدير التسليم ، فاستثناء الأكثر إنما يمتنع من عدد محصور ، أما الاستثناء بالصفة من جنس فإنه يجوز وإن كان أكثر ، وهذا أحد جوابي القاضي ، والآخر أنه استثناء منقطَع ، بمعنى ( لكن ) ولما كان النصف حداً بين القليل
____________________
(2/155)
والكثير ، تردد الأصحاب فيه ، فمنعه أبو بكر ، وجوزه الخرقي ، والله أعلم .
قال : وإذا قال : له عندي عشرة دراهم . ثم قال : وديعة . كان القول قوله .
ش : لأنه فسر كلامه بما يوافق ظاهره لا بما يخالفه ، وإذاً يثبت لها حكم الوديعة ، بحيث لو ادعى تلفها بعد ذلك أو ردها قبل منه ، والله أعلم .
قال : ولو قال : لو عليّ ألف ، ثم قال : وديعة . لم يقبل قوله .
ش : هذا هو المشهور لمخالفته ظاهر إقراره ، لأن ( عليّ ) للإيجاب ، فمقتضى اللفظ أنها في ذمته ، والوديعة ليست في ذمته ، وعن القاضي : يقبل قوله على تأويل أن عليّ حفظها ، أو ردها ، ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : ولو قال : له عندي رهن . وقال المالك : وديعة . كان القول قول المالك .
ش : لأن المقر يدعي على المالك عقداً ، وهو ينكره ، والأصل معه ، ولأن إقراره يتضمن حقاً عليه ، وحقاً له ، فقبل فيما عليه دون ما له ، والله أعلم .
قال : ولو مات فخلف ولدين ، فأقر أحدهما بأخ أو بأخت ، لزمه أن يعطي الفضل الذي في يديه لمن أقر له .
ش : إذا مات رجل وخلف ولدين ، فأقر أحدهما بأخ أو بأخت ، وكذبه الآخر لم يثبت النسب اتفاقاً ، ويلزم المقر أن يدفع إلى المقر له ما فضل في يده عن ميراثه ، لأن إقراره تضمن ذلك ، وكما لو ثبت نسبه ببينة ، ففي صورة الإِقرار بأخ يلزمه أن يدفع إليه السدس ، لأنهم إذا كانوا ثلاثة على زعم المقر ، يكون المال بينهم أثلاثاً ، لكل واحد ثلثه ، وفي يده النصف ، فالفاضل عما يستحقه السدس ، وفي مسألة الإِقرار بأخت يدفع إليها نصف الخمس لأن المال بينهم على خمسة ، لكل أخ خمسان ، ولهما خمس ، وفي يده النصف ، فالفاضل عما يستحقه نصف الخمس ، وعلى هذا فقس ، والله أعلم .
____________________
(2/156)
قال : وكذلك إن أقر بدين على أبيه لزمه من الدين بقدر ميراثه .
ش : فإذا كان ميراثه النصف لزمه من الدين نصفه ، وإن كان ميراثه الثلث لزمه منه الثلث ، وعلى هذا ، لأنه إقرار يتعلق بحصته وحصة أخيه ، فلا يلزمه إلا ما يخصه ، كالإِقرار بالوصية ، وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة ، والله أعلم .
قال : وكل من قلت : القول قوله . فلخصمه عليه اليمين .
ش : أي في هذا الباب ، نحو : له عندي مائة درهم . وفسرها بوديعة ، أو : له عندي رهن . وقال المالك : وديعة : وما أشبه ، كالمضارب ، والشريك ، والراهن ، ونحوهم ، فمن القول قوله فلخصه عليه اليمين ، لأن ما ادعاه عليه محتمل .
2082 وقد قال : ( لو يعطي الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) والله أعلم .
قال : والإِقرار بدين في مرضه موته ، كالإِقرار في صحته ، إذا كان لغير وارث .
ش : إذا أقر بمال لغير وارث في مرضه المحجور عليه فيه كان كما لو أقر له في صحته ، على المشهور من الروايات ، والمختار عند الأصحاب ، لانتفاء التهمة غالباً ، ولاحتياجه إلى براءة ذمته ، وقد ينحصر الطريق في ذلك ، والرواية الثانية : لا يقبل مطلقاً . كالإِقرار لوارث ، والثالثة : يلزم في الثلث فما دون ، لا فيما زاد عليه ، تنزيلًا له منزلة الوصية .
ويدخل في كلام الخرقي بطريق التنبيه الإِقرار بغير مال ، كالإِقرار بالطلاق ونحوه ، فإنه يصح بلا نزاع ، فعلى الأولى وهو المذهب هل يحاص المقر له في المرض من ثبت دينه بينة أو بإقرار في الصحة ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وبه جزم القاضي [ في الجامع ] والشريف ، وأبو الخطاب ، والشيرازي في موضع ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار التميمي نعم ، لأنه يجب قضاؤهما من رأس المال ، أشبه ما لو ثبتا ببينة ، ( والثاني ) واختاره أبو الخطاب في الانتصار ، وقال ابن البنا تبعاً لشيخه أظنه في المجرد : إنه قياس المذهب لا ، لنص أحمد في المفلس أنه إذا أقر وعليه دين ثبت ببينة أنه يبدأ به ، وعلى الرواية الثالثة يقدم دين الصحة بلا نزاع ، لأنا نزلنا الإِقرار منزلة الوصية ، والله أعلم .
قال : وإن أقر لوارث بدين لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببينة .
ش : أما مع البينة فواضح ، وأما مع عدمها فلا يلزم باقي الورثة القبول ، لمكان التهمة ، نعم لا يبطل الإِقرار على المشهور من المذهب ، بل يقف على إجازة الورثة ، فإن أجازوه جاز ، وإن ردوه بطل ، ولهذا قال الخرقي : لم يلزم . ومقتضى كلام الخرقي أن الحكم منوط بحال الإِقرار ، فلو أقر لوارث فصار عند الموت غير وارث لم يصح ، إناطة بالتهمة ، ولو أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثاً صح ، لانتفاء التهمة ، نص عليه أحمد ، معللًا بما تقدم ، ( وعنه ) الاعتبار بحال الموت كالوصية ، والأول المذهب ، والله أعلم .
قال : والعارية مضمونة ، وإن لم يتعد فيها المستعير .
ش : يعني إذا تلفت أو نقصت .
2083 لما روى الحسن ، عن سمرة ، عن النبي أنه قال : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) رواه الخمسة إلا النسائي .
2084 وعن صفوان بن أمية أن النبي استعار منه أدراعاً ، فقال : أغضباً يا محمد ؟ قال : بل عارية مضمونة ) قال : فضاع بعضها ، فعرض النبي أن يضمنها ، فقال : أنا اليوم في الإِسلام أرغب . رواه أحمد ، وأبو داود .
____________________
(2/157)
وعموم كلام الخرقي يقتضي الضمان ولو شرط نفيه ، وهو المهشور من المذهب ، لمخالفة الشرط مقتضى العقد ، وعنه واختاره أبو حفص يسقط الضمان ، لأنه أبرأ من الضمان مع وجود سببه ، ؤشبه ما لو أبرأه من السراية بعد الجراحة ، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يضمن الولد ، وهو الصحيح من الوجهين ، عند أبي مجمد ، والله أعلم .
( تنبيه ) : العارية يد آخذة ، والوديعة يد معطاة ، فالعارية مثل القرض فجميعاً قابضهما ضامن ، والفرق بينهما أن العين المستعارة لا يجوز استهلاكها ، ولا هبتها ، ولا تغييرها ، ولا التصرف فيها ، بخلاف القرض ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
( باب الغصب )
الغصب محرم بالإِجماع ، وقد دل عليه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، وتدلوا بها إلى الحكام } الآية .
2085 وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جاداً ، ولا لاعباً ، وإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها عليه ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وهو في اللغة : أخذ الشيء ظلماً . قاله الجوهري وابن سيده وغيرهما ، وفي الإصطلاح قال أبو محمد في المقنع أنه : الاستيلاء على مال الغير قهراً بغير حق . فالاستيلاء يستدعي القهر والغلبة ، فإذاً قوله : ( قهراً ) زيادة في الحد ، ولهذا أسقطه في المغني ، لكن فيه زيادة إيضاح ، يخرج بذلك المال المسروق ، والمنتهب ، والمختلس ، لأنه لم يأخذه على [ وجه القهر ، وقوله : بغير حق . يخرج الاستيلاء بحق ، كاستيلاء الولي على ] مال الصبي ، والحاكم على مال المفلس ، ونحو ذلك .
وهو غير جامع ، لخروج ما عدا المال من الحقوق ، كالكلب ، وخمر الذمي ، ونحو ذلك ، ثم إنه عرف ( غير ) بالألف واللام ، والمشهور عدم تعريفها بهما ، ولهذا لم يعرفها في المغني ، وقال أبو البركات : هو الاستيلاء على مال الغير ظلماً . ويرد عليه ما ورد على الأول ، وأنه غير مانع ، لدخول السرقة ، والانتهاب ، ونحو ذلك كالاختلاس فيه ، والله أعلم .
قال : ومن غصب أرضاً فغرسها أخذ بقلع غرسه ، وأجرتها إلى وقت تسليمها ، ومقدار نقصانها ، إن كان نقصها الغرس .
ش : يصح غصب العقار على المذهب المعروف المشهور ، حتى أن القاضي
____________________
(2/158)
وعامة أصحابه لم يذكروا في المسألة خلافاً ، مع أن القاضي ذكر رواية ابن منصور ، واستشكلها .
2086 وذلك لما روي عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله : ( من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين ) متفق عليه ، وفي لفظ لأحمد ( من سرق ) .
2087 وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه أن رجلًا من كندة ورجلًا من حضرموت اختصما إلى النبي في أرض باليمن ، فقال الحضرمي : يا رسول الله أرضي اغتصبها هذا وأبوه . فقال الكندي : يا رسول الله أرضي ورثتها من أبي . فقال الحضرمي : استحلفه يا رسول الله أنه ما يعلم أنها أرضي وأرض والدي ، اغتصبها أبوه ، فتهيأ الكندي لليمين ، فقال رسول الله : ( إنه لا يقتطع عبد أو رجل مالًا بيمينه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم ) فقال الكندي : هي أرضه وأرض والده . رواه أحمد .
ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أن العقار لا يضمن بالغصب ، إذ الغصب إثبات اليد على المال عدواناً ، على وجه تزول به يد المالك ، ولا يوجد ذلك في العقار ، وفائدة الخلاف أنها لو غرقت بماء السماء ونحو ذلك ، أو كان فيها بناء فانهدم ، ضمن على الأول دون الثاني ، ولو غصبها غاصب آخر ، فهدم بناءها ، أو نقل ترابها ، فللمالك تضمين من شاء منهما على الأول ، وعلى الثاني يضمن الثاني فقط ، لوجود النقل والهدم منه . إذا تقرر هذا فإذا غصب أرضاً فغرسها ، فإنه يؤخذ بقلع غرسه .
2088 لما روى عروة بن الزبير ، أن رسول الله قال : ( من أحيا أرضاً فهي له ، وليس لعرق ظالم حق ) قال : ولقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث أن رجلين اختصما إلى رسول الله ، غرس أحدهما نخلًا في أرض الآخر ، فقضى لصاحب الأرض بأرضه ، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها ، قال : فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس ، وإنها لنخل عم . رواه أبو داود ، والدارقطني ، قال أحمد : العم الطوال . ويؤخذ بأجرتها إلى وقت تسليمها ، وكذلك كل ما له أجر ، بناء على أن منافع المغصوب مضمونة ، إذ هي بمنزلة الأموال ، ولهذا قلنا على المشهور : يجبر المفلس المحترف على إيجار نفسه لوفاء دينه ، وسواء انتفع أو لم ينتفع ، لتلفها تحت يده العادية .
____________________
(2/159)
ويؤخذ أيضاً بنقص الأرض إن نقصها الغرس ، وكذا لو نقصت بغيره ، وكذلك الحكم في كل عين مغصوبة ، على الغاصب ضمان نقصها ، كما يضمن جملتها ، والنقص هو نقص القيمة في جميع الأعيان ، اختاره الشيخان ( وعنه ) وهو المشهور عنه أن في عين الدابة ربع قيمتها .
2089 واعتمد في ذلك على ما روي عن عمر رضي الله عنه ، أنه كتب إلى شريح وقد كتب إليه يسأله عن عين الدابة : إنا كنا ننزلها بمنزلة الآدمي ، إلا أنا أجمع رأينا أن فيها ربع الثمن . وهذا إجماع ، وهو اختيار القاضي في التعليق ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، ثم الشيخان ، وأبو الخطاب في الهداية والقاضي في روايتيه ، جعلوا الخلاف في عين الدابة من الخيل ، والبغال ، والحمير ، ونصوص أحمد على ذلك ، والقاضي في تعليقه وفي جامعه ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وصاحب التلخيص ، والمستوعب ، وأبو محمد في الكافي ، خصوا الخلاف بعين الفرس ، ( وعنه ) أن الرقيق يضمن بما يضمن به في الإِتلاف ، [ وتفرد أبو محمد في المقنع عن الأصحاب ، فخرج أنه يضمن بأكثر الأمرين من النقص أو مما يضمن به في الإِتلاف ] وتحرير ذلك يحتاج إلى ذول . والله أعلم .
قال : وإن كان زرعها فأدركها ربها والزرع قائم ، كان الزرع لصاحب الأرض ، وعليه النفقة ، وإن استحقت بعد أخذ الغاصب الزرع لزمته أجرة الأرض .
ش : إذا غصب أرضاً فزرعها فإن أدركها ربها والزرع قائم ، كان الزرع له وعليه النفقة ، على ظاهر كلام أحمد في عامة نصوصه والخرقي ، والشيرازي ، وابن أبي موسى فيما أظن .
2090 لما روى رافع بن خديج رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من زرع في أرض قوم بغير إذنهم ، فليس له من الزرع شيء وله نفقته ) رواه الخمسة إلا النسائي ، وقال البخاري : هو حديث حسن . وعليه اعتمد أحمد ، فقال في رواية علي بن سعيد . آخذ به . وفي رواية حرب : أذهب إليه . وقال القاضي ، وعامة أصحابه ، والشيخان : يخير مالك الأرض بين تركه إلى الحصاد بالأجرة ، وبين أخذه بالنفقة ، نظراً إلى رب الأرض ، وحملا على الغاصب ، إذ لو كلف الأخذ بالقيمة ربما شق ذلك عليه ، وحكى أبو الخطاب احتمالًا بأن الزرع للغاصب ، لأنه نماء ملكه ، وعلهي الأجرة .
ولا نزاع أن رب الأرض لا يجبر الغاصب على قلع الزرع . ثم هل النفقة قيمته
____________________
(2/160)
وهي التي صححها القاضي في التعليق ، قياساً على ما إذا أتلفه أو نفقته من البذر والمؤونة وهو ظاهر كلام الخرقي ، لظاهر الديث ؟ فيه روايتان ، وقال ابن الزاغوني : أصلهما هل يضمن ولد المغرور بمثله أو بقيمته ؟ وإن أدركها ربها بعد أخذ الغاصب الزرع فقد استقر ملك الغاصب عليه ، لأنه نماء ملكه ، فيكون له على القاعدة ، وإنما خرجنا عن ذلك في الزرع للحديث ، وبعد الأخذ لا يشمله الحديث ، لأنه إنما يكون زرعاً ما دام قائماً ، وعليه الأجرة ، ونقص الأرض إن كانت نقصت ، لما تقدم .
ويدخل في عموم كلام الخرقي الزرع الذي يجز مرة بعد أخرى ، كالنعنع ونحون ، وهو أحد احتمالي أبي محمد ، والاحتمال الثاني أن حكمه حكم الغراس ، والله أعلم .
قال : ومن غصب عبداً أو أمة وقيمته مائة ، فزاد في بدنه ، أو بتعليمه ، حتى صارت قيمته مائتين ، ثم نقص بنقصان بدنه ، أو نسيان ما علم ، حتى صارت قيمته مائة ، أخذه سيده من الغاصب ، وأخذ مائة .
ش : خلاصته أن زوائد العين المغصوبة مضمونة على الغاصب ، سواء كان ذلك ذاتاً كالسمن أو معنى كتعلم صناعة ، ونحو ذلك ، لأنها تحدث على ملك مالك العين ، وقد تحصلت تحن يد الغاصب ، فلزمه ضمانها كالأصل ، فإذا غصب عبداً قيمته مائة ، فسمن أو تعلم صناعة ، فصارت قيمته مائتين ، ثم عاد كما كان ، بأن هزل أو نسي الصناعة ، فإنه يجب على الغاصب رده ، ورد مائة في مقابلة ما ذهب من السمن أو الصناعة ، والله أعلم .
قال : ومن غصب جارية فوطئها وأولدها ، لزمه الحد ، وأخذها سيدها وأولادها ، ومهر مثلها .
ش : إذا غصب جارية فوطئها لزمه الحد ، لأنه زان ، إذ لا شبهة له في ذلك ، ثم إذا قدر عليها سيدها أخذها ، لأنها عين ملكه ، وأخذ أولادها ، لأنهم نماء ملكه ، ولا يلحق نسبهم بالواطيء لأنه زان ، وأخذ مهر مثلها لأنه بدل منفعة ، ( وعنه ) : لا مهر للثيب ، وهو بعيد ، ولا لمطاوعة وهو جيد ، لنهيه عن مهر البغي ، والأول المذهب ، لأن الحق للسيد ، فلا يسقط بمطاوعتها ، فإذا كانت بكراً فعليه أرش بكارتها على الصحيح ، ولو اعتق الغاصب حل الوطء ، ومثله يجهل ذلك ، لقرب عهده بالإِسلام ، ونحو ذلك ، فالحكم كذلك ، إلا أنه لا حد عليه ، وأولاده أحرار يفديهم كما سيأتي ، والله أعلم .
قال : وإن كان الغاصب باعها فوطئها المشتري ، وأولدها وهو لا يعلم ، ردت الجارية إلى سيدها ، ومهر مثلها ، وفدى أولاده بمثلهم ، وهم أحرار ، ورجع بذلك كله على الغاصب .
ش : إذا باع الغاصب الجارية المغصوبة ، فإن البيع فاسد على المذهب ، وقيل
____________________
(2/161)
عنه : يقف على الإِجازة ، وقيل عنه : يصح مطلقاً ، والتفريع على الأل ، فنقول : لا يخلو المشتري إما أن يكون عالماً بالغصب أو غير عالم ، والمرجع في ذلك إليه ، لأن ذلك مما يخفى ، فإن كان عالماً فحكمه حكم الغاصب على ما تقدم ، وإن لم يكن عالماً فإن الجارية ترد إلى مالكها ، لأنها مال غيره في يده ، وقد قال : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) ويرد مهر مثلها ، لأنه في مقابلة منفعتها غير المأذون فيها ، وإن كان المشتري قد أولدها فإن ولده حر ، لاحق نسبه به ، لمكان الشبهة ، وعليه فداؤه على المذهب ، لأنه فوّت رقه على سيده ، باعتقاده حل الوطء ، وعنه لا فداء عليه ، لانعقاده حراً ، ويفديه بمثله يوم الوضع على مختار القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيخين ، وغير واحد ، لأنه أول أوقات الإِمكان ، وقيل : يوم المحاكمة . وهو ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور ، وجعفر بن محمد ، ثم هل يفديه بمثله وهو مختار الخرقي ، والقاضي ، وعامة أصحابه أو بقيمته وهو مختار أبي محمد ، وصاحب التلخيص ، أو يخير ، وهو مختار أبي بكر في المقنع ؟ على ثلاث روايات ، وأصل الاختلاف اختلاف الصحابة ، وهل المعتبر المثل في الصفات تقريباً ، وهو ظاهر كلام الخرقي وأحمد أو المثل في القيمة وهو اختيار عبد العزيز ؟ فيه وجهان .
ويرجع المشتري على الغاصب بقيمة الولد ، لأنه دخل على أنه غير مضمون عليه ، ولا إتلاف من جهته ، وهل يرجع بالمهر ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي والقاضي ، وعامة أصحابه نعم .
2091 تبعاً لقضاء عمر رضي الله عنه ، فإنه قضى بالرجوع ، ولما تقدم ، ( والثانية ) وهي اختيار أبي بكر لا ، اتباعاً لقضاء علي رضي الله عنه ، فإنه قضى بعدم الرجوع ولأنه غرم ما استوفى بدله ، فلم يرجع به ، كما لو تلفت الجارية أو أجزاؤها ، والله أعلم .
قال : ومن غصب شيئاً ولم يقدر على رده لزم الغاصب القيمة ، فإن قدر عليه رده وأخذ القيمة .
ش : من غصب شيئاً فعجز عن رده كعبد أبق ، أو فرس شرد ، ونحو ذلك لزمته قيمته ، لأنه تعذر رده ، أشبه ما لو تلف ، ويملكها المغصوب منه ، قاله أبو محمد ، وقال القاضي في التعليق : لا يملكها ، وإنما يباح له الإِنتفاع بها ، بإزاء ما فاته من منافع العين المغصوبة ، ولا نزاع أن الغاصب لا يملك العين المغصوبة ، فإذا قدر عليها بعد أداء القيمة ردها على المغصوب منه ، لبقائها على ملكه ، وأخذ القيمة ، لأن دفع القيمة كان لتعذر العين ، وقد زال التعذر ، ولئلا يجتمع البدل والمبدل لشخص
____________________
(2/162)
واحد ، والله أعلم .
قال : ولو غصبها حاملًا فولدت في يده ، ثم مات الولد ، أخذها سيدها ، وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته .
ش : إذا غصب حاملًا ، أو حائلًا فحملت عنده ، فإن الولد مضمون عليه ، إذ الولد إما مودع في الأم ، وإما كأجزائها ، وفي كلا الموضعين يجب الضمان ، إذ الاستيلاء على الظرف وعلى الجملة استيلاء على المظروف وعلى الجزء .
إذا تقرر هذا فإذا ولدت في يده فلا يخلو إما أن تلده حياً أو ميتاً ، فإن ولدته ميتاً وكان قد غصبها حاملًا ، فلا شيء عليه ، لأنه لا يعلم حياته حين استيلائه ، وإن كان قد غصبها حائلًا فحملت ، ثم أسقطته ميتاً ، فكذلك عند القاضي أبي يعلى ، وعند ابنه أبي الحسين يضمنه بقيمته لو كان حياً ، قال أبو محمد : والأولى إن شاء الله أن يضمنه بعشر قيمة أمه ، وإن ولدته حياً وجب رده مع أمه على مالكها ، مع أرش نقص الولادة إن كان ثم نقص ، فلم مات الولد رد الأم ورد قيمة الولد لما تقدم ، ثم إن كانت قيمته لا تختلف من يوم الولادة إلى يوم التلف ردها ، وإن اختلفت فإن كان لمعنى فيه من كبر ، وسمن ، وهزال ، وتعلم صناعة ، ونحو ذلك فالواجب القيمة الزائدة ، لأنه مغصوب في تلك الحال ، فإذا نقص البعض ضمن النقص ، وإن كان الاختلاف لتغير الأسعار لم يضمنه ، نص عليه ، واختاره الأصحاب ، حتى أن القاضي قال : لم أجد عن أحمد رواية بالضمان ، ونقل عنه ابن أبي موسى وناهيك به رواية بالضمان لذلك وعليها حمل القاضي كلام الخرقي هنا .
فعلى المذهب يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه ، على المشهور والمختار أيضاً عند الأصحاب ، إذ قبل التلف الواجب رد العين ، وإنما ثبتت القيمة حين التلف ، ونقل عنه ابن مشيش : يضمنه بقيمته يوم غصبه ، وكذلك نقل عنه ابن منصور ، إلا أنه عاوده في ذلك فجبن عنه ، تنزيلًا لزوال يده منزلة تلف العين ، وحكم بقية المتقومات كذلك ، أما المثلي فيضمن بمثله ، فإن تعذر المثل فبقيمته يوم إعوازه على المذهب ، والله أعلم .
قال : وإذا كانت للمغصوب أجرة فعلى الغاصب رده وأجرة مثله مدة مقامه في يده .
ش : يجب رد المغصوب ما دام باقياً ، لما تقدم من قول النبي : ( على اليد مأخذت حتى تؤديه ) وقوله : ( ومن أخذ عصا أخيه فليردها ) ويجب الرد وإن تضرر بذلك ، كأن بعّده ، أو بنى عليه ، ونحو ذلك ، لأنه الذي أدخل الضرر على نفسه ، وإذا رده فإن كانت له أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يديه ، على المنصوص والمختار للأصحاب ، وسواء استوفى المنافع ، أو لم يستوفها ، لأن المنافع مال فوجب
____________________
(2/163)
ضمانه كالعين ، ونقل عنه محمد بن الحكم التوقف في ذلك ، إلّا أن الخلال قال : هذا قول قديم ، لأن ابن الحكم مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة . واستدل لذلك بقوله : ( الخراج بالضمان ) وحمل على الأعيان ، والله أعلم .
قال : ومن أتلف لذمي خمراً أو خنزيراً فلا غرم عليه ، وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه .
ش : من أتلف من مسلم أو ذمي خمراً أو خنزيراً لذمي ، فإنه لا غرم عليه .
2092 لما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال : ألا إن رسول الله حرم بيع الخمر ، والميتة ، والخنزير ، والأصنام . وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته كالميتة ، وخرج أبو الخطاب وتبعه أبو البركات رواية بضمان خمر الذمي على الذمي ، بناء على أنها مال ، وعلى كل حال فينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه ، لأن عقد الذمة اقتضى تركهم وما هم عليه ، ما لم يضر المسلمين ، والوفاء بالعهد واجب ، أما إن أظهروا ذلك فإنه يتعرض لهم ، ويمنعون منه ، لمخالفتهم الشرط ، والله أعلم .
____________________
(2/164)
( كتاب الشفعة )
الشفعة مأخوذة من ضم الشيء إلى الشيء ومن ذلك الشفع ، اسم للزوج ، لأنه انضم الثاني إلى الأول ، ومنه قوله تعالى : 19 ( { والفجر ، وليال عشر ، والشفع والوتر } ) والشفيع ، لانضمامه في المعونة إلى المشفوع له ، ( وحدها ) في الإِصطلاح قال أبو محمد في المقنع : إنها استحقاق الإِنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها . وهو غير جامع ، لخروج الصلح بمعنى البيع ، والهبة بشرط الثواب ، ونحو ذلك منه ، وقال في المغني : استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه ، من يد من انتقلت إليه ، وهو غير مانع ، لدخول ما انتقل بغير عوض ، كالإِرث ، والوصية ، والهبة بغير ثواب ، أو بعوض غير مالي على المشهور ، كالخلع ونحون ، فالأجود إذاً أن يقال : من يد من انتقلت إليه بعوض مالي أو مطلقاً .
2093 وهي جائزة لما روى جابر رضي الله عنه قال : قضى رسول الله بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة . رواه أحمد ، والبخاري ، وفي لفظ : إنما جعل النبي . الحديث رواه أحمد ، والبخاري ، وأبو داود ، إلى غير ذلك من الأحاديث ، والإِجماع على ذلك إلا خلافاً شاذاً يروى عن الأصم ، والله أعلم .
قال : ولا تجب الشفعة إلا للشريك المقاسم ، فإذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق فلا شفعة .
ش : يشترط للشفعة شروط ( أحدها ) أن يكون شريكاً ، فلا تجب الشفعة للجار ، لما تقدم من حديث جابر ، إذ معناه الشفعة حاصلة أو ثابتة ، أو مستقرة في كل ما لم يقسم ، فما قسم لا تحصل فيه ولا تثبت ، ويؤيد هذا الرواية الأخرى المصرح فيها بالحصر : إنما جعل وتمام الحديث أيضاً يدل على ذلك ، والراوي ثقة ، عالم باللغة ، فلا ينقل إلا اللفظ أو معناه .
2094 وقد روى الترمذي وصححه في هذا الحديث : قال رسول الله : ( إذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق ، فلا شفعة ) .
____________________
(2/165)
2095 وأصرح من هذا كله ما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( إذا قسمت الدار ، وحدت فلا شفعة فيها ) .
2096 وقد روى الأثرم عن عمر ، وعثمان وعلي رضي الله عنهم أنه لا شفعة للجار .
ونقل القاضي يعقوب رواية بثبوت الشفعة بالجوار ، وصححه ابن الصيرفي ، واختاره الحارثي فيما أظن .
2097 لما روي عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الجار أحق بشفعة جاره ، ينتظر بها وإن كان غائباً ، إذا كان طريقهما واحداً ) رواه الخمسة وقال الترمذي : حسن غريب . لكن قد تكلم فيه شعبة وغيره ، وقال بعض المحققين : إنه صحيح ، وإن كلامهم بلا حجة .
2098 وعن أنس رضي الله عه ، أن رسول الله قال : ( جار الدار أحق بالدار ) رواه النسائي ، وابن حبان ، وعلى المذهب لو حكم الحنفي لحنبلي بالجوار فهل له الأخذ ؟ منعه القاضي ، وجوزه ابن عقيل .
( الشرط الثاني ) : أن يكون ذلك الشقص المشترك مما يقبل القسمة ، وهذا معنى قول الخرقي : للشريك المقاسم الذي يقاسم ، أي يستحق أن يقاسم ، فلا تجب في الحمام الصغير ، والبئر ، والعراض الضيقة ، ونحو ذلك ، لأن الحديث ( إذا وقعت الحدود ، وصرفت الطرق ) والحدود إنما تقع فيما يقبل القسمة ، فإذاً تقدير الحديث : الشفغة في كل شيء يقبل القسمة ما لم يقسم .
2099 وقد روى أبو عبيد في الغريب ، عن النبي أنه قضى أن لا شفعة في فناء ، ولا طريق ، ولا منقبة ، ولا ركح . قال أبو عبيد : المنقبة الطريق الضيق بين الدارين ، لا يمكن أن يسلكه أحد ، والركح ناحية البيت من ورائه .
2100 واعتمد أحمد على ما رواه عن ابن إدريس ، عن أبي عمارة ، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن أبان بن عثمان ، عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : لا شفعة في بئر ، ولا فحل ، والأرف يقطع كل شفعة . قال أحمد : الأرف الأعلام ، والفحل فحل النخل .
( الشرط الثالث ) : أن يكون المبيع أرضاً ، فلا شفعة في غير الأرض ، لأن ظاهر الحديث أنه إنما حكم بذلك في الأرض دون غيرها ، إذ وقع الحدود . وتصريف الطرق ، إنما هو في الأرض ، لأن الأرض هي التي تبقى على الدوام ، ويدوم ضررها ،
____________________
(2/166)
ويستثنى من غير الأرض البناء ، والغراس ، فإن الشفعة تجب فيهما تبعاً للأرض .
2001 وفي حديث جابر رضي الله عنه أن النبي : ( قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم ، ربعة أو حائط ، لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ ، وإن شاء ترك ، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ) رواه مسلم وغيره ، فنص على الحائط أي حائط النخل ، وهذا الشرط قد يؤخذ من كلام الخرقي ، من قوله : فإذا وقعت الحدود . إذ الخرقي سبك الحديث . ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى أن الشفعة تجب في كل شيء ، إلا في منقول ينقسم ، فتجب على هذا في كل ما لا ينقسم ، كالحمام الصغير ونحوه ، وفي غير الأرض ، من البناء [ المنفرد ] ونحون ، لعموم حديث جابر المتقدم .
2102 وروى عبد الله بن أحمد رحمه الله في المسند عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، أن النبي قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور .
2103 وروى الطحاوي بسنده عن جابر رضي الله عنه قال : قضى رسول الله بالشفعة في كل شيء . قال بعض الحذاق من المحدثين : ورواته ثقات . ولا ريب عند الأصحاب أن المذهب ما تقدم .
( الشرط الرابع ) : أن ينتقل الشقص بعوض مالي ، وتحريره أنه إن انتقل بغير عوض كالإِرث والوصية ونحوهما لم تثبت الشفعة عندنا بلا نزاع ، وإن انتقل بعوض مالي كالبيع ، والهبة بشرط الثواب ، ونحوهما ثبتت الشفعة بلا نزاع ، وإن انتقل بعوض غير مالي كالصداق ، والصلح عن دم العمد ، ونحوهما فوجهان ، أشهرهما عند القاضي وأكثر أصحابه لا ، ( والثاني ) واختاره ابن حامد ، وأبو الخطاب في الإِنتصار نعم ، وعليه هل يأخذ الشقص بقيمته أو بالدية ومهر المثل ؟ فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : ومن لم يطالب بالشفعة في وقت علمه بالبيع فلا شفعة له .
ش : إذا ثبتت الشفعة فهل حق المطالبة بها على الفور أو التراخي ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي المشهورة ، والمختارة عند الأصحاب أنه على الفور ، فلو أخره من غير عذر سقطت شفعته .
ش : إذا ثبتت الشفعة فهل حق المطالبة بها على الفور أو التراخي ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي المشهورة ، والمختارة عند الأصحاب أنه على الفور ، فلو أخره من غير عذر سقطت شفعته .
2104 لأنه يروى عن النبي أنه قال : ( الشفعة لمن واثبها ) ولأن ثبوته على التراخي ربما أضر بالمشتري ، لعدم استقرار ملكه ، ( والثانية ) واختارها القاضي يعقوب أنه على التراخي ، كخيار العيب ، ( فعلى الأولى ) هل يتقيد بساعة العلم وهو ظاهر كلام الخرقي ، وأحمد ، واختيار أبي محمد ، لظاهر الحديث أو يتقيد بمجلس العلم
____________________
(2/167)
اختاره ابن حامد ، والقاضي وأصحابه ، وحكاه ابن الزاغوني رواية عن أحمد ، إذ حالة المجلس في حكم حالة العقد ؟ فيه قولان ، وعلى الفورية متى كان التأخير لعذر لم تسقط شفعته ، كأن يعلم ليلًلا فيؤخر إلى الصبح ، أو لأكل ، أو شرب لجوع أو عطش به ، أو ليخرج من الحمام ، أو ليأتي بالصلاة وسننها ، أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها ، ونحو ذلك .
وقد نبه الخرقي على ذلك بقوله :
ومن كان غائباً وعلم بالبيع في وقت قدومه ، فله الشفعة وإن طالت غيبته .
ش : لأن الغائب معذور ، إذ الحكم لا يثبت في حقه إلا بعد العلم ، فإذا علم ثبت الحكم في حقه ، ومثله المحبوس ، والمريض ، ونحوهما ممن لم يعلم بالبيع لعذر ، والله أعلم .
قال : وإن علم وهو في السفر فلم يشهد على مطالبته فلا شفعة له .
ش : إذا علم وهو في السفر بالشفعة ، فأشهد على الطلب بها فهو على شفعته ، لأنه قد علم منه أنه غير تارك لها ، بل مطالب ، وكذلك إن لم يشهد لتعذر الشهود ونحو ذلك ، لمقام العذر ، وإن لم يشهد مع وجود من تقبل شهادته سقطت شفعته ، كما لو أخر الطلب مع حضوره ، نعم ) إن ترك الإِشهاد وسار في الطلب ففيه وجهان ، ( السقوط ) وهو ظاهر كلام أحمد ، والخرقي ، لأن السير يكون للطلب وغيره ، فلا يتبين إلا بالإِشهاد ( وعدمه ) لأن الظاهر أن السير للطلب ، وينبغي أن يكون حكم سير وكيله حكم سيره ، وإذا أشهد ثم أخر القدوم مع إمكانه بطلت ضفعته عند القاضي ، ولم تبطل على ظاهر كلام الخرقي ، وكذلك الوجهان إن أخر الطلب بعد القدوم والإِشهاد ، ومقتضى كلام الخرقي أن الإِشهاد إنما يكتفى به في السفر إناطة بالعذر ، وأبو البركات جعل الشرط أحد شيئين الإِشهاد ، أو المضي المعتاد ، والله أعلم .
قال : فإن لم يعلم حتى تبايع ذلك ثلاثة فأكثر ، كان له أن يطالب بالشفعة من شاء منهم ، فإن طالب الأول رجع عليه الثاني بالثمن الذي أخذه منه ، والثالث على الثاني .
ش : هذا تفريع على القول بالفورية كما هو المذهب ، فإذا لم يعلم الشفيع بالبيع حتى تبايع ذلك الشقص اثنان ، أو ثلاثة ، أو أكثر من ذلك ، فإن للشفيع أن يطالب بالشفعة من شاء منهم ، لأن سبب الشفعة الشراء ، وقد وجد من كل واحد منهم ، فإن طالب الأول فسخ عقد من بعده ، وإذاً يرجع الثاني بالثمن على الأول ، لأنه لم يسلم له المبيع ، ويرجع الثالث على الثاني أيضاً لذلك ، وعلى هذا ، وإن طالب الثاني أخذ بما اشتراه به ، واستقر عقد الأول ، وفسخ عقد الثالث ، فيرجع الثالث على الثاني بالثمن لما تقدم وإن طالب الثالث أخذ بما اشتراه به ، واستقر عقد الأولين ، وجعل ابن أبي
____________________
(2/168)
موسى هذا الحكم إذا لم يكن الشقص في يد واحد منهم بعينه ، أما إن كان في يد أحدهم فالمطالبة له وحده .
ومقتضى كلام الخرقي [ أن المشتري ] يصح تصرفه في الشقص المبيع قبل أخذ الشفيع ، أو قبل علمه ، وهو صحيح ، لأن قصاراه أن يكون قد ثبت فيه حق تملك ، وذلك لا يمنع التصرف ، بدليل الابن يتصرف في العين الموهوبة له ، وإن جاز لأبيه الرجوع فيها ، وقيد أبو البركات ذلك بما قبل الطلب ، فلعله بنى ذلك على أن الأخذ يحصل بالطلب ، وهو رأي القاضي ، وأبي الخطاب ، بشرط الملاءة ، وعند أبي محمد لا يملكه إلا بالأخذ ، أو ما يدل عليه ، نحو : أخذته بالثمن ، أو تملكته . وعند ابن عقيل لا يملكه إلا بدفع الثمن ، وعلى رأي الجميع لا يفتقر إلى حكم حاكم ، وفي التذكرة أن يفتقر ، والله أعلم .
قال : وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة .
ش : الشفعة تثبت للصبي كما تثبت للبالغ ، للعمومات ، ولأن ثبوتها لدفع ضرر عن المال ، أشبهت خيار العيب ، فعلى هذا إن كان فيها حظ فللولي الأخذ بها ، بل قال أبو محمد : يجب ، لأه مصلحة من غير مفسدة ، والولي عليه رعاية مصالح الصبي . وإن لم يكن فيها حظ فليس له الأخذ ، فإن أخذ فهل يصح لأن فيه دفع ضرر عن الصبي في الجملة أو لا يصح لمنعه من الشراء ، أشبه مالو اشترى معيباً يعلم عيبه ؟ فيه روايتان ، وإن ترك الولي الأخذ بها مطلقاً فهل للصبي إذا بلغ الأخذ بهاوهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور والخرقي ، لأن الأخذ حق ثبت له ، فلا يسقط بترك غيره ، كوكل الغائب ، ( أو ليس له الأخذ ) وبه كان يفتي ابن بطة ، فيما حكاه عنه أبو حفص ، لأنه يملك الأخذ ، فملك الترك كالمالك ( أو إن تركها ) الولي والحظ فيها للصبي فله الأخذ ، وإن تركها لعدم الحظ سقطت وهو اختيار ابن حامد ، . وتبعه القاضي ، وعامة أصحابه ، لأنه فعل ماله فعله فينفذ ، كما لو أخذ مع الحظ ؟ ثلاثة أقوال ، وحكم المجنون والسفيه حكم الصبي ، والله أعلم .
قال : وإذا بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه ، إلا أن يشاء المشتري أن يأخذ بناءه فله ذلك ، إذا لم يكن في أخذه ضرر .
ش : إذا بنى المشتري قبل أخذ الشقص ، ثم اختار الشفيع الأخذ ، فله ذلك للعمومات ، ويلزمه أن يدفع إلى المشتري قيمة بنائه ، نص عليه أحمد في رواية الجماعة ، دفعاً للضرر المنفي عنه شرعاً ، قال القاضي وأصحابه والشيخان وغيرهم : أو يقلعه ويضمن نقصه ، لأنه في معنى ما تقدم ، لزوال الضرر به ، هذا إن لم يشأ المشتري أخذ بنائه ، فإن أراد أخذ بنائه فقيل : وهو ظاهر كلام الأكثرين ، بل الذي جزموا به له ذلك ، أضر بالأرض أو لم يضر ، لأنه عين ماله ، ولا يلزمه طم الحفر ، ولا الأرش ، قاله القاضي ، إذ النقص حدث في ملكه ، فلا يقابل بعوض ، فعلى هذا
____________________
(2/169)
يخير الشفيع بين أخذه ناقصاً بكل الثمن أو تركه ، وقال أبو محمد : ظاهر كلام الخرقي أن عليه ضمان النقص الحال بالقلع . قلت : وينبغي أن يزيد إذاً أو بالطم .
وظاهر كلام الخرقي امتناع الأخذ على المشتري مع الضرر بالأرض ، إذ الضرر لا يزال بالضرر ، وتبعه على ذلك ابن عقيل في التذكرة ، فعلى هذا يبقى التخيير السابق للشفيع ، فلو امتنع منه سقط حقه ، وحكم الغراس حكم البناء .
( تنبيها ) : ( أحدهما ) : يتصور بناء المشتري على القول بالفورية في صور ، ( منها ) إذا أظهر المشتري زيادة في الثمن ، أو أن الشقص موهوب له ، أو أن الشراء لفلان فقاسمه ، بناء على ذلك ، أو لجهل الشفيع بثبوت الشفعة له ، قاله ابن الزاغوني ، أو قسم عليه لصغره مع الولي ، أو لغيبته إن قلنا : الحاكم يقسم على الغائب ، وغرس أو بنى ثم بان للشفيع الحال ، أو قدم ، أو بلغ .
( الثاني ) : في كيفية تقويم البناء ، قال أبو محمد : الظاهر أن الأرض تقوم وفيها البناء ، ثم تقوم خالية ، فما بينهما قيمة البناء ، فيدفع إلى المشتري إن أحب الشفيع ، أو ما نقص نه إن اختار القلع ، لا قيمته مستحقاً للبقاء ، ولا قيمته مقلوعاً ، والله أعلم .
قال : وإن كان الشراء وقع بعين أو ورق أعطاه الشفيع مثل ذلك ، وإن كان عرضاً أعطاه قيمته .
ش : الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد .
2195 لأن في بعض ألفاظ حديث جابر ( هو أحق به بالثمن ) رواه الجوزجاني ولأن الشفيع يستحق أخذ الشقص ، فيستحقه بالثمن كالمشتري ، إذغا تقرر هذا فإذا وقع العقد على مثلي كالدراهم ، والدنانير ، والمكيلات ، والموزونات أخذ بمثله لمماثلِتِه له صورة ومعنى ، وإن وقع العقد على غير مثلي كالثياب والحيوان أخذ بقيمته وقت العقد ، لتعذر مثله ، ولعل الخرقي إنما خص بالدراهم والدنانير بوجوب المثل لغلبة وقوع البيع بهما ، بخلاف غيرهما من المثليات .
وقول الخرقي : وإن كان الشراء وقع بعين . إلى آخره ، يستثنى منه ما إذا وقع العقد على ثمن ثم زيد فيه أو نقص في مدة الخيارين ، فإن الاعتبار بما استقر عليه العقد ، لا بما وقع العقد عليه ، والله أعلم .
قال : وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري ، إلا أن يكون للشفيع بينة .
ش : إذا اختلفا في الثمن ، فقال المشتري : اشتريته بمائة . وقال الشفيع : بل بخمسين . مثلًا ، فالقول قول المشتري ، إذا الشفيع يدعي الاستحقاق بالثمن الأول ، والمشتري ينكره ، والقول قول المنكر مع يمينه ، ولأن المشتري هو العاقد ، فهو أعلم بصفة العقد ، فإن كانت للشفيع بينة فالقول قوله ، وكذلك إن كانت للمشتري بينة ، وإذاً لا يمين عليه ، ولو أقاما بينتين بما ادعياه ، فقال الشريف : تقدم بينة الشفيع ، لأنه
____________________
(2/170)
خارج ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وقيل : يتعارضان ، والله أعلم .
قال : وإن كانت دار بين ثلاثة ، لأحدهم نصفها ، وللآخر ثلثها ، وللآخر سدسها ، فباع أحدهم ، كانت الشفعة بين النفسين على قدر سهامهما .
ش : الصحيح المشهور من الروايتين أن الشفعة تستحق على قدر الأملاك ، اختاره الخرقي ، وأبو بكر ، وأبو حفص ، والقاضي ، وجمهور أصحابه ، لأنه حق يستفاد بالملك ، فكان في حال الاشتراك على قدره كالغلة ، ( والرواية الثانية ) : أنه على عدد الملاك ، اختارها ابن عقيل ، إذ لو انفرد كل واحد لاستحق الجميع ، فإذا اجتمعوا تساووا ، كالبنين في الميراث ، ( فعلى الأول ) تنظر مخرج سهام الشركاء ، وتأخذ السهم المشفوع فتقسمه على عدد سهام الشفعاء ، ففي هذا المثال الذي ذكره الخرقي ، مخرج السهام ستة ، فإذا باع صاحب النصف فسهام الشفعاء ثلاثة ، فالسهم المشفوع بينهم على ثلاثة ، لصاحب الثلث سهمان ، ولصاحب السدس سهم ، فيصير العقار بينهم على ثلاثة ، ولو باع صاحب الثلث كان نصيبه بينهم أرباعاً ، ولو باع صاحب السدس كان نصيبه بينهم أخماساً ، وعلى القول الثاني يقسم السهم المشفوع بين الآخرين نصفين على كل حال ، والله أعلم .
قال : فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر أن يأخذ إلا الكل أو يترك .
ش : إذا ترك أحد الشركاء شفعته لم يكن لبقية الشركاء أن يأخذوا إلا الكل ، لما في أخذ البعض من التشقيص على المشتري ، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعاً ، فلو كان الشركاء غائبين ، فقدم أحدهما ، لم يكن له أيضاً أن يأخذ إلا الكل أو يترك ، ثم إذا أخذ الكل ، فقدم آخر قاسمه أو عفى ، ثم إذا قدم ثالث قاسم الأولين أو عفى ، فيبقى ما كان يستحقه للأولين ، والله أعلم .
قال : وعهدة الشفيع على المشتري ، وعهدة المشتري على البائع .
ش : العهدة في الأصل كتاب الشراء ، ويقال : عهدته على فلان . أي ما أدرك فيه من درك فإصلاحه عليه ، والمراد هنا أن الشقص إذا ظهر مستحقاً أو معيباً فإن الشفيع يرجع بالثمن أو بأرش العيب على المشتري ، إذ الشفيع تملكه من جهته ، فرجع عليه لكونه بائعه ، ثم يرجع المشتري على البائع ، لما تقدم في الشفيع مع المشتري ، ويستثنى من ذلك إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري ، وقلنا بثبوت الشفعة ، فإن العهدة إذاً على البائع ، لحصول الملك له من جهته ، والله أعلم .
قال : والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها .
ش : إذا لم يطالب الشفيع بالشفعة لم تورث عنه على المنصوص المشهور ، وعليه الأصحاب ، لأنه نوع خيار للتمليك ، أشبه خيار القبول ، ولأنا لا نعلم بقاءه على شفعته ، لاحتمال رغبته عنها ، ولا ينتقل للورثة ما يشك في ثبوته ، وخرج أبو الخطاب
____________________
(2/171)
قولًا بالإِرث ، بناء على رواية إرث الأجل ، أما إن طالب فيورث عنه بلا نزاع ، أما على رأي القاضي ومن تبعه فواضح ، وأما على رأي ابن عقيل ، وأبي محمد ، ومن تبعهما فلأنه قد علم بمطالبته بقاؤه على شفعته واختياره .
واعلم أنه قد اختلف تعليل أحمد رحمه الله في إبطال الشفعة بالموت ، فقال في رواية أبي طالب : الشفعة لا تورث ، لعله لم يكن يطلبها ، فجعل العلة عدم العلم برغبة الميت ، قال القاضي في التعليق . فعلى هذا لو علم الوارث أنه راغب فيها ، كان له المطالبة وإن لم يطالب الميت ، وقال في رواية ابن القاسم : إنها تجب بالطلب ، وإذا تركت لم تجب ، كيف تورث وأصحابها تركوها ؟ ، قال القاضي : وظاهر هذا أنه جعل العلة ترك المطالبة من الميت ، لأنها تسقط بتركها ، قال : فعلى هذا لو مات قبل العلم بالبيع لسفر أو غيره كان للوارث المطالبة . انتهى وقد تحرر من هذا أنها تورث بالمطالبة بلا نزاع ، وبما إذا لم يعلم الشفيع بالبيع على رواية ، وعلى أخرى إذا علم منه الرغبة في الأخذ ، وإذاً ينبغي أن يكون القول قول الوارث في ذلك مع يمينه ، والله أعلم .
قال : وإذا أذن الشريك في البيع ثم طالب بالشفعة بعد وقوع البيع فله ذلك .
ش : إذا أسقط الشريك شفعته قبل البيع ، أو وجد منه ما يدل عليه ، كالإِذن في البيع ونحو ذلك لم تسقط شفعته ، نص عليه أحمد ، معللًا بأن الشفعة إنما وجبت له بعد البيع ، وعلى هذا الأصحاب ، ونقل عنه إسماعيل بن سعيد أن القول بالإِسقاط ليس ببعيد ، معتمداً على الحديث المتقدم ( لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك ، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ) فظاهره أن الترك يسقط الشفعة ، وقد أكده مفهوم قوله : ( فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ) فمفهومه أنه إن باعه وقد آذنه فلا حق له ، وهذا ظاهر ، والله أعلم .
قال : ولا شفعة لكافر على مسلم .
ش : لأنه معنى يختص به العقار ، أشبه الاستعلاء في البنيان .
2106 وقد روى الدارقطني في كتاب العلل عن أنس ، أن النبي قال : ( لا شفعة لنصراني ) ومفهوم كلام الخرقي أن الشفعة تثبت للمسلم على الذمي ، لأنها إذا ثبتت للمسلم على المسلم ، فللمسلم على الكافر أولى ، ومفهومه أيضاً أنها تثبت للذمي على الذمي ، وذلك للعمومات ، وشمل كلام الخرقي من حكم بكفره من أهل البدع ، فإنه لا شفعة له على مسلم .
( تنبيه ) : قال أحمد في رواية حنبل : لا نرى شفعة في أرض السواد .
____________________
(2/172)
2107 وذلك لأن عمر رضي الله عنه وقفها ، وكذلك كل أرض وقفها عمر ، كأرض الشام ومصر ، قال أبو محمد : إلا أن يحكم ببيع ذلك حاكم ، أو يفعله الإِمام أو نائبه ، فتثبت الشفعة ، لأنه مختلف فيه ، وحكم الحاكم ينفذ في المختلف فيه ، والله أعلم .
____________________
(2/173)
( كتاب المساقاة )
المساقاة مفاعلة من السقي سميت بذلك لاحتياج أهل الحجاز إلى السقي من الآبار ، وهي في الإِصطلاح قال أبو محمد : عبارة عن أن يدفع الرجل شجره إلى آخر ، ليقوم بسقيه وما يحتاج إليه ، بجزء معلوم له من ثمره ، وليس بجامع ، لخروج ما يدفعه إليه ليغرسه ويعمل عليه ، ولا بمانع ، لدخول ما له ثمر غير مقصود كالصنوبر .
2108 والأصل في جوازها ما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : عامل رسول الله أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر ، متفق عليه .
2109 وقال البخاري : قال قيس بن مسلم ، عن أبي جعفر رضي الله عنهم قال : ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث أو الربع ، وزارع علي ، وسعد بن مالك ، وابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز ، والقاسم ، وعروة ، وآل أبي بكر ، وآر عمر ، وآل علي قال : وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر ، وإن جاؤا بالبذر فلهم كذا ، ومثل هذا لا يقصر عن رتبة الإِجماع . والله أعلم .
قال : وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم ، بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر .
ش : تجوز المساقاة في النخل والكرم ، وكل شجر له ثمر مقصود ، لعموم ما تقدم من حديث ابن عمر ، ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة على الشجر ، فأشبه النخل والكرم ، ويشترط أن يكون بجزء مشاع معلوم ، كالثلث ، والربع ، والعشر ، ونحو ذلك ، للحديث ، لا على صاع أو آصع ، أو ثمرة نخلة بعينها ، لما فيه من الغرر ، إذ يحتمل أن لا يحصل إلا ذلك فيتضرر رب الأصل ، ويحتمل أن يكثر الحاصل فيتضرر العامل .
2110 وفي الصحيحين عن رافع بن خديج رضي الله عنه ، قال : كنا أكثر الأنصار حقلًا ، فكنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه ، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك رسول الله ، فأما الورق فلم ينهنا . ولا على جزء مبهم كنصيب ونحوه ، للغرر المنهي عنه شرعاً .
ومقتضى كلام الخرقي أن التسمية تكون للعامل ، لأن المالك يستحق بالأصل ، فلو كانت التسمية للمالك كأن قال : لي النصف فهل تصح ، ويكون الباقي للعامل ،
____________________
(2/174)
أو لا تصح ؟ فيه وجهان ، ومقتضى كلامه أنها لا تصح على ما لا ثمر له ، وهو صحيح ، إذ ليس منصوصاً عليه ، ولا في معنى المنصوص عليه ، وكذلك ما له ثمر غير مقصود ، نعم إن قصد ورقه كالتوت ، أو زهره كالورد ونحوه ، فقال أبو محمد : القياس جواز المساقاة ، عليه ، لأنه في معنى المنصوص ، وقد يقال : إن المنصوص يشمله ، وقوله : الثمر ( أل ) بدل من المضاف إليه ، أي من ثمرتها ، فلو شرط له ثمرة نخل غير التي ساقاه عليها لم يصح ، وكذلك لو جعل له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه عليها ، لمخالفة ذلك لموضوع المساقاة ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم .
ش : إذا شرط له جزءاً معلوماً كالربع مثلًا ومائة درهم لم يصح ، لأنه في معنى شرط آصع ، إذ يحتمل أنه لا يحدث من النماء ما يساوي تلك الدراهم ، فيتضرر رب المال ، وبطريق الأولى لو شرط له دراهم منفردة عن جزء لما تقدم ، ولمخالفة موضوعها ، والله أعلم .
قال : وتجوز المزارعة ببعض مايخرج من الأرض .
ش : المزارعة دفع الأرض إلى من يزرعها ، ويعمل عليها بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها لما تقدم من حديث ابن عمر ، وقصة أبي جعفر .
2111 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف ، رواه أحمد ، وابن ماجه . والله أعلم .
قال : إذا كان البذر من رب الأرض .
ش : المشهور عن أحمد رحمه الله كما قال الخرقي أنه يشترط كون البذر من رب الأرض ، وعلى هذا عامة الأصحاب ، حتى أن القاضي وكثيراً من أصحابه لم يذكروا خلافاً ، لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه ، فوجب أن يكون رأس المال كله من أحدهما ، كالمساقاة والمضاربة .
ونقل عنه مهنا ما يدل على جواز كون البذر من العامل ، واختاره أبو محمد .
2112 لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي أعطي خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها ، ولهم شطر ما يخرج منها ، رواه البخاري ، ولمسلم وأبي داود والنسائي : دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها ، على أن يعتملوها من أموالهم ، ولرسول الله شطر ثمرتها . وقد تقدم عن عمر أنه قال : وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا . والله أعلم .
____________________
(2/175)
قال : وإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز ، وكانت للمزارع أجرة مثله .
ش : إذا اتفقا على أن رب الأرض يأخذ مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز ، لأنه بمنزلة ما لو اشترط آصعا معلومة ، إذ ربما لا تخرج هذه الأرض إلا مقدار البذر ، فيذهب عمل العامل مجاناً ، وإذاً يفسد هذا الشرط ، ويفسد به العقد ، لأنه يعود بجهالة نصيب كل منهما ، وإذا فسد العقد كان الزرع لصاحب البذر ، لأنه عين ماله ، سيما والأرض أرضه ، وعليه للعامل أجرة مثله ، لأنه إنما دخل للعمل ولم يسلم له ، والله أعلم .
قال : وكذلك تبطل إن أخرج المزارع البذر ، ويصير الزرع للمزارع ، وعليه أجرة الأرض .
ش : هذا تصريح منه بالبطلان في المسألة السابقة ، وإنما بطلت المزارعة هنا إذا أخرج المزارع البذر لما مر من أن شرط صحة المزارعة كون البذر من رب الأرض ، فإذا فات الشرط فات المشروط ، وإذاً يصير الزرع للمزارع ، لأنه عين ماله ، وعليه أجرة الأرض ، لأن ربها إنما بذلها بعوض ولم يسلم له ، والله سبحانه أعلم .
____________________
(2/176)
( كتاب الإِجارة )
قال في المغني : إنها مشتقة من الأجر وهو العوض ، ومنه سمي الثواب أجراً ، وحدها في الوجيز بأنها : عوض معلوم ، في منفعة معلومة ، من عين معينة أو موصوفة في الذمة ، أو في عمل معلوم . وليس بمانع ، لدخول الممر وعلو بيت ونحوه والمنافع المحرمة .
والأصل في جوازها قوله تعالى : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ) وقوله تعالى حكاية عن صاحب موسى 19 ( { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ، على أن تأجرني ثماني حجج ، فإن أتممت عشراً فمن عندك } ) الآية .
2113 قال : ( إن موسى عليه السلام أجر نفسه ثماني حجج أو عشراً ، على عفة فرجه ، وطعام بطنه ) رواه أحمد وابن ماجه .
2114 وعن عائشة رضي الله عنها في حديث الهجرة قالت : واستأجر النبي وأبو بكر رجلًا هادياً خريتا والخريت الماهر بالهداية وهو على دين كفار قريش ، وأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا . رواه أحمد والبخاري .
2115 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم ) فقال أصحابه : وأنت ؟ قال : ( نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) رواه أحمد والبخاري والإِجماع على ذلك إلا ما حكي عن الأصم ولا عبرة به ، والله أعلم .
قال : وإذا وقعت الإِجارة على مدة معلومة ، بأجرة معلومة فقد ملك المستأجر المنافع ، وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ، إلا أن يشترطا أجلًا .
ش : الإِجارة على ضربين ( أحدهما ) أن تقع على عين موصوفة أو معينة ، مدة معلومة ، كأجرتك هذه الدار شهراً ، ونحو ذلك ( والثاني ) : أن تقع على عمل معلوم ، كبناء حائط ، وخياطة ثوب ، وحمل إلى موضع معين ، ونحو ذلك ، والمقصود هنا هو الأول .
____________________
(2/177)
واعلم أن الإِجارة لها ثلاثة أركان ( الركن الأول ) العاقد ، ولم يذكره الخرقي لوضوحه ، إذ شرط العاقد في جميع العقود كونه جائز التصرف ( الثاني ) المعقود عليه ، وهو المنفعة والأجرة ، ( أما المنفعة ) فمن شرطها أن تكون معلومة ، فإذا كانت على مدة كما قال الخرقي اشترط كونها معلومة ، كشهر كذا ونحو ذلك ، بلا خلاف نعلمه ، ولو علقها على ما يقع اسمه على شيئين كالعيد وجمادى ، فهل يصح وينصرف إلى الأول منهما وهو رأي أبي محمد أو لا يصح حتى يعين ذلك وهو رأي القاضي ؟ فيه وجهان .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط في المدة أن تلي العقد وهو صحيح ، وإذاً لا بد من ذكر الابتداء كالانتهاء ، فلو أطلق فقال : أجرتك هذه الدار شهراً ، فهل يصح ، ويكون ابتداؤه من حين العقد وهو اختيار أبي محمد أو لا يصح حتى يسمي الشهر وهو منصوص أحمد ، وبه قطع القاضي وكثيرون ؟ فيه قولان .
وظاهر كلامه أيضاً أنه لا تقدير لأكثر مدة الإِجارة ، فتجوز إجارة العين مائة سنة وأكثر ، إذا غلب على الظن بقاؤها فيها ، وهذا المذهب ، وقد نص أحمد على جواز عشر سنين ، وقيل : واختاره ابن حامد يتقيد ذلك بسنة ، فلا يجوز أكثر منها ، وقيل : بل بثلاثين سنة .
( وأما الأجرة ) فمن شرطها أيضاً أن تكون معلومة كالثمن في المبيع .
2116 وقد روي عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : نهى رسول الله عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره . رواه أحمد ، ثم هل يشترط العلم بقدر رأس المال وصفته ، أو تكفي مشاهدته ؟ فيه وجهان .
( الركن الثالث ) : المعقود به وهو الصيغة ، وتنعقد بلفظ الإِجارة والكراء ، وكذا ما في معناهما على الصحيح ، وهل تنعقد بلفظ البيع ؟ فيه وجهان ، أصلهما هل هي نوع من البيع أو شبيهة بالبيع .
إذا تقرر هذا وصحت الإِجارة فقال الخرقي : فقد ملك المستأجر المنافع . ولا ريب في هذا .
2117 وقد نص عليه أحمد ، محتجاً بأن ابن عمر رضي الله عنهما اكترى جمالًا ثم صارف الجمال ، ولو لم يكن قد ملكها لم تصح مصارفته ، فظاهر احتجاجه إنما هو في الأجرة ، لأنها أحد العوضين فإذا ملكت ملك الأجر ، وأيضاً فإن المؤجر يملك التصرف في هذه المنفعة كما يتصرف في العين ، فإذا أجرها ملك المستأجر منها ما كان يملك المؤجر ، وإذا ملك المستأجر المنافع حين العقد ملك المؤجر جميع الأجرة إذاً ، لأنها أحد العوضين فيملك بما يملك به الآخر . [ إذ المعارضة مبناها
____________________
(2/178)
المعادلة ، فإذا ملك المستأجر المنفعة ملك المؤجر الأجرة ] .
واعلم أن الأجرة وإن ملكت بالعقد فإنها لا تستقر إلا بمضي المدة ، ولا يستحق تسليمها إلا بعد تسليم المعقود عليه ، فإذا كانت على عين إلى مدة وهو الذي ذكره الخرقي فلا يجب تسليم الأجرة إلا بعد تسليم العين ، وإن كانت على عمل في الذمة فلا يجب تسليم أجرته إلا بعد تسليم العمل ، وعلى هذا وردت النصوص ، نحو قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } ) فإن الإِرضاع مل في الذمة ، فإذا سلمته وجب إيتاؤها أجرتها .
2118 وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( يقول الله عز وجل : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ومن كنت خصمه خصمته ، رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حراً وأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه أجره ) رواه أحمد والبخاري .
2119 وروى أيضاً في حديث له عن النبي أنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان ، قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : ( لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ) رواه أحمد . فهذه النصوص ظاهرها أنها على عمل في الذمة . هذا كله إن لم يوجد شرط لفظي أو عرفي يقتضي التأخير أو التعجيل ، فإنه يعمل بمقتضاه ، فلو أجره داره شهراً بمائة درهم تحل في آخره ، أو أجره على خياطة ثوب بدرهم الآن ، عمل على ذلك ، وعلى هذا يحمل قول ابن أبي موسى ، وإن استؤجر كل يوم بأجر معلوم ، فله أجر كل يوم عند تمامه ، إذ عرف الناس المطرد في ذلك أنهم إذا استأجروا إنساناً شهراً كل يوم بكذا ، فإنهم يعطونه الأجرة في آخر كل يوم ، فيجري هذا مجرى الشرط ، ولو لم يحمل على هذا لكان ظاهره مخالفاً لقول الخرقي والأصحاب ، كما أن ظاهر قول الخرقي : وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد ، إلا أن يشترطا أجلًا . يقتضي أن الأجرة المؤجلة لا تملك حين العقد ، وفيه نظر ، إذ صرح القاضي في تعليقه في الجنايات بأن الدين في الذمة غير مؤجل ، بل ثابت في الحال ، وإن تأخرت المطالبة به ، وإذاً ينبغي أن يكون تقدير كلامه : وملكت عليه الأجرة ، ووجب تسليمها إن سلمت العين ، إلا أن يشترطا أجلًا فلا يجب التسليم ، فيكون الإِستثناء من مقدر ، والله أعلم .
قال : وإذا وقعت الإِجارة على كل شهر بشيء معلوم ، لم يكن لواحد منهما الفسخ إلا عند تقضي كل شهر .
ش : قد تضمن كلام الخرقي رحمه الله صحة نحو هذه الإِجارة ، وهو
____________________
(2/179)
المنصوص من الروايتين ، واختيار القاضي ، وعامة أصحابه ، والشيخين .
2120 لما روي عن علي رضي الله عنه قال : جعت مرة جوعاً شديداً ، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة ، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مداراً ، فظننتها تريد بله ، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة ، فمددت ستة عشر ذنوباً ، حتى مجلت يداي ، ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة ، فأتيت النبي فأخبرته فأكل معي منها . رواه أحمد ، ووزان هذا إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم ، فالعلم بالثمن يتبع العلم بالمثمن ، كذلك هنا ، العلم بالأجر يتبع العلم بالمنفعة .
( والرواية الثانية ) واختارها أبو بكر ، وابن حامد وفي الكافي أبو بكر ، وجماعة من أصحابنا بطلان ذلك ، نظراً إلى أن المدة مجهولة ، ، إذ ( كل ) اسم للعدد ، فإذا لم يقدره كان مجهولًا ، فعلى الأولى الإِجارة تلزم في الشهر الأول وتكون فيما بعده مراعاة ، فلكل واحد منهما أن يفسخ عند رأس كل شهر ، بأن يقول : فسخت الإِجارة في الشهر المستقبل . ونحو ذلك ، فلو لم يفسخ حتى دخل الشهر الثاني لزم العقد فيه ، وكذلك الثالث ، هذا مقتضى كلام الخرقي ، وأبي الخطاب في الهداية ، وابن عقيل في التذكرة ، وأبي محمد في كتبه ، وقد صرح بذلك ابن الزاغوني فقال : تلزم بقية الشهور إذا شرع في أول الجزء من ذلك الشهر ، وقال القاضي : له الفسخ في جميع اليوم الأول من الشهر الثاني ، وبه قطع أبو البركات ، وأورده ابن حمدان مذهباً ، والله أعلم .
قال : ومن استأجر عقاراً مدة بعينها فبدا له قبل تقضيها لزمته الأجرة .
ش : من شرط صحة استئجار العقار أن يكون على مدة معينة ، ولا بد أيضاً أن يكون معلوماً برؤية ، ولا تكفي الصفة ، لعدم تأتيها على ذلك ، إذا تقرر ذلك ، فمتى بدا للمستأجر الفسخ قبل تقضي المدة لم تنفسخ ، لأن الإِجارة عقد لازم من الطرفين ، إذ هي أحد نوعي البيع ، وإذاً لا يملك أحد المتعاقدين فسخه ، فإذا فسخ المستأجر فوجود ذلك كعدمه ، في بقاء الأجرة عليه ، وفي ثبوت المنفعة له ، والله أعلم .
قال : ولا يتصرف مالك العقار فيه إلا عند تقضي المدة .
ش : لا يتصرف مالك العقار فيه إذا فسخ المستأجر الإِجارة أو لم يفسخها إلا إذا انقضت المدة ، لما تقدم من أن الفسخ لا ينفذ ، وأن المنفعة باقية على ملكه ، وبطريق الأولى إذا لم يفسخ ، فإن تصرف فإن كان قبل تسليم العين فقال : أبو محمد تنفسخ الإِجارة . وإن كان بعده كما إذا أكراه داراً سنة وسلمها له فسكن شهراً ، ثم ترك السكنى فتصرف المالك فيها فهل تنفسخ الإِجارة فيما تصرف فيه أولًا ويكون للمستأجر عليه أجرة المثل ؟ فيه احتمالان ، والله أعلم .
قال : فإن حوله المالك قبل تقضي المدة لم يكن له أجرة لما سكن .
____________________
(2/180)
ش : إذا حول المؤجر المستأجر قبل انقضاء المدة المعقود عليها ، لم يكن للمؤجر أجرة لما سكن ، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب لأنه لم يسلم إليه المعقود عليه ، فلم يستحق [ شيئاً ] ، كما لو استأجره ليحفر له عشرين ذراعاً ، فحفر عشرة ، وامتنع من حفر الباقي ، وحكى أبو محمد في المقنع احتمالًا بأن عليه من الأجرة بقسطه ، لأن استيفاءه حصل على وجه المعاوضة ، أشبه المبيع استوفى بعضه ، ومنعه المالك بقيته ، والله أعلم .
قال : وإن جاء أمر غالب ، يحجز المستأجر [ عن ] منفعة ما وقع عليه العقد ، لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه .
ش : قد تقدم أن المعقود عليه المنفعة ، فإذا جاء أمر منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها ، وكان قد انتفع ، فإن عليه من الأجرة بقدر ما انتفع ، لحصول المعقود عليه ، والتمكن من استيفائه شرعاً ، فأشبه ما لو استوفى جميع المنفعة ، ولا يلزمه أجرة لما يستقبل ، لعدم حصول المعقود عليه ، إذ حصولها إنما هو باستيفائها أولًا فأول ، وقد تعذر ذلك ، وصار هذا كما لو اشترى صبرتين ، فقبض إحداهما وتلفت الأخرى بأمر سماوي قبل قبضها ، ثم إن كانت أجرة المدة متساوية ، وقد استوفى نصف المدة مثلًا ، ومنع من باقيها ، فعليه نصف الأجرة ، وإن اختلفت كأن يكون أجرها في الصيف أكثر من أجرها في الشتاء ، أو بالعكس ، فإن الأجر المسمى يقسط على ذلك ، فإذا قيل : إن أجرها في الصيف يساوي مائة درهم ، وأجرها في الشتاء يساوي خمسين ، وكان قد سكن الصيف ، كان عليه بقدر ثلثي المسمى .
إذا تقرر هذا فاعلم أن الأمر الغالب الذي ذكره الخرقي له صور ( إحداهما ) إذا تلفت العين ، ثم إن كان تلفها قبل التسليم ، أو بعده ، وقبل مضي مدة لها أجر ، فإن الإِجارة تنفسخ ، وإن كان بعد التسليم ومضي مدة لها أجر ، انفسخ فيما بقي ، واستقر ما مضى ، وهذه الصورة مما يدل عليه كلام الخرقي ، لكن ليس في كلامه رحمه الله تعرض للفسخ ولا لعدمه ، وظاهره الفسخ ، ( الصورة الثانية ) : أن يحدث للعين ما يمنع استيفاء معظم المعقود عليه مع بقائها ، كدار انهدمت وأرض انقطع ماؤها ، ونحو ذلك ، فهل تنفسخ الإِجارة وهو مقتضى كلام الخرقي ، وبه قطع ابن أبي موسى ، والشيرازي ، وابن البنا ، ذكروه في الدار ، واختاره أبو محمد ، لأن المقصود بالعقد قد فات ، أشبه ما لو تلف ( أو لا تنفسخ ) ، بل يثبت للمستأجر خيار الفسخ وهو قول القاضي في الدار ، وصححه القاضي في التعليق ، لإِمكان الانتفاع بالعرصة ، بنصب خيمة ، أو جمع حطب ، ونحو ذلك ، أشبه نقص العين ؟ فيه وجهان ، أما لو زال نفعها بالكلية ، أو الذي بقي فيها لا يباح استيفاؤه بالعقد ، كدابة مؤجرة للركوب ، صارت لا تصلح إلا للحمل ، فإن الإِجارة تنفسخ وجهاً واحداً ، ( الصورة الثالثة ) إذا غصب العين غاصب ، فيخير المستأجر بين الفسخ والرجوع بما يقابل ما بقي من
____________________
(2/181)
المدة ، وبين الإِمضاء ومطالبة الغاصب بأجرة المثل ، وخرج أبو الخطاب الانفساخ إن قيل بعدم تضمين منافع المغصوب ، ويحتمله كلام الخرقي هنا ، ( الصورة الرابعة ) إذا حدث خوف عام ، منع المستأجر من استيفاء المنفعة ، أو حصرت البلد ، فامتنع المستأجر من الخروج إلى الأرض المؤجرة ، أو اكترى للحج فلم يحج الناس ذلك العام ، ونحو ذلك ، فإن للمستأجر خيار الفسخ .
ومقتضى كلام الخرقي رحمه الله أنه لو حدث أمر يمنع المستأجر من منفعة ما وقع عليه العقد ، كأن تعيب المعقود عليه ، فإن العقد لا ينفسخ ، نعم للمستأجر الخيار بين الفسخ والإِمساك بكل الأجرة ، ذكره ابن عقيل ، وتبعه أبو محمد وغيره ، قاله أبو البركات ، وقياس المذهب أن له الأرش ، ولا يبطل الخيار بالتأخير .
( فائدة ) لو أتلف المستأجر العين المؤجرة ، ثبت ما تقدم من الفسخ أو الانفساخ ، مع تضمين المستأجر ما أتلف ، ومثله جب المرأة زوجها تضمن ولها الفسخ ، والله أعلم .
قال : ومن استؤجر لعمل شيء بعينه فمرض أقيم مقامه من يعمله ، والأجرة على المريض .
ش : هذا أحد نوعي الإِجارة ، وهو الإِجارة على عمل شيء في الذمة ، معين برؤية أو صفة ، كخياطة هذا الثوب ، وبناء حائط طوله كذا وعرضه كذا ، وآلته كذا ، فمتى مرض المؤجر والحال هذه لزمه أن يقيم مقامه من يعمل ذلك ، ليخرج من الحق الواجب في ذمته إيفاؤه ، أشبه المسلم فيه ، والأجرة عليه ، لأنها في مقابلة ما وجب عليه ، ويستثنى من ذلك ما إذا شرط عينه ، كأن تخيط لي أنت هذا الثوب ، فههنا لا يقيم غيره مقامه ، بل يخير المستأجر بين الفسخ ، والصبر حتى يتبين الحال ، والله أعلم .
قال : وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإِجارة بحالها .
ش : ولا انفساخ ، لأن الإِجارة عقد لازم ، فلا تنفسخ بتلف العاقد مع سلامة المعقود عليه ، كما لو زوج أمته ثم مات ، هذا المنصوص عن أحمد ، وعليه الأصحاب ، وقال أبو محمد في المستأجر إذا لم يكن وارث ، أو تعذر استيفاء وارثه ، كأن اكترى للحج ، ومات في الطريق : إن الإِجارة تنفسخ ، وزعم أن هذا ظاهر كلام أحمد وشمل كلام الخرقي رحمه الله إذا مات الموقوف عليه ، فانتقل الوقف إلى من بعده ، فإن الإِجارة لا تنفسخ ، وهو أحد الوجهين ، والوجه الآخر تنفسخ ، وهو قول أبي إسحاق بن شاقلا ، وأومأ إليه أحمد لا للموت ، بل لأن ملكه قد زال ، والله أعلم .
قال : ومن استأجر فله أن يسكنه غيره ، إذا كان يقوم مقامه .
ش : إذا استأجر عقاراً فله أن يسكنه غيره ، لأنه ملك المنفعة ، فله أن يتصرف
____________________
(2/182)
فيها كيف شاء ، كالمشتري إذا ملك المبيع ، ، لكن شرط إسكان الغير أن يكون ذلك الغير يقوم مقامه ، كما إذا اكترى داراً للسكنى ، فله أن يدفعها لمن يسكنها ، لا لحداد وقصار يعمل فيها ذلك ، وإن اكترى ظهراً للحمل فله أن يركبه مثله ، ومن هو أخف منه ، لا من هو أثقل نه ، وإن اكترى دابة لحمل الحديد ، فليس له أني يدفعها لمن يحمل عليها القطن ، ونحو ذلك ، لأن ذلك غير المعقود عليه ، أو زائد عليه ، فلا يجوز .
وقد شمل كلام المصنف إسكان الغير على وجه العارية ، أو الهبة ، أو الإِجارة ، وقد اختلف عن أحمد في الإِجارة ، فعنه وهو المذهب عند الأصحاب ، وظاهر كلام الخرقي الجواز مطلقاً ، لما تقدم من أنه ملك المنفعة ، ومقتضى ملك المنفعة جواز التصرف فيها كالأعيان ، ولأن من جاز له أن يستوفي المنفعة بنفسه جاز له أن يستوفيها بغيره ، دليله مالك الرقبة ، ( وعنه ) عدم الجواز مطلقاً ، لأنه تصرف فيما لم يدخل في ضمانه فلم يجز ، كالتصرف في المكيل والموزون قبل قبض ، ( وعنه ) يجوم بمثل ما اكترى لا بأزيد ، حذاراً من أن يربح فيما لم يضمن ، وقد نهى النبي عن ربح ما لم يضمن ، فإن فعل تصدق بالزيادة نص عليه ، ( وعنه ) إن عمل فيها عملًا كأن جدد عمارة ونحو ذلك جازت [ الزيادة ، جعلا لها في مقابلة العمل ، وإلا لم تجز ، ( وعنه ) إن أذن له المؤجر في الإِجارة جازت ] وإلا فلا ، كذا الرواية فيما نقله حنبل ، وكذلك حكاها القاضي وغيره ، وحكى أبو محمد الرواية أنه إن أذن له المؤجر في الزيادة جازت وإلا فلا ، ومحل الخلاف فيما بعد القبض ، أما قبله فعلى القول بالجواز ثم ، فههنا أوجه ( الجواز ) ( وعدمه ) ، والثالث يجوز للمؤجر دون غيره ، والله أعلم .
قال : ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته .
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، واختيار القاضي في التعليق الكبير ، وجماعة .
2121 لما روى عتبة بن الندر رضي الله عنه ، قال : كنا عند النبي فقرأ ( طس ) حتى بلغ قصة موسى ، فقال : ( إن موسى أجر نفسه ثماني سنين ، أو عشر سنين ، على عفة فرجه ، وطعام بطنه ) رواه أحمد ، وابن ماجه ، وشرع من قبلنا شرع لنا على المشهور ، ولا سيما وقد ذكره مقرراً له ، ويعضده وجوب النفقة والكسوة للمرضعة ، قال تعالى : 19 ( { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ) ونقل عنه حنبل : أكرهه : معللًا بالجهالة ، وهو اختيار القاضي في بعض كتبه أظنه في المجرد ، وحمل الكراهة هو وغيره على المنع ، بقرينة ما علل به الإِمام ، والله أعلم .
قال : وكذلك الظئر .
____________________
(2/183)
ش : الظئر هي المرضعة غير ولدها ، وقد ظأره على الشيء . إذا عطفه عليه ، وحكمها في استئجارها على الرضاع بطعامها وكسوتها حكم الأجير ، فيها الروايتان ، إلا أن القاضي قال : لا يختلف قوله هنا في الجواز ، ولهذا قيل محل الروايتين في الأجير أما الظئر فيجوز إجارتها بذلك رواية واحدة ، لقضية النص .
( تنبيه ) : إذا صحت الإِجارة فهل قدر الطعام والكسوة ما يجب في الكفارة حملا للمطلق من كلام الآدميين ، على المقيد من كلام الشارع أو يرجع إلى نفقة مثله وكسوته حملا للمطلق على المتعارف ، وهو الذي جزم به أبو البركات ؟ فيه روايتان منصوصتان ، وقال أبو محمد في المقنع والمغني ، وصاحب التلخيص : يرجع في الإِطعام إلى الكفارة ، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله ، وهو تحكم ، ثم أبو محمد وغيره يخص المسألة بصورة الاختلاف ، وأبو البركات لا يخصها بذلك ، وكلام أحمد وقع تارة على هذا ، وتارة على هذا ، والله أعلم .
قال : ويستحب أن تعطى عند الفطام عبداً أو أمة كما جاء الخبر ، إذا كان المسترضع موسراً .
2122 ش : الخبر ما روى حجاج بن حجاج الأسلمي ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع ؟ قال : ( الغرة ، العبد أو الأمة ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، والمعنى في ذلك والله أعلم أن الرضاع سبب حياته ، وحفظ رقبته ، فجعل الجزاء من جنس .
2122 م الرقبة ، ليناسب الشكر النعمة ، ولهذا قال النبي : ( لا يجزي ولده والده إلا أن يجده مملوكاً فيعتقه ) والله أعلم .
قال : ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوزه ، فعليه الأجرة المذكورة ، وأجرة المثل لما جاوز .
ش : كما إذا اكترى إلى بلبيس مثلًا ، فجاوزه إلى الصالحية ، فإن عليه الأجرة المسماة في العقد ، لاستيفاء المعقود عليه متميزاً عن غيره ، وأجرة المثل للزائد ، لأنه متعد في ذلك ، فهو كالغاصب ، وقد حكى ذلك أبو الزناد عن الفقهاء السبعة ، وهذه الصورة متفق عليها ، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في المقنع من وجوب أجرة المثل على قول ، ولا ما اقتضاه كلام ابن حمدان من وجوب ما بين القيمتين على قول ، وأجرة المثل على قول ، فإن القاضي قال : لا يختلف أصحابنا في ذلك . وقد نص عليه أحمد ، والله أعلم .
____________________
(2/184)
قال : وإن تلفت فعليه أيضاً قيمتها .
ش : يعني إذا تلفت في مدة المجاوزة ، لأنه إذاً متعد ، فضمنها كالغاصب ، هذا إذا لم تكن يد صاحبها عليها ، أو كانت يده عليها واستكرهه على ذلك ، أما لو كانت يد صاحبها عليها ، ولم يرض بذلك ، فظاهر كلام الخرقي أنه يضمنها أيضاً ، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا ، والشيرازي ، وأبي محمد في الكافي ، وأبي البركات ، إناطة بالتعدي ، وسكوت صاحبها لا يدل على الرضى ، كما لو باع ملك غيره بحضرته فلم يمنعه ، وقيل : إنما يضمن نصف قيمتها فقط ، لأنه اجتمع عليها يدان ، يد صاحبها ، ويد المستأجر ، وما يقابل يد المستأجر يقابل النصف ، فيختص بضمان النصف ، وعن القاضي في الشرح الصغير : لا ضمان ، لوجود يد المالك ، وعنه أظنه في المجرد : إن تلفت وهو راكبها ، أو حمله عليها ضمنها ، وإن تلفت وقد نزل عنها ، وسلمها إلى مالكها لسقيها ونحو ذلك فلا ضمان ، ووافقه في المغني على ذلك ، إلا أنه استثنى فيما إذا تلفت في يد مالكها بسبب تعبها من الحمل ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن اكترى لحمولة شيء فزاد عليه .
ش : مثل أن يكتريها لحمل مائة رطل ، فيحمل مائة وعشرة ونحو ذلك ، لأنه استوفى المعقود وزاد عليه ، فيلزمه المسمى ، وأجرة المثل للزائد ، وضمان الدابة إن تلفت لتعديه ، أو ضمان النصف ، لتلفها بفعل مضمون وغير مضمون ، وحكى القاضي وتبعه أبو محمد في المقنع عن أبي بكر وجوب أجرة المثل في الجميع ، اعتماداً على قوله فيمن استأجر أرضاً لزرع شعير فزرع حنطة : إن عليه أجرة المثل للجميع ، لعدوله عن المعقود عليه إلى غيره ، قال في المغني : وبينهما فرق ، فإن ما حصل التعدي فيه في الحمل متميز ، وهو الرطل الزائد مثلًا ، بخلاف الزرع ، فإلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى إلى موضع فجاوزه أسد ، وهذا الذي قطع به في الكافي ، وأبو البركات ، مع أن أحمد نص في الزرع في رواية عبد الله أنه ينظر إلى ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير ، فيعطى رب الأرض ، بيان ذلك أن يقال : أجرة مثلها إذا زرعها حنطة أن تساوي مائة درهم ، وأجرة مثلها إذا زرعها شعيراً أن تساوبي ثمانين ، فالواجب عليه ما بين ذلك ، وهو عشرون ، مع المسمى في العقد ، ولو اكترى لحمل حديد ، فحمل قطناً ، وجب أجرة المثل هنا بلا نزاع ، قاله أبو محمد ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يكتري لمدة غزاته .
ش : لجهالة المدة المشترط عليها ، والله أعلم .
قال : فإن سمى لكل يوم شيئاً معلوماً فجائز .
ش : هذا هو المنصوص عن أحمد ، وهو قياس مسألة كل شهر بدرهم ، وقد
____________________
(2/185)
تقدمت نقلًا ودليلًا ، والله أعلم .
قال : ومن اكترى إلى مكة فلم ير الجمال الراكبين ، والمحامل ، والأغطية ، والأوطية ، وجميع ما يحتاج إليه لم يجز الكراء .
ش : يشترط معرفة المعقود عليه كالبيع ، فيحتاج الجمّال إلى رؤية ما تقدم ، لأن ذلك يختلف ويتباين ، فاشترطت معرفته كقدر الطعام المحمول ، وذكر الخرقي هذه الصورة لينبه على مذهب الغير ، إذ مذهب مالك رحمه الله عدم اشتراط رؤية الراكبين ، وكذلك أبو حنيفة في الأوطية في حال ، وكذلك الشافعي في غطاء المحمل وتبعه القاضي رحمه الله ، والله أعلم .
قال : فإن رأى الراكبين أو وصفاً له ، وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز .
ش : لأن ذلك مما ينضبط بالصفة ، ولذلك يصح السلم فيه ، وإذاً تحصل معرفته ، وقال الشريف و أبو الخطاب : لا تكفي الصفة في ذلك ، لاختلاف الراكب في ثقله وخفته ، وحركته وسكونه ، وذلك لا ينضبط بالصفة ، والله أعلم .
قال : وما حدث في السلعة من يد الصانع ضمن .
ش : الأجير على ضربين ، ( أجير خاص ) وهو من استؤجر إلى مدة ، كمن استؤجر شهراً أو يوماً ، لخدمة ، أو بناء ، ونحو ذلك ، فيستحق المستأجر نفعه في جميع المدة ، [ سمي خاصاً لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة ] ( وأجير مشترك ) وهو الذي قدر نفعه بالعمل ، كمن استؤجر لخياطة ثوب معين أو موصوف ، ونحو ذلك ، سمي مشتركاً للاشتراك في عمله ، لأنه يتقبل لاثنين وأكثر .
إذا تقرر هذا فالأجير الخاص لا يضمن ما تلف بفعله ، ولا بغير فعله ، ما لم يوجدمنه تفريط وقصد للخيانة ، نص عليه أحمد في رواية جماعة ، وعليه الأصحاب ، لأن عمله غير مضمون عليه ، فلم يضمن ما تلف به كالقصاص ، ولأنه نائب عن المالك ، في صرف منافعه فيما أمر به ، فلم يضمن إذا لم يتعد ، كالوكيل ، وذهب ابن أبي موسى إلى أنه يضمن ما جنت يده ، وحكى عن أحمد رواية بتضمينه ما تلف بأمر خفي لا يعلم إلا من جهته ، كما سيأتي في الأجير المشترك ، اللهم إلا أن يعمل في بيت المستأجر فلا يضمن ما تلف بغير فعله ، وعنده أنه لا فرق [ بين الأجير الخاص ، والأجير المشترك ، والمنصوص الفرق وعليه الأصحاب .
وأما الأجير المشترك وهو الذي ذكره الخرقي هنا فيضمن ] ما تلف بفعله ، كحائك أفسد حياكته ، وقصار خرق الثوب بدقه أو عصره ، وطباخ أفسد طبخه ، وجمال أتلف المتاع بعثرته ، أو بانقطاع الحبل الذي شد به ، ونحو ذلك ، نص على ذلك أحمد في رواية الجماعة ، وعليه الأصحاب .
2123 لما روى جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، أنه كان
____________________
(2/186)
يضمن الصباغ والصواغ ، وقال : لا يصلح الناس إلا ذلك . ولأن عمله مضمون عليه ، وما تولد من المضمون فه مضمون ، كجناية العمد ، ودليل الوصف أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل ، وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد علمه لم يكن له أجر .
وظاهر كلام أحمد والخرقي أنه لا فرق بين أن يعمل في بيته ، أو في بيت المستأجر ، ولا بين أن يكون المستأجر على المتاع أم لا ، وصرح به القاضي في التعليق في أثناء المسألة ، وابن عقيل ، واختاره أبو محمد ، إذ ضمانه كجنايته ، وعن القاضي أظنه في المجرد قال في الكافي : وأصحابه . أنه إنما يضمن ما عمله في ملكه ، أما ما عمله في ملك المستأجر من خياطة ونحوها ، فلا ضمان عليه ، ما لم يفرط ، كأن يسرف في الوقود ونحوها ، لأنه سلم نفسه إلى المستأجر ، أشبه الأجير الخاص ، وكذلك لو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة ، أو راكباً على الدابة فوق حمله ، لعدم زوال يد المالك ، وكذلك لو كان الراكب على الدابة حراً ، إذ الحر لا يضمن من جهة الإِجارة ، وخرج أبو الخطاب وجهاً بعدم الضمان رأساً ، كسراية القود وإفضاء الزوجة ، إذ التلف حصل من فعل مباح ، والله أعلم .
قال : وإن تلفت من حرزه فلا ضمان عليه .
ش : ما تلف عند الأجير المشترك لا يخلو من ثلاثة أحوال ( أحدها ) : أن يكون بتفريط منه أو تعد ، فيضمن كما دل عليه كلام الخرقي بطريق التنبيه ، وهو واضح ، ( الثاني ) : ما تلف بفعله بغير تفريط منه ، وقد تقدم ، ( الثالث ) : ماتلف بغير فعله من غير تفريط منه ، كأن سرق أو حرق ونحو ذلك ، والمشهور المنصوص في رواية الجماعة أنه لا ضمان عليه ، لأنها عين مقبوضة بعقد إجارة ، لم يتلفها بفعله ، أشبهت العين المستأجرة ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى بالضمان مطلقاً ، لقوله : ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه ) ( وعنه ) ثالثة إن كان التلف بأمر ظاهر كالحريق ، واللصوص الغالبين ، ونحو ذلك فلا ضمان ، وإن كان بأمر خفي كالضياع ، ونحو ذلك فعليه الضمان ، إناطة بالتهمة ، قال صاحب التلخيص : ومحل الروايات إذا لم تكن يد المالك على المال ، أما إن كانت عليه فلا ضمان بحال ، والله أعلم .
قال : ولا أجرة له فيما عمل فيها .
ش : قد تقدم أن ما تلف من حرز الأجير المشترك ونحو ذلك فلا ضمان عليه فيه ، وهو يشمل ما إذا تلف بعد فعله وقبله ، فإذا تلف بعد فعله فهل يستحق أجرة لذلك ؟ قال الخرقي : لا أجرة له ، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر ، فلم يستحق عوضه ، كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه .
وظاهر كلام الخرقي وتبعه أبو محمد أنه لا فرق بين أن يعمل في بيت المستأجر أو خارجاً عنه ، ولا بين أن يكون ذلك بناء أو غيره ، وفصل أبو البركات
____________________
(2/187)
ذلك ، وملخص ما قاله أنه إن كان العمل في بيت المستأجر ، وكان بناء فله أجرته رواية واحدة ، لأن تسليمه يحصل بمجرد فعله ، وإن كان غير بناء فروايتان ، مبناهما على أنه إذا كان في ملكه فهل العمل مسلم بمجرد عمله ، أو لا بد من التسليم ؟ وإن كان العمل خارج بيت المستأجر وكان غير بناء فلا أجرة له رواية واحدة ، إذ التسليم إذاً لا يحصل إلا بالقبض ، وإن كان بناء فروايتان ، مبناهما على أن العادة هل جرت في البناء بقبضه في موضعه ، أو أنه لا بد من التسليم فيه كغيره ، وقطع القاضي في التعليق في البناء بأن له أجرته ، وفي غيره لا أجرة له ، ونص أحمد على ذلك في رواية ابن منصور ، والله أعلم .
قال : ولا ضمان على حجام ، ولا ختان ، ولا متطبب ، إذا عرف منهم حذق الصنعة ، ولم تجن أيديهم .
ش : لا ضمان على من ذكر والحال هذه ، لأنهم فعلوا فعلًا مباحاً مأذوناً فيه ، أشبه قطع الإِمام يد السارقد أما إذا لم يكن لهم معرفة بذلك فيضمنون ، لتحريم المباشرة عليهم إذاً ، وكذلك إن عرف منهم حذق لكن جنت أيديهم ، كأن تجاوز الختان إلى بعض الحشفة ، أو قطع الطبيب سلعة فتجاوزها ، ونحو ذلك ، لما تقدم في الأجير المشترك ، وحكى ابن أبي موسى إذا ماتت طفلة من الختان فيدتها على عاقلة خاتها ، قضى بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، والله أعلم .
قال : ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد .
ش : لا ضمان على الراعي ، لأنه مؤتمن على الحفظ ، أشبه المودع ، ولأٌّ ها عين قبضت بحكم الإِجارة ، أشبهت العين المستأجرة ، أما إذا تعدى أو فرط مثل أن تركها تغيب عن نظره ، أو ضربها ضرباً أسرف فيه ، أو من غير حاجة إليه ، أو سلك بها موضعاً مخوفاً ، أو نام عنها أو غفل ، ونحو ذلك فيضمن ، لأنه مفرط ، أشبه المودع ، ولو جاء بجلد الشاة مدعياً لموتها من غير بينة قبل قوله على أصح الروايتين .
وقد تضمن كلام الخرقي جواز إجارة الراعي ، وهو واضح ، لقوله تعالى حكاية عن صاحب موسى { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } الآية ، وجواز إجارة الطبيب ، لأنه فعل مباح مأذون فيه ، أشبه سائر الأفعال المباحة ، ويقدر ذلك بالمدة ، لا بالعمل لعدم انضباطه ، ويبين قدر ما يأتي له في كل يوم ، هل هو مرة أو أكثر من ذلك ، ولا يجوز التقدير بالبرء عند القاضي ، وجوزه ابن أبي موسى ، وكذلك أبو محمد ، لكن جعله جعالة لجواز جهالة العمل فيها ، ويجوز اشتراط الكحل من الطبيب على الأصح لا الدواء اعتماداً على العرف .
وتضمن أيضاً جواز إجارة الختان ، وهو واضح لما تقدم ، وجواز إجارة الحجام ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وتبعه الشيخان .
____________________
(2/188)
2124 لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي احتجم ، حجمه أبو طيبة فأعطاه صاعين من طعام ، وكلم مواليه فخففوا عنه [ متفق عليه ، وفي لفظ : دعا غلاماً منا فحجمه ، فأعطاه أجره صاعاً أو صاعين ، وكلم مواليه أن يخففوا عنه ] من ضريبته . رواه أحمد والبخاري .
2125 وعن ابن عباس قال : احتجم النبي وأعطى الحجام أجره ، ولو كان سحتاً لم يعطه . رواه أحمد ، والبخاري ، ولأن بالناس حاجة إلى ذلك ، أشبه غيره من المنافع .
وقال القاضي وجمهور أصحابه : لا يصح الاستئجار على الحجامة ، وهو ظلام كلام أحمد ، وقال في التلخيص : إنه المنصوص . وذلك :
2126 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي نهى عن كسب الحجام ، ومهر البغي ، وثمن الكلب ، رواه أحمد .
2127 وعن رافع بن خديج رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( كسب الحجام خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وثمن الكلب خبيث ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ولفظه ( شر المكاسب ثمن الكلب ، وكسب الحجام ، ومهر البغي ) والنهي يقتضي التحريم ، وكذلك الخبث ، لا سيما وقد قارنه بما لا نزاع في تحريمه ، وجعله شر المكاسب .
2128 وقد روى محيصة بن مسعود أنه كان له غلام حجام ، فزجره النبي فقال : ألا أطعمه أيتاماً لي ؟ قال : ( لا ) قال : أولًا أتصدق به ؟ فرخص له أن يعلفه ناضحه . رواه أحمد ، وفي لفظ : أنه استأذن النبي في إجارة الحجام ، فنهاه عنها ، ولم يزل يسأله فيها حتى قال : ( أعلفه ناضحك ، وأطعمه رقيقك ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وأما حديث ابن عباس فقال أحمد في
____________________
(2/189)
رواية الأثرم : هذا تأويل من ابن عباس . وأما إعطاء النبي فعلى طريق الصلة والإِحسان ، لما فعل معه ، جمعاً بين الأحاديث ، وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم : نحن نعطي كما أعطى النبي ، ونقول له كما قال النبي : لا تأكله . قيل له : فيشارط في الحجامة ؟ قال : لم أسمع في الشرط شيئاً . وعلى هذا يجوز أن يعطى من غير شرط ، ويطعمه رقيقه وناضحه لما تقدم ، ويحرم عليه هو أكله في إحدى الروايتين ، قال في رواية الأثرم : لا تأكله . وهذا اختيار القاضي ، وطائفة من أصحابه .
( والرواية الثانية ) : يكره . قال أبو النضر عنه : كان يذهب إلى أنه يكره ، ويقول : هو شر كسب ، ولا يقول : هو حرام ، وإذا قيل بالتحريم في حقه ، فهل يحرم في حق غيره من الأحرار ؟ ظاهر كلام القاضي في التعليق ، وصاحب التلخيص التحريم ، وصريح القاضي في الروايتين بالجواز اعتماداً على أن أحمد قال : أطعمه الرقيق . قال : والرقيق يحتاج أن يشتري له طعاماً . وفيه نظر ، وعلى القول بجواز الإِجارة فيكره للحر أيضاً أكله ، لما تقدم من الأحاديث .
( تنبيه ) : يجوز استئجار الحجام لغير الحجامة ، من الفصد ، والختن ونحو ذلك ، إذ نهيه عن كسب الحجام أي في الحجامة ، كما أن نهيه عن مهر البغي أي في البغاء ، والله أعلم .
____________________
(2/190)
( كتاب إحياء الموات )
الموات ، والميتة ، والموتان بفتح الميم والواو : الأرض الدارسة ، قاله أبو محمد في المغني ، وقال الفراء : الأرض التي لم تحي بعد .
2129 والأصل في جوازه ما روته عائشة رضي الله عنها ، عن النبي قال : ( من عمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها ) قال عروة : قضى به عمر في خلافته . رواه البخاري .
2130 وعن سعيد بن زيد عن النبي قال : ( من أحيى أرضاً ميتة فهي له ، وليس لعرق ظالم حق ) رواه أبو داود ، والنسائي ، والترمذي وقال : حسن .
2131 وعن جابر رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من أحيى أرضاً ميتة فهي له ) رواه أحمد والترمذي وصححه . والله أعلم .
قال : ومن أحيى أرضاً لم تملك فهي له .
ش : من أحيى أرضاً ميتة لا يعلم أنها ملكت فهي له إلا ما يستثنى ، لما تقدم من الأحاديث .
وظاهر كلام المصنف أنه لا يفتقر إلى إذن الإِمام ، وعليه الأصحاب ، ونص عليه أحمد ، مستدلًا بعموم الحديث وهو مبني على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال ، ( وظاهر كلامه ) أيضاً أن الذمي يملك بالإِحياء كالمسلم ، وهو المنصوص ، وعليه الجمهور ، لعموم ما تقدم ، وقال ابن حامد : لا يملك الذمي بالإِحياء . وحمل أبو الخطاب قوله على دار الإِسلام ، قال القاضي : وهو مذهب جماعة من أصحابنا .
2132 لما يروى عن النبي أنه قال : ( موتان الأرض لله ورسوله ، ثم هي لكم مني ) وأجيب بعد تسليم صحته أنها لكم أي لأهل داركم ، جمعاً بين الأدلة ، والذمي من أهل دارنا ، فعلى المنصوص إن أحيا موات عنوة لزمه عنه الخراج ، وإن أحيا غيره فلا شيء عليه ، في أشهر الروايتين ، ( وعنه ) : عليه عشر ثمره وزرعه ، ( وظاهر كلامه ) أيضاً أن موات العنوة يملك بالإِحياء ، ولا شيء فيه كغيره ، وهو إحدى
____________________
(2/191)
الروايتين ، واختاره القاضي ، وأبو محمد ، وغيرهما ، لعموم ما تقدم ، ( وعنه ) ليس في أرض السواد موات ، معللًا بأنها لجماعة المسلمين ، فلا يختص بها أحدهم ، وهذا اختيار أبي بكر ، وابن أبي موسى ، والشيرازي ، وعلى هذه الرواية قال أبو البركات : تقر في يده بالخراج ، لاختصاصه بمزية ، وهو السبق بالإِحياء .
ومفهوم كلام الخرقي رحمه الله أن ما ملك لا يملك بالإِحياء ، وهذا لا يخلو من ثلاثة أحوال ( الأول ) ن يكون له مالك معصوم ، وهذا لا إشكال أنه لا يملك بالإِحياء ، لما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها ، ( الثاني ) : أن يكون له مالك لكن غير معصوم كالحربي ، فقال أبو البركات وصاحب التلخيص . وهو ظاهر كلام القاضي إنه يملك بالإِحياء إذ لا حرمة لملكه أصلًا ، وإذاً تستثنى هذه الصورة من مفهوم كلام لخرقي ، وقال أبو محمد : حكم دار الحرب حكم دار الإِسلام ، حتى أنه جعل فيما عرف أنه ملك ولم يعرف له مالك معين روايتين ، كالمسألة التي بعده ، واستدل بعموم الخبر ، وبأن عامرهم إنما يملك بالقهر والغلبة ، ( الثالث ) : أن يعرف أنه ملك ، ولكن لا يعرف له مالك ، كخراب باد أهله ، ولم يعرف لهم وارث ، فعنه وهو المشهور عنه لا يملك بالإِحياء ، وهو مقتضى كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، والقاضي ، وعامة أصحابه ، كالشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي ، لظاهر حديث عائشة ، إذ هذه لأحد ، لأنه إن كان له وارث فهي له ، وإن لم يكن له وارث فهي فيء للمسلمين ، وبهذا علل أحمد في رواية أبي داود ، ( وعنه ) : تملك بالإِحياء ، عملًا بعموم أكثر الأحاديث ، ( وعنه ) وإن تيقنت عصمة من ملكها لم تملك بالإِحياء لما تقدم ، وإن شك في عصمته ملكت ، لأن المقتضي قد وجد ، وشك في المانع ، وهذا اختيار صاحب التلخيص ، واستثنى أبو محمد من هذا ما به آثار ملك قديم جاهلي ، كمساكن ثمود ونحوهم ، فإنها تملك بالإِحياء .
2133 لما يروى عن طاوس ، عن النبي أنه قال : ( عادي الأرض لله ولرسوله ، ثم هي بعد لكم ) رواه سعيد في سننه ، وأبو عبيد في الأموال ، ويحتاج كلام أبي محمد إلى بحث ليس هذا موضعه ، والله أعلم .
قال : إلا أن تكون أرض ملح ، أو ما للمسلمين فيه المنفعة ، فلا يجوز أن ينفرد بها الإِنسان .
ش : استثنى رحمه الله مما يملك بالإِحياء صورتين ، ( أحداهما ) أرض الملح ، أي معدن الملح ، فإنه لا يملك بالإِحياء .
2134 لما روي عن أبيض بن حمال رضي الله عنه ، أنه وفد إلى النبي استقطعه الملح ، فقطع له ، فلما أن ولى قال رجل من المجلس : أتدري ما قطعت له ؟ إنما قطعت له الماء العد . قال : فانتزعه منه ، قال : وسأله عما يحمي من الأراك ،
____________________
(2/192)
فقال : ( ما لم تنله خفاف الإِبل ) رواه الترمذي وأبو داود وفي رواية له : أخفاف الإِبل قال محمد بن الحسن المخزومي : يعني أن الإِبل تأكل منتهى رؤسها ويحمي ما فوقه . ولأن هذا مما يتعلق بمصالح المسلمين العامة ، فلم يجز إحياؤه كطرق المسلمين ومواردهم ، وفي معنى الملح جميع المعادن الظاهرة ، لا تملك بالإِحياء ، وهي ما العمل في تحصيله لا في إظهاره ، كالقار ، والنفط ، والبرام ، والموميا ، والكحل ، والزرنيخ ، والجص ، ونحو ذلك ، وكذلك الحكم في المعادن الباطنة ، وهي ما كان ظهورها بالعمل عليها ، كمعادن الذهب ، والفضة ، والحديد ، والصفر ، والفيروزج ، ونحو ذلك مما هو مثبوت في طبقات الأرض ، ذكره صاحب التلخيص ، وأبو محمد ، وحكى أبو محمد احتمالًا فيما أظهره من المعادن الباطنة ، أنه يملك بالإِحياء ، ويحتمله كلام أبي البركات ، ولفظه : أو ما فيه معدن ظهر قبل إحيائه ، ومقتضاه أنه يمنع من إحياء موات قد ظهر فيه معدن ، ويستفاد منه بطريق التنبيه أنه يمنع من إحياء معدن قد ظهر ، لا من إحياء معدن لم يظهر .
( الصورة الثانية ) : ما فيه المنفعة للمسلمين ، وهو ما قرب من العامر ، وتعلق بمصالحه ، من طرقه ، ومسيل مائه ، وطرح قمامته ونحو ذلك ، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية ، كمرعى ماشيتها ، ومحتطبها ، ونحو ذلك ، وكذلك حريم البئر والنهر ، ونحو ذلك ، كل ذلك لا يجوز إحياؤه .
2135 لما روي عن النبي أنه قال : ( من أحيا أرضاً ميتة في غير حق مسلم فهي له ) ومفهومه أن من أحيا أرضاً ميتة في حق مسلم لم تكن له ، ولأن ذلك من مصالح المملوك ، فأعطي حكمه ، فإن قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه ففيه روايتان ، أنصهما وأشهرهما عند الأصحاب أنه يملك بالإِحياء ، لعموم قوله : ( من أحيا أرضاً ميتة ) مع انتفاء المانع ، وهو التعلق بمصالح العامر ، ( والثانية ) : لا يملك بالإِحياء ، تنزيلًا للضرر في المآل ، منزلة الضرر في الحال ، إذ هو بصدد أن يحتاج في المآل ، واستثنى الأصحاب صورة ثالثة ، وهي موات بلدة كفار صولحوا على أنها لهم ، ولنا الخراج عنها ، فلا يملك بالإِحياء ، لأن مقتضى الصلح أن لا يتعرض لهم في شيء مما صولحوا عليه ، قال أبو محمد : ويحتمل أن تملك بالإِحياء لعموم الخبر ، والله أعلم .
قال : وإحياء الأرض أن يحوط عليها حائطاً .
ش : ظاهر كلام الخرقي أن التحويط إحياء للأرض مطلقاً ، وحكاه القاضي وغيره رواية ، بل وجزم به القاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب .
2136 لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي قال : ( من أحاط حائطاً على
____________________
(2/193)
أرض فهي له ) رواه أحمد وأبو داود ، ولأحمد مثله من رواية سمرة ، وعلى هذا يشترط كونه الحائط منيعاً ، مما تجري العادة بمثله .
