( مقدمة المؤلف )
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، اللهم يسّر ، وأعن يا كريم .
قال الشيخ الإِمام ، العالم العلامة ، المحقق المتقن ، شيخ الإسلام والمسلمين ، وحيد دهره ، وفريد عصره ، ناصر السنة ، وقامع البدعة ، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته [ وأسكنه فسيح جنته ] :
____________________
(1/8)
( كتاب الطهارة )
( كتاب ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا كتاب الطهارة . وهو مصدر سمي به المكتوب ، كالخلق سمي به المخلوق ، والكتب في اللغة الجمع ، قال سالم بن دارة :
لا تأمنن فزاريا خلوت به
على قلوصك واكتبها بأسيار
أي اجمعها بأسيار ، والقلوص في الإبل بمنزلة الجارية في الناس ، فكتاب الطهارة هو الجامع لأحكام الطهارة ، من بيان ما يتطهر به ، وما يتطهر له ، وما يجب أن يتطهر منه إلى غير ذلك .
والطهارة في اللغة النظافة والنزاهة عن الأقذار ، ومادة ( نزه ) ترجع إلى البعد :
1 وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كان رسول الله إذا دخل على مريض قال : ( لا بأس طهور إن شاء الله ) أي مطهر من الذنوب ، والذنوب أقذار معنوية .
وفي اصطلاح الفقهاء قال أبو محمد : رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب . وأورد على عكسه الحجر وما في معناه في الاستنجاء ، ودلك النعل ، وذيل المرأة ، على قول ، فإن تقييده بالماء والتراب يخرج ذلك ، وأيضاً نجاسة تصح الصلاة معها فإن زوالها طهارة ولا تمنع الصلاة ، وأيضاً الأغسال المستحبة ، والتجديد ، والغسلة الثانية ، والثالثة ، فإنها طهارة ولا تمنع الصلاة ، ثم يحتاج أن يقيد الماء والتراب بكونهما طهورين ، وقد أجيب عن الأغسال المستحبة ونحوها بأن الطهارة في الأصل إنما هي لرفع شيء ، إذ هي مصدر : طهر . وذلك
____________________
(1/9)
يقتضي رفع شيء ، فإطلاق الطهارة على الوضوء المجدد ، والغسل المستحب مجاز لمشابهته الوضوء الرافع في الصورة ، وابن أبي الفتح لما استشعر هذا زاد بعد ( ما يمنع الصلاة ) وما أشبهه . لتدخل الأغسال المستحبة ونحوها ، وهو على ما فيه من الإجمال يوهم أن : من حدث أو نجاسة . بيان لما أشبهه ، وليس كذلك وإنما هو لبيان ما يمنع الصلاة ، وحدها بعض متأخري البغاددة بأنها : استعمال الطهور في محل التطير على الوجه المشروع . ولا يخفى أن فيه زيادة ، مع أنه حد للتطهير ، لا للطهارة ، فهو غير مطابق للمحدود ، وقد حدت بحدود كثيرة يطول ذكرها والكلام عليها ، والله أعلم .
قال :
( باب ما تكون به الطهارة من الماء )
ش : أي هذا باب . و ( كان ) هنا تامة ، لأنها بمعنى الحصول والحدث ، أي ما تحصل به الطهارة ، كما في قوله تعالى : 19 ( { وإن كان ذو عسرة } ) على القراءة المشهورة ، أي إن وجد ذو عسرة ، أو حصل ذو عسرة ، والباب ما يدخل منه إلى المقصود ، ويتوصل به إلى الاطلاع عليه .
قال : والطهارة بالماء الطاهر المطلق ، الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره ، مثل ماء الباقلاء ، وماء الحمص ، وماء الورد ، وماء الزعفران ، وما أشبهها مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت .
ش : الألف واللام للاستغراق ، والجار والمجرور خبر الطهارة ، وهو متعلق بمحذوف ، وذلك المحذوف في الحقيقة هو الخبر ، والتقدير : كل طهارة حاصلة أو كائنة بالماء . والطاهر ( ما ليس بنجس ) ، ( والمطلق ) غير المقيد ، وقد بينه وأوضحه بقوله : الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره ثم مثل للذي يضاف إلى اسم شيء غيره بماء الباقلاء ، وهو الفول ، وماء الورد ، وماء الحمص ، وماء الزعفران ، وما أشبه هذه الأشياء ، كماء القرنفل ، وماء العصفر ، ونحو ذلك مما لا يفارق اسمه اسم الماء في وقت . واحترز بذلك عن إضافة مفارقة في وقت كماء النهر و [ ماء ] البحر ونحو ذلك ، لأن إضافته تزول بمفارقته ، فوجود هذه الإضافة كعدمها ، هذا حل لفظه .
وأما الأحكام المستنبطة منه فقد ( دل منطوقه ) على أن كل طهارة سواء كانت طهارة حدث أو خبث تحصل بكل ماء هذه صفته سواء نزل من السماء ، أو نبع من الأرض على أي صفة خلق عليها ، من بياض وصفرة ، وسواد ، وحرارة وبرودة ، إلى غير ذلك ، قال الله تعالى : 19 ( { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } ) وهذا وإن كان نكرة في سياق الإثبات لكنه في سياق الامتنان ، فيعم كل ماء .
2 وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال : سأل رجل النبي فقال : إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال
____________________
(1/10)
رسول الله : ( هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته ) رواه الخمسة وصححه غير واحد من الأئمة .
3 وقال عليه الصلاة والسلام في بئر بضاعة : ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) قال أحمد : حديث بئر بضاعة صحيح .
4 وأمر أسماء بنت عميس أن تغسل دم الحيض بالماء .
5 وقال : ( صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ) .
ودل مفهومه على مسائل . ( الأولى ) أن جميع الطهارات لا تجوز بغير الماء ، من دهن ، وخل ، ونبيذ ، ونحو ذلك ، أما في طهارة الأحداث فلقوله تعالى : 19 ( { أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء فتيمموا } ) فنقلنا عند عدم الماء إلى التيمم .
6 وقول النبي لأبي ذر : ( إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ) رواه أحمد والترمذي وصححه .
7 وأما في طهارة الأنجاس فلما روى أبو ثعلبة رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله إنا بأرض أهل كتاب ، فنطبخ في قدورهم ونشرب بآنيتهم . فقال رسول الله : ( إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء ) رواه الترمذي وصححه والرحض الغسل وأمر أسماء أن تغسل دم الحيض بالماء .
( وعن أحمد ) رحمه الله ما يدل على زوال النجاسة بكل مائع طاهر مزيل ، كالخل ونحوه ، إذ المقصود زوال العين ، ( وعنه ) زوالها بالطاهر غير المطهر ، نظراً لإطلاق حديثي أبي ثعلبة وأسماء .
وعلى الأولى وهي المذهب بلا ريب يجوز استعماله في النجاسة تخفيفاً لها ، ويستثنى من هذا المفهوم ما يتيمم به ، فإنه مطهر وليس بماء ، وكذلك ما يستنجى به ، وأسفل الخف إذا دلك ، وذيل المرأة على قول في الثلاثة وقد يقال : لا يرد عليه التيمم ، لأن كلامه في طهارة رافعة للحدث ، وطهارة التيمم مبيحة ، لا رافعة ، والحجر
____________________
(1/11)
في الاستنجاء ونحو ليس بمطهر على المشهور ، ويكون ذلك مأخوذاً من كلام الخرقي وظاهر كلامه . .
( المسألة الثانية ) أن الطهارة لا تصح بماء نجس لتقييده الماء بالطاهر ، وهو واضح .
( المسألة الثالثة ) أن الطهارة لا تصح بغير الماء المطلق ، فلا تصح بماء مضاف إضافة لازمة ، ويأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في المسألة الآتية بعد ، والله أعلم .
قال : وما سقط فيه مما ذكرنا أو غيره ، وكان يسيراً فلم يوجد له طعم ، ولا لون ولا رائحة كثيرة حتى ينسب الماء إليه توضة به .
ش : ما سقط في الماء مما ذكره من الباقلاء ، والزعفران ، والورد ، والحمص ، أو غيره من الطاهرات كالعصفر ، والملح الجبلي ، وورق الشجر إذا وضع فيه قصداً ، ونحو ذلك ، وكان الواقع يسيراً ، فلم يوجد للواقع في الماء طعم ، ولا لون ، ولا رائحة ، حتى أنه بسبب ذلك يضاف الماء إليه ، فيقال : ماء زعفران ، ونحو ذلك ، فهو باق على إطلاقه فيتوضأ به ، لدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { فلم تجدوا ماءً فتيمموا } ) ونحو ذلك .
8 وقد ثبت أن النبي اغتسل هو وزوجته من جفنة فيها أثر عجين .
ومفهوم كلام الخرقي أنه متى وجد للواقع لون ، أو طعم أو رائحة كثيرة ، بحيث صار الماء يضاف إليه ، زالت طهوريته ، ومنع التوضؤ به ، وهو إحدى الروايات ، اختارها أكثر الأصحاب لخروجه عن الماء المطلق ، فلم يتناوله قوله تعالى : 19 ( { فلم تجدوا ماء فتيمموا } ) ودليل ذلك لو وكله أن يشتري له ماء ، فاشترى له هذا الماء المتغير لم يكن ممتثلًا .
( والرواية الثانية ) وهي الأشهر نقلًا ، وإليها ميل أبي محمد هو باق على طهوريته ، لأن ( ماء ) من قوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } نكرة في سياق النفي ، فيشمل كل ماء ، إلا ما خصه الدليل ، ( والرواية الثالثة ) أنه طهور بشرط أن لا يجد غيره ، وحيث أثر التغيير فإنما هو إذا كان كثيراً ، فإن كان يسيراً فثلاثة أوجه ، ثالثها وهو اختيار الخرقي يعفى عن يسير الرائحة ، لأن تأثيرها عن مجاورة ، بخلاف غيرها ، وإنما قيد الخرقي الواقع بكونه يسيراً إجراء على الغالب ، إذ الغالب أن الواقع متى كان كثيراً أثر في الماء ، وأزال طهوريته على مختاره ، ومحل الخلاف مع بقاء اسم الماء ، أما مع زوال الاسم كما إذا صيره الواقع حبراً ، أو خلًا ، أو طبيخاً ، ونحو ذلك فإن طهوريته تزول بلا ريب .
____________________
(1/12)
ويدخل في عموم المفهوم التراب المطروح فيه عمداً ، وهو أحد الوجهين ( والثاني ) وبه قطع العامة لا يؤثر شيئاً ، ( نعم ) إن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء أثر ، لخروجه عن اسم الماء ، وأجرى ابن حمدان الوجهين في الملح البحري أيضاً .
ويدخل فيه أيضاً إذا كان الواقع لا يخالط الماء ، كقطع العود ، والكافور والخشب والدهن والشمع ، ونحو ذلك ، وهو أحد الوجهين ، واختيار أبي الخطاب في انتصاره وأبي البركات ( والثاني ) وهو اختيار جمهور الأصحاب لا يؤثر وقوعه ولو غير الماء ، لأنه تغيير مجاورة لا مخالطة ، أشبه ما لو تغير بجيفة إلى جنبه .
ويستثنى من مفهوم كلام الخرقي واقع يشق الاحتراز عنه ، كورق الشجر ، وما تلقيه الرياح والسيول من العيدان ونحو ذلك ، فإنه لا يؤثر وقوعه في الماء وإن غير جميع أوصافه ، صرح به الشيرازي وكذلك الملح البحري ، والله أعلم .
قال : ولا يتوضأ بماء قد توضئ به .
ش : هذا هو المشهور من المذهب ، وعليه عامة الأصحاب .
9 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ) فقال الراوي : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال : يتناوله تناولًا . رواه مسلم والنسائي ولولا أن الغسل فيه لا يجزىء ، وأن طهوريته تزول لم ينه عن ذلك ، ولأنه أزال به مانعاً من الصلاة ، أشبه الماء المزال به النجاسة ، أو استعمل في عبادة على وجه الإتلاف ، أشبه الرقبة في الكفارة ، وعلى هذه الرواية هو طاهر في نفسه ، يجوز شربه والعجن به ، والطبخ به .
10 لأن في الصحيحين أنه توضأ وصب على جابر من وضوئه والأصل المساواة ، ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى أنه نجس ، نص عليها ، وتأولها القاضي وبعّد ابن عقيل تأويله ، والحق امتناعه و ( عنه ) رواية ثالثة : أنه باق على طهوريته .
11 لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة ، فجاء النبي ليتوضأ منها أو يغتسل ، فقالت : يا رسول الله إني كنت جنباً . فقال : ( إن الماء لا يجنب ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وصححه الترمذي .
وقال بعض المتأخرين : ظاهر كلام الخرقي أنه طهور في إزالة الخبث فقط لأنه إنما منع من الوضوء به . وليس بشيء ، وحكم ما اغتسل به من الجنابة ونحوها حكم ما توضئ به .
____________________
(1/13)
وقد شمل كلام الخرقي رحمه الله ما توضئ به في طهر مستحب ، كتجديد ونحوه ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار ابن عبدوس بناء على أن العلة استعماله في عبادة ، ( والثانية ) واختاره أبو البركات أنه باق على طهوريته ، بناء على أن العلة ثم إزالة المانع ، وعكس ذلك المنفصل من غسل الذمية ، في حيض ونحوه ، هل يخرجه عن طهوريته لإزالته المانع وهو الوطء ، أو لا يخرجه ، لعدم استعماله في عبادة ؟ على روايتين .
واعلم أن كلام الخرقي رحمه الله خرج على الغالب ، إذ يندر أن الإنسان يتوضأ بقلتي ماء ، فلو اتفق ذلك لم يخرجه عن طهوريته بلا نزاع ، والله أعلم .
قال : وإذا كان الماء قلتين وهو خمس قرب فوقعت فيه نجاسة ، فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة ، فهو طاهر .
ش : القلة اسم لكل ما ارتفع وعلا ، ومنه ( قلة الجبل ) وهي هنا الجرة الكبيرة ، سميت قلة لعلوها وارتفاعها ، وقيل : لأن الرجل العظيم يقلها بيده أي يرفعها ، ثم المراد هنا القلال المنسوبة إلى هجر .
12 لأن في بعض ألفاظ الحديث : ( إذا كان الماء قلتين بقلال هجر ) ذكره الشافعي رحمه الله في مسنده ، والدارقطني مرسلًا ولأنها كانت مشهورة معلومة ، فالظاهر وقوع التحديد بها .
13 ولهذا في حديث المعراج قال النبي : ( ثم رفعت لي سدرة المنتهى ، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، وإذا نبقها مثل قلال هجر ) واختلف في مقدار القلة من ذلك ، فقال الخرقي رحمه الله وهو المشهور من الروايات ، والمختار للأصحاب : إنها قربتان ونصف .
14 لأن ابن جريج قال : رأيت قلال هجر ، فرأيت القلة منها تسع قربتين ، أو قربتين وشيئاً فالاحتياط إثبات الشيء ، وجعله نصفاً ، لأنه أقصى ما ينطلق عليه اسم ( شيء ) منكراً . ( والرواية الثانية ) أنها قربتان .
15 لأن يحيى بن عقيل قال : رأيت قلال هجر ، وأظن أن القلة تأخذ قربتين . رواه الجوزجاني ونحوه عن ابن جريج . ( والثالثة ) قربتان وثلث ، جعلا للشيء ثلثاً ، ومقدار القربة عند القائلين بتحديد الماء بالقرب مائة رطل عراقية ، والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهماً ، قاله في المغني القديم ، وعزاه إلى أبي عبيد وقيل : وثلاثة أسباع درهم ؛ ذكره في التلخيص وقيل : وأربعة أسباع . قاله في المغنى الجديد ، وهو المشهور وقيل : وثلاثون درهماً .
____________________
(1/14)
إذا تقرر هذا فقد دل منطوق كلام الخرقي على أن النجاسة إذا وقعت في القلتين المذكورتين ، ولم يتغير وصف من أوصاف الماء فهو طاهر ، ولا نزاع عندنا في ذلك في غير البول والعذرة المائعة .
16 لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع ، فقال : ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) وفي لفظ : ( لم ينجسه شيء ) رواه الخمسة ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني . وقال الحاكم : إنه على شرط الشيخين .
17 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ، والنتن ، ولحوم الكلاب قال : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه ، وأحمد وصححه .
ودل مفهومه على مسألتين ( إحداهما ) أن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه وإن كثر ، ولا نزاع في ذلك ، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً .
18 وقد روى أبو أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه ) رواه ابن ماجه ، والدارقطني ، ولفظه : ( إلا ما غير ريحه أو طعمه ) إلا أن الشافعي رحمه الله قال : هذا الحديث لا يثبت أهل العلم مثله . إلا أنه قول العامة ، لا أعرف بينهم فيه خلافاً ، وكذلك قال أحمد رحمه الله : ليس فيه حديث ، ولكن الله تعالى حرم الميتة ، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه ، فذلك طعم الميتة أو ريحها ، فلا تحل له . وقال أبو حاتم الرازي : الصحيح أنه مرسل قلت : وإذاً يسهل الأمر .
وظاهر كلام الخرقي ( أنه ) لا فرق بين يسير التغير وكثيره وشذ ابن البنا فحكى وجهاً في العفو عن يسير الرائحة . ( المسألة الثانية ) ، أن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير ، وهو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين ، لمفهوم خبر القلتين ، ولأن النبي أمر بإراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب ولم يعتبر التغير ، ( والثانية ) : لا ينجس إلا بالتغير ، اختارها ابن عقيل ، وابن المنى وأبو العباس ، وابن الجوز فيما أظن لخبر بئر بضاعة ، ويرشحه حديث أبي أمامة ، وخبر القلتين قد تكلم فيه ابن عبد البر وابن عدي وغيرهما ، وعلى تقدير صحته فالتقدير بهما والله أعلم بناء على الغالب ، إذ
____________________
(1/15)
الغالب أن ما دون القلتين يظهر فيه الخبث ، ويؤثر فيه فيغيره ، بخلاف القلتين فإن الغالب عدم تأثرهما وتغيرهما بورود الدواب والسباع ونحو ذلك عليهما .
وعموم كلام الخرقي رحمه الله يشمل الراكد والجاري ، وهو إحدى الروايات ، واختارها السامري وغيره ، فعلى هذا إن بلغ مجموع الجاري قلتين لم ينجس إلا بالتغير ، وإلا نجس ، ( والرواية الثانية ) أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير ، اختارها الشيخان ( والثالثة ) وهي اختيار الأكثرين ، القاضي وأصحابه تعتبر كل جرية بنفسها ، فإن كانت يسيرة نجست وإلا فلا ، ثم الجرية عند الأكثرين ما أحاط بالنجاسة ، فوقها وتحتها إلى قرار النهر ، وعن يمينها وشمالها ما بين جانبي النهر ، وزاد أبو محمد : ما قرب من النجاسة أمامها وخلفها . ولابن عقيل في فنونه أنها ما فيه النجاسة ، وقدر مساحتها فوقها وتحتها ، ويمينها ويسارها . انتهى .
وقول الخرقي رحمه الله : فوقعت فيه نجاسة . يخرج به ما إذا كانت النجاسة إلى جنبه كميتة ونحوها ، فإنها لا تؤثر فيه شيئاً ، إذ ذاك تغير مجاورة لا مخالطة ، ويخرج بذلك أيضاً ما إذا سخن بنجاسة ، ولم يعلم وصول شيء من أجزاء النجاسة إليه ، فإن طهوريته باقية بلا خلاف نعلمه ، نعم فيه كراهيته روايتان ( إحداهما ) واختارها ابن حامد : لا يكره نظراً للأصل ( والثانية ) واختارها الأكثرون يكره ، ولها مأخذان ( أحدهما ) احتمال وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء ، وإذاً يرتاب فيه .
19 فيدخل تحت قوله : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) فعلى هذا إذا كان الحائل حصيناً ، وعلم عدم وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء لم يكره ، وهذا اختيار أبي جعفر ، وابن عقيل ، ( والثاني ) استعمال الوقود النجس ، لأن هذه الصفة التي حصلت فيه ، حصلت بفعل محرم أو مكروه ، على اختلاف الأصحاب في استعمال ذلك ، فأثرت فيه منعاً ، وعلى هذا يكره وإن كان الحائل حصينا ، وهو اختيار القاضي ، وأحمد رحمه الله أومأ إلى التعليل بكل منهما .
( تنبيه ) : قد تقدم بيان القلة و ( لم يحمل الخبث ) ، أي يدفعه عن نفسه ، كما يقال : فلان لا يحمل الضيم . إذا كان يأباه ويدفعه عنه ، ( والريب ) الشك ، تقول : وابني فلان . إذا علمت منه الريبة ، وأرابني . إذا أوهمني الريبة والله أعلم .
قال : إلا أن تكون النجاسة بولًا أو عذرة
____________________
(1/16)
مائعة فإنه ينجس ، إلا أن يكون الماء مثل المصانع التي بطريق مكة ، وما أشبهها من المياه الكثيرة التي لا يمكن نزحها ، فذلك الذي لا ينجسه شيء . .
ش : هذا مستثنى من منطوق المسألة السابقة ، وهو أن الماء إذا كان قلتين فوقعت فيه نجاسة لم ينجس إلا بالتغير ، فاستثنى من ذلك إذا كانت النجاسة بولًا أو عذرة مائعة ، فإنه ينجس وإن لم يتغير ، إن لم يبلغ الماء حداً يشق معه نزحه ، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله نقلًا ، واختارها الأكثرون . قال القاضي : اختارها الخرقي ، وشيوخ أصحابنا . وقال أبو العباس : اختارها أكثر المتقدمين . قلت : وأكثر المتوسطين ، كالقاضي ، والشريف وابن البنا ، وابن عبدوس ، وغيرهم .
20 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ) وفي رواية : ( ثم يغتسل منه ) متفق عليه ، وهو شامل للقليل والكثير ، خرج منه ما يشق نزحه اتفاقاً ، فما عداه يبقى على قضية العموم ، ويحمل خبر القلتين على غير البول . ( والثانية ) أن حكم البول والعذرة حكم غيرهما ، اختارها ابن عقيل ، وأبو الخطاب والشيخان ، وقال أبو العباس : اختارها أكثر المتأخرين وقال السامري : وعليها التفريع ، لحديثي القلتين ، وبئر بضاعة ، أما ما يشق نزحه فلا ينجس إلا بالتغير إجماعاً .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) قال أبو محمد : لم أجد عن أحمد رحمه الله ولا عن أحد من أصحابه تقدير ذلك بأكثر من المصانع التي بطريق مكة . وقال الشيرازي : ذكر المحققون من أصحابنا أن ذلك يقدر ببئر بضاعة ، وكان قدر الماء فيها ستة أشبار في ستة أشبار . انتهى .
قال أبو داود : قدرت بئر بضاعة بردائي ، فمددته عليها ثم ذرعته ، فإذا عرضها ستة أذرع .
ومراد الخرقي رحمه الله بالبول بول الآدميين ، بقرينة ذكره العذرة ، فإنها خاصة بالآدميين ، مع أن لنا وجهاً أن غير بول الآدمي كبوله ، وحكم العذرة الرطبة حكم المائعة ، لاشتراكهما في السريان .
( الثاني ) : ( الماء الدائم ) الواقف ، لأنه قد دام في مكانه وسكن ، والله أعلم .
قال : وإذا مات في الماء اليسير ما ليست له نفس سائلة مثل الذباب ، والعقرب ، والخنفساء ، وما أشبهها فلا ينجسه .
ش : النفس السائلة الدم السائل ، قال ابن أبي الفتح : سمي الدم نفساً لنفاسته في البدن . وقال الزمخشري : النفس ذات الشيء وحقيقته ، يقال : عندي كذا نفساً . ثم قيل للقلب نفساً لأن النفس به ، ألا ترى إلى قولهم : المرء بأصغريه . وكذا الروح والدم نفس لأن قوامها بالدم انتهى . والحيوانات على ضربين ( أحدهما ) ما ليس له نفس سائلة ، كالذباب ، والعقرب ، والخنفساء ، والزنبور ، والنمل ، والقمل ، والسرطان ، ونحو ذلك ، وكذلك الوزغ ، ودود القز في وجه فيهما ، فلا ينجس الماء إذا مات فيه ،
____________________
(1/17)
ما لم يكن متولداً من النجاسات ، لأنه لا ينجس بالموت على المشهور المعروف من الروايتين ، وإذا لم ينجس بالموت على المشهور المعروف من الروايتين ، وإذا لم ينجس بالموت لا ينجس الماء بالموت فيه .
21 ودليل عدم نجاسته بالموت ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه ، فإن في أحد جناحيه شفاء ، وفي الآخر داء ) رواه أحمد والبخاري ، وأبو داود ، ولأحمد ، والنسائي وابن ماجه ، من حديث أبي سعيد نحوه والظاهر أنه يموت بغمسه لا سيما إذا كان الطعام حاراً فإنه لا يكاد يعيش غالباً ، ولو نجس الطعام لأفسده ، فيكون أمراً بإفساد الطعام ، وهو خلاف ما قصده الشارع ، إذ قصد بغمسه دفع مضرة حصلت فيه ، كما شهد به التعليل ، لا إفساده بالكلية ، ولأن الله تعالى إنّما حرّم الدم المسفوح ، وهذا ليس بمسفوح ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى بنجاسة ذلك بالموت ، فيكون حكمه إذا مات في الماء حكم غيره من النجاسات ، وقيّد ابن حمدان ذلك بما إذا أمكن التحرز منه غالباً ، وفيه نظر ، أما إن تولد من النجاسات كصراصير الكنيف فهو نجس حياً وميتاً ، بناء على المذهب من أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة ، ولا يرد هذا على الخرقي ، لأن موته لم يؤثر فيه شيئاً ، بل هو باق على ما كان عليه .
( الضرب الثاني ) ، ما له نفس سائلة ، وهو على ضربين أيضاً ( أحدهما ) ما كان نجساً في حال الحياة ، وهو واضح ، إذ موته لا يزيده إلا خبثاً ( الثاني ) ما كان طاهراً في الحياة ، وهو على ثلاثة أنواع ( أحدها ) السمك وما في معناه مما لا يعيش إلا في الماء ، فإن ميتته طاهرة ، وإن كان طافياً على المعروف ، وكذلك الجراد وإن لم يكبس ولم يطبخ ، على المذهب .
22 بدليل ما روي عن النبي أنّه قال : ( أحلت لنا ميتتان ودمان ، السمك والجراد ، والكبد والطحال ) ( الثاني ) الآدمي ، وميتته طاهرة على الصحيح من الروايتين .
23 لقوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( إن المؤمن لا ينجس ) .
24 وفي حديث حذيفة : ( إن المسلم لا ينجس ) وكلاهما في الصحيح وهما شاملان للحياة والموت .
25 وقال البخاري : قال ابن عباس : المسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً . ( والثانية )
____________________
(1/18)
نجسة ما عدا النبي ، فتنجس الماء اليسير ، قياساً على غيرها مما له نفس سائلة ، وقيل بتنجيس ميتة الكافر دون المؤمن ، عملًا بقوله : ( المسلم لا ينجس ) وهذان النوعان يردان على مفهوم كلام الخرقي على المذهب ، وقد يقول بنجاسة الآدمي بالموت ، فيرد عليه النوع الأول فقط . ( النوع الثالث ) ما عدا هذين من حيوانات البر الطاهرة ، مأكولًا كان أو غير مأكول ، وحيوانات البحر الذي يعيش في البر ، فإن ميتته نجسة ، فينجس الماء اليسير ، لعموم { حرمت عليكم الميتة } { إنما حرم عليكم الميتة والدم } .
وتقييد الخرقي رحمه الله الماء باليسير لأنه الذي ينجس بمجرد الملاقاة على المذهب ، أما لو كان كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير ، والغالب أن مجرد موت الحيوان في الماء الكثير لا يغيره .
( تنبيه ) : ( الذباب ) هذا الحيوان المعروف ، مفرد ، جمع القلة منه أذبة ، والكثير ذباب ، ولا يقال : ذبابة . قاله غير واحد ، والله أعلم .
قال : ولا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها ، إلا السنور ، وما دونها في الخلقة .
ش : السؤر مهموز بقية طعام الحيوان وشرابه ، وسؤر الحيوان مبني عليه ، فإن كان الحيوان طاهراً فهو طاهر ، وإن كان نجساً فهو نجس ، وإن لم يتغير ، بناء على المذهب من تنجيس الماء القليل بمجرد الملاقاة ، وهو الغالب على السؤر ، ولهذا أطلق الخرقي رحمه الله . أما إذا كان السؤر كثيراً فإنه لا ينجس إلا بالتغير . إذا عرف هذا فالحيوان على ضربين ( بهم ) جمع بهيمة وهو ما عدا الآدمي ( والآدمي ) وهذا الضرب لم يتعرض الخرقي للحكم عليه بنفي ولا إثبات ، وحكمه أنه طاهر في الجملة ، مسلماً كان أو كافراً ، طاهراً أو محدثاً ، وكذلك سؤره ، لقوله : ( إن المؤمن لا ينجس ) .
26 وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها كانت تشرب من الإناء ، فيضع فاه على موضع فيها . ويستثنى من ذلك سؤر المجوسي والوثني ومن في معناهما من ذمي يتظاهر بشرب الخمر أو أكل الخنزير ، أو من مسلم مدمن لشرب الخمر ، أو لتناول النجاسات ، فإن سؤر هؤلاء نجس ، على رواية مشهورة ، مختارة لكثير من الأصحاب تغليباً للظاهر على حكم الأصل .
27 وعليه يحمل حديث أبي ثعلبة المتقدم ، وقد جاء ذلك مصرحاً فيه وحكى في التلخيص عن أحمد رحمه الله رواية أخرى بتنجيس سؤر الكافر مطلقاً .
والضرب الأول الذي حكم عليه الخرقي رحمه الله على ضربين أيضاً ، مأكول
____________________
(1/19)
وغير مأكول ، فالمأكول كله طاهر في الجملة إجماعاً حكاه ابن المنذر وغيره ، فيكون سؤره كذلك ، كما اقتضاه مفهوم كلام الخرقي . وهل يستثنى من ذلك الجلالة وهي التي تأكل العذرة بناء على نجاستها إذاً أولًا وهو مقتضى عموم مفهوم كلام الخرقي نظراً لأصلها ؟ على روايتين .
وغير المأكول على ثلاثة أضرب ( أحدها ) طاهر ، وهو السنور ويسمى الضيون بضاد معجمة ، وياء مثناة من تحتها ، ونون والهر والقط وما دونه في الخلقة ، كابن عرس والفأرة ونحو ذلك ، فهو طاهر ، وكذلك سؤره كما شهد بذلك النص .
28 فعن كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة رضي الله عنهم أن أبا قتادة دخل عليها ، فسكبت له وضوءاً ، فجاءت هرة تشرب منه ، فأصغى لها الإناء حتى شربت ، قالت كبشة : فرآني أنظر إليه ، فقال : أتعجبين يا ابنة أخي ؟ فقلت : نعم . فقال : إن رسول الله قال : ( إنها ليست بنجس ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات ) رواه الخمسة ، وصححه الترمذي وهذا يدل على طهارة الهر بالنص والتعليل ، ويدل على طهارة ما دونها بالتعليل وإذاً لا عبرة بوجه ضعيف بنجاسة سؤر ما دون الهرة ، نعم يكره سؤر ذلك على إحدى الروايتين بخلاف الهرة .
( تنبيه ) : لو أكلت الهرة أو نحوها نجاسة ، ثم شربت من ماء ، فثلاثة أوجه مشهورات ثالثها : إن شربت بعد غيبتها وقيل : قدر ما يطهر فمها بريقها فسؤرها طاهر ، وإلا فنجس . ( الضرب الثاني ) نجس بلا نزاع عندنا ، وكذلك سؤره ، وهو الكلب والخنزير ، وما تولد منهما أو من أحدهما .
29 لقوله : ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ) ولمسلم : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات ، أولاهن بالتراب ) . والخنزير شر منه ، والمتولد من الخبيث خبيث ، وحكى ابن حمدان رواية بطهارة سؤر الكلب والخنزير واستغربها واستبعدها وإنها لجديرة بذلك .
( الضرب الثالث ) سباع البهائم ، وجوارح الطير ، والبغل ، والحمار ، وفيها روايتان ( إحداهما ) وهي المشهورة عند الأصحاب ، وظاهر كلام الخرقي نجاستها ، فكذلك سؤرها ، لظاهر حديث القلتين وإلا لم يكن للتحديد بهما فائدة . ( والثانية ) طهارتها ، واختارها أبو محمد في البغل والحمار ، لعموم البلوى بهما ، ولأن النبي وأصحابه كانوا يركبونها مع حرارة بلادهم ، والظاهر أنهم لا يسلمون من ملاقاتها .
30 ويدل على ذلك في السباع ما روى مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد
____________________
(1/20)
الرحمن ، أن عمر رضي الله عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص ، حتى وردوا حوضاً ، فقال عمرو : يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع ؟ فقال عمر بن الخطاب : لا تخبرنا ، فإنا نرد على السباع ، وترد علينا . قال رزين : زاد بعض الرواة في قول عمر رضي الله عنه : وإني سمعت رسول الله يقول : ( لها ما أخذت في بطونها ، ولنا ما بقي طهور وشراب ) اه ، وإمامنا اعتمد على قول عمر ، فالظاهر عدم صحة الزيادة عنده ، وعلى هذه : سؤرها طاهر . ( وعن أحمد ) رواية ثالثة بالشك في سؤر البغل والحمار ، فيتيمم معه إن لم يجد ماء طهوراً ، وينوي بتيممه الحدث والنجاسة احتياطاً لاحتمالها ، وقيل : يتيمم ويصلي ، ثم يتوضأ به ويصلي .
واعلم أن المنصوص عن أحمد رحمه الله رواية الشك والنجاسة على ما ذكره القاضي في روايتيه ، وأبو الخطاب في خلافه ، أما رواية الطهارة فذكرها أبو الخطاب مخرجة ، والطاهر من سباع البهائم والله أعلم .
قال : وكل إناء حلت فيه نجاسة من ولوغ كلب ، أو بول ، أو غيره ، فإنه يغسل سبع مرات ، إحداهن بالتراب .
ش : لا خلاف عن إمامنا فيما نعلمه أن الإناء يجب غسله من نجاسة الكلب والخنزير سبعاً إحداهن بالتراب ، فكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما .
30 م لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً ) متفق عليه ، ولمسلم : ( طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات ، أولاهن بالتراب ) وله في أخرى : ( فليرقه ، ثم ليغسله سبع مرات ) والخنزير شر منه ، نص الشارع على تحريمه ، وحرمة اقتنائه ، فالحكم يثبت فيه من طريق التنبيه ، وإنما لم ينص الشارع عليه والله أعلم لأن العرب لم يكونوا يعتادونه ، بخلاف الكلب ، فإنهم كانوا يعتادونه كثيراً ، والمتولد من الخبيث خبيث . ( وعن أحمد رحمه الله يجب الغسل ثمانياً ) .
31 لما روى عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله : ( إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات ، وعفروه الثامنة بالتراب ) رواه مسلم وغيره وحمل على أنه عدّ التراب ثامنة ، جمعاً بين الأحاديث ، وفي أي موضع جعل التراب أجزأه .
31 م لأن في مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : ( أولاهن بالتراب ) وفي أبي داود فيه : ( السابعة ) وفي الترمذي فيه : ( أولاهن أو أخراهن ) فدل على أن المقصود حصول التراب في الغسلات ، إلا أن الأولى جعله في الأولى ، ليأتي الماء
____________________
(1/21)
عليه فينظفه ، ويكفي هم التراب لو انتضح من الغسلات على شيء على الأشهر ( وعنه ) : أن غسل ثمانياً جعله في الآخرة ، لحديث ابن مغفل ( وعنه ) بل في الآخرة مطلقاً ، ( وعنه ) : حيث شاء ، وهل يقوم الأشنان [ ونحوه ، أو الغسلة الثامنة مقام التراب ، أو لا يقومان ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، أو يقوم الأشنان ] ونحوه دون الماء ، أو إن تعذر التراب أو تضرر المحل به أجزأ الأشنان وإلا فلا . أو إن فسد المحل به كثوب حرير ونحوه سقط اعتباره رأساً ؟ على خمسة أوجه .
وحكم غير الإناء من الثياب والفرش ونحوها حكم الإناء ، إلا أن في وجوب التراب فيه قولان ، أصحهما يجب ، وإنما نص الخرقي رحمه الله على الإناء والله أعلم لورود النص فيه ، ( أما الأرض ) وما اتصل بها من الحيطان ، والأحواض ونحو ذلك ، فالواجب مكاثرتها بالماء حتى تزول عين النجاسة ، أيّ نجاسة كانت ، وإن كانت نجاسة كلب أو خنزير على المذهب ، وقد ذكر الخرقي رحمه الله هذا في غير هذا الموضع .
واختلف عن إمامنا رحمه الله في نجاسة غير الكلب والخنزير ، وما تولد منهما في غير الأرض وما اتصل بها ، فعنه ثلاث روايات مشهورات .
( إحداهن ) وهي اختيار الخرقي رحمه الله وجمهور الأصحاب أنها تغسل سبعاً ، كنجاسة الكلب قياساً عليها ، لأنه إذا وجب السبع في ولوغ الكلب ، مع الخلاف في طهارته وفي أكله ففي بول الآدمي ونحوه ، مع الإتفاق على نجاسته أولى وأخرى .
32 وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : أمرنا بغسل الأنجاس سبعاً وعلى هذه الرواية وقيل : بل حيث اشترط العدد ، وهو ظاهر ما في التلخيص والرعاية هل يجب التراب وهو اختيار الخرقي ، إلحاقاً له بنجاسة الكلب أو لا يجب وهو اختيار أبي البركات قصراً له على مورد النص ، أو لأن ذلك للزوجة في ولغ الكلب ؟ فيه وجهان . ( والثانية ) يجب غسلها ثلاثاً ، اختارها أبو محمد في العمدة .
33 لقوله : ( إذا انتبه أحدكم من نومه ، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده ) علل بوهم النجاسة ، ولا يزيل وهمها [ إلا ما يزيل ] حقيقتها ، ( والثالثة ) تكاثر بالماء حتى تزال ، من غير اعتبار عدد ، لأن النبي أمر أسماء بغسل دم الحيض ، ولم يأمرها بعدد ، وأمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ولم يأمر بعدد .
34 وقد روى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كانت الصلاة خمسين ، والغسل من الجنابة سبع مرات والغسل من البول سبع مرات فلم يزل النبي يسأل ،
____________________
(1/22)
حتى جعلت الصلاة خمساً ، والغسل من الجنابة مرّة ، والغسل من البول مرّة . رواه أحمد وأبو داود ، وهو نص لكن في إسناده ضعف وروي أن السبع لا تعتبر في [ غير ] محل الإستنجاء من البدن ، وتعتبر في محل الاستنجاء [ وسائر المحال ، قال الخلال : وهي وهم ، وروي الاجتزاء بثلاث في محل الاستنجاء ] واعتبار السبع في غيره ، وضعفت أيضاً .
[ تن ] ( تنبيهات ) [ / تن ]
( أحدها ) قد شمل كلام الخرقي رحمه الله محل الإستنجاء ، فعلى المشهور عند الأصحاب : يغسل سبعاً كغيره . وقد صرح بذلك الثاضي في التعليق والشيرازي ، وابن عقيل ، وابن عبدوس ونص عليه أحمد رحمه الله في رواية صالح ، واختار أبو محمد في المغني أنه لا يجب العدد فيه ، اعتماداً على أنه لم يصح عن النبي في ذلك عدد ، لا من فعله ، ولا من قوله وتمسكا بإطلاق أحمد في رواية أبي داود وقد سئل عن حد الاستنجاء بالماء فقال : ينقي . ويؤيد هذا أنه لا يشترط له تراب ، كما نص عليه أحمد رحمه الله فقال : يجزئه الماء وحده ، وقطع به أبو محمد ، وابن تميم ، وغيرهما .
( الثاني ) : حيث اشترط التراب فهل من شرطه كونه طهوراً يجوز التيمم به ، أو يكتفى بكونه طاهراً ، وهو ظاهر ما في التلخيص ؟ قولان ، ثم شرط ابن عقيل أن يكون بحيث تظهر صفته ، ويغير صفة الماء .
( الثالث ) : ( ولغ يلغ ) بفتح اللام فيهما ، وحكى ابن الأعرابي كسرها في الماضي إذا شرب مما في الإناء بطرف لسانه ، ( والتعفير ) التمريغ في العفر وهو التراب [ والله أعلم ] .
قال : وإذا كان معه في السفر إناآن نجس وطاهر ، واشتبها [ عليه ] أراقهما وتيمم .
ش : صورة هذه المسألة إذا لم يجد طهوراً غيرهما ، ولم يمكن تطهير أحدهما بالآخر ، أما إذا كان ذلك فإنه يجب اعتماده ، وإنما ترك الخرقي رحمه الله بيان ذلك لوضوحه ، ولذلك قيد بالسفر ، لأنه حال مظنة عدم الماء ، ووجود إناء يسع قلتين ، وإلا فالحكم لا يختص بالسفر ، وبالجملة إذا اشتبه طاهر بنجس والحال ما تقدم واستويا ، فإنه لا خلاف في المذهب أنه يعدل إلى التيمم ، ولا يتحرى .
35 لقوله : ( دع ما يريبك ، إلى ما لا يريبك ) ولأنه اشتبه المباح بالمحظور ، فيما لا تبيحه الضرورة ، أشبه اشتباه أخته بأجنبية ، أو ميتة بمذكاة ، وإن كثر عدد الطاهر على عدد النجس ، فكذلك على المشهور ، المختار للأكثرين ، لما تقدم .
____________________
(1/23)
وأومأ الإمام في موضع إلى أنه يتحرى ، فما يغلب على ظنه أنه طهور استعمله ، وهو اختيار أبي بكر ، وابن شاقلا ، والنجاد ولأن إصابة الطهور والحال هذه أغلب ، ثم هل يكتفى بمطلق الكثرة [ أو لا بد من كثرة ] عرفاً وحكي عن القاضي في التعليق أو لا بد وأن يكون النجس عشر الطهور وهو المشهور ؟ فيه أوجه .
وظاهر كلام الخرقي أن ( صحة ) تيممه موقوف على إراقتهما ، وهو إحدى الروايتين ، بشرط أن يأمن العطش ، واختاره أبو البركات ، ليصير عادماً للماء بيقين فيدخل تحت قوله تعالى : { فلم تجدوا ماءً فتيمموا } . ( والثانية ) واختارها أبو بكر وأبو محمد : لا يشترط ، لأنه ممنوع من استعمالهما شرعاً ، أشبه الجريح ، وحكم الخلط حكم الإراقة .
وإطلاق الخرقي يقتضي أنه إذا صلى بالتيمم لا إعادة عليه بعد ، ولو علم عين الطاهر ، وهو المعروف من الوجهين ، [ والله سبحانه أعلم ] .
قال :
( باب الآنية )
ش : ( الآنية ) جمع إناء ، كسقاء وأسقية ، وجمع الآنية أواني ، والأصل : ءآني . أبدلت الهمزة الثانية واواً ، كراهة اجتماع همزتين ، ومثله : آدم وأوادم .
قال : وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس .
ش : مراد الخرقي والله أعلم الميتة النجسة ، وقد تقدم بيان الميتة النجسة من الطاهرة ، وجلد الميتة قبل الدبغ نجس ، أما بعد الدبغ ففيه روايتان : أشهرهما : وهي اختيار الخرقي وعامة الأصحاب أنه نجس ، لقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } والجلد جزء منها ، وهذا على القول بعمومها ، كما هو ظاهر كلام إمامنا رحمه الله لأنه استدل بها على ذلك ، وكثير من أصحابنا ، منهم القاضي في الكفاية ، وعلى هذا إما أن يمنع صحة الأحاديث الواردة في الدباغ ، كما أشار إليه أحمد كما سيأتي ، أو يلتزم صحتها ويمنع تخصيص عام القرآن بالسنة على أنا نلتزم أن الآية الكريمة ليست عامة ، وإنما المحرم تحريم الفعل المقصود من كل جزء منها ، والمقصود من الجلد الانتفاع به ، كما أن المقصود من اللحم الأكل .
36 ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن عكيم قال : كتب إلينا رسول الله أن : ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) وفي رواية أبي داود : قبل موته بشهر : ( أن لا تنتفعوا ) وفي رواية للترمذي : بشهرين . رواه الخمسة وحسنه الترمذي وقال أحمد :
____________________
(1/24)
ما أصلح إسناده . وفي رواية ابنه صالح : قال : ليس عندي في الدباغ حديث صحيح ، وحديث ابن عكيم أصحها . وفي لفظ للدارقطني : ( كنت رخصت لكم في جلود الميتة ، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) وهو مشعر بنهي بعد رخصة ، وأن ما ورد من الرخصة كان أولًا . ولا يقال الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ . قاله النضر بن شميل وغيره ، لأنا نمنع ذلك ، كما قاله طائفة من أهل اللغة ويؤيد قولهم أنه لم يعلم من النبي فيه قبل الدبغ رخصة ، ولا عادة الناس الإنتفاع به .
فعلى هذه وقيل : وإن لم يدبغ هل يجوز استعماله في اليابس ونحوه ؟ على روايتين ، أما في المائع فقال كثير من الأصحاب : لا ينتفع بها رواية واحد ، قال ابن عقيل : ولو لم ينجس الماء ، بأن كانت تسع قلتين . قال : لأنها نجسة العين ، أشبهت جلد الخنزير ، وجوز أبو العباس في فتاويه الانتفاع بها في اليابس انتهى . فعلى رواية الجواز يجوز الدبغ وعلى رواية المنع فيه ( وجهان ) .
( والثانية ) أن الدباغ مطهر في الجملة ، اختارها أبو العباس ، وإليها ميل جده في المنتقى ، وابن حمدان في الكبرى ، وقيل : إنها آخر قولي أحمد ، قال أحمد بن الحسن الترمذي كان أحمد يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر : قبل وفاته بشهرين . ويقول : هذا آخر الأمرين من رسول الله ، ثم تركه للاضطراب في إسناده ، حيث روى بعضهم : عن عبد الله بن عكيم ، عن أشياخ من جهينة .
37 وذلك لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : تصدق على مولاة لميمونة بشاة ، فماتت ، فمر بها رسول الله فقال : ( هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ) .
38 ( وعنه أيضاً ) قال : سمعت رسول الله يقول : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) رواهما مسلم وغيره وفي رواية في الصحيح أيضاً : ( إنما حرم أكلها ) .
39 ولأحمد وأبي داود ، والنسائي ، والدارقطني وصححه في حديث شاة ميمونة : ( يطهرها الماء والقرظ ) .
40 وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي في جلد الميتة قال : ( إن دباغة ذهب بخبثه أو رجسه أو نجسه ) رواه البيهقي في سننه وصححه وإذاً يمنع
____________________
(1/25)
العموم في الآية الكريمة ، ويدعى فيها إما الإجمال كما قاله القاضي في العدة ، أو أن المحرم تحريم الأكل ، لأنه المقصود منها عرفاً ، أو يلتزم العموم ويدعى تخصيصه ، بما تقدم ، وحديث ابن عكيم لا يقاوم حديث ابن عباس .
41 ثم قد ورد نحوه من حديث عائشة ، وعالية بنت سبيع ، وسلمة بن المحبق ، وكلها في السنن على أن حديث ابن عكيم يحمل على ما قبل الدبغ ، جمعاً بين الأحاديث .
وعلى هذه الرواية هل الدباغ يصيره كالحياة ، بدليل رواية ابن عباس التي رواها البيهقي ، وهو اختيار أبي محمد ، وصاحب التلخيص فيه ، فيطهر جلد كل ما حكم بطهارته في الحياة كالهر ونحوها ، ما سوى الكلب والخنزير ، والمتولد منهما على رواية ، أو كالذكاة .
42 لأن في رواية : ( ذكاتها دباغها ) وهو اختيار أبي البركات فلا يطهر إلا ما يطهره الذكاة ؟ فيه وجهان ، وقد يخرج عليهما جلد الآدمي ، فإن في طهارته إن قيل بنجاسته بالموت بالدبغ وجهان ، والله أعلم .
قال : وكذلك آنية عظام الميتة .
ش : يعني أنها نجسة إذا كانت من ميتة نجسة ؛ لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم .
43 وفي بعض ألفاظه : ( أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) رواه البيهقي في سننه ولأن الحياة تحله فينجس بالموت كالجلد ، ودليل الوصف قوله تعالى : { قال من يحيي العظام وهي رميم } الآية ، وحكى أبو الخطاب ومن تبعه قولا بالطهارة ، وهو مختار أبي العباس .
44 لما روى أبو داود عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( اشتر لفاطمة سوارين من عاج ) والعاج عظم الفيل ، وحكم القرن ، والظفر ، والحافر ، كالعظم ، إن أخذ من مذكى فهو طاهر ، ومن حي طاهر في الحياة ينجس بالموت فهو نجس ، وكذلك ما سقط عادة من قرون الوعول ونحوها ، ولأبي محمد ( رحمه الله ) فيه احتمال بالطهارة ، والله أعلم .
قال : ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة .
ش : أراد بالكراهة ( كراهة ) التحريم ، كما هو دأب السلف كثيراً ، وقد صرح بذلك في غير هذا الموضع ، فقال : والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص ، وفيها الزكاة وإذا حرم الاتخاذ فالاستعمال أولى ، وقال : والشرب في آنية الذهب والفضة حرام .
____________________
(1/26)
45 وذلك لما روى حذيفة قال سمعت رسول الله يقول : ( لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ) وفي رواية : ( ولكم في الآخرة ) متفق عليه .
46 وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) متفق عليه وفي رواية لمسلم : ( الذي يأكل ويشرب ) وغير الأكل والشرب في معناهما .
وعموم كلام الخرقي يشمل الرجل والمرأة ، وهو كذلك ، لعموم الدليل ، وتخصيصه ، المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما ، وهو كذلك في الجملة .
47 لأن في حديث عبد الله بن زيد : أتانا رسول الله فأخرجنا له ماء في تور ( من صفر ) فتوضأ . رواه البخاري .
48 وجاء أنه توضأ هو وأصحابه من مخضب من حجارة ، ومن قدح من زجاج ، وأنه كان له قدح من خشب يشرب فيه ويتوضأ . ويدخل في المفهوم الثمين ، وهو ما كثر ثمنه ، قال أبو البركات : هو ما كان جنسه أكثر قيمة من جنس النقدين ، كالجوهر والبلور ، ونحوهما وهو كذلك ، لتخصيص النبي النهي بالذهب والفضة ، ومفهومه إباحة ما عداهما ، فمفهوم اللقب حجة عندنا على الأشهر ، ثم العلة فيهما الخيلاء ، وكسر قلوب الفقراء ، وهي غير موجودة هنا ، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس ، ولا عبرة بكراهة الشيرازي الوضوء من الصفر والنحاس لما تقدم .
ويستثنى من العموم النجس ، كآنية عظام الميتة ونحو ذلك ، وقد يؤخذ من كلامه ثم ، والمحرم ، كالمغصوبة ونحوها ، والمضبب والمطعم بالذهب أو الفضة .
49 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( من شرب من إناء ذهب ، أو فضة ، أو إناء فيه شيء من ذلك ، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) رواه البيهقي في سننه وقال : والمشهور عن ابن عمر في المضبب من قوله ، وعن عمرة قالت : ما زلنا بعائشة حتى رخصت لنا في الحلي ، ولم ترخص لنا في الإناء المفضض . رواه البيهقي أيضاً .
____________________
(1/27)
ويستثنى من المضبب [ المضبب ] بضبة من الفضة ، ويأتي الكلام على هذا إن شاء الله في كتاب الأشربة ، أبسط من هذا .
[ تنبيهان : ( أحدهما ) : ( يجرجر في بطنه ) أي يحدر ، جعل الشرب جرجرة ، وهو صوت وقوع الماء في الجوف ] ( الثاني ) : ( التور ) شبه الطست ، وقال ابن الأثير : إناء صغير ( والمخضب ) مثل الإجانة التي تغسل فيها الثياب . والله أعلم .
قال : فإن فعل أجزأه .
ش : إذا خالف وتوضأ فيها أجزأه عند الخرقي ، وأبي محمد ، إذ استعمال الماء في الوضوء حصل بعد فعل المعصية ، وبهذا فارق الصلاة في البقعة الغصب ، ولم يجزه عند أبي بكر ، وأبي الحسين ، وأبي العباس لإتيانه بالعبادة على وجه المحرم ، أشبه الصلاة في المحل الغصب ، ودليل الوصف وصف الشارع الأكل والشرب بالتحريم ، مع حصولهما بعد فعل الأكل والشرب ، حيث توسل إليهما بالمحرم .
وقول الخرقي : يتوضأ في آنية الذهب والفضة . يحتمل أنه غطس فيها وكانت تسع قلتين ، ووجد الترتيب ، بأن أخرج وجهه أولًا ، ثم يديه ، ثم مسح رأسه ، أو غسله وقلنا : يجزئ عن المسح ، ثم أخرج رجليه ، وعلى هذا يصح فيما إذا توضأ منها ، أو بها ، أو جعلها مصباً للماء بطريق الأولى ، ويحتمل أن يريد أنه جعلها مصباً للماء ، وعلى هذا لا يلزم الصحة فيما إذا توضأ فيها ، أو بها ، أو منها ، لأنّا إذا قلنا بعدم الصحة في هذه الصور ، ففي جعلها مصباً احتمالان ، أصحهما الصحة ، والله أعلم .
قال : وصوف الميتة وشعرها طاهر .
ش : يعني من الميتة الطاهرة في الحياة ، وإلا فالنجسة في الحياة ؛ الموت لا يزيدها إلّا خبثاً ، وهذا هو المعروف المشهور من نص أحمد ، وعليه أصحابه ، لقول الله تعالى : 19 ( { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } ) الآية . ساقه سبحانه وتعالى في سياق الامتنان ، فالظاهر شموله لحالتي الحياة والموت ، وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي وجد شاة ميتة فقال : ( هلا انتفعتم بجلدها ) ؟ فقالوا : إنها ميتة . فقال : ( إنما حرم أكلها ) ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنها نجسة ، أومأ إليها في شعر الآدمي الحي ومن ثم يعلم أن حكاية صاحب التلخيص الخلاف في شعر غير الآدمي ، والقطع فيه بالطهارة ليس بشيء وذلك لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم : ( لا تنتفعوا من الميتة بشيء ) ولعموم { حرمت عليكم الميتة } ( وأجيب ) : بأن المراد بالآية الحياة الحيوانية ، ومن خاصيتها الحس والحركة الإرادية ، وهما منتفيان في الشعر ، وحكم الوبر والريش حكم الشعر .
____________________
(1/28)
وقد دخل في قولنا : من الميتة الطاهرة في الحياة . شعر الهرة ونحوها ، وهو اختيار أبي محمد وابن عقيل ، وقيل بنجاسة شعر ذلك بعد الموت ، إذ طهارته في الحياة لعلة مشقة الاحتراز منه ، وقد زالت بالموت وجعل القاضي الخلاف في المنفصل في حياته أيضاً ، وألحق ابن البنا بذلك سباع البهائم ونحوها ، على القول بطهارتها والله أعلم .
( باب السواك وسنة الوضوء )
ش : ( السوك ) والمسواك العود الذي يتسوك به ، يذكّر ويؤنّث ، سمي بذلك لكون الرجل يردده في فيه ويحركه ، يقال : تساوكت الإبل إذا مشت مشياً في لين ، ( والسنة ) الشريعة والطريقة .
50 قال رسول الله : ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
51 وقال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ) وإذا أطلقت في مقابلة الواجب أريد بها المستحب .
52 ومنه قوله : ( إن الله فرض صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ) الحديث ، ورسمت بأنها ما رسم للتحدي ، وهو ما يكون المتأسي فيه مماثلًا للأول لا مخالفاً له ، والله أعلم .
قال : والسواك سنة .
53 ش : عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) رواه أحمد والنسائي ، والبخاري تعليقاً مجزوماً به ، وابن حبان ورواه أيضاً من طريق أبي هريرة ، ورواه أحمد من طريق أبي بكر ، وابن عمر رضي الله عنهم .
54 ولأحمد عن واثلة . . ( لقد أمرت بالسواك ، حتى خشيت أن يكتب علي ) .
55 وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ) . وهو لأبي داود ، والترمذي من
____________________
(1/29)
حديث زيد بن خالد الجهني .
والحكم الذي حكم به الخرقي يشمل النبي ، وهو اختيار ابن حامد ، واختيار القاضي وابن عقيل الوجوب عليه ، بخلاف أمته ، والله أعلم .
قال : يستحب عند كل صلاة .
ش : يتأكد استحباب السواك في مواضع ( منها ) عند الصلاة ، لما تقدم من حديث أبي هريرة ، ( وعند المضمضة ) في الوضوء .
56 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء ) رواه أحمد بإسناد صحيح . . ( وعند القيام ) من نوم الليل .
57 لأن في الصحيحين أن النبي كان إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك . . ( وعند دخول ) المسجد والمنزل ، وقراءة القرآن ، وإطالة السكوت ، وخلو المعدة من الطعام ، واصفرار الأسنان ، وتغير رائحة الفم ، والله أعلم .
قال : إلا أن يكون صائماً ، فيمسك من وقت الزوال إلى أن تغرب الشمس .
ش : هذا هو المشهور في المذهب ، حتى أن ابن عقيل قال : لا يختلف المذهب في ذلك .
58 وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ) والخلوف إنما يظهر غالباً بعد الزوال ، ولأنه أثر عبادة ، مستطاب شرعاً ، أشبه دم الشهيد ، وهذا الإمساك على سبيل الاستحباب ، فلو خالف ففي الكراهة روايتان . وحكى القاضي وغيره رواية بالاستحباب ، وهي أظهر .
59 لما روى عامر بن ربيعة قال : رأيت رسول الله ما لا أحصي يتسوك وهو صائم . رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي وحسنّه .
60 قال البخاري : وكان ابن عمر يستاك أول النهار وآخره ولأن مرضاة الرب أطيب من ريح المسك ، والقياس نقول بموجبه ، ونمنع أن الخلوف في محل السواك إنما هو من المعدة والخلو على أنه لو صح القياس للزم أن لا يزال بعد الغروب ، وحيث سن السواك ففي كراهته بعود رطب خشية تحلل جزء روايتان والله أعلم .
____________________
(1/30)
( تنبيه ) : ( يشوص ) أي يغسل ، قاله الهروي : وقيل : يدلك . قال ابن الأعرابي وقيل : ينقي وقيل : هو أن يستاك عرضاً . وعن ابن دريد . . الشوص هو الاستياك من سفل إلى علو ، ومنه الشوصية ريح ترفع القلب عن موضعه اه . ( والموص ) بمعناه ، وقيل لا ، ( والخلوف ) : بضم الخاء ، هكذا الرواية الصحيحة ورواه من لا يحقق بفتحها وخطأ ذلك الخطابي . . قال الهروي : خلف فوه ، إذا تغير ، يخلف خلوفاً والله أعلم قال : وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل ، قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثاً .
ش : لا إشكال في مطلوبية الغسل والحال هذه .
60 م لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده ) متفق عليه . . هذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري : ( إذا استيقظ أحدكم من نومه ، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده ) . وللترمذي وصححه : ( إذا استيقظ أحدكم من الليل ) .
وهل تنهض المطلوبية للوجوب ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) نعم ، واختارها أبو بكر والقاضي ، وعامة أصحابه ، بل وأكثر الأصحاب ، لما تقدم من الأمر بذلك ، والنهي عن عدمه ، ومقتضى ذلك الوجوب ، وعلى هذه : غسلهما شرط لصحة الصلاة ، قاله ابن عبدوس وغيره ، وهل هو تعبد ، فيجب وإن شدت يده ، أو جعلت في جراب ونحو ذلك ، أو معلل بوهم النجاسة ، فلا يجب من نحو ما تقدم ؟ فيه وجهان . ويتعلق الحكم بالنوم الناقض على الأشهر ، لا بنوم أكثر الليل ، وهل تجب النية والتسمية لغسلهما ؟ أوجه ثالثها : تجب ( النية ) دون التسمية .
( والرواية الثانية ) : لا تنهض لذلك ، اختارها الخرقي والشيخان ، قال أبو العباس : اختارها الخرقي وجماعة ، لأن قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } شمل القائم من النوم .
61 لا سيّما وقد فسره زيد بن أسلم رضي الله عنه بالقيام من الليل ولم يذكر سبحانه وتعالى غسل اليدين ، والأمر السابق للندب ، لأنه علل بوهم النجاسة ، وذلك يقتضي الندبية لا الوجوب استصحاباً للأصل .
واعلم أن السنة لا تختص بنوم الليل بل يسن له أن يغسل يديه عند الوضوء وإن لم يقم من نوم أصلًا ، حتى لو تيقن طهارتهما ، على المذهب المنصوص ، لأن الواصفين لوضوئه قالوا : وغسل كفيه ثلاثاً . وإنما نص الخرقي على نوم الليل دون غيره لتأكده ، ولينص على محل الخلاف ، والغسل المطلوب إلى الكوع ، والله أعلم .
____________________
(1/31)
قال : والتسمية عند الوضوء .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أبي محمد ، وقال الخلال : إنه الذي استقرت عليه الروايات .
62 لقوله : ( توضؤا بسم الله ) ولم يجب ، لقوله سبحانه : 19 ( { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } ) ولم يذكر التسمية ، ولأنها طهارة ، فلم تجب لها التسمية كطهارة الخبث . ( والرواية الثانية ) : تجب . واختارها أبو بكر ، وابن شاقلا وأبو جعفر ، وأبو الحسين ، وأبو الخطاب . قال أبو العباس : اختارها القاضي وأصحابه ، وكثير من أصحابنا بل أكثرهم .
63 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( لا صلاة لمن لا وضوء له ، ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه ) رواه أحمد وأبو داود ، ولأحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد [ وأبي سعيد مثله قال البخاري : أحسن شيء في هذا الباب حديث سعيد بن زيد ] وكذلك قال إسحاق : إنه أصحها ، وعلى هذه تسقط بالسهو على رواية اختارها القاضي في التعليق ، وابن عقيل وأبو محمد ، ولا تسقط في أخرى ، اختارها ابن عبدوس ، وأبو البركات ، وقال الشيرازي ، و ابن عبدوس : متى سمى في أثناء الوضوء أجزأه على كل حال .
( تنبيه ) : محل التسمية اللسان ، وصفتها : بسم الله . فإن قال : بسم الرحمن : أو القدوس ، لم يجزئه على الأشهر ، كما لو قال : الله أكبر . ونحوه ، على المحقق وتكفي الإشارة بها من الأخرس ونحوه ، والله أعلم .
قال : والمبالغة في الاستنشاق ، إلّا أن يكون صائماً .
64 ش : أي تسن لما روى لقيط بن صبرة قال : قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء . قال : ( أسبغ الوضوء ، وخلل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلّا أن تكون صائماً ) رواه أبو داود والنسائي وصححه الترمذي ، وابن خزيمة ، والحاكم وإنما لم تجب على المشهور لسقوطها بصوم النفل ، والواجب لا يسقط بالنفل ، وقال ابن شاقلا ويحكي رواية تجب . لظاهر الأمر ، وقيل : في الكبرى فقط .
واقتصر الخرقي رحمه الله على الاستنشاق تبعاً للحديث ، ولنص أحمد : فإنه إنما نص على ذلك وصرّح بذلك ابن الزاغوني فقال : يبالغ في الاستنشاق دون المضمضة ، وعامة المتأخرين على أنه يبالغ فيهما ، وقد روي في بعض ألفاظ لقيط : ( وبالغ في
____________________
(1/32)
المضمضة والاستنشاق ) .
وظاهر كلام الخرقي أن المبالغة للصائم لا تسن ، وصرح به أبو محمد وأبو العباس ، وقال الشيرازي : لا يجوز . وينبغي أن يقيد قوله بصوم الفرض .
( تنبيه ) : المبالغة في الاستنشاق اجتذاب الماء بالنّفس إلى أقصى الأنف ، ولا يصيّره سعوطاً ، وفي المضمضة إدارة الماء في أقاصي الفم ، ولا يصيّره وجوراً والله أعلم .
قال : وتخليل اللحية .
ش : تخليل اللحة من سنن الوضوء ، على المذهب المعروف .
65 لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه توضأ وخلل لحيته ، حين غسل وجهه ، ثم قال : رأيت رسول الله فعل الذي رأيتموني فعلت . رواه الترمذي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، وحسنه البخاري وهذا إذا كانت كثيفة ، أما إذا كانت خفيفة تصف البشرة ، فإنه يجب غسلها ، وحكم بقية الشعور كذلك كما سيأتي .
وصفة التخليل من تحتها بأصابعه ، نص عليه ، أو من جانبيها .
66 وفي السنن عن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فيدخله تحت حنكه ، ويخلل به لحيته ، ويقول : ( بهذا أمرني ربي عز وجل ) ومن ثم قيل بوجوب التخليل ، كما ذكره ابن عبدوس وقيل أيضاً : يخلل بماء جديد وقيل : بل بماء الوجه . ونص أحمد على أنه إن شاء خللها مع وجهه ، وإن شاء إذا مسح رأسه ، والله أعلم .
قال : وأخذ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار ابن أبي موسى والقاضي في الجامع الصغير ، وابن عقيل ، وابن عبدوس والشيرازي ، وابن البنا ، وصاحب التلخيص .
67 لما روي عن حبان بن واسع ، أن أباه حدثه ، أنه سمع عبد الله بن زيد ، يذكر أنه رأس رسول الله يتوضأ ، فأخذ لأذنيه ماء خلاف الذي أخذ لرأسه . رواه البيهقي في سننه ، وقال : إسناده صحيح . ( والثانية ) : واختارها القاضي في تعليقه ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير ، وأبو البركات : لا يسن . لأن غالب من وصف وضوء النبي ، ذكر أنه مسح رأسه وأذنيه بماء واحد .
____________________
(1/33)
68 وصفة مسحهما أنه يدخل سباحتيه في صماخي أذنيه ، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما ، كذلك وصف ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي . رواه النسائي .
قال : وتخليل ما بين الأصابع .
ش : لا إشكال في مسنونية تخليل أصابع الرجلين .
69 وفي السنن عن المستورد بن شداد ، قال : رأيت رسول الله إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره . وفي أصابع اليدين ( روايتان ) أشهرهما كما اقتضاه كلام الخرقي يسن لعموم حديث لقيط .
70 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال له : ( إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك ) ( والثانية ) : لا يسن . إذ تفريجهما يغني عن تخليلهما ، وتخليل أصابع رجليه بخنصره كما في حديث المستورد اليسرى ، لأنها المعدّة لإزالة الوسخ والدرن ، ونحو ذلك ، من باطن رجله ، لأنه أبلغ في التخليل ، يبدأ بخنصر رجله اليمنى ، ويختم بخنصر اليسرى ، تأسياً بمحبة النبي التيمن ، وأصابع يديه إحداهما بالأخرى ، والله أعلم .
قال : وغسل الميامن قبل المياسر .
ش : أي يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى ، وكذلك في الرجلين ، وكذلك إذا بدأ بإحدى أذنيه ، ونحو ذلك .
71 لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله ، وطهوره ، وفي شأنه كله ، ولا يجب . قال أحمد : لأن مخرجهما في الكتاب واحد . يعني أن الله تعالى قال : 19 ( { وأيديكم إلى المرافق . . . وأرجلكم إلى الكعبين } ) ولم يقل : واليد اليمنى ، واليد اليسرى وشذ الفخر الرازي فحكى في تفسيره عن أحمد الوجوب ، وهو منكر ، فقد قال ابن عبدوس : هما في حكم اليد الواحدة ، حتى أنه يجوز غسل إحداهما بماء الأخرى .
( تنبيه ) : ظاهر كلام الخرقي أنه لا يسن مسح العنق ، لأنه لم يذكره ، وهو الصحيح من الروايتين .
72 لعدم ثبوت ذلك في الحديث .
وظاهر كلامه أيضاً أنه لا يسن غسل داخل العينين ، وهو اختيار القاضي في تعليقه والشيخين ، نظراً إلى أن الضرر المتوقع كالمتحقق ، واستسنه صاحب التلخيص
____________________
(1/34)
وغيره ، بشرط أمن الضرر ، وغالي بعضهم فحكى رواية بالوجوب ، مخرجة من وجوب ذلك في الغسل ، فإن فيه عن أحمد روايتان منصوصتان ، المختار منهما عند الشيخين ، عدم الوجوب ، بل وعدم الاستحباب أيضاً ، وعلى الروايتين خرج غسلهما من النجاسة ، والله أعلم .
قال :
( باب فرض الطهارة )
ش : الفرض والشرط يشتركان في توقف الماهية عليهما ، ويفترقان في أن الشرط يكون خارج الماهية ، والفرض داخلها ، وأيضاً فالشرط يجب استصحابه في الماهية ، من أولها إلى آخرها ، والفرض ينقضي ويأتي غيره ، واعتبر ذلك بالطهارة ، وغسل الوجه ، ونحو ذلك ، والخرقي رحمه الله نظر إلى المعنى الأول ، فسمى الماء الطاهر ، وإزالة الحدث ، والنية فروضاً ، وهي بالمعنى الثاني شرائط .
ومراد الخرقي ( رحمه الله ) هنا بالطهارة طهارة الحدث ، لا طهارة الخبث والله أعلم .
قال : وفرض الطهارة ماء طاهر .
ش : أراد بالماء الطاهر الطاهر غير المضاف ، الذي صدر به كتاب الطهارة ، وترك التنبيه على ذلك للاستغناء بما تقدم ، ولعله دل عليه بقرينة التنكير ، وأراد به التنويع ، وقد تقدم أن الطهارة لا تكون إلا بالماء الطاهر ، والله أعلم .
قال : وإزالة الحدث .
ش : أي الاستنجاء بالماء ، أو الأحجار على ما نبين في موضعه إن شاء الله تعالى ، إن وجد منه ما يقتضي ذلك ، وقد اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك ، فروي عنه وهو اختيار الخرقي والجمهور أن من شرط صحة الوضوء إزالة ذلك .
73 لأن في حديث المذي : ( يغسل فرجه ثم يتوضأ ) و ( ثم ) للترتيب .
74 ولأن المنقول عن النبي ، وعن أصحابه الاستنجاء قبل الوضوء وروي عنه وهو اختيار أبي محمد لا يشترط ذلك ، لأنها نجاسة ، فصح الوضوء قبلها ، كالنجاسة على سائر البدن ، أو على المخرج غير خارجة منه ، فإن ذلك محل وفاق ، والقاضي في موضع جعل ذلك كالنجاسة على المخرج منه ، فعلى هذه الرواية يستفيد مس المصحف ، واللبث في المسجد إن كان جنباً ، ولبس الخف ، والصلاة إذا
____________________
(1/35)
عجز عن الاستنجاء ، أما مع القدرة فيستنجي بحائل ، أو ينجيه غيره ، بشرطه ، أو هو بلا حائل إن قيل : مس الفرج لا ينقض ، ثم يصلي .
وحكم التيمم حكم الوضوء ، فيصح على هذه الرواية ، والحال هذه ، اختاره ابن حامد ، واختار القاضي ، وأبو البركات ، وابن حمدان البطلان بخلاف الوضوء في التيمم ، لأنه مبيح ، ولا استباحة قبل الإستنجاء .
وحكم النجاسة على غير المخرج في التيمم ، حكمها على المخرج ، وعند ابن عقيل والأشبه عند أبي محمد ، وصححه ابن حمدان الفرق ، كما لو كانت على الثوب ، والله أعلم .
قال : والنية للطهارة .
ش : أي لطهارة الأحداث ، ولا خلاف عندنا في ذلك ، لقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ) والإخلاص محض النية .
75 وثبت أن النبي قال : ( إنما الأعمال بالنيات ) وأكّد ذلك بقوله : ( وإنما لكل امرئ ما نوى ) وقوله : ( لا عمل إلا بنية ) اه . والنية في اللغة القصد يقال : نواك الله بخير . أي قصدك به ، وفي الشرع : قصد رفع الحدث ، أو الطهارة ، لما لا يباح إلا بالطهارة ، كمس المصحف ، والطواف ، ونحو ذلك ، فأما قصد ما تسن له الطهارة ، كقراءة القرآن ، والأذان فقيل : يحصل به رفع الحدث ، اختاره أبو حفص ، والشيخان وقيل : لا اختاره ابن حامد والشيرازي ، وأبو الخطاب ومحل النيّة القلب ، فالعبرة به دون اللسان ، نعم : الأولى عند كثير من المتأخرين الجمع بين القصد والتلفظ والله أعلم .
قال : وغسل الوجه .
ش : هذا بالإجماع ، وبنص كتاب الله سبحانه وتعالى ، قال الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ، وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين } ) .
قال : وهو من منابت شعر الرأس ، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن ، وإلى أصول الأذنين ، ويتعاهد المفصل ، وهو ما بين اللحية والأذن .
ش : حد الوجه طولًا من منابت شعر الرأس غالباً فلا عبرة بالأقرع ، الذي ينبت شعره في بعض جبهته ، ولا بالأجلح ، الذي انحسر شعره عن مقدم رأسه إلى ما انحدر من اللحيين والذقن ، وعرضا ما بين أصول الأذنين ، لأن جميع ذلك تحصل به المواجهة ، فدخل تحت الآية الكريمة ، وقد دل كلام المصنّف على [ أن ] الأذنين ليسا من
____________________
(1/36)
الوجه ، وسنصرّح بذلك إن شاء الله ، ودل أيضاً على أن البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه ، وقد أكّد ذلك بقوله : ويتعاهد المفصل . ونص أحمد رحمه الله على ذلك ، لأنه من الوجه في حق الصبي ، فكذلك في حق غيره .
تنبيهان :
( أحدهما ) : يدخل في الوجه ( العذار ) وهو الشعر الذي على العظم الناتئ المسامت صماخ الأذن ، وما انحط عنه ، إلى وتد الأذن ( والعارض ) وهو النازل عن حد العذار على اللحيين ، قال الأصمعي ما جاوز وتد الأذن عارض . ( والذقن ) وهو مجمع اللحيين ، والحاجبان ، وأهداب العينين ، والشارب ، والعنفقة ، وفي ( الصدغ ) وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار ، يحاذي رأس الأذن ، وينزل عن رأسها قليلًا ( والتحذيف ) وهو الشعر الخارج إلى طرفي اللحيين ، في جانبي الوجه ، بين النزعة ومنتهى العارض ثلاثة أوجه : يدخلان ، لا يدخلان ، واختاره أبو محمد في الكافي وأبو البركات ، زاعماً أنه ظاهر كلام أحمد ، ( الثالث ) : يدخل التحذيف دون الصدغ ، واختاره ابن حامد ، وأبو محمد في المغني ، ولا يدخل فيه ( النزعتان ) ، وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس ، متصاعداً من جانبي الرأس ، عند أبي محمد ، ويدخلان عند ابن عقيل ، والشيرازي ، وحكم ما دخل في الوجه من هذه الشعور وجوب غسلها إن كانت خفيفة ، تظهر معها البشرة ، مع ما ظهر من البشرة ، ووجوب غسل الظاهر منها إن كانت كثيفة ، لا تصف البشرة كلحية الرجل سواء ، نص عليه أحمد ، وقيل في لحية المرأة ، وما عدا لحية الرجل : يجب غسل باطنه مطلقاً ، لندرة كثافة ذلك ، فعلى المذهب : إن خف بعض ، وكثف بعض فلكل حكمه .
( الثاني ) : قد يقال : ظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب غسل المسترسل من اللحية ، وهو إحدى الروايتين ، فلا يجب غسل ما خرج منها عن محاذاة محل الفرض ، كالنازل من الرأس عنه ، ( والرواية الثانية ) وهي المذهب عند الأصحاب بلا ريب يجب غسل المسترسل مطلقاً .
76 لقول النبي : ( ثم يغسل وجهه كما أمره الله ، إلّا خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته ، مع الماء ) ولأن اللحية تشارك الوجه في معنى التوجه والمواجهة ، وخرج ما نزل من الرأس عنه ، لعدم مشاركته للرأس في الترأس ، ونقل بكر بن محمد ، عن أبيه ، أنه سأل أحمد أيما أعجب إليك غسل اللحية ، أو التخليل ؟ فقال : غسلها ليس من السنّة ، وإن لم يخلل أجزأه ، فأخذ من ذلك الخلال أنها لا تغسل مطلقاً ، فقال : الذي ثبت عن أبي عبد الله ، أنّه لا يغسلها ، وليست من الوجه البتة ، وامتنع من ذلك القاضي في تعليقه ، والشيخان وغيرهم ، فقالوا : معنى قوله : ليس من السنّة أي غسل باطنها ، [ والله أعلم ] .
____________________
(1/37)
قال : والفم والأنف من الوجه .
ش : يعني فيجب غسلهما مع غسل الوجه ، ويعبر عن ذلك بالمضمضة والاستنشاق ، والمذهب المشهور الوجوب في الطهارتين الصغرى والكبرى ، لأن الله سبحانه [ وتعالى ] أمر بغسل الوجه ، وأطلق .
77 وفسره النبي بفعله وتعليمه ، فمضمض واستنشق ، ولم ينقل عنه أنه أخل بذلك ، مع اقتصاره على المجزئ ، وهو الوضوء مرة مرة ، وقوله : ( هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وفعله إذا خرج بياناً كان حكمه حكم ذلك المبين ، وأيضاً حديث لقيط بن صبرة المتقدم ، وهو يدل من جهة اللازم ، وفي رواية لأبي داود فيه : ( إذا توضأت فمضمض ) .
78 وللدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أمر رسول الله بالمضمضة والاستنشاق . وقد روي مسنداً ومرسلًا ولأنها في حكم الظاهر ، ألا ترى أن وضع الطعام ، واللبن ، والخمر فيهما لا يوجب فطراً ، ولا ينشر حرمة ، ولا يوجب حداً ، وحصول النجاسة فيهما يوجب غسلهما ، وينقض الوضوء بشرطه . ( وعنه ) الواجب الاستنشاق فقط فيهما .
79 لأن في الصحيح : ( إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثمّ لينتثر ) وفي لفظ : ( من توضأ فليستنشق ) وإذا أمر بذلك في الوضوء ففي الغسل أولى . ( وعنه ) يجبان في الكبرى ، لأنه يجب وصول الماء فيها إلى باطن الشعور ، ونحو ذلك ، ولا يجبان في الصغرى ، لأن المأمور به فيها غسل الوجه ، والوجه ما تحصل به المواجهة ، وليسا كذلك ، فأشبها باطن اللحية الكثّة ( وعنه ) يجب الاستنشاق وحده في الوضوء فقط ، جموداً على قوله : ( من توضأ فليستنشق ) ( وحيث ) قيل بالوجوب ، فتركهما أو أحدهما ولو سهواً ، لم يصح وضوءه ، قاله الجمهور ، وقال ابن الزاغوني : إن قيل : إن وجوبهما بالسنة صح مع السهو ، وحكى عن أحمد في ذلك روايتين ، إحداهما بالكتاب ، والثانية بالسنّة .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب تقديمهما على سائر الوجه ، لأنهما منه ، وأنه يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين سائر الأعضاء ، كما يجب في الخد ونحوه وهو إحدى الروايتين ، قال أبو البركات : وهي أقيسهما ، كبقية أجزائه ، والرواية الثانية واختارها أبو البركات : لا يجب فلو تركهما ثمّ صلّى أتى بهما ، وأعاد الصلاة دون الوضوء ، نصّ عليه أحمد ، ومبناه ( على ) أن وجوبهما بالسنّة ، والترتيب إنما وجب بدلالة
____________________
(1/38)
القرآن معتضداً بالسنّة ، ولم يوجد ذلك فيهما ، بل قد وجد في السنّة ما يقتضي عدم الوجوب .
80 فعن المقدام بن معد يكرب قال : أتي رسول الله بوضوء فتوضأ ، فغسل كفيه ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل ذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ تمضمض واستنشق ثلاثاً ، ثمّ مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما . رواه أبو داود ، وأحمد وزاد : وغسل رجليه ثلاثاً والله أعلم .
تنبيه : المضمضة دوران الماء بالفم ، والإستنشاق إدخال الماء في الأنف ، قال أبو محمد : ولا تجب الإدارة في جميع الفهم ولا الإيصال إلى جميع باطن الأنف ، وهو مشعر بوجوب الإدارة والوصول في الجملة ، وصرّح بذلك الشيرازي ، وقال ابن أبي الفتح : المضمضة في اللغة تحريك الماء في الفم ، وفي الشرع وضع الماء في فيه ، وإن لم يحركه . وليس بشيء ، والله أعلم .
قال : وغسل اليدين [ إلى المرفقين ] .
ش : هذا بالإجماع ، والآية الكريمة ، وكلامه شامل لما إذا نبتت له يد أو أصبع زائدة في محل الفرض ، فإنه يجب غسلها معه ، وهو كذلك فلو كان النابت في العضد ، أو المنكب ولم تتميز الأصلية ، غسلا معاً ، وإن تميزت لم يجب غسل ما لم يحاذ محل الفرض ، وفيما حاذاه وجهان ، الوجوب اختيار القاضي ، والشيرازي ، وعدمه اختيار ابن حامد وابن عقيل ، والشيخين ، والله أعلم .
قال : ويدخل المرفقين في الغسل .
81 ش : لما روى جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه . رواه الدارقطني وفعله خرج بياناً للآية الكريمة ، إذ ( إلى ) في الآية الكريمة يجوز أن تكون الغائية ، كما هو الغالب فيها ، ويجوز أن تكون بمعنى ( مع ) كما في قوله تعالى : 19 ( { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ) فبيّن أنها للمعنى الثاني ، أو يقال : اليد تطلق حقيقة إلى المنكب و ( إلى ) أخرجت ما عدا المرفق اه . ومن لا مرفق له يغسل إلى قدر المرفق ، في غالب الناس .
( تنبيه ) : المرفق بكسر الميم وفتح الفاء والعكس لغة ، والله أعلم .
قال : ومسح الرأس .
ش : وجوب مسح الرأس في الجملة ثابت بالنص والإجماع ، والخلاف في القدر الواجب من ذلك ، وعن إمامنا رحمه الله في ذلك ثلاث روايات ، إحداهن وهي
____________________
(1/39)
ظاهر كلام الخرقي ، والمختار لعامة الأصحاب : وجوب استيعاب جميع الرأس بالمسح ، لأنه سبحانه أمر بمسح الرأس ، وبمسح الوجه في التيمم ، ثم في التيمم يجب الاستيعاب ، فكذلك في مسح الرأس ، ولأنه مسح جميع رأسه ، وفعله وقع بياناً لكتاب ربه سبحانه .
82 وما جاء عنه من أنه مسح مقدم رأسه ، فمحمول على أن ذلك مع العمامة ، كما جاء مفسراً في الصحيح ، في حديث المغيرة بن شعبة ، وموقع الباء والله أعلم إلصاق الفعل بالمفعول ، إذ المسح إلصاق ماسح بممسوح ، فكأنه قيل : ألصقوا المسح برؤسكم أي المسح بالماء ، وهذا بخلاف ما لو قيل : امسحوا رؤسكم . فإنه لا يدل على أنه ثم شيء ملصق ، كما يقال : مسحت رأس اليتيم . وما قيل : إن الباء للتبعيض . فغير مسلم ، دفعاً للاشتراك ، ولإنكار الأئمة قال أبو بكر عبد العزيز : سألت ابن دريد وابن عرفة عن الباء تبعض ؟ فقالا : لا نعرف في اللغة أنها تبعض . وقال ابن برهان : من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه . وأما قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { يشرب بها عباد الله } ) فمن باب التضمين ، والله أعلم ، فكأنه قيل : يروى بها عباد الله .
وكذلك بماء البحر .
والثانية : الواجب مسح البعض ، وقد فهم دليل ذلك مما تقدم ، من أن الباء تبعض ، ومما روي من أنّه مسح البعض . ( وعنه ) بل في حق المرأة فقط ، واختاره الخلال ، وأبو محمد ، دفعاً للحرج والمشقة عنها ، بوجوب مسح الكل .
والرواية الرابعة : الواجب الأكثر ، إذ إيجاب الكل قد يفضي إلى الحرج والمشقة غالباً ، وأنه منفي شرعاً .
فعلى الأولى : يجب مسح الأذنين معه على رواية ، واختارها الأكثرون ، لأنهما من الرأس كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولا يجب في أخرى ، وهي أشهر نقلًا : واختارها الخلال ، وأبو محمد ، وقال الشيرازي : لو مسح وتخلل مواضع يسيرة ، عفي عنها للمشقة ، وظاهر كلام الأكثرين بخلافه .
وعلى الثانية والثالثة : البعض مقدر بالناصية ، قاله القاضي ، وعامة من بعده ، لكن لا تتعين على المعروف ولابن عقيل احتمال بتعينها ، وصرح ابن أبي موسى بعدم تحديد الرواية فقال : وعنه يجب مسح البعض من غير تحديد . واتفق الجمهور على أنه لا يجزيء مسح الأذنين عن ذلك البعض ، وكذلك مسح ما نزل عن الرأس من الشعر ، ولو كان معقوصاً على الرأس ، وللقاضي في شرحه الصغير وجه بإجزاء مسح الأذنين عن البعض .
وعلى الرابعة حد الكثير الثلثان ، واليسير الثلث ، فما دون ، قاله القاضي في
____________________
(1/40)
تعليقه ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير ، وأطلق ذلك جماعة .
وقول الخرقي رحمه الله : ومسح الرأس . يدخل فيه ولو مسح بأصبع أو بأصبعين وهو الصحيح من الروايتين ، ويدخل أيضاً ما لو مسح بخرقة أو خشبة ، وهو أصح القولين عند أبي البركات ، ويدخل أيضاً ما إذا وقف تحت مطر ونحوه ، قاصداً للطهارة ، وأمّر يده ، لوجود المسح ، أما إن لم يمرها ، ولم يجر الماء ، فإنه لا يجزئه على أشهر القولين ، وإن جرى الماء خرج على روايتي غسله كما سيأتي ، ولو لم يقصد الطهارة فأصابه ماء فمسح قاصداً لها فإنه يجزئه ، على إحدى الروايتين ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، ومختار أبي البركات ، ( والثانية ) وبها قطع صاحب التلخيص ، وابن عقيل زاعماً بأنها تحقيق المذهب لا يجزئه .
ويخرج من كلامه ما لو وضع يده على رأسه ولم يمرها ، فإنه لا يجزئه ، لعدم المسح ، وبه قطع أبو البركات وغيره ، ولأبي محمد فيه احتمال بالإجزاء ، وما لو غسل رأسه بدل مسحه ، وهو الصحيح من الروايتين ، عند أبي البركات ، وابن عقيل ، نعم : أن أمّر يده أجزأه ، على المعروف المشهور ، وقيد ابن حمدان إجزاء الغسل عن المسح بما إذا نواه به ، والله أعلم .
تنبيهات ، ( أحدها ) : حد الرأس من المقدم ، بحيث لا يسمى وجهاً ، وقد تقدم حد الوجه ، وبه يعرف حد الرأس ، ومن المؤخر بحيث لا يسمى قفا ، والناصية مقدم الرأس ، قاله القاضي وغيره .
( الثاني ) : الواجب مسح ظاهر الشعر ، فلو مسح البشرة لم يجزئه ، كما لو غسل باطن اللحية دون أعلاها ، نعم لو حلق البعض ، فنزل عليه شعر ما لم يحلق أجزأه المسح عليه .
( الثالث ) : صفة المسح أن يضع أحد طرفي سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما على مقدم رأسه ، ويضع الإبهامين على الصدغين ، ثم يمرهما إلى قفاه ، ثم يردهما إلى مقدمه ، نص عليه أحمد ، وهو المشهور ، والمختار .
83 لحديث عبد الله بن زيد وغيره ، وفيه خلاف كثير ، أعرضنا عنه اختصاراً ، والله أعلم .
قال : وغسل الرجلين .
84 ش : للآية الكريمة ، فإن جماعة منهم علي ، وابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم قرؤا : { وأرجلكم } بالنصب ، عطفاً على المغسول ، وهو قوله : ( { وجوهكم ، وأيديكم } ) وقراءة الخفض قيل : عطف على المغسول ، والخفض للمجاورة ، كما قالوا : جحر ضب خرب . فخرب . خفض بمجاورة الضب ، مع أنه صفة للمرفوع ، وهو الحجر . وقيل : منه قوله سبحانه وتعالى : 9 ( { فيأخذكم عذاب يوم
____________________
(1/41)
عظيم } ) ( فعظيم ) خفض بمجاورة اليوم وهو صفة للعذاب ، ورد بأن الإعراب بالمجاورة شاذ ، فلا ينبغي حمل الكتاب العزيز عليه .
وقيل : بل المعطوف على الممسوح ، ثم قيل : المراد مسح الخفين . وعلى قراءة النصب غسل الرجلين ، تكثيراً لمعنى الآية الكريمة ، وقيل : بل أطلق المسح وأريد خفيف الغسل ، فمعنى القراءتين واحد ، وهو أولى ، إذ الأصل توافق القراءتين ، ويشهد لذلك ما قاله أبو علي الفارسي ، فإنه قال : العرب تسمي خفيف الغسل مسحاً ، يقولون : تمسحت للصلاة ، أي توضأت لها ، ونحوه قال أبو زيد وغيره ، وخصت الأرجل بذلك والله أعلم دون بقية الأعضاء لأنها تقصد بصب الماء كثيراً ، فهي مظنة الإسراف المنهي عنه ، فلذلك عطف على الممسوح ، تنبيهاً على الاقتصاد في صب الماء ، وقيل : ( إلى الكعبين ) ليزول وهم من يظنها ممسوحة ، إذ المسح لم يحدد في كتاب الله عز وجل ، بخلاف الغسل . ويؤيد أن المراد من الآية الغسل بيان من له البيان ، وهو رسول الله .
85 فإن الواصفين لوضوئه كعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن زيد ، وغيرهم أخبروا أنه غسل رجليه .
86 وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر [ رضي الله عنهما ] قال : تخلف عنا رسول الله في سفر ، فأدركنا وقد أرهقتنا العصر ويروى : أرهقنا العصر . فجعلنا نتوضأ ، ونمسح على أرجلنا ، قال : فنادى بأعلى صوته : ( ويل للأعقاب من النار ) مرتين ، أو ثلاثاً .
87 وفي مسلم عن عمرو بن عبسة قال : قلت يا نبي الله حدثني عن الوضوء . قال : ( ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه ، وفيه وخياشيمه ، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله ، إلا خرّت خظايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ، ثم يمسح رأسه إلا خرّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ، فإن هو قام فصلى : فحمد الله ، وأثنى عليه ، ومجّده بالذي هو له أهل ، وفرغ قلبه لله ، إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه ) وفي رواية أحمد رحمه الله ، وابن خزيمة في صحيحه ، كما أمر الله تعالى بعد غسل الرجلين .
88 على أن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : أجمع أصحاب رسول الل
____________________
(1/42)
على غسل القدمين .
( تنبيه ) : ( أرهقنا العصر ) أخرناها عن وقتها ، حتى كدنا نغشها ، ونلحقها بالصلاة التي بعدها ، ( وأرهقتنا العصر ) أي قاربتنا العصر . والله أعلم .
قال : إلى الكعبين .
ش : أي حد الغسل إلى الكعبين ، وهذا يوهم أنه لا يجب إدخالهما في الغسل ، وليس كذلك ، بل حكمهما حكم اليدين ، وقد قيل : إن الرجل من أصل الفخذ إلى القدم ، وكأن الخرقي إنما ترك التنبيه على ذلك ، اكتفاء بما تقدم له في اليد ، والله أعلم .
قال : وهما العظمان الناتئان .
89 ش : أي الكعبين هما العظمان الناتئان ، إذ في الحديث أن الصحابة كان أحدهم يلصق كعبه بكعب من إلى جنبه في الصلاة ، والله أعلم .
قال : ويأتي بالطهارة عضواً بعد عضو ، كما أمر الله تعالى .
ش : أي يبدأ بغسل الوجه ، ثم اليدين ، ثم يمسح الرأس ، ثم يغسل الرجلين ، وهذا هو المذهب بلا ريب ، للآية الكريمة ، فإنه سبحانه وتعالى أدخل ممسوحاً بين مغسولين ، وقطع النظير عن نظيره ، أما على قراءة النصب فواضح ، وكذلك على قراءة الخفض ، لأن مع تأخير الرجلين أدخلا في حيز المسح ، وأريد به الغسل ، ولا يقطع النظير عن نظيره ، ويفصّل بين الأمثال في الكلام العربي ، إلا لفائدة ، والفائدة هنا والله أعلم الترتيب .
90 على أنه قد روى النسائي : أن النبي لما دنا من الصفا قال : ( ابدؤا بما بدأ الله به ) بصيغة الأمر ، وظاهر الأمر البداءة بكل ما بدأ الله به ، وأيضاً فإن فعله خرج بياناً للآية الكريمة ، ولم ينقل عنه أنه توضأ إلا مرتباً ، ولو جاز عدم الترتيب لفعله ولو مرة ، تبييناً للجواز ، وقد توضأ مرة مرة ، على عادة وضوئه ، وقال : ( هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به ) وهذا كله على المذهب ، من أن الواو ليست للترتيب ، كما هو المذهب ، أما إن قلنا إنها له على رواية فواضح ، فعلى هذا لو بدأ بشيء من الأعضاء الأربعة قبل غسل وجهه لم يحسب له ، نعم : أن توضأ منكساً أربع مرات ، صح وضوءه إن قرب الزمن ، لأنه حصل له من كل مرة غسل عضو اه .
( وعن أحمد ) رحمه الله رواية تقدمت باغتفار الترتيب بين المضمضة
____________________
(1/43)
والاستنشاق ، وبين بقية أعضاء الوضوء ، فأخذ منها أبو الخطاب في انتصاره ، وابن عقيل في فصوله رواية بعدم وجوب الترتيب رأساً ، وتبعهما بعض المتأخرين ، منهم أبو البركات في محرره ، وغيره ، وأبي ذلك عامة الأصحاب ، متقدمهم ومتأخرهم ، ومنهم أبو محمد ، وأبو البركات في شرحه .
واعلم أن الواجب عندنا الترتيب ، لا عدم التنكيس ، فلو وضأه أربعة في حالة واحدة لم يجزئه ، ولو انغمس في ماء جار ، ينوي رفع الحدث ، فمرت عليه أربع جريات ، أجزأه إن مسح رأسه ، أو قيل بإجزاء الغسل عن المسح ولو لم يمر عليه إلا جرية واحد لم يجزئه ، ولو كان انغماسه في ماء كثير راكد فمنصوصه وبه قطع ابن عقيل ، وأبو محمد أنه إن أخرج وجهه ، ثم يديه ، ثم مسح برأسه ، ثم خرج من الماء أجزأه ، مراعاة للترتيب ، إذ الحدث إنما يرتفع بارتفاع الماء ، عن العضو ، وقيل وقواه أبو البركات : إن مكث فيه قدراً يتسع للترتيب ، وقلنا : يجزئ غسل الرأس عن مسحه ، أو مسحه ثم مكث برجليه قدراً يسع غسلهما أجزأه .
( تنبيه ) : لم ينص الخرقي رحمه الله على الموالاة فقيل : ظاهر كلامه أنها لا تجب . وإلا لم يهملها ، وهو رواية حنبل عن أحمد .
91 اقتداء بابن عمر ، فإنه روي عنه أنه توضأ في المسجد ، أو في السوق ، فأعوز الماء ، فأكمله في البيت .
وقيل : بل ظاهره الوجوب ، لقوله في مسح الخفين : فإن خلع قبل ذلك ، أعاد الوضوء . ولو لم تجب لكفاه غسل القدمين ، إذ قوة كلامه أن الخلع بعد مدة ، وهذا رواية الجماعة عن أحمد ، وعليها الأصحاب ، لظاهر الآية الكريمة إذ قوله سبحانه : 19 ( { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } ) إلى آخرها يقتضي الفورية على قاعدتنا ، ثم ( إذ قمتم إلى الصلاة ) شرط و ( فاغسلوا ) جوابه ، [ وإذا وجد الشرط ، وهو القيام وجب أن لا يتأخر عنه جوابه ] وهو غسل الأعضاء الأربعة .
92 وعن خالد بن معدان ، عن بعض أصحاب النبي ، أنه رأى رجلًا يصلي ، وفي ظهر قدمه لمعة ، فأمره النبي بالوضوء والصلاة . رواه أبو داود ، وأحمد وجود إسناده ، ولم يستفصله النبي هل فرط أم لا ؟ ثم إن النبي لم ينقل عنه أنه توضأ إلا مرتباً متوالياً ، وفعله كما تقدم خرج بياناً للآية الكريمة .
وفي المذهب قول ثالث ، اختاره أبو العباس ، وزعم أنه الأشبه بأصول الشريعة . وأصول أحمد ، اعتماداً على قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { فاتقوا الله ما استطعتم } ) .
____________________
(1/44)
93 وقول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) والتارك لعذر قد فعل ما استطاع ، ونظراً إلى أن التتابع في صوم شهري الكفارة واجب بالنص والإجماع ثم لو تركه لعذر لم ينقطع ، وكذلك الموالاة في قراءة الفاتحة ، ثم لو تركها ( ولو ) كثيراً لاستماع قراءة [ الإمام ] ونحو ذلك أتمها ، وكذلك الموالاة في الطواف والسعي ، لا تبطل بفعل المكتوبة ، وصلاة الجنازة ، وطرد ذلك هنا أنّه لو أنقذ غريقاً ، أو أمر بمعروف ، ونحو ذلك في أثناء الوضوء ، لم يضره وإن طال ، وكذلك الصلاة تجب الموالاة فيها ، بحيث لا يفرق بين أبعاضها بما ينافيها ، ثم لو فرق لضرورة لم يضره .
94 كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر في صلاة الخوف : أن الطائفة الأولى تذهب بعد صلاة ركعة ، وجاه العدو ، ثم ترجع إلى صلاتها بعد أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية ، وتذهب جهة العدو ، وكذلك من سبقه الحدث ، يتوضأ ويبني ، على أحد القولين ، ما لم يبطل صلاته بكلام عمد ونحوه .
95 ثم ما وقع للنبي في حديث ذي اليدين ، من الكلام ، والقيام والمشي ، إلى غير ذلك ، ومثله يبطل الصلاة لولا العذر . وأجاب عن حديث خالد بن معدان بأن أمره بالإعادة كان لتفريطه ، وهو عدم معاهدته الوضوء ، ثم طرد ذلك في الترتيب ، وقال : لو قيل بسقوطه للعذر ، كما إذا ترك غسل وجهه فقط لمرض ونحوه ، ثم زال قبل انتقاض وضوئه فغسله لتوجه اه .
فعلى الأولى : لا أثر للتفريق ، لكن يحتاج إلى استئناف نية ، قاله ابن عقيل ، و أبو البركات ، معللين بأن النية الحكمية تبطل بالفصل الطويل ، كما تبطل به قبل الشروع .
وعلى الثانية : المؤثر تفريق يفحش عادة ، في رواية حكاها ابن عقيل ، إذ ما لا حد له في الشرع ، المرجع فيه إلى ذلك ، كالحرز ، والقبض ، والمشهور عند الأصحاب : المؤثر أن يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله . زاد أبو البركات : أو أخّر عضواً عن أوله إلى أن ينشف أوله اه ، في الزمن المعتدل شتاء وصيفاً ، وهواء أو قدر ذلك ، ولعل هذا أضبط للعرف المتقدم ، فيتحد القولان ، وحكى ابن عقيل وجهاً أن المؤثر بنشاف عضو ( ما ) فلو نشف وجهه قبل غسل رجليه بطل وضوءه ، ( ويستثنى ) مما تقدم ما إذا كان الجفاف لسنة ، من تخليل أو إسباغ ، أو إزالة شك ، ونحو ذلك ، فإنه لا يؤثر ، فلو كان لعبث ، أو إسراف ، أو زيادة على الثلاث أثر ، وكذلك إن كان لإزالة وسخ لغير طهارة ، وإن كان لوسوسة ، أو إزالة نجاسة : فوجهان ، وإن كان لعوز الماء ، أو للاشتغال بتحصيله أثّر ، وعنه متى كان في علاج الوضوء فلا بأس والله أعلم .
____________________
(1/45)
قال : والوضوء مرّة مرّة يجزئ ، والثلاث أفضل .
ش : المرّة هي التي عمّت المحل بالغسل ، ولا إشكال في الاجتزاء بها .
96 لما صح أنه توضأ مرّة مرّة ، وتوضأ مرتين مرتين ، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً .
____________________
(1/46)
97 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال توضأ رسول الله مرّة مرّة ، ثمّ قال : ( هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلا به ) ، ثم توضأ مرتين مرتين ، ثم قال : ( هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرتين ) ثمّ توضأ ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي ) رواه البيهقي في السنن ، وفي رواية : ( هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ) .
98 ولابن ماجه نحوه عن أبيّ بن كعب .
والثلاث أفضل بلا ريب ، لأنه الذي واضب عليه النبي وأصحابه .
واقتصار المصنف على الثلاث يقتضي أنه لا يستحب الزيادة على ذلك ولا إشكال فيه ، وقد صرح بعضهم بالكراهة .
99 لأن في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي توضأ ثلاثاً ثلاثاً ، ثم قال : ( هكذا الوضوء ، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ، أو ظلم وأساء ) رواه أبو داود ، وهذا لفظه ، ورواه أحمد والنسائي ، وصححه ابن خزيمة ، وفي رواية لأحمد ، والنسائي مختصراً : ( فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى ، وظلم ) وليس في رواية أحد منهم ( أو نقص ) غير أبي داود ، وقد تكلم فيه مسلم وغيره ، وأوله البيهقي على نقصان العضو ، قال الذهبي : وكذلك ينبغي أن تفسر الزيادة والله أعلم .