وحكى القاضي وغيره رواية أخرى أن إحياء الأرض تعميرها العمارة العرفية لما تراد له ، إذ الشارع أطلق الإِحياء ، فيحمل على ما يتعارفه الناس ، وحديث الحائط يحمل على صورة تقتضي العرف يها ، وهذا اختيار ابن عقيل في التذكرة ، فعلى هذا إن كان الإِحياء للسكنى ، فإحياؤها ببناء حيطانها وتسقيفها ، وإن جعلها حظيرة كفى بناء حائط جرت العادة به ، وإن كان للزرع فبأن يسوق إليها ماء ، ويقلع أحجارها إن احتاجت إلى ذلك ، أو يحبس الماء عنها ، ونحو ذلك على ما جرت به العادة في مثلها ، ولا يعتبر أن يزرعها ويسقيها ، ولا أن يفصلها تفصيل الزرع ، ويحوطها من التراب بحاجز ، ولا أن يقسم البيوت إن كانت للسكنى ، في أصح الروايتين وأشهرهما ، والأخرى يشترط جميع ذلك ، ذكرها القاضي في الخصال ، وجمع أبو البركات الروايتين في أصل الإِحياء ، فجعلهما رواية واحدة ، فقال : بأن يحوطها بحائط ، أو يعمرها العمارة العرفية ، وحكى في المقنع قولًا آخر بأن ما يتكرر كل عام فليس بإحياء وما لا يتكرر فهو إحياء ، والله أعلم .
قال : أو يحفر فيها بئراً فيكون له خمس وعشرون ذراعاً حواليها ، وإن سبق إلى بئر عادية فحريمها خمسون ذراعاً .
ش : إذا حفر في الموات بئراً للتملك ، وأخرج ماءها ، ملكها وملك حريمها ، خمساً وعشرين ذراعاً من كل جانب ، وإن سبق إلى بئر عادية ، ملكها بظهور يده عليها ، وملك حريمها خمسين ذراعاً ، نص عليه أحمد ، واختاره الخرقي ، والقاضي في التعليق ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة ، والشيخان وغيرهم .
2137 لما روى الدارقطني وغيره ، عن النبي أنه قال : ( حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعاً ، وحريم البئر العادي خمسون ذراعاً ) .
2138 وروي أبو عبيد بإسناده عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال : السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعاً ، والبدي خمس وعشرون ذراعاً . واختار أبو الخطاب في الهداية ، والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد في المغنى والكافي ، أن حريم البئر قدر ما يحتاج إليه في ترقية مائها ، فإن كان بدولاب فبقدر مدار الثور أو غيره ، وإن كان بسانية فبقدر طول البئر ، وإن كان يستقي منها بيده فبقدر ما يحتاج إليه الواقف ، وعلى ذلك ، إذ هذا ثبت للحاجة ، فيقدر بقدرها ، وقال القضي فيما حكاه عنه
____________________
(2/194)
في المقنع ، وحكاه عنه وعن جماعة من الأصحاب صاحب التلخيص : حريم البئر قدر مدرشائها من كل جانب .
2139 لأنه يروى عن النبي أنه قال : ( حريم البئر مد رشائها ) رواه ابن ماجه ، وقال القاضي في الأحكام السلطانية : له أبعد الأمرين من الحاجة أو قدر الأذرع . وقد توقف أحمد عن التقدير في رواية حرب ، والمذهب الأول .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) قد تقدم أنه يملك حريم البئر بالحفر أو بالسبق ، وهو ظاهر كلام أحمد ، وصرح به الخرقي ، والقاضي في التعليق ، وغيرهما ، وعلى قياسه أن ما قرب من العامر ، وتعلق بمصالحه ، يكون ملكاً لأهل العامر ، أو لجماعة المسلمين ، وعن القاضي أن هذه المرافق لا يملكها المحيي بالإِحياء ، وإنما يكون أحق بها ، ( الثاني ) : ( العادية ) بالتشديد القديمة ، نبة إلى عاد ، إذ كل قديم ينسب إليهم لقدمهم ، والله أعلم .
قال : وسواء في ذلك ما أحياه أو سبق إليه ، بإذن الإِمام أو غير إذنه .
ش : يعني أن الحريم المذكور يثبت له ، سواء أحياه كما إذا حفر بئراً في موات أو سبق إليه ، كما إذا سبق إلى بئر عادية ، وكذا أطلق أحمد ، والقاضي ، وغيرهما ، وعلل القاضي بأن البسر العادية مال من أموال الكفار ، فتكون غنيمة بوضع اليد عليها ، قلت : وينبغي على مقتضى هذا التعليل أن تكون لجماعة الغانمين ، أو يكون السبق إليها لا بقوة المسلمين ، فتكون له ، وقال في المغني : يجب أن يحتمل قول الخرقي في ملك البئر العادية على بسر انطمست ، فجدد حفرها ، أو ذهب ماؤها فاستخرجه ، ليكون ذلك إحياء ، أما بئر لها ماء ينتفع بها المسلمون فلا تحتجر ، لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة ، وقد تقدم أن الإِحياء لا يفتقر إلى إذن الإِمام ، والله أعلم .
____________________
(2/195)
( كتاب الوقوف والعطايا )
( الوقوف ) جمع وقف كفلس وفلوس ، يقال : وقف . على الأفصح وأوقف . على لغة ، ويقال : أحبس ، وحبس وحبس . ومنه قوله لعمر : ( إن شئت حبست أصلها ) ( والعطايا ) جمع ( عطية ) كخلايا وخلية ، ومعنى الوقف قال أبو محمد ، وصاحب التلخيص : إنه تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة ، وأرادا : مع شروطه المعتبرة ، وحده غيرهما فأدخل الشروط في الحد ، ويحتاج إلى بسط .
2140 والأصل في جوازه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( إذا مات الإِنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء ، صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) رواه مسلم وغيره .
2141 وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أن عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر ، فقال : يا رسول الله أصبت أرضاً بخيبر ، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه ، فما تأمرني ؟ قال : ( إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها ) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث ، في الفقراء ، وذوي القربى ، والرقاب ، والضيف ، وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، ويطعم صديقاً ، غير متمول وفي لفظ : غير متأثل مالًا : رواه الجماعة .
2142 وعن جابر رضي الله عنه : لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ذو مقدرة إلا وقف . وقال أحمد في رواية حنبل : قد وقف أصحاب رسول الله ، وقوفهم بالمدينة ظاهرة ، فمن رد الوقف فإنما رد السنة . وأما العطية فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى . والله أعلم .
قال : ومن وقف في صحة من عقله وبدنه على قوم ، وأولادهم ، وعقبهم ، ثم آخره للمساكين ، فقد زال ملكه عنه .
ش : إذا وقف في صحة من عقله بأن لا يكون مغلوباً على عقله بجنون ، أو إغماء أو غيرهما وفي صحة من بدنه ، بأن كان غير مريض وقفا متصلاً
كما ذكر الخرقي ، فإن ملك الواقف يزول عن العين الموقوفة ، على المشهور المعروف ، المختار
____________________
(2/196)
من الروايتين ، لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة ، أشبه الهبة والبيع ، ( والرواية الثانية ) : أنه باق على ملك الواقف ، لقوله : ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ) فعلى الأول ينتقل الوقف إلى الموقوف عليه ، على المشهور المختار أيضاً من الروايتين ، كالهبة والبيع ، إلا أن يكون الموقوف عليه مما لا يملك ، كالمسجد ونحوه ، فإن الملك في الوقف ينتقل إلى الله تعالى ، ( والرواية الثانية ) : يكون ملكاً لله تعالى ، حكاها غير واحد ؛ وهي ظاهر اختيار ابن أبي موسى ، قياساً على العتق ، بجامع زوال الملك على وجه القربة ، وفرق بزوال المالية ثم ، بخلاف هنا .
وتلخص أن في المسألة ثلاثة أقوالب ( ملك ) للموقوف عليه ، وهي المذهب ، ( ملك ) لله تعالى ، ( ملك ) للواقف وبنيه وللخلاف فوائد ( منها ) لو كان الموقوف ماشية لم تجب زكاتها على الثانية ، وكذلك على الثالثة ، لضعف الملك ، وهو انتقاء التصرف في الرقبة والمنفعة ، ووجبت على الموقوف عليه على الأولى ، على ظاهر كلام الإِمام ، واختيار القاضي في التعليق ، وأبي البركات ، وغيرهما ، وقيل : لا تجب ، لضعف الملك ، اختاره صاحب التلخيص وغيره ، ( ومنها ) : أرش جنايته ، يلزم الموقوف عليه على الأولى ، لانتفاء التعلق بالرقبة لامتناع البيع ، وعلى الثانية هل يجب في بيت المال أو في الغلة ؟ فيه وجهان ، قلت : وعلى الثالثة يحتمل أن يجب على الواقف ، ويحتمل أن يجب في الغلة ، ( ومنها ) إذا كان أمة ملك الموقوف عليه تزويجها على الأولى ، والحاكم على الثانية ، لكن يشترط إذن الموقوف عليه ، قاله في التلخيص ، قلت : والواقف على الثالثة ، لكن إذن الموقوف عليه ( ومنها ) النظر حيث أطلق يكون للموقوف عليه ، على الأولى ، وللحاكم على الثانية ، وبه جزم ابن أبي موسى ، قلت : وللواقف على الثالثة ( ومنها ) الشفعة لا تستحق على الثانية ، قلت : وكذا على الثالثة ، وفي استحقاقها على الأولى وجهان ( ومنها ) نفقة الوقف ، تجب حيث شرطت ، ومع عدمه في الغلة ، ومع عدمها على من الملك له ، قاله في التلخيص ، قلت : فعلى الثانية تجب في بيت المال ، هذا في الحيوان لحرمته ، أما العقار فلا تجب عمارته إلا على من يريد الإِنتفاع به ( ومنها ) إذا وطئها الموقوف عليه ، فلا حد عليه للملك أو شبهه ، وتصير أم ولد على الأولى ، لا على الثانية والثالثة ، والله أعلم .
وظاهر كلام الخرقي أن ملك الواقف يزول عن الوقف وإن لم يخرجه عن يده ، وهو المشهور المختار المعمول به من الروايتين ، لعموم قوله في حديث عمر : ( لا يباع أصلها ، ولا يوهب ، ولا يورث ) ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث ، أشبه العتق ( وعنه ) نلا يلزم ويزول الملك عنه إلا بالإِخراج عن يده ، اختاره ابن أبي موسى ، لأنه تبرع بشيء لم يخرج عن المالية أشبه الهبة ، ( وظاهر كلامه ) أيضاً أنه لا يفتقر إلى القبول من الموقوف عليه ، ولا خلاف في ذلك إن كان على غير معين كالمساكين ، أو على من لا يتصور القبول منه كالمساجد ، أما ما كان على آدمي معين ، ففي اشتراط
____________________
(2/197)
القبول وجهان ، قال ابن حمدان في الصغرى وابن المنجا : ثم إنهما مبنيان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه ، إن قلنا : ينتقل . اشترط ، وإن قلنا : لا . فلا ، والظاهر أنهما على القول بالإِنتقال ، إذ لا نزاع بين الأصحاب أن الإِنتقال إلى الموقوف عليه هو المذهب ، مع اختلافهم في المختار هنا ، وشبهة الخلاف تردده بين التمليك والتحرير ، وقد تقدم ذلك ، لكن الأصحاب مترددون في التعليل ، وينبغي اتباع سنن واحد .
وقول الخرقي : في صحة من عقله وبدنه . احترز به عن الوقف في المرض ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وقوله على قوم . إلى آخره ، يحترز به عن المنقطع ، وسيأتي إن شاء الله تعالى . والله أعلم .
قال : ولا يجوز أن يرجع إليه شيء من منافعه .
ش : يعني أنه إذا صح الوقف كما تقدم فإن منافعه تنتقل إلى الموقوف عليه بلا نزاع لما تقدم ، ولا يصير للواقف فيها حق ، إذ هذا وضع الوقف ، والأدلة تشعر بذلك ، نعم إن وجدت فيه صفة الاستحقاق استحق كأحد المستحقين ، كمن وقف مسجداً فإنه يستحق الصلاة فيه ، أو مقبرة فإنه يملك الدفن فيها ، أو سقاية فيملك الشرب منها ، ونحو ذلك .
2143 وفي النسائي والترمذي وحسنه عن عثمان رضي الله عنه : أن النبي قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة ، فقال : ( من يشتري بر رومة ، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين ، بخير له منها في الجنة ؟ ( فاشتريتها صلب مالي . والله أعلم .
قال : إلا أن يشترط أن يأكل منه ، فيكون له مقدار ما اشترط .
____________________
(2/198)
ش : إذا وقف وقفاً وشرط أن يأكل منه ، أو يسكنه مدة حياته ، أو مدة معلومة صح ، نص عليه .
2144 محتجاً بما روى أن في صدقة النبي أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر .
2145 ولأن في حديث عمر : لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، أو يطعم صديقاً ، غير متمول ، وكان عمر هو الوالي عليها إلى أن مات .
2146 ويروى عن ابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أنهما وقفا داريهما وسكناهما مدة حياتهما . والظاهر أن ذلك عن شرط ، والله أعلم .
قال : والباقي على من وقف عليه وأولاده الذكور والإِناث من أولاد البنين ، بالسوية ، إلا أن يكون الواقف فضل بعضهم .
ش : إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم كما تقدم ، وشرط الأكل منه ، فإن الفاضل بعد الأكل يكون بين القوم وأولادهم ، وعقبهم يشارك الآخر الأول ، إذ الواو للجمع المطلق لا للترتيب ، ويكون بين الذكور والإِناث بالسوية ، إذ هذا قضية الاشتراك ، كما لو أقر لهم بشيء ، ولهذا لما شرك الله بين ولد الأم في الثلث كان بينهم بالسوية ، نعم إذا فضل الواقف بأن جعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، أو بالعكس اعتبر تفضيله ، كما لو جعله على أحدهم دون الآخر .
وقول الخرقي : من أولاد البنين ، نص منه على أنه إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم دخل فيه ولد البنين ، ولا خلاف في هذا نعلمه ، ومفهوم كلامه أنه لا يدخل فيه ولد البنات ، وهو أشهر الروايات ، نص عليها في : ولد ولدي لصلبي . واختاره القاضي في التعليق والجامع ، والشيرازي ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير ، لقوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } الآية ، ولم يدخل فيه ولد البنات وقال الشاعر :
بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا
بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ولأن ولد الهاشمية ليس بهاشمي ، ولا ينتسب إلى أبيها شرعاً ولا عرفاً ، وبهذا علل أحمد ، فقال : لأنهم من رجل آخر ، ( والرواية الثانية ) : يدخلون فيه ، اختاره أبو الخطاب في الهداية ، لأن البنات أولاده ، فأولادهن أولاد أولاده حقيقة ، وقد قال الله تعالى : 19 ( { ومن ذريته داود وسليمان } ) إلى قوله : 19 ( { وعيسى } ) وهو من ولد بنته .
2147 وفي البخاري وغيره أن النبي صعد المنبر فقال : ( إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين ) يعني الحسن .
2148 وعن أسامة بن زيد ، أن النبي قال لعلي : ( وأما أنت يا علي فختني ، وأبو ولدي ) ( والثالثة ) يدخلون إلا أن يقول : على ولد ولدي لصلبي . فلا يدخلون ، وهذه الرواية اختيار أبي بكر ، وابن حامد ، حكاه عنهما أبو الخطاب في الهداية ، و أبو محمد في المقنع ، والقاضي فيما حكاه عنه صاحب التلخيص ، وفي الروايتين للقاضي ، والمغني أنهما اختارا الرواية الثانية ، وفي الخصال لابن البنا أن ابن حامد اختار الثانية ، وأبا بكر الثالثة ، وكذا في المغني القديم فيما أظن ، ومحل الخلاف مع عدم القرينة أما مع القرينة فالعمل لها ، ولهذا قيل في عيسى عليه السلام والحسن : إنهما إنما دخلا مع الذكر ، والكلام مع الإِطلاق ، والله أعلم .
____________________
(2/199)
قال : وإذا لم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين .
ش : يرجع إلى شرط الواقف في الجمع والترتيب وغير ذلك ، كما يرجع إليه في شرط الوقف ، ففي المسألة السابقة جمع بين القوم وأولادهم وعقبهم بواو الجمع ، فقلنا : يشترك فيه الجميع ، وفي الثانية رتبه بثم ، فقلنا بترتيبه بعد من تقدم ، ويوقف استحقاقه على انقراضهم ، ويدخل الفقراء في لفظ المساكين ، وكذلك كل موضع اقتصر فيه على ذكر أحد اللفظين ، فإنه يتناول القسمين ، أما لو جمع بين اللفظين آتياً بما يقتضي التمييز بينهما ، كأن قال : وقفت على [ الفقراء والمساكين نصفين . ونحو ذلك . فإنه يجب التمييز بينهما وقسم الوقف بينهما نصفين ، ولو قال : على ] الفقراء والمساكين . ولم يقل نصفين ، فالحكم كالزكاة ، يجوز الدفع إليهما ، والاقتصار على أحدهما على المشهور ، وعلى الرواية الأخرى لا بد وأن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف ، أعلم .
قال : وإذا لم يجعل آخره للمساكين ، ولم يبق ممن وقف عليه أحد ، رجع إلى ورثة الواقف في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله ، والرواية الأخرى يكون وقفاً على أقرب عصبة الواقف .
ش : قد تضمن هذا الكلام صحة الوقف المعلوم الابتداء ، المنقطع الانتهاء ، وهذا مذهبنا ، لأن مصرفه معلوم كما سيأتي ، فصح كما لو صرح بالمصرف ، إذ المطلق يحمل على العرف ، وإذا صح وانقرض من وقف عليه كما لو وقف على ولده وأولادهم [ فانقرضوا ] فإنه يصرف إلى جميع ورثة الواقف ، يقسم على قدر مواريثهم منه ، على إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله ، وفي الكافي أنها ظاهر المذهب ، لأن الوقف مصرفه البر ، وأقاربه أولى الناس ببره ، لقوله : ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) .
2149 وقوله : ( إنك تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) .
2150 وقوله : ( صدقتك على غير رحمك صدقة ، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة ) ( والراوية الثانية ) يختص به أقرب العصبة ، لأنهم أحق أقاربه ببره .
2151 قال : ( ابدأ بمن تعول ، أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك ) رواه النسائي . ( والرواية الثالثة ) : يجعل في بيت المال ، يصرف في
____________________
(2/200)
مصالحهم ، وهي أنّ الروايات عنه ، لأنه مال لا مستحق ، أشبه مال من لا وارث له ، ( والرواية الرابعة ) وبها قطع القاضي في الجامع الصغير ، والشريف ، وأبو جعفر ، وإليها ميل أبي محمد يصرف في المساكين ، لأنهم أعم جهات الخير ، ومصرف الصدقات ، وحقوق الله تعالى ، من الكفارات ونحوها .
وإذا قلنا : يرجع إلى أقارب الواقف الجميع أو العصبة ، فإنه يشمل غنيهم وفقيرهم ، على ظاهر كلام الخرقي والإِمام ، وبه قطع أبو البركات وغيره ، إذ مصرف الوقف كذلك ، واختار القاضي في الروايتين أنه يختص الفقراء منهم ، إذ القصد بالوقف بالبر والصلة ، والفقراء أولى بهذا المعنى من غيرهم ، ومن رجع إليه فإنه يرجع إليه وقفاً ، لأن الملك قد زال عنه بالوقف ، فلا يعود ، ملكاً إلى الورثة ، قطع بذلك القاضي ، وأبو الخطاب ، وأبو البركات ، وغيرهم ، وزعم في المغنى أن أحمد نص عليه ، وقال : ويحتمل كلام الخرقي أن يصرف إليهم إرثاً ، ويبطل الوقف ، وقال ابن أبي موسى : إن دفع إلى جميع الورثة رجع إرثاً ، بخلاف الرجوع إلى العصبة ، وهذا مقتضى ما في المقنع ، وكلام الخرقي عكسه ، وحيث قلنا ، يصرف إلى الأقارب فانقرضوا ، أو لم يوجد له قريب ، فإنه يصرف إلى بيت المال ، لأنه مال لا مستحق له ، نص عليه أحمد في رواية ابن إبراهيم ، وأبي طالب ، وغيرهما ، وقطع به [ أبو الخطاب ] وأبو البركات ، وقال ابن عقيل في التذكرة ، وصاحب التلخيص ، وأبو محمد : يرجع إلى الفقراء ، والمساكين ، إذ القصد بالوقف الصدقة الدائمة ، قال : ( أو صدقة جارية ) وقال ابن أبي موسى : يباع ويجعل ثمنه للمساكين ، ثم قال ابن الزاغوني : الخلاف في الرجوع إلى الأقارب ، أو إلى بيت المال ، أو إلى المساكين مختص بما إذا مات الواقف ، أما إن كان حياً فانقطعت الجهة فهل يعود الوقف إلى ملكه أو إلى عصبته وذريته ؟ فيه روايتان .
( تنبيه ) : الوقف له أربعة أحوال ( الأول ) : متصل الابتداء والانتهاء ، وهو الذي بدأ به الخرقي ( الثاني ) : منقطع الانتهاء ، وهو الذي ثنى به الخرقي ، ولا إشكال في صحة كليهما ( الثالث ، والرابع ) منقطع الابتداء متصل الانتهاء ، متصل الابتداء والانتهاء ، منقطع الوسط ، كأن وقف على من لا يجوز كعبد ، ثم على من يجوز كالمساكين ، أو وقف على ولده ، ثم عبده ، ثم على المساكين ، والمذهب صحتهما ، وقيل بالبطلان ، بناء على تفريق الصفقة ، وعلى الأول على يجعل من لا يجوز الوقف عليه كالمعدوم ، فيصرف إلى من يجوز الوقف عليه ، أو يعتبر فيصرف مدة وجوده مصرف المنقطع ، ثم إذا انقرض لمن يجوز الوقف عليه ؟ فيه وجهان ، وله تقاسيم أخر ليس هذا موضع بيانها ، والله أعلم .
قال : ومن وقف في مرضه الذي مات فيه ، أو قال : هو وقف بعد موتي . ولم يخرج من الثلث ، وقف منه بقدر الثلث ، إلا أن يجيز الورثة .
____________________
(2/201)
ش : الوقف تبرع بلا تردد ، فيعتبر من الثلث ، كالهبة ، والعتق ، فإذا وقف في مرضه المخوف المتصل بالموت ، على غير وارث ، نفذ منه الثلث فما دون بلا نزاع ، ما لم يمنع من ذلك مانع كالدين ، ووقف ما زاد على الثلث فما دون على إجازة الورثة ، كالتدبير .
وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوقف المعلق بالموت ، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير ، وأبي محمد ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد .
2152 وأنه احتج بأن عمر رضي الله عنه وصى ، فكان في وصيته : هذا ما وصى به عبد الله أمير المؤمنين ، إن حدث به حدث أن ثمغاً صدقة . رواه أبو داود ، وقال القاضي أظنه في المجرد و أبو الخطاب في الهداية ، وابن البنا في الخصال ، لا يصح ، إلحاقاً له بالهبة . والأولون ألحقوه بالصدقة بالمطلقة ، ثم على قولهم هل يصح الوقف المعلق على شرط في الحياة ؟ فيه وجهان ، والمختار عند أبي محمد ، وأبي الخطاب البطلان ، وشبهة الخلاف تردد الوقف بين التحرير والتمليك كما تقدم ، وقال ابن حمدان : من قبله إن قيل الملك لله تعالى صح التعليق ، وإلا فلا .
وقد شمل كلام الخرقي صحة وقف الثلث في مرض الموت ، أو بعد الموت ، على الورثة أو بعضهم ، وهو أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله ، وأنصهما ، واختيار القاضي في التعليق وغيره ، وأكثر الأصحاب .
2153 والأصل في ذلك ما روى أن عمر رضي الله عنه وقف على ورثته . وعلى هذا اعتمد أحمد ، وعلى أنهم لا يبيعون ذلك ، ولا يهبونه ، وإنما ينتفعون به ، قلت : فكأنه عتق الوارث ( وعنه ) ما يدل على منع ذلك ، وإذاً يقف على إجازة الورثة ، كالوقف على غيرهم ، وهذا اختيار أبي حفص العكبري ، قال القاضي : فيما وجدته معلقاً عنه ، واختيار أبي محمد إلحاقاً له بالهبة ، وادعى أبو محمد أن وقف عمر كان على جميع الورثة ، قال : والنزاع في الوقف على البعض ، قال : ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ذلك ، قلت : ونص أحمد في رواية الحسن بن محمد الترمذي وغيره صريح بخلاف ذلك ، والله أعلم .
قال : وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئاً بيع واشترى بثمنه ما يرد على أهل الوقف ، وجعل وقفاً كالأول .
ش : إذا تعطل الوقف ، وصار بحيث لا يرد شيئاً ، أو يرد شيئاً لا عبرة به ، ولم يوجد ما يعمر به ، فإن الناظر فيه يبيعه ، ويشتري بثمنه ما فيه منفعة ، ير ، على أهل الوقف ، نص عليه أحمد ، وعليه الأصحاب .
____________________
(2/202)
2154 لما اشتهر عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة : أن انقل المسجد الذي بالتمارين ، واجعل بيت المال في قبلة المسجد ، فإنه لن يزال بالمسجد مصل . وهذا بمحضر من الصحابة ، ولم يظهر خلافه ، فيكون إجماعاً ، ولأنه تجب المحافظة على صورة الوقف ومعناه ، فلما تذر إبقاء صورته ، وجبت المحافظة على معناه .
2155 نظراً إلى قوله : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ويشهد له إذا عطب الهدي دون محله ، فإنه يذبح تحصيلًا لما أمكن . وحكى في التلخيص عن أبي الخطاب أنه لا يجوز بيع الوقف مطلقاً ، وهو غريب لا يعرف في كتبه .
وقول الخرقي : وجعل وقفاً . مقتضاه [ أنه ] لا يصير وقفاً بمجرد الشراء ، بل بد من إيقاف الناظر له ، ولم أر المسألة مصرحاً بها ، وقيل : إن فيها وجهين .
ومقتضى كلامه أنه لو بقي فيه نفع لم يجز بيع ، وإن كان غيره أجود منه ، وصرح به أبو محمد وغيره ، إذ الأصل المنع ، قال : ( لا يباع أصلها ) ترك ذلك حيث خيف من ضياعه وفواته رأساً ، نعم إن كان النفع لا يعد نفعاً فوجوده كالعدم .
وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يشتري من جنس الوقف ، وهو كذلك ، إذ القصد النفع ، نعم يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها ، ومن هنا الفرس الحبيس إذا بيع اشتري بثمنه ما يصلح للجهاد .
وقد علم من كلام الخرقي أنه لا يجوز بيع الوقف إذا لم يخرب ، وهو كذلك بلا ريب .
2156 قال ابن عمر : إن عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر ، فقال : يا رسول الله أصبت أرضاً بخيبر ، لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه ، فما تأمرني ؟ فقال : ( إن شئت حبست أصلها ، وتصدقت بها ( فتصدق بها عمر على أن لا تباع ، ولا توهب ، ولا تورث ، في الفقراء ، وذوي القربى ، والرقاب ، والضيف ، وابن السبيل ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم ، غير متمول . رواه الجماعة ، والله أعلم .
قال : وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو ، بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد .
ش : حكم الفرس الحبيس إذا صار لا يصلح إلا للطحن ونحو ذلك أنه يباع ويشرتي بثمنه ما يصلح للغزو ، أو يعان به في فرس ، نص عليه أحمد لما تقدم ، ( وعنه ) أنه يصرف ثمنه في مثله أو يصرف على الدواب الحبيس ، قال : لا يباع الفرس
____________________
(2/203)
الحبيس إلا من علة ، إذا عطب يصير للطحن ، ويصير ثمنه في مثله ، أو ينفق ثمنه على الدواب الحبيس . وظاهره التخيير بين الأمرين ، وقد يحمل قوله : ينفق الثمن على الحبيس . على ما إذا تعذر شراء المثل ، وكذلك رأيت صاحب التلخيص حكى النص فقال : إنه نص على أن الفرس الحبيس إذا هرم يباع ، وإذا أمكن أن يشترى بثمنه فرس اشترى ، وجعل حبيساً ، وإلا جعله في ثمن دابة حبيس ، والله أعلم .
قال : وإذا حصل في يد بعض أهل الوقف خمسة أوسق ففيه الزكاة ، وإذا صار الوقف للمساكين فلا زكاة فيه .
ش : إذا كان الوقف شجرً فأثمر ، أو أرضاً فزرعت . وكان الوقف على قوم بأعيانهم ، فحصل لبعضهم من الثمرة أو الحب نصاب ففيه الزكاة ، لعموم قوله : ( فيما سقت السماء العشر ) ونحوه ، ولأن الملك تام في الثمرة والحب ، وهو متعلق الزكاة ، وإن حصل في يده دون نصاب فلا شيء عليه ، نعم إن حصل في يد الجميع نصاب وجبت الزكاة . على رواية تأثير الخلطة في غير الماشية ، وإن كان الوقف على قوم غير معينين كالمساكين فلا زكاة ، إذ شرط وجوبها الملك حين الوجوب ، والمسكين إنما يملك بالدفع ، نعم على رواية تأثير الخلطة في نحو ذلك ينبغي أن تجب الزكاة والله أعلم .
قال : وما لا ينتفع به إلا بالإِتلاف مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب فوقفه غير جائز .
ش : من شرط ما يوقف أن يكون عيناً يجوز بيعها ، ويدوم نفعها مع بقائها ، فلا يصح الوقف في الذمة كعبد ودار ، ولا ما لا يجوز بيعه ، إذ الوقف يعتمد نقل الملك ، فلا بد وأن يكون الموقوف مما يقبل النقل ، فلا يجوز وقف الكلب ، وأم الولد ، ووقف الحر نفسه ، وإن جازت إجازته ، ولا وقف الموصى له بخذمة عبد ذلك العبد ، لعدم الملك له في الرقبة ، ولا وقف أحد هذين العبدين ، وفيه احتمال كالعتق ، ولا ما لا يدوم نفعه كالرياحين ونحوها ، وبطريق الأولى ما لا منفعة فيه كالعين المستأجرة ، إذا الوقف تحبيس الأصل ، وتسبيل المنفعة ، وفي الأول لا تحبيس ، وفي الثاني [ لا منفعة ] ، نعم إن وقفها بعد مدة الإِجارة [ إذا انقضت ] ، صح إن قيل يصح تعليق الوقف على شرط في الحياة ، ولا ما يذهب بالانتفاع به ، كالمأكول ، والمشروب ، والشموع ، والدراهم ، والدنانير للتصرف فيها ، أو مطلقاً ، أما لو وقفها للوزن فقال في التلخيص : يصح كإجارتها لذلك . وقال أبو محمد : لا يصح ، لأن ذلك ليس من المرافق العامة . ويصح وقف الحلي عند العامة ، لأنه من المقاصد المهمة .
2157 وقد روي أن حفصة رضي الله عنها ابتاعت حلياً بعشرين ألفاً فحسبته
____________________
(2/204)
على نساء آل الخطاب ، فكانت لا تخرج زكاته . قال أبو الخطاب [ في الهداية ] : ونقل الأثرم وحنبل : لا يصح . قال في المغني : وأنكر حديث حفصة . قال في التلخيص : وهو محمول على رواية منع وقف المنقول . قلت : ذكر القاضي في التعليق رواية الأثرم وحنبل ، ولفظها : لا أعرف الوقف في المال . فإن لم يكن في الرواية غير هذا ففي أخذ المنع منه نظر ، والله أعلم .
قال : ويصح الوقف فيما عدا ذلك .
ش : يصح [ الوقف ] فيما عدا ما ذكرناه ، من العقار ، والحيوان ، والأثاث ، والسلاح ، [ ونحو ذلك ] ، على المذهب المعروف ، وقد تقدم حديث عمر رضي الله عنه في وقف العقار .
2158 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من احتبس فرساً في سبيل الله إيماناً واحتساباً ، فإن شبعه ، ورثوه ، وبوله ، في ميزانه يوم القيامة حسنات ) رواه أحمد والبخاري .
2159 وقال في حق خالد : ( قد اختبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ( ونقل حنبل والأثرم عنه : إنما الوقف للدور والأرضين ، على ما وقف أصحاب رسول الله . قال ابن عقيل : وظاهر هذا حصره على العقار ، إعمالًا لمقتضى ( إنما ) وذلك هو الذي يتأبد حقيقة ، بخلاف غيره ، والله أعلم .
قال : ويصح وقف المشاع .
2160 ش : في النسائي وابن ماجه عن ابنعمر رضي الله عنهما قال : قال عمر للنبي : إن المائة سهم التي بخيبر ، لم أصب مالًا قط أعجب إليّ منها ، قد أردت أن أتصدق بها . فقال النبي : احبس أصلها وسبل ثمرتها ) . والله أعلم .
قال : وإذا لم يكن الوقف على معروف أو بر فهو باطل .
ش : من شرط الموقوف إذا كان على جهة أن يكون معروفاً ، كالمساكين ، والمساجد ، والقناطر ، والمارين بالكنائس ونحو ذلك ، أو براً كالأقارب ، مسلمين كانوا أو ذمة ، نظراً لمعنى الوقف ، إذ وضعه ليتقرب به إلى الله تعالى ، وفي قصة عمر رضي الله عنه ما يشعر بذلك ، فلا يصح فيما ليس بربة ، سواء كان مأثماً كالكنائس ، والبيع ، وكتابة التوراة والإِنجيل ، وإن كان الواقف ذمياً ، والمغنين ، ونحو ذلك ، أو غير مأثم ، كالأغنياء ، ولهذا جعل الله الفيء مقسوماً بين ذي القربى ، واليتامى ، ومن سماه الله سبحانه ، حذاراً من أن تتداوله الأغنياء ، قال سبحانه : 19 ( { ما أفاء الله على رسوله من أه
____________________
(2/205)
القرى فلله ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى والمساكين ، وابن السبيل ، كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } ) وقيل المشترط أن لا يكون معصية ، ولا يشرتط القربة ، فيصح على الأغنياء .
أما الوقف على أهل الذمة ، كأن قال : وقفت على النصارى ، أو على نصارى هذه البلدة ، ونحو ذلك ، فمقتضى كلام أبي البركات وصاحب التلخيص أنه لا يصح ، لأن الجهة جهة معصية ، بخلاف الوقف على أقاربه من أهل الذمة لأنها جهة بر ، وفي المغني : يصح الوقف على أهل الذمة ، لأنهم يملكون ملكاً محترماً ، أشبهوا المسلمين .
2161 ولأن صفية زوج النبي وقفت على أخ لها يهودي . وفيه نظر ، إذ العلة لست الملك المحترم ، بل كون ذلك قربة وطاعة ، ووقف صفية على قريبها المعين ، ولا إشكال في صحة ذلك ، لما فيه من البر ، بل لو كان معيناً وليس بقريب صح أيضاً ، لأن المعين يقصد نفعه ، ومجازاته ، ونحو ذلك ، بخلاف جهة أهل الذمة ، فإنها جهة معصية انتهى .
ومن شرط الموقوف عليه إذا كان غير جهة ، أن يكون معيناً يملك ملكاً محترماً ، فلا يصح على مجهول كرجل ، ولا على أحد هذين ، كالهبة ، قال في التلخيص : ويحتمل الصحة ، بناء على أنه لا يفتقر إلى قبول ، ولا على من لا يملك ، كالحمل ، والبهيمة ، وكذلك العبد ، لأنه وإن قيل إنه يملك لكن ملكه كالعدم ، وفي المكاتب وجهان ، لتردده بين الحر والعبد القن ، ولا على مرتد ، ولا حربي ، لعدم احترام ملكهم ، ويصح على الحر المعين ، وإن كان ذمياً أو فاسقاً ، والله أعلم .
قال : ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه .
ش : لما فرغ المصنف من الكلام على الوقوف شرع في الكلام على العطايا ، وهي جمع عطية ، كخلية وخلايا ، والعطية الشيء المعطى ، وحدها : تمليك عين في الحياة بلا عوض ، وهي جنس ، أنواعه الصدقة ، والهبة ، والهدية ، فإن كان القصد بها التقرب إلى الله تعالى لمحتاج فهي صدقة ، وإن حملت إلى المهدى إكراماً وتودداً فهدية ، وإلا فهبة ، إذا تقرر هذه فإن هبة غير المعين كقفيز من صبرة ، ورطل من زبرة ، ونحو ذلك تفتقر إلى القبض بلا نزاع وفي المعين ثلاث روايات ، ( الافتقار ) ، ( وعدمه ) وهو مختار القاضي وعامة أصحابه ( والتفرقة ) بين صبر المكيل والموزون فتفتقر إلى القبض دون غيرهما ، وهو مختار الخرقي ، وأبي محمد ، ومدرك الخلاف أن من قصر الحكم على غير المعين قال : مقتضى العموم عدم الافتقار .
2162 بدليل قوله : ( العائد في هبته كالعائد في قيئه ) خرج منه غير المعين .
____________________
(2/206)
2163 بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان نحلها جداد عشرين وسقاً من ماله بالغابة ، فلما حضرته الوفاة قال : يا بنية إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقاً ، ولو كنت جددتيه ، واحتزتيه كان لك ، وإنما هو اليوم مال وارث ، فاقتسموه على كتاب الله . رواه مالك في الموطأ ، وجداد عشرين وسقاً غير معين ، قال أحمد : حديث أبي بكر رضي الله عنه في شيء مجهول وإذاً يبقى في ما عداه على مقتضى العموم .
2164 ويؤيد هذا ما روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما ، أنهما قالا : الهبة جائزة إذا كانت معلومة ، قبضت أو لم تقبض . ومن ألحق صبر المكيل والموزون بذلك قال : فيها أيضاً نوع شياع وإبهام فتلحق به .
2165 ومن عمّم الحكم في الجميع استدل بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ما بال قوم ينحلون أولادهم ، فإذا مات أحدهم قال : مالي ، وفي يدي . وإذا مات هو قال : قد كنت نحلته ولدي . لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد ، فإن مات ورثه .
2166 وأرى عثمان رضي الله عنه أن الوالد يجوز لولده [ إذا كانوا صغاراً ] .
2167 وقال بعض العلماء : اتفق أبو بكر وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة .
( تنبيه ) : حيث افتقرت الهبة إلى القبض فهل ذلك لصحتها ، أو للزومها وملكها ، أو للزومها فقط ؟ ظاهر كلام الخرقي وطائفة من الأصحاب الأول ، قال أبو الخطاب في الانتصار في البيع بالصفة : القبض ركن في غير المتعين ، لا ينبرم العقد بدونه ، وقال في موضع آخر : إن الزيادة قبل القبض للواهب . وهذا مقتضى كلام القاضي في المجرد أيضاً ، حيث جعلها تبطل بموت الواهب قبل القبض ، قال في التلخيص : كان القاضي يجعل القبض كجزء من السبب مثل القبول ، ومقتضى كلام أبي محمد في الكافي ، وأبي البركات بل صريحه الثاني ، ومقتضى كلام صاحب التلخيص الثالث ، لأنه قال بعد كلام القاضي المتقدم في المجرد : والمذهب لا يقتضي ذلك ، إذ الملك ينتقل في بيع الخيار على الصحيح ، وقال أيضاً : إن الزوائد الحاصلة بعد العقد وقبل القبض للمتهب بشرط اتصال القبض ، لكن شرطه اتصال القبض يقتضي القول الثاني ، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل أيضاً القول الثاني والثالث ، وكلام أحمد ظاهره الثاني ، قال في رواية حنبل : إذا تصدق على رجل بصدقة دار أو ما أشبه ذلك فإذا قبضها الموهوب له صارت في ملكه . وكلام الصحابة رضي الله عنهم يحتمل القولين الأولين ، أما القول الثالث : فضعيف ، ولا يعرف مصرحاً به ، والله أعلم .
____________________
(2/207)
قال : وتصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما تصح في البيع .
ش : تصح الهبة في غير المكيل والموزون ، وقد تقدم ذلك ، وقوله : إذا قبل . تصريح بأنه لابد في الهبة من القبول ، ولا إشكال في ذلك ، إذ هو أحد ركنيها ، أشبه الإِيجاب ، ويقوم ما يدل عليهما مقامهما ، اختاره ابن عقيل ، وأبو محمد وغيرهما .
2168 وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي كان إذا أتي بطعام سأل عنه ، فإن قالوا : صدقة : قال لأصحابه : ( كلوا ) ولم يأكل ، وإن قالوا : هدية . ضرب بيده ، فأكل معهم ، وعن القاضي ، وأبي الخطاب : لاتصح بالمعاطاة . وقوله : كالبيع . أي أنه تتوقف صحته على القبول ، ومراده كالبيع مطلقاً ، لا كالبيع في المكيل والموزون ، إذ لا نزاع أن القبول في البيع ليس بشرط في الصحة إلا في التصرف ، وقد يأخذ من كلام الخرقي أن [ من ] شرط صحة القبول تأخره عن الإِيجاب ، كما أن ذلك بلا نزاع . رتبته ، وهذا إحدى الروايتين ، والله أعلم .
قال : يقبض للطفل أبوه أو وصيه بعد ، أو الحاكم ، أو أمينه بأمره .
ش : يقبض للطفل أبوه ، لما تقدم عن عثمان رضي الله عنه ، أو وصيه بعده ، لأنه يقوم مقامه ، أوالحاكم إذا مات الأب من غير وصي ، أو لم يكن أهلًا كالفاسق [ ونحوه ] ، إذ الحاكم ولي من لا ولي له ، أو أمين الحاكم بأمره ، لأنه يقوم مقامه .
ومقتضى كلام الخرقي أنه ليس لغير هؤلاء القبض ، وهو المشهور ، وقيل : للأم وبقية أقاربه ممن يقوم على الطفل القبض إن عدموا هؤلاء .
وقد تضمن كلامه أنه ليس للطفل القبض ، وهو صحيح ، لفقد الأهلية ، والطفل غالباً يطلق على غير المميز ، وقد يطلب عليه ، كما في قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } ) الآية ، وكلام الخرقي محتمل للأمرين ، وفي صحة قبض المميز وجهان طباقاً للاحتمالين ، لكن يصح بإذن وليه بلا ريب ، والله أعلم .
قال : وإذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده ، كما أمر النبي .
ش : المشروع في عطية الأولاد التسوية بينهم .
2169 لما روى عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قال : قال النبي : ( اعدلوا بين أبنائكم ) رواه أحمد ، وأبو داند ، والنسائي ويسوي بينهم على قدر ميراثهم ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، اقتداء بقسمة الله تعالى ، وقياساً لحال الحياة على حال الموت .
2170 قال عطاء : ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله فإن خالف ولم يسو
____________________
(2/208)
بينهم أمر برد ذلك ، أو إعطاء الآخر حتى يستووا .
2171 لما روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن أباه أتى به رسول الله ، فقال : إني نحلت ابن هذا غلاماً ما كان لي ، فقال رسول الله : ( أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ ) فقال : لا . فقال : ( فارجعه ) متفق عليه ، ولفظ مسلم : تصدق عليّ أبي ببعض ماله ، وفي رواية ( لا تشهدني على جور ، وإن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم ) .
وظاهر كلام الخرقي رحمه الله أن يسوي بينهم ، وإن اختص بعضهم بمعنى يقتضي الاختصاص كزمانة ، أو عمى ، أو اشتغال بعلم ، ونحو ذلك ، أو بمعنى يقتضي المنع كفسوق ، ونحو ذلك ، ونص عليه أحمد في رواية يوسف ابن موسى ، وهو ظاهر كلام الأكثرين ، لعموم حديث النعمان بن بشير ، ولأنهم سواء بالإِرث ، فكذلك في عطيته في حياته ، ( وعنه ) ما يدل على جواز تفضيل أحدهم أو اختصاصه لمعنى مما تقدم ، لقوله في تخصيص أحدهم في الوقف : لا بأس به إذا كان للحاجة ، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة . وهذا اختيار أبي محمد ، وعليه حمل حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
وظاهر كلامه أن الذي يجب التعديل بينهم هم الأولاد فقط ، وبه قطع أبو محمد في كتبه ، إذ الأصل تصرف الإِنسان في ماله كيف شاء ، خرج منه الأولاد بالخبر ، ولأنه لم يسأل بشيراً : هل لك وارث غير ولدك أم لا ؟ وقال أبو الخطاب ، وأبو البركات ، وصاحب التلخيص وغيرهم : حكمهم حكم الأولاد ، يسوي بينهم على قدر مواريثهم ، فإن لم يفعل رجع على ما تقدم ، وفي التلخيص أن أحمد رحمه الله نص عليه ، لأن المنع من ذلك كان خوف قطيعة الرحم والتباغض ، وهذا موجود في الأقارب ، والله أعلم .
قال : فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له ، إذا كان ذلك في صحته .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، واختارها الخلال ، وأبو بكر ، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإن ظاهره أنه خصها بذلك ، وأنها لو كانت حازته لم يكن لهم الرجوع ، وكذلك عموم قول عمر : لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد .
( والثانية ) : للورثة الرجوع ، كما كان له الرجوع ، لأنه سماه جوراً .
2172 وفي رواية لمسلم : ( وإني لا أشهد إلا على حق ) وغير الحق ، والجور ، لا يختلف بالحياة والموت ، فلا يطيب أكله ، ويجب رده .
____________________
(2/209)
2173 وقد روى سعيد في سننه أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده ، وخرج إلى الشام فمات بها ، ثم ولد له بعد ذلك ولد ، فمشى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى قيس بن سعد ، فقالا : إن سعداً قسم ماله ، ولم يدر ما يكون ، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة ، فقال قيس : لم أكن لأغير شيئاً صنعه سعد ، ولكن نصيبي له .
وقول الخرقي : إذا كان في صحته ، احترازاً مما إذا كانت العطية في مرض موته ، فإن ذلك لا ينفذ ، ويكون كالوصية له ، تقف على إجازة الورثة ، نعم إن كانت العطية في المرض ليسوي بينهم فهل يجوز ؟ فيه احتمالان ، أولاهما الجواز ، لأنه طريق لفعل الواجب ، لا سيما إذا قلنا : للورثة الرجوع . والله أعلم .
قال : ولا يحل لواحد أن يرجع في هبته ، ولا لمهد أن يرجع في هديته ، وإن لم يثب عليها .
2174 ش : لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه ) متفق عليه ، ولأحمد ، والبخاري ( ليس لنا مثل السوء ) ، وفي رواية لأحمد قال قتادة : ولا أعلم القيء إلا حراماً .
2175 وعن طاوس أن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم رفعاه ، أن النبي قال : ( لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها ، إلا الوالد فيما يعطي ولده ، ومثل الرجل يعطي عطية [ ثم يرجع فيها ] ، كمثل الكلب ، أكل حتى إذا شبع قاء ، ثم رجع في قيئه ) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي .
وعموم كلام الخرقي يشمل المرأة ، فليس لها أن ترجع في ما وهبته لزوجها ، وهو إحدى الروايات ، واختيار أبي بكر ، لعموم ما تقدم ، ولقوله تعالى : { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ( والثانية ) : للمرأة الرجوع مطلقاً ، نقلها الأثرم .
2176 واحتج لها بأن في الحديث ( إنما يرجع في المواهب النساء ، وشرار الأقوام ) ( وعنه ثالثة ) ، إن وهبته مخافة غضبه ، أو إضرار بها ، بأن يتزوج عليها ، ونحو ذلك رده إليها ، لأنها لم تطب نفساً به ، وإن لم يكن سألها ، فتبرعت به فهو جائز ، حكى الروايات الثلاث أبو محمد ، وعندي أن الثالثة لا تدل إلا على صحة هبتها وعدمها .
وكرم الخرقي أيضاً يشمل الأب ، فمقتضى كلامه أنه ليس له الرجوع ، وهو إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله ، نقلها عنه المروذي في كتاب الزهد ، لعموم
____________________
(2/210)
حديث ابن عباس المتفق عليه ، وقال أبو محمد : ظاهر كلامه الرجوع ، وأخذه من قوله : وإذا فاضل بين ولده في العطية أنه يرد ذلك . وفي نظر ، وبالجملة فهذا هو المشهور ، واختاره جماعة من الأصحاب لما تقدم من حديث ابن عباس الذي في السنن . وهو مخصص لحديثه الآخر ، ( وعنه رواية ثالثة ) اختارها أبو محمد ، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة ، إن غرّ بها قوم ، كأن رغب الناس بسببها في معاملته ، أو مناكحته فلا رجوع ، لما فيه من الضرر [ بالغير ] المنفي شرعاً ، وإلا فله الرجوع لما تقدم ، ( وعنه رابعة ) إن زادت العين زيادة متصلة فلا رجوع ، لاتصالها بملك الولد ، وإلا فله الرجوع ، ونقل عنه حنبل : أرى أن من تصدق على ابنه بصدقة فقبضها الابن ، أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن ينقض شيئاً من ذلك ، لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة . ونحو ذلك نقل المروذي ، قال أبو حفص : تحصيل المذهب أنه لا يرجع فيما دفع لغير الولد ، هبة كان أو صدقة ، ويرجع فيماوهبه لابنه ، ولا يرجع فيما كان على وجه الصدقة . وهذا اختيار ابن أبي موسى .
2177 لعموم قوله لعمر : ( لا تعد في صدقتك ) وقد فهم عمر العموم .
2178 فروى مالك في الموطأ عنه قال : من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة رحم ، أو على وجه صدقة ، فإنه لا يرجع فيها ، ومن وهب هبة ، أراد بها الثواب ، فهو على هبته ، يرجع فيها إذا لم يرض منها . وأبو محمد صرح بأنه لا فرق بين الصدقة وغيرها ، مستدلاً بأن في الصحيح في حديث النعمان ابن بشير : تصدق عليّ أبي ببعض ماله . . . القصة ، وصرح بذلك [ أيضاً ] القاضي في المجرد وهو ظاهر إطلاق جماعة .
وشرط الرجوع حيث جوزناه ( أن تكون العين ) الموهوبة باقية في ملك الابن ، فإن خرجت عن ملكه ثم عادت إليه بعقد ، أو إرث فلا رجوع ، وإن رجعت إليه بفسخ فثلاثة أوجه ، ثالثها ، إن كان كخيار المجلس أو الشرط رجع ، وإلا فلا ، ( وأن لا يتعلق ) بها حق يمنع تصرف الابن ، كالرهن ، وحجر الفلس ، والكتابة إن لم يجز بيع المكاتب ، ثم إن زالت هذه التعلقات جاز له الرجوع ، لزوال المانع .
وقوله : وإن لم يثب عليها . تنصيص على مخالفة من قال : إن لم يثبت عليها رجع . وهو مشعر بأن الهبة لا تقتضي ثواباً ، وهو كذلك ، وإن كانت من الأدنى للأعلى .
( تنبيه ) : هذا الحكم يختص بالأب ، فليس للأم الرجوع فيما وهبته لولدها ، على المنصوص والمختار ، وقيل : لها الرجوع كالأب . والله أعلم .
قال : وإذا قال : داري لك عمري ، أو هي لك عمرك . فهي له ولورثته من بعده .
ش : العمرى نوع من الهبة ، تفتقر إلى ما تفتقر إليه الهبة من الإِيجاب ، والقبول ،
____________________
(2/211)
والقبض ، وهي مأخوذة من العمر ، ومعناها كما قال الخرقي أن يقول : داري أو فرسي ونحو ذلك لك عمري ، أو مدة حياتي ، أو لك عمرك ، أو حياتك . ونحو ذلك ، فتصح ، وتكون للمعمر ، ولورثته من بعده .
2179 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( العمرى ميراث لأهلها ) وفي لفظ ( جائزة لأهلها ) متفق عليه .
2180 وعن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله : ( من أعمر عمرى فهي لمعمره محياه ومماته ، لا ترقبوا ، من أرقب شيئاً فهو سبيل الميراث ) ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي .
2181 وعن جابر رضي الله عنه قال : قضى رسول الله بالعمرى لمن وهبت له ، متفق عليه ، وفي لفظ : ( أمسكوا عليكم أموالكم ، ولا تفسدوها ، فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمر حياً وميتاً ، ولعقبه ( رواه مسلم .
وظاهر كلام الخرقي في العمرى أنها تكون للمعمر ولورثته ، وإن شرط المعمر رجوعها إليه ، أو إلى ورثته عند موت المعمر ، فيبطل الشرط ، ويصح العقد ، وهو إحدى الروايات عن أحد ، لعموم ما تقدم ، ولأن فيها ( لا ترقبوا ، من أرقب شيئاً فهو على سبيل الميراث ) والرقبى معناها الرجوع إلى المرقب إن مات المرقب .
2182 وعن جابر رضي الله عنه ، أن رجلًا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخل حياتها ، فماتت فجاء إخوته فقالوا : نحن فيه شرع سواء قال جابر : فاختصموا إلى رسول الله ، فقسمها بينهم ميراثاً . رواه أحمد . ( والرواية الثانية ) يصح العقد والشرط ، فتكون للمعمر إذا مات المعمر .
2183 إعمالًا لقوله : ( المسلمون على شروطهم ) .
2184 وعن جابر رضي الله عنه : إنما العمرى التي أجاز رسول الله أن يقول : هي لك ولعقبك . فأما إذا قال : هي لك ما عشت . فإنها ترجع إلى صاحبها . رواه أحمد ومسلم وأبو داود . ( وعنه ) يبطل العقد والشرط ، لأنه شرط منهي عنه ، إذ الجاهلية كانوا يفعلون ذلك .
____________________
(2/212)
2185 فنهى الشارع عنه بقوله : ( لا تعمروا ، ولا ترقبوا ) والنهي يقتضي الفساد ، وإذاً يفسد العقد ، لاختلاف الرضى بدونه ، والله أعلم .
قال : وإذا قال : سكناها لك عمرك . كان له أخذها أي وقت أحب ، لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى . ش : هذه هبة منفعة ، والمنافع إنما تستوفى بمضي الزمان شيئاً فشيئاً ، فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه واستوفاه ، وقوله : لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى قد تقدم بيان العمرى وأما الرقبى فهي هبة ترجع إلى المرقب إذا مات المرقب ، ومعناها أنها لآخرهما موتاً ، وحكمها حكم العمرى المشروط رجوعها إلى المعمر ، فيها الروايات ، سواء أطلق فقال : أرقبتك هذه . أو صرح بموضوعها فقال : هي لآخرنا موتاً ، والله أعلم .
( باب اللقطة )
ش : حكي عن الخليل رحمه الله : ( اللقطة ) بضم اللام ، وفتح القاف ، الكثير الإِلتقاط ، وبسكون القاف ما يلتقط . قال أبو منصور : وهو قياس اللغة . وقال الأصمعي ، وابن الأعرابي والفراء : هي بفتح القاف اسم للمال الملقوط أيضاً . ويقال فيه أيضاً : ( لقاطة ) بضم اللام ( ولقطة ) بفتح اللام والقاف ، وهي في الاصطلاح : المال الضائع عن ربه ، يلتقطه غيره .
2186 والأصل فيها ما روى زيد بن خالد الجهني قال : سئل رسول الله عن لقطة الذهب ، فقال : ( اعرف وكاءها ، وعفاصها ، ثم عرفها سنة ، فإن لم تعرف فاستنفقها ، ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فادفعها إليه ) وسأله عن ضالة الإِبل فقال : ( مالك ولها ، دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ، ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها ) وسأله عن الشاة فقال : ( خذها ، فإنما هي لك ، أو لأخيك أو للذئب ) متفق عليه ، وفي أحاديث أخر . والله أعلم .
قال : ومن وجد لقطة عرفها سنة ، في الأسواق ، وأبواب المساجد .
ش : من وجد لقطة وجب عليه تعريفها ، وإن لم يرد تملكها ، لما تقدم من حديث زيد بن خالد .
2187 وفي رواية عنه ( لا يؤوي الضالة إلا ضال ما لم يعرفها ) رواه أحمد ، ومسلم ، وقدر التعريف سنة [ للحديث ] .
____________________
(2/213)
وظاهر كلام الخرقي أن السنة تلي الإِلتقاط ، وتكون متوالية ، وهو صحيح ، لظاهر الأمر ، إذ مقتضاه الفور على قاعدتنا ، ولأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها ، فإذا عرفت إذاً كان أقرب إلى وصولها إليه ، بخلاف ما لو تأخر ذلك ، فلو ترك التعريف بعض الحول أثم ، وعرف بقيته ، لقوله : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) [ وإن تركه جميع الحول سقط على المنصوص ، لسقوط حكمة التعليف ، وهو تطلع المالك لها في الحول الأول ، وقيل : لا يسقط .
2188 نظراً لقوله : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ] وهنا قد استطاع التعريف على وجه ناقص ، فوجب عليه . انتهى ، ( ومحل التعريف ) محل وجدانها ، إن أمكن ، وفي الأسوق ، وأبواب المساجد ، في أدبار الصلوات ، ونحو ذلك من مجامع الناس ، لأن المقصود من التعريف إظهار ربها عليها ، وهذه الأماكن مظنة ذلك ، بخلاف غيرها .
2189 ولا تعرف في المسجد ، للنهي عن ذلك ، ووقته النهار ، وقد يفهم هذا من قوله : في الأسواق ، وأبواب المساجد .
وصفته أن يقول : من ضاع منه شيء ، أو نفقة ، أو ذهب ، ونحو ذلك ، ولا يذكر الصفة .
وظاهر كلام الخرقي أنه يعرف القليل والكثير ، وهو ظاهر إطلاق الحديث ، ويستثنى من ذلك اليسير ، الذي لا تتبعه النفس ، كالتمرة ، والكسرة ، والسوط ، ونحو ذلك ، فإنه لا يجب تعريفه ، ولواجده الانتفاع به .
2190 لما روى جابر رضي الله عنه قال : رخص لنا رسول الله في العصا ، والسوط ، والحبل ، وأشباهه ، يلتقطه الرجل ينتفع به . [ رواه أبو داود ] .
2191 وفي الصحيحين أنه مر بتمرة في الطريق ، فقال : ( لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها والمعروف تقييد اليسير بما لا تتبعه نفوس أوساط الناس كما مثلنا ) ، ونص أحمد في رواية أبي بكر بن صدقة على أنه يعرف الدرهم ، وقال ابن عقيل في التذكرة : لا يجب تعريف الدانق ونحوه . وحمله في التلخيص على دانق الذهب ، نظراً لعرف العراق ، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن اليسير دون ثلاثة دراهم ، لأنه تافه .
2192 بدليل قول عائشة رضي الله عنها : كانوا لا يقطعون في الشيء التافه .
وعموم ( من ) يشمل الذمي ، وصرح به غيره ، لعموم ( من وجد لقطة ) ولأنه أهل للتكسب ، فيصح التقاطه ، كاحتطابه ونحو ذلك ، ثم قال أبو محمد : إنه يضم إليه أمين
____________________
(2/214)
في التعريف والحفظ ، وأكثر الأصحاب لم يتعرضوا لذلك ، وجعله ابن حمدان على القول بضم الأمين إلى الفاسق ، ( ويشمل ) الفاسق أيضاً ، وهو صحيح لما تقدم ، وهل يضم إليه أمين ؟ فيه وجهان ، ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام القاضي في الجامع ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي لا ، لأهليته للحفظ ، بدليل إيداعه ( والثاني ) واختاره القاضي في المجرد ، وابن البنا ، وبه قطع أبو البركات ، وأبو محمد في كتابيه الكبيرين نعم ، حفطاً لمال الغائب ، ثم قال القاضي : يكون الأمين هو المباشر للتعريف ، لاتهام الفاسق ، فربما قصر .
( ويشمل ) أيضاً الرقيق ، وهو صحيح ، فإن كان مكاتباً فحكمه حكم الحر ، وإن كان قنا صح التقاطه على المذهب ، ( وعنه ) لا يصح إلا بإذن سيده ، فعلى المذهب يصح تعريفه ، ثم إن تلفت في حول التعريف بلا تفريط فلا شيء عليه ، وأن تلفت بتفريطه ، أو أتلفها ضمنها في رقبته لجنايته ، وإن مضى حول التعريف هل يملكها ؟ قال في التلخيص : قال أصحابنا : يخرج على الروايتين في ملك العبد . وهذا مقتضى كلام أبي البركات ، قال صاحب التلخيص : وعلى ما بينت أن الروايتين فيما إذا ملكه السيد ، لا يملك هنا بحال . وقطع أبو محمد في الكافي والمغني أن السيد يملك بمضي الحول ، فإما أن نظر إلى ما قال صاحب التلخيص ، وإما أنه فرع على المذهب ، ثم إن صاحب المحرر قال : إن ملك وتلفت ضمنها في ذمته ، وإن لم يملك ضمنها في رقبته ، وقال في التلخيص : إنه يضمنها في ذمته ، نص عليه . قال : لأنها للسيد ، أو للعبد مضمونة في ذمته . وكذا قال طائفة من الأصحاب ، منهم أبو محمد في المقنع ، وهذا متوجه إن قلنا : إن العبد يملك ، أما إن قلنا : إن الملك للسيد ، كما صرح به أبو محمد ، واقتضاه كلام صاحب التلخيص وغيره فالجناية على مال السيد ، فلا تتعلق لا بذمته ، ولا برقبته ، بل الذي ينبغي أن تتعلق بذمة السيد ، وإن قيل : إن لعبد لم يملك ولا السيد ، تعين التعلق برقبته كجناياته ، وهذه تحتاج إلى زيادة تحقيق ، ولها فروع أخر ليس هذا موضعها ، وحكم أم الولد والمعلق عتقها بصفة حكم القن . والله أعلم .
قال : فإن جاء ربها وإلا كانت كسائر ماله .
ش : يعني إذا عرفها فإن جاء ربها في الحول فهي باقية على ملكه ، وإن انقضى الحول ولم تعرف ، صارت عند انقضاء الحول كسائر مال الملتقط ، على المذهب بلا ريب ، لما تقدم من حديث زيد .
2193 وفي رواية فيه ( فاستمتع بها ) وفي رواية ( وإلا فهي لك ) قال في الانتصار : ونقل البغوي عنه ما يدل على أن اللقطة لا تملك . قلت : وهو غريب ، لا تفريع ولا عمل عليه .
وقد شمل كلام الخرقي الغني والفقير ، وهو المشهور من المذهب لما تقدم من حديث زيد .
____________________
(2/215)
2194 وفي حديث أبي بن كعب ( فاستمتع بها ) وشذ حنبل عن أصحابه ، فنقل عن أحمد اختصاص التملك بالفقير ، وأنكر ذلك الخلال .
2195 لما روى عياض بن حمار قال : قال رسول الله : ( من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ، وليحفظ عفاصها ، ووكاءها ، ثم لا يكتم ، ولا يغيب ، فإن جاء ربها فهو أحق بها ، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) رواه الخمسة إلا الترمذي ، قال بعض الحفاظ : ورجاله رجال الصحيح . وظاهره أن واجدها لا يختص بها ، بل سبيلها سبيل الأموال المضافة إلى الرب سبحانه ، من الخمس وغيره ، وحديث زيد بن خالد قضية في عين لا عموم لها ، إذ يجوز أن النبي رآه فقيراً ، فأباح له الأخذ ، أو لمصلحة أخرى ، لأن الرسول نائب الله في أمواله .
وشمل كلامه أيضاً الأثمان ، والعروض ، والشاة ، ونحوها ، ولا خلاف في ملك الأثمان ، لنص حديث زيد بن خالد ، واختلف فيما عداها ، ( فعنه ) لا تملك مطلقاً .
2196 أما في الشاة ونحوها فلما روي عن النبي أنه قال : ( لا يؤوي الضالة إلا ضال ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والضالة اسم للحيوان ، دون سائر اللقطة .
2197 وأما في العروض فلأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ولا يصح قياسها على الأثمان ، فإن الغرض يتعلق بها ، بخلاف الأثمان ، ( وعنه ) تملك مطلقاً ، وهي ظاهر كلام الخرقي هنا ، وسينص عليها في الشاة ، واختيار ابن أبي موسى ، وأبي محمد ، لحديث زيد بن خالد في الشاة ، وهو نص في جواز التقاطها ، وهو خاص ، فيقدم على ( لا يؤوي الضالة ) الحديث ، ولحديث عياض بن حمار ( من وجد لقطة ) مع التزام أن عموم الأشخاص ، يقتضي عموم الأحوال .
2198 وروى الجوزجاني والأثرم قالا : حدثنا أبو نعيم ، ثنا هشام ابن سعد ، قال : حدثني عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : أتى رجل رسول الله فقال : يا رسول الله كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء ، أو في قرية مسكونة ؟ قال : ( عرفه سنة ، فإن جاء صاحبه وإلا فشأنك به ) .
2199 وروى الجوزجاني عن عمر وابنه ما يدل على أن العروض تملك ، ( وعنه ) رواية ثالثة وهي المشهورة في النقل والمذهب ، عند عامة الأصحاب أن الشاة ونحوها تملك دون العروض ، وقد فهم دليلها مما تقدم .
وحيث قلنا : لا تملك العروض . ( فعنه ) تعرف أبداً ، اختارها أبو بكر في ( زاد المسافر ) وابن عقيل أظنه في ( الفصول ) ، ( وعنه ) وهو المشهور عنه ،
____________________
(2/216)
واختيار الخلال ، وزعم أن الأول قول أول تباع ويتصدق بثمنها بشرط الضمان ، وقال القاضي في الخصال : يخير بين تعريفها أبداً ، وبين دفعها إلى الحاكم ، ليرى رأيه فيها . وقال ابن عقيل في التذكرة : يدفعها إلى الحاكم .
وشمل كلام الخرقي أيضاً لقطة الحل والحرم ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار الجمهور ، لحديث زيد بن خالد ، وعياض بن حمار ، التزاماً بأن عموم الأشخاص يتناول عموم الأحوال ، إذ قوله : ( من وجد لقطة ) عام في كل واجد ، وعموم الواجدين يستلزم عموم أحوالهم .
[ وكذلك سؤال زيد عن لقطة الذهب ، اسم جنس مضاف ، فيشمل كل لقطة ذهب ، ويلزم منه عموم أحوالها ] ( والثانية ) : لا تملك لقطة الحرم بحال ، بل تعرف أبداً .
2200 لقوله في بلد مكة ( ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ) أي لمنشد على الدوام ، وإلا غير لقطة الحرم لا تحل أيضاً إلا لقاصد تعريفها ، وحفظها .
2201 ويؤيد هذا ما روى عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه أن رسول الله نهى عن لقطة الحاج ، رواه مسلم . وهذا أخص من تلك فيقيد ، لا سيّما ويمنع : أن عموم الأشخاص ( لا ) يستلزم عموم الأحوال .
وقول الخرقي : وإلا فهي كسائر ماله . ظاهره أنها تدخل في ملكه من غير اختياره ، وكذا نص أحمد في رواية الجماعة ، وعليه الجمهور ، لظواهر الأحاديث السابقة .
2202 وفي رواية لمسلم في حديث زيد بن خالد ( فإن جاء صاحبها ، فعرف عفاصها ، ووكاءها وعددها ، فأعطها إياه ، وإلا فهي لك ) واختار أبو الخطاب في هدايته أنه لا يملكها حتى يختار ذلك ، وحكاها ابن الزاغوني رواية .
ومقتضى كلامه أنه لو لم يعرفها التعريف السابق وهو السنة أنه لا يملكها ، وهو صحيح ، وكذلك لو لم يعرفها الحول ، نعم إن أخر التعريف أو بعضه في الحول الأول لعذر ، من مرض ، أو حبس ، أو صغر ، ونحو ذلك ، ملكها بالتعريف في ثاني الحول في وجه ، وعلى المنصوص لا كالأول ، والله أعلم .
قال : وحفظ وكاءها ، وعفاصها ، وحفظ عددها ، وصفتها .
ش : هذا عطف على قوله : عرفها سنة . فيحتمل أنه واجب مطلقاً كالتعريف ، لظاهر حديث زيدد ويحتمل أنه مطلوب جملة ، ثم عند الالتقاط مستحب ، وعند تمام
____________________
(2/217)
التعريف ، وإرادة التصرف فيها أو خلطها بماله واجب ، وهو ظاهر كلامه ، وعليه شرح أبو محمد ، وفاقاً للأصحاب ، لأن دفعها إلى ربها يجب بما ذكر ، فلا بد من معرفته نظراً إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب .
2203 وفي رواية عن أبي كعب أنه قال : وجدت مائة دينار ، فأتيت بها النبي فقال : ( عرفها حولًا ) فلم تعرف ، فرجعت إليه فقال : ( وظاهره أن الخلط مرتب على معرفة ما تقدم ، وأنه قبل التعريف لم يأمره بذلك ، وهذه القرينة الصارفة لحديث زيد وغيره عن الوجوب ، ( والوكاء ) الخيط الذي تلبط به ، ( والعفاص ) الوعاء الذي تكون فيه ، من خرقة أو غيرها ، وفي معنى العدد الكيل والوزن ، ويبالغ في معرفة صفتها ، وكل شيء تعرف به .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب الإِشهاد عليها ، وهو المشهور ، نظراً إلى حديث زيد وغيره ، حيث لم يأمره بالإِشهاد ، نعم يستحب ، لحديث عياض بن حمار ، وأوجبه ابن أبي موسى ، وأبو بكر في التنبيه ، لظاهر الأمر ، والشهود عدلان فصاعداً ، ولا يشهد على الصفات ، نص عليه ، لاحتمال شياعه ، فيعتمده المدعي الكاذب ، والله أعلم .
قال : فإن جاء ربها فوصفها دفعت إليه بلا بينة .
ش : يعني إذا جاء ربها بعد الحول ، وصيرورتها كسائر مال الملتقط ، وهي باقية ، فوصفها بالصفات السابقة ، وجب دفعها إليه بلا بينة ، وإن لم يغلب على ظنه صدقه .
2204 لأن في حديث أبي بن كعب قال : ( عرفها ، فإن جاء أحد يخبرك بعدتها ، ووعائها ، فأعطها إياه ، وإلا فاستمتع بها ) رواه أحمد ، ومسلم ، والترمذي .
2205 وفي حديث زيد ( فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه ) وفي رواية فيه ( فإن جاء صاحبها ، فعرف عفاصها ، وعددها ، ووكاءها ، فأعطها إياه ، وإلا فهي لك ) .
2206 ولا ينافي هذا قوله ( البينة على المدعي ) واليمين على من أنكر ) . إذ هذا مع وجود منكر ، ولا منكر في صورة اللقطة ، فهي غير داخلة في الحديث ، ولو سلم دخولها ، فالتخصيص وقد قام دليله يخرجها ، مع أنا نقول البينة ما تبين الحق وتظهره ، والصفة هنا بهذه المثابة ، لتعذر إقامة البينة عليها غالباً ، لأنها تسقط في حال الغفلة والسهو .
وظاهر كلامه أنهلو ادعاها بلا صفة لم تدفع إليه ، وهو ظاهر لما تقدم ، وقوة كلامه يقتضي أنه لا يجب عليه دفع زيادتها معها والحال ما تقدم ، وهو أحد الوجهين ، أو الروايتين ، على ما في التلخيص ، واختيارأبي محمد ، لحدوثها في ملكه ، ( والثاني ) :
____________________
(2/218)
[ يأخذها ربها بها ، كما يأخذها بالزيادة المتصلة ، وكالبائع الراجع على المفلس ، أما في حول التعريف فإنها ترد بزيادتها ] مطلقاً ، لبقائها على ملك مالكها ، والله أعلم .
قال : أو مثلها إن كانت قد استهلكت .
ش : اختيار أبي محمد رحمه الله أن اللقطة بعد الحول تملك بغير عوض يثبت في ذمته ، وإنما يتجدد العوض بمجيء صاحبها ، وعند القاضي وكثير من أصحابه لا يملكها إلا بعوض يثبت في ذمته لصاحبها ، وعلى القولين يزول ملك الملتقط عنها بوجوده إن كانت باقية ، ويجب عليه إذاً بدلها ، وهو مثلها ، أو قيمتها إن كانت تالفة ، لحديث زيد ، فإنه أمره بإنفاقها ، ثم قال : ( ولتكن وديعة عندك ، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر فأدها إليه ) فأمره بدفعها إلى ربها ، بعد [ إباحة ] إنفاقها .
2207 وقال الأثرم : قال أحمد : أذهب إلى حديث الضحاك بن عثمان ، جوده ولم يروه أحد مثل ما رواه ، إن جاء صاحبها بعد سنة ، وقد أنفقها ردها إليه ، وحكى عنه أنه لوح إلى عدم الضمان ، لحديث عياض بن حمار ، لأن فيه ( فهو مال الله يؤتيه من يشاء ) وظاهره أنه مباح ، ولما تقدم من قوله : ( فهي لك ) وللأول أن يقول بموجبه ، إذ جعلها له ، وكون الله آتاه إياها ، لا ينافي وجوب الضمان عليه بوجود ربها ، وعلى هذا لو نقصت ضمن نقصها ، وتعتبر القيمة حين التملك ، قاله في التلخيص ، وهو ظاهر على رأي القاضي ومتابعيه ، أما على رأي أبي محمد فينبغي اعتبارها حين وجود ربها ، وكذا صرح به أبو البركات ، وهذا كله بعد الحول ، أما قبله فهي أمانة ، كبقية الأمانات ، والله أعلم .
قال : وإن كان الملتقط قد مات فصاحبها غريم بها .
ش : إذا مات الملتقط ، بعد أن صارت اللقطة كمال الملتقط ، ثم جاء ربها ، فهو غريم بها ، يرجع ببدلها إن اتسعت التركة ، وإلا تحاص الغرماء ، لما تقدم من أنه إنما يملكها مضمونة عليه ، إما حين التملك ، وإما حين وجود ربها ، وكلام الخرقي يحتمل أن يريد ما إذا تلفت ، بقرينة المسألة السابقة ، وعليه شرح أبو محمد ، ويحتمل أن يريد أنه غريم وإن كانت باقية ، تنزيلًا لانتقالها إلى الوارث منزلة الإِنتقال إلى الأجنبي ، ولو انتقلت إلى أجنبي لم يلزم إلا بدلها ، فكذلك إلى الوارث ، ثم عى الأول ظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا فرق بين أن يعلم تلفها بعد الحول أو لا ، وفي المغني احتمال أنه لا يلزم عوضها إن لم يعلم تلفها بعد الحول ، لاحتمال تلفها في الحول ، وهي إذاً أمانة ، والله أعلم .
قال : وإن كان صاحبها جعل لمن وجدها شيئاً معلوماً فله أخذه ، إن كان التقطها بعد أن بلغه الجعل .
ش : الجعالة جائزة في الجملة ، لقول الله تعالى : 19 ( { ولمن جاء به حمل بعير ، وأن
____________________
(2/219)
به زعيم } ) .
2208 وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : انطلق نفر من أصحاب النبي في سفرة سافروها ، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب ، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم ، فلدغ سيد ذلك الحي ، فسعوا له بكل شيء ، لا ينفعه شيء ، فقال بعضهم : لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا ، لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء . فأتوهم فقالوا : أيها الرهط إن سيدنا لدغ ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه ، فهل عند أحد منكم شيء ؟ فقال بعضهم : والله إني لأرقي ، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا ، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلًا ، فصالحوهم على قطيع من غنم ، فانطلق يتفل عليه ويقرأ : 9 ( { الحمد لله رب العالمين } ) فكأنما نشط من عقال ، فانطلق يمشي وما به قلبة ، قال : فأوفوهم الذي صالحوهم عليه ، فقال بعضهم : اقتسموا . فقال الذي رقى : لا تفعلوا حتى نأتي النبي ، فنذكر له الذي كان ، فننظر الذي يأمرنا . فقدموا على النبي ، فذكروا له ذلك ، فقال : ( وما يدريك أنها رقية ؟ ) ثم قال : ( قد أصبتم ، اقسموا ، واضربوا لي معكم سهماً ) وضحك النبي . متفق عليه ، واللفظ للبخاري ، والحكمة تقتضي ذلك ، فإن العمل قد يكون مجهولًا كصورتنا ، فتتعذر الإِجارة فيه ، والحاجة تدعو إلى رده ، وقد لا يجد متبرعاً فاقتضت حكمة الشارع جواز ذلك .
إذا تقرر هذا فإذا جعل رب اللقطة لمن وجدها شيئاً معلوماً ، فلمن وجدها أخذه ، لما تقدم ، ولقوله : ( المسلمون عند شروطهم ) وكما لو استأجره على بناء حائط ، ونحو ذلك ، لكن بشرط أن يلتقطها بعد أن بلغه الجعل ، ليكون عمله في مقابلة الجعل ، أما إن وجدها قبل بلوغ الجعل فلا شيء له ، لأنه متبرع بعمله .
وقد تضمن كلام الخرقي أموراً ( منها ) أنه لا يشترط العلم بالعمل ، ولا المدة ، وهو صحيح ، بخلاف الإِجارة ، والحكمة ما تقدم ، ( ومنها ) أنه لو قدر المدة ، كأن قال : إن وجدتها في شهر ونحو ذلك . صح نظراً لإِطلاق كلامه ، لاحتمال الغرر فيها ، بخلاف الإِجارة على الصحيح ، ( ومنها ) أنه لا يشترط تعيين العامل ، للحاجة الداعية إلى ذلك ، بخلاف الإِجارة ، ( ومنها ) أن العمل قائم مقام القبول ، لأنه يدل عليه ، أشبه الوكالة ، ( ومنها ) أن الجعل لا بد وأن يكون معلوماً ، كالإِجارة وغيرها من العقود ، وحمل البعير في الآية معلوم عندهم ، والقياس على العمل لا يصح ، للحاجة الداعية ثم ، بخلاف هنا ، وفي المغني تخريج بجواز جهالة الجعل ، إن لم يمنع التسليم ، كقوله : من رد ضالتي فله نصفها . بخلاف : فله شيء . من قول الإِمام : إذا قال الأمير في الجهاد : من جاء بعشرة رؤوس فله رأس . جاز ، ومن قوله : إذا جعل جعلًا لمن يدله على قلعة أو طريق ، من مال الكفار مجهولًا ، كجارية بعينها ، وقد عرف من هذ
____________________
(2/220)
ما توافق الجعالة الإِجارة فيه ، وما تخالفها ، وتخالفها أيضاً في أن الإِجارة عقد لازم ، والجعالة عقد جائز ، وتوافقها في أن ما جاز أخذ العوض عليه في الإِجارة جاز في الجعالة ، وما لا فلا .
وظاهر كلام الخرقي أن الجعل في مقابلة الوجدان ، وهو ظاهر كلام أبي البركات وغيره ، فعلى هذا هي بعد الوجدان كغيرها من اللقطات ، لصاحبها أخذها ، ولا يجب على الملتقط مؤونة ردها ، وقال في المغني : إذا قال : من وجد لقطتي فله دينار . فقرينة الحال تدل عى اشتراط الرد ، إذ هو المقصود ، لا الوجدان المجرد ، وءنما ذكر الوجدان لأنه سبب الرد ، فكأنه قال : من وجد لقطتي فردها عليّ . قلت : ولعله يريد بالرد تسليم العين ، أو التمكين منها ، وكذلك يريد الخرقي بالوجدان الوجدان المقصود ، لا مجرد الوجدان ، حتى لو ضاعت بعد أو تلفت استحق الجعل ، لأن هذا غير مقصود قطعاً ، وإذاً يرتفع الخلاف .
ومفهوم كلام الخرقي رحمه الله كما تقدم أنه لو وجد اللقطة قبل بلوغ الجعل أنه لا شيء له ، وكذلك في كل عمل عمله لغيره بغير جعل ، لئلا يلزم الإِنسان ما لم يتلزمه ، ولم تطب نفسه به ، إلا في صورة واحدة وهي رد الآبق ، فإن فيه مقدراً على المشهور المعروف ، والمختار للأصحاب .
2209 لأنه يروى عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود رضي الله عنهم ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفاً .
2210 وعن النبي أنه جعل في رد الآبق إذا جاء به خارجاً من الحرم ديناراً ، ولأن المصلحة تقتضي ذلك ، لئلا يلحقوا بدار الحرب ويرجعوا عن دينهم ، وبذلك فارقوا غيهرم ، وتوقف في رواية ابن منصور فقال : لا أدري ، قد تكلم الناس فيه ، لم يكن عنده فيه حديث صحيح ، فأخذ من ذلك أبو محمد رواية بأنه لا شيء فيه ، وقال : وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله : وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى ربه ما أنفق عليه ، ولم يذكر جعلا ، وأقرب إلى الصحة ، قياساً على غيرهم ، لأن الأصل عدم الوجوب ، والحديث مرسل ، وفيه مقال ، ولهذا قال ابن منصور عن الإِمام : لم يكن عنده فيه حديث صحيح . وفي أخذ رواية من هذا نظر ، لأن الواقف لا ينسب له قول ، وكونه ظاهر قول الخرقي ينازع فيه أيضاً ، لأن الخرقي ذكر هذا في النفقات ، وهو بصدد بيانها ، لا بيان الجعل ، وعلى كل حال فالمذهب الأول .
وعليه اختلف في قدر الجعل ، واتفق الأصحاب فيما علمته أنه إن رده من خارج المصر ففيه روايتان ( إحداهما ) واختارها الخلال أن الواجب له أربعون درهماً .
2211 اعتماداً على أن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه . ( والثانية ) أنه دينار أو اثنا عشر درهماً .
____________________
(2/221)
2212 نظراً إلى أنه يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما واختلف نقل الأصحاب فيما إذا رده من المصر ، ففي الهداية ، والمقنع ، والمحرر ، أن الواجب له دينار ، أو اثنا عشر درهماً ، وفي الخصال لابن البنا ، وكتاب الروايتين ، أنه عشر درهماً ، وفي الخصال لابن البنا ، وكتاب الروايتين ، أنه عشرة دراهم ، وبالغ القاضي في ذلك فقال : إن الرواية لا تختلف في ذلك ، وفي المغني أنه دينار أو عشرة دراهم ، وفي الكافي أنه دينار ، أو اثنا عشر درهماً في رواية ، وفي أخرى دينار ، وفي خلاف الشريف ، وأبي الخطاب ، والجامع الصغير ، أنه دبنار أو اثنا عشر درهماً في رواية ، وفي أخرى عشرة دراهم وجمع الطرق أنه دينار أو اثنا عشر درهماً في رواية ، وفي أخرى دينار أو عشرة دراهم ، وفي ثالثة دينار ، وفي رابعة عشرة دراهم ، وقد نقل ابن هانيء عن أحمد فيمن عمر قناة قوم أنه يرجع عليهم ، ذكر ذلك القاضي في الغصب ، من كناب التعليق ، وذكره من رواية محمد بن أبي حرب الجرجاني ، وعلله بأن الآثار بمنزلة الأعيان ، فكما أن يرجع بالأعيان ، كذلك يرجع بالآثار ، قلت : وهذا التعليل إنما يقتضي الرجوع فيما عمله ، بأن يزيله ، كما يرجع في الأعيان ، لا أنه يرجع ببدل ذلك على مالك العين ، والله أعلم .
قال : وإن كان الذي وجد اللقطة سفيهاً أو طفلًا قام وليه بتعريفها ، فإن تمت السنة ضمها إلى مال واجدها .
ش : إذا وجد اللقطة سفيه أو طفل قام وليه بالتعريف ، لأن واجدها ليس أهلًا للتعريف ، والولي قائم مقامه ، ونائب منابه ، فإذا تم التعريف ضمها الولي إلى مال واجدها ، وصارت كسائر ماله ، لأنها من أكسابه ، أشبه اصطياده ، ونحو ذلك ، وقد تضمن كلام الخرقي صحة التقاط الصبي والسفيه ، وهو صحيح . لعموم قوله : ( من وجد لقطة ) ونحو ذلك ، وكما يصح احتطابه وغيره ، والله أعلم .
قال : وإذا وجد الشاة بمصر أو بمهلكة فهي لقطة .
ش : يعني فله أخذها ، وهذا ( إحدى الروايتين ) وأشهرهما ، لما تقدم من قوله عليه السلام في حديث زيد بن خالد ( فإنما هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب ) ( والرواية الثانية ) لا يلتقطها إلا الإِمام ، لقوله : ( لا يأوي الضالة إلا ضال ) وعلى الأولى وهي المذهب هل يملكها بالتعريف ؟ فيه روايتان قد تقدمتا ، وحكم كل ما لا يمتنع من صغار السباع الثعلب ، وابن آوى ، والذئب ، ونحو ذلك كفصلان الإِبل ، وعجول البقر ، وأفلاء الخيل ، والأوز ، والدجاج ، ونحوها حكم الشاة فيما ذكرنا . وقد دل مفهوم كلام الخرقي عى ذلك فيما بعد .
وظاهر كلام الخرقي أنها تعرف كغيرها من اللقطان ، وهو مقتضى كلام صاحب التلخيص وأبي البركات ، وغيرهما ، وزعم أبو محمد أن الأصحاب لم يذكروا لها تعريفاً ، ثم قال أبو محمد : إن واجدها يخير بين ثلاثة أشياء ، ( أكلها ) وعليه قيمتها ، ( وبيعها ) وحفظ ثمنها ، ( وحفظها ) والإِنفاق عليها من ماله ، وهل يرجع به إن لم ينو
____________________
(2/222)
التبرع ؟ فيه روايتان ، وظاهر كلام صاحب التلخيص يخالفه في الأخير ، لأنه قال : لا يبيع بعض الحيوان للنفقة عليه ، لأنه يفضي إلى بيع كله .
ونبه الخرقي بقوله : بمصر أو بمهلكة . على قول مالك ومن وافقه ، من أن إن وجدها بمصر أخذها وذبحها ، وبمهلكة يحفظها إلى أن يجيء ربها .
( واعلم ) أنها إنما تكون لقطة بالمهلكة إذا لم يعلم أن صاحبها تركها ، أما لو تركها صاحبها يالمهلكة ترك الإِياس منها ، فليست بلقطة ، وهي لمن أحياها ، نص عليه ، والله أعلم .
قال : ولا يتعرض لبعير ، ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه .
ش : لا يتعرض لبعير ، لنص حديث زيد ، ولا لما فيه قوة يمنع نفسه عن صغار السباع ، كالخيل ، والبغال ، والبقر ، لما علل به من قوله : ( دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء ، وتأكل الشجر ، حتى يجدها ربها ) وقال في الشاة ( خذها ، فإنما هي لك ، أو لأخيك أو للذئب ) فعلل جواز أخذ الشاة بكونها معرضة للذئب ، ومنع من أخذ البعير لكونه معه حذاؤه فيرعى ، ( وسقاؤه ) وهو ما يوعي في بطنه من الماء الماء ، وهو لكبر جثته لا يقدر عليه الذئب ونحوه ، فيؤمن من تلفه غالباً .
2213 وقد روى منذر بن جرير رضي الله عنهما ، قال : كنت مع أبي جرير ، بالبوازيج في السواد ، فراحت البقر ، فرأى بقرة أنكرها فقال : ما هذ البقرة ؟ قالوا : بقرة لحقت بالبقر . فأمر بها فطردت حتى توارت ، ثم قال : سمعت رسول الله يقول : ( لا يؤوي الضالة إلا ضال ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وألحق الأصحاب بذلك الحمر ، نظراً إلى صورتها ، وألحقها أبو محمد بالشاة ، نظراً إلى مشاركتها في علتها ، وهو تعرضها للذئب ، ومفارقتها للإِبل في عدم صبرها على الماء ، وحكم ما يمتنع من صغار السباع بطيرانه كالطيور كلها ، أو بسرعته ، كالظباء ونحوها ، أو بنابه ، كالفهد والكلب على وجه حكم الإِبل ونحوها ، نعم إن كانت الصيود متوحشة ، إذا تركت ذهبت إلى الصحراء ، وعجز عنها صاحبها جاز التقاطها ، قاله أبو محمد ، ويلحق بالإِبل من غير الحيوان ما يتحفظ بنفسه كأحجار الطواحين وكبير الخشب ، ونحو ذلك بطريق الأولى ، لأن الإِبل متعرضة للتلف في الجملة ، بخلاف هذه .
وقوله : ولا يتعرض لبعير . هذا في غير الإِمام أو نائبه ، أما الإِمام أو نائبه فله أخذها ليحفظها لمالكها ، لا ليتملكها .
2214 لما روى مالك في موطئه عن ابن شهاب قال : 16 ( كانت ضوال الإِبل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إبلًا مؤبلة تتناتج ، ولا يمسها أحد ، حتى إذا كان عثمان أمر بمعرفتها ، ثم تباع ، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها ) . والله أعلم .
____________________
(2/223)
( كتاب اللقيط )
ش : اللقيط فعيل بمعنى مفعول ، كجريح ، وطريح وقتيل ، ونحو ذلك ، وهو الذي يوجد مرمياً على الطرق ، لا يعرف أبوه ، ولا أمه ، بشرط أن لا يبلغ سن التميز ، أو بلغها ولم يبلغ على المذهب ، وهو من فروص الكفايات ، لقول الله تعالى : 19 ( { وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان } ) ولأن فيه إحياء نسمة ، أشبه إنجاءه من الغرق ، والله أعلم .
قال : واللقيط حر .
ش : نظراً إلى الأصل ، لأن الله خلق آدم وذريته أحراراً ، والرق عارض .
2215 وعن سنين أبي جميلة أنه وجد منبوذاً في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : فجئت به إلى عمر فقال : ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ فقال : وجدتها ضائعة فأخذتها . فقال عريفه : يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح .
فقال : كذلك ؟ قال : نعم . قال عمر : اذهب فهو حر ، ولك ولاؤه ، وعلينا نفقته . رواه مالك . والله أعلم .
قال : وينفق عليه من بيت المال ، إن لم يوجد معه شيء ينفق عليه منه .
ش : ينفق على اللقيط من بيت المال ، إن لم يوجد معه ما ينفق عليه ، لما تقدم عن عمر رضي الله عنه ، ولأن بيت المال وارثه ، فكان نفقته عليه كقرابته ، فإن تعذر ذلك ، فعلى من علم حاله من المسلمين الإِنفاق عليه ، حذاراً من هلاكه ، كإنجائه من الغرق ، أما إن وجد معه شيء فإنه ينفق عليه منه ، لأنه محكوم له به ، لأنه يملك ، وله يد صحيحة ، بدليل أنه يرث ، ويورث ، ويملك أن يشتري له وليه ، ونحو ذلك ، أشبه البالغد وإذاً ينفق عليه من ماله كغيره ، ويتولى الإنفاق عليه من يحضنه على المشهور ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختاره ابن حامد ، وابن الزاغوني ، وابن البنا ، وصاحب النهاية ، وغيرهم ، لأن له ولاية عليه ، أشبه وصي اليتيم ، ولأن هذا من الأمر بالمعروف ، فلا يفتقر إلى حاكم ، كإراقة الخمر ، وقيل عنه ما يدل على وجوب استئذانه ، ونازع أبو محمد في دلالة ذلك ، وعليها إن أنفق بدون إذنه ضمن .
وقد أشعر كلام الخرقي بأن ما وجد مع اللقيط يكون له ، وهو صحيح ، كالذي يوجد في يده من نقد وغيره ، أو عليه من ثياب ونحوها ، أو تحته من فراش ونحوه ،
____________________
(2/224)
أو مشدوداً بثيابه ، قال أبو محمد : أو ما جعل فيه كخيمة أو دار ، وظاهر كلام أبي البركات مخالفته ، أو ما طرح قريباً منه ، في وجه قطع به أبو البركات ، وأبو محمد في الكافي ، وصححه في المغني ، عملًا بالظاهر ، وفي آخر وأورده أبو الخطاب مذهباً لا يكون له كالبعيد ، أو دفن تحته ، على احتمال في الهداية ، كالطرح بقربه ، وعلى ما أورده فيها مذهباً ، وقطع به ابن البنا لا يكون له ، كالبالغ فإنه لو كان تحته دفين لم يكن له ، وتوسط أبو البركات ، متابعة لابن عقيل ، فجعله له بشرط طراوة الدفن ، اعتماداً على القرينة ، والله أعلم .
قال : وولاؤه لسائر المسلمين .
ش : يعني ميراثه ، شبهه بالرقيق لعدم معرفة نسبه ، وأراد ( بسائر ) جميع ، جرياً على قاعدته ، وإنما كان كذلك لأنهم يرثون مال مات ولا وارث له ، واللقيط كذلك ، وقد دل كلام الخرقي على أن ولاءه لا يكون لملتقطه ، وهو صحيح .
2216 لقوله : ( إنما الولاء لمن أعتق ) وحديث عمر قيل : أراد بالولاء الولاية عليه ، جمعاً بين الأدلة .
2217 وحديث ( تحوز المرأة ثلاثة مواريث ، عتيقها ، ولقيطها ، وولدها الذي لا عنت عليه ) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه . قال ابن المنذر : لا يثبت . والله أعلم .
قال : وإن لم يكن من وجد اللقيط أميناً منع من السفر به .
ش : إذا لم يكن الذي وجد اللقيط أميناً كأن كان فاسقاً منع من السفر به ، حذاراً من ادعاء رقة أو بيعه ، ونحو ذلك ، وكذلك إن كان مستور الحال ، في وجه اختاره في الكافي ، احتياطاً ونظراً لجانب اللقيط ، لأنا لا نأمن خيانته ، وفي آخر يجوز أن يسافر به كما يقر في يده ، إذ الظاهر من حال المسلم الأمانة ، وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يقر في يد الفاسق في الحضر ، وهو أحد الوجهين ، لأنه قد سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم ، فيكون أحق به ، ولأنه أهل للحفظ في الجملة ، بدليل صحة إيصائه ، ( والثاني ) واختاره القاضي ، وأبو البركات وغيرهما لا يقر في يده ، لأنه نوع ولاية ، وليس من أهلها ، وعلى الأول قال أبو محمد : يضم إليه أمين يشارفه ، وشهد عليه ، ويشيع أمره ، ليؤمن التفريط فيه ، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط شيء من ذلك ، وكذلك أجراه صاحب التلخيص وغيره على ظاهره .
ومفهوم كلامه أنه إذا كان من التقطه أميناً أقر في يده ، وسافر به ، أما الإِقرار في
____________________
(2/225)
يده ، فلا نزاع فيه ، لحديث عمر ، لكن يشترط كونه حراً ، مكلفاً ، مسلماً ، رشيداً ، فلا يقر في يد عبد ، وإن كان مكاتباً ، لعدم تفرغه للحضانة ، ولا في يد صبي ، ولا مجنون ، لأنهم مولى عليهم ، لا أن لهم ولاية ، ولا في يد كافر وإن أقر في يد الفاسق ، لأن خطر الدين عظيم . نعم حيث حكم بكفر اللقيط أقر في يده ، لزوال المانع ، ولا في يد مبذر ، وإن لم يكن فاسقاً ، قاله في التلخيص ، لأنه ليس بأهل للأمانات الشرعية ، وأما السفر به فيجوز للأمن عليه ، لكن إن أراد السفر للنقلى ، فإن كان من بدو إلى حضر جاز ، لأنه أرفه له ، وأومن عليه ، وإن كان من حضر إلى بدو منع ، حذاراً من المشقة ، والخوف عليه ، وإن كان من حضر إلى حضر فوجهان ، الجواز للإِستواء ، والمنع لأن ظهور نسبه في محل التقاطه أغلب ، ولم يعارض ذلك ما يرجح عليه من رفاهيته ، والأمن عليه ، والله أعلم .
قال : وإذا ادعى اللقيط مسلم وكافر ، أري القافة ، فبأيهما ألحقوه لحق .
ش : إذا ادعى اللقيط مسلم وكافر ، أو حر وعبد ، أي ادعوا نسبه ، فهما سواء في الدعوى ، كما تضمنه كلام الخرقي ، ونص عليه أحمد ، وعليه الجمهور ، لأن كل واحد منهما لو انفرد صحت دعواه ، فإذا تنازعوا تساووا بالدعوى ، كالأحرار المسلمين ، وحكى ابن أبي موسى وجهاً أن الكافر والحال هذه لا يلتفت إلى دعواه إلا ببينة ، ثم إن كان لأحدما بينة حكم له ، وإن تساووا في البينة أو عدمها أري القافة معهما ، فأيهما ألحقته به لحق .
2218 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله دخل عليّ مسروراً تبرق أسارير وجهه ، فقال : ( ألم تري أن مجززاً نظراً آنفاً إلى زيد بن حارثة ، وأسامة بن زيد ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض ) رواه الجماعة ، وفي رواية لمسلم وغيره ( قد غطيا رؤوسهما ، وبدت أقدامهما ) وفي لفظ : قالت دخل قائف والنبي شاهد ، وأسامة بن زيد ، وزيد بن حارثة مضطجعان ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض . فسر بذلك النبي ، وأعجبه ، وأخبر به عائشة ، متفق عليه .
2219 قال أبو داود : وكا أسامة أسود ، وكان زيد أبيض . فسروه بذلك ، وإخباره به ، دليل الاعتماد عليه ، ولأنه يحصل غلبة الظن ، أشبه البينة ، ويؤيد ذلك أن عمر رضي الله عنه حكم بذلك في خلافته كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولم ينكره منكر .
وقد نبه الخرقي بذكر هذه المسألة على تساوي المسلم والكافر في الدعوى ، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله ، في تقديمه المسلم ، وعلى أن القافة تعتبر ، خلافاً للشافعي ، واقتصاره على الاثنين يحتمل لأنه يجوز أن يلحق بهما ، ولا يلحق بأكثر
____________________
(2/226)
منهما ، وهو قول ابن حامد ، قصراً على مورد النص .
2220 وهو ما روي عن عمر رضي الله عنه ، في امرأة وطئها رجلان في طهر ، فقال القائف : قد اشتركا فيه جميعاً فجعله بينهما .
2221 وعن علي : هو ابنهما ، وهما أبواه ، يرثهما ويرثانه . رواهما سعيد ، وقال أحمد : حديث قتادة ، عن سعيد ، عن عمر : جعله بينهما وقابوس ، عن أبيه ، عن علي : جعله بينهما . ونص أحمد في رواية مهنا أنه يلحق بثلاثة ، فاقتصر القاضي على ذلك ، ومال الشيخان إلى إلحاقه بما زاد على الثلاثة ، لأنه إذا جاز أن يخلق من اثنين ، كما شهب به قضاء الصحابة ، جاز أن يخلق من ثلاثة وأكثر .
( تنبيه ) : يعتبر للقائف الذكورية ، والعدالة لأنه إما بمنزلة الشاهد ، أو الحاكم والمعنيان معتبران فيهما ، وأن يكون مجرباً في الإِصابة ، ليحصل الظن بقوله ، وهل يكفي قائف واحد ، ومجرد خبره ، تنزيلًا له منزلة الحاكم ، أو لا بد من اثنين ، ولفظ الشهادة ، تنزيلًا لهما منزلة الشاهدين ؟ فيه روايتان ، وفي اعتبار الحرية وجهان ، بناء على الأصلين ، والله أعلم .
____________________
(2/227)
( كتاب الوصايا )
ش : الوصايا جمع وصية ، كالعطايا جمع عطية ، قال الأزهري : سميت الوصية وصية لأن الميت لما أوصى وصل ما كان فيه من أيام حياته ، بما بعده من أيام مماته ، والأصل فيها قول الله تعالى : 19 ( { كتب عليكم إذا حضر أحكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين ، والأقربين بالمعروف ، حقاً على المتقين } ) .
2222 وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه ، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ) رواه الجماعة .
2223 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ، عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ، ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم ) رواه الدارقطني .
قال : ولا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة .
2224 ش : عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : سمعت النبي يقول : ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث ) رواه الخمسة إلا النسائي ، وحسنه الترمذي .
2225 وعن عمرو بن خارجة رضي الله عنه مثله ، رواه الخمسة إلا أبا داود ، وصححه الترمذي .
2226 وعنابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لا يجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة ) .
2227 وعن عمرو لن سعبل ، عن إلبه ، عن جده ، رضي الله عنهم أن النبي قال : ( لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ) رواهما الدارقطني .
وقول الخرقي : ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة . ظاهره أن الوصية
____________________
(2/228)
صحيحة ، موقوفة على إجازة الورثة ، فتكون إجازتهم تنفيذاً ، وهذا هو المشهور المنصور في المذهب ، حتى أن القاضي في التعليق ، وأبا الخطاب في خلافه الصغير ، وأبا البركات ، وجماعة لم يذكروا في المسألة خلافاً ، اعتماداً على حديثي ابن عباس وعبد الله بن عمرو ، فإن مقتضاهما أن الوصية للوارث صحيحة ، إذا أجازت الورثة ، ( وعنه ) ما يدل على أن الوصية باطلة ، أخذا من إطلاقه في رواية حنبل : لا وصية لوارث . وفيه نظر ، فإذاً إجازة الورثة ابتداء عطية ، اعتماداً على أن الصحيح في الرواية كما تقدم ( لا وصية لوارث ) وظاهره نفي الوصية مطلقاً ، وللخلاف فوائد ، ( منها ) إذا قلنا : إنها تنفيذ . لزمت بدون القبول والقبض ، وإن اعتبرنا القبض في الهبة ، وتصح مع جهالة المجاز ، ومع كون المجاز وقفا على المجيز ، وإن قلنا : وقف الإِنسان على نفسه لا يصح . ولو كان المجاز عتقاً ، كما لو تأخر العتق عن وصايا استغرقت الثلث ، وقلنا : يبدأ بالأول فالأول على المذهب . فإن ولاءه للموصي ، لأنه المعتق ، فتختص به عصبته ، ولو كان المجيز والد المجاز له ، كما لو وهب ثلث ماله ، ثم وصى لأخيه بماله ، فأجاز ذلك الأب ، لم يكن له الرجوع في المجاز به ، لأنه ليس بهبة منه ، وهو إنما يرجع فيما وهبه لولده ، ولو جاوز المجاز الثلث زاحم ما لم يجاوزه ، كما لو كان ثلثه مثلًا خمسين ، فأوصلى لرجل بمائة درهم ، ولآخر بخمسين ، ولآخر بخمسين ، وأجاز الورثة الجميع ، فإن المال وهو المائة وخمسون يقسم بينهم أرباعاً ، لأن الوصية صحت في الجميع .
وعلى الرواية الأخرى تنعكس هذه الأحكام ، فلا بد من القبول والقبض في المجاز ، حيث اعتبرنا القبض في الهبة ، لافتقارها إليهما ، ويشترط كون المجاز معلوماً ، إذ العلم شرط في صحة الهبة ، ولو كان المجاز وقفاً على المجيز ، كما لو وقف دره على ورثته ، وهما ابناه ، فأجازا ذلك ، لم يصح إن لم يصح وقف الإِنسان على نفسه ، لأن الوقف حصل منهما ، ولو كان المجاز عتقاً كان ولاؤه للمجيز ، لأنه العتق حقيقة لا للموصي ، ولو كان المجيز والد المجاز له ، جاز له الرجوع فيما أجازه له ، لأنه هبة منه ، ولو جاوز المجاز الثلث لم يزاحم ما لم يجاوزه ، ففي الصورة التي ذكرناها ثم ، يقسم المال بين المجاز لهم أثلاثاً ، لأن لصاحب المائة منها خمسون ، والخمسون الزائدة على الثلث هبة مبتدأة من المجيزين ، ولم يحصل لهم شيء يهبونه ، وقد يقال : إن عدم المزاحمة إنما هو في الثلثين ، لأن الهبة تختص بهما ، والمجيز يشرك بينهما فيهما ، أما الثلث فيقسم بينهم على قدر أنصابهم .
وعلى الروايتين يعتبر إجازة المجيز في مرضه من ثلثه ، أما على الرواية الثانية فواضح ، وأما على الأولى فلأنه تمكن من أخذ المال ، وقد وجد سببه في حقه ، فتسببه في إسقاطه بمنزلة تلفه ، أشبه ما لو حاباه في بيع له فيه خيار ، ثم أجازه في مرضه ، فإن محاباته تعبر من الثلث .
____________________
(2/229)
واعلم أنه يستثنى من كلام الخرقي الوصية بالوقف على الوارث ، فإنه يلزم في الثلث فما دون ، على رواية وقد تقدمت ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث ، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز ، وإن لم يجيزوا رد إلى الثلث .
ش : لا تجوز الوصية لوارث مطلقاً ، ، ولا لأجنبي بزائد على الثلث .
2228 لما روي عن سعد بن أبي وقاص قال : جاءني رسول الله يعودني من وجع اشتد به ، فقلت : يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : ( لا ) قلت : فالشطر يا رسول الله ؟ قال : ( لا ) قلت : فالثلث ؟ قال : ( الثلث والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء ، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) رواه الجماعة ، فإن خالف ووصى للأجنبي بأكثر من الثلث ، وأجاز ذلك الورثة نفذ ، لأن الحق لهم لا يعدوهم ، وهل إجازتهم تنفيذ بناء على أن الوصية صحيحة ، أو ابتداء عطية بناء على أنها باطلة ؟ على ما تقدم من الخلاف في التي قبلها ، وإن لم يجيزوا صح الثلث فقط ، لما تقدم من حديث سعد ، وحديث أبي الدرداء : ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ) الحديث ، وشرط نفوذ إجازتهم وردهم أن يكون بعد موت الموصي ، لأن الحق إنما يثبت لهم إذاً ، أما قبل ذلك فلا عبرة بذلك ، لأنه تصرف في الحق قبل ثبوته .
قال : ومن أوصي له وهو في الظاهر وارث ، فلم يمت الزموصي حتى صار الموصى له غير وارث فالوصية له ثابتة ، لأن اعتبار الوصية بالموت .
قال : ومن أوصى له وهو في الظاهر وارث ، فلم يمت الموصي حتى صار الموصى له غير وارث فالوصية له ثابتة ، لأن اعتبار الوصية بالموت .
ش : إذا أوصى لشخص في الظاهر أنه وارث كما إذا أوصى لأحد أخويه من أبويه ثم تجدد له ولد فإن الوصية والحال هذه صحيحة ثابتة ، لأن الأخ عند الموت غير وارث ، والاعتبار في الوصية بالموت ، لأنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث ، والموصى له ، وقد فهم من تعليل الخرقي عكس هذه الصورة وهو ما إذا أوصى لغير وارث ، فصار عند الموت وارثاً ، كما إذا أوصى لأحد أخويه وله ابن ، ثم مات الابن قبل أبيه ، فإنا تبينا أن الوصية لوارث ، فلا تكون ثابتة ، بل تقف على الإِجازة لما تقدم .
قال : وإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية .
ش : لأن الوصية عطية بعد الموت ، وقد صادفت المعطى ميتاً فلم تصح ، كما لو وهب لميت ، وقد فهم من هذا أن الوصية لا تصح لميت ، [ وهو صحيح ] لأنه ليس بأهل
____________________
(2/230)
للملك ، أشبه البهيمة .
قال : وإن رد الموصى له الوصية بعد موت الموصي بطلت الوصية .
ش : لأنه أسقط ماله أخذه فيسقط ، كما لو عفى عن شفعته بعد البيع ، ومراد الخرقي والله أعلم إذا كان الرد قبل القبول ، أما لو كان بعد القبول والقبض فإن الرد لا يصح ، والوصية بحالها ، لاستقرار ملكه عليها ، وكذلك لو كان عبد القبول وقبل القبض ، على ظاهر كلام جماعة من الأصحاب وأورده أبو البركات مذهباً ، وقال أبو محمد في المغني : إن كان الموصى به مكيلًا ، أو موزوناً صح الرد وبطلت الوصية ، لعدم استقرار الملك ، وإن كان غيرهما ففي صحة الرد وعدمه قولان ، بناء على اعتبار القبض في ذلك وعدمه ، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو وجد الرد قبل الموت لم يصح ولم يعتبر ، وهو صحيح ، إذ الحق إنما يثبت له بالموت ، والله أعلم .