قال : وإذا توضأ لنافلة ، صلى بها فريضة .
ش : هذا يلتفت إلى ما تقدم من أن النية في الاصطلاح الشرعي هي قصد رفع الحدث ، أو استباحة ما لا يباح إلا بالطهارة ، والنافلة لا تباح إلا بالطهارة ، والله أعلم .
قال : ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء .
100 ش : لما روي عن علي رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله يقضي حاجته ، ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم ، ولا يحجبه . وربما قال : ولا يحجزه شيء من القرآن ليس الجنابة . رواه الخمسة ، وصححه الترمذي .
101 وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي قال : ( لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن ) رواه أبو داود وحكم النفساء حكم الحائض إذ دم النفاس هو دم الحيض ( حقيقة ) .
102 مع أنه قد روي عن جابر رضي الله عنه عن النبي قال : ( لا تقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئاً ) رواه الدارقطني .
وقول الخرقي : القرآن . الألف واللام للجنس ، فيتناول القليل والكثير ، وهو إحدى الروايات واختارها أبو البركات ، لظواهر النصوص المتقدمة ، ( وعنه ) : يجوز لهم قراءة بعض آية ، كما لو لم يقصد بذلك القرآن ، ( وعنه ) : تجوز قراءة الآية ونحوها حكاها الخطابي وأشار إليها في التلخيص فقال : وقيل : يتخرج من تصحيح خطبة الجنب جواز قراءة الآية مع اشتراطها ، ويستثنى من ذلك قول : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) تبركاً ، وعلى الغسل والوضوء ، والذبيحة ، ونحو ذلك ، و ( الحمد لله رب العالمين ) عند تجدد نعمة ونحوه ، بشرط عدم قصد القراءة ، نص عليه ، وهذا يخرج من كلام الخرقي رحمه الله ، لانتفاء القراءة والحال هذه ، والخرقي رحمه الله ذكر الجنب والحائض ، والنفساء ، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب ، ومن تبعه يقول : ومن لزمه الغسل . فيدخل في كلامهم الكافر إذا أسلم ، على المذهب من : لزوم الغسل له . والله أعلم .
قال : ولا يمس المصحف إلا طاهر ( والله أعلم ) .
103 ش : لما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه النبي لعمرو بن حزم : ( أن لا يمس القرآن إلا طاهر ) وكذلك رواه أحمد ، وأبو داود مرسلًا ، ورواه النسائي ، والدارقطني ، من رواية الزهري ، عن أبي بكر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي .
104 وعن ابن عمر أنه قال : لا يمس المصحف إلا على طهارة . احتج به أحمد [ واستدل ] بقوله تعالى : 19 ( { لا يمسه إلا المطهرون } ) على أن المراد بالكتاب المصحف بعينه وأن 19 ( { لا يمسه } ) خبر بمعنى النهي ، أو أنه نهي علي بابه ، وحرك بالضم لالتقاء الساكنين ، ورد بأن المشهور عن السلف ، وأهل التفسير أن الكتاب اللوح المحفوظ ، وأن { المطهرون } الملائكة ، ويؤيده الآية الأخرى : 19 ( { كلا إنها تذكرة
____________________
(1/47)
فمن شاء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة } ) وأيضاً الإخبار بأنه : { في كتاب مكنون } أي مصون ، لا تناله أيدي الضالين ، وهذه صفة اللوح المحفوظ وأيضاً : { المطهرون } من طهرهم غيرهم ، ولو أريد طهارة بني آدم لقيل : المتطهرون . كما قال سبحانه : { إن الله يحب التوابين ، ويحب المتطهرين } ويمكن توجيه الاستدلال بالآية على وجه آخر ، وهو أن يقال : القرآن الذي في اللوح المحفوظ هو الذي في المصحف ، وإذا كان من حكم الذي في السماء أن { لا يمسه إلا المطهرون } فكذلك الذي في الأرض ، لأنه هو هو .
وقول الخرقي رحمه الله : لا يمس . يشمل مسه بيده ، وسائر جسده ، ويقتضي أن له حمله بعلاقته ، أو بحائل له ، منفصل عنه ، ولا يتبعه في البيع كعلاقة ، أو بحائل تابع للحامل ، كحمله في كمه ، أو ثوبه ، أو تصفحه بعود ، ونحو ذلك ، وهو المشهور من المذهب ، قطع به أبو الخطاب ، وابن عبدوس ، وصاحب التلخيص ، واختاره القاضي وأبو محمد ، اعتماداً على مفهوم الحديث ( وعنه ) : المنع من تصفحه بكمه ، وخرجه القاضي والمجد إلى بقية الحوائل ، وأبى ذلك طائفة منهم أبو محمد في المغني مشيراً إلى الفرق ، بأن كمه وثيابه متصلة به ، أشبهت أعضاءه .
ويقتضي أيضاً أن له الكتابة من غير مس ، وبه جزم أبو محمد ، وقيل : بل هو كالتقليب بالعود ، وقيل : لا يجوز وإن جاز التقليب . ولأبي البركات احتمال بالجواز للمحدث دون الجنب ، ومحل الخلاف إذا لم يحمله ، على مقتضى ما في التلخيص ، والرعاية .
وقوله : مصحف . المصحف معروف ، مثلث الميم ، وهو شامل لما يسمى مصحفاً من الكتاب ، والجلد ، والحاشية ، والورق الأبيض المتصل به ، ويخرج منه : كتب الفقه والتفسير والإعراب ، ورسالة فيها قرآن ، ونحو ذلك ، وهو المذهب ، نظراً لمفهوم الحديث .
105 وفي الصحيحين أنه كتب إلى هرقل : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، من محمد عبد الله ورسوله ، إلى هرقل عظيم الروم ، وفيه و 9 ( { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } ) الآية إلى { مسلمون } وحكى القاضي وغيره رواية بالمنع ، ويخرج منه المنسوخ ، وهو المشهور من الوجهين ، وكذلك مس الأحاديث المأثورة عن الرب سبحانه وتعالى .
ويستثنى من مفهوم كلامه : إذا كتب بعض القرآن مفرداً عن تفسير وغيره ، فإنه لا يجوز مسه ، وإن لم يسم مصحفاً ، نعم في مس الصبيان ألواحهم قيل : والمصحف
____________________
(1/48)
ومس الدراهم المكتوب عليها القرآن ، وثوب طرز به قولان ، ظاهر كلامه الجواز .
وقوله : إلا طاهر . يعني من الحدثين الأكبر والأصغر ، أما طهارة الخبث فلا يشترط انتفاؤها ، نعم العضو المتنجس يمنع من المس ( به ) على المذهب ، وقد يدخل في كلامه طهارة التيمم ، وقد يخرج ، وبالجملة يجوز المس بها ، وإن لم يكن ( به ) حاجة إلى ذلك ، على المقدم .
ويخرج من كلامه الذمي ، لانتفاء الطهارة منه ، بل وعدم تصورها ، وهو كذلك ، نعم له نسخه بدون حمل ومس ، على ما قاله القاضي في تعليقه وغيره ، وقال أبو بكر ( إنه ) لا يختلف قوله في ذلك ، وقد ذكر أحمد أن نصارى الحيرة كانوا يكتبون المصاحف ، لقلة من كان يكتبها ، قيل له : يعجبك هذا ؟ قال : لا يعجبني . فأخذ من ذلك ابن حمدان والله أعلم رواية بالمنع ، وقال القاضي في تعليقه : يمكن ( حملها ) على أنهم حملوا المصاحف في حال كتابتها .
ويخرج من كلامه أيضاً إذا طهر بعض عضو ، فإنه لا يجوز المس به ، لأن الماس غير طاهر على المذهب ، والله أعلم .
قال :
( باب الاستطابة والحدث )
ش : أي ( هذا ) باب حكم الاستطابة ، وحكم الحدث ، فحكم الاستطابة : كيف يستطيب بالماء أو بالحجر ؟ وأي حجر يستطيب به ، ونحو ذلك ، وحكم الحدث الذي يوجب الاستنجاء ، والذي لا يوجبه .
( والاستطابة ) تكون بالحجر وبالماء ، سميت بذلك لأنه يطيب جسده بخروج ذلك . والله أعلم .
قال : وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء .
ش : المعروف في المذهب أنه لا يجب من الريح استنجاء .
106 لما روى عن النبي أنه قال : ( من استنجى من الريح فليس منا ) رواه الطبراني ، وإذا لم يجب من الريح ، فمن النوم الذي هو مظنته أولى ، [ والله أعلم ] .
قال : والاستنجاء لما يخرج من السبيلين .
ش : أي ما عدى الريح ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ، تقديره : والاستنجاء واجب أو ثابت ، أو يثبت أو يجب ، لما يخرج من السبيلين ، وهما طريقا البول والغائط .
107 والأصل في وجوب الاستنجاء [ في الجملة ] ما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار ، فإنها تجزئ
____________________
(1/49)
عنه ) رواه أحمد ، والنسائي ، وأبو داود والدارقطني ، وقال إسناد حسن صحيح . والإجزاء غالباً إنما يستعمل في الواجب .
108 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي مر بقبرين فقال : ( إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) رواه الجماعة ، وفي رواية للبخاري : ( وما يعذبان في كبير ) ثم قال : ( بلى ، كان أحدهما ) .
وقد شمل كلام الخرقي النادر ، والمعتاد ، والطاهر ، والنجس ، وهو ظاهر كلام الأصحاب ، وخالفهم أبو البركات فقال : لا يجب من الطاهر ، كالمنى على المذهب ، والدواء الذي تحملت به المرأة ، إن قيل بطهارة فرجها ، والمذي على رواية ، ( وشمل ) أيضاً الرطب واليابس ، حتى لو أدخل ميلًا في ذكره ، ثم أخرجه ، وجب عليه الاستنجاء وهو المشهور ، ربطاً للحكم بالمظنة ، وهي استصحاب الرطوبة ، وقال في المغني : القياس أنه لا يجب من يابس لا يلوث المحل ، وحكى ابن تميم ذلك وجهاً .
( تنبيه ) : ( لا يستنزه ) أي لا يطلب البعد من البول ، والمادة كما تقدم للبعد وهو معنى الرواية الأخرى : ( لا يستبرئ ) أي لا يتبرأ من البول ، أي ( لا ) يتباعد منه ، أما رواية : ( لا يستتر ) فمن الاستتار ، أي لا يبالي بكشف عورته ، ويحتمل أنه من المعنى الأول ، أي لا يجعل بينه وبين بوله سترة ، حتى يتحفظ منه ، ( والنميمة ) من : نم الحديث ينمه وينمه ، بكسر النون وضمها ، نما . إذا نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض ، على جهة الإفساد بينهم ، وعرفها بعضهم بأنها المقالة التي ترفع عن قائلها ، ليضربها قائلها في دينه ، أو نفسه ، أو ماله ، وهذا التعريف أشمل ، لدخول إفشاء السر فيه ، ثم قوله : ترفع عن قائلها . يعم كل ما يحصل به الرفع ، ولو بكتابة ، أو رمز ، ونحو ذلك .
وهي كبيرة عندنا على الأشهر ، وكيف لا . وقد جعلها الله تعالى صفة لمن اعتدى وكذب ، فقال تعالى : 19 ( { ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم } ) الآيات .
109 وأخبر نبيه أن فاعلها لا ينظر الله تعالى إليه ، ولا يدخله الجنة فقال : ( لا ينظر الله إلى ذي الوجهين ) .
____________________
(1/50)
110 وفي الصحيحين : ( لا يدخل الجنة قتات ) أي نمام ، كما جاء في رواية أخرى .
111 ولقد أجاد كعب الأحبار ، وقال له عمر رضي الله عنهما : أي شيء في التوراة أعظم إثماً ؟ قال : النميمة . فقال عمر : هي أقبح من القتل ؟ فقال : وهل يولد [ القتل ] وسائر الشرور إلا من النميمة ؟ قلت : ومصداق ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى : 19 ( { والفتنة أشد من القتل } ) وهذا كله إذا تضمنت مفسدة ، أما إذا كان فيها مصلحة شرعية ، فلا منع فيها ، بل ربما وجبت ، كما إذا عزم إنسان على قتل إنسان ، ونحو ذلك ، وعلم ذلك منه ، بجور منه ، فإنه ينم ( عليه ) والحال هذه ، وكذلك من سعى في الأرض بالفساد ، فإنه يخبر به من له ولاية ، ونحو ذلك ، قال بعضهم : يجوز إذا كان القائل للمقالة ظالماً ، وللمقول له فيها تحذيراً ونصحاً ، ولا ريب أن المرجع في ذلك ( إلى ) المقاصد ، قال الله سبحانه : 19 ( { والله يعلم المفسد من المصلح } ) والله أعلم .
قال : فإن لم يعد مخرجهما أجزأه ثلاثة أحجار ، إذا أنقى بهن ، فإن أنقى بدون الثلاثة لم يجزه حتى يأتي بالعدد ، فإن لم ينق بثلاثة أحجار زاد حتى ينقي .
ش : إذا لم يتجاوز الخارج مخرج البول وهو ثقب الذكر ومخرج الغائط وهو ثقب الدبر أجزأه الاستجمار بالحجر ، ثم المشترط شيئان : ( أحدهما ) : العدد ، وهو ثلاثة أحجار ، لما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها .
112 وقيل لسلمان رضي الله عنه : نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة . قال : أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أبو بول ، وأن نستنجي باليمين ، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ، وأن تستنجي برجيع أو عظم . أخرجه مسلم وغيره .
113 وما في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من استجمر فليوتر ، من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج ) محمول إن صح على ما زاد على الثلاثة ، جمعاً بين الأدلة ، لأن رواية الصحيحين ( من استجمر فليوتر ) ( والثاني ) : الإنقاء إجماعاً ، وصفته أن يعود الحجر الآخر ولا شيء عليه ، أو عليه شيء لا يزيله إلا الماء ، فعلى هذا إن أنقى بثلاثة ، فقد حصل الشرطان ، وإن أنقى بدون الثلاثة أتى ببقيتها ، تحصيلًا لشرط العدد ، وإن لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي ، تحصيلًا لشرط الإنقاء ، ويستحب أن يقطع على وتر ، لما تقدم من الحديث .
____________________
(1/51)
وقول الخرقي : فإن لم يعد مخرجهما . يحتمل أن يريد المخرج المعتاد وإذاً لا يكون في كلامه تعرض لما [ إذا ] انسد المخرج ، وانفتح غيره ، ويحتمل أن يريد أعم من ذلك ، فيدخل ذلك ، وبالجملة ففي المسألة وجهان ، الإجزاء ، وهو قول القاضي ، والشيرازي ، وعدمه ، وهو قول ابن حامد ، واختيار أبي محمد وحينئذ يتعين الماء ، وسواء انفتح فوق المعدة أو تحتها ، صرح بذلك الشيرازي ، وقيد أبو البركات ، المسألة تبعاً لابن عقيل بما إذا انفتح أسفل المعدة ، قال ابن تميم : ظاهر كلام [ بعض ] الأصحاب إجزاء الوجهين مع بقاء المخرج أيضاً ، اه .
وقوّة قوله : أجزأه ثلاثة أحجار . يفهم أن الماء أفضل ، وهو المشهور ، والمختار من الروايات ، لزوال الجسم والأثر ، ولهذا طهر المحل ، والحجر لا يزيل الأثر ومن ثم لم يطهر على الأشهر ، ( والثانية ) واختارها ابن حامد : الحجر أفضل لإجزائه إجماعاً .
113 م وعمل السلف عليه ، ولهذا أنكر الماء طائفة منهم ، والثالثة ) : يكره الاقتصار على الماء ، حذاراً من مباشرة النجاسة ، مع عدم الحاجة إلى ذلك ، وبكل حال جمعهما أفضل .
114 لما روت معاذة أن عائشة رضي الله عنها قالت : مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء ، فإني أستحييهم منه ، وإن رسول الله كان يفعله . رواه الترمذي والنسائي .
115 وعن عويم بن ساعدة رضي الله عنه ، أن رسول الله أتاهم في مسجد قباء ، فقال : ( إن الله أحسن عليكم الثناء في الطهور ، في قصة مسجد قباء ، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به ؟ ) قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً ، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، يغسلون أدبارهم ، فنغسلها كما غسلوها . رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه ، وظاهر كلام ابن أبي موسى أن الجمع في محل الغائط فقط ، ويستثنى من قول الخرقي ما إذا خرجت أجزاء الحقنة فإن الحجر لا يجزىءفي ذلك ، قاله ابن عقيل .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : قال الشيخان وغيرهما : كيفما حصل الإنقاء جاز ، إلا أن المستحب في الدبر كما قال القاضي وغيره أن يمر الأول من صفحته اليمنى ، إلى مؤخرها ، ثم يديره على اليسرى ، حتى يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه ، ثم يمر الثاني من مقدم اليسرى كذلك ، ثم يمر بالثالث على المسربة والصفحتين ، فإن أفرد كل جهة بحجر فوجهان ، ( الاجزاء ) ، وهو رواية ، حكاها ابن الزاغوني .
____________________
(1/52)
116 لما روى سهل بن سعد عن النبي أنّه سئل عن الاستطابة ، فقال : ( أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحة ، وحجراً للمسربة ) رواه الدارقطني وحسن إسناده . ( وعدمه ) قاله أبو جعفر ، وابن عقيل ، لأنه تلفيق لا تكرار ، أما في القبل فيأخذ ذكره بشماله ، ويمسحه بالأرض ، أو بالحجر ونحوهما ، فإن كان الحجر صغيراً ، ولم يمكنه أن يجعله بين عقبيه ، أو بين أصابعه ، فهل يمسكه بيمينه ، ويمسح بشماله ، أو بالعكس ؟ فيه وجهان ، أصحهما الأول .
117 لئلا يدخل تحت : ( لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه ) والأفضل أن يبدأ الرجل بالقبل ، وتخير المرأة ، في وجه قطع به ابن عقيل ، وأبو محمد ، وتبدأ بالدبر في آخر ، قطع به الشيرازي وابن عبدوس .
( الثاني ) : الخراءة بكسر الخاء ، ممدود مهموز ، اسم فعل الحدث ، وأما الحدث نفسه فبغير تاء ، ممدود ، مع فتح الخاء وكسرها ، قاله القرطبي ، وقال الجوهري :
خرىء خراءة مثل كره كراهة . فجعل الحدث بالفتح والمد ، ( والغائط ) المكان المطمئن من الأرض ، سمي الخارج به ، تسمية للحال باسم المحل ، لكثرة قصد ذلك ( والرجيع ) الروث والعذرة ، سمي رجيعاً لرجوعه عن حاله الأولى ، بعد أن كان طعاماً أو علفاً ، وكل شيء من قول أو فعل رد فهو رجيع ، إذ معناه : مرجوع أي مردود وقيل : المراد بالرجيع هنا الحجر الذي قد استنجي به ، و ( أجل ) أي نعم ، قال الأخفش : إلا أنه أحسن من ( نعم ) في الخبر ، و ( نعم ) أحسن منه في الاستفهام ، و ( المسربة ) بفتح الراء وضمها مجري الغائط ، مأخوذ من : سرب الماء . والله أعلم .
قال : والخشب والخرق وكل ما أنقى به فهو كالأحجار .
ش : هذا هو المشهور ، والمختار من [ الروايتين ] .
118 لما روى خزيمة بن ثابت قال : سئل رسول الله عن الاستطابة فقال : ( بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ) فلولا أن اسم الأحجار يعم الجوامد لم يكن لاستثناء الرجيع معنى ، وإنما خص الحجر والله أعلم بالذكر لأنه أعم الجامدات وجوداً ، وأسهلها تناولًا .
119 وقد روي عن طاوس ، قال : قال رسول الله : ( إذا أتى أحدكم البراز ، فليذهب معه بثلاثة أحجار ، أو ثلاثة أعواد ، أو ثلاث حثيات من تراب ، ثم ليقل : الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني ، وأمسك علي ما ينفعني ) رواه
____________________
(1/53)
الدارقطني والبيهقي ، موقوفاً ومرفوعاً ، وقال : الموقوف أرجح .
120 وعن مولى عمر ، قال : كان عمر إذا بال قال : ناولني شيئاً أستنجي به . فأناوله العود ، والحجر ، أو يأتي حائطاً يتمسح به ، أو يمسه الأرض ، ولم يكن يغسله . رواه البيهقي وقال : أنه أصح ما في الباب وأعلاه . ( والثانية ) : واختارها أبو بكر تتعين الأحجار ، جموداً على ظواهر النص .
تنبيهان : ( أحدهما ) : إذا استجمر بجلد سمك أو مذكى ، فحكى ابن عقيل عن الأصحاب أنهم خرجوه على الروايتين ، قال : ويحتمل عندي المنع مطلقاً ، لأنه مطعوم ، والأصحاب غفلوا عن هذه الخصيصة . قلت : لم يغفلوا عن ذلك ، بل قد قطع ابن أبي موسى بالمنع ، معللًا بأنه طعام .
121 وروى أبو داود والنسائي ، والترمذي واللفظ له ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام ، فإنه زاد إخوانكم من الجن ) ، وإذا نهينا عن الاستنجاء بطعام الجن ، فبطعامنا أولى .
( الثاني ) : ( البراز ) بفتح الباء : موضع قضاء الحاجة ، وفي الأصل : الفضاء الواسع من الأرض ، وأكثر الرواة يروونه بكسر الباء ، وهو غلط [ والله أعلم ] .
قال : إلا الروث ، والعظام ، والطعام .
ش : هذا استثناء من كل ما أنقى ، وقد تقدم حديث سلمان في النهي عن الاستنجاء بالرجيع ، والعظم .
واعلم أنه يشترط في المستجمر به شروط ، ( أحدها ) : أن يكون جامداً لأن المائع إن كان ماء فهو استنجاء وليس باستجمار ، وإن كان [ غير ] ماء لم يجز كما تقدم . ( الثاني ) : أن يكون طاهراً ، لما تقدم من حديث سلمان وغيره .
122 وعن ابن مسعود قال : أتى النبي الغائط ، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار ، فوجدت حجرين ، والتمست الثالث فلم أجده ، فأخذت روثة فأتيته بها ، فأخذ الحجرين ، وألقى . الروثة ، وقال : ( إنها ركس ) رواه البخاري وغيره ، والركس النجس . ( الثالث ) : أن يكون منقياً ، فلا يجوز بالفحم الرخو ، ولا بالزجاج ونحوه ، إذ المقصود الإنقاء ، ولم يحصل . ( الرابع ) : أن لا يكون محترماً ، فلا يجوز بطعامنا ، ولا بطعام دوابنا ، وكذلك طعام الجن ودوابهم ، وكذلك كتب الفقه والحديث ، وما فيه اسم الله تعالى ، ونحو ذلك ، وتجل الكتب المنزلة أن تذكر إذاً ، وما اتصل بحيوان ، كذنبه وصوفه ، ونحو ذلك . ( الخامس ) : أن لا يكون محرماً ، فلا يجوز بمغصوب ونحوه ،
____________________
(1/54)
وهذا الشرط قد أهمله المصنف ( والأربعة ) الباقية قد تؤخذ من كلامه ، ( أما ) الجامد فلتمثيله بالخشب والخرق ، ( وأما ) المنقي فلقوله : وكل ما أنقى [ به ] ( وأما ) الطاهر فلأنه استثنى الروث والعظام ، وذلك شامل للطاهر منهما والنجس ، فيلحق بالنجس منهما كل نجس ، ( وأما ) المحترم فلأنه منع من الطعام ، وغيره في معناه ، ومتى خالف واستجمر بما نهي عنه ، لم يجزئه على المذهب ، لارتكابه النهي .
123 وفي الدارقطني وصححه أن النبي نهى أن يستنجى بعظم أو روث ، وقال : ( إنهما لا يطهران ) وخرج بعضهم الإجزاء في الحجر المغصوب ونحوه من رواية صحة الصلاة في بقعة غصب ونحوها ، ورد بأن الاستجمار رخصة ، والرخص لا تستباح على وجه محرم .
واختار أبو العباس في قواعده الإجزاء في ذلك ، وفي المطعوم ونحوه ، ومن مذهبه زوال النجاسة بغير الماء من المزيلات ، كماء الورد ونحوه ، نظراً إلى أن إزالة النجاسة من باب التروك المطلوب عدمها ، ولهذا لا يشترط لزوالها قصد ، حتى لو زالت بالمطر ونحوه ، أو بفعل مجنون ، حصل المقصود ، والنهي تأثيره في العبادات ، إذ القصد المتقرب به إلى الله سبحانه [ وتعالى ] لا يكون على وجه محرم . ( قلت ) : وهذا جيد إن لم يصح ما رواه الدارقطني ، أما مع صحته وقد قال : إن إسناده صحيح . فمردود .
وحيث قيل بعدم الإجزاء فإنه يتعين الماء في الشرط الأول ، وهو ما إذا استجمر بمائع غير الماء ، وكذلك في الثاني ، على ما قطع ، به أبو البركات ، وأبو محمد في الكافي ، وفي المغني احتمال بإجزاء الحجر ، وهو وهم ، وفي الثالث : يعدل إلى حجر منق ، وفي الرابع والخامس : هل يجزئه الحجر جعلًا لوجود آلة النهي كعدمها ، أو يعدل إلى الماء ، لعدم فائدة الحجر إذاً لنقاء المحل ، وإذاً يتعين الماء ، نظراً لقوله في الروث والعظم : ( إنهما لا يطهران ؟ ) فيه وجهان .
( تنبيه ) : الروث للدواب قاله أبو عبيد كالعذرة للآدميين ، والركس قال أبو عبيد : شبيه بالرجيع ، يقال : ركسه وأركسه . إذا ردده وقوله سبحانه وتعالى : { والله أركسهم بما كسبوا } أي ردهم إلى حكم الكفار . [ والله أعلم ] .
قال : والحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام الثلاثة الأحجار .
ش : هذا هو المشهور ، المعمول به من الروايتين ، إذ الشعب الثلاثة يحصل بها ما يحصل بالأحجار ، من كل وجه ، فلا معنى للجمود على التعداد .
124 وقد روى البيهقي عن جابر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثاً ) ولأحمد عنه ، قال : قال رسول الله : ( إذا
____________________
(1/55)
تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات ) . ( والرواية الثانية ) واختارها أبو بكر ، والشيرازي لا بد من تعداد الأحجار ، جموداً على عامة النصوص الصحيحة ، وعلى هذه : لو كسر ما تنجس من الحجر ، أو غسله ثم استجمر به ، أو استجمر بثلاثة أحجار ذي شعب ، أو مسح بالأرض أو بالحائط [ في ] ثلاثة مواضع ، فوجهان في الجميع ، الصحيح منهما الإجزاء [ والله أعلم ] .
قال : وما عدا المخرج فلا يجزىء فيه إلا الماء .
ش : قد تقدم أن من شرط الاستجمار [ بالحجر ] أن لا يتجاوز الخارج المخرج ، أما إن تجاوز الخارج المخرج فلا يجزيء فيه إلا الماء ، لأن الأصل وجوب إزالة النجاسة بالماء ، رخص في الاستجمار ، لتكرر النجاسة على المخرج ، دفعاً لمشقة تكرار الغسل ، فإذا جاوزت المخرج ، خرجت عن حد الرخصة ، فغسلت كسائر المحال .
وإطلاق الخرقي يقتضي غسل ما جاوز المخرج مطلقاً ، وهو ظاهر كلام بعضهم ، قال ابن عقيل و الشيرازي : لا يستجمر في غير المخرج . قال في الفصول : وحد المخرج نفس الثقب ، واغتفر الشيخان ، وصاحب التلخيص ، والسامري ، وغيرهم ما تجاوزه تجاوزاً جرت العادة به ، وحده أبو العباس في شرح العمدة بأن ينتشر الغائط إلى نصف باطن الألية فأكثر ، والبول إلى نصف الحشفة فأكثر ، فإذاً يتعين الماء ، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية ، وحكى الشيرازي وجهاً أنه يستجمر في المتعدي إلى الصفحتين .
وقول الخرقي : لا يجزىء فيه إلا الماء . أي : فيما جاوز المخرج إلا الماء ، فظاهره أن الحجر يجزىء في نفس المخرج ، وبه قطع ابن تميم وقال بعضهم : لا يجزىء في الجميع إلا الماء . وهو ظاهر كلام الشيخين ، وفي الوجيز لابن الزاغوني روايتان كالقولين ، وقد يقال : إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط عدد والحال هذه ولا تراب ، لعدم ذكره لذلك . وليس بشيء ، إذ بساط هذه المسألة أن المتجاوز عن المخرج لا يجزىء فيه الحجر ، أما ما يشترط لزوال النجاسة بالماء فله محل آخر قد تقدم . والله أعلم .
قال :
( باب ما ينقض الطهارة )
ش : نقضت الشيء إذا أفسدته ، فنواقض الطهارة مفسدات الطهارة ، والمراد [ الطهارة ] الصغرى .
____________________
(1/56)
قال : والذي ينقض الطهارة ما خرج من قبل أو دبر .
ش : الذي ينقض الطهارة أشياء ( أحدها ) كل شيء خرج من قبل أو دبر ، لقول الله تعالى : 19 ( { أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء فتيمموا } ) .
125 وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ) فقال رجل من أهل حضر موت : ما الحدث يا أبا هريرة ؟ قال : فساء أو ضراط . متفق عليه .
وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير ، لعموم ما تقدم ، ويشمل أيضاً النادر ، كالدود ، والحصا والشعر ، ونحو ذلك .
126 لما روى علي رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( في المذي الوضوء ، وفي المني الغسل ) رواه أحمد والترمذي وصححه وهو شامل للدائم ، وهو نادر .
127 وعن عروة ، عن فاطمة بنت أبي حبيش ، أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي : ( إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف ، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر ، فتوضئي وصلي ، فإنما هو دم عرق ) رواه أبو داود والنسائي ، ودم الاستحاضة نادر .
128 ويشمل أيضاً الطاهر كالمني ، والريح ، وإن خرجت من القبل ، لعموم حديث أبي هريرة أن رسول الله قال : ( لا وضوء إلا من صوت أو ريح ) رواه الترمذي وصححه ، ولمسلم وأبي داود معناه ، وهذا المنصوص المشهور ، وقال أبو الحسين : قياس مذهبنا النقض بالريح من قبل المرأة دون الرجل ، وكذلك قال ابن عقيل : إنه الأشبه ، لأن قبل المرأة ينفذ إلى الجوف ، دون قبل الرجل ، وريح الدبر إنما نقض لاستصحابه جزءاً لطيفاً من النجاسة ، بدليل نتنها ، قال أبو البركات : ومن قال هذا من الأصحاب التزم نجاسة المني ، وقال : إذا أحدث في مائع ، أو ماء يسير نجسه ، حذاراً من النقض بطاهر .
ويشمل أيضاً إذا قطر في إحليله دهناً ثم سال ، أو احتشى قطناً ثم خرج منه ولا بلة معه ، أو كان في وسط القطن ميل فسقط بلا بلة ، وهو أحد الوجوه ، إناطة بالمظنة ، ( والثاني ) : لا ينقض ، لانتفاء الخارج ، فإن تيقن خروج بلة نقض
____________________
(1/57)
على الأعرف ، وأبعد من قال : لا نقض حتى يخرج بول .
( والثالث ) : ينقض الدهن خاصة ، لاستصحابه بلة غالباً ، بخلاف غيره .
وخرج من كلامه إذا استرخت مقعدته ، فخرجت مع بلة لم ينفصل عنها ، ثم عادت ، وما إذا احتقن ، ولم يخرج شيء من الحقنة ، أو وطيء في الفرج أو دونه ، فدب ماؤه فدخل فرجها ولم يخرج ، وهو أحد الوجهين [ في الجميع ] .
ومراد الخرقي [ رحمه الله ] والله أعلم بالقبل المتيقن ، نظراً للغالب ، لئلا يرد عليه خروج النجاسة من أحد فرجي الخنثي المشكل ، إذا لم يكن بولًا ، ولا غائطاً ، فإنه لا ينقض إلا كثيرها على المذهب ، [ والله أعلم ] .
قال : وخروج الغائط والبول من غير مخرجهما .
ش : الثاني من النواقض في الجملة خروج النجاسة من غير السبيلين المعتادين ، ولا يخلو إما أن يكون بولًا أو غائطاً ، أو غيرهما ، فإن كان بولًا أو غائطاً ، نقضت وإن قلت ، لعموم [ قوله تعالى ] : { أو جاء أحد منكم من الغائط } .
129 وقول النبي في حديث صفوان : ( ولكن من غائط وبول ونوم ) وإن كانت ( من ) غيرهما فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى .
قال : وزوال العقل ، إلا أن يكون النوم اليسير جالساً أو قائماً .
ش : الناقض الثالث : زوال العقل في الجملة ، لأن الحس يذهب معه ، وذلك مظنة خروج الخارج ، والمظنة تقوم مقام الحقيقة ، ولحديث صفوان المتقدم ، والمزيل للعقل على ضربين ، نوم وغيره ، فغيره كالجنون والإغماء ، ونحو ذلك ينقض إجماعاً حكاه ابن المتدر في الإغماء وعممه أبو محمد ، وأما النوم فينقض في الجملة على المذهب بلا ريب ، لما تقدم .
130 وعن علي رضي الله عنه : ( العين وكاء السه ، فمن نام فليتوضأ ) رواه أحمد ، وأبو داود ، ولأحمد عن معاوية نحوه ، وقد سأله ابن سعيد عنهما فقال : حديث علي أثبت وأقوى . ونقل عنه الميموني : لا ينقض بحال لكن نفاها الخلال ، ولا تفريع عليها ، أما على المذهب فالكثير ينقض على أي حال كان ، لما تقدم ، ولتحقيق المظنة ، وقيل عنه بعدم النقض في غير الاضطجاع ، واليسير ينقض في حال الاضطجاع لما تقدم ، ولا ينقض في حال القعود على الأعرف ، وحكي عنه النقض .
131 وهي مردودة بأن في الصحيحين أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا
____________________
(1/58)
ينامون ، ثم يصلون ولا يتوضؤن . والجلوس منهم متيقن .
132 ولأبي داود عن أنس : كان أصحاب رسول الله ينتظرون العشاء الآخرة ، حتى تخفق رؤسهم ، ثم يصلون ولا يتوضؤن .
وفي القائم ، والراكع ، والساجد روايات ، ( إحداهن ) : النقض في الجميع ، لعموم ما تقدم ، خرجت منه حالة الجلوس بفعل الصحابة رضي الله عنهم لتيقنها ، ففيما عداها يبقى على قضية العموم . ( الثانية ) : النقض إلا في القائم ، وهو اختيار المصنف ، وأبي محمد ، والخلال إلحاقاً للقائم بالقاعد ، بل أولى ، لاعتماد القاعد بخلاف القائم ( الثالثة ) : النقض إلا في القائم والراكع ، لشبه الراكع بالقائم ، ( الرابعة ) : عدم النقض في الجميع ، وهو اختيار القاضي ، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن عقيل ، وابن البنا ، قال أبو العباس : اختارها القاضي وأصحابه ، وكثير من أصحابنا .
133 لما روى أحمد رحمه الله في الزهد عن الحسن البصري رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة ، يقول : انظروا إلى عبدي روحه عندي ، وهو ساجد لي ) فسماه ساجداً مع نومه ، ولأن الأصل الطهارة ، فلا تزول بالشك ، وهل يلحق المستند ، والمحتبي ، والمتكي ، بالمضطجع أو بالقاعد ؟ فيه قولان ، أشهرهما الأول .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : المرجع في اليسير والكثير إلى العرف ، لعدم حد الشارع له ، قاله الشيخان وغيرهما ، فإذا سقط الساجد عن هيئته ، أو القائم عن قيامه ، ونحو ذلك ، بطلت طهارته ، لأن أهل العرف يعدون ذلك كثيراً ، وكذلك إن رأى حلماً ، نص عليه ، وقطع به جماعة ، والأشبه عند أبي البركات عدم تأثير ذلك ، وحد أبو بكر اليسير بركعتين ، وظاهر كلام أحمد خلافه ، ولا بد في النوم الناقض من الغلبة على العقل ، فمن سمع كلام غيره وفهمه فليس بنائم ، فإن سمعه ولم يفهمه فيسير .
( الثاني ) : ( الوكاء ) في الأصل الخيط الذي تشد به القربة ونحوها ، جعلت اليقظة للأست كالوكاء للقربة ، ( والسه ) حلقة الدبر ، وكني بالعين عن اليقظة لأن النائم لا عين له تبصر ، ( وتخفق رؤوسهم ) . من الخفوق وهو الاضطراب ، وقيل : معناه ينامون وهم قعود ، حتى تسقط ذقونهم في صدورهم [ والله أعلم ] .
قال : والتقاء الختانين .
ش : هذا الناقض الرابع ، وأكثر الأصحاب لا يعدونه ناقضاً ، لما استقر عندهم
____________________
(1/59)
والله أعلم من أن ما أوجب الغسل نقض الطهارة الصغرى ، وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد ، من أن التقاء الختانين يوجب الغسل ، وإن كان بحائل ، كما هو [ ظاهر ] إطلاق الأكثرين ، وممن صرح بأن موجبات الغسل ناقضات للطهارة وإن لم يوجد خروج خارج ، ولا ملامسة السامري ، وابن حمدان .
والخرقي رحمه الله ذكر ذلك ليشعر بهذين الأصلين ، وإنما قيل بالنقض بذلك قياماً للمظنة مقام الحقيقة ، وقد حكى ابن حمدان وجهاً في الكافر يسلم : لا يجب عليه الوضوء ، وإن وجب عليه الغسل ، وهذا غير ما تقدم ، إذ الكلام ثَمَّ في أن ما أوجب الغسل نقض الطهارة ، لأن ما أوجب الكبرى أوجب الصغرى والله أعلم .
قال : والارتداد عن الإسلام .
ش : الناقض الخامس : الارتداد عن الإسلام والعياذ بالله على المحقق المعروف .
134 لقول النبي : ( الطهور شطر الإيمان ) وإذا بطل الإيمان فكيف بشطره ، نظراً إلى أن الإيمان تركب من طهارة الظاهر ، وطهارة الباطن كما سيأتي .
135 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الحدث حدثان ، حدث اللسان ، وحدث الفرج ، وحدث اللسان أشد من حدث الفرج . ورواه ابن شاهين مرفوعاً إلى النبي .
واستدل بقوله تعالى : 19 ( { لئن أشركت ليحبطن عملك } ) بناء على الإحباط بمجرد الردة ، والموت في قوله تعالى : 19 ( { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر } ) شرط للخلود ، وفيه نظر . إذ المشهور أن الإحباط مشروط بالموت على الردة ، ولهذا صح الحج في الإسلام السابق ، ولزمه قضاء ما تركه فيه من صلاة وزكاة ، وصوم ، على المشهور ، ثم الإحباط إنما ينصرف للثواب ، دون نفس العمل ، بدليل [ صحة صلاة ] من صلى خلفه وهو مسلم ، ولم يعد القاضي في جامعه ، وخصاله وأبو الخطاب في هدايته ، وابن البنا ، وابن عقيل في التذكرة ، وصاحب التلخيص ، والسامري الردة في النواقض ، فقيل : لأنها لا تنقض عندهم ، وقيل : إنما تركوها لعدم فائدتها ، لأنه إن لم يعد إلى الإسلام فظاهر ، وإن عاد إلى الإسلام وجب عليه الغسل ، ويدخل فيه الوضوء ، وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير فقال : لا معنى لجعلها من النواقض ، مع وجوب الطهارة الكبرى .
واستدل أبو العباس عليه [ فقال ] : إن فائدة ذلك تظهر فيما إذا عاد ، فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل ، فإن نواهما بالغسل أجزأه ، ولو لم ينقض لم يجب عليه [ إلا ]
____________________
(1/60)
الغسل . ( قلت ) : ومثل هذا لا يخفى على القاضي ، وإنما أراد القاضي والله أعلم أن وجوب الغسل ملازم لوجوب الطهارة الصغرى كما تقدم ، وممن صرح بأن موجبات الغسل تنقض الوضوء ، السامري ، وابن حمدان حكى وجهاً بأن الوضوء لا يجب بالالتقاء بحائل ، ولا بالإسلام ، وإذاً ينتفي الخلاف بين الأصحاب في المسألة .
وتخصيص المصنف للنقض بالردة مشعر بعدم النقض بغيرها من الكلام ، وهو صحيح ، نعم : يستحب من الكلام المحرم ، وهل يستحب من القهقهة ؟ فيه وجهان .
( تنبيه ) : ( الشطر ) النصف ، وجعل الطهور والله أعلم شطر الإيمان لأنه يطهر الظاهر ، والإيمان يطهر الباطن ، والله أعلم .
قال : ومس الفرج [ من غير حائل ] .
ش : السادس من النواقض مس الفرج ، والفرج مأخوذ من الانفراج ، وهو اسم لمخرج الحدث ، ويتناول الذكر ، والدبر وفرج المرأة ، ومناط المسألة الذكر ، وغيره مبني ومفرع عليه ، فلنتكلم على الذكر أولًا فنقول : المذهب المشهور الذي عليه عامة الأصحاب : أن مسه ينقض الوضوء في الجملة .
136 لما روت بسرة رضي الله عنها أن النبي قال : ( من مس ذكره فليتوضأ ) رواه الخمسة ، وصححه أحمد والترمذي ، وقال البخاري : إنه أصح ما في الباب .
137 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه ، ليس دونها حجاب ، فقد وجب عليه الوضوء ) رواه أحمد ، والطبراني وهذا لفظه ، وابن حبان ، والحاكم وصححه وللنسائي ، من حديث بسرة نحوه ، مع أن عمل الصحابة عليه .
138 فقد رواه مالك في الموطأ ، عن سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر وحكاه إمامنا عن عمر وابنه وابن عباس ، وأنس ، وابن عبد البر عن زيد بن خالد الجهني ، والبراء ، وجابر ، والخطابي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين ( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى : يستحب الوضوء من مسه ولا يجب . اختارها أبو العباس في فتاويه .
139 لما روى قيس بن طلق ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال : قدمنا على رسول الله ، فجاءه بدوي فقال : يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ ؟ فقال : ( وهل هو إلا مضغة منه ، أو بضعة منه ) رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي .
____________________
(1/61)
ويحمل ما تقدم على الاستحباب ، جمعاً بين الأدلة ، ومن نصر الأول ضعّف الحديث ، ثم ادعى نسخه على تقدير صحته .
140 بدليل أن وفادة طلق كانت في سنة الهجرة [ وهم يؤسسون المسجد ، وإسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة من الهجرة ] وهذا إن لم يكن نصاً في النسخ لكنه ظاهر فيه ، ثم يؤيده أن حديث طلق موافق للأصل ، ودعوى الاستحباب مردودة بقوله : ( وجب عليه الوضوء ) ومنهم من حمل حديث طلق على المس من وراء حائل ، لأنه قد جاء أن السؤال عن المس في الصلاة ، وتعليله يرده .
ولا تفريع على هذه الرواية ، أما على الأولى فقد شمل كلام الخرقي ذكر نفسه ، وذكر غيره ، وهو المعروف ، لأن في حديث بسرة في رواية لأحمد والنسائي أنها سمعت رسول الله يقول : ( ويتوضأ من مس الذكر ) وحكى ابن الزاغوني رواية باختصاص النقض بذكر نفسه ، جموداً على أنه المعروف من الرواية : ( من مس ذكره ) ( وشمل ) [ أيضاً ] ذكر الصغير والكبير ، وهو المذهب المنصوص عليه ، نظراً لعموم ما سبق ، وعنه : لا ينقض ذكر الطفل . حكاها الآمدي . ( وشمل ) أيضاً ذكر الحي والميت ، وهو المذهب المنصوص أيضاً ، لما تقدم ، وقيل : لا ينقض ذكر الميت . ( وشمل ) أيضاً المتصل والمنقطع المنفصل ، وهو أحد الوجهين ، وبه قطع الشيرازي ، تعليقاً بالعموم ، ( والثاني ) : لا ينقض المنقطع لعدم حرمته ، وانتفاء مظنة خروج الخارج ، ( وشمل ) أيضاً أصل الذكر ورأسه ، وهو المذهب لما تقدم ، وعنه : تخصيص النقض بالحشفة ، وعنه بالثقب . وكلاهما بعيدان .
وقول الخرقي : مس الفرج . المس اللمس باليد ، فالنقض مختص بها وإن كان بزائدة منها ، لحديث أبي هريرة المتقدم ، والمراد باليد على المذهب : إلى الكوع ، كما في آية التيمم ، والسرقة ، وعنه : [ بل إلى ] المرفق ، كما في آية الوضوء . وعنه : بل يختص النقض ببطن الكف ، وعليها في حرفها وجهان ، وقال الأصحاب : النقض أيضاً يحصل بمس الفرج ، لأنه أدعى إلى الحدث ، ومال أبو البركات إلى عدم النقض به ، لأن النقض بمس الذكر تعبد عند المحققين .
وقد شمل كلام الخرقي المس سهواً ، ولغير شهوة ، وهو المشهور ، لظواهر النصوص ، ( وعنه ) : لا ينقض مسه شهواً .
141 لقوله : ( عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ) الحديث ، ولا لغير شهوة ، نظراً إلى أنه معلل بخروج الخارج ، كلمس النساء .
وشرط الخرقي أن يكون اللمس من غير حائل ، وهو المذهب .
____________________
(1/62)
142 لما تقدم من حديث أبي هريرة ، ولأحمد فيه : ( ليس دونه ستر ) وحكى عنه القاضي في شرح المذهب النقض مع الحائل .
إذا عرف هذا ففي النقض بمس حلقة الدبر روايتان ، ( إحداهما ) وقال الخلال : إنها الأشيع في قوله وحجته ، وقواها أبو البركات : لا ينقض ، لأن غالب الأحاديث مقيدة بالذكر ، ( والثانية ) : وهي ظاهر كلام الخرقي واختيار الأكثرين ، الشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي وابن عقيل ، وابن البنا ، وابن عبدوس : ينقض .
143 لما روت أم حبيبة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله يقول : ( من مس فرجه فليتوضأ ) رواه ابن ماجه ، والأثرم ، وصححه أحمد ، وأبو زرعة والفرج اسم جنس مضاف ، فيعم ، وذكر الذكر لا يخصص ، لأنه بعض أفراده ، وفي مس المرأة فرجها ، أيضاً روايتان ( إحداهما ) : لا ينقض لما تقدم من أن أكثر الأحاديث مقيدة بالذكر ، ( والثانية ) : وصححها أبو البركات ينقض ، لعموم ( من مس فرجه فليتوضأ ) وذكر الذكر لا يخصص ، لما تقدم ، والمفهوم غير مراد ، لأن الخطاب كان جواب سؤال سائل للرجال .
144 وقد روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي قال : ( أيما رجل مس فرجه فليتوضأ ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ ) ولا فرق بين مس فرجها وفرج غيرها ، وفي التلخيص : ينقض مس فرج المرأة ، وفي مسها فرج نفسها وجهان . وفيه نظر .
وظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط للنقض بذلك الشهوة ، وهو مفرع على المذهب ، وشرطها ابن أبي موسى ، وهو جار على الرواية الضعيفة .
( تنبيه ) : المضغة ، قدر اللقمة من اللحم ، ( والبضعة ) قطعة أكبر من المضغة . والله أعلم .
قال : والقيء الفاحش ، والدم الفاحش ، والدود الفاحش ، يخرج من الجروح .
ش : قد تقدم في الثاني من النواقض أن النجاسة الخارجة من غير السبيلين تنقسم إلى بول وغائط وغيرهما [ وقد تقدم الكلام على البول والغائط ، والكلام هنا فيما عداه ] ولا يخلو إما أن يكون فاحشاً أو غير فاحش .
فإن كان غير فاحش لم ينقض على المشهور من الروايتين .
145 لأن عبد الله بن أبي أوفى بصق دماً ، فمضى في صلاته ، وابن عمر عصر بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ ، ذكرهما البخاري .
____________________
(1/63)
146 وعن أبي هريرة أنه أدخل أصبعه في أنفه ، فخرج عليها دم ، فلم يتوضأ ، ذكره أحمد وقال : قال ابن عباس في الدم : 16 ( إذا كان فاحشاً أعاد الوضوء ) . وقال : الدم القليل لا أرى فيه الوضوء ، لأن أصحاب رسول الله رخصوا فيه . وغير ذلك ما عدا البول ، والغائط في معناه ، والرواية الثانية : ينقض لعموم ما يأتي .
وإن كان فاحشاً نقض على المعروف ولا عبرة برواية أثبتها بعضهم ، ونفاها أبو البركات : أن القيح والصديد ، والمدة لا ينقض مطلقاً .
147 لما روى معدان بن أبي طلحة ، عن أبي الدرداء ، أن النبي قاء فتوضأ ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق ، فذكرت ذلك له فقال : صدق ، أنا صببت له وضوءه . رواه أحمد والترمذي وقال : هو أصح شيء في الباب . وقال الأثرم لأحمد : اضطربوا في [ هذا ] الحديث . فقال : حسين المعلم يجوده . وقيل له : حديث ثوبان يثبت عندك ؟ قال : نعم .
148 ولابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال : ( من أصابه قيء ، أو رعاف ، أو قلس ، أو مذي ، فلينصرف فليتوضأ ) فيحمل هذا والذي قبله على الفاحش عملًا بالدليلين ، ويؤيد ذلك قول ابن عباس المتقدم ، وقد اعترض على هذا الحديث بأنه مرسل ولا يضر على قاعدتنا ، على أنه قد أيد بعمل الصحابة .
149 فحكى أحمد الوضوء من الرعاف عن علي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عبد البر عن عمر : ثم حديث معدان يوافقه .
إذا عرف هذا فاختلف عن إمامنا في الفاحش اختلافاً كثيراً ، نحو عشرة أقوال أو أكثر ، والمشهور منها ، المعمول عليه ، أنه : ما يفحش في النفس ، ولا عبرة بما قطع به ابن عبدوس ، وحكى عن شيخه : أن اليسير قطرتان ، لما تقدم عن ابن عباس ، ولا يعرف عن صحابي خلافه ، ثم المعتبر في حق كل إنساء بما يستفحشه في نفسه ، نص عليه ، وقال الخلال : إنه الذي استقر عليه قوله ، ومال إليه أبو محمد ، وقال أبو العباس في شرح العمدة ، إنه ظاهر المذهب ، وحده أنه الأولى ، إلا أنه استثنى القطرة والقطرتين ، فعفى عن ذلك مطلقاً ، إذ العفو لدفع المشقة ، فإذا لم يستفحشه شق عليه غسله وإن استفحشه هان عليه غسله ، وقال ابن عقيل في فصوله ، وشيخه أظنه في المجرد : والمعتبر نفوس أوساط الناس ، فلا عبرة بالقصابين ، ولا المتوسوسين ، كما رجع في يسير اللقطة إلى نفوس الأوساط ، وفي الأحراز والقبوض إلى عادة الأكثر ، وتبعهما على ذلك صاحب التلخيص وأبو البركات في محرره .
( تنبيه ) : القلس بالتحريك وقيل بالسكون ما خرج من الجوف ، مل الفم أو
____________________
(1/64)
دونه ، وليس بقيء ، فإن عاد فهو القيء . والله أعلم .
قال : وأكل لحم الجزور .
ش : السابع من النواقض أكل لحم الجزور ، على المذهب ، المختار لعامة الأصحاب .
150 لما روى جابر رضي الله عنه ، أن رجلًا سأل النبي : أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : ( إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ ) قال : أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : ( نعم توضؤا من لحوم الإبل ) قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : ( نعم ) قال : أصلي في مبارك الإبل ؟ قال : ( لا ) رواه أحمد ومسلم ، وقال ابن خزيمة : لم نر خلافاً بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح ، لعدالة ناقليه .
151 وعن البراء بن عازب قال : سئل رسول الله عن الوضوء من لحوم الإبل ، فقال : ( توضؤا منها ) وسئل عن لحوم الغنم ، فقال : ( لا تتوضؤا منها ) وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : ( لا تصلوا فيها ، فإنها من الشياطين ) وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم ، فقال : ( صلوا فيها ، فإنها بركة ) رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي ، وصححه والذي قبله أحمد وإسحاق ، وظاهر الأمر الوجوب ، والوضوء إذا أطلقه الشارع حمل على الشرعي ، لا سيما وقد قرنه بالصلاة ، وفرق بينه وبين لحم الغنم ، مع مطلوبية الوضوء اللغوي فيه ، وهو غسل اليد والفم .
152 وكذا فهم جابر راوي الحديث وغيره الوضوء الشرعي فقال : كنا نتمضمض من ألبان الإبل ، ولا نتمضمض من ألبان الغنم ، وكنا نتوضأ من لحوم الإبل ، ولا نتوضأ من لحوم الغنم ، ذكره البيهقي في السنن .
153 وقال : أمرنا رسول الله أن نتوضأ من لحوم الإبل ، ولا نتوضأ من لحوم الغنم ، رواه ابن ماجه ، وله نحوه عن ابن عمر ، وكذا لأحمد من حديث أسيد بن الحضير والمعنى في ذلك إن قيل : [ إنه ] معلل ما أشار إليه النبي بأنها من الشياطين ، إذ كل عات متمرد شيطان ، فالكلب الأسود شيطان الكلاب ، والإبل شياطين الأنعام .
154 وفي الحديث ( على ذروة كل بعير شيطان ) والأكل منها يورث حالًا شيطانية ، والشيطان من نار والماء يطفئها .
____________________
(1/65)
155 ودعوى النسخ بقول جابر رضي الله عنه [ في الصحيح ] : كان آخر الأمرين من رسول الله ترك الوضوء مما مست النار ، ودعوى النسخ مردودة بأن هذه قضية عين ، ولا عموم لها ، ولو سلم عمومها كما قاله أصحابنا ، أو ورد لفظ عام لم ينسخ العام الخاص ، بل الخاص يقضي على العام ، ثم لو سلم اندراج المطبوخ [ منه ] في العموم ، فإنما يدل على نفي الوضوء بسبب مس النار ، لا نفي الوضوء من جهة أخرى ، وإذاً نقول : الوضوء من المطبوخ كان لعلتين ، مس النار ، وكونه لحم إبل ، فإذا زالت إحداهما لا يلزم زوال الأخرى .
وقد شمل كلام الخرقي النيء وهو كذلك ، لما تقدم . وعن أحمد ( رواية أخرى ) : لا ينقض مطلقاً ، وقد فهم دليلها [ وجوابه ] مما تقدم ، وعنه ( ثالثة ) : إن طالت المدة وفحشت ، كعشر سنين لم يعد ، بخلاف ما إذا قصرت ، وعنه ( رابعة ) وقال الخلال : إن عليها استقر قوله : يفرق بين الجاهل وغيره ، لأنه خبر آحاد فيعذر بالجهل به كما يعذر بالجهل بالزنا ونحوه الحديث العهد بالإسلام ، والجاهل هنا من لم يبلغه الحديث ، قاله أبو العباس ، أما من بلغه فلا يعذر ، وعنه : بلى مع التأويل ، وعنه : مع طول المدة .
وقد خرج من كلام الخرقي ما عدا اللحم من لبنها ، وسنامها ، وكرشها ، وكبدها ، ومرقها ، ونحو ذلك ، وهو إحدى الروايتين في اللبن ، وأحد الوجهين ، أو الروايتين المخرجتين في غيره ، واختيار الأكثرين فيهما ، لأن الصحيح من الأحاديث ليس فيه ذكر اللبن .
156 ثم في ابن ماجه عن النبي : ( مضمضوا من اللبن ، فإن له دسماً ) وظاهره الاكتفاء بالمضمضة في كل لبن ، ( والقول الثاني ) : يجب في جميع ذلك .
157 لأن في بعض الأحاديث : ( توضؤا من لحوم الإبل وألبانها ) رواه أحمد . وغيره اللبن في معناه ، من السنام ونحوه ، والمعتمد أن الوضوء من لحوم الإبل هل هو معلل ، فيلحق به ذلك ، أو غير معلل ، وهو المشهور ؟ على قولين .
وخرج من كلامه أيضاً ما عدا لحم الإبل من اللحوم ، وهو المشهور من الروايتين في اللحوم المحرمة أما غير المحرمة فلا تنقض اتفاقاً ، نعم في استحباب الوضوء مما مست النار وجهان .
تنبيه : ( مرابض الغنم ) اسم لمواضع ربضها ، أي إقامتها ، ( ومبارك ) اسم لموضع البروك .
____________________
(1/66)
قال : وغسل الميت .
ش : ( الثامن ) من النواقض غسل الميت مطلقاً ، على المنصوص ، المختار للجمهور .
158 لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء .
159 وقال أبو هريرة : أقل ما فيه الوضوء ، وقال التميمي ، وأبو محمد : لا ينقض ، كما لو يممه .
160 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه ، فإن ميتكم ليس بنجس ، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم ) رواه الدارقطني ، قال بعض الحفاظ : إسناده جيد .
وقد دخل في كلام الخرقي ما إذا غسله في قميصه ، وهو ظاهر كلام غيره ، وفيه احتمال ، وخرج من كلامه ما إذا غسل بعضه ، وهو أظهر الاحتمالين عند ابن حمدان ، وخرج أيضاً ما إذا يممه ، وهو المعروف ، وقيل : فيه احتمال .
( تنبيه ) : قيد ابن حمدان المسألة بما إذا قيل : إن مس فرجه ينقض اه . والغاسل من يقلبه ويباشره ، لا من يصب الماء ونحوه و ( حسبكم ) . أي يكفيكم . والله أعلم .
قال : وملاقاة جسم المرأة لشهوة . .
ش : هذا خاتمة النواقض ، وهو ملاقاة جسم الرجل [ جسم ] المرأة لشهوة ، على المشهور ، المعمول به من الروايات ، لقول الله تعالى : 19 ( { أو لامستم النساء } ) الآية والمفهوم منه في العرف المس المقصود منهن ، وهو المس للتلذذ ، أما المس لغرض آخر فلا فرق بينهن وبين غيرهن في ذلك ، ولأن اللمس بشهوة هو المظنة لخروج المني والمذي ، فأقيم مقامه ، كالنوم مع الريح .
161 وعلى هذا يحمل قول ابن مسعود : من قبلة الرجل امرأته الوضوء . ونحو عن ابن عمر ، أخرجهما مالك في الموطأ .
162 وقول عمر رضي الله عنه : إن القبلة من اللمس ، فتوضؤا منها . رواه البيهقي ، فتخصيصه القبلة بذلك قرينة الشهوة .
163 وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب [ من ] امرأة لا تحل له ، فلم يدع شيئاً يصيب الرجل من المرأة إلا
____________________
(1/67)
قد أصاب منها ، إلا أنه لم يجامعها ؟ فقال : ( توضأ وضوءاً حسناً ثم قم فصل ) فأنزل الله تعالى هذه الآية : 19 ( { وأقم الصلاة طرفي النهار ، وزلفا من الليل . إن الحسنات يذهبن السيئات } ) فقال معاذ : هي له خاصة ، أم للمسلمين عامة ؟ فقال : ( بل هي للمسلمين عامة ) رواه أحمد والدارقطني ، مع أن فيه انقطاعاً ، فإن راويه عن معاذ عبد الرحمن بن أبي ليلى ولم يدركه .
164 وما روي من أنه قبّل ولم يتوضأ ، إن صح أيضاً محمول على التقبيل ترحماً ونحوه ، ولو أريد بالآية الجماع لاكتفى بقوله تعالى : 19 ( { وإن كنتم جنباً } ) ( والثانية ) : ينقض مطلقاً لظاهر [ إطلاق ] الآية الكريمة ، وما تقدم من حديث معاذ ونحوه ، ويؤيد ذلك أنه قد ورد في لسان الشارع ، وأريد به ذلك .
165 قال في حديث ماعز ( لعلك قبلت أو لمست ) ؟
166 ونهى عن بيع الملامسة وقد حكي عن أحمد أنه رجع عن هذه الرواية ( والثالثة ) : لا ينقض مطلقاً ، وهو اختيار أبي العباس في فتاويه ، وهو قول الحبر ابن عباس ، حملًا للآية على الجماع .
167 قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله حيي كريم ، يكني بما شاء عما شاء وإن مما كنى به عن الجماع الملامسة . ويؤيد ذلك ما روي من تقبيله وما تقدم يحمل على الاستحباب ، جمعاً بين الأدلة اه .
وقد شمل كلام الخرقي الأجنبية ، وذات المحرم ، والعجوز ، وهو كذلك ، وشمل أيضاً الحية والميتة ، وهو اختيار القاضي وابن عبدوس ، وابن البنا ، وصاحب التلخيص وغيرهم نظراً للعموم ، وقياساً على وجوب الغسل بوطئها ، وخالفهم أبو جعفر ، وابن عقيل ، وأبو البركات ، لأنها ليست محلًا للشهوة ، أشبهت البهيمة ، وشمل أيضاً مسها بعضو زائد ، ومس عضو زائد منها ، لأن جسمه لاقى جسمها ، وصرح به غيره .
وقوله : المرأة . قد يخرج به الطفلة . وصرّح به أبو البركات ، مقيداً بالتي لا تشتهى ، وصرّح أبو محمد ، وصاحب التلخيص ، والسامري ، وغيرهم بأنه لا فرق بين الصغيرة والكبيرة .
وقوله : المرأة . أي لجسم المرأة ، فيحتمل أن يدخل تحته الشعر والسن ، والظفر ، وهو قويل ، والمذهب عدم النقض بذلك .
وخرج من كلامه اللمس بحائل وهو المعروف المنصوص وحكي عنه النقض مع الحائل أيضاً وبعدت .
____________________
(1/68)
وقوله : ملاقاة جسم الرجل للمرأة ، قد يدخل فيه ما إذا مسته المرأة ووجدت منه الشهوة ، أن وضوءه ينتقض ، وهذا ينبني على أصلين ، ( أحدهما ) : أن المرأة هل حكمها حكم الرجل إذا مسته ، وهو المشهور ، أم لا ؟ فيه روايتان ( الثاني ) : أن اللامس حيث انتقض وضوءه هل ينتقض وضوء الملموس ، وهو اختيار ابن عبدوس ، أو لا ينتقض ، وهو اختيار أبي البركات ؟ على روايتين أيضاً ، ثم محلها وفاقاً للشيخين فيما إذا وجدت الشهوة من الملموس ، فيكون كلام الخرقي ينبني على أن حكم المرأة حكم الرجل ، وأن وضوء اللامس ينتقض إذا انتقض وضوء الملموس .
واعلم أن عامة الأصحاب يعد النواقض كما عدها الخرقي ، عدا التقاء الختانين كما تقدم ، وزاد بعض المتأخرين : زوال عذر المستحاضة ونحوها بشرطه ، وخروج وقت صلاة تيمم لها ، وبطلان المسح بفراغ مدته ، أو خلع حائله ، ونحو ذلك ، وبرء محل الجبيرة ، ورؤية الماء للمتيمم العادم له ونحو ذلك ، وهذا وإن [ كان ] مناقشاً فيه ، لكن الحكم متفق عليه اه .
( تنبيه ) : 19 ( { وزلفا من الليل } ) أي ساعة بعد ساعة . واحدتها : زلفة [ والله أعلم ] .
قال : ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة ، فهو على ما تيقن منهما .
168 ش : روى عبد الله بن زيد قال : شكي إلى النبي الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ؟ قال : 19 ( ( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً ، أو يجد ريحاً ) ) متفق عليه .
169 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً ، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا ؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً ، أو يجد ريحاً ) رواه مسلم وغيره ، والمعنى في ذلك أن الشيء إذا كان على حال ، فانتقاله عنها يفتقر إلى زوالها ، وحدوث غيرها ، وبقائها ، وبقاء الأولى لا يفتقر [ إلا ] إلى مجرد [ بقائها ] ويكون أولى .
واعلم أن كلام الخرقي يشمل صوراً ،
____________________
(1/69)
منها ما تقدم ، ( ومنها ) إذا تيقن الطهارة والحدث ، وشك في السابق منهما ، فإنه على ضد حاله قبلهما ، مثاله : إذا تيقن بعد الزوال مثلًا أنه كان متطهراً ومحدثاً ، فإنه ينظر إلى ما قبل الزوال فإن كان محدثاً فهو الآن متطهر ، لأنه قد تيقن زوال ذلك الحدث ، بطهارة بعد الزوال ، والحدث الموجود بعد الزوال ، يحتمل أن يكون ذلك الحدث واستمر ، ويحتمل أنه حدث متجدد ، فهو متيقن للطهارة ، شاك في الحدث ، وإن كان قبل الزوال متطهراً فهو الآن محدث ، وبيانه مما تقدم ( ومنها ) إذا تيقن فعل الطهارة والحدث ، وصورته أنه تيقن بعد الزوال أنه تطهر طهارة رفع بها حدثاً ، وأحدث حدثاً نقض به طهارة ، فيكون على مثل حاله قبل الزوال ، فإن كان قبله متطهراً فهو الآن متطهر ، لأن الطهارة التي قبل الزوال ، قد تيقن زوالها بالحدث ، وتيقن أيضاً زوال الحدث بالطهارة التي بعد الزوال ، والأصل بقاؤها ، وإن كان قبل الزوال محدثاً ، فهو الآن محدث ، وبيانه مما تقدم ، والضابط كما قال الخرقي العمل بالأصل .
( تنبيه ) : الشك في كلام الخرقي خلاف اليقين ، وإن انتهى إلى غلبة الظن ، وفاقاً للفقهاء واللغويين كما قاله الجوهري ، وابن فارس وغيرهما ، وفي اصطلاح الأصوليين هو تساوي الاحتمالين والله سبحانه وتعالى أعلم .
قال :
( باب ما يوجب الغسل )
ش : قال القاضي عياض : الغسل بالفتح الماء ، وبالضم الفعل ، وقال ابن مالك : [ الغسل ] بالضم الاغتسال ، والماء الذي يغسل به . وقال الجوهري : غسلت الشيء غسلًا . بالفتح ، والاسم الغسل . بالضم ، والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره ، [ والله أعلم ] .
قال : والموجب للغسل خروج المني .
ش : خروج المني في الجملة موجب للغسل اتفاقاً ، وقد قال [ الله ] تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } .
170 وثبت أنه قال : ( إنما الماء من الماء ) .
171 وفي الصحيحين عن أم سلمة ، أن أم سليم قالت : يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق ، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : ( نعم إذا رأت الماء ) فقالت أم سلمة : أو تحتلم المرأة ؟ فقال : ( تربت يداك ، وبم يشبهها ولدها ) ؟
172 وفي رواية لمسلم : ( ماء الرجل غليظ أبيض ، وماء المرأة رقيق أصفر ، فمن أيهما علا أو سبق يكون الشبه منه ) .
والألف واللام في كلام الخرقي يجوز أن تكون لمعهود ذهني وهو المني المعتاد ، وهو الخارج على وجه الدفق واللذة ، فلا يجب الغسل لمني خرج بغير ذلك كالخارج لمرض أو أبردة أو كسر ظهر ، أو نحو ذلك ، وهو المشهور المعروف .
____________________
(1/70)
173 لما روي عن علي رضي الله عنه قال : كنت رجلًا مذاء ، فسألت النبي قال : ( إذا خذفت الماء فاغتسل ، وإن لم تكن خاذفاً فلا تغتسل ) رواه أحمد والخذف خروجه بسرعة ، وفي رواية أبي داود : ( إذا فضخت الماء فاغتسل ) والفضخ قال إبراهيم الحربي : خروجه بالغلبة .
174 ( وعنه ) أيضاً قال : كنت رجلًا مذاء ، فلما رأى رسول الله الماء قد آذاني ، قال : ( إنما الغسل من الماء الدافق ) رواه البيهقي في سننه .
ويحتمل أن تكون للجنس ، أي خروج كل مني ، فعلي هذا يجب الغسل وإن خرج بلا دفق وشهوة ، وهو تخريج كما سيأتي ، وقيل : رواية حكاها ابن عبدوس ، لعموم قوله : ( إنما الماء من الماء ) وقوله : ( نعم إذا رأت الماء ) وقوله : ( في المذي الوضوء وفي المني الغسل ) ويجاب بالقول بموجب هذه الأحاديث وأن الألف واللام لمعهوده ذهني ، كما تقدم .
ومقتضى كلام الخرقي أن الغسل لا يجب بالانتقال ، لتعليقه الحكم على الخروج ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، والشريف فيما حكاه عنه الشيرازي ، لما تقدم في النصوص ، إذ الحكم في الجميع مرتب على الرؤية ، ( والرواية الثانية ) : وهي المنصوصة المشهورة عن أحمد ، والمختارة لعامة أصحابه ، حتى أن جمهورهم جزموا بها يجب بذلك ، لقوله تعالى : 19 ( { وإن كنتم جنباً فاطهروا } ) والجنابة أصلها البعد ، قال سبحانه : { والجار الجنب } أي البعيد وسمي من جامع جنباً لبعده عن الصلاة وموضعها حتى يطهر ، ومع الانتقال قد باعد الماء محله ، فصدق عليه اسم الجنب ، وإناطة للحكم [ بالشهوة ] وتعليقاً له على المظنة ، إذ بعد انتقاله يبعد عدم خروجه ، كما قد أشار إليه أحمد ، ومحل الروايتين وفاقاً لابن حمدان فيما إذا لم يخرج إلى قلفة الأقلف ، وفرج المرأة ، فعلى الأولى إذا خرج بعد ذلك وجب الغسل ، وإن خرج لغير شهوة ، لأن انتقاله كان لشهوة ، وتترتب الأحكام المتعلقة بخروج المني ، من إفساد صوم ونحوه ، ويعيد ما صلى من وقت انتقاله ، قاله ابن حمدان ، وعلى الثانية تترتب الأحكام بمجرد الانتقال ، من إفساد صوم ، ووجوب بدنة في الحج ، حيث وجبت بخروج المني ، قاله القاضي في تعليقه التزاماً ، وجعله ابن حمدان وجهاً وبعده .
وهل يجب عليه إن كان قد اغتسل غسل ثان ؟ حكمه حكم مني اغتسل له ، ثم خرجت بقيته ، وفيه روايات ( إحداها ) وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار الخلال ،
____________________
(1/71)
وابن أبي موسى ، وأبي البركات وغيرهم لا غسل عليه ، حذاراً من أن يلزمه بمني واحد غسلان ، وتبعاً لعلي ، وابن عباس رضي الله عنهم ( والثانية ) : عليه الغسل ، إناطة بخروج المني ، ( والثالثة ) وهي اختيار القاضي في تعليقه إن خرج قبل البول فعليه الغسل ، لأنه بقية مني دافق بلذة ، وإن خرج بعد البول فلا ، لأن الظاهر أنه غير الأول ، وقد تخلف عنه شرطه وهو الدفق واللذة ، وهي اختيار القاضي في التعليق ، ( وعنه رابعة ) : عكس الثالثة ، حكاها القاضي في المجرد : إن خرج قبل البول لم يجب الغسل ، لأنه بقية الأول ، وقد اغتسل له ، وإن خرج بعده وجب ، لأنه مني جديد ، ومنها خرج أبو البركات الوجوب فيما إذا خرج المني لغير شهوة .
أما إن انتقل ولم يغتسل له ثم خرج بعد فإنه يغتسل بلا نزاع نعلمه .
ومقتضى كلام الخرقي أيضاً أن الغسل لا يجب بمجرد الاحتلام وهو المذهب بلا ريب ، وقد حكاه ابن المنذر وغيره إجماعاً ، وأغرب ابن أبي موسى في حكايته رواية بالوجوب ، فعلى المذهب إن خرج بعد شهوة اغتسل له ، وإلا فروايتا الانتقال ، قاله ابن حمدان والمنصوص عن أحمد الوجوب ، وهو أظهر لئلا يلزم انتقال مني وخروجه من غير اغتسال ، ثم ينبغي أن يقول بروايات الانتقال .
ومقتضى كلام الخرقي أيضاً أنه إذا وجد المني في النوم ، ولم يذكر احتلاماً ، أن عليه الغسل ، وهو كذلك .
175 لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : سئل رسول الله عن الرجل يجد البلل ، ولا يذكر احتلاماً ؟ قال ( يغتسل ) : وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ، ولا يجد البلل ؟ قال : ( لا غسل عليه ) فقالت أم سلمة : يا رسول الله فالمرأة ترى ذلك أعليها غسل ؟ قال : ( نعم ، إنما النساء شقائق الرجال ) رواه أبو داود والترمذي ، أما إن وجد بللًا ، وشك هل هو مني أم لا ؟ فإن وجد سبب المني وهو الاحتلام أنيط لحكم عليه وعمل به ، وإن وجد سبب المذي وهو الملاعبة ونحوها ، أو كانت به أبردة تعلق الحكم بذلك ، وعمل عليه وإن لم يوجد واحد منهما فهل يحكم بأنه مني وهو المشهور وبه قطع بعضهم ، لظاهر حديث عائشة ، ولانتفاء سبب صالح لغيره ، أو للمذي لأن الأصل عدم وجوب الغسل ، وإلى هذا ميل أبي محمد ؟ فيه روايتان ، فعلى الأول : يتوضأ مرتباً متوالياً ، ويغسل يديه وثوبه احتياطاً ، وعلى الثاني : يستحب [ الغسل احتياطاً ] .
وقد شمل كلام الخرقي إذا جعل الألف واللام للجنس إذا وطيء دون الفرج ، فدب منيه فدخل فرج المرأة ثم خرج ، أو وطيء في الفرج ، ثم خرج منيه من فرجها بعد غسلها ، أو خرج ما استدخلته [ من مني ] بقطنة ، ولم يخرج منيها ، وهو وجيه في
____________________
(1/72)
الكل ، والمنصوص المقطوع به عدم الغسل على المرأة والحال هذه ، ولا نزاع فيما نعلمه أن الغسل لا يجب بخروج المني من غير مخرجه ، وإن وجد شرطه .
( تنبيه ) : قد تقدم بيان الخذف والفضخ ، ( وتربت يداك ) أي افتقرت ، في الصحاح : ترب الشيء . بالكسر إذا أصاب التراب ، ومنه ترب الرجل . إذا افتقر ، كأنه لصق بالتراب ، وأترب ، إذا استغنى ، كأنه صار ماله من الكثرة بقدر التراب ، وتأول مالك ، وعيسى بن دينار رضي الله عنهما الحديث على الاستغناء والمقام يأباه .
وقال الأصمعي : معناه الحظ على تعلم مثل هذا ، كما يقال : أنج ثكلتك أمك . وذهب أبو عبيد والمحققون إلى أن هذا اللفظ وشبهه يجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء ، فينظر في القول وقائله ، فإن كان ولياً فهو الولاء وإن خشن ، وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن ، ولقد أحسن بعضهم في قوله : قد يوحش اللفظ وكله ود ، ويكره الشيء وما من فعله بد ، هذه العرب تقول : لا أبا لك للشيء إذا أهم ، وقاتلك الله . لا يريدون به الذم ، وويل أمه . للأمر إذا تم .
176 ثم على تقدير كونه أراد بذلك أصله من الدعاء عليها فهو لها قربة ورحمة ، كما جاء في الحديث .
( والمني ) مشدد ، وفعله رباعي على الأشهر ، وبهما جاء القرآن ، قال سبحانه : [ ي ] { من منّي تمنى } ) وقال : 9 ( { أفرأيتم ما تمنون } ) وحكي فيه التخفيف على وزن العمي ، وفعله ( منى ) بالتخفيف ، ( ومنّى ) بالتشديد ، وسمى بذلك لأنه يمنى أي يصب ( والمذي ) مخفف بمعجمة ، على الأفصح فيهما ، وحكي فيه التشديد والإهمال ، ومن يحذف لامه كيد ، وقالوا في فعله : مذي وأمذى ومذى . بالتشديد ، ( وشقائق ) . جمع شقيقة ، تأنيث : شقيق ، وهو المثل والنظير ، كأنه اشتق هو ونظيره من شيء واحد ، فهذا شق وهذا شق ، ومنه قيل للأخ شقيق ، والله أعلم .
قال : والتقاء الختانين .
ش : الختانان واحدهما ختان ، والختان في الأصل قطع جلدة حشفة الذكر ، وفي المرأة : قطع بعض جلدة عالية مشرفة على محل الإيلاج ، ثم عبّر بذلك عن موضع الختن ، والتقاؤهما تقابلهما وتحاذيهما ، ولما كان الموجب هو التقاء الختانين لا المس ، وكان ذلك لا ينفك عن تغييب الحشفة أو قدرها ، جعل ذلك هو الضابط ، فقال الفقهاء ، تغييب الحشفة .
177 إذا عرف هذا فالأصل في وجوب الغسل بذلك في الجملة ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ، ثمّ جهدها وفي لفظ ثمّ اجتهد فقد وجب الغسل ) متفق عليه .
____________________
(1/73)
وفي لفظ لأحمد ومسلم : ( وإن لم ينزل ) .
178 وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار ، فقال الأنصاريون : لا يجب الغسل إلا من الدافق ، أو من الماء . وقال المهاجرون : بل إذا خالط فقد وجب الغسل . قال : فقلت أنا أشفيكم . فقمت فاستأذنت على عائشة فأذنت لي ، فقلت لها : إني أريد أن أسألك عن شيء ، وأنا أستحييك . فقالت : لا تستحي أن تسألني عن ما كنت سائلًا عنه أمك . فإنما أنا أمك . قلت : فما يوجب الغسل ؟ قالت : على الخبير سقطت ، قال رسول الله : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ، ومس الختان الختان ، فقد وجب الغسل ) رواه أحمد ومسلم .
179 وعن رافع بن خديج قال : ناداني النبي وأنا على بطن امرأتي ، فقمت ولم أنزل ، فاغتسلت وخرجت ، فأخبرته فقال : ( لا عليك ، الماء من الماء ) قال رافع : ثم أمرنا رسول الله بالغسل ، رواه أحمد ، وبهذا يعلم نسخ ما تقدم من قوله : ( إنما الماء من الماء ) ونحوه ، وقد صرح بذلك رافع بن خديج [ كما تقدم ] .
180 وكذلك سهل بن سعد فقال : حدثني أبي أن الفتيا التي كانوا يفتون : ( إن الماء من الماء ) رخصة رخصها رسول الله في بدء الإسلام ، ثم أمر بالاغتسال بعد ذلك ، رواه أبو داود ، وفي لفظ : ثم أمرنا . وصرح بذلك جماعة من العلماء ، ويعلم وهم من ظن أنها تخصيص عموم مفهوم ( إنما الماء من الماء ) حذاراً من النسخ ، إذ ذاك إنما يتمشى له قبل العمل ، أما بعد العمل فيتعين النسخ ، ورد قول من قال : إنه من باب تعليق الحكم على المظنة ، بعد تعليقه على الجملة لخفائها ، إذ لا ريب أن الإنزال ليس بخاف .
181 ثم في سنن أبي داود من حديث أُبي أن رسول الله جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب ، ثم أمرنا بالغسل ، ونهى عن ذلك . فذكر أن السبب قلة الثياب .
182 وابن عباس رضي الله عنهما يؤول : ( إنما الماء من الماء ) على الحلم في المنام ، من غير رؤية ماء ، لكن عامة الصحابة على خلاف ذلك .
إذا تقرر هذا فاعلم أنا قد أنطنا الحكم بتغييب الحشفة في الفرج أو قدرها ، ولا بد من كونهما أصليين ، فلو أولج الخنثى المشكل حشفته ، ولم ينزل في فرج أصلي ، أو أولج غير الخنثى ذكره في قبل الخنثى ، فلا غسل على واحد منهما ، لاحتمال كون
____________________
(1/74)
الحشفة أو القبل خلقة زائدة .
ثم بعد ذلك هو شامل لكل واطىء وموطوأة ، ولو مع إكراه ونوم ، أو كانت المرأة ميتة ، نص عليه ، أو كانا غير بالغين ، نص عليه أيضاً ، واستدل على أنه لا يشترط البلوغ باغتسال عائشة .
183 وفي مسلم عنها أن رجلًا سأل رسول الله عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل وعائشة جالسة فقال رسول الله : ( إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل ) وعن القاضي منع الوجوب مع الصغر ، نظراً إلى عدم تكليف الصغير ، وكأن الخلاف لفظي ، إذ مراد القاضي والله أعلم بعدم الوجوب انتفاء تحتم الغسل على الصغير ، وإلزامه بذلك ، ومراد أحمد والله أعلم بالوجوب اشتراطه للصلاة ونحوها ، لا التأثيم بالتأخير ، وهذا متعين ، إذ التكاليف الخطابية لا تتعلق بغير بالغ ، والصلاة ونحوها لا تصح بلا طهارة ، وقد أشار القاضي إلى ذلك في تعليقه فقال : إن الصبي والمجنون إذا أولجا في الفرج وجب الغسل عليهما بعد البلوغ والإفاقة ، إذا أراد الصلاة ، فإن ماتا قبل وجوب الصلاة عليهما وجب غسلهما ، وكان عن الجنابة والموت .
إذا عرف هذا فشرط تعلق الغسل بغير البالغ أن تكون ممن يوطأ مثلها على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن إبراهيم ، قال وقد سئل عن الجارية متى يجب عليها الغسل ؟ . قال : إذا كان مثلها يوطأ . وأصرح منه ما حكي عنه أنه قال : إذا وطئ جارية لا يوطأ مثلها فلا غسل عليه ، حذاراً من أن تكون جنابة ، وصرح بذلك ابن عقيل ، وصاحب التلخيص فيه ، وأبو البركات في الشرح ، والسامري مقيداً الجارية ببنت تسع سنين ، والغلام بابن عشر ، وظاهر إطلاق كثيرين عدم الاشتراط ، ومن ثم أورده ابن حمدان مذهباً .
وشامل أيضاً للوطء في كل فرج أصلي كما تقدم وإن كان دبراً ، أو لميتة ، وحيوان بهيم ، حتى السمكة ، ذكرها القاضي في التعليق .
( تنبيه ) : ( شعبها الأربع ) بين رجليها وشفريها ، الخطابي : أسكتيها وفخذيها . عياض : نواحي الفرج . وقيل : رجليها ويديها . ( وجهدها ) قيل : أتعبها . وقيل : بلغ جهده منها . وهو يوافق رواية : ( ثم اجتهد ) والجهد الطاقة والإشارة بذلك والله أعلم إلى الحركة ، ويمكن صورة العمل ، وهو قريب من قول الخطابي : حفرها . قال : والجهد اسم من أسماء النكاح ، وعلى هذا معناه : ثمّ نكحها . و ( على الخبير سقطت ) . أي صادفت مخبراً يخبرك بحقيقة ما سألت عنه ، حاذقاً فيه و ( يكسل ) مضارع أكسل . إذا جامع ولم ينزل . والله أعلم .
____________________
(1/75)
قال : وإذا أسلم الكافر .
ش : هذا هو المنصوص المختار لعامة الأصحاب .
184 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال أسلم فقال النبي : ( اذهبوا به إلى حائط بني فلان ، فمروه أن يغتسل ) رواه أحمد .
185 وفي الصحيحين أنه اغتسل ، وليس فيه أمر النبي بذلك ، وفي البخاري أنه اغتسل قبل الإسلام ، وإذاً الحديثان لم يتواردا على محل واحد ، فاغتساله كان قبل إسلامه ، وأمر النبي بذلك كان بعد الإسلام .
186 وعن قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي أن يغتسل بماء وسدر . رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وحسنه الترمذي ولأنه لا يسلم غالباً من جنابة ، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة كالنوم ، وتردد أبو بكر فوافق الأصحاب في التنبيه ، وخالفهم في غيره فقال : يستحب ، ولا يجب ، وأغرب أبو محمد في الكافي ، فحكى ذلك رواية .
187 لأن النبي لم يأمر به في حديث معاذ ، ولو وجب لأمر به ، إذ هو أول الواجبات بعد الإسلام ، ولأن ذلك يقع كثيراً ، وتتوفر الدواعي على نقله ، فلو وقع لاستفاض ، وحديث أبي هريرة في إسناده مقال [ ما ] ، على أنه قد يحمل على الاستحباب ، وكذلك حديث قيس ، وقرينته ذكر السدر فيه ، جمعاً بين الأدلة ( ويجاب ) بأنه إنما ذكر في حديث معاذ أصول العبادات لا شرائطها ، ولا نسلم عدم استفاضة ذلك ، بل قضية ثمامة تقتضي استفاضته ، وظاهر الأمر الوجوب ( فعلى الأول ) إذا أجنب في حال كفره ثم أسلم تداخلًا ، وأنيط الحكم بغسل الإسلام ، وعلى قول أبي بكر : يجب عليه الغسل للجنابة وإن اغتسل في كفره ، لعدم صحة نيته .
وقد شمل كلام الخرقي المرتد ، ومن لم يوجد منه جنابة ، وهو الأعرف فيهما ، ومن اغتسل في حال كفره ، وهو كذلك ، وقد قيد ابن حمدان المسألة بالبالغ ، والأكثرون أطلقوا ، لكن قد يؤخذ من تعليلهم ما قاله ، وقد يوجه الإطلاق بأن المذهب صحة إسلام من لم يبلغ ، ومقتضى كلامهم أن الغسل والحال هذه شرط لصحة الصلاة ، كما صرح به أبو بكر في التنبيه ، وإذاً يصير بمنزلة وطء الصبي ، والتحقيق تعلق الغسل به كما تقدم ، والله أعلم .
قال : والطهر من الحيض والنفاس .
ش : لا خلاف في وجوب الاغتسال بذلك في الجملة ، لإشارة النص وهو قوله سبحانه وتعالى : { ويسألونك عن المحيض ، قل هو أذى ، فاعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن } أي اغتسلن ، أوقف سبحانه حق الزوج من
____________________
(1/76)
الوطء على الاغتسال ، فدل على وجوبه .
188 وقد صرح بذلك المبين لكتاب ربه فقال لفاطمة بنت أبي حبيش وقد سألته عن استحاضتها ، فقال : ( ذلك عرق وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا ذهبت فاغتسلي وصلي ) رواه البخاري .
189 وقال لأم حبيبة وسألته أيضاً عن ذلك ، فقال لها : ( هذا عرق ، فاغتسلي وصلي ) رواه مسلم ، والبخاري ولفظه : ( ثم اغتسلي وصلي ) ودم النفاس هو دم حيض يجتمع ثمّ يخرج .
وظاهر كلام الخرقي أن الغسل إنما يجب بالانقطاع ، وهو أحد الوجهين وظاهر الأحاديث ، ( والثاني ) وصححه أبو البركات وغيره يجب بالخروج ، إناطة للحكم بسببه ، لكن الانقطاع شرط لصحته اتفاقاً ، وفائدة الوجهين إذا استشهدت الحائض ، فعلى قول الخرقي لا تغسل ، إذ الانقطاع الشرعي الموجب للغسل لم يوجد ، وعلى قول غيره تغسل للوجوب بالخروج ، وقد حصل الانقطاع حساً ، فأشبه ما لو طهرت في أثناء عادتها ، وقال أبو محمد : لا يجب على الوجهين ، لأن الطهر شرط في صحة الغسل ، أو في السبب الموجب له .
وقد ينبني أيضاً على قول الخرقي [ أنه لا يجب ] ، بل ولا يصح غسل ميتة مع قيام حيض ونفاس ، وإن لم تكن شهيدة ، وهو قويل في المذهب ، لكن لا بد أن يلحظ فيه أن غسلها للجنابة قبل انقطاع دمها لا يصح ، لقيام الحدث ، كما هو رأي ابن عقيل في التذكرة ، وإذاً لا يصح غسل الموت لقيام الحدث كالجنابة ، وإذا لم يصح لم يجب ، حذاراً من تكليف ما لا يطاق ، والمذهب صحة غسلها لها قبل ذلك ، فينتفي هذا البناء .
واعلم أن ظاهر ترجمة الخرقي أو لا يقتضي أنه لا يجب الغسل بغير تلك الخمسة المذكورة ، لأنه قال : والموجب للغسل خروج المني . إلى آخره ، وظاهره حصر الوجوب في هذه الخمسة دون غيرها .
فلا يجب بولادة عرية عن دم ، وهو أحد الوجهين أو الروايتين ، على ما في الكافي ، واختيار الشيخين ، لعدم المقتضي لذلك ، وهو النفاس أو المني ، ( والثاني ) واختاره ابن أبي موسى ، وابن عقيل في التذكرة ، وابن البنا ، وغيرهم ، يجب قياماً للمظنة مقام الحقيقة ، ولأنه مني منعقد ، ورد بخروج العلقة ، فإنها لا توجب الغسل بلا نزاع ، وينبني على التعليلين الفطر بذلك ، وتحريم الوطء قبل الاغتسال ، فمن علل بالأول يلزمه ذلك ، لا من علل بالثاني اه .
____________________
(1/77)
ولا يجب أيضاً بغسل ميت ، بل يستحب ، ( وعنه ) : يجب من تغسيل الكافر .
190 لما روي عن علي رضي الله عنه : أنه لما مات أبو طالب أتيت رسول الله فقلت : إن عمك الشيخ الضال قد مات . قال : ( اذهب فوار أباك ، ثمّ لا تحدثن شيئاً حتى تأتيني ) فواريته فجئته فأمرني فاغتسلت فدعا لي . رواه أبو داود والنسائي ، وقد يجب مطلقاً .
191 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من غسل ميتاً فليغتسل ) رواه أبو داود ، والمذهب الأول بلا ريب ، نظراً للأصل ، وحملًا لما تقدم على الاستحباب ، لعموم حديث صفوان : أمرنا رسول الله أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة .
192 وفي مالك في الموطأ أن أسماء غسلت أبا بكر رضي الله عنه حين توفي ، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين ، فقالت : إني صائمة ، وإن هذا يوم شديد البرد ، فهل عليّ من غسل ؟ فقالوا : لا . على أنه ليس في حديث علي أنه غسله ، مع أن الأحاديث لم تثبت ، قاله أحمد وغيره ، ومن ثم قال ابن عقيل : ظاهر كلام أحمد عدم الاستحباب رأساً . اه .
ولا يجب أيضاً على من أفاق من إغماء أو جنون لم يتيقن معه حلم ، وإن وجد بلة على المعروف من الروايتين ، لأنه معنى يزيل العقل فلا يوجب الغسل كالنوم ، ولأنه مع عدم البلة يبعد احتمال الجنابة ، ومع وجودها يحتمل أن ذلك لغير شهوة ، ويحتمل أنه [ حصل ] عن المرض المزيل للعقل ، فلا يجب الغسل مع الشك ، ( والثانية ) : يجب وإن لم يجد بلة .
193 لأن النبي اغتسل من الإغماء ، وفعله على وجه القربة دليل على الوجوب ، وتوسط أبو الخطاب فأوجبه مع البلة كالنائم .
ولا يجب أيضاً على من أراد الجمعة وسيأتي إن شاء الله تعالى .
ويرد على حصر الخرقي [ الموت ] فإنه موجب في الجملة بلا نزاع . والله أعلم .
قال : والحائض ، والجنب ، والمشرك إذا غمسوا أيديهم في الماء فهو طاهر .
ش : لا إشكال أن مجرد غمس الحائض أو الجنب يده أو غيرها من أعضائه في الماء لا يزيل طهارته ، لطهارة بدنيهما .
____________________
(1/78)
194 لما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب ، قال : فانخنست منه . الحديث إلى قوله : ( سبحان الله إن المؤمن لا ينجس ) .
195 ولمسلم من حديث حذيفة نحوه .
196 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أشرب وأنا حائض ، فأناوله النبي ، فيضع فاه على موضع فيها . رواه مسلم وغيره ، أما لو غمس الجنب أو الحائض الذي انقطع حيضها يده في الإناء قاصداً رفع الحدث عنها والماء قليل ، فإن طهوريته تزول على المذهب المنصوص ، ولم يرتفع حدثه على المعروف ، وهل زوالها بأول جزء لاقاه ، أو بأول جزء انفصل عنه ؟ فيه وجهان ، أشهرهما الثاني ، وإن نويا الاغتراف فهو باق على طهوريته ، وإن غمسا بعد نية الاغتسال ذاهلين عن نية الاغتراف ، وعن رفع الحدث عن اليد بالوضع فروايتان . أنصهما عن الإمام ، وأصحهما عند عامة الأصحاب : زوال طهوريته ، لحصول الغمس بعد نية رفع الحدث .
197 وفي سنن سعيد عن ابن عمر : من اغترف من ماء وهو حنب فما بقي فهو نجس . ( والثانية ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي البركات بقاء طهوريته .
198 لأن أبا هريرة رضي الله عنه قال : إنه يتناوله تناولًا ولأنه لما قصد بأخذه استعماله خارج الإِناء فقد صرف عنه النية ، هذا هو التحقيق في التقسيم ، وظاهر ما في المغني عن بعض الأصحاب أنه قال بالمنع أيضاً فيما إذا نويا الإِغتراف ، وفيه نظر ، ولو وضع الجنب رجله بعد نية الغسل أثر على الأصح ، قاله ابن تميم ، وعاكسه ابن حمدان فقال : إنه ظاهر في الأصح ، ولأبي محمد في المغني في إلحاق الرجل باليد منعاً وتسليماً .
وقد دخل في كلام الخرقي بطريق التنبيه المحدث إذا غمس يده في الإِناء أنه لا يؤثر ، وهو كذلك ، [ إلا إذا اغترف بعد نية الطهارة ، وبعد غسل وجهه ، قاصداً لرفع الحدث عنها بالغمس ، فإن طهوريته تزول ، كما في الجنب ، وكذا إن ] ذهل عن رفع الحدث عنها والحال ما تقدم ، على قويل ، والمذهب عدم تأثير ذلك ، بخلاف الجنب على الأشهر كما تقدم ، نظراً إلى أن الوضوء يتكرر ، فلو أثر لشق ، بخلاف الجنب .
199 ثم إن النبي اغترف في الوضوء بعد غسل وجهه ، كما ثبت في الصحيح ، ولم يثبت أنه في الجنابة اغترف إلا بعد غسل يديه ، إذا عرف حكم الحائض
____________________
(1/79)
والجنب ، فحكم المشرك أنه إن كان ممن تحل ذبيحته ، ولم يتظاهر بشرب الخمر ، وأكل الخنزير ، ونحو ذلك ، فإن غمسه لا يؤثر شيئاً .
200 لأن النبي توضأ من مزادة مشركة ، وأضافه يهودي بخبز شعير ، وإهالة سنخة ، ولأن الكفر في قلبه لا يؤثر في بدنه ، وقوله سبحانه : 19 ( { إنما المشركون نجس } ) ليس المراد به والله أعلم النجاسة الحقيقية على الأشهر الأعرف ، بل الاستقذار ، وفاقاً لأبي عبيدة والزجاج .
201 وعن قتادة : قيل لهم ذلكلأنم يجنبون ولا يغتسلون ، ويحدثون ولا يتوضؤن . ومن هذه حاله جدير بأن يوصف بالتنجيس ، ويمنع من قربان مسجد له على غيره شرف وتعظيم .
وإن كان ممن لا تحل ذبيحته ، أو ممن يتظاهر بأكل الخنزير ، ونحو ذلك فيخرج في نجاسة الماء بغمسه روايتان ، بناء على الروايتين فيما استعملوه هؤلاء من آنيتهم ، هل تباح مطلقاً ، أو لا تباح إلا بعد غسل ، وأصلهما يعارض الأصل والغالب .
( تنبيهات ) : [ أحدهما ] مراد الخرقي بالطاهر الطاهر غير المقيد ، المذكور في صدر كتاب الطهارة . ( الثاني ) : ( انخنست ) [ من ] . انفعلت ، مطاوع خنس ، من ( الخنوس ) وهو التأخر والاختفاء ، ومنه سميت الكواكب الخمسة زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطار الخنس . وفي قوله سبحانه : 19 ( { فلا أقسم بالخنس } ) على قول بعضهم ، لأنها تتأخر في رجوعها ، بينا تراها في مكان من السماء ، حتى تراها راجعة إلى وراء جهتها التي كانت تسير إليها ، وقيل : الخنس النجوم كلها ، لاختفائها نهاراً .
( لثالث ) : المزادة بفتح الميم ، التي يسميها الناس الرواية ، والسطيحة أصغر منها ، ( وإهالة سنخة ) شحم متغير . والله أعلم .
قال : ولا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت بالماء .
ش : معنى الخلوة أن لا يستعمل الرجل الماء معها ، في إحدى الروايتين ، لعموم حديث الحكم الآتي ، خرج منه حالة الاستعمال .
202 لحديث عائشة رضي الله عنها : كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد ، تختلف أيدينا فيه من الجنابة . فما عداه على المنع . ( والثانية ) : وهي المختارة أ لا يشاهدها حال طهارتها رجل مسلم .
203 لأن في الصحيح أن النبي توضأ بفضل وضوء ميمونة بعد فراغها ،
____________________
(1/80)
فيحمل على أنه كان شاهدها وقضية النهي على عدمها ، جمعا بين الدليلين ، وعلى هذه إن شاهده صبي مميز ، أو امرأة ، أو كافر فهل يخرج عن أن تكون خالية به ، كما في خلوة النكاح ؟ وهو اختيار الشريف ، والشيرازي ، أو لا يخرج إلا بالرجل المسلم ، لأن الحكم يختص به ؟ وهو اختيار القاضي في المجرد ، فيه وجهان ، وألحق السامري المجنون بالصبي ونحوه .
إذا عرف [ هذا ] فحيث حكم بخلوتها بالماء باق على طهوريته ، يجوز لها الطهارة به ، على المعروف المشهور ، حتى قال أبو البركات [ إنه ] لا خلاف في ذلك ، وفي خصال ابن البنا ، والمذهب لابن عبدوس : أنه طاهر غير مطهر . وحكى صاحب التلخيص ، وابن حمدان المسألة على روايتين ، ولقد أبعد السامري حيث اقتضى كلام الجزم بطهارته ، مع حكايته الخلاف في طهارة الرجل به : والعمل على القول بطهوريته ، وإذاً يجوز لها بلا ريب الطهارة به ، وكذلك لامرأة أخرى على الأعرف .
وهل يجوز للرجل الوضوء به ؟ فيه روايتان ( أشهرهما ) وهي اختيار الخرقي ، وجمهور الأصحاب : لا يجوز نص عليه .
204 لما روى الحكم بن عمرو الغفاري رضي الله عنه ، أن رسول الله نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة . وفي رواية : وضوء المرأة . رواه الخمسة ، وحسنه الترمذي .
205 وعند عبد الله بن سرجس ، عن النبي نحوه ، رواه البيهقي في السنن .
206 وقال أحمد : أكثر أصحاب رسول الله يقولون : إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه . وهو أمر لا يقتضيه القياس ، فالظاهر أنهم قالوه عن توقيف ، ( والثانية ) واختارها أبو الخطاب ، وابن عقيل وإليها ميل المجد في المنتقى : يجوز مع الكراهة .
207 لما روى عمرو بن دينار قال : والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني ، أن ابن عباس أخبره أن رسول الله كان يغتسل بفضل ميمونة . رواه مسلم .
208 وعن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : اغتسل بعض أزواج النبي في جفنة ، فجاء النبي ليتوضأ منها أو يغتسل ، فقالت : يا رسول الله إني كنت جنباً . فقال رسول الله : ( إن الماء لا يجنب ) رواه أحمد وأبو داود ، والنسائي ،
____________________
(1/81)
والترمذي وصححه هو وابن خزيمة ، والحاكم ، وابن حبان ، لكن أحمد قال : أتقيه لحال سماك ، ليس أحد يرويه غيره ، وحديث الحكم قيل : عن البخاري أنه قال : ليس بصحيح . وعنه في حديث ابن سرجس أنه قال : قد أخطأ من رفعه .
ولمن نصر الأول أن يقول : حديث ابن عباس الأول لم يجزم عنه أبو الشعثاء ، والثاني وهو حديث سماك قد تقدمت الإِشارة من أحمد على تضعيفه ، ويؤيد ذلك اختلاف ألفاظه ، فرواه الثوري وقال فيه : ( إن الماء لا ينجس ) ثم لو صحا حملا على عدم الخلوة ، جمعاً بين الدليلين ، ثم على تقدير التعارض يرجح الأول بأنه حاظر ، ثمّ ناقل عن الأصل ، إذ الأصل الحل اه .
والخرقي رحمه الله خص المنع بالوضوء تبعاً للحديث ، وغيره ممن علمت من الأصحاب يسوي بين الحدثين بمعنى أن لا فارق ، فهو في معنى المنصوص ، ولهم في إلحاق طهارة الخبث بذلك وجهان ، ( الإلحاق ) اختيار القاضي ، وأبي البركات ، وحكاه الشيرازي عن الأصحاب ما عدا ابن أبي موسى ، إذ كل مائع لا يزيل الحدث لا يزيل النجاسة . ( وعدمه ) اختيار ابن أبي موسى ، وأبي محمد ، وأبي البركات في المحرر ، اقتصاراً على مورد النص ، وقوله : لا يتوضأ الرجل . يخرجها وامرأة سواها وقد تقدم . وكذا الخنثى لعدم تحقق ذكوريته ، وقد يخرج الصبي وهو مقتضى تعليل أبي البركات .
وقوله : بفضل . ربما أشعر بقلة الباقي ، فلو كان ما خلت به كثيراً لم تؤثر خلوتها ، وهذا هو المذهب ، إذ النجاسة لا تؤثر في الكثير ، فهذا أولى وأحرى . وطرد ابن عقيل الحكم في اليسير والكثير ، نظراً للتعبد به .