قال : وإن مات قبل أن يقبل [ أو يرد ] قام وارثه في ذلك مقامه ، إذا كان موته بعد موت الموصي .
ش : إذا مات الموصى له قبل أن يقبل أو يرد قام وارثه في الرد والقبول مقامه ، في إحدى الروايتين ، نقله عنه صالح ، واختاره الخرقي ، لعموم قوله : ( من ترك حقاً فلورثته ) والقبول حق للمورث ، فثبت للوارث ، كبقية الحقوق ، ( والرواية الثانية ) لا يقوم الوارث مقامه ، ويبطل حقه من القبول عليها ، نقلها عبد الله ، وابن منصور ، واختارها ابن حامد ، والقاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب ، والشيرازي ، وغيرهم ، لأنه عقد يفتقر إلى القبول ، فإذا مات من له القبول قبله بطل العقد كالهبة ، ولأنه خيار لا يعتاض عنه ، أشبه خيار الشفعة ، وخياري الشرط والمجلس على المذهب ، ولهذا قال القاضي : إن هذا قيس المذهب . وحكى الشريف ، وأبو الخطاب وجهاً أنها تنتقل والحال هذه إلى الوارث بلا قبول ، نظراً والله أعلم بأن القبول لما تعذر ممن له الإِيجاب سقط اعتباره ، لمكان العذر ، كما لو كانت الوصية للمساكين .
وقول الخرقي : إذا كان موته بعد موت الموصي . احترازاً مما إذا كان موته قبل موت الموصي وقد تقدم ، وقد أشعر كلامه بأن الوصية والحال هذه لا تملك إلا بالقبول ، ولا خلاف نعلمه عندنا في ذلك ، إذا كانت لآدمي معين ، [ إلا الوجه المحكي قبل ، وذلك لأنها هبة بعد الموت ، فافتقرت إلى القبول كالهبة في الحياة ، قال أحمد رحمه الله : الهبة والوصية واحد . ولو كانت الوصية لآدمي غير معين ] كالمساكين ، أو لغير آدمي كالمساجد ، فلا قبول إناطة بالعذر .
وربما أشعر كلامه أيضاً بأن القبول لا تشترط الفورية فيه ، بل يصح وإن تراخى ، وهو صحيح ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى له بسهم من ماله أعطي السدس ، وعن أبي عبد الله رحمه الله
____________________
(2/231)
رواية أخرى : يعطى سهماً مما تصح منه الفريضة .
ش : الرواية الأولى اختيار القاضي ، وأصحابه الشريف ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل ، والشيرازي وغيرهم .
2229 لأن ذلك يروى عن علي ، وابن مسعود رضي الله عنهما ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة .
2230 ويروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا أوصى لرجل بسهم من المال ، فأعطاه النبي السدس .
2231 وعن إياس بن معاوية : السهم في كلام العرب السدس فعلى هذا يعطى سدساً كاملًا ، إن لم تكمل فروض المسألة ، وإن كملت أعيلت به ، وإن عالت أعيل معها ، قال أحمد في رواية حرب ، وابن منصور : له السدس إلا أن تعول الفريضة ، فيعطى سهماً من العول .
والرواية الثانية ظاهر كلام الإِمام في رواية الأثرم ، وأبي طالب ، لأن ( سهماً ) ينصرف إلى سهام فريضته ، أشبه ما لو قال : فريضتي كذا وكذا سهماً ، لك منها سهم . وعلى هذا يعطى سهماً مما تصح منه الفريضة ، مضافاً إليها ، وعن أحمد ( رواية ثالثة ) اختارها الخلال وصاحبه : له مثل ما لأقل الورثة ، والأقل منها هو اليقين ، ثم إن أبا البركات وجماعة من أصحابه على إطلاق هاتين الروايتين ، نظراً لإطلاق الإِمام ، وقيدهما أبو محمد متابعة للقاضي بأن لا يزيد السهم أو النصيب على السدس ، فإن زاد عليه رداً إليه .
ولنذكر أمثلة تتضح بها المسألة ، فلو مات رجل وخلف أماً وبنتين ، وأوصى بسهم من ماله ، فعلى الرواية الأولى تكمل به المسألة ، إذ مسألتهم أصلها من ستة ، ترجع بالرد إلى خمسة ، فيزاد إليها السهم الموصى به وهو السدس ، فتصير من ستة ، وكذلك على الثانية والثالثة ، ولو كانت المسألة أماً وأختاً ، فهي من خمسة ، للأم الثلث سهمان ، وللأخت النصف ثلاثة ، فيضاف إليها السدس على الأولى ، فتكمل المسألة ، وكذا على الثانية ، وعلى الثالثة يضاف إليها مثل نصيب الأم ، لأنه أقل نصيب وارث له إذاً فتصير من سبعة ، وعلى رأي القاضي يكون له السدس ، لأن النصيب زاد عليه ، ولو كانت المسألة ابنتان وأبوان ، فهي من ستة ، وتعول بالسهم الموصى به إلى سبعة ، على الروايات الثلاث [ ولو كانت المسألة أختان لأبوين ، وأختان لأم ، وأم ، فأصلها من ستة ، وتعول إلى سبعة ، وتعول بالسهم الموصى به إلى ثمانية ، على الروايات الثلاث ] أيضاً ، ولو كان المسألة ثلاث أخوات لأبوين ، وأخوان وأختان لأم ، وأم ، فهي من ستة ، تعول إلى سبعة أيضاً ، فعلى الرواية الأولى تعول بالسهم الموصى به وهو السدس إلى ثمانية ، وتصح من ثمانية وأربعين ، للأخوات للأبوين أربعة وعشرون ، وللأخوة
____________________
(2/232)
والأخوات للأم اثنا عشر ، وللأم ستة ، وللموصى له ستة ، وعلى الثانية تصح المسألة من اثنين وأربعين ، يزاد إليها السهم ، فتصير من ثلاثة وأربعين ، وعلى الثالثة تصح أيضاً من اثنين وأربعين ، يزاد إليها أقل أنصباء الورثة ، وهو سهمان ، فتصير من أربعة وأربعين ، ولو كانت المسألة زوجاً وابناً ، فعلى الرواية الأولى تصح من اثني عشر ، للزوج ثلاثة ، وللموصى له بالسهم اثنان ، والباقي للابن ، وكذلك على رأي القاضي على الروايتين الأخيرتين ، وعلى رأي المطلقين تصح من خمسة ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى له بمل نصيب أحد ورثته ولم يسمه ، كان له مثل ما لأقلهم نصيباً .
ش : لأن الأقل هو المتيقن ، وما زاد مشكوك فيه .
قال : كأن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ، وهم ابن ، وأربع زوجات ، فتكون صحيحة من اثنين وثلاثين سهماً ، للزوجات الثمن ، وهو أربعة ، وما بقي فللابن ، فزد في سهمان الفريضة مثل حظ امرأة من نسائه ، فتصير الفريضة من ثلاثة وثلاثين سهماً ، للموصى له سهم ، ولكل امرأة سهم ، وما بقي فللابن .
ش : هذا مثال للمسألة ، وهو واف بالمقصود ، وإنما صحت المسألة من اثنين وثلاثين ، لأن أصلهما من ثمانية ، للزوجات الثمن ، وهو واحد ، غير صحيح عليهن ، فتضرب أربعة في ثمانية ، فتصير من اثنين وثلاثين ، ثم تعمل كما ذكره الخرقي ، رحمه الله ، ولو كانت المسألة زوجاً وأبوين وابناً ، صحت من اثني عشر ، للزوج الربع ، ولكل واحد من الأبوين السدس اثنان ، والباقي للابن ، فتزيد عليها مثل نصيب أقل الورثة ، وهو أحد الأبوين ، فتصير من أربعة عشر ، هذا إن اختلفت أنصباء الورثة ، فإن اتفقت كان له مثل نصيب أحدهم ، فإذا خلف ثلاثة بنين ، فمسألتهم من ثلاثة ، فتزيد عليها مثل نصيب أحدهم ، فتصير من أربعة ، ولو سمى الوارث فسيأتي إن شاء الله تعالى ، ولو قال : مثل نصيب أكثر ورثتي . كان له مثل نصيب ذلك الوارث ، مضافاً إلى المسألة ، ففي مثال الخرقي يكون له ثمانية وعشرون سهماً ، لأنها أكثر نصيب وارث وهو الابن ، فتضاف إلى المسألة ، فتصير من ستين ، وفي الثانية يكون له خمسة ، فتصير المسألة من سبعة عشر ، ولو كانت الوصية بنصيب وارث معين له كابنه مثلًا ، ولم يقل : بمثل نصيبه . فهل يصح ويجعل كما لو صرح بالمثلية ؟ وبه قطع القاضي في الجامع الصغير ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، ومال إليه الشيخان ، محافظة على تصحيح كلام المكلف بحمله على حذف مضاف ، وهو المثل ، أو لا يصح ؟ وعزاه أبو محمد إلى القاضي ، وأظنه قاله في المجرد ، نظراً إلى الحقيقة ، وإذاً لا يصح لأن نصيب الوارث ليس له التصرف فيه ، والله أعلم .
قال : وإذا خلف ثلاثة بنين ، وأوصى لآخر بمثل نصيب أحدهم ، كان للموصى له الربع .
____________________
(2/233)
ش : لأن له مثل نصيب أحدهم مضافاً إلى المسألة ، لأنه جعل الوارث أصلًا ، وجعل للموصى له مثله ، فاقتضى أن يساويه ولا يزيد عليه ، ولو كان البنون أربعة ، كان للموصى له الخمس ، وعلى هذا ، فلو خلف ابنين وأوصى لاثنين بمثل نصيبهما كانت المسألة من أربعة ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى لزيد بنصف ماله ، ولعمرو بربع ماله ، ولم تجز الورثة ، فالثلث بينهما على ثلاثة أسهم ، لعمرو سهم ، ولزيد سهمان .
ش : قد تقدم أن لإِنسان أن يوصي بالثلث لغير الوارث ، وما زاد على ذلك يقف على إجازة الورثة ، فإذا أوصى لزيد بنصف ماله ، ولعمرو بربعه ، وخلف ابنين فأجازا ، فأصل المسألة من أربعة ، وتصح من ثمانية ، لزيد النصف أربعة ، ولعمرو الربع اثنان . ولكل ابن واحد ، وإن ردا أخذت النصف والربع ثلاثة ، من مخرجهما وهو أربعة ، وتجعل الثلاثة ثلث المال ، فتصير المسألة من تسعة ، وإنما قسم الثلث بينهما على قدر نصيبهما لأن الموصى فاضل بينهما فلم يسو بينهما ، كالوصية بثلث وربع ، وهذا لأن على قاعدتنا أن الوصية صحيحة ، فالمتبع فيها لفظ الموصي ، ويخرج على قول لنا أن الوصية بما زاد على الثلث باطلة أن الموصى له بالنصف لا يضرب بأكثر من الثلث ، لبطلان الزائد على ذلك ، وهو قول الحنفية ، وإذاً يؤخذ الثلث والربع من مخرجهما اثني عشر ، وذلك سبعة ، فيجعل ثلث المال ، فتكون المسألة من أحد وعشرين ، وعلى هذا فقس ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى لولد فلان فهو للذكر والأنثى بالسوية .
ش : قد حكي الاتفاق على ذلك ، إذ الاسم يشمل الجميع ، قال تعالى : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم ، للذكر مثل حظ الأنثيين } ) وقال تعالى : 19 ( { ما اتخذ من ولد } ) نفى الذكر والأنثى جميعاً ، ويدخل الخنثى أيضاً في ذلك ، لأنه ولد ، ولا يدخل ولد بناته اتفاقاً ، وهل يدخل فيه ولد بنيه ؟ فيه روايتان .
قال : وإن قال لبنيه . كان للذكور دون الإِناث .
ش : أي لبني فلان أو لبني ، لاختصاص الاسم بهم دون الإِناث ، قال سبحانه : 19 ( { أصطفى البنات على البنين } ) وقال تعالى : 19 ( { أم اتخذ مما يخلق بنات ، وأصفاكم بالبنين } ) وقال : 19 ( { زين للناس حب الشهوات من النساء ، والبنين } ) وهذا إذا لم يكونوا قبيلة ، فإن كانوا قبيلة كما إذا أوصى لولد هاشم ، أو بني تميم دخل فيه الذكر والأنثى ، والخنثى ، لأن ذلك اسم للقبيلة ذكرها وأنثاها ، قال تعالى : 19 ( { يا بني إسرائيل } ) وقال تعالى : 19 ( { ولقد كرمنا بني آدم } ) وقال : 19 ( { يا بني آدم } ) ولا يدخل فيه ولد بناتهم من غيرهم ، لأنهم لا ينسبون إليهم .
____________________
(2/234)
قال : والوصية بالحمل وللحمل جائزة ، إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالوصية .
ش : أما الوصية بالحمل فجائزة إذا كان مملوكاً وعلم وجوده ، أو حكم به حال الوصية ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، إذ غايته أنه غرر ، وذلك لا يمنع صحة الوصية كعتقه ، وذلك لأن نهيه عن الغرر مختص بالبيع ، وما في معناه ، حذاراً من أكل مال الغير بالباطل .
واشترط كونه مملوكاً لأن الوصية بملكم الغير باطلة ، واشترط العلم أو الحكم بوجوده ، وإلا لاحتمل حدوثه ، فلا تتعلق الوصية به ، نعم لو وصى بما تحمل جاريته ونحوها صحت ، لأن لفظه مستقبل .
وأما الوصية للحمل فجائزة أيضاً ، قياساً على إرثه ، بجامع انتقال المال من الإِنسان بعد موته بغير عوض ، بل أولى ، لصحتها للمخالف في الين والعبد ، بخلاف الإِرث ، وشرط صحتها أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حيث الوصية ، ليعلم وجوده حال الوصية ، إذ التمليك لا يصح لمعدوم ، كذا قال الجمهور ، ومنهم أبو محمد في الكافي ، وفي المغني قيده بأن تضعه لستة أشهر فما دون ، وليس بجيد ، لأنها إذا وضعته لستة أشهر احتمل حدوثه حال الوصية ، فلم تصادف الوصية موجوداً يقيناً ، وقد انعكس ذلك على ابن المنجا رحمه الله تعالى فقال : لا بد من ذكر ستة أشهر ، معتمداً على ما في المغني ، ومعللًا بأنها إذا وضعته لستة أشهر علم وجوده حال الوصية ، وقد تطدم رده . انتهى ، أما إن وضعته لأكثر من ذلك لم تصح الوصية له على مقتضى كلام الخرقي ، وأورده أبو البركات مذهباً ، لأنه لا يعلم وجوده حال الوصية ، وسبب الانتقال إلى الورثة قد وجد يقيناً ، فلا يزول عنهم بالشك والاحتمال ، وقيل : إن وضعته لزوج أو سيد ولم يلحقهما نسبه إلا بتقدير وطء قبل الوصية صحت ، لأنه والحال هذه قد حكم بوجوده ظاهراً حال الوصية ، إذ حال المسلم إنما يحمل على الصلاح ، وإلا فلا لما تقدم ، وهذا الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني ، لكنه لم يفصح بتنقيح الحكم .
واعلم أن من شرط الوصية بالحمل وللحمل أن تضعه حياً ، إذ الميت لا يصح تملكه ولا تمليكه ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى بجارية لبشر ، ثم أوصى بها لبكر ، فهي بينهما .
ش : لأن الأصل بقاء وصية الأول ، فالظاهر أنه يسوي بينهما لي الاستحقاق ، فإذاً تقسم العين بينهما مع وجودهما ، لاستوائهما في سبب الحق ، ويختص بها أحدهما مع موت الآخر ، لزوال المواحمة ، والله أعلم .
قال : وإن قال : ما أوصيت به لبشر فهو لبكر . كانت لبكر .
____________________
(2/235)
ش : لأن هذا دليل على الرجوع في وصية الأول ، والوصية بها للثاني ، فعمل على مقتضاه ، بخلاف التي قبلها ، فإنه يحتمل الرجوع والاشتراك في الاستحقاق ، والأصل عدم الرجوع .
وقد تضمن هذا صحة الرجوع في الوصية ، وهو إجماع إلا في الرجوع بالوصية بالعتق ، فإن في الرجوع فيه خلافاً ومذهبنا جوازه ، والله أعلم .
قال : ومن كتب وصيته يشهد فيها حكم بها ، ما لم يعلم رجوعه عنها .
ش : إذا كتب وصيته ولم يشهد فيها ، وعرف خطه ، فإنه ينفذ ما فيها ، ما لم يعلم رجوعه عنها ، نص عليه أحمد ، واعتمده الأصحاب ، لما تقدم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( ما حق امريء مسلم يبيت ليلتين ، وله شيء يريد أن يوصي فيه ، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه ) وظاهره إفادة الكتابة وإن لم يشهد بما فيها ، ولأن ذلك طريق يغلب على الظن صحة الوصية ، أشبه الشهادة بها ، وخرج ابن عقيل ، و أبو البركات رواية بعدم الصحة ، أخذاً من قوله فيمن كتب وصيته وختمها وقال : اشهدوا بما فهيا . أنه لا يصح ، وقد يفرق بأن الشهادة شرطها أن تقع على العلم ، وما في الوصية والحال هذه غير معلوم ، فلا تصح الوصية به ، أما لو وقعت الوصية على أنه وصى فليس في نص الإِمام ما يمنعه ، ثم بعد ذلك يعمل بالخط بشرطه ، ولهذا قال ابن حمدان : ومن وجدت وصيته بخطه صحت ، نص عليه ، وقيل : لا . فلو ختمها وأشهد بما فيها لم يصح ، نص عليه ، وقيل : بلى . انتهى ، أما إن عين للشاهد ما فيها فلا إشكال في صحة ذلك ، والعمل عليه ، ما لم يعلم الرجوع عنها . والله أعلم .
قال : وما أعطى في مرضه الذي مات فيه فهو من الثلث .
ش : ما أعطى في مرضه الذي مات فيه من عتق ، وهبة مقبوضة ، ومحاباة ، وصدقة ، ووقف ، وإبراء فهو من الثلث ، لما تقدم في حديث أبي الدرداء ( إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم ) الحديث ، مفهومه المنع مما زاد على الثلث .
2232 وفي مسلم وغيره عن عمران بن حصين ، 16 ( أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فجزأهم أثلاثاً ، ثم أقرع بينهم ، فأعتق اثنثن ، وأرق أربعة ) ) وشرط المرض أن يكون مخوفاً ، قاطعاً بصاحبه ، كذات الجنب ، والرعاف الدائم ، والقيام المتدارك ونحوها ، فإن كان غير مخوف كالرمد ، ووجع ضرس ، والصداع ، ونحوه ، فحكمه كم الصحيح ، عطيته من رأس المال ، وإن اتصل به الموت ، وكذلك إن كان مخوفاً ، لكنه لم يقطع بصاحبه ، كالجذام ، والسل في
____________________
(2/236)
ابتدائه ، ونحوهما على الصحيح من الروايتين وقد تضمن كلام الخرقي أن عطية الصحيح من رأس ماله ، ولا نزاع في ذلك ، والله أعلم .
قال : وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر .
ش : يعني تكون عطيتها من الثلث لدخولها في شهور ولادتها ، ووجود الخوف عليها ، والمشهور من الروايتين أنها لا تصير عطيتها من الثلث إلا إذا ضربها المخاض ، لأنها إذاً يتحقق الخوف عليها ، بخلاف ما قبل ذلك ، والله أعلم .
قال : ومن جاوز العشر سنين فوصيته جائزة إذا وافق الحق .
ش : تصح وصية من لم يبلغ على المذهب المنصوص .
2233 لما روي أن صبياً من غسان ، له عشر سنين ، أوصى لأخوال له ، فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه ، فأجاز وصيته . رواه سعيد .
2234 وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، أن عمرو بن سليم أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن ها هنا غلاماً يفاعاً ، لم يحتلم ، وورثته بالشام ، وهو ذو مال ، وليس له ها هنا إلا ابنة عم له ، فقال عمر : فليوص لها . فأوصى لها بمال يقال له : ( بئر جشم ) ، قال عمرو بن سليم فبعث ذلك بثلاثين ألفاً ، وابنة عمه التي أوصى لهاهي أم عمرو بن سليم ، قال أبو بكر : وكان الغلام ابن عشر ، أو اثنتي عشرة سنة ، وهذه قضية في مظنة الشهرة ، ولأنه تصرف تمحض نفعاً للصبي ، من غير ضرر يلحقه عاجلًا ولا آجلًا ، أشبه صلاته وإسلامه ، وبهذا فارق الهبة لأن الضرر قد يلحق بها في الآجل .
وفي المذهب وجه آخر : لا تصح وصيته حتى يبلغ ، لأنه تبرع المال ، أشبه هبته ، وعلى المذهب ، فلا بد أن يكون مميزاً ، إذ غير المميز في معنى المجنون ، فلا عبرلا بكلامه ، ثم من الأصحاب من لم يقيد ذلك بسن ، كالقاضي وأبي الخطاب ، وهو ظاهر كلام الإِمام أحمد في رواية الميموني ، ومنهم من قيده بعشر ، كالخرقي ، وابن أبي موسى ، وأبي بكر فيما حكاه عنه الشريف ، نظراً لمنصوص أحمد في رواية حنبل وصالح ، فإنه قيد الغلام بعشر ، والجارية بتسع ، اعتماداً على قول عمر رضي الله عنه ، قال الشريف ، ومن الأصحاب من قيده بسبع وهو رواية أخرى عن أحمد ، وحكى ابن المنذر عن الإِمام التقييد باثنتي عشرة سنة .
وقول الخرقي : إذا وافق الحق . قيد في جميع الوصايا ، وإن كانت من بالغ ، وإنما نص على ذلك هنا اتباعاً لمنصوصات الإِمام ، وذلك لأنه في مظنة مخالفة الحق ، بخلاف البالغ ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى لأهل قرية ، لم يعط من فيها من الكفار إلا أن يذكرهم .
ش : يعني والله من المسلمين ، نظراً إلى أن حال المسلم يقتضي بر
____________________
(2/237)
المسلم ، ومنع الكافر ، والعام كثيراً ما يطلق ويراد به الخصوص ، وقد قام دليل ذلك وهو قرينة الحال ، فعلى هذا لا يعطى من فيها من الكفار ، وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنهم لا يعطون وإن لم يكن فيها إلا مسلم واحد ، لجواز إطلاق العام ، وإرادة الواحد ، قال الله تعالى : 19 ( { الذين قال لهم الناس } ) أريد به واحد ، ومال أبو محمد رحمه الله إلى أنهم يعطون ، نظراً إلى أن إطلاق العام وإرادة واحد قليل ، مع ما انضم إلى ذلك من مخالفة العموم .
ولا نزاع في دخول الكفار ، إذا صرح بذلك ، إذ لا اعتبار لمقتضى الحال مع التصريح بخلافه ، وكذلك لو تعذر الحمل على الخصوص ، كما إذا لم يكن في القرية مسلم أصلًاد وحكم الكافر إذا أوصى لأهل قريته كذلك ، في أنه يدخل كافرها الموافقه له في دينه ، وفي دخول كافرها المخالف له في دينه احتمالان ، ولا يدخل مسلمها لما تقدم ، وقيل : يدخل ، حذاراً من كون الإِسلام سبباً للمنع من غير نص يمنع ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى بكل ماله ولا عصبة له ولا مولى فجائز ، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى : لا يجوز إلا الثلث .
ش : الرواية الأولى نص عليها في رواية المروذي [ وحرب ] ، واختارها القاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب ، والشيرازي ، وأبو محمد ، وغيرهم ، لظاهر قوله : ( إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس ) علل المنع بخشية فقر الوارث ، وهذا لا وارث له يخشى فقره .
2235 واعتمد أحمد على أن ذلك يروى عن ابن مسعود .
( والثانية ) : نص عليها في رواية ابن منصور .
2236 معتمداً على أن ذلك قول زيد ، ومعللًا بأن بيت المال له عصبة ، وهو مفهوم قوله : ( إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم ) الحديث ، قال أبو الخطاب في الإِنتصار : وهي صريحة في منع الرد ، وتوريث ذوي الأرحام .
وقول الخرقي : ولا عصبة له ولا مولى . تبع فيه لفظ أحمد في رواية المروذي : فإنه قال : إذا لم يكن له عصبة أو مولى فله أن يضع ماله حيث شاء . وغيرهما يترجم المسألة : إذا أوصى من لا وارث له . لأن ذا الفرض يأخذ البعض بالفرض ، والباقي بالرد ، فهو كالعاصب ، ولهذا منع النبي سعداً أن يوصي بأكثر من الثلث ، نعم إن كان ذو الفرض لا يرد عليه ، كالزوجين جازت الوصية فيما زاد عن نصيبه على المذهب ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى لعبده بثلث ماله ، فإن كان العبد يخرج من الثالث عتق ، وما فضل من الثلث بع عتقه فهو له ، وإن لم يخرج من الثلث عنق منه بقدر الثلث ، إلا أن يجيز الورثة .
____________________
(2/238)
ش : إذا أوصى لعبده بثلث ماله صح ، لأنها وصية تضمنت العتق بثلث ماله ، فصحت كما لو صرح بذلك ، ثم إن كان العبد يخرج من الثلث كما إذا كان ثلثه مائة ، وقيمة العبد مائة أو دونها عتق ، لأنه يملك من كل جزء من المال ثلثاً مشاعاً ، ومن جملة المال نفسه ، فيملك ثلثها ، وإذاً يعتق ذلك الجزء ، لتعذر ملك نفسه ، ويسري إلى بقيته ، كما لو أعتق بعض عبده بل أولى ، فإن فضل من الثلث بعد عتقه شيء فهو له ، لأنه قد صار حراً وإن لم يخرج من الثلث ، عتق منه بقدر الثلث ، والباقي موقوف على إجازة الورثة ، لما تقدم .
قيل : ومفهوم كلام الخرقي أنه لو أوصى له بمعين كمائة درهم ، أو ثوب أنه لا يصح ، وهو المشهور من الروايتين ، ثم قال أبو محمد في الكافي : على رواية الصحة يشترى العبد من الوصية فيعتق ، وما بقي فهو له ، قلت : محافظة على تصحيح كلام المكلف ما أمكن ، إذ تصحيح الوصية يسلتزم ذلم ، وإلا فكأنه وصى للورثة ببعض مالهم ، ولا فائدة في ذلك ، وبنى الشيرازي الروايتين على تمليك العبد إذا ملك ، ثم قال : وعلى رواية الصحة تدفع المائة إليه ، فإن باعه الورثة بعد ذلك فالمائة لهم ، وتعليل أبي محمد في المغني يقرب من ذلك ، والله أعلم .
قال : وإذا قال : أحد عبدي حر . أقرع بينهما ، فمن تقع عليه القرعة فهو حر إذا خرج من الثلث .
ش : القرعة لها مدخل في العتق ، لما تقدم من حديث عمران ابن حصين رضي الله عنه ، فإذا قال : أحد عبدي أو عبيدي حر . ولم يعينه ، أقرعنا بينهم ، إذ تعيين أحدهم ترجيح بلا مرجح ، ثم من خرجت عليه القرعة فهو حر ، إذ هذا فائدة القرعة ، وشرط نفوذ عتقه أن يخرج من الثلث ، لما تقدم من أن الإِنسان ليس له أن يوصي بأكثر من ثلثه ، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث ، والباقي موقوف على إجازة الورثة والله أعلم .
قال : وإذا أوصى أن يشتري عبد زيد بخمس مائة فيعتق ، فلم يبعه سيده ، فالخمسمائة للورثة .
ش : لأنه قد تعذر إعمال الوصية فبطلت ، كما لو مات الموصى له قبل موت الموصي ، أورد الوصية ، وإذا بطلت كان المال للورثة ، وقول الخرقي : فلم يبعه سيده . يشمل إذا لم يبعه مطلقاً ، أو لم يبعه بالخمسمائة ، وفي معنى ذلك حيث تعذر شراؤه ، إما بموته أو غير ذلك ، والله أعلم .
قال : وإن اشتروه بأقل ، فما فضل فهو للورثة .
ش : لأن مقصود الموصي العتق وقد حصل ، وكما لو وكل في شرائه في حياته بثمن معين ، فاشترى بدونه ، فإن الفاضل له ، كذلك هنا ، وحكى في المغني احتمالًا
____________________
(2/239)
بأن الخمسمائة تكون لزيد ، وفرق في المغني فقال : إن كان ثم قرينة تقتضي إرفاق سيده بالثمن كما إذا كان صديقاً له ، أو ذا حاجة ، أو كان يعلم أن العبد يحصل بدون ذلك فإن الثمن جميعه يدفع إلى السيد ، كما لو صرح بذلك ، وإن عدمت القرائن كان كما تقدم ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى لرجل بعبد لا يملك غيره ، وقيمته مائة ولآخر بثلث ماله ، وملكه غير العبد مائتا درهم ، فأجاز الورثة ذلك ، فلمن أوصى له بالثلث ثلث المائتين ، وربع العبد ، ولمن أوصى له بالعبد ثلاثة أرباعه .
ش : إنما كان للموصى له بالثلث ثلث المائتين ، لأن المائتين من ماله ، وقد أوصى له بثلثه ، فلا معارض له ، فيستحق ثلثها ، وإنما كان له ربع العبد ، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه ، لأن مقتضى وصية صاحب الثلث أن يكون له ثلث العبد ، ومقتضى وصية صاحب العبد أن يكون له جميعه ، فقد تضمنت الوصية قسمة العبد على أربعة أثلاث ، وهو أربعة أرباع ، وليس طرح وصية أحدهما بأولى من الأخرى ، فيجعل الثلث ربعاً كمسائل العول .
قال : وإن لم يجز ذلك الورثة فلمن أوصى له بالثلث سدس المائتين ، وسدس العبد ، لأن وصيته في الجميع ، ولمن أوصى له بالعبد نصفه ، لأن وصيته في العبد .
ش : إذا لم يجز الورثة ما تقدم ، فقال الخرقي وجمهور الأصحاب : للموصى له بالثلث سدس المائتين ، وسدس العبد ، وللموصى له بالعبد نصفه ، لأن الوصية ترجع في الرد إلى الثلث ، وثلث المال والحال هذه مائة ، والوصية مائتان ، ثلث المال قدره مائة ، والعبد قيمته مائة ، نسبة الثلث الذي هو مائة ، إلى الوصية التي هي مائتان بالنصف ، فمن أوصى له بشيء رجع إلى نصفه ، نظراً إلى مقتضى المسمى في الوصية ، فللموصى له بالثلث سدس المائتين ، لأنه نصف ثلثها ، وسدس العبد ، لأنه نصف ثلثه ، واستحقاقه الربع في الإِجازة كان للمزاحمة العارضة ، وقد زالت ، وللموصي له بالعبد نصفه ، لأن الوصية له بكله .
واختار أبو محمد رحمه الله إن لصاحب الثلث خمس المائتين ، وعشر العبد ، ونصف عشره ، ولصاحب العبد ربعه وخمسه ، وخرجه أبو البركات وجهاً ، لأن الموصى له بالعبد في الحقيقة إنما أوصى له بثلاثة أرباعه ، لأنه أوصى لآخر بثلثه ، والموصى له بثلثه ، إنما أوصى له حقيقة بربعه ، لأنه أوصى لآخر بكله ، وإذاً يقسم الثلث بينهما على ذلك ، نظراً إلى مقتضى الوصية لو أمكن إعمالها بالإِجازة ، وعلى هذا يقسم الثلث بينهما على حسب مالهما في الإِجازة ، والذي لهما العبد وثلثا المائتين ، مجموع ذلك مائة وستة وستون درهماً ، وثلثا درهم ، نسبتة الثلث إلى ذلك ثلاثة أخماسه ، فمن له شيء في الإِجازة ، له ثلاثة أخماسه في الرد ، فالموصى له بالثلث له ثلث المائتين ، وهو ستة وستون درهماً ، وثلثا دلهم ، فيعطى ثلاثة أخماس
____________________
(2/240)
ذلك ، وهو أربعون درهماً ، وقدر ذلك خمس المائتين ، وله من العبد ربعه ، وقيمة ذلك خمسة وعشرون درهماً ، فله ثلاثة أخماسه ، وهو خمسة عشر درهماً ، قدر ذلك من العبد عشره ، ونصف عشره ، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه ، وقيمة ذلك خمسة وسبعون درهماً ، ثلاثة أخماس ذلك خمسة وأربعون درهماً ، قدر ذلك من العبد ربعه وخمسه .
وطريقة العمل في ذلك على قول الأصحاب أن يجعل لكل واحد من أصل وصيته بقدر نسبة الثلث إلى مجموع الوصيتين ، وعلى قول أبي محمد يجعل لكل واحد من الذي حثل له في حال الإِجازة بقدر نسبة الثلث إلى مجموع ما حصل لهما فيها ، وعلى هذا لو كانت الوصية بالنصف مكان الثلث ، ففي حال الإِجاة لصاحب النصف نصف المائتين ، وثلث العبد ، ولصاحب العبد ثلثاه ، وفي حال الرد على قول الأصحاب مجموع الوصيتين مائتان وخمسون درهماً ، نسبة الثلث إلى ذلك خمسه فلكل واحد من أصل وصيته خمساها ، فللموصى له بالنصف خمسا المائة ، وهو أربعون درهماً وخمس العبد ، وقدره عشرون درهماً ، وللموصى له بالعبد خمساه ، وهو أربعون درهماً ، وعلى قول أبي محمد إذا نسبت الثلث إلى مجموع ما يصحل لهما في الإِجازة وهو مائتا درهم ، كان النصف ، فيكون لكل واحد نصف الذي يحصل له في الإِجازة ، فصاحب النصف يحصل له من المال المائة ، فله نصفها ، ويحصل له من العبد ثلثه ، فله نصفه وهو السدس ، وصاحب العبد يحصل له في الإِجازة ثلثاه ، فله نصف ذلك وهو الثلث ، وعلى هذا فقس ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى بالسوية ، ولا يجاوز به أربعة آباء ، لأن النبي لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى .
ش : إذا أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى ، لأن كليهما من قرابته ، ويكون بينهما بالسوية ، لأنه شرك بينهما فيه ، أشبه ما لو أقر لهما ، ويعطى الغني كالفقير ، لدخوله في لفظ القرابة ، ثم قيل وهو احتمال لأبي محمد ، وكلام ابن الزاغوني في الوجيز يقتضي أنه رواية يشمل كل قريب له من جهة أبيه وأمه ، نظراً لمقتضى اللفظ ، إذ قرابته اسم جنس مضاف ، فيشمل كل قريب له ، والمنصوص عن أحمد رحمه الله : إنما يتناول أقاربه من جهة أمه بشرط أن يصلهم في حال حياته ، إذ صلته لهم في حايته قرينة بره لهم بعد مماته ، والمشهور عنه اختصاص هذا اللفظ بقرابته من جهة أبيه ، لأن العرف في القراءة إذا أطلق إنما يتصرف لذلك ، ولهذا والله أعلم لم يعط النبي أقاربه من جهة أمه من سهم ذوي القربى .
ثم على هذا ( هل يشمل ) ولده وولد أبيه وإن علا ، اعتماداً على العموم .
2237 ولما روى مسلم وغيره عن أنس قال : لما نزلت هذه الآية 19 ( { لن تنالوا البر } ) الآية قال أبو طلحة : يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا ،
____________________
(2/241)
فأشهدك أني قد جعلت ببرحاء لله . قال : ( فاجعلها في قرابتك ) فجعلها في حسان بن ثابت ، وأبي بن كعب وبين حسان وأبي طلحة ثلاثة آباء ، وبين أبي طلحة وأبي بن كعب ستة آباء ، والظاهر أن جعله كان بحضرته أو بعلمه ، وأيضاً فقد دل على أن عرفهم ذلك .
( ولا يتجاوز ) بها أربعة آباء ، فإذا أوصى لقراءة زيد مثلًا ، أو وقف عليه تناول ولده ، فزيد أب ، وتناول أباه ، وجده ، وجد أبيه ، وأولادهم ، ولا يزاد على ذلك ، وهو اختيار الخرقي ، والقاضي ، وعامة أصحابه ، لما استدل به الخرقي ، من أن النبي لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى ، لأن الله سبحانه لما قال : 19 ( { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، )9 ( فلله ، وللرسول ، ولذي القربى } ) يعني قرابته ، فقسمه النبي بين قرابته ، ولم يجاوز بني هاشم .
2238 ففي البخاري وغيره عن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، قال : مشيت أنا وعثمان إلى النبي ، فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، قال : ( إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ) قال جبير : ولم يقسم النبي لبني عبد شمس ، ولا لبني نوفل شيئاً ، وفي رواية في السنن : لما قسم النبي سهم ذوي القربى من خيبر ، وذكر القصة ، وهذا خرج مخرج البيان للمسمى في الآية الكريمة ، وإذاً يحمل المطلق من كلام الناس ، على المطلق من كلام الشارع ، ويختص بما اختص به و ( هاشم ) هو الأب الرابع ، والأب الثالث عبد المطلب ، والأب الثاني عبد الله ، والنبي هو الأب الأول .
( أو لا يتجاوز ) بها ثلاثة آباء . نظراً إلى أن الولد لا يدخل في ذلك ، ولهذا لم ينقل أن النبي أعطى لولده شيئاً ؟ فيه ثلاث روايات ، وشذ ابن الزاغوني في وجيزه ، فجعل الأب الرابع عبد مناف ، فعلى هذا لا يدفع للولد ، وهو مخالف للفظ الخرقي وغيره .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) قد تقدم أن الولد والوالد يدخلان في لفظ القرابة ، وصرح بذلك القاضي ، والشيرازي ، وابن عبدوس ، وأبو الخطاب في خلافه ، وهو ظاهر كلام الخرقي وغيره ، وعبارة الشيخين توهم خلاف ذلك ، قال في المغني : الوصية لأولاده ، وأولاد أبيه ، وأولاد جده ، وأولاد جد أبيه ، وقال في المحرر : اختص بولده وقرابة أبيه وإن علا .
( الثاني ) قال أبو محمد في المغني والكافي : إذا أوصى لأقرب قرابته ، وله أب
____________________
(2/242)
وأم إنهما سواء ، وفيه نظر ، إذ الأم لا تدخل في لفظ القرابة على المذهب ، فكيف تكون من أقربهم ، وقد نبه على هذا أبو البركات حيث قال : والأخ من الأب والأخ من الأم إن أدخلناه في القرابة سواء ، والله أعلم .
قال : وإن قال : لأهل بيتي . أعطي من قبل أبيه وأمه .
ش : المنصوص عن أحمد رحمه الله أن لفظة ( أهل بيته ) بمنزلة لفظة ( قرابته ) قال في رواية عبد الله : إذا أوصى بثلث ماله لأهل بيته ، وهو بمثابة قوله : لقرابتي .
2239 واستدل على ذلك فيما حكاه عنه ابن المنذر بأن قال : قال النبي : ( لا تحل الصدقة لي ، ولا لأهل بيتي ) فجعل سهم ذوي القربى لهم ، عوضاً عن الصدقة التي حرمت عليهم ، فكان ذوو القربى الذين سماهم الله تعالى ، أهل بيته الذين حرمت عليهم الصدقة ،
2240 وذكر حديث زيد بن أرقم أن النبي قال : ( أذكركم الله في أهل بيتي ) قال : قلنا : من أهل بيته نساؤه ؟ قال : لا ، أهله وعشيرته ، الذين حرمت عليهم الصدقة بعده ، آل علي ، وآل جعفر ، وآل عقيل ، وآل العباس . وفرق الخرقي رحمه الله بين لفظ : القرابة ، وأهل البيت ، فجعل الأول مختصاً بأقاربه من جهة أبيه على ما تقدم ، وجعل الثاني يشمل القريب من جهة الأب والأم ، نظراً إلى أن اللفظ يشملهم ، عرفاً ، يقال : بيت فلان كذا . يريدون أقاربه من جهة أبيه وأمه ، وأناط الشيرازي الحكم هنا بمن كان يصله في حياته ، فقال : يعطى من كان يصله في حياته من قبل أبيه وأمه . والله أعلم .
قال : وإذا أوصى أن يحج عنه بخمس مائة فما فضل رد في الحج .
ش : إذا أوصى أن يحج عنه بخمس مائة مثلًا حج عنه ، لأن الحج جهة قربة ، فإن فضل من الخمس مائة شيء ، رد في الحج إلى أن ينفد ، على المذهب المعروف ، إعمالًا لمقتضى اللفظ ، وحكى الشيرازي رواية أن الباقي للورثة .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يدفع إلى من يحج إلى قدر ما يحج به ، لقوله : فما فضل . وصرح به غيره ، لأنه تصرف بمقتضى النظر ، فلا يزاد فيه على ذلك ، ولو كانت الخمس مائة لا تكفي للحج ، فهل يعان بها فيه ، أو يحج بها من حيث تبلغ ، أو يخير ؟ ثلاثة أقوال ، وشرط نفوذ هذه الوصية أن تخرج الخمسمائة من الثلث ، فإن لم تخرج نفذ منها قدر الثلث ، ووقف الباقي على إجازة الورثة ، هذا إن كان الحج تطوعاً ، وإن كان واجباً فالذي يحتسب من الثلث ما زاد على نفقة المثل للفرض ، والله أعلم .
قال : وإن قال : حجة بخمسمائة . فما فضل فهو لمن يحج .
____________________
(2/243)
ش : اعتماداً على مقتضى لفظه ، إذ مقتضاه دفع جميع الخمسمائة إلى من يحج حجة واحدة ، كأنه قصد إرفاق من يحج ، والله أعلم .
قال : وإن قال : حجوا عني حجة . فما فضل رد إلى الورثة .
ش : لأن الذي أوصى به حجة فقط ، فما فضل عنها فهو للورثة ، وقوله : فما فضل : يجوز أن يريد ما فضل [ من الثلث ، ويجوز أن يريد ما فضل ] من المدفوع إليه ، أي عن النفقة التي أنفقها ، بناء على المشهور ، من أنه لا يجوز الاستئجار على الحج ، والله أعلم .
قال : ومن أوصى بثلث ماله لرجل ، فقتل عمداً أو خطأ ، وأخذت الدية ، فلمن أوصى له بالثلث ثلث الدية ، في إحدى الروايتين ، والأخرى ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء .
ش : الرواية الأولى اختيار القاضي وغيره ، بناء على أن الدين تحدث على ملكه ، تنزيلًا لسبب الوجوب ، منزلة مسببه وهو الوجوب ، ولا شك أن السبب وجد في حياته وصار ، هذا كما لو نصب شبكة ، فوقع فيها صيد بعد موته ، فإنه يكون له ، يحقق ذلك أن تجهيزه يخرج منها بلا نزاع ، وعلى هذا يكون لمن أوصى له بالثلث ثلثها ، كما لو ورث مالًا قبل موته ، ( والثانية ) ليس لمن أوصى له بالثلث شيء منها ، بل تكون للورثة ، يقتسمونها على قدر مواريثهم ، بناء على أن الدية تحدث على ملكهم .
( تنبيه ) بنى أبو البركات الدين على الروايتين ، [ إن قلنا له ، قضيت منها ديونه ، وإن قلنا للورثة فلا ، وظاهر كلام أبي محمد في المغني يقتضي أن ديونه تقضى منها على الروايتين ] كتجهيزه ، نظراً إلى أن الوجوب إنما وجد بالموت ، والميت ليس أهلًا للملك ، ولذلك زالت أملاكه بموته ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى لرجل ، ثم أوصى بعده إلى آخر ، فهما وصيان ، إلا أن يقول : قد أخرجت الأول .
ش : أما إذا أخرج الأول من لإِيصاء إليه فقد انعزل ، وصار الثانيهو الوصي وحده ، وأما إذا لم يخرجه فهما وصيان ، لما تقدم فيما إذا أوصى لبكر بجارية ، ثم أوصى بها لبشر ، وقد تضمن كلام الخرقي رحمه الله أن للموصي عزل الموصى إليه ، وهو واضح ، لأنه نائب عنه ، أشبه وكيله .
قال : وإذا كان الوصي خائناً جعل معه أمين .
ش : هذا إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله تعالى ، جمعاً بين نظر الموصي وحفظ المال ، ( والثانية ) لا تصح الوصية إلى فاسق أصلًا ، وهي اختيارالقاضي ، وعامة أصحابه ، الشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة ، وابن البنا ، لأنه ليس بأهل للشهادة ، أشبه المجنون ، ( والرواية الثالثة ) تصح الوصية إليه
____________________
(2/244)
مطلقاً ، ولا يفتقر إلى أمين ، حكاها أبو الخطاب في خلافه . لأنه أهل للائتمان في الجملة ، بدليل جواز إيداعه ، فلو طرأ فسقه بعد موت الموصي ، فعند أبي محمد أنه على الروايتين في الوصية إليه ابتداء ، ثم مختار القاضي [ أيضاً ] وغيره البطلان ، وعند أبي البركات أنه يبدل بأمين بلا نزاع ، نظراً إلى أن الموصي في الابتداء قد رضيه واختاره ، والظاهر أنه إنما فعل ذلك لمعنى رآه فيه ، إما لزيادة حفظه ، أو إحكام تصرفه ، ونحو ذلك ، مما يربو على ما فيه من الخيانة ، بخلاف ما لو طرأ فسقه ، فإن حال الموصي يقتضي أنه إنما رضي بعدل ولا عدل ، وعكس ذلك القاضي في روايتيه ، فإنه حمل رواية ضم الأمين إليه على ما إذا طرأ الفسق . وقال : ولا يختلف المذهب أنه لا يصح إليه ابتداء ، فكأنه نظر إلى الدوام يغتقر فيه ما لا يغتفر في الابتداء .
ولنشر إلى شروط الموصى إليه فنقول : من شرطه أن يكون ( عاقلًا ) بلا نزاع ، ( مسلماً ) إن كان الموصي مسلماً ، وكذلك إن كان كافراً في وجه ، وفي آخر : يصح إلى كافر إن كان الموصي كافراً ، لكن يشترط عدالة الموصى إليه في دينه عند أبي محمد ، وظاهر كلام أبي البركات أنه على الروايتين ، ( بالغاً ) في رواية ، وفي أخرى وقال القاضي : إنها قياس المذهب : لا ، وعليها قال أبو البركات : إذا كان مراهقاً . وقال أبو محمد : إذا جاوز العشر . ( مستور الحال ) على المذهب وقد تقدم ، ولا تعتبر الذكورية ، ولا الحرية ، ولا البصر ، ولا المعرفة بالتصرف ، نعم إذا كان عاجزاً ضم الحاكم إليه أميناً ، ويعتبر وجود الشروط عند العقد والموت في وجه ، وفي آخر عند الموت فقط ، والله أعلم .
قال : وإن كانا وصيين فمات أحدهما ، أقيم مقام الميت أمين .
ش : إذا أوصى لرجلين ، فليس لأحدهما الانفرد بالتصرف ، لحصول التشريك بينهما ، إلا أن يجعل لكل واحد منهما التصرف منفرداً ، فعلى هذا لو مات أحدهما أو جن أقام الحاكم مقامه أميناً ، لأن الميت لم يرض بتصرف الآخر وحده ، وكذلك إن ماتا في وجه ، لأنه لم يرضى بتصرف واحد ، وفي آخر يجوز أن يقيم واحداً ، لأن الأمر رجع إلي ، أشبه ما لو لم يوص ، ولو كان قد جعل لكل واحد التصرف منفرداً ، فمات أحدهما لم يبدل ، لاستقلال الآخر بالتصرف ، والله أعلم .
قال : ومن أعتق في مرضه أو بعد موته عبدين لا يملك غيرهما ، وقيمة أحدهما مائتان ، والآخر ثلثمائة ، فلم تجز الورثة ، أقرع بينهما ، فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان عتق منه خمسة أسداسه ، وهو ثلث الجميع ، وإن وقعت على الآخر عتق منه خمسة أتساعه .
ش : قوله : ومن أعتق في مرضه . أي منجزاً ، أو بعد موته . أي مدبراً . وقوله : أقرع بينهما ، ( إشارة ) إلى أن العتق في المرض يعتبر من الثلث ، وكذلك التدبير على المذهب بلا ريب ، كبقية الوصاية ، وشذ حنبل فنقل عنه نفوذه من رأس المال إن وجد
____________________
(2/245)
في الصحة ، نظراً إلى الحال الراهنة ، ( وإشارة ) بأن العتق والحال هذه يكمن في واحد ( وتصريح ) بدخول القرعة ، والأصل في ذلك كله حديث عمران بن حصين المتقدم ، وإذا أقرعنا فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان ، عتق منه خمسلا أسداسه ، وهو ثلث الجميع ، إذ ثلث الجميع مائة وستة وستون وثلثا درهم ، وذلك قدر خمسة أسداسه ، وإن وقعت على الآخر الذي قيمته ثلاثمائة ، عتق منه خمسة أتساعه ، وهي الثلث ، مائة وستة وتسون درهماً وثلثا درهم ، إذ كل تسع منه ثلاثة وثلاثون درهماً ، وثلث درهم .
قال : لأن جميع ملك الميت خمسمائة ، وهي قيمة العبدين ، فتضرب في ثلاثة ، فأخذ ثلثه خمسمائة ، فلما أن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان ، ضربناه أيضاً في ثلاثة ، فصيرناه ستمائة ، فصار العتق فيه خمسة أسداسه ، وكذلك يفعل بالآخر إذا وقعت عليه القرعة .
ش : هذا بيان لعمل المسألة ، ولأن العتق في الأول خمسة أسداسه ، وفي الثاني خمسة أتساعه ، وذلك لأن صورة المسألة أن جميع ملك الميت خمسمائة ، فتضرب في ثلاثة ، ترتفع إلى ألف وخمسمائة ، لأنها لو لم تضرب ربما وقع فيها كسر فتشق النسبة إليه أو تتعذر ، فإذا بلغت ألفاً وخمسمائة ، أخذ ثلثها وهو خمسمائة ، ثم إن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان ، ضربناه في ثلاثة ، كما ضربنا المجموع ، فترتفع إلى ستمائة ، ثم تنسب الثلث إليه وهو الخمس مائة ، تجد العتق فيه خمس أسداسه ، إذ كل سدس مائة درهم ، وإن وقعت القرعة على الذي قيمته ثلاثمائة ، فعلنا به أيضاً كذلك ، ضربناه في ثلاثة فارتفع إلى تسعمائة ، ثم نسبنا منه الثلث ، وهو الخمس مائة ، تجدها خمسة أتساعه .
قال : وكل شيء يأتي من هذا الباب فسبيله أن يضرب في ثلاثة ، ليخرج بلا كسر .
ش : فلو كانت قيمة أحد العبدين ثلاثمائة ، والآخر أربعمائة ، جمعتها ، وذلك سبعمائة ، فجعلتها ثلث المال ، ثم إن وقعت القرعة على الذي قيمته ثلاثمائة ، ضربت في ثلاثة ، ترتفع إلى تسعمائة ، ثم تنسب إليه السبعمائة يكن العتق منه سبعة أتساعه ، وإن وقعت على الذي قيمته أربع مائة ، ضربته في ثلاثة ، ترتفع إلى ألف ومائتين ، وإذا نسبت إليه السبع مائة ، كان العتق فيه ثلثه وربعه ، وعلى هذا فقس ، والله أعلم .
قال : وإذا أوصى بعبد من عبيده لرجل ، ولم يسم العبد ، كان له أحدهم بالقرعة ، إذا كان يخرج من الثلث ، وإلا ملك منه بقدر الثلث .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار ابن أبي موسى ، لأن الجميع سواء بالنسبة إلى الاستحقاق ، فكان له أحدهم بالقرعة ، كما لو كان ذلك عتقاً ، ( والثانية ) واختارها
____________________
(2/246)
أبو الخطاب ، والشريف في خلافيهما ، والشيرازي يعطيه الورثة ما أحبوا ، لأن لفظه تناول عبداً ، والأقل هو اليقين ، فيكون هو الواجب ، وما زاد فهو مشكوك فيه ، وإذاً ما تدفعه الورثة هو الواجب أو أزيد ، فيلزم قبوله ، وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوصية بالمجهول ، وهو واضح ، لما تقدم من أن الغرر لا ينافيها .
وقول : من عبيده . يخرج ما إذا قال : بعبد . وأطلق ، فإنه يصح ويعطى أي عبد كان ، لكن يشترط كونه ذكراً ، هذا عند أبي محمد ، نظراً للعرف ، وعند القاضي لا يشترط ، نظراً للحقيقة ، وقوله : ولم يسمه . يخرج ما إذا سماه ، فإنه يستحقه بشرطه بلا نزاع ، واشتراط الخروج من الثلث واضح وقد تقدم .
قال : وإذا أوصى له بشيء بعينه فتلف بعد موت الموصي لميكن للموصى له شيء .
ش : إذا أوصى له بشيء بعينه كهذا العبد ونحوه فتلف بعد موته ، وقبل القبول ، لم يكن للموصى له شيء ، حكاه ابن المنذر إجماعاً ، وذلك لأن الموصى له إنما يستحق بالوصية وهي في معين ، فتذهب بذهابه ، وبطريق التنبيه إذا تلف قبل موت الموصي .
قال : وإن تلف المال كله إلا الموصى به فهو للموصى له .
ش : نص على هذا أحمد ، لأن حق الورثة تعلق بما عدا المعين ، وقد تلف ، فيتلف على ملكهم ، أما المعين فلم يتعلق حقهم به ، ولذلك كان للموصى له أخذه بغير رضاهم .
قال : ومن أوصي له بشيء فلم يأخذه زماناً ، قوم وقت الموت ، لا وقت الأخذ .
ش : إعلم أنا نذكر أولًا أصلًا ، ثم نذكر هذه المسألة ، لأن بعضهم بناها عليه ، فنقول : اتفق أصحابنا فيما علمت على أن شرط ثبوت الملك للموصى له القبول بعد الموت ، ثم اختلفوا متى يثبت الملك له ، فالمذهب عند أبي محمد رحمه الله أن الملك لا يثبت له إلا عقب القبول ، وهو مقتضى قول القاضي ، وعامة أصحابه ، قال أبو الخطاب في الهداية : وأومأ إليه أحمد فقال : الوصية والهبة واحد . واختار أبو بكر في الشافي أن الملك مراعى ، فإذا قبل تبينا أن الملك ثبت له من حين الموت ، وحكى الشريف عن شيخه أنه قال : إنه ظاهر كلام الخرقي . ولعله أخذه من هذه المسألة ، قال في التعليق : وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ، فيمن أوصي له بشيء فلم يأخذه زماناً ، قال سفيان : يحسب على الموصى له بقيمته يوم يأخذه ، قال أحمد : له يوم أوصى . قال : فظاهر هذا أن الملك حصل بالسبب السابق . وقوله : يوم أوصى . معناه يوم تعتبر قيمته حين الموت ، لأنه حين الوصية باق على ملك الموصي ، فلا تعتبر قيمته إذاً ، ثم على الأولى هل يبقى الملك بعد موت الموصى له ، فيتوفر بنمائه
____________________
(2/247)
ثلثه وهو مقتضى قول الشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما أو يكون الملك للورثة ثم ينتقل إلى الموصى له إذا قيل وهو اختيار أبي محمد ، وابن البنا ، والشيرازي ؟ فيه وجهامن وتلخص أن في الملك بين الموت والقبول ثلاثة أوجه ، للميت ، للورثة ، للموصى له .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي : إن التقويم يعتبر بحال الموت ، لا بحال الأخذ ، وكذلك نص عليه أحمد في رواية ابن منصور ، فيحتمل أنه بناء منهما على أن الملك يكون مراعى ، وأن الموصى له إذا قبل ثبت ملكه من حين الموت ، أما إن قلنا : إن الملك لا يثبت إلا حين القبول ، فيعتبر التقويم إذاً ، وإلى هذا جنح أبو البركات ، مع زيادة تحقيق ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ويحتمل أن هذا الحكم جار على جميع الوجوه ، وهو مقتضى كلام أبي محمد ، فإنه حكى الخلاف في الأصل ، ثم ذكر هذه المسألة ، وقال : لا أعلم فيها خلافاً . وقال أبو العباس : إن قول الخرقي هو قول قدماء الأصحاب ، وإنه أوجه من قول جده ، يعني بالبناء ، فعلى هذا الاعتبار في التقويم بحال الموت سعراً وصفة ، فعلى هذا إذا قوم الموصى به حال الموت ، فخرج من الثلث ، كان للموصى له ، وإن زاد حين القبول ، حتى لم يخرج من الثلث ، ولو لم يخرج من الثلث حال الموت ، كان له منه بقدر الثلث ، وإن زاد سعره أو صفته ، حتى خرج من الثلث حال القبول ، وذلك لأن تأخير القبول حصل بتفريط من الموصى له ، فهو كتأخير المشتري قبض المبيع المعين ، [ بعد التمكن من قبضه ، والمذهب أن مجرد التمكن من القبض في المبيع المعين ] ونحوه ينقل الضمان ، فكذلك التمكن من القبول في الوصية ، إذ القبول فيها بمنزلة القبض في غيرها ، وإن قلنا بالرواية الأخرى في البيع ونحوه ، وأن الضمان لا ينتقل إلا بالقبض ، فهذا في المعاوضات على ضعف ، أما الشركة ونحوها فنفس التمييز كاف ، ولأن الموصى به مباح للموصى له ، وقد امتنعت الورثة من التصرف فيه وإن قلنا الملك لهم أو للميت لأجل حق الموصى به ، فأشبه العبد الجاني ، والتركة المستغرقة بالدين ، وإن قلنا : انتقلت إلى الورثة ، فإنه لو أخر استيفاء حقه حتى نقص العبد أو التركة كان النقص عليه ، ولم يكن له حق في غير ذلك ، كذلك ها هنا ، وقد قال أبو الخطاب في الانتصار وطائفة من الأصحاب : وإن تعلق حق الغرماء بالتركة لتعلق الموصى له بالموصى به هل يمنع من الانتقال ؟ على روايتين ، ولأن الموصى له وإن لم يملك ، لكن له حق التملك ، فأشبه ربح المضاربة قبل القسمة ، إن قلنا : لا يملك إلار بها . على رواية ، ونصف الصداق بعد الطلاق ، إن قلنا : لا يدخل في ملك الزوج إلا باختياره على وجه ، والمغانم قبل القسمة إن قلنا : لا تملك إلا بها . على وجه أيضاً ، فإن جميع هذه الصور الضمان على من له حق التملك ، كذلك ها هنا ، ولا يقال : القبول ها هنا بمنزلة القبول في الهبة والبيع ، لأن التملك في الوصية حق ثابت ، لا يمكن أحداً فسخه بعد الموت ، فهو كربح المضاربة ،
____________________
(2/248)
وقبول البيع والهبة حق غير ثابت ، لإِمكان إبطاله ، ولهذا قال الخرقي : إن خيار القبول في الوصية ينتقل إلى الورثة وإن كان خيار قبل البيع والهبة لا ينتقل اتفاقاً .
وأيضاً فإن العدل الشرعي أن لا تفضل الوصايا على الورثة بزيادة على الثلث ، لا في الملك ، ولا في القبض ، فإذا أوصى بعبد ، وله عبدان آخران ، فالعدل أن نقص العبدين كما هو على الورثة ، كذلك نقص العبد على الموصى له لا يقال : يلزم على هذا أن الملك مع الزيادة يكون للورثة والضمان على الموصى له ، لأنا نقول : ليس هذا ببدع . كما نقول : ضمان الثمر على الشجر على البائع ، والزيادة للمشتري ، والعين المؤجرة ضمانها على المؤجر ، والربح للمستأجر . انتهى ، وقال أبو البركات : إن قلنا : إن الملك يتبين ثبوته للموصى له من حين الموت ، فإن الموصى به يقوم بسعره يوم الموت ، على أدنى صفاته من حين الموت ، إلى حين القبول ، وإن قلنا : إن الملك لا يثبت إلا عقب القبول ، وأنه قبل للورثة أو للميت . اعتبر التقويم وقت القبول سعراً وصفة ، وبيان ذلك أما السعر فلأنه إنما اعتبر حال الموت على الأول ، لأنا تبينا بالقبول دخوله في ملكه حين الموت ، وإذاً تكون زيادة السعر ونقصها عليه ، لأن زيادة السعر ونقصه لا تضمن مع بقاء العين المستحقة ، وإن ضمنت العين ، كما في الغصب وغيره على المشهور ، وأما على الوجهين الآخرين ، فلأن الملك إنما حصل له بالقبول ، فقبل القبول لا يقوم عليه ، كما قبل الموت اتفاقاً ، وأما نقص الصفة أما على الوجهين الآخريهن فواضح ، لأن الملك للورثة أو للميت ، والزيادة لهما ، فكذلك النقص عليهما ، إذ الخراج بالضمان ، وأما على الوجه الأول فلأن الموصى له لا يضمن إلا بالقبول ، كما أن غيره لا يضمن إلا بالتمكين من القبض أو بحقيقة القبض على الخلاف ، وذلك لأن القبول لا يرد إلاعلى عين موجودة ، لأنه وإن أثبت الملك من حين الموت ، فلا بد من بقائه إلى حينه ، إذ ثبوت الملك قبله تبع لثبوته في حينه فما ليس بموجود لا يقبل ، لتعذر الملك فيه ، ولهذا لو تلفت العين الموصى بها قبل القبول ، امتنع القبول فيها ، فكذلك إذا تلف بعضها ، ولا ضمان أيضاً على الورثة ، بحيث يحسب من الثلثين ، لأن الورثة لم يملكوا ذلك ، فأشبه ما لم يمكنهم قبضه وأولى .
فإن قيل : يلزم على هذا أن تكون الزيادة للموصى له ، والنقص ليس عليه . قلنا : كذا ما اشترى بصفة أو رؤية متقدمة ، هو مضمون على البائع ، حتى يتبين أنه على ما رؤي أو وصف ، فلو زاد في هذه المدة كانت الزيادة للمشتري ، وقد ذكر أبو البركات نحو هذا في الصداق أيضاً ، إذل تعذر الرجوع في نصف عينه ، فإنه يرجع بنصف قيمته يوم الفرقة ، على أدنى صفاته من يوم العقد ، إلى يوم القبض ، إلا المتميز إذا قلنا : يضمنه بالعقد ، فتعتبر صفته وقت العقد ، وذلك لأن مع التعذر إنما يستحق نصف القيمة يوم الفرقة ، فيعتبر السعر إذاً ، وأما صفة المقوم فإن كان قد زاد بعد العقد وقبل القبض لم يستحق نصف قيمة الزيادة ، لحدوثها على ملك الزوج ، وإن كان قد نقص
____________________
(2/249)
فهو مضمون عليها ، لعدم التمكن من القبض ، المقتضي لضمان الزوج .
قال أبو العباس : واعلم أن تحرير هذه العبارة هنا ، وفي الصداق ، له دون غيره ، وإن كان قد ذكره غير واحد متفرقاً في الصداق ، ويؤخذ من تعليل بعضهم هنا ، قال : وهو متوجه في الصداق ، أما هنا ففيه نظر ، لأن المملوك بالوصية ، كالمملوك بالإِرث ، لا يتوقف تمام الملك فيهما لى قبض ، وإن تلف تلف من ضمانهما ، بخلاف المملوك بالعقود ، كالبيع ونحوه ، لا يتم الملك فيها إلا بالتمكن من القبض ، وإذا تلفت تلفت من ضمان الذي خرجت من ملكه ، وأيضاً فإن بالقبول يتبين أن الملك كان للموصى له ، وإذاً يكون التالف قبل القبول من ملكه ، إذ لم يفت فيه إلا بالقبض ، والقبض غير مؤثر ، بدليل ما لو قبل وأخر القبض . والله أعلم .
قال : وإذا أوصى بوصايا وفيها عتاق ، فلم يف الثلث بالكل ، تحاصوا في الثلث ، وأدخل النقص على كل واحد بقدر ما له في الوصية .
ش : هذا هو المشهور ، المختار للأصحاب من الروايتين ، للاشتراك في سبب الاستحقاق ، ولا مزية لأحدهم على الآخر ، فعلى هذا لو وصى لرجل بثلث ماله ، ولآخر بمعين قيمته مائة ، وبعتق عبد قيمته خمسون ، وثلثه مائة درهم ، فإنك إذا نسبت الثلث إلى مجموع الوصايا ، وجدته خمسيها ، فكل من له شيء له خمساه ، ( والرواية الثانية ) يقدم العتقد ، لترجحه بما فيه من حق الله تعالى ، وحق الآدمي وتشوف الشارع إليه ، ولو لم يكن في الوصايا عتاقة تحاصوا فيها بلا نزاع . والله أعلم .
قال : وإذا أوصى بفرس في سبيل الله ، وألف درهم تنفق عليه ، فمات الفرس ، كانت الألف للورثة ، وإن أنفق بعضها رد الباقي إلى الورثة .
ش : لتعذر العمل بالوصية في الجميع أو في البعض ، وإذاً يرجع إلى الورثة ، لأن سبب استحقاقهم قائم ، وإنما منعوا لمعارض وقد زال ، ويحتمل أن تنفق الألف على فرس آخر في السبيل ، إذ المقصود من مثل هذه الوصية الجهة ، لا ذات الفرس ، وصار كما لو وصى بألف في الحج ، فإنه يصرف في حجة بعد أخرى حتى ينفد ، والله سبحانه أعلم .
____________________
(2/250)
( كتاب كتاب الفرائض )
ش : الفرائض جمع فريضة ، وهي في الأصل مصدر من : فرض وافترض . وحدها في الاصطلاح : العلم بقسمة المواريث .
2241 والأصل فيها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( تعلموا الفرائض وعلموها الناس ، فإنه نصف العلم ، وهو ينسى ، وهو أول شيء ينزع من أمتي ) رواه ابن ماجه والدارقطني .
2242 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أن رسول الله قال : ( العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل ، آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة ) رواه أبو داود وابن ماجه .
____________________
(2/251)
قال : ولا يرث أخ ولا أخت لأب وأم ، أو لأب مع ابن ، ولا مع ابن ابن وإن سفل ، ولا مع أب .
ش : ولا مع ابن ابن وإن سفل ، ولا مع أب .
ش : يسقط ولد الأبوين أو الأب ذكرهم وأنثاهم بلاثة ، الابن ، وابنه ، والأب بالإِجماع ، حكاه ابن المنذر ، وقد قال سبحانه 19 ( { يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة ، إن امرؤ هلك ، ليس له ولد ، وله أخت ، فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } ) وهو يقتضي أن الأخ والأخت لا يرثان مع وجود الولد ، وهو شامل للولد وولد الابن ، ( والكلالة ) من لا ولد له ولا والد ، والمراد الأخ والأخت من الأبوين أو الأب بلا نزاع ، وإنما خص الحجب بالولد الذكر ، وإن كانت الآية الكريمة تشمل الأنثى لما سيأتي من أن الأخوات مع البنات عصبة ، وإذاً فالآية الكريمة مخصوصة بالذكر ، ويزيد ولد الأب على حجبه ، بالثلاثة أنه يحجب بالأخ من الأبوين ، وقد أشعر كلام الخرقي بهذا في قوله : والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم ، إذا لم يكن أخوات لأب وأم
2243 وذلك لما روى علي رضي الله عنه ، أن رسول الله قضى بالدين قبل الوصية ، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه ، دون أخيه لأبيه . رواه أحمد والترمذي ، وابن ماجه .
قال : ولا يرث أخ ولا أخت لأم مع ولد ، ذكراً كان أو أنثى ، ولا مع ولد ابن ، ولا مع أب ، ولا مع جد .
ش : ولد الأم ذكرهم وأنثاهم يسقط بأربعة الولد ، وولد الابن ، والأب ، والجد أبي الأب ، في قول العامة ، لقوله تعالى : 19 ( { وإن كان رجل يورث كلالة ، أو امرأة ، وله أخ أو أخت } ) والمراد بالأخ والأخت من الأم بالإِجماع ، والكلالة في قول الجمهور من ليس له ولد ولا والد ، والولد يشمل الولد ، وولد الابن ، والوالد يشمل الأب ، والجد . والله أعلم .
قال : والأخوات مع البنات عصبة ، لهن ما فضل ، وليست لهن معهن فريضة مسماة .
ش : العصبة في الاصطلاح ؟ وحكمه أنه يرث بلا تقدير ، ثم تارة ينفرد فيحوز جميع المال ، وتارة تستغرق الفروض المال فيسقط ، وتارة لا تستغرق فيأخذ الفاضل ، إذا تقرر هذا فالأخوات مع البنات عصبة ، لهن الفاضل عن فروض البنات ، وليست لهن مع البنات فريضة مسماة .
2244 لما روي أن أبا موسى الأشعري سئل عن ابنة ، وابنة ابن ، وأخت ، فقال : للابنة النصف ، وللأخت النصف . فسئل ابن مسعود ، وأخبر بقول أبي موسى ، فقال : لقد ( ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ) أقضي فيها بما قضى النبي ، للبنت النصف ، ولابنة الابن السدس ، تكلمة الثلثين ، وما بقي فللأخت . فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم . رواه البخاري وغيره ، والمراد بالأخوات الأخوات لأبوين ، أو لأب ، لأنه قد تقدم له أن الأخوات للأم لا يرثن مع الولد .
قال : وبنات الابن بمنزلة البنات إذا لم يكن بنات .
ش : هذا إجماع ، ويشهد له عموم قوله تعالى : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم } ) الآية وولد البنين أولاد ، قال الشاعر :
( بنونا بنو أبنائنا )
.
[ أي بنو أبنائنا بنونا ] ، وقوله : بمنزلتهن . أي عند عدمهن ، في إرثهن ، وحجبهن لمن تحجبه البنات ، وفي كون الأخوات معهن عصبة ، وغير ذلك .
قال : فإن كن بنات وبتات ابن ، فللبنات الثلثان ، وليس لبنات الابن شيء إلا أن يكون معهن ذكر ، فيعصبهن فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
____________________
(2/252)
ش : البنات لهن الثلثان بالإِجماع ، وسنده قوله تعالى : 19 ( { فإن كن نساء فوق اثنين فلهن ثلثا ما ترك } ) وكذلم البنتان لهما الثلثان بالإِجماع .
2245 ولا عبرة برواية شذت عن ابن عباس ، و 19 ( { فوق } ) في الآية الكريمة قيل : زائدة للتوكيد .
2246 ويؤيد ذلك ويوضحه ما روى جابر رضي الله عنه ، قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله بابنتيها من سعد ، فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قتل أبوهما معك في أحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يدع لهما مالًا ، ولا ينكحان إلا بمال . فقال : ( يقضي الله في ذلك ) فنزلت آية الميراث ، فأرسل رسول الله إلى عمهما ، فقال : ( اعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك ) رواه الخمسة . وهذا بيان الآية الكريمة ، وأيضاً قوله تعالى : 19 ( { يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة ، إن امرؤ هلك ليس له ولد ، وله أخت ، فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان } ) وهذا يدل بطريق التنبيه على أن للبنتين الثلثين ، لأنهما أقرب من الأختين ، ولا شك أن دلالة التنبيه أقوى من دلالة مفهوم الشرط ، بل قد قال بعض العلماء : إنها أقوى من دلالة النص ، وأيضاً قوله تعالى : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } ) وإذا كان معنا ذكر وأنثى ، فللأنثى الثلث ، وللذكر الثلثان مثل حظ الأنثيين ، .
إذا تقرر هذا فإذا كان في المسألة بنتان فصاعداً ، وبنات ابن ، فللبنتين فصاعداً الثلثان ، وتسقط بنات الابن بالإِجماع ، ولأن الثلثين لجهة البنات ، وقد استوعبه بنات الصلب ، فسقط بنات الابن ، لأنهن دونهن في الدرجة ، اللهم إلا أن يكون معهن في درجتين ذكر من بني الابن كأخيهن ، أو ابن عمهن ، فيعصبهن فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم } ) الآية ، وهؤلاء أولاد ، وكذلك لو كان الذكر من ولد الابن أنزل منهن ، كابن أخيهن ، أو ابن عمهن ، أو ابن ابن ابن عمهن ، لما تقدم ، والله أعلم .
قال : فإن كانت ابنة واحدة وبنات ابن ، فلابنة الصلب النصف ، ولبنات الابن
____________________
(2/253)
واحدة كانت أو أكثر من ذلك السدس تكملة الثلثين ، إلاأن يكون معهن ذكر ، فيعصبهن فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
ش : لا نزاع بين العلماء أن للبنت الواحدة النصف ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : 19 ( { وإن كانت واحدة فلها النصف } ) ولا نزاع أيضاً بينهم أنه إذا كانت بنت وبنت ابن ، أو بنات ابن ، أو بنت ابن وبنات ابن ابن أن للبنت النصف ولبنات الابن واحدة كانت أو أكثر السدس تكملة الثلثين ، لما تقدم من قصة أبي موسى ، وحديث ابن مسعود ، فإن كان مع بنات الابن ذكر ، عصبهن فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، لما تقدم من الآية الكريمة .
وقول الخرقي في هذه المسألة والتي قبلها : إلا أن يكون معهن ذكر . يشمل ما إذا كان في درجتهن ، أو أسفل منهن ، وصرح بذلك أبو البركات ، وقال في المغني في الأولى : إذا كان معهن أو أنزل منهن . وقال في الثانية : إذا كان معهن في درجتهن . وظاهره أن من أنزل منهن لا يعصبهن .
قال : والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم ، إذا لم يكن أخوات لأب وأم ، فإن كان أخوات لأب وأم وأخوات لأب ، فللأخوات من الأب والأم الثلثان ، وليس للأخوات من الأب شيء إلا أن يكون معهن ذكر ، فيعصبهن فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
ش : فرض الأخت من الأب والأم النصف ، وفرض الأختين فصاعداً الثلثان ، لقوله تعالى : 19 ( { يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة ، إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان } ) الآية .
2247 وعن جابر رضي الله عنه ، قال قلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي ، ولي أخوات ؟ قال : فنزلت آية الميراث : 19 ( { يستفتونك } ) الآية . . . رواه أبو داود .
2248 ويروى أنه كان له سبع أخوات ، والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم ، لدخولهن في الآية الكريمة ، لكن بشرط عدم الأخوات لأب وأم ، فالأخوات لأب يسقطن بالأخوات لأبوين ، وقد تقدم ذلك ، ويتفرع على هذا إذا كان له أخوات لأب وأم ، وأخوات لأب ، فإن للأخوات للأب والأم الثلثين ، وتسقط الأخوات للأب ، ويستثنى من ذلك صورة واحدة ، وهو ما إذا كان مع الأخوات للأب ذكر ، فإنه يعصبهن فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { وإن كانوا إخوة رجالًا ونساء ، فللذكر مثل حظ الأنثيين } ) .
قال : وإن كانت أخت واحدة لأب وأم ، وأخوات لأب ، فللأخت من الأب والأم النصف ، وللأخوات من الأب واحدة كانت أو أكثر من ذلك السدس تكملة الثلثين ، إلاأن يكون معهن ذكر ، فيعصبهن فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين .
ش : أما كون النصف للأخت من الأبوين فبنص الكتاب ، وقدمت على الأخوات للأب لأنها أقوى منهن ، وأما كون باقي الثلثين للأخوات من الأب ، فلأن فرض الأخوات الثلثان ، وقد أخذت الأخت للأبوين النصف ، فيكون الباقي منهما وهو
____________________
(2/254)
السدس للأخوات للأب ، إلا أن يكون معهن والحال هذه ذكر ، فيعصبهن فيما بقي ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { وإن كانوا إخوة رجالًا ونساء ، )9 ( فللذكر مثل حظ الأنثيين } ) وشرط من يعصبهن هنا ، وفي التي قبلها أن يكون أخاهن ، فلا يعصبهن ابنه ، بخلاف بنات الابن ، كما تقدم ، لأن ابن الأخ ليس بأخ ، وابن الابن ابن . والله أعلم .
قال : وللأم إذا لم يكن إلا أخ واحد ، أو أخت واحدة ، ولم يكن ولد ، ولا ولد ابن الثلث ، فإن كان له ولد ، أو ولد ابن ، أو أخوان ، أو أختان ، فليس لها إلا السدس .
ش : ذكر الخرقي رحمه الله تعالى هنا للأم حالتين ( إحداهما ) لها الثلث ، وهي مع عدم الولد ، أو ولد الابن ، والاثنين من الإِخوة والأخوات ، لقوله تعالى : 19 ( { فإن لم يكن له ولد ، وورثه أبواه ، فلأمه الثلث ، فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ) فجعل لها الثلث مع عدم الولد ، وهو شامل للولد وولد الابن ، ولم ينقلها إلى السدس إلا مع وجود الإخوة ، وليس الإخوة بأخ ( الحال الثاني ) لها السدس ، وهو مع وجود الولد ، ذكراً كان أو أنثى ، [ أو ولد ابن ] ، أو اثنين من الإِخوة والأخوات ، لقوله تعالى : 19 ( { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } ) وهو شامل للولد وولد الابن ، وللذكر والأنثى ، وقوله تعالى : 19 ( { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ) .
2249 وإنما صرف عن ظاهره ، ولم يعتبر في حجبها ثلاثة إخوة ، لما روي أن ابن عباس قال لعثمان رضي الله عنه : ليس الأخوان إخوة في لسان قومك ، فلم تحجب بهما الأم ؟ فقال : لا أستطيع أن أرد شيئاً كان قبلي ، ومضى في البلدان ، وتوارث الناس به . وهذا من عثمان رضي الله عنه يدل على أن الذي منعه من أعمال ظاهر الآية الإِجماع السابق ، ثم إن هذا عرف القرآن في الإِخوة قال سبحانه : 19 ( { فإن كانوا إخوة رجالًا ونساء ، فللذكر مثل حظ الأنثيين } ) وهذا ثابت بلا نزاع في الاثنين فصاعداً ، وبقي للأم ( حال ثالث ) يأتي بيانه إن شاء الله تعالى . والله أعلم .
قال : وليس للأب مع الولد الذكر أو ولد الابن إلا السدس .
ش : هذا إجماع ، وقد قال الله تعالى : 19 ( { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } ) والولد كما تقدم يشمل الولد وولد الابن .
قال : فإن كن بنات كان له ما فضل .
ش : أي فإن كن الأولاد بنات ، كان له ما فضل ، يعني بعد فرض السدس ، لأن الأب واحلال هذه يرث بالفرض السدس ، لقوله تعالى : 19 ( { ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } ) والولد يشمل الذكر والأنثى ، وما بقي بعد أخذ ذي الفرض فرضه يأخذه بالتعصيب ،
____________________
(2/255)
23250 لقوله : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ) . وإلا لو حمل كلام الخرقي على إطلاقه اقتضى أن يسقط فيما إذا كان معنا بنتان ، وزوج ، وأبوان ، فإن البنتيت إذاً لهما الثلثان ، والزوج له الربع ، والأم لها السدس ، ولا يفضل للأب شيء ، وليس كذلك ، بل له السدس ، فأصل المسألة من اثني عشر ، وتعول إلى خمسة عشر ، وإذاً يبقى له حال ثالث ، وهو إذا لم يكن ولد أصلًا ، فإنه يأخذ الفاضل بالتعصيب ليس إلا للحديث . والله أعلم .
قال : وللزوج النصف إذا لم يكن ولد ، فإن كان لها ولد فله الربع .
ش : هذا مما لا خلاف فيه بحمد الله ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد } ) الآية ، وهو شامل للولد ذكراً أو أنثى ، ولولدها وولد ابنها . والله أعلم .
قال : وللمرأة الربع واحدة كانت أو أربعاً ، إذا لم يكن ولد ، فإن كان له ولد فلهن الثمن .
ش : هذا أيضاً إجماع لقوله تعالى : 19 ( { ولهن الربع مما تركتم } ) إلى قوله : 19 ( { توصون بها أو دين } ) وهو أيضاً شامل للولد وولد الابن .
قال : وابن الأخ للأب والأم أولى من ابن الأخ للأب ، وابن الأخ من الأب أولى من ابن ابن الأخ للأب والأم ، وابن الأخ وإن سفل إذا كان لأب أولى من الم ، وابن العم للأب والأم ، أولى من ابن العم للأب ، وابن العم للأب أولى من ابن ابن العم للأب والأم ، وابن العم وإن سفل أولى من عم الأب .
ش : هذا إشارة إلى ميراث العصبة ، وتنبيه بذكر حكم بعضهم على البقية ، والعصبة قد تقدم بيانهم ، وحكمهم ، والكلام الآن في أولادهم بالميراث ، وأولاهم به أقربهم إلى الميت ، ويسقط به من بعده ، لما تقدم من قوله : ( ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي هو لأولى رجل ذكر ) متفق عليه ، وأقربهم الابن ، ثم ابنه وإن سفل ، ثم الأب ثم أبوه وإن علا ، ثم بنوا الأب وهم الإِخوة للأبوين ، أو للأب ، يقدم الأخ للأبوين على الأخ للأب ، وإن كانوا في درجة واحدة ، لقوة قرابته بالأم ، ثم بنوهم وإن سفلوا الأقرب منهم فالأقرب على ما تقدم ، فيقدم ابن الأخ للأب والأم ، عى ابن الأخ للأب ، وابن الأخ للأب ، على ابن ابن الأخ للأب والأم ، لأن ابن الأخ لأب أعلى درجة من ابن ابن الأخ للأبوين ، وعلى هذا أبداً ، ثم بعد بني الإِخوة العم ، ثم ابنه وإن سفل على ما تقدم ، إن استوت درجتهم قدم من هو لأبوين ، وإن اختلفت قدم الأعلى وإن كان لأب ، ثم عم الأب ، ثم بنوه . ثم عم الجد ، ثم بنوه على ما تقدم بيانه .
قال : وإذا كان زوج وأبوان ، أعطي الزوج النصف ، وللأم ثلث ما بقي ، وما بقي
____________________
(2/256)
فللأب ، وإن كانت زوجة وأبوان ، أعطيت الزوجة الربع ، وللأم ثلث ما بقي ، وما بقي فللأب .
2251 لأن عمر رضي الله عنه قضى فيهما بذلك ، وتبعه على ذلك عثمان ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، ويروى ذلك عن علي رضي الله عنهم ، فاعتمد أحمد رضي الله عنه وعامة العلماء على ذلك .
2252 اتباعاً لسنة الخلفاء الراشدين ، المأمور باتباعهم رضي الله عنهم .
قال : وإذا كان زوج ، وأم ، وإخوة من أم ، وإخوة لأب وأم ، فللزوج النصف ، وللأم السدس ، وللإِخوة من الأم الثلث ، وسقط الإِخوة من الأب والأم ، وهذه المسألة تسمى الحمارية .
ش : لا نزاع في أن للزوج النصف ، وللأم السدس ، واختلف في أن الثلث الباقي ، هل هو للإِخوة من الأم ، وتسقط الإِخوة من الأبوين ، أو يشرك فيه بين الجميع ، والمشهور المعروف من مذهبنا هو الأول .
2253 وهو مروي عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي بن كعب رضي الله عنهم ، لأن الإِخوة من الأم أصحاب فرض ، بدليل قوله تعالى : 19 ( { وإن كان رجل يورث كلالة ، أو امرأة ، وله أخ أو أخت ، فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } ) والإِجماع على أن المراد بالإِخوة هنا الإِخوة من الأم ، والقاعدة أن يبدأ بصاحب الفرض ، فإن استوعبت المال سقط العاصب ، بدليل قول النبي : ( ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر ) وأيضاً فإن ظاهر قوله تعالى : 19 ( { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } ) يقتضي أن الإِخوة من الأم يشتركون في جميع الثلث ، ومن شرك بين الجميع أنقصهم من الثلث ، ولم يعمل بظاهر قوله تعالى : 19 ( { وإن كانوا إخوة رجالًا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين } ) .
2254 وعن أحمد أنه يشرك بين الجميع ، وهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم . لأنهم ساووا ولد الأم في القرابة التي يرثون بها ، لأنهم جميعاً من ولد الأم ، فيجب أن يساووهم في الميراث ، وقرابة الأب إن لم تزدهم قرباً ، لم تزدهم بعداً .
2255 ولهذا قال بعض الصحابة أو بعض ولد الأبوين لعمر رضي الله عنه : هب أن أباهم كان حماراً ، فما زادهم إلا قرباً . فشرك بينهم ، ولهذا سميت هذه المسألة المشركة والحمارية ، والله أعلم .
قال : وإذا كان زوج ، وأم ، وإخوة وأخوات لأم ، وأخت لأب وأم ، وأخوات لأب ، فللزوج النصف ، وللأم السدس ، وللإِخوة والأخوات من الأم الثلث بينهم
____________________
(2/257)
بالسوية ، وللأخت من الأب والأم النصف ، وللأخوات من الأب السدس .
ش : أما كون للزوج النصف ، فلما تقدم من الآية الكريمة ، إذ ليس في المسألة ولد ، وأما كون الأم لها السدس ، فلقوله سبحلانه : 19 ( { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } ) وأما كون الإِخوة والأخوات من الأم لهم الثلث بينهم بالسوية ، فلما تقدم من قوله تعالى : 19 ( { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } ) وأما كون الأخت من الأبوين لها النصف ، فلقوله سبحانه : 19 ( { إن امرؤ هلك ليس له ولد ، وله أخت فلها نصف ما ترك } ) وأما كون الأخوات من الأب لهن السدس فلأنهن مع الأخت بمنزلة بنات الابن مع البنت ، وقد تقدم ذلك ، وإنما مراد الخرقي والله أعلم بذكر هذه المسألة بيان دخول العول في الفرائض .
ومعنى العول أن تزيد العروض على المال كهذه المسألة ، فإن فيها نصفاً ، ونصفاً ، وثلثاً ، وسدساً ، وسدساً ، فيدخل النقص على الجميع ، ويقسم المال بينهم على قدر فروضهم ، كما يقسم مال المفلس بين غرمائه بالحصص ، لضيق ماله عن وفائهم ، فأصل هذه المسألة من ستة ، وتعول إلى عشرة ، وليس في الفرائض ما يعول مثلها سواها ، ولهذا لقبت بذات الفروخ تشبيهاً للأصل بالأم ، وعولها بفروخها ، وتسمى أيضاً ذات الفروج بالجيم ، لكثرة الفروج فيها ، والله أعلم .
قال : وإذا كان ابناً عم أحدهما أخ لأم ، فللأخ من الأم السدس ، وما بقي بينهما نصفين .
ش : لأن الأخ للأم له السدس إذا لم يكن ابن عم ، فكذلك إذا كان ابن عم ، اعتماداً على الأصل ، وإذا أخذ السدس كان الباقي بينهما بالسوية ، لاستوائهما في التعصيب . والله أعلم .
( باب أصول سهام الفرائض التي تعول )
ش : معنى ( أصول سهام الفرائض ) المخارج التي تخرج منها فروضها ، وقد تقدم معنى العول ، وعكسه الرد ، وهو أن يفضل المال عن الفروض والعدل تساوي المال والفروض .
قال : وما فيه نصف وسدس ، أو نصف وثلث ، أو نصف وثلثان ، فأصله من ستة ، وتعول إلى سبعة ، وإلى ثمانية ، وإلى تسعة ، وإلى عشرة ، ولا تعول أكثر من ذلك .
ش : أي والذي فيه من المسائل نصف وسدس ، إلى آخره ، وإنما كان أصل ذلك من ستة ، لأن مخرج السدس من ستة ، ومخرج النصف من اثنين ، وهما داخلان في الستة ، ومخرج الثلث والثلثين من ثلاثة ومخرج النصف من اثنين وإذا ضربت اثنين في ثلاثة بلغ ستة ، وأمثلة ذلك بنت ، وأم ، وعم ، أصلها من ستة ، ومنها تصح ، للبنت
____________________
(2/258)
النصف ، وللأم السدس ، والباقي للعم ، زوج ، وأم وأخ ، أصلها من ستة أيضاً ، ومنها تصح ، للزوج النصف وللأم الثلث ، وما بقي للأخ ، زوج ، وأختان من أبوين ، أو من أب ، أو إحداهما لأبوين ، والأخرى لأب ، أصلها [ من ستة ، وتعول إلى سبعة ، أو زوج ، وأخت لأبوين أو لأب ، وجدة ، زوج ، وأخت ، وأم ، أصلها ] من ستة ، وتعول إلى ثمانية ، زوج ، وأم وثلاث أخوات متفرقات ، تعول إلى تسعة ، عول عشرة أم الفروخ وقد تقدمت ، وطريق العمل في العول ، أن تأخذ الفروض من أصل المسألة ، وتضم بعضها إلى بعض ، فما بلغت السهام فإليه انتهت المسألة ، فتقول في : زوج وأخت ، وأم . أصلها من ستة ، للزوج النصف ثلاثة وللأخت كذلك ، وللأم الثلث اثنان ، المجموع ثمانية .
قال : وما فيه ربع وسدس ، أو ربع وثلث ، أو ربع وثلثان ، فأصلها من اثني عشر ، وتعول إلى ثلاثة عشر ، وإلى خمسة عشر ، وإلى سبعة عشر ، ولا تعول إلى أكثر من ذلك .
ش : إنما كان أصل ذلك من اثني عشر ، لأن مخرج الربع من أربعة ، ومخرج السدس من ستة ، وبينهما موافقة ، بالأنصاف ، فإذاً تضرب نصف أحدهما في كامل الآخر ، فيبلغ اثني عشر ، وكذلك تضرب مخرج الربع في مخرج الثلث والثلثين وهو ثلاثة ، لعدم الموافقة بينهما ، فيصير اثني عشر ، مثال ذلك زوج ، وأبواه ، وخمسة بنين ، للزوج الربع ثلاثة ، وللأبوين السدسان أربعة ، والباقي للبنين ، وهو خمسة أسهم ، لكل ابن سهم ، امرأة وأختان لأبوين أو لأب ، وعصبة ، أمثلة عول ذلك : زوج ، وابنتان وأم ، أصلها من اثني عشر ، وتعول إلى ثلاثة عشر ، زوج ، وأبواه ، وابنتان ، تعول إلى خمسة عشر ، ثلاث نسوة ، وجدتان ، وأربع أخوات لأم ، وثمان لأب ، تعول إلى سبعة عشر ، ولا يعول هذا الأصل إلى أكثر من هذا . والله أعلم .
قال : وما فيه ثمن وسدس ، أو ثمن وسدسان ، أو ثمن وثلثان ، فأصلها من أربعة وعشرين ، وتعول إلى سبعة وعشرين ، ولا تعول إلى أكثر من ذلك .
ش : لأن مخرج الثمن من ثمانية ، ومخرج السدس من ستة ، وبينهما موافقة بالأنصاف ، فإذا ضربت وفق أحدهما في كامل الآخر انتهى إلى أربعة وعشرين ، وكذلك إذا ضربت مخرج الثمن ، في مخرج الثلثين وهو ثلاثة ، يبلغ أربعة وعشرين ، ولم يقل : ثلث وثمن . لعدم اجتماعهما ، إذ الثمن لا يكون إلا للزوجة مع الولد ، وإذاً ينتفي الثلث ، إذ هو فرض الإِخوة من الأم ، والولد يسقطهم ، وفرض الأم ، والولد يحجبها عنه إلى السدس ، ومثال المسألة امرأة وأبوان ، وابن ، للمرأة الثمن ، وللأبوين ، السدسان ، والباقي وهو ثلاثة عشر سهماً للابن ، امرأة ، وابنتان ، وأم ، وعصبة ، للمرأة الثمن ، وللبنتين الثلثان ، وللأم السدس ، والباقي وهو سهم للعصبة ، مثال عولها : امرأة ، وأبوان ، وابنتان ، تعول إلى سبعة وعشرين ، ولا تعول إلى أكثر من
____________________
(2/259)
ذلك ، ولهذا سميت البخيلة ، لأنها أقل الأصول عولًا ، وتسمى المنبرية .
2256 لأن علياً رضي الله عنه سئل عنها على المنبر فقال : صار ثمنها تسعاً . ومضى في خطبته ، يعني أن المرأة كان لها الثمن ثلاثة من أربعة وعشرين ، صار لها بالعول ثلاثة من سبعة وعشرين ، وهي التسع ، والله أعلم .
قال : ويرد على على كل أهل الفرائض على قدر ميراثهم ، إلا الزوج والزوجة .
ش : قد تقدم معنى الرد ، وهو أن يفضلالمال عن الفروض ، كما إذا لم يخلف الميت إلا بنات ، أو جدات ، ونحو ذلك ، ولا نزاع بين أهل العلم أنه لا يرد على الزوج والزوجة .
2257 إلا ما روي عن عثمان أنه رد على زوج ، وأول على أنه كان عصبة ، أو ذا رحم ، إذا العمدة في الرد قوله تعالى : 19 ( { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ) والزوجة ليس سببها ذا رحم ، واختلف هل يرد على غيرهما من ذوي الفروض ؟ ومشهور مذهبنا الذي عليه الأصحاب القول بالرد مطلقاً ، للآية الكريمة ، إذ هؤلاء من ذوي الأرحام ، فيكونون أولى من غيرهم بنص الكتاب .
2258 وفي الصحيح أن النبي قال : ( من ترك مالًا فلورثته ، ومن تكر كلا فإليّ ) وهو عام في جميع المال ، ( وعن أحمد ) : لا رد مطلقاً . والفاضل عن ذوي الفروض لبيت المال ، وقد تقدم الكلام على ذلك ، والإِشارة إلى دليله ، فيما إذلا أوصى بجميع ماله ،
2259 ونقل عنه ابن منصور : لا يرد على ولد الأم مع الأم ، ولا على الجدة مع ذي سهم ، ولعله تبع في ذلك أثراً ، والله أعلم .
قال : وإذا كانت أخت لأب وأم ، وأخت لأب ، وأخت لأم فللأخت للأب والأم النصف ، وللأخت للأب السدس ، وللأخت للأم السدس ، وما بقي يرد عليهم على قدر سهامهن ، فصال المال بينهن على خمسة أسهم ، للأخت للأب والأم ثلاثة أخماس المال ، وللأخت للأب الخمس ، وللأخت للأم الخمس .
ش : هذا مثال للرد ، وهو واضح وطريق العمل فيه أنك تأخذ سهام أهل الرد من أصل مسألتهم ، وهي أبدا تخرج من ستة ، إذ ليس في الفروض مالًا يخرج منها إلا الربع والثمن ، وليسا لغير الزوجين ، وليسا من أهل الرد ، ثم تجعل عدد سهامهم أصل مسألتهم ، كما صارت السهام في المسألة العائلة ، هي المسألة التي تضرب فيها العدد الذي انكسرت عليه سهامه ، وكذلك هنا إذا انكسرت على فريق منهم ضربته في عدد سهامهم ، لأن ذلك صار أصل مسألتهم ، ومن أمثلة المسألة ، جدة ، وأخ من أم ، لكل
____________________
(2/260)
واحد منهما السدس ، أصلها اثنان ، فتقسم المال عليهما ، لكل واحد منهما نصف المال ، فإن كانت الجدات ثلاثاً فلهن السهم ، لا ينقسم عليهن ، فتضرب عددهن في أصل المسألة ، وهي اثنان ، تصير ستة ، للأخ من الأم النصف ثلاثة ، ولكل جدة سهم ، وفي مثال الخرقي لو كن الأخوات من الأب أربعاً ، فإنك تضرب عددهن في أصل مسألتعم وهو خمسة ، تصير عشرين ، للأخت للأب والأم ثلاثة أخماسها اثنا عشر ، وللأخت من الأم الخمس أربعة ، وللأخوات للأب كذلك ، لكل واحدة سهم ، بنت وأربع بنات ابن ، وثلاث جدات ، أصلها أيضاً من خمسة وتصح من ستين ، إذ سهم الجدات لا ينقسم عليهن ، وكذلك سهم بنات الابن ، والرؤوس متباينة ، فإذا ضربت عدد أحدهما في الآخر كان اثني عشر ، ثم إذا ضرب ذلك في خمسة بلغ ستين ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
( باب الجدات )
قال : وللجدة إذا لم تكن أم السدس .
ش : ترث الجدة السدس بالإِجماع .
2260 وقد شهد له ما روى قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه قال : جاءت الجدة إلى أبي بكر ، فسألته عن ميراثها ، فقال : ما لك في كتاب الله شيء ، وما علمت لك في سنة رسول الله شيئاً ، فارجعي حتى أسأل الناس . فسأل الناس ، فقال المغيرة بن شعبة : حضرت رسول الله أعطاها السدس . فقال : هل معك غيرك ؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال : مثل ما قال المغيرة ، فأنفذه لها أبو بكر ، قال : ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب ، فسألته ميراثها ، فقال : ما لك في كتاب الله شيء ، ولكن هو ذلك السدس ، فإن اجتمعتما فهو بينكما ، وأيكما خلت به فهو لها . رواه الخمسة إلا النسائي ، وصححه الترمذي ، وتحجبها الأم من أيلا جهة كانت ، كما اقتضاه كلام الخرقي ، وهو إجماع أيضاً .
2261 لما روى بريدة رضي الله عنه أن النبي جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أم ، رواه أو داود ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن كثرن لم يزدن على السدس فرضاً .
ش : الجمع من الجدات لهن السدس كما لواحدة ، لما تقدم عنعمر رضي الله عنه .
2262 وعن أبي بكر نحوه ، فروى سعيد : ثنا سفيان وهشيم ، عن يحيى بن
____________________
(2/261)
سعيد ، عن القاسم بن محمد ، قال : جاءت الجدتان إلى أبي بكر ، فأعطى أم الأم الميراث دون أم الأب ، فقال له : عبد الرحمن بن سهل بن حارثة وكان شهد بدراً : يا خليفة رسول الله أعطيت التي إن ماتت لم يرثها ، ومنعت التي لو مات ورثها ، فجعل أبو بكر السدس بينهما . مع أن هذا أيضاً قد حكي إجماعاً ، وقول الخرقي : لم يزدن على السدس فرضاً . يحترز به مما تقدم له من الرد ، فإنهن يأخذن في الرد زيادة على السدس ، والله أعلم .
قال : وإن كان بعضهن أقرب من بعض كان الميراث لأثربهن .
ش : أما إن كانتا من جهة واحدة ، كما إذا كانت إحداهما أم الأخرى فالإِجماع على أن الميراث للقربى ، وتسقط البعدى ، وأما إن كانتا من جهتين ، والقربى من جهة الأم ، فبالإِتفاق أيضاً ، لكن عندنا على أن الميراث لها دون البعدى ، لأن الأقرب يحجب الأبعد ، دليله الآباء والأبناء ، أما إن كانت القربى من جهة الأب فهل تحجب البعدى من جهة الأم ؟ فيه روايتان ، ( إحداهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، ونصره أبو محمد تحجبها لما تقدم ، ( والثانية ) وبها قطع القاضي في جامعه ، وصححها ابن عقيل في التذكرة ، وهي المنصوصة عنه ، حتى أن القاضي في الروايتين لم يذكر الرواية الأولى إلا عن الخرقي ، ولم يستشهد لها بنص لا تحجبها ، لأن الأب الذي تدلى به الجدة ، لا يحجب الجدة من قبل الأم ، فالتي تدلي به أولى أن لا تجبها ، وبهذا فارقت القربى من قبل الأم ، فإنها تدلي بالأم ، وهي تحجب جميع الجدات ، ومثال ذلك أم أم ، وأم أم الأب ، المال للأولى بلا نزاع عندنا ، أم أب ، وأم أم أم ، المال للأول في قول الخرقي ، ولهما على المنصوص ، والله أعلم .
قال : والجدة ترث وابنها حي .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار القاضي ، وابن عقيل ، وأبي محمد وغيرهم .
2263 لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : أول جدة أطعمها رسول الله السدس أم أب أمع ابنها ، وابنها حي . رواه الترمذي . ولأن الجدات أمهات ، يرثن ميراث الأم ، لا ميراث الأب ، فلا يحجبن به كأمهات الأم ( والرواية الثانية ) لا ترث مع حياته ، بل يحجبها .
2264 وهو قول زيد بن ثبات ، لأنها تدلي به ، فلا ترث معه ، كأم الأم مع الأم ، ومحل الخلاف إذا كان الابن أبا للميت أو جده ، أما لو كان عماً للميت فإنه لا يحجبها رواية واحدة ، بل قال ابن عقيل : بالإِجماع . ومثال المسألة أم أب وأب ، فعلى الأولى لها السدس والباقي له ، وعلى الثانية الكل له ، أم أب ، وأم أم ، وأب ، فعلى
____________________
(2/262)
الأولى السدس بينهما ، وعلى الثانية السدس لأم الأم على الصحيح ، وقيل : بل نصفه والباقي للأب ، والله أعلم .
قال : والجدات المتحاذيات أن تكون أم أم أم ، وأم ، وأم أم أب ، وأم أبي أب ، وإن كثرن فعلى ذلك .
ش : لما تقدم له رحمه الله أن الجدات يرثن السدس وإن كثرن ، وأن القربى تسقط البعدى ، أراد أن يبين الجدات المتحاذيات ، أي المتساويات في الدرجة ، وإلا مع عدم التساوي ترث القربى دون البعدى ، والجدات التمحاذيات كما ذكر الخرقي ، لأن الجميع استووا في أن بينهن وبين الميت درجتين ، ولا يتصور التحاذي في الثلاث إلا على ما ذكر ، فأما في الأربع فأم أم أم أم ، وأم أم أم أب ، وأم أم أبي أب ، وأم أبي أبي أب .
وقول الخرقي : وإن كثرن فعلى ذلك . يحتمل أن يريد أنه يرث أكثر من ثلاث جدات مع تحاذيهن ، فعلى هذا يرث في الدرجة الخامسة خمس : أم أم أم أم أم وأم أم أم أم أب ، وأم أم أم أبي أب ، وأم أم أبي أبي أب ، وأم أبي أبي أبي أب ، وفي السادسة ستة وعلى هذا أبداً ، ويحتمل هذا أيضاً إطلاق الخرقي المتقدم في قوله : وكذلك إن كثرن لم يزدن على السدس . وأظنه رواية محكية ، وذلك لأن الزائدة على الثلاث جدة أدلت بوارث ، فوجب أن ترث كإحدى الثلاث ، والمعروف والمشهور في قول أحمد ومذهبه أنه لا يرث أكثر من ثلاث جدات ، وهن اللاتي ذكرهن الخرقي ، أم الأم وإن علت درجتها ، وأم الأب وإن علت درجتها ، وأم الجد وأمهاتها ، ولا ترث أم أب الأم بالإِجماع ، لإِدلائها بغير وارث ، ولا أم أبي الجد عندنا .
2265 والأصل في حصر الإِرث في الثلاث السابقات ما روى عن عبد الرحمن بن يزيد رضي الله عنه قال : أعطى رسول الله ثلاث جدات السدس ، ثنتين من قبل الأب ، وواحدة من قبل الأم ، رواه الدارقطني [ هكذا ] مرسلًا ، والأصل عدم توريث ما زاد على ذلك ، ما لم يقم عليه دليل .
2266 وقد روى سعيد ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يورثون من الجدات ثلاثاً ، ثنتين من قبل الأب ، وواحدة من قبل الأم . والله أعلم .
( باب من يرث من الرجال والنساء )
قال : ويرث من الرجال عشرة الابن ، ثم ابن الابن ، وإن سفل ، والأب ، والجد وإن علا ، والأخ ، وابن الأخ ، والعم ، ثم ابن العم ، والزوج ، ومولى النعمة ، ومن النساء سبع ، البنت ، وبنت الابن ، والأم ، والجدة ، والأخت ، والزوجة ومولاة النعمة .
____________________
(2/263)
ش : هؤلاء مجمع على توريثهم ، وقد شهد لغالبهم الكتاب والسنة ، فالابن في قوله تعالى : 19 ( { يوصيكم الله في أولادكم } ) وابنه ولد ، فيدخل في ذلك ، والأب في قوله : 19 ( { ولأبويه لكل واحد منهما السدس } ) والجد يدخل في ذلك أيضاً ، والأخ من الأم في قوله تعالى : 19 ( { وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ، وله أخ أو أخت ، فلكل واحد منهما السدس } والأخ للأبوين أو للأب في قوله : { وهو يرثها إن لم يكن لها ولد } ) وابن الأخ ، والعم ، وابنه في قوله : ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فهو لأولى رجل ذكر ) وشرط ابن الأخ والعم ، وابنه أن لا يكونوا من الأم ، لأنهم إذاً ليسوا بعصبة ، والزوج في قوله تعالى : 19 ( { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن له ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن ، من بعد وصية يوصين بها أو دين ، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ، فإن كان لكن ولد فلهن الثمن مما تركتم } ) ومولى النعمة في قوله عليه السلام : ( الولاء لمن أعتق ) والبنت ، وبنت الابن ، والأم ، والأخت ، والزوجة ومولاة النعمة فيما تقدم من الكتاب والسنة ، والجدة فلأن النبي أطعمها السدس . والله أعلم .
( باب ميراث الجد )
قال : ومذهب أبي عبد الله رحمه الله في الجد قول زيد ابن ثابت رضي الله عنه .
ش : يعني في توريث الإِخولا مع الجد ، وفي كيفية توريثهم معه ، أما الأول وهو توريث الإِخوة مع الجد فهو المذهب المعروف ، المشهور عند عامة الأصحاب .
2267 وهو قول علي ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم لأن توريث الإِخوة ثبت بنص الكتاب ، فلا يمنعون إلا بنص ، أو إجماع ، أو قياس ، ولم يرد شيء من ذلك ، ولأن الأخوة والجدودة في درجة واحدة ، إذ الجد أب الأب ، والأخ ابنه ، وقرابة البنوة لا تنقص عن قرابة الأبوة ، بل تعصيب البنوة أقوى .
2268 ولهذا مثله زيد رضي الله عنه بواد خراج منه نهر ، تفرق منه جدولان ، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي ، ونحو ذلك عن علي رضي الله عنه .
وعن أحمد رضي الله عنه رواية أخرى ، اختارها أبو حفص أظنه البرمكي أن الجد يسقط الإِخوة كما يسقطهم الأب .
2269 وهو مذهب أبي بكر الصديق رضي الله عنه .
2270 ويروى عن ثلاثة عشر صحابياً ، منهم عثمان ، وعائشة ، وعبد الله بن الزبير ، وابن عباس ، ولأنه والد ، بدليل قوله تعالى : 19 ( { واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق } ) .
____________________
(2/264)
2271 وقال عليه السلام : ( ارموا بني إسماعيل ، فإن أباكم كان رامياً ) والوالد والوالد لا ترث الإِخوة معه شيئاً ، قال تعالى : 19 ( { يستفتونك ، قل الله يفتيكم في الكلالة } ) والكلالة من لا ولد له ولا والد .
2272 ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : ألا يتقي الله زيد ، يجعل ابن الابن ابناً ، ولا يجعل أبا الأب أبا . ولأن النبي قال : ( ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر ) والجد أولى من الأخ ، لأن له إيلاداً ، ولو ازدحمت الفروض سقط الأخ دونه ، ولأنه كالأب في أنه لا يقتل بابن ابنه ، ولا يحد بقذفه ، ولا يقطع بسرقة ماله ، وتجب عليه نفقته ، ويمنع من دفع زكاته إليه ، فكذلك هنا ، ثم نقول : لا شك أن أمر الجد قد اشتبه على أكابر الصحابة .
2273 وقد روى الإِمام أحمد عن الحسن ، 16 ( أن عمر سأل عن فريضة رسول الله في الجد ، فقام معقل بن يسار المزني فقال : قضى فيها رسول الله ، )6 ( قال ماذا ؟ قال : السدس . قال : مع من ؟ قال : لا أدري . قال : لا دريت ، قال : فما مُغْني إذاً وإذا اشتبه الأمر كان المرجع إلى أكثر الصحابة وأقدمهم وأعلمهم أولى ) .
ولا تفريع على هذا القول ، أما على الأول فاختلفوا في كيفية توريثهم معه ، ومذهبنا في ذلك بلا نزاع مذهب زيد رضي الله عنه ، كما يذكره الخرقي رحمه الله .
2274 وإنما اعتمد أحمد رحمه الله في ذلك على قول زيد ، لما روى أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدها في دين الله عمر ، وأصدقها حباً عثمان ، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقرؤها لكتاب الله عز وجل أبيّ ، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت ، ولكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) رواه أحمد والنسائي ، والترمذي وصححه ، وابن ماجه ، والحاكم ، وقال : إنه على شرط الشيخين ، وقال كثير من أهل العلم بالحديث : إن الصحيح أنه مرسل عن أبي قلابة ، عن النبي كذا قال الدارقطني ، والخطيب ، وقال ابن عبد البر : إن أكثر الرواة على هذا . واتفق الكل أن المسند منه ( لكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) وكذلك أخرجه الشيخان ، دون بقية الحديث .
2275 وقد روي هذا الحديث من رواية جابر ، أخرجه الطبراني ، ومن رواية أبي سعيد الخدري ، رواه قاسم بن أصبغ ، ومن رواية ابن عمر ، أخرجه أبو يعلى الموصلي ، لكن في أسانيدها كلام ، وأقربها ، وأحسنها حديث أنس ، وبها إن كان
____________________
(2/265)
مرسلًا يتقوى ، ويصير حجة عند العامة ، والله أعلم .
قال : وإذا كان إخوة ، وأخوات ، وجد ، قاسمهم الجد بمنزلة أخ ، حتى يكون الثلث خيراً له ، فإذا كان الثلث خيراً له ، أعطي ثلث جميع المال .
ش : الكلام في الإِخوة والأخوات للأبوين أو للأب ، أما للأم فإن الجد يسقطهم بلا نزاع ، فإذا كان إخوة ، وأخوات ، وجد ، ولم يكن في المسألة ذو فرض ، فإن للجد الأحظ من شيئين ، المقاسمة كأخ ، أو ثلرث جميع المال ، فمع أخ ، أو أختين المقاسمة أحظ له ، ومع ثلاثة إخوة أو ست أخوات ، الثلث أحظ له ، ومع أخوين ، أو أربع أخوات يستوي الأمران ، والله أعلم .
قال : وإذا كان مع الجد والإِخوة والأخوات أصحاب فرائض ، أعطي أصحاب الفرائض فرائضهم ، ثم ينظر فيما بقي ، فإن كانت المقاسمة خيراً للجد من ثلث ما بقي ، ومن سدس جميع المال ، أعطي المقاسمة ، وإن كان ثلث ما بقي خيراً له من المقاسمة ، ومن سدس جميع المال أعطي ثلث ما بقي وإن كان سدس جميع المال أحظ له من المقاسمة ، ومن ثلث ما بقي أعطي سدس جميع المال .
ش : إذا كان مع الجد والإِخوة ذو فرض ، فللجد بعد أخذ ذي الفرض فرضه الأحظ من ثلاثة أشياء . ( المقاسمة ) كأخ ، كما لو لم يكن ذو فرض ، ( أو ثلث ما بقي ) كما مع عدم ذي الفرض ، إذ ما أخذ بالفرض كأنه ذهب من المال ، فثلث الباقي بمنزلة ثلث جميع المال ، ( أو سدس جميع المال ) لأنه غاية الإِخوة أن يكونوا بمنزلة الولد ، وهو لا ينقص عن السدس مع الولد ، فعلى هذا متى زادت الفروض عن النصف ، فلاحظ له في ثلث الباقي ، وإن نقصت عن النصف فلا حظ له في سدس جميع المال ، ثم تارة تكون المقاسمة خيراً له ، كما إذا اجتمع والحال هذه مع أخ ، وتارة يكون ثلث الباقي خيرأُ له ، كما إذا كانت الإِخوة ثلاثة ، والله أعلم .
قال : ولا ينقص الجد أبداً عن سدس جميع المال أو تسميته إذا زادت السهام .
ش : قد تقدمت الإِشارة إلى أن الجد لا ينقص عن السدس ، لأنه لا ينقص عن السدس مع البنين ، فمع الإِخوة أولى .
2276 وعن عمران بن حصين أن رجلًا أتى النبي فقال : إن ابن ابني مات ، فما لي من ميراثه ؟ قال : ( لك السدس ) فلما أدبر دعاه فقال : ( لك سدس آخر ) فلما أدبر دعاه فقال : ( إن السدس الآخر طعمة ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه .
وقوله : أو تسميته إذا زادت السهام . يعني إذا كانت المسألة عائلة ، فإنه يسمى له
____________________
(2/266)
السدس ، وإن نقص عن سدس جميع المال ، مثاله زوج ، وأم وابنتان ، وجد ، للزوج الربع ، وللأم السدس ، وللابنتين الثلثان ، وللجد السدس ، أصل المسألة من اثني عشر ، وتعول إلى خمسة عشر ، وتعول إلى خمسة عشر ، للجد منها [ السدس ] سهمان ، وهما ثلثا الخمس ، وهما أربعة أخماس ما [ كان ] يحصل له ، إذ الخمسة عشر إذا قسمت على الإِثني عشر ، خص كل سهم واحد وربع ، فالسهمان من الإِثني عشر ، سهمان ونصف من الخمسة عشر ، وقد حصل له منها سهمان ، فنقص عليه الخمس .
قال وإذا كان أ لأب وأم ، وأخ لأب ، وجد ، قاسم الجد الأخ للأب والأم ، والأخ للأب على ثلاثة أسهم ، ثم رجع الأخ للأب والأم على ما في يد أخيه لأبيه فأخذه .
ش : هذه قاعدة في الجد ، وهو أنه إذا اجتمع معه ولد أبوين ، وولد أب ، فإن ولد ، الأبوين يعادون الجد بولد الأب ، ثم ما حصل لولد الأب أخذه منهم ولد الأبوين ، ففي الصورة التي ذكرها الخرقي تستوي للجد المقاسمة وثلث جميع المال ، فيكون المال بينهم على ثلاثة أسهم ، للجد سهم ، ولكل أخ سهم ، ثم يرجع الأخ للأبوين على الأخ للأب ، فيأخذ ما في يده ، إذ لا ميراث لولد الأب مع ولد الأبوين .
قال : وإذا كان أخ وأخت لأب وأم أو لأب ، وجد ، كان المال بين الجد والأخ والأخت على خمسة أسهم ، للجد سهمان ، وللأخ سهمان ، وللأخت سهم .
ش : المقاسمة هنا أحظ للجد من الثلث فتتعين .
قال : وإذا كانت أخت لأب وأم ، وأخت لأب ، وجد ، كانت الفريضة بين الجد والأختين على أربعة أسهم للجد سهمان ، ولكل أخت سهم ، ثم رجعت الأخت للأب والأم على أختها لأبيها فأخذت ما في يدها لتستكمل النصف .
ش : قد تقدم أصل هذا ، وأن المقاسمة إذا كانت أحظ للجد أخذها ، وأن ولد الأبوين يعادون الجد بولد الأب ، ثم يأخذون منهم ما حصل لهم ، فتأخذ الأخت للأبويين ما في يد الأخت من الأب ليكمل لها النصف ، لأن الأخت للأب لا تأخذ شيئاً إلا إذا أخذت الأخت للأبوين النصف .
قال : فإن كان مع التي من قبل الأب أخوها ، كان المال بين الجد والأخ والأختين على ستة أسهم ، للجد سهمان ، وللأخ سهمان ، ولكل أخت سهم ، ثم رجعت الأخت من الأب والأم ، على الأخ والأخت من الأب ، فأخذت مما في أيديهما ، لتستكمل النصف ، فتصح الفريضة من ثمانية عشر سهماً ، للجد ستة أسهم ، وللأخت للأب والأم تسعة أسهم ، وللأخ سهمان ، وللأخت سهم .
ش : المقاسمة والثلث هنا سيان ، فيكون كما ذكره الخرقي رحمه الله تعالى ، ثم تأخذ الأخت تمام النصف ، وهذه القاعدة فيها ، وهو أن ولد الأبوين يأخذ ما في يد
____________________
(2/267)
ولد الأب ، إلا أن يكون ولد الأبوين أختاً [ واحدة ] ، فتأخذ تمام النصف ، وما فضل يكون لولد الأب ، ففي هذه المسألة الفاضل عن النصف سهم ، بين الأخ وأخته على ثلاثة ، فتضرب ثلاثة في أصل المسألة وهو ستة ، تبلغ ثمانية عشر ، ثم يكون كما ذكر الخرقي ، والله أعلم .
قال : وإذا كان زوج ، وأم ، وأخت ، وجد ، فللزوج النصف ، وللأم الثلث ، وللأخت النصف ، وللجد السدس ، ثم يقسم نصف الأخت ، وسدس الجد ، بينهما على ثلاثة أسهم ، للجد سهمان ، وللأخت سهم ، فتصح الفريضة من سبعة وعشرين سهماً ، للزوج تسعة أسهم ، وللأم ستة ، وللجد ثمانية ، وللأخت أربعة .
ش : هذا مذهب زيد رضي الله عنه ، وقيل : إنه لم يصرح بذلك ، وإنما أصحابه قاسوها على أصوله ، وأصل هذه المسألة من ستة ، وتعول إلى تسعة ، ثم يقسم نصف الأخت ، وسدس الجد بينهما ، وذلك أربعة على ثلاثة ، لا تصح ولا توافق ، فتضرب ثلاثة في تسعة ، تصير سبعة وعشرين ، ثم كل من له شيء مضروب في ثلاثة ، فللزوج ثلاثة في ثلاثة بتسعة ، وللأم اثنان في ثلاثة بستة ، وللجد والأخت أربعة في ثلاثة باثني عشر ، مقسومة بينهما ، للكر مثل حظ الأنثيين فللجد ثمانية ، وللأخت أربعة .
قال : وتسمى هذه الأكدرية ، ولا يفرض للجد مع الأخوات إلا في هذه المسألة .
ش : قيل : سميت بذلك لأنها كدرت على زيد أصوله ، فإنه أعالها ، ولا عول عنده في مسائل الجد مع الإِخوة ، وفرض للأخت معه ، ولا يفرض للأخت في غير هذه الصورة ، وجمع سهامه وسهامها فقسمهما بينهما ، ولا نظير لذلك .
2277 وقيل : سميت بذلك لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلًا اسمه أكدر ، فأفتى فيها على مذهب زيد وأخطأ فيها ، فنسبت إليه ، وإنما فرض للأخت مع الجد ، وأعيلت المسألة لأنه لو لم يفرض لها لسقطت ، وليس في الفريضة من يسقطها ، وهذا كله على المذهب المعروف ، ولنا قويل آخر أنها تسقط ، ويكون الباقي بعد نصف الزوج ، وثلث الأم ، وهو السدس للجد بالفرض ، كسائر المسائل التي لا يفضل فيها إلا السدس ، وإنما ضم نصفها إلى سدسه ، وقسم بينهما ، لأنها لا تستحق معه إلا بحكم المقاسمة ، والله أعلم .
قال : وإذا كانت أم ، وأخت ، وجد ، فللأم الثلث ، وما بقي بين الجد والأخت على ثلاثة أسهم ، للجد سهمان ، وللأخت سهم .
ش : الباقي بعد الثلث سهمان ، بين الجد ، والأخت على ثلاثة ، فتضرب ثلاثة في ثلاثة ، تصح من تسعة ، للأم ثلاثة أسهم ، وللجد أربعة ، وللأخت سهمان ، وتسمى هذه المسألة الخرقاء ، لكثرة اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيها ، كأن الأقوال خرقتها ، قيل : اختلف الصحابة فيها على سبعة أقوال ، ولهذا أيضاً سميت المسبعة ،
____________________
(2/268)
وتسمى المسدسة ، لأن معنى السبعة ترجع إلى ستة .
2278 وسأل الحجاج الشعبي عنها ، فقال : اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله ، ذكر له عثمان ، وعلياً ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس .
قال : وإذا كانت بنت ، وأخت ، وجد ، فللبنت النصف ، وما بقي فبين الجد والأخت على ثلاثة أسهم ، للجد سهمان ، وللأخت سهم .
ش : المقاسمة هنا أحظ للجد من ثلث الباقيد ومن سدس جميع المال ، فيأخذها وأصل المسألة من اثنين ، للبنت سهم ، ويبقى سهم على ثلاثة ، لا تصح ، فتضرب ثلاثة في اثنين ، تصير ستة ، للبنت نصفها ثلاثة ، وللجد سهمان ، وللأخت سهم .
( باب ميراث ذوي الأرحام )
ذوو الأرحام في أصل الوضع الشرعي واللغوي كل من انتسب إلى الميت بقرابة ، سواء كانت القرابة من قبل الأب أو من قبل الأم .
2279 ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يستدل على ميراث العصبة بقوله سبحانه : 19 ( { وألوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ) ولا نزاع أن الآية الكريمة تتناول العصبة وأصحاب الفروض ، وإنما النزاع في تناولها للرد ، ولذوي الأرحام ، وكذلك قوله تعالى : 19 ( { واتقوا الله الذين تساءلون به والأرحام } )9 ( { وتقطعوا أرحامكم } ) تتناول كل قريب ، ولهذا قال إمامنا وأصحابنا وغيرهم : إذا أوصى لذوي رحمه ، أو وقف عليهم ، تناول كل قرابة له ، من جهة الأب والأم .
وذوو الأرحام في العرف الإِصطلاحي هنا : كل قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة ، لأن الوارث لما كانوا ثلاثة أقسام ، ( منهم ) من له شيء مقدر ، فسمي صاحب فرض ، لأن الفرض في اللغة التقدير ، ( ومنهم ) من يأخذ المال إذا انفرد ، ويأخذ ما بقي مع ذي الفرض ، وهو العصبة ، ولما اختص هذان القسمان الشريفان باسمين ، بقي ( القسم الثالث ) وهو أدنى الأقسام ، وهو من لا فرض له ولا تعصيب ، فخص بالاسم العام ، طلباً للتمييز بين الأقسام ، وهذا كما أن الحيواتن يشمل الناطق والبهيم ، [ فلما امتاز الناطق باسمه الخاص وهو الإِنسان ، اختص الاسم العام وهو الحيوان بأدنى نوعيه ، وهو البهيم ] .
وإذا تقرر أن ذوي الأرحام في الإِصطلاح الطاريء اسم لمن يرث بلا فرض ولا تعصيب ، فهم أحد عشر صنفاً ، ولد البنات ، وولد الأخوات ، وبنات الإِخوة ، وبنات الأعمام ، وبنوا الإِخوة من الأم ، والعم من الأم ، والعمات ، والأخوال ، والخالات ، وأبو الأم ، وكل جدة أدلت بأب بين أمين ، أو بأب أعلى من الجد . والله أعلم .
قال : ويورث ذووا الأرحام .
____________________
(2/269)
ش : هذا المذهب المعروف ، المشهور في نص أحمد ، وقول أصحابه ، وهو مذهب جمهور الصحابة ، لقول الله سبحانه : 19 ( { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } ) هؤلاء من أولي الأرحام ، فيكونون أولى بنص الكتاب .
2280 وفي الدارقطني [ عن ابن عباس رضي الله عنه ] أن النبي آخى بين أصحابه ، فكانوا يتوارثون ، بالنسب .
2281 وعن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( من ترك مالًا فلورثته ، وأنا وارث من لا وارث له ، أعقل عنه وأرثه ، والخال وارث من لا وارث له ، يعقل عنه ويرثه ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وحسنه أبو زرعة .
2282 وعن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه ، أن رجلًا رمى رجلًا بسهم فقتله ، وليس له وارث إلا خال ، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح ، إلى عمر رضي الله عنه ، فكتب إليه عمر أن النبي قال : ( الله ورسوله مولى من لا مولى له ، والخال وارث من لا وارث له ) رواه أحمد ، وابن ماجه ، وللترمذي منه المرفوع وحسنه .
2283 وعن بريدة قال : مات رجل من خزاعة ، فأتي النبي بميراثه ، فقال : ( التمسوا له وارثاً ، أو ذا رحم ) فلم يجدوا له وارثاً ، ولا ذا رحم ، فقا النبي : ( أعطوه الكبر من خزاعة ) رواه أبو داود .
2284 وعن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، أن رسول الله ركب إلى قباء ، يستخير الله في العمة والخالة ، فأنزل الله عليه : لا ميراث لهما ، ولكن يرثان للرحم . رواه أبو داود هكذا مرسلًا ، ولأن ذا الرحم امتاز على سائر المسلمين بالقرابة التي بينه وبين الميت ، فكان أولى بماله كالعصبة .
وما يقال من أراد المراد : أن من ليس له إلا خال فلا وارث له ، كما يقال : الجوع زاد من لا زاد له . والجوع ليس بزاد ، كذلك الخال مردود بأن في الحديث ( يرثه ويعقل عنه ) وبأن الصحابة رووا الحديث ، وفهموا منه إثبات الإِرث ، وفهمهم موافق للحديث ، فهو حجة بلا ريب ، وقوله في الحديث ( وارث من لا وارث له ) أي من لا وارث له معروف ، وهم أصحاب الفروض والعصبة ، ويؤيد هذا الحديث المرسل ( لا ميراث لهما ) يعني مقداراً ، ولكن يورثون للرحم .
وعن أحمد رواية أخرى : لا يرثون مع بيت المال ، بل يقدم بيت المال عليم ،
____________________
(2/270)
بناء على أنه عاصب ، وقد تقدم نصه على ذلك في الوصية بجميع المال ، وأنه تبع في ذلك زيد بن ثابت رضي الله عنه .
2285 واستدل بعضهم لها بما روى عطاء بن يسار ، أن رسول الله ركب إلى قباء يستخير الله في العمة والخالة ، فأنزل الله عليه أن لا ميراث لهما ، رواه سعيد بن منصور في سننه ، وهو مردود بالزيادة التي رواها أبو داود ، والله أعلم .
قال : فيجعل من لم تسم له فريضة بمنزلة من سميت له ممن هو نحوه ، فيجعل الخال بمنزلة الأم ، والعمة بمنزلة الأب ، وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه جعلها بمنزلة العم ، وبنت الأخ بمنزلة الأخ ، وكل ذي رحم لم تسم له فريضة فهو على هذا النحو .
ش : كيفية توريثهم ، وأشار أولًا إلى تعريفهم وبيانهم فقال : إنهم من لم تسم له فريضة . وفيه قصور ، لأن ذوي الأرحام كما تقدم من لا فريضة له ولا تعصيب ، ثم بين كيفية توريثهم ، بأنهم يرثون بالتنزيل ، وهو المذهب المشهور المعروف ، حتى أن عامة الأصحاب لم يحكوا فيه خلافاً .
2286 وروي نحو ذلك عن عمر ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ، وناهيك بهم ، وذلك لأنهم إنما ورثوا فرعاً على غيرهم ، فوجب إلحاقهم بذلك الغير .
وحكى الشيرازي والسامري رواية أنهم يرثون بالقرب ، وهذا مذهب الحنفية ، فعلى هذا أولادهم من كان من ولد الميت ، وأن سفلوا ثم ولد أبويه أو أحدهما ، وإن سفلوا ، ثم ولد أبوي أبويه وإن سفلوا كذلك أبداً ، لا يرث بنوا أب أعلى وهناك بنو أب أقرب منهم ، وإن نزلت درجتهم .
ولا تفريع على هذا القول عندنا ، إنما التفريع على الأول ، وبيانه كما ذكر الخرقي : أن يجعل من لم تسم له فريضة على منزلة من سميت له ممن هو نحوه . فقوله : على منزلة . أي بمنزلة ، أو استقر وعلا على منزلة من سميت له الفريضة ، وقوله : ممن هو نحوه . ( من ) لبيان الجنس ، أي بيان من سميت له فريضة ، و ( من ) موصول ، راجع إلى المسمى له فريضة ، وهو راجع إلى من لم تسم له فريضة ، والنحو الجهة أي تجعل الذي لم تسم له فريضة بمنزلة الذي سميت له فريضة ، أي فريضة قال : من الذي لم تسم له جهته والضمير في جهته راجع إلى الموصول الراجع إلى من سميت له فريضة ، وإيضاح ذلك فقال : فتجعل الخالة بمنزلة الأم ، والعمة أي مطلقاً ، سواء كانت لأبوين ، أولأب أو لأم بمنزلة الأب .
2287 وقد روي هذا عن عمر ، وعلي ، وعبد الله في العمة ، ونحوه عنهم في
____________________
(2/271)
الخال ، وهذا إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله ، واختيار القاضي في التعليق ، وأبي محمد وغيرهما .
2288 لما روى الزهري أن رسول الله قال : ( العمة بمنزلة الأب ، إذا لم يكن بينهما أب ، والخالة بمنزلة الأم ، إذا لم تكن بينهما أم ) ولأن الأب أقوى جهات العمة ، فوجب تنزيلها منزلته ، كبنت الأخ ، وبنت العم تنزلان منزلة أبويهما ، لا أخويهما ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن العمة بمنزلة العم ، لأنه أخوها ، فنزلت منزلته .
2289 وهو إحدى الروايتين عن علي ، واختيار أبي بكر عبد العزيز ، قال القاضي في تعليقه بعد أن حكى الرواية مطلقة : وينبغي أن تكون بمنزلة العم من الأبوين ، لأنا لو نزلناها منزلة العم من الأب سقطت مع بنت العم من الأبوين ، ولو نزلت منزلة العم من الأم نزلت بغير وارث ، وتبعه على ذلك أبو الخطاب ، وأبو البركات وغيرهما ، ( وعنه ) رواية ثالثة أن العمة لأبوين أو لأب كالجد ، لأنه أبوهما ، والفرع يتبع أصله ، قال أبو البركات : فعلى هذه العمة لأم ، والعم لأم كالجدة أمهما .
واعلم أن الرواية والله أعلم إنما وردت في العمة ، كما ذكر الخرقي ، كذا حكاها القاضي وغيره ، وكذلك خص أبو محمد الخلاف بها في الكافي ، وقطع في العم للأم أنه كالأب ، وكذلك الشيرازي ، لكنه قطع في العم للأم أنه كالعم ، وحكى أبو البركات الخلاف فيهما . انتهى .
وتنزل بنت الأخ بمنزلة أبيها وهو الأخ ، وعلى هذا كل من كان من ذوي الأرحام ، ينزل منزلة من يدلي به ، وهو معنى قول الخرقي : ولك ذي رحم لم تسم له فريضة ، فهو على هذا النحو . أي المثل ، مثال ذلك بنت بنت ، وبنت بنت ابن ، بنت البنت بمنزلة البنت ، وبنت بنت الابن بمنزلة بنت الابن ، فيكون المال بينهما على أربعة بالفرض والرد ، كأصلهما ، فلو كان معهما بنت أخ كانت بمنزلة أبيها ، فالباقي لها ، والمسألة من ستة ، فلو كان معهم خالة فهي بمنزلة الأم ، فيكون لها السدس ، ولبنت البنت النصف ، ولبنت بنت الابن الصدس تكملة الثلثين ، والباقي وهو السدس لبنت الأخ ، فإن كان مكان الخالة عمة فمن نزلها منزلة الأب أسقط بها بنت الأخ ، كما يسقط الأخ بالأب ، ومن نزلها منزلة العم أسقطها ، كما يسقط العم بالأب ، ومن نزلها جداً ، قاسم الباقي بينها وبين بنت الأخ ، كما يقاسم بين الأخ في هذه المسألة .
قال : وإذا كان وارث غير الزوج والزوجلا ممن قد سميت له فريضة ، أو مولى نعمة ، فهو أحق بالمال من ذوي الأرحام .
ش : لما ذكر الخرقي رحمه الله أن ذوي الأرحام يرثون ، أراد أن يبين شرط توريثهم فقال : شرط توريثهم أن لا يكون معهم وارث سميت له فريضة ، أو مولى نعمة وأراد أن يبين بهذا أن الرد والولاء يقدمان بالميراث على الرحم ، ولا نزاع عندنا فيما
____________________
(2/272)
أعلم أن الرد يقدم على ذي الرحم ، لقوله عليه السلام : ( الخال وارث من لا وارث له ) وهذا له وارث .
2290 قال ابن مسعود : 16 ( ذو السهم أولى ممن لا سهم له ) . ولأن الرحم التي في ذي الفرص أولى من الرحم التي لا فرض لها ، أما الولاء فالمعمول عليه عندنا أيضاً أنه يقدم على الرحم للحديث .
2291 وقوله عليه السلام : ( الولاء لحمة كلحمة النسب ) ( وعنه ) : تقدم الرحم عليه ، لانتفاء الرحم فيه .
واستثنى الخرقي من أصحاب الفرائض الزوج والزوجة ، فإن ذوي الأرحام يرثون معهما ، لما تقدم من أنه لاحظ للزوجين في الرد ، ولا نزاع أن الزوجين يأخذان فرضهما من غير حجب ولا عول ، ثم يقسم الباقي بين ذو الأرحام كما لو انفردوا ، نص عليه ، وعليه جمهور الأصحاب ، وقيل : يقسم بينهم كما يقسم بين من أدلوا به ، وهو الذي جزم به القاضي في التعليق ، فعلى هذا لو خلف زوجاً ، وبنت بنت ، وبنت أخ ، للزوج النصف ، والباقي بينهما نصفين على المنصوص ، وتصح من أربعة ، وعلى الثاني : الباقي بينهما بعد النصف على ثلاثة أسهم . كما يقسم بين من أدلوا به ، إذ الزوج يرث مع البنت الربع ، ويبقى الباقي بينهما وهو النصف والربع على ثلاثة ، فلما أخذ الزوج هنا النصف ، كان الباقي بينهما على ثلاثة ، وتصح من ستة ، للزوج ثلاثة ، ولبنت البنت سهمان ، ولنت الأخ سهم ، ولو كان مكان الزوج زوجة ، فعلى الأول تصح من ثمانية ، للزوجة الربع اثنان ، ولكل واحد منهما ثلاثة ، وعلى الثاني تصح من ثمانية وعشرين ، للزوجة الربع سبعة ، والباقي بينهما على سبعة ، لبنت البنت أربعة أسباع باثني عشر ، ولبنت الأخ ثلاثة أسباع بتسعة . والله أعلم .
قال : ويورث الذكور والإِناث من ذوي الأرحام بالسوية ، إذا كان أبوهم واحداً ، وأمهم واحدة ، إلا الخال والخالة ، فإن للخال الثلثين ، وللخالة الثلث .
ش : ضابط هذا إذا أدلى جماعة بوارث واحد واستوت منازلهم منه ، وهو الذي احترز عنه الخرقي بقوله : إذا كان أبوهم واحداً وأمهم واحدة ، فنصيبه بينهم بالسوية ذكرهم وأنثاهم ، على المشهور من الروايات ، والمختار لجمهور الأصحاب ، قال أبو الخطاب : عليها عامة شيوخنا . لأنهم يرثون بالرحم المجردة ، فاستوى ذكرهم وأنثاهم [ كولد الأم ] ( والرواية الثانية ) للذكر مثل حظ الأنثيين ، إلاولد ولد الأم ، لأنهم فرع على ذوي الفروض والعصبات ، فثبت فيهم حكمهم ، وخرج ولد ولد الأم ، لأنهم فرع على من ذكره وأنثاه سواء ، فغايته أن يثبت للفرع ما للأصل ، ( والرواية الثالثة ) يسوى بينهم إلا الخال والخالة ، وهو اختيار الخرقي ، والشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة ، وقال :
____________________
(2/273)
استحساناً . يعني أن مقتضى الدليل التسوية ، خرج منه الخال والخالة على سبيل الاستحسان ، ولم يذكر دليله ، لكن إن كان لهذا أصل فيعكر على تنزيل الخال بمنزلة الأم .
2292 وذكر بعضهم أنه روي عن النبي أنه قال : ( الخال والد إذا لم يكن دونه أم ، والخالة أم إن لم يكن دونها أم ) وقد أشار أبو محمد إلى ضعف هذا القول ، وقال : لا أعلم له وجهاً . قال القاضي : لم أجد هذا بعينه عن أحمد . ومثال المسألة ابن أخت مع أخته ، أو ابن بنت مع أخته ، المال بينهما نصفين على الأول ، وأثلاثاً على الثاني .
واحترز بقوله : إذا كان أبوهم واحداً ، وأمهم واحدة . عما لو اختلف أبوهم وأمهم ، كابن بنت ، وبنت بنت أخرى ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، واحترزنا بقولنا : ولم يتفاضلوا بالسبق . عما لو خلف بنت بنت ، وبنت بنت بنت ، فإن المال لبنت البنت ، ولهذه المسألة مزيد تحقيق ، ليس هذا موضعه ، والله أعلم .
قال : وإذا كان ابن أخت ، وبنت أخت أخرى ، أعطي ابن الأخت حق أمه النصف ، وبنت الأخت حق أمها النصف .
ش : هذا الذي احترز عنه الخرقي فيما تقدم بقوله : إذا كان أبوهم واحداً وأمهم واحدة . وهذا هو القاعدة ، وهو أن الجماعة إذا أدلوا بجماعة ، جعلت كل واحد منهم بمنزلة أقرب وارث إليه أدلى به ، في إرثه ، وحجبه ، والحجب به ، ففي مسألتنا ابن الأخت يدلي بأمه ، وبنت الأخت الأخرى تدلي بأمها ، فيكون المال بينهما نصفين كأميهما بغير خلاف . .
قال : وإذا كان ابن وبنت أخت ، وبنت أخت أخرى ، فللابن وابنة الأخت النصف بينهما نصفين ، ولبنت الأخت الأخرى تدلي بأمها ، فيكون المال بينهما نصفين كأميهما بغير خلاف . .
قال : وإذا كان ابن وبنت أخت ، وبنت أخت أخرى ، فللابن وابنة الأخت النصف بينهما نصفين ، ولبنت الأخت الأخرى النصف .
ش : هذا أيضاً مما تقدم ، فللابن وأخته النصف ، حق أمهما ، بينهما نصفين ، عى مختاره ومختار الجمهور ، وعلى الوراية الأخرى : يكون بينهما على ثلاثة ، ولبنت الأخت الأخرى النصف حق أمها وتصح المسألة من أربعة على رأي الجمهور ، وعلى الرواية الأخرى من ستة والله أعلم .
قال : وإذا كن ثلاث بنات أخوات متفرقات ، كان لبنت الأخت من الأب والأم ثلاثة أخماس المال ، ولبنت الأخت من الأم الخمس ، ولبنت الأخت من الأب الخمس ، جعلن مكان أمهاتهن .
ش : هذا أيضاً مما تقدم ، وقد صرح الخرقي رحمه الله بأنهن جعلن مكان أمهاتهن ، فبنت الأخت من الأبوين مكان أمها فلها النصفل ، وبنت الأخت من الأب مكان أمها ، لها السدس تكملة الثلثين ، وبنت الأخت من الأم مكان أمها ، لها السدس ،
____________________
(2/274)
فأصل المسألة من ستة ، وترجع بالرد إلى خمسة فيقسم المال بينهم على ذلك ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن كن ثلاث عمات متفرقات .
ش : هذا مبني على قاعدة ، وهو أن الجماعة إذا أدلوا بواحد ، واختلفت منازلهم منه ، فإن نصيبه يقسم بينهم ، على حسب ميراثهم منه لو ورثوه ، ففي مسألتنا العمات يدلين بالأب على المذهب ، ومنازلهم منه مختلفة ، فإحداهن أخته لأبويه ، والأخرى لأبيه ، والأخرى لأمه ، فتقسم نصيبه بينهن على حسب ميراثهن منه ، وميراثهن منه لأخته لأبيه وأمه النصف ، ولأخته لأبيه السدس تكملة الثلثين ، ولأخته لأمه السدس ، فتقسم نصيبه بينهن على خمسة ، ونصيبه والحال هذه جميع المال ، إذ لا وارث له معنا غيرهن ، والله أعلم .
قال : فإن كن ثلاث بنات إخوة متفرقين ، فلبنت الأخ من الأم السدس ، وما بقي فلبنت الأخ من الأب والأم .
ش : هذا أيضاً مبني على ما تقدم قبل ، ولو ذكره رحمه الله قبل مسألة العمات لكان أولى ، إذ بنات الإِخوة ينزلن منزلة الإِخوة ، ولو مات رجل وخلف ثلاثة إخوة متفرقين ، سقط الأخ من الأب بالأخ من الأبوين ، وكان للأخ من الأم السدس ، والباقي للأخ من الأبوين ، فكذلك هنا ، لبنت الأخ من الأم السدس ، والباقي لبنت الأخ من الأبوين ، والله أعلم .
قال : وإذا كن ثلاث بنات عمومة متفرقين ، فالمال لبنت العم من الأب والأم ، لأنهن أقمن مقان آبائهن .
ش : هذ أيضاً مبني على ما تقدم ، وقد نص أحمد رحمه الله على ذلك ، وقد علله الخرقي رحمه الله ، بأنهن أقمن مقام آبائهن ، فبنت العم من الأبوين بمنزلة أبيها ، وبنت العم من الأب بمنزلة أبيها ، وبنت العم من الأم بمنزلة أبيها ، ولو مات شخص وخلف ثلاثة أعمام ، متفرقين ، كان الميراث للعم للأبوين ، إذ لا ميراث للعم لأب مع العم للأبويه ، والعم للأم من ذوي الأرحام .
واعلم أن المنصوص وكلام الخرقي فيهذه المسألة يلتفت إلى أن العمومة ليست جهة ، وبيانه أنا إذا لم نجعلها جهة فالعمومة من جهة الأبوة ، والقاعدة أن الوارث من ذوي الأرحام إذا اجتمعوا من جهة واحدة ، فمن سبق إلى الوارث ورث وأسقط غيره ، وبنت العم للأبوين ، وبنت العم للأب قد سبقنا بنت العم للأم إلى الوراث ، فتسقط بهما ، ثم بنت العم للأب تسقط ببنت العم للأبوين ، وأثبت أبو الخطاب العمومة جهة ، فلزم على قوله أن المال يكون لبنت العم من الأم إذا نزلناها أبا ، على المشهور ، وبيانه أن ذوي الأرحام إذا اجتمعوا من جهتين ، فإنك تنزل البعيد
____________________
(2/275)
حتى يلحق بمن جعل بمنزلته ، وإن سقط به القريب ، ففي صورتنا إذا جعلنا العمومة جهة ، فبنت العم من الأبوين بمنزلة أبيها ، وكذلك بنت العم للأب ، وجهتهما واحدة ، وبنت العم للأم بمنزلة الأب ، فكأن الميت مات وخلف أباه وعمه ، ولا عبرة بالسبق إلى الوارث لاختلاف الجهة ، وإذا خلف الميت أباه وعمه ، كان المال للأب دون العم ، فلزم أن المال لبنت العم من الأم ، لتنزيلها أباً ، دون بنت الأبوين ، لتنزيلها عماً ، وقد بعد هذا القول ، والله أعلم .
قال : فإن كن ثلاث خالات متفرقات ، وثلاث عمات متفرقات ، فالثلث بين الثلاث خالات على خمسة أسهم ، والثلثان بين العمات على خمسة أسهم ، فتصح من خمسة عشر سهماً ، للخالة التي من قبل الأب والأم ثلاثة أسهم ، وللخالة التي من قبل الأب سهم ، وللخالة التي من قبل الأم سهم ، وللعمة التي من قبل الأب والأم ستة أسهم ، وللعمة التي من قبل الأب سهمان ، وللعمة التي من قبل الأم سهمان .
ش : إنما كان كذلك لأن الخالات بمنزلة الأم ، والعمات بمنزلة الأب ، ولو خلف الشخص أباه وأمه ، كان لأمه الثلث ، والباقي لأبيه ، ثم القاعدة أن الجماعة إذا أدلوا بواحد ، فنصيبه بينهم على حسب ميراثهم منه ، والخالات يدلين بالأم ، فنصيبها بينهن على حسب ميراثهن منها ، وميراثهن منها أن لأختها لأبويها النصف ، ولأختها لأبيها السدس تكملة الثلثين ، ولأختها لأمها السدس ، أصل مسألتهن من ستة ، وترجع بالرد إلى خمسة ، فتقسم الثلث بينهم على خمسة ، والقول في العمات كالقول في الخالات سواء ، وإذا أردت تصحح المسألة قلت : أصل المسألة من ثلاثة ، للأم الثلث واحد على خمسة ، لا يصح ولا يوافق ، وللأب الثلثان اثنان على خمسة ، لا يصح أيضاً ولا يوافق ، والأعداد متماثلة ، إذ هي خمسة وخمسة ، فتجتزيء بأحد العددين ، وتضربه في أصل المسألة يصير المجموع خمسة عشر ، للخالات الثلاث خمسة أسهم ، بينهن على خمسة ، للتي من قبل الأبوين ثلاثة ، وللتي من قبل الأب سهم ، وللتي من قبل الأم سهم ، وللعمات الثلثان ، عشرة أسهم على خمسة ، للتي من قبل الأبوين ستة ، وللتي من قبل الأب سهمان ، وللتي من قبل الأم سهمان ، والله أعلم .
( باب مسائل شتى في الفرائض )
ش : يعني متفرقة ، لأنه جمع في هذا الباب مسائل مختلفة ، قال الله تعالى : 19 ( { تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } ) أي مفترقين وقال تعالى : 19 ( { إن سعيكم لشتى } ) أي مختلفاً .
قال : والخنثى المشكل يرث نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى .
الخنثى : الذي له ذكر وفرج امرأة ، ثم إن لم يتبين هل هو رجل أو امرأة ، وأشكل علينا فهو مشكل ، يرث نصف ميراث ذكر ، ونصف ميراث أنثى ، إعمالًا
____________________
(2/276)
لحالتيه ، وحذاراً من ترجيح إحداهما بلا مرجح ، وصار هذا كما لو ادعي نفسان داراً بأيديهما ، ولا بينة لهما ، فإنها تقسم بينهما ، كذلك هنا .
2293 وأيضاً فإن هذا قول ابن عباس ، ولا يعرف له مخالف في الصحابة ، وطريق العمل في ذلك أن تعمل المسألة على أنه ذكر ، ثمعلى أنه أنثى ، ثم تضرب إحداهما في الأخرى إن تباينتا ، أو وفقها إن توافقتا ، وتجتزيء بإحداهما إن تماثلثتا ، ثم كل من له شيء من إحدى المسألتين مضروب في الأخرى أو في وفقها ، أو يجمع ما له منهما إنما تماثلتا ، فتقول في رجل خلف ابنا ، وبنتا ، وولداً خنثى ، مسألة الذكورية من خمسة ، ومسألة الأنوثية من أرب ، ة ، وهما متباينتان ، فتضرب إحداهما في الأخرى ، تبلغ عشرين ، ثم تضربها في اثنين ، تبلغ أربعين ، ثم تقول : الابن له من مسألة الذكورية سهمان ، وتضرب في مسألة الأنوثية أربعة بثمانية ، وله من مسألة الأنوثية سهمان ، تضرب في مسألة الذكورية خمسة بعشرة ، مجموع ذلك ثمانية عشر ، وللأنثى من مسألة الذكورية سهم ، يضرب في أربعة بأربعة ، ومن مسألة الأنوثية سهم ، في خمس بخمسة ، المجموع تسعة ، وللخنثى من مسألة الذكورية سهمان في أربعة بثمانية ، ومن مسألة الأنوثية سهم ، في خمسة بخمسة ، المجموع ثلاثة عشر سهماً ، والله أعلم .
قال : فإن بال فسبق البول من حيث يبول الرجل فليس بمشكل ، وحكمه في الميراث وغيره حكم رجل ، وإن كان من حيث تبول المرأة فله حكم المرأة .
ش : قد تقدم أن الخنثى الذي له ذكر رجل وفرج امرأة ، فيعتبر بمباله ، فءن بال من ذكره فهو رجل ، حكمه حكم الرجال في جميع الأحكام ، وإن بال من رجه فهو امرأة ، حكمه حكم النساء في جميع الأحكام ، وقد حكى ابن المنذر هذا إجماعاً .
2294 وروى عن علي ومعاوية .
2295 وروى أيضاً عن النبي ، وإن بال من ذكره وفرجه اعتبر أسبقهما ، فإن سبق البول من ذكره فهو رجل ، وإن سبق من فرجه فهو امرأة ، وهذه الصورة التي ذكرها الخرقي ، وهي تدل على الأولى بطريق التنبيه ، لأن السبق له مزية ، فتترجح إحدى العلامتين به ، وقول الخرقي : وإن كان من حيث . أي وإن كان السبق ، وإن خرج منهما معاً اعتبرنا أكثرهما ، فجعلنا الحكم له ، إذ الكثرة لها مزية ، وإن استويا وقف أمره حتى يبلغ ، فإن ظهرت فيه علامات الرجال من نبات لحيته ، وخروج المني من ذكره فهو رجل ، وإن ظهرت فيه علامات النساء من الحيض والحمل ونحوه فهو امرأة ، فإن لم يظهر شيء . من ذلك فهو المشكل ، حكمه ما تقدم ، والله أعلم .
قال : وابن الملاعنة ترثه أمه وعصبتها ، فإن خلف أما وخالا ، فلأمه الثلث وما بقي فللخال .
ش : إذا رمى رجل امرأته بالزنا ، وانتفى من ولدها ، ولاعنها ، فإن الولد ينتفي
____________________
(2/277)
عنه بشرطه ، فلا يرثه هو ولا أحد من عصباته ، وترث أمه وذووا الفرض منه فروضهم ، بلا نزاع ، ثم اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله بعد ذلك ، فروى عنه أبو الحارث ومهنا أنها هي عصبته ، فإن لم تكن فعصبتها عصبته .
2296 لما روى واثلة بن الأسقع أن رسول الله قال : ( تحوز المرأة ثلاثة مواريث ، عتيقها ، ولقيطها ، وولدها الذي لاعنت عليه ) رواه أبو داود ، والترمذي .
2297 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ، ثم لورثتها من بعدها . رواه أبو داود . ( وروى عنه الأثرم وحنبل ) أن عصبتها عصبته ، وهو اختيار الخرقي ، والقاضي ، وغيرهما ، لعموم قوله عليه السلام : ( ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر ) متفق عليه ، وعصبة الأمم هم أولى رجل ذكر .
2298 وعن عمر رضي الله عنه أنه ألحق ولد الملاعنة بعصبة أمه .
2299 ولا شك أن الصحابة عنهم قولان ، فلذلك عن أحمد روايتان ، ( وعنه رواية ثالثة ) حكاها القاضي : إن كان له ذو فرض رد عليهم ، وإن لم يكن ذو فرض بحال فعصبته عصبة أمه ، والذي حكاه أبو محمد عن القاضي أنه فسر الرواية بهذا ، ويتفرع على الخلاف إذا خلف أمه وخاله ، فلأمه الثلث ، وما بقي للخال على الرواية الثانية ، وعلى الأولى والثالثة الكل للأم ، لكن على الأولى تأخذ الباقي بعد فرضها بالتعصيب ، وعلى الثالثة تأخذه بالرد ، ولو خلف أخته وابن أخيه ، فلأخته النصف ، والباقي لابن أخيه على الرواية الأولى والثانية ، وعلى الثالثة الباقي للأخت بالرد .
( تنبيه ) حكم ولد الزنا حكم الولد المنفي باللعان على ما تقدم ، وقولنا : إن الأم عصبة الملاعن ، أو إن عصبتها عصبته . هذا في الميراث خاصة ، فلا يتعدى إلى غيره من ولاية النكاح ، والعقل ، وغير ذلك ، والله أعلم .
قال : والعبد لا يرث ، ولا له مال فيورث عنه .
ش : العبد لا يورث بالإِجماع ، إذ لا مال له فيورث عنه ، لأنه لا يملك ، وإن قلنا يملك ، فملكه ملك ناقص ، يزول إلى سيده بزوال ملكه إلى رقبته .
2300 بدليل قوله عليه السلام : ( من باع عبداً وله مال ، فماله للذي باعه ، إلا أن يشترطه المبتاع ) وكما أنه لا يورث لا يرث كالمرتد ، بجامع النقص الذي فيه ، وحكم المدبر ، والمعلق عتقه بصفة ، وأم الولد حكم القن ، أما المكاتب فيحث حكم بحريته بأداء الجميع ، أو بأداء الثلاثة الأرباع ، أبو بملك الوفاء ، فحكمه حكم الأحرار ،
____________________
(2/278)
وإلا فحكمه حكم الأرقاء ، والله أعلم .
قال : ومن كان بعضه حراً ، يرث ويورث ويحجب على مقدار ما فيه من الحرية .
ش : المعتق بعضه يرث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية ، ويورث عنه ما كسب بجزئه الحر .
2301 والأصل في ذلك ما روى عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي قال : ( إذا أصاب المكاتب حداً أو ميراثاً ، ورث بحسب ما عتق منه ، وأقيم عليه الحد بحسب ما عتق منه ) رواه الدارقطني ، وأبو داود ولفظه ( إذا أصاب المكاتب حداً ، أو ورث ميراثاً ، يرث على قدر ما عتق منه ) ورواه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي قال : ( المكاتب يعتق بقدر ما عتق منه ) ورواه الترمذي وحسنه ، قال أبو العباس : وهو إسناد جيد ، يجب العمل به . وهذا الحديث دل على شيئين ( أحدهما ) أن المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ( والثاني ) أن المعتق بعضه يحد ، ويودي ، ويرث بقدر ما عتق منه .
230( فالحكم الأول ) عارضه حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي أنه قال : ( المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم ) فصار الجمهور من العلماء إليه ، وكأنهم رأوا أنه ناسخ لما تقدم ، أما ( الحكم الثاني ) فلم يعارضه معارض فوجب العمل به ، ولا يلزم من نسخ عتقه بأداء البعض ، نسخ حكم آخر في المعتق بعضه ، لأن هذا حكم مستقل ، يكون في المكاتب وفي غيره ، واتفق أنه إذا ذاك كان في المكاتب ، وأكثر ما في هذا ارتفاع بعض أنواع المعتق بعضه ، لا ارتفاع حكم المعتق بعضه .
2303 ثم يؤيد هذا أن علياً وابن عباس فيما أظن أفتيا بهذا ، وهما راويا الحديث ، فدل على تقرر ذلك عندهما ، وأنهما فهما منه ما قلناه ، وأيضاً فإنه يجب أن يثبت لكل بعض حكمه ، كما لو لكان الآخر مثله ، وإلا لا ترجيح لأحد البعضين على الآخر .
إذا تقرر هذا فقال : إنه يرث ، ويحجب على مقدار ما فيه من الحرية . ومثال ذلك إذا قلنا مات شخص وخلف أماً ، وبنتاً نصفهما حر ، وأباً ، فإنك تقول : للبنت بنصف حريتها نصف ميراثها ، وهو الربع ، وللأم مع حريتها ورق البنت الثلث ، فقد حجبتها بحريتها عن السدس ، فبنصف حريتها تحجبها عن نصف السدس ، يبقى لها
____________________
(2/279)
الربع ، لو كانت حرة فلها بنصف حريتها نصفه وهو الثمن ، والباقي للأب ، وتصح المسألة من ثمانية ، للبنت الربع سهمان ، وللأم الثمن سهم ، والباقي للأب ، ولو كانت بنت نصفها حر ، وأم ، وعم ، فللبنت بنصف حريتها نصف النصف وهو الربع ، وبنصف حريتها حجبت الأم عن نصف السدس ، فبقي للأم الربع ، والباقي للعم ، وتصح من أربعة ، وعلى هذا .
( تنبيه ) قال بعض أصحابنا : إن ما يرثه المعتق بعضه مثل كسبه ، إن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة كان بينهما ، وإن كانت مهايأة فهل هو لمن الموت في نوبته ، أو بينهما ؟ على وجهي الأكساب النادرة ، قال أبو العباس : والصواب الذي عليه جمهور الأصحاب أن ميراثه له ، لا حق للسيد فيه مطلقاً ، والله أعلم .
قال : وإذا خلف ابنين ، فأقر أحدهما بأخ ، فللمقر له ثلث ما في يد المقر ، وإن كان أقر بأخت فلها خمس ما في يده .
ش : إذا أقر بعض الورثة بوارث للميت ، لزمه من إرثه بقدر حصته ، لإِقراره له به ، فإذا خلف ابنين فأقر أحدهما بأخ ، فله ثلث ما في يده ، لأنهم إذا كانوا ثلاثة كان المال بينهم أثلاثاً ، فالمقر في يده النصف ، والذي يستحقه بمقتضى إقراره الثلث ، فالفاضل عنه السدس ، وهو ثلث ما في يده ، يدفعه إلى المقر له ، كما تضمنه إقراره ، وإن أقر بأخت فلها خمس ما في يده ، لأنه والحال هذه المال بينهم أخماساً ، وفي يد المقر النصف خمسان ونصف ، والذي يستحقه الخمسان ، فالفاضل عنهما نصف خمس جميع المال ، وهو خمس النصف الذي في يده ، فيدفعه لها ، ونبه الخرقي رحمه الله بذكر هذه المسألة على مذهبي أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله ومن وافقهما ، فإن أبا حنيفة يقول : يدفع الابن المقر إلى الابن المقر به نصف ما في يده ، لأنه يقر أنهما سواء ، و الشافعي يقول : لا يدفع إليه شيء ، إذ شرط الإِرث ثبوت النسب ولم يوجد .
قال : والقاتل لا يرث المقتول ، عمداً كان القتل أو خطأ .
ش : القاتل لا يرث المقتول في الجملة .
2304 لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي [ قال : ( لا يرث القاتل شيئاً ) .
2305 وعن أبي هريرة ، أن رسول الله ] قال : ( القاتل لا يرث ) رواه الترمذي .
2306 وعن عمر رضي الله عنه : سمعت النبي يقول : ( ليس للقاتل
____________________
(2/280)
ميراث ) رواه مالك في الموطأ ، وأحمد ، وابن ماجه .
2307 وقد عمل عمر رضي الله عنه على ذلك ، فأعطى دية ابن قتادة المدلجي لأخيه دون أبيه ، وقد كان حذفه بسيف فقتله ، ومثل هذا يشتهر ، ولم ينكر فكان إجماعاً ، ولأن التوريث يفضي إلى تكثير القتل المطلوب عدمه ، لأنه ربما استعجل قتل مورثه ليرثه .
إذا تقرر هذا فكلام الخرقي رحمه الله عام في كل قتل ، سواء تعلق به مأثم ، كقتل العامد ، والباغي العادل ، أو لم يتعلق به ، كقتل الخطأ ونحو ذلك ، وسواء كان القتل مضموناً بقصاص ، أو دية ، أو كفارة ، أو لم يكن ، كالقتل قصاصاً ، أو حداً ، أو دفعاً ، وقتل العادل الباغي والباغي العادل ، إن لم يضمن الباغي ، وهو الصحيح ، والمتفق عليه عندنا في ذلك ، القتل المضمون ، وإن كان خطأ لا إقم فيه ، سداً للذريعة ، وطلباً للتحرز عنه ، أما غير المضمون كما تقدم فيه ثلاث روايات ( إحداها ) لاة إرث مطلقاً ، وهو مقتضى عموم كلام الخرقي ، وعموم الأحاديث ، وهو أمشى على سد الذريعة ( والثانية ) لا يمنع مطلقاً ، صححه أبو الخطاب في الهداية ، لأن مضمونيته تدل على المؤاخذة به ، [ وذلك يناسب عدم الإِرث عقوبة له ، وعدم مضمونيته تدل على نفي الحرج عنه ] ، وذلك يناسب الإِرث ، ( والثالثة ) لا يرث الباغي العادل ، ويرث من عداه ممن لم يضمن قتله ، جزم به القاضي في الجامع الصغير ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وأبو محمد في المغني ، في قتال أهل البغي ، لأن الباغي آثم ظالم ، فناسب أن لا يرث ، مع دخوله في عموم النص والمعنى ، والعادل ، والقاتل قصاصاً أو حداً ، ونحوهم ، مأذون لهم في الفعل ، مثابون عليه ، وذلك لا يناسب نفي الإِرث ، بل الإِرث طلباً لإِقامة الحدود ونحوها ، المطلوب إقامتها شرعاً ، فمنع الإِرث ثم سد لوقوع القتل المطلوب عدمه ، ومنع الإِرث هنا مفض إلى سد المطلوب وقوعه شرعاً ، فهو عكسه ، والله أعلم .
قال : ولا يرث مسلم كافراً ، ولا كافر مسلماً ، إلا أن يكون معتقاً فيأخذ ماله بالولاء .
ش : لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم .
2308 لما في الصحيحين وغيرهما عن أسامة أن رسول الله قال : ( لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ) .
2309 وفي الصحيحين أيضاً عن أسامة ، أنه قال : يا رسول الله أين تنزل غداً
____________________
(2/281)
في دارك بمكة ؟ فقال : ( وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ؟ ) وكان عقيل ورث أبا طلب ، ولم يرثه جعفر ، ولا عليّ شيئاً ، لأنهما كانا مسلمين ، وكان عقيل وطالب كافرين .
2310 وكان عمر يقول : 16 ( لا يرث المؤمن الكافر ) .
2311 وعن محمد بن الأشعث ، أن عمة له يهودية أو نصرانية توفيت ، فذكر محمد ذلك لعمر بن الخطاب ، وقال : من يرثها ؟ فقال له عمر : يرثها أهل دينها . ثم أتى عثمان بن عفان فسأله عن ذلك ، فقال له عثمان : أتراني نسيت ما قال لك عمر بن الخطاب ؟ يرثها أهل دينها . رواه مالك في الموطأ ، مع أن هذا قد حكي إجماعاً ، أما في إرث الكافر من المسلم فبلا نزاع ، وأما في المسلم من الكافر فقال أحمد : ليس فيه بين الناس اختلاف . وحكي فيه خلاف ضعيف .
واستثنى الخرقي رحمه الله ما إذا أعتق المسلم كافراً ، أو الكافر مسلماً ، فإنه يرثه بالولاء وهو إحدى الروايتين عن أحمد .
2312 واحتج بأن علياً قال : الولاء شعبة من الرق . انتهى فكما أن الرق يثبت مع اختلاف الدين ، كذلك الولاء يثبت مع اختلاف الدين ، وفي هذا الإِستدلال نظر ، فإنه لا نزاع في ثبوت الولاء ، إنما النزاع في ثبوت الإِرث به ، ولعل أحمد رحمه الله فهم أن المراد بقول عليّ الإرث .
2313 وكذا حكي عن علي الإرث . 2314 وقد استدل لذلك بما روي عن جابر ، أن النبي قال : ( لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته ) رواه الدارقطني ، وروي موقوفاً عن جابر ، ويكون المراد [ بالعبد ] من كان عبده مجازاً ، وإلا فالعبد لا يورث بالإِجماع ، ( وبالجملة ) هذه الرواية اختيار عامة الأصحاب ، حتى أن القضي في الجامع الصغير ، والشريف في خلافه ، والشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة ، وابن البنا في الخصال ، لم يذكروا غيرها ، وقال أبو الخطاب في هدايته : إنها الأظهر . ( والرواية الثانية ) لا يتوارثان ، لما تقدم من قوله عليه السلام : ( لا يرث الكافر المسلم ) وغير ذلك .
2315 ولأنه عليه السلام شبه الولاء بالنسب ، بقوله : ( الولاء لحمة كلحمة النسب ) وإذا لم يثبت الإرث مع اختلاف الدين في النسب ، ففي الولاء أجدر ، وهذه
____________________
(2/282)
الرواية اختيار أبي محمد ، وعليها إن كان للمعتق عصبة على دين المعتق ورثوه ، لأن وجود المعتق في نظر الشارع والحال هذه كالعدم ، وإن أسلم الكافر من المعتق ، أو المعتق ورث المعتق ، رواية واحدة لزوال المانع . انتهى .
ومفهوم كلام الخرقي أن المسلم يرث المسلم ، وهو واضح ، وأن الكافر يرث الكافر ، ولا نزاع في ذلك إذا اتفق الدين والدار ، وهو مقتضى ما تقدم من الحديث ، وقصة عقيل وطالب ، وقصة عمر رضي الله عنه
2316 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي قال : ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه وللترمذي مثله من حديث جابر ، ولم يقل : شتي ، ومفهومه أن أهل الملة الواحدة يتوارثون ، أما إن اختلفت مللهم فهل يتوارثون ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) يتوارثون اختارها الخلال ، وهي مقتضى كلام الخرقي ، لأن الله تعالى ذكر مثراث الآباء من الأبناء ، والأبناء من الآباء ، وغيرهم من الأقارب ذكراً عاماً ، فلا يترك ذلك إلا فيما تيقن خروجه والذي تيقن خروجه بالنص أو الكافر لا يرث المسلم ، والمسلم لا يرث الكافر ، إذ قوله عليه السلام : ( لا يتوارث أهل ملتين ) يحتمل أن يحمل على ذلك ، إذ هو المتيقن ، ويعضد هذا قوله تعالى : 19 ( { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } ) ( والثانية ) لا يتوارثون ، اختارها أبو بكر ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، لظاهر قوله عليه السلام : ( لا يتوارث أهل ملتين ) ومثله يصلح للتخصيص ، وأما إن اختلفت الدار واتفق الدين ، كالذمي مع الحربي وعكسه ، فالمنصوص وهو اختيار أبي محمد التوارث ، عملًا بظاهر الحديث ، ومنع القاضي وكثير من الأصحاب التوارث ، لانتفاء الموالاة بينهما ، وعكس ذلك لو اتفقت الدار واختلف الدين ، كحربيين اختلف دينهما ، فإن القاضي قال : يتوارثان . وخالفه أبو محمد ، وهو أوفق للمنصوص ، والله أعلم .
( تنبيه ) قال القاضي وعامة الأصحاب : إن الكفر ثلاث ملل ، اليهودية ، والنصرانية ، ومن عداهم ، لأن من عداهم يشملهم أنه لا كتاب لهم . قال أبو محمد : ويحتمل كلام أحمد أن يكون الكفر مللًا كثيرة ، فيكون المجوس ملة ، وعبدة الأوثان ملة ، وعباد الشمس ملة ، قال : وهذا أصح إن شاء الله تعالى ، لظاهر قوله عليه السلام : ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ) قال : ولم نسمع عن أحمد تصريحاً بتقسيم الملل ، قلت : وظاهر نقل أبي البركات أن أحمد نص على أنهم ثلاث ملل ، والله أعلم .
قال : والمرتد لا يرث أحداً إلا أن يرجع قبل قسمة الميراث .
ش : المرتد لا يرث أحداً لا من المسلمين ولا من الكفار ، أما من المسلمين
____________________
(2/283)
فلما تقدم من قوله عليه السلام : ( لا يرث المسلم الكافر ) الحديث ، وأما من الكفار فلأنه لم يثبت له حكم ملتهم ، بدليل أنه لا يقر على كفره ، ولا تحل ذبيحته ، ولا نكاحه ، إن كان امرأة ، فإن مات له موروث فرجع قبل أن يقسم الميراث ، وكان ممن يقبل رجوعه ، فحكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم قبل الميراث ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : وكذلك من أسلم على ميراث قبل أن يقسم قسم له .
ش : هذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار الشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما .
2317 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم ، وكل قسم أدركه قسم الإِسلام فإنه على قسم الإِسلام ) رواه أبو داود وابن ماجه .
2318 وروى سعيد في سننه من طريقين ، عن عروة وابن أبي مليكة عن النبي أنه قال : ( من أسلم على شيء فهو له ) .
2319 ويروى أن عمر وعمثان رضي الله عنهما قضيا بذلك مختصر ، رواه ابن عبد البر في التمهيد ، والحكمة في ذلك والله أعلم الترغيب له ، والحث على الإِسلام ، فعلى هذا إن أسلم قبل قسم البعض ورث ما بقي ، فإن كان الوارث واحداً فتصرفه في التركة وحيازتها بمنزلة قسمها ، ذكر ذلك أبو محمد ( والرواية الثانية ) لا شيء له ، لظاهر قوله عليه السلام : ( لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم ) وهذا حين الموت كان كافراً ، فلا يرث بمقتضى ظاهر الحديث .
ولو زال مانع الرق قبل القسمة فقال التميمي : يخرج إرثه على الإِسلام قبل القسمة ، وليس بشيء ، فإن أحمد نص على التفرقة في رواية محمد بن الحكم ، فامتنع الإِلحاق ، ثم إن الأصل هو المنع ، لقيام المانع حال الموت ، خرج منه الإِسلام ترغيباً فيه ، فبقي ما عداه على الأصل ، إذ لا أثر فيه ، ولا هو في معنى ما فيه الأثر ، إذ لا شيء من الطاعات يقاوم الإِسلام ، ثم العتق ليس من فعل العبد فلا يرغب فيه ، والله أعلم .
قال : ومن قتل على ردته فماله فيء .
ش : هذا المشهور من الروايات ، والمختار عند القاضي وأصحابه وعامة الأصحاب ، لأنه لا يرث أقاربه المسلمون ، لقوله عليه السلام : ( لا يرث المسلم الكافر ) ، وقوله : ( لا يتوارث أهل ملتين ) ولا أقاربه الذين اختاد ديهم ، لأنه لا يرثهم ، فلا يرثونه ، لما تقدم من أنه لم يثبت له حكم ملتهم ، وإذا امتنع إرث الفئتين منه ، تعين كون ماله فيئاً ، لعدم الوارث له شرعاً ( والرواية الثانية ) يرثه ورثته من المسلمين ، جعلا
____________________
(2/284)
للردة بمنزلة الموت ، لأنها إما أن تزيل أملاكه ، وإما أت تزلزلها ، وتصيره كالمريض المخوف عليه ، فيتعلق حق ورثته إذاً ، ولا يزول حقهم إلا بنص ، ولا نص .
2320 وقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه عند رجوعه إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين . قال الخلال : وهذه الرواية أشبه بقوله . ( والرواية الثالثة ) يكون لقرابته الذين اختار دينهم ، بشرط أن لا يكونوا مرتدين ، لمفهوم ( لا يرث الكافر المسلم ) مفهومه أن الكافرين يتوارثان ، وقد رجع أحمد عن هقا القول في رواية ابن منصور وقال : كنت أقول : يرثه أهل ملته . ثم جبنت عنه ، والله أعلم .
قال : وإذا غرق المتوارثان ، أو كانا تحت هدم ، فجهل أولهما موتاً ، ورث بعضهم من بعض .
2321 ش : نص أحمد على ذلك ، معتمداً على أنه قول عمر ، وعلي ، وشريح ، وإبراهيم ، والشعبي ، انتهى .
2322 قال الشعبي : وقع الطاعون بالشام عام عمواس ، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم ، فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر : أن ورثوا بعضهم من بعض . ومعنى توريث بعضهم من بعض ، أن يقدر أحدهما مات أولًا ، ويورث الآخر من تركته ، ثم يقسم إرثه منها على ورثته الأحياء ، ثم تصنع بالآخر وتركته كذلك ، فعلى هذا لو غرق أخوان أحداهما مولى زيد ، والآخر مولى عمرو ، صار مال كل واحد منهما لمولى الآخر ، ولو غرق أخ وأخت ، وخلفا أماً ، وعماً ، وزوجاً ، فيقدر الأخ مات أولًا ، وقد خلف زوجته وأمه وأخته ، وعمه ، فللزوجة الربع وللأم الثلث ، وللأخت النصف ، ولا شيء للعم ، أصل مسألتهم من اثني عشر ، وتعول إلى ثلاثة عشر ، للزوجة ثلاثة ، وللأم أربعة ، وللأخت ستة ، مقسومة على الأحياء من ورثتها ، وهم زوجها ، وأمها ، وعمها ، مسألتهم من ستة ، وسهامها ستة فتصح المسألتان من ثلاثة عشر ، للزوجة ثلاثة ، وللأم ستة ، أربعة من ابنها واثنان من ابنتها ، وللزوج ثلاثة ، وللعم سهم ، ثم تقدر الأخت ماتت أولًا ، وقد خلفت أخاها ، وزوجها ، وأمها ، وعمها ، للزوج النصف ، وللأم الثلث ، والباقي للأخ وهو سهم ، ولا شيء للعم ، المسألة من ستة ، والحاصل للأخ سهم ، مقسوم على ورثته الأحياء ، وهم زوجته ، وأمه ، وعمه ، مسألتهم من اثني عشر ، وسهم عليها لا يصح ، ولا يوافق ، فاضرب اثني عشر في ستة ، تبلغ اثنين وسبعين ، للزوج ثلاثة في اثني عشر ، بستة وثلاثين ، وللأم سهمان في اثني عشر ، بأربعة وعشرين ، المجموع ستون ، والباقي اثنا عشر بين زوجة الأخ ، والأم ، والعم ، للزوجة ثلاثة ، وللأم أريعة ، وللعم خمسة ، وعلى هذا .
وخرج أبو الخطاب ومن تبعه منع توارث بعضهم من بعض ، وإليه ميل أبي محمد .
____________________
(2/285)
2323 لما روى سعيد في سننه عن يحيى بن سعيد ، أن قتلى اليمامة ، وقتلى صفين ، والحرة ، لم يورثوا بعضهم من بعض ، وورثوا عصبتهم الأحياء . ولأن شرط التوريث حياة الوارث بعد موت الموروث ، وهو غير معلوم ، فامتنع التوارث للشك في شرطه ، ولأن توريثهما مع الجهل خطأ يقيناً ، لأنه لا يخلو إما أن يسبق أحدهما ، أو يموتا معاً ، وتوريث السابق بالموت ، والميت معه خطأ يقيناً بالإِجماع ، فكيف يعمل به ، فإن قيل : ففي قطع التوريث قطع توريث المسبوق بالموت ، وهو خطأ أيضاً . قلنا : هذا غير متيقن ، لأنه يحتمل موتهما جميعاً .
وعلى هذا يكون مال كل واحد من المعتقين لمولاه في المسألة الأولى ، وفي الثانية تكون مسألة الأخ من اثني عشر ، للأم الثلث أربعة ، وللزوجة الربع ثلاثة ، والباقي للعم ، ومسألة الأخت من ستة ، للأم الثلث اثنان ، وللزوج النصف ثلاثة ، والباقي للعم انتهى .
ولو تحقق الورثة السابق ، وجهلوا عينه ، فالحكم كما تقدم ، قاله القاضي وأبو البركات ، وقال أبو محمد : يعطى كل وارث اليقين ، ويقف الباقي حتى يتبين الأمر ، أو يصطلحوا عليه ، ولو علموا السابق ثم أنسوه ، فالحكم كما لو جهلوه أولفا ، وقال القاضي في خلافه : لا يمتنع أن نقول هنا بالقرعة . ولو علم موتهما معاً فلا توارث ، ولو ادعى ورثة كل ميت سبق الآخر ، وتعارضت بينتاهما ، أو لم تكن بينة ، تحالف الورثة ، لإِسقاط الدعوى ، ولم يتوارثا ، نص عليه ، وقاله الخرقي وغيره ، وقال ابن أبي موسى : يعين السابق بالقرعة ، وقال أبو الخطاب وغيره : يتوارثان ، كما لو جهل الورثة حالهما . ومن هذه المسألة خرج أبو الخطاب منع التوارث مع الجهل . والله أعلم .
قال : ومن لم يرث لم يحجب .
ش : يعني من لم يرث لانتفاء أهليته كالرقيق ، والكافر ، والقاتل لم يحجب ، لأنه معدوم شرعاً ، أشبه المعدوم حساً ، أما من لم يرث لحجب غيره ، فإنه يحجب ولا يرث ، كالإِخوة مع الأب ، يحجبون الأم من الثلث إلى السدس ، ولا يرثون ، لحجبهم بالأب ، لا لانتفاء أهليتهم ، واختلف في المحجوب حجب مزاحمة ، لا حجب منع ، كالجدة أم الأب مع ابنها ، وأم الأم إذا قلنا يحجبها ابنها ، ويستثنى من ذلك المحجوب حجب مزاحمة من العصبات ، فإنه يحجب غيره ، وإن لم يرث ، كولد الأب في باب الجد ، فإن ولد الأبوين يعادونه بهم ، وهم مع ذلك محجوبون بولد الأبوين . والله أعلم .
____________________
(2/286)
( كتاب الولاء )
( الولاء ) بفتح الواو ممدوداً ولاء العتق ، ومعناه إذا أعتق نسمة صار لها عصبة في جميع أحكام التعصيب ، عند عدم العصبة من النسب ، في الميراث ، وولاية النكاح ، وغير ذلك ، وثبوته في الجملة بالإِجماع ، وقد قال : ( الولاء لمن أعتق ) .
2324 وعن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله : ( الولاء لحمة كلحمة النسب ، لا يباع ولا يوهب ) رواه أبو يعلى الموصلي ، وأبو حاتم البستي ، وتكلم فيه البيهقي وغيره ، ورواه الطبراني من رواية نافع عن ابن عمر ، ورواه الخلال عن عبد الله بن أبي أوفي .
قال : والولاء لمن أعتق ، وإن اختلف دينهما .
2325 ش : صح أن النبي قال : ( الولاء لمن أعتق ) وفي رواية مسلم وغيره ( إنما الولاء لمن أعتق ) وللبخاري في رواية ( الولاء لمن أعطى الورق ، وولي النعمة ) وعموم هذه الألفاظ يقتضي بأن الولاء لكل معتق ، وإن اختلف الدين ، ولا نزاع في ذلك ، ويرشخه قول علي رضي الله عنه : 16 ( الولاء شعبة من الرق ) ، والله أعلم .
قال ؛ ومن أعتق سائبة لم يكن له الولاء .
ش : لما كان كلام الخرقي أولا عاماً في كل عتق ، استثنى من ذلك العتق سائبة أن يعتقه ولا ولاء له عليه ، وأصله من : تسييب الدواب . ولا نزاع في صحة العتق ، وإنما النزاع في ثبوت الولاء للمعتق ، وفيه روايتان ، حكاهما الشيخان ، المشهور منهما والمختار للأصحاب ، حتى أن القاضي في الجامع الصغير ، والشريف ، وأبا الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة ، وابن البنا وغيرهم ، لم يذكروا خلافاً أنه لا ولاء له .
2326 لأن ابن عمر رضي الله عنه أعتق سائبة ، فمات ، فاشترى ابن عمر بماله رقابا فأعتقهم ، وعلله أحمد بأنه جعله لله ، فلا يجوز له أن يرجع إليه منه شيء ( والرواية الثانية ) له عليه الولاء ، اختاره أبو محمد ، للعمومات المتقدمة .
2327 وعن هزيل بن شرحبيل قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : إني أعتقت عبداً ، وجعلته سائبة ، ومات وترك مالا ، ولم يدع وارثاً . فقال عبدالله : إن أهل الإِسلام لا يسيبون ، وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون ، وأنت ولي نعمته ، ولك ميراثه ، وإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقبله ونجعله في بيت المال . رواه البرقاني على
____________________
(2/287)
شرط الصحيح ، وللبخاري منه : إن أهل الإِسلام لا يسيبون ، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون .
2328 وقال سعيد : حدثنا هشيم ، عن منصور ، أن ابن عمر وابن مسعود قالا في ميراث السائبة : هو للذي أعتقه . والله أعلم .
قال : وإن أخذ من ميراثه شيئاً جعله في مثله .
ش : لما قال : إن المعتق سائبة لا ولاء له عليه . بين حكم ميراثه ، والمعروف المشهور أنه يصرف في مثله من الرقاب ، اتباعاً لما تقدم عن ابن عمر ، ونظرا إلى أنه جعله محضاً لله تعالى ، فتختص به هذه الجهة ، وعلى هذا هل ولاية الإِعتاق للسيد لأنه المعتق أو للإِمام لأنه النائب عن الله ؟ فيه روايتان ، وظاهر كلام الخرقي أنه خير السيد بين أخذ المال وصرفه في مثله ، وبين تركه ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن ماله لبيت المال ، لأنه لا وارث له ، فيكون ماله لبيت المال ، ويتفرع على هذا إذا مات السائبة ، وخلفه بنته ، ومعتقه ، فعلى القول بأن له عليه الولاء المال بينهما نصفين ، لها النصف بالفرض ، وللمعتق النصف بالولاء ، وعلى القول بأن ماله لبيت المال ، الجميع للبنت بالفرض والرد ، إذ الرد مقدم على بيت المال ، وعلى القول بأن ميراثه يصرف في [ مثله للبنت النصف ، والباقي يصرف في ] العتق ، إذ جهة العتق هي المستحقة للولاء ، والله أعلم .
قال : ومن ملك ذا رحم محرم عتق عليه .
2329 ش : روى الحسن عن سمرة ، أن النبي قال : ( من مالك ذا رحم محرم فهو حر ) رواه الخمس إلا النسائي ، وفي لفظ لأحمد ( فهو عتيق ) ولأبي داود عن عمر بن الخطاب موقوفاً مثل حديث سمرة ، ( وعن أحمد ) رواه أخرى لا يعتق إلا عمود النسب ولا عمل عليها ، ( وقول الخرقي ) : ومن ملك ذا رحم . أي ذا قرابة ، فيخرج غير القريب وإن كان محرماً عليه ، كالأم ونحوها من الرضاعة ، والربيبة ، وأم الزوجة ، فإنهم لا يعتقون للحديث .
2330 وقد روي عن الزهري أنه قال : 16 ( جرت السنة أن يباع الأخ والأخت من الرضاع ) .
وقوله : محرم . يخرج ذا الرحم غير المحرم ، كابن العم ونحوه ، فإنه لا يعتق إذا ملكه للحديث ، وضابط ذلك أن تقدر أحدهما رجلًا ، والآخر امرأة ، ثم تنظر فإن حرم النكاح فإنه من الرحم المحرم ، وإلا فلا ، ومقتضى كلام الخرقي أنه لو مالك ولده من الزنا لم يعتق عليه ، لانقطاع نسبه عنه ، فليس برحم له شرعاً ، وهو المنصوص ، وعليه الأصحاب ، وحكى أبو الخطاب في الهداية احتمالًا بالعتق ، على قياس قوله : في
____________________
(2/288)
تحريم نكاحها ، فرق ابن عقيل بأن التحريم يثبت مع الشبهة الواقعة بين الأشخاص ، والعتق بخلافه ، فلو اشترى عبدا من بين أعبد فيهم أخوه ، لم يعتق ، حتى يتيقن أنه أخوه ، ولو اشترى أمه من إماء فيهن أخته ، لم يجز له وطؤها ، لجواز أن تكون أخته . والله أعلم .
قال : وكان له ولاؤه .
ش : إذا ملك ذا الرحم المحرم عتق عليه ، وكان له ولاؤه ، لأنه عتق من ماله بتسبب فعله ، أشبه ما لو باشر عتقه .
قال : وولاء المكاتب والمدبر إذا عتقا لسيدهما .
ش : ولاء المدبر لمدبره ، لأنه معتقه ، فيدخل تحت قوله عليه السلام : ( الولاء لمن أعتق ) وولاء المكاتب لمكاتبه ، بدليل قصة بريرة ، فإن مواليها أبوا أن يبيعوها إلا أن يكون لهم الولاء ، فقال النبي لعائشة ( اشتريها ، واشترطي لهم الولاء ) وهذا يدل على أن الولاء لهم لو لم تشترها منهم عائشة ، وذكر الخرقي رحمه الله هذه الصورة إشارة إلى خلاف بعض العلماء ، والله أعلم .
قال : ومن أعتق عبده عن رجل حي بلا أمره ، أو عن ميت فولاؤه للمعتق .
ش : أما إذا أعتقه عن حي بلا أمره فإن العتق والولاء يقعان للمعتق ، بلا خلاف نعلمه عندنا ، لأن شرط صحة العتق الملك ، ولا ملك للمعتق عنه ، فالولاء تابع للملك .
وأما إن أعتقه عن ميت ، فلا يخلو إما أن يكون عن واجب عليه أم لا ، ( فإن كان ) في واجب عليه فإن العتق يقع عنه ، لمكان الحاجة إلى ذلك ، وهي الاحتياج إلى براءة ذمته ، أما الولاء فقال أبو البركات تبعاً للقاضي : يثبت الولاء أيضاً له . قال أبو العباس : بناء على أن الكفارة ونحوها ليس من شرطها الدخول في ملك المكفر عنه . وأطلق الخرقي وأكثر الأصحاب أن الولاء للمعتق ، قال أبو العباس بناء على أنه يشترط دخول الكفارة ونحوها في ملك من ذلك عليه .
( وإن كان ) في غير واجب كانا للمعتق لانتفاء ما تقدم إذاً ، والله أعلم .
قال : وإن أعتقه عنه بأمره فالولاء للمعتق عنه بأمره .
ش : إذا أعتق عبده عن غيره بأمره ، فله ثلاث حالات قد شملها كلام الخرقي ، ( إحداها ) إذ قال : أعتقه عني وعلي ثمنه . فهذا يكون العتق والولاء له بلا نزاع ، كأنه استدعى منه بيعه له بثمن مثله ، ووكله في عتقه ، وسيصرح الخرقي بذلك . ( الثاني ) إذا قال : أعتقه عني . وأطلق ، فهل يلزمه العوض كما لو صرح بذلك إذ الغالب في انتقالات الأملاك أن يكون بعوض أو لا يلزمه ذلك لأنه إلزام ما لا يلزمه ، وغايته أن طلب العتق عنه يستدعي الملك ، والملك قد يكون بغير عوض كالهبة ؟ فإن قلنا :
____________________
(2/289)
يلزمه العوض . فحكمه حكم ما لو صرح بلزومه على ما تقدم ، وإن قلنا : لا يلزمه فحكمه حكم ما لو صرح بنفيه على ما سيأتي . ( الثالث ) إذا قال أعتقه عني مجاناً . فهنا لا يلزمه العوض بلا نزاع ، ثم هل يكون العتق والولاء للسائل وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي في التعليق ، نظرا إلى أن العتق عنه يستدعي الملك ، وذلك كما يحصل بالبيع يحصل بالهبة ، فكأنه طلبها منه فأجابه إلى ذلك ، أو نقول : العتق عنه لا تتوقف صحته منه على الملك ، بل على الإِذن في ذلك أو يكونان للمسؤل ، نظراً إلى أنه لا بد من الملك ، وأن الملك لا يحصل بذلك ؟ والله أعلم .
قال : ومن قال : أعتق عبدك عني وعلي ثمنه . فالثمن عليه ، والولاء للمعتق عنه .
ش : قد تقدمت هذه المسألة ، قال أبو محمد : ولا نعلم فيه خلافاً .
قال : ولو قال : أعتقه والثمن علي . كان الثمن عليه ، والولاء للمعتق .
ش : إنما لزم الثمن للقائل لأنه جعل جعلًا لمن عمل عملًا وهو العتق ، وقد عمل ذلك العمل ، فيلزمه الجعل ، وإنما كان الولاء للمعتق لدخوله تحت قوله عليه السلام : ( الولاء لمن أعتق ) والمسؤول هو المعتق ، لا السائل ، لأنه لم يطلب العتق عنه ، والله أعلم .
قال : ومن أعتق عبداً له أولاد من مولاة لقوم ، جر معتق العبد ولاء أولاده من مولاة لقوم ، جر معتق العبد ولاء أولاده .
ش : صورة هذه المسألة إذا أعتق أمته ، وزوجها بعبد ، فولدت منه أولاداً ، فإنهم يكونون أحراراً ، ويكون ولاؤهم لمولى أمهم ، لأنه المنعم عليهم ، حيث عتقوا بعتق أمهم ، ثم إن أعتق العبد سيده بعد ذلك فله ولاؤه ، وجر ولاء أولاده عن مولى أمهم .
2331 في قول الجمهور من الصحابة وغيرهم ، لأن الولاء مشبه بالنسب ، والأنساب إلى الأب ، فكذلك الولاء ، بدليل ما لو كانا حرين ، وإنما ثبت الولاء لموالي الأم لضرورة عدم ثبوته لموالي الأب ، وقد زال المانع ، فيعمل المقتضي عمله ، وصار هذا كولد الملاعن ، لما تعذر انتسابه إلى الأب لانقطاع نسبه عنه باللعان ، انتسب إلى الأم وعصباتها ، فكانوا عصبته ، ولو استلحقه الأب بعد ذلك لحقه ، وصار عصبته له ، وزال التعصيب عن الأم وعصباتها .
2332 وقد روي عن الزبير أنه لما قدم خيبر رأى فتية لعسا ، فأعجبه ظرفهم وجمالهم ، فسأل عنهم ، فقيل له : موالي رافع بن خديج ، وأبوهم رقيق لآل الحرقة ، فاشترى الزبير أباهم فأعتقه ، وقال لأولاد : انتسبوا إلي ، فإن ولاءكم لي . فقال رافع بن خديج : الولاء لي ، فإنهم عتقوا بعتقي أمهم . فاحتكموا إلى عثمان رضي الله عنه ، فقضى بالولاء للزبير ولم ينقل إنكار ذلك ، فيكون بمنزلة الإِجماع ، واللعس سواد في الشفتين تستحسنه العرب .
وقد خص الخرقي الجر بعتق الأب ، فظاهر كلامه لا يحصل بعتق الجد ، وهو
____________________
(2/290)
المشهور والمختار للأصحاب من الروايات إذ الأصل بقاء الولاء لموالي الأم ، خولف ذلك لقضاء الصحابة ، فيبقى فيما عداه على الأصل ( والثانية ) يجره ، ثم إن عتق الأب بعد أن جر الولاء إليه منه ، وإلا بقي له ، لأن الجد كالأب في التعصيب ، وأحكم النسب ، فكذلك في الولاء . ( والرواية الثالثة ) إن عتق والأب ميت جر الولاء ، وإن عتق والأب حي لم يجرخه بحال ، حكاها الخلال ، لأن الجد والحال ما تقدم تحقق قيامه مقام الأب في الإِرث ، وولاية النكاح ، وغيرهما ، فكذلك في الولاء ، بخلاف ما لو كان حياً ، ( وعنه رواية رابعة ) يجر الولاء إن عتق والأب ميت ، وإن عتق والأب حي لم يجره حتى يموت الأب قنا ، فيجره من حين موته ، حكاها أبو بكر في الشافي ، انتهى .
وحيث قيل بالجر فلا فرق بين الجد القريب والبعيد ، قال أبو محمد : ومقتضى هذا أن العبيد إذا جر الولاء ، ثم عتق من هو أقرب منه جر الولاء إليه ، ثم إن عتق الأب جر الولاء ، لأن كل واحد يحجب من فوقه ، ولو لم يعتق الجد ، [ بل كان حراً ] وولده مملوك ، فتزوج مولاة لقوم ، فولاء أولاده لمولى أمهم ، وعلى القول بجر الجد الولاء يكون لمولى الجد ، فلو كان الجد حر الأصل لا مولى ، فلا ولاء على ولد ابنه ، فإن عتق ابنه بعد لم يعد على ولده ولاء ، لأن الحرية تثبت له من غير ولاء . والله تعالى أعلم .
( باب ميراث الولاء )
ش : أي باب الميراث بالولاء ، إذ من قاعدة الخرقي رحمه الله على ما سيأتي إن شاء الله تعالى أن الولاء لا يورث ، وإنما يورث به ، فيكون من باب إضافة الشيء إلى سببه ، لأن سبب الميراث الولاء كما يقال : دية قتل العمد . وقد يجري لفظه على ظاهره ، إذ أصل كلامه : باب حك ميراث الولاء وهو سيبين أن حكمه عنده أنه لا يورث . انتهى . ولا نزاع في ثبوت الميراث بالولاء في الجملة ، وقد استفاضت السنة بذلك ، والله أعلم .
قال : ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن ، أو أعتق من أعتقن ، أو كاتبن ، أو كاتب من كاتبن ، وقد روي عن أحمد رحمه الله في بيت المعتق خاصة أنها ثرث ، لما روي عن النبي أنه ورث ابنه حمزة من الذي أعتقه حمزة .
ش : الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد ، واختيار أبي بكر ، وأبي محمد ، وغيرهما ، وغالى أبو بكر فوّهم أبا طالب في الرواية الثانية .
2333 وذلك لما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله قال : ( ميراث الولاء للأكبر من الذكور ، ولات يرث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن ، أو أعتق من أعتقن ) ولأن هذا قول عامة العلماء من الصحابة ، والتابعين ، والأئمة إلا شريحاً .
____________________
(2/291)
2334 وقد روي ذلك عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وزيد ، وابن عمر ، وأبي مسعود البدري ، وأسامة بن زيد ، وأبّي بن كعب ، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم ، فكان إجماعاً أو حجة ، ولأن الولاء مشبه بالنسب ، فالمولى المعتق من المولى المنعم بمنزلة أخيه أو عمه ، فأولاد المولى المنعم بمنزلة أولاد أخي المعتق ، أو أولاد عمه ، وأولاد الأخ ، وأولاد العم لا يرث منهم إلا الذكور [ خاصة ] ، ( والرواية الثانية ) اختارها أبو الخطاب في خلافه ، وإليه ميل أبي البركات في المنتقى ، ونص عليها أحمد رحمه الله في رواية أبي طالب .
2335 محتجاً بحديث بنت حمزة ، [ وهو ما روى جابر بن زيد ، عن ابتن عباس رضي الله عنهم ، أن مولى لحمزة ] مات وترك ابنته وابنه حمزة ، فأعطى النبي ابنته النصف ، وابنة حمزة النصف . رواه الدارقطني ، وقد اعترض على هذا بأن المولى إنما كان لبنت حمزة ، كذا قال أحمد في رواية ابن القاسم ، وسأله : هل كان المولى لحمزة أو لابنته ؟ فقال : لابنته .
2336 وقد روى ابن ماجه ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن عبد الله بن شداد ، عن بنت حمزة ، ، وهي أخت ابن شداد لأمه قالت : مات مولى لي وترك ابنته ، فقسم رسول الله ماله بيني وبين ابنته ، فجعل لي النصف ، ولها النصف ، وأجيب بأن ابن أبي ليلى فيه ضعف ، وإن صح فمن المحتمل تعدد الواقعة فلا تعارض ، ولو سلم الإِتحاد فيحتمل أنه أضيف مولى الوالد إلى الولد ، بناء على أن الولاء ينتقل إليه ، أو أنه يرث به .
إذا تقرر هذا فمحل الخلاف في غير ما أعتقنه ، أو أعتقه من أعتقنه ، أو كاتبنه ، أو كاتبه من كاتبنه ، أما في هذه الأشياء فيرثن بلا نزاع ، كما تضمنه الدليل السابق ، وقصة بريرة مع عائشة رضي الله عنها ، فإن عائشة اشترطت الولاء ، وقال النبي في ذلك : ( إنما الولاء لمن أعتق ) والسبب مراد من لعموم بلا ريب ، ويستثنى أيضاً عتقاء ابنها إذا كانت ملاعنة ، على القول بأنها عصبته ، ولنذكر أمثلة لمحل الخلاف ، فمنها إذا مات المعتق وخلف ابن معتقه ، وبنت معتقه ، فالمال لابن معتقه ، دون أخته على الرواية الأولى ، وعلى الثانية بينهما أثلاثاً ، ولو خلف بنت معتقه ، وابن عم معتقه ، فلا شيء للبنت ، وجميع المال لابن عم المعتق على الأولى ، وعلى الثانية للبنت النصف ، والباقي لابن العم ، ولو خلف المعتق بنته ، وبنت معتقه ، فالمال جميعه لابنته على الأولى بالفرض والرد ، وعلى الثانية لابنته النصف ، ولابنة معتقه النصف ، لقضية النص في بنت حمزة ، ولو كان بدل بنت معتقه أخت معتقه ، فلا شيء لها رواية واحدة ، والله أعلم .
____________________
(2/292)
قال : والولاء لأقرب عصبة المعتق .
ش : الميراث بالمولاء ثابت ومستقر للمعتق ، ثم لأقرب عصبته من بعده .
2337 لما روى الإِمام أحمد عن سعيد بن المسيب ، أن رسول الله قال : ( المولى أخ في الدين ، ومولى نعمة ، يرثه أولى الناس بالمعتق ) ولأن عصبات الميت يرث منهم الأقرب فالأقرب ، فكذلك عصبات المولى ، فعلى هذا لو مات المعتق وخلف ابنه وأخاه ، كان الولاء لابنه ، ولو خلف أخاه وعمه ، كان الولاء لأخيه ، وعلى هذا ، يرث الأقرب فالأقرب من العصبات ، ولا يرث منه ذو فرض إلا ما يستثنى ، ولا ذو رحم ، والله أعلم .
قال : وإذا مات المعتق وخلف أبا معتقه ، وابن معتقه ، فلأبي معتقه السدس ، وما بقي فللابن .
ش : هذا كالإِستثناء مما تقدم ، وقد نص عليه أحمد وهو المشهور ، تشبيهاً لهما في إرث المعتق بإرث معتقه ، وقيل : لا يفرض للأب والحال هذه شيء ، بل الجميع للابن ، لما تقدم ممن أن الولاء لأقرب العصبة . انتهى . وحكم الجد حكم الأب ، وحكم ابن الابن حكم الابن ، وقد يدخل ذلك في كلام الخرقي ، والله أعلم .
قال : وإن خلف أخاً معتقه ، وجد معتقه ، فالولاء بينهما نصفين .
ش : لأنهما يرثان المعتق كذلك ، فيرثان مولاه كذلك ، ولو كثرت الإِخوة كما لو كانوا ثلاثة فأكثر فإنه يفرض للجد السدس ، لأنه أحظ له ، والباقي لهم ، بناء على ما تقدم في قاعدة الجد مع الإِخوة ، هذا هو المشهور ، وعلى القول الثاني في التي قبلها لا يفرض له معهم أصلًا ، بل يكون كأحدهم وإن كثروا ، ويعادونه ، بولد الأب ، لأنه يرث منفرداً ، ولا يعادونه بالأخوات ، لأنهن لا يرثن منفردات ، وهذا مقتضى قول أبي محمد في الكافي والمغني ، وهذا كله إذا ورثنا الإِخوة مع الجد ، أما إذا لم نورثهم معه وجعلنا الجد كالأب فالولاء للجد دون الأخ . والله أعلم .
قال : وإذا هلك رجل عن ابنين ومولى ، فمات أحد الابنين بعده عن ابن ، ثم مات المولى ، فالولاء لابن معتقه ، لأن الولاء للكبر ، ولو هلك الابنان بعده وقبل مولاه ، وخلف أحدهما ابنا ، وخلف الآخر تسعة ، كان الولاء بينهم على عددهم ، لكل واحد منهم عشرة .
ش : هذا مبني على أصل قد أشار إليه الخرقي رحمه الله وهو أن الولاء يورث به ولا يورث ، وهذا معنى كونه للكبر ، يعني أنه يرث به أقرب عصبة السيد إليه يوم مات عتيقه ، لا يوم مات السيد ، وهذا المختا رللأصحاب ، والمشهور من الروايتين ، حتى أن أبا بكر غلط من روى الثانية ، وقد قال أحمد في رواية ابنته صالح : حديث عمر عن النبي : ( ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان ) هكذا يرويه
____________________
(2/293)
عمرو بن شعيب .
2238 وقد روي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وزيد ، وابن مسعود ، أنهم قالوا : 16 ( الولاء للكبر ) . فهذا الذي يذهب إليه ، وهو قول أكثر الناس . انتهى وقد أبان أحمد رحمه الله عنه حجته في ذلك ، وهو قول هؤلاء الذين هم أكابر الصحابة ، وقد رواه مالك في الموطأ عن عثمان ، ورواه سعيد عن الأربعة الباقين .
2339 وحكي أيضاً عن ابن عمر ، وأبّي بن كعب ، وأبي مسعود البدري ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم أجمعين ، ولما تقدم من قوله عليه السلام : ( المولى أخ في الدين ، ومولى نعمة ، يرثه أولى الناس بالمعتق ) ولأن الولاء مشبه بالنسب ، والنسب يورث به ولا يورث ، فكذلك الولاء .
2340 وعن أحمد رواية أخرى : يورث الولاء كما يروث المال ، وهو قول شريخ ، ويحكى عن عمر ، وعلي ، وابن عباس ، والمشهور عن عمر وعلي خلاف ذلك .
2341 ومعتمد هذه الرواية ما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : تزوج رياب بن حذيفة بن سعد بن سهم أم وائل بنت معمر الجمحية ، فولدت له ثلاثة فتوفيت أمهم ، فورثها بنوها رباعها ، وولاء مواليها ، فخرج بهم عمرو بن العاص معه إلى الشام ، فماتوا في طاعون عمواس ، فورثهم عمرو ، وكان عصبتهم ، فلما رجع عمرو جاء بنوا معمر بن حبيب ، يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب ، فقال : أقضي بينكم بما سمعت رسول الله يقول : ( ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان ) فقضى لنا به ، وكتب لنا كتاباً فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، والنسائي ، وابن المديني ، وقال : هو من صحيح ما يروي عن عمر . وقد ينازع في الاستدلال بهذا الحديث ، فإن الحجة في قوله عليه السلام ، وقوله عليه السلام : ( ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته ) وهذا صحيح ، فإ ما أحرزه من المال فهو لعصبته ، أما الولاء فإنه لم يحرزه ، بل هو باق للميت ، والعاصب يرث به .
2342 وما فهمه عمر رضي الله عنه قد نقل عنه خلافه ، كما حكى ذلك الإِمام أحمد والشعبي ، ويعضد هذا التأويل أو يعينه قول عامة الصحابة والعلماء ، وقول العامة إن لم يكن إجماعاً على الأشهر ، فهو حجة على الأظهر .
إذا تقرر هذا الأصل وهوأن الولاء يورث به ولا يورث ، انبنى عليه المسألتان اللتان ذكرهما الخرقي ( إحداهما ) إذا مات رجل عن ابنين ومولى ، فمات أحد الابنين بعده عن ابن ، ثم مات المولى ، فالولاء لابن معتقه ، لأن ابن المعتق هو أقرب الناس
____________________
(2/294)
إليه يوم مات العتيق ، وقد نص أحمد على ذلك في رواية أبي طالب ، وعلى الرواية الأخرى يكون الولاء بين ابن المعتق وبين ابن ابنه الآخر نصفين ، نص عليه في رواية حنبل ، لأنه لما مات المولى المنعم ورث ابناه الولاء بينهما نصفين ، فإذا مامت أحدهما انتقل نصيبه لابنه . ( المسألة الثانية ) إذا هلك الابنان بعد أبيهما ، وقيل موت العتيق ، وخلف أحدهما ابنا ، وخلف الآخر تسعة ، فعلى المذهب ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور الولاء بينهم على عددهم ، لكل واحد عشرة ، لأن الجميع في القرب إلى السيد يوم مات العتيق على حد سواء ، وعلى الرواية الأخرى ونص عليه أحمد هنا في رواية بكر بن محمد لابن الابن النصف إرثا عن أبيه ، والنصف الآٌّ خر بين بني الابن الآخر على تسعة ، وتصح من ثمانية عشر ، والله أعلم .
قال : ومن أعتق عبداً فولاؤه لابنه ، وعقله على عصبته .
ش : يعني إذا أعتق عبداً ثم مات المعتق ، فإن ولاءه لابن سيده ، إذا لم يكن له وارث سواه من النسب ، وعقله على عصبة سيده ، لأن العقل على العصبة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان هؤلاء العصبة ، والولاء لأقرب العصبة ، والابن أقربهم .
2343 وقد روى إبراهيم قال : اختصم علي والزبير في مولى صفية ، فقال علي : مولى عمتي ، وأنا أعقل عنه ، وقال الزبير : مولى أمي ، وأنا أرثه ، فقضى عمر للزبير بالميراث ، وقضى على علي بالعقل ، رواه سعيد في سننه ، وذكره الإِمام أحمد ، ( وقول الخرقي ) : إن الولاء للابن ، والعقل على الصعبة ، مبني على أن الابن ليس من العاقلة ، وهو مقتضى كلام الخرقي ثم ، ومن جعل الابن من العاقلة كالرواية الأخرى يقول : الولاء له ، والعقل عليه ، ومن يجعل الابن عاقلة للأب دون الأم كمختار أبي البركات يقيد هذه المسألة بما إذا كان المعتق امرأة ، كما قيدها أبو محمد . والله أعلم .
____________________
(2/295)
( كتاب الوديعة )
( الوديعة ) فعيلة بمعنى مفعولة ، من الودع وهو الترك ، أي متروكة عن المودع .
2344 وفي مسلم عن النبي : ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ) [ أي عن تركهم الجمعات ] .
2345 وفي النسائي عنه : ( اتركوا الترك ما تركوكم ، ودعوا الحبشة ما ودعوكم ) ( وهي جائزة ) بازِجماع ، وسند ذلك قوله تعالى : 19 ( { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات } ) الآية .
2346 وعن أبي هريرة عن النبي : ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك ) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه .
قال : وليس على المودع ضمان إذا لم يتعد .
ش : ليس على المودع ضمان إذا لم يتعد ، لأنه محسن ، فيدخل في قوله تعالى : 19 ( { ما علي المحسنين من سبيل } ) .
2347 وأمين ، فيدخل في قوله : ( لا ضمان على مؤتمن ) رواه الدارقطني ثم لو قيل بالضمان لا نتفى هذا المرفق العظيم ، لامتناع العاقل من الدخول فيما يتمحض ضرراً ، ولا فرق بين أن تتلف مع ماله ، أو دون ماله على المذهب ، ( وعنه ) إن تلفت دون ماله ضمنها .
2348 لأنه يروى أن عمر رضي لله عنه ضمن أنساً وديعة تلفت دون ماله ، وينبغي أن يكون محل هذه الرواية فيما إذا ادعى التلف والحال هذه ، فاءنه لا يقبل منه ، لمكان التهمة ، أما إن ثبت التلف فإنه ينبغي انتفاء الضمان رواية واحدة ، أما إن تعدى فإنه خرج من حيز الأمانة ، إلى حيز الخيانة فيضمن بلا نزاع ، والله أعلم .
قال : فإن خلطها بماله وهي لا تتميز ، أو لم يحفظها كما يحفظ ماله ، أو أودعها غيره فهو ضامن .
ش : لما ذكر أنه إذا تعدى فيها ضمن ، ذكر ثلاث صور من صور التعدي ،
____________________
(2/296)
( إحداها ) إذا خلط الوديعة بماله والحال أنها لا تتميز مع ما خلط به ، كما لو خلط زيتا بزيت أو بشيرج ، أو برا ببر ، أو دراهم بدراهم ، ونحو ذلك ، لأنه صيرها في حكم التالف ، وفوت على نفسه ردها ، فضمنها كما لو ألقاها في لجة بحر ، وعن أحمد في رجل أعطى رجلًا درهما يشتري له به شيئاً ، فخلطه مع درهمه فضاعا ، قال : ليس عليه شيء . ذكرها القاضي في ما انتقاه من رواية عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، وحكم خلطها بمال غيره حكم خلطها بمال نفسه ، وإنما ذكر الخرقي ماله اعتماداً على الغالب .
( الصورة الثانية ) : إذا لم يحفظها كما يحفظ ماله أن يحرزها في حرز مثلها ، أو أعلى منه ، ويذكر ذلك إن شاء الله تعالى في القطع في السرقة ، وهذا إذا لم يعين له المالك حرزاً ، أما إن عين له حرزاً فإنه يمتثل وإن كان دون حرزها ، فإن خالفة فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى .
( الصورة الثالثة ) : إذا أودعها عند غيره ، وله حالتان ( إحداهما ) : أن يفعل ذلك لغير عذر ، ولا إشكال في تضمينه إذاً لأنه متعد ، إذ لفظ مالكها إنما تضمن أن يحفظها بنفسه لا بغيره ، قلت : ويخرج عدم الضمان إذا لم ينهه ، بناء على رواية جواز توكيل الوكيل ، وليس من أيداعها لغيره دفعها لمن جرت عادته بدفعها إليه ، كزوجته وعبده ، لأن ذلك مما يحفظ به ماله ، فهو داخل فيما تقدم ، وهذا منصوص أحمد ، عليه الأصحاب ، وفيه وجه آخر : بلى فيضمن . ذكره ابن أبي موسى ، ( الحالة الثانية ) إذا أودعها عند غيره لعذر ، كما إذا أراد سفراً غير مأمون ، أو كان الترك أحرز لها ، أو استوى الأمران في وجه ، أو خاف عليها من حريق أو ظالم ونحو ذلك ، ولم يجد ربها ولا وكيله ، فيجوز ، ولا ضمان عليه لمكان العذر ، ثم هل يتعين الحاكم مع القدرة عليه وهو المذهب المقطوع به للأصحاب أو لا يتعين ، ويكفي إيداعها ثقة وهو احتمال لأبي محمد في المغني ؟ فيه قولان ، قال القاضي : وقد أطلق أحمد القول في رواية الأثرم ، وإبراهيم بن الحارث : لا يودعها لغيره إذا خاف عليها . قال : وهذا محمول على المقيم في البلد ، والمسافر إذا وجد حاكماً فعدل عنه . والله أعلم .
قال : وإذا كانت علة فخلطها في صحاح ، أو صحاحاً فخلطها في علة ، فلا ضمان عليه .
ش : العلة هي المكسرة ، فإذا خلطها في صحاح أبو بالعكس فلا ضمان عليه ، لأنها تتميز ، فلا يتعذر ردها ، وهذا هو المذهب ، والمنصوص في رواية أبي طالب ، ونقل عنه بن منصور فيمن خلط دراهم بيضا بسود يضمنها ، فأجر ذلك صاحب التلخيص وغيره في كل ما يتميز ، وخصها أو محمد بصورة النص ، لاحتمال كسبها سواداً فيتغير لونها فتنقص .
____________________
(2/297)
قال : ولو أمره أن يجعلها في منزله ، فأخرجها عن المنزل لغشيان نار ، أو سيل ، أو شيء الغالب منه التوى فلا ضمان عليه .
ش : إذا أمره أن يجعل الوديعة في محل فجعلها فيه فلا ضمان عليه ، وإن كان دون حرز مثلها ، لأنه ممتثل غير مفرط ، وإن أخرجها عن ذلك المحل لشيء نزل بها من نار ، أو سيل ، ونحو ذلك مما الغالب منه الهلاك فلا ضمان عليه ، لأنه مأمور بحفظها ، وحفظها في إخراجها إذاً فلا تفريط ، وهل يتعين الإِخراج بحيث إذا تركه ضمن ؟ لا يخلو من ثلاثة أحوال ( أحدها ) : أن يعين له الحرز ولا ينهاه عن الإِخراج كصورة الكتاب ، فهنا يتعين عليه الإِخراج والحال ما تقدم ، بحيث لو تركه ضمن ، وإن تلفت بغير ذلك الحادث ، لأنه يعد إذاً مفرطاً ، فيضمن لتفريطه . ( الثانية ) : عين له الحرز ، وقال له : لا تخرجها وإن خفت عليها . فأخرجها والحال ما تقدم ، أو تركها ، فلا شيء عليه ، لأنه إن أخرجها فقد زاده خيراً بحفظها ، إذ المقصود من هذا الكلام المبالغة في حفظها ، وإن تركها فلا شيء عليه ، لأن ربها صرح له بتركها مع الخوف ، فكأنه رضي بإتلافها ، ( الثالثة ) : عين له الحرز ، ونهاه عن الإِخراج ، ولم يقل : وإن خفت عليها . فيجوز له الإِخراج مع الخوف بلا ريب ، وهل يضمن إذ ترك ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) : لا ضمان عليه ، لامتثاله أمر صاحبها ( الثاني ) : وهو مقتضى ما جزم به صاحب التلخيص ، وأورده في الكافي مذهباً عليه الضمان ، لأن النهي للإِحتياط عليها ، والإِحتياط إذاً نقلها ، فإذا تركها فقط فرط فيضمن انتهى .
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى أخرجها بلا خوف عليها ، مع تعيين المالك الحرز لها ضمنها ، ولا نزاع في ذلك إن أخرجها لحرز دون الذي عينه مالكها ، وفيما إذا أخرجها لمثله أو أعلى منه ثلاثة أوجه ( أحدهما ) : يضمن مطلقاً ، كما هو ظاهر كلام الخرقي ، وظاهر كلام أحمد أيضاً ، قال في رواية حرب وغيره : إذا خالف في الوديعة فهو ضامن ، وذلك لأنه خالف أمر صاحبها من غير حاجة ، أشبه ما لو نهاه ، ( والثاني ) : لا يضمن مطلقاً ، قاله القاضي ، وابن عقيل ، ون مثل الشيء يساوي ذلك الشي ، فيعطي حكمه ، ( والثالث ) : إن نقلها إلى أعلى لمن يضمن ، ولأنه زاده خيراً ، وإن نقلها إلى المساوي لم يفرقوا بين تلفها بسبب النقل ، وبين تلفها بغيره ، وعندي أنه إذا حصل التلف بسبب النقل كانهدام البيت المنقول إليه ضمن .
( تنبيه ) : ( الغشيان ) مصدر : غشي الشيء غشيانا . نزل به ، ( والتوى ) مقصوراً الهلاك .
قال : وإذا أودعه شيئاً ، ثم سأله دفعه إليه في وقت أمكنه ذلك ، فلم يفعل حتى تلف فهو ضامن .
ش : إذا أودعه شيئاً ثم سأله دفعه إليه لزمه ذلك ، لأمر الله سبحانه ورسوله بذلك ، فإن لم يفعل حتى تلف مع إمكان الرد ضمن ، لمخالفة الأمر ، وانتفاء عذر
____________________
(2/298)
المودع في الإِمتثال ، فأشبه الغاصب ، أما إن لم يمكن ردها لبعدها ، أو لمخافة في طريقها ، ونحو ذلك فلا ضمان عليه ، لأنه لا يتوجه الأمر إليه والحال هذه ، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق ، وإذا لم يتوجه الأمر إليه فلا ضمان ، لانتفاء تعديه ، أما إن أخر لحاجة له مع إمكان الرد كما إذا كان في الحمام ، أو على طعام فأخر إلى الفراغ فظاهر كلام الخرقي وجوب الضمان ، وصرح به في التلخيص ، إناطة للحكم بإمكان الرد ، وفي لحوق المأثم له والحال هذه وجهان ، وظاهر كلام أبي محمد في المغني انتفاء الضمان ، لأنه قال : إذا قال : أمهلوني حتى أقضي صلاتي ، أو آكل فإني جائه ، أو أنام فإني ناعس ، أو ينهضم الطعام عني فإني ممتليء . أمهل بقدر ذلك والله أعلم .
قال : وإذا ما وعنده وديعة لا تتميز من ماله فصاحبها غريم بها .