وقوله : ( بفضل ) وهو يشمل المستحب ، وهو أحد الوجهين ، ( ويخرج ) منه ما خلت به لإِزالة النجاسة ، وهو أحد الوجهين أيضاً ، وبه قطع ابن عبدوس ، إذ الطهارة تنصرف إلى طهارة الحدث ، ( والثاني ) وصححه أبو البركات : حكمه حكم ما خلت به لطهارة حدث ، نظراً لعموم : نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة . ( ويخرج ) منه أيضاً ما خلت به لرفع طهارة كبرى ، والأصحاب على التسوية بينهما كما تقدم ، ولفظ الحديث يشهد لذلك أيضاً ، ( ويخرج ) منه أيضاً ما خلت به للتبريد والتنظيف ، وهو واضح لأن ذلك ليس بطهارة ، وكذلك ما خلت به للشرب ، نعم هل يكره ؟ .
209 لأن في بعض ألفاظ الحكم بن عمرو : أن رسول الله نهى عن سؤر المرأة ، أو لا يكره ، وهو اختيار أبي البركات ، لأن اللفظ المشتهر ( وضوء المرأة ، أو طهور المرأة ) ؟ على روايتين ، وظاهر كلام ابن تميم حكايتهما في الجواز وعدمه .
وقول الخرقي : المرأة . يشمل الكافرة ، وهو أحد الوجهين ، ويخرج الرجل وهو واضح ، وكذلك الخنثى ، إذ المانع الأنثوية [ ولم تتحقق ] ، وقد يخرج الصغيرة ،
____________________
(1/82)
ويحتمل : إن صحت طهارتها وجهان ، ( التأثير ) لأنها من أهل الطهارة ، والحديث خرج على الغالب ( وعدمه ) اعتماداً على الحديث .
( تنبيه ) : لم يتعرض الخرقي رحمه الله لعكس هذه المسألة ، وهو فضل ما خلى به الرجل للنساء ، وقوة كلامه يعذي أن ذلك لا يؤثر منعاً ، ونص أحمد على ذلك في رواية الجماعة ، لمفهوم حديث الحكم ، وعن بعض الأصحاب أنه منعهن من ذلك .
21 لما روى حميد الحميري قال : لقيت رجلًا صحب النبي أربع سنين ، كما صحبه أبو هريرة ، قال : نهى رسول الله أن تغتسل المرأة بفضل الرجل ، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة ، وليغترفا جميعاً . رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وصححه الحميدي ، وقال البيقهي : رجاله كلهم ثقات . والرجل المبهم قيل : إنه الحكم ، وقيل : إنه عبد الله بن سرجس ، وقيل : ابن مغفل . والله أعلم .
قال :
( باب الغسل من الجنابة )
ش : الجنابة معروفة وقد تقدم أن أصلها البعد ، ويقال : أجنب الرجل كما قال الخرقي [ يجنب ] ، فهو جنب ، وجنب يجنب ، فهو مجنب ، ويقال للواحد والإثنين ، والجمع ، والمذكر ، والمؤنث ، بلفظ واحد ، [ والله أعلم ] .
قال : وإذا أجنب [ الرجل ] غسل ما به من أذى ، وتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم أفرغ [ الماء ] على رأسه ثلاثاً ، يروي بهن أصول الشعر ، ثم يفيض الماء على سائر جسده [ ثلاثاً ] .
ش : هذا على نحو ما في الصحيحين وغيرهما .
211 فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كا إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ، ثم يدخل أصابعه في الماء ، فيخلل بها أصول شعره ، ثم يصب الماء على رأسه بثلاث غرف ، ثمّ يفيض الماء على جلده كله . وفي رواية : قالت : كان رسول الله إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ، ثم يفرغ بيمينه على شماله ، فيغسل فرجه ، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر ، حتى إذا رأى أن قد استبرأ ، حفن على رأسه ثلاث حفنات ، ثم أفاض [ الماء ] على سائر جسده ، ثم غسل رجليه . وفي رواية للنسائي ، بعد غسل الفرج : ثم يمضمض ويستنشق .
____________________
(1/83)
212 وعن ميمونة رضي الله عنها قالت : وضع للنبي ماء يغتسل به ، فأفرغ على يديه ، فغسلهما مرتين أو ثلاثاً ، ثم أفرغ بيمينه على شماله ، فغسل مذاكيره ، ثم دلك يده بالأرض ، ثم تمضمض واستنشق ، ثم غسل وجهه ويديه ، ثم غسل رأسه ثلاثاً ، ثم أفرغ على جسده ، ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه ، فناولته خرقة فلم يردها ، وجعل ينفض الماء بيده .
واعلم أن مراد الخرقي بهذه الصفة صفة الكمال ، كما يدل عليه كلامه بعد ، وقد قال كثير من متأخري الأصحاب : إن الكمال بعشرة أشياء ، النية ، والتسمية ، وغسل يديه ثلاثاً ، وغسل ما به من أذى ، والوضوء ، ويحثي على رأسه ثلاث حثيات ، يروي بهن أصول الشعر ، ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثاً ، ويبدأ بشقه الأيمن ويدلك بدنه بيديه ، وينتقل من موضعه فيغسل قدميه .
والخرقي رحمه الله نص من ذلك على أربعة ، وتقدم له غسل يديه إذا قام من نوم الليل ، إدخالهما الإِناء ثلاثاً ، وتقدم التنبيه على أنه لا فرق في أصل المسنونية بين نوم الليل ونوم النهار ، وغير ذلك ، وهذه الخمسة هي التي في الحديثين ، ويأتي له النية والكلام عليها ، وإنما لم تذكر في الحديثين لأن متعلقها القصد ، وعائشة وميمونة رضي الله عنهما إنما حكيا ما شاهداه من أفعاله .
وقد يؤخذ من كلام الخرقي البداءة بشقه الأيمن قبل الأيسر من قوله ثم : وغسل الميامين قبل المياسر ، وفي بعض روايات حديث عائشة المتقدم أنه بدأ بشق رأسه الأيمن ، ثم الأيسر ، ثم أخذ بكفيه ، فقال بهما على رأسه ، وأما التسمية ، والدلك فلم يتعرض الخرقي لهما نظراً للحديثين ، وكذلك غسل قدميه أخيراً اعتماداً على حديث عائشة ، وإنما استحب الأصحاب التسمية .
213 لعموم ( كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أجزم ) الحديث ، وقياساً لإِحدى الطهارتين على الأخرى ، أو نقول : الكبرى صغرى وزيادة . اه .
والدلك لأنه أحوط ، وأعون على إيصال الماء إلى جميع البشرة ، وخروجاً من الخلال ، إذ [ قد ] أوجبه بعض العلماء ، مع أن كلام أحمد قد يحتمله ، قال أبو داود : سأل رجل أحمد رحمه الله عن إمرار اليد ، فقال : إذا اغتسل بماء بارد في الشناء أمر يده ، لأن الماء ينزلق عن البدن في الشتاء ، لكن تعليله يقتضي المسنونية .
214 ويدل على المسنونية المبالغة في إيصلل الماء إلى جميع البشرة في الجملة ما روي عن علي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( من ترك موضع [ شعرة ] من جنابة لم يصبها الماء فعل الله بذه كذا وكذا من النار ) قال علي : فمن
____________________
(1/84)
ثمّ عاديت شعري . وكان يجزه ، رواه أحمد ، وأبو داود ، ومن ثمّ قال الأصحاب : يتعاهد معاطف بدنه ، وسرته ، وتحت إبطه ونحو ذلك ، وما ينبو عنه الماء . اه .
والإِنتقال لغسل قدميه لحديث ميمونة ، وقد اختلف عن إمامنا في ذلك ، فقال في رواية : أحب إليّ أن يغسلهما بعد الوضوء ، لحديث ميمونة ، وفي أخرى قال : العمل على حديث عائشة . وفي ثالثة قال : يخيّر لورود الأمرين . وظاهر إحدى روايات حديث عائشة وقد تقدمت أنه جمع بينهما ، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب .
تنبيهات : ( أحدها ) مراد الخرقي هنا بالأذى والله أعلم . ما يستقذر وإن لم يكن نجساً ، كالمني ونحوه ، بخلاف مراد أبي محمد بالأذى في المجزئ كما سيأتي ، فإنه النجاسة . اه .
( الثاني ) : ينوي بالوضوء المتقدم رفع الحدث ، ذكره السامري ، وقول الخرقي وغيره : يروي بهن أصول الشعر . ظاهره : بالغرفات الثلاث ، وفي المستوعب : يروى بكل مرة . ثم ظاهر كلامه وكلام قليل من الأصحاب أن الإِفاضة على سائر الجسد لا تثليث فيها ، وهو ظاهر الأحاديث ، واختيار أبي العباس ، ولعل عامة الأصحاب استحبوا التثليث قياساً لإِحدى الطهارتين على الأخرى ، أو اطلاع على نص بذلك وقد استحب أبو محمد زيادة على ما تقدم ، وهو أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته قبل إفاضة الماء ، كما في حديث عائشة ، ولا ريب أنه أعون على إصابة الماء البشرة ، وقد تقدم أنه بدأ بشق رأسه الأيمن ثمّ الأيسر ، ثمّ جمع بينهما ، فينبغي أن يعتمد [ على ] ذلك .
( الثالث ) : قول عائشة رضي الله عنها : رأى أن قد استبرأ . أي : استقصى وخلص من عهدة الغسل ، وبرئئ منها كما يبرى من الدين وغيره ، و ( حفن ) أخذ وصب ، والحفنات جمع حفنة ، وهو ملء الكفين من طعام أو نحوه ، أصلها من الشيء اليابس كالدقيق ، والرمل ونحون ، ( وغرف ) جمع غرفة وهو ملء الكف ، وغرفة بالفتح أي مرة ، والله أعلم .
قال : وإن غسل مرة ، وعم بالماء رأسه وجسده ، ولم يتوضأ أجزأه ، بعد أن يتمضمض ويستنشق ، وينوي به الغسل والوضوء ، وكان تاركاً للاختيار .
ش : هذه صفة الغسل المجزيء ، والأصل فيها في الجملة قوله تعالى : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } وقوله : { ولا جنباً إلا عابري سبيل ، حتى تغتسلوا } ظاهه الاجتزاء بالتطهير ، وبالاغتسال من غير اشتراط وضوء ولا غيره .
215 وعن جابر رضي الله عنه ، أن ناساً قدموا على رسول الله فسألوه عن غسل الجنابة ، وقالوا : إنا بأرض باردة . فقال : ( إنما يكفي أحدكم أن يحفن على رأسه ثلاث حفنات ) وفي لفظ أنه قال : ( أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثاً ) رواهما
____________________
(1/85)
مسلم ، وظاهرهما الاجتزاء بذلك من غير وضوء . وإنما اشترطت النية المذكورة لعموم قوله : ( إنما الأعمال بالنيات ) ( لا عمل إلا بالنية ) .
واشترط الخرقي رحمه الله المضمضة والاستنشاق ، لما تقدم له من أن الفم والأنف من الوجه ، وقد تقدم بيان ذلك والخلاف فيه ، فلا حاجة إلى إعادته وهذا هو المذهب المعروف ، أعني الاجتزاء بالغسل عن الوضوء ، بالشرط المذكور ، لظاهر ما تقدم ، ( وعنه ) لا بد أن يأتي بالوضوء . قال أبو الخطاب في هدايته ، والسامري ، وصاحب التلخيص وغيرهم : وإن لم يوجد ما يقتضيه ، كما إذا أوجبنا الغسل بالانتقال ، وهو يلتفت لما تقدم في النواقض . تأسياً بفعله ويجاب بأنه فعل الكامل ، بدليل الإِتفاق على أنه لا يجب الوضوء قبل ، وتوسط أبو بكر ، والشيرازي فقالا : يتداخلان فيما يتفقان فيه ، ولا يسقط ما ينفرد به الوضوء عن الغسل من الترتيب والموالاة والمسح وإن لم يقل بإجزاء الغسل عن المسج كما لا يسقط ما ينفرد به الغسل من تعميم البدن ونحوه .
( تنبيه ) : في معنى نية الوضوء والغسل ، إذا نوى استباحة الصلاة ، أو أمراً لا يبحاح إلا بهما ، كلمس المصحف ، لا قراءة القرآن . اه .
وقد تضمن كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يشترط للغسل ( ترتيب ) ، وهو كذلك ، لظاهر ما تقدم ، ولقوله لأبي ذر ( إذا وجدت الماء فأمسه جلدك ) ولم يأمره بترتيب ، ولا موالاة ، وهو المعروف في المذهب ، لظاهر ما تقدم أيضاً .
216 وعن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن رجلًا سأل النبي عن الرجل يغتسل من الجنابة ، فيخطئ الماء بعض جسده ؟ فقال رسول الله : ( يغسل ذلك المكان ، ثم يصلي ) رواه البيهقي في سننه ، ( ولا ذلك ) ، وهو كذلك ، لظاهر ما تقدم أيضاً ، ( ولا تسمية ) ، وهو بناء على قاعدته من أن التسمية لا تجب في الوضوء ، أما إن قلنا : تجب ثمّ . وجبت هنا ، وجزم صاحب التلخيص ، والسامري وغيرهما بالوجوب هنا ، نظراً منهم إلى أن ذلك المذهب ثمّ .
ومقتضى كلام الخرقي أيضاً أن المجزىء لا يتوقف على إزالة ما به من أذى ، وإن كان نجاسة ، وهو ظاهر كلام طائفة من الأصحاب ، فعل هذا يرتفع الحدث مع بقاء النجاسة ، وصرح بذلك ابن عقيل ، ومنصوص أحمد رحمه الله أن الحدث لا يرتفع إلا مع آخر غسلة طهرت المحل ، وعلى هذا يتوقف صحة الغسل على الحكم يزوال النجاسة ، وهو ظاهر كلام أبي محمد في المنقنع ، فقال في المجزىء : يغسل ما
____________________
(1/86)
به من أذى . والله أعلم . أي من نجاسة وينوي ، لكنه يوهم زوال ما به من أذى أولًا ، وهذا الإِيهام ظاهر ما في المستوعب ، فإنه قال في المجزىء : يزيل ما به من أذى ، ثم ينوي . وتبعاً في ذلك والله أعلم أبا الخطاب في الهداية لكن لفظه في ذلك أبين من لفظيهما ، وأجرى على المذهب ، فإنه قال : يغسل فرجه ثم ينوي . وكذلك قال ابن عبدوس في المجزىء : ينوي بعد كمال الاستنجاء ، وزوال نجاسته إن كانت ثمّ ، وقد يحمل كلام أبي محمد والسامري على ما قاله أبو الخطاب ، ويكون المراد بذلك الاستنجاء بشرط تقدمه على الغسل ، كالمذهب في الوضوء ، لكن هذا [ قد ] يشكل على أبي محمد ، فإن مختاره ثمّ أنه لا يجب تقديم الاستنجاء ، وعلى الخرقي ، فإن مذهبه تقديم الاستنجاء ، فكان من حقه أن ينبه على ذلك .
ويتلخص لي أنه يشترط لصحة الغسل تقديم الاستنجاء على الغسل إن قلنا : يشترط تقديمه ثمّ . وإن لم نقل ذلك ، أو كانت [ النجاسة ] على غير السبيلين ، أو عليهما غير خارجة منهما ، لم يشترط التقديم ، ثم هل يرتفع الحدث مع بقاء النجاسة ، أو لا يرتفع إلا مع الحكم بزوال النجاسة ؟ فيه قولان ، ثم محل الخلاف إذا لم تكن النجاسة كثيفة ، تمنع وصول الماء ، أما إن منعته فلا إشكال في توقف صحة الغسل على زوالها ، وهذا واضح والله أعلم .
قال : ويتوضأ بالمد ، وهو رطل وثلث [ بالعراقي ] ، ويغتسل بالصاع ، وهو أربعة أمداد .
ش : لا نزاع فيما نعلمه في صحة الوضوء والغسل بذلك .
217 لما في مسلم وغيره عن سفينة رضي الله عنه قال : كان رسول الله يغتسل بالصاع ، ويتطهر بالمد .
218 وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : كان النبي يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ، ويتوضأ بالمد .
وقد تضمن كلام الخرقي رحمه الله أن المد ربع الصاع ، ولا نزاع في ذلك ، ويقتضي أن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي ، وهو المذهب المشهور ، كصاع الفطرة والزكاة ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى ( وعنه ) ما يدل واختاره القاضي ، وأبو البركات أن الصاع عنا ثمانية أرطال .
219 لما روى أنس رضي الله عنه قال : كان النبي يتوضأ بما يكون رطلين ويغتسل بالصاع . رواه أحمد وأبو داود .
____________________
(1/87)
220 وعن موسى الجهني قال : أتي مجاهد بقدح ، حزرته ثمانية أرطال ، فقال : حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان يغتسل بمثل هذا . رواه النسائي و ( كان ) في مثل هذا المقام تقتضي المداومة ، والله أعلم .
قال : وإن أسبغ بدونهما أجزأه .
ش : الإسباغ تعميم العضو بالماء ، بحيث يجري عليه ، ولا يكون مسحاً ، فإذا حصل ذلك بدون المد في الوضوء ، وبدون الصاع في الغسل حصل الواحب ، على المشهور ، المعروف من الروايتين ، لظاهر الآية .
221 وقوله : ( أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً ) ونحو ذلك .
222 وعن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت تغتسل هي والنبي من إناء واحد ، يسع ثلاثة أمداد أو قريباً من ذلك . رواه مسلم .
223 وعن أم عمارة بنت كعب ، أن النبي توضأ من إناء قدر ثلثي المد . رواه أبو داود والنسائي ، ( والثانية ) : لا يجزىء دون المد في الوضوء ، ولا دون الصاع في الغسل .
224 لظاهر ما روي عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( يجزىء من الغسل الصاع ، ومن الوضوء المد ) رواه أحمد ، والله أعلم .
قال : وتنقض المرأة شعرها لغشلها من الحيض ، وليس عليها نقضه [ لغسلها ] من الجنابة ، إذا روت أصوله . [ والله أعلم ] .
ش : هذا منصوص أحمد في الصورتين ، ومختار كثير من الأصحاب .
225 لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال لها وكانت حائضاً ( انقضي شعرك واغتسلي ) رواه ابن ماجه ، قال صاحب المنتقى : بإسناد صحيح .
226 وفي مسلم : أن أم سلمة سألت النبي فقالت : ( أفأنقضه لغسل الجنابة ) .
227 وأصرح من ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه : قال رسول الله : ( إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها ، واغتسلت بالخطمي والأشنان ، [ وإذا
____________________
(1/88)
اغتسلت من الجنابة لم تنقضه ، ولم تغتسل بالخطمي والأشنان ] ) رواه البيهقي في السنن ، لكن في إسناده محمد بن يونس ، قال : وليس بثقة . والمعنى في ذلك أن مدة الحيض تطول ، فيتلبد الشعر ، فشرع النقض ، طريقاً موصلًا إلى وصول الماء إلى أصول الشعر ، بخلاف غسل الجنابة ، فإنه لا يطول غالباً ، فلا حاجة إلى النقض ، لوصول الماء بدونه غالباً ، فلذلك لم يطلب النقض رفعاً لكلفته .
وحكى ابن الزاغوني رواية أخرى في الحيض ، أنه لا يجب النقض ، وهو اختيار أبي محمد ، وابن عبدوس ، وابن عقيل في التذكرة .
228 لأن في مسلم : أن أم سلمة قالت : قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ظفر رأسي ، أفأنقضه للحيض والجنابة ؟ قال : ( لا ، إنما يكفيك أن تفرغي عليك ثلاث حفنات ، ثمّ قد طهرت ) وحديث أنس لا يصح ، وحديث عائشة رضي الله عنها ، قضية عين فيحتمل أنه رأى عليها ما يمنع وصلو الماء ، ولكن ذكرها للحيض ظاهره أن العلة ذلك ، والأولى حمل الحديثين على الاستحباب ، جمعاً بين الأدلة . وقرينة ذلك ذكر الخطمي والأشنان في حديث أنس .
ولنا قول آخر بالوجوب في الجنابة ، قياساً على الحيض ، والنص يرده ، وابن الزاغوني قيده بما إذا طالت المدة ، قال : بناء على أن العلة في النقض في الحيض طول المدة أما إن جعل المناط النص تعبداً فلا .
وقول الخرقي : إذا روت أصوله . فيه إشعار على أنه يشترط إيصال الماء إلى أصول الشعر والبشرة ، وهو كذلك ، وإن كانت كثيفة ، بمخلاف ما تقدم في الوضوء .
229 وقد شهد لذلك قوله : ( تحت كل شعرة جنابة ، فاغسلوا الشعر ، وأنقوا البشرة ) وإذا أوجب الخرقي رحمه الله تروية أصول الشعر ، ويلزم من ذلك غسل البشرة ، فما بالك بالشعور نفسها ، فيؤخذ من ذلك وجوب غسلها وإن استرسل ، وهو المذهب ، وحكى أن محمد وجها أن لا يجب غسل المسترسل ، وقال : إنه يحتمله كلام الخرقي . فلا يظهر لي وجه احتمال كلام الخراقي لذلك ، والله أعلم قال المصنف رحمه الله تعالى :
( باب التيمم )
ش : التيمم في اللغة القصد ، قال سبحانه وتعالى : { ولا آمين البيت الحرام } أي قاصدين ، وقال الشاعر [ العذري ] :
____________________
(1/89)
وما أدري إذا يممت أرضا
أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا مبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
يقال : يممت فلانا وتيممته وأممته . إذا قصدته ، وقد قريء بالثلاثة في قوله تعالى : { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } أي لا تقصد وا الخبيث للإِنفاق منه ، فقرأ الجمهور ( ولا تيمموا ) بالفتح ، وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ( ولا تأمموا ) وابن عباس رضي الله عنهما ( ولا تيمموا : بضم التاء . وهو في العرف الشرعي عبارة عن : قصد شيء مخصوص وهو التراب الطاهر على وجه مخصوص وهو مسح الوجه واليدين من شخص مخصوص ، وهو العادم للماء ، أو من يتضرر باستعماله ، وتحقيق ذلك كله له محل آخر ، وقد يطلق ويراد به مسح الوجه واليدين وسمي المقصود بالتيمم تيمماً .
وهو جائز بالإِجماع ، وقد شهد له قوله سبحانه وتعالى : { إن كنتم مضرى ، أو على سفر ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء ، فتيمموا صعيداً طيبا } الآية ، وحديث عمار وغيره كمنا سيأتي إن شاء الله تعالى وهو من خصائص هذه الأمة ومما فضلت به على غيرها ، توسعة عليها ، وإحساناً إليها .
230 قال : ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة ) [ والله أعلم ] .
قال : ويتيمم في قصير السفر وطويله .
ش : هذا هو المعروف في المذهب المقطوع به ، اعتماداً على شمول الآية المتقدمة بإطلاقه . لحالتي السفر ، ثم شرع التيمم يقتضي ذلك ، إذ السفر القصير يكثر ، فيكثر عدم الماء فيه ، فلو لم يجز التيمم إذاً لأفضى إلي حرج ومشقة ، وذلك ينافي أصل مشروعية التيمم ، وقد بالغ الأصحاب في ذلك فقالوا : لو خرج من المصر إلى أرض من أعماله لحاجة : كالحرائه ، والاحتطاب ، والاحتشاش ونحو ذلك ، ولا يمنكه حمل الماء مته ، ولا الرجوع للوضوء إلا بتفويت حاجته ، فله التيمم ، ولا إعادة عليه على الأشهر ، وقيل : بلى لأنه كالمقيم ، إذا هو في عمل المصر ، ومن ثم لو كانت الأرض التي يخرج إليها من عمل قرية أخرى فلا إعادة عليه .
وقد شمل كلام الخرقي رحمه الله سفر المعصية ، وهو المعروف ، لأنه عزيمة لا يجوز تركه ، وعليه لا يعيد على المشهور .
____________________
(1/90)
ومفهوم كلام أنه لا يجوز التيمم في الحضر ، ولو خاف فوات الصلاة ، وهو المذهب وعن أبي العباس جواز ذلك ، ولأحمد [ رحمه الله ] رواية بالجواز في الجواز في الجنازة خاصة .
وأنه لا يجوز التيمم في الحضر لعدم الماء ، كما إذا حبس في المصر ولم يجد ماء ، أو انقطع الماء عن أهل البلد ، ونحو ذلك ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار الخلال ، لظاهر الآية الكريمة فإن ظاهرها اختصاص جواز التيمم بحالة [ عدم ] الماء في السفر ، وإلا لم يكن للتقييد بالسفر فائدة ، [ والثانية ] : وهي المشهورة ، وعليها جمهور الأصحاب : يجب عليه التيمم والحال هذه والصلاة ، لعموم قول النبي في حديث أبي ذر ( إن الصعيد [ الطيب ] طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ) ، رواه أحمد والترمذي وصححه ، وحديث ( أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبل ) وغير ذلك ، والتقييد بالسفر في الآية خرج والله أعلم مخرج الغالب ، إذ السفر محل العدم غالباً ، وهذا كاختصاص الخلع بحال الخوف ، وشهادة الرجل والمرأتين بحالة تعذر الرجلين ، ومثل ذلك لا يكون مفهوم حجة اتفاقاً .
فعلى هذا إذا صلى بالتيمم هل يعيد ؟ فيه قولان ، أشهرهما لا . لفعله المأمور به ، وإذاً يخرج عن العهدة لندرة ذلك ، ولأبي محمد احتمال بالتفرقة بين عذر يزول عن قريب ، كالضيف إذا أغلق عليه الباب ، ونحو ذلك ، فهذا يعيد لأنه بمنزلة المتشاغل بطلب الماء ، وبين عذر يمتد ، كالحبس ، وانقطاع الماء عن القرية ، فهذا لا إعادة عليه ، قلت : وهذا التعليل منه إنما يبيح عدم التيمم والحال هذه ، والله أعلم .
قال : إذا دخل وقت الصلاة ، وطلب الماء فأعوزه .
ش : ذكر الخرقي [ رحمه الله ] لجواز التيمم [ في السفر ] ثلاثة شروط ، ( أحدها ) دخول وقت الصلاة ، فلا يجوز التيمم لصلاة قبل وقتها ، وهذا هو المشهور ، والمختار للأصحاب ، لأن الله تعالى أمر بالوضوء أو التيمم عند إرادة القيام إلى الصلاة ، وإنما يكون ذلك بعد دخول الوقت ، وظاهر الخطاب : كلما أراد القيام إلى الصلاة .
231 خرج الوضوء ، لصلاته الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد ، وبقي التيمم على مقتضى ظاهرها .
232 وعن عمر بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله : ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت )
____________________
(1/91)
مختصر ، رواه أحمد ، وللبيهقي في سننه عن أبي أمامة نحون ، وظاهره تقييد طهورية التراب بحال إداراك الصلاة ، وإنما يتحقق ذلك بدخول الوقت ، وأيضاً فالتيمم قبل الوقت لا حاجة إليه ، فهو كالتيمم مع وجود الماء ، وقد أشار الله سبحانه [ وتعالى ] إلى اشتراط الحاجة بقوله : 19 ( { فلم تجدوا ماء } ) . ( وعن أحمد ) [ رحمه الله ] ما يدل على جواز ذلك ، وهو اختيار أبي العباس .
233 لعموم قوله : ( وجعلت تربتها طهوراً إذا لم نجد الماء ) وشمله قوله : ( إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ) ونظرا إلى أنه بدل فيساوي مبدله ، إلا ما خرج بالدليل كالإطعام مع العتق في الكفارة ، ونحو ذلك ولقد تخرج عبد العزيز في حكايته الإِجماع على منع التيمم قبل الوقت .
( تنبيه ) : وقت المكتوبة المؤداة زوال الشمس ، أو غروبها ونحو ذلك ، والفائتة كل وقت ، وكذلك المنذورة على المذهب ، وصلاة الاستسقاء باجتماع الناس في الصحراء ، والصلاة على الميت بنجاز غسله ، وصلاة الكسوف بالكسوف إن أجزنا ذين في وقت النهي ، وإن لم نجزهما فيه فبذلك مع خروج وقت النهي ، وكذلك جميع التطوعات وقتها وقت جواز فعلها اه .
( الشرط الثاني ) : طلب الماء ، على المشهور المختار من الروايتين لظاهر الآية فإنه سبحانه وتعالى شرط الجواز التيمم عدم الوجدان ، ولا يقال : ما وجد . إلا بعد الطلب ، ولا يرد قوله سبحانه : { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } مع انتفاء الطلب منهم .
234 وكذلك قوله : ( من وجد لقطة ) لأن كلامنا في جانب النفي ، أما جانب الوجود فسلم لأنه [ لا ] يقتضي الطلب ، ( فإن قيل ) : فيرد قوله سبحانه : { وما وجدنا لأكثرهم من عهد } لاستحالة الطلب على الله سبحانه ، ( وقيل ) : الله سبحانه [ وتعالى ] طلب منهم الثبات على العهد ، أي أمرهم بذلك ، فهو سبحانه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهذ ، فلذلك قيل : { وما وجدنا [ لأكثرهم ] } .
ولأنه بدل ، شرط له عدم مبدله ، فلم يجز إلا بعد طلب المبدل ، كالصيام مع الرقبة في الكفارة ، وكالقياس مع النص في الحادثة ، يحقق ذلك أن البدل من شرطه الضرورة ، وهي بعد الطبب متحققة حسب الإمكان ، أما قبله فمشكوك فيها ، فلا تثبت الرخصة .
( وعن أحمد ) رحمه الله رواية أخرى واختارها أبو بكر : يستحب الطلب ولا يجب . اعتماداً على ظاهر الحال ، كالفقير لا يلزمه طلب الرقبة ، ومحل الخلاف وفاقاً ولأبي البركات ، وصاحب التلخيص إذا احتمل وجود الماء ، ولم يكن ظاهراً ، أما مع
____________________
(1/92)
الجزم بعدم الماء فلا يجب بلا ريب ، ومع ظن وجوده إما في رحله ، أو بأن رأى خضرة ، ونحو ذلك : يجب بالإِجماع .
وصفة الطلب أن يفتش من رحله ما يحتمل أن الماء فيه ، ويسعى يمنه ويسرة ، وأماماً ووراء ، ما العادة أن المسافر يسعى إليه لطلب الماء ، والمرعى والإِحتطاب ، ونحو ذلك ، لا فرسخاً ولا ميلًا ولا ما يلحقه فيه الغوث على الأشهر ، ويشترط للسعي لأمن على نفسه ، وأهله ، وماله ، لسبب يقتضيه ، لا جبناً ، وأمن فوت الوقت ، وفوت الرفقة ، ولقد أبعد ابن عبدوس في اشتراط ذلك للقرب دون البعد ، وابن أبي موسى في حكايته وجهاً بوجوب الإِعادة [ على المرأة ] إذا خافت الفجور في القصد ، فإن رأى خضرة أو موضعاً يتساقط عليه الطير قصده ، لأن ذلك مظنة الماء ، بالشرط السابق ، وكذلك إن كان يقربه مانع من انبساط [ النظر ] كجبل ونحوه قصده بالشرط السابق ، فصعد عليه ، وهل يلزمه المشيء خلفه ؟ على وجهين ، ويسأل رفقته عن مظانه ، فإن دله عليه ثقة قصده بالشرط السابق أيضاً ، ( ومحل الطلب ) عند دخول وقت كل صلاة ، كما أشار إليه الخرقي بقوله : إذا دخل وقت الصلاة . فإن طلب قبل الوقت لم يعتد به .
( الشرط الثالث ) : إعواز الماء ، بأن يطلب الماء فلا يجد ، كما نص الله تعالى عليه بقوله : { فلم تجدوا ماء } وحصل الاتفاق عليه ، وفي معنى العادم إذا وجد الماء وتعذر عليه استعماله ، لعدم قدرته على النزول إليه ، أو الاستقاء منه ، أو غلبة الواردين عليه ، أو إحالة سبع ونحو دونه .
ثم الإِعواز له حالتان ( إحداهما ) : ما تقدم ، وهو أن يكون عادماً للماء ، إما حساً ، وإما حكماً ، ( الثانية ) : وجد ماء ولكن لا يكفيه لطهره ، والمعروف والحال هذه حتى قال القاضي في روايتيه : إنه لا خلاف فيه في المذهب أنه يلزمه استعماله إن كان جنباً ، ثم يتيمم لما بقي ، وكذلك إن كان محدثاً ، على أشهر الوجهين ، أو الروايتين على ما في الرعاية ، ( والثاني ) : واختاره ابن أبي موسى ، وأبو بكر ، مع حكايته له عن بعض الأصحاب لا يلزمه استعماله ويتيمم ، وعلى هذا في إراقته قبله قلت : إن لم يحتج إليه لعطش روايتان ، حكاهما ابن حمدان ، ونظيرهما الروايتان في الطهور المشتبه بنجس ، والله أعلم .
قال : والاختيار تأخير التيمم [ إلى آخر الوقت ] .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار ابن عبدوس .
235 ما روي عن علي رضي الله عنه ، أنه قال : إذا أجنب الرجل في السفر : تلوم ما بينه وبين آخر الوقت ، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى . رواه الدارقطني والبيهقي ولكن من رواية الحارث عنه ، وهو ضعيف ، واحتياطاً للخروج من الخلاف ، إذ بعض العلماء وهو رواية عن إمامنا ، حكاها أبو الحسين لا يجوز
____________________
(1/93)
التيمم إلا عند ضيق الوقت ، ( والثانية ) : وهي المختارة للجمهور إن رجا وجود الماء فالأفضل التأخير ، إذ طهارة [ الماء ] في نفسها فريضة ، وأول الوقت فضيلة ، ولا ريب أن انتظار الفريضة أولى ، وإن علم أن ظن عدمه فالأفضل التقديم ، وكذلك إن تردد ، على أحد الوجهين ، إذا فضيلة الوقت متيقنة ، فلا تترك لأمر مأيوس أو مشكوك [ فيه ] والله أعلم .
قال : فإن تيمم في أول الوقت وصلى أجزأه ، وإن أصاب الماء في الوقت .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، وإن تيقن وجود الماء في الوقت ، ولا عبرة بالرواية التي حكاها أبو الحسين .
236 لما روى عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : خرج رجلان في سفر ، فحضرت الصلاة ، وليس معهما ماء ، فتيمما صعيداً طيباً فصليا ، ثمّ وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ، ولم يعد الآخر ، ثمّ أتيا رسول الله ، فذكرا ذلك له ، فقال للذي لم يعد ( أصبت السنّة ، وأجزأتك صلاتك ) وقال للآخر : ( لك الأجر مرتين ) رواه أبو داود وقال : ذكر أبي سعيد فيه وهم ، وليس بمحفوظ ، وهو مرسل ، وللنسائي بمعناه .
237 وعن نافع قال : تيمم ابن عمر على رأس ميل أو ميلين من المدينة ، فصلى العصر ، فقدم والشمس مرتفعة ، ولم يعد [ الصلاة ] رواه البيهقي ، وللموطأ معناه ، واحتج به أحمد .
238 وعن ابن أبي الزناد عن أبيه ، قال : كل من أدركت من فقهائنا فذكر الفقهاء السبعة كانوا يقولون : من تيمم فصلى ، ثمّ وجد الماء [ وهو ] في الوقت ، أو [ في ] غير الوقت ، فلا إعادة عليه ، ويتوضأ لما يستقبل من الصلوات ويغتسل ، والتيمم من الجنابة والوضوء سواء . رواه البيهقي والله أعلم .
قال : والتيمم ضربة واحدة .
ش : أي التيمم المشروع ، أو الواجب ، أو المجزيء ضربة واحدة ، لا نزاع عندنا فيما نعلمه أن الواجب في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين .
____________________
(1/94)
239 لما روى عمار رضي الله عنه قال : أجنبت ، فلم أصب الماء ، فتمعكت في الصعيد ثم صليت ، فذكرت ذلك للنبي فقال : ( إنما يكفيك هذا ) وضرب النبي بكفيه الأرض ، ونفخ فيهما ، ثم مسح بها وجهه وكفيه . متفق عليه ، وفي لفظ : لم يجاوز الكوع وفي لفظ للدارقطني ( إنما [ كان ] يكفيك أن تضرب بكفيك [ في ] التراب ، ثم تنفخ فيهما ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين ) .
240 وعن عمار أيضاً ، أن النبي قال في التيمم ( ضربة للوجه والكفين ) رواه أحمد ، والترمذي بمعناه وصححه .
ولقد أنصف الشافعي ( رحمه الله ) حيث قال في رواية الزعفراني [ إن ] ابن عمر تيمم ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ، وبهذا رأيت أصحابنا يأخذون ، وقد روي فيه شيء عن النبي ، لو علمته ثابتاً لم أعده ، ولم أشك فيه ، وقد قال عمار : تيممنا مع [ النبي ] إلى المناكب ، وروي عنه الوجه والكفين . فكأنه قوله : تيممنا مع النبي إلى المناكب . لم يكن عن أمر الرسول [ ] ، فإن ثبت عن عمار ، عن النبي الوجه واليدين ، ولم يثبت عنه : [ إلى ] ( المرفقين ) فالثابت أولى . اه ولا ريب في ثبوت ذلك عند أهل العلم بهذا الشأن ، وأنه أثبت من ( إلى المرفقين ) بل لم يثبت في ذلك شيء ، قال الإِمام أحمد ( رحمه الله ] : من قال ضربتين . إنما هو شيء زاده . اه .
وهل تسن زيادة على ضربة ؟ المنصوص وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد وغيره لا تسن ، لما تقدم ، إذ قوله في التيمم : ( ضربة للوجه والكفين ) ظاهره أن التيمم ليس إلا هذا ، وقال القاضي ، و الشيرازي ، و ابن الزاغوني ، و أبو البركات : يسن ضربتان ، ضربة للوجه ، وأخرى لليدين إلى المرفقين احتياطاً ، للخروج من الخلاف ، إذ بعض ( العلماء ] يوجبه ، مع أنه قد ورد .
241 فعن جابر رضي الله عنه عن النبي قال : ( التيمم ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ) رواه الدارقطني ، وروى أيضاً نحوه من حديث ابن عمر وغيره عن النبي ، وهي وإن كان في أسانيدها مقال ، لكن ورودها من طرق يفيد ظناً بصحتها ، على الدارقطني فيما الجن صحح بيضها على أن الدارقطني فيما الجن صحح بعضها يحمل ما تقدم على الإِجزاء ، جمعاً بين الكل ، ولا نزاع فيما نعلمه أنه لا يسن زيادة على ضربتين إذا حصل الاستيعاب بهما . .
( تنبيه ) : الرصغ والرسغ مفصل اليد ، والله أعلم .
قال : يضرب بيديه على الصعيد الطيب وهو التراب .
ش : صفة الضربة في التيمم المشروع [ أو الواجب ] أن يضرب بيديه على ما أمر الله سبحانه [ وتعالى به ] وهو الصعيد الطيب ، ثم فسر الصعيد بأنه التراب ، وهذا أشهر الروايات عن أحمد ، واختيار عامة أصحابه لظاهر قول الله سبحانه : 19 ( { فتيمموا صعيدا طيبا ، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ) فدل على أنه شيء يمسح منه ، والصخر ونحوه ليس بشيء يمسح به .
____________________
(1/95)
242 ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : الصعيد تراب الحرث ، والطيب الطاهر .
24( وعن حذيفة ) رضي الله عنه عن النبي قال : ( جعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) رواه مسلم 8 .
244 [ وعن علي ] رضي الله عنه : قال رسول الله : ( أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء ، نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض ، [ وسميت أحمد ] ، وجعل لي التراب طهوراً ، وجعلت أمتي خير الأمم ) رواه أحمد ، فعم الأرض بحكم المسجدية ، وخص ترابها بحكم الطهارة ، وذلك يقتضي نفي الحكم عما عداه ، ( وقول الخليل ) : إن الصعيد وجه الأرض . وكذلك الزجاج ، مستدلا بقوله سبحانه : 19 ( { فتصبح صعيداً زلقا } ) وقائلًا : بأنه لا يعلم فيه خلافاً بين أهل اللغة . يعارضه قول ابن عباس رضي الله عنهما ، على أن قولهما يرجع إلى التفسير اللغويد وقول ابن عباس يحمل على التفسير الشرعي ، ويؤيده بيان صاحب الشرع حيث قال : ( وترابها لنا طهوراً ) ( وقول من قال ) : إن ( منه ) لابتداء الغاية ، ليكن ابتداء الفعل بالأرض ، وانتهاء المسح بالوجه . مردود بأن ابتداء المسح بإمرار اليد على الوجه [ لا ] بالأخذ من الأرض ، وقد قال الزمخشري : إن هذا قول متعسف ، وإن الإِذعان للحق أحق من المراء ، ( والثانية ) أومأ إليها في رواية أبي داود وغيره يجوز التيمم بالرمل ، والأرض السبخة ، لعموم الحديث الصحيح ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) .
245 وقوله في الحديث الآخر : ( أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره ) وما تقدم بعض أفراد هذا ، وذكر بعض الأفراد لا يخصص ، وهذا وإن شمل كل الأرض لكن قوله تعالى : 19 ( { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } ) خصصه بما في معنى التراب من الرمل ونحوه ( ويجاب ) : بأن التخصيص بالمفهوم ، لا بذكر بعض الأفراد ، وهو وإن كان مفهوم اللقب ، فهو حجة عندنا على المذهب ( والرواية الثالثة ) : يجوز التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من الجص ، والنورة ، والرمل ، ونحو ذلك ، عند عدم التراب ، حملا للنص المقيد بالتراب على حال وجدانه ، والنص المطلق على حالة العدم ، جمعاً بينهما .
إذا تقرر هذا ( فعلى الأولى ) يجوز بكل تراب ، على أي لون كان ، يشرط كون له غبار يعلق باليد ، ومن ثم لو ضرب بيده على لبد أو [ على ] شجرة ، ونحو ذلك ، فحصل على يده غبار تراب أجزأه ، وكذلك لو سحق الطين وتيمم به أجزأه ، وإن كان
____________________
(1/96)
مأكولًا كالطين الأرمني نعم : إن كان بعد طبخه لم يجزه على أشهر الوجهين ، فإن خالط ما يتيمم به ما لا يتيمم به ، كالزعفران ونحوه ، فهل هو كالماء إذا خالطه الطاهرات ، وهو قول القاضي ، وأبي الخطاب وغيرهما : إن غيره منع هنا قولًا واحداً ، وهو اختيار ابن عقيل ، وأبي البركات ، على طريقتين ، ومحلهما يما يعلق باليد كما مثلنا ، أما ما لا يعلق باليد فلا يمنع ، لنص أحمد على جواز التيمم ( وعلى الرواية الثانية ) فظاهر كلام أحمد الجواز مطلقاً ، والقاضي يحمل قوله بالجواز على ما إذا كان له غبار ، وقوله بالمنع على عدم الغبار ، فلا خلاف عنده [ وعلى ] الثالثة ) هل يعيد إذا وجد الماء أو التراب ؟ فيه روايتان .
وقول الخرقي : يضرب بيديه . ليست حقيقة الضرب شرطاً ، بل لو وضع يده على تراب ناعم أجزأه ، إذ القصد إغبار الراحتين ، وقد وجد ، لكنه قد يحترز بذلك عما إذا وصل التراب إلى وجهه ويديه بغير ضرب ، نحو أن سفت عليه الريح ترابا يعمه ، وله حالتان ( إحدهما ) إذا نوى بعد حصول التراب عليه ، فإنه لا يجزئه ، لانتفاء قصد التراب رأساً ، نعم لو مسح وجهه بما حصل على يديه أجزأه ، ( الثانية ) : نوى وعمد للريح فحصل عليه تراب ، فهنا ثلاثة أوجه ( الإِجزاء ) وهو مختار أبي جعفر ، وأبي البركات وصاحب التلخيص ، والسامري ( وعدمه ) ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، ( والثالث ) إن مسح أجزأه ، وإلا فلا ، والله أعلم .
قال : وينوي به المكتوبة .
ش : لا نزاع عندنا في اشتراط النية في التيمم في الجملة ، لقوله تعالى : 19 ( { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ) وقول النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ) ( لا عمل إلا بنية ) ونحو ذلك ، ثمّ كيفية النية قد بناه جماعة على أصل ، فلنتعرض له وهو : أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا ؟ وفيه قولان للعلماء ، أشهرهما أنه لا يرفع الحدث ، وهو المختار لأصحابنا ، وأحمد رحمه الله نقل عنه الفضل ، وبكر بن محمد أنه يصلي [ به ] ما لم يحدث ، فأخذ من ذلك أبو الخطاب وغيره أنه يرفع الحدث ، ونقل عنه أنه لا يصح التيمم لفريضة قبل وقتها ، وأنه يتيمم لوقت كل صلاة ، بل وأنه لا يجمع به بين فرضين ، فأخذ من ذلك أنه لا يرفع الحدث .
وبالجملة قد جاء في الباب حديثان مشهوران .
246 [ أحدهما ] حديث عمرو بن العاص قال : احتلمت في ليلة باردة ، في غزوة ذات السلاسل ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ، ثم صليت بأصحابي الصبح ، فذكروا ذلك للنبي : ( يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ) ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال ، وقلت : إني سمعت الله عز وجل يقول : { ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيماً } فضحك رسول الله ، ولم يقل شيئاً . رواه أبو
____________________
(1/97)
داود ، وظاهره أنه أقره على أن صلى وهو جنب ، وإلا لم يبين لهم أنه ليس بجنب .
247 ( والثاني ) : حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ، فإن ذلك خير ) رواه الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، وفي رواية ( طهور ) فدل على أنه عند عدم الماء طهور بمنزلة [ الماء ] ، وإذاً يعطى حكم الماء ، فيرفع الحدث ، والحق أنه لا تعارض بين الحديثين ، إذ ( في الأول ) غايته أنه لم يمنع من إطلاق الحدث عليه ، لأن بزوال البرد ، أبو بوجود الماء ونحو ذلك حكم الحدث ، ويبطل التيمم ، فدل على أن المانع لم يزل رأساً ، ( وفي الثاني ) جعل التراب طهوراً عند عدم الماء ، لأنه يستبيح به ما يستبيح بالماء والحال ما تقدم .
وقد قال أبو العباس : إن ذلك ينبني على قاعدة أصولية ، وهي أن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا ؟ فإن المقتضي للحدث موجود ، وقد عارضه عدم الماء ، مع الحاجة إلى الصلاة ، وقيام الشارع التراب مقام الماء ، فهل يقال : استبيحت الصلاة والحال هذه ، مع قيام السبب المانع منها وهو الحدث ، أو أن السبب والحال هذه لم يبق حاضراً ، فكأن لا حدث ؟ ونظير ذلك الاختلاف في الميتة عند الضرورة ، هل أبيحت مع قيام سبب الحظر ، وهو ما فيها من [ خبث ] التغذية ، أو [ أن ] عند الضرورة زال المقتضي للحظر ، مع بقاء ] قيام السبب وهو التحريم ؟ .
وكشف الغطاء من ذلك أنه إن أريد بالسبب الحاضر السبب التام ، وهو مجموع ما يستلزم الحكم من العلة ، والشرط ، وعدم المانع ، فلا ريب في ارتفاع هذا عند المخمصة ، وعند الصلاة بالتيمم ، لوجود الحل وإباحة الصلاة ، وإن أريد بالسبب ما يقتضي الحكم وإن توقف على وجود شرط ، أو انتفاء مانع ، فلا ريب في وجود هذا هنا ، لولا المعارض الراجح ، وهو المخمصة ، وعدم الماء ، فالقائل الأول التفاته إلى هذا السبب ، والقائل الثاني التفاته إلى السبب التام ، وإذا فالفريقان مجمعان على إباحة الصلاة والحال ما تقدم ، وعلى منع الصلاة عند وجود الماء حتى يتطهر ، ومن ثمّ قال القاضي في تعليقه : الخلاف في عبارته ، قال : إذ فائدة قولنا : إنه لا يرفع الحدث . أنه إذا وجد الماء لزمه استعماله في رفع الحدث ، وهذا اتفاق .
ومن هنا يعرف خطأ ابن حمدان في قوله : وعنه يصلي به ما لم يحدث . وقيل : أو يجد ماء . فإنه يقتضي أنه على النص يصلي وإن وجد الماء ، وهو خلاف الإِجماع ، والنصوص الصريحة ، والذي أوقعه في ذلك والله أعلم أن النص عن أحمد مطلق ، لكن نصوصه المتوافرة بالبطلان بوجود الماء حتى وهو في الصلاة ، تقيد ذلك ، لا سيما
____________________
(1/98)
مع النصوص الصريحة فكيف يظن بأحمد مخالفتها .
وقول أبي البركات : وعنه : يصلي به ما لم يحدث كالماء . وكأن أبا البركات أراد [ أن ] على هذه الرواية أشبه الماء ، فيعطى حكمه ، من جواز التيمم قبل الوقت ، ونحو ذلك ، كما صرح به . أه وظاهر ما قاله القاضي من أن الخلاف في عبارته ، أنه لم يبن على ذلك فائدة شرعية ، وكذا صرح به أبو العباس في قواعده فقال : ليس بين القولين نزاع شرعي عملي ، بل عليهما لم يبق الحدث مانعاً مع وجود طهارة التيمم ، فيكون طاهراً قبل الوقت وبعده وفيه ، وبنى البطلان بخروج الوقت ، [ وكونه لا يجمع به بين فرضين ، على القول بأنه لا يتيمم قبل الوقت ] وبين كونه يصلي به ما يشاء ، ولا يبطل بخروج الوقت على القول بجواز التيمم قبل الوقت ، والقاضي خرج رواية جواز التيمم قبل الوقت من قوله : إنه يصلي به ما لم يحدث . فعلى هذا يكون أبو العباس قد جعل الأصل فرعاً ، والفرع أصلًا ، أما أبو الخطاب وجماعة فقالوا : إنا إذا قلنا : لا يرفع الحدث . اشترط أن ينوي استباحة الصلاة من الحدث الذي عليه ثم إن أنوى شيئاً استباحة وما دونه ، ولا يستبيح ما هو أعلى منه ، كما يأتي بيانه ، ولا يجوز إلا بعد الوقت ، ويبطل بخروجه ، وإن قلنا : يرفع . جاز أن ينوي رفع الحدث ، وإذا نوى فعل الصلاة استباح فرضها ، وجاز قبل الوقت ، ولم يبطل بخروجه ، كالماء سواء .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي : ينوي به المكتوبة . ظاهره والله أعلم [ أنه ] لحظ ما تقدم ، من أن التيمم مبيح لا رافع ، فيحصل له إباحة ما نواه ، ويدخل فيه بطريق الضمن ما دونه ، ولا شيء أعلى من المكتوبة ، فلذلك نص الخرقي عليها ، وقد نص أحمد في رواية البرزاطي في من تيمم لسجود القرآن ، أو للقراءة في المصحف ، وصلى به فريضة أنه يعيد ، وعلى هذه القاعدة : لو نوى صلاة الجنازة استباح النافلة ، لا المكتوبة ، ولا يستبيح الجنازة بنية النافلة ، ويستبيح مس المصحف بنيتهما ، ولا تباح هي بنيتهما ، ويستبيح قراءة القرآن واللبث في المسجد ، بنية الطواف ، لأنه أعلى منهما ، لشبهه بالصلاة ، ولا يباح هو بنية أحدهما ، ولو [ نوى ] قراءة القرآن ، لكونه جنباً ، أو اللبث في المسجد ، أو مس المصحف ، فقال أبو محمد : لا يستبيح غير ما نواه ، وقال أبو البركات : إن نوى القراءة ، أو اللبث استباح الآخر ، دون ما يقتضي الطهارتين ، [ من صلاة ، ومس مصحف ، إذ تيممه هذا كالغسل وحده ، ويستبيح بنية النافلة ، ومس المصحف اللبث والقراءة ، لأن تيممه والحال هذه بمنزلة الطهارتين ] .