ش : إذا مات إنسان وقد ثبت أن عنده وديعة ، بإقراره أو ببينة ، ولم تتميز من ماله ، فصاحبها غريم بها ، لأنه قد ثبت بإقراره أو بالبينة استحقاق ردها ، وقد تعذر ، فيجب بدلها ، وإذا وجب بدلها كان غريماً بها ، كسائر الحقوق ، أما إن ثبت أنه كان عنده وديعة في حياته ، ثم مات ولم توجد بعينها ، ولم يعلم بقاؤها ولا تلفها ، فوجهان ( أحدهما ) : وقال في المغني : إنه المذهب وجوب الضمان ، [ اعتماداً على أصل وجوب الرد ما لم يعلم ما يزيله ، ( والثاني ) لا ضمان ، نظراً إلى أن الأصل عدم إتلافها والتعدي فيها ، فينتفي الضمان ] ولا فرق فيما تقدم بين أن يوجد جنس الوديعة ، في ماله أو لم يوجد ، قاله أبو محمد ، وقال في التلخيص : إذا أوصى وأجمل ولم يعرف ضمن نص عليه ، وإن ذكر جنسها بأن قال : عندي وديعة عمامة ، أو سراويل ، أو نحو ذلك ، ولم يوجد ذلك في تركه فلا ضمان ، لاحتمال التلف قبل الموت ، والله أعلم .
قال : ولو طالبه بالوديعة فقال : ما أودعتني . ثم قال : ضاعت من حرز . كان ضامناً ، لأنه خرج من حال الأمانة .
ش : إذا طالبه بالوديعة فأنكر أصل الإِيداع ، بأن قال : ما أودعتني . فثبت الإِيداع ببينة أو إقرار ، فادعى ما يسقط وجوب الضمان عنه من ضياعها ، أو تلفها ، أو ردها لم يسمع منه ، وجوب عليه الضمان ، وإن أتى ببينة ، لأنه إن ادعى ذلك قبل الجحود ، فهو بدعواه الأولى مكذب لدعواه الثانية أو لبينته ، فينتفيان ، وقيل : يسمع منذ ذلك بالبينة ، وإن ادعى ذلك بعد الجحود ، فقد خرج عن حال الأمانة ، فصارت يده يدا ضامنة لا يد أمانة ، فثبوت التلف أو الضياع لا ينفي عنه الضمان ، نعم إن ادعى الرد بعد الجحود سمع منه كالغاصب ، فيثبت بالبينة ، ويحلف خصمه مع عدمها ، والله أعلم .
قال : ولو قال : مالك عندي شيء . ثم قال : ضاعت من حرز . كان القول قوله ولات ضمان عليه .
____________________
(2/299)
ش : أي ولو طالبه بالوديعة ، فلم ينكر أصل الإِيداع ، وإنما قال : ما لك عند شيء . ثم ثبت أنه أودعه ، فادعى الضياع ، أو التلف ، ونحو ذلك سمع منه ، لعدم تنافي دعواه الأولى والثانية ، إذ مع الضياع أو التلف ليس له عنده شيء ، فهو صادق في قوله ، فأمانته باقية ، ودعواه مقبولة ، ولا فرق بين قبل الجحود وبعده ، على ظاهر إطلاق جماعة ، وقال القاضي في المجرد : وقد قيل : إن شهدت البينة بالتلف بعد الجحود فعليه الضمان ، لأنه قد كذبها بالجحود ، وإن شهدت بالتلف قبل الجحود سمعت ولا ضمان عليه ، والله أعلم .
قال : ولو كانت في يده وديعة فادعاها نفسان ، فقال : أودعني أحدهما ولا أعرفه عينا ، أقرع بينهما ، فمن تقع له القرعة حلف أنها له وأعطي .
ش : إذا كانت في يده وديعة فادعاها نفسها ، وكل واحد منهما يدعي أنه الذي أودعها ولا بينة ، فلا يخلو من خمسة أحوال ( أحدها ) أن يقر بها لأحدهما دون الآخر ، فهي له مع يمينه ، لأن اليد كانت للمودع ، وقد نقلها إلى المدعي ، فصارت اليد له ، ومن اليد له القول قوله مع يمينه ، وعلى المدعي اليمين للمدعي الآخر ، لأنه منكر لما ادعاه عليه ، فإن حلف برئ وإن نكل قضي عليه بغرمها ، ( الثاني ) أن يقر بها لهما ، فهي بينهما يقتسمانها ، مع تحالفهما ، كما لو كانت بأيديهما وتداعياها ، وعليه اليمين لكل واحد منهما في نصفها ، فإن نكل لزمه عوضها يقتسمانه أيضاً ، ( الثالث ) : أن يقر بها لواحد منهما غير معين ، وهذه مسألة الخرقي ، فإن صدقاه في عدم العلم فلا يمين عليه ، ويقرع بينهما ، لتساويهما في الحق ، أشبها العبدين إذا أعتقهما في مرضه ، وإن أكذباه أو أحدهما ، لزمه يمين واحدة بأنه لا يعلم عين صاحبها ، لأن المدعي يدي عليه العلم بعين صاحبها ، وهو ينكره ، فإن حلف أقرع بينهما كما تقدم ، وإن نكل لزمه غرمها ، قال في التلخيص : ثم إن اتفقا على أن العين وقيمتها بشتركان فيها فلا كلام ، وإن تشاحاها أقرع بينهما ، فدفعت العين للقارع ، ومقتضى كلام أبي البركات أنه مع نكوله يقرع بينهما ، فيأخذ القارع العين ، ويطلب الآخر البدل ، ( الرابع ) جحدهما فالقول قوله ، لأن اليد له ، وعليه لكل واحد يمين ، فإن نكل لزمه لهما العين وعوضها ، يقترعان عليهما ، قال أبو البركات : ويحتمل أن يقتسماهما ( الخامس ) : أقر بها لغيرهما ، وله تقاسيم ليس هذا موضعها ، والله أعلم .
قال : ومن أودع شيئاً فأخذ بعضه ثم رده أو مثله فضاع الكل ، لزمه مقدار ما أخذ .
ش : إذا أودع إنسان إنساناً شيئاً ، فأخذ بعضه ثم رده ، فضاع الجميع أو تلف ، لزمه مقدار ما أخذ فقط ، لأنه القدر الذي تعدي فيه ، هذا هو المشهور من الروايتين ، حتى أن القاضي في تعليقه ، وأبا البركات وأبا محمد في الكافي والمغني ، لم يذكروا غيرها ( والرواية الثانية ) يضمن الجميع ، حكاها صاحب التلخيص وغيره ، لأنها وديعه ،
____________________
(2/300)
قد تعدى فيها فضمنها ، كما لو أخذ الجميع انتهى .
وإن لم يرد ما أخذ بل رد بدله ، فللأصحاب في ذلك طرق ( إحداها ) : أنه لا يلزمه إلا مقدار ما أخذ ، سواء كان البدل متميزاً أو غير متميز ، وهذا مقتضى كلام الخرقي ، وبه قطع القاضي في التعليق ، وذكر نص أحمد على ذلك من رواية الجماعة ، وحكي عنه من رواية الأثرم أنه أنكر القول بتضمين الجميع ، وأنه قال : إنه قول سوء . وذلك لأنه الضمان منوط بالتعدي ، والتعدي إنما حصل في المأخوذ ، فيختص الضمان به ، ( الطريقة الثانية ) : أنه إنه تميز البدل ضمن قدر ما أخذ فقط ، وإن لم يتميز فعلى روايتين ، وهذه طريقة أبي محمد في المغني والكافي ، وأبي البركات ، ( الطريقة الثالثة ) : أن المسألة على روايتين فيهما ، وهي ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية ، ( الطريقة الرابعة ) أنه إن تميز البدل فعلى روايتين ، وإن لم يتميز ضمن الجميع رواية واحدة ، قالها صاحب التلخيص ، ويقرب من هذه الطريقة قول أبي محمد في المقنع ، وكلام القاضي على ما حكى عنه أبو محمد في المغني ومنبى هذه الطريقة على أن المردود باق على ملكه ، فقد خلط ملكه بالوديعة ، فيجري فيه ما تقدم ، وقد فرق أبو محمد بأن المردود يجب رده مع الوديعة ، فلم يفوت على نفسه إمكانه الرد ، بخلاف ثم ، فإنه فوت على نفسه ، إمكان رد الوديعة ، وقد يقال : مسلم أنه يجب عليه الرد ، لكن لا يجب عليه رد هذا المخلوط بعينه ، فهو باق على ملكه ، فإذا خلطه بالوديعة ولم يتميز فقد فوت على نفسه إمكان رد باقيها ، وبالجملة هذه الطريقة وإن كانت حسنة لكنها مخالفة لنصوص أحمد ، وقد يقال : إن نصوصه هنا مقوية لرواية لرواية البغوي ثم .
واعلم أن شرط هذه المسألة عند أبي محمد ، وأبي البركات ، أن تكون الدراهم ونحوها غير مختومة ولا مشدودة ، أما إن كانت مختومة أو مشدودة فحلّ الشد ، أو فك الختم ، فإنه يضمن الجميع بلا نزاع ، لتهتك الحرز ، وهذا الصحيح عند القاضي ، وقال : إنه قياس قول الأصحاب فيما إذا فتح قفصاً عن طائر فطار . ولم يذكر عن أحمد بذلك نصاً ، ونقل مهنا عن أحمد ما يقتضي أنه لا يضمن إلا ما أخذ ، فقال في رجل استودع رجلًا عشرة دنانير في صرة فأخذ منها المستودع ديناراً فأنفذه ، ثم رد مكانه ديناراً ، فضاعت العشرة يغرم الدينار ، وليس عليه التسعة ، وفي التلخيص أيضاً أن البغوي روى عن أحمد ما يدل على ذلك ، وينبني على ذلك لو خرق الكيس ، فإن كان من فوق الشد لم يضمن إلا أرش الخرق فقط ، وإن كان من تحت الشد ضمن الجميع ، على المشهور عند الأصحاب .
وقوة كلام الخرقي تقتضي أنه لا يضمن بمجرد نية التعدي ، وهو المذهب المجزوم به ، لرفع المؤاخذة عن ذلك ما لم يتكلم أو يعمل ، ولهذا لو أخرجه إلى السوق بنية الإِنفاق ثم ردها ، ضمنها على أصح الوجهين ، لوجود العمل ، قال القاضي : وقد قيل : إنه يضمن بالنية ، لاقترانها بالإِمساك ، وهو فعل ، وقد ينبني هذا الوجه على
____________________
(2/301)
أن الذي لا يؤاخذ به هو الهم ، أما العزم فيؤاخذ به على أحد القولين ، والله أعلم .
( باب قسم الفيء والغنية والصدقة )
ش : ( الفيء ) في الأصل مصدر : فاء يفيء فيئة وفيئاً . إذا رجع ، ثم أطلق على ما أخذ من الجهات الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى ، لأن الله تعالى أفاءه على المسلمين ، أي رده عليهم من الكفار ، فإن الأصل أن الله إنما خلق الأموال إعانة على عبادته ، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته ، والكافر ليس من أهل عبادته ، فرجوع المال عنه رده إلى أصله .
والأصل فيه قوله تعالى : 19 ( { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } ) الآية ( والغنيمة ) أصلها من الربح والفضل ، والأصل فيها قوله تعالى : 19 ( { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ) الآية ، أضاف الغنيمة لهم ، ثم جعل خمسها لغيرهم ، فدل على أن الأربعة الأخماس الباقية لهم ، وقيل : إنها كانت أولًا للرسول بدليل قوله تعالى : 19 ( { يسألونك عن الأنفال ، قل الأنفال لله والرسول } ) وهي من خصائص هذه الأمة .
2349 قال : ( وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ) متفق عليه .
2350 وفي الصحيح ( أن النار كانت تنزل من السماء فتأكلها ) ( والصدقة ) هنا المراد بها الصدقة المفروضة وهي الزكاة .
قال : والأموال ثلاثة ، فيء ، وغنيمة ، وصدقة .
ش : أي الأموال التي مرجعها للإِمام ، التي يتولى أخذها وتفريقها ، والله أعلم .
قال : فالفيء ما أخذ من مال مشرك ، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، والغنيمة ما أوجف عليه .
ش : هذان تعريفان شرعيان للفيء والغنيمة ، والركاب الإِبل ، والإِيجاف أصله التحريك ، والمراد هنا الحركة في السير إليه .
2351 قال قتادة في قوله تعالى : 19 ( { وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتهم عليه من خيل ولا ركاب } ) : ما قطعتم وادياً ، ولا سيرتم إليها دابة ، إنما كانت حوائط بني النضير ، أطعمها الله رسول الله . والخرقي رحمه الله لحظ الآية الكريمة ، كما هو دأبه ، فأتى بألفاظها ، فكان ما أخذ من مال مشرك بغير إيجاف ، كالذي تركه فزعا من المسلمين ، وكالجزية ، والعشر من تاجر أهل الحرب ، ونصفه من تأجر أهل الذمة ، ومال من مات منهم ولا وارث له ، وخراج أرض صالحناهم عليها .
____________________
(2/302)
وما أجاف عليه المسلمون فساروا إليه ، وقاتلوا عليه ، فهو غنيمة ، سواء أخذ بالسيف ، أو بالحصر والاستنزال بأمان .
2352 فإن النبي افتتح حصون خيبر بعضها عنوة ، وبعضها استنزل أهله بأمان ، وكلها كانت غنيمة .
قال : فخمس الفيء والغنيمة مقسوم على خمسة أسهم . ش : قد دل كلام الخرقي رحمه الله من جهة إشارة النص على أن الفيء والغنيمة يخمسان ، ( أما الغنيمة ) فلا نزاع في تخميسها بحمد الله في الجملة ، وقد دل عليها قوله تعالى : 19 ( { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ) الآية .
2353 وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي قال لوفد عبد القيس ( آمركم أن تؤدوا خمس ما غنمتم ) وقد اختلف في أشياء من الغنيمة هل تخمس كالسلب ، والنفل ، وأشياء أخر ، ونذكر ذلك إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع ( وأما الفيء ) فالمنصوص عن أحمد في رواية أبي طالب بأنه لا يخمس ، لأن الله سبحانه قال : 19 ( { ما أفاء الله على رسوله إلى قوله والذين جاؤوا من بعدهم } ) الآيات ، فدل على أنه كله لهؤلاء ، ولم يذكر خمساً .
2354 وفي النسائي من حديث مالك بن أوس ، عن عمر رضي الله عنه في حديث طويل ، أنه قال : 19 ( { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين } ) هذا الهؤلاء 19 ( { إنما الصدقات للفقراء ، والمساكين ، والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم . وفي الرقاب ، والغارمين ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل } ) هذه لهؤلاء ، 19 ( { وما أفاء الله على رسوله منهم ، فما أوجفتهم عليه من خيل ، ولا ركاب } ) قال الزهري : قال عمر : هذه لرسول الله خاصة وكذا [ 19 ( { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ، والرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين } ) و 19 ( { للفقراء المهاجرين ، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } )9 ( { والذين تبوئوا الدار والإيمان من قبلهم } )9 ( { والذين جاؤوا من بعدهم } ) ] فاستوعبت هذه الآية الناس ، فلم يبق رجل ممن المسلمين إلا وله من هذا المال حق أو قال حظ إلا بعض من تملكون من أرقائكم ، ولئن عشت ليأتين على كل مسلم حقه أو قال حظه . ورواه أبو داود عن الزهري قال : قال عمر : 19 ( { فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب } ) وذكر مثل رواية النسائي وهذا من عمر تفسير للآية الكريمة وهو كالنص في عدم التخميس ، وتفسير الصحابي إذا وافق ظاهر النص [ كان ] حجة بلا ريب .
وقال الخرقي : إنه يخمس . قال القاضي : لم أجد بما قال نصاً . ووجهه أنه مال
____________________
(2/303)
مشرك مظهور عليه ، فوجب أن يخمس كالركاز ، والغنيمة ، دل كلامه من جهة دلالة النص على أن خمس الفيء والغنيمة يقسمان على خمسة أسهم ، وذلك لقوله تعالى : 19 ( 19 ( 19 ( 19 ( { واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه } ) الآية .
2355 وسهم الله والرسول واحد ، كذا قال عطاء ، والشعبي .
2356 وعن بعضهم أن ذكر الله تعالى لافتتاح الكلام تبركا به .
2357 وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : سمعت علياً يقول : ولاني رسول الله على خمس الخمس فوضعته مواضعه حياته ، وحياة أبي بكر ، وحياة عمر ، فأتي عمر بمال آخر حياته ، فدعاني فقال : خذه . فقلت : لا أريده . فقال : خذه فأنتم أحق به . قلت : قد استغنينا عنه . فجعله في بيت المال . رواه أبو داود ، وفي رواية : إن رأيت أو تولينا حقنا من هذا الخمس في كتاب الله . وهذا يدل على أن الخمس كان يخمس خمسة أسهم ، لا أقل منها ولا أكثر .
( تنبيه ) : الغنيمة التي تخمس هي ما وجد بعد دفع السلب لمستحقه ، وبعد دفع ما وجد فيها لمسلم أو معاهد له ، وبعد إعطاء أجرة من حفظها أو نقلها ، وجعل من دل على حصن أو ماء ، ونحو ذلك ، ولهذه تفاصيل ليس هذا موضع بيانها ، وبعد ما أكل منها من طعام ، أو علف ، على ما يذكر في موضعه ، واختلف في ما إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب فغنموا ، كقول الإِمام : من جاء بعشرة أرؤس فله منها رأس ونحو ذلك ، ولهذه تفاصيل ليس هذا موضع بيانها ، وبعد ما أكل منها من طعام ، أو علف ، على ما يذكر في موضعه ، واختلف في ما إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب فغنموا ، هل يخمس ما غنموه ؟ على روايتين ، واختلف أيضاً في النفل ، كقول الإِمام : من جاء بعشرة أرؤس فله منها رأس ونحو ذلك ، فقال أبو البركات : يخمس ، وقال أبو محمد : الظاهر أنه لا يخمس . والله أعلم .
قال : سهم للرسول مصروف من الكراع ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( والسلاح ، ومصالح المسلمين .
ش : سهم رسول الله مصروف في الكراع ، والسلاح ، ومصالح المسلمين .
ش : سهم رسول الله باق بعد موته لم يسقط ، اعتماداً على الأصل ، وهو ثبوته .
2358 وفي حديث جبير بن مطعم أنه قال : وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله ، غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله ، وكان عمر يعطيهم ، ومن كان بعده منه ، مختصراً رواه البخاري .
2359 وعن عمرو بن عبسة قال : صلى بنا رسول الله إلى بعير من المغنم فلما صلى أخذ وبرة من المغنم ثم قال : ( لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم ) رواه أبو داود ، وروى نحوه . النسائي عن عبادة بن الصامت ، وعمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، وهو شامل لحال حياته ، وحال وفاته ، ومصرفه مصالح المسلمين ، كالفيء على المشهور ، ولما تقدم من قوله علي
____________________
(2/304)
السلام : ( وهو مردود فيكم ) ( وعن أحمد ) رواية أخرى يصرف في السلاح والكراع والمقاتلة خاصة .
2360 لما روي عن عمر رضي الله عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب ، فكانت للنبي ، فكان ينفق على أهله نفقة سنة ومن لفظ : يحبس لأهله قوت سنتهم ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سيبل الله . متفق عليه .
( تنبيه ) : ( الوبرة ) واحدة الوبر للإِبل ، كالصوف للضأن ، والشعر للمعز ، قال الله تعالى : 19 ( { ومن أصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين } ) ( والكراع ) الخيل .
قال : وخمس مقسوم في صلبية بني هاشم ، وبني المطلب ، ابني عبد مناف ، حيث كانوا ، للذكر مثل حظ الأثنيين .
ش : قوله : في صلبية بني هاشم . يعني أولاد هاشم ، دون من يعد منهم من مواليهم ، وحلفائهم ، وقد دل كلام الخرقي رحمه الله على خمس مسائل ( إحداها ) : أن سهم ذوي القربى ثابت بعد موت النبي ، وهذا مذهبنا ، لأنه سبحانه ذكرهم في كتابه من ذوي السهام ، والأصل البقاء ما لم يعارضه معارض .
2361 وعن جبير بن معطم قال : مشيت أنا وعثمان إلى النبي فقلت : يا رسول الله أعطيت بني المطلب ، وتركنا ، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة ؟ فقال رسول الله : ( إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد ) وفي رواية : فقلنا : أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا . وزاد : قال جبير : ولم يقسم النبي لبني عبد شمس ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( ولا لبني نوفل شيئاً . وقال ابن إسحاق : عبد شمس ، وهاشم ، والمطلب أخوة لأم ، وأمهم عاتكة بنت مرة ، وكان نوفل أخاهم لأبيهم . هذه رواية البخاري .
2362 وفي رواية أبي داود : أن رسول الله لم يكن يقسم لبني عبد شمس ، ولا لبني نوفل من الخمس شيئاً ، كما قسم لبني هاشم وبني المطلب ، قال : وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله ، غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله ، وكان عمر يعطيهم ومن بعده . وفي رواية : وعثمان بعده . فهذان عمر وعثمان أعطيا بعد موته ، ومنع أبي بكر لعله لمانع قام عنده ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال .
2363 وعن يزيد بن هرمز قال : كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى لمن هو ؟ قال يزيد بن هرمز : فأنا كتبت كتاب ابن عباس إلى نجده ،
____________________
(2/305)
كتب إليه : كتبت تسألني عن سهم ذوي القربى لمن هو ؟ وهو لنا أهل البيت ، وقد كان عمر دعانا إلى أن ينكح منه أيمنا ، ويجدي منه عاملنا ، ويقضي منه عن غارمنا ، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا فتركناه عليه . رواه أبو داود ، والنسائي ، وأحمد واحتج به وهذا لفظه .
( الثانية ) : أن ذا القربى بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف ، دون مواليهم ، وغير مواليهم ، لما تقدم من حديث جبير رضي الله عنه ، والمعتبر الأب ، لأن النسب له ، فإن الهاشمي وإن لم تكن أمه هاشمية يستحق ، وابن الهاشمية لا يستحق إذا كان أبوه غير هاشمي . ( الثالثة ) : أنه يجب تعميمهم ، وتفرقته بينهم حيث كانوا حسب الإِمكان ، لأنه سهم مستحق بالقرابة ، أشبه الميراث ، فعلى هذا يبعث الإِمام إلى عماله في الأقاليم ، وينظر ما حصل من ذلك ، فإن استوت الأخماس فرق كل خمس فيمن قاربه ، وإن اختلفت أمر بحمل الفضل ليدفع إلى مستحقه ، قال أبو محمد : والصحيح إن شاء الله تعالى أنه لا يجب التعميم ، لأنه يتعذر أو يشق ، فلم يجب كالمساكين ، والإِمام ليس له حكم تإلا في قليل من بلاد الإسلام ، فعلى هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده ، قلت : ولا أطن الأصحاب يخالفون أبا محمد في هذا . ( الرابعة ) : أن القسم بينهم يكون للذكر مثل حظ الأنثيين ، وهو إحدى الروايتين ، وبه جزم أبو محمد في المقنع ، لأنه سهم استحق بقرابة الأب شرعاً ، ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث ، وخرج ولد الأم والوصية ( والرواية الثانية ) يسوى بين ذكرهم وأثناهم ، لأنهم أعطوا باسم القرابة ، والذكر والأنثى فيها سواء ، وأشبه ما لو وصى لقرابة فلان ، يحققه أن الجد يأخذ مع الأب ، وابن الابن يأخذ مع الابن ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( وهذا خلاف الميراث ، ( الخامسة ) : أن غنيهم وفقيرهم فيه سواء ، على عموم كلام الخرقي ، وهو المشهور المعروف ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { ولذي القربى } ) .
2364 وفي الصحيحين في حديث طويل أن العباس وعلياً جاءا يطلبان أن عمر يقضي بينهما ، فقال عمر : 16 ( إن الله كان خص رسوله بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره ) ، فقال : 19 ( { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } ) قال : فقسم رسول الله بينكم أموال بني النضير ، فوالله ما استأثر بها عنكم ، ولا أخذها دونكم انتهى والعباس كان من الأغنياء ، وقال أبو إسحاق بن شاقلا : يختص به فقراؤهم ، لما تقدم عن عمر .
( تنبيه ) : ( الحرورية ) طائفة من الخوارج ، نسبوا إلى ( حروراء ) اسم بلدة ، تمد وتقصر ، كل أول مجتمعهم بها ، وتحكيمهم فيها ، ( ويحذي ) يعطي ( والغارم ) المديون ،
____________________
(2/306)
والاستئثار الاستبداد بالشيء والانفراد به ، والله أعلم .
قال : والخمس الثالث في اليتامى .
ش : قد شهد النص بذلك ، واليتيم من لا أب له ، وإن كان له أم ، ولم يبلغ الحلم .
2365 قال النبي : ( لا يتم بعد البلوغ ، ولا صمات يوم إلى الليل ) . وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط فقرهم ، وإليه ميل أبي محمد ، نظراً لإِطلاق الآية الكريمة واشترطه جمهور الأصحاب ، لأن ذا الأب لا يدفع إليه ، والمال أنفع من الأب ، قال أبو محمد : قال الأصحاب : ويفرق على جميع أيتام البلاد ، قال : والقول فيه كالقول في سهم ذي القربى ، والله أعلم .
قال : والخمس الرابع في المساكين .
ش : للنص ، ويدخل فيهم الفقراء ، إذ كل موضع ذكر فيه أحد الصنفين دخل الآخر ، وحيث أريدا ذكراً كما في الزكاة ، قال أبو محمد : قال أصحابنا : ويعم جميعهم في جميع البلاد . قال : وقد تقدم قولنا في ذلك ، والله أعلم .
قال : والخمس الخامس لابن السبيل .
ش : للنص ، وسيأتي بيان ابن السبيل إن شاء الله تعالى ، فإن اجتمع في واحد أسباب ، كمسكين هو ابن سبيل ، يتيم فإنه يعطى بكل منها ، فإن أعطي فزال فقره لم يعط له شيئاً ، والله أعلم .
قال : وأربعة أخماس الفيء لجميع المسلمين ، بالسوية بينهم ، غنيهم وفقيرهم فيه سواء ، إلا العبد .
ش : لما قال : إن الفيء يخمس . قال : إن أربعة أخماسه بينهم ، غنيهم وفقيرهم فيه سواء ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( إلا العبد .
ش : لما قال : إن الفيء يخمس . قال : إن أربعة أخماسه للمسلمين . وعلى المنصوص جميعه للمسلمين ، ولا نزاع أن العبيد لا حق لهم في القيء ، وقد تقدم عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لم يبق رجل من المسلمين إلا وله في هذا المال حق ، إلا بعض من تملكون من أرقائكم ، ومن عدا العبيد من المسلمين لهم حق في الفيء في الجملة ، فيصرف في مصالح المسلمين ، إذ نفعها يعود على جميعهم ، ويبدى بالأهم فالأهم ، من سد الثغور ، وكفاية أهلها وغيرهم من جند المسلمين ، ثم الأهم فالأهم ، من سد البثوق ، وعمل القناطر ، وأرزاق القضاة ، والمفتين ، والمؤذنين ، ونحوهم ، من كل ذي نفع عام ، وما فضل منه قسم بين المسلمين غنيهم وفقيرهم ، على قول الخرقي ، والمشهور ، لما تقدم عن عمر أنه قال : لم يبق رجل من المسلمين إلا وله في هذا المال حق ، وقرأ 19 ( { ما أفاء الله على رسوله } ) إلى قوله : 19 ( { والذين جاؤا م
____________________
(2/307)
بعدهم } ) وعن أحمد يقدم ذووا الحاجات .
2366 لما روى مالك بن أوس قال : [ ذكر عمر يوماً الفيء فقال ] : ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم ، وما منا من أحد بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل ، وقسمه رسول الله ، فالرجل وقدمه ، والرجل وبلائه ، والرجل وحاجته ، رواه أبو داود ، وقال القاضي : أهل الفيء هم أهل الجهاد ، ومن يقوم بمصالحهم ، ومن لا يعد نفسه للجهاد ، فلا حق له فيه . وهو يلتفت إلى أن الفيء كان لرسول الله ، لحصول النصرة والصلحة به ، فلما مات صارت المصلحة للجند ، وما يحتاج إليه المسلمون ، فصار ذلك لهم دون غيرهم .
2367 ويشهد لذلك قصة عمر المتقدمة : أن الله تعالى كان خص رسول الله بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره ، فقال تعالى : 9 ( { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } ) قال : فقسم رسول الله بينكم أموال بين النضير ، فوالله ما استأثر بها عليكم ، ولا أخذها دونكم ، حتى بقي هذا المال ، فكان رسول الله يأخذ منه نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي أسوة المال . وفي رواية : ثم يجعل ما بقي بجعل مال الله . والأول يلتفت إلى أن الفيء لم يكن ملكاً له ، وإنما كان يتصرف فيه بالأمر ، فهو لجميع المسملين .
2368 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( ما أعطيكم ولا أمنكم ، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ) رواه البخاري انتهى يبدأ عند العطاء بالمهاجرين ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( ثم بالأنصار ، ثم بسائر المسلمين ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب من رسول الله ، وهل يفاضل بينهم ؟ حكى أبو محمد فيه روايتين ، واختار أن ذلك موكول إلى رأي الإِمام واجتهاده ، وقال أبو البركات : وفي جواز التفضيل بينهم بالسابقة روايتان . فخص الخلاف .
2369 وقد روي عن أبي بكر وعلى رضي الله عنهما أنهما سويا ، فيروى أن أبا بكر سوى ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وهجروا ديارهم كمن إنما دخلوا في الإِسلام كرها ؟ فقال أبو بكر : 6 ( إنما عملوا لله ، وإنما أجورهم على الله ، وإنما الدنيا بلاغ ) .
2370 وعن عمر وعثمان أنهما فضلا .
2371 وعن نافع أن عمر كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلالف ؟ فقال : إنما هاجر به أبوه ، يقول : ليس هو ممن هاجر بنفسه .
____________________
(2/308)
2372 وعن قيس بن أبي حازم قال : كان عطاء البدريين خمسة آلاف ، خمسة آلاف وقال عمر : لأفضلنهم على من بعدهم . رواهما البخاري .
2373 وعن عوف بن مالك قال : كان رسول الله إذا أتاه الفيء قسمه في يومه ، فأعطى الآهل حظين ، وأعطى الأعزب حظا . زاد في رواية : فدعينا ، وكنت أدعى قبل عمار ، فدعيت فأعطاني حظين ، وكان لي أهل ، ثم دعي بعدي عمار بن ياسر فأعطي حظاً واحداً . رواه أبو داود ، وأحمد وحسنه ، والله أعلم .
قال : وأربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة .
2374 ش : كذا قال عمر رضي الله عنه ، وهو إجماع في الجملة ، وقد دل عليه قوله تعالى : 19 ( { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه } ) الآية ، كما تقدم تقريره ، وقوله : لمن شهد الوقعة ، يشمل من قاتل ، ومن لم يقاتل ، ممن قصده الجهاد ، كالتجار ، والصناع ، ويستثنى من الشاهدين صور ليس هذا موضع استثنائها .
قال : وللراجل سهم ، وللفارس ثلاث أسهم ، إلا أن يكون الفارس على هجين ، فيكون له سهمان ، سهم له وسهم لهجينه .
ش : لما ذكر الخرقي رحمه الله أن الغنيمة تخمس ، ذكر أن أربعة أخماسها لشاهدي الوقعة ، وذكر ذلك في كتاب الجهاد مستوفى ، وهو محله واللائق به ، فلنؤخره إلى هناك إن شاء الله تعالى .
قال : والصدقة لا يتجاوز بها الثمانية الأصناف التي سمى الله تعالى .
ش : أي الصدقة المفروضة ، وقد تقدمت هذه المسألة في الزكاة ، فلا حاجة إلى إعادتها .
قال : ( الفقراء ) وهم الزمنى ، والمكافيف ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( الذين لا حرفة لهم ، والحرفة الصنعة ، ولا يملكون خمسين درهماً ، أو قيمتها من الذهب ، ( والمساكين ) وهم السؤآل وغير السؤآل ، ومن لهم الحرفة إلا أنهم لا يملكون خمسين درهماً ، أو قيمتها من الذهب . .
ش : لما ذكر رحمه الله أن الصدقة لا يجاوز بها الثمانية الأصناف التي ذكرها الله تعالى طفق يبينها ، وقد تقدم أن الفقراء والمساكين صنف واحد في غير الزكاة ، وأنهما في الزكاة صنفان ، وقد أشعر كلام الخرقي بل نصه على أن الفقر أشد من المسكنة ، لأنه جعل الفقراء هم الزمنى ، والمكافيف أي العميان ، الذين لا حرفة لهم ، احترازاً ممن له منهم حرفة ، كمن ينفخ في الكير ، ونحو ذلك ، وجعل المساكين السؤال وهو حرفه ، أو من له منهم حرفة غير السوال ، وقد أومأ أحمد إلى ذلك ،
____________________
(2/309)
وعليه الأصحاب ، وينقل عن الأصمعي ، وابن الأنباري ، وذلك لأن الله سبحانه بدأ بالفقراء ، والعادة البداءة بالأهم ، لا يقال : فالغارم أسوأ حالا من الفقير ، لأنه اجتمع عليه الدين مع الفقر ، لأنه نقول : الغارم قد يكون غنياً ، كالغارم لإِصلاح ذات البين ، فلذلك أخر ، وأيضاً قوله تعالى : 19 ( { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر } ) فسماهم مساكين ، مع أن لهم سفينة ، لا يقال : سماهم مساكين لضعفهم عن الدفع عن سفينتهم ، بدليل 19 ( { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } ) لأنا نقول : إطلاق المساكين يقتضي الحاجة دون الدفع ، فيكون هذا هو الظاهر ، والحمل على الظاهر متعين ، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه .
2375 ولأن النبي استعاذ من الفقر .
2376 وسأل المسكنة فقال : ( اللهم أحيني مسكيناً ، وأمتني مسكيناً ، واحشرني من زمرة المساكين ) .
2377 وما يقال : إنه إنما استعاذ من فقر القلب ، بذلك ( ليس الغنى عن كثرة العرض ، وإنما الغني غنى النفس ) ويجاب عنه بما تقدم ، والحق أن الظاهر أنه إنما استعاذ من فقر القلب ، لأنه هو المذموم ، المطلوب عدمه ، إذ من افتقر قلبه لا يزال حزيناً ذليلًا ، وإن حصل له من الدنيا ما عسى أن يحصل ، أما من افتقر في المال ، وحصل له غنى النفس ، فهو راض بما أعطاه ربه ، محب له ، صابر ، فهو الفقير الصابر ، [ وهذا أمر في الحقيقة مطلوب ، فكيف يستعاذ منه ، والظاهر أن سؤاله المسكنة إنما هي الصفة التي يخرج بها عن هيئة المتكبرين ، والمتطاولين ، فيكون ] خاضعاً لربه ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( ذليلًا له ، وهو مقام العبودية .
2378 وفي الأثر 16 ( أنه سبحانه أوحى إلى موسى : إذا قمت بين يدي فقدم مقام الذليل الحقير . وكذلك أوحى إلى موسى : إذا قمت بين يدي فقم مقام الذليل الحقير . وكذلك أوحى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام ) انتهى .
وأيضاً فالاشتقاق يناسب ما قلناه ، إذ ( الفقير ) مشتق من : فقر الظهر . فعيل بمعنى مفعول ، أي مفقور ، وهو الذي نزعت فقرة ظهره ، فانقطع صلبه ، ( والمسكين ) مفيل من السكون ، وهو الذي أسكنته الحاجة ، ومن كسر صلبه أشد حالًا من الساكن ، ذكر ذلك ابن الأنباري ، وأما قوله سبحانه : 19 ( { أو مسكيناً ذا متربة } ) أي الملتصق بالتراب ، المطروح عليه ، فقال ابن الأنباري : لما نعته الله بهذا علمنا أنه ليس كل مسكين بهذه الصفة ، بل الأغلب عليه أن يكون له شيء ، فنعته بذلك أخرجه عن بقية المساكين . انتهى . أو يقال ) : المراد بالمسكين هنا الفقير ، إذ كل منهما يسمى فقيراً
____________________
(2/310)
ومسكيناً نظراً للحاجة .
إذ تقرر هذا فضابط ( الفقير ) من لا شيء له أصلًا ، أو له شيء لا يقع موقعاً من كفايته ، كمن كفايته درهمان ، ويحصل له نصف درهم ، ونحو ذلك ، ( والمسكين ) من يحصل له ما يقع موقعاً من كفايته ، كمن يحصل درهماً في صورتنا ، أو درهماً ونصفا ، وشرط جواز الدفع إليهما عند الخرقي أن لا يملكا خمسين درهماً ، أو قيمتها من الذهب ، بناء على ما تقدم له من أن من ملك [ ذلك فهو غني ، والغني لا تحل له الصدقة ، لكن قد يقال : إن ظاهر كلام الخرقي رحمه الله أن من له حرفة ولا يملك خمسين درهماً ، أو من يملك ] ، دون الخمسين درهماً ولا حرفة له ، أن له أخذ الزكاة ، وإن كان ذلك يقوم بكفايته ، وليس كذلك ، إذ من حصلت له الكفاية بصناعة أو غيرها ، ليس له أخذ الزكاة بلا ريب ، وإن لم يملك شيئاً ، وكلام الخرقي فيما إيماء لذلك ، إذ لفظ ( الفقير والمسكين ) يشعران بالحاجة ، ومن له كفاية فليس بمحتاج ، والله أعلم .
قال : 19 ( { والعاملين عليها } ) وهم الجباة والحافظون لها .
ش : العمال على الزكاة هم الذين يبعثهم الإِمام لجباية الصدقة ، وحفظها ، وكتابتها ، وحسبها ، ونقلها ، ومن في معناهم ، وهم السعاة .
2379 وقد بعث النبي جماعة ، فبعث عمر ، ومعاذا ، وأبا موسى ، ورجلًا من بني مخزوم ، وغيرهم ، وذكر أبو محمد من العمال الكيال ، والوزان ، والعداد ، وقال في التلخيص : ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( إن أجرة الكيال والوزان على المالك ، وهو حسن ، لأن ذلك من تمام التسليم الواجب على المالك ، وقد يقال : مراد أبي محمد إذا احتيج إلى الكيال والوزان بعد ذلك ، ويشترط للعامل البلوغ والعقل ، والأمانة ، لأنها ضرب من الولاية ، والولاية يشترط فيها ذلك ، ولعدم صحة قبض الصبي ، والمجنون ، وخوف ذهاب المال في يد الخائن ، وفي اشتراط إسلامه ، وكونه من غير ذوي القربى روايتان تقدمتا ، ولا يشترط حريته ، ولا فقره ، ولا فقهه ، والله أعلم .
قال : 19 ( { والمؤلفة قلوبهم } ) وهم المشركون المتألفون على الإِسلام .
ش : قد تقدم الكلام في المؤلفة ، وأن حكمهم باق ، وهم السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم ، وهم ضربان ، مسلمون ومشركون ، وهم قسمان ، ( قسم ) يرجى إسلامه ، وهو الذي ذكره الخرقي ، فيعطى لتقوى نيته في الإِسلام ، ويميل إليه .
2380 فعن أنس بن مالك رضي الله عنه 16 ( أن رسول الله لم يكن يسأل شيئاً على الإِسلام إلا أعطاه ، قال : فأتاه رجل فسأله ، فأمر له بشاء كثيرة بين جبلين ، من شاء الصدقة ، فرجع إلى قومه ، وقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة ) . رواه أحمد ، ( وقسم ) يخشى شره ، فيعطى لكف شره وشر غيره معه .
____________________
(2/311)
2381 فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوما كانوا يأتون النبي ، فإن أعطاهم مدحوا الإِسلام ، وقالوا : هذا دين حسن . وإن منعهم ذموا وعابوا . وأما المسلمون فعلى أربعة أضرب ( الأول ) : قوم من سادات المسلمين ، لهم نظراء من الكفار ، إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم فيعطون .
2382 لأن أبا بكر رضي الله عنه أعطى عدي بن حاتم والزبرقان مع حسن نياتهما . ( الثاني ) : سادات يرجى بعطيتهم قوة إيمانهم ، فيعطون .
2383 لأن النبي أعطى عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، وغيرهما .
2384 وعن عمرو بن تغلب ، أن رسول الله أعطى أناساً ، وترك أناساً ، فبلغه عن الذين ترك أنهم عتبوا ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ( إني أعطي ناساً ، وأدع ناساً ، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ، أعطي أناساً لما في قلوبهم من الجزع والهلع ، وأكل أناساً لما في قلوبهم من الغنى والخير ، منهم عمرو بن تغلب ) .
2385 وعن أنس قال : حين أفاء الله على رسوله أموال هوازن ، طفق رسول الله يعطي رجالًا من قريش مائة من الإِبل ، فقال أناس من الأنصار : يغفر الله لرسول الله يعطي رجالًا من قريش مائة من الإِبل ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( فقال أناس من الأنصار : يغفر الله لرسول الله ، يعطي قريشاً ويمنعنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم ، فقال رسول الله : ( إني أعطي رجالًا حديثي عهد بكفر ، أتألفهم ) متفق عليه .
( الثالث ) : قوم في طرف بلاد الإِسلام إذا أعطوا دفعوا عن من يليهم من المسلمين ، ( الرابع ) : قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة ممن لا يعطيهم إلا أن يخاف .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : يقبل قوله في ضعف نيته في الإِسلام ، ولا يقبل قوله في أنه مطاع في قومه إلا ببينة ( الثاني ) : ( الشاء ) جمع شاة ( والهلع ) تفسيره في قوله سبحانه : 19 ( { إن الإِنسان خلق هلوعا ، إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا } ) .
2386 يروى عن الأصمعي أنه سئل عن تفسير الهلوع ، فقال للسائل : اقرأ الآية . ( والحديث العهد ) بالشيء القريب منه .
قال : 19 ( { وفي الرقاب } ) ، وهم المكاتبون ، وقد روي عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه يعتق منها .
ش : اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في المراد بالرقاب ، ( فروي عنه )
____________________
(2/312)
واختاره الخلال أنهم المكاتبون فقط ، ورجع عن القول بالعتق ، قال في رواية صالح : كنت أذهب إلى أن يعتق ثم جبنت عنه . لأنه يجر ولاءه ، ويكون له منفعته ، وقال في رواية محمد بن موسى : كنت أقوله ثم هبته . وقال في رواية ابن القاسم وسندي : قد جبنت . وذلك لأن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونهم على صفة يوضع سهمهم فيها ، وهذا في المكاتبين ، لأن سهمهم يدفع إليهم ، وما يقال من أن تقدير الآية : وفي حرية الرقاب . يقال : هذا فيه إضمار والأصل عدمه ، ( وروى عنه ) أنه العتق فقط ، لأن الظاهر من إطلاق الرقبة الرقبة الكاملة ، وحقيقة ذلك في العتق ، لأن المكاتب وجد فيه سبب الحرية ، ( وروي عنه ) واختاره القاضي في التعليق وغيره أن المراد من الرقاب المكاتبون ، وافتداء الأسرى ، والعتق ، لأن قوله : 19 ( { وفي الرقاب } ) يدخل تحته المكاتبون ، والعبد القن .
2387 وعن ابن عباس رضي الله عنه : 16 ( لا بأس أن يعتق من زكاة ماله ) ، ذكره عنه أحمد والبخاري .
2388 وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي فقال : دلني على عمل يقربني من الجنة ، ويباعدني من النار ، فقال : ( أعتق النسمة ، وفك الرقبة ) فقال : ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( يا رسول الله أوليسا واحداً ؟ قال : ( لا ، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ) رواه أحمد ، والدارقطني ، وإذا ثبت الحكم في المكاتب ، والعبد القن ، ففي افتداء الأسير بطريق الأولى ، لأنه تخليص رقبته من يد كافر ، وهو أولى من تخليص الرقبة من يد مسلم .
وشرط المكاتب أن يكون مسلماً ، وأن لا يجد وفاء ، ويجوز الدفع إليه قبل حلول النجم ، على أشهر القولين ، وشرط المعتق أن لا يعتق بالشراء ، نص عليه أحمد رحمه الله والله أعلم .
قال : فما رجع من الولاء رد في مثله .
ش : يعني يعتق به أيضاً ، وقد تقدم حكم هذه المسألة فيما إذا أعتق عبداً سائبة ، إذ المسألتان حكمهما واحد ، والله أعلم .
قال : 19 ( { والغارمين } ) وهم المدينون ، العاجزون عن وفاء دينهم .
ش : المدين العاجز عن وفاء دينه غارم بلا ريب ، وشرط الدفع إليه أن يكون غرمه في مباح ، أما إذا كان في محرم فلا يجوز الدفع إليه قبل التوبة بلا ريب ، حذارا من الإِعانة على المعصية ، وفيما بعد التوبة وجهان ، ( الجواز ) وهو المذهب ، اختاره القاضي ، وابن عقيل ، وأبو البركات ، وصاحب التلخيص ، وغيرهم ، نطراً إلى زوال أثر الذنب بالتوبة ، إذ التوبة تجب ما قبلها ، ( والمنع ) حسما للمادة ، لاحتمال العود ثقة بالوفاء .
____________________
(2/313)
ومن الغارمين ضرب غرم لإِصلاح ذات البين ، وهو أن يقع بين الحيين أو أهل القريتين عداوة ، يتلف فيها نفس أو مال ، ويتوقف صلحهم على من يتحمل ذلك ، فيتحملها إنسان ، فيجوز الدفع إليه وإن قدر على الوفاء ، لأن إعطاءه لمصلحتنا .
2389 وفي مسلم ، وسنن أبي داود ، والنسائي عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله عنه قال : تحملت حمالة ، فأتيت رسول الله أسأله فيها ، فقال : ( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ) ثم قال : ( يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة ، رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة اجائحة اجتاحت ماله ، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً عن عيش أو قال : سداداً من عيش ورجل أصابته فاقة ، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة . فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال : سداداً من عيش فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا ) انتهى . أما من تحمل لضمان أو كفالة ، فحكمه حكم من غرم لمصلحة نفسه ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( فلا يعطى مع الغنى ، وقيل : بل حكمه حكم من غرم لإِصلاح ذات البين ، فيعطى وإن كان غنياً ، بشرط أن يكون الأصل معسرا .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : إذا أراد الدفع إلى الغارم فهل يجب الدفع إليه ليقضي دينه ، أو يجوز الدفع إلى غريمه وفاء عن الدين ؟ فيه روايتان ، أنصهما الجوز ( الثاني ) ( الحمالة ) بفتح الحاء ، والله أعلم .
قال : وسهم في سبيل الله ، وهم الغزاة ، يعطون ما يشترون به الدواب والسلاح وما يتقوون به على العدو ، وإن كانوا أغنياء .
ش ؛ لا خلاف أن الغزاة من السبيل ، اعتماداً على العرف في ذلك ، ونظراً إلى أن عامة ما ورد في القرآن كذلك ، ويجوز الدفع إليهم وإن كانوا أغنياء كما تقدم ، ويشترط كونهم من غير أهل الديوان ، ويقبل قوله في إرادة الغزو ، وهل يجوز للمزكي أن يشتري الدواب ، والسلاح ، ونحوهما ، ويدفعها إليه ، أو يجب أن يدفع إليه المال ، ليشتري هو بنفسه ؟ فيه روايتان ، أشهرهما الثانية ، والله أعلم .
قال : ويعطي أيضاً في الحج ، وهو ممن سبيل الله تعالى .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية الميموني ، والمروذي ، وعبد الله ، واختاره القاضي في التعليق وجماعة .
2390 لما روي عن أم معقل الأسدية رضي الله عنها ، أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله ، وأنها أرادت العمرة ، فسألت زوجها البكر ، فأبى ، فأتت النبي ، فذكرت ذلك له ، فأمره أن يعطيها ، وقال رسول الله : ( الحج والعمرة في سبيل
____________________
(2/314)
الله ) رواه أحمد .
2391 وعن أبي لاس الخزاعي رضي الله عنه ، قال : حملنا النبي على إبل الصدقة إلى الحج . رواه أحمد ، وذكره البخاري تعليقاً .
2392 وعن ابن عمر أنه قال : 16 ( الحج من سبيل الله ) . وعن ابن عباس نحوه ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن الحج ليس من السبيل ، اختارها أبو محمد ، اعتماداً على أن العرف في إطلاق السبيل إرادة الغزو ، ونظراً إلى أن المعطى من الأصناف إما لمصلحته كالفقير ، والمسكين ، والمكاتب والغارم لقضاء دينه ، أو لمصلحتنا كالعامل ، والغازي ، والمؤلف ، والغارم لإِصلاح ذات البين ، والحج لا نفع للمسلمين فيه ، ولا للفقير ، لعدم وجوب الحج عليه ، وأجاب القاضي بأن له فيه مصلحة ، لأنه يسقط به فرضاً ماضياً أو مستقبلًا . انتهى ، وقد يقال : إنه من مصلحتنا ، لما فيه من الاهتمام بهذا الشعار العظيم .
( تنبيه ) : إذا قلنا : يعطى في الحج . فشرط المدفوع إليه الفقر ، على ما جزم به الشيخان وغيرهما ، وهو أحد احتمالي صاحب التلخيص ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( وأبو البركات ، وغيرهم ، والله أعلم .
قال : ( وابن السبيل ) وهو المنقطع به ، وله اليسار في بلده ، فيعطى من الصدقة ما يبلغه .
ش : ابن السبيل المسافر الذي ليس معه ما يوصله إلى بلده ، وإن كان له اليسار في بلده ، هذا هو المذهب المنصوص المعروف ، اعتماداً على حقيقة اللفظ ، إذ حقيقة اللفظ أن ابن السبيل هو المسافر ، لملازمته للسبيل ، دون منشيء السفر من بلده ، فإنه إنما يصير ابن السبيل في المآل ، ( وعن أحمد ) رحمه الله ما يدل على جواز الدفع لمن أراد إنشاء السفر نظراً إلى أنه إنما يأخذ لسفر مستقبل ، إذ الماضي قد انقضى حكمه ، فإن كان ابن السبيل مجتازاً ، يريد بلداً غير بلده ، فظاهر كلام الخرقي وهو قول عامة الأصحاب أنه يجوز أن يدفع إليه ما يكفيه في مضيه إلى مقصده ، ورجوعه إلى بلده ، بشرط كون جائزاً ، إما قربة كالحج ونحوه ، وإما مباحاً كالتجارة ونحوها ، ولا يجوز الدفع في سفر المعصية ، وفي سفر النزهة وجهان ، ( الجواز ) لعدم المعصية ، ( والمنع ) لعدم الحاجة إليه ، واختار أبو محمد منع الإعطاء لمن أراد غير بلده ، لأن احتياجه إلى بلده آكد ، فلا يلحق به غيره ، والله أعلم .
قال : وليس عليه أن يعطي لكل هؤلاء الأصناف ، وإن كانوا موجودين ، وإنما عليه أن لا يجاوزهم .
____________________
(2/315)
ش : قد تقدمت هذه المسألة وحكمها في الزكاة ، فلا حاجة إلى إعادته ، ونزيد هنا أنه إذا اجتمع في واحد سببان ، جاز له الأخذ بكل منها ، كغارم وفقير ، يعطى لغرمه ، ثم ما يغنيه ، والله أعلم .
قال : ولا يعطى من الصدقة المفروضة لبني هاشم ، ولا لمواليهم ، ولا للوالدين وإن علوا ، ولا للولد وإن سفل ، ولا للزوج ، ولا للزوجة ، ولا لمن تلزمه مئنته ، ولا لكافر ، ولا للمملوك ، إلا أن يكونوا من العاملين ، فيعطون بحق ما عملوا ، ولا لغني ، وهو الذي يملك خمسين درهماً ، أو قيمتها من الذهب .
ش : قد تقدمت هذه المسائل مستوفاة في الزكاة ، فلا حاجة إلى إعادتها ، والله أعلم .
قال : وإذا تولى الرجل إخراج زكاته سقط العاملون .
ش : قد تقدمت هذه المسألة أيضاً ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
هـ رسول الله ، فالرجل وقدمه ، والرجل وبلائه ، والرجل وحاجته ، رواه أبو داود ، وقال القاضي : أهل الفيء هم أهل الجهاد ، ومن يقوم بمصالحهم ، ومن لا يعد نفسه للجهاد ، فلا حق له فيه . وهو يلتفت إلى أن الفيء كان لرسول الله ، لحصول النصرة والصلحة به ، فلما مات صارت المصلحة للجند ، ) ) ) 19 ( 19 ( 19 ( وما يحتاج إليه المسلمون ، فصار ذلك لهم دون غيرهم .
2367 ويشهد لذلك قصة عمر المتقدمة : أن الله تعالى كان خص رسول الله بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره ، فقال تعالى : 19 ( { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } ) قال : فقسم رسول الله بينكم أموال بين النضير ، فوالله ما استأثر بها عليكم ، ولا أخذها دونكم ، حتى بقي هذا المال ، فكان رسول الله يأخذ منه نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي أسوة المال . وفي رواية : ثم يجعل ما بقي بجعل مال الله . والأول يلتفت إلى أن الفيء لم يكن ملكاً له ، وإنما كان يتصرف فيه بالأمر ، فهو لجميع المسملين .
2368 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( ما أعطيكم ولا أمنكم ، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت ) رواه البخاري انتهى يبدأ عند العطاء بالمهاجرين ، ثم بالأنصار ، ثم بسائر المسلمين ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب من رسول الله ، وهل يفاضل بينهم ؟ حكى أبو محمد فيه روايتين ، واختار أن ذلك موكول إلى رأي الإِمام واجتهاده ، وقال أبو البركات : وفي جواز التفضيل بينهم بالسابقة روايتان . فخص الخلاف .
____________________
(2/316)
( كتاب النكاح )
ش : النكاح في كلام العرب الوطء قاله الأزهري ، وسمي التزويج نكاحاً لأنه سبب الوطء ، قال أبو عمر غلام ثعلب : الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين . قال الشاعر :
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يجتمعان
وقال الجوهري : النكاح الوطء ، وقد يكون العقد . وعن الزجاجي : النكاح في كلام العرب بمعنى الوطء والعقد جميعاً ، وقال ابن جني عن شيخه الفارسي : فرقت العرب فرقاً لطيفاً يعرف به موضع العقد من الوطء ، فإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته . لم يريدوا إلا المجامعة . ( قلت ) وظاهر هذا الاشتراك كالذي قبله ، وأن القرينة تعين .
وأما في الشرع فقيل : العقد ، فعند الاطلاق ينصرف إليه ، اختاره ابن عقيل ، وابن البنا ، وأبو محمد ، والقاضي في التعليق ، في كون المحرم لا ينكح ، لما قيل له : إن النكاح حقيقة في الوطء قال : إن كان في اللغة حقيقة في الوطء ، فهو في عرف الشرع للعقد ، وذلك لأنه الأشهر في الكتاب والسنة ، ولهذا ليس في الكتاب لفظ النكاح بمعنى الوطء إلا قوله : 19 ( { حتى تنكح زوجا غيره } ) على المشهور ، ولصحة نفيه عن الوطء ، فيقال . هذا سفاح وليس بنكاح . وصحة النفي دليل المجاز . قال القاضي في المجرد : الأشبة بأصلنا أنه حقيقة في العقد والوطء جميعاً ، لقولنا بتحريم موطوءة الأب من غير تزويج ، لدخولها في قوله سبحانه : 19 ( { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } ) الآية وذلك لورودهما في الكتاب العزيز ، والأصل في الاطلاق الحقيقة ، وقال القاضي في العدة ، وأبو الخطاب ، وأبو يعلى الصغير : هو حقيقة في الوطء ، مجاز في العقد ، وذلك لما تقدم عن الأزهري ، وعن غلام ثعلب ، والأصل عدم النقل ، قال أبو الخطاب : وتحريم من عقد عليها الأب استفدناه بالإجماع والسنة .
وهو مشروع بالإجماع القطعي في الجملة ، وسنده قول الله سبحانه : 19 ( { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } ) وقوله : وأنكحوا الأيامى منكم ، والصالحين من عبادكم وإمائكم .
____________________
(2/317)
2393 وفي الصحيحين وغيرهما عن علقمة قال : كنت أمشي مع عبد الله بمنى ، فلقيه عثمان فقام معه يحدثه ، فقال له عثمان : يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك جارية شابة ، لئن قلت ذلك ، لقد قال لنا رسول الله : ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء ) وغير ذلك مما لا يحصى كثرة .
ثم النكاح على الطريقة المشهورة تارة يجب ، كما إذا خاف الزنا بتركه ، وتارة يسن علي المشهور من الروايتين ، كالأمن من السابق ، والثانية واختاره أبو بكر والبرمكي يجب ، وتارة يباح على رواية ، اختارها القاضي في النكاح من المجرد ، وابن عقيل في التذكرة ، وابن البنا ، ويستحب على أخرى ، واختاره القاضي في الطلاق من المجرد ، وهو إذا لم يتق إليه لكبر ، أو مرض أو غير ذلك ، وللأصحاب طرق غير ذلك ، ومن أحسنها قول القاضي أبي يعلى الصغير أنه فرض كفاية ، وحيث قيل بالوجوب هل يندفع بالتسري ؟ فيه وجهان .
( تنبيه ) في الباءة أربع لغات ، ( باءة ) بالمد ، مثال ( باعة ) ( وباء ) بالمد أيضاً بلا هاء ( وباهة ) بلا مد ، وبالهاء والتاء ، و ( باه ) بلا مد مقصوراً أيضاً ، وأصل الباه في اللغة المنزل ، ثم قيل لعقد النكاح ، لأن من تزوج امرأة بوأها منزلًا ، وقد يسمى النكاح نفسه باه ، والمراد في الحديث والله أعلم الأول وإلا فلا حاجة إلى الصوم ( والوجاء ) بكسر الواو ممدوداً رض الأنثيين ، أي أن الصوم قاطع لشهوة النكاح كالوجاء ، والله أعلم .
قال ولا ينعقد النكاح إلا بولي .
ش : هذا هو المذهب المنصوص ، والمعروف عند الأصحاب ، لا يختلفون في ذلك .
2394 وذلك لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال : إن النبي قال : ( لا نكاح إلا بولي ) رواه الخمسة إلا النسائي ، وصححه ابن المديني وغيره ، وهو نفي للحقيقة الشرعية ، أي لا نكاح شرعي ، أو موجود في الشرع ، إلا بولي .
2395 وعن سليمان بن موسى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ،
____________________
(2/318)
وقال المروذي : سألت أحمد ويحيى عن حديث سليمان بن موسى : ( لا نكاح إلا بولي ) فقالا صحيح ، ولأن ذلك قول جمهور الصحابة .
2396 روي معنى ذلك عن علي ، وأبي هريرة رواه الدارقطني ، وعن عمر ، وابن عباس ، وحفصة ، رواه الشالنجي ، وعن أبي سعيد الخدري ، رواه أبو بكر ، وعن ابن مسعود ، وابن عمر ، وادعى القاضي أنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم .
وحكى طائفة من الأصحاب عن أحمد رواية بعدم اشتراط الولي مطلقاً ، وأبو محمد خص الرواية بحال العذر ، كما إذا عدم الولي والسلطان ، واختلف في مأخذ الرواية ، فابن عقيل أخذها من قول 16 ( أحمد ) في دهقان القرية : يزوج من لا ولي لها ، إذا احتاط لها في المهر والكفؤ ، وغلطة أبو العباس في ذلك ، قلت لأن دهقان القرية هو كبيرها ، فهو بمنزلة حاكمها ، والقائم بأمرها ، وأخذها ابن أبي موسى من رواية أن المرأة تزوج أمتها ومعتقتها .
وبالجملة استدل لعدم الاشتراط بقوله تعالى : 19 ( { فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن } ) فأضاف النكاح إليهن ، ونهى عن منعهن منه ، وظاهره أن المرأة يصح أن تنكح نفسها ، ونحوه قوله تعالى : 19 ( { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } ) وقوله تعالى : 19 ( { فإذا بلغن أجلهن فلا نكاح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } ) فأباح سبحانه فعلها في نفسها من غير شرط الولي .
2397 يؤيده قوله : ( ليس للولي مع الثيب أمر ) .
2398 وأيضاً روي أن النبي لما خطب أم سلمة قالت : ليس أحد من أوليائي حاضراً . فقال : ( ليس من أوليائك حاضر ولا غائب إلا ويرضاني ) فقالت لابنها عمر بن أبي سلمة وكان صغيراً : قم فزوج رسول الله . فتزوج رسول الله بغير ولي ، وإنما أمرت ابنها بالتزويج على وجه الملاعبة ، إذ قد نقل أهل العلم بالتأريخ أنه كان صغيراً قبل ست سنين ، وبالإجماع لا تصح ولاية مثل ذلك ، ولهذا قالت : ليس أحد من أوليائي حاضراً .
2399 وأيضاً قصة صاحب الإزار فإنه قال له : ( زوجتكما ) ولم يسأل هل لها ولي أم لا .
واعترض على حديث أبي موسى بأن محمد بن الحسن روى عن أحمد أنه سئل عن النكاح بغير ولي يثبت فيه شيء عن النبي ؟ فقال : ليس يثبت عندي فيه شيء عن النبي ، ثم هو محمول على نفي الكمال ، ثم يقال بموجبه ، وأن نكاح المرأة نفسها نكاح بولي ، والنكاح بغير ولي نكاح المجنونة والصغيرة ، إذ لا ولاية لهم على
____________________
(2/319)
أنفسهم ، وعن حديث عائشة بأن راويه سليمان بن موسى وقد ضعفه البخاري ، وقال النسائي : في حديثه شيء ، وقال أحمد في رواية أبي طالب : حديث عائشة : ( لا نكاح إلا بولي ) ليس بالقوي ، وقال في رواية المروذي : ما أراه صحيحاً ، لأن عائشة فعلت بخلافه ، قيل له : فلم تذهب إليه ؟ قال : أكثر الناس عليه . ثم إن ابن جريج نقل عن الزهري أنه أنكر الحديث ، قال أحمد في رواية أبي الجارث : لا أحسبه صحيحاً ، لأن إسماعيل قال : قال ابن جريج : لقيت الزهري فسألته فقال : لا أعرفه . ويقوي الإنكار أن الزهري قال بخلاف ذلك قاله أحمدوغيره ، ثم مفهوم الحديث أنه يصح نكاحها بإذن وليها ، واعترض على إجماع الصحابة بفعل عائشة ، كما تقدم عن أحمد ، وقال في رواية أخرى : لا يصح الحديث عن عائشة ، لأنها زوجت بنات أخيها .
2400 وقد روى الشالنجي بإسناده عن القاسم قال : زوجت عائشة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من ابن الزبير ، فقدم عبد الرحمن فأنكر ذلك ، وقال : مثلي يفتات عليه ؟ فقالت عائشة : أو ترغب عن ابن الحواري .
وأجيب عن الآية الأولى بأنها حجة لنا ، لأنه سبحانه خاطب الأولياء ، ونهاهم عن العضل وهو المنع ، وهو شامل للعضل الحسي والشرعي ، لأنه اسم جنس مضاف ، وهذا يدل على أن العضل يصح منهم دون الأجانب .
2401 ثم الآية نزلت في معقل بن يسار ، حين امتنع من تزويج أخته ، فدعاه النبي فزوجها ، ولو لم يكن لمعقل ولاية ، وأن الحكم متوقف عليه ، لما عوتب في ذلك ، وإضافة النكاح إليها لتعلقه بها ، وكذلك الجواب عن الآية الثانية ، ثم سياقها في أنها لا تحل للزوج الأول إلا بعد نكاح ، وعن الثالثة بأن الفعل بالمعروف أن يكون بولي ، وقوله : ( ليس للولي مع الثيب أمر ) نقول به ، إذ لا أمر له معها ، إذ حقيقة الأمر ما وجب على المأمور امتثاله ، والثيب لا تجبر على النكاح ، وافتقار نكاحها إلى الولي لا يقتضي أن يكون له عليها أمر ، وأما تزوجه بأم سلمة فمن خصائصه ، قال أحمد في رواية الميموني ، وقد سئل : من زوج النبي ؟ فقال : يقولون : النجاشي . فقيل له : يقولون : النجاشي أمهرها ؟ وأراد الذي سأله بهذا حجة على من قال بالولي ، فتغير وجه أبي عبد الله ، وقال : يقوم مقام النبي في هذا أحد ؟ 19 ( { النبي أولى بالمؤمنين } ) وهو في المكاح ليس كغيره ، وقضية صاحب الإزار قضية عين ، محتمل أنه علم أنه لا ولي لها .
واعتراضاتهم أما على حديث أبي موسى فالصحيح المشهور عن أحمد تثبيته وتصحيحه ، والحمل على نفي الكمال خلاف الظاهر ، إذ الأصل والظاهر في النفي إنما هو لنفي الحقيقة ، وهي هنا الشرعية ، أي لا نكاح موجود في الشرع ، وإطلاق الولي ينصرف إلى الذكر يقال : ولي وولية إذ هو فعيل بمعنى فاعل ، فيفرق بين مذكره ومؤنثه .
____________________
(2/320)
2402 مع أن الخلال روى في كتاب العلل ( أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها ) وهذا يبين أن المراد بالولي غير المنكوحة ، وأما حديث عائشة رضي الله عنها فسليمان بن موسى ثقة كبير ، قال الترمذي : لم يتكلم فيه أحد من المتقدمين إلا البخاري وحده ، لأحاديث انفرد بها ، ومثل هذا لا يرد به الحديث ، ولهذا كان المشهور ، عن أئمة الحديث تصحيحه ، وما نقل من إنكار الزهري فقد قال 16 ( أحمد ) و يحيى : لم ينقل هذا عن ابن جريج غير ابن علية ، قال ابن عبد البر : وقد أنكر أهل العلم ذلك من روايته ، ولم يعرجوا عليها ، ولو ثبت ذلك لم يقدح في الحديث ، إذا رواه عنه ثقة ، على المشهور من قولي العلماء ، إذ النسيان لم يعصم منه إنسان .
2403 قال : ( نسي آدم فنسيت ذريته ) ورد أحمد له كذلك هو على الرواية غير المشهورة عنه ، من أن نسيان الراوي قادح ، ولهذا كان المشهور عنه تصحيحه والأخذ به ، ثم قد قيل : إنه كان في الحديث زيادة ذكرها سليمان بن موسى ، فسئل الزهري عنها فقال : لا أحفظها ، ولم يرد به أصل الحديث ، ذكر ذلك ابن المنذر والأثرم في العلل ، وكون الزهري و عائشة قالا بخلافه لا يضر ، لجواز النسيان أو التأويل ، إذ الاعتبار بما روى لا بما رأى ، وتضعيف أحمد له كذلك هو أيضاً على خلاف المشهور عنه ، والمعروف عن علماء الحديث .
2404 ثم قد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت إذا أرادت أن تزوج أرسلت ستراً وقعدت وراءه وتشهدت ، فإذا لم يبق إلا النكاح قالت : يا فلان أنكح ، فإن النساء لا ينكحن ، قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله هذا الحديث ؟ فقال : روى ابن جريج قال : أخبرت عن عبد الرحمن . مرسلًا كذا ، وابن إدريس يقول عن ابن جريج ، عن عبد الرحمن عن القاسم ، لا يقول : أخبرت . وقول الراوي : إذا أرادت أن تزوج . أي تشهد النكاح ، لأجل المشاورة ، وقوله : قالت : يا فلان أنكح . أي في إمائها ونحو ذلك .
( تنبيه ) ( اشتجروا ) التشاجر الخصومة ، والمراد به والله أعلم المنع من العقد ، دون المشاحة في العقد ، إذ مع المشاحة فيه يقدم الأقرب فالأقرب ، ومع الاستواء العقد لمن سبق ، وتقديم أحدهم بالقرعة ، تقديم أولوية على الصحيح ، والله أعلم .
قال : وشاهدين من المسلمين .
ش : أي لا ينعقد إلا بشاهدين من المسلمين ، وهذا هو المشهور عن أحمد ، رواه الجماعة ، واختاره الأصحاب .
2405 لأن في بعض طرق حديث عائشة ( أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها وشاهدي عدل فنكاحها باطل ) ذكره الدارقطني عن عيسى بن يونس ، عن ابن
____________________
(2/321)
جريج ، عن سليمان بن موسى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، عن النبي .
2406 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة ) رواه الترمذي وقال : لم يرفعه غير عبد الأعلى ، ووقفه مرة ، والوقف أصح . قال بعض الحفاظ : وعبد الأعلى ثقة ، فيقبل رفعه وزيادته .
2407 وروى مالك في الموطأ عن أبي الزبير المكي ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة ، فقال : هذا نكاح السر ، ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمته وخص النكاح والله أعلم باشتراط الشهادة ، دون غيره من العقود ، لما فيه من تعلق حق غير المتعاقدين ، وهو الولد .
وعن 16 ( أحمد ) رواية أخرى : ونعقد بدون شهادة ، ذكرها أبو بكر في المقنع ، وجماعة .
2408 لأن النبي أعتق صفية ، وتزوجها بغير شهود ، وقال للذي تزوج الموهوبة ( زوجتكها بما معك من القرآن ) ولم ينقل أنه أشهد .
2409 واحتج أحمد بأن ابن عمر زوج بلا شهود ، ويروى ذلك أيضاً عن ابن الزبير ، والحسن بن علي رضي الله عنهم ، ولأنه عقد معاوضة ، أشبه البيع ، وما تقدم من الحديث ، قال أحمد في رواية الميموني : لم يثبت عن النبي في الشاهدين شيء ، وكما قال ابن المنذر .
ويجاب بأن تزويجه بلا شهود من خصائصه كما تقدم في الولي ، وقضية الموهوبة قضية عين ، والأحاديث يتقوى بعضها ببعض ، واعلم أن النص في هذه الرواية عن أحمد مطلق ، ولذلك أطلقه الجمهور ، وقيده أبو البركات بما إذا لم يكتموه ، فإذاً مع الكتم تشترط الشهادة رواية واحدة ، وهو والله أعلم من تصرفه ، وكذلك جعله ابن حمدان قولًا .
وقول الخرقي : من المسلمين . يقتضي اشتراط الإسلام في الشاهدين ، وذلك لقول الله تعالى : 19 ( { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ) وخرج بذلك شهادة أهل الذمة وإن كانت المرأة ذمية وهو المنصوص والمشهور عند الأكثرين ، وقيل : إن قبلنا شهادة بعضهم على بعض صح بشهادة أهل الذمة ، وقد يخرج أيضاً بقوله شهادة النساء ، وليس بالبين ، وبالجملة المذهب أن شهادتهن لا تعتبر في النكاح .
2410 قال الزهري : مضت السنة من رسول الله أن لا تجوز شهادة النساء
____________________
(2/322)
في الحدود ، ولا في النكاح ، ولا في الطلاق . رواه أبو عبيد في كتاب أدب القضاة قاله القاضي ونقل عنه حرب إذا تزوج بشهادة نسوة لم يجز ، فإن كان معهن رجل فهو أهون . فأثبت ذلك القاضي وجماعة من أصحابه رواية ، ومنع ذلك أبو حفص العكبري وقال : قوله : هو أهون . يعني في اختلاف الناس ، ( ودخل ) في كلام الخرقي العبد والأعمى وهو كذلك ، وكذلك الأخرس ، وهو صحيح إن قبل الأداء منه بالخط وإلا فلا ، لعدم إمكان الأداء ، ( ودخل ) أيضاً مستور الحال ، وهو المشهور من الوجهين ، وإن لم نقبله في الأموال ، قطع به القاضي في المجرد ، وفي التعليق في الرجعة ، وابن عقيل حاكياً له عن الأصحاب ، والشيرازي وابن البنا وأبو محمد وغيرهم لتعذر البحث عن عدالة الشهود في الباطن غالباً ، لوقوع النكاح في البوادي ، وبين عوام الناس ( والوجه الثاني ) : لا بد من العدالة الباطنة كغيره ، وهو احتمال للقاضي في التعليق بعد أن أقر أنه لا يعرف الرواية عن الأصحاب ، ( ودخل ) أيضاً الفاسق لأنه مسلم ، وهو رواية عن 16 ( أحمد ) ، والمنصوص عنه أنه لا ينعقد بفاسقين ، وتعجب من قول أبي حنيفة في ذلك ( ودخل ) أيضاً في كلامه عدو الزوج أو المرأة أو الولي أو متهم لرحم من أحدهم ، وهو أحد الوجهين في الجميع ، ( وقد يدخل ) في كلامه المراهق وهو إحدى الروايتين ، والمذهب اشتراط البلوغ ، ولا يرد عليه الطفل والمجنون والأصم ، لخروجهم عقلًا وعرفاً ، وقد يقال : قول الخرقي : شاهدين . أحال فيه على الشهادات وأنه لا بد من شروط الشهادة المعتبرة أيضاً ، لكن يبقى قوله : من المسلمين . ضائعاً .
( تنبيه ) : البغايا الزواني ، والله أعلم .
قال : وأحق الناس بنكاح المرأة الحرة أبوها .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب ، لأنه أكمل نظراً ، وأشد شفقة ، ولهذا اختص بولاية المال ، وجاز شراؤه من مال ولده وبيعه له من ماله بشرطه ، ولأن الولد موهوب لأبيه ، قال الله تعالى : 19 ( { ووهبنا له يحيى } ) وقال إبراهيم عليه السلام : 19 ( { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق } ) .
2411 وقال النبي : ( أنت ومالك لأبيك ) وإذاً تقديم الأب الموهوب له على الابن الموهوب أولى من العكس ، وحكى ابن المنى في تعليقه قولًا بتقديم الابن على الأب كما في الميراث والله أعلم .
قال : ثم أبوه وإن علا .
ش : هذا أشهر الروايتين ، وهو المذهب عند العامة ، الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي ، وجمهور أصحابه وغيرهم ، لأن له إيلاداً وتعصيباً أشبه الأب ، ( والرواية الثانية ) تقديم الابن عليه ، اختارها ابن أبي موسى ، والشيرازي ، كما في الميراث ،
____________________
(2/323)
وعلى هذه هل يقدم الجد على الأخ لامتيازه بالإيلاد ، أو الأخ على الجد لإدلائه بالبنوة ، وهي والحال هذه مقدمة على الأبوة في الجملة ، أو هما سواء ، لامتياز كل واحد منهما بمرجح ؟ فيه ثلاث روايات ، أما على الأولى فالجد مقدم على الأخ بلا ريب ، والله أعلم .
قال : ثم ابنها وابنه وإن سفل .
ش : وذلك لأنه يقدم على الأخ ومن بعده في الميراث ، فكذلك هنا ، وقد فهم من كلام الخرقي أن للابن ولاية ، وقد نص عليه أحمد في رواية الجماعة .
2412 لحديث أم سلمة لما بعث إليها النبي يخطبها قالت : ليس أحد من أوليائي شاهداً . فقال رسول الله : ( ليس أحد من أوليئك شاهد ولا غائب يكره ذلك ) رواه أحمد والنسائي فقوله : ( ليس أحد من أوليئك شاهد ) يدل على أن لها ولياً شاهداً أي حاضراً في الجملة ، وقول أم سلمة : ليس أحد من أوليائي أنها قالت ذلك لأن وجوده كالعدم لعدم مباشرته للعقد ، لأنه كان صغيراً ، فإن النبي تزوجها سنة أربع ، وقال ابن الأثير : كان عُمْرُ عُمَرَ حين مات النبي تسع سنين . وأنه ولد سنة اثنين من الهجرة . وعلى هذا يكون عمره حين التزويج سنتين ، أو ثلاث سنين ، وقول أحمد في رواية الأثرم وقد سأله : أليس كان صغيراً قال : ومن يقول كان صغيراً ؟ ليس فيه بيان ، يحتمل أنه إنما أنكر أن يكون في الحديث بيان ، والبيان قد يكون في حديث آخر ، والله أعلم .
قال : ثم أخوها لأبيها وأمها .
ش : قياساً على الميراث والله أعلم .
قال : والأخ للأب مثله .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية صالح وحرب وأبي الحارث ، وهو المذهب عند الجمهور الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل ، والشيرازي ، وابن البنا وغيرهم ، لأنهما استويا في الجهة التي تستفاد منها الولاية وهي العصوبة التي من جهة الأب ، فاستويا في النكاح ، كما لو كانا من أب ، وقرابة الأم لا ترجح ، لأنها لا مدخل لها في النكاح .
وعن أحمد رواية أخرى حكاها طائفة من الأصحاب وصححها أبو محمد أن الأخ للأبوين يقدم على الأخ للأب ، قياساً على الميراث ، وعلى استحقاق الميراث بالولاء ، فإنه يقدم فيه الأخ من الأبوين على الأخ من الأب ، وإن كان النساء لا مدخل لهن فيه ، واعلم أن القاضي وكثيراً من أصحابه حكوا ذلك عن أبي بكر ، ولم يذكروا عن أحمد نصاً .
____________________
(2/324)
( تنبيه ) هذا الخلاف جار في بني الإخوة والأعمام ، فإن ابن الأخ للأبوين مقدم على ابن الأخ للأب على الثاني ، مساو له على الأول ، أما إذا كانا ابني عم أحدهما أخ لأم فقال القاضي وطائفة من أصحابه هما على متا تقدم من الخلاف في ابن عم من أبوين وابن عم من أب ، وقال أبو محمد هما سواء ، لأنهما استويا في التعصيب ، والإرث به ، وجهة الأم والحال هذه يورث بها منفردة ، وما ورث به منفرداً لا يرجح به ، والله أعلم .
قال : ثم أولادهم وإن سفلوا ، ثم العمومة ، ثم أولادهم ، ثم عمومة الأب .
ش : ملخصه أنه يقدم بعد الإخوة الأقرب فالأقرب من العصبات ، على ترتيب الميراث ، قياساً عليه ، إذ الولاية مبناها على النظر والشفقة ، ومظنة ذلك القرابة ، والأحق بالميراث هو الأقرب ، فيكون أحق بالولاية . والله أعلم .
قال : ثم المولى المنعم ، ثم أقرب عصبته .
ش : وذلك لأنهم عصبات يرثون ويعقلون ، فكذلك يزوجون ، وقدم عليهم المناسبون كما في الميراث والأقرب هنا هو الأقرب في الميراث ، فيقدم ابن المعتق على أبيه وإنما قدم الأب المناسب ثم على الابن لزيادة شفقته ، وكمال نظره ، وهنا النظر لأقوى العصبة . والله أعلم .
قال : ثم السلطان .
ش : لحديث عائشة رضي الله عنها : ( فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) ، والسلطان هو الإمام أو من فوض إليه ذلك كالحاكم ونوابه ، واختلف في والي البلد ( فعنه ) لا يزوج ، وهو الأشهر ( وعنه ) يزوج عند عدم القاضي إلا أن القاضي حمل الرواية على أنه أذن له في التزويج ، وأبو العباس حملها على ظاهرها نظراً للضرورة .
وقد دل كلام الشيخ وعامة الأصحاب أنه لا ولاية لغير من ذكر ، فيدخل في ذلك من أسلمت المرأة على يديه لا يلي نكاحها ، وهو المشهور من الروايتين ( والثانية ) يليه على أنه يرثها .
( تنبيه ) إذا لم يكن للمرأة ولي ( فعنه ) وهو ظاهر كلام الأصحاب أنه لا بد من الولي مطلقاً حتى أن القاضي أبا يعلى الصغير قال في رجل وامرأة في سفر ليس معهما ولي ولا شهود : لا يجوز أن يتزوج بها وإن خاف الزنا بها ، قال أبو محمد : ( وعنه ) ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل ، وأخذ ذلك من نصه في دهقان القرية وقد تقدم ( قلت ) : وهو إنما يدل على أنه يزوج كبير البلدة ، وهو شبيه بقوله : يزوج والي البلد إذا لم يكن قاض ، لكن ينبغي أن يكون الوالي مقدماً على هذا ، لأنه ذو سلطان . والله أعلم .
____________________
(2/325)
قال : ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه وإن كان حاضراً .
ش : لأنه نائبه وقائم مقامه فعلى هذا يقوم مقامه في الإجبار وعدمه ، وقد تضمن هذا صحة التوكيل في النكاح ولا إشكال في ذلك ، فقد وكل النبي أبا رافع في تزويج ميمونة ، ووكل عمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة وظاهر إطلاق الخرقي يقتضي أن لا يشترط إذن المرأة في التوكيل ، ولا نزاع في ذلك إن كان الولي مجبراً ، وكذا إن لم يكن مجبراً على اختيار الشيخين وغيرهما ، وخرجه ابن عقيل في الفصول تبعاً لشيخه في المجرد على روايتي توكيل من غير إذن الموكل والله أعلم .
قال : وإذا كان الأقرب من عصبتها طفلًا أو عبداً أو كافراً زوجها الأبعد من عصبتها .
ش : إذا كان الأقرب من عصبتها طفلًا زوج الأبعد ، لأن الولاية تثبت نظراً للمولي عليه ، عند عجزه عن النظر لنفسه ، ومن لا عقل له لا يمكنه النظر ، ولا يلي لنفسه ، فغيره أولى ، وفي معنى ذلك من لا عقل له لكبر كالشيخ إذا أفند ، أو لجنون مطبق ، أما من يخنق في الأحيان فلا تزول ولايته ، لزوال ذلك عن قرب ، وكذلك المغمى عليه بطريق الأولى ، وهو الذي قطع بع أبو محمد ، لأن مدته يسيرة ، أشبه النوم ، ولذلك لا تثبت الولاية عليه ، ويجوز على الأنبياء عليهم السلام وحكى ابن حمدان وجهاً بزوالها . انتهى .
____________________
(2/326)
وقول الخرقي : طفلًا يحتمل أن يريد به غير المميز ، وهو ظاهر العرف ، فعلى هذا تصح ولاية المميز ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، مقيداً له بابن عشر ، لأنه تصح وصيته وعتقه وطلاقه ، على الصحيح في الجميع ، فأشبه البالغ ، ويحتمل أن يريد الخرقي غير البالغ ، وهو ظاهر قوله تعالى : 19 ( { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } ) وهو الرواية الثانية ، وهي المشهورة نقلًا واختياراً ، لأن الولاية يعتبر لها الكمال ، ومن لم يبلغ قاصر ، لثبوت الولاية عليه . انتهى .
وإذا كان الأقرب من العصبة عبداً وإن كان مدبراً أو مكاتباً زوج الأبعد أيضاً بلا خلاف نعلمه ، لأنه لا تثبت له الولاية على نفسه ، فعلى غيره أولى ، ولا يرد المكاتب يزوج أرقاءه في وجه ، لأن ذلك ولاية بالملك ، وهذه بالشرع ، وولايات الشرع يعتبر لها الكمال ( وكذلك ) إن كان كافراً زوج الأبعد ، لقوله تعالى : 19 ( { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } ) مفهومه أن الكافر لا يكون ولياً لمسلمة ، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعاً وكذلك الحكم في العكس .
وبالجملة يشترط في الولي أن يتفق دينه ودين موليته في الجملة ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى وخرج أبو العباس في اليهودي هل يكون ولياً لنصرانية وبالعكس روايتين من الروايتين في توارثهما .
وقول الخرقي : من عصبتها ، فيه إشعار بأن الولي لا يكون إلا من العصبة ، وهو صحيح نص عليه أحمد في رواية الجماعة .
2413 لقول علي رضي الله عنه : إذا بلغ النساء نص الحقائق فالعصبة أولى . يعني إذا أدركن رواه أبو عبيد في الغريب . ( وعن أحمد ) أن المرأة تلي بالعتق فقط ، لأنها والحال هذه عصبة ترث بالتعصيب ، فأشبهت الرجل المعتق ، قلت : ويخرج في الملاعنة ونحوها كذلك انتهى ، وقد علم من كلام الخرقي أنه يشترط للولي شروط ( أحدها ) العصوبة ( والثاني ) البلوغ ، ( والثالث ) الحرية ، ( والرابع ) اتفاق الدين ، وفي البلوغ من كلامه تردد ، ويشترط له أيضاً الرشد في العقد ، بأن يعرف مصالح العقد ومضاره ، فلا يضعها عند من لا يحفظها ولا يكافئها ، إذ المقصود من الولاية ذلك ، ( وهل ) تشترط له العدالة ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) لا ، فيلي الفاسق ، وهو ظاهر إطلاق الخرقي ، لأنه يلي نكاح نفسه فكذلك غيره ، ( والثانية ) وهي أنصهما ، واختيار ابن أبي موسى ، وابن حامد ، والقاضي ، وأصحابه وغيرهم نعم .
2414 لما روى الشالنجي بإسناده عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لا نكاح إلا بإذن ولي مرشد ، أو سلطان . وروي معناه مرفوعاً من رواي جابر ، رواه البرقاني ولأنها إحدى الولايتين ، فنافاها الفسق كولاية المال ، وعلى هذه يكتفى بمستور الحال ، على ما جزم به أبو البركات ، وأبو محمد في الكافي ، وكثير من الأصحاب أطلق العدالة ، فجعل ابن حمدان ذلك طريقتين ، ثم حكى رواية ثالثة أن الفاسق يلي نكاح عتيقته فقط ، قلت : كما قَبْلَ العتق ، وقال أبو العباس : إذا قلنا : إن الولاية الشرطية تبقى مع الفسق ويضم إليه أمين فالولاية الشرعية أولى ، وفيه نظر ، إذ الولاية الشرطية يلحظ فيها حظ الموصي ونظره ، فلنا حاجة إلى بقاء الموصى إليه ، بخلاف هنا ، فإنه لا حاجة بنا إلى بقاء الولاية ، وكأن أبا العباس رحمه الله نظر إلى أنا إذا أبقينا وصية الأجنبي مع فسقه فالقريب أولى ، لما انطوى عليه من الشفقة ، لكن لا يطرد له هذا في الحاكم ونحوه .
وظاخر إطلاق المصنف أنه لا يشترط للولي النطق ، وهو صحيح بشرط أن يفهم ويفهم ، ولا البصر ، وهو أصح الوجهين ، لأن شعيباً زوج ابنته وهو أعمى ، والله أعلم .
قال : ويزوج أمة المرأة بإذنها من يزوجها .
ش : هذا المذهب المختار من الروايات ، صححه القاضي ، وقطع به أبو الخطاب في الهداية ، لأن الأصل كون الولاية لها ، لأنها مالها ، وإنما امتنعت في حقها لانتفاء عبارتها في النكاح ، وإذاً تثبت لأوليائها كولاية نفسها ، وإنما قلنا : لا عبارة لها في النكاح وهو المذهب بلا ريب .
____________________
(2/327)
2415 لما احتج به أحمد عن أبي هريرة قال : لا تنكح المرأة نفسها ، ولا تنكح من سواها .
2416 وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا تزوج المرأة المرأة ، ولا تزوج المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ) رواه ابن ماجه والدارقطني وقال : حديث حسن صحيح . والنهي دليل الفساد .
2417 ويعضده أنه قول جمهور علماء الصحابة حكي عن ابن عمر وابن عباس وأبي موسى ، وأبي هريرة ، وحفصة ، واختلف عن عائشة . ولأن مباشرتها لعقد النكاح يشعر برعونتها ووقاحتها وذلك ينافي حال أهل المروءة . انتهى وإنما اشترط إذنها لوليها لأن الأمة مالها ، ولا يجوز التصرف في مال الفرد بغير إذنه ، فلو لم تكن رشيدة زوجها من يلي مالها إن رأى الحظ لها في ذلك .
( تنبيه ) يعتبر في الإذن هنا النطق وإن كانت بكراً ، قاله أبو محمد وغيره ، إذ الصمات إنما اكتفي به في تزويجها نفسها لحيائها ، وهي لا تستحيي في تزويج أمتها . انتهى ( والرواية الثانية ) يزوج أمة المرأة أي رجل أذنت له سيدتها ، ولا تباشر هي العقد لأن سبب الولاية الملك ، وإنما امتنعت المباشرة لنقص الأنوثية ، فملكت التوكيل كالرجل المريض والغائب ( والرواية الثالثة ) يجوز مباشرتها للعقد ، لما تقدم في صدر المسألة ، ويلتزم أن لها عبارة في النكاح من قول أحمد في المعتقة : إن زوجتها أي عتيقتها لم يفسخ النكاح ، فتكون الأمة أولى ، لما تقدم في صدر المسألة ، ويلتزم أن لها عبارة في النكاح ، لحديث عائشة رضي الله عنها ( أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها ) الحديث وهذه الرواية أخذت من قول أحمد في رواية محمد ابن الحكم : إذا كان للمرأة جارية فأعتقتها كان من أحبت أن تزوجها جعلت أمرها إلى رجل يزوجها ، لأن النساء لا يلين العقد ، فإن زوجتها لم يفسخ النكاح . قال القاضي : وظاهر هذا عدم الاستحباب وصحة العقد ، وي أخذ رواية من هذا نظر ، فإنه منع من المباشرة ، ومنعه من الفسخ يحتمل أنه لوقوع الخلاف فيه وتعلق حق الغير ، مع عدم دليل قاطع في المسألة ، لكن عامة المتأخرين على إثباتها رواية ، وعليها فرع أبو الخطاب وأبو البركات ومن تبعهما أن للمرأة عبارة في النكاح ، فتزوج نفسها وغيرها بإذن الولي ، ويكون تزويجها بدون إذنه كالفضولي ، قال أبو العباس : وفرق القاضي وعامة الأصحاب على هذه الرواية بين تزويج أمتها وتزويج نفسها وغيرها بأن التزويج على الملك لا يحتاج إلى أهلية الولاية ، بدليل تزويج الفاسق مملوكته ، وتبعهم هو أيضاً ، وجعل التخريج غلطاً ، قلت : النص عن أحمد كما تقدم في المعتقة ، ولا ملك لها إذاً إلا أن يقال : استصحب فيها حكم الملك كما تقدم في الرواية التي حكاها ابن حمدان ، ووافق أبو
____________________
(2/328)
محمد على التخريج في تزويج نفسها وغيرها ، ومنعه في تزويجها بدون إذن الولي أنه يكون كتزويج الفضولي ، وليس بشيء . والله أعلم .
قال : ويزوج مولاتها من يزوج أمتها .
ش : يزوج معتقة المرأة من يزوج أمتها ، وهو على ما قال الخرقي ولي السيدة ، وظاهره أنه يقدم فيه الأب على الابن ، وقد تقدم في الولاء بالعتق أنه يقدم الابن على الأب ، وصرح به أبو محمد ، وقال أبو البركات : إن قلنا : يلي عليها . اشترط إذنها ، وجرت فيها الروايات الثلاث في مولاتها الرقيقة ، وإن قلنا لا يلي للملك ، كما تقدم في الرواية التي حكاها ابن حمدان زوج بدون إذنها أقرب عصبتها ، وذلك لأن التزويج هنا مستفاد بالتعصيب بالإرث ، وهو مناف لظاهر كلام الخرقي ، لأن إن حمل كلامه على أن لها ولاية أشكل عدم اشتراط إذن المعتقة ، وإن حمل على أنها لا ولاية لها وهو ظاهر كلامه المتقدم أشكل تقديم الأب على الابن قلت : ويمكن توجيه كلام الخرقي على أن لها ولاية ، حيث قال : ويزوج مولاتها من يزوج أمتها ، فدل على أن هنا قدر مشترك ، وأما اشتراط الإذن فيكون تركه له لدلالة ما قبله عليه ، وهو قوله : ويزوج أمة المرأة بإذنها من يزوجها . فيصير التقدير : ويزوج مولاتها بإذنها من يزوج أمتها ، والله أعلم . وقد تبع أبو الخطاب في الهداية الخرقي على ذلك ، وقد اضطرب كلام الأصحاب في هذه المسألة اضطراباً كثيراً ، وليس هذا موضع استقصاء ذلك ، وعلى كل حال فلا بد من عدم العصبة المناسب بلا نزاع ومن رضى المعتقة على الصحيح المقطوع به عند الشيخين وغيرهما ، وقيل : يملك إجبارها من يملك إجبار سيدتها التي أعتقتها ، وهو بعيد ، والله أعلم .
قال : ومن أراد أن يتزوج امرأة هو وليها جعل أمرها إلى رجل يزوجها منه بإذنها .
ش : هذه مسألة تولي طرفي العقد في النكاح ، ولها ثلاث صور ( إحداها ) الجواز بلا نزاع ، وهو ما إذا كان الولي مجبراً من الطرفين ، كما إذا زوج أمته بعبده الصغير ، أو زوج الوصي في النكاح صغيرة بصغير كلاهما في حجره ، ونحو ذلك ، إذ لا إذن فيشترط ، وقيل : يختص الجواز بما إذا زوج عبده أمته ، لأنه يتصرف بحكم الملك ، وَجَوَّد أبو العباس هذا ، وقد حكي الإجماع عليه ، ( الصورة الثانية ) عدمه بلا نزاع ، وهو ما إذا كان ولياً لامرأة مجبرة كعتيقته وبنت عمه المجنونتين ، فإنه لا يجوز أن يتزوجهما ، لشدة التهمة في ذلك ، لتعذر الإذن منهما ، فهو كوصي اليتيم يشتري من ماله ، فعلى هذا لا يملك أن يتزوجهما إلا بولي غيره من العصبة إن كان ، وإلا فبولاية الحاكم ، ولا يملك ذلك بوكيله على الأصح ، لأنه قائم مقامه ، ونائب منابه ، ( الصورة الثالثة ) ما عدا ذلك وهو ما إذا كانت المرأة لها إذن معتبرة ، فهل لوليها أن يتزوجها بإذنها وولايته ، أو لا بد أن يوكل في أحد طرفي العقد ؟ فيه روايتان ، ( أشهرهما )
____________________
(2/329)
وأنصهما وهي التي اختارها الخرقي ، وابن أبي موسى ، وأبو حفص البرمكي ، والقاضي في تعليقه ، والشريف ، وأبو الخطاب ، في خلافيهما ، ونص عليها أحمد في رواية ثمانية من أصحابه لا يجوز .
2418 لما روى أبو داود بإسناده عن عبد الملك بن عمير أن المغيرة بن شعبة أمر رجلًا أن يزوجه امرأة المغيرة أولى بها منه .
2419 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( لا بد في النكاح من أربعة الولي ، والزوج ، والشاهدين ) رواه الدارقطني ، ومع تولي الطرفين لم يحضره إلا ثلاثة ، ( والثانية ) : يجوز ذلك أومأ إليها في رواية طائفة من أصحابه ، واختارها القاضي في الجامع الصغير ، وفي المجرد ، وأبو محمد لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } ) الآية مفهومه إذا لم يخف يجوز له أن يتزوجها ، وإن لم يول غيره .
2420 وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي قال لرجل : ( أترضى أن أزوجك فلانة ) قال : نعم . وقال للمرأة : ( أترضين أن أزوجك فلاناً ؟ ) قالت : نعم . فزوج أحدهما صاحبه ، فدخل بها ولم يفرض لها صداقاً ، ولم يعطها شيئاً ، وكان ممن شهد الحديبية ، له سهم بخيبر ، فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقاً ولم أعطها شيئاً ، وإني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر . فأخذت سهماً فباعته بمائة ألف درهم . رواه أبو داود .
2421 وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لأم حكيم بنت قارظ : أتجعلين أمرك إلي ؟ قالت : نعم . فقال : قد تزوجتك . ذكره البخاري في صحيحه . ولعموم ( لا نكاح إلا بولي ) وهذا ولي ، أما حديث ( لا بد في النكاح من أربعة ) فضعيف ، وعلى تقدير صحته فالواحد يقوم مقام الاثنين ، وقصة المغيرة بن شعبة لا إشكال في جواز مثلها إنما النزاع هلى يتحتم ذلك ، وكذلك الخلاف فيمن اجتمع له تولي الطرفين بغير ذلك ، كزوج وكله الولي ، أو ولي وكله الزوج ، أو وكيل من الطرفين ، أو ولي فيهما ، كمن زوج ابنه الصغير ، ببنت أخيه ونحو ذلك ، وقيل : يجوز تولي الطرفين إلا إذا كان الولي هو الإمام فقط ، ذكره أبو حفص البرمكي ، لأنه لا أحد أكفأ منه ، ولأنه كالأب بالنسبة إلى الرعية .
وحيث جاز تولي الطرفين فيكفي أن يقول : زوجت فلانة فلاناً . أو تزوجتها ، فيما إذا كان هو الزوج ، على المشهور من الوجهين ، لأن ذلك قائم مقام إيجاب وقبول ( والوجه الثاني ) لا بد من تصريح بإيجاب وقبول ، فيقول : زوجت فلاناً فلانة ، وقبلت
____________________
(2/330)
له النكاح . وزوجت نفسي فلانة ، وقبلت هذا النكاح .
( تنبيه ) إذا قيل بجواز تولي الطرفين للزوج بإذن موليته فلا بد أن تأذن في تزويجها من نفسه ، أما لو أذنت في النكاح وأطلقت فإنه لا يجوز له أن يتزوجها من نفسه على الصحيح ، وقيل : يجوز ، بناء على الوكيل في البيع يبيع من نفسه بشرطه ، فعلى الأول وهو المذهب هل له أن يزوجها لولده أو والده أو مكاتبه ؟ فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : ولا يزوج كافر مسلمة بحال .
ش : قد تقدمت هذه المسألة ، وأن الكافر القريب لا ولاية له ويزوج البعيد ، ونزيد هنا بأن قوله : بحال . ليدخل من ولايته بالملك ، كمن أسلمت أم ولده أو مكاتبته ونحو ذلك ، وهذا أحد الوجهين ، واختيار أبي محمد ، لعموم ما تقدم من الآية والإجماع ، ( والوجه الثاني ) وبه قطع أبو الخطاب في خلافه ، وابن البنا في خصاله ، أنه يلي والحال هذه ، إذ ولاية الملك لا يشترط لها الأهلية ، بدليل الفاسق يزوج أمته .
ومفهوم كلام الخرقي أن الكافر يزوج الكافرة ، وهو صحيح ، للآية الكريمة ، وتعتبر فيه الشروط المعتبرة في المسلم ، حتى في عدالته إن اشترطت في المسلم ، والعدل منهم من لم يرتكب محظوراً في دينه ، وعموم المفهوم يقتضي أن الكافر يلي على موليته الكافرة وإن أرادت التزويج بمسلم ، وهو اختيار أبي الخطاب في الهداية ، والشيخين ، وقال ابن أبي موسى ، والقاضي في التعليق ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما والشيرازي : لا يليه على مسلم ، بل تثبت الولاية للحاكم ، وزعم القاضي أنه ظاهر كلام الإمام ، معتمداً على قوله في رواية حنبل : لا يعقد يهودي ولا نصراني عقد نكاح لمسلم ولا لمسلمة . وهو إنما يدل على أنه يمنع من المباشرة ، ولهذا جعل أبو البركات الخلاف في مباشرته العقد ، هل يباشره أو يباشره بإذنه مسلم ، أو الحاكم خاصة ، ثلاثة أوجه ، وجزم بأن له الولاية ، والله أعلم .
قال : ولا مسلم كافرة إلا أن يكون المسلم سلطاناً ، أو سيد أمته .
ش : لا يزوج المسلم الكافرة ، لقوله تعالى : 19 ( { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } ) نعم إن كان المسلم سلطاناً زوج ، لأن له ولاية عامة على أهل دار الإسلام ، والكافر والحال هذه من أهل الدار ، والحاجة داعية إلى ذلك ، وكذلك إن كان سيد أمته ، لأنه عقد على منافعها ، أشبه إجارتها ، والله أعلم .
قال : وإذا زوجها من غيره أولى منه وهو حاضر ولم يعضلها فالنكاح فاسد .
ش : قد تقدم بيان الأولى بالتقديم من الأولياء ، فإذا زوج غير الأولى كالأخ مع وجود الأب ، أو العم مع حضور الأخ ، والحال أنه لا عضل من الأب ولا من الأخ ، فالنكاح فاسد ، على المشهور المختار للأصحاب من الروايتين .
____________________
(2/331)
2422 لحديث عائشة رضي الله عنها : ( أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ) رواه أبو داود وهذه نكحت بغير إذن وليها ، إذ هذا لا ولاية له والحال هذه .
2423 وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل ) رواه أبو داود ، لكن قال : إنه ضعيف ، وإنه موقوف على ابن عمر ولأن أحكام النكاح المختصة به من الحل والنفقة والطلاق والتوارث لا تثبت فيه بمجرده ، أشبه نكاح المعتدة ، ( والرواية الثانية ) يقف النكاح والحال هذه على الإجازة ، ولا يحكم بفساده .
2424 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية بكراً أتت النبي فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي ، رواه أبو داود وابن ماجه ولو فسد بما كان للتخيير فائدة ، وقد اعترض عليه بأن أبا داود رواه أيضاً مرسلًا عن عكرمة عن النبي ، قال : وكذا رواه الناس مرسلًا . وكذا قال البيهقي : الصواب أنه مرسل . قال البيهقي : ولو صح فكأنه كان وضعها في غير كفؤ ، فلذلك خيرها النبي ، قلت : ودعوى الإرسال إن سلم لا تضر على قاعدتنا ، وأما الحمل على أنه وضعها في غير كفؤ فبعيد ، إذ يقتضي أن يترك من الحديث ما الحكم منوط به ، ويذكر فيه ما لا إناطة به ، مع أنه غير منوط به ، هذا تجهيل وعلى هذه الرواية الحكم في الإجازة منوط بالولي الأقرب ، إن أجازه جاز ، وإن رده بطل ، ولا نظر للحاكم على الصحيح ، وقيل : إن كان الزوج كفواً أمر الحاكم الولي بالإجازة ، فإن أجازه وإلا صار عاضلًا فيجبره الحاكم ، كذا أجاب أبو محمد ، وفيه نظر إن كان لها ولي غير الحاكم وإذاً ينبغي أن ينتقل الحق في الإجازة إليه كما في العضل في النكاح على المذهب ، انتهى . ولو كانت المزوجة بغير إذن أمة فخرجت عن ملكه قبل الإجازة إلى من تحل له انفسخ النكاح ، لطريان إباحة صحيحة على موقوفة ، أشبه طريان الملك على النكاح ، وفيه شيء ، إذ الإباحة التي حصلت للثاني كالإباحة التي كانت للأول سواء ، انتهى . أما إن انتقلت إلى من لا تحل له كامرأة أو جماعة فقيل : إن الحكم كذلك ، وقيل : بل الإجازة والحال هذه إلى المالك الثاني ولو أعتق من له الإجازة الأمة فهل يبطل حقه منها ويمضي النكاح ، أم يبقى حقه فيها قبل العتق ؟ فيه احتمالان ، وتعتبر الشهادة حين العقد ، لا حين الإجازة ، لاستناد الملك إلى حال العقد ومن ثم لو وطىء قبل الإجازة ثم أجيز لم يجب إلا مهر واحد ، ولا تثبت فيه قبل الإجازة الأحكام المختصة بالنكاح
____________________
(2/332)
الصحيح ، من الحل والنفقة ، ونفوذ الطلاق ، والتوارث وغير ذلك ، قاله ابن عقيل وغيره ، وقيل : يثبت التوارث إن كان مما لو رفع إلى الحاكم أجازه انتهى ، يثبت التوارث إن كان مما لو رفع إلى الحاكم أجازه انتهى ، وكذلك الروايتان في تزويج الأجنبي ، وفي تزويج المرأة المعتبر إذنها بدونه على رواية الوقف ، فإجازة الثيب بالنطق ، أو ما يدل على الرضى من وطء ونحوه ، وإجازة البكر بالسكوت ، كإذنها قبل العقد .
وقد دل مفهوم كلام الخرقي أن الولي الأقرب لو لم يكن حاضراً لم يفسد النكاح ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، ( ودل أيضاً ) على أن الأقرب إذا عضل فزوج الأبعد أن النكاح لا يفسد ، وهذا ( إحدى الروايتين ) عن أحمد أعني أن الولاية تنتقل عند عضل الأقرب إلى الأبعد ، وهو المذهب ، اختاره القاضي وابن عقيل ، وأبو محمد وغيرهم ، لأن الولاية قد تعذرت من الأقرب ، فانتقلت إلى الأبعد ، كما لو جن الأقرب أو فسق ( والثانية ) تنتقل الولاية إلى الحاكم وهي اختيار أبي بكر ، لظاهر قوله : ( فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) ولأنه حق عليه امتنع من أدائه ، فقام الحاكم مقامه فيه كالدين ، ويجاب بالقول بموجب الحديث ، فإنه قال : ( من لا ولي له ) وهذه لها ولي ، ثم ظاهره أن الكل اختلفوا وامتنعوا ، لقوله : ( فإن اشتجروا ) وإذاً يتعين الحاكم ، والتزويج حق له ، بخلاف الدين فإنه حق عليه ، على أنه قد قيل : إنه يفسق بالعضل ، فتزول ولايته ، كما لو فسق بغيره .
( تنبيه ) العضل في الأصل المنع ، وهو هنا منع المرأة من تزويجها بكفئها إذا طلبت ذلك ، ورغب كل من الزوجين في صاحبه .
2425 قال معقل بن يسار رضي الله عنه كانت لي أخت تخطب إلي فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه ، ثم طلقها طلاقاً له رجعة ، ثم تركها حتى انقضت عدتها ، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها ، قلت : لا والله لا أنكحكها أبداً . قال : ففي نزلت هذه الآية : 19 ( { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا } ) الآية قال : فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه . رواه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي والنسائي وسواء رضيت بمهر مثلها أو دونه إن كانت رشيدة ، إذ المهر خالص حقها ، ولو رضيت بغير كفؤ كان للولي الامتناع ولا عضل ، أما إن عينت كفواً وعين الولي كفواً غيره فإن تعيينها يقدم عليه ، حتى أنه يعضل بالمنع ، ثم حيث يكون عاضلًا ، فظاهر كلام أبي محمد أنه يفسق بمجرد ذلك ، ونظير ذلك ما قاله ابن أبي موسى أن الولي إذا زوج بغير كفؤ يفسق وتفسق المرأة بذلك إن رضيت ، وقال ابن عقيل في العضل : لا يفسق إلا أن يتكرر الخطاب وهو يمنع ، أو يعضل جماعة من مولياته دفعة واحدة فإذاً تصير الصغيرة في حكم الكبيرة ، وينبغي أن يقال في التزويج
____________________
(2/333)
بغير كفؤ كذلك ، ثم لا بد من تقييد ذلك في الموضعين بالعلم ، وقد ذكر أبو العباس من صور العضل إذا امتنع الخطاب من خطبتها لشدة الولي ، والله أعلم .
قال : وإذا كان الولي غائباً في موضع لا يصل إليه الكتاب أو يصل فلا يجيب عنه زوجها من هو أبعد منه من عصبتها ، فإن لم يكن فالسلطان .
ش : إذا غاب الولي الأقرب الغيبة المعتبرة زوج الأبعد من العصبة ، فإن لم يكن فالسلطان على المنصوص ، وعليه الأصحاب ، لقوله : ( فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ) وهذه لها ولي مناسب ، فيزوج بحكم الحديث ، ولأن البعيد يرجح بقرب نسبه والقريب بقرب محله فتساويا ، ومن ثم قال ابن عقيل : ليس معنى قولنا تنتقل الولاية إلى الأبعد سلب لولاية القريب ، لكن اشتراك بينهما ، بدليل أنه لو زوج القريب الغائب في مكانه أو وكل صح ، وكذا لو وكل ثم غاب ، بخلاف ما لو وكل ثم جن فإن وكالته تنفسخ ، وأما شيخه في التعليق فقال : إذا زوج أو وكل في الغيبة فالولاية باقية ، لانتفاء الضرر وإلا سقطت ، ثم قال : وقد قيل . . . . وحكى كقول تلميذه ، انتهى ، وخرج أبو الخطاب ومن تبعه كأبي البركات رواية أن الحاكم يزوج كما في العضل ، إذ الأبعد محجوب بالأقرب ، والولاية باقية ، فقام الحاكم مقامه فيها ، ولم يعرج أبو محمد على التخريج ، وقد ذكر ابن المنى في إلحاق الغيبة بالعضل تسليماً ومنعاً ، وقد يقال في وجه المنع أنه لو سلم أن التزويج حق على الولي حتى يقوم الحاكم مقامه فيه ، فذلك إذا امتنع ، وفي الغيبة لا امتناع ، وفي معنى الغائب لو كان الولي مأسوراً ، ولا يمكن مراجعته ، أو محبوساً يتعذر استئذانه ، قاله أبو محمد ، وزاد أبو العباس : لو كان الولي مجهولًا لا يعرف أنه عصبة ثم عرف بعد العقد .
والغيبة المعتبرة التي معها يزوج الأبعد قال الخرقي : أن لا يصل إليه الكتاب ، كمن هو في أقصى بلاد الهند ، أو يصل فلا يجيب عنه ، وهذا يحتمل لبعده ، وهو الظاهر ، ويحتمل وإن كان قريباً ، فيكون في معنى العاضل ، وبالجملة قد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الأثرم ، قال : المنقطع الذي لا تصل إليه الأخبار ، وذلك لأن مثل ذلك يتعذر مراجعته ، فيلحق الضرر بانتظاره ، ومنصوص أحمد في رواية عبد الله أنه ما لا يقطع إلا بكلفة ومشقة ، وهو اختيار أبي بكر والشيخين ، لأن أهل العرف يعدون ذلك مضراً ، وقال القاضي في تعليقه وتبعه أبو الخطاب في خلافه الصغير : هو ما لا تقطعه القافلة في السنة إلا مرة ، كسفر الحجاز ، وعن ابن عقيل : ما تستضر به المرأة من فوات الكفو الراغب ، وقيل : يكتفى بمسافة القصر ، لأن أحمد اعتبر البعد في رواية ابن الحارث وأطلق ، انتهى . وكل موضع لا توجد الغيبة المعتبرة فإن الولي ينتظر ويراسل ، حتى يقدم أو يوكل .
وظاهر كلام الخرقي أن الشرط لتزويج الأبعد الغيبة المذكورة ، فلو لم يعلم أقريب أم بعيد لم يزوج الأبعد ، وهو ظاهر إطلاق غيره ، وقال أبو محمد في المغني :
____________________
(2/334)
يزوج الأبعد والحال هذه ، قال : وكذلك إذا علم أنه قريب ولم يعلم مكانه وهو حسن ، مع أن كلام الخرقي لا يأباه ، وفي قول الخرقي : زوج من هو أبعد من عصبتها . إشعار بأن هذا الحكم في الحرة ، وهو صحيح ، إذ لو غاب سيد الأمة فطلبت النكاح في حال غيبته فإن الحاكم يزوجها ، قاله القاضي في تعليقه مدعياً أنه قياس المذهب ، والله أعلم .
قال : وإذا زوجت من غير كفو فالنكاح باطل .
ش : الكفاءة شرط لصحة النكاح ، على المنصوص والمشهور ، والمختار لعامة الأصحاب ( من الروايتين ) .
2426 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا خطب المسلم ممن ترضون دينه وخلقه ، فزوجوه ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) رواه الترمذي ، وروي مرسلًا ، قال بعضهم : وهو أصح ومفهومه أنه إذا لم يرض دينه ولا خلقه لا يزوج .
2427 وروى الدارقطني بإسناده عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء .
2428 وعن أبي إسحاق الهمداني قال : خرج سلمان وجرير في سفر ، فأقيمت الصلاة ، فقال جرير لسلمان : تقدم . فقال سلمان : بل أنت تقدم ، فإنكم معشر العرب لا نتقدم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم ، لأن الله تعالى فضلكم علينا بمحمد . احتج بهما أحمد في رواية أبي طالب .
2429 وفي مراسيل أبي داود عن الحسن قال : نهى رسول الله أن يتزوج الأعرابي المهاجرة . ولأنه تصرف في حق من يحدث من الأولياء بغير إذنه فلم يصح ، كما لو زوجت بغير رضاها ( والرواية الثانية ) الكفاءة شرط للزوم النكاح دون صحته ، اختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير ، وأبو محمد ، وابن حمدان ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ) .
2430 وقد زوج النبي ابنتيه من عثمان ومن أبي العاص ، ونسبه من فوق نسبهما .
2431 وفي الصحيحين أنه أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة ابن زيد مولاه ، رضي الله عنه وهلي قرشية .
2432 وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا هند حجم النبي في اليافوخ ، فقال النبي : ( يا بني بياضة انكحوا أبا هند وانكحوا إليه ) وقال : ( إن كان في شيء
____________________
(2/335)
مما تداوون به خير فالحجامة ) رواه أبو داود . وبنو بياضة من الأنصار ، وأبو هند حجام من مواليهم . وزاد أبو داود في المراسيل عن الزهري فقالوا : يا رسول الله نزوج بناتنا من موالينا ؟ فأنزل الله عز وجل : 19 ( { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } ) الآية قال الزهري : نزلت في أبي هند خاصة . قال عبد الحق الإشبيلي : وقد أسند هذا والمرسل أصح .
2433 وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : جاءت فتاة إلى رسول الله فقالت : إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بين خسيسته . قال : فجعل الأمر إليها ، فقالت : قد أجزت ما صنع أبي ، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء . رواه ابن ماجه ، ورواه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة .
2434 وقد روي الجواز أيضاً عن عدة من الصحابة رضي الله عنهم وحديث أبي هريرة إن صح نقول بموجبه ، إذ مقتضاه أنه لا يجب علينا تزويجه ، وكذا نقول ، ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل ، وقصة عمر وسلمان إن ثبتتا يحتمل أن ذلك منهما على سبيل الاختيار ، يدل على ذلك أن عمر قال : لأمنعن . ولو كان هذا أمراً متحتماً لمنع قطعاً .
ومن نصر الأولى أجاب عن تزويجه بنتيه لعثمان ولأبي العاص بأنهما من العرب ، والعرب لا تتفاضل على رواية ، وكذلك قال أحمد في رواية أبي طالب وغيره في الجواب عن حديث أسامة ، وأسامة عربي جرى عليه الرق ، وعلى رواية التفاضل هم من قبيلة النبي ، لأنهما من قريش ، وعن قصة أبي هند بأن أحمد ضعفه وأنكره في رواية أبي طالب وغيره ، وكذلك بقية الآثار ، قال المروذي : قلت لأبي عبد الله قول النبي : ( يا بني بياضة أنكحوا أبا هند ) فأنكره إنكاراً شديداً ، وأنكر الأحاديث الذي فيها نكاح غير الأكفاء ، وقال مهنا : سألته عن هذه الأحاديث أن عمر أراد أن يزوج سلمان ، والأحاديث التي جاءت : فلان تزوج فلانة ، وفلانة تزوجت فلاناً . قال : ليس لها إسناد وأما حديث بريدة فالتزم القاضي في التعليق في الجواب عنه بأن المبطل عدم الكفاءة في النسب فقط ، قال : والذي فقد هنا يحتمل أنه الدين ، أو الصناعة ، وقال ابن أبي موسى : هذا الرجل كان كفؤاً لأنه ابن عمها وهو مسلم ، ويحتمل أنه كان أعور أو أعرج ، أو فقيراً ، وذلك ليس بنقص في الكفء ، قلت : إذا لم يكن نقصاً في الكفء فلم خيرها النبي . انتهى .
فعلى ( الرواية الأولى ) الكفاءة حق لله تعالى وللمرأة والأولياء حتى من يحدث ، ولا يتصور العلم برضى الجميع ، فيبطل النكاح ، ( وعلى الثانية ) حق للمرأة والأولياء
____________________
(2/336)
فقط ، فعليها يمكن العلم بالرضا ، ويتوقف على من هو له ، فإذا رضيت المرأة والأولياء بغير كفؤ صح النكاح ، لأن الحق لهم ، وإن عقده بعضهم ولم يرض الباقون ، فهل يقع العقد باطلًا من أصله ، أو صحيحاً ؟ على روايتين ، حكاهما القاضي في الجامع الكبير ، أشهرهما الصحة ، لحديث الفتاة التي جاءت إلى رسول الله ، وعلى هذه لمن لم يرض من المرأة والأولياء المستوين الفسخ ، وهل للأبعد الفسخ مع رضى الأقرب ، لما يلحقه من العار بفقد الكفاءة ، أو لا فسخ له ، لأنه كالمعدوم ولحجبه بالأقرب ؟ فيه روايتان ، أشهرهما الأولى ، حتى أن القاضي في الجامع الكبير قال : لا تختلف الرواية في ذلك .
( تنبيهان ) أحدهما إذا حدثت الكفاءة وقت العقد ، كما إذا أوجب النكاح لعبد ، فقال السيد : قبلت النكاح له وأعتقته . فقال أبو العباس : قياس المذهب الصحة ، قال : ويتخرج عدمها من رواية إذا أعتقا معاً ( الثاني ) حسب الإنسان ما يعده من مفاخر آبائه ، وقيل : شرف النفس وفضلها ، ( والكفؤ ) المثل ، ( واليافوخ ) وسط الرأس ، والله أعلم .
قال : والكفؤ ذو الدين والمنصب .
ش : لما قال : إن الكفاءة شرط لصحة النكاح . أراد أن يبين الكفاءة ما هي فقال : إنها الدين والمنصب ، وهذا ( إحدى الروايتين ) عن أحمد وإليها ميل أبي محمد ، ( أما في الدين ) فلقول الله سبحانه وتعالى : 19 ( { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } ) ويلتزم أن نفي الاستواء يقتضي نفي الاستواء من كل وجه ، كما قد صرح به القاضي وغيره من أصحابنا ، ولأن الفاسق مردود الشهادة والرواية ، غير مأمون ، مسلوب الولاية ، ناقص عند الله وعند خلقه ، فلا يكون كفؤاً لعفيفة .
2435 ( وأما في المنصب ) وهو النسب فلأن في حديث عمر المتقدم قال : قلت : وما الأكفاء ؟ قال : في الحسب . رواه أبو بكر بإسناده ولأن العرب يعدون الكفاءة في النسب ، ويأنفون من نكاح الموالي ، ويرون ذلك نقصاً وعاراً ( والرواية الثانية ) تعتبر الكفاءة في خمسة أشياء ، الشيئين المذكورين ، والحرية والصناعة ، واليسار ، اختارها القاضي في تعليقه ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وأبو البركات ، وصححها أبو محمد في الحرية والشيرازي في اليسار .
2436 وذلك ( أما في الحرية ) فلأن النبي خير بريرة حين عتقت وإذا ثبت الخيار في الإستدامة ففي الإبتداء أولى ، ( وأما في الصناعة ) فلأن ذلك نقص في عرف الناس ، أشبه نقص النسب .
2437 وقد روي ( العرب بعضهم لبعض أكفاء ، قبيلة لقبيلة ، وحي لحي ، ورجل لرجل ، إلا حائك أو حجام ) ذكره ابن عبد البر في التمهيد وهو ضعيف ، وقد
____________________
(2/337)
بالغ ابن عبد البر فقال : إنه منكر موضوع . لكن أحمد قال : العمل عليه . لما قال له مهنا وقد قال : الناس أكفاء إلا الحائك والحجام : تأخذ بالحديث وأنت تضعفه ؟ قال : العمل عليه . ( وأما في اليسار ) فلأن في عرف الناس التفاضل بذلك .
2438 وقد قال لفاطمة بنت قيس حين أخبرته أن معاوية خطبها ( أما معاوية فصعلوك لا مال له ) .
تنبيهات ( أحدها ) قد تقدم أن الكفاءة هل هي شرط للصحة أو للزوم ؟ على روايتين ، وأن الكفاءة هل تعتبر في اثنين أو في خمسة ؟ على روايتين أيضاً ، واختلف طرق الأصحاب هل روايتا الصحة واللزوم في الخمسة أو في بعضها ، فقال القاضي في الجامع الكبير وهو ظاهر كلامه في التعليق ، وأبو الخطاب في الهداية ، وأبو محمد وطائفة : هما في الشرائط الخمسة ، وقال في المجرد : محلهما في الدين والمنصب فقط ، أما الثلاثة الباقية فلا تبطل ، رواية واحدة ، وجمع أبو البركات الطريقتين ، فجعل في المسألة ثلاث روايات ، الثالثة : يختص البطلان بالمنصب والدين فقط ، وقال القاضي في المجرد : يتوجه اختصاص البطلان بالنسب فقط ، وهذه طريقته في الروايتين وفي التعليق ، التزاماً كما تقدم ، وقال أبو العباس : لم أجد عن أحمد نصاً ببطلان النكاح لفقر أو رق ، ولم أجد عنه نصاً بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب ، ونص على التفريق بالحياكة في رواية حنبل وعلي بن سعيد ، وهذه طريقة خامسة .
( الثاني ) الكفاءة ( في الدين ) أن لا يزوج العفيفة عن المُحَرم المفسق بفاسق من جهة فعل أو اعتقاد ، وفي كون من شرب مسكراً ولم يسكر كفواً لمن تقدم روايتان ، حكاهما ابن أبي موسى ( والمنصب ) هو النسب ، فلا تزوج عربية بعجمي ، والعرب بعضهم لبعض أكفاء ، وسائر الناس بعضهم لبعض أكفاء ، على إحدى الروايتين أو الروايات عن أحمد رحمة الله ، واختيار أبي محمد في العمدة ، لما تقدم من أن النبي زوج ابنتيه عثمان وأبا العاص ، وهما من بني عبد شمس ، وزوج أسامة فاطمة بنت قيس وهي من قريش .
2439 وزوج على عمر ابنته أم كلثوم ، وهذا يدل على أن العرب كلهم في رتبة واحدة .
2440 وفي مسند البزار عن خالد بن معدان ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله : ( العرب بعضهم لبعض أكفاء ، والموالي بعضهم لبعض أكفاء ) إلا أن خالداً لم يسمع من معاذ ، وحكى القاضي في الجامع الكبير ، وأبو الخطاب والشيخان وغيرهم عن أحمد رواية أخرى أن القرشية لا تزوج لغير قرشي ، والهاشمية لا تزوج لغير هاشمي ، إذ العرب فضلت بقية الناس برسول الله ، وقريش أخص به من سائر
____________________
(2/338)
العرب ، وبنو هاشم أخص به من قريش .
2441 وعنه أنه قال : ( إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى من كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ) ورد أبو العباس هذه الرواية ، وقال : ليس في كلام أحمد ما يدل عليها ، وإنما المنصوص عنه في رواية الجماعة أن قريشاً بعضهم لبعض أكفاء ، قال : وكذلك ذكر ابن أبي موسى ، والقاضي في خلافه ، وحكى رواية مهنا : قريش أكفاء بعضهم لبعض ، والعرب أكفاء بعضهم لبعض ، وموالي القوم منهم ، قال أبو العباس : ومن قال : إن الهاشمية لا تتزوج بغير هاشمي ، بمعنى أنه لا يجوز فهو مارق من دين الإسلام ، إذ قصة تزويج الهاشميات من بنات النبي وغيرهن بغير الهاشميين ثابت في السنة ثبوتاً لا يخفى ، فلا يجوز أن يحكى هذا خلافاً في مذهب أحمد ، وليس في لفظه ما يدل عليه . انتهى ، ( قلت ) وكذلك حكى القاضي الرواية في الروايتين على نحو ما في الخلاف ، وصححها ، وحكى ابن عقيل في التذكرة النسألة على ثلاث روايت ، فجمع شيخه في الجامع وفي الخلاف .
( تنبيه ) يجوز للعجمي تزوج موالي بني هاشم ، نص عليه في رواية أبي طالب .
2442 وقال النبي : ( مولى القوم من أنفسهم ) هو في الصدقة ، ويحتمل رواية مهنا المتقدمة ( مولى القوم منهم ) المنع .
أما ولد الزنا فلا يكون كفواً لمن له أبوان في الإسلام ، نص عليه ، وكيف لا والصحابة أفضل الأمة وأكفاء للتابعين ، بلا تردد ، ( أما السلامة ) من العيوب فلا يبطل عدمها قولًا واحداً ، نعم للمرأة الفسخ للعيب ، لا لفوات الكفاءة انتهى ( والكفاءة في الحرية ) أن لا تزوج حرة بعبد قلت : ولا بمن بعضه رقيق ، واختلف فيمن مسه أو مس أباه الرق ، هل يكون كفواً لحرة الأصل ؟ كلام أحمد يدل على روايتين ، والجواز اختيار ابن أبي موسى وأبي محمد ، وظاهر كلام أبي الخطاب في الانتصار ، والمنع اختيار ابن عقيل ، واختلف أيضاً في موالي القوم هل هم أكفاء لهم ؟ فعنه أنهم أكفاء لهم .
2443 لما روي أبو رافع مولى رسول الله أن رسول الله بعث رجلًا من بني مخزوم على الصدقة ، فقال لأبي رافع : أصحبنا كيما تصيب منها . قال : لا حتى آتي رسول الله فأسأله . فانطلق فسأله فقال : ( إن الصدقة لا تحل لنا ، وإن مولى القوم من أنفسهم ) رواه أبو داود والنسائي ، والترمذي وصححه ، قوله : ( من أنفسهم ) يشمل في الصدقة وفي غيرها ، ( وعنه ) واختاره القاضي في الروايتين وأبو محمد ليسوا بأكفاء لهم ، قصراً على السبب وهو الصدقة ، ولأنه إذا كافى سيدته
____________________
(2/339)
كافى من تكافيه سيدته ، فيبطل اعتبار المنصب .
( وأما الكفاءة ) في الصناعة فتعتبر في الحجامة بلا خلاف نعلمه في المذهب ، فلا تزوج بنت بزاز بحجام ، وكذلك في الكساحة نص عليه ، فلا تزوج بنت باني وهو صاحب العقار ، وقيل : الكثير المال بكساح ، وهل تعتبر في الحياكة ؟ فيه روايتان ، وما عدا هذه الثلاثة من الصنائع الرديئة كالحارس والمكاري والمزين والكباش والحمامي ونحوهم فلا نص فيه عن أحمد ، قاله ابن عقيل ، ثم من الأصحاب من قصر الحكم على الثلاثة مدعياً بأن الشرع لم يرد بغيرها ، وأن القياس لا مدخل له هنا ، ومنهم وهو القاضي في الجامع ، وأبو محمد من عدى ذلك إلى كل صناعة رديئة ، قياساً على الحجامة ، ( قلت ) والظاهر أن الشرع لم يرد في الكساحة بشيء ، فنص أحمد عليها دليل على لحظ المعنى .
ومعنى الكفاءة بالمال أن يكون بقدر المهر والنفقة ، قاله القاضي وأبو محمد في المغني ، ولأن هذا الذي يحتاج إليه في النكاح ، ولم يعتبر أبو محمد في الكافي إلا النفقة فقط ، واعتبر ابن عقيل أن يكون بحيث لا يغير عليها عادة كانت عند أبيها في بيته .
( الثالث ) الكفاءة المعتبرة في الرجل دون المرأة ، إذ النبي لا مكافئ له ، وقد تزوج من أحياء العرب وتسرى .
2444 وقال : ( من كانت عنده جارية فعلمها وأحسن تعليمها ، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ) متفق عليه ، والمعنى في ذلك أن الولد يشرف بشرف أبيه لا بأمه .
( الرابع ) قال أبو العباس : ينبغي أن يكون الخيار في الفسخ على التراخي ، في ظاهر المذهب ، لأنه لنقص في المعقود عليه ، فعلى هذا يسقط خيارها بما يدل على الرضى من قول وفعل ، ولا يسقط خيار الأولياء إلا بالقول ، وقال : إن قياس المذهب افتقار الفسخ إلى حاكم .
( الخامس ) إذا كانت الكفاءة المعتبرة حال العقد موجودة ثم زالت بعده ، فإن النكاح لا يبطل بذلك قولًا واحداً ، لكن هل للمرأة والأولياء الفسخ ، كما لو كانت معدومة قبل العقد ويعزى ذلك لأبي الخطاب ، ويحتمله كلام شيخه في التعليق ، أو لا يثبت لواحد منهما ، أو يثبت ذلك للمرأة دون الولي ، وهو الذي أورده المجد مذهباً ؟ على ثلاثة أوجه ، والله أعلم .
قال : وإذا زوج الرجل ابنته البكر فوضعها في كفاية فالنكاح ثابت وإن كرهت ، كبيرة كانت أو صغيرة .
ش : لا نزاع بين أهل العلم فيما نعلمه في أن للأب تزويج ابنته البكر التي لم
____________________
(2/340)
تستكمل تسع سنين وإن كرهت ، بشرط أن يضعها في كفاية ، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً ودل علهي قوله سبحانه : 19 ( { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر ، واللائي لم يحضن } ) أي فعدتهن كذلك [ أو على التقديم والتأخير ، والتقدير : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم ، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر ، وعلى كل حال يدل ] على أن الصغيرة تزوج وتطلق ، لوقوع العدة عليها ، ولا إذن لها معتبرة والحال هذه .
2445 وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي تزوجها وهي بنت ست سنين ، وأدخلت عليه وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعاً ، متفق عليه ، وفي رواية لأحمد ومسلم : تزوجها وهي ابنة تسع . ولا إذن لها إذاً معتبرة .
2446 وروى الأثرم أن قدامة بن مظعون ابنة الزبير حين نفست ، فقيل له . فقال : ابنة الزبير إن مت ورثتني ، وإن عشت كانت امرأتي .
واختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في من استكملت تسع سنين ، فروي عنه كذلك وإن بلغت ، وهي اختيار الخرقي وجمهور الأصحاب ، القاضي وولده أبي الخطاب في خلافه ، والشريف وابن البنا وأبي محمد وغيرهم .
2447 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال : ( الثيب أحق بنفسها من وليها ، والبكر تستأمر ، وإذنها سكوتها ) رواه مسلم وغيره ، وفي رواية في الصحيح ( يستأمرها أبوها ) فتقسيم النساء قسمين ، وإثبات الحق لأحدهما دليل على نفيه عن الآخر ، وهي البكر ، فيكون وليها أحق منها ، وإلا فلا فائدة من التفرقة ، لا يقال : الفائدة التفرقة في صفة الإذن ، لأنا نقول : ظاهر الحديث أن الذي فرق فيه حق الولي ، ألا ترى أنه ذكر صفة الإذن بعد ، وعلى هذا فالإذن في حقها على سبيل الاستحباب ، وعلى هذا فالعلة في الإجبار البكارة .
( وروي عنه ) : لا يجبرها مطلقاً ، وهي أظهر ، وقد قال الشريف : إنها المنصوص عنه .
2448 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ، ولا تنكح البكر حتى تستأذن ) قالوا : يا رسول الله كيف إذنها ؟ قال : ( أن تسكت ) .
2449 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله تستأمر النساء
____________________
(2/341)
في أبضاعهن ؟ قال : ( نعم ) قلت : فإن البكر تستأمر فتستحي ؟ فقال : سكاتها إذنها ) متفق عليهما .
2450 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية بكراً أتت رسول الله فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي ، رواه أحمد وأبو داود . والعلة على هذا القول البكارة مع صغر مخصوص . ( وعنه ) : تجبر ابنة تسع سنين ، حكاها ابن أبي موسى وغيره لما تقدم ، ولا تجبر البالغة ، لأنها جائزة التصرف في مالها ، أشبهت الثيب الكبيرة ، والعلة على هذا القول الصغر والبكارة ، وظاهر كلام ابن عقيل أن العلة على هذا القول الصغر ، ومن نصر الأول حمل ما ورد من استئذان البكر على الإستحباب ، أو على غير الأب ، وأجابوا عن حديث ابن عباس بأن أبا داود وأبا حاتم وغيرهما أعلوه بالإرسال ، ثم يحتمل أن أباها زوجها من غير كفو فخيرت لذلك ، وفي هذه الأجوبة نظر ، أما الأول فظواهر الأحاديث تخالفه ، ومثل هذا الظاهر لا يترك إلا بأقوى منه ، وأما الثاني فالمرسل عندنا حجة على الصحيح ، لا سيما وقد اعتضد بظواهر الأحاديث ، وأما الثالث فالذي رتب عليه الحكم من دعا له رسول الله بالفقه وعلم التأويل هو الكره لا غيره ، وأما قوله : ( الثيب أحق بنفسها ، والبكر تستأمر ) فالمراد والله أعلم في الرد والإجابة في الخطبة ، فالولي ليس له مع الثيب أمر في ذلك ، ولهذا قال : ( تستأمر ) أي يطلب أمرها ، بخلاف البكر فإنه لا مدخل لها في العادة في ذلك ، وإنما تستأذن في الرضا بالنكاح فقط .
تنبيهات ( أحدها ) قد تقدم التنبيه على علة الإجبار ، وسيأتي أن لنا وجهاً أن الثيب الصغيرة تجبر مطلقاً ، وعلى هذا فالعلة في الإجبار الصغر ، عكس الأول ، لكن لا أعرف قائلًا بذلك ، وإنما أبو بكر يقول بإجبار ثيب لم تبلغ تسعاً ، فالعلة عنده صغر مخصوص ، وأبو البركات ينتظم من كلامه أن في علة الإجبار ثلاث روايات ، الصغر ، البكارة ، أحدهما ، ويتلخص من مجموع ذلك ثلاثة أقوال .
( الثاني ) إذا قلنا لا تجبر المميزة بعد التسع هنا وفيما سيأتي فهل لها إذن صحيح فتزوج به ؟ فيه روايتان ، أنصهما وأشهرهما عن أحمد نعم ، وبها جزم القاضي في تعليقه ، وفي جامعه ، ومجرده ، وابن عقيل في فصوله وتذكرته ، وأبو الخطاب في خلافه ، والشريف وابن البنا ، ونصبها الشيرازي ، وهي ظاهر كلام أبي بكر كما سيأتي ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { وإن خفتم لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم } ) الآية ، مفهومه أنا إذا لم نخف لنا تزويج اليتيمة .
2451 وقد فسرته عائشة رضي الله عنها بذلك ، واليتيمة من لم تبلغ ، ولا أيب
____________________
(2/342)
لها ، ومن هذه حالها لا تزوج إلا بإذنها .
2452 وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها ) رواه الخمسة إلا ابن ماجة .
2453 وعن أبي موسى رضي الله عنه أن النبي قال : ( تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فقد أذنت ، وإن أبت لم تكره ) رواه أحمد ، وهذا يفيد أنها تزوج بإذنها وأن لها إذناً معتبراً .
2454 وإنما قيدنا ذلك ببنت تسع لقول عائشة رضي الله عنها : إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة . رواه أحمد ، وروي مرفوعاً عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي . ومعناه : في حكم المرأة ، ولأنها تصلح بذلك للنكاح ، وتحتاج إليه ، أشبهت البالغة ( وعن أحمد ) رواية أخرى لا إذن لها صحيح ، فلا تزوج حتى تبلغ كإذنها في المال .
وقول الخرقي : فوضعها في كفاية . مفهومه أنها إذا لم يضعها في كفاية أن النكاح غير ثابت ، فيحتمل بطلانه ، وهو مقتضى كلامه السابق ، إذ من مذهبه أن الكفاءة شرط للزوم ففي تزويج الأب والحال هذه روايتان ( إحداهما ) بطلان النكاح رأساً ، لأنه نكاح محرم ، أشبه نكاح المحرمة والمعتدة ونحوهما . ( والثانية ) لا تبطل ، لأن النهي لحق آدمي ، وقد أمكن تداركه بثبوت الخيار له ، فأشبه تلقي الركبان ونحوه على المذهب ، وقيل : إن علم بفقد الكفاية لم يصح للتحريم ، وإلا صح في الحال ، كالوكيل يشتري معيباً لم يعلم عيبه ، وقيل : يصح إن كانت كبيرة ، لاستدراك الضرر في الحال بثبوت الخيار لها ، وإلا لم يصح ، ومتى لم يبطل العقد فلها الخيار إن كانت كبيرة ، دفعا للضرر الحاصل لها قاله أبو محمد ، ولا خيار لأبيها ، لإسقاط حقه باختياره وإن كانت صغيرة فهل عليه الفسخ ، لأنه لحظها أو لا فسخ له ، ويمنع الزوج من الدخول بها حتى يصح إذنها ، دفعا للضرر الحاصل لها ، فتختار ؟ فيه وجهان ، ولغير الأب من الأولياء الفسخ على الصحيح من الروايتين وقد تقدمتا ، وعلى كل حال فلا يحل له أن يزوج من غير كفو ، ولا من معيب .
وقول الخرقي : في كفاية . يحتمل أن يريد به الكفو ، ويحتمل أن يريد ما هو أعم منه ، فيدخل فيه المعيب ( الثالث ) : نفست المرأة . إذا ولدت ، بضم النون وفتحها مع كسر الفاء فيهما ، أما إن حاضت فبفتح النون لا غير ، والله أعلم .
قال : وليس هذا لغير الأب .
____________________
(2/343)
ش : أي ليس لغير الأب من الأولياء تزويج البكر بدون إذنها ، صغيرة كانت أو كبيرة ، لما تقدم من قوله : ( تستأمر اليتيمة في نفسها ، فإن سكتت فهو إذنها ، وإن أبت فلا جواز عليها ) ونحو ذلك مما يقتضي أن اليتيمة لا تزوج إلا بعد الإذن ، وهو يدل بطريق التنبيه على أن البالغة لا تزوج إلا بعد الإذن ، وهو يدل بطريق التنبيه على أن البالغة لا تزوج إلا بإذنها ، إذا تقرر هذا فالطفلة لا إذن لها بالإتفاق وإذاً يمتنع تزويجها لفوات الشرط ، أما إن بلغت تسع سنين ففيها الروايتان المتقدمتان ، والمذهب منهما صحة إذنها ، وتزويجها به كما تقدم ، ولا عبرة بقول ابن المنجا أن المذهب أنها لا تزوج ، لأنه اعتمد في ذلك على تقديم أبي محمد ، وما استدل به من قصة قدامة بن مظعون ، وقوله : ( هي يتيمة ولا تزوج إلا بإذنها ) دليل عليه ، لأن ظاهره أن اليتيمة لها إذن صحيح تزوج به ، انتهى ، أما إن بلغت فلا إشكال في صحة إذنها وتزويجها به ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن لغير الأب من الأولياء تزويج الصغيرة ، ولها الخيار إذا بلغت ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } ) الآية مفهومه أنه إذا لم نخف لنا تزويج اليتيمة ، وهو شامل لمن لها دون التسع ، ويفيد النكاح على هذه الرواية الحل والإرث ، قاله أبو البركات ، فيكون النكاح على هذه الرواية الحل والأرث ، قاله أبو البركات ، فيكون النكاح صحيحاً ، وخيارها كخيار المعتقة تحت عبد ، وظاهر كلام ابن أبي موسى أنه لا يفيدهما ، لأنه جعله موقوفاً ، ثم قال : فإذا بلغت تسع سنين فأجازته جاز ، وإن ردته بطل ، ولم يقل انفسخ ، ويؤيد هذا أن الأصحاب أخذوا من هذه الرواية وقف النكاح على الإجازة ، وقد علم أن النكاح الموقوف على الإجازة لا يفيد حلًا ولا إرثاً كما تقدم انتهى .
والمراد بالبلوغ البلوغ المعتاد ، على ظاهر كلام أحمد ، وهو قياس رواية عدم صحة إذن بنت تسع سنين ، وقياس المذهب في صحة إذن ابنة تسع أنه بلوغ تسع سنين ، وهو الذي قطع به ابن أبي موسى ، والشيرازي ، والله أعلم .
قال : ولو استأذن البكر البالغة والدها كان حسناً .
ش : خروجاً من الخلاف ، وتطيباً لقلبها ، ولهذا استحب استئذان المرأة في ابنتها .
2455 قال : ( آمروا النساء في بناتهن ) وقد يقال من هذا أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا إذن لابنة تسع ، وإلا لاستحب استئذانها ، وقد يقال : استضعف الخلاف فيها فلم يعرج عليه ، والله أعلم .
قال : وإن زوج ابنته الثيب بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيت بعد .
ش : الضمير راجع للأب ، ولا ريب أنه ليس له تزويج الثيب الكبيرة بدون إذنها ، لما تقدم من قوله : ( الثيب أحق بنفسها من وليها ) ونحوه ، مع أن 16 ( أحمد ) قال في
____________________
(2/344)
رواية عبد الله : ليس بين الناس اختلاف في الثيب الكبيرة أنها لا تزوج إلا بإذنها . واختلف هل له تزويج الثيب الصغيرة بدون إذنها ؟ على قولين مشهورين ، الذي عليه عامة الأصحاب ابن بطة ، وصاحبه أبو الخطاب ، وابن عقيل ، والشيرازي ، وأبو محمد لا ، لعموم ما تقدم ( والثاني ) نعم ، لعموم الآية ، إن قيل بعدم صحة إذن ابنة تسع ، وقياساً على إجبار الصغير الذي لم يبلغ ، قال ابن عقيل : أصل الوجهين في الثيب الصغيرة ما تقدم في الروايتين في البكر البالغ ، إن قلنا : هناك لا تجبر البالغ مع البكارة . قلنا هنا : وهذا الذي اقتضى والله أعلم لأبي الخطاب في الانتصار وأبي البركات حكاية الخلاف على روايتين ، وأرادا مخرجتين ، وإلا فعامة الأصحاب على حكاية وجهين .
( وهنا شيء آخر ) وهو أن أبا البركات إنما حكى الخلاف في ابنة تسع ، وجعل من لم تبلغها تجبر بلا خلاف ، وهذه طريقة أبي الخطاب في الانتصار ، فإنه قال بعد ذكر الخلاف : وهذا إنما نقوله في حق المراهقة ، ومن تستلذ بالوطء ، لأنا نعلل بالاختيار ومن لا تستلذ لا تجبر ، وعامة الأصحاب يطلقون الخلاف ، فيشمل من لم تبلغ التسع ، ويعين جريان الخلاف في ذلك أن أبا بكر قال في الخلاف : الثيب إذا كان لها دون تسع سنين لا يزوجها أحد إلا الأب يزوجها ولا يستأمرها ، قال القاضي : فعلى قوله تجبر على النكاح إلا أن تبلغ سناً يصح إذنها فيها ، وهو تسع سنين ، والقاضي وأصحابه ينصبون الخلاف معه ، وإذا كان هو إنما يقول بإجبار من لم تبلغ تسعاً ، فهم يقولون : لا تجبر . ثم إن أبا بكر ظاهر كلامه أن الثيب إذا بلغت تسعاً زوجت بإذنها ، والأصحاب يوافقونه على هذا ، وهذا في غاية الجودة ، ولا يأباه طريقة أبي البركات ، وبه يحصل الجمع بين الآية والأحاديث ، إذ قوله تعالى : 19 ( { واللائي لم يحضن } ) يشمل الثيب ، فيحمل على من لم تبلغ تسعاً ، وقوله : ( الثيب أحق بنفسها من وليها ) ( ليس للولي مع الثيب أمر ) وغير ذلك يحمل على من بلغتها ، وإلا لو قيل بإجبار الثيب غير البالغة مطلقاً لزم خروج الأب من الأحاديث رأساً ، ولو قيل بعدم إجبارها لزم خروجها من الآية رأساً ، ولا يخفى أن الحمل على ما تقدم أقل تخصيص وأظهر في المعنى ، وينتظم من هذا وما تقدم في البكر أن المرجح أن للأب تزويج من لم تبلغ تسعاً مطلقاً وكذلك من بلغتها بإذنها كغيره من الأولياء .
وقول الخرقي : وإن رضيت بعد . بناء على المذهب من أن النكاح لا يقف على الإجازة ، وقوله : بغير إذنها . مفهومه أنه إذا زوجها بإذنها أنه يصح ، وهو يعتمد أن يكون لها إذن ، وذلك في البالغة بلا نزاع ، وفي ابنة تسع على الصحيح ، وحكم غير الأب كالأب في ذلك .
( تنبيه ) لم يصرح الخرقي بذكر المجنونة ، وحكمها أن الأب يجبر لو كانت عاقلة بلا نزاع بطريق الأولى ، وهل يجبر من لا يجبرها لو كانت عاقلة ؟ فيه
____________________
(2/345)
وجهان ( أحدهما ) وهو اختيار القاضي والشيخين وغيرهما يجبرها ، لأنها أسوأ حالًا من الصغيرة . ( والثاني ) وهو قول أبي بكر في الخلاف ، وظاهر عموم قول الخرقي في هذه المسألة لا يجبرها ، لظاهر ( ليس للولي مع الثيب أمر ) وغير ذلك ، وحكم وصي الأب في النكاح حكم الأب ، أما غير الأب من الأولياء فقيل وهو اختيار أبي الخطاب والشيخين : لهم تزويجها بشرط أن يظهر منها الميل إلى الرجال ، لحاجتها إذاً لدفع ضرر الشهوة ، وصيانتها عن الفجور ، مع ما فيه من مصلحة تحصيل المهر والنفقة وغير ذلك ، قال أبو محمد : وكذلك ينبغي أن تزوج إذا قال أهل الطب إن علتها تزول بتزويجها ، لأن ذلك من أعظم مصالحها ، وقيل وهو ظاهر كلام الخرقي : ليس لهم ذلك ، لأن هذه ولاية إجبار ، فلا تثبت لغير الأب كالعاقلة ، وقيل : يملك ذلك الحاكم ، لكمال نظره ، وولايته العامة ، بخلاف غيره من الأولياء ، ومحل الخلاف إذا لم يكن وصي في النكاح ، أما مع وجوده فحكمه حكم الأب على ما تقدم . والله أعلم .
قال : وإذن الثيب الكلام . وإذن البكر الصمات .
ش : للأحاديث السابقة ، فإنها نص في أن إذن البكر الصمات ، وظاهرة في أن إذن الثيب الكلام ، إذ تخصيص البكر بالصمات ظاهر في أن الثيب إذنها النطق .
2456 وقد روى الأثرم عن عدي الكندي ، عن رسول الله أنه قال : ( الثيب تعرب عن نفسها ، والبكر رضاها صمتها ) وقد دخل في كلام الخرقي من ثابت بزنا ، وصرح به الأصحاب ، لعموم الحديث ، ولأن الحكمة التي اقتضت التفرقة بينها وبين البكر مباضعة الرجال ومخالطتهم ، وهذا موجود في المصابة بالزنا ، ولهذا قال الأصحاب : إن البكارة لو زالت بإصبع أو وثبة فهو كما لو لم تزل ، في بقاء إذن البكر ، لعدم المباضعة والمخالطة ، وعكس هذا لو عادت بكارتها بعد زوالها بوطء ، هي في حكم الثيب ، ذكره أبو الخطاب أنه محل وفاق لوجود المباضعة .
وعموم كلام الخرقي يشمل الأب وغيره ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني ، وصرح به أبو الخطاب في الإنتصار ، وشيخه في الجامع الكبير ، وفي التعليق في موضع ، وأبو محمد وغيرهم ، وقال القاضي في التعليق في مسألة إجبار البالغة : من أصلنا أن إذن البكر في حق غير الأب النطق . وقال ذلك أيضاً فيمن رأى عبده يتجر فسكت ، وكذلك قال في المجرد في نكاح الكفار ، والمذهب الأول لقول النبي : ( إذن البكر صماتها ) وهو عام ، وقال : ( تستأمر اليتيمة ، فإن سكتت فهو إذنها ) وفي لفظ ( فقد أذنت ) واليتيم من لا أب له .
( تنبيه ) قال أبو العباس : يعتبر في الاستئمار تسمية الزوج على وجه تقع المعرفة به ،
____________________
(2/346)
ولا تشترط تسمية المهر على الصحيح ، والله أعلم .
قال : وإذا زوج ابنته بدون صداق مثلها فقد ثبت النكاح .
ش : هذا هو المنصوص والمختار لعامة الأصحاب .
2457 لما روى أبو رضي الله عنه قال : خطبنا عمر فقال : 16 ( ألا لا تغالوا في صدق النساء ، فإنه لو كان مكرمة في الدنيا ، أو تقوى في الآخرة ، كان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية ) . رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وهذا قاله بمحضر من الصحابة ، ولم ينقل مخالفته ، فينزل منزلة الإجماع ، وظاهره أن كل أحد يصح أن يزوج موليته على مثل هذا المهر ، وإن كان مهر مثلها أكثر ، وإنما خصصنا ذلك بالأب لأنه الذي له الولاية التامة ، ولما سيأتي .
2458 وعن سعيد بن المسيب أنه زوج ابنته بدرهمين ، وهو من سادات قريش شرفاً وعلماً وديناً ، ومن متموليهم أيضاً ، ومن المعلوم أنه لم يكن مهر مثلها ، ولأن المقصود من النكاح السكن ، ووضع المرأة عند من يصونها ، ويحسن عشرتها ، لا العوض ، والظاهر من الأب مع تمام شفقته أنه لا ينقص ابنته عن مهر مثلها إلا لهذه المعاني أو بعضها ، لا سيما وهو غير متهم ، وبهذا خرج سائر الأولياء ، وخرج أيضاً بيع الأب لسلعتها ، لأن المقصود تحصيل العوض لا غيره ، فلذلك لم يجز أن يبيع بدون ثمن المثل ، وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول اختصاص هذا الحكم بالأب المجبر ، قال : وإذا زوج الأب ابنته التي يملك إجبارها وهي الصغيرة رواية واحدة ، والبكر البالغة في إحدى الروايتين بدون مهر مثلها يثبت المسمى ، وللقاضي في تعليقه احتمال بأن حكم الأب مع الثيب الكبيرة حكم غيره من الأولياء ، وحكى ابن حمدان في رعايتيه قولًا أن على الزوج بقية مهر المثل ، وأطلق .
وكلام الخرقي يشمل وإن كرهت ، ونص عليه أحمد والأصحاب ، وقد يستشكل بأن من لا يملك إجبارها إذا قالت : أذنت لك أن تزوجني على مائة درهم لا أقل ، فكيف يصح أن يزوجها على أقل من ذلك ، وقد يقال : إذنها في المهر غير معتبر فيلغى ، ويبقى أصل إذنها في النكاح ، والله أعلم .
قال : وإن فعل ذلك غير الأب ثبت النكاح ، وكان لها مهر مثلها .
ش : إذا زوج غير الأب موليته بدون مهر مثلها فإن النكاح صحيح ، لأن قصاراه أن التسمية فاسدة ، والنكاح لا يبطل بفساد التسمية ، ويجب مهر المثل ، جريا على القاعدة بأن التسمية إذا فسدت وجب مهر المثل .
وظاهر كلام الخرقي وهو المذهب عند أبي الخطاب وأبي محمد وغيرهما أن جميع مهر المثل على الزوج ، وذلك لأن
____________________
(2/347)
التسمية لما فسدت لعدم الإذن فيها شرعاً وجب على الزوج مهر المثل ، إذ هو بدل البضع ، كما لو زوجها الولي على محرم ، وحكى أبو البركات وغيره رواية أن تمام مهر المثل على الولي ، لأنه مفرط ، أشبه الوكيل في البيع إذا باع بدون ثمن المثل أو بدون ما قدر له وصححنا على المنصوص ، وأخذ ذلك والله أعلم من قول 16 ( أحمد ) : أخاف أن يكون ضامناً وظاهره أن الوكيل يضمن ما نقص من مهر المثل ، وفهم أبو محمد من هذا النص أن الولي يضمن الزوج ، فقطع في المغني بوجوب مهر المثل على الزوج ، وجعل الولي ضامناً له ، وليس بالبين .
واعلم أنه قد يطلب الفرق على المذهب بين هذا وبين الوكيل ، وقد يفرق بأن القاعدة عندنا أن النهي يقتضي الفساد ، فالولي لما خالف ما أمر به فسدت التسمية ، وإذا فسدت لم يفسد العقد ، كما هو مقرر في موضعه ، ووجب الرجوع إلى مهر المثل ، ويجب جميعه على الزوج إذ القاعدة أن العوض يجب على من حصل له المعوض ، والمعوض حصل للزوج ، فوجب استقرار العوض عليه ، ( أما في البيع ) فمن راعى هذين الأصلين من غير نظر إلى معنى آخر كأبي محمد أبطل البيع ، ( وأما على المنصوص ) فنقول : النهي إذا كان لحق آدمي معين ، وأمكن تداركه ، لا يبطل العقد ، كتلقي الركبان ونحوه ، وهنا كذلك ، لأنه أمكن زوال المفسدة التي لأجلها ورد النهي بأن يجعل على الوكيل ضمان النقص لتفريطه ، ولا يمكن أن يجعل على المشتري ، لأنه زيادة على الثمن الذي وقع العقد عليه مع صحة الثمن ، ولا أن تلغى التسمية ، لأن العقد إذاً يفسد ، والأصل تصحيح كلام المكلف مهما أمكن والله أعلم .
قال : ومن زوج غلاماً غير بالغ أو معتوهاً لم يجز إلا أن يزوجه والده أو وصي ناظر له في التزويج .
ش : للأب أن يزوج ابنه الذي لم يبلغ على المذهب المنصوص .
2459 لما روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه زوج ابنه وهو صغير ، فاختصموا إلى زيد فأجازاه جميعاً ولأنه يتصرف في ماله بغير تولية ، فكان له تزويجه كابنته الصغيرة .
وظاهر كلام الخرقي وكثيرين أنه لا يشترط حاجة الصغير ، وقال القاضي في المجرد : الصغير كالمجنون ، إن كان محتاجاً إلى النكاح زوجه وإلا فلا ، فإن أراد الحاجة إلى النكاح وهو الذي فهمه ابن عقيل لأنه قال : هذا إنما يتصور في المراهق فظاهر كلام أحمد والأصحاب خلافه ، وإن أراد الحاجة مطلقاً فغير مخالف لأن الأب وغيره تصرفهم منوط بالمصلحة . انتهى ، وللأب أيضاً أن يزوج ابنه المعتوه أي المجنون ، وهذا ظاهر كلام أحمد ، واختيار أبي الخطاب والشيخين وغيرهما ، لأنه غير مكلف ، أشبه الصغير بل أولى ، لأنه يتوقع منه النظر عند الحاجة إليه ، بخلاف المجنون ، وشرط القاضي لذلك أن يظهر منه أمارات الشهوة من تتبع النساء ونحو
____________________
(2/348)
ذلك ، وحمل كلام أحمد والخرقي على ذلك ، إذ تزويجه مع عدم ذلك إضرار به ، لالتزامه حقوقاً لا مصلحة في التزامها ، ومنع أبو بكر في الخلاف من تزويج البالغ مطلقاً ، لأنه بالغ محجور عليه ، أشبه المفلس .
ومحل الخلاف في المجنون المطبق ، أما من يخنق أحياناً فلا يزوج إلا بإذنه ، ومن زال عقله ببرسام ونحوه إن رجي زوال علته فكالمخنق ، وإلا فكالمجنون . انتهى .
ووصي الأب في النكاح قائم مقامه ، فيزوج الصغير والمجنون كالأب ، لأنه قائم مقامه ، ونائب منايه ، وهذا يعتمد أصلًا ، وهو أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية ، ( وهو إحدى الروايات ) عن أحمد ، والمختار لجمهور الأصحاب ، القاضي وولده أبي الحسين ، والشريف وأبي الخطاب ، وابن عقيل والشيرازي ، وابن البنا وأبي وغيرهم ، لأنها ولاية ثابتة ، فجازت الوصية بها كولاية المال ، ولأن له أن يستنيب في حياته ، فكذلك بعد مماته كالمال ، ( وعنه ) واختاره أبو بكر لا يستفاد بذلك ، لأنها ولاية تنتقل إلى غيره ، فلم تجز الوصية بها كالحضانة ، يحققه أنه لا ضرر على الوصي في وضعها عند من لا يكافيها ، فهو كالأجنبي .
2460 واستدل لها بما روى ابن عمر رضي الله عنه قال : توفي عبد الله بن مظعون وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم ، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون ، قال عبد الله : وهما خالاي . قال : فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عبد الله بن مظعون فزوجنيها ، ودخل المغيرة بن شعبة يعني إلى أمها ، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله ، فقال قدامة بن مظعون : يا رسول الله ابنة أخي أوصى بها إلي ، فزوجتها ابن عمتها ، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة ، ولكنها امرأة ، وإنما حطت إلى هوى أمها . قال : فقال رسول الله : ( هي يتيمة ، ولا تنكح إلا بإذنها ) قال : فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها ، فزوجوها المغيرة بن شعبة ، رواه أحمد والدارقطني . ولو استفاد ولاية النكاح بالوصية لملك الإجبار كالأب ، ولم يكن لها معه إذن ، وحمله القاضي على أنه كان ولياً في المال ، ويرده تعليله بقوله : ( هي يتيمة ) ولم يقل : ولايتك في المال ، لا في النكاح ، لكن قد يقال : إن هذه واقعة عين فيحتمل أن هذه اليتيمة كانت ابنة تسع ، وهو الظاهر من القصة ، ويلتزم أن ابنة تسع لا يزوجها أبوها إلا بإذنها ، وكذلك وصيه في النكاح ، بل قد يقال إن هذا الحديث يستدل به على أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية ، لأنه زوج بذلك ، ولم ينكر عليه النبي ذلك ، وقد يقال : إنما لم ينكر عليه لأن له ولاية بالعمومة ضائعاً .
( وعن أحمد ) رواية ثالثة حكاها القاضي في الجامع الكبير ، وهي اختيار ابن حامد إن كان ثم عصبة لم تستفد ، حذاراً من إسقاط حقهم ، وإلا استفيدت ، لعدم
____________________
(2/349)
ذلك ، وشرط الخرقي أن يكون وصياً في النكاح ، فلو كان وصياً في المال لم تكن له ولاية التزويج ، لأنها إحدى الوصيتين ، فلا تملك بها الأخرى ، كوصية النكاح ، لا يملك بها المال .
ثم ظاهر كلام المصنف والإمام والأصحاب أنه لا خيار للصبي والحال هذه إذا بلغ ، قال القاضي : ووجدت في رقعة بخط أبي عبد الله جواب مسألة إذا زوجه نظراً للصغير وهو وصي ، ثبت نكاحه وتوارثاً ، فإذا بلغ فله الخيار . انتهى وليس لغير الأب والوصي من حاكم ووصي تزويج الصغير والمجنون ، لأنه إذا لم يكن لهما تزويج الصغيرة فالصغير أولى ، وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب كما اقتضاه كلام الخرقي ، وإليه ميل أبي محمد ، وأجاز ذلك ابن حامد للحاكم خاصة ، بشرط ميل المجنون للنساء ، بأن يتتبعهن ونحو ذلك ، وألحق أبو محمد بذلك ما إذا قال أهل الخبرة إن علته تزول بتزويجه ، وتبع القاضي في المجرد ، وأبو البركات ابن حامد بغير شرط ، لأنه يلي ماله ، أشبه الأب ، ومن هنا يخرج لنا قول أن الجد يزوج الصغير إن قلنا يلي ماله .
( تنبيهان ) أحدهما كلام الخرقي فيما تقدم يشمل الأب الكافر ، وصرح به القاضي ، لأن الحظ والشفقة موجودة فيه ، فأشبه المسلم ، ولنا وجه في الكافر أنه لا يلي مال ولده الكافر ، فيخرج هنا كذلك ( الثاني ) إطلاق الخرقي يقتضي أن للأب تزويج ابنه الصغير بأربع ، وصرح به القاضي في الجامع الكبير ، لأنه قد يرى المصلحة في ذلك ، قلت : وقال في المجرد : قياس المذهب أنه لا يزوجه بأكثر من واحدة ، إذ حاجته تندفع بذلك . والله أعلم .
قال : وإذا زوج أمته بغير إذنها لزمها النكاح وإن كرهت ، كبيرة كانت أو صغيرة .
ش : هذا هو المذهب المعروف ، المجزوم به عند الأصحاب ، لأن النكاح عقد على منفعتها ، وهي مملوكة له أشبه إجارتها ونقل أبو عبد الله النيسابوري عن أحمد أنه سئل هل يزوج الرجل جاريته من غلامه بغير مهر ؟ فقال : لا يعجبني إلا بمهر وشهود . قيل : فإن أبت هي ، وقالت : لا أتزوج . فللسيد أن يكرهها على ذلك ؟ قال : لا إلا بإذنها . قال أبو العباس : ظاهر هذا أن السيد لا يجبر الأمة الكبيرة ، بناء على أن منفعة البضع ليست بمال ، بدليل أن المعسرة لا تلزم بالتزويج ، ولا تضمن باليد اتفاقاً ، وملك السيد لها كملكه لمنفعة بضع زوجته ، والقاضي ذكر هذا النص في الجامع الكبير ، فيما إذا وجد أحدهما بالآخر عيباً به مثله ، وقال : ظاهر هذا أنه لم يجعل للسيد إجبار أمته على نكاح العبد ، وإن كان مساوياً لها فيقتضي أن المساواة في النقص لا يمنع الفسخ ، قال أبو العباس : وفي هذا نظر ، إذ الرق من باب عدم الكفاءة ، ولو زوجت المرأة بمن يكافئها في النسب ونحوه لم يكن لها فسخ بحال ، قلت : وتمام هذا أن العبد والحال أنه لا فسخ لها لوجود المكافأة ، وإنما لها الفسخ للعيب وهو الرق ، إذ ليس للولي أن يزوج موليته بمعيب ، كما هو مقرر في موضعه .
____________________
(2/350)
وقد شمل كلام الخرقي المدبرة ، والمعلق عتقها بصفة ، وأم الولد ، والمكاتبة ، وهو صحيح فيما عدا المكاتبة ، لمساواتهن للأمة فيما تقدم ، أما المكاتبة فليس له إجبارها على النكاح ، لأنها قد ملكت منافعها عليه ، ولهذا لا يجوز له وطؤها ولا إجارتها . والله أعلم .
قال : وإذا زوج عبده وهو كاره ، لم يجز إلا أن يكون صغيراً .
ش : لا يملك السيد إجبار عبده الكبير على النكاح ، نص عليه أحمد ، وقاله الأصحاب ، لأنه مكلف يملك الطلاق ، فلا يجبر على النكاح كالحر ، لأن النكاح خالص حقه ، ونفعه له فأشبه الحر ، وكذلك الصغير على وجه ، قاله أبو الخطاب في الإنتصار ، والمذهب وهو المنصوص أن له إجباره قياساً على الابن الصغير بل أولى ، لثبوت الملك له عليه ، والحكم في العبد المجنون كالحكم في الصغير قاله الشيخان ، والله أعلم .
قال : وإذا زوج الوليان فالنكاح للأول منهما .
2461 ش : لما روى الحسن عن سمرة عن النبي قال : ( أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما ، وأيما رجل باع بيعين من رجلين فهو للأول منهم ) رواه الخمسة وحسنه الترمذي . . وروى الأثرم بسنده عن إبراهيم أن عليا قضى بذلك ، لكن في سماع الحسن من سمرة خلاف . وقد شمل كلام الخرقي وإن لم يعلم الثاني ، ودخل بها ، وهو كذلك خلافاً لمالك ، لعموم الحديث .
وقول الخرقي : زوج الوليان يعني بشرطه ، وهو أن تأذن لهما في نكاحها ، ويتساويان في الدرجة كالابنين والأخوين ونحوهما ، وهذا قد علم مما تقدم . والله أعلم .
قال : فإن دخل بها الثاني وهو لا يعلم أنها ذات زوج فرق بينهما ، وكان لها عليه مهر مثلها .
ش : إذا زوج الوليان فدخل بها الثاني ، والحال أنه لا يعلم أنها مزوجة ، فإنه يفرق بينهما ، لترد إلى زوجها ، وهذا تفريق حسي من غير فسخ ، لبطلان النكاح ، قاله أبو محمد ، وكذلك قال ابن أبي موسى نزل عنها من غير طلاق ، واستشكل بأن مالكاً رحمه الله قال : تصير زوجة الثاني بالدخول ، وإذاً يجب الطلاق كالأنكحة الفاسدة ، وأجيب بأن الإباحة حصلت بالوطء لا بالعقد . انتهى . ويجب لها عليه المهر ، لأنه وطء شبهة ، أشبه المنكوحة بغير ولي .
2462 ودليل الأصل قوله عليه الصلاة والسلام ( أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ) الحديث ،
____________________
(2/351)
وهل يجب مهر المثل أو المسمى ؟ قال الخرقي : مهر المثل . وصححه أبو محمد ، لأنه يجب بالإصابة لا بالتسمية ، وقال أبو بكر في الخلاف : يجب المسمى . قال القاضي : وهو قياس المذهب . إذ من أصلنا أن النكاح الفاسد إذا حصل فيه دخول وجب المسمى ، وحمل كلام الخرقي على أنه لا مسمى .
ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يدخل بها الثاني لا تفريق لوجوده حساً ، ولا مهر ، لأن وجوبه بالإصابة لا بالتسمية ، ولا إصابة ، ومقتضى قول القاضي وجوبه بالخلوة كما في النكاح الفاسد عنده وقوله : وهو لا يعلم . قد يقال : خرج مخرج الغالب ، حملًا لحال المسلم على السداد ، وإذاً لا مفهوم له ، فيفرق بينهما أيضاً ، ويجب لها المهر ، نعم إن كانت هي أيضاً عالمة فلا مهر لها ، لأنها إذاً زانية ، والله أعلم .
قال : ولم يصبها زوجها حتى تحيض ثلاث حيض بعد آخر وقت وطئها فيه الثاني .
ش : إنما لم يصبها زوجها حتى تحيض ما ذكر فلأنها معتدة من غيره ، والمعتدة لا يجوز وطؤها ، حذاراً من اختلاط المياه .
2463 قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره ) وبيان لزوم العدة عليها أنها موطوءة بشبهة ، والموطوءة بشبهة تلزمها العدة ، لتحصل براءة رحمها ، حفظاً للأنساب ، وتعتد عدة المطلقة ، لاشتراكهما في لحوق النسب ، ولو كان الخرقي رحمه الله قال : تعتد عدة المطلقة . لكان أجود لشموله .
ومفهوم كلام الخرقي أن له أن يستمتع بها لتخصيصه المنع بالإصابة ، وهو أحد الوجهين . والله أعلم .
قال : وإن جهل الأول منهما فسخ النكاحان .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، واختيار أبي محمد في المغني ، لأن كل واحد منهما والحال هذه يحتمل أن نكاحه صحيح ، ولا سبيل إلى الجمع ، ولا إلى معرفة الزوج يقيناً ، والإنتظار لا إلى غاية مجهور ، فتعين فسخ النكاحين ، لإزالة الضرر المنفي شرعاً ( والرواية الثانية ) وهي اختيار أبي بكر النجاد ، والقاضي في التعليق ، والشريف وأبي الخطاب ، والشيرازي يقرع بينهما ، إذ القرعة تزيل الإبهام ، وقد دخلت في السفر بإحدى نسائه ، والبداءة بالمبيت عند إحداهن ، فكذلك ههنا ، ولأن القرعة قد دخلت في استدامة النكاح ، كما إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها ، أو بعينها ثم أنسيها على المشهور ، فكذلك في ابتدائه ، وقال ابن أبي موسى : يبطل النكاحان . وظاهره الحكم ببطلانهما من غير احتياج إلى فسخ ، ولا إلى قرعة .
____________________
(2/352)
وكلام الخرقي يشمل ما إذا علم عين السابق ثم جهل ، أو علم السبق ولم يعلم تالسابق ، ولا إشكال في جريان الروايتين في هاتين الصورتين ، وقد يشمل أيضاً ما إذا جهل كيف وقعاً ، وقد اختلف الأصحاب في هذه الصورة ، فعند أبي الخطاب والشيخين ، والقاضي في الجامع فيما أظن أنها على الروايتين أيضاً ، وليس عند القاضي في التعليق والجامع الكبير إلا البطلان ، وكذلك ابن حمدان في رعايتيه ، إلا أنه في الكبرى حكى قولًا بالبطلان ظاهراً لا باطناً .
وقد خرج من كلام الخرقي ما إذا وقعا معاً ، وللأصحاب فيه أيضاً طريقتان ( إحداهما ) وهي طريقة الأكثرين ، أبي الخطاب في الهداية ، وابن البنا ، والشيخين ، وابن حمدان وغيرهم الجزم بالبطلان من غير فسخ ولا قرعة ، إذ القرعة إنما تدخل لتمييز الصحيح ، ولا صحيح ( والثانية ) وهي طريقة القاضي في الروايتين جريلان الروايتين فيه ، معللًا بأنه إذا جازت القرعة مع العلم بفساد المتأخر ، فأولى أن تجوز إذا لم يحكم بفساد أحدهما ، ومستشهداً بأن القرعة تدخل بين العبيد الذين أعتقهم في مرضه ، وإن كانوا دفعة ، وله في تعليقه احتمالان كالطريقتين .
( تنبيهات ) أحدها على الرواية الأولى الفاسخ هو الحاكم ، قاله القاضي في تعليقه ، وفي جامعه الصغير ، وأبو الخطاب والشيخان ، لأنه فسخ مختلف فيه ، والمختلفان ترجع إلى الحكام ، وقال ابن عقيل والسامري ، وابن جمدان في رعايتيه : للزوجين الفسخ ، ولعلهم يريدون بإذنه ، وعن أبي بكر يطلقانها ( الثاني ) على الرواية الثانية إذا أقرع بينهما ، فمن خرجت قرعته فهي زوجته بالنكاح الأول ، من غير تجديد عقد ، على ظاهر كلام [ أحمد في رواية ابن منصور يقرع بينهم ، فمن وقعت عليها القرعة فهي له ، وهو ظاهر كلام ] الجمهور ابن أبي موسى ، والقاضي وأصحابه ، وصرح به القاضي في الروايتين ، وابن عقيل ، معللًا بأن القرعة جعلت في الشرع حكماً للتمييز ، وقال أبو بكر بن سليمان النجاد : من خرجت القرعة له جدد نكاحه . وكذا قال سليمان النجاد : قال أبو محمد : وينبغي أن لا تجبر المرأة على نكاح من خرجت له القرعة ، بل لها أن تتزوج من شاءت منهما ومن غيرهما ، وضعف هذا أبو العباس ، لاتفاق الروايتين أيضاً ، وقد أشار إلى هذا ابن عقيل ، فقال بعد ذكر قول النجاد : وهذا استظهار حسن ، غير أن اعتباره تعطيل للقرعة عن جهة الإباحة ، قال أبو العباس : وإنما على هذا القول ، يجب أن يقال : هي زوجة القارع ، تجب عليه نفقتها وسكناها ونحو ذلك ولا يطأ حتى يجدد ، فالتجديد لحل الوطء ، قال أو يقال : لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد ، ويكون التجديد عليه وعليها ، انتهى .
( الثالث ) على هذه الرواية أيضاً لا يؤمر من لم تخرج له القرعة بطلاق ، ذكره القاضي في المجرد ، وابن عقيل ، معتمدين على أنه ظاهر كلام أحمد ، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى ، وقال النجاد و القاضي في الروايتين ، وفي الجامع ، وأبو الخطاب في
____________________
(2/353)
الهداية ، والشيخان : يؤمر بالطلاق ، لجواز أن تكون زوجته ، كما يفسخ الحاكم النكاح الفاسد ، المختلف فيه ، وحكى المسألة ابن البنا على روايتين ، وقد تبين أن من قال لا تجديد منهم ، قال بالطلاق ، فإذاً في الفرعين ثلاثة أقوال ، ثالثها يؤمر المقروع بالطلاق ، ولا يجدد القارع ، ولعله المذهب ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل .
ش : هذا هو المذهب بلا ريب .
2464 لما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه ، فهو عاهر ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه . والعاهر الزاني ، ولأن في ذلك تفويتاً لمنفعة السيد الواجبة له ، لانشغاله بحقوق الزوجية ، وأنه لا يجوز ، وقد حكى ابن المنذر هذا إجماعاً ( وعن أحمد ) رواية بالوقف على الإجازة وتحكى عن الحنفية ، والله أعلم .
قال : وإن كان دخل بها فعلى سيده خمساً المهر ، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه ، إلا أن يجاوز الخمسان قيمته ، فلا يلزم سيده أكثر من قيمته أو يسلمه .
ش : إذا تزوج العبد بغير إذن سيده ودخل بها ، وجب عليه شيء في الجملة كما اقتضاه كلام الخرقي ، ونص عليه أحمد والأصحاب ، لقول النبي : ( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ) والعبد والحال هذه قد استحل فرجها ، فيكون لها المهر ، ( وقد روى عنه حنبل ) : إذا تزوج بغير إذن سيده فلا مهر . قال بو محمد : فيحتمل أن تحمل على إطلاقها ، ويحتمل أن تحمل على ما قبل الدخول ، ويحتمل أن تحمل على أن المهر لا يجب في الحال ، بل يجب في ذمة العبد ، يتبع به إذا عتق ، وحملها أبو البركات على ما إذا كانا عالمين بالتحريم ، وتبعه ابن حمدان ، وزاد : قلت : أو علمت المرأة وحدها ، وهذا حكاه أبو محمد عن القاضي .
2465 ( فعلى المذهب ) الواجب خمساً المهر ، اتباعاً لقضاء عثمان رضي الله عنه ، وهو ما روى أحمد قال : حدثنا عبد الله بن أبي بكر ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس ، أن غلاماً لأبي موسى تزوج مولاة أحسبه قال تيجان التيمي بغير إذن أبي موسى ، فكتب في ذلك إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فكتب إليه : أن فرق بينهما ، وخذ لها الخمسين من صداقها ، وكان صداقها خمسة أبعرة ، قال قتادة : فذكرت ذلك ليلال فقال : نعم ذاك غلامنا تزوج أم رواح . وهذه قضية في مظنة الشهرة ، ولم ينقل إنكارها ، فيكون حجة ، ولأنها تخالف القياس ، فالظاهر أنها بتوقيف من النبي ، لا يقال : يجوز أن يكون خمساً المهر قدر مهر المثل ، لأنا نقول هذا
____________________
(2/354)
بعيد من الظاهر ، لأن مهر المثل يحتاج إلى نظر وتأمل ، ثم إنه لا يترك في الحديث ما الحكم منوط به ، ( وهذا إحدى الروايات ) وأشهرها ، واختيار القاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وغيرهم ( والثانية ) الواجب مهر المثل ، اختارها أبو بكر ، قياساً على سائر الأنكحة الفاسدة ( والثالثة ) الواجب المسمى ، بناء أيضاً والله أعلم على أن الواجب في الأنكحة الفاسدة ذلك ، ويشهد له حديث المنكوحة بغير ولي ، ولعل أصل هاتين الروايتين الروايتان ثم ، وقد استشهد القاضي على وجوب مهر المثل هنا بقول أحمد في رواية المروذي : إذا تزوج بغير إذن سيده يعطي شيئاً ، قيل له : تذهب إلى قول عثمان بن عفان رضي الله عنه ؟ قال : أذهب إلى أن يعطي شيئاً ، إما ما اصطلحا عليه ، أو ما يراه الحاكم . انتهى ( والرواية الرابعة ) يجب الخمسان إن علمت عبوديته ، وإلا فالمهر كاملًا ، حكاها أبو محمد . انتهى .
وقول الخرقي : وإن كان دخل بها . أراد بالدخول والله أعلم الوطء ، وكذا صرح به غيره ، فعلى هذا لا يجب قبل الخلوة ، وهو واضح ، ولا بعدها وقبل الوطء ، لعدم الجنابة ، وقد يقال بالوجوب ، كما في سائر الأنكحة الفاسدة ، ( وقوله ) : خمساً المهر . اللام للعهد ، أي المهر المسمى ، وهذا كما في الحديث ( لها المهر بما استحل من فرجها ) وهو مقتضى قصة عثمان رضي الله عنه ، ولأبي محمد احتمال في المغني أن الواجب خمساً مهر المثل ، ولا تعويل عليه ، ولو عدم المسمى فقال القاضي في تعليقه : ظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنها لا تستحق جميعه ، ( وقوله ) : إلا أن يجاوز الخمسان قيمته فلا يلزم السيد أكثر من ذلك . وذلك لأن الواجب عليه ما يقابل تلك الرقبة ، بدليل ما لو سلم العبد لم يلزمه شيء ، وفي هذا إشعار بأن الحق يتعلق برقبته ، وهو واضح ، لأنها جنايته ، فتعلقت برقبته كبقية جناياته ، ( وقوله ) : أو يسلمه . الظاهر أنه معطوف على قوله : فعلى سيده خمساً المهر . أي أو يسلمه . وهذا أصل يأتي إن شاء الله تعالى في الجنايات ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوج الأمة على أنها حرة ، فأصابها وولدت منه فالولد حر ، وعليه أن يفديهم والمهر المسمى .
ش : لا يبطل النكاح بالغرور في الجملة لأن المعقود عليه في النكاح الشخص ، والصفات تابعة له ، فإذا وجدت بخلاف الشرط لم يبطل العقد ، كمن باع عبداً على أنه صحيح ، فبان معيباً ، إذا تقرر هذا فإذا تزوج أمة وشرط أنها حرة ، وأصابها وولدت منه فولده حر ، لاعتقاده حريته ، كما لو اشترى أمة فبانت مغصوبة بعد أن أولدها ، وعليه فداؤهم على المذهب المعروف المنصوص في رواية الجماعة .
2466 اتباعاً لقضاء الصحابة رضي الله عنهم عمر وعلي وابن عباس ، ولأنه نماء مملوكة ، فسبيله أن يكون ملكاً لمالكها ، وقد فوته الزوج باعتقاده الحرية ، فوجب عليه الضمان ، كما لو فوته بفعله ( ونقل عنه ) ابن منصور : لا فداء عليه ، لانعقاد الولد
____________________
(2/355)
حراً ، والحر لا يملك ووهي الخلال هذه الرواية ، وقال : أحسبه قولًا روي أولًا لأبي عبد الله رجع عنه لأنهم اتفقوا عنه على الفداء ، انتهى ، ( ونقل عنه ) حنبل يخير بين الفداء فيكون ولده حراً وبين الترك فيكون ولده رقيقاً .
2467 وهو ظاهر ما نقل عن علي كرم الله وجهه ، وشرط الضمان أن يوضع حياً لوقت يعيش لمثله ، وصفة الفداء ، ووقته قد تقدما في الغصب ، ويجب عليه أيضاً المهر المسمى بما استحل من فرجها ، ولا إشكال في ذلك إن كان بعد الإصابة ، وهو ممن يجوز له نكاح الإماء ، لصحة النكاح ، ووجود الإصابة فيه ، وإن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء فهو نكاح فاسد من أصله ، فإذاً هل الواجب فيه مهر المثل أو المسمى ؟ فيه روايتان ، ولو تبين له الحال قبل الإصابة وهو ممن يجوز له نكاح الإماء واختار الإمضاء تقرر المسمى عليه ( ولنا قول آخر ) أنه ينسب قدر مهر المثل لأجل ذلك إلى مهر المثل كاملًا ، فيكون له بقدر نسبته من المسمى ، يرجع بذلك على من غره ، فيقال : كم مهر مثلها إذا كانت أمة ؟ فيقال مثلًا : خمسون . وحرة ؟ فيقال : ستون . نسبة ما بينهما السدس ، فيرجع بسدس المسمى ، وإن اختار الفسخ فلا شيء عليه ، لأن الفسخ لعذر من جهتها .
وإن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء فقبل الخلوة لا مهر ، لفساد العقد ، وكذلك بعد الخلوة على رأي أبي محمد ، وعلى المشهور يجب ، هذا قياس المذهب ، والله أعلم .
قال : ويرجع بذلك على من غره .
ش : أي بما غرمه من فداء الأولاد ومن المهر ، أما فداء الأولاد فلا نزاع فيه .
2468 لقضاء الصحابة عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم ، وأما المهر فلقضاء عمر رضي الله عنه به ، وهذا ( إحدى الروايتين ) واختيار القاضي ، وأبي محمد ، وغيرهما ( والرواية الثانية ) لا يرجع بالمهر ، اختارها أبو بكر لأنه دخل على ذلك ، لا سيما وقد استوفى المنفعة المقابلة له .
2469 مع أن ذلك يروى عن علي رضي الله عنه ، وحيث قلنا : يرجع . فإنما ذلك إذا لم يختر إمضاء النكاح حيث يكون له الإمضاء ، أما إن اختار البقاء على النكاح حيث جاز له ذلك فلا رجوع إلا بنسبة ما بين المهرين على قويل تقدم .
وقول الخرقي : ويرجع بذلك على من غره . إنما حكم بذلك في صورة الشرط ، وهو ما إذا تزوجها على أنها حرة ، فقد يقال : مفهومه أنه لا يرجع بذلك إذا ظنها حرة ، وصرح بذلك أبو البركات ، وتابعه ابن حمدان في رعايتيه ، وقبلهما القاضي ، بل قيل عن القاضي أنه لا يرجع إلا مع شرط مقارن للعقد ، لا مع تقدمه ، لأنه مفرط ، حيث اعتمد على مجرد ظنه ، وظاهر كلام أحمد في رواية حرب يقتضي الرجوع
____________________
(2/356)
مع الظن ، قال فيمن تزوج بامرأة وظن أنها حرة فأصاب منها أولاداً فإذا هي أمة قال : يفرق بينهما ، وأولاده أحرار ، ولكن يفديهم ، وإن كان غره إنسان فعلى الذي غره أن يفدي ولده . وهذا اختيار أبي محمد وأبي العباس ، إذ الصحابة الذي قضوا بالرجوع لم يستفصلوا ، ويحقق ذلك أن الأصحاب لم يشترطوا ذلك في الرجوع في العيب .
( تنبيه ) الغار من علم أنها أمة ولم يبين ، على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن الحكم ؛ فكاك ولده على الذي غره إذا كان علم الذي غره ، فإذاً إذا لم يعلم فالوكيل أو الدلال بينهما لا شيء عليه ، وذكر أبو محمد فيما إذا علم بعض أولياء الحرة الغارة احتمالين ، اختصاص الغرم بمن علم ، والثاني يعم الجميع ، لأن حق الآدمي يستوي فيه العمد والسهو ، وضعفه أبو العباس بأن هذا مع المباشرة ، أما مع التسبب فلا بد من تحريم السبب . انتهى ، ثم لا يخلو الغار من أن يكون السيد أو المرأة ، أو وكيلهما أو أجنبياً ، ( فإن كان ) السيد والغرور بلفظ الحرية عتقت ، وزالت المسألة ، وبغيرها لا تثبت حرية ، ولا يجب له شيء ، إذ لا فائدة في أن يجب له ما يرجع به عليه ، نعم إن قلنا : إن الزوج لا يرجع بالمهر وجب للسيد ، لانتفاء المحذور ، ولا يتصور الغرور من السيد على قول القاضي ، لأن شرط الرجوع عنده اشتراط الحرية مقارناً كما تقدم ، ( وإن كان ) الغار المرأة ففي الرجوع عليها وجهان ، ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي وجماعة ، وقاله القاضي يرجع عليها لمكان الغرور ، ثم هل يتعلق برقبتها أو بذمتها ؟ على وجهي استدانة العبد بغير إذن سيده قال القاضي : وقياس قول الخرقي الثاني ، كمخالعتها بدون إذنه ( والوجه الثاني ) وهو ظاهر كلام أحمد في رواية جماعة لا يرجع عليها ، إذ الولد أو المهر ملك للسيد ، وهي لا تملك بدل ذلك ، أشبه ما لو أذنت في قطع طرفها ، ( وإن كان ) الغار وكيل المرأة رجع عليه بلا تردد ، ( وإن كان ) الغار أجنبياً رجع عليه ، على ظاهر كلام أحمد بل صريحه في روايتي عبد الله وصالح ، وظاهر كلام القاضي عدم الرجوع ، قال الغار وكيلها أو هي نفسها . والله أعلم .
قال : ويفرق بينهما إن لم يكن ممن يجوز له أن ينكح الإماء ، وإن كان ممن يجوز له فرضي بالمقام فما ولدت بعد الرضى فهو رقيق .
ش : أما التفريق بينهما إن لم يكن الزوج ممن يجوز له نكاح الإماء فلأنا تبيناً فساد العقد ، أشبه المنكوحة في العدة ، أو بلا ولي ، وأما ثبوت الخيار كما اقتضاه كلام الخرقي لمن يجوز له نكاح الإماء ، وهو الحر بوجود الشرطين فيه ، والعبد بشرط أن لا تكون تحته حرة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى فلأنه غر بحريتها ، فثبت له الخيار ، كما لو غرت بحريته ، ولما فيه من ضرر رق الولد ، والضرر منفي شرعاً ، فعلى هذا إن اختار فسخ النكاح انفسخ ولا كلام ، وإن اختار المقام على النكاح فما ولدت بعد رضاه فهو رقيق ، لانتفاء الغرور إذاً ، وقد علم من هذا أن الولد يتبع أمه في الرق والحرية ، ونص عليه أحمد .
____________________
(2/357)
2470 محتجاً بقول عمر : أيما عبد تزوج حرة فقد أعتق نصفه .
وقول الخرقي : فما ولدت . ظاهره وإن كانت قد علقت به قبل الرضى ، وقد وقع له نحو هذه العبارة في الردة ، وأقره أبو محمد ثم على ظاهره ، معللًا بأن أكثر الأحكام إنما تتعلق بالوضع ، أما هنا فجعل الحكم منوطاً بالعلوق ، وهو التخليق ، وكذا صرح به أبو البركات .
واعلم أن الخرقي إنما ساق ثبوت الخيار مع الشرط ، فقد يقال : ظاهره أنه لا يثبت مع عدمه ، وهو أحد الوجهين ، لتفريطه حيث لم يحترز بالشرط ، وبالغ القاضي في بعض كتبه فشرط كون الشرط مقارناً للعقد ، وهو في تعليقه كالخرقي ، والصحيح الثبوت بالشرط وبالظن ، ثم إن أبا محمد وغيره أطلقوا الظن ، وقيده ابن حمدان تبعاً لأبي البركات بما إذا ظنها حرة الأصل ؛ وعموم كلام الخرقي يقتضي ثبوت الخيار للعبد كالحر وهو الصحيح ، وقيل : لا خيار للعبد لتساويهما . والله أعلم .
قال : وإن كان المغرور عبداً فولده أحرار ، ويفديهم إذا عتق ويرجع به إيضاً على من غره .
ش : إذا كان المغرور عبداً فولده أيضاً أحرار كالحر ، إذ المقتضي لحرية الولد اعتقاد الواطء الحرية ، وهو موجود هنا ، ويفديهم كالحر على ما تقدم ، لكن الحر يجب الفداء عليه في الحال ، كبقية الحقوق اللازمة له ، أما العبد فلا مال له في الحال ، فيتأخر الفداء إلى وقت ملكه ويساره وهو العتق ، كذا قال الخرقي وغيره ، ثم إن القاضي في الجامع بناه على استدانته ، بغير إذن سيده هل يثبت في ذمته أو في رقبته ؟ على وجهين ، وبناه أبو محمد على خلع الأمة بغير إذن سيدها ، وهو أوجه ، إذ الخرقي يقول في الإستدانة : تتعلق برقبته فلا يجيء يناؤه عليها ، أما في الخلع فيقول : يتعلق بذمتها ، فيتحد البناء ، ثم إن أبا محمد خرج وجهاً آخر أنه يتعلق برقبته كجنايته ، انتهى .
ويرجع بالفداء على من غره كما تقدم في الحر لكن الحر يرجع في الحال ، أما العبد فلا يرجع إلا حين الغرم ، حذاراً من أن يجب له ما لم يثبت عليه ، نعم إن قيل : يتعلق الفداء برقبته رجع به السيد في الحال ، والله أعلم .
قال : وإذا قال : قد جعلت عتق أمتي صداقها . بحضرة شاهدين ، فقد ثبت العتق والنكاح .
ش : هذا المنصوص عن أحمد ، والمشهور عنه ، رواه عنه اثنا عشر رجلًا من أصحابه ، منهم ولداه صالح وعبد الله ، وهو المختار لجمهور الأصحاب ، الخرقي ، وأبي بكر ، والشريف ، وأبي جعفر ، والقاضي في موضع ، وقال في التعليق : إنه المشهور من قول الأصحاب ، وقال أبو محمد : إنه ظاهر المذهب .
____________________
(2/358)
2471 وذلك لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي أعتق صفية وتزوجها ، فقال له ثابت : ما أصدقها ؟ قال : نفسها ، أعتقها وتزوجها . متفق عليه ، وفي لفظ للبخاري : أعتق صفية وتزوجها ، وجعل عتقها صداقها . ولم ينقل أنه استأنف عقداً ، ولأنه جعل عتقها صداقها ، ومتى ثبت العتق صداقاً ثبت النكاح ، إذ الصداق لا يتقدم عليه .
2472 يؤيد هذا أن هذا روي عن أنس رضي الله عنه حكاه عنه أحمد محتجاً به وهو راوي الحديث ، وهو يقوي إرادة الظاهر منه .
2473 ويورى أيضاً عن علي رض الله عنه ، ولأن منفعة البضع إحدى المنفعين ، فجاز أن يكون العتق عوضاً عنها ، دليله منفعة الخدمة ، وهو إذا قال : أعتقتك على خدمة سنة . لا يقال : هذا من خصائص النبي . إذ من خصائصه النكاح بلا مهر ، لأنا نقول : الغرض أنه عقد بمهر ، وإذاً فحكم أمته حكمه في صفية .
ونقل المروذي عن 16 ( أحمد ) : إذا أعتق أمته وجعل عتقها صداقها يوكل رجلًا ، فأخذ القاضي وأتباعه من هذا رواية أن النكاح لا يصح بهذا اللفظ ، واختاره القاضي في خلافه وفي روايتيه ، وأبو الخطاب في كتبه الثلاثة ، وابن عقيل ، وزعم أنها الأشبه بالمذهب ، إذ بالعتق تملك نفسها ، فيعتبر رضاها ، كما لو فصل بينهما ، ولأنه لم يوجد إيجاب ولا قبول ، وهما ركناه فلا يصح إلا بهما ، ولأن العتق ليس بمال ، ولا يجبر به مال ، فأشبه رقبة الحر ، وتورع ابن أبي موسى من حكاية رواية بعدم الصحة ، وجعل محل الخلاف في تولي طرفي العقد ، كما هو مقتضى نص أحمد فقال : ومن أعتق أمته وجعل عتقها صداقها ثبت العتق والنكاح جميعاً ، واختلف قوله هل يكون المولى هو العاقد لنفسه ، أم يحتاج إلى توكيل من يعقد له النكاح عليها بأمره ؟ على روايتين . فجعل الرواية أنه يستأنف العقد عليها بإذنه بدون رضاها ، إذ العتق وقع على هذا الشرط انتهى . وأجيب ( عن ملكها ) نفسها بأن الكلام المتصل لا يثبت له حكم الانفصال قبل تمامه ، فلم يستقر ملكها على نفسها إلا بعد النكاح ، والسيد كان يملك إجبارها على النكاح في حق الأجنبي ، فكذلك في حق نفسه ، ( وعن فقد ) الإيجاب والقبول بأن العتق لما خرج مخرج الصداق صار الإيجاب كالمضمر فيه ، فكأنه قال : تزوجتك وجعلت عتقك صداقك . والقائل هو الموجب ، فلا يحتاج إلى الجمع ين الإيجاب والقبول ، ( وعن كون ) العتق ليس بمال بأنه يترتب عليه حصول مال ، وهو تمليك العبد ، منافع نفسه وهو المقصود ، وسأله حرب : إذا جعل عتقها مهرها كيف يقول ؟ قال : يقول قد تزوجتك وجعلت عتقك مهرك . فشرط ابن حامد ذلك ، ليأتي بركن العقد .
____________________
(2/359)
وحيث قيل بالصحة فيشترط أن يحضره شاهدان ، نص عليه أحمد ، لعموم الأدلة في اشتراط الشهادة . والله أعلم .
قال : وإذا قال : اشهدا أني قد أعتقتها وجعلت عتقها صداقها . كان العتق والنكاح ثابتين . سواء تقدم القول بالعتق أو تأخر ، إذا لم يكن بينهما فصل .
ش : إذا قال لشاهدين : اشهدا أني قد أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها . كان العتق والنكاح أيضاً ثابتين ، سواء تقدم القول بالعتق كما في هذا المثال ، أو تأخر كما إذا قال : جعلت عتق أمتي صداقها وأعتقتها بشرط أن لايكون بين العتق والجعل ما يعد فصلًا ، كسكوت يمكن الكلام فيه ، أو كلام أجنبي ، لأنه كلام متصل بعضه ببعض ، فلا يحكم عليه إلا بعد تمامه ، انتهى .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط قبول الأمة ، ونص عليه أحمد والأصحاب .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) الظاهر أنه لا بد أن يقصد بالعتق جعله صداقاً قبل أن يتم لفظ ( أعتقتك ) . كما في الاستثناء ونية العدد ، بل هذا هو العطف المغير ، وقد قال صالح لأبيه : الرجل يعتق الأمة فيقول : أجعل عتقك صداقك . أو صداقك عتقك . قال : كل ذلك جائز ، إذا كانت له نية فنيته ( الثاني ) أو رد على القاضي إذا قال : جعلت عتق أمتي صداق ابنتك . لا يصح النكاح فكذا في نفسه ، فأجاب : لا يصح ، لتقدم القبول على الإيجاب ، فلو قال الأب ابتداء : زوجتك ابنتي على عتق أمتك . فقال : قبلت . لم يمتنع أن يصح ، وقال أبو العباس فيما إذا قال : زوجت أمتي من فلان ، وجعلت عتقها صداقها . قياس المذهب صحته ، لأنهم قالوا : الوقت الذي جعل العتق صداقاً كان يملك إجبارها في حق الأجنبي . والله أعلم .
قال : فإن طلقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بنصف قيمتها .
ش : إذا طلق الأمة المجعول عتقها صداقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بنصف قيمتها ، نص عليه أحمد في رواية الجماعة ، إذ التسمية صحيحة ، وذلك يوجب الرجوع في نصفها كغيرها ، ولما لم يكن سبيل إلى الرجوع في الرق بعد زواله ، رجع في بدله وهو القيمة ، وعلى هذا لو ارتدت ، أو فعلت ما يفسخ نكاحها قبل الدخول ، رجع عليها بجميع قيمتها ، ( وعلى الرواية ) الأخرى المختارة للقاضي وبعض أصحابه يستأنف النكاح بإذنها ، ( وعلى قول ) ابن أبي موسى لا يعتبر إذنها ، وعلى كل حال مهرها العتق ، فعلى قول القاضي إن امتنعت لزمها قيمة نفسها ، لأنه إنما بذل نفسها في مقابلة بضعها ، ولم تسلم له ، فيرجع في قيمتها ، قال أبو العباس : وقياس المذهب أنه لا يلزمها شيء ، إذا لم يلزم النكاح ولم ترض بالشرط ، كما لو أعتقها على ألف فلم تقبل بل أولى ، إذ : على ألف أبلغ في الشرط من : أعتقتك وجعلت عتقك صداقك .
( تنبيه ) تعتبر القيمة وقت التلف وهو العتق ، ثم إن كانت قادرة فلا كلام ، وإن
____________________
(2/360)
كانت معسرة فهل تنظر إلى ميسرة أو تلزم بالاستسعاء ؟ فيه روايتان منصوصتان ، قال القاضي : أصلهما المفلس إذا كانت له حرفة ، هل يجب عليه الاكتساب ؟ على روايتين ، والله أعلم .
قال : وإذا قال الخاطب للولي : أزوجت ؟ فقال : نعم . وقال للمتزوج : أقبلت ؟ فقال : نعم . فقد انعقد النكاح ، إذا كان بحضرة شاهدين .
ش : هذا منصوص أحمد ، وبه قطع الجمهور ، لأن ( نعم ) جواب صريح ، والسؤال مضمر معاد فيه ، أي نعم قبلت هذا النكاح ، ونعم زوجتها ، وهذا صريح لا احتمال فيه ، يحققه أنه لو قيل لرجل : لفلان عليك ألف درهم . فقال : نعم . كان إقراراً صحيحاً ، لا يرجع فيه إلى تفسيره ، وتقطع اليد بمثل ذلك ، مع أن الأصل براءة الذمة ، ودرء الحد بالشبهة ، ولا بد أن يحضر ذلك شاهدان لما تقدم ، وقيل : لا يصح النكاح بذلك في الصورتين ، قال ابن عقيل : وهو الأشبه بالمذهب ، لعدم لفظ الإنكاح والتزويج . والله أعلم .
قال : وليس للحر أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات .
2474 ش : هذا كالإجماع ، ويدل عليه ما روي عن قيس بن الحارث قال : أسلمت وعندي ثمان نسوة ، فأتيت النبي فقال : ( اختر منهن أبعاً ، وفارق سائرهن ) رواه أبو داود وابن ماجه ، وإذا منع من الزيادة على أربع في الدوام ، ففي الابتداء أولى ، وبهذا قيل إن الواو في قوله سبحانه : 19 ( { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } ) بمعنى ( أو ) لا عاطفة ، وقد فهم من قول الخرقي ، أن له أن يتسرى بما شاء ، ولا نزاع في ذلك ، لقوله سبحانه : 19 ( { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } ) .
قال : وليس للعبد أن يجمع إلا اثنتين .
2475 ش : لما روى الدارقطني عن عمر رضي الله عنه قال : ينكح العبد امرأتين ، ويطلق تطليقتين ، وتعتد الأمة حيضتين .
2476 وقال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل الناس كم يتزوج العبد ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : يتزوج ثنتين ، وطلاقه ثنتان . وهذا في مظنة الشهرة ، ولم ينكر فكان إجماعاً .
2477 وقد روي عن الحكم بن عتيبة قال : أجمع أصحاب رسول الله ت على أن العبد لا ينكح أكثر من اثنتين . وبهذا يتخصص عموم الآية أو يقال : الآية إنما
____________________
(2/361)
تناولت الحر ، لأن فيها : 19 ( { أو ما ملكت أيمانكم } ) والعبد لا يملك ، ولو ملك فنفس ملكه لا يبيح التسري ، ثم في أول الآية : 19 ( { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } ) فالخطاب لمن يكون ولياً على يتيم ، والعبد لا يصلح لذلك .
( تنبيه ) من عتق نصفه فأكثر يجمع بين ثلاث ، نص عليه أحمد ، لأن ذلك مما يقبل التجزي ، فتجزى في حقه كالحد ، وقيل : لا يملك إلا اثنتين ، لأنهما قد ثبتا له وهو عبد ، فلا ينتقل عنهما إلا بدليل من نص أو إجماع ولم يوجد ، والله أعلم .
قال : وله أن يتسرى بإذن سيده .
ش : هذا منصوص أحمد رحمه الله ، في رواية الجماعة ، وقول قدماء أصحابه الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، وبعض متأخريهم ، كأبي محمد من غير بناء على روايتي ملكه وعدمها ، بل الخرقي وغيره يقولون : لا يملك ويبيحون له التسري ، وبناه القاضي وعامة من بعده على الروايتين في ملكه ، إن قلنا : يملك . جاز له التسري ، وإلا فلا يجوز ، وأحمد رحمه الله في رواية أبي طالب قد استدل وبينها بما هو كافٍ فيها .
2478 قال أبو طالب : سمعت أبا عبد الله قيل له : أيتسرى العبد ؟ قال : نعم . قال ذلك ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد من التابعين ، عطاء ومجاهد ، وذكرهم ، وأهل المدينة على هذا ، وفي رواية قال : لم يزل أهل الحجاز على هذا . قيل لأبي عبد الله : فمن احتج بهذه الآية : 19 ( { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهن أو ما ملكت أيمانهم } ) فأي ملك للعبد ؟ قال : إذا ملكه ملك . يقول النبي : ( من اشترى عبداً وله مال ) فقد جعل له ملكاً ، هذا يقوي التسري أنه يطأ بملك ، وأهل المدينة يقولون : إذا أعتق وله مال فماله معه ، ولا يتعرض لماله ، وإذا باع العبد فالمال للسيد ، فقد جعلوا له مالًا في العتق ، وابن عمر وابن عباس أعلم بكتاب الله ممن احتج بهذه الآية ، هم أصحاب النبي وأنزل على النبي القرآن ، وهم أعلم فيما أنزل فقالوا : يتسرى العبد . ولكن في القياس ليس يقوم حد الملك ، لأنه ليس خالصاً له دون السيد ، فيقول بقولهم ، قال ابن سيرين : لا تزال على الطريق ما اتبعت الأثر . فقد استدل أحمد رحمه الله بقول الصحابة ، وبعمل أهل الحجاز ، وبين أن يقول الصحابة يعرف معنى القرآن ، وبين أن ملكه ليس كملك الحر ، وهذا الذي يفصل النزاع ، فالخرقي والقدماء يقولون : لا نثبت ملكاً مطلقاً ، لكن ملكاً يبيح له التسري فقط ، لمصلحة راجحة ، ولا بدع في ذلك ، إذ الموقوف عليه يملك الانتفاع دون نقل الملك في الأصل ، وكذلك سيد أم الولد يملك الانتفاع بها دون البيع ونحوه ، والشارع يثبت من الملك ما فيه مصلحة العباد ، ويمنع ما فيه فسادهم ، والعبد محتاج إلى النكاح ، فالمصلحة تقتضي ثبوت ملك البضع له ، وإلا فكون العبد يملك مطلقاً ، فيه إضرار بالسيد ، ومنع العبد مطلقاً ، فيه
____________________
(2/362)
إضرار به ، فالعدل ثبوت قدر الحاجة ، وفي الحقيقة الملك المطلق لله سبحانه وحده ، ثم إذا ثبت للعبد ملك النكاح وهو أشرف فملك التسري أولى ، وغاية ما يقال أن إثبات ملك يحل الوطء دون غيره لا نظير له ، فنقول : قد ثبت ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم ولا يعرف لهما مخالف ، وإذاً لا يحتاج إلى النظير ، ثم العبد لا نظير له في نفسه ، إذ ليس هو مثل الحر ، ولا مثل البهيمة ، فكذلك في أحكامه انتهى . وإذا جاز له التسري جاز له التسري بما شاء بإذن السيد كالحر .
( تنبيه ) نقل الجماعة عنه : إذا أذن له سيده مرة لم يكن له الرجوع . فظاهر هذا أنه جعل الإذن في التسري مقتضياً لملك البضع كالنكاح ، فكما أنه ليس له الرجوع في النكاح إذا أذن له ، فكذلك في التسري ، وهو يؤيد طريقة الخرقي ومن وافقه ، قال أبو محمد : ولم أجد عنه خلاف هذا ، والقاضي لما استشعر أن هذا يخالف طريقته حمله على أنه أطلق التسري وأراد به النكاح . والله أعلم .
قال : ومتى طلق الحر أو العبد طلاقاً يملك فيه الرجعة أو لا يملك ، لم يكن له أن يتزوج أختها حتى تنقضي عدتها .
ش : هذا يعتمد أصلًا ، وهو أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في عقد النكاح ، وهذا إجماع والحمد لله ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } ) الآية إذا تقرر هذا فكما أنه لا يجوز الجمع بينهما في عقد النكاح ، لا يجوز الجمع بينهما في العدة ، فإذا تزوج امرأة ثم طلقها ، لم يجز له أن يتزوج في عدتها من لا يجوز له الجمع بينهما في عقد النكاح ، كأختها وعمتها وخالتها ، ونحو ذلك . رجعية كانت أو بائناً ، أما الرجعية فبالاتفاق ، إذ هي زوجة .
2479 وأما البائن فلأن ذلك يروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم .
2480 وعن عبيدة السلماني قال : ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الظهر ، وأن لا تنكح المرأة في عدة أختها .
2481 ويورى عن النبي : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين ) ولأنها محبوسة عن النكاح لأجله ، أشبهت الرجعية ، وقوله : 19 ( { وأن تجعوا بين الأختين } ) أي في أحكام الوطء ، لأنه أشمل ، فهو أكثر فائدة ، وحكم العدة من فسخ ، حكم العدة من طلاق ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن طلق واحدة من أربع ، لم يجز له أن يتزوج خامسة حتى تنقضي عدتها .
ش : قد تقدم أنه لا يجوز للحر أن يجمع في عقد النكاح بين أكثر من أربع ، وكذلك لا يجوز أن يجمع بينهن في العدة ، وإن كان الطلاق بائناً ، لأنها محبوسة عن النكاح لأجله ، أشبهت الرجعية .
____________________
(2/363)
2482 وعن أبي الزناد قال : كان للوليد بن عبد الملك أربع نسوة ، فطلق واحدة ألبتة ، وتزوج قبل أن تحل ، فعاب عليه ذلك كثير من الفقهاء : قال سعيد بن منصور : وإذا عاب عليه سعيد بن المسيب ، فأي شيء بقي .
قال : وكذلك العبد إذا طلق إحدى زوجتيه .
ش : أي ليس له أن يتزوج بأخرى حتى تنقضي عدة المطلقة ، لما تقدم في الحر ، وحكم البينونة من فسخ حكم الطلاق ، نعم لو كانت البينونة بموت فقال ابن أبي موسى في الإرشاد : إذا ماتت واحدة من منتهى جمعه كان له أن يتزوج أخرى عقب موتها ، وكذلك له أن يتزوج الأخت عقب موت أختها ، وكذلك لو طلقها طلاقاً لا رجعة فيه ، أو بانت منه بينونة لا رجعة فيها ، وقد شذ عن الجماعة في الطلاق البائن .
( تنبيه ) حكم الوطء بشبهة أو زنا حكم الوطء في نكاح صحيح ، فإذا وطيء امرأة بشبهة أو زنا لم يجز في العدة أو يتزوج أختها ، ولا يطأها إن كانت زوجته ، على المذهب المنصوص ، لئلا يجمع ماءه في رحم أختين ، وكذلك لا يجوز وطء أربع سواها بالزوجية ، وابتداء بالعقد على أربع ، قاله أبو بكر في الخلاف ، والقاضي ، وأبو الخطاب في الانتصار ، وابن عقيل ، حذاراً من جمع خمس نسوة في الفراش ، أو فيما هو في حكمه وهو الزنا ، لثبوت حرمة المصاهرة ، وقيل : يجوز ، لعدم النكاح ، ويجوز في مدة استبراء العتيقة نكاح أربع سواها ، قاله القاضي في الجامع والخلال ، وابن المنى ، ونصبه أبو الخطاب في خلافه الصغير ، كما قبل العتق ، وقيل : لا يجوز . التزمه القاضي في التعليق في موضع ، قياساً على المنع من تزوج أختها . والله أعلم .
قال : وإذا خطب امرأة فزوج بغيرها لم ينعقد النكاح .
ش : إذا خطب امرأة فزوج بغيرها ، فقبل يظنها المخطوبة ، لم ينعقد النكاح ، نص عليه أحمد ، لأن القبول انصرف إلى غير من وجد الإيجاب فيه ، فلم يتواردا على محل واحد ، وإذاً لا ينعقد النكاح ، لعدم ركن العقد ، وهو الإيجاب والقبول ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوجها وشرط أن لا يخرج بها من دارها أو بلدها فلها شرطها ، لما روي عن النبي أنه قال : ( أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج ) .
ش : هذا هو المذهب المنصوص ، وعلى هـ الأصحاب .
2483 لهذا الحديث ، وهو حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله : ( أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) رواه الجماعة ،
____________________
(2/364)
ولعمومات الأمر بالوفاء بالعقود والعهود ، ولأن الله تعالى ورسوله حرما مال الغير إلا عن تراض منه ، ولا ريب أن المرأة لم ترض ببذل فرجها إلا بهذا الشرط ، وشأن الفرج أعظم من شأن المال ، فإذا حرم المال إلا بالتراضي ، فالفرج أولى ، ولهذا جعل النبي الشروط فيه الولي أن يزوج المرأة إلا برضاها ، ونهى المرأة أنتتزوج إلا بإذن وليها .
2484 وروى الأثرم رجلًا تزوج امرأة وشرط لها دارها ، ثم أراد نقلها ، فخاصموها إلى عمر رضي الله عنه فقال : لها شرطها . فقال الرجل : إذاً يطلقننا : فقال عمر : مقاطع الحقوق عند الشروط .
2485 وعن ابن عمر فيما إذا شرط أن لا يخرجها من مصرها نحوه . رواه الترمذي . ( وعن أحمد ) رحمه الله ، رواية أخرى : لا يلزم هذا الشرط ، حكاها أبو الحسين عن شيخه أبي جعفر ، ولعلها مأخوذة من أن الأصل في العقود والشروط البطلان ، إلا أن يدل دليل على الصحة على رواية مرجوحة .
2486 وذلك لقول النبي في الحديث الصحيح ( كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل ) وهذا ليس في كتاب الله .
2487 وعن عمرو بن عوف رضي الله عنهما قال قال رسول الله : ( المسلمون على شروطهم ، إلا شرطاً حرم حلالًا ، أو أحل حراماً ) مختصر ، رواه الترمذي ، وقال : حسن صحيح . وفيه كلام . وهذا يحرم حلالًا ، وأجيب عن الأول بأن معنى ( ليست في كتاب الله ) أي في حكمه وشرعه ، وهذه مشروعة ، بدليل ما تقدم ، وعن الثاني بأنها لا تحرم الحلال ، وإنما يثبت للمرأة خيار الفسخ ، إن لم يف لها به .
إذا تقرر هذا فمتى أخرجها من دارها بغير اختيارها فلها الفسخ ، وغالى القاضي في الجامع فأثبت الفسخ بالعزم على الإخراج ، ومقتضى كلام الأصحاب أن الزوج لا يجبر على الوفاء بهذا الشرط ، وكلام الخرقي ظاهر في إجباره ، وكذلك كلام أحمد فر رواية حرب ، قال : إذا شرط أن لا يخرجها من قريتها ، ليس له أن يخرجها . انتهى ، وفي معنى هذا الشرط إذا شرط أن لا يخرجها من مصرها . والله أعلم .
قال : وإن تزوجها وشرط لها أن لا يتزوج عليها ، فلها فراقه إن تزوج عليها .
ش : الكلام في هذا الشرط نقلًا ودليلًا كالكلام في الذي قبله ، إلا أن ظاهر كلامه هنا أنه لا يجبر على ترك النكاح ، بل إذا تزوج عليها فلها الفسخ ، وكذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور ، إذا تزوجها على أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى ، فإن تزوج أو تسرى فهي مخيرة ، وكأن الفرق أنه لا ضرر عليه في عدم إخراجها من دارها ،
____________________
(2/365)
أما ترك النكاح فقد يتضرر به ، لكونه لا يعفه ونحو ذلك ، وفي معنى هذا الشرط إذا شرط أن لا يتسرى عليها .
( تنبيه ) لا ريب في عدم صحة هذين الشرطين ونحوهما بعد العقد ، وصحة ذلك فيه ، أما قبله فثلاثة أوجه ( أحدها ) وهو ظاهر إطلاق الخرقي ، وأبي الخطاب في الهداية ، وأبي محمد وغيرهم ، وقال أبو العباس في فتاويه : إنه ظاهر المذهب ، ومنصوص أحمد ، وقول قدماء أصحابه ، ومحققي المتأخرين أنه كالشرط فيه ، ( والثاني ) لا أثر لما قبل العقد مطلقاً ، وهو قول القاضي في مواضع ، ومقتضى قول أبي البركات وغيرهما ، ( والثالث ) يفرق بين شرط يجعل العقد غير مقصود ، كالتواطيء على أن البيع تلجئة لا حقيقة له فيؤثر ، وبين شرط لا يخرجه عن أن يكون مقصوداً ، كاشتراط الخيار ، فهذا لا يؤثر ، قاله القاضي في تعليقه في موضع ، والله أعلم .
قال : ومن أراد أن يتزوج امرأة فله أن ينظر إليها من غير أن يخلو بها .
ش : المذهب المعروف المشهور جواز النظر للمخطوبة في الجملة .
2488 لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل ) قال : فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها . رواه أحمد وأبو داود .
2489 وفي حديث الموهوبة أن النبي صعد فيها النظر وصوبه ، وقال حرب : قلت لأحمد : الرجل إذا أراد أن يتزوج امرأة هل ينظر إليها ؟ قال : إذا خاف ريبة ؛ وظاهر هذا يفيد الجواز لخوف الريبة .
2490 وقد يستدل لها بما روى أبو هريرة قال : كنت عند رسول الله فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار ، فقال له رسول الله : ( أنظرت إليها ؟ ) قال : لا . قال : ( فاذهب فانظر إليها ، فإن في أعين الأنصار شيئاً ) رواه مسلم .
2491 وللنسائي : خطب رجل امرأة من الأنصار ، فقال له رسول الله : ( هل نظرت إليها ؟ ) الحديث انتهى ، وإذا جاز له النظر ، فعنه وهو اختيار أبي محمد في العمدة ينظر إلى ما يظهر غالباً ، كالرقبة واليد والقدم ، وقيل ظهر القدم ، لظاهر ما تقدم من الحديث ، إذ من ينظر إلى امرأة وهي غافلة نظر منها إلى ما يظهر عادة ، وعلى هذا يحمل إطلاق الخرقي ، وكذا أيضاً حمل عليها القاضي قول أبي بكر في الخلاف : ينظر إليها حاسرة . وقد يحمل كلامهما على إطلاقه ، إذ الحاسرة هي التي
____________________
(2/366)
تضع خمارها ودرعها ، والحديث لا يأبى هذا ، بل لعله ظاهره ( نعم ) يستثنى من ذلك ما بين السرة والركية ، لأنه لا يظن من صحابية كشف ذلك وإن كانت خالية .
2492 وقد روى سعيد عن سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي جعفر قال : خطب عمر بن الخطاب ابنة علي ، فذكر منها صغراً ، فقالوا له : إنما ردك . فعادوه فقال : نرسل بها إليك تنظر إليها فرضيها ، فكشف عن ساقيها ، فقالت : أرسل ، لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك ( وعنه ) رواية ثانية لا ينظر إلا الوجه واليدين ، بناء على أن اليدين ليسا من العورة ، وهي اختيار زاعمي ذلك ، قال القاضي في تعليقه : المذهب المعمول عليه المنع من النظر إلى ما هو عورة ، ونحوه قال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وذلك لظاهر قوله تعالى : 19 ( { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } ) .
2493 قال ابن عباس : الوجه وباطن الكف . رواه عنه الأثرم ( وعنه رواية ثالثة ) : يختص النظر بالوجه . صححها القاضي في المجرد ، وابن عقيل ، لأنه مجمع المحاسن .
2494 وشرط جواز النظر على كل حال عدم الخلوة بها ، لقوله : ( لا يخلون رجل بامرأة ، فإن الشيطان ثالثهما ) ويخرج عن الخلوة بحضور امرأة صبية فأكثر ، أو رجل من ذوي أرحامها ، أو عصباتها ممن يباح له السفر بها .
وظاهر كلام الخرقي يشمل الأمة والحرة ، وكذلك ظاهر كلام الشيخين وغيرهما ، وصرح به القاضي في المجرد ، وجعل في الجامع وابن عقيل حكم النظر في خطبة الأمة حكم النظر في شرائها .
وظاهر كلام الخرقي أيضاً أن النظر على سبيل الإباحة ، وجعله ابن عقيل وابن الجوزي مستحباً ، وهو ظاهر الحديث ، قال أبو العباس : وينبغي أن يكون النظر بعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة . والله أعلم .