هذا كله على ما هو عندهم المذهب كما تقدم ، أما على القول الآخر فالتيمم كالماء ، فتباح الفريضة بنية النافلة ، كما نص عليه الخرقي ثمّ ، وتوسط ابن حامد فقال : يباح الفرض بنية مطلقة ، [ دون نية النفل ] . والله أعلم .
قال : فيمسح بهما وجهه وكفيه .
ش : يمسح بالضربة التي ضربها بيديه وجهه وكفيه ، لما تقدم من حديث عمار ،
____________________
(1/99)
والواجب في مسح الوجه ظاهره مما لا يشق ، فلا يمسح باطن الفم والأنف ، ولا باطن الشعور الخفيفة ، وظاهر ما في المستوعب استثناء باطن الفم والأنف فقط ، وفي مسح اليدين إلى الرسغين ، كما في الحديث ، وكما يقطع السارق ، فلو قطع منهما ، فهل يجب مسح موضع القطع ؟ وهو المنصوص ، ومختار ابن عقيل ، وصاحب التلخيص ، كما لو بقي من الكف بقية ، أو لا يجب ؟ وهو قول القاضي ، بل يستحب ، كما لو قطع من فوق الكوع على منصوصه ، فيه قولان .
وقوله : يمسح بهما وجهه . يخرج به ما إذا معك وجهه في التراب ، أو أوصله إليه بخربة ، أو خشبة ، وهو أحد الوجهين .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط التسمية ، ولا الموالاة ، ولا الترتيب ، وهو لم يشترط التسمية في الوضوء الذي فيه النص ، فالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء أولى .
وكذلك ظاهر كلامه عدم اشتراط الموالاة ثمّ ، كما سبق ، فكذلك هنا ، والأصحاب حكوا في المسألتين روايتين من الروايتين ثمّ ، أما الترتيب فقال : ثم باشتراطه ، وظاهر كلامه هنا عدم الاشتراط ، وهو أحد الأقوال ، وإن اشترطناه في الوضوء ، نظرا لظواهر الأحاديث ، والثاني : يجب حتى في الطهارة الكبرى ، لأنه صفة واحدة ، بخلاف الغسل والوضوء ، فإن صفتيهما مختلفة ، وهو قول أبي الحسين ، والمذهب إعطاء حكم التيمم في ذا المحل حكم الماء ، فيجب الترتيب في الوضوء على المذهب ، ولا يجب في الغسل ، .
قال : وإن كان
____________________
(1/100)
ما ضرب بيديه غير طاهر لم يجزئه .
ش : قد تقدم أنه يضرب بيديه على الصعيد الطيب ، وأشار هنا إلى أن الطيب [ هو ] الطاهر ، ويروى عن ابن عباس .
248 وقال ابن المنذر : ثبت أن رسول الله قال : ( جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً ) فعلى هذا لا يجوز بأرض نجسة ، ولا مقبرة تكرر نبشها ، لاختلاط ترابها بصديد الموتى ، وإن لم يتكرر النبش فوجهان ، ( الأجزاء ) ، وبه قطع أبو محمد ، واختاره أبو البركات ، نظراً لللأصل ، ( وعدمه ) ، لأنه رخصة في الأصل ، فلا يستباح مع الشك .
وقول الخرقي : طاهر . يحتمل أن يحترز به عن النجس كما تقدم ، فيدخل في عمومه ما يتيمم به ، ويحتمل أن يريد به الطاهر المطلق ، كما قال في الماء ثمّ ، فيخرج المستعمل ، وبالجملة في المستعمل هنا إن قيل بخروج الماء عن طهوريته ثمّ ، وأن التيمم لا يرفع الحدث ، قولان ( أحدهما ) : بقاؤه على ما كان عليه ، لأن لم يرفع حدثاً ، ( والثاني ) : خروجه عن الطهورية ، وبه قطع صاحب التلخيص ، والسامري ، لاستعماله في طهارة أباحته الصلاة ومحل الخلاف [ في ] المتناثر عن أعضاء المتيمم ، أما ما ضرب بيديه عليه فهو كفضل الوضوء .
بقي : هل خلوة المرأة في التيمم كخلوتها في الوضوء ؟ لم أر المسألة منقولة ، والقياس ذلك ، لكن المسألة المنع فيها تعبد ، فليقتصر على مورد النص ثمّ ، وبعض العلماء قال : المراد بالطيب هو الحلال . وهذا لا ريب في اشتراطه عنده على المذهب ، كالوضوء بماء مغصوب بل أولى ، إلا أن في أخذه من هنا نظرا ، نعم الطيب يطلق ويراد به الحلال ، كما في قوله تعالى : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } ونحو ذلك ، وبعضهم قال : المراد بالطيب المنبت . مستنداً لقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } ) وهذا قول من لا يجوز التيمم بغير التراب ، كما هو المشهور من مذهبنا ، والله أعلم .
قال : وإن كان به قرح أو مرض مخوف ، وأجنب فخشي على نفسه [ إن أصابه ] الماء ، غسل الصحيح من جسده ، وتيمم لما لم يصبه الماء .
ش : لما انتهى الخرقي [ رحمه الله ] من الكلام على التيمم لعدم الماء ، طفق يتكلم على التيمم للمرض ونحوه ، ولا إشكال في جواز ذلك في الجملة ، وقد دل على ذلك قوله سبحانه [ وتعالى ] : 19 ( { وإن كنتم مرضى أو على سفر } ) الآية ، وقوله تعالى : 19 ( { ولا تقتلوا أنفسكم } ) وبها استدل أحد فقهاء الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص ، لما تيمم في ليلة باردة ، لجنابة أصابته ، وأقره النبي [ ] على ذلك .
إذا عرف هذا فالمريض ونحوه إذا [ كان ] حاله ما تقدم ، فإنه يغسل الصحيح ويتيمم للجريح ونحوه ، سواء كان المتيمم له [ هو ] القليل أو بالعكس ، لقول الله سبحانه : 19 ( { فاتقوا الله ما استطعتم } ) وقول النبي : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
249 وعن جابر ( رضي الله عنه ) قال : خرجنا في سفر ، فأصاب رجلًا منا حجر ، فشجه في رأسه ، ثم احتلم ، فقال لأصحابه : هل تجدون لي رخصة ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة ، وأنت تقدر على الماء . فاغتسل فمات ، فلما قدمنا على النبي أخبر بذلك ، فقال : [ قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا ، إنما شفاء العي السؤال ] ، إنما كان يكفيه أن يتيمم ، ويعصر أو يعصب شك موسى على جرحه خرقة ، ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده ) رواه أبو داود والدارقطني ، وهو نص ، لكنه من رواية الزبير بن خريق قال البيهقي : وليس ممن يحتج به .
250 وقد روي أيضاً نحوه عن عطاء ، أنه سمع ابن عباس يخبر أن رجلًا أصابه جرح في عهد النبي ، ثمّ أصابه احتلام ، فأمر بالاغتسال ، فاغتسل فكزّ فمات ،
____________________
(1/101)
فبلغ رسول الله فقال : ( قتلوه قتلهم الله ، ألم يكن شفاء العي السؤال ؟ ) قال عطاء : فبلغنا أن رسول الله قال : ( لو غسل جسده ، وترك رأسه حيث أصابه الجرح ) .
إذا تقرر هذا فشرط جواز التيمم للمرض أو الجرح أن يخشى على نفسه من إصابة الماء ، إذ لا ريب في أن الماء هو الأصل ، والأصل لا يعدل عنه إلا لضرورة ، كما في الإِطعام مع الصيام ، والصيام مع العتق في الكفارة ، وقوله تعالى : 19 ( { وإن كنتم مرضى أو على سفر } ) الآية أي والله أعلم مرضنا يتضرر معه باستعمال الماء ، وإلا يكون ذكر المرض لغواً .
251 وقد ثبت أن رسول الله قال : ( الحمى من فيح جهنم ، فأطفئوها بالماء ) والحمى نوع من المرض ، ثم هل الخشية المشترطة هي تلف النفس ، أو العضو ، أو يكتفي بخشية الضرر ، من زيادة مرض ، أو تباطئ برء ، ونحو ذلك ؟ فيه روايتان ، المذهب منهما الثاني . وصورة هذه المسألة إذا خشي على نفسه من إصابة الماء مسحاً وغسلًا ، أما إن خشي غسلا لا مسحاً فثلاث روايات ( إحداهن ) واختارها القاضي فرضه التيمم ، لعجزه عن الواجب ، ( والثانية ) : فرضه المسح ، لأنه أقرب إلى المعنى المأمور به وهو الغسل ( والثالثة ) : يجمع بين التيمم والمسح ، فالتيمم للعجز عن الغسل ، والمسح لقدرته على إيصال الماء إلى العضو في الجملة .
وكلام الخرقي محتمل للقولين الأولين ، ومحل الروايات [ إذا لم يكن ] الجرح نجساً [ أما إن كان نجساً ] فإنه قال في التلخيص : لا يمسح ويتيمم . ثم إن كانت النجاسة معفواً عنها ألغيت ، واكتفى بنية الحدث ، وإلا نوى الحدث والنجاسة إن شرطنا فيها النية ، وهل يكتفي بتيمم واحد ؟ على وجهين ، وفي البلغة احتمال أنه لا يجزئه إلا تيمم واحد ، قال : لتحصل الإِباحة المنوية .
وقد فهم من كلام الخرقي جواز التيمم للجنب ، وهو قول العامة ، لما تقدم من حديث عمار بن ياسر ، وعمرو بن العاص ، وصاحب الشجة ، وأبي ذر .
252 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : رأى رسول الله رجلًا معتزلًا ، لم يصل في القول ، فقال : ( يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم ) ؟ فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . قال : ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) متفق عليه .
واعلم أن الحكم المتقدم لا يختص بالجنابة ، بل الوضوء كذلك وإنما نص
____________________
(1/102)
الخرقي على الجنابة لينبه على مذهب الخصم .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : يخير الجنب الجريح ونحوه بين البداءة بالغسل أو بالتيمم ، لوجود سببهما ، وعدم اعتبار الترتيب لطهارته ، وهذا بخلاف الجنب الواجد لماء يكفي بعض بدنه ، فإنه لا يصح تيممه حتى يستعمل ما وجده ، ليتحقق شرط التيمم وهو العدم ، أما الجريح المتوضيء ، فعند عامة الأصحاب يلزمه أن لا ينتقل إلى ما بعده حتى يتيمم للجرح ، نظراً للترتيب ، وأن يغسل الصحيح ، مع التيمم لكل صلاة إن اعتبرت الموالاة ، واختار أبو البركات وإليه ميل أبي محمد سقوط الترتيب والموالاة في ذلك ، دفعا للحرج والمشقة ، مع عدم النص في ذلك ، وإذا كان الجرح في أعضاء التيمم أمر التراب عليه . ( الثاني ) : القرح بفتح القاف وضمها لغتان بمعنى الجراح وألمها ، كالضعف والضعف ، وقد قرىء بهما في قوله سبحانه : 19 ( { إن يمسسكم قرح } ) ، وقيل : بالفتح الجراح ، وبالضم ألمها ، ( والعي ) قصور الفهم ، وشفاء هذا المرض بالسؤال عما جهله ليعرف ، والله أعلم .
قال : وإذا تيمم صلى الصلاة التي حضر وقتها ، وصلى به فوائت إن كانت عليه والتطوع ، إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى .
ش : هذا هو المذهب المشهور ، المعمول به عند الأصحاب من الروايات . مع أن القاضي في التعليق لم يحك [ به ] نصاً ، وإنما قال : أطلق أحمد القول في رواية الجماعة ، أبى طالب ، والمروذي ، وأبي داود ، ويوسف بن موسى ، أنه يتيمم لكل صلاة ، ومعناه : لوقت كل صلاة . قال : وقد ذكره الخرقي على هذا . اه . ( والثانية ) أنه يصلي به ما لم يحدث ، نص عليها في رواية الفضل ، وبكر بن محمد ، ( والثالثة ) وهي المشهورة في نصه لا يجمع [ به ] بين فرضين ، وقد تقدمت الإِشارة إلى توجيه الخلاف ، وأن أبا الخطاب وغيره بنو ذلك على أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا ؟ وأبا العباس بنى على جواز التيمم قبل الوقت ، وعدم جوازه ، ونزيد هنا بأن المنقول عن الصحابة التيمم لكل صلاة .
253 فعن ابن عمر بإسناد صحيح : يتيمم لكل صلاة ، وإن لم يحدث . وعن الحارث ، عن علي قال : يتيمم لكل صلاة . وعن قتادة أن عمرو بن العاص كان يحدث لكل صلاة تيمماً ، وكان قتادة يأخذ به ، رواهن ابن المنذر والبيهقي في سننه .
254 وروي أيضاً عن ابن عباس أنه قال : لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة ولهذا والله أعلم جاءت غالب نصوص أحمد على ذلك ، تبعاً للصحابة .
255 وقد روى [ أيضاً ] عن ابن عباس أنه قال : من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة ، ثم يتيمم للأخرى ، وهذا أقوى في اشتراط التيمم لكل صلاة ، لكنه من رواية الحسن بن عمارة ، وهو ضعيف .
____________________
(1/103)
256 مع أن حربا روى بإسناده عن ابن عباس أنه قال : التيمم بمنزلة الوضوء ، يصلي به الصلوات كلها ما لم يحدث وبالجملة لا تفريع على الرواية الوسطى ، أما على الثالثة فيستبيح إذا تيمم لصلاة [ الفرض ] الطواف ، ومس المصحف ، واللبث في المسجد إن كان جنباً ، والوطء إن كانت حائضاً ، وذكر ابن عقيل أن الوطء يحتاج إلى تيمم ، والتنفل قبل الصلاة وبعدها ، [ على ] مختار القاضي وغيره ، وظاهر كلام أحمد في رواية علي بن سعيد : أنه لا يستبيح إلا السنة الراتبة قبل ، وحكى أبو الخطاب وجهاً في الانتصار : أن كل نافلة تحتاج إلى تيمم ، لظاهر قول الصحابة المتقدم ، وهو ظاهر نصوص أحمد السابقة ، وقد روى البرزاطي عنه فيما وجد بخط ابن بطة : رجل تيمم في السفر ، وصلى على جنازة ، ثم جيء بأخرى فصلى عليها بذلك التيمم ؟ فقال : إن جيء بالأخرى حين سلم من الأولى صلى عليها بذلك التيمم ، وإن كان بينها مقدار ما يمكنه التيمم لم يصل على الأخرى حتى يعيد التيمم . قال القاضي : وهذا يحتمل وجهين ( أحدهما ) أن وقت الأولى إلى تمام فعلها ، فإذا جاء بعد ذلك فقد خرج الوقت ، ( والثاني ) [ أن الثانية ] إذا جاءت عقب الأولى لحقت المسبقة في التيمم ، لتفاوت الزمن ، بخلاف ما إذا تراخت . قلت : وهذا من القاضي يقتضي أن وقت صلاة الجنازة يخرج بفعلها ، وقوة كلام الإِمام يقتضي أنه لا يصلي بتيمم واحد نافلتين ، لأنه أطلق ، مع أن من الجائز أن صلاة الجنازة نافلة في حقه اه . وعلى المذهب : يصلي الصلاة التي تيمم لها ، وما عليه من منذورة وفائتة ، ويجمع بين الصلاتين ، ويتطوع ، ويصلي على الجنازة ، إلى أن يدخل وقت التي تليها فيبطل ، وهل يبطل الفجر بخروج وقتها ، أو بدخول [ وقت ] التي تليها ؟ فيه وجهان ، ظاهر كلام الخرقي الثاني ، وقال أبو محمد في المغني : [ إن ] المذهب الأول ، وحمل كلام الخرقي عليه ، وظاهر كلامه نفي الخلاف ، ولو كان تيمم في غير وقت صلاة ، كالمتيمم بعد طلوع الشمس يبطل بزوال الشمس ، ولو نوى الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية من يباح له ، فتيمم في وقت الأولى لها ، أو لفائتة ، لم يبطل تيممه بدخول وقت الثانية ، لأن الوقتين قد صارا للصلاتين وقتاً واحداً .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : ظاهر كلام الأصحاب أن التيمم يبطل بخروج الوقت ، ولو كان في صلاة ، وصرح به في المغني ، وعن ابن عقيل : لا يبطل وإن كان الوقت شرطاً ، كما قلنا في الجمعة ، وخرجه السامري على روايتي وجود الماء في الصلاة ( الثاني ) : إذا خرج الوقت ولم يصل الحاضرة التي تيمم لها ، فعند أبي البركات : له قضاؤها ، وقضاء النوافل ، والفوائت ، ومس المصحف ، والطواف ، لاستباحة ذلك ، وعند الأصحاب ليس له ذلك ، وكذا لو تيمم لنافلة قبل الزوال ، جاز فعلها [ عنده دونهم ، وعكس هذا لو تيمم لحاضرة ، ثم نذر صلاة ، لم يجز عنده فعلها ] [ بذلك ] ، لعدم سبق وجوبها ، وظاهر قول الأصحاب الجواز ، وملخص الأمر أن الأصحاب أناطوا
____________________
(1/104)
الحكم بالوقت ، وأبا البركات بما استباحه .
ومما خالف فيه الأصحاب أيضاً 19 ( تيمم الجنب لقراءة ، أو لبث في مسجد ، أو الحائض لوطء ، أو استباحوا ذلك بالتيمم لصلاة ، لم يبطل تيممهم بدخول وقت الصلاة عنده ، وعندهم يبطل ، وأبطله أبو البركات بأن وقت الصلاة لا تعلق له بذلك والله أعلم .
قال : وإذا خاف العطش حبس الماء وتيمم وصلى ، )9 ( ولا إعادة عليه .
257 ش : لما روي عن علي رضي الله عنه في الرجل يكون في السفر ، فتصيبه الجنابة ، ومعه الماء القليل ، يخاف أن يعطش ، قال : يتيمم ولا يغتسل . رواه الدارقطني ، وروى البيهقي أيضاً عنه نحوه .
258 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا كنت مسافراً وأنت جنب أو محدث ، فخفت إن توضأت تموت من العطش ، فلا تتوضأ ، واحبس لنفسك . رواه البيهقي في سننه وقال أحمد : عدة من أصحاب رسول الله كانوا يتيممون ويحبسون الماء لشفاههم ولأنه يخشى الضرر على النفس ، فأشبه المريض بل أولى ، وحكم خشية العطش على رفيقه أو بهيمة محترمة له أو لرفيقه ، حتى كلب صيد لا خنزير ونحوه حكم خشية العطش على نفسه .
( تنبيه ) : هل دفع الماء إلى عطشان يخشى تلفه واجب أو مستحب ؟ على وجهين ، هذا نقل أبي محمد ، وصاحب التلخيص ، وفي الغاية وهو أصوب هل حبس الماء لعطش الغير المتوقع واجب أو مستحب ؟ على وجهين ، ويقرب من النقل الأول : إذا مات من له ماء ، ورفقته عطاش ، فهل ييمموه ويغرموا الثمن للورثة ، أو يكون الميت أولى به ؟ قال أبو بكر في التنبيه : على قولين ، أظهرهما الأول ، والله أعلم .
قال : وإذا نسي الجنابة ، وتيمم للحدث لم يجزئه .
ش : وكذلك بالعكس ، لقول النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ) وكطهارة الماء بل أولى ، لأن ثم رافع ، وهذا مبيح على الأشهر ، ومفهوم كلامه أنه لو نواهما أجزأه ، وهو كذلك لما تقدم ، وإذا أحدث إذاً بطل تيممه عن الحدث دون الجنابة ، والله أعلم .
قال : وإذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة خرج فتوضأ ، أو اغتسل إن كان جنباً ، واستقبل الصلاة .
____________________
(1/105)
ش : إذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة فإنه يلزمه الخروج منها ، على المشهور المعمول عليه في المذهب ، لقوله لأبي ذر : ( إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وفي رواية طهور المسلم عشر سنين ، ما لم يجد الماء ، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته ) فجعل طهوريته مقيدة بعدم وجدان الماء ، فإذا وجد الماء فليس بوضوء ولا طهور ، ولذلك أوجب عليه استعمال الماء إذا قدر [ عليه ] ، ولأن تيممه قد بطل ، بدليل أنه لم يفرغ من الصلاة حتى عدم الماء لم يجز له التنفل حتى يجدد التيمم ، صرح به ابن عقيل وغيره ، وكذا لو كان في نافلة ، ولم ينو عدداً ، لم يزد على ركعتين ، بل ولا على ركعة إن صح التطوع بها ، ) 19 ( وأبو محمد يختار عدم البطلان إن لم يقل ببطلان الصلاة برؤية الماء ، وإذاً له التنفل بعد ، إن عدم الماء قبل كمال الصلاة ، ولأنه معنى يبطل به التيمم خارج الصلاة ، وكذلك فيها ، كانقطاع دم الاستحاضة .
وعن أحمد [ رحمه الله ] رواية أخرى نص عليها في رواية الميموني وغيره : أنه يمضي فيها ، حذارا من بطلان العمل المنهي عن إبطاله ، واستدل بعضهم بعموم ( لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) وليس بشيء ، لأن معنى الحديث إذا خيل إليه بشيء فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً ، أو يجد ريحاً ، فليس في الحديث تعرض لغير التخييل ، وقد رجع أحمد عن هذه الرواية في رواية المروذي ، فقال : كنت أقول : يمضي في صلاته ، ثم تدبرت ، فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج ويتوضأ . ومن ثم أسقطها ابن أبي [ موسى ] وطائفة من الأصحاب ، ولم يعتبر ذلك ابن حامد ، وطائفة معه ، بل أثبتوها رواية ، وكذلك القولان في كل رواية علم رجوع الإِمام عنها . اه ( فعلى رواية الميموني ) : هل الخروج أفضل ، للخروج من الخلاف وهو رأى أبي جعفر أو يمتنع الخروج وهو ظاهر كلام الإِمام لقوله سبحانه : 19 ( { ولا تبطلوا أعمالكم } ؟ ) على قولين : ( وعلى المذهب ) يخرج ويتطهر ، ويستأنف الصلاة كما قال الخرقي ، ونص عليه أحمد ، وخرج القاضي وطائفة من الأصحاب منهم المجد في المحرر البناء من رواية البناء في من سبقه الحدث ، وأبى ذلك أبو محمد ، وأبو البركات في الشرح ، [ مفرقين ] بأن بوجود الماء ظهر حكم الحدث السابق على الصلاة ، قبل كمال المقصود بالتيمم ، فصار كافتتاح الصلاة مع الحدث ، بخلاف من سبقه الحدث في الصلاة ، فإنه لم يتقدم ذلك حدث .
وقول الخرقي : وهو في الصلاة . يحترز به عما إذا وجد الماء بعد الصلاة ، فإن صلاته ماضية ، وإن أصابه في الوقت ، وقد نص على ذلك فيما تقدم ، نعم : هل تستحب له الإِعادة والحال هذه ؟ فيه وجهان ، وفيه تنبيه على ما إذا وجده قبل الدخول
____________________
(1/106)
في الصلاة ، فإن تيممه يبطل بلا ريب ، لحديث أبي ذر المتقدم ، حتى لو وجده ثم عمد من ساعته ، فإنه يلزمه استئناف التيمم .
وقول الخرقي : إذا وجد الماء . ظاهره أنه لا بد من وجود حقيقة الماء ، وهو كذلك ، فلو وجد ركباً [ وغلب على ظنه وجود الماء فيه لم يبطل تيممه ، نعم إن تيقن وجود الماء فيه بطل ، وهذا بخلاف ما لو كان خارج الصلاة ، فإنه إذا وجد ركباً ] أو نحوه مما يظن معه وجود الماء ، فإن تيممه [ يبطل على الصحيح ] . ) 19 (
وهذا كله إذا كان تيممه لعدم الماء ، وهو آمن العطش ، أما إن كان لمرض ونحوه ، أو كان عطشاناً ، فإن تيممه ] لا يبطل بوجوده ولو داخل الصلاة ، والله أعلم .
قال : وإذا شد الكسير الجبائر ، وكان طاهراً ، ولم يعد بها موضع الكسر ، مسح عليها كلما أحدث ، إلى أن يحلها .
ش : جواز المسح على الجبيرة إجماع في الجملة ، وقد دل عليه حديث صاحب الشجة .
259 وروى البيهقي في سننه ، وأحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم ، بإسناديهما عن ابن عمر ، أنه كان يقول : من كان به جرح معصوب عليه ، توضأ ومسح على العصابة ، ويغسل ما حول العصابة ، وإن لم يكن عليه عصابة مسح ما حوله .
260 وقد روي المسح على الجبائر عن علي ، وابن عمر عن النبي ، لكن بأسانيد ضعاف .
261 ومن ثم قال الشافعي رحمه الله : روي حديث عن علي أنه انكسر إحدى زندي يديه ، فأمره النبي أن يمسح على الجبائر ولو عرفت إسناده بالصحة قلت به . اه .
وظاهر كلام الخرقي وجوب المسح عليها ، وهو كذلك ، [ لما تقدم ، وظاهره أيضاً أنه لا إعادة عليه مع المسح ، وهو كذلك ] لظاهر ما تقدم ، ولأنها طهارة عذر ، فأسقطت الفرض ، كطهارة المستحاضة والتيمم ، وقد حكى ابن أبي موسى ، وابن عبدوس ، وغيرهما رواية بوجوب الإِعادة ، لكنهم بنوها على ما إذا لم يتطهر لها ، وقلنا بالاشتراط ، والذي يظهر لي عند التحقيق أن هذا ليس بخلاف كما سيأتي .
وظاهر كلامه [ أيضاً ] الاجتزاء بالمسح ، وهو المشهور المقطوع به من الروايتين ، لظاهر ما تقدم عن ابن عمر ، ولأنه مسح على حائل ، فأجزأ من غير تيمم ، كمسح الخف بل أولى ، إذ صاحب الضرورة أحق بالتخفيف ، ( والثانية ) : لا بد من التيمم مع
____________________
(1/107)
المسح ، لظاهر حديث صاحب الشجة ، وقد تقدم تضعيفه ، مع أنه يحتمل أن الواو فيه بمعنى ( أو ) أي : إنما يكفيه أن يتيمم ، أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها . ويحتمل أن [ التيمم في ] الحديث لشد العصابة على طهارة ، واقتصر الشارع على ذكر التيمم ، نظر لحال الشاج ، لكن يلزم من هذا الاكتفاء بطهارة التيمم في شد الجبيرة ونحوها ، والأصحاب على عدم الاكتفاء بذلك ، بناء منهم على أن التيمم لا يرفع الحدث ، فعلى هذه [ الرواية ] لا يمسح الجبيرة بالتراب ، فلو استوعبت محل التيمم سقط . اه .
واشترط الخرقي رحمه الله لجواز المسح على الجبيرة شرطين ( أحدهما ) : أن يشدها وهو طاهر ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار القاضي في روايتيه ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، ) 19 ( وابن عبدوس ، وابن البنا ، لأنه مسح على حائل ، فاشترط له تقدم الطهارة كالخف ، ودليل الأصل الإِجماع والنص كما سيأتي ، ( والثانية ) : لا تعتبر الطهارة لها قبل الشد بحال ، اختارها الخلال وصاحبه ، وابن عقيل في التذكرة ، وصاحب التلخيص فيه ، وإليها ميل الشيخين لما تقدم عن ابن عمر وبه احتج أحمد ، ولأن الجبيرة بمنزلة العضو ، بدليل دخولها في الطهارتين ، وعدم توقيتها ، فهو كجلدة انكشطت ، والتحمت على حدث ، وتفارق الخف ، إذ الكسر يقع بغتة ، ويبادر إلى إصلاحه في الحال عادة ، فلو اشترطت الطهارة والحال هذه لأفضى إلى حرج ومشقة ، وهما منفيان شرعاً ( فعلى الأولى ) حكمها حكم الخف في الطهارة ، فلو غسل موضعها ، ثم شدها ، ثم كمل طهارته ، لم يجز له المسح ، على المذهب من اشتراط كمال الطهارة ، ولو شد على غير طهارة خلع ما لم يضر به ، ومع خوف الضرر يتيمم لها كالجرح ، وقيل : ويمسحها أيضاً ليخرج من الخلاف ، فإن ترك الخلع مع أمن الضرر ، أو التيمم مع الضرر أعاد ، وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن أبي موسى وغيره من الإِعادة إذا اشترطنا الطهارة .
( الشرط الثاني ) : أن يعدو بها موضع الكسر ، أي لا يتجاوز بها [ موضع ] ذلك ، ومراده والله أعلم تجاوزا لم تجر العادة به ، فإن الجبيرة إنما توضع على طرفي الصحيح ، لينجبر الكسر ، وفي معنى ذلك ما جرت العادة به من التجاوز لجرح ، أو ورم ، أو رجاء برء ، أو سرعته ، وإذا لم يجد إلا عظماً كبيراً ، أو لم يجد ما يصغره به ، ونحو ذلك ، أما إن تجاوز من غير حاجة ولا ضرورة ، فهذا الذي يحمل عليه كلام الخرقي ، ومقتضى كلامه أنه لا يجوز له المسح والحال هذه ، وهو كذلك في الجملة ، وبيانه بأنه إن لم يخف الضرر إذاً لزمه النزع ، وإلا يكون تاركاً لغسل ما أمر بغسله من غير ضرر ، وفي كلام أبي محمد عن الخلال ما يقتضي عدم اللزوم وليس بشيء ، وإن خاف التلف بالنزع سقط عنه بلا ريب ، وكذلك إن خاف الضرر على المذهب ، وخرج من قول أبي بكر فيمن جبر كسره بعظم نجس عدم السقوط .
____________________
(1/108)
وحيث سقط النزع مسح قدر الحاجة ، وتيمم للزائد ، ولم يجزئه مسحه على المشهور من الوجهين ، اختاره القاضي وابن عقيل ، وأبو محمد وغيرهم ، لعدم الحاجة إلى الزائد ( والوجه الثاني ) : يجزئه المسح على الزائد ، اختاره الخلال وأبو البركات ، لأنه قد صارت ضرورة إلى المسح عليه ، أشبه موضع الكسر ، ولأن المجاوزة إنما تقع غالباً لسهو أو غفلة ، أو دهشة فمنع الرخصة مع ذلك ، ومع الخوف من النزع فيه حرج ومشقة ، وتعمد ذلك نادر ، ) 19 ( فلا يفرد بحكم ، ( وفي المذهب قول ثالث ) : يجمع في الزائد بين المسح والتيمم .
وقول الخرقي : شد الكسير الجبائر . ذكره على سبيل المثال ، إذ لا فرق بين الكسر والجرح في موضع الجبيرة ، نص عليه أحمد ، وقصة صاحب الشجة كانت في الجرح ، وفي معنى ذلك لو وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه ، فإنه يمسح عليه ، وكذا لو ألقم إصبعه مرارة .
262 كما روى [ الأثرم و ] البيهقي بإسناديهما عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة ، فألقمها مرارة ، وكان يتوضأ عليها ، أما لو كان برجله شق ، فجعل فيه قاراً ، وتضرر بنزعه ، ( فعنه ) واختاره أبو بكر : لا يجزئه المسح ، ولأنه في معنى الكي المنهي عنه ، لأنه لا يستعمل إلا مغلياً بالنار ، ( وعنه ) واختاره أبو البركات ؛ يجزئه ، كالمرارة ونحوها ، والكي المنهي عنه يحمل على ما فيه خطر ، أو لم يغلب على الظن نفعه .
263 لأنه [ قد ] صح عنه أنه كوى أبي بن كعب ، وسعد ابن معاذ رضي الله عنهما .
وكلام الخرقي يشمل المسافر وإن كان عاصياً ، وهو كذلك ، بخلاف ماسح الخف إذا كان عاصياً بسفره ، فإنه يمتنع من المسح في وجه ، وفي المشهور : يلغى حكم السفر ، ويمسح مسح مقيم ( ويشمل ) الحدثين المسح ، لأن مسحها للضرورة ، والضرورة توجد معها ، بخلاف الخف ، ( ويشعر ) بأن مسحها لا يتأقت بمدة ، وهو كذلك ، لأنه مسح للضرورة ، فيبقى ببقائها ، بخلاف الخف ، إذ مسحه رخصة ، وعن ابن حامد : أنها تتوقت كالخف ، ( وبأنه ) لا يشترط سترها لمحل الفرض ، وهو كذلك ، إذا لم تكن حاجة ، لما تقدم ، بخلاف الخف ، ( وبأن ) شدها مختص بحال الضرورة ، وهو كذلك ، بخلاف الخف .
وإذا انتهينا إلى ذلك فقد عرفت أنها تفارق الخف فيما تقدم ، وتفارقه أيضاً في أنها تستوعب بالمسح كالتيمم ، بخلاف الخف ، إذ استيعابه يوهنه ، ويضعفه ، ويتلفه ، فلذلك اجتزىء ببعضه ، ( وأنها ) تجوز من خرق ونحوها ، بخلاف الخف ( وأنها ) لو كانت من حرير ونحوه صح المسح عليها ، على رواية صحة الصلاة في ذلك ، بخلاف [ الخف ] على المحقق ، ( وأنها ) لا تشترط لها الطهارة رأساً في رواية ، بخلاف الخف
____________________
(1/109)
( وأنه ) لو لبس الخف على طهارة مسح فيها عليها جاز له أن يمسح عليه ، ولو لبسه على طهارة مسح فيها على عمامة ( أو عمامة ) على طهارة مسح فيها على الخف ، لم يجز المسح على وجه ( فهذه عشرة ) أشياء ، ومرجعها أو معظمها على أن مسح الجبيرة عزيمة ، ومسح الخف ونحوه رخصة ، والله سبحانه أعلم .
قال :
( باب المسح على الخفين )
ش : جواز المسح على الخفين في الجملة ثابت بالسنة الصريحة الصحيحة .
264 فعن جرير : رأيت رسول الله بال ثم توضأ ، ومسح على خفيه . قال إبراهيم النخعي : وكان يعجبهم هذا ، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة . متفق عليه ، وفي رواية النسائي : وكان أصحاب عبد الله يعجبهم قول جرير ، وكان إسلام جرير قبل موت النبي بيسير . ولأحمد عن جرير : ما أسلمت إلا بعد أن أنزلت المائدة ، وأنا رأيت رسول الله يمسح بعد ما أسلمت .
265 وعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ، ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوماً وليلة للمقيم . رواه أحمد وقال : هذا من أجود حديث في المسح ، لأنه في غزوة تبوك ، وهي آخر غزوة غزاها النبي ، وهو آخر فعله . وقال في رواية الميموني : سبعة وثلاثون نفساً يروون المسح عن النبي . وقال في رواية أخرى : ليس في قلبي من المسح شيء ، فيه أربعون حديثاً عن أصحاب رسول الله ، وما رفعوا إلى النبي ، وما وقفوا .
266 وروى ابن المنذر عن الحسن البصري أنه قال : حدثني سبعون من أصحاب النبي أنه مسح على الخفين .
267 وقال ابن المبارك : ليس في المسح على الخفين عندنا خلاف أنه جائز ، وإن الرجل ليسألني عن المسح ، فأرتاب به أن يكون صاحب هوى .
وقد استنبط ذلك بعض العلماء من الكتاب العزيز ، من قوله تعالى : 19 ( { وأرجلكم إلى الكعبين } ) على قراءة الجر ، وحمل قراءة النصب على الغسل ، حذاراً من أن تخلو إحدى القراءتين من فائدة .
268 ويرشح ذلك ما روى عن المغيرة بن شعبة قال : كنت مع النبي في سفر ، فقضى حاجته ثم توضأ ، ومسح على خفيه ، قلت : يا رسول الله أنسيت ؟ قال :
____________________
(1/110)
( بل أنت نسيت ، بهذا أمرني ربي ) رواه أحمد ، وأبو داود .
ولقد بالغ إمامنا رحمه الله في اتباع السنة كما هو دأبه ، فجعل المسح أفضل من الغسل في رواية ، وإليها ميل الشيخين ، أخذا بالرخصة ، ومخالفة لأهل البدع المانعين من ذلك ، وسوى بينهما في أخرى ، لورود الشريعة بهما والله أعلم .
قال : ومن لبس خفيه وهو كامل الطهارة ، ثم أحدث مسح عليهما .
ش : يشترط لجواز المسح على الخفين أن يلبسهما بعد كمال الطهارة ، على المشهور ، المعمول عليه من الروايتين .
269 لما روى صفوان بن عسال قال : أمرنا رسول الله أن نمسح على الخفين ، إذا نحن أدخلناهما على طهر ، ثلاثاً إذا سافرنا ، ويوماً وليلة إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من غائط ، ولا بول ، ولا نوم ، ولا نخلعهما إلا من جنابة . رواه أحمد والدارقطني ، وابن خزيمة والطهر المطلق ينصرف إلى الكامل .
270 وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه ، عن النبي ، أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوماً وليلة ، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما . رواه الدارقطني ، وابن خزيمة ، والطبراني والأثرم ، وصحح الخطابي إسناديهما ، ولأن ما اشترطت له الطهارة اشترط له كمالها ، كمس المصحف . ( والثانية ) : لا يشترط كمال الطهارة ، فلو غسل رجلًا وأدخلها الخف ، ثم الأخرى وأدخلها الخف [ الآخر ] أو غسل رجليه وأدخلهما الخف ، ثم تمم طهارته وصح ذلك ، بأن يشترط الترتيب ، جاز له المسح مع الكراهة .
271 لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : كنت مع النبي في سفر ، فأهويت لأنزع خفيه ، فقال : ( دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين ) فمسح عليهما مختصر متفق عليه ، ولأبي داود ( دع الخفين ، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان ) .
272 وعنه أيضاً قال : قلنا : يا رسول الله : أيمسح أحدنا على الخفين ؟ قال : ( نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان ) رواه الدارقطني ، والحميدي في مسنده [ وقد وجد طهارتهما والحال هذه ] وكونهما طاهرتين أعم من أن يوجد ذلك معاً ، أو واحدة بعد الأخرى ، وحمل ذلك على طهارتهما بطهر كامل ، توفيقاً بين الأحاديث ، على أنا نمنع
____________________
(1/111)
الطهاة قبل كمالها حكماً ، بدليل المنع من مس المصحف .
وقد تضمن دليل الروايتين اشتراط تقدم الطهارة ، وهو المعروف بلا ريب ، وحكى الشيرازي رواية بعدم الاشتراط رأساً ، فلو لبس محدثاً ، ثم توضأ وغسل رجليه جاز له المسح ، وهو غريب بعيد .
وقد يحترز الخرقي بكمال الطهارة أيضاً عما إذا لبس على طهارة تيمم ، فإنه لا يجوز له المسح ، لعدم كمال الطهارة ، إذ التيمم لا يرفع الحدث على المذهب ، ويتخرج الجواز بناء على أنه رافع ، وقد أشار إليه أحمد [ قال ] أبو العباس ، وهذا في من تيممه لعدم الماء ، أما من تيممه لمرض كالجريح ونحوه فينبغي أن يكون كالمستحاضة ، قال : وتعليل أصحابنا يقتضيه . اه ؛ .
ومما يلحظ فيه البناء على رفع الحدث وعدمه إذا لبس خفا على طهارة مسح فيها على عمامة ، أو عمامة على طهارة مسح فيها على خف ، أو ماسح أحدهما إذا شد جبيرة وشرطنا لها الطهارة ، فإن في جواز المسح في جميع ذلك وجهان ، أصحهما عند أبي البركات الجواز ، جريا على قاعدته ، من أن المسح يرفع الحدث ، أما المستحاضة ومن به سلس البول ، ونحوهما فلهم المسح ، نص عليه أحمد ، لأن طهارتهم كاملة في حقهم ، ثمّ هل حكمهم حكم الصحيح في التوقيت ، وهو منصوص الإِمام ، وظاهر كلام ابن أبي موسى وغيره يتوقت المسح في حقهم ، أو بوقت بكل صلاة ، وهو قول القاضي في الجامع ؟ فيه قولان .
وقول الخرقي : ثم أحدث . يريد الحدث الأصغر ، إذ جواز المسح مختص به ، بدليل حديث صفوان المتقدم ، والله أعلم .
قال : يوماً وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر .
ش : لما ذكر [ رحمه الله ] جواز مسح الخف بشرطه ، بين أن ذلك موقت بيوم وليلة للمقيم ، وبثلاثة للمسافر ، لما تقدم من حديث عوف بن مالك ، وقد جوده أحمد ، وصفوان .
273 وعن شريح بن هانىء : سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين ، فقالت : سل علياً فإنه أعلم بهذا مني ، وكان يسافر مع رسول الله . فسألته فقال : قال رسول الله : ( للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوما وليلة ) رواه مسلم والنسائي وأحمد .
274 وعن خزيمة بن ثابت عن النبي أنه سئل عن المسح على الخفين فقال : ( للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن ، وللمقيم يوم وليلة ) رواه أحمد وأبو داود
____________________
(1/112)
والترمذي وصححه وقال مثنى : سئل أحمد عن أجود الأحاديث في المسح فقال : حديث شريح ابن هانىء ، وخزيمة بن ثابت ، وعوف بن مالك ؛ وقال في رواية الأثرم : هو صحيح مرفوع ؟ قال : نعم . وقول الخرقي : للمسافر . أي المسافر سفرا يبيح القصر لأنه الذي تتعلق [ به ] الرخص ، أما المسافر في معصية فكالمقيم ، يمسح يوما وليلة ، على أصح الوجهين ، إلغاء للسفر ، وقيل : لا يمسح أصلًا عقوبة له . والله أعلم .
قال : فإن خلع قبل ذلك أعاد الوضوء .
ش : يعني قبل اليوم والليلة ، بعد ( المسح ) ، أو قبل الثلاثة أيام ، وهذا أشهر الروايتين ، وعليها العمل ، ( والثانية ) : يجزئه غسل قدميه .
275 وقد روى ( ذلك ) البيهقي في سننه عن أبي بكرة ، ورجل من أصحاب النبي ، وقد تأول الخلال هذه الرواية ، وخالفه العامة ، وبنوها على أن الطهارة تتبعض ، وأنه يجوز تفريقها كالغسل ، وإذاً إما [ أن ] نقول : الحدث لم يرتفع عن الرجلين ، فيغسلان بحكم الحدث السابق ، أو نقول : ارتفع وعاد إليهما فقط ، أما المذهب فهو مبني عند ابن الزاغوني ، وأبي محمد على المذهب في اشتراط الموالاة ، وبنيا عليه أن الخلع إذا كان عقب المسح كفاه غسل رجليه ، وارتفع الخلاف ، وهو مفرع على أن طهارة المسح لا ترفع الحدث ، وإنما تبيح الصلاة كالتيمم ، فإذا ظهرت الرجلان ظهر حكم الحدث السابق ، وقد وقع ذلك أيضاً للقاضي في التعليق ، في توقيت المسح ، مصرحاً بأن طهارة المسح ترفع الحدث إلا عن الرجلين ، وبناه أبو البركات على شيئين ( أحدهما ) : أن المسح يرفع حدث الرجلين رفعاً مؤقتاً ، وقد نص أحمد على ذلك في رواية أبي داود ، وقاله القاضي في التعليق في هذه المسألة ، وصاحب التلخيص فيه ، ( والثاني ) : أن الحدث لا يتبعض ، وقد صرح بذلك القاضي أيضاً وعيره ، وإذاً إذا خلع عاد الحدث إلى الرجلين ، فيسري إلى بقية الأعضاء ، وعلى هذا يستأنف وإن قرب الزمن ، كما هو ظاهر كلام أحمد ، لإِطلاقه القول بالاستئناف ، بل قيل : إنه منصوصه ، وقد قال القاضي : لو سلمنا أن المسح لا يرفع الحدث عن الرجلين لا يضر ، لأن نزعهما أبطل حكم المسح في الرجلين ، وأوجب غسلهما ، فيجب بطلانها في جميع الأعضاء ، لأنها لا تتبعض ، وحاصل هذا البناء على شيء واحد اه وهكذا الخلاف في انقضاء المدة وهو على طهارة .
وقوله : خلع . يشمل الخفين أو أحدهما ، وهو كذلك ، ويخرج منه ما إذا انكشطت ظهارة الخف ، وبقيت بطانته ، فإنه ليس كالخلع على المذهب ، وقيل : بلى . وحكم ظهور بعض القدم حكم ظهور جميعه ، أما إن خرج القدم إلى الساق فعنه وهو المشهور أنه كالخلع ، وعنه ويحتمله كلام الخرقي لترتيبه الحكم على الخلع : لا أثر لذلك ، ( فعلى الأول ) وهو المذهب إن خرج بعض القدم إلى الساق فروايتان ، أصحهما أنه كما لو خرج القدم جميعه ، هذا نقل القاضي في التعليق ، وأبي الخطاب ،
____________________
(1/113)
تبعاً لأبي حفص البرمكي ، وقال أبو البركات : إن خرج البعض إلى الساق ، خروجاً لا يمكن المشي معه ، فكالخلع ، نص عليه ، وعنه : إن جاوز العقب حد موضع الغسل فكالخلع ، وما دونه لا يؤثر .
( تنبيه ) : إذا حدث ما تقدم من الخلع أو انقضاء مدة المسح وهو في الصلاة فظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب أنه كما لو كان خارجها ، نظراً لإِطلاقهم ، وبناه ابن عقيل على وجود المتيممِ الماءَ وهو في الصلاة ، وكأنه لحظ أن المسح لا يرفع الحدث ، والسامري على من سبقه الحدث وهو في الصلاة ، وهو أقعد على المنصوص من أن المسح يرفع الحدث . والله أعلم .
قال : ولو أحدث وهو مقيم ، فلم يمسح حتى سافر ، أتم على مسح مسافر ، منذ كان الحدث .
ش : أما كونه يمسح [ مسح ] مسافر والحال ما تقدم فلظاهر قوله : ( يمسح المسافر ) وهذا مسافر فدخل في ذلك ، ولأنه لم يمسح في الحضر ، فأشبه من لبس فيه ولم يحدث .
وأما كون ابتداء مدة المسح من حين الحدث فلأن قول صفوان [ رضي الله عنه ] ، أمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثاً ، من بول ، وغائط ، ونوم . مقتضاه أنها تنزع لثلاث يمضين من ذلك ، وفيه بحث ، إذ قد يقال : إن ( من ) للسببية ، أي ننزع بعد الثلاث ، بسبب حدث وجد قبل ذلك ، ولأن المسح عبادة مؤقتة ، فاعتبر وقتها بجواز فعلها ، لا بفعلها كالصلاة ، ( وهذا ) أشهر الروايتين ، واختيار الأصحاب .
( والثانية ) : ابتداء المدة من المسح بعد الحدث ، لظاهر قوله : ( يمسح المسافر ثلاثاً ) ولو كان أوله الحدث لم يتصور ذلك ، إذا الحدث لا بد أن يسبق المسح ، وهو محمول على وقت جواز المسح ، والله أعلم .
قال : ولو أحدث مقيماً ، ثم مسح مقيماً ثم سافر ، أتم على مسح مقيم [ ثم خلع ] .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار ابن أبي موسى ، وأبي محمد ، والقاضي ، وجمهور أصحابه ، منهم أبو الخطاب في خلافه الصغير ، إذ المسح عبادة وجد أحد طرفيها في الحضر ، والآخر في السفر ، فغلب جانب الحضر كالصلاة ، ( والثانية ) : يتم مسح مسافر . اختارها الخلال وصاحبه ، وأبو الخطاب في الانتصار ، لظاهر قوله : ( يمسح المسافر ) وهذا مسافر ، وكما لو أحدث وهو مقيم ، فلم يمسح حتى سافر ، ولقد غالى الخلال حيث جعل المسألة رواية واحدة ، فقال : نقل عنه أحد عشر نفساً أنه يتم مسح مسافر ، ورجع عن قوله : يتم مسح مقيم .
وظاهر كلام الخرقي والأصحاب أنه لا فرق بين أن يصلي في الحضر أو لا يصلي ، وقال أبو بكر : يتوجه أن يقال : إن صلى بطهارة المسح في الحضر غلب
____________________
(1/114)
جانبه ، رواية واحدة . والله أعلم .
قال : وإذا مسح مسافراً أقل من يوم وليلة ، ثم أقام ، أو قدم ، أتم على مسح مقيم وخلع .
ش : لا خلاف في هذا نعلمه ، لما تقدم من تغليب جانب الحضر ، والله أعلم .
قال : [ وإذا مسح مسافر يوماً وليلة فصاعداً ثم أقام أو قدم خلع ] .
ش : هذا المعروف في المذهب ، حتى قال ابن تميم : رواية واحدة . لما تقدم من تغليب جانب الحضر ، وقد تنقضي المدة فيلزمه الخلع ، وشذ الشيرازي فقال : إذا مسح أكثر من يوم وليلة ، ثم أقام أو قدم أتم على مسح مسافر . والله أعلم .
قال : ولا يمسح إلا على خفين ، أو ما يقوم مقامهما ، من مقطوع ، أو ما أشبه مما يجاوز الكعبين .
ش : يمسح على الخفين لورود السنة بذلك كما تقدم ، وعلى ما يقوم مقام الخفين مما يستر محل الفرض ، ويثبت بنفسه ، إذ ما يقوم مقام الشيء يعطى حكمه ، وذلك كالخف المقطوع الساق ، وما أشبه المقطوع . كالخف القصير الساق ، ولعله يريد الجرموق .
276 وقد روى بلال رضي الله عنه أن النبي كان يتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والموق هو الجرموق ، فارسي معرب ، قاله الجوهري ، وهو خف واسع يلبس فوق الخف في البلاد الباردة ، ولا يمسح على ما عدا ذلك ، إذ الأصل [ الغسل ] ، خرج من ذلك ما وردت فيه السنة وما في معناه .
واعلم أنه يشترط لجواز المسح على الخف وما ألحق به كما اقتضاه كلام الخرقي من حوائل الرجل شروط ( أحدها ) : كونه ساتراً لمحل الفرض ، وإلا فحكم ما ظهر الغسل ، وحكم ما استتر المسح ، وإذاً يغلب الغسل ، لأنه الأصل ، وسواء كان ظهور محل الفرض لقصر ذلك ، أو لسعته ، أو خفته ، أو صفائه ، كالزجاج الرقيق ونحوه ، أو خرق فيه وإن صغر ، ومال أبو البركات إلى العفو عن خرق لا يمنع متابعة المشي ، نظراً إلى ظاهر خفاف أصحاب رسول الله .
277 وقال قال عبد الرزاق : سمعت الثوري يقول : يمسح على الخف ما تعلق بالقدم وإن تخرق ؛ قال : وكذلك كانت خفاف المهاجرين والأنصار ، مخرقة مشققة .
وبالغ أبو العباس فقال في قواعده بالجواز على المخرق ، ما لم يظهر منه أكثر
____________________
(1/115)
القدم ، فإن ظهر أكثر القدم فهو عنده كالنعل ، أو الزربول الذي لا يستر القدم مما في نزعه مشقة ، بأن لا يخلع بمجرد خلع الرجل [ بل ] إنما يخلع بالرجل الأخرى ، أو باليد ، والذي يميل إليه في جميع ذلك أنه يغسل ما ظهر من القدم ، ويمسح النعل ، أو يمسح الجميع ، وكلامه في ذلك فيه اضطراب ، ثم ظاهر كلامه أن المسح والحال هذه لا يكون بدلًا ، بل أصلًا مكملًا بغيره فلا يتوقف ، ومعتمده في ذلك على أحاديث وآثار .
278 ( منها ) : ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : يا ابن عباس ألا أتوضأ لك كما رأيت رسول الله يتوضأ ؟ قلت : بلى . وفيه : فأخذ حفنة من ماء فضرب بها رجله ، وفيها النعل ، فغسلها به ، ثم الأخرى مثل ذلك . رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي .
279 ( ومنها ) : ما روي عن ابن عباس أيضاً قال : توضأ رسول الله فأخذ ملء كفه ماء ، فرش به على قدميه وهو منتعل .
280 ( وعن ابن عمر ) أنه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه ، ويقول : كان رسول الله يصنع هكذا وغير ذلك من أحاديث وآثار .
وغيره من العلماء أشار إلى ضعف ما ورد من ذلك ، إذ أعلاها الحديث المصدر به ، وقد سئل عنه البخاري فضعفه ، وقال : ما أدري ما هذا . وكذلك البيهقي ضعف جملة من ذلك ، ثم الحديث الأول لا حجة فيه ، إذ فيه أنه غسلها في النعل ، [ والنعل لا يمنع الغسل ] ، وعلى ذلك حمل البيهقي ما ورد من ذلك ، والطحاوي حملها على أنها كانت تحتها جوربان ، أو على أنه في الوقت الذي كان يجوز فيه المسح على القدمين ، وأن ذلك كان هو الفرض ، والمسح على النعلين فضلًا ، وادعى الإِجماع على عدم جواز [ مسح ] ما تقدم ، وأبو العباس يضعف هذه الأجوبة ويقول : إن هذا رد للآثار بإجماع لا نعلم حقيقته أه .
( الثاني ) : [ من الشروط ] ثبوته بنفسه ، إذ الرخصة وردت في الخف المعتاد ، وهو ثابت بنفسه ، وما لا يثبت بنفسه ليس في معناه ، فلا يلحق به ، وإذاً لا يجوز المسح على ما يسقط من الرجل ، أولًا يثبت إلا بالشد ، وفي معنى ذلك اللفافة على المنصوص ، والمجزوم به عند الأصحاب ، وحكى ابن عبدوس رواية بالجواز بشرط قوتها وشدّتها ، وبعض الأصحاب تخريجاً بشرط مشقة النزع ، وابن تميم وجهاً مطلقاً . أه ، أما إن ثبت الخف ونحوه بنفسه لكن لولا الشد أو الشرج لبدا بعضه ، فوجهان ( الجواز ) اختيار ابن عبدوس ، وأبي البركات ، ( والمنع ) اختيار الآمدي ، وفي معنى ذلك الزربول الذي له آذان .
____________________
(1/116)
( الشرط الثالث ) : إمكان المشي فيه ، فلو تعذر لضيقه ، أو ثقل حديده ، أو تكسيره كرقيق الزجاج ونحو ذلك ، لم يجز المسح ، إذ ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص .
( الشرط الرابع ) : كونه مباحاً ، فلا يصح على حرير ، ومغصوب ، وخرج القاضي وابن عبدوس ، والشيرازي ، والسامري ؛ الصحة على الصلاة في ذلك ، وأبى ذلك الشيخان ، وصاحب التلخيص ، وقال : إنه وهم ، إذ الرخص لا تستباح بمحرم ، نعم من اضطر إلى ذلك ، كمن كان في بلد ثلج ، وخاف سقوط أصابعه ، أجزأه المسح عليها ، قاله السامري واختلف في شرطين آخرين ( أحدهما ) : هل من شرطه كونه معتاداً فلا يجوز على الخشب ، والزجاج ، والنحاس ؟ وهو اختيار الشيرازي ، أو لا يشترط ، وهو اختيار القاضي ، وأبي الخطاب ، وأبي البركات ؟ على قولين ، ( الثاني ) : هل يشترط طهارة عينه ؟ فيه وجهان ، يظهر أثرهما فيمن لبس جلد كلب أو ميتة في بلد ثلج ، وخشي سقوط أصابعه ، ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام أبي محمد لا يشترط ، للإِذن فيه إذاً ، ونجاسة الماء حال المسح لا تضر ، كالجنب إذا اغتسل وعليه نجاسة لا تمنع وصول الماء ، على أحد القولين ، ( والثاني ) وهو اختيار ابن عقيل ، وابن عبدوس ، وأبي البركات يشترط ، لأنه منهي عنه في الأصل ، وهذه ضرورة نادرة ، وإذاً يتيمم للرجلين ، فإن كان طاهر العين ، لكن بباطنه أو بقدمه نجاسة لا تزال إلا بنزعه ، فقال كثيرون : يخرج على روايتي الوضوء قبل الاستنجاء ، وفرق أبو البركات بأن نجاسة المحل ثم لما أوجبت الطهارتين جعلت إحداهما تابعة للأخرى ، وهذا معدوم هنا ، وهذه الشروط قد تؤخذ من كلام الخرقي ، لخروج كلامه على خف معتاد ، ماعدا شرطي الحل ، وطهارة العين ، والله أعلم .
قال : وهما العظمان الناتئان .
ش : قد تقدم أن الكعبين هما العظمان [ النائتان ] ، في ( باب فرض الطهارة ) وتقدم الدليل عليه ، فلا حاجة إلى إعادته ، والله أعلم .
قال : وكذلك الجورب الصفيق ، الذي لا يسقط إذا مشى فيه .
ش : لما كان الخف المعتاد من شأنه أن يكون صفيقاً ، لا يسقط إذا مشى فيه ، لم يصرح بذكر هذين الشرطين فيه ، ولما كان الجورب وهو غشاء من صوف ، يتخذ للدفأ يستعمل تارة وتارة كذا ، صرح باشتراط ذلك فيه ، وقد تقدم بيان هذين الشرطين عن قرب ، والكلام الآن في جواز المسح على الجورب في الجملة .
281 والأصل فيه ما روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله توضأ ومسح على الجوربين والنعلين . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، لكن الأكابر
____________________
(1/117)
قد أشاروا إلى شذوذه ورده ، فقال ابن المديني : رواه هزيل ، وخالف الناس وقال ابن معين : الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس ونحوه قال إمامنا رحمه الله في رواية ابنه عبد الله ، وقال مسلم : أبو القيس ، وهزيل يعني راويا الحديث لا يحتملان هذا مع مخالفتهما للأجلة الذين رووا عن المغيرة ، فقالوا : مسح على الخفين . وقال أبو داود : وكان ابن مهدي لا يحدث به ، لأن المعروف عن المغيرة الخفين . ( قلت ) : وهذا كله لا ينبغي أن يرد به الحديث ، إذ لا مانع من رواية المغيرة اللفظين معاً ، ولهذا قال به أحمد ، وبنى عليه مذهبه ، ثم قد عضده فعل الصحابة ، فقال أحمد [ في رواية الميموني ] : قد فعله سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله [ ] .
282 وقال ابن المنذر : يروى عن تسعة من أصحاب رسول الله ، علي ، وعمار ، وابن مسعود ، وأنس ، وابن عمر ، والبراء ، وبلال ، وابن أبي أوفى ، وسهل بن سعد ، وقال أبو داود : روى عن [ عمرو ] ابن عباس . وقال البيهقي : روي عن أبي أمامة ، وعمرو بن حريث ، فهؤلاء ثلاثة عشر صحابياً ، غالبهم من أكابر فقهاء الصحابة المعتبرين . اه .
وقد شمل كلام الخرقي المجلد والمنعل [ وغيرهما ] ، وصرح به غيره ، وشمل أيضاً جورب الخرق ، وهو المشهور من الروايتين ، واختيار الشيخين ، ( والثانية ) : وجزم بها في التلخيص ليس له ذلك في جورب الخرق ، والله أعلم .
قال : فإن كان يثبت بالنعل مسح عليه ، فإذا خلع النعل انتقضت الطهارة .
ش : إذا كان الجورب لا يثبت إلا بالنعل جاز له المسح ، لأن الشرط الثبوت وقد وجد ، مع أن ذلك قد روى عن بعض الصحابة ، وقد يتخرج المنع من قول الآمدي في الخف المشرج ، وقد تقدم ، ومتى خلع [ النعل ] انتقضت الطهارة ، لزوال الشرط ، والأولى أن يمسح على الجورب والنعل ، كما هو ظاهر الحديث ، ويمسح من النعل سيوره التي على ظهر القدم ، دون أسفله وعقبه كالخف ، فإن اقتصر على قدر الواجب من أحدهما فقال القاضي وهو ظاهر كلام صاحب التلخيص فيه : لا يجزئه ، لمخالفته ظاهر الحديث ، وظاهر كلام أحمد على ما قال أبو البركات الأجزاء لأنهما [ قد ] جعلا كالشيء الواحد ، وقيل بالإجزاء على الجورب دون النعل ، والله أعلم .
قال : وإذا كان في الخف خرق يبدو منه بعض القدم لم يجزه المسح عليهما .
ش : قد تقدم هذا الشرط عن قرب ، ونزيد هنا بأن مقتضى كلام الخرقي أن ظهور بعض القدم كظهور القدمين ، ثم قوله : خرق يبدو منه بعض القدم . يخرج منه خرق لا يبدو شيء من القدم لانضمامه ونحو ذلك ، فإنه لا يمنع من المسح ، ونص عليه أحمد ، والله أعلم .
____________________
(1/118)
قال : ويمسح على ظاهر القدم .
283 ش : لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله يمسح على الخفين ، على ظاهرهما . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه .
284 وعن علي كرم الله وجهه : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، لقد رأيت رسول الله يمسح على ظاهر خفيه . رواه أبو داود ، وقدر الواجب في المسج جميع ظاهر الخف ، وهو مشط القدم ، إلى ظهر العرقوب ، قاله الشيرازي ، وقدر ذلك ابن البنا بقدر الناصية ، وظاهر كلام أحمد وعليه الجمهور أن الواجب أكثر ظهر القدم .
385 لما روى جابر رضي الله عنه قال : مر رسول الله برجل وهو يغسل خفيه ، فقال بيديه ، كأنه دفعه : ( إنما أمرت بالمسح هكذا ) من أعلى أطراف الأصابع ، إلى أصل الساق ، خططا بالأصابع ، ورواه ابن ماجه ، وقال : وفرق الأصابع وصفة المسح المسنون أن يضع يده مفرجة الأصابع ، على أطراف أصابع رجليه ثم يجرهما إلى ساقه مرة واحدة ، اليمين باليمين ، واليسرى باليسرى ، قال في البلغة : ويسن تقديم اليمين .
286 وقد روى البيهقي في سننه بسنده ، عن المغيرة رضي الله عنه أن رسول الله مسح على خفيه ، وضع يده [ اليمين ] على خفه الأيمن ، ويده اليسرى على خفه الأيسر ، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة ، كأني أنظر إلى أصابع رسول الله على الخفين . وظاهر هذا أنه لم يقدم إحداهما على الأخرى ، وكيفما مسح أجزأه ، كما في الرأس ، نعم لو مسح بخرقة أو خشبة ففي الأجزاء احتمالان ، والله أعلم .
قال : فإن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزئه .
ش : لظاهر ما [ تقدم ] من الأحاديث قبل ، وظاهر كلام الخرقي أنه لو مسح أسفله وأعلاه أجزأه ، وهو كذلك ، لإِتيانه بالمقصود وزيادة ، نعم هل يسن ذلك وهو ظاهر قول ابن أبي موسى أو لا يسن وهو ظاهر كلام الخرقي ، ومنصوص الإِمام ، وعليه العامة ، [ اتباعاً ] لظواهر الأحاديث ؟ على قولين ومن ثم لا يسن استيعابه ، ولا تكرار مسحه ، وكره غسله ، وبالغ القاضي فقال بعدم الأجزاء مع الغسل ، لعدوله عن المأمور ، وشيخه نظر إلى أنه أتى بالأبلغ ، فاجتزى بذلك ، وتوقف الإِمام والحال هذه ، والله أعلم .
____________________
(1/119)
قال : والرجل والمرأة في ذلك سواء .
ش : أي فيما ذكر من المسح على الخف : والجورب ، ونحوهما ، وشرائطهما ، لأن ذلك معتاد لها ، فكان حكمها فيه حكم الرجل ، وخرج بذلك العمامة ، ولأنه مسح أقيم مقام الغسل ، فاستويا فيه كالتيمم ، والله أعلم .
قال :
( باب الحيض )
ش : الحيض مصدر : حاضت المرأة تحيض ، حيضاً ومحاضاً ومحيضاً ، فهي حائض ، وحائضة في [ لغة ] ، وتحيضت : قعدت أيام عادتها عن الصلاة .
وأصله [ من ] السيلان ، يقال : حاض الوادي ؛ إذا سال ، والحيض دم يرخيه الرحم عند البلوغ ، في أوقات معلومة ، لحكمة تربية الولد ، فعند الحمل ينصرف ذلك الدم بإذن الله تعالى إلى تغذية الولد ، ولذلك لا تحيض الحامل ، وعند الوضع يخرج ما فضل عن غذاء الولد من ذلك الدم ، ثم يقلبه الله تعالى لبناً يتغذى به الولد ، ولذلك قل ما تحيض المرضع ، فإذا خلت من حمل ورضاع بقي ذلك الدم لا مصرف له في محلة ، ثم يخرج غالباً في كل شهر ستة أيام أو سبعة ، وقد يزيد على ذلك ويقل ، ويطول ويقصر ، على حسب ما ركبه الله في الطباع ، والله أعلم .
قال : وأقل الحي يوم وليلة .
ش : هذا [ هو ] المشهور من الروايتين ، والمختار للعامة قال ابن الزاغوني : اختارها عامة المشايخ . والثانية : أقله يوم . اختارها أبو بكر على ما حكاه [ عنه ] جماعة ، والذي في التنبيه يوم وليلة ، وقد قيل يوم ، والأصل في ذلك عدم التقدير من الشرع ، قال : ( إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة ، فإذا ذهب قدرها فاغتسلي [ وصلي ] ولم يقيد ذلك بقدر ، بل وكله إلى ما تعرفه من عادتها ، وما لا تقدير فيه من الشرع المرجع فيه إلى العرف ، إذ الشارع إنما ترك تقديره لذلك ، وإلا يكون أهمل حكمه ، وأنه لا [ يجوز ] وأهل العرف قد ورد عنهم ذلك .
287 ( فعن ) [ عطاء ] : رأيت من النساء من كانت تحيض يوماً ، ومن كانت تحيض خمسة عشر يوماً . ( وعن : الشافعي [ رحمه الله ] : رأيت امرأة قالت : إنها لم تزل تحيض [ يوماً لا يزيد ] ، وقال لي عن نساء : إنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام ، ( وعن ) ابن مهدي ، عن امرأة أنها قالت : حيضي يومان . وعن إسحاق : صح في زماننا عن غير واحدة أنها قالت : حيضي يومان فثبت بنقل هؤلاء الأئمة الأعلام أن في النساء جماعة يحضن يوماً ، ويومين ، فمن قال باليوم دون ليلته أخذ بظاهر [ إطلاق ] اليوم ، ويؤيده قول الأوزاعي : عندنا امرأة تحيض بكرة ، وتطهر عشية . ومن اعتبر اليوم مع ليلته قال : إنه المفهوم من إطلاق اليوم ، ومن ثم قال القاضي في الروايتين : يمكن حمل قول أحمد :
____________________
(1/120)
أقله يوم . [ أي ] : بليلته ، فتكون المسألة رواية واحدة ، وهذه طريقة الخلال ، وما حكاه الأوزاعي فعن امرأة واحدة ، ومثله لا يثبت حكماً شرعياً في حق سائر النساء ، وما نقل من التقدير بثلاثة أيام ، ( فإما ) صريح غير صحيح .
288 كما روى عنه أنه قال : ( أقل الحيض ثلاثة يام ، وأكثره عشرة أيام ) رواه الدارقطني وغيره من طرق وروي أيضاً عن بعض الصحابة ، لكن كلها ضعيفة ، بل فيها ما قيل : إنه موضوع . قال أحمد [ رحمه الله ] في رواية الميموني : ) ما صح عن أحد من أصحاب النبي أنه قال في الحيض : عشرة أيام ، أو خمسة عشرة . ( وإما ) صحيح غير صريح ، كقوله للمستحاضة : ( لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن ) .
289 وقوله لفاطمة بنت أبي حبيش : ( اجتنبي الصلاة أيام حيضك ) رواه أحمد وأقل الجمع ثلاثة ، فهذا ونحوه مما خرج على الغالب ، إذ الغالب أن حيض النساء أكثر من اليوم ، بل ومن الثلاثة أيام ، والله أعلم .
قال : وأكثره خمسة عشر يوماً .
ش : هذا هو المذهب أيضاً ، والمشهور من الروايتين ، لما تقدم عن عطاء ، ونقل ذلك [َيضاً ] عن الشافعي وإسحاق ، ويحيى بن آدم ، وشريك .
290 ويرشحه ما روى ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي قال : ( ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن . أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ، وأما نقصان دينها فإنها تمكث شطر عمرها لا تصلي ) قال القاضي : رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه . والشطر النصف ، والظاهر أنه أراد منتهى نقصانهن ، وقول البيهقي : إنه لم يجده في شيء من كتب الحديث يرده ما حكاه القاضي ، لكن قال ابن منده : لا يثبت هذا بوجه من الوجوه عن النبي ( والثانية ) : أكثره سبعة عشر يوماً ، لأن ذلك يحكى عن نساء الماجشون ، وحكاه ابن مهدي عن غيرهن ، اه .
ولم يذكر الخرقي أقل الطهر ، فيحتمل أنه لا حد لأقل الطهر عنده ، وهو إحدى الروايات عن أحمد ، رواها عنه جماعة ، قاله أبو البركات ، واختاره بعض الأصحاب ، ولا عبرة بحكاية ابن حمدان ذلك [ قولًا ] ثم تخطئته ، ( والمختار ) في المذهب أن أقله ثلاثة عشر يوماً .
لما رواه أحمد واحتج به عن علي رضي الله عنه أن امرأة جاءت إليه قد طلقها زوجها ، زعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض ، طهرت عند كل قرء
____________________
(1/121)
وصلت ، فقال علي لشريح : قال فيها . فقال شريح : إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ، ممن يرضى دينه وأمانته ، شهدت أنها حاضت في شهر ثلاثاً ، وإلا فهي كاذبة . فقال علي : قالون . أي جيد ، بالرومية ، وثلاث حيض في شهر دليل على أن الثلاثة عشر طهر صحيح يقيناً أما على الإثني عشر وما دونها فمشكوك فيه .
( والرواية الثالثة ) : أقله خمسة عشر يوماً ، لما تقدم من حديث ( تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي ) وزعم أبو بكر في روايتيه أن هاتين الروايتين مبنيتان على أكثر الحيض ، [ فإذا ] قيل : أكثره خمسة عشر . فأقل الطهر خمسة عشر ، وإن قيل : أكثره سبعة عشر . فأقل الطهر ثلاثة عشر . والمشهور عند الأصحاب خلاف هذا ، إذ المشهور أن أكثر الحيض خمسة عشر وأقل الطهر ثلاثة عشر . ثم إنما يلزم هذا [ أن ] لو كانت المرأة تحيض في كل شهر حيضة ، لا تزيد على ذلك ولا تنقص ، وليس كذلك .
( تنبيه ) : غالب الطهر بقية الشهر ، ( واللب ) العقل ، والله أعلم .
قال : فمن طبق بها الدم ، وكانت ممن تميز ، فتعليم إقباله ، بأنه أسود ثخين منتن ، وإدباره بأنه رقيق أحمر ، تركت الصلاة في إقباله ، فإذا أدبر اغتسلت ، وتوضأت لكل صلاة وصلت ، وإن لم يكن دمها منفصلًا ، وكانت لها أيام من الشهر تعرفها ، أمسكت عن الصلاة فيها ، واغتسلت إذا جاوزتها ، وإن كانت لها أيام أنسيتها ، فإنها تقعد ستاً أو سبعاً في كل شهر .
ش : لما ذكر رحمه الله تعالى أكثر الحيض ، أراد أن يبين حكم المرأة إذا زاد دمها على ذلك ، فقال : من طبق بها الدم . أي استمر بها ، وجاوز الخمسة عشر يوماً ، وهذه هي المستحاضة ، التي قال فيها رسول الله : ( إن ذلك عرق ، وليس بالحيضة ) أي أن دمها يسيل من عرق ، وليس هو دم الحيض ، وهذا العرق يسمى ( العاذل ) بالمعجمة ، ويقال بالمهملة ، حكاهما ابن سيده ، ( والعاذر ) لعة فيه .
والمستحاضة على ضربين ، مبتدأة [ ومعتادة ] وغيرهما لها أربعة أحوال ، وهذه التي كلام الشيخ فيها ( الحال الأولى ) المميزة ، وهي التي [ لها ] دمان ، أحدهما أقوى من الآخر ، كأن [ يكون ] أحدهما ثخين منتن ، والآخر رقيق أحمر ، أو أحدهما أحمر مشرق ، والآخر دونه ، ونحو ذلك ، ( الثانية ) ن تكون معتادة ، وهي التي لها أيام من الشهر تعرفها ، وشهر المرأة ما اجتمع لها فيه حيض وطهر ، وأقل ذلك على المذهب أربعة عشر يوماً ، ( الحالة الثالثة ) أن تكون معتادة ومميزة ، بأن يكون لها أيام من الشهر تعرفها ، ثم استحيضت ، فصار لها دمان ، أحدهما أقوى من الآخر . ( الحال الرابعة ) عكسها ، وهي من لا عادة لها ولا تمييز .
إذا عرف هذا فلا نزاع عندنا أنه متى انفرد التمييز عمل به ، فتجلس زمن الدم الأقوي .
____________________
(1/122)
292 لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي ، فقالت : إني امرأة استحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ قال : ( لا ، إنما ذلك عرق ، وليس بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ) وظاهره إناطة الحكم بإقبال الحيضة وإدبارها ، من غير نظر إلى عادة .
293 وأصرح من ذلك ما روي عن عروة بن الزبير ، عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض ، فقال لها النبي : ( إذا كان دم الحيض ، فإنه أسود يعرف ، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة ، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي ، فإنما هو عرق ) رواه أبو داود ، والنسائي .
294 وروى البيهقي في سننه عن مكحول ، عن أبي أمامة رضي الله عنه ، قال رسول الله : ( دم الحيض أسود خاثر ، تعلوه حمرة ، ودم المستحاضة أصفر رقيق ) لكنه مرسل ، إذ مكحول لم يسمع من أبي أمامة ، قال الدارقطني : مع أن في سنده مجهولًا وضعيفاً ، نعم ذكر ذلك أبو داود عن مكحول من قوله ، وأيضاً فإن مع الاشتباه يرجع إلى الصفات ، كما لو اشتبه المني بالمذي ، ونحو ذلك ، ( ويشترط ) للعمل بالتمييز أن لا ينقص الأقوى عن أقل الحيض ، ولا يزيد على أكثره ، وأن يكون بين الدمين القويين أقل الطهر ، قلت : إن قلنا : لأقله حد . وهل يشترط كون مجموع الدمين الأقوى والأضعف لا يزيدان على أكثر من شهر ؟ فيه وجهان ، أصحهما : لا يشترط ، إذ أكثر الطهر لا حد له ، والثاني : يشترط ، نظراً لغالب عادات النساء ، ومتى اختل شرط من ذلك فكأن لا تمييز . اه .
ولا نزاع أيضاً أنه متى انفردت العادة عمل بها .
295 لما روت عائشة رضي الله عنها ، أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله الدم ، فقال لها : ( امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ، ثم اغتسلي ) فكانت تغتسل عند كل صلاة ، رواه مسلم .
296 وعن أم سلمة أنها استفتت رسول الله في امرأة تهراق الدم ، فقال : ( لتنظر قدر الأيام والليالي التي كانت تحيضهن ، وقدرهن من الشهر ، فتدع الصلاة ، ثمّ لتغتسل ، ولتستثفر ولتصل ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وقال أحمد في رواية المروذي ، وإسحاق بن إبراهيم ، وغيرهما : الحيض يدور عندي على ثلاثة
____________________
(1/123)
أحاديث ، حديث فاطمة بنت أبي حبيش ، وحديث حمنة بنت جحش ، وحديث سليمان ابن يسار ، وهو حديث أم سلمة . اه ورلا تثبت العادة إلا بتكرار مرتين على رواية ، لوجود المعاودة ، وعلى أخرى وهي المذهب ، واختيار الخرقي [ رحمه الله ] ، وقال ابن الزاغوني : إنها اختيار عامة المشايخ لا بد من تكرار ثلاثاً ، لظاهر ما تقدم ، إذ ( كان ) في مل هذا التركيب إنما تستعمل في ما دام وتكرر ، وهل يعتبر التكرار في التمييز ، حيث يعمل به ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وهو اختيار القاضي والآمدي نعم ، كالعادة بل أولى ، إن قلنا : تقدم عليه . لأنه إذا اعتبر في الأقوى ، ففي الأضعف أولى ( والثاني ) : وهو ظاهر كلام الإِمام والخرقي واختيار ابن عقيل لا ، لأن النص دل على الرجوع إلى صفة الدم مطلقاً . أه . وإن اجتمعت العادة والتمييز فروايتان ( إحداهما ) يقدم التمييز على العادة ، فتعمل عليه وتتركها ، وهي ظاهر كلام الخرقي ، لقوله : وكانت ممن تميز . وهو شامل لما إذا كان لها عادة ، ثم قال : وإن لم يكن دمها منفصلًا . أي بعضه من بعض ، بل كان كله شيئاً واحداً ، فلم ينقلها للعادة إلا عند عدم التمييز ، وذلك لأن التمييز أمارة قائمة في نفس الدم ، موجودة حال الاشتباه ، فقدم على العادة لانقضائها ، وتحمل أحاديث العادة على من لا تمييز لها ( والثانية ) تقدم العادة ، وهو اختيار الجمهور ، لورودها في غالب الأحاديث من غير تفصيل ، وجعلهن كلهن غير مميزات فيه بعد ، ولم يرد العمل بالتمييز إلا في حديث فاطمة المتقدم ، وحديثها الذي في الصحيح ليس فيه تصريح بذلك .
297 بل في الصحيح من حديث عائشة ، رضي الله عنها أن النبي قال لها : ( ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي ) فردها إلى العادة ، وقد نقل حرب عن أحمد أنها نسيت أيامها فالظاهر أنه ردها للتمييز حين ذكرت أنها ناسية . أه .
وإن عدمت العادة والتمييز ، وهي التي كانت لها أيام فأنسيتها ودمها غير متميز ، وتلقب ( بالمتحيرة ) ، وهي التي قد تحيرت في حيضها ، ولها ثلاثة أحوال ( أحدهما ) أن تنسى وقتها وعددها ، وهذه [ التي ] قال الخرقي : إنها تجلس ستاً أو سبعاً ، نظراً لغالب عادات النساء .
298 كما قد صرح بذلك في حديث حمنة بنت جحش ، وسألت النبي عن استحاضتها ، فقال : ( إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان ، فتحيضي ستة أيام ، أو سبعة أيام في علم الله تعالى ، ثم اغتسلي ، حتى إذا رأيت أن قد طهرت ، واستنقأت فصلي أربعاً وعشرين ليلة ، أو ثلاثة وعشرين ليلة وأيامها ، وصومي ، فإن ذلك يجزئك ، وكذلك فافعلي كل شهر ، كما تحيض النساء وكما يطهرن ، لميقات حيضهن
____________________
(1/124)
[ وطهرهن ] ) مختصر ، رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي وقالا : حسن صحيح ( وهذا ) إحدى الروايتين ، وهو المختار للأصحاب ( والثانية ) : تجلس الأقل ، لأنه المتيقن ، وخرج القاضي فيها ( رواية ثالثة ) من المبتدأة أنها تجلس الأكثر ( ورابعة ) من المبتدأة أيضاً ، أنها تجلس عادة نسائها ، وهي الرواية الثانية التي في الكافي ، وجعل الأقل مخرجاً ، وهو سهو ، وإنما الأقل منصوصاً ، وكذلك الأول .
وعلى كل حل ففي وقت إجلاسها وجهان ( أحدهما ) وهو المشهور أنها تجلس من أول [ كل ] شهر ، لظاهر حديث حمنة [ والثاني ) واختاره أبو بكر ، وابن أبي موسى تجلس بالتحري ، لأنه أمارة مغلبة على الظن ، ورؤوس الأهلة لا تأثير لها عقلًا ولا عرفاً ، بل ولا شرعاً في ابتداء الحيض ، وفصل أبو البركات فقال : إن طال عهدها بزمن افتتاح الدم ، ونسيته ، جلست بالتحري ، في أصح الوجهين ، وإن ذكرت زمن افتتاح الدم ، كمعتادة انقطع عنها الحيض ، ثم جاءها الدم في خامس يوم من الشهر ، واستمر ، فهذه تحيض من خامس الشهر لا بالتحري على أصح الوجهين ، ( الحال الثاني ) : من أحوال الناسية أن تذكر العدد وتنسى الوقت ، كأن قالت : حيضي خمسة أيام [ من ] النصف الأول ، ولا أعلم هل هي الأولى أو الثانية ، أو الثالثة ، فهذه تجلس خمسة [ أيام ] بلا ريب ، لكن هل تجلسها بالتحري ، أو بالأولوية ؟ وصححه أبو البركات ، فيه وجهان ، ومتى تعذر أحدهما عمل بالآخر . أه ، وكل موضع أجلسناها بالتحري ، أو بالأولوية فإنها تحيض من كل شهر حيضة ، لخبر حمنة ، إلا أن تذكر لها وقتاً من الطهر بين الحيضتين يخالفه ، فإنها تبنى عليه ، ( الحال الثالث ) تذكر الوقت وتنسى العدد كأن تقول : كنت أحيض من خامس الشهر ، لكن لا أعرف قد ذلك . فإنها تحيض من الخامس الغالب أو الأقل ، على الروايتين المنصوصتين ، والأكثر أو عادة نسائها على المخرجتين ، وحيث قلنا : تجلس الناسية ستاً أو سبعاً . فإن ذلك تخيير اجتهاد أو تحر ، على أصح الوجهين ، كما في قوله تعالى : 19 ( { فإما منا بعد وإما فداء } ) وعلى الثاني تخيير مطلق ، نظراً لظاهر ( أو ) كما في كفارة اليمين ونحوها .
إذا عرف هذا فالمستحاضة [ في ] الأيام المحكوم بحيضها فيها حكمها [ فيها ] حكم الحيض في جميع أحكامها ، قال لفاطمة : 19 ( ( إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة ) ) فإذا انقضى ما حكم بحيضها فيه فهي إذاً في حكم الطاهرات فيلزمها الغسل ، والعبادات وغير ذلك ، كما قال لفاطمة أيضاً : ( فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي ) وفي رواية ( فاغتسلي وصلي ) إلا أن في وطئها خلافاً كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ويلزمها أن تتوضأ لوقت كل صلاة ، على المشهور من الروايتين والمختار لجمهور الأصحاب .
299 لأن في حديث حمنة : أنها كانت تهراق الدم ، وأنها سألت رسول
____________________
(1/125)
الله ، فأمرها أن تتوضأ لوقت كل صلاة . رواه ابن بطة بإسناده ، وتصلي بوضوئها ما شاءت من فرائض ونوافل ، ما لم يخرج الوقت ، كما تجمع بين فرض ونفل اتفاقاً ، ( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي تتوضأ لكل فريضة .
300 لأن في حديث فاطمة : ( وتوضئي لكل صلاة ) رواه البيهقي مرسلًا ومتصلًا ، وقال : الصحيح أنه من قول عروة .
301 وعن عدي بن ثابت . عن أبيه ، عن جده ، عن النبي ، في المستحاضة ( تدع الصلاة أيام أقرائها . ثم تغتسل وتصلي ، والوضوء عند كل صلاة ) رواه الترمذي ، وأبو داود وضعفه ، ورواه البيهقي ، وقال : ( وتتوضأ لكل صلاة ) .
302 وعن جابر أن النبي أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة ، وقد جاء عن عائشة أيضاً أنها قالت : تتوضأ لكل صلاة . وفي رواية عنها : عند كل صلاة . رواهما البيهقي ( فعلى الأولى ) يبطل وضوءها بخروج الوقت ودخوله ، على ظاهر كلام أحمد ، واختيار القاضي ، وعلى اختيار أبي البركات لا يبطل إلا بالدخول وتنوي استباحة الصلاة ، لا رفع الحدث ، فإن نوته فقال في التلخيص : لا أعلم لأصحابنا فيه قولًا ، وقياس المذهب أنه لا يكفي ، لتعذر رفعه للحدث الطارئ ولا يشترط تعيين النية للفرض ، على ظاهر قول الأصحاب ، قاله أبو البركات ، إذ هذه الطهارة ترفع الحدث الذي أوجبها .
ويلزمها قبل الوضوء أن تغسل فرجها وتعصبه ، وتسد محل الدم ما أمكن .
303 لما تقدم من قوله لأم سلمة في حق المستحاضة ( لتستثفر بثوب ) .
304 وقال لحمنة : ( أنعت لك الكرسف ، فإنه يذهب الدم ) قالت : إنه أكثر من ذلك . قال : ( فاتخذي ثوباً ) قالت : هو أشد من ذلك . قال : ( فتلجمي ) فإن غلب الدم ، وخرج بعد إحكام [ الشد ] والتلجم لم يضرها ذلك .
305 لأن في حديث فاطمة أن النبي قال لها : ( اجتنبي الصلاة أيام محيضك ، ثم اغتسلي ، وتوضئي لكل صلاة ، وصلي وإن قطر الدم على الحصير ) رواه أحمد ، وابن ماجه ، وهل يلزمها إعادة الشد ، وغسل الفرج لوقت كل صلاة كما في الوضوء ؟ فيه وجهان ، أصحهما لا يجب ، والأولى أن تصلي عقب الطهارة ، نعم
____________________
(1/126)
لها التأخير لبعض مصالح الصلاة ، من انتظار جماعة ، وأخذ سترة ونحو ذلك ، فإن أخرت لغير مصلحة فوجهان .
( تنبيه ) : قوله : ( إنما ذلك عرق ) قد تقدم أن هذا العرق يسمى : ( العاذل ) ( والعاذر ) ، قال القرطبي : أي عرق انقطع . وقوله : ( خاثر ) . أي ثخين . ( وتهراق الدم ) أي يجري دمها كما يجري الماء وقوله : ( ركضة ) من ركضات الشيطان ، أي أن الشيطان قد حرك هذا الدم الذي ليس بدم حيض ، و ( الكرسف ) القطن ، ( وتلجمي ) ، التلجم كالاستثفار ، وهو أن تشد المرأة فرجها بخرقة عريضة ، توثق طرفيها في شيء آخر قد شدته على وسطها ، بعد أن تحتشي قطناً ، فتمنع بذلك الدم أن يجري أن يقطر ، ( والاستثفار ] مأخوذ من ثفر الدابة ، لأنه يكون تحت ذنب الدابة ، قيل : وأصله للسباع ، وإنما استعير ، ( وتحيضي ) أي اقعدي أيام حيضتك ، والله أعلم .
قال : والمبتدأ بها الدم تحتاط ، فتجلس يوماً وليلة [ وتغتسل ] وتتوضأ لكل صلاة وتصلي ، فإن انقطع الدم في خمسة عشرة يوماً اغتسلت عند انقطاعه ، وتفعل مثل ذلك ثانية وثالثة ، فإن كان بمعنى واحد عملت عليه ، وأعادت الصوم إن كانت صامت في هذه الثلاث مرات لفرض .
ش : الجارية إذا رأت الدم في زمن يصلح لكونه حيضاً وأقله استكمال تسع سنين على المذهب أو اثنتي عشرة سنة على رواية فإنها تترك له الصوم والصلاة ، وغيرهما مما تشترط له الطهارة ، ويعطى حكم الحيض ، لأن الحيض دم جبلة وعادة ، وهو ( شيء كتبه الله على بنات آدم ) ، وقد وجد سببه فاعتمد ذلك ، وكوه دم فساد الأصل عدمه ، ثم إن انقطع لأقل من أقل الحيض ، فقد تبين أنه دم فساد ، فتعيد ما تركته من الصلاة ، وإن انقطع لأقل الحيض وهو يوم على رواية ، ويوم وليلة على المذهب فهو حيض جزماً فتغتسل إذاً ، وتفعل ما تفعله الطاهرات بلا ريب ، وإن جاوز الأقل فإنها تجلس يوماً وليلة فقط ، على المشهور والمنصوص في رواية صالح ، وعبد الله ، والمروذي ، والمختار للأصحاب ، احتياطاً للعبادة ، كما أشار إليه الخرقي ، إذ الزائد على الأقل محتمل للحيض والاستحاضة ، ولم يوجد تكرار يرجح أحدهما ، فالأحوط أن لا يجعل حيضاً . ( وعنه ) : تجلس الزائد ما لم يجاوز [ أكثر ] الحيض ، لصلاحيته لذلك ، ( وعنه ) : تجلسه إلى تمام ست أو سبع ، عملًا بغالب عادة النساء ، ( وعنه ) : تجلسه إلى امام عادة نسائها ، كأختها ، وأمها ، وعمتها ، وخالتها ، إذ الظاهر شبهها بهن ، هذه طريقة أبي بكر ، وابن أبي موسى ، وابن الزاغوني ، والشيخين في شرحيهما ، وغير واحد من الأصحاب ، وهي ظاهر كلام أحمد في رواية جماعة ، وطريقة القاضي وابن عقيل في تذكرته ، والشيخين في مختصريهما ، وطائفة أن المبتدأة لا تجلس فوق الأقل بلا نزاع ، وإنما محل الخلاف
____________________
(1/127)
فيما إذا تبين أنها مستحاضة ، ( وشذ أبو محمد ) في الكافي ، فجعل [ في ] المبتدأة أول ما ترى الدم الروايات الأربع ، وقال فيما إذا تبين أنها مستحاضة أنها تجلس غالب الحيض ، ثم قال : وذكر أبو الخطاب فيها الروايات الأربع . ( وهو سهو ) فإنه لا نزاع نعلمه بين الأصحاب في جريان الروايات الأربع في المبتدأة المستحاضة ، وإنما النزاع في جريانهن فيها أول ما ترى الدم .
إذا عرف هذا ، وقلنا على المذهب : إنها [ إنما ] تجلس الأقل . فإنها تغتسل عقبه ، وتصوم ، وتصلي ، ولا يطؤها زوجها احتياطا ، ثم إن انقطع لأكثر الحيض فما دون اغتسلت غسلًا ثانياً عند انقطاعه ، لجواز كون الجميع حيضاً ، وتفعل مثل ذلك في الشهر الثاني ، والثالث ، فإذا كان في الأشهر الثلاثة بمعنى واحد ، أي على أسلوب واحد ، وقدر واحد ، تبينا أن الجميع عادة لها ، وأنه حيض ، وإذاً تجلسه جميعه في الشهر الرابع ، وهذا على المذهب كما تقدم [ من ] كون العادة لا تثبت إلا بثلاث ، أما على الرواية الأخرى فتجلسه في الشهر الثالث ، لوجود شرط العادة وهو التكرار ، ثم قد تبينا أنها كانت حائضاً في تلك الأيام ، فلا تعتد بما فعلته فيها مما يشترط له الطهارة ، من صلاة ، وصوم ، واعتكاف ، وطواف ، وإذاً يلزمها قضاء الواجب من ذلك لتبين عدم صحته ، وبقائه في ذمتها ، عدا الصلاة فإنها لا تجب على حائض ، والله أعلم .
قال : فإن استمر بها الدم ، ولم يتميز قعدت من كل شهر ستاً أو سبعاً ، لأن الغالب من النساء هكذا يحضن .
ش : إذا استمر بالمبتدأة الدم ، بأن جاوز أكثر الحيض ، فهذه هي المستحاضة المبتدأة ، ولها حالتان ( إحداهما ) : أن يكون لها تمييز معتبر ، فتعمل عليه بلا ريب ، لكن في اشتراط التكرار له كما يشترط للعادة ( وجهان ) تقدما ، ( الثانية ) لا تمييز لها أصلًا ، أو لها تمييز غير معتبر ، فهذا في قدر ما تجلسه الروايات الأربع السابقة ، والمذهب منهن الذي اختاره الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، وجمهور أصحابه ، والشيخان ، وغير واحد ، أنها تجلس غالب الحيض ستاً أو سبعاً كما تقدم ، عملًا بالغالب ، وللاتفاق على أنها ترد إلى غالب الحيض وقتا ، بأن تحيض من كل شهر حيضة ، فلذلك ترد إلى الغلب قدراً ، وتفارق المبتدأة أول ما ترى الدم في كونها تجلس الأقل ، من حيث إنها أول ما ترى الدم ترجو انكشاف أمرها عن قرب ، ولم يتيقن لها دم فاسد ، وإذا تبين استحاضتها فقد اختلط الحيض بالفاسد يقينا ، ولا حالة لها قريبة تنتظر ، فلذلك ردت إلى الغالب ، اعتماداً على الظاهر ، واختار أبو بكر ، وابن عقيل في تذكرته أنها تجلس الأقل ، كقوليهما ، وقول غيرهما من الأصحاب في حال الابتداء .
ثم هل تثبت استحاضتها بدون التكرار ، فيه وجهان ، ( أحدهما ) : وهو اختيار القاضي لا تثبت ، وإذاً تجلس قبل التكرار [ الأقل على المذهب ، وعند القاضي بلا خلاف ، ( والثاني ) وهو اختيار أبي البركات تثبت بمجرد مجاوزة الدم الأكثر ، لظاهر
____________________
(1/128)
حديث حمنة ، وعلى هذا تجلس في الشهر الثاني غالب الحيض على المختار ، وأما الشهر الأول فلا تجلس منه إلا ] الأقل على المذهب بلا ريب ، لأن استحاضتها فيه غير معلومة ، والله أعلم .
قال : والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض .
ش : الصفرة والكدرة في أيام الحيض وهو زمن العادة من الحيض ، لعموم قول الله تعالى : 19 ( { فاعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن } ) ومن رأت صفرة أو كدرة في [ أيام ] العادة صدق عليها أنها لم تطهر .
306 وعن مرجانة مولاة عائشة رضي الله عنها قالت : كانت النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة ، فيها الكرسف ، فيه الصفرة من دم الحيضة ، يسألنها عن الصلاة . فتقول : لا تعجلن ، حتى ترين القصة البيضاء . تريد بذلك الطهر من الحيض . رواه مالك في الموطأ .
ومفهوم كلام الخرقي أن الصفرة والكدرة بعد زمن العادة ليس بحيض ، وهو كذلك .
307 لقول أم عطية رضي الله عنها : كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً . رواه أبو داود ، والنسائي .
308 وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر قال : ( إنما هو عرق ، أو إنما هو عروق ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والبيهقي في سننه .
وعموم مفهوم كلام الخرقي يقتضي عدم الالتفات إلى الصفرة والكدرة بعد العادة وإن تكرر ذلك ، وهو المنصوص ، والمختار للشيخين ، اعتماداً على العادة ، وعنه ما يدل وهو اختيار القاضي وابن عقيل ، وصاحب التلخيص [ فيه ] على أنه إن تكرر بعد العادة فهو حيض ، لأن التكرار يجعله كالموجود في العادة .
( تنبيهان ) . ( أحدهما ) : إذا ابتدئت البكر بصفرة أو كدرة فهل تلتفت إليه وهو اختيار القاضي ، كما لو رأته في العادة أو لا تلتفت إليه ، وهو اختيار أبي البركات ، وظاهر كلام الإِمام اعماداً على أنه قول عائشة رضي الله عنها ؟ قال الخطابي : على وجهين .
( الثاني ) : ( الدرجة ) بكسر الدال وفتح الراء والجيم وعاء يحط فيه حق المرأة وطيبها ، والجمع أدراج ، وقيل : هي بضم الدال ، وشكون الراء ، وأصلها شيء يدرج
____________________
(1/129)
أي يلف ، ( والقصة ) معناه أن تخرج الخرقة أو القطنة التي تحتشي بها المرأة كأنها قصة ، لا يخالطها صفرة ولا كدرة ، وقيل : إن القصة شيء كالخيط [ الأبيض ] ، يخرج بعد انقطاع الدم كله ، والله أعلم .
قال : ويستمتع من الحائض بدون الفرج .
ش : لقول الله تعالى : { فاعتزلوا النساء في المحيض } والمحيض اسم لمكان الحيض ، كالمبيت ، والمقيل ، ومصدر : حاضت المرأة حيضاً ومحيضاً ، والمراد هنا والله أعلم الأول ، بقرينة التعليل بكونه أذى ، وذلك يختص بالفرج ، وللإِجماع على جواز القربنان في حال المحيض في الجملة ، وقد شهد لذلك النص .
309 فعن ميمونة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض .
310 وعن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية : اعتزلوا نكاح فروج النساء ، رواه عنه أبو بكر في تفسيره .
311 ولما روى أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسأل أصحاب النبي عن ذلك ، فأنزل الله عز وجل : 19 ( { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ، فاعتزلوا النساء في المحيض } ) الآية ، فقال النبي : ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح ) رواه الجماعة إلا البخاري ، ولفظ النسائي وابن ماجه ( إلا الجماع ) واللام فيه لمعهود ذهني ، وهو الوطء في الفرج ، للإِجماع على جواز القربان فيما عدا محل الإِزار .
312 وقد روى أبو داود عن عكرمة ، عن بعض أزواج النبي ، أن النبي كان إذا أراد من الحائض شيئاً ، ألقى على فرجها ثوباً .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يستمتع [ بها ] في الفرج ] ولا ريب في ذلك لما تقدم ، والله أعلم .
قال : فإن انقطع دمها فلا توطأ حتى تغتسل .
ش : لقوله سبحانه : { ويسألونك عن المحيض ، قل هو أذى ، فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن } أي من الحيض 19 ( { فإذا تطهره } ) أي اغتسلن .
313 كذلك فسرها ابن عباس ، رواه عنه البيهقي ، وإبراهيم الحربي ، وحملا لكل من التطهيرين على فائدة ، على أن الإِمام إسحاق بن راهويه قال : أجمع أهل العلم من التابعين أن لا يطأها حتى تغتسل . وإذا حصل الإِجماع من التابعين فلا عبرة بمن
____________________
(1/130)
بعد اه ويقوم مقام الاغتسال التيمم ، لعدم الماء ، ثم إذا وجد الماء حرم [ عليه ] الوطء ، والله أعلم .
قال : ولا توطأ مستحاضة إلا أن يخاف على نفسه العنت ، [ وهو الزنا ] .
ش : أما مع خوف العنت وهو الزنا فلا نزاع في حل وطء المستحاضة ، دفعا لأعلى المفسدتين بارتكاب ، أدناهما ، ولما فيه من الضرر المستدام ، وألحق ابن حمدان بخوف العنت خوف الشبق . اه ، وأما مع أمن [ ذلك ] فروايتان . ( إحدهما ) : يجوز .
313 لما روى عكرمة عن حمنة أنها كانت تستحاض ، فكان زوجها يجامعها .
315 وأن أم حبيبة كانت تستحاض ، وكان زوجها يغشاها ، رواهما أبو داود .
316 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أباح وطأها ثم إن أم حبيبة كانت تحت عبد الرحمن بن عوف ، كذا في مسلم ، وقد سألت النبي عن حكم الاستحاضة فبينها لها ولم يذكر لها تحريم الجماع ، ولو كان حراماً لبينه لها .
317 وفي حديث مكحول الذي رواه البيهقي عن أبي أمامة أن النبي قال في المستحاضة يغلبها الدم في الصلاة ( فلا تقطع الصلاة وإن قطر ، ويأتيها زوجها ) إلا أنه مرسل وضعيف كما تقدم وعلى هذه هل يكره وطؤها لما فيه من الخلاف ، أو لا يكره إذ الأصل عدم الكراهة ، فيه روايتان .
( والثانية ) : وهي المشهورة عند الأصحاب ، اختارها الخرقي ، وأبو حفص ، وابن أبي موسى ، وغير واحد لا يجوز لقوله تعالى : { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ، فاعتزلوا النساء في المحيض } فمنع سبحانه من الوطء معللًا بكونه أذى وهذا أذى .
318 وعن عائشة رضي الله عنها : المستحاضة لا يغشاها زوجها . وما روى من وطء أم حببة ومن وطء حمنة ففعل لا عموم له ، إذ يحتمل أن ذلك عند خوف العنت ، وحديث أبي أمامة لا تقوم بمثله حجة ، على أنه قد يحمل على ذلك ، وتأخيره للبيان لعدم الحاجة إليه .
والذي يظهر الأول ، إذ الآية الكريمة لا دليل فيها ، إذ دم الاستحاضة غير دم الحيض ، كما نص عليه صاحب الشريعة ، ولا يلزم من كون دم الحيض أذى أن يكون غيره من الدماء أذى ، وما روى عن عائشة فقد قال البيهقي : الصحيح أنه من قول الشعبي . والله سبحانه أعلم .
قال : والمبتلى بسلس البول أو كثرة المذي فلا ينقطع كالمستحاضة ، يتوضأ لكل صلاة بعد أن يغسل فرجه .
____________________
(1/131)
ش : قد تقدم أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل بعد أن تغسل فرجها وتحكم شده ، وحكم المبتلى بسلس البول ، أو كثرة المذي ، أو الرعاف الدائم ، والمجروح الذي لا يرقأ دمه ونحوهم ، حكم المستحاضة في ذلك ، لتساويهما معنى ، وهو عدم التحرز من ذلك ، فيتساويان حكماً .
319 وقد روى الإِمام أحمد والبيهقي والدارقطني عن عمر رضي الله عنه أنه لما طعن كان يصلي وجرحه يثعب دماً .
320 وقال إسحاق بن راهويه : كان بزيد بن ثابت سلس البول ، وكان يداويه ما استطاع ، فإذا غلبه صلى ، ولا يبالي ما أصاب ثوبه .
وقوله : فلا ينقطع . هذا الشرط في المستحاضة ومن لحق بها ، وهو أن لا ينقطع حدثها زمناً يسع الطهارة والصلاة ، إذ ما دونه لا يفيد ، فهو كالعدم ، فإن كان من عادتهم انقطاعه زمناً يسع لذلك لزمهم تحريه والطهارة فيه ، لتمكنهم بالإتيان بالعبادة بشرطها ، ولو عرض هذا الانقطاع المتسع لمن عادته الاتصال ، أبطل الطهارة ، فإن حصل انقطاع قبل الشروع في الصلاة لم يجز الدخول فيها ، لاحتمال دوامه ، فإن خالف ودخل واستمر الانقطاع قدرا يسع الطهارة والصلاة فصلاته باطلة ، وإن عاد الحدث قبل ذلك فطهارته صحيحة ، وفي بطلان صلاته وجهان ، أصحهما تبطل ، لمخالفته الأمر ، ولو وجد الانقطاع المتسع في الصلاة أبطلها وأبطل الوضوء ، وخرج ابن حامد عدم البطلان من رواية مضي المتيم إذا وجد الماء في الصلاة ، وفرق أبو البركات بأن الحدث هنا متجدد ، ولم يوجد عنه بدل .
وإذا بطلت الصلاة استأنفها كالمتيمم ، وينصرف من الصلاة بمجرد الانقطاع عند الأصحاب ، إذ الظاهر الدوام ، فلو خالف فعاد الحدث قبل مدة الاتساع فالوجهان في الانقطاع قبل الشروع ، واختار المجد أنه لا ينصرف ما لم تمض مدة الاتساع حذاراً من إبطال متيقن بموهوم ، ولو توضأ من له عادة من هؤلاء بانقطاع غير متسع فاتصل حتى اتسع أو برأت بطلت طهارته إن وجد منه حدث معه أو بعده ، وإلا فلا ، ولو كثر الانقطاع واختلف فتقدم وتأخر ، ووجد مرة وعدم أخرى فهذه كمن عادتها الاتصال عند الأصحاب ، في بطلان وضوئها بالانقطاع المتسع دون ما دونه ، وفي الأحكام إلا في شيء واحد ، وهو أنها لا تمنع من الدخول في الصلاة والمضي فيها بمجرد الانقطاع ، قبل تبين اتساعه ، واختار أبو البركات مدعياً أنه ظاهر كلام الإِمام أنه لا عبرة ها هنا بهذا الانقطاع ، بل يكفي وجود الدم في شيء من الوقت ، دفعاً للحرج والمشقة . والله أعلم . قال : وأكثر النفاس أربعون يوماً .
ش : هذا هو المذهب المختار والمعروف من الروايات .
321 لما روى عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كانت النفساء تجلس على
____________________
(1/132)
عهد رسول الله أربعين يوماً ، وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف . رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وقال الخطابي : أثنى محمد بن إسماعيل على هذا الحديث ومعناه : كانت تؤمر أن تجلس ، وإلا كان الخبر كذباً ، إذ محال عادة اتفاق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض ، مع أن هذا إجماع سابق أو كالإِجماع .
322 وقد حكاه إمامنا وابن المنذر عن عمر وابن عباس ، وأنس وعثمان بن أبي العاص ، وعائذ بن عمرو وأم سلمة ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم ، ومن ثم قال الطحاوي : لم يقل بالستين أحد من الصحابة ، وإنما قاله من بعدهم وقال أبو عبيد : وعلى هذا جماعة الناس . وقال إسحاق : هو السنة المجتمع عليها . ( والثانية ) أن أكثره ستون اتباعاً للوجود .
وأول المدة من [ حين ] الوضع ، لأن في رواية أبي داود في حديث أم سلمة : تجلس بعد نفاسها وإن خرج بعض الولد فالدم قبل انفصاله نفاس ، يحسب من المدة وخرج أنه كدم الطلق ، بناء على عدم إرثه إذا استهل والحال هذه ، أما إن ولدت توأمين فأول النفاس من الأول وآخره منه ، على المشهور والمختار لجمهور الأصحاب من الروايات ، فعلى هذا لو كان بين الولدين أربعون يوماً فلا نفاس بعد الثاني ( وعنه ) : أوله من الأول وآخره من الثاني ، فعلى هذه فقد يجيء جلوسها ستين يوماً وأكثر ( وعنه ) : هما الأول والآخر من الثاني فعلى هذا ما بين الولدين ليس بنفاس ، وإن بلغ أربعين يوماً إلا أن يكون يومين أو ثلاية ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
( تنبيه ) : الورس نبت أصفر يصبغ به ، ويتخذ منه غمرة للوجه ، يحسن اللون ( والكلف ) لون يعلو الوجه ، يخالف لونه ، يضرب إلى السواد والحمرة ، والله أعلم .
قال : وليس لأقله حد ، أي وقت رأت الطهر اغتسلت وهي طاهر .
323 ش : لما روى عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سألت النبي كم تجلس المرأة إذا ولدت ؟ قال : ( أربعين يوماً لا أن ترى الطهر قبل ذلك ) .
324 وعن معاذ عن النبي قال : ( إذا مضى للنفساء سبع ثم رأت الطهر فلتغتسل ولتصل ) رواهما الدارقطني وقد حكى ذلك الترمذي إجماعاً فقال : أجمع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك .
325 وحكى البخاري في تأريخه أن امرأة ولدت بمكة ، فلم تر دماً ، فلقيت عائشة رضي الله عنها فقالت : أنت امرأة طهرك الله . اه فعلى هذا أي وقت رأت الطهر اغتسلت للنفاس وهي طاهر ، والله أعلم .
____________________
(1/133)
قال : ولا يقربها زوجها في الفرج حتى تتم الأربعين استحباباً .
ش : إذا رأت المرأة الطهر قبل تمام الأربعين واغتسلت جاز وطؤها على المشهور من الروايتين ، لظاهر ما تقدم ، ولأن المانع من الوطءِ الدم ولا دم ( والثانية ) لا يجوز .
326 لما روى عن علي وابن عباس ، وعثمان بن أبي العاص وعائذ ابن عمرو أنهم قالوا : لا توطأ نفساء . وعلى المذهب لا يستحب لاحتمال عود الدم ، وهل يكره ؟ فيه روايتان ، أشهرهما نعم ، يكره حملًا لما روي عن الصحابة على ذلك ( والثانية ) لا يكره نظراً لللأصل .
وقوله : لا يقربها في الفرج . مفهومه أن له أن يقربها في غير الفرج ، وهو كذلك كالحائض ، إذ دم النفاس في الحقيقة دم حيض كما تقدم ، يجتمع لغذاء الولد ، ثم يخرج بقيته عند الولادة . .
( تنبيه ) : الولد الذي يتعلق به أحكام النفاس الولد الذي تصير به المستولدة أم ولد والله أعلم .
قال : ومن كانت لها أيام حيض فزادت على ما كانت تعرف ، لم تلتفت إلى الزيادة إلا أن تراه ثلاث مرات ، فتعلم حينئذ أن حيضها قد انتقل ، فتصير إليه وتترك الأول ، وإن كانت صامت في هذه الثلاث مرات أعادته إذا كان صوماً واجباً .
ش : إذا زادت عادة المرأة بأن كانت تحيض مثلًا خمسة أيام من كل شهر أو من كل عشرين يوماً ، فحاضت ستة أو سبعة ، فإنها لا تلتفت إلى الزيادة على المذهب المعروف والمنصوص من الروايتين ، لما تقدم من حديث عائشة أن رسول الله قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر ( إنما هو عرق ) أو قال : ( عروق ) وقول أم عطية : كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئاً . ( والثالثة ) : أومأ إليها في رواية ابن منصور تلتفت إليه ، فتجلسه من أول مرة ، وهو اختيار أبي محمد ، اعتماداً على عادات النساء في ذلك ، ولما تقدم من قول عائشة : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء .
327 ولأن عائشة لما حاضت في حجة الوداع لم يسألها النبي هل ذلك في زمن عادتك أم لا ؟ وما تقدم إنما يدل على ما بعد الطهر لا على ما إذا استمر وهي مسألتنا ، فعلى المذهب متى تكرر ثلاثاً على المذهب أو مرتين على رواية علمنا أو الثالث ، وتقضي ما صامته أو اعتكفته أو طافته من واجب في مدة التبين ، لتبين حيضها فيه ، فإن يئست قبل التبين أو ارتفع حيضها لمرض ونحوه ولم يعد لم يلزمها القضاء على الأصح ، لعدم تحقق الفساد ، ولا يحل لزوجها وطؤها في مدة التبين ، والله أعلم .
قال : وإذا رأت الدم قبل أيامها التي كانت تعرف فلا تلتفت إليه حتى يعاودها ثلاث مرات .
____________________
(1/134)
ش : المسألة السابقة فيما إذا زادت العادة ، وهذه فيما إذا تقدمت ، وتحتها صورتان ( إحداهما ) : تتقدم جملة بأن تكون تحيض الخمسة الثانية من الشهر ، فتصير تحيض الخمسة الأول ( الثانية ) : أن يتقدم بعضها بأن تكون تحيض اليوم السادس ، فتحيض اليوم الخامس أو الرابع ونحو ذلك ، وبالجملة هذه المسألة والتي قبلها من مسلك واحد ، والكلام على إحداهما كالكلام على الأخرى ، والله أعلم .
قال : ومن كانت لها أيام حيض ، فرأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر ، تغتسل وتصلي .
ش : إذا كانت للمرأة عادة كأن كانت تحيض عشرة أيام [ مثلًا ] من كل شهر ، فرأت الطهر قبل انقضائها ، فإن رأته بعد مضي ستة أيام ونحو ذلك فهي طاهر ، لظاهر ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها للنسوة : لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء . وهذه قد رأت القصة البيضاء .
328 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أما ما رأت الدم البحراني فإنها لا تصلي ، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصل . رواه أبو داود .
وظاهر قول الخرقي والأصحاب أنه لا فرق بين قليل الطهر وكثيره ، لما تقدم عن ابن عباس ، واختار أبو محمد أنها لا تعتد بما دون اليوم ، من رواية في النفاس أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم ، ولم يعتبر ابن أبي موسى النقاء الموجود بين الدمين ، وأوجب عليها فيه قضاء ما صامته فيه من واجب ونحوه ، قال : لأن الطهر الكامل لا يكون أقل من ثلاثة عشر يوماً . إذا تقرر هذا فتغتسل وتصلي للحكم بطهارتها .
( تنبيه ) : ( البحراني ) قال أبو السعادات ) الشديد الحمرة ، كأنه قد نسب إلى قعر الرحم وهو البحر ، وزادوه في النسبة ألفاً ونوناً للمبالغة . وقال الخطابي : يريد الدم الغليظ الواسع ، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته والله أعلم .
قال : فإن عاودها الدم فلا تلتفت إليه حتى تجيء أيامها .
ش : إذا طهرت المرأة قبل تمام عادتها ثم عاودها الدم ، فلا يخلو إما أن يعاودها في العادة أو بعدها ثم إذا عاودها في العادة فلا يخلو إما أن يجاوزها أو لا يجاوزها ، فإن عاودها في العادة ولم يجاوزها فهل تلتفت إليه بمعنى أنها تجلسه من غير تكرار وهو اختيار القاضي في روايته ، وأب محمد في الكافي ، لمصادفته زمن العادة أشبه ما لو لم ينقطع أو لا تلتفت إلهي حتى يتكرر وهو اختيار الخرقي ، وابن أبي موسى ، وقال أبو بكر : إنه الأغلب عنه ، لعوده بعد طهر صحيح ، فأشبه ما لو عاد بعد العادة ؟ على روايتين فعلى الثانية تصلي وتصوم وتقضي الصوم احتياطاً ، قاله ابن أبي موسى ،
____________________
(1/135)
ونص عليه أحمد .
وإن عاد في العادة وجاوزها لم يخل من أن يجاوز أكثر الحيض أم لا ، فإن جاوز الأكثر فليس بحيض إذ بعضه ليس بحيض يقينا ، والبعض الآخر متصل به ، فأعطي حكمه لقربه منه وإن انقطع لأكثر الحيض فما دون فمن قال : إنما لم يعبر العادة ليس بحيض . فهذا أولى ، ومن قال : إنه حيض . ففي هذا إذاً ثلاثة أوجه ( أحدها ) : جميعه حيض ، بناء على مختار أبي محمد في أن الزائد على العادة حيض ما لم يعبر الأكثر ( والثاني ) : ما وافق العادة حيض ، لموافقته العادة ، وما زاد عليها ليس بحيض ، لخروجه عنها ( والثالث ) : الجميع ليس بحيض لاختلاطه على المذهب بما ليس بحيض .
وإن عاودها بعد العادة فلا يخلو إما أن يمكن جعله حيضاً ، بأن يكون تضمه مع الأول لا يكون بين طرف فيهما أكثر من أكثر الحيض ، فيلفقا ويجعلا حيضة واحدة ، ويكون بينهما أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً على المذهب ، وكل من الدمين يصلح أن يكون حيضاً ، فيكونان حيضتين ، أو لا يمكن جعل الثاني حيضاً ، لمجاوزته مع الأول أكثر الحيض ، وليس بينه وبين الأول أقل الطهر ، ويظهر ذلك بالمثال فنقول : إذا كانت العادة عشرة أيام مثلًا ، فرأت منها خمسة دماً ، ثم طهرت الخمسة الباقية ، ثم رأت خمسة دماً ، فإن الخمسة الأولى والثالثة حيضة واحدة بالتلفيق ، ولو كانت رأت يوما 6 دماً ، ثم ثلاثة عشر طهراً ، ثم يوماً دماً ، فهما حيضتان ، لوجود طهر صحيح بينهما ، ولو كانت رأت يومين دماً ، ثم اثني عشر يوماً طهراً ، ثم يومين دماً ، فهنا لا يمكن جعلهما حيضة واحدة ، لزيادة الدمين مع ما بينهما من الطهر على أكثر الحيض ، ولا جعلهما حيضتين على المذهب ، لانتفاء طهر صحيح بينهما ، وإذاً الحيض منهما ما وافق العادة ، والآخر استحاضة ، وعلى هذا ، وشرط الالتفات إلى ما رأته بعد الطهر فيما خرج عن العادة التكرار المعتبر بلا نزاع .
( تنبيه ) : اختلف الأصحاب في مراد الخرقي بقوله : فإن عاودها الدم . فقال التميمي والقاضي وابن عقيل : مراده إذا عاود بعد العادة ، وعبر أكثر الحيض ، بدليل أنه منعها أن تلتفت إليه مطلقاً ، ولو أراد غير ذلك لقال : حتى يتكرر . وقال أبو حفص : مراده المعاودة في كل حال ، في العادة وبعدها ، وهذا اختيار أبي محمد ، وهو الظاهر اعتماداً على الإطلاق ، وسكت عن التكرار ، لتقدمه له فيما إذا زادت العادة أو تقدمت ، وعلى هذا إذا عبر أكثر الحيض فإنه لا يكون حيضاً ، وإن تكرر ، لما تقدم له من أن الدم إذا جاوز أكثر الحيض لا يكون حيضاً ، والله أعلم .
قال : والحامل إذا رأت الدم فلا تلتفت إليه ، لأن الحامل لا تحيض .
329 ش : الأصل في كون الحامل لا تحيض ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي أنه قال في سبايا أوطاس ( لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل
____________________
(1/136)
حتى تستبرأ بحيضة ) فجعل وجود الحيض علما عرى براءة الرحم من الحبل ، ولو اجتمعا لم يكن علماً على انتفائه .
330 واستدل إمامنا [ رحمه الله ] بقوله : ( ثم ليطلقها طاهراً أو حاملًا ) مع منعه لطلاقه لها في حال الحيض [ فعلم أن الحيض ] لا يجامع الحمل .
331 وقد روى ابن شاهين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم رزقاً للولد .
332 وعن عائشة رضي الله عنها : الحامل لا تحيض . رواه الدارقطني .
333 وما روي عنها من أنها لا تصلي إذا رأت الدم فمحمول على ما قبل الولادة ، وعلى هذا إذا رأت دماً لم تلتفت إليه ، ويكون حكمها فيه حكم دم الاستحاضة على ما تقدم ، والله أعلم . . .
قال : إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس .
ش : لما ذكر أن ما تراه الحامل من الدم يكون دم فساد ، استثنى من ذلك ما تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة ، فإنه يكون دم نفاس ، لأنه خارج بسبب الولادة ، أشبه ما بعد الولادة ، ولا يحسب من مدة النفاس ، لما تقدم في حديث أم سلمة : أن النفساء كانت تقعد بعد نفاسها .
( تنبيه ) : يعلم ذلك بأماراته من المخاض ونحوه ، أما مجرد رؤية الدم من غير علامة فلا تترك له العبادة ، عملًا بالأصل من غير معارضة ظاهر له ، ثم إن تبين قربه من الوضع بالمدة المذكورة أعادت ما صامته فيه من صوم واجب [ ونحوه ولو رأته مع العلامة فتركت العبادة ثم تبين بعده عن الوضع أعادت ما تركت فيه من واجب ] ونحوه والله أعلم .
قال : وإذا رأت الدم ولها خمسون سنة فلا تدع الصوم ولا الصلاة وتقضي الصوم احتياطاً ، وإذا رأته بعد الستين فقد زال الإِشكال ، وتيقن أنه ليس بحيض ، فتصوم وتصلي ولا تقضي .
ش : لا نزاع عندنا فيما نعلمه أن ما تراه المرأة من الدم بعد الستين دم فساد ، وليس بدم حيض ، وأن ما رأته قبل الخمسين دم حيض بشرطه ، واختلف فيما بينهما ( فعنه ) وهو اختيار الشيرازي ، وقال ابن الزاغوني : إنه اختيار عامة المشايخ أنه دم فساد مطلقاً .
____________________
(1/137)
334 لأن عائشة رضي الله عنها قالت : لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين سنة ؛ ومن لا تحبل لا تحيض . رواه الدارقطني وفي لفظ ذكره أحمد عنها في رواية حنبل إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض . ( وعنه ) أنه حيض مطلقاً ، اختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير وأبو محمد ، لأنه [ قد ] وجد بنقل نساء ثقات ، فرجع إليهن فيه ، كما رجع إليهن في أقل الحيض [ وأكثره ] ( وعنه ) أنه حيض في حق العربيات ، لأنهن أشد جبلة دون العجميات .
335 وقد روى الزبير بن بكار في كتاب النسب عن بعضهم أنه قال : لا تلد لخمسين إلا عجمية ، ولا تلد لستين إلا قرشية وكأن الخرقي رحمه الله تعارضت عنده هذه الأقوال فأعرض عنها وقال : إن ما بينهما مشكوك فيه ، فصتوم وتصلي ، لاحتمال كونه دم فساد ، وتقضي الصوم لاحتمال كونه دم حيض ، وأداء الصلاة لا يلزمها ، والصوم الواجب ونحوه تقضيه لعدم صحته منها على هذا التقدير ، والله أعلم .
قال : والمستحاضة إن اغتسلت لكل صلاة فهو أشد ما قيل فيها ، وإن توضأت لكل صلاة أجزأها ، [ والله أعلم ] .
ش : قد تقدم حكم المستحاضة في أنها هل تتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل صلاة ، والكلام الآن في اغتسالها ، ولا ريب أنه يجب عليها الاغتسال عقب الأيام التي حكم بحيضها فيها [ ثم ] عندنا وعند الجمهور يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة . ولا يجب .
336 ولأن أم حبيبة استحيضت فسألت رسول الله عن ذلك ، فأمرها أن تغتسل ، فكانت تغتسل [ لكل صلاة ] . متفق عليه . ففهمت من الأمر بالاغتسال لكل صلاة . وفي رواية في غير الصحيح : أن النبي أمرها بالاغتسال لكل صلاة .
337 وعن عائشة رضي الله عنها أن زينب بنت جحش استحيضت ، فقال لها النبي : ( اغتسلي لكل صلاة ) . . رواه أبو داود . وإنما لم يجب ذلك لأن الروايات الصحيحة في حديث أم حبيبة وفاطمة وزينب وغيرهم ليس فيها أمر من النبي [ ] بالاغتسال لكل صلاة ، ولو وجب ذلك لبينه .
338 مع أن في أبي داود والترمذي في حديث حمنة : وقالت لرسول الله : إني أستحاض ؛ فقال لها رسول الله : ( سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك عن الآخر ، وإن قويت عليهما فأنت أعلم ، تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ، ثم اغتسلي ، حتى إذا رأيت قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثاً وعشرين ليلة أو أربعاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي ، فإن ذلك يجزئك ، وكذلك فافعلي كل شهر ، كما
____________________
(1/138)
تحيض النساء وكما يطهرن ، لميقات حيضهن وطهرهن ، وإن قويت عليه أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي ، وتغتسلين مع الفجر ، فافعلي وصومي إن قدرت على ذلك ) . قال رسول الله : ( وهذا أعجب الأمرين إليّ ) . اه .
ثم أشد ما قيل في المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة ، تمسكاً بما تقدم من الأمر بذلك لأم حبيبة وأختها زينب . ويحكى هذا رواية عن أحمد ، وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين ، وإحدى الروايتين عن علي وابن عباس رضي الله عنهما ( ثم ) الاغتسال لوقت كل صلاة ، ( ثم ) لكل صلاتي جمع في وقت الثانية و [ للصبح ] قاله بعض التابعين .
339 لما روت عائشة رضي الله عنها أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت ، فأتت رسول الله فسألته عن ذلك ، فأمرها بالغسل عند كل صلاة ، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل ، والمغرب والعشاء بغسل ، رواه أحمد وأبو داود ( ثم ) لكل يوم مرة . روي ذلك عن ابن عمر وأنس ، وهو إحدى الروايتين عن علي رضي الله عنهم ، وقول بعض التابعين .
340 وقد جاء في حديث رواه البيقهي في قصة المستحاضة قال : ( ثم تغتسل في كل يوم عند كل طهر وتصلي ) .
والجمهور على ما تقدم [ أولًا ] نعم يستحب ذلك لا أنه واجب . والله أعلم .
____________________
(1/139)
( ( كتاب الصلاة ) )
ش : قد اشتهر في لسان الفقهاء وغيرهم أن أصل الصلاة في اللغة الدعاء ، مستدلين بقوله تعالى : 19 ( { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } ) وإنما عدي بعلى لتضمنه والله أعلم ( معنى ) الإِنزال أي : أنزل عليهم رحمتك .
341 وقول النبي : ( إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ، فإن كان مفطراً فليطعم ، وإن كان صائماً فليصل ) وقول الشاعر :
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا
يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا
ولهم في اشتقاقها أقوال كثيرة ، أشهرها : أنها مشتقة من الصلوين واحدهما ( كعصى ، وهماعرقان من جانبي الذنب ، وقيل : عظمان ينحنيان في الركوع والسجود .
والصلاة في الشرع : عبارة عن هيئة مخصوصة ، مشتملة على ركوع ، وسجود وذكر ، وسميت بذلك لاشتمالها على الدعاء ، وقال الزمخشري : حقيقة ( صلى ) حركة الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده . قال : وقيل للداعي مصلد تشبيهاً في تخشعه بالراكع والساجد ، فعكس ما يقوله الجماعة ، ونحو هذا قول السهيلي قال : معنى اللفظة حيث تصرفت ترجع إلى الحنو والعطف ، من قولهم : صليت . أي حنيت صلاك وعطفته .
وهي مما علم وجوبه من دين الله بالضرورة . وقد تظافرت الأدلة : من الكتاب والسنة والإِجماع على ذلك . قال سبحانه : 19 ( { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } ) .
342 وقال النبي : ( بني الإِسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا ) .
____________________
(1/140)
343 وقال ( ) : ( خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة ) .
وأجمع المسلمون إجماعاً قطعياً على ذلك ، وجوبها في ليلة المعراج .
344 ففي الصحيحين في قصة المعراج قال : ( وفرضت عليّ خمسون صلاة في كل يوم ، قال : فجئت حتى أتيت على موسى فقال لي : بم أمرت ؟ قلت : بخمسين صلاة كل يوم ، قال : إني قد بلوت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، وإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . فرجعت فحط عني خمس صلوات ، فما زلت أختلف بين ربي وبين موسى ، كلما أتيت عليه قال لي : مثل مقالته ، حتى رجعت بخمس صلوات كل يوم ، فلما أتيت على موسى قال لي : بم أمرت ؟ قلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم ، قال : إني قد بلوت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، وإن أمتك لا يطيقون ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . قلت : لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت ، ولكن أرضى وأسلم ، قال : فنوديت . أو نادى مناد الشك من بعض الرواة : أن قد أمضيت فريضتي ، وخففت عن عبادي ، وجعلت بكل حسنة عشر أمثالها ) اه .
واختلف في زمن الإِسراء : فعن الزهري أنه بعد مبعثه بخمس سنين . وعن الحربي : كان ليلة سبعة وعشرين من ربيع الآخر ، قبل الهجرة بسنة . وقيل : بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً . وبين هذين القولين تباين كثير ، وأوسطها قول الزهري . والله سبحانه أعلم .
( باب المواقيت )
ش : لما كانت الصلوات إنما تجب بدخول الوقت ، بدأ رحمه الله ببيان ذلك ، وقد أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بأوقات معلومة ، والسند في ذلك قول الله تعالى : 19 ( { أقم الصلوة لدلوك الشمس إلى غسق الليل } ) الآية ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : دلوك الشمس إذا فاء الفيء ، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته .
345 وعن أبي هريرة رضي الله عنه : { وقرآن الفجر } إنه الصبح .
346 وما اشتهر من حديث جبريل ، حيث أم النبي في الصلوات الخمس ، ثم قال له : ( يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك ) . وغير ذلك من الأحاديث ، والله أعلم .
____________________
(1/141)
قال : وإذا زالت الشمس وجبت الظهر .
ش : سميت الظهر ظهراً اشتقاقاً لها من الظهور ، إذ هي طاهرة في وسط النهار ، وتسمى أيضاً : ( الهجير ) لفعلها حني أم النبي معلماً له في اليومين [ بدأ بها ] ولهذا بدأ الخرقي وكثير من الأصحاب بها ، وبدأ ابن أبي موسى ، والشيرازي ، وأبو الخطاب بالصبح ، لأنها أول النهار .
347 ولبداءة النبي بها حين سئل عن وقت الصلاة ، وكان ذلك بالمدينة ، وكأنه أشار بذلك إلى أن العمل عليه لتأخره ، لا على الأول .
وأول وقتها إذا زالت الشمس إجماعاً ، وقد فسر ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم دلوك الشمس بزوالها ، ولما أمّ جبريل النبي معلماً له صلى به الظهر حين زالت الشمس .
348 وفي صحيح مسلم ، عن عبد الله بين عمرو قال : سئل رسول الله عن وقت الصلاة ، فقال : ( وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول ، ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء ، ما لم يحضر العصر ، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ، وسقط قرنها الأول ، ووقت المغرب إذا غابت الشمس ، ما لم يسقط الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل ) .
وآخره ، إذا صار ظل كل شيء مثله ، لأن في حديث جبريل أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء قدر ظله ، وقال : ( الوقت فيما بين هذين ) وكأن المعنى والله أعلم أنه فرغ من صلاة الظهر في المرة الثانية حين صار ظل كل شيء مثله .
[ وأنه أحرم بالعصر في المرة الثانية حين صار ظل كل شيء مثليه ] .
349 بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أول وقت الظهر حين تزول الشمس ، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر ) . رواه أحمد وأبو داود .
350 وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال : ( وقت الظهر إذا زالت الشمس ، وكان ظل الرجل كطوله ، ما لم يحضر وقت العصر ) رواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي .
ولا بد أن يلحظ في قوله : إن آخر الوقت إذا صار ظل كل شيء مثله . بعد فيء الزوال ، وذلك أن الشمس إذا زالت يكون للشيء ظل في غالب البلاد ، فيعتبر مثل ذلك الشيء سوى ذلك الظل .
____________________
(1/142)
وقوله : إذا زالت الشمس وجبت الظهر . ظاهره وجوب الصلاة بأول الوقت وجوباً مستقراً موسعاً ، وهو المذهب ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { أقم الصلاة لدلوك الشمس } ) .
351 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( الشفق الحمرة ، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة ) رواه الدارقطني وشرط أبو بعد الله بن بطة وابن أبي موسى لاستقرارها مضي زمن يسع لأدائها ، حذاراً من تكليف ما لا يطاق ، وأجيب بأنه لا يكلف بالفعل قبل الإمكان ، حتى يلزم [ تكليف ] ما لا يطاق ، وإنما يثبت في ذمته بفعله إذا قدر كالمغمى عليه .
( تنبيه ) : معنى زوال الشمس ميلها عن كبد السماء ، ويعرف ذلك بظل الشمس [ من كل ] شاخص ، فما دام يتناقض فالشمس لم تزل ، فإذا وقف نقصه فهو الاستواء ، فإذا زاد الظل أدنى زيادة فهو الزوال ، والله أعلم .
قال : [ فإذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقتها ] فإذا زاد شيئاً وجبت [ صلاة ] العصر .
ش : إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال فهو آخر وقت الظهر ، وبصيرورة ظل كل شيء مثله يزيد أدنى زيادة ، وذلك أول وقت العصر ، فلا فاضل بين الوقتين ، هذا هو المعروف ، وأن بخروج وقت [ الظهر ] يدخل وقت العصر .
ويحتمل ظاهر كلام الخرقي ، وصاحب التلخيص أن بينهما فاصلًا ، إذ ظاهر كلامهما أن العصر لا تجب إلا بعد الزيادة ، وكذا فهم ابن حمدان فحكى ذلك قولًا ، وبالجملة الأصل في أول وقت العصر حديث جبريل المشهور : أنه [ ] صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله ، وفي اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه ، ثم قال : ( ما بين هذين وقت ) والله أعلم .
قال : فإذا صار ظل [ كل ] شيء مثليه خرج وقت الاختيار .
ش : الصلوات على ضربين ، [ منها ] ما ليس له إلا وقت واحد ، وهي الظهر ، والمغرب والصبح على المختار ، ومنها ما له وقتان ، وهي العصر والعشاء ، والفجر على قول . اه فالعصر آخر وقتها المختار وهو الذي يجوز تأخير الصلاة إليه من غير عذر صيرورة ظل كل شيء مثليه ، على إحدى الروايتين ، واختيار الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي ، وكثير من أصحابه ، نظراً لحديث جبريل عليه السلام ، فإنه ورد بياناً لتعلم أوقات الصلوات ، ثم قوله : ( ما بين هذين وقت ) ظاهره أن جميع هذا الوقت الصلاة فيه جائزة دون غيره ( والرواية الثانية ) واختارها الشيخان آخر الوقت المختار اصفرار الشمس .
____________________
(1/143)
352 لما في مسلم وسنن أبي داود ، والنسائي ، عن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله قال : ( وقت العصر ما لم تصفر الشمس ) .
353 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( آخر وقت العصر حين تصفر الشمس ) رواه أبو داود والترمذي ، وهذا يتضمن زيادة ، مع أن قول ، فيقدم على الفعل .
354 وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله أتاه سائل فسأله عن مواقيت الصلاة ، فلم يرد عليه شيئاً ، قال : وأمر بلالًا فأقام الفجر حين انشق الفجر ، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً ، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس ، والقائل يقول : قد انتصف [ النهار ] وهو [ كان ] أعلم منهم [ ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة ] ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس ، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق [ الأحمر ] ثم أخر الفجر من الغد ، حتى انصرف منها والقائل يقول : قد طلعت الشمس أو كادت . ثم أخر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس ، ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول : قد احمرت الشمس ؛ ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول ، ثم أصبح فدعا السائل فقال : ( الوقت بين هذيه ) رواه أبو داود ، والنسائي ، ومسلم وهذا لفظه . وهو أيضاً متضمن لزيادة ومتأخر ، إذ حديث جبريل كان بمكة ، وهذا بالمدينة ، والعمل بالمتأخر متعين ، وقطع صاحب التلخيص بأن الوقت المختار إلى صيرورة ظل كل شيء مثليه ، وجعل من ذلك [ إلى ] الإِصفرار وقت جواز ، فكأنه جمع بين الأحاديث ، فحمل حديث جبريل على الوقت المطلوب المرغوب فيه ، وغيره على الوقت الجائز ، الذي يجوز التأخير إليه من غير عذر بلا إثم ، والله أعلم .
قال : ومن أدرك منها ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها .
355 ش : لما في الصحيحين عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] أن رسول الله قال : ( من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد [ أدرك ] الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ) .
وظاهر كلام الخرقي ، وكذلك ابن أبي موسى ، وابن عبدوس أن الإدراك لا يحصل بأقل من ركعة ، وهو إحدى الروايتين ، وظاهر الحديث المتقدم ( والثانية ) وعليها العمل عند القاضي ، وكثير من أصحابه أنه يحصل بتكبيرة .
____________________
(1/144)
356 لأن في الصحيح من حديث أبي هريرة أيضاً : ( من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته ) وفي النسائي ( فقد أدركها ) لا يقال : عبر عن الركعة بالسجدة ، لأنا نتمسك بالحقيقة .
ومعنى الإدراك بركعة أو بتكبيرة أنه متى أدرك ذلك كان مؤدياً للصلاة لا قاضياً على المشهور من الوجهين ، والثاني : ما وقع في الوقت يكون أداء ، وما وقع بعده يكون قضاء ، والله أعلم .
قال : [ وهذا ] مع الضرورة .
ش : ظاهر هذا ، وكذلك ظاهر كلام ابن أبي موسى أن إدراك العصر بما تقدم مختص بمن له ضرورة ، كحائض طهرت ، وصبي بلغ ، ومجنون أفاق ، ونائم استيقظ ، ومريض برأ ، وذمي أسلم ، وكذلك خباز ، أو طباخ ، أو طبيب فصد ، وخشوا تلف ذلك قاله ابن عبدوس ، وعلى هذا من لا عذر له لا يدركها بذلك ، بل تفوت بفوات وقتها المختار ، وتقع منه بعد ذلك قضاء ، وهذا قول بعض العلماء ، وأحد احتمالي ابن عبدوس ، وهو متوجه ، إذ قول جبريل عليه السلام ، وكذلك [ قول النبي ] ( الوقت ما بين هذين ) وقوله : ( وقت العصر ما لم تصفر الشمس ) يقتضي أن ما بعد ذلك ليس بوقت لها ، وقوله : ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ) يحمل على من له عذر ، ولذلك جعل الصلاة في ذلك الوقت ممن لا عذر له صلاة المنافق .
357 فقال أنس رضي الله عنه : سمعت رسول الله يقول : ( تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس ، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلًا ) رواه مسلم وغيره ، لأن فعله فعل المنافق ، لتهاونه بها ، وتضييعها .
والمعروف عند الأصحاب وعند عامة العلماء أن وقت العصر مبقى إلى الغروب ، في حق المعذور وغيره ، حملا لحديث جبريل ونحوه على أن المراد بذلك وقت الإِختيار أو وقت الجواز ، وحديث أبي هريرة على وقت الإِدراك ، ويسمون هذا الوقت أعني من وقت الإِختيار ، أو وقت الجواز ، إلى غروب الشمس وقت إدراك ، ووقت ضرورة ، ولا يفترق المعذور عندهم وغيره إلا في الإِثم وعدمه ، فالمعذور له التأخير ، وغيره ليبين له ذلك ، ويأثم إذا أخر ، وقد يحمل كلام الخرقي على هذا ، على أن في الكلام حذفاً ، والإِشارة إليه تقديره : و [ هذا ] أي جواز التأخير مع الضرورة ، أما من لا ضرورة له فلا يجوز له التأخير وإن أدرك الوقت بركعة . .
____________________
(1/145)
قال : فإذا غابت الشمس فقد وجبت المغرب .
ش : أول وقت المغرب إذا غابت الشمس إجماعاً ، والأحاديث قد استفاضت أو تواترت بذلك وغيبوبة الشمس سقوط قرصها . والله أعلم .
قال : إلى أن يغيب الشفق .
ش : يعني أن وقتها يمتد إلى غيبوبة الشفق ، لما تقدم في حديث أبي موسى ، أنه أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله قال : ( وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق ) رواه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وأحمد ، وقال في رواية مهنا : حديث عبد الله بن عمرو حديث معروف .
ولا يرد حديث جبريل [ عليه السلام ] أنه صلاها في اليومين في وقت واحد ، لتضمنها زيادة ، مع تأخر حديث أبي موسى ، وكون حديث ابن عمرو [ قولًا ] ، على أن يحتمل أن جبريل [ عليه السلام إنما فعلها في وقت واحد ليبين أن ذلك هو الأولى بها ، ولذلك اتفقت الأئمة [ على ] أفضلية تقديمها ، بخلاف غيرها ، وكره تأخيرها ، والله أعلم .
قال : ولا يستحب تأخيرها .
ش : بل يكره ، قاله القاضي في التعليق .
358 لما روى عقبة بن عامر أن النبي قال : ( لا تزال أمتي بخير [ أو على الفطرة ] ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم ) رواه أحمد وأبو داود .
359 وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع : أن رسول الله كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس ، وتوارت بالحجاب . وفي أبي داود : ساعة تغرب الشمس ، إذا غاب حاجبها . ولأن التأخير محظور عند البعض ، فالتقديم أحوط ، وهذا في غير ليلة جمع ، أما في ليلة جمع فالمستحب التأخير للمحرم إن قصدها ، كما فعل النبي ولأن الفعل قبل المزدلفة في طريقها لا يجزئه عند بعض فالتأخير [ أحوط ] عكس ما تقدم ، ويستحب التأخير أيضاً مع الغيم على المنصوص ، وسيأتي [ ذلك ] إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : فإذا غاب الشفق وهو الحمرة في السفر ، وفي الحضر البياض لأن في الحضر قد تنزل الحمرة ، فتواريها الجدران ، فيظن أنها قد غابت ، فإذا غاب البياض فقد تيقن ووجبت عشاء الآخرة .
ش : قد تقدم أن آخر وقت المغرب غيبوبة الشفق ، والشفق يطلق على الحمرة ،
____________________
(1/146)
و [ على ] البياض ، بالاشتراك اللفظي ، واختلف في المراد هنا ، والمعروف المشهور عندنا حتى أن الشيخين وغيرهما لم يذكروا خلافاً أن المراد بالشفق هنا هو الحمرة ، لما روى عبد الله بن عمرو عن النبي قال : ( وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق ) رواه مسلم ، وأبو داود ولفظه ( فور الشفق ) وفور الشفق فورته وسطوعه ، وثوره ثوران حمرته ، قالهما الخطابي وغيره ، مع أنه قد ورد ذلك صريحاً .
360 أ فعن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( الشفق الحمرة ، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة ) رواه الدارقطني والبيهقي ، وقال : الصحيح أنه موقوف ثم هو قول جماعة من الصحابة .
360 ب روى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعبادة بن الصامت ، وشداد ، رواه البيهقي عنهم قال : ورويناه عن عمر ، وعلي ، وأبي هريرة . وقد حكى بعضهم الإِجماع على ذلك ، في قوله تعالى : { فلا أقسم بالشفق } على أنه قد حكي عن الخليل بن أحمد وغيره أنهم قالوا : إن البياض لا يغيب إلا عند طلوع الفجر .
وحكى عن أحمد أن المراد بالشفق هنا هو البياض .
360 ج لما روى عن النعمان بن بشير قال : أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة يعني العشاء كان رسول الله يصليها لسقوط القمر لثالثة . رواه أحمد ، والنسائي والترمذي ، ولا دليل فيه إذ ليس فيه : أن ذلك أول وقتها ، فإن الرسول كان يؤخر العشاء ، بل هو دليل لنا ، ( إذ ) سقوط القمر لثالثة يكون عند تمكن البياض على ما قيل ، ( وعنه ) رواية ثالثة كما قاله الخرقي في الشفق : في السفر الحمرة ، وفي الحضر البياض الذي يعقب الحمرة ، نظراً للمعنى الذي ذكره الخرقي ولما كان عند أبي محمد أنه لا خلاف أن الشفق [ الحمرة ] قال : إنه يعتبر غيبة البياض للدلالة على غيبوبة الأحمر ، لا لنفسه .
( إذا عرف هذا ) فإذا غاب الشفق خرج وقت المغرب ، وعقبه وقت العشاء بالإِجماع والأحاديث متظافرة على ذلك ، والله أعلم .
قال : إلى ثلث الليل ، فإذا ذهب ثلث الليل ذهب [ وقت ] الاختيار .
ش : أي أن وقت العشاء المختار يمتد إلى ثلث الليل ، وهذا إحدى الروايتين واختيار أبي بكر في التنبيه ، والقاضي في الجامع ، لما تقدم من حديث أبي موسى ، واختارها القاضي في روايتيه ، وابن عقيل في تذكرته ، والشيخان يمتد إلى نصفه ، لحديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله : ( وقت العشاء إلى نصف
____________________
(1/147)
الليل ) رواه مسلم وغيره ، ونحوه من حديث أبي هريرة ، رواه أبو داود ، والترمذي .
361 وعن أنس رضي الله عنه قال : أخر النبي العشاء إلى نصف الليل ، ثم صلى ، ثم قال : ( قد صلى الناس وناموا ، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها ) رواه البخاري وغيره وقول صاحب التلخيص : إن من الثلث إلى النصف من الليل وقت جواز ، لا وقت اختيار . ولا ضرورة .
وقول الخرقي : وجبت عشاء الآخرة . يقتضي جواز تسمية المغرب بالعشاء . وهو كذلك بلا كراهة ، نعم : الأولى تسميتها بالمغرب ، وكذلك العشاء الأولى أن لا تسمى العتمة ، ويجوز ذلك بلا كراهة على الأصح ، وظاهر كلام ابن عبدوس المنع [ من ذلك ] والله أعلم .
قال : ووقت الضرورة [ مبقى ] إلى أن يطل الفجر الثاني ، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق فينتشر ، ولا ظلمة بعده .
ش : قد تقدم أن آخر وقت العشاء المختار ثلث الليل أو نصفه ، ثم من ذلك إلى طلوع الفجر الثاني وقت ضرورة ، ووقت إدراك على ما تقدم .
362 لظاهر ما روى أبو قتادة رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى ) رواه مسلم قال البيهقي وروينا عن ابن عباس : وقت العشاء إلى الفجر .
363 أ وعنه ، وعن عبد الرحمن بن عوف أنهما قالا في الحائض : إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء . رواه أحمد .
363 ب وعن أبي هريرة مثل ذلك ، رواه حرب .
363 ج وعنه أيضاً [ وسئل ] : ما إفراط صلاة العشاء ؟ قال : طلوع الفجر ، وهذا كله يدل على أن ذلك وقت العشاء .
364 قال البيهقي : وروينا عن عائشة قالت : أعتم رسول الله حتى ذهبت عامة الليل . اه .
والفجر الثاني هو البياض الذي يبدو من قبل المشرق فينتشر ولا ظلمة بعده ، ويسمى : ( الفجر الصادق ) لأنه صدق عن الصبح وبينه ، ( والمستطير ) لأنه طار في الأفق وانتشر فيه والفجر الأول هو الفجر المستطيل ، الذي يبدو معترضاً كذنب السرحان ، ثم
____________________
(1/148)
تعقبه الظلمة ، ومن ثم سمي الفجر الكاذب والفجر الثاني هو الذي تتعلق به الأحكام .
365 وقد روي عن جابر [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله [ ] : ( الفجر فجران ، فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة ، ولا يحرم الطعام ، [ وأما الذي يذهب مستطيلًا في الأفق فإنه يحل الصلاة ، ويحرم الطعام ] ) رواه البيهقي وقال : الأصح إرساله .
( تنبيه ) : السرحان الذئب ، والله أعلم .
قال : فإذا طلع الفجر الثاني وجبت [ صلاة ] الصبح .
ش : هذا إجماع ولله الحمد ، والنصوص شاهدة بذلك .
( تنبيه ) : الفجر هو انصداع البياض من المشرق ، سمي بذلك لانفجاره ، أي لظهوره وخروجه كما ينفجر النهر ، والله أعلم .
قال : وآخره إذا طلعت الشمس .
ش : قد حكى ابن المنذر ما يدل على أن هذا إجماع أيضاً ، وفي حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه مسلم وغيره عن النبي أنه قال : ( وقت الفجر ما لم تطلع الشمس ) .
____________________
(1/149)
ومقتضى كلام الخرقي [ رحمه الله ] أن جميع وقتها وقت اختيار ، كما في المغرب ، والظهر ، وهو المذهب ، وجعل القاضي في المجرد ، وابن عقيل في التذكرة وابن عبدوس لها وقتين ، اختيار وهو الأسفار ، وضرورة وإدراك ، وهو إلى طلوع الشمس .
( تنبيه ) : وتسمى بالفجر أيضاً ، قال تعالى : 19 ( { وقرآن الفجر ، إن قرآن الفجر كان مشهوداً } ) روى عن أبي هريرة أن المراد به صلاة الفجر وفي حديث جبريل : ( وصلى بي الفجر حين حرم الطعام ) ولا يكره تسميتها بالغداة على الأصح ، والله أعلم .
قال : ومن أدرك منها ركعة قبل أن تطلع [ الشمس ] فقد أدركها .
ش : لما تقدم من حديث أبي هريرة ، وظاهر كلام الخرقي أن الإِدراك لا يحصل إلا بركعة ، والمشهور عند الأصحاب خلافه ، كما تقدم في العصر ، وهذا الحكم أعني الإِدراك [ بركعة ] أو بما دونها لا يختص بالعصر والصبح ، بل الحكم كذلك في جميع الصلوات .
366 لما في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها كلها ) .
ومقتضى كلام الخرقي [ رحمه الله ] أن صلاة الصبح لا تبطل بطلوع الشمس وهو فيها ، وهو كذلك ، لما تقدم ، وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال : ( إذا أدرك أحدكم [ أول سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس ، فليتم صلاته ، وإن أدرك ] أول سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته ) .
367 وعنه أيضاً أن رسول الله قال : ( من صلى من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فطلعت فليصل إليها أخرى ) رواه أحمد ، والبيهقي ، والله أعلم .
قال : [ وهذا ] مع الضرورة .
ش : ظاهر هذا أن هذا الإِدراك أيضاً مختص بمن له ضرورة ، كما تقدم في العصر ، وكذلك قال ابن أبي موسى . ولا يتمشى التأويل الذي تأولناه في العصر بأن جواز التأخير مختص بوقت الضرورة ، إذ جميع وقت الصبح وقت اختيار على المذهب . نعم على قول القاضي يجيء التأويل ، ومن هنا أخذ القاضي أن للصبح وقتين ، والله أعلم .
قال : والصلاة في أول الوقت أفضل ، إلا عشاء الآخرة ، وفي شدة الحر الظهر .
ش : هذا منصوص أحمد في رواية الأثرم ، والأصل في الجملة قوله تعالى : 19 ( { فاستبقوا الخيرات } )9 ( { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم } ) والصلاة من الخيرات ، ومن أسباب المغفرة ، وقوله تعالى : 19 ( { أقم الصلاة لدلوك الشمس } )9 ( { حافظوا على الصلوات } ) قال الشافعي رحمه الله : المحافظة على الشيء تعجيله .
368 وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما صلى رسول الله صلاة لوقتها الأخير مرتين ، حتى قبضه الله . رواه أحمد ، والترمذي ، والدارقطني ، وفي لفظ : إلا مرتين .
369 وعن أم فروة وكانت ممن بايعت النبي قالت : سئل النبي أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الصلاة لأول وقتها ) رواه أحمد والترمذي ، وأبو داود .
370 وعن ابن مسعود قال : سألت رسول الله : أي العمل أفضل ؟ قال : الصلاة في أول وقتها ) مختصر ، رواه ابن خزيمة في مختصر المختصر .
371 وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( الوقت الأول
____________________
(1/150)
من الصلاة رضوان الله ، والآخر عفو الله ) رواه الترمذي لكن قال الإِمام أحمد : من يروي هذا ؟ ليس [ هذا ] يثبت . وكذلك ضعفه غيره .
إذا عرف هذا فلنشر إلى صلاة صلاة على الانفراد . فأما الظهر فالمستحب تقديمها ، لما تقدم .
372 وفي الصحيح عن أبي برزة رضي الله عنه : كان رسول الله يصلي الظهر إذا زالت الشمس .
373 وعن عائشة [ رضي الله عنها ] : ما رأيت إنساناً كان أشد تعجيلًا بالظهر من رسول الله . ما استثنت أباها . ولا عمر ، رواه البيهقي والترمذي ولفظه : ولا من أبي بكر ولا من عمر . ويستثنى من ذلك الوقت الشديد الحر ، فإن المستحب التأخير فيه .
374 لما في الصحيحين وغيرهما ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أبردوا بالصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم ) .
375 وفي الصحيحين أيضاً عن أبي ذر نحوه ، وفي لفظ : ( أبردوا بالظهر ) .
376 وعن المغيرة [ رضي الله عنه ] قال : كنا نصلي مع رسول الله [ ] الظهر بالهاجرة ، فقال لنا : ( أبردوا بالصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم ) رواه أحمد ، والترمذي وقال : سألت محمداً عن هذا فعده محفوظاً . ثم هل ذلك مطلقاً ، وهو ظاهر كلام أحمد ، والقاضي في الجامع ، والخرقي ، وابن أبي موسى ، وابن عقيل في التذكرة ، وصاحب التلخيص ، وإليه ميل أبي محمد ، نظراً لظواهر الأحاديث . أو مختص وإليه ميل أبي محمد ، نظراً لظواهر الأحاديث . أو مختص بمن أراد الخروج إلى الجماعة ، وهو قول أبي الخطاب ، وطائفة تعليلًا بالمشقة [ والمشقة ] إنما تحصل بذلك . وشرط القاضي في موضع مع الخروج إلى الجماعة [ كونه في البلدان الحارة ] . وابن الزاغوني كونه في مساجد الدروب .
هذا كله في الظهر ، أما الجمعة فيسن تقديمها مطلقاً .
377 قال سهل بن سعد : ما كنا نقيل ، ولا نتغدى إلا بعد الجمعة .
378 أ وقال سلمة بن الأكوع : كنا نجمع مع رسول الله ، ثم نرجع نتتبع الفيء . متفق عليهما .
____________________
(1/151)
ويستثنى أيضاً من أفضلية تقديم الظهر مع تيقن دخول وقتها حال الغيم ، فإنه يستحب تأخيرها فيه ، وتقديم العصر ، وتأخير المغرب ، وتقديم العشاء ، نص على ذلك أحمد .
378 ب لما روى ابن منصور في سننه ، عن إبراهيم قال : كانوا يؤخرون الظهر ويعجلون العصر ، ويؤخرون المغرب في اليوم المتغيم ، ولأن ذلك مظنة عارض من مطر ونحوه ، فاستحب تأخير الأولى من المجموعتين لتقرب من الثانية ، لكي يخرج لهما خروجاً واحداً ، طلباً للأسهل المطلوب شرعاً .
وظاهر كلام الخرقي ، وأحمد في رواية الأثرم وإليه ميل أبي محمد عدم استحباب ذلك ، إذ مطلوبية التأخير في عامة الأحاديث إنما