قال : وإذا زوج أمته وشرط عليه أن تكون عندهم بالنهار ، ويبعث بها إليه بالليل ، فالعقد والشرط جائزان ، وعلى الزوج النفقة مدة مقامها عنده .
ش : لا ريب أن سيد الأمة يستحق منفعة الاستخدام والوطء ، وقد أخرج منفعة الوطء ، ومحلها عرفا وعادة هو الليل فيختص به ، وإذاً فهذا شرط مؤكد لمقتضى العقد ومقوّ لَه ، فلا ريب في جوازه وجواز العقد معه ، وعلى هذا يكون على الزوج نفقتها ليلًا ، إذ النفقة تدور مع التسليم ، وهي إنما تسلمت كذلك ، ولو بذلها السيد للزوج والحال أنهما شرطا ذلك لم يلزمه القبول ( على وجه ) اعتماداً على شرطه ، لأن له فيه غرضاً صحيحاً ، ويلزمه ( على آخر ) إذ هذا مقتضى الزوجية ، وإنما سقط عنه لمعارضة
____________________
(2/367)
حق السيد ، والسيد قد رضي بإسقاط حقه فيسقط ، وقد فهم من هذا الذي قلناه أنه مع عدم الشرط يكون الحكم كما قال الخرقي ، وأن السيد متى بذلها له لزمه جميع النفقة بلا نزاع .
( تنبيه ) جملة النفقة بينهما نصفين عند أبي محمد ، وكذلك الكسوة قطعاً للتنازع ، وقيل وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً يختص كل واحد بما يجب عليه ، فيجب على الزوج نفقة الليل ، وتوابعه من الوطاء والغطاء ، ودهن المصابح ونحوه ، والله أعلم .
قال : ( باب ما يحرم نكاحه والجمع بينه وغير ذلك )
ش : قد نص الله سبحانه على عدة محرمات في كتابه العزيز ، في قوله تعالى : 19 ( { حرمت عليكم أمهاتكم } ) الآية ونص نبيه على عدة أيضاً ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : والمحرمات نكاحهن بالأنساب الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت .
ش : قد نص الله تعالى على ذلك كذلك ، قال تعالى : 19 ( { حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ، وأخواتكم ، وعماتكم ، وخالاتكم ، وبنات الأخ وبنات الأخت } ) ( ويدخل في الأمهات ) أمه التي ولدته ، وجداته من قبل أبيه وأمه وإن علون ، لصحة تناول الاسم للجميع .
2495 وقد جاء في الدعاء ( اللهم صل على أبينا آدم ، وأمنا حواء ) ( ويدخل في البنات ) بنات الابن ، وبنات البنت وإن سفلن ، لصحة تناول الاسم للجميع ، وتدخل البنت من نكاح صحيح ، أو ملك يمين أو شبهة ، وكذلك البنت من زنا ، لشمول الآية الكريمة للجميع .
2496 وقد قال في امرأة هلال بن أمية ( انظروه ) يعني ولدها ( فإن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك بن سحماء ) يعني الزاني ، فجعله له .
2407 واستدل أحمد بأمر النبي سودة أن تحتجب من ابن أمة زمعة للشبه الذي رأى بعتبة .
( تنبيه ) يكفي في التحريم أن يعلم أنها بنته ظاهراً ، وإن كان النسب لغيره ، قاله القاضي في التعليق ، وظاهر كلام أحمد في استدلاله أن الشبه كاف في ذلك . ويدخل
____________________
(2/368)
في الأخوات الأخوات من الأبوين ، أو من الأب ، أو من الأم ، لشمول الآية لذلك ( ويدخل في العمات ) كل أخت لأب وإن بعد ، من جهة أبيه ، أو من جهة أمه ( وفي الخالات ) كل أخت لأم وإن بعدت من جهة أبيه ، أو من جهة أمه ، لشمول الآية الكريمة لذلك ، ولأنه إذا ثبت أن كل جد أب ، وأن كل جدة أم فكل أخت لهما عمة وخالة ، ( ويدخل في بنات الأخ ، وبنات الأخت ) كل بنت أخ وإن سفلت ، وقد استفيد من كلام الخرقي تخصيص هؤلاء بالذكر بأنه لا يحرم من عداهن فلا تحرم بنات العمات ، ولا بنات الخالات ، وقد نص الخرقي على ذلك بعد ، ولا بنات الأخوال ، ولا بنات الأعمام ، ولا ريب في ذلك ، لقوله تعالى : 19 ( { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } ) إلى 19 ( { وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك } ) والأصل المساواة ، لا سيما وقد دخلن في عموم 19 ( { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ) واختصار ما تقدم أن جميع أقارب النسب حرام ، إلا الأربعة المذكورة في آية الأحزاب ، والله أعلم .
قال : والمحرمات بالأسباب الأمهات المرضعات ، والأخوات من الرضاعة .
ش : يعني في كتاب الله سبحانه ، ولهذا عمم بعد ، قال الله سبحانه : 19 ( { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة } ) ويدخل في الأمهات الأم التي أرضعت الطفل ، وأمهاتها ، وجداتها ، وإن علون كما في النسب ، ويدخل في الأخوات والله أعلم .
قال : وأمهات النساء ، وبنات النساء اللاتي دخل بهن ، وحلائل الأبناء ، وزوجات الأب .
ش : المحرمات بالسبب على ما ذكر الخرقي ثلاثة أنواع ( النوع الأول ) المحرمات بالرضاع وقد تقدم ( النوع الثاني ) المحرمات بالمصاهرة ، وهن أربع ( أمهات نسائه ) وإن بعدن ولم يرثن ، أو كن من رضاع ، لشمول الاسم لهن ( وبنات نسائه ) وإن بعدن ولم يرثن أو كن من رضاع وهؤلاء من الربائب ( وحلائل الأبناء ) أي زوجات الأبناء ، سميت الزوجة بذلك لأنها محل إزار زوجها ، وهي محللة له وهو محلل لها وقيل : لأنها تحل معه ويحل معها ، ويدخل في ذلك الابن البعيد ، وغير الوارث ، ومن الرضاع ، ( وزوجات الأب ) وإن بعد ، ولم يرث ، أو كان من رضاع ، والأصل في ذلك كله قول الله تعالى : 19 ( { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم } ) وقال تعالى : 19 ( { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } ) وشرط تحريم الربيبة الدخول بأمها ، كما نص الله سبحانه عليه ، فإن قيل : فقد قيد سبحانه الربائب بكونهن في الحجر .
2498 وكذلك المبين لكتابه ، حيث قال : ( لو لم تكن ربيبتي في حجري
____________________
(2/369)
ما حلت لي ) وقيد سبحانه حلائل الأبناء بكون الأبناء من الصلب . قيل : أما التقييد بالحجر فقد قيل : إنه خرج مخرج الغالب ، إذا الغالب في الربيبة كونها في الحجر ، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له اتفاقاً ، وقد حكى ابن عقيل اشتراط الحجر ، نظراً لما تقدم وهو ظاهر ، وأما تقييد الابن بالصلب فليخرج والله أعلم الابن المتبنى .
2399 أما الابن من الرضاع فإنه يدخل في قوله : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
( تنبيهان ) أحدهما يترتب التحريم المتقدم بالعقد الصحيح المفيد للحل بلا ريب ، وبالعقد الفاسد على ظاهر كلام القاضي في المجرد فيما أظن ، قال : العقد الفاسد يثبت جميع أحكام النكاح إلا الحل ، والإحلال ، والإحصان ، والإرث ، وتنصف الصداق بالفرقة قبل المسيس ، وظاهر كلامه في التعليق أن العقد الحرام وإن لم يتمحض تحريمه لا يتعلق به تحريم ، فإن المخالف احتج عليه في أن الزنا لا يثبت تحريم المصاهرة ، بأن العقد الحرام لا يتعلق به تحريم كذلك الوطء ، فأجاب : العقد إذا لم يتمحض تحريمه يتعلق به التحريم ، كذلك إذا تمحض تحريمه ، والوطء إذا لم يتمحض تحريمه يتعلق به التحريم ، كذلك إذا تمحض تحريمه ، وذكر أيضاً في موضع آخر ما يدل على ذلك ، هذا في أنكحة المسلمين ، أما في أنكحة الكفار فقد ذكر القاضي في تعليقه وغيره فيما إذا أسلم وتحته أم وبنت لم يدخل بواحدة منهما أنه يبطل نكاح الأم ، ونص أحمد على ذلك ، وهذا تصريح ببطلان نكاح الأم ، ونص أحمد على ذلك ، وهذا تصريح ببطلان نكاح الأم ، مع أن النكاح لا يقرون عليه بعد الإسلام ، والقاضي استنبط من هذا النص صحة النكاح ، قال : وإلا لم ينشر حرمة المصاهرة ، وجعل أبو العباس في بعض قواعده تحريم المصاهرة تابعاً للسبب ، وهو يلتفت إلى الأول .
( الثاني ) المراد بالدخول هنا في كلام الخرقي يحتمل أنه الوطء فتخرج الخلوة ، ويحتمل أنه أعم من ذلك ، فتدخل الخلوة ، وهو مقتضى كلامه بعد ، ( وعن أحمد ) فيما إذا طلق بعد الخلوة وقبل الوطء روايتان ، أنصهما وهو الذي قطع به القاضي في الجامع الكبير في موضع ، وفي الخصال ، وابن البنا والشيرازي ثبوت تحريم الربيبة ، لأن الله سبحانه أطلق الدخول ، وهو شامل للخلوة ، والعرف على ذلك ، يقال : دخل على زوجته . إذا بنى بها ، وإن لم يكن وطئها ( والثانية ) وهي اختيار أبي محمد ، وابن عقيل ، والقاضي في المجرد ، وفي الجامع في موضع : لا يثبت تحريمها نظراً إلى أن الدخول كناية عن الوطء .
وظاهر كلام الخرقي أن القبلة أو اللمس لا يثبتان تحريم الربيبة ، وقد يقال
____________________
(2/370)
بالتحريم ، بناء على تقرر الصداق بذلك ، وظاهر كلامه أيضاً ، أنه لا يثبت باستدخال الماء ، ونص عليه القاضي في تعليقه في اللعان ، ( وظاهر كلامه ) أيضاً أن الموت قبل الدخول لا يثبت التحريم ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، والقاضي في الروايتين ، لظاهر الآية الكريمة ( والثانية ) يثبت ، اختارها أبو بكر في المقنع ، إذ الموت أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق والعدة ، فكذلك في تحريم الربيبة ، والله أعلم .
قال : والجمع بين الأختين .
ش : هذا النوع الثالث مما حرم بالسبب ، إذ تزوج إحدى الأختين هو السبب لتحريم أختها ، والأصل في ذلك قوله تعالى : 19 ( { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } ) ويدخل في ذلك الأختان من كل جهة ، ومن النسب والرضاع ، والله أعلم .
قال : ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
ش : لما ذكر المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل من المحرمات ، ذكر المأخوذ من جهة السنة .
2500 فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي أريد على بنت حمزة ، فقال : ( إنها لا تحل لي ، إنها ابنة أخي من الرضاعة ، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم ) وفي لفظ ( من النسب ) .
2501 وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال : ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة ) متفق عليهما .
2502 وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إن الله حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب ) رواه أحمد والترمذي وصححه ، وقد استثنى بعض الأصحاب من هذا العموم صورتين ( إحداهما ) أم أخته ( والثانية ) أخت ابنه ، فإنهما لا يحرمان ، والصواب عند الجمهور عدم استثنائهما ، لأن أم أخته . إنما حرمت في غير الرضاع لكونها زوجة أبيه ، وذلك تحريم مصاهرة ، لا تحريم نسب ، وكذلك أخت ابنه إنما حرمت لكونها ربيبته .
( تنبيه ) لا فرق بين الرضاع المباح والمحظور ، على ظاهر كلام الخرقي وغيره ، كأن يكره امرأة على الرضاع أو يغصب لبنها فيسقيه الطفل ، وقد ذكر ذلك القاضي في تعليقه بما يدل على أنه إجماع ، والله أعلم .
قال : ولبن الفحل محرم .
____________________
(2/371)
ش : لا نزاع بين أهل العلم في أن حرمت الرضاع تنتشر من جهة المرأة ، واختلفوا هل تنتشر من جهة الرجل الذي اللبن له ، فذهب الجمهور إلى أنه ينتشر منه ، كما ينتشر من المرأة ، فيصير الطفل ولد الرجل ، والرجل أباه ، وأولاد الرجل إخوته ، سواء كانوا من تلك المرأة أو من غيرها ، وإخوة الرجل وأخواته أعمام الطفل وعماته . وآباؤه وأمهاته أجداده وجداته ، لأن اللبن من الرجل ، كما هو من المرأة .
2503 وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما أنزل الحجاب ، فقلت : لا والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني ، وإنما أرضعتني امرأة أبي القعيس ، فدخل علي رسول الله فقلت : يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته ، فقال : ( ائذني له فإنه عمك تربت يداك ) قال عروة : فبذلك كانت عائشة تقول : حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب . وهذا نص ، والله أعلم .
قال : والجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها .
ش : هذا أيضاً مما ثبت بسنة المبين لكتاب ربه .
2504 فروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها ) وفي لفظ قال : نهى النبي أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها ) متفق عليهما .
2505 وللبخاري والترمذي عن جابر رضي الله عنه مثله .
2506 وفي التمهيد عن ابن عباس نحوه ، وفيه : وقال : ( إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ) وبهذا يتخصص عموم 19 ( { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ) مع أن هذا كالإجماع ، قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على ذلك . وليس فيه بحمد الله اختلاف إلا عن بعض أهل البدع ممن لا يعتد بخلافه كالروافض والخوارج .
2507 يروى أن رجلين من الخوارج أتيا عمر بن عبد العزيز ، وكان مما أنكرا عليه رجم الزانيين ، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبينها وبين خالتها ، وقالا : ليس هذا في كتاب الله . فقال لهما : كم فرض الله عليكما من الصلوات ؟ قالا : خمس صلوات في اليوم والليلة . وسألهما عن عدد ركعاتها ، فأخبراه بذلك ، وسألهما عن مقدار الزكاة ونصبها ؛ فأخبراه ، فقال : فأين تجدان ذلك في كتاب الله ؟ قالا : لا نجده في كتاب الله ، قال : فمن أين صرتما إلى ذلك ؟ قالا فعله رسول الله ؟ والمسلمون
____________________
(2/372)
بعده ، قال : فكذلك هذا . ولا فرق بين العمة القريبة والبعيدة ، وكذلك الخالة ، والضابط أن كل امرأتين لو قلبت إحداهما ذكراً لم يجز له أن يتزوج بالأخرى لأجل القرابة ، لم يجز الجمع بينهما ، حذاراً من قطيعة الرحم القريبة ، وبهذا حرم الجمع بين المرأة وبنت أخيها ، لأن الأخ لا تباح له بنت أخيه ، وابن الأخت لا تباح له خالته ، وأبيح الجمع بين بنتي عمين ، وبنتي خالين ، وبنتي عمتين ، وبنتي خالتين ، لأن ابن العم له أن يتزوج بنت عمه ، وابن الخال يتزوج بنت خاله ، لكن هل يكره حذاراً من قطيعة الرحم ، وإن كانت بعيدة أو لا يكره ؟ فيه روايتان ، والله أعلم .
قال : وإذا عقد على المرأة وإن لم يدخل بها فقد حرمت على أبيه وابنه ، وحرمت عليه أمها .
ش : تحرم زوجة الأب على الابن ، وزوجة الابن على الأب بمجرد العقد اتفاقاً ، وكذلك أمهات النساء ، اتباعاً لإطلاق الرب سبحانه ، إذ بالعقد تسمى حليلة ابنه ، ومنكوحة أبيه ، وأن زوجته ( وروي عن أحمد ) رحمه الله أن أمهات النساء كالربائب ، لا يحرمن إلا بالدخول ببناتهن ؛ وقد يستدل له بقوله تعالى : 19 ( { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } ) على أن ( دخلتم ) راجع إلى الأمهات وإلى الربائب ، وهو مردود بأن ( نسائكم ) الأول مجرور بالإضافة ( ونسائكم ) الثاني مجرور بحرف الجر ، فالجران مختلفان ، وما هذا سبيله لا تجري عليه الصفة كما إذا اختلف العمل .
2508 وبما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله قال : ( أيما رجل نكح امرأة فدخل بها ، فلا يحل له نكاح ابنتها ، وإن لم يكن دخل لها فلينكح ابنتها ، وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها ، دخل بها أو لم يدخل ) رواه الترمذي .
2509 وسئل زيد بن ثابت رضي الله عنه 16 ( عن رجل تزوج امرأة ثم فارقها قبل أن يصيبها ، هل تحل له أمها ؟ فقال زيد بن ثابت : لا ، الأم مبهمة ، ليس فيها شرط ، وإنما الشرط في الربائب ) . رواه مالك في الموطأ ، وعن ابن عباس نحوه .
2510 وأرخص ابن مسعود رضي الله عنه في نكاح الأم إذا لم يمس البنت وهو بالكوفة ، ثم قدم المدينة فأخبر أنه ليس كما قال ، إنما الشرط في الربائب ، فرجع إلى الكوفة ، فأمر الرجل أن يفارق امرأته . رواه مالك في الموطأ . والله أعلم .
قال : والجد وإن علا فيما قلت بمنزلة الأب ، وابن الابن فيه وإن سفل بمنزلة الابن .
ش : قد تقدم ذلك ، اتباعاً لإطلاق الآية الكريمة ، والله أعلم .
قال : وكل من ذكرنا من المحرمات من النسب والرضاع فبناتهن في التحريم
____________________
(2/373)
كهن ، إلا بنات العمات وبنات الخالات ، وبنات من نكحهن الآباء والأبناء ، فإنهن محللات .
ش : قد تقدم هذا كله فيما تقدم ، وإن كان الأولى تأخيره إلى هنا ، إلا بنات من نكحهن الآباء والأبناء ، لدخولهن في عموم : 19 ( { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ) وأمهاتهن إنما حرمن لكونهن حلائل الآباء والأبناء ، وبناتهن لسن بحلائل ، وبهذا فارقن ابنة الربيبة ، إذ ابنة الربيبة ربيبة ، وابنة الحليلة ليست حليلة ، والله أعلم .
قال : وكذلك بنات الزوجة التى لم يدخل بها .
ش : هذا مستأنف ، لا معطوف على ما تقدم ، وإلا يلزم أن أم الربيبة محرمة ، أي وكذلك تحل بنات الزوجة التي لم يدخل بها ، وقد تقدم ذلك ، والله أعلم .
قال : ووطء الحرام محرم كما يحرم وطء الحلال والشبهة .
ش : وطء الحرام ما يحرم وطء الحلال والشبهة ، نص عليه أحمد في رواية الجماعة .
2511 لما روي عن النبي أنه قال : ( لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ) رواه ابن أبي شيبة مرسلًا ، لكن في رواته الحجاج بن أرطأة .
2512 وروى بإسناد صحيح عن عمران بن حصين أنه قال : إذا وطيء الرجل أم امرأته حرمت عليه امرأته . وأيضاً قوله سبحانه : 19 ( { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } ) ومن وطئ فقد نكح ، إذ النكاح حقيقة في الوطء ، بدليل قول الشعر . .
ومن أيم قد أنكحتها رماحنا
وأخرى على عم وخال تلهف
وقال أبو عمر غلام ثعلب : الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين ، وعن المبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة اسم للجمع بين الشيئين ، قال الشاعر .
أيها المنكح الثريا سهيلا
عمرك الله كيف يجتمعان
والجمع يحصل حقيقة بالوطء دون العقد ، ولو قيل : إنه حقيقة فيهما أو في العقد فالقرينة دلت على أن المراد الوطء ، وهو قوله سبحانه : 19 ( { إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا } ) ومثل هذا التغليظ لا يستعمل في العقد ، وأورد على هذا قوله سبحانه : 19 ( { هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا } ) فامتن سبحانه بالصهر ، ولا يمتن بالزنا .
2513 وبما روى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال :
____________________
(2/374)
( الحرام لا يحرم الحلال ) .
2514 وعن عائشة رضي الله عنها ، عن النبي نحوه ، وأجيب بأن الله سبحانه امتن بالنسب ، ومع هذا يثبت بالزنا ، لأنه يثبت من أمه وآبائها ، وعن حديث ابن عمر بأن مداره على إسحاق بن محمد الفروي ، وهو منكر الحديث ، قاله غير واحد من الأئمة ، ورماه ابن معين وغيره بالكذب ، وفيه أيضاً العمري وقد ضعف ، وعن حديث عائشة بأن مداره على عثمان بن عبد الرحمن ، وهو منكر الحديث ، وقال ابن معين : هو كذاب .
وقد أشعر كلام الخرقي بأن وطء الحلال والشبهة لا نزاع فيهما بين أهل العلم ، وهو كذلك ، إلا أنه قد حكي للشافعي قويل بأن وطء الشبهة لا يحرم ، ولا يعرج عليه ، ودخل في وطء الحلال الوطء بملك اليمين ، وهو إجماع ، ودل كلامه على أن وطء الشبهة ليس بحلال ولا حرام ، وقد صرح القاضي في تعليقه بأنه حرام ؛ وكلام الخرقي يشمل الوطء في القبل والدبر ، وصرح بذلك أبو محمد في كتابيه ، وكذلك القاضي ، وأبو الخطاب بما يقتضي أنه وفاق ، وشذ ابن حمدان في رعايتيه فقدم اختصاص الحكم بالقبل ، فقال : في قبل ، وقيل : أو دبر ( وقد دخل ) في كلام الخرقي وطء الميتة ، لأنه وطء حرام ، وقد قال القاضي في الجامع الكبير : إنه لا يعرف الرواية في ذلك ، وحكى فيها احتمالين ، ( وقد يدخل ) فيه وطء من لا يوطأ مثلها ، وقد يخرج ، لأنه جناية وليس بوطء ، وفيها وجهان ، أصحهما عدم التحريم .
وقد يقال : ظاهر كلام الخرقي أن الخلوة ، ونظر الفرج ، والمباشرة دونه ، إذا كن لشهوة لا يتعلق بهن تحريم ، لتخصيصه الوطء بالذكر ، وهو الصحيح من الروايتين في الجميع ، وتحقيق ذلك ، وبيان طرق الأصحاب فيه يحتاج إلى تطويل ، والله أعلم .
قال : وإن تزوج أختين من النسب أو الرضاع في عقد واحد فسد نكاحهما .
ش : قد تقدم أنه يحرم الجمع بين الأختين مطلقاً ، فإذا جمع فسد النكاح فيهما ، لارتكابه النهي ، مع أنه لا مزية لأحداهما على الأخرى ، أشبه ما لو زوجت المرأة من رجلين ، أو عقد عليها وليان عقدين لرجلين فوقعا معاً ، ونقل ابن منصور عن 16 ( أحمد ) : إذا تزوج أختين في عقد يختار إحداهما . قال القاضي : وهو محمول على أنه يختار إحداهما بعقد مستأنف ، والله أعلم .
قال : وإن تزوجهما في عقدين فالأولى زوجته .
ش : أي إذا تزوجهما في عقدين ، فوقعا واحداً بعد واحد ، وعلم السابق ، فإن الحكم له ، إذ الجمع المحرم إنما يحصل بالثاني ، فاختص البطلان به ، أما إن علم وقوعهما معاً فقد تقدم ، وإن لم يعلم كيف وقعاً ، أو علم السبق ولم يعلم السابق ، أو علم ثم نسي ، فظاهر كلام جماعة من الأصحاب إن حكم ذلك حكم الوليين يزوجان
____________________
(2/375)
من رجلين ، قال ابن أبي موسى : فإن جهل أولهما بطل النكاحان ، ( وقيل عنه ) يقرع بينهما ، والأول أصح ، والله أعلم .
قال : والقول فيهما القول في المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها .
ش : هذا من باب المقلوب ، أي القول في المرأة وعمتها ، والمرأة وخالتها ، كالقول في الأختين ، إن تزوجهما في عقد واحد لم يصح ، وإن تزوجهما في عقدين صح الأول ، والله أعلم .
قال : وإن تزوج أخته من الرضاعة وأجنبية في عقد واحد ثبت نكاح الأجنبية .
ش : هذا إحدى الروايتين ، وهو اختيار القاضي في تعليقه ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، وأبي محمد ، لأن الأجنبية محل قابل للنكاح ، صدر عليها عقد من أهله فصح ، كما لو انفردت ، ( والثانية ) لا يصح فيهما ، اختارها أبو بكر ، لأنه عقد اشتمل على مباح ومحظور ، فغلب الحظر ، كما لو اختلطت المذكاة والميتة ، وكذبيحة من أحد أبويه كتابياً ، بأن المباح والمحظور اجتمعا في عين واحدة ، وههنا في عينين ، وهكذا الحكم في كل من جمع بين محرمة ومحللة ، هل يصح النكاح في المحللة ؟ على روايتين ، والله أعلم .
قال : وإذا اشترى أختين فأصاب إحداهما ، لم يصب الأخرى حتى يحرم عليه الأولى ، ببيع أو نكاح ، أو هبة ، أو ما أشبهه ، ويعلم أنها ليست بحامل منه .
ش : يجوز أن يشتري أختين في عقد ، لأن المنوع منه الجمع بينهما في الفراش ، ولا يصيران بذلك فراشاً بالإجماع ، ولا يجوز أن يجمع بينهما في الوطء ، على المشهور والمنصوص من الروايتين ، وهو المختار للأصحاب ، لقوله سبحانه : 19 ( { وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف } ) وهو شامل للجمع في النكاح والجمع بملك اليمين ، وإن قيل : حقيقة الجمع المقارنة ، وذلك متعذر في الوطء ؟ قيل : الجمع يعبر به عن فعل الشيئين أحدهما عقب الآخر .
2515 كما أنه قد جاء أنه جمع بين الصلاتين ولأن الذي علل به النبي تحريم الجمع في النكاح وهو قطع الرحم موجود هنا .
2516 وقد روي عن عثمان رضي الله عنه ، وعلى وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية . يريدون بالمحللة قوله تعالى : 19 ( { وأحل لكم ما وراء ذلكم } ) وبالمرحمة 19 ( { وأن تجمعوا بين الأختين } ) فغلبنا آية التحريم احتياطاً ، وأيضاً فآية التحليل قد خصصت بالاتفاق ، فضعف عمومها ، ( وحكى القاضي ) . وطائفة من أصحابه ، والشيخان وغيرهم رواية بالكراهة من غير تحريم ، معتمدين في ذلك على قوله في رواية ابن منصور وسأله عن الجمع بين الأختين المملوكتين : تقول إنه حرام ؟ قال : لا أقول أنه حرام ، ولكن ينهء عنه . وامتنع أبو العباس من إثبات هذه
____________________
(2/376)
الرواية ، قال : لأنه لم يقل : ليس بحرام . ولكنه قال : لا أقول إنه حرام . وهذا الأدب في الفتوى كثيراً ما يستعمله السلف ، لا يطلقون لفظ التحريم ، بل : يقولون منهي عنه ؛ ولا لفظ الفرض ، بل يقولون : يؤمر به . ونحو ذلك ، استهابة لعهدة اللفظية إلا فيما علم دليله بالقاطع .
وبالجملة هذا القول يستدل له بالعمومات نحو : 19 ( { وأحل لكم ما وراء ذلكم } )9 ( { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } )9 ( { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } ) ولا تفريع على هذا القول ، أما على الأول فإذا ملك أختين كان له أن يطأ إحداهما أيتهما شاء ، على ظاهر كلام أحمد ، والخرقي ، واختيار القاضي ، وابن عقيل ، والشيخين ، وغيرهم ، إذ الممنوع منه الجمع في الوطء ولم يوجد ، وقطع أبو الخطاب في هدايته بالمنع من وطء إحداهما حتى يحرم الأخرى بما سيأتي إن شاء الله تعالى ، إذ لا مزية لإحداهما على الأخرى ، فاستباحة وطء إحداهما دون الأخرى ترجيح من غير مرجح ، ويرد بأن اختياره ترجيح أحد الجائزين ، ومتى وطئ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرم الموطوءة على نفسه بتزويج ، أو بيع ، أو هبة أو عتق ، ويعلم أنها ليست بحامل منه ، بأن يستبرئها .
2517 نص أحمد رحمه الله على ذلك في الجملة ، محتجاً بأن هذا قول علي وابن عمر رضي الله عنهم . والمعنى فيه أنه لو لم يفعل ذلك أفضى إلى الجمع بين الأختين في الوطء ، أو جمع مائه في رحم أختين ، وإنه غير جائز ، ولا يكفي استبراؤها بدون زوال الملك على الصحيح ، سداً للذريعة ، إذ الاستبراء لا يمنع وطأها .
2518 واتباعاً لحكم الصحابة ، وقال ابن عقيل : ينبغي أن يكتفي به ، إذ به يزول الفراش المحرم للجمع ، ولا يكفي زوال ملكه بدون استبراء ، حذاراً من أن يجمع ماءه في رحم أختين ، ولا التحريم بدون زوال ملك ، كما إذا ظاهر منها ، نص عليه أحمد ، معللًا بأن هذا قد يكفر ، وكما إذا رهنها على الأشهر ، لتمكنه من فك الرهن ، وفيه وجه لانعقاد سبب الانتقال ، وتكفي الكتابة في وجه ، اختاره القاضي وغيره ، لأنها نوع من البيع ، ولا تكفي في آخر ، اختاره أبو محمد ، لبقاء الملك ، ولا يكفي تحريمها بصوم أو اعتكاف ، أو ردة أو عدة ، ونحو ذلك ، لبقاء الفراش ، وظاهر إطلاق أحمد وكثير من الأصحاب أنه يكفي زوال الملك ، وإن أمكنه الاسترجاع ، كما إذا وهبها لولده ، أو باعها بشرط الخيار ، وظاهر ضابط ابن عقيل المنع ، فإنه قال : عقد الباب أن يحرمها تحريماً لا يمكنه رفعه بنفسه ، وحكى ابن تيمية الكبير المسألة على وجهين ، والله أعلم .
قال : فإن عادت إلى ملكه لم يصب واحدة منهما حتى يحرم الأخرى .
ش : يعين إذا عادت المحرمة إلى ملكه لم يصب واحدة منهما حتى يحرم
____________________
(2/377)
الأخرى ، وتحت هذا صورتان ( إحداهما ) إذا عادت بعد وطء الأخرى ، فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعة ، وعليه عامة الأصحاب ، أنه يجتنبها حتى يحرم إحداهما حذاراً من الجمع بينهما في الفراش ، لأن الأولى قد كانت فراشاً ، والثانية قد صارت فراشاً ، واختار أبو البركات أنه يقيم على وطء الثانية ، ويجتنب الراجعة ، لأن فراشها قد انقطع ، والعود لا يصيرها فراشاً ( الصورة الثانية ) عادت قبل أن يطأ الباقية ، فظاهر كلام أحمد والخرقي ، وكثير من الأصحاب اجتنابهما حتى يحرم إحداهما كالأولى ، لأنه استفرش الأولى ، واستباح الثانية ، فتصير في حكم المستفرشة ، واختار أبو البركات أنه يطأ أيتهما شاء ، إذ الأولى قد زال فراشها ، والثانية لم يستفرشها ، كالمشتراتين ابتداء ، واختار أبو محمد إباحة الراجعة ، لثبوت الفراش لها دون الباقية ، حذاراً من الاجتماع في الفراش ، والله أعلم .
قال : وعمة المرأة وخالتها في ذلك كأختها .
ش : كل من حرم الجمع بينه وبين آخر في الفراش كالأختين في جميع ما تقدم ، لاستوائهما معنى ، فاستويا حكماً ، والله أعلم .
قال : ولا بأس أن يجمع بين من كانت زوجة رجل وابنته من غيرها .
ش : نص على هذا أحمد رحمه الله .
2519 وذكره عن عبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن صفوان ، وعن جملة من أصحاب رسول الله ، وكذلك ذكر البخاري عن عبد الله بن جعفر أنه جمع بين ابنة علي وامرأته ، ورواه الدارقطني عن ابن عباس ، وعن رجل من الصحابة من أهل مصر يقال له جبلة ، وهو راجع إلى القاعدة السابقة ، وهو أن كل امرأتين لو قلبت إحداهما ذكراً لم يجز له أن يتزوج بالأخرى لأجل القرابة ، لم يجز الجمع ، وإلا جاز ، إذ لو قلبت امرأة الأب ذكراً لاقتضى لها جواز التزوج ببنت الزوج ، إذ لا قرابة بينهما ، وإنما المنع للصهرية ، والله أعلم .
قال : وحرائر أهل الكتاب ، وذبائحهم حلال للمسلمين .
ش : لقول الله سبحانه : 19 ( { اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ، وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات ، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن } ) وهذا يخصص قوله تعالى : 19 ( { ولا تنكحوا المشركات } ) الآية .
2520 وقيل عن ابن عباس إنها نسخت بها ، وقيل : لفظ المشركين لا يتناول بإطلاقه أهل الكتاب ، بدليل قوله سبحانه : 19 ( { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } ) وقوله : 19 ( { ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين } ) وهو كثير ، مع أن جواز نكاح حرائر أهل الكتاب إجماع أو كالإجماع ،
____________________
(2/378)
قال ابن المنذر : لا يصح عن أحد من الأوائل تحريم ذلك ، إلا أن أحمد قال في رواية ابن إبراهيم : اختلفوا في اليهود والنصارى ، أما المجوس فلم يختلفوا فيهم .
2521 وذكر البخاري عن نافع عن ابن عمر ، كان إذا سئل عن نكاح النصرانية أو اليهودية ، قال : إن الله تعالى حرم المشركات على المؤمنين ، ولا أعلم من الإشراك شيئاً أكبر من أن تقول المرأة : ربها عيسى ، وهو عبد من عباد الله تعالى .
وقد دخل في كلام الخرقي الحربيات من الكتابيات ، وهو أحد الأقوال ، اختاره القاضي في المجرد وغيره ، لدخولهن في الآية الكريمة ، وقيل : لا يجوز مطلقاً ، حملًا لآية المنع على ذلك ، وآية الجواز على غير الحربيات ، وقيل : يجوز في دار الإسلام لا في دار الحرب ، وإن اضطر ، وهو منصوص أحمد في غير رواية ، واختيار ابن عقيل ، وقيل بالجواز في دار الحرب مع الضرورة ، وهو اختيار طائفة من الأصحاب ، ونص عليه أحمد أيضاً ، وعلل الإمام في دار الحرب من أجل الولد ، لئلا يستعبد ، ويصير على دينهم .
2522 وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أنه كره أحمد في الأسير ، فعلى تعليل أحمد لا يتزوج حنبل ، بل ولا يطأ زوجته إن كانت معه ، ونص عليه في رواية الأثرم وغيره ، وعلى مقتضى تعليله له أن يتزوج آيسة أو صغيرة .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يباح له نكاح الإماء الكتابيات ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، وأنه لا يباح له نكاح مشركة غير كتابية ولا طعامها ، وذلك لقوله تعالى : 19 ( { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } ) وقوله تعالى : 19 ( { ولا تمسكوا لعصم الكوافر } ) خرج من ذلك أهل الكتاب بما تقدم ، فبقي من عداهم من عبدة الأوثان ، والمرتدين ، والمكفرين من أهل الملة ، والمجوس ونحوهم ، على مقتضى المنع .
2523 فإن قيل : قد روي عن علي كرم الله وجهه أن المجوس لهم كتاب .
2524 وقد قال : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) ومن سنة أهل الكتاب حل نسائهم .
قيل قد قال الله تعالى : 19 ( { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } ) الآية ، فبين سبحانه أنه أنزل القرآن كراهة أن يقولوا ذلك ، ولو أنزل على أكثر من طائفتين لكان هذا القول كذباً ، وأيضاً قوله سبحانه : 19 ( { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } )
____________________
(2/379)
فذكر الملل الست ، وأنه يفصل بينهم يوم القيامة ، ولما ذكر الملل اللاتي فيها سعيد لم يذكر المجوس ولا المشركين ، فقال : 19 ( { إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله } ) ولو كان في المجوس والمشركين سعيد لذكرهما كما ذكر اليهود والنصارى ، إذ لو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ على هدى .
2525 وقد روى وكيع عن سفيان ، عن قيس ، عن الحسن بن محمد ابن علي ، قال : كتب رسول الله إلى هجر يعرض عليهم الإسلام ، فمن أسلم قبل ، ومن أبى ضربت عليه الجزية ، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة ، ولا تنكح لهم امرأة .
2526 وهذا وإن كان مرسلًا ، فقد عضده قول خمسة من أصحاب رسول الله ، وعمل جمهور أهل العلم ، وأما ما روي عن علي فقد أنكره أحمد في رواية محمد بن موسى ، وقال إنه باطل .
2527 وأنكر ما روي عن حذيفة أنه تزوج مجوسية ، ثم لو صح حمل على أنه كان بأيديهم ثم رفع ، وأما قوله : ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) أي في الجزية ، وهو يدل على أنه لا كتاب لهم .
وكما فهمته الصحابة ، والدماء تعصم بالشبهات ، وعكسها الفروج والذبائح لا تباح بالشبهات ، لا يقال : الحديث وإن فهم منه أنه ليس لهم كتاب ، إلا أنه يدل على أنه يسن بهم سنة أهل الكتاب ، أي طريقتهم ، ومن طريقتهم حل نسائهم وذبائحهم ، لأنا نقول : الحديث لا عموم فيه ، إذ التقدير : سنوا بهم سنة مثل سنة أهل الكتاب ، والنكرة في سياق الإثبات لا عموم لها ، ولئن سلم شمول الحديث للنكاح والذبائح لكنه يخص بمفهوم قوله سبحانه : 19 ( { والمحصنات الذين أوتوا الكتاب } ) الآية .
( تنبيه ) أهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل ، فأهل التوراة اليهود ، والسامرة ، وأهل الإنجيل النصارى ، ومن وافقهم في أصل دينهم من الفرنج ، والأرمن وغيرهم ، وأما الصائبة فقال 16 ( أحمد ) : هم جنس من النصارى . وقال في موضع آخر : بلغني أنهم يسبتون فألحقهم باليهود ، قال أبو محمد : والصحيح أن من وافق اليهود أو النصارى منهم في أصل دينهم ، وخالفهم في فروعه فهو منهم ، ومن خالفهم في أصل دينهم فليس منهم ، وأما المتمسك بصحف إبراهيم وشيت ، وزبر داود ، فليسوا بأهل كتاب على الصحيح ، ذكره ابن عقيل وغيره ، فلا تحل نساؤهم ، ولا ذبائحهم ، لقوله سبحانه : 19 ( { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } ) الآية ، وقيل : إنهم من أهل الكتاب ، فتحل نساؤهم وذبائحهم ، ويقرون بالجزية ، ومن عدا من ذكرنا فليسوا بأهل كتاب ، والله أعلم .
قال : وإذا كان أحد أبوي الكافرة كتابياً ، والآخر وثنياً ، لم ينكحها مسلم .
____________________
(2/380)
ش : هذا الذي قطع به عامة الأصحاب ، الخرقي ، وأبو بكر في الشافي والمقنع ، وابن أبي موسى ، والقاضي في المجرد ، والجامع ، والخلاف ، وابن عقيل في الفصول ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن البنا ، وأبو محمد في الكافي ، ولم أر من ذكر عن أحمد بذلك نصاً وذلك لأنها متولدة بين من يحل ومن لا يحل ، فغلب جانب التحريم احتياطاً ، كالمتولد بين الحمار والفرس .
وحكى أبو البركات ، و أبو محمد في كتابه الصغير رواية بالجواز ، لأنها كتابية فتدخل في عموم الآية المبيحة .
وحكى ابن رزين رواية ثالثة أن الأي إذا كان كتابياً أبيحت ، وإلا فلا ، لأن الولد ينسب إلى أبيه ، فيكون حكمه حكمه ، وخطأ أبو العباس هذا القول ، وقال : إن كلام أحمد إنما يدل على أن العبرة بالدين ، وأنه لم يعلق الحكم بالنسب ألبته ، قلت : وكذلك ذكر القاضي في تعليقه ، رداً على الشافعية ، أن تحريم النكاح والذبيحة متعلق بالدين دون النسب ، والدين المحرم موجود ، فكان الاعتبار به دون النسب .
( تنبيه ) ذكر أبو البركات هنا روايتين ، وقال في عقد الذمة : إن من أقررناه على تهود أو تنصر متجدد بعد المبعث ، أبحنا ذبيحته ومناكحته ، ولم يذكر خلافاً ، وعكس القاضي ، فجزم هنا بالمنع ، وحكى في المنتقل إلى دين أهل الكتاب بعد النسخ روايتين ، وهذا قد يستشكل على كلا النقلين ، فإنه إذا منع من ذبيحة من أحد أبويه وثني ، فمكن أبواه وثنيان أولى ، إلا أن يقال : يجوز أن يكون هذا في من أبواه كتابيان ، ثم توثن هو ، ثم انتقل إلى الكتابية ، أو يقال : إن المنع في من أحد أبويه كتابي ، كان لأجل النسب ، وقد تقدم ضعف هذا ، وحمل أبو العباس كلام الخرقي وغيره من الجازمين بالمنع في هذه المسألة على أنه فيمن لم يثبت له دين بنفسه ، لعدم تعرضهم للدين ، وهذا كأن يتزوج صغيرة وأحد أبويها غير كتابي ، أما أن يدين بدين أهل الكتاب ، فهو محل الروايتين ، كما ذكره أبو البركات ( قلت ) : وهذا الجواب يحسن على قول القاضي ، أما على قول جده فلا يحسن ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوج كتابية فانتقلت إلى دين آخر من الكفر غير دين أهل الكتاب أجبرت على الإسلام ، فإن لم تسلم حتى انقضت عدتها انفسخ نكاحها .
ش : إذا انتقل الكتابي من دينه إلى غير دين الإسلام ، فلا يخلو إما أن ينتقل إلى دين من يتدين بكتاب أو لا ، ( فإن كان الأول ) كمن انتقل من يهودية إلى نصرانية أو بالعكس فهل يقر ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار الخلال وصاحبه ، لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب ، فكأنه لم ينتقل ، أو لا يقر ، وهو اختيار القاضي في الجامع الصغير ، وعامة عقيل في التذكرة ، والشيرازي وغيرهم ، لأنه انتقل إلى دين أقر ببطلانه ، أشبه المرتد .
____________________
(2/381)
2528 ولعموم قول النبي : ( من بدل دينه فاقتلوه ) خرج منه المسلم بالإجماع إذا رجع ، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم ، فعلى هذا يؤمر بالإسلام ، فإن لم يسلم ( فعنه ) يقتل كالمسلم إذا ارتد ( وعنه ) يهدد ولا يقتل احتياطاً للدماء ( وعنه ) أنه إن رجع إلى دينه الأول ترك كالمرتد من ملتنا ، وإلا هدد ولم يقتل ، ( وإن كان الثاني ) كأن انتقل من الكتابية إلى المجوسية والوثنية ونحوهما فلا يقر على إحدى الروايتين ، واختيار الخرقي ، وبه جزم أبو محمد وغيره ، لأن الوثنية ونجوها لا يقر أهلها عليها ، فالمنتقل إليها أولى ، والمجوسية قد أقر ببطلانها ، مع كونها أنقص من دينه ( وعنه ) يقر على المجوسية ، لأنه انتقل إلى دين يقر أهله عليه ، أشبه المنتقل إلى دين أهل الكتاب ، ولعموم 19 ( { حتى يعطوا الجزية عن يد } ) الآية ، ( فعلى الأول ) وهو المذهب لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف في إحدى الروايتين ، واختيار الخلال وصاحبه ، لأن غير الإسلام دين أقر ببطلانه ، أشبه المرتد ، وفي الرواية الأخرى لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه ، كالمرتد إذا رجع إلى الإسلام ، وحيث يقبل فهل يستتاب كالمرتد أو لا كالكافر الأصلي ؟ فيه احتمالان ( وعلى الثاني ) أنه إنه رجع إلى ما نقر عليه ترك ، وحيث أقررنا المنتقل على ما انتقل إليه فكان المنتقل ذمية تحت مسلم فالنكاح بحاله ، إلا أن تنتقل إلى المجوسية فإنه كالردة إذ المسلم لا يثبت له نكاح على مجوسية وكذلك إن لم يقر المنتقل وإذاً إن كان قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال ، وإن كان بعده فهل ينفسخ النكاح أو يقف على انقضاء العدة ؟ فيه روايتان ، المذهب منهما الثاني ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : وأمته الكتابية حلال له دون المجوسية .
ش : أمته الكتابية حلال له ، لعموم قوله سبحانه : 19 ( { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } ) وقوله : 19 ( { والذي هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } ) ولأن نكاح الأمة الكتابية غير المملوكة له إنما حرم حذاراً من إرقاق ولده ، وإبقائه مع كافرة ، وهذا معدوم في مملوكته ، ولا تباح له أمته المجوسية ، ولا الوثنية بطريق الأولى ، لعموم ما تقدم في تحريم نكاح المجوسيات ونحوهم ، ( فإن قيل ) : ما تقدم من الآيتين ظاهر في الإباحة .
2529 ويؤيده ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله بعث يوم حنين بعثاً إلى أوطاس ، فلقوا عدوهم فقاتلوهم وأصابوا لهم سبايا ، فكأن أناساً من أصحاب رسول الله تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من
____________________
(2/382)
المشركين ، فأنزل الله عز وجل في ذلك : 19 ( { والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } ) أي فهن لهن حلال إذا انقضت عدتهن . رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي .
2530 وقال في سبايا أوطاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة ) رواه أبو داود ، ثم إن الصحابة كان أكثر سباياهم من كفار العرب ، وهم عبدة أوثان ، ولم ينقل أنهم حرموا ذلك ، وقد أخذ عمر وابنه من سبي هوازن ، ( قيل ) : الآيتان مخصوصتان بما تقدم ، وأما حديث أبي سعيد فقضية عين ، إذ يحتمل أنهم أسلموا ، وكذلك الجواب عن غيره ، قال محمد بن الحكم : قلت لأبي عبد الله : فهوازن أليس كانوا عبدة أوثان ؟ قال : لا أدري كانوا أسلموا أولا . ويتعين ذلك ، لأنه قد نقل اتفاق أهل العلم على التحريم ، ولهذا ادعى أبو عمر ابن عبد البر النسخ بقوله : 19 ( { ولا تنكحوا المشركات } ) والله أعلم .
قال : وليس للمسلم وإن كان عبداً أن يتزوج أمة كتابية ، لأن الله تعالى قال : 19 ( { من فتياتكم المؤمنات } ) .
ش : نص على هذا أحمد ، مستدلًا بهذه الآية ، قال أبو بكر : رواه عنه أكثر من عشرين نفساً . انتهى ، وعليه الأصحاب متقدمهم ومتأخرين ، لما تقدم ، ولأنه اجتمع فيها نقص الرق والكفر ، أشبهت المجوسية لما اجتمع فيها الكفر وعدم الكتاب حرم نكاحها ، وحذراً من استرقاق ولدها ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى يجوز نكاحها في الجملة ، لأنها تحل بملك اليمين ، فتحل بالنكاح كالمسلمة ، وعلى هذا يجوز للعبد مطلقاً ، وللحر بشرطه كما سيأتي ، ولا فرق على إطلاق الخرقي وغيره بين أن تكون الأمة تلد أو لا تلد ، ولا بين أن تكون لمسلم أو لكافر ، وصرح به القاضي في التعليق ، والله أعلم .
قال : ولا يجوز للحر المسلم أن يتزوج أمة مسلمة إلا أن يكون لا يجد طولًا لحرة مسلمة ، ويخاف العنت .
ش : أي وليس لحر مسلم أن يتزوج أمة مسلمة إلا بوجود شرطين ، عدم الطول ، وخوف العنت ، وذلك لقوله سبحانه : 19 ( { ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } ) إلى قوله سبحانه : 19 ( { ذلك لمن خشي العنت منكم } ) فشرط سبحانه لنكاح الأمة شرطين ، عدم الطول ، وخوف العنت ، والمعلق على شرط عدم عند عدم الشرط ، ولأنه حر أمن العنت ، فامتنع من نكاح الأمة ، كما إذا كان تحته حرة ، وقوله : ليس لحر . يحترز عن العبد ، فله أن ينكح الأمة من غير شرط ، لتساويهما ، وقوله : مسلم . يحترز به عن الكافر ، وهذا من فروع
____________________
(2/383)
أنكحة الكفار ، وقوله : أمة مسلمة . يحترز به عن الأمة الكافرة ، فإنه لا يجوز نكاحها ولا مع الشرطين كما تقدم .
2531 والطول قال أحمد تبعاً لابن عباس رضي الله عنهما السعة .
2532 وعن جابر رضي الله عنه أنه لا يجد صداق حرة . وكذلك قال القاضي في المجرد ، وزاد عليه ابن عقيل : ولا نفقتها . وقوله : طولًا لحرة مسلمة . ظاهره أن من لم يجد طولًا لحرة مسلمة ووجد طولًا لحرة كتابية أن له نكاح الأمة وصرح به أبو الخطاب في الانتصار ، أخذا بظاهر قوله تعالى : 19 ( { ومن لم يستطع منكم طولًا أن ينكح المحصنات المؤمنات } ) وصرح القاضي في المجرد ، وابن عقيل وأبو محمد وغيرهم بعدم اشتراط الإسلام ، فمن وجد طولًا لحرة مطلقاً لا يجوز له نكاح الأمة ، لأنه إذاً يأمن العنت ، فيفوت الشرط ، وتوقف أحمد في رواية أخرى . ولم يشترط الخرقي إلا أن لا يجد طولًا لحرة مسلمة ، فظاهره أنه لا يشترط أن لا يجد ثمن أمة ، وأورده ابن حمدان في رعايتيه مذهباً ، وصرح القاضي في المجرد ، وابن حمدان في رعايتيه مذهباً ، وصرح القاضي في المجرد ، وابن عقيل وأبو الخطاب والشيخان وغيرهم باشتراط ذلك ، ثم إن القاضي وابن عقيل قيدا الأمة بالإسلام ، وأطلق ذلك أبو الخطاب والشيخان ، والعنت فسره القاضيان أبو يعلى وأبو الحسين وابن عقيل والشيرازي وأبو محمد بالزنا ، وفسره أبو البركات بحاجة المتعة أو حاجة الخدمة لكبر أو سقم ونحوهما ، وجعله ابن حمدان قولًا انتهى .
وقد دخل في كلام الخرقي المجبوب ونحوه له نكاح الأمة بشرطه ، كما إذا خشي مواقعة المحظور بالمباشرة ونحوها ، وصرح به القاضي وغيره ( ودخل ) في كلامه أيضاً جواز نكاح الأمة الولود بشرطه وإن وجد آيسة ، وصرح به القاضي وأبو الخطاب في خلافيهما ، ( ودخل ) في كلامه أيضاً عدم جواز نكاح الأمة إذا عدم الشرط ، وإن كانت لا تلد لصغر أو رتق ونحو ذلك ، وصرحا به أيضاً ( واقتضى كلامه ) أنه إذا لم يجد ما يتزوج به حرة لم يلزمه الإقتراض مع القدرة عليه ، ولا التزوج بصداق في الذمة وإن كان مؤجلًا ، دفعا للضرر عنه ، وصرح به القاضي وأبو محمد ، وكذلك لو وهب له الصداق لم يلزمه قبوله ، نعم لو رضيت المرأة بدون صداق مثلها ، وهو قادر على ذلك ، ففي جواز نكاح الأمة إذاً احتمالان ، ذكرهما القاضي في التعليق .
وظاهر كلام الخرقي الجواز ، ولو لم يجد حرة إلا بزيادة على مهر مثلها لا يجحف بماله ، فقال أبو محمد : يلزمه النكاح للإستطاعة ، ولا يرد التيمم على وجه ، لأنه رخصة عامة ، ونكاح الأمة إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة ، وجوز له أبو عبد الله ابن تيمية نكاح الأمة إن عدت الزيادة سرفا .
( تنبيه ) القول قوله في خشية العنت وعدم الطول ، حتى لو كان في يده مال فادعى أنه وديعة ألأ مضاربة قبل قوله ، لأنه حكم فيما بينه وبين الله تعالى ، والله أعلم .
____________________
(2/384)
قال : ومتى عقد عليها وفيه الشرطان عدم الطول وخوف العنت ، ثم أيسر لم يفسخ نكاحها .
ش : هذا هو المذهب المنصوص المجزوم به عند عامة الأصحاب ، لأن زوال الشرط بعد العقد لا يبطله ، بدليل إذا ارتدت المرأة أو لزمتها عدة ، ولأن الممنوع منه النكاح ، وهذا غير ناكح ، وإنما هو مستديم ، وخرج القاضي وغيره ( رواية أخرى ) بالفسخ ، مما إذا تزوج حرة على الأمة فإن فيها روايتين منصوصتين ، وذلك لأن نكاح الأمة إنما أبيح للضرورة ، فيزول بزوالها ، كأكل الميتة ، وفرق بأن في الميتة هو مبتد ، وهنا مستديم ، ولم يتعرض الخرقي لما إذا أمنت العنت ، وفيه طريقان للأصحاب ، منهم من أجرى الخلاف فيه كأبي عبد الله ابن تيمية ، ومنهم كأبي محمد وابن حمدان من لم يجر الخلاف فيه ، حتى أن بعض أصحاب الخلاف جعله أصلًا وقاس عليه ما تقدم ، والله أعلم .
قال : وله أن ينكح من الإماء أربعاً إذا كان الشرطان فيه قائمين .
ش : يعني أنه إذا تزوج أمة فلم تعفه ، ولم يجد طولًا ، له أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة ، وهذا أنص الروايتين عن أحمد ، واختيار ابن عقيل في التذكرة ، وأبي محمد ، لدخوله في الآية الكريمة ، إذ هو عادم للطول ، خائف للعنت ، ( ونقل عنه ) حرب : لا يعجبني أن يتزوج إلا واحدة .
2533 يذهب إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما : لا يتزوج الحر من الإماء إلا واحدة . فأخذ من ذلك ابن أبي موسى والقاضي في المجرد وغير واحد من الأصحاب رواية بالمنع ، واختارها القاضي في المجرد ، وحكاها عن أبي بكر ، وأبى ذلك في الجامع الكبير ، مدعياً بأن إطلاقه محمول على ما إذا خشي العنت ، وكذا قال أبو محمد ، وحمل أيضاً قول ابن عباس على ذلك ، لكن القاضي في الجامع يفسر خشية العنت هنا بما إذا كان تحته أمة غائبة أو مريضة أو طفلة ، فعنده أن وجود زوجة يمكن وطؤها مؤمن من العنت ، وهذا في الحقيقة عين القول بالمنع .
( تنبيه ) على القول بالجواز له أن ينكح الأربع دفعة واحدة إذا علم أنه لا يعفه إلا ذلك ، صرح به القاضي في المجرد ، وقد يقال : إن ظاهر كلام الخرقي يقتضيه ، والله أعلم .
قال : وإذا خطب الرجل المرأة فلم يسكن إليه فلغيره خطبتها .
ش : لا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة أخيه في الجملة ، على المذهب المعروف المشهور .
2534 لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنهما أن رسول الله قال : ( المؤمن أخو المؤمن ، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ، ولا يخطب على
____________________
(2/385)
خطبة أخيه حتى يذر ) رواه أحمد ومسلم ، ولأن في ذلك إفساداً على الخاطب الأول ، وإيقاعاً للعداوة بينهما ، وجعل أبو حفص ذلك مكروهاً لا محرماً ، وكأنه ذهب إلى قول أحمد في رواية صالح : أكرهه . وحمل القاضي ذلك على التحريم لتصريحه به في رواية ابن مشيش ، فعلى الأول إنما يمنع إذا أجيب تصريحاً ، وكذلك إن أجيب تعريضاً على إحدى الروايتين ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لأنه قد وجد السكوت ، واختيار أبي محمد ، لما تقدم .
2535 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه ، ولا يبيع على بيع أخيه إلا بإذنه ) رواه مسلم وأبو داود . ( والرواية الثانية ) لا يمنع مع التعريض .
2536 لحديث فاطمة بنت قيس الذي في الصحيح ، فإن النبي أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، وقال لها : ( إذا حللت فآذنيني ) قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني . فقال رسول الله : ( أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد ) قالت : فكرهته ، ثم قال : ( انكحي أسامة بن زيد ) فنكحته فجعل الله فيه خيراً واغتبطت به . فظاهره أنها ركنت إلى أحدهما ، وأيضاً فالرسول قال لها : ( انكحي أسامة ) ولم يسألها هل ركنت إلى أحدهما أم لا ، وقد أجيب بأن في الحديث في رواية أخرى في الصحيح : أرسل إليها رسول الله أن لا تسبقينين بنفسك . وفي رواية ( ولا تفوتيني بنفسك ) ولا يظن بها أنها كانت تجيب ، قبل إذن رسول الله ، وإنما جاءت مستشيرة ، وأيضاً فهو كان قد خطبها أولا ، فخطبته بعدهما مبنية على الخطبة السابقة ، بقي أن يقال : فالرسول قد عرض بخطبتها ، فكيف ساغ لغيره الخطبة ، ولم ينكر الرسول عليه ، ويجاب أنهما لم يعلما ، فيحتمل أن الرسول عليه ، ويجاب أنهما لم يعلما ، فيحتمل أن الرسول أنكر عليهما ولم ينقل ، أو يقال : إنما يمنع الرجل من الخطبة على خطبة أخيه إذا خطب تصريحاً . أما إن خطب تعريضاً للغير الخطبة ، قياساً لأحد الشقين على الآخر انتهى ، أما إن رد فيجوز ، لأنها تصير كمن لم تخطب ، ولأن المنع والحالة هذه نهاية الضرر بالمرأة ، إذ لا يشاء أحد أن يمنعها النكاح بخطبته إلا فعل ، والضرر منفي شرعاً ، وكذلك إن ترك الخاطب الخطبة أو أذن ، لحديث عقبة وابن عمر ، ولو سكتت فكذلك عند القاضي في المجرد وابن عقيل ، وعن القاضي في البكر سكوتها رضى ، وإن لم يعلم الحال فوجهان ( الجواز )
____________________
(2/386)
لأن المانع الإجابة ولم يعلم ( والمنع ) لأن المقتضي للمنع قد وجد ، والمبيح الإذن أو الترك أو الرد ، ولم يعلم واحد منهما .
( تنبيهات ) ( أحدها ) قوله : وإذا خطب الرجل . يشمل خطبة كل رجل ، والمنع مختص بالخطبة على خطبة المسلم ، نص عليه أحمد ، وهو مقتضى حديث عقبة رضي الله عنه وغيره ، ( الثاني ) أناط الخرقي الحكم بالمرأة ، وهو صحيح إن كانت غير مجبرة ، أما إن كانت مجبرة فالعبرة بالولي ، لا بها .
2537 وفي الحديث أن النبي خطب عائشة إلى أبي بكر ، رواه البخاري .
2538 وقالت أم سلمة : أرسل إلي رسول الله يخطبني . رواه مسلم . فدل على أن خطبة المجبرة إلى وليها ، وخطبة الرشيدة إلى نفسها ، وعلى هذا لو رضي الولي بالخاطب حرم على غيره خطبتها وإن كرهت المرأة ، هذا ظاهر كلام جماعة ، وصرح به القاضي في المجرد ، وابن عقيل ، وقال أبو محمد في المغني : إذا كرهت المجبرة المجاب ، واختارت غيره ، سقط حكم إجابة وليها ، إذ اختيارها مقدم على اختياره ، وإن كرهته ولم تختر سواه قال : فينبغي أن تسقط الإجابة أيضاً ( الثالث ) إذا تزوج من خطب على خطبة أخيه حيث منع ، فالمنصوص وهو اختيار القاضي وابن عقيل ، وأبي محمد الصحة ، لأن المحرم لم يقارن ، وقال أبو بكر في البيع على بيع أخيه : إنه باطل ، وحكاه نصا عن أحمد ، فخرج ابن عقيل وغيره بطلان النكاح نظراً للنهي ، والله أعلم .
قال : ولو عرض للمرأة وهي في العدة بأن يقول : إني في مثلك لراغب . وإن قضي شيء كان ؛ وما أشبهه من الكلام مما يدلها على رغبته فيها ، فلا بأس بذلك ، إذا لم يصرح .
ش : يباح التعريض بخطبة المعتدة في الجملة ، ويحرم التصريح ، لقوله تعالى : 19 ( { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا } ) فنفى سبحانه الحرج عن التعريض ، ومفهومه وقوع الحرج على التصريح ، وأكد ذلك بقوله سبحانه : 19 ( { ولكن لا تواعدوهن سرا } ) والسر الجماع ، قاله الشافعي وغيره ، ولحديث فاطمة المتقدم ، فإن النبي عرض بخطبتها وهي في العدة ( ويستثنى ) مما تقدم صاحب العدة ، فإنه يباح له التصريح والتعريض إن كانت ممن يحل له التزويج بها في العدة ، كالرجعية والمبانة بدون الثلاث ، والمختلعة ، أما إن لم تحل له كالمزني بها ، ومن
____________________
(2/387)
نكحها في عدة من غيره ووطئها ، فقال أبو العباس : ينبغي أن يكون كالأجنبي ، ( ويستثنى ) من التعريض الرجعية ، فإنه لا يجوز أن يعرض لخطبتها بلا نزاع ، لأنها في حكم الزوجة ، وكذلك مبانة تباح بعقد في وجه .
والتعريض ما يفهم منه النكاح مع احتمال غيره ، كما مثل الخرقي رحمه الله ، وكما جاء في الحديث : ( لا تسبقينا بنفسك ، ولا تفوتينا بنفسك ) .
2539 وكما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : 19 ( { ولا جناح عليكم } ) الآية يقول : إني أريد التزويج ، وودت أنه يسر لي امرأة صالحة .
2540 وكما روي في قصة سكينة بنت حنظلة رضي الله عنها قالت : استأذن عليَّ محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلكة زوجي ، فقال : قد عرفت قرابتي من رسول الله ، وقرابتي من علي ، وموضعي من العرب ، قلت : غفر الله لك يا أبا جعفر ، إنك رجل يؤخذ عنك ، تخطبني في عدتي ؟ . قال : إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله ومن علي ، وقد دخل رسول الله على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة ، فقال : ( قد علمت أني رسول الله ، وخيرته من خلقه ، وموضعي من قومي ) كانت تلك خطبته ، رواه الدارقطني والتصريح الكلام الذي لا يحتمل غير النكاح ، كقوله إني أريد أن أتزوجك . ونحوه .
( تنبيه ) حيث حرم التصريح أو التعريض ففعل ونكح صح ، ذكره القاضي ، وابن عقيل وأبو محمد وغيرهم ، وهو قياس قول أحمد في الخطبة على خطبة أخيه ، ويتخرج وجهاٍ بالبطلان كالوجه في الخطبة . والله أعلم .
( باب نكاح أهل الشرك وغيره )
قال : وإذا أسلم الوثني وقد تزوج بأربع وثنيات ولم يدخل بهن بِنَّ منه .
ش : لعموم قوله تعالى : 19 ( { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } )9 ( { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ) ولأنه اختلاف دين يمنع الإقرار على النكاح ، فإذا وجد قبل الدخول تعلقت به الفرقة في الحال كالردة .
وقول الخرقي : وإذا أسلم الوثني . وكذلك كل كافر وإن كان من أهل الكتاب ، وقوله : وقد تزوج بأربع . لا مفهوم له ، بل لو تزوج بواحدة أو أكثر كان كذلك ، وقوله : وثنيات . وكذلك من في معناهن كالمجوسيات ، أما لو كن كتابيات فإن النكاح لا ينفسخ ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى .
____________________
(2/388)
( تنبيه ) البينونة هنا فسخ لا طلاق ، نص عليه أحمد . والله أعلم .
قال : وكان لكل واحدة منهن نصف ما سمي لها إن كان حلالًا ، أو نصف صداق مثلها إن كان ما سمي لها حراماً .
ش : إذا بِنَّ منه والحال ما تقدم كان لكل واحدة منهن نصف الصداق ، على المشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب ، الخرقي ، وأبي بكر والقاضي وغيرهم ، إذ الفرقة حقيقة من جهته ، أشبه ما لو طلقها ( والثانية ) لا شيء لها ، نظراً إلى أنه قد فعل الواجب عليه ، وهي بتأخرها عن الإسلام كأن الفرقة من جهتها ، وحذاراً من التنفير عن الإسلام ، باجتماع فسخ النكاح عليه ، ووجوب المهر ، وعلى المذهب لها نصف المسمى إن كان صحيحاً ، أو نصف مهر مثلها إن كان فاسداً ، وإٌّ لم يكن مسمى فالمتعة ، والله أعلم .
قال : ولو أسلم النساء قبله وقبل الدخول بِنَّ منه أيضاً .
ش : لما تقدم فيما إذا أسلم الزوج وحذراً من إقرار مسلمة تحت مشرك ، والله أعلم .
قال : ولا شيء عليه لواحدة منهن .
ش : قطع بهذا جمهور الأصحاب ، ونص عليه 16 ( أحمد ) ، معللًا بأن الفرقة جاءت منه جتها ، ونقل أبو محمد عن أحمد رواية أخرى ، وزعم أنها اختيار أبي بكر أن لها نصف المهر ، نظراً إلى أن الفرقة جاءت من قبل الزوج ، بتأخره عن الإسلام ، والمنقول عن أحمد في رواية الأثرم التوقف ، والله أعلم .
قال : فإن كان إسلامه وإسلامهن قبل الدخول معاً فهن زوجات .
ش : لأن المحذور وهو اختلاف الدين منتف .
2541 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا جاء مسلماً على عهد رسول الله ، ثم جاءت امرأته مسلمة بعده ، فقال ) يا رسول الله إنها قد كانت أسلمت معي . فردها عليه ، رواه أبو داود والترمذي وصححه ، والمعية أن يتلفظا بالإسلام دفعة واحدة ، على ظاهر كلام الخرقي وغيره ، وصرح به أبو محمد ، وحكى احتمكالًا بأن المعية أن يسلم المتأخر منهما في المجلس ، نظراً إلى أن حكم المجلس حكم العقد ، بدليل القبض ونحوه ، واختار أبو العباس أن المعية أن يشرع الثاني قبل أن يفرغ الأول ، والله أعلم .
قال : فإن كان دخل بهن ثم أسلم فمن لم يسلم منهن قبل انقضاء عدتها حرمت عليه منذ اختلف الدينان .
____________________
(2/389)
ش : هذا هو المشهور من الروايات ، قال أبو بكر : رواه عنه نحو من خمسين رجلًا ، والمختار لعامة الأصحاب الخرقي والقاضي ، وأصحابه ، والشيخين وغير واحد .
2542 لما روى الزهري أن نساءً كن في عهد رسول الله يسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات ، وأزواجهن حين أسلمن كفار ، منهن بنت الوليد بن المغيرة ، وكانت تحت صفوان بن أمية ، فأسلمت يوم الفتح ، وهرب صفوان من الإسلام ، فبعث إليه رسول الله ابن عمه وهب بن عمير ، برداء رسول الله أماناً لصفوان ، ودعاه رسول الله إلى الإسلام ، وأن يقدم عليه ، فإن رضي أمراً قبله ، وإلا سيره شهرين ، فلما قدم صفوان على رسول الله بردائه ناداه على رؤوس الناس ، فقال : يا محمد هذا وهب بن عمير جاءني بردائك ، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإلا سيرتني شهرين ، فقال رسول الله : ( انزل أبا وهب ) فقال : والله لا أنزل حتى تبين لي ؛ فقال رسول الله : ( بل لك سير أربعة أشهر ) فخرج رسول الله قبل هوازن بحنين ، فأرسل إلى صفوان يستعير أداة وسلاحاً عنده ، فقال صفوان : أطوعا أم كرها ؟ فقال : ( بل طوعاً ) فأعاره الأداة والسلاح التي عنده ، ثم رجع مع رسول الله وهو كافر ، فشهد حنيناً والطائف وهو كافر ، وامرأته مسلمة ، ولم يفرق رسول الله بينه وبين امرأته حتى أسلم صفوان ، واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح ، قال ابن شهاب : كان بين إسلام صفوان وإسلام امرأته نحو من شهر .
2543 وعنه أيضاً أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام وكانت تحت عكرمة بن أبي جهر أسلمت يوم الفتح ، وهرب زوجها عكرمة من الإسلام ، حتى قدم اليمن ، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمين ، فدعته إلى الإسلام فأسلم ، وقدم على رسول الله عام الفتح ، فلما رآه رسول الله وثب إليه فرحاً ، وما عليه رداء ، حتى بايعه فثبتا على نكاحهما ، رواهما مالك في الموطأ ، وهذان وإن كانا قضية في عين ، فيحملان على ما بعد العدة ، إذ الظاهر ذلك .
2544 ولأن في حديث الزهري : 16 ( ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها ، إلا أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها ) .
2545 وقال ابن شبرمة : كان الناس على عهد رسول الله يسلم الرجل قبل المرأة ، والمرأة قبل الرجل ، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته ، فإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما . وخرج ما قبل الدخول ، لعدم العدة ، فإن قيل :
2546 فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : 16 ( رد رسول الله ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول ، بعد ست سنين ولم يحدث شيئاً ) ، رواه أبو
____________________
(2/390)
داود والترمذي ، وقال : ليس بإسناده بأس ، وابن ماجه وقال : بعد سنتين . كذلك قال أبو داود في رواية أخرى ، وصححه الحاكم وغيره .
قيل : قد أجيب عنه بأجوبة ( منها ) بالطعن فيه ، فإنه من رواية داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو نسخة ضعف أمرها علي بن المدينين وغيره ، وقال أحمد في رواية أبي طالب ما أراه يصح ، يختلفون فيه .
2547 ويؤيد ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد ، ونكاح جديد ، رواه الترمذي وغيره . لكن أهل العلم بالحديث على أن حديث ابن عباس أصح ، قال أحمد : روي أن النبي رد ابنته بالنكاح الأول ، فقيل له : يروى أنه ردها بنكاح مستأنف ؟ قال : ليس بذلك أصل . وقال البخاري : حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب . وقال الدارقطني : حديث عمرو هذا لا يثبت ، والصواب حديث ابن عباس ( الثاني ) وهو الذي اعتمده الخطابي وغيره أنها قضية عين ، فيحتمل أنها بقيت في عدتها ، بأن كانت حاملًا ، أو ارتفع حيضها برضاع ونحوه ( الثالث ) دعوى نسخه بأنه كان قبل نزول تحريم المسلمات على الكفار ( والرواية الثانية ) ينفسخ النكاح في الحال ، كما قبل الدخول ، اختارها الخلال وصاحبه ، لقوله سبحانه : 19 ( { فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ) والدليل منها من أوجه ( أحدها ) عموم : 19 ( { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ) ( الثاني ) قوله تعالى : 19 ( { وآتوهم ما أنفقوا } ) فأمر برد المهر ولو لم تقع الفرقة باختلاف الدين لما أمر برد المهر ( الثالث ) قوله : 19 ( { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن } ) فأباح سبحانه نكاحهن على الإطلاق ( الرابع ) قوله تعالى : 19 ( { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ) وعلى هذا فما تقدم يكون منسوخاً بهذه الآية الكريمة وأجيب ( عن الأول ) بأن المراد : في حال كفرهن ، بدليل : 19 ( { فلا ترجعوهن إلى الكفار } ) ( وعن الثاني ) بأنه كان يجب دفع المهر إلى الزوج إذا جاء وإن كان قبل انقضاء عدتها ، لانتفاء ردها إليه ، فإن أسلم قبل انقضائها سقط وجوب المهر ، ووجب تسليمها إليه ، ثم نسخ وجوب دفع المهر إليه ( وعن الثالث ) بأنه محمول على ما بعد العدة ، وكذا الجواب ( عن الرابع ) جمعا بين الأدلة ( والرواية الثالثة ) الوقف بإسلام الكتابية ، والانفساخ بغيرها ( والرواية الرابعة ) الوقف ، قال : أحب إلي الوقف عندنا ، وقيل عنه ما يدل ( على خامسة ) وهو الأخذ بظاهر حديث زينب ، وأنها ترد ولو بعد العدة .
وظاهر كلام الخرقي أن الفرقة حيث تقع ، تقع في الحال ، ولا يحتاج إلى حاكم ،
____________________
(2/391)
ولا إلى عرض الزوج على الإسلام ، ونص عليه أحمد والأصحاب ، وظاهر كلامه أيضاً أنه لا فرق في هذا الحكم بين دار الحرب ودار الإسلام ، ونص عليه أحمد والأصحاب .
2548 وقد روي أن أبا سفيان أسلم بمر الظهران ، ثم أسلمت امرأته بمكة ، فأقرهما النبي على نكاحهما والله أعلم .
قال : ولو نكح أكثر من أربع في عقد واحد ، أو في عقود متفرقة ، ثم أصابهن ، ثم أسلم ثم أسلمت كل واحدة منهن في عدتها ، أمسك أربعاً منهن ، وفارق ما سواهن ، سواء كان من أمسك منهن أول من عقد عليهن أو آخرهن .
2549 ش : الأصل في هذا ما روى الحارث بن قيس الأسدي أو قيس ابن الحارث قال : أسلما وعندي ثمان نسوة ، فذكرت ذلك للنبي ، فقال : ( اختر منهن أربعاً ) رواه أبو داود وابن ماجه ، وقد ضعف من قبل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى .
2550 وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية ، فأسلمن معه ، فأمره النبي أن يتخير أربعاً منهن . رواه الترمذي وابن ماجه ، وهذا وإن كان مرسلًا على الصحيح عند الأئمة ، قاله الإمام أحمد والبخاري وغيرهما ، إلا أنه قد عضده الذي قبله ، فصار حجة بالاتفاق ، ولهذا احتج به أحمد في رواي أبي الحارث ، وتأويله بأن ( اختر أربعاً ) بمعنى : اختر أربعاً تعقد عليهن عقداً جديداً ، مردود بأن في الدارقطني ( أمسك منهن أربعاً ) والإمساك إنما هو بالعقد الأول ، كما في قوله سبحانه : 19 ( { أمسك عليك زوجك } ) ثم إن تجديد العقد ليس إليه ، والشارع قد فوض الاختيار إليه ، وحمله على أنه تزوجهن في عقود ، وأنه يختار الأوائل ، بعيد من اللفظ جداً .
2551 ثم في روايات حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا قال : يا رسول الله ما ترى في من أسلم وله عشر نسوة ؟ قال : ( يتخير منهن أربعاً ) وهذا يخرج الحديث عن أن يكون واقعة عين .
وقول الخرقي : نكح أكثر من أربع . بيان صورة المسألة ، إذ لو نكح أربعاً فما دون والحال ما تقدم ثبت نكاحهن ، ( وقوله ) في عقد واحد أو في عقود متفرقة ، يحترز به عن مذهب الحنفية ، إذ عندهم أنهم إن كانوا في عقد واحد انفسخ نكاحهن ، وإن كانوا في عقود صح نكاح الأوائل ، ( وقوله ) ثم أصابهن . لأنه لو لم يصبهن انفسخ نكاحهن في الحال ، لكون إسلامه قبل الدخول ، نعم لو كان إسلامهن معه تخير ،
____________________
(2/392)
والخرقي إنما صور المسألة فيما إذا وقع إسلامهن بعد إسلامه ، ( وقوله ) ثم أسلم ، ثم أسلمت كل واحدة منهن ، يحترز به عما إذا أسلم أربع منهن فما دون ، فإنه لا يخيَّر ( وقوله ) : في عدتهن . يحترز به عما إذا تأخر إسلامهن عن العدة ، فإن نكاحهن ينفسخ كما تقدم ، ولا تخيير ، ( وقوله ) : أمسك أربعاً منهن وفارق سائرهن ، هذا هو الحكم ، وهو واجب عليه إن اختار البقاء على النكاح ، وإن اختار ترك نكاح الجميع فله ذلك ، لكن يكون في أربع بطلاق ، لأنهن زوجات ، وفي الباقيات فسخ ، ( وقوله ) : سواء كان من أمسك منهن أول من عقد عليهن أو آخرهن . هو من تمام الإحتراز عن مذهب الحنفية ، والضمير في نكح ، وفي الأربع ، يرجع إلى الوثني أي ولو نكح الوثني أكثر من أربع وثنيات ، فلا يرد عليه إذ أسلم زوج الكتابيات فإنه يتخير منهن ، ولا يشترط إسلامهن .
( تنبيهات ) أحدها عموم كلام الخرقي يشمل ما إذا كان محرماً ، وقاله أبو محمد ، وقال القاضي : لا يختار والحال هذه ، ويشبه هذا الاتجاع في الإحرام ( الثاني ) لو أسلمت المرأة ولها زوجان أو أكثر ، تزوجاها في عقد واحد ، لم يكن لها أن تختار أحدهما ، ذكره القاضي وغيره محل وفاق ، لأن البضع حصل بينهما مشتركاً ، بخلاف ما تقدم ، فإن الزوج ملك بضع كل واحدة . ( الثالث ) صفة الاختيار والفراق وضابطه أن كل لفظ دل على الاختيار فهو اختيار ، ولك لفظ دل على الفراق فهو فراق ، ومثاله أن يقول لأربع من ثمان مثلًا : أمسكت هؤلاء . أو اخترتهن ، أو رضيتهن ، ونحو ذلك ، أو يقول : تركت هؤلاء الأربع ، أو فسخت نكاحهن ، فيثبت نكاح الأخر ، فإن طلق إحداهن كان اختياراً ، إذ الطلاق لا يكون إلا في زوجته ، وكذلك لو أتى بلفظ الفراق أو السراح ، ناوياً به الطلاق ، وإن أطلق فاحتمالان مبنيان والله أعلم على أنهما هل هما صريحان في الطلاق أو لا ، وكذلك لو وطىء على المذهب لتضمنه الرضى بالموطوءة ، ووقع للقاضي في التعليق في باب الرجعة أنه لا يكون اختياراً ، وإن ظَاهَر أو آلى من إحداهما فوجهان ، أشهرهما : لا يكون اختياراً لصحته في غير زوجته ، والثاني يكون اختياراً ، لأن حكمه لا يترتب إلا في زوجة ، والله أعلم .
قال : ولو أسلم وتحته أختان منهما واحدة .
2552 ش : لما روى ابن فيروز الديلمي عن أبيه رضي الله عنهما قال : قلت : يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان ؟ فقال رسول الله : ( طلق أيتهما شئت ) رواه أحمد وأبو داود ، وابن ماجه والترمذي ، وحسنة ولفظه ( اختر أيتهما شئت ) وصححه البيهقي ، وكذلك الحكم فيمن يحرم الجمع بينهما ، كالمرأة وعمتها ، ونحو ذلك ، وشرط الاختيار أن تكونا كتابيتين أو غيرهما ، ويسلما معه ، أو بعده في العدة إن
____________________
(2/393)
كانت في عدة ، على المذهب ، أما إن لم تكن عدة كقبل الدخول ، فإن نكاحهما ينفسخ ، فإن أسلمت إحداهما دون الأخرى ، فقبل الدخول يثبت نكاح المسلمة ، ويزول نكاح المشركة إن لم تكن كتابية ، فإن كانت كتابية فكذلك على ما أورده ابن حمدان مذهباً : وقيل : يخير ، وهو القياس ، وبعد الدخول كذلك على رواية ، وعلى المشهور يقف الفسخ على انقضاء العدة ، فإن أسلمت الأخرى فيها خير ، وإلا انفسخ نكاحها ، والله أعلم .
قال : ولو كانتا أماً وبنتاً فأسلم وأسلمتا معاً قبل الدخول فسد نكاح الأم ، وإن كان دخل بالأم فسد نكاحهما .
ش : إذا أسلم وتحته اثنتان إحداهما أم الأخرى ، فأسلمتا معاً قبل الدخول بالأم فسد نكاح الأم ، لأنها أم معقود على ابنتها ، فتدخل تحت قوله تعالى : 19 ( { وأمهات نسائكم } ) وأنكحة الكفار صحيحة أو في حكم الصحيحة ، وإن كان قد دخل بالأم فسد نكاحهما ، لأنها إذاً ربيبة مدخول بأمها ، فتدخل تحت قوله تعالى : 19 ( { وربائبكم } ) الآية ، ولو لم يسلم إلا إحداهما فكذلك ، إن كانت المسلمة الأم فسد نكاحهما ، وكذلك إن كانت البنت وقد دخل بأمها ، وإلا ثبت نكاحها ، والله أعلم .
قال : ولو أسلم عبد وتحته زوجتان ، وقد دخل بهما فأسلمتا في العدة ، فهما زوجتاه ، ولو كن أكثر اختار منهن اثنتين .
ش : إذا أسلم عبد وتحته زوجتان مدخول بهما ، فأسلمتا في العدة ثبت نكاحهما ، لأن له والحال هذه ابتداء نكاحهما ، فكذلك استدامته ، وسواء كانتا حرتين أو أمتين أو مختلفتين ، نعم هل للحرة والحال هذه خيار الفسخ ؟ قال القاضي في المجرد ، وابن عقيل : قياس المذهب لا ؛ واختاره أبو محمد ، لأنها رضيت به كذلك ، وجعله القاضي في الجامع كالعيب الحادث ، نظراً بأن الرق ليس بنقص ، وإن كان عيباً ، لكن لا يؤثر في الكفر ، وإنما يؤثر ما ليس بنقص في الكفر في الإسلام ، وإن كن أكثر من اثنتين فأسلمن في العدة لم يكن له أن يختار أكثر من اثنتين ، كابتداء النكاح ، وله أن يختار ولو حرة وأمة على الصحيح .
قال : وإذا تزوجها وهما كتابيان ، فأسلم قبل الدخول أو بعده فهي زوجته .
ش : لأنه والحال هذه يجوز له ابتداء نكاحها ، فكان له استدامه ، مع أن هذا قد حكاه أحمد وابن عبد البر وغيرهما إجماعاً والله أعلم .
قال : وإن كانت هي المسلمة قبله وقبل الدخول انفسخ النكاح ولا مهر لها .
ش : أما الفسخ فلأن المسلمة لا تقر تحت مشرك ، وأما عدم المهر فلأن جاءت من قبلها ، وقد تقدم حكاية رواية أخرى أن لها نصف المهر ، ولو كان إسلامها والحال هذه بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة على المذهب ، فإن أسلم فيها
____________________
(2/394)
وإلا انفسخ النكاح ، ولو أسلما معاً فالنكاح بحاله ، والله أعلم .
قال : وما سمي لها وهما كافران فقبضته ثم أسلمت فليس بها غيره ، وإن كان حراماً ، ولو لم تقبضه وهو حرام فلها عليه مهر مثلها ، أو نصف مهر مثلها حيث أوجب ذلك .
ش : إذا سمي الكافران تسمية فاسدة فقبضتها المرأة فلا شيء لها سواها ، لوقوعها الموقع بالقبض ، بدليل قوله سبحانه : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } ) أمر سبحانه بترك ما بقي دون ما قبض ، وقال تعالى : 19 ( { فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله } ) والحكمة في ذلك والله أعلم أن إبطال ما قبض يشق ، لتطاول الزمان ، وكثرة تصرفهم في الحرام ، ولما في ذلك من التنفير عن الإسلام ، ولذلك لا يجب عليهم قضاء الفرائض ونحوها ، وإن لم تقبضه المرأة فلها عليه مهر مثلها ، أو نصف مهر مثلها حيث أوجب ذلك ، على المذهب عند الأصحاب بلا ريب ، لأن الممضي للتسمية الفاسدة القبض ولم يوجد ، والقاعدة أن التسمية إذا كانت فاسدة وجب مهر المثل إن دخل بها ، أو نصفه إن لم يدخل بها ، وخرج القاضي في تعليقه رواية أخرى في الخمر والخنزير أن لا شيء لها في معينه ، لأنه قد تعذر تسليمه ، وخرج عن كونه مالًا بالإسلام ، ومن أصلنا أن المعين إذا تلف قبل قبضه سقط ، وأن لها في غير المعين قيمته ، لأن أحمد قال في رواية الميموني في عاشر المسلمين : يُقَوِّم الخمر عليهم ، ويأخذ العشر من ثمنها . انتهى ونقل عنه ابن منصور في نصراني تزوج نصرانية على قلة خمر ، ثم أسلما : فإن دخل بها فهو جائز ، وإن لم يدخل بها فلها صداق مثلها ، وظاهر هذا أن قبل الدخول يجب صداق المثل بكل حال ، وإن قبضت المحرم ، قال أبو العباس : وهو قوي ؛ إذ تقابض الكفار إنما يمضي على المشهور إذا وجد عن الطرفين ، وهنا البضع لم يقبض .
وقد تضمن كلام الخرقي أن التسمية الصحيحة تمضي بكل حال ، وهو واضح ، والله أعلم .
قال : ولو تزوجها وهما مسلمان ، فارتدت قبل الدخول انفسخ النكاح ولا مهر لها .
ش : أما فسخ النكاح فلأن المسلم لا يتزوج مرتدة ، فلا يستديم نكاحها ، ولا عدة تنتظر ، وأما عدم المهر فلأن الفرقة جاءت من قبلها .
قال : ولو كان هو المرتد قبلها فكذلك ، إلا أن عليه نصف المهر .
ش : يعني ينفسخ النكاح لما تقدم ، ولظاهر قوله تعالى : 19 ( { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ) ونحوه ، وعليه نصف المهر ، لوجود الفرقة من جهته .
قال : ولو كانت ردتها بعد الدخول فلا نفقة لها .
____________________
(2/395)
ش : لأنه قد امتنع بردتها من الاستمتاع ، فلا يجب لها النفقة كالناشز .
قال : وإن لم تسلم في عدتها انفسخ النكاح .
ش : لا إشكال في ذلك كما تقدم ، أما إن أسلمت في عدتها فمفهوم كلامه ثبوت النكاح ، وهو بناء على مختاره من القول بالوقف ، وعلى الرواية الأخرى لا وقف ، فينفسخ النكاح حين ارتدادها ، وقد تقدم توجيه الروايتين ، والله أعلم .
قال : ول كان هو المرتد بعد الدخول ، فلم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدتها انفسخ النكاح منذ اختلف الدينان .
ش : حكم الرجل في ارتداده بعد الدخول حكم المرأة في فسخ النكاح وعدمه ، أما في النفقة فتجب ، ولهذا سكت عنها الخرقي ، ونفاها فيما إذا كانت هي المرتدة ، لأن التسليم منها موجود ، والامتناع من جهته بارتداده .
( تنبيه ) لم يتعرض الخرقي لما إذا ارتدا معاً ، والحكم أن النكاح ينفسخ إن كان قبل الدخول ، إذ كل حكم يتعلق بردة أحدهما تعلق بردة معه ، أصله استباحة دمه وماله ، ولأن الإنشاء والحال هذه لا يجوز ، فكذلك الاستدامة ، ويقف على انقضاء العدة إن كان بعد الدخول على المشهور من الروايتين ، وهل يجب نصف المهر إن كانت الردة قبل الدخول ؟ فيه وجهان ، إذ الفرقة منهما ، فهو كتلاعنهما ونحوه ، وتجب النفقة مع الوقف ، لأنها كانت واجبة ، ولم تنفرد المرأة بما يسقطها ، والله أعلم .
قال : وإذا زوجه وليته ، على أن يزوجه الآخر وليته ، فلا نكاح بينهما وإن سموا مع ذلك صداقاً .
ش : إذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ، فلا يخلو إما أن يسموا مع ذلك صداقاً أو لا ، فإن لم يسموا مع ذلك صداقاً فلا خلاف عن أحمد نعلمه ، ولا نزاع بين الأصحاب في بطلان النكاح .
2553 لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله نهى عن الشغار ، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ، وليس بينهما صداق . رواه الجماعة ، لكن الترمذي لم يذكر تفسير الشغار ، وأبو داود جعله من كلام نافع ، وهو كذلك في رواية متفق عليها .
2554 وعن ابن عمر أيضاً أن النبي قال : ( لا شغار في الإسلام ) رواه مسلم .
2555 وروي نحوه من حديث عمران بن حصين ، وأنس وجابر بن عبد الله
____________________
(2/396)
رضي الله عنهم وغيرهم ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، والنفي لنفي الحقيقة الشرعية ، ويؤيد ذلك فعل الصحابة .
2556 قال أحمد رحمه الله عن عمر وزيد رضي الله عنهما أنهما فرقا فيه ، وكذلك معاوية أمر بذلك .
وخَرَّج أبو الخطاب في هدايته ، ومن تبعه رواية ببطلان الشرط ، وصحة العقد ، من نصه في رواية الأثرم : إذا تزوجها بشرط الخيار أو إن جاءها بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح ، أن النكاح جائز ، والشرط باطل ، إذ فساد التسمية لا يوجب فساد العقد ، كما لو تزوجها على خمر أو خنزير ، فعلى هذا يجب مهر المثل انتهى .
وإن سموا مع ذلك صداقاً فالمنصوص عن أحمد رحمه الله الصحة ، وعليه عامة الأصحاب ، لما تقدم من حديث ابن عمر إذ هذا التفسير إن كان من الرسول فواضح ، وإن كان من نافع فهو راوي الحديث ، وقد فسره بمالا يخالف ظاهره فيتبع .
2557 وقد روى البيهقي عن أبي الزبير عن جابر قال : نهى رسول الله عن الشغار ، والشغار أن تنكح هذه بهذه بغير صداق ، بضع هذه صداق هذه ، وبضع هذه صداق هذه . وقال الخرقي ، وأبو بكر في الخلاف : لا يصح أيضاً ، وحكاه في الجامع رواية .
2558 لما روى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، أن العباس بن عبد الله ابن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته ، وأنكحه عبد الرحمن ابنته ، وقد كانا جعلا صداقاً ، فكتب معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما إلى مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهما ، وقال في كتابه : هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله . رواه أحمد وأبو داود ، وأجيب بأن أحمد ضعفه من قبل راويه ابن إسحاق ، وبأنه يحمل على أنهما كانا جعلا مهراً قليلًا حيلة .
وحكى أبو البركات قولًا ثالثاً وصححه أنه إن قيل فيه : وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى لم يصح ، للتصريح بالتشريك المقتضي للبطلان ، وإلا صح ، لأن غايته شرط فاسد ، فيفسد ويصح النكاح ، وقد ذكر أن ابن عمر فسر الشغار بأن يقول : وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى . لكن هذا التفسير لا يعرف في الصحاح ولا في السنن .
واعلم أن أبا محمد قال تبعاً للقاضي في الجامع الكبير والمجرد ، ولابن عقيل : إنه متى صرح بالتشريك لا يصح النكاح قولًا واحداً ، فهذه الصورة عندهم مخرجة من محل الخلاف .
( تنبيه ) سمي هذا النكاح نكاح الشغار قيل : لقبحه تشبيهاً برفع الكلب رجله ليبول
____________________
(2/397)
في القبح يقال : شغر الكلب . إذا فعل ذلك ، وهذا قول ابن الأعرابي ، وعن الأصمعي : الشغار الرفع ، كأن كل واحد رفع رجله ، وهذا هو العلة عنده في بطلان الشغار أيضاً ، قال : لا يعقل له علة مستقيمة إلا إشغاره عن المهر ، قال : وهو الذي يدل عليه قول أحمد ، وقدماء أصحابه كالخلال ، وصاحبه ، وقد فسره أحمد بأنه فرج بفرج ، فالفروج كما أنها لا توهب ولا تورث بنص القرآن ، فلأن لا يعاوض بضع ببضع أولى ، وأورد على هذا بأنه إذاً ينبغي أن يصح ويجب مهر المثل ، كما لو سميا فاسداً ، وأجيب إذا رضيا بنكاح لا مهر فيه ، فما قصداه لم يبحه الشارع ، وما أباحه الشارع لم يقصداه ، أما إذا سميا فاسداً فقد قصدا المهر ، وأورد أيضاً تزويج النبي بغير مهر ، وتزويج الرجل ابنته ، والتفويض لا يسمى شغاراً ، وأجيب بأن الشغار فعال ، فيكون من الطرفين ، أي إخلاء بإخلاء ، بضع ببضع ، وهذا منتف في هذه المواضع ، وعلل القاضي البطلان وجماعة من أتباعه بالتشريك في البضع ، إذ المرأة تملك الصداق ، والزوج يملك بضع المرأة ، فكان بضع كل واحدة منهما مشتركاً بين الزوج والمرأة ، ورد بأن هذا ليس هو المقصود قطعاً ، وإنما كل من المرأتين رضيت بأن الزوج يستبيح بضعها بلا مهر لها ، بل يكون لوليها ، وهو بضع الأخرى ، وعلل القاضي أيضاً البطلان وأبو محمد بأنه جعل كل واحد من العقدين سلفاً في الآخر فلم يصح ، كبعتك ثوبي بمائة على أن تبيعني ثوبك بمائة ، وأبو الخطاب جعله من تعليق كل من النكاحين بالآخر ، وتعليق النكاح بالشرط لا يصح ، وعلله القاضي أيضاً وأبو الخطاب بأنه عقد حصل على وجه جعل المستباح فيه مهراً ، فلم يصح ، دليله إذا زوج عبده بحرة ، وجعل رقبته صداقها لأن ما استباحته من الزوج جعل مهراً ، فكذلك هنا ما استباح الزوج من الزوجة جعل مهراً ، وقيل غير ذلك وجميعها مستدرك والله أعلم .
قال : ولا يجوز نكاح المتعة .
ش : نكاح المتعة ، أن يتزوج امرأة إلى مدة ، فإذا انقضت زال النكاح ، سواء كانت المدة معلومة كشهر ونحوه ، أو مجهولة كنزول المطر ونحوه ، وسواء وقع بلفظ النكاح وبولي وشاهدين أم لا ، والمذهب المنصوص المختار للأصحاب بلا ريب بطلانه .
2559 لما روى علي رضي الله عنه أن رسول الله نهى عن نكاح المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، وفي رواية : نهى عن متعة النساء يوم خيبر ، وعن لحوم الحمر الأهلية متفق عليهما .
2560 وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : رخص لنا رسول الله في متعة النساء عام أوطاس ثلاث أيام ، ثم نهى عنها .
____________________
(2/398)
2561 وعن سبرة الجهني رضي الله عنه أنه غزا مع النبي فتح مكة ، قال : فأقمنا بها خمسة عشر ، فأذن لما رسول الله في متعة النساء ، وذكر الحديث إلى أن قال : فلم أخرج حتى حرمها رسول الله ، وفي رواية أن النبي قال : ( يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً ) رواه أحمد ومسلم ، وفي رواية لأحمد وأبي داود عن سبرة أن رسول الله في حجة الوداع نهى عن نكاح المتعة . والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، لا سيما وقد عضده أمره بالتخلية ، والاستدامة أسهل من الإبتداء ، ولأن الأحكام المختصة بالنكاح من الطلاق والظهار واللعان والتوارث وغير ذلك لا تتعلق به ، فدل على أنه ليس بنكاح ، إذ هي لازمة للنكاح الصحيح ، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم ، وسأل ابن منصور الإمام أحمد عن متعة النساء : تقول إنها حرام ؟ فقال : يجتنبها أحب إلي . فأثبت ذلك أبو بكر في الخلاف رواية ، وأبى ذلك القاضي في خلافه ، وكذلك أبو الخطاب ، حاملًا لها على أنه سئل : هل للعامي أن يقلد من يفتي بمتعة النساء ؟ فقال : لا ، يجتنبها أحب إلي . أي الأولى أن لا يقلد ، وكذلك ابن عقيل ، مدعياً أن أحمد رجع عنها ، و أبو العباس يقول : توقف عن لفظ الحرام ، ولم ينفه ، وبالجملة قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى : 19 ( { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } ) .
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ : 19 ( { فما استمتعتم منهن فآتوهن أجورهن إلى أجل مسمى } ) .
2562 وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كنا نغزو مع النبي ليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } ) الآية ، متفق عليه .
2563 وعن جابر رضي الله عنه قال : كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله وأبي بكر ، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث ، رواه مسلم ، وأجيب عن الآية بمنع ثبوت قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ثم نسخ الجميع ، بدليل ما تقدم .
2564 وقد روى ابن عدي ، عن مؤمل بن إسماعيل قال : ثنا عكرمة ابن عمار ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله :
____________________
(2/399)
قال : ( هدم المتعة الطلاق والعدة والميراث ) قال عبد الحق : وعكرمة إنما يضعف حديثه عن يحيى بن أبي كثير .
( تنبيهان ) أحدهما قد تقدم في بعض الأحاديث أن النهي كان يوم خيبر ، وفي بعضها عام الفتح ، وأجيب عن ذلك بأجوبة ( أحدها ) أن في حديث علي تقديماً وتأخيراً ، تقديره : أن النبي نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، ونهى عن متعة النساء ، ولم يذكر زمن النهي .
2565 وقد جاء في بعض طرق الحديث أن رسول الله نهى عن نكاح المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، ذكره قاسم ابن أصبغ وقال : قال سفيان بن عيينة : يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، لا عن نكاح المتعة . ( الثاني ) أن النهي قد وقع عنها يوم خيبر وعام الفتح جميعاً ، فسمعه بعض عام الفتح ، وبعض زمن خيبر ، ورد بأنه أذن عام الفتح ، نعم هذا يجاب به عن النهي عام الفتح ، وعام حجة الوداع ( الثالث ) حمل ذلك على ظاهره ، وأنها كانت مباحة ، ثم نسخت يوم خيبر ، ثم أبيحت ثم حرمت عام الفتح ، قال الشافعي : لا أعلم شيئاً أحله الله ثم حرمه ، ثم أحله ثم حرمه ، إلا المتعة .
( الثاني ) هل يجب الحد فيها ؟ يتلخص للأصحاب فيها وجهان ، والله أعلم .
قال : ولو تزوجها على أن يطلقها في وقت بعينه لم ينعقد النكاح .
ش : لأنه شبيه بالمتعة ، والشبيه بالشيء يعطي حكمه ، بيان الشبه أنه ألزم نفسه فراقها في وقت بعينه ، والمتعة النكاح يزول فيها في وقت بعينه ، قال أحمد في رواية أبي داود إذا تزوجها على أن يحملها إلى خراسان ، ومن رأيه إذا حملها [ إلى خراسان ] خلى سبيلها ، قال : لا ، هذا يشبه المتعة ، حتى يتزوجها ما حييت ، وفي هذا النص إشعار بتعليل آخر ، وهو أن وضع النكاح الدوام ، وهذا الشرط ينافيه ، وأن النية كافية في المنع ، وقال أيضاً في رواية عبد الله : إذا تزوجها ومن نيته أنه يطلقها ، أكرهه ، هذه متعة ، وعلى هذا جمهور الأصحاب ، القاضي في خلافه ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، لما علل به أحمد من أن هذا في معنى المتعة ، وجزم أبو محمد في مغنيه بالصحة ، وقال : إنه لا بأس به ، كما لو نوى إن وافقته وإلا طلقها ، قال أبو العباس : ولم أر أحداً من الأصحاب صرح أنه لا بأس به ، وما قاس عليه لا ريب أنه موجب العقد ، بخلاف ما تقدم ، فإنه ينافيه ، لقصده التأقيت والله أعلم .
قال : وكذلك إذا شرط عليه أن يحلها لزوج كان قبله .
ش : يعني فإذا أحلها طلقها ، وهذا هو نكاح التحليل ، والمذهب المنصوص والمختار بلا نزاع بطلانه .
2566 لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال : لعن رسول الله المحلل
____________________
(2/400)
والمحلل له . رواه أحمد والنسائي ، والترمذي وصححه .
2567 وللخمسة إلا النسائي عن علي مثله .
2568 ولأحمد عن أبي هريرة مثله .
2569 ولابن ماجه عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله : ( ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ ) قالوا : بلى يا رسول الله . قال : ( هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له ) فلعن رسول الله على ذلك ، ولا يلعن على فعل جائز ، فدل ذلك على تحريمه ، وفساده وتسميته محللًا لقصده الحل في موضع لا يحصل فيه الحل .
2569 م كما قال النبي : ( ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ) وقال تعالى : 19 ( { يحلونه عاما ويحرمونه عاما } ) .
2570 وعن قبيصة بن جابر : سمعت عمر يخطب الناس وهو يقول : والله إني لا أوتى بمحلل ولا بمحلل له إلا رجمتهما . رواه الأثرم .
2571 وسئل ابن عباس عن ذلك فقال : من يخدع الله يخدعه .
2572 وعن ابن عمر رضي الله عنهما : لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة ، قال : وإن كنا لنعده على عهد رسول الله سفاحاً .
وخرج القاضي وأبو الخطاب رواية ببطلان الشرط ، وصحة العقد ، من مسألة اشتراط الخيار ، وكذلك ابن عقيل ، لكنه خرجها من الشروط الفاسدة .
فعلى الأولى وهو المذهب بلا ريب لو نوى ذلك الزوج بقلبه ، فهو كما لو شرطه بلسانه ، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب ، لدخوله في عموم : ( لعن الله المحلل والمحلل له ) الحديث .
2573 ويؤيده ما روى ابن شاهين في غرائب السنن ، عن النبي أنه سئل عن نكاح المحلل ، فقال : ( لا نكاح إلا نكاح رغبة ، لا نكاح دلسة ) ونقل حرب عن أحمد : إذا تزوج امرأة وفي نفسه طلاقها ؟ فكرهه ، فأخذ من ذلك الشريف وأبو الخطاب ومن تبعهما رواية بالصحة مع الكراهة ، وهو مقتضى قول شيخهما ، ومنع ذلك أبو العباس ، إذ رواية حرب في من نوى الطلاق ، وذلك إنما يكون في من له رغبة في النكاح والمحلل لا رغبة له في النكاح أصلًا ، ومن هنا قال القاضي وأصحابه كالشريف ، وأبي الخطاب ، الشيرازي وغيرهم : إنه إذا نوى التطليق في وقت بعينه ،
____________________
(2/401)
هو كنية التحليل . ونص أحمد يشهد لهم كما تقدم .
وإطلاق كلام الخرقي يشمل ما إذا شرط التحليل حال العقد أو قبله ، ولم يرجع عنه ، وهذا ينبني على أن الشرط السابق كالمقارن ، إلا أن هنا النية كافية في المنع ، فغايته أنها أكدت بالشرط السابق ، نعم لو شرط قبل العقد ، ثم نوى في العقد نكاح الرغبة ، فأبو محمد يصحح هذا .
2574 ويحمل عليه حديث ذي الرقعتين ، فإنه يروى عنه أنه أحل امرأة لزوجها ، وبلغ ذلك عمر فلم ينكره ، و أبو العباس يقول : إن الشرط المتقدم كالمقارن ، فالشرط والحال هذه لا يلزم معه العقد .
وأما حديث ذي الرقعتين فقال أحمد : ليس له إسناد . و أبو عبيد أجاب بجوابين ( أحدهما ) أنه مرسل ، فأين هو من الذين سمعوه يخذب على المنبر : لا أوتى بمحلل ولا بمحلل له إلا رجمتها ، ( والثاني ) كقول أبي محمد ، والله أعلم .
قال : وإذا عقد المحرم نكاحاً لنفسه أو لغيره ، أو عقد أحد نكاحاً لمحرم ، أو على محرمة فالنكاح فاسد .
ش : لا يصح أن يعقد المحرم نكاحاً لنفسه . بلا نزاع نعلمه عندنا .
2575 لما روى عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : قال روسل الله : ( لا ينكح المحرم ولا ينكح ) وفي رواية ( ولا يخطب ) رواه الجماعة إلا البخاري ( فإن قيل ) :
2576 وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي تزوج ميمونة وهو محرم ، رواه البخاري ، وأبو داود والترمذي ، والنسائي ، وإذاً فيحمل نهيه على الكراهة ، جمعاً بين الدليلين .
2577 قيل : هذا معارض بما روى يزيد بن الأصم ، عن ميمونة رضي الله عنهما ، قالت : تزوجني رسول الله ونحن حلالان بسرف ؛ رواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي .
2578 وعن أبي رافع قال : تزوج رسول الله ميومنة وهو حلال ، وبنى بها وهو حلال ، وكنت أنا الرسول بينهما . رواه أحمد والترمذي وحسنه ، وإذا تعارضت الروايتان طلب الترجيح ، ولا ريب أن من روى أنه تزوجها وهو حلال ، يترجح بأمور
____________________
(2/402)
( أحدها ) بكثرة رواته ، قال أبو عمر النمري : الرواية أن رسول الله تزوج ميمونة وهو حلال ، وعن سليمان بن يسار مولاها ، وعن يويد بن الأصم وهو ابن أختها انتهى ، ولا ريب أن الحمل على الفرد ، أولى من الحمل على الجماعة .
2579 وقد قال أبو داود سعيد بن المسيب : وهم ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال أحمد في رواية أبي الحارث : هذا الحديث خطأ ، يعني حديث ابن عباس ( الثاني ) أن ميمونة هي صاحبة القصة ، وأبا رافع هو الرسول بينهما ، ولا يخفى أنهما أعرف وأخبر بالواقعة من غيرهما ، وقد أشار أحمد إلى وذلك في رواية المروذي ، لا سيما وابن عباس رضي الله عنه صغير ، لا يحضر مثله الوقائع ، فلعله روى عن غيره .
2580 مع أنه قد قيل : إن من مذهب ابن عباس رضي الله عنهما أن من قلد الهدي صار محرماً ، فلعله رأى النبي قلد الهدي ، فاعتقد أنه محرم ( الثالث ) أن رواية ميمونة توافق رواية عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وعمل الصحابة رضي الله عنه ، وعمل الصحابة رضي الله عنهم .
2581 فعن عمر رضي الله عنه أنه فرق في ذلك ، رواه مالك الموطأ .
2582 وعن ابنه رضي الله عنه أنه نهى عن ذلك وقال : إن رسول الله نهى عن ذلك . رواه أحمد ، وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه ( الرابع ) أنه متى تعارض دليلًا الحظر والإباحة كان دليل الحظر مقدماً ، ثم لو قدر التعارض في فعله ، فيسلم نهيه في رواية عثمان وابن عمر رضي الله عنهم ، ثم لو سلم ترجيح رواية ابن عباس رضي الله عنهما فهي فعله ، وذاك قوله ، والقول مقدم على الفعل ، لا سيما وهو قد اختص في النكاح بخصائص لم يشاركه فيها غيره ، فلعل هذا منها ، ثم لو سلم عدم الاختصاص فلعل فعله وارد على مباح الأصل ، ولا يلزم نسخ قوله ، ودعوى أن المراد بالنهي الكراهة مخالف لظاهر النهي ، ولعمل الصحابة ، ويلزم منه أنه يفعل المكروه ، ولا يقال فعله لتبيين الجواز ، لأنا نقول تبيينه بقوله ، ولا يقال : المراد بلا ينكح لا يطأ ، ولا ينكح لا يمكن من الوطء ، لأنا نقول : غالباً استعمال الشرع للعقد ، فيحمل عليه ، مع أن قوله في الحديث ( ولا يخطب ) قرينة على ذلك .
2583 ثم في الدارقطني عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال : ( لا يتزوج المحرم ولا يزوج ) وهذا نص ويؤيده أن الصحابة فهمت ذلك .
2584 ففي الموطأ عن أبي غطفان المري أن أباه طريفاً تزوج امرأة وهو
____________________
(2/403)
محرم ، فرد عمر رضي الله عنه نكاحه .
2585 وعن علي رضي الله عنه أنه قال : من تزوج وهو محرم نزعناها منه ، ولم نجز نكاحه .
2586 وعن مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم ، ففرق زيد رضي الله عنه بينهما ، رواهما أبو بكر النيسابوري . والله أعلم .
وهل له أن ينكح لغيره ، كما إذا كان ولياً أو وكيلًا في النكاح ؟ فيه روايتان ، أشهرهما لا ، لعموم الحديث ( والثانية ) نعم ، اختارها أبو بكر ، كما لو حلق المرحم رأس حلال ونحوه ، وقيل : إن أصل هذه الرواية من قول أحمد : إن زوج المحرم لم أفسخ النكاح . وقيل : هذا لا يثبت به رواية ، لاحتمال أنه منع الفسخ للاختلاف فيه ، ولهذا قال : هو والإمام مالك رضي الله عنهما : لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه . انتهى .
فعلى المذهب إذا أحرم الإمام الأعظم منع من تزويج أقاربه ، وهل يمنع من التزويج بالولاية العامة ؟ فيه احتمالان ، ( المنع ) نظراً للعموم ، فعلى هذا يزوج خلفاؤه ، قاله القاضي ، دفعاً للحرج ، ولأنهم لا ينعزلون بموته على الأشهر ( والجواز ) واختاره ابن عقيل ، لأن ولاية الحكم يجوز فيها ما لا يجوز بولاية النسب ، بدليل الكافرة يزوجها الإمام ، لا وليها المناسب المسلم ، واعلم أن القاضي قال : إنه لا يعرف الرواية عن أصحابنا في هذا الفرع ، إذ إحرامه بالنسبة إلى النكاح كموته ، انتهى ، وإذا عقد أحد سواء كان حلالًا أو محرماً نكاحاً لمحرم ، أو على محرمة ، فالنكاح فاسد ، لأنه يصدق على المحرم أنه نكح وتزوج ، فيدخل في الحديث .
وقد خرج من كلام الخرقي ما إذا وكل المحرم حلالًا ، فلم يعقد له النكاح حتى حل أنه يصح ، ودخل في كلامه ما إذا وكله وهو حلال ، فلم يعقد له حتى أحرم أن النكاح لا يصح ، وهو صحيح ، صرح به أبو محمد ، فالاعتبار بحال العقد وهو المشهور ، والله أعلم .
قال : وأي الزوجين وجد بصاحبه جنوناً أو جذاماً ، أو برصاً أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء ، أو فتقاء ، أو الرجل مجبوباً ، فلمن وجد ذلك منهما بصاحبه الخيار في فسخ النكاح .
ش : أما ثبوت الخيار بالجنون والجذام والبرص لكل من الزوجين .
2587 فلما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أيما امرأة غرّ بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها ، وصداق الرجل على من غره ، رواه مالك في الموطأ والدارقطني ، وفي لفظ للدارقطني قضى عمر في البرصاء ،
____________________
(2/404)
والجذماء ، والمجنونة ، إذا دخل بها فرق بينهما ، ولها الصداق بمسيسه إياها وهوله عليها .
2588 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أربع لا يجري في بيع ولا نكاح ، المجنونة ، والمجذومة ، والبرصاء ، والقلفاء ، رواه الدارقطني .
2589 وفي المسند عن كعب بن زيد أو زيد بن كعب أو رسول الله تزوج امرأة من بني غفار ، فلما دخل عليها ووضع ثوبه ، وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضاً ، فانحاز عن الفراش ، ثم قال : ( خذي عليك ثيابك ) ولم يأخذ مما آتاها شيئاً ، ورواه سعيد في سننه عن زيد بن كعب بن عجرة ، ولم يشك ، ورده لها فسخ للنكاح ، لا يقال : يحتمل أنه أو كنى بالرد عن الطلاق ، لأنا نقول : لم ينقل في الحديث طلاق ، والرد صريح في الفسخ ، فالحمل عليه أولى ، وإذا ثبت هذا في أحد الزوجين ثبت في الآخر ، والمعنى في ذلك أن الجنون تنفر النفس منه ، وتخاف جنايته ، والجذام والبرص يخشى تعديهما إلى الولد وإلى النفس ، ويثيران نفرة تمنع القربان ، وأما ثبوت الخيار للرجل إذا كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء ، فلأن ذلك يمنع معظم المعقود عليه في النكاح ، وهو الاستمتاع فأثبت الخيار كالعنة ، إذ المرأة أحد الزوجين ، فيثبت الخيار بالعيب فيها كالرجل ، وأما ثبوت الخيار للمرأة إذا كان الرجل مجبوباً ، فلأن ذلك يمنع المقصود من النكاح وهو الاستمتاع ، أشبه العنة بل أولى للإياس من زواله ، بخلاف العنة ، ودليل الأصل قول الصحابة رضوان الله عليهم .
وقد دخل في كلام الخرقي ما إذا وجد أحدهما بصاحبه عيباً به مثله ، كأن كان مجذوماً وهي جذماء ونحوه ، وهو أحد الوجهين ، نظراً إلى أن الإنسان يعاف عيب غيره ، ولا يعاف عيب نفسه ( والثاني ) لا يثبت خيار والحال هذه ، لتساويهما ، ويدخل في كلامه أيضاً ما إذا حدث العيب بعد العقد ، وكذا حكاه عنه القاضي ، معتمداً على قوله بعد : فإن جب بعد الدخول فلها الخيار في وقتها ، وهذا اختيار القاضي في تعليقه الجديد ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، لأنه معنى يثبت به الخيار مقارناً ، فيثبت به طارئاً ، كالإعسار بالنفقة وكالرق ، واختار أبو بكر في الخلاف ، وابن حامد ، والقاضي في التعليق القديم ، والمجرد ، وابن البنا أن الخيار لا يثبت والحال هذه ، لأنه عيب حدث بالمعقود عليه بعد لزوم العقد ، فلم يثبت الخيار ، كالحادث بالمبيع المعين بعد البيع ، وفرق بأن النكاح يستوفى شيئاً فشيئاً ، فهو في معنى الإجازة ، بخلاف المبيع .
____________________
(2/405)
وظاهر كلام الخرقي أن الخيار لا يثبت بغير هذه ، فلا يثبت بالبخر في الفم ، ولا في الفرج ، ولا بالقروح السيالة في الفرج ، ولا بالباسور ولا بالناصور ، ولا بالاستحاضة ، ولا باستطلاق البول أو النجو ، ولا بالخصاء ، وهو قطع الخصيتين ، ولا بالوجاء وهو رضهما ، ولا بالسل وهو سلهما ، ولا بكون أحدهما خنثى غير مشكل ، وهو أحد الوجهين في الجميع ، ولا يثبت الخيار بما عدا ذلك كالعمى ، والعرج ، وقطع اليد ، أو الرجل ، وكون المرأة نضوة الخلق يخاف عليها الجناية بالجماع ، وكون الذكر كبيراً والفرج صغيراً ونحو ذلك ، على المذهب بلا ريب ، واختار ابن عقيل ثبوت الخيار بنضو الخلق كالرتق ، واختار ابن حمدان في كبر الذكر وصغر الفرج ثبوت الخيار ، وعن أبي البقاء العكبري ثبوت الخيار بكل عيب يرد به في البيع وهو غريب .
( تنبيهان ) أحدهما ( الجنون ) معروف وهو زوال العقل ، ولا فرق فيه بين المطبق أي الدائم ، والخانق أي الذي يخنق في وقت دون وقت ، فإن زال العقل بمرض فهو إغماء ، لا يثبت به خيار ، فإن دام بعد المرض فهو جنون ، ( والجذام والبرص ) داآن معروفان ، نسأل الله العافية منهما ومن كل داء ، فإن ظهر أمرهما فواضح ، وإن أشكل كأن يتفرق شعر الحاجب ، أو يكون به بياض يحتمل أنه برص أو بهق ، فمع الاتفاق من الزوجين لا كلام ، ومع الإختلاف القول قول المنكر ، نظراً للأصل ، فإن أقام المدعي بما ادعاه شاهدين حكم بذلك ، وخرج قبول واحد كالموضحة ، فإن أقام كل منهما بينة بدعواه تعارضتا ولا فسخ ، ( والجب ) القطع ، والحكم هنا مرتب على قطع الذكر ، أو على قطع بعضه بحيث لا يمكن الجماع بالباقي ( والرتق ) بفتح الراء والتاء مصدر رتقت بكسر التاء ، ترتق رتقاً ، بفتح التاء فيهما التحام الفرج ، قاله الجوهري ( والقرن ) مصدر قرنت المرأة بكسر الراء تقرن قرناً بفتحها فيهما ، إذا كان في فرجها قرن بسكون الراء ، وهو عظم أو غدة تمنع من ولوج الذكر ، ( والعفل ) نتنة تخرج في فرج المرأة وحيا الناقة شبيه بالأدرة التي للرجال في الخصية ، والقاضي في الخلاف جعل هذه الثلاثة لحماً ينبت في الفرج ، وفي المجرد جعل الرتق السد ، والقرن والعفل اللحم ، وتبعه على ذلك أبو الخطاب وابن عقيل ، وأبو حفص فسر العفل برغوة في الفرج كزبد البعير ، وإذاً في ثبوت الخيار به وجهان ( والفتق ) انخراق ما بين السبيلين ، وقيل انخراق ما بين مخرج البول والمني ، وإذاً في ثبوت الخيار به وجهان .
( الثاني ) يفتقر الفسخ في هذه إلى حكم حاكم ، لأنه أمر مختلف فيه ، فاحتاج إلى حاكم ، كالفسخ للإعسار بالنفقة ، وفارق خيار المعتقة ، للاتفاق عليه ، ولا يرد خيار المعتقة بعد ثلاث ، والمعتقة تحت حر ، وخيارات البيع ، فإنها وإن اختلف فيها فإن أصلها متفق عليه ، والمراد بحكم الحاكم أن يحكم بالفسخ ، أو يأذن فيه أو يفسخ ، ولا يختار إلا بطلب من له الفسخ ، وحيث يقع الفسخ كان فسخاً وليس بطلاق ، نص عليه ، والله أعلم .
____________________
(2/406)
قال : وإذا فسخ قبل المسيس فلا مهر .
ش : سواء كان الفاسخ الزوج أو المرأة ، لأنها إن كانت هي الفاسخة فالفرقة من جهتها ، أشبه ما لو أرضعت زوجة له أخرى ، وإن كان هو الفاسخ فهو بسببها ، إذ هو لعيبها ، فإن قيل : فهلا جعل فسخها لعيبه كأنه منه ، لأنه بسببه ؟ قيل : أجاب عنه أبو محمد بأن العوض من الزوج في مقابلة بضعها ، فإذا اختارت الفسخ مع سلامة المعقود عليه رجع العوض إلى العاقد ، وليس من جهتها عوض في مقابلة بضع الزوج ، وإنما يثبت لها الخيار دفعاً للضرر اللاحق بها ، لا لتعذر ما استحقت في مقابلته عوضاً ، والله أعلم .
قال : فإن كان بعده وادعى أنه ما علم وحلف ، كان له أن يفسخ ، وعليه المهر يرجع به على من غره .
ش : شرط ثبوت الخيار فيما تقدم من العيوب أن لا يعلم بها وقت العقد ، ولا بعده ويرضى ، أما إن علم بها وقت العقد ، أو بعده فرضي ، أو وجد منه ما يدل على الرضى فلا خيار له ، لأنه قد دخل على بصيرة ، أو أسقط حقه ، أشبه مشترى المعيب إذا علم بالعيب وقت البيع ، أو بعده فرضي ، فعلى هذا إن تصادقا على عدم العلم بالعيب ، وأنكرته المرأة فالقول قوله ، إذ الأصل عدم العلم ، وعليه اليمين ، لأن ما ادعي عليه محتمل ، ولا فرق في ذلك كله بين قبل الدخول وبعده ، وإن كان كلام الخرقي رحمه الله يوهم خلاف ذلك ، وإذا تقرر هذا وفسخ بعد الدخول كان عليه المهر بما استحل من فرجها .
وظاهر كلام الخرقي أنه المسمى لتعريفه المهر ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار الشيخين وغيرهما ، لظاهر ما تقدم عن عمر رضي الله عنه وعليه اعتمد أحمد ، قال : إذا تزوجها جذماء برصاء مجنونة أو بكراً فخرجت ثيباً ، يقول عمر : يلزمهم المهر الذي أعطاهم ( والرواية الأخرى ) الواجب مهر المثل ، إذ الزوج إنما بذل المسمى مع تمام النكاح ، فإذا فسخ لم يرض ببذل إنما رضيت بالمسمى لرجل سليم ، وإذا فات الرضى رجع إلى مهر المثل ، وبنى القاضي في المجرد ، وابن عقيل في الفصول هاتين الروايتين على الورايتين في النكاح الفاسد ، هل الواجب فيه المسمى أو مهر المثل ؟ لأن الفسخ لمعنى قارن العقد ، فإنه لم ينعقد ، وقيد أبو البركات رواية مهر المثل بما إذا كان الفاسخ الزوج ، لشرط أو عيب قديم ، لأنه إنما رضي بالمسمى في مقابلة عين صحيحة ، أو بشرط وقد فات ذلك ، فيفوت الرضى بالمسمى ، وإذاً يرجع إلى مهر المثل ، أما إن حدث العيب بها بعد العقد فلامسيس قابل صحيحة فيجب ، وكذلك إن كانت هي الفاسخة لعيب فيه ، أو لفوات شرط ، لأن ما بذل فيه المسمى قد وجد فيستقر ، لكن قد يقال : ينبغي أن يجب لها مهر المثل إن كان أزيد ، إذ رضاها منوط بالشرط وبسليم ، وقد يجاب بأن مهر المثل لا يختلف بخلقة الرجل
____________________
(2/407)
وصفاته ، وفيه شيء ، ومن رأينا كلامه من الأصحاب على إطلاق هذه الرواية ، ولهذا جعل ابن حمدان تقييد المجد قولًا .
وفي المذهب ( قول ثالث ) في أصل المسألة في الزوج إذا اطلع على عيب ، أو فاته شرط ، ينسب قدر نقص مهر المثل لأجل العيب أو الشرط ، إلى مهر المثل كاملًا ، فيحط عنه من المسمى بنسبة النقص إلى المهرين ، سواء فسخ أو أمضى ، وهو قياس البيع ، مثاله أن يقال : كم مهر هذه بهذا العيب أو مع هذا الشرط ؟ فيقال : ثمانون مثلًا . وبلا عيب ولا شرط مائة ، فنسبة ما بينهما الخمس ، فيرجع من المسمى بالخمس ، وهذا قول ابن عقيل وأبي بكر ، قالاه فيما إذا شرطها بكراً فبانت ثيباً ، ووافق أبو بكر الأصحاب في أو الواجب المسمى في الفسخ لعيبها ، وإذاً ( هذا قول رابع ) انتهى .
ويرجع الزوج بما غرمه على من غره على المشهور المختار من الروايتين ، لما تقدم عن عمر رضي الله عنه .
2590 ( والرواية الثانية ) لا يرجع بشيء ، اختارها أبو بكر في الخلاف ، وهو قول علي رضي الله عنه ، وذلك لأنه ضمن ما استوفى بدله ، فلم يرجع به على غيره ، كالمبيع المعيب ، إذا أكله ثم علم عيبه ، وقد روي عن أحمد أنه رجع عن هذه الرواية ، قال في رواية ابن الحكم : كنت أذهب إلى قول علي رضي الله عنه ، ثم هبته فملت إلى قول رضي الله عنه ، قال عمر : إذا تزوجها فرأى جذاماً أو برصاً فلها المهر بمسيسه ، ووليها ضامن للصداق
وقول الخرقي يشمل الولي والوكيل والمرأة ، وصرح به غيره فعلى هذا أيهم انفرد بالغرور ضمن ، فلو أنكر الولي علمه بذلك ولا بينة فثلاثة أوجه ، ( أحدها ) القول قوله مع يمينه ، اختاره أبو محمد ، إذ الأصل عدم علمه بذلك ( والثاني ) القول قول الزوج إلا في عيوب الفرج ، إذ الظاهر أن الولي لا يخفى عليه ذلك أما عيوب الفرج فلا اطلاع له عليها ( والثالث ) إن كان مما يخفى عليه أمرها كأباعد العصبات فكالأول ، وإلا فكالثاني ، قاله القاضي و ابن عقيل ، أما الوكيل فينبغي أن يكون القول قوله بلا خلاف .
وشرط تضمين المرأة أن تكون عاقلة ، قاله ابن عقيل ، ليوجد قصد الغرور منها وشرط مع ذلك أبو عبد الله ابن تيمية بلوغها ، ليوجد تغرير محرم ، فعلى هذا حكمها إذا ادعت عدم العلم بعيب نفسها واحتمل ذلك ، حكم الولي على ما تقدم ، ولو وجد الغرور من المرأة والولي فالضمان على الولي ، على مقتضى قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد وغيرهم ، لأنه المباشر ، وقال أبو محمد فيما إذا كان الغرور من المرأة والوكيل الضمان عليهما نصفان ، فيكون في كل من الولي والوكيل قولان ، والله أعلم .
قال : ولا سكنى لها ولا نفقة ، لأن السكنى والنفقة لمن يجب لزوجها عليها الرجعة .
____________________
(2/408)
ش : لا نفقة للمفسوخ نكاحها ، لأنها بائن ، أشبهت البائن بطلاق ثلاث ، وهو قسم من أقسام البائن فلا نفقة لها ولا سكنى لها على المشهور ، هذا إن كانت حائلًا ، فإن كانت حاملًا فلها النفقة عند أبي محمد ، لأنها بائن من نكاح صحيح في حال حملها ، أشبهت المختلعة ، وفي السكنى روايتان ، وقال القاضي و ابن عقيل إن قلنا : إن النفقة للحمل ، وجبت لها ، وإن قلنا لها من أجله لم تجب ، كالمعتدة من نكاح فاسد ، ولعل هذا أوفق لقول الخرقي ، لأنه هنا لم يستثن الحامل ، وثم استثناها ، وأصل ذلك والدليل عليه يأتي إن شاء الله في النفقات ، والله أعلم .
قال : وإذا أعتقت الأمة وزوجها عبد فلها الخيار في فسخ النكاح .
ش : هذا إجماع ، حكاه ابن المنذر وابن عبدالبر وغيرهما .
2591 وقد قالت عائشة رضي الله عنها : كان في بريرة ثلاث سنن ، خيرت على زوجها حين عتقت . مختصر ، متفق عليه .
2592 وعن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة خيرها النبي ، وكان زوجها عبداً . رواه مسلم وأبو داود ، والنسائي .
2593 وعن عروة عن عائشة في قصة بريرة قالت : كان زوجها عبداً ، فخيرها رسول الله ، فاختارت نفسها ، ولو كان حراً لم يخيرها . رواه مسلم ، وأبو داود والترمذي ، والنسائي .
2594 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن زوج بريرة كان عبداً أسود ، يسمى مغيثاً ، فخيرها يعني النبي وأمرها أن تعتد . رواه أبو داود ، والترمذي والنسائي والبخاري مختصراً .
ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا عتقت وزوجها حر فلا خيار لها ، وهو المذهب المنصوص والمختار بلا ريب ، لما تقدم ، إذ الأصل لزوم النكاح إلا حيث قام الدليل على جوازه ، ونقل عن أحمد فيمن زوج أم ولده ثم مات فقد عتقت وتخير ، فأخذ من ذلك أبو الخطاب رواية بثبوت الخيار لمن زوجها حر ، لإطلاق أحمد .
2595 وذلك لما روى الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن زوج بريرة كان حراً حين أعتقت ، وأنها خيرت فقالت : ما أحب أن أكون معه ، وإن كان لي كذا
____________________
(2/409)
وكذا . رواه الجماعة إلا مسلماً ، وتحمل رواية العبدية على أنه كان عبداً ، جمعاً بينهما ، ورجح الأول بأمور ( أحدها ) بأن قوله : كان حراً . هو من قول الأسود ، وقع مدرجاً في الحديث ، كذا جاء مفسراً .
2596 فروى ابن المنذر عن إبراهيم أنه قال : فقال الأسود : وكان زوجها حراً . وقال البخاري : قول الأسود منقطع .
2597 ( الثاني ) أنه قد روي عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها أن زوجها كان عبداً ، فإذاً تتعارض روايتا الأسود ، وتسلم رواية غيره ( الثالث ) لو سلم اتصال رواية الحرية وترجيحها ، فقد عارضها رواية الجم الغفير عن عائشة رضي الله عنها أنه كان عبداً .
2598 فروى القاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، وعمرة بنت عبد الرحمن ، كلهم عن عائشة رضي الله عنها أنه كان عبدا ، والقاسم هو ابن أخي عائشة رضي الله عنها وعروة هو ابن أختها ، وكانا يدخلان عليها بلا حجاب ، وعمرة كانت في حجرها ، ولا ريب أن رواية الجم الغفير الخصيص ، أولى من الفرد البعيد .
2599 قال إبراهيم بن أبي طالب خالف الأسود الناس في زوج بريرة ، فقال : إنه حر ، وقال الناس : إنه عبد .
2600 ويؤيد هذا أن مذهب عائشة أنه لا يثبت الخيار تحت الحر ، ثم لو قدر تساوي روايته لرواية غيره فتتعارض روايتا عائشة رضي الله عنها ، وتسلم رواية ابن عباس رضي الله عنه ، ودعوى أنه كان عبداً مجاز ، والأصل الحقيقة .
2601 مع أنه قد روى الإمام أحمد في المسند عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها بريرة كانت تحت عبد ، فلما أعتقتها قال لها رسول الله : ( اختاري ، فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد ، وإن شئت أن تفارقيه ) قال بعض الحفاظ : وإسناده جيد . وهذا تصريح بعبوديته في الحال .
ومفهوم كلام الخرقي أيضاً أنهما إذا عتقا معاً أنه لا خيار لها أيضاً ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر والشيخين وغيرهما ، وقال القاضي في بعض كتبه : إنها قياس المذهب ، لنص أحمد على أن عتقه قبل اختيارها يسقط خيارها ، فأولى أن لا يثبت لها إذا عتقا معاً وذلك لأن السبب المقتضي للفسخ قارنه ما يقتضي إلغاءه ، وهو حرية الزوج ، فمنع إعماله ( والرواية الثانية ) وهي أنصهما ، وصححها القاضي في الروايتين يثبت لها الخيار ، لأنها كملت بالحرية تحت من لم تسبق له حرية ، فملكت
____________________
(2/410)
الفسخ ، كما لو عتقت قبل الزوج .
2602 وقد روى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها ، أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها زوج ، قال : فسألت النبي ، فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة ، والظاهر أن ذلك حذاراً من ثبوت الخيار لها بعتقهما معاً ، وأجيب بأن الأمر بذلك خشية أن تبدأ بعتق المرأة .
( تنبيه ) ولا يفتقر الفسخ هنا إلى حكم حاكم ، لأنه مجمع عليه ، والله أعلم .
قال : فإن أعتق قبل أن تختار أو وطئها بطل خيارها ، علمت أن لها الخيار أو لم تعلم .
ش : أما بطلان خيارها بعتقه قبل أن تختار فلأن الخيار لدفع الضرر بالرق ، وقد زال فيسقط كالمبيع إذا زال عيبه وكما لو تزوجته وبه جنون ونحوه ، فزال قبل أن تختار ، وقيل : إنه وقع للقاضي وابن عقيل ما يقتضي أنه لا يسقط ، كما لو عتقا معاً ، والأول المذهب المصرح به عند القاضي وغيره ، وعليه لو أعتق بعضه فالخيار بحاله ، كما هو مقتضى كلام الخرقي .
2503 وأما بطلان خيارها بوطئها في الجملة فلما روت عائشة رضي الله عنها أن بريرة رضي الله عنها أعتقت وهي عند مغيث ، عبد لآل أحمد ، فخيرها رسول الله ، وقال لها : ( إن قربك فلا خيار لك ) رواه أبو داود ، ولا فرق في بطلان خيارها بالوطء بين أن تعلم أن لها الخيار أو لم تعلم ، وهو أنص الروايتين ، واختيار الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضي في الجامع والمجرد ، لعموم الحديث ، وابن أبي موسى ، والقاضي في الجامع والمجرد ، لعموم الحديث ، ولأن الجهل بالأحكام لا يعذر به ، إذ يلزمه السؤال والتعلم . ( والرواية الثانية ) : لا يبطل خيارها والحال هذه ، حكاها أبو محمد في المغني عن القاضي وأصحابه ، وفي الكافي عن القاضي وأبي الخطاب ، إذ بطلان الخيار يعتمد الرضى ، ومع عدم العلم بثبوت الخيار لا رضى ، فعلى هذا تقبل دعواها الجهل ، قاله أبو محمد ، إذ لا يعرف ذلك إلا الخواص ، وقيده ابن عقيل بأن يكون مثلها يجهله ، أما المتفقهة فلا تقبل دعواها ، وحكم مباشرته لها حكم وطئها ، وكذلك تقبيلها له ، إذ مناط المسألة ما يدل على الرضى .
( تنبيه ) تقبل دعواها الجهل بالعتق فيما إذا وطئها ، نظراً للأصل وهو عدم العلم ، وإذاً لا رضى ، فالخيار بحاله ، هذا هو المذهب المشهور المختار لعامة الأصحاب ، وعن القاضي في الجامع الكبير : يبطل خيارها ، لعموم الحديث ، فعلى الأول شرط القبول أن يكون مما يخفى عليها ، كأن يكون العتق في غير بلدها ونحو ذلك ، أما إن
____________________
(2/411)
كان في بلدها ولا يخفى عليها لاشتهاره ، أو لكونه في داره ونحو ذلك ، لم يقبل قولها ، لأن قرينة الحال تكذبها ، انتهى ولم يعتبر الأصحاب العلم بأن الوطء مبطل ، فلو علمت العتق وعلمت ثبوت الخيار به ، ومكنت جاهلة بحكم الوطء ، بطل خيارها والله أعلم .
قال : وإن كانت لنفسين فأعتق أحدهما فلا خيار لها إذا كان المعتق معسراً .
ش : إذا كانت الأمة لنفسين ، فأعتق أحدهما نصيبه وهو معسر ، فلا خيار لها ، على المختار من الروايتين ، اختارها ابن أبي موسى والقاضي وأبو محمد وغيرهم ، لأنه لا نص فيها ، ولا يصح قياسها على المنصوص ، لأن كاملة الحرية أكمل من ناقصتها ، وعلله أحمد بأن النكاح صحيح ، فلا يفسخ بالمختلف ، ( والرواية الثانية ) لها الخيار ، اختارها أبو بكر في الخلاف ، لأنها قد صارت أكمل منه ، فيثبت لها الخيار ، كما لو عتق جميعها ، وقوله : إذا كان معسراً . يحترز عما إذا كان موسراً ، فإن العتق يسري ، ويثبت لها الخيار بلا ريب ، وقد علم من هذا أن هذا الخلاف على قولنا بعدم الاستسعاء ، أما إن قلنا به ، وأن العتق يتنجز فيثبت لها الخيار ، والله أعلم .
قال : وإن اختارت المقام معه قبل الدخول أو بعده فالمهر للسيد .
ش : أما قبل الدخول فلأنه قد وجب للسيد بالعقد ، ولم يوجد له مسقط ، وكذلك بعد الدخول بل أولى ، لاستقراره بذلك ، والله أعلم .
قال : وإن اختارت الفسخ قبل الدخول فلا مهر .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد وغيره ، نظراً إلى أن الفرقة جاءت من جهتها ، أشبه ما لو ارتدت ( والثانية ) : يجب لسيدها نصف المهر ، اختارها أبو بكر ، نظراً إلى أن المهر وجب للسيد ، فلا يسقط بفعل غيره ، وأجاب أبو محمد بأنه وإن وجب له لكن بواسطتها ، ويرد بالأمة الزانية على المذهب ، وقيل عنه : يجب كله . وبعد ، انتهى ، فلو كانت مفوضة فلا متعة على الأول ، وعلى الثاني تجب للسيد ، والله أعلم .
قال : وإن اختارته بعد الدخول فالمهر للسيد .
ش : إذا اختارت الفسخ بعد الدخول فالمهر للسيد ، لما تقدم من استقرار المهر بالدخول ، والله أعلم .
( باب أجل العنين والخصي غير المجبوب )
ش : العنين العاجز عند الوطء ، وربما اشتهاه ولا يمكنه ، مشتق من عن الشيء ، إذا عرض ، وقيل : الذي له ذكر لا ينتشر ، والخصي من قطعت خصيتاه ، وفي معناه الموجوء ، وهو المرضوض والمسلول وهو الذي سلت بيضتاه ، أما المجبوب فهو الذي
____________________
(2/412)
قطع ذكره ، وقد تقدم حكمه .
قال : وإذا ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها أجل سنة منذ ترافعه إلى الحاكم فإن لم يصبها فيها خيرت في المقام معه أو فراقه ، فإن اختارت فراقه كان ذلك فسخاً بلا طلاق .
ش : إذا ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إلى جماعها ، فإن اعترف الزوج بذلك أجل سنة على المذهب المنصوص ، والمختار لعامة الأصحاب .
2604 لما روي عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه أنه أجل العنين سنة .
2605 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : يؤجل سنة ، فإن أتاها وإلا فرق بينهما . رواهما الدارقطني .
2606 وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه : العنين يؤجل سنة ، ولأن عجزه عن الوصول إليها يحتمل أن يكون لمرض ، فيضرب له سنة ، لتمر عليه الفصول الأربعة ، فإن كان من يبس زال في زمن الرطوبة ، وإن كان من رطوبة زال في زمن الحرارة ، وإن كان من انحراف مزاج زال في زمن الاعتدال ، فإذا مضت الفصول ولم يزل علم أنه خلقة وجبلة ، واختار أبو بكر البركات أنه لا يؤجل ، ويفسخ في الحال ، كالجب ، ولأن المقتضي للفسخ قد وجد ، وزواله محتمل ، والأصل والظاهر عدمه ، وإن لم يعترف الزوج بذلك ، ولم يدع وطأ فهل القول قوله ، قاله أبو الخطاب في الهداية ، والقاضي في الت ، عليق وفي غيره ، لأنه منكر ، لا سيما وقد عضده أن الأصل السلامة ، أو القول قولها ، فيؤجل بمجرد دعواها ، وهو ظاهر قول الخرقي ، ووقع للقاضي في التعليق في موضع آخر لأن الأصل عدم الوطء أو القول قوله إن كانت ثيباً ، وإن كانت بكراً أجل بقولها ، وهو الذي جزم به في المغني ، لاعتضاد عدم الوطء بالبكارة ، على ثلاثة أقوال ، وعلى الأول يحلف على الصحيح من الوجهين ، فإن نكل قضي عليه وأجل ، وقيل : لا يحلف كمدعي الطلاق انتهى .
وحيث أجل فإن ابتداء التأجيل من حين رفعته إلى الحاكم ، لأنها مدة مختلف فيها ، فاحتيج في ضربها إلى الحاكم ، بخلاف مدة الإيلاء ، ثم إن أصابها في المدة المضروبة فقد تبينا أن لا عنة ، وإن لم يصبها فيها خيرت بين المقام معه وبين فراقه ، لقضاء الصحابة رضي الله عنهم بذلك ، وكما لو امتنع الوطء من جهتها برتق ونحوه ، لا يقال : الوطء حق للرجل دون المرأة ، لأنا نقول : بل هو حق لهما ، بدليل : 19 ( { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } )9 ( { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } )
____________________
(2/413)
ومن الإمساك بالمعروف الجماع .
2607 ولا يرد حديث امرأة رفاعة رضي الله عنه حيث أخبرت النبي بعنة زوجها ، ولم يجعل لها الفسخ ، لأن ابن عبد البر قال : صح أن ذلك كان بعد طلاقه ، فلا معنى لثبوت الفسخ لها على أنا لا نسلم عنته ، بل كان ضعيف الجماع ، ولهذا قال النبي ت : ( حتى تذوقي عسيلته ) ، وذوق الفراق رجع إلى الحاكم ، للاختلاف فيه ، فإما أن يفسخ باختيارها ، وإما أن يرده إليها ، فتفسخ ، ويقع الفراق فسخاً لا طلاقاً .
وقول الخرقي : والخصي . ظاهره أن حكمه حكم العنين ، وكذا ترجم القاضي في الجامع ، فيجري فيه ما تقدم ، قال أبو محمد : وقد قيل : إن وطأه أكثر من وطء غيره ، وقوله : غير المجبوب . مقتضاه أن المجبوب لا يثبت فيه هذا الحكم ، وقد تقدم له أن المجبوب يثبت لامرأته الفسخ في الحال ، لكن قال أبو محمد في المغني : إذا بقي من ذكر المجبوب ما يمكن الوطء به ، الأولى ضرب المدة ، وبعده أبو العباس ، بأنه لا يتجدد له قدرة لم تكن ، بخلاف العنين ، والله أعلم .
قال : فإن قال : قد علمت أني عنين قبل أن أنكحها . فإن أقرت أو ثبت ما قال ببينة ، فلا يؤجل ، وهي امرأته .
ش : إذا ادعت المرأة عنة الرجل ، فادعى أنها علمت ذلك قبل أن ينكحها ، فإن أنكرت فالقول قولها مع يمينها ، إذ الأصل عدم علمها ، ويؤجل ، وإن أقرت بذلك ، أو أنكرت فأقام بينة بما ادعاه ، فلا يؤجل ، وهي امرأته ، لا سبيل لها إلى فسخ العقد بحال ، لأنها دخلت على بصيرة ، أشبه ما لو علمته مجبوباً ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : وإن علمت أنه عنين بعد الدخول ، فسكتت عن المطالبة ، ثم طالبت بعد ، فلها ذلك ، ويؤجل سنة من يوم ترافعه .
ش : لأن نفس السكوت لا يدل على الرضى ، وقد أخذ من هذا القاضي ، وأبو محمد أن الخيار في العيوب على التراخي ، وهو اختيار القاضي في الجامع ، وأبي الخطاب في الهداية ، والشيخين وغيرهم ، لأنه لدفع ضرر متحقق ، فكان على التراخي ، كخيار القصاص ، وحد القذف ، وعكسه خيار الشفعة والمجبرة ، فإن ضرره غير متحقق ، وقال القاضي في المجرد ، وابن عقيل ، وابن البنا في الخصال : إنه على الفور ، لأنه لدفع ضرر ، أشبه خيار الشفعة ، قال ابن عقيل : ومعناه أن المطالبة بحق الفسخ تكون على الفور ، فمتى أخر ما لم تجر العادة به بطل ، لأن الفسخ على الفور ، وعلى الأول لا يسقط الخيار إلا بما يدل على الرضى من قول ، أو استمتاع أو تمكين
____________________
(2/414)
منه ، ونحو ذلك ، ولا يعتبر التصريح بالرضا ، لأن الدال على الشيء قائم مقامه ، ومنزل منزلته ، واستثنى من ذلك أبو البركات خيار العنة ، لا يسقط إلا بالقول ، لا يسقط بالتمكين من الاستمتاع ونحوه ، إذ عنته إنما تعلم بعجزه عن الوطء ، وذلك لا بد فيه من التمكين من الوطء ، وقال أبو العباس : إنه لم يجد هذه التفرقة لغيره ، وجعل أنه متى أمكنته في حال لها الفسخ سقط خيارها ، وحيث لم يثبت لها الفسخ ، وإن ثبت العيب لا عبرة بتمكينها ، ولا فرق في ذلك بين العنة وغيرها ، والله أعلم .
قال : فإن قالت في وقت من الأوقات : قد رضيت به عنيناً . لم تكن لها المطالبة بعد .
ش : إذا قالت المرأة في وقت من الأوقات قبل العقد أو بعده ، وقبل التأجيل أو بعده ، وقبل مضي الأجل أو بعد مضيه : قد رضيت به عنيناً ، سقط خيارها ، ولم يكن لها المطالبة بعد ، وذلك لأنها صرحت برضاها به معيباً ، أشبه ما لو رضيت به مجبوباً ونحوه ، ومن هنا والله أعلم أخذ أبو البركات أن خيار العنة لا يسقط إلا بالقول ، والله أعلم .
قال : وإن اعترفت أنه قد وصل إليها مرة ، بطل أن يكون عنيناً .
ش : كذا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وغيره ، ولا نزاع في ذلك ، إذا كان الوصول في الفرج في هذا النكاح ، لتحقق قدرته على الوطء ، أما لو كان الوصول في الدبر ، أو في نكاح سابق ، فوجهان ( أحدهما ) يزول ، ويحتمله إطلاق الخرقي ، وهو مقتضى قول أبي بكر ، لقوله : إن العنين يختبر بتزويج امرأة من بيت المال ، وذلك لأن العنة خلقة وجبلة ، فلا تختلف باختلاف الأوقات والمحال ( والثاني ) وهو اختيار القاضي ، وأبي الخطاب وأبي محمد وغيرهم ، لا يزول ، إذ الفسخ ثبت لها دفعاً للضرر الحاصل لها بعدم وطئها في هذا النكاح في محل الوطء ، فلا يزول بغير ذلك ، لبقاء الضرر ، ولعل هذين الوجيهن مبنيان على تصور طريان العنة ، وقد وقع للقاضي وابن عقيل أنها لا تطرأ ، وكلامهما هنا يدل على طريانها ، وقال ابن حمدان : إنه الأصح .
وعموم كلام الخرقي يقتضي أن عنته تزول بالوصول إليها ، وإن كان محرماً ، كما إذا وطئها ، وهي حائض أو نفساء ونحو ذلك ، وهو الصحيح من الوجيهن ، لتحقق قدرته على الوطء ، والوجه الآخر : لا تزول ، كما لا تحصل به الإباحة للزوج الأول ، ولو كان التحريم لأمر خارجي عن المحل ، كما لو وطئها وهو في المسجد ، أو وهو مانع لصداقها زالت به العنة قولًا واحداً ذكره القاضي ، وعكسه لو وطئها في حال الردة ، لا تزول به العنة ، ذكره القاضي في الجامع محل وفاق مع الشافعية .
( تنبيه ) والوطء الذي يخرج به من العنة في حق سليم الذكر غيبوبة الحشفة في الفرج ، كسائر أحكام الوطء ، وقيل يشترط إيلاج جميعه ، إذ الحشفة قد تدخل
____________________
(2/415)
بمعالجة ، فلا يعلم دخولها باعتماء من الذكر ، وفي حق مقطوع الذكر بقدر الحشفة ، كما لو كان سليماً ، وقيل لا بد هنا من تغييب الباقي ، قاله القاضي في الجامع ، إذ لا حد هنا يعتبر ، والله أعلم .
قال : وإن جب قبل الحلول كان لها الخيار في وقتها .
ش : يعني إذا أجلناه فجب ذكره قبل الحلول ، فلها الخيار في الحال ، لأنه قد تحقق عجزه عن الوطء والحال هذه ، فلا حاجة إلى انتظار الحول ، وقد تقدم أن القاضي وغيره أخذوا من هذا ثبوت الخيار بالعيب الحادث ، قال أبو محمد : ويحتمل أن ثبوت الفسخ هنا بالجب الحادث لتضمنه مقصود العنة في العجز عن الوطء ، بخلاف غيره من العيوب ، والله أعلم .
قال : وإن زعم أنه قد وصل إليها ، وقالت : أنا عذراء أريت النساء الثقات ، فإن شهدت بما قالت أجل سنة .
ش : يعني إذا أنكر العنة ، وادعى أنه وصل إليها ، وقالت : أنا عذراء . فإنها ترى النساء ، فإن شهدن بما قالت فالقول قولها ، فيؤجل ، لأنه قد ظهر كذب دعواه ، وهل تجب عليها اليمين إن قال : أزلت بكارتها ثم عادت ؟ فيه احتمالان ، ( أحدهما ) وبه قطع القاضي ، وأبو الخطاب في الهداية ، وأبو البركات وغيرهم تجب ، لأن ما ادعاه محتمل ، ( والثاني ) ويحتمله كلام الخرقي ، و ابن أبي موسى : لا تجب ، لأن شهدت بزوال عذرتها فالقول قول الزوج ، لتبين كذبها ، فلا يؤجل ، ولا يمين ، حذاراً من مخالفة الأصل ، وهو وجوب اليمين مع البينة إلا أن قالت : زالت بغير ما ادعاه .
وقول الخرقي : أريت النساء . المراد به الجنس ، إذ يكتفى بامرأة في رواية مشهورة ، وفي أخرى بامرأتين ، والله أعلم .
قال : وإن كانت ثيباً وادعى أنه يصل إليها ، أخلي معها ، وقيل له : أخرج ماءك على شيء . فإن ادعت أنه ليس بمني ، جعل على النار ، فإن ذاب فهو مني ، وبطل قولها ، وقد روي عن أبي عبد الله قول آخر أن القول قوله مع يمينه .
ش : ( الأول ) رواه مهنا ، وأبو داود ، وأبو الحرث وغيرهم ، واختاره القاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافاتهم ، والشيرازي ، إذ بذلك يظهر صدقه أو صدقها ، إذ الغالب أن العنين لا ينزل ، فمع الإنزال يغلب على الظن كذبها ، فيكون القول قوله ، ومع عدم الإنزال يظهر صدقها ، فيكون القول قولها ، وما الإنزال إذا أنكرت أنه مني يختبر بجعله على النار ، فإن ذاب فهو مني ، إذ ذلك من علاماته ، وإن يبس وتجمع فهو بياض بيض ( والثاني ) نقله ابن منصور ، واختاره أبو محمد ، والقاضي في روايتيه ، لأنها تدعي عليه ما يقتضي فسخ العقد ، والأصل عدمه ، وبقاء النكاح ، وتجب عليه
____________________
(2/416)
اليمين على الصحيح .
2608 لعموم قوله : ( ولكن اليمين على المدعي عليه ) قال القاضي : ويتخرج أن لا يمين ، بناء على إنكار الطلاق ( وعنه رواية ثالثة ) نقلها ابن منصور أيضاً : القول قولها ، إذ الأصل عدم الوطء ، وتجب عليها اليمين على الصحيح أيضاً ، لما تقدم ، وقيل : لا ، بناء على أن لا استحلاف في غير المال .
واعلم أن هذه الرواية الأخيرة خصها أبو البركات بما إذا ادعى الوطء بعد ما ثبتت عنته وأجل ، لأنه انضم إلى عدم الوطء وجود ما يقتضي الفسخ ، وجعل على هذه الرواية إذا ادعى الوطء ابتداء ، وأنكر العنة القول قوله مع يمينه ، وأطلقها جمهور الأصحاب ، ولفظها يشهد لهم ، قال : إذا ادعت المرأة أن زوجها لا يصل إليها استحلفت انتهى ، وقال أبو بكر في التنبيه : يزوج امرأة من بيت المال ، قال القاضي : لها دين ، وقال أبو محمد : لها حظ من الجمال : فإن ذكرت أنه قربها كذبت الأولى ، وخيرت الثانية في الإقامة والفراق ، ويكون الصداق من بيت المال ، وإن كذبته فرق بينه وبين الأولى ، وكان الصداق عليه في ماله .
2608 واعتمد في ذلك على ما روي أن امرأة جاءت إلى سمرة فشكت أنه لا يصل إليها زوجها ، فكتب إلى معوية رضي الله عنه ، فكتب إليه أن زوجه امرأة ذات جمال ، يذكر عنها الصلاح ، وسق إليها المهر من بيت المال ، فإن أصابها فقد كذبت ، وإن لم يصبها فقد صدقت ، ففعل سمرة ذلك ، فجاءت المرأة فقالت : ليس عنده شيء . ففرق بينهما ، والله أعلم .
قال : وإذا قال الخنثى المشكل : أنا رجل . لم يمنع من نكاح النساء ، ولم يكن له أن ينكح بغير ذلك بعد ، وكذلك لو سبق فقال : أنا امرأة لم ينكح إلا رجلًا .
ش : يرجع إلى الخنثى المشكل في التزويج ، فإذا قال : أنا رجل . كان له نكاح النساء ، وإن قال : أنا امرأة ، كان له نكاح الرجال ، على قول النساء ، وإن قال : أنا امرأة ، كان له نكاح الرجال ، على قول الخرقي ، واختاره القاضي في الروايتين ، لأن الله سبحانه أجرى العادة في الحيوانات بميل الذكر إلى الأنثى ، وميلها إليه ، وهذا الميل في النفس لا يطلع عليه غيره ، فرجع فيه إليه ، لتعذر معرفته من غيره ، كما يرجع إلى المرأة في حيضها وعدتها ، ومنصوص أحمد في رواية الميموني أنه لا يزوج ولا يتزوج حتى يتبين أمره ، واختاره أبو بكر ، وابن عقيل ، لأنه مشكوك في حله للرجال والنساء ، فلم يحل نكاحه حتى يتبين أمره ، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية ، ولا تفريع على هذا أما على قول الخرقي فلو رجع عن قوله الأول ، بأن قال : أنا رجل ، ثم قال : أنا امرأة ، أو بالعكس ، فلا يخلو إما أن يكون متزوجاً أو غير
____________________
(2/417)
متزوج ، فإن كان غير متزوج منع من نكاح الرجال والنساء ، على ظاهر كلام أبي محمد في الكافي ، واختاره أبو البركات ، لأنه بإقراره مثلًا أنه رجل أقر بتحريم الرجال عليه ، ثم بقوله ثانياً : إنه امرأة أقر بتحريم النساء عليه .
وظاهر كلام الخرقي والأصحاب أن له نكاح ما أبيح له أولًا ، ولا يعول على قوله بعد ، وإن كان متزوجاً انفسخ نكاحه من المرأة ، لأن النكاح حق للرجل ، وقد أقر بما يبطله ، أشبه ما لو قال : هي أختي من الرضاع ولا ينفسخ نكاحه من الرجل ، لأن النكاح والحال هذه حق عليه ، فلا يقبل قوله في إسقاط حق الغير ، قال ذلك الشيخان ، وقال القاضي : إذا تزوج امرأة ثم عاد ، أو بالعكس لم يقبل ، ويجري الحكم في النكاح على القول الأول ، وعلله بأنه يتهم في رفع فراش الرجل إذا عاد فقال : أنا رجل ، ويتهم في قصد فسخ النكاح ، ليسقط عنه مهر المرأة إذا عاد فقال : أنا امرأة . وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب ، وابن عقيل انتهى ، وفي نكاحه لما يستقبل ما تقدم من قول الأصحاب ، وقول أبي البركات والله أعلم .
قال : وإذا أصاب الرجل ، أو أصيبت المرأة بعد الحرية والبلوغ بنكاح صحيح ، وليس واحد منهما بزائل العقل ، رجما إذا زنيا .
ش : ذكر الخرقي رحمه الله هنا ما يحصل به الاحصان الذي يجب به الرجم بالزنا ، وهو الإصابة ، كأن يطأ الرجل المرأة في القبل ، أو توطأ المرأة كذلك .
2609 لقول النبي : ( الثيب بالثيب الجلد والرجم ) والثيابة إنما تحصل بالوطء في القبل ، ويشترط في هذه الإصابة شروط ( أحدها ) أن تغيب الحشفة أو قدرها ، إذ الأحكام إنما تترتب على ذلك ، ولا تكفي الخلوة بلا خلاف ، قاله أبو محمد ( الثاني ) أن يكون بعد الحرية والعقل ، لأن الاحصان كمال ، فيشترط أن يكون في حال الكمال ، ولأن النبي جعل على الثيب الرجم ، فلو حصل الاحصان بذلك لجاز رجم العبد والمجنون ، ولا يجوز ( الثالث ) أن يكون بعد البلوغ على الصحيح المعروف لما تقدم ، وعن ابن أبي موسى : يتحصن البالغ بوطء المراهقة ، وتتحصن البالغة بوطء المراهق ، لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه ( الرابع ) أن يكون بنكاح ، فلا إحصن لواطئ بشبهة ، أو ملك يمين ونحو ذلك إجماعاً ، إذ النعمة إنما تكمل بالوطء بذلك ، ويشترط في النكاح أن يكون صحيحاً ، إذ الفاسد ليس بنكاح شرعي .
( تنبيه ) يشترط أن تكون الموطوءة مثل الواطء في الكمال ، فيطأ الحر المكلف حرة مكلفة فلو وطء الحر المكلف بنكاح صحيح رقيقة أو مجنونة فلا إحصان لهما ، والله أعلم .
قال : والكافر والمسلم الحران فيما وصفت سواء .
____________________
(2/418)
ش : يعني أنه لا يشترط للإحصان الإسلام ، بل يحصل الإحصان للذميين ، كما يحصل للمسلمين ، بالشروط السابقة .
2610 لأن النبي رجم اليهوديين اللذين زنيا ، اقتداء بقول الله تعالى : 19 ( { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } ) فدل على أٌّ هما قد أحصنا ، فتحصن الذمية زوجها المسلم ، كما تحصن الذمي ، على المذهب المشهور لما تقدم ، ( وعنه ) لا تحصنه ، لأنها أنقص منه ، فأشبهت الرقيقة .
( تنبيه ) كثير من الأصحاب يفرض المسألة في الذمي ، ويعضهم زاد معه المستأمن ، وهو واضح ، لأن له ذمة ، وكلام الخرقي يشمل كل كافر ، وتبعه على ذلك أبو البركات ، ولعله أمشى على قولهم أن حكم نكاح الكفار حكم نكاح المسلمين ، وقال ابن حمدان : والمجوسي لا يتحصن بوطء ذات رحمه المحرم . والله أعلم .
____________________
(2/419)
( كتاب الصداق )
ش : الصداق العوض الواجب في عقد النكاح أو ما قام مقامه ، فالواجب يشمل المسمى ومهر المثل ، إن لم يكن مسمى ، وما قام مقام النكاح ، ليدخل وطء الشبهة ، وله ثمانية أسماء ( الصداق ) ، ( والنحلة ) ، قال الله تعالى : 19 ( { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } ) ( والأجر ) ( والفريضة ) ، قال الله سبحانه : 19 ( { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة } ) .
261( والمهر ) قال : ( فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ) .
261( والعلائق ) يروى عن النبي أنه قال : ( أدوا العلائق ؟ ) قالوا : يا رسول الله وما العلائق ؟ قال : ( ما يرضى به الأهلون ) ( والعقر ) بضم العين ، وسكون القاف .
2613 قال عمر رضي الله عنه : لها عقر نسائها . ( والحباء ) ممدوداً بكسر الحاء ، قال الشاعر :
أنكحها فقدها الأراقم في
جنب وكان الحباء من أدم
والأصل في مشروعيته الإجماع ، وقد دل عليه ما تقدم من الآيتين ، وقوله تعالى : 19 ( { وأحل لكم ما وراء ذلكم ، أن تبتغوا بأموالكم } ) الآية .
2614 وعن أنس رضي الله عنه أن النبي رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع من زعفران ، فقال : ( مهيم ؟ ) فقال : يا رسول الله تزوجت امرأة ، قال : ( ما أصدقتها ؟ ) قال : وزن نواة من ذهب . رواه الجماعة .
( تنبيه ) ( ردع ) فتح الراء ، وسكون الدال المهملتين ، أي لطخ وأثر لم يعمه كله ، وروي : درع ( ومهيم ) بفتح الميم كلمة يمانية ، أي ما هذا وما شأنك ؟ ( ووزن نواة ) اسم لما زنته خمسة دراهم ، ذهباً كان أو فضة ، كالأوقية للأربعين على الأشهر ، وقيل : كانت
____________________
(2/420)
قدر نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم ونصف ، وقيل ثلاثة دراهم وربع ، وقيل : ربع دينار . والله أعلم .
قال : وإذا كانت المرأة بالغة رشيدة أو صغيرة عقد عليها أبوها بأي صداق اتفقوا عليه فهو جائز ، إذا كان شيئاً له نضف يحصل .
ش : وضع هذه المسألة أن الصداق يجوز بما اتفقوا عليه من قليل أو كثير ، ولا يتقدر أقله بعشرة دراهم ولا غيرها ، ولا أكثره ، ( أما الأول ) فلما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه ، ولظاهر قوله تعالى : 19 ( { أن تبتغوا بأموالكم } ) والدرهم والدرهمان مال ، فيدخل في الآية الكريمة .
2615 وعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين ، فقال رسول الله : ( أرضيت من نفسك بنعلين ؟ ) قالت : نعم . فأجازه رسول الله ، رواه أحمد وابن ماجه ، والترمذي وصححه .
2616 وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي قال : ( من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل ) رواه أبو داود وغيره .
2617 وقال النبي للذي أراد أن يتزوج الموهوبة : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) ومعلوم أن الخاتم الحديد لا يساوي عشرة دراهم ، وحمله على خاتم من حديد صينين يساويها ، حمل للفظ على معناه النادر دون المعتاد ، لا سيما والتنكير في مثل هذا المقام للتقليل ، لكن الخرقي رحمه الله يشترط أن يكون له نصف يحصل ، فلا يجوز على فلس ونحوه ، حذاراً من أن يبتغي بغير مال ، كما إذا طلقها قبل الدخول ، وتبعه على ذلك ابن عقيل في الفصول ، وأبو محمد ، وفسره بنصف يتمول عادة ، وليس في كلام أحمد هذا الشرط ، وكذا كثير من أصحابه ، حتى بالغ ابن عقيل في ضمن كلام له ، فجوز الصداق بالحبة والتمرة التي ينتبذ مثلها ولا يعرف .
وأما ( الثاني ) فلظاهر قول الله تعالى : 19 ( { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ، وآتيتم إحداهن قنطاراً } ) الآية .
2618 قال أبو صالح : القنطار مائة رطل ، وهو عرف الناس اليوم .
2619 وقال أبو سعيد الخدري : ملء مسك ثور ذهباً .
2620 وعن مجاهد : سبعون ألف مثقال .
2621 وعن عمر رضي الله عنه أنه أصدق أم كلثوم ابنة علي أربعين ألفاً ، رواه أبو حفص ، مع أن هذا إجماع حكاه ابن عبد البر وغيره ، لكن الأولى تقليل المهر وتخفيفه .
____________________
(2/421)
2622 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة ) رواه أحمد .
2623 وعن أبي العجفاء ، قال : لا تغالوا بصدق النساء ، فإنه لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، كان أولاكم بها النبي ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية . رواه الخمسة ، وصححه الترمذي . وكماله عشرة دراهم ، على ظاهر كلام القاضي أبي يعلى الصغير ، خروجاً من الخلاف ، واتفق الكل على أن المستحب أن لا يزيد على صداق أزواج النبي وبناته ، تأسياً به ، وطلباً لبركته والاقتداء به ، وهو من أربع مائة درهم إلى خمس مائة ، لما تقدم عن عمر .
2624 وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : سألت عائشة رضي الله عنها زوج النبي : كم كان صداق رسول الله ؟ قالت : كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشاً ، قالت : أتدري ما النش ؟ قلت : لا . قالت : نصف أوقية ، فتلك خمسمائة درهم ، هذا صداق رسول الله لأزواجه . رواه مسلم ، وكلام أحمد في رواية حنبل يقتضي أنه بلغه أن صداق بنات النبي أربعمائة درهم .
وقد تضمن كلام الخرقي أن من شرط صحة التسمية الرضى ممن هو معتبر منه ، ولا نزاع في ذلك ، قال الله سبحانه وتعالى : 19 ( { ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } ) .
2625 ويروى عن النبي أنه قال : ( العلائق ما تراضى عليه الأهلون ) ثم إن كان العاقد الأب وهي صغيرة فالرضى منوط به ، وإن كانت بالغة رشيدة اعتبر رضاها ، نعم للأب أن يزوجها بدون صداق مثلها ، كما تقدم في أول كتاب النكاح ، والله أعلم .
( تنبيه ) وجوب المهر في اتداء النكاح هل هو حق الله تعالى أو للآدمي ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) أنه حق للآدمي ، قاله القاضي في التعليق ، في ضمن مسألة أقل الصداق ، وفي تزويج الدنيء بغير مهر ، وفي فساد المهر ، وهو قول كثير من أصحابه في الخلاف ، وبنوا عليه تزويج عبده من أمته ولا مهر ، وذلك لأنه يسقط بالعفو بعد وجوبه ، ولو كان حقاً لله تعالى لما سقط ( والثاني ) أنه حق لله تعالى ، قاله القاضي أبو يعلى الصغير ، و ابن عقيل في موضع ، وهو قياس المنصوص في وجوب المهر فيما إذا
____________________
(2/422)
زوج عبده من أمته ، وذلك لأنه يجب مهر المثل للمفوضة ، وإن رضيت بسقوطه ، وهذا هو مأخذ المفوضة عند القاضي أبي يعلى الصغير ، والقاضي يجيب عن ذلك بأنه إسقاط للحق قبل وجوبه فلذلك لم يسقط ، والله أعلم .
قال : وإذا أصدقها عبداً بعينه ، فوجدت به عيباً فردته به كان لها عليه قيمته .
ش : إذا أصدقها عبداً بعينه كأن قال : تزوجتك على هذا العبد ، فوجدت به عيباً ، فإن لها رده وإن كان العيب يسيراً ، بلا نزاع بين أصحابنا فيما نعلم ، كالمبيع الكعيب ، فإذا ردته فلها قيمته صحيحاً ، لأنها قد رضيت ببذل نفسها بذلك ، لا بما دونه ، ولو كان الصداق مثلياً والحال هذه ، فردته فلها مثله ، فإن اختارت الإمساك وأخذ الأرش كان لها ذلك على المشهور ، كالمبيع المعيب ، ونقل عنه مهنا ما يدل على أنه لا إرش مع الإمساك ، وأظن هذا أصل الرواية المذكورة في البيع ، ولعله ظاهر كلام الخرقي هنا ، وذلك لأن الأرش زيادة في الصداق لم يلتزمها الزوج ، ولا رضي بها ، والأرش هنا والله أعلم قيمة الجزء الفائت ، ولو كان الصداق على عبد في الذمة ، فسلمه لها فوجدت به عيباً ، فالواجب إبداله لا إرش ولا قيمة ، لأنا قد تبيما أنه قد سلم غير الواجب عليه ، فالواجب باق في ذمته ، فيجب دفعه ، ووقع لأبي محمد في عوض الكتابة إذا بان معيباً أنه يخير بين الرد ، والإمساك مع الأرش ، وعوض الكتابة إنما يكون في الذمة ، وهو سهو ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن خرج حراً أو استحق ، سواء سلمه إليها أو لم يسلمه .
ش : كذلك إذا تزوجها على عبد بعينه فخرج حراً ، أو استحق بأن بان عصباً ونحو ذلك ، فإن لها قيمته ، لأنه قد تعذر تسليمه ، فوجب الرجوع إلى بدله ، إذ البدل يقوم مقام المبدل عند تعذره ، وتعتب القيمة يوم التزويج ، قاله القاضي في التعليق .
وقد تضمن كلام الخرقي صحة النكاح ، ولا نزاع في ذلك ، وتضمن كلام الخرقي أيضاً وكلام الأصحاب والإمام أنها إذا ردت الصداق بالعيب في المسألة السابقة ، أو خرج حراً أو مغصوباً أنها لا ترجع في مقابله وهو نفسها ، فيفسخ النكاح ، ولا يجب لها بدل ذلك ، وهو مهر المثل ، وعلل بأنها رضيت بما سمي لها ، فلا ترجع إلا إلى بدله ، وقد يقال : إن قاعدة المعاوضات خلاف هذا ، لأنها متى فسخت في الثمن وتعذر الرجوع في العين المبيعة ، فإنها ترجع ببدلها ، لا ببدل الثمن ، وذلك كما إذا بيع عبد بثوب بشرط الخيار ثلاثاً ، على إحدى الروايتين ، فإنه يرجع ببدل العبد ، لا بقيمة الثوب ، وقياس هذا هنا أنه يرجع بمهر المثل ، وقد يجاب عن هذا بأن ثم إنما وجب بدل العبد ، لا بدل الثوب ، لأن العقد النفسخ ، ومع الانفساخ يرجع كل واحد منهما إلى ما خرج عنه ، وقد تعذر الرجوع في العبد ، فيرجع ببدله لمكان العذر ، وليس هنا كذلك ، إذا العقد لا ينفسخ بذلك ، لأنه لا يفسد بفساد الصداق ، ولا بعدمه ، فبكونه معيباً أولى ، وغايته أنه قد عدم الصداق في العقد ، وذلك لا يفسده ، وأبو
____________________
(2/423)
العباس رحمه الله في بعض قواعده ينازع في هذا الأصل ، ويختار أن للمرأة الفسخ ، كما للبائع والمؤجر الفسخ مع العيب ، والرجوع في العين المبيعة والمؤجرة ، والجامع أنه عقد معاوضة ، بل هنا أولى ، إذ المال والمنفعة يجوز بذلهما بغير عوض ، أما النكاح فلا يجوز إلا بصداق ، ولأن للمرأة الفسخ ظهر الزوج معسراً قبل الدخول ، كما لو ظهر معسراً بالثمن ، فلها الفسخ إذا بان عيبه ، أو ظهر معيباً بل أولى ، ألا ترى أن العيب يثبت الفسخ في المبيع بالإجماع ، وفي الإفلاس بالثمن بعد القبض نزاع ، والبدل يقوم مقام المبدل في الاتلافات لتعذر الأصل ، أما في العقود فالمقصود العين ، فإذا لم تحصل فات الرضى المشروط ، والقول بأن الصداق تابع لا مقصود لا يجدي ، فإن الله سبحانه عظم شأن الصداق في كتابه ، وأمر بإيتائه ، وعلق الحل عليه ، ونهى عن أخذ شيء منه إلا عند تعدي الحدود ، فشأنه أعظم من شأن الثمن والأجرة ، والوفاء به أوجب .
2626 قال النبي : ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) والله أعلم .
قال : وإذا تزوجها على أن يشتري لها عبداً بعينه ، فلم يبع ، أو طلب به أكثر من قيمته ، أو لم يقدر عليه فلها قيمته .
ش : هذا منصوص أحمد رحمه الله في رواية الأثرم ، وقاله القاضي ، و أبو محمد وغيرهما ، ( وهو دال بتضمنه ) على أن التسمية صحيحة إذاً ، غايته وقصاراه أنه أصدقها ملك الغير ، وذلك لا يمنع الصحة ، كما لو تزوجها على عبد فخرج حراً ، ولأن هذا غرر يسير فيحتمل ، إذ المعاوضة في الصداق ليست بمحضة ، إذ المقصود الأعظم إنما هو الوصل والاستمتاع ، ومقتضى كلام أبي بكر رحمه الله أن هذه التسمية لا تصح ، قال في مقنعه : النكاح كالبيع ، لا يصح إلا على معلوم كالبيع ، وذلك ، لأنه عقد معاوضة ، فأشبه البيع ، ( ودل بمنطوقه ) على أنه متى لم يبع العبد سيده أو طلب فيه أكثر من قيمته ، أو لم يقدر عليه لإباقه أو غير ذلك أن لها قيمته ، لما تقدم في التي قبلها ، وفيه البحث السابق في وجوب مهر المثل ، وفي فسخ النكاح ، وقد يقال في الزيادة اليسيرة غير المجحفة : يلزم الشراء كما في نظائره .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو قدر على الشراء فبذل القيمة لم يلزمها القبول ، وهو اختيار أبي محمد ، وقيل : يلزمها ، ولعله بناء على ما إذا أصدقها عبداً موصوفاً وجاءها بقيمته ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوجها على خمر أو ما أشبه من المحرم وهما مسلمان ثبت النكاح ، وكان لها مهر المثل أو نصفه إن كان طلقها قبل الدخول .
____________________
(2/424)
ش : إذا تزوجها على خمر أو ما أشبهه من المحرم ، كالخنزير والميتة ، والحال أنهما مسلمان ، فالنكاح صحيح ثابت ، على المشهور من الروايتين ، والمختار لجمهور الأصحاب ، الخرقي وابن حامد والقاضي ، والشريف وأبي الخطاب ، وابن عقيل وأبي محمد وغيرهم ، حتى بالغ القاضي وأبو محمد فحملا الثانية على الاستحباب ، وذلك لإطلاق ( لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل ) ظاهره الصحة وإن كان المهر فاسداً ، ولأن فساده لا يزيد على عدمه ، ولو عدم صح النكاح ، فكذلك إذا فسد ، ولأن النكاح قد يخلو عن مهر ، بدليل تزويج عبده من أمته ، على اختيار القاضي ، وكثير من أصحابه ، وتزويج النبي ، وإذا انفرد عنه صح وإن فسد الصداق كالعقدين ، ( والرواية الثانية ) لا يصح ، اختاره الخلال وصاحبه ، والجوزجاني ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { أن تبتغوا بأموالكم } ) فجعل سبحانه الحل بالمال ، وما ذكر ليس بمال ، ولأن النكاح لا بد فيه من مهر ، وما رضيا به لا يصح مهراً ، وما جعله الشارع وهو مهر المثل لم يرضيا به ، حيث سميا مهراً ، وإذاً يبطل ، وتزويجه من خصائصه ، وتزويج عبده من أمته ممنوع ، على المنصوص ، ولا تفريع على هذه الرواية ، أما على الأولى فيجب لها مهر المثل ، لتعذر المسمى ، والرجوع في البضع ، وإذاً ينزل منزلة التالف ، فتجب قيمته ، وهو مهر المثل ، كالمبيع المقبوض بعقد فاسد ، وخرج ابن أبي موسى قولًا أنه يجب مثل المثلي ، وقيمة غيره ، بناء على ما إذا جهلا ذلك ، ونظراً إلى أن الرضى شيء رضي ببدله ، وهذا اختيار أبي العباس ، وظاهر إطلاق أحمد في رواية الأثرم إذا تزوج على شيء بعينه ، فطلب ذلك الشيء فلم يقدر عليه ، إما مملوك فأعتقوه أو رفعوا في ثمنه ، وبلغوا به ، فلها قيمته ، فقيل له : ولا يكون لها صداق مثلها ؟ فقال : كيف وقد تزوجت على شيء بعينه ، إنما ذلك إذا تزوجها على حكمها فاختلفا ، انتهى ، ولو طلقها والحال هذه قبل الدخول وجب نصف مهر المثل لا المتعة ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى ، والخلاف فيه .
وقول الخرقي : وهما مسلمان . يحترز به عما إذا كانا كافرين ، وقد يقدم له ذلك في نكاح أهل الشرك ، وقوله : على خمر أو ما أشبهه من المرحم . يحتمل : وما أشبهه الخمر من محرم تحريمه لحق الله تعالى ، كالخنزير والحر ، فيخرج ما إذا كان تحريمه لحق الآدمي ، كالمال المغصوب ونحوه ، فإنه يصح بلا نزاع ، وهذا اختيار الشيخين ، وبالغ أبو محمد فحكى الاتفاق عليه ، ويحتمل : وما أشبه الخمر في التحريم ، فيدخل ما تقدم ، وبهذا صرح أبو بكر في التنبيه ، وابن أبي موسى ، وابن عقيل ، وأبو الخطاب وغيرهم ، وهو مقتضى نص أحمد الذي أخذ منه البطلان في الأصل ، ومما يتبع أن الصداق لو فسد بجهالة أو عدم لا يفسد النكاح ، وهو المعروف ، حتى قال جماعة : رواية واحد ، وشذ الشاشي في الحلية فحكى عن أحمد أن النكاح يفسد بجهالة العوض ، وهو مقتضى إطلاق أبي عبد الله ابن تيمية ، حيث قال : فإن فسد الصداق لم
____________________
(2/425)
يؤثر في النكاح ، على المشهور من الروايتين .
( تنبيه ) محل الخلاف فيما إذا علما بذلك ، أما إن جهلاه فإن النكاح يصح ، قاله ابن أبي موسى والقاضي ، والشيخان وغيرهم ، والله أعلم .
قال : وإن تزوجها على ألف لها ، وألف لأبيها ، كان ذلك جائزاً ، فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين ، ولم يكن على الأب شيء مما أخذ .
ش : إذا تزوجها على ألف لها ، وألف لأبيها ، جاز ذلك ، ولزم الشرط والعقد ، نص على هذا أحمد ، معللًا بأن له أن يأخذ من مال ابنه ما شاء ، وهو المذهب عند الأصحاب ، القاضي ، وابن عقيل ، وأبي الخطاب ، والسيخين وغير واحد ، وذلك لقصة شعيب عليه السلام : 19 ( { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ، على أن تأجرني ثماني حجج } ) فشرط الصداق رعي غنمه ، وذلك شرط لنفسه ، وإذا جاز اشتراط كل الصداق فيعضه أولى ، وشرع من قبلنا شرع لنا ، ما لم يرد نسخه .
2627 وأيضاً عموم قول النبي : ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) .
2628 ( المسلمون عند شروطهم ) .
2629 ثم يستدل على صحة هذا الشرط بخصوصه بقول النبي : ( أنت ومالك لأبيك ) وإنما يكون الابن لأبيه بمعنى أن منفعته له ، ومن له المنفعة له أن يستوفيها بنفسه وبغيره ، والقول بأن المال لا يتبعه حتى يقبضه ، يجاب عنه بأن ثبوت الولاية هنا على الأبضاع بمنزلة القبض ، وحكى أبو عبد الله ابن تيمية رواية أخرى : يبطل الشرط ، وتصح التسمية ، وقيل : يبطل ويجب مهر المثل .
وعلى المذهب إذا قبضا الألفين ووجد الطلاق قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين ، إذ الطلاق قبل الدخول يوجب ذلك ولا شيء على الأب للزوج ، لأنه إنما أخذ من مال ابنته ، ولا للبنت إذ ما انتفع به من مال ولده لا يضمنه .
ومقتضى كلام الخرقي أن غير الأب ليس له ذلك ، وهو صحيح ، فلا يصح اشتراطه ، ويكون الجميع لها على المذهب ، وقيل : تبطل التسمية ، ويجب لها مهر المثل ، وعموم كلام غيره يقتضي أنه يصح اشتراط الأب في جميع أحوال البنت ، وظاهر إطلاقه أنه لا يشترط لجواز اشتراط الأب فيما تقدم أن لا يكون الأخذ مجحفاً بمال ابنته ، وهو ظاهر إطلاق أحمد ، والقاضي في تعليقه ، وأبي الخطاب وطائفة ، وشرط ذلك القاضي في المجرد ، وابن عقيل وأبو محمد في المغني ، وأشار أبو العباس
____________________
(2/426)
إلى ضعف ذلك ، بأنه لا يتصور الاجحاف ، لعدم ملكها له ، وعلى ما في المجرد ومتابعيه إذا لم يوجد الشرط حكم الأب إذاً حكم الأجنبي .
( تنبيهان ) أحدهما حكم اشتراط الأب للكل حكم اشتراطه للبعض ، قاله القاضي وغيره ، فلو وجد الطلاق والحال هذه قبل الدخول وبعد القبض ، رجع عليها بنصف المسمى إذ أخذ الأب إنما هو من مالها ، قاله القاضي ، ولأبي محمد احتمال أنه يرجع على الأب بنصف ما أخذ ، وهكذا الخلاف لو ارتدت في مسألة الخرقي ، هل يرجع على الأب بألف أو عليها بالمجموع ؟ على القولين .
الثاني : يملك الأب ما اشترطه بنفس العقد ، كما تملك هي ، حتى لو مات قبل القبض ورث عنه ، لكن يقدر فيه الانتقال إلى الزوجة أولًا ، ثم الانتقال إليه كأعتق عبدك عن كفارتي ، ذكر ذلك ابن عقيل في العمد ، وعند القاضي وأبي محمد إنما يملك ذلك بالقبض مع النية وضعف بأنه يلزم منه بطلان خصيصة هذه المسألة ، ويتفرع من هذا على قول أبي محمد لو وجد الطلاق قبل القبض ، فللأب أن يأخذ من الألف التي استقرت ما شاء ، والقاضي يجعل الألف بينهما نصفين ، كجملة الصداق ، والله أعلم .
قال : وإذا أصدقها عبداً صغيراً فكبر ، ثم طلقها قبل الدخول ، فإن شاءت دفعت إليه نصف قيمته يوم وقع عليه العقد ، أو تدفع إليه نصفه زائداً ، إلا أن يكون يصلح صغيراً لما يصلح له كبيراً ، فيكون له عليها نصف قيمته يوم وقع عليه العقد ، إلا أن يشاء أخذ ما بذلته له من نصفه .
ش : اعلم أنه قبل الخوض في كلام الخرقي نشير إلى قواعد ( أحدها ) أن المذهب المنصوص المعروف المجزوم به عند الأكثرين أن المرأة تملك الصداق جميعه بالعقد .
2630 لظاهر قول النبي في قصة الموهوبة : ( إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك ) وأيضاً قول الله تعالى : 19 ( { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } ) وظاهره الأمر بإيتاء الجميع ولأنه عقد يملك به المعوض بالعقد ، فملك به العوض كاملًا كالبيع .
وحكى القاضي وطائفة من متابعيه رواية أنها لا تملك إلا نصفه ، وأخذها القاضي في تعليقه وغيره من رواية ابن منصور وقيل له : سئل سفيان عن رجل تزوج امرأة على خادم ، ثم زوجها غلامه فولدت أولاداً فطلق امرأته قبل الدخول ، فلها نصف قيمتها وقيمة ولدها ، قال أحمد : جيد . قال القاضي : وظاهر هذا أنه لم يحكم لها بملك جميعه ، لأنه جعل لها نصف النماء ، ولا تفريع على هذه الرواية ، مع أن أبا البركات
____________________
(2/427)
لم يعرج عليها ، بل ظاهر كلامه إجراؤها على ظاهرها ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
( القاعدة الثانية ) إذا زادت العين المصدقة فلا يخلو إما إن تكون الزيادة متصلة ، كالسمن وتعلم صناعة ، أو منفصلة كالولد والكسب فإن كانت متصلة فالمرأة مخيرة بين دفع النصف زائداً ، فيكون ذلك إسقاطاً لحقها من الزيادة ، ويلزم الزوج القبول ، لحصول حقه مع زيادة لها ، لأنها نماء ملكها ، فلا يلزمها بذلها ، وإذا تعذر دفع الأصل فيصار إلى القيمة ، وخرج أبو البركات رواية بوجوب دفع النصف بزيادته ، من الرواية الآتية في الزيادة المنفصلة ، وهو واضح ، وقد يقال : إنه قياس البيع ونحوه ، وقد أولع الفقهاء بقولهم : إن الزيادة المتصلة تتبع في الفسوخ والعقود ، وقد فرق أبو محمد بين هذا والبيع بأن سبب الفسخ ثم العيب ، وهو سابق على الزيادة ، وسبب تنصف المهر الطلاق ، وهو حادث بعد الزيادة ، وبأن الزوج ثبت حقه في نصف المفروض دون العين ، ولهذا لو وجدها ناقصة كان له الرجوع إلى نصف مثلها أو قيمتها ، بخلاف المبيع المعيب ، والمفروض لم يكن زائداً ، فلم يتعلق حقه به ، والمبيع تعلق حقه بعينه ، فتبعته زيادته ، ويعترض على الأول بأنه لا أثر لتقدم السبب ، إذ الفسخ للعقد من حينه على المذهب ، فهو كالطلاق رفع للنكاح من حينه ، وعلى الثاني بأن نصف المفروض هو نصف عين ما أصدقها ، فحقه في الحقيقة تعلق بنصف العين ، وكونه إذا وجدها ناقصة له الرجوع إلى نصف مثلها أو قيمتها ممنوع ، بل الرجوع في ذلك وأخذ الأرش على ما سيأتي ، وقد يفرق بأن في البيع لما اختار لما اختار المشتري الفسخ ، من غير أن يمكنه أخذ الزيادة ، فقد رضي بإسقاطها ، بخلاف هنا ، فإن الفسخ جاء للمرأة بغير اختيارها ، فلا يجب عليها بذل ملكها بغير رضاها ، وقد يعترض على هذا بما إذا كان الفسخ من جهتها .
واعلم أن محل التخيير إذا كانت المرأة جائزة التبرع في مالها ، فإن لم تكن كالصغيرة والسفيهة والمفلسة تعين للزوج نصف القيمة ، يشارك في الفلس الغرماء ، لامتناع التبرع من جهتها .
وإن كانت الزيادة مننفصلة الولد الحادث بعد النكاح ، والثمرة ونحو ذلك فالزيادة للمرأة ، وللزوج نصف الأصل ، لأنها نماء ملكها ، ولأن الله سبحانه وتعالى إنما جعل للزوج نصف المفروض ، والنماء ليس مفروضاً ، وحكى أبو البركات رواية ابن منصور المتقدمة ، وقد تعلل بأن الطلاق رفع للعقد من أصله تقديراً ، وليس بشيء ، ولعل الرواية التي في البيع أخذت من هنا ، وفي هذه الرواية بحث ليس هذا موضعه ، وبالجملة أبو محمد يستثنى من النماء المنفصل ، فلا يجوز للزوج الرجوع في نصف الأمة ، حذاراً من التفريق في بعض الزمان ، وظاهر كلام جماعة من الأصحاب وصرح به القاضي في التعليق عدم الاستثناء .
____________________
(2/428)
( القاعدة الثالثة ) إذا نقص الصداق بعد القبض ، ثم طلقت قبل الدخول فإن الزوج يخير بين أخذه ناقصاً ، وبين أخذ نصف قيمته ، لأنه إن اختار أخذه فقد رضي بإسقاط حقه ، وله ذلك ، وإن اختار نصف القيمة فله ذلك ، لأن في قبوله ناقصاً فهل له أرش النقص وهو مختار القاضي في تعليقه ، كالمبيع المعيب ، أو لا أرش له كواجد متاعه عند المفلس ، وهو اختيار الأكثرين ؟ فيه قولان .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي : إذا أصدقها عبداً صغيراً فكبر ، ثم طلقها قبل الدخول ، فإن شاءت دفعت إليه نصف قيمته يوم وقع عليه العقد ، أو تدفع إليه نصفه زائداً . مبني على أنها ملكت الصداق بالعقد ، وإذاً الزيادة حدثت على ملكها ، فتخير بين دفع النصف وبين دفع نصف قيمته ، لكن متى تعتبر القيمة ؟ اعتبرها الخرقي وتبعه أبو محمد في الكافي والمغني ، وابن حمدان وأطلقوا بيوم العقد ، وحرر ذلك أبو البركات فجعل ذلك في المتميز إذا قلنا على المذهب يضمنه بالعقد ، وعلى هذا يحمل قولهم ، إذ قلنا على المذهب يضمنه بالعقد ، ولذلك علل أبو محمد بأن ضمان النقص عليها ، فعلم أن كلامه في المتميز ، وجعل غير المتميز إذا قيل ضمانه على الزوج الواجب قيمة نصفه يوم الفرقة على أدنى صفاته من يوم العقد إلى يوم القبض ، لأن ما نقص بعد العقد والحال هذه فهو على الزوج ، وما زاد فهو لها ، ثم إن أبا البركات أوجب القيمة يوم الفرقة بصفته وقت العقد ، لأنه وقت الاستحقاق ، وكلام الخرقي يقتضي وجوب القيمة يوم العقد بصفته إذ ذاك ، ولأبي البركات تحرير آخر ، وهو أن الواجب قيمة النصف ، لأن الله سبحانه جعل له نصف المفروض ، وإذا تعذر رجع في بدله ، وهو نصف قيمته ، والخرقي وجماعة جعلوا الواجب نصف القيمة . انتهى .
وقوله : إلا أن يكون يصلح صغيراً لما لا يصلح له كبيراً ، فيكون له نصف قيمته يوم وقع عليه الغقد ، إلا أن يشاء أخذ ما بذلته له من نصفه ، مبني على القاعدة الثالثة ، وهي ما إذا تعيب الصداق ، فإذا كان العبد يصلح صغيراً لشيء لا يصلح له كبيراً ، كما إذا كان يقبل تعليم صناعة ونحوها وبالكبر امتنع ذلك منه فإنه قد تعيب فيخير الزوج بين أخذ نصف قيمته ، وبين أخذ ما بذلته له من نصفه ، واعتبر الخرقي أيضاً القيمة بيوم العقد ، واعتبرها القاضي بيوم القبض ، وفصل أبو البركات التفصيل السابق ، فكأنه حمل كلام القاضي على غير المتميز ، وكلام الخرقي يقتضي أن المرأة لها الامتناع من بذل النصف والحال هذه ، ولم أره لغيره ولا قاعدة المذهب تقتضيه ، إذ الواجد متاعه معيباً عند المفلس له الرجوع فيه ، ولا يتوقف ذلك على رضى الغرماء مع أنه إنما جاز له الانتقال إلى القيمة دفعاً للضرر عنه ، فإذا رضي بالضرر فحقه في العين بحاله ، والله أعلم .
____________________
(2/429)
قال : ولو اختلفا في الصداق بعد العقد في قدره ، ولا بينة على مبلغه ، كان القول قولها ما لم يجاوز مهر مثلها .
ش : هذا إحدى الروايات ، واختيار عامة الأصحاب ، الخرقي ، والقاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، وابن عقيل ، والشيرازي ، وغيرهم ، لأن القول قول من الظاهر في جنبته ، والظاهر والحال هذه في جنبة المرأة ، لأن الظاهر وقوع النكاح على مهر المثل ، وعلى هذه لو ادعت هي أكثر من مهر المثل ، وادعى الزوج مهر المثل أو أزيد منه وأنقص منها ، فالقول قوله ، ولم يذكر أحمد اليمين ، فخرج أصحابه في وجوبها وجهين ، بناء على أنه دعوى فيما يتعلق بالنكاح ، مع كونه مالًا ، فمن نظر إلى المال أوجب اليمين ، ومن نظر إلى أن النكاح غير مال لم يوجبها ، وهذا قول القاضي أظنه في المجرد ، والأول اختيار أبي الخطاب في الهداية وأبي محمد ، وبه قطع أبو الخطاب والشريف في خلافيهما ، ولو كان دعوى الزوج أقل من مهر المثل ، ودعواها أكثر من مهر المثل ، رد إليه وهل تجب اليمين إن أوجبناها فيما تقدم ؟ ظاهر كلام الأكثرين لا ، وكذلك قال أبو محمد ، ولم يذكر أصحابنا يميناً . قلت : وقد صرح بذلك أبو الخطاب في خلافه الصغير ، وهو مقتضى ما حكاه عن شيخه في الهداية ، وذلك لأن اليمين على مقتضى ما حكاه عن شيخه في الهداية ، وذلك لأن اليمين على حسب الدعوى ، وكل منهما لا يستحق ما ادعاه ، فلا يحلف عليه ، وقال في المغنى والأولى أن يتحالفا ، وكذلك قال في الكافي : ينبغي أن يحلف الزوج على نفي الزائد عن مهر المثل ، وتحلف هي على إثبات ما نقص منه ، وهذا مقتضى قول أبي الخطاب في الهداية ، ( والوراية الثانية ) القول قول الزوج مع يمينه ، لأنه منكر ، فيدخل في عموم قول النبي ( واليمين على من أنكر ) ( والرواية الثالثة ) حكاها الشيرازي يتحالفان ، لأنه اختلاف في عوض ، بمستحق عقد ولا بينة ، فيسوغ التحالف كالمتبايعين .
وقول الخرقي : بعد العقد . للتنصيص على مخالفة مذهب مالك رحمه الله في قوله : إن التخالف إن كان قبل الدخول تحالفاً وتفاسخاً ، وبعده القول قول الزوج ، وقوله : في قدره . احترازاً مما إذا اختلفا في عينه ، كما إذا قال : أصدقتك هذا العبد . قالت : بل هذه الأمة . والحكم فيه أنه على الخلاف السابق ، إلا أن الواجب القيمة ، لا شيء من المعنين ، على أحد الوجهين ، وهو مقتضى احتراز الخرقي ، وأورده أبو البركات مذهباً ، لأنه إن أخذ بقول الزوج فيلزم من إيجاب معينه أن يدخل في ملكها ما لم تدعه ، وإن أخذ بقولها فإنما قبل قولها في المهر لموافقة الظاهر ، وذلك أجنبي عن التعيين ( والثاني ) إن كان معين المرأة أعلى قيمة وهو كمهر المثل أو أقل ، وأخذنا بقولها أعطيته ، لأنه لما قبل قولها في القدر تبعه التعيين ، والله أعلم .
قال : وإن أنكر أن يكون لها عليه صداق فالقول أيضاً قولها قبل الدخول وبعده
____________________
(2/430)
ما ادعت مهر مثلها إلا أن يأتي ببينة ببراءته منه .
ش : لأنها منكرة ، والأصل معها ، والقول قول المنكر ، قال النبي : ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) والقول قول مدعى الأصل ، وقول الخرقي : قبل الدخول وبعده . احترازاً من قول مالك والفقهاء السبعة : إن كان بعد الدخول فالقول قول الزوج وقوله : ما ادعت مهر مثلها . بناء على ما تقدم له ، والله أعلم .
قال : وإذا تزوجها بغير صداق لم يكن لها عليه إذا طلقها قبل الدخول إلا المتعة .
ش : قد تقدم للخرقي رحمه الله فيما إذا تزوجها على محرم كالخمر ونحوه ، ثم طلقها قبل الدخول أن لها عليه نصف المهر ، وقال : فيما إذا فقد الصداق أن لها عليه المتعة فقط ، وهذا إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله ، واختيار أبي محمد ، والشيرازي ، لقول الله تعالى : 19 ( { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن ، أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن } ) نفى سبحانه الجناح من جهة الفرض عن التي ل تمس إلا أن يفرض لها فريضة ، وأوجب لها المتعة ، ثم أوجب بعد للمفروض لها نصف المفروض ، وإطلاق الآتين يشمل من فرض لها مطلقاً ، إلا أنه لما لم يمكن إعطاء نصف المفروض في التسمية الفاسدة ، وجب نصف بدله ، وهو نصف مهر المثل . ( والرواية الثانية ) لا يجب إلا المتعة في الصورتين ، وهو اختيار الشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، وأبي البركات ، إذ التسمية الفاسدة وجودها كالعدم ، فهي كمن لم يفرض لها ، فلا يجب لها إلا المتعة لما تقدم ( والرواية الثالثة ) وهي أضعفها يجب نصف مهر المثل فيهما ، وظاهر الآي يخالف ذلك .
( تنبيهان ) . أحدهما اختلف العلماء في تقدير الآية الكريمة السابقة ، فمنهم من قدر ( تفرضوا ) معطوفاً على المجزوم ، أي : ما لم تمسوهن أو ما لم تفرضوا لهن . واستشكل بأنه يصير معناه : لا جناح عليكم فيما يتعلق بمهور النساء في مدة انتفاء أحد هذين الأمرين ، مع أنه إذا انتفى الفرض دون المسيس ، لزم مهر المثل ، وإذا انتفى المسيس دون الفرض لزم نصف المسمى ، ومنهم من قدره منصوباً بأن مضمرة ، وأو بمعنى ( إلا ) أي ما لم تمسوهن إلا أن تفرضوا لهن فريضة ، أو : إلى أن تفرضوا لهن فريضة ، وهذا قول الزمخشري وهو جيد ، ومنهم من جعل ( أو ) بمعنى الواو ، أي ما لم تمسوهن وتفرضوا ، وهذا أيضاً في المعنى صحيح ( الثاني ) تخصيص الخرقي هذه بوجوب المتعة ظاهره أنه لا متعة لغيرها ، وهو المشهور عن أحمد والمختار للأصحاب من الروايات ، لأن الله سبحانه قسم النساء قسمين ، فجعل للتي لم يفرض لها ولم يسم المتعة ، وجعل للمفروض لها مصف المفروض ، وظاهره أنه لا زيادة لها على ذلك لعموم 19 ( { وللمطلقات متاع } ) أو تحمل هذه الآية على الاستحباب ، وكذلك قول النبي : ( أمتعكن ) ونقل عنه حنبل ، لكل مطلقة متاع ، لايتين الكريميتين ،
____________________
(2/431)
وإليها ميل أبي بكر ، وقال : العمل عليها عندي . لولا تواتر الروايات عنه بخلافها ، والله أعلم .
قال : على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، فأعلاه خادم ، وأدناه كسوة يجوز لها أن تصلي فيها ، إلا أن يشاء أن يزيدها ، أو تشاء هي أن تنقصه .
ش : متى تراضيا في المتعة على شيء اتبع ما تراضيا عليه إذا كانا من أهل التراضي ، إذ الحق لهما لا يعدوهما ، وإن تنازعا رجع الأمر إلى الحاكم ، فيعتبر حالالزوج ، فيجعل على الموسع قدر سعته ، وعلى المقتر قدر قتره ، للآية يالكرمة ، ثم المشهور والمختار من الروايات للخرقي ، والقاضي ، وجماعة من أصحابه أنها مقدرة الاْعلى والأدنى ، فأعلاها خادم ، وأدناها كسوة يجزئها أن تصلي فيها .
2631 لأن ابن عباس ترجمان القرآن قال : أعلى المتعة خادم ثم دون ذلك النفقة ، ثم دون ذلك الكسوة . رواه أبو حفص بإسناده .
2632 وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه طلق امرأته تماضر الكلبية فحممها بجارية سوداء يعني متعها . وإنما اشترطنا في الكسوة الواجبة بمطلق الشرع ، وهي الكسوة في الكفارة ( والرواية الثانية ) يرجع إلى اجتهاد الحاكم في ذلك ، لأن التقدير من الشرع ، ولم يرد ( والرواية الثالثة ) وهي أضعفها هي متاع بقدر نصف مهر المثل ، لأنها بدل عنه ، ولا تليق هذه الرواية بمذهب أحمد ، لأنه تنتفي فائدة اعتبار الموسع والمقتر ولا تبقى فائدة في إيجاب نصف مهر المثل أو المتعة إلا غايته أن ثم الواجب في روايتيه من رواية الميموني ، وسأله كم المتاع ؟ فقال : على قدر الجدة ، وعلى من قال تمتع نصف صداق المثل ، لأنه لو كان فرض لها صداقاً كان لها نصف الصداق ، قال القاضي : وظاهر هذا أنها غير مقدرة ، وأنها معتبرة بيساره وإعساره ، وقد حكى قول غيره أن قدرها نصف مهر المثل ولم ينكره ، وظاهر هذا أنه مذهب له انتهى ، وهذا في غاية التهافت ، لأنه إنما حكى مذهب غيره بعد أن حكى مذهبه ، وإنما نقول على قول أنه حكى عن غيره قولًا يكون مذهباً له ، إذا لم يبين في تلك الحكاية مذهبه ، ثم يلزم من هذا أن يكون قال قولين مختلفين في وقت واحد ، والله سبحانه أعلم .
قال : وإن طالبته قبل الدخول أن يفرض لها أجبر على ذلك .
ش : إذا طالبته المرأة التي لم يفرض لها قبل الدخول أن يفرض لها أجبر على ذلك ، لأن حقها ثبت بالعقد ، إذ النكاح لا يخلو من مهر ، وظاهر كلام الخرقي أن هذه المطالبة عند الحاكم ، لأنه الذي إليه الإجبار ، وإذاً يفرض مهر المثل ، لأنه بدل البضع فيقدر به كالسلعة إذا تلفت ، فلو كانت المطالبة بغير حضرة الحاكم جاز ما اتفقا عليه ،
____________________
(2/432)
إذ الحق لهما لا يعدوهما ، والله أعلم .
قال : فإن فرض لها مهر مثلها لم يكن لها غيره ، وكذلك إن فرض لها أقل منه فرضيت به .
ش : قوله : فرض . يحتمل أنه مبني للمفعول ، والضمير راجع الحاكم ، ويرشحه أنه ساق ذلك بعد الإجبار مختص بالحاكم ، ويحتمل أنه مبني للفاعل ، والضمير راجع إلى الزوج ، ويرجحه أن الضمير في قوله : وكذلك إن فرض لها أقل منه فرضيت به له ، لأن الحاكم لا يفرض إلا مهر المثل ، فعلى الثاني : متى فرض لها الزوج مهر المثل لم يكن لها غيره ، لأنه الذي وجب لها بالعقد ، وكذلك إن فرض لها أزيد منه بطريق الأولى ، لكن قال أبو محمد : ولا يستقر لها ما لم ترض به ، وفائدة عدم استقراره أنه لو مات قبل الدخول كانت باقية على عدم الفرض ، فتجب لها المتعة ، وإن الدخول كانت باقية على عدم الفرض ، فتجب لها المتعة ، وإن فرض لها أقل من مهر المثل فرضيت وهي ممن يعتبر رضاها فلا شيء لها غيره ، لأن الحق لها ، وإن لم ترض رفع الأمر إلى الحاكم ، وعلى الاحتمال الأول وكذلك قد يجري على الثاني إذا طلقت قبل الدخول لم يكن لها على ظاهر كلام الخرقي إلا نصف ما فرض لها ، وهو إحدى الروايتين ، اعتباراً بحالها الراعنة ، وهي إذاً مفروض لها ، فتدخل تحت قوله سبحانه : 19 ( { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ، وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } ) ( والرواية الثانية ) يسقط ما فرض لها ، وتجب لها المتعة ، نظراً إلى حالها في حال الإبتداء ، والله أعلم .
قال : ولو مات أحدهما قبل الإصابة وقبل الفرض ورثه صاحبه ، وكان لها مهر نسائها .
ش : قيد الشيخ رحمه الله هذا الحكم بقبل الإصابة وقبل الفرض ، لأن ذلك محل التردد والخلاف ، ولا نزاع في الإرث ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { ولهن الربع مما تركتم } ) الآية ، وهذه زوجة بلا ريب ، وأما تكميل المهر فهو المذهب بلا ريب .
2633 لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ، ولم يدخل بها حتى مات ، فقال ابن مسعود : لها صداق مثلها ، لا وكس ولا شطط ، وعليها العدة ، ولها الميراث . فقام معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه فقال : قضى رسول الله في بروع بنت واشق امرأة منّا مثل ما قضيت . ففرح بها ابن مسعود رضي الله عنه . رواه الخمسة ، وصححه جماعة منهم الترمذي ، وهذا لفظه . ( وعن أحمد رواية أخرى ) : لا يجب لها إلا نصف مهر المثل ، قياساً لفرقة الموت على الطلاق ، وهو باطل ابالنص ، وبأن الموت يتم به
____________________
(2/433)
النكاح ، ولذلك وجبت العدة به قبل الدخول ، وكمل به المسمى ، بخلاف الطلاق فيهما انتهى ، وإذا أوجبنا المهر فإن الواجب مهر نسائها كما في الحديث ، أي أقاربها ، ثم هل يعتبر جميع أقاربها من قبل الأب والأم ، كأختها وعمتها ، وبنت أخيها ، وكأمها وخالتها ، وهو اختيار أبي بكر وأبي الخطاب ، والشريف في خلافيهما ، والشيرازي ، لعموم الحديث ، أو لا يعتبر إلا نساء العصبات كأختها ونحوها وهو اختيار أبي محمد قال : لأن في بعض الروايات : مهر نساء قومها . ولأن الشرف معتبر في المهر ، وشرف المرأة بنسبها ، وذلك بالأب لا بالأم ؟ على روايتين ، قال أبو محمد : وينبغي أن يعتبر الأقرب فالأقرب من نساء العصبات ، فتقدم أخواتها ، ثم عماتها ، وعلى ذلك وتعتبر المساواة في العقل والدين ، والجمال ، وكل ما يختلف به المهر ، حتى لو كان عادتهم التأجيل فرض مؤجلًا في أحد الوجيهن ، وفي الآخر : لا يفرض إلا حالًا ، لئلا يخالف نظائره ، وهو أبدال المتلفات ، والله أعلم .
قال : وإذا خلا بها بعد العقد فقال : لم أطأها . وصدقته لم يلتفت إلى قولهما ، وكان حكمهما حكم الدخول في جميع أمورهما إلا في الرجوع إلى زوج طلقها ثلاثاً ، أو في الزنا فإنهما يجلدان ولا يرجمان .
ش : الخلوة بالمرأة بعد العقد في الجملة حكمها حكم الدخول في استقرار المهر وإن لم يطأ ، على المذهب المعروف بلا ريب .
2634 لما روى الإمام أحمد بسنده عن زرارة بن أوفى قال : قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا ، وأرخى ستراً ، فقد وجب المهر ، ووجبت العدة .
2635 ورواه أيضاً عن عمر وعلي رضي الله عنهما وهو مشهور عنهما ، وكذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، عليها العدة ، ولها الصداق ، وهذه قضايا اشتهرت ولم ينقل إنكارها فكانت حجة ، ( وقيل عن أحمد ) رواية أخرى أن المهر لا يتقرر إلا بالوطء .
2636 ويحكى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما لقوله سبحانه : 19 ( { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } ) والمطلقة قبل الدخول وقبل الوطء لم تمس ، ومثله قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ) الآية ، وأيضاً قوله تعالى : 19 ( { وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض } ) علل سبحانه منع الاْخذ بالإفضاء ، والإفضاء الجماع ، والمعلل بوصف عدم عند عدمه ، وأجيب بالطعن فيما روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم قال أحمد في حديث ابن عباس رضي الله عنه يرويه ليث وليس بالقوي ، وقد رواه حنظلة خلاف ما رواه ليث ، وحنظلة أقوى من ليث ، وقال ابن المنذر في حديث ابن مسعود رضي الله عنه منقطع وأما آتيا المس فيحتمل أن المراد بالمس
____________________
(2/434)
حقيقته وكنى به عن سببه وهو الخلوة ، ويحتمل أن المراد به حقيقته أو الجماع ، وغايته أنه يدل على أنه قبل المسيس لا يتكمل المهر ، ولا تجب العدة ، وهو شامل للخلوة ولغيرها ، خرج منه الخلوة بقضاء الصحابة ، وأما آية الإفضاء فلا نسلم أن المراد بالأفضاء الجماع ، بل المراد الخلوة ، نظراً إلى حقيقته ، إذ هو مأخوذ من الفضاء وهو المكان الخالي ، وكذلك يحكى عن الفراء أن المراد بالإفضاء الخلوة ، ولو سلم أن ذلك كناية عن الوطء فإن المراد والله أعلم التشنيع والمبالغة في الانتهاء عن الأخذ في مثل هذه الحال أي كيف تأخذونه وقد حصل مباضعتكم لأزواجكم ، ومثل ذلك يتعجب منه ، وينكره أهل المروءات .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي : وإذا خلا بها . معنى الخلوة أن يخلو بها بحيث لا يحضرهما مميز مسلم ، ولو أنه أعمى أو نائم ، قاله ابن حمدان في رعايتيه وقوله : بعد العقد . يشمل العقد الصحيح والفاسد ، وهو منصوص أحمد ، ومختار عامة أصحابه ، لعموم قضاء الصحابة ، ولأن الابتذال يحصل بالخلوة في العقد الفاسد ، كما في الصحيح ، وخالفهم أبو محمد فاختار عدم الوجوب في النكاح الفاسد ، نظراً إلى أن العقد ليس بموجب ، وإنما الموجب الوطء ولا وطء .
وقوله : فقال : لم أطأها . وصدقته لم يلتفت إلى قولهما ، دفعا لوهم من يتوهم أن الحق لها فيسقط برضاها ، وذلك لأن الخلوة يتعلق بها أيضاً حق لله تعالى كالعدة ونحوها ، ثم قضاء الصحابة مطلق ، ونقل عنه ابن بختان إذا صدقته المرأة أنه لم يطأها لم يكمل الصداق ، وعليها العدة ، إذ الصداق محض حقها .
وقوله : وكان حكمهما حكم الدخول ، في جميع أمورهما إلا في الرجوع إلى زوج طلقها ثلاثاً ، أو في الزنا فإنهما يجلدان ولا يرجمان . يعني في استقرار المهر كما تقدم ، ووجوب العدة لقضاء الصحابة ، وفي تحريم أختها ، وأربع سواها إذا طلقها حتى تنقضي عدتها ، قياساً على ما تقدم ، لوجود مظنة الوطء ، وفي ثبوت الرجعة له عليها في العدة ، وإن ادعى أنه ما وطئها ، على المنصوص والمختار للعامة ، لعموم : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) ولم يثبت أبو بكر الرجعة بالخلوة ، وفي نشر حرمة المضاهرة ، وهو إحدى الروايتين ، والمشهور خلافها ، حملا لدخوله في قوله تعالى : 19 ( { فإن لم تكونوا دخلتم بهن } ) على الوطء .
واستثنى الخرقي الرجوع إلى المطلق ثلاثاً .
2637 لحديث امرأة رفاعة القرظي ( لا حتى تذوقي عسيلته ، ويذوق عسيلتك ) واستثنى أيضاً الإحصان ، فلا يثبت بها ، لأن النبي قال : ( الثيب بالثيب ) والثيوبة لا تحصل إلا بالوطء ، ثم الحد يدرأ بالشبهة وكأن مراد الخرقي
____________________
(2/435)
بقوله : حكمهما حكم الدخول ، يعني فيما يتعلق بالنكاح ، فلا يرد عليه الغسل ، فإنه لا يجب بها ، ولا الخروج من الفيئة لأنه من باب الأيمان ، والذي حلف عليه الوطء ولم يوجد ، ولا تفسد بها العبادات ، ولا تجب بها الكفارات حيث وجبت ، نعم قد يرد عليه ما إذا خلا بها بعد ضرب المدة في العنة ، فإنه لا يخرج من العنة ، وبالوطء يخرج .
( تنبيه ) الخلوة المعتبرة هي خلوة من يطأ مثله ، بمن يوطأ مثلها ، مع علم الزوج بها كما نص عليه أحمد في المكفوف يتزوج امرأة فأدخلت عليه ، فأرخى الستر ، وأغلق الباب ، فإن كان لا يعلم بدخولها عليه فلها نصف الصداق ، وقد أهمل أبو البركات هذا الشرط ، ولو خلا بشرطه فمنعته الوطء لم يتقرر الصداق ، والله أعلم .
قال : وسواء خلا بها وهما محرمان أو صائمان ، أو حائض ، أو سالمان من هذه الأشياء .
ش : يعني أنه لا يشترط للخلوة خلوها من مانع ، ومثل الخرقي بالمانع الشرعي ، وقد اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة ( فعنه ) فيها روايتان ، إحداهما كما قال الخرقي ، وهو مختار أصحابه في الجملة ، لعموم قضاء الصحابة .
2638 وعن عمر في العنين يؤجل سنة ، فإن هو غشيها وإلا أخذت الصداق كاملًا ، وفرق بينهما ، وعليها العدة ( وعنه ) لا يكمل بها الصداق ، لأن المانع إن كان من جهتها فلم يتمكن من تسليمها ، فأشبه ما لو منعته من نفسها ، وإن كان من جهته فمظنة الوطء منتفية ، واعلم أن الأصحاب قد اختلفت طرقهم في هذه المسألة ، بعد اتفاقهم فيما علمت أن المذهب الأول ، ( فمن زاعم ) أن الروايتين في المانع سواء كان من جهته أو من جهتها ، شرعياً كان كما تقدم ، أو حسياً كالجب والرتق ، وهذه طريقة أبي الخطاب في خلافه الصغير ، وأبي البركات ، ( ومن زاعم ) أن محلهما فيما إذا كان المانع من جهتها ، أما إن كان من جهته فإن الصداق يتقرر بلا خلاف ، وهذه طريقة القاضي في الجامع ، والشريف في خلافه ، ( ومن زاعم ) أن محلهما فيما إذا منع الوطء ودواعيه ، كالإحرام والصيام ، وهذه طريقة القاضي في المجرد فيما أظن وأبي علي ابن البنا ، ( ومن زاعم ) أن محلهما في المانع الشرعي ، أما المانع الحسي فيتقرر معه الصداق ، وهذه طريقة القاضي في الروايتين ، وهي قريبة من التي قبلها ، ويقرب من ذلك طريقة أبي محمد في المغني ، أن المسألة على ثلاث روايات ، الثالثة إذا كان المانع متأكداً كاللإحرام والصيام لم يكمل الصداق ، وإلا كمل .
( تنبيه ) لم يجر أبو البركات الخلاف في العدة ، بل خصه بالصداق ، وأجراه أبو محمد فيها والله أعلم .
قال : والزوج هو الذي بيده عقدة النكاح ، فإذا طلق قبل الدخول فأيهما عفى
____________________
(2/436)
لصاحبه عما وجب له من المهر وهو جائز الأمر في ماله برئ منه صاحبه .
ش : اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في الذي بيده عقدة النكاح ( فعنه ) ما يدل على أنه الزوج ، وعليه أصحابه ، الخرقي ، وأبو حفص ، والقاضي ، وأصحابه ، لأن الذي بيده عقدة النكاح بعد الزواج هو الزوج ، لأنه الذي يملك الطلاق ، ثم العفو إذا أطلق إنما ينصرف إلى عفو الإنسان عما يملكه ، والولي لا يملك من المهر شيئاً .
2639 وروى الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي أنه قال : ( ولي العقدة الزوج ) .
ونقل عنه ابن منصور : إذا طلق امرأته وهي بكر ، قبل أن يدخل بها ، فعفى أبوها عن زوجها عن نصف الصداق ، فما أرى عفوه إلا جائزاً ، فأخذ من ذلك عقد عقدة النكاح ، بعد الطلاق ، والآية مسوقة في ذلك ، وإرادة الزوج بذلك مجاز باعتبار ما كان ، والأصل الحقيقة ، والدليل على أن العقد هو العقدة قوله تعالى : 19 ( { ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله } ) وأيضاً العفو حقيقة عن شيء وجب ، وذلك واضح في الزوجة والولي ، لأنهما اللذان يجب لهما المهر ، إذ قوله تعالى : 19 ( { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ، وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم } ) أي فعليكم نصف ما فرض ، أو فالواجب نصف 19 ( { ما فرضتم ، إلا أن يعفون } ) أي النساء بلا نزاع 19 ( { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ) وهو الولي عما وجب له من القبض ، وتسمية الزوج عافياً للمشاكلة مجاز ، وعلى تقدير أنه ساق إليها المهر الأصل عدمه ، ولأن الله سبحانه خاطب الأزواج مواجهة بقوله : 19 ( { وقد فرضتم لهن فريضة } ) ثم أتى بضمير الغيبة بقوله : 19 ( { إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } ) فالظاهر أن الضمير لغيره ، ولأن الله سبحانه بدأ بعفو الزوجة ، وختم بعفو الزوج ، فلو حمل ( أو يعفو ) على الزوج كان تكراراً ، وهذا أظهر دليلًا .
فعلى الأولى أيهما عفى لصاحبه عما وجب له من المهر وهو جائز التبرع في ماله برئ منه ، وعلى الثانية من شرط الولي ( أن يكون ) أبا ، لكمال شفقته ، وعدم تهمته ، ولهذا قلنا : له أن يزوجها بدون مهرها ، ( وأن تكون ) بكرا على ظاهر كلام أحمد ، وصرح به غيره لملك إجبارها وقبض مهرها في رواية ، وغفل أبو محمد في المقنع عن هذا الشرط تبعاً لأبي الخطاب ، ( وأن تكون ) مطلقة قبل الدخول ، فلا يصح عفوه قبل الطلاق ولا بعد الدخول ، لأن الآية وردت في ذلك .
( قلت ) : وفي معنى المطلقة قبل الدخول كل مفارقة تنصف مهرها ، وحكى ابن حمدان قولًا أن للأب العفو بعد الدخول ، ما لم تلد ، أو تبقى في بيتها سنة ، بناء الله
____________________
(2/437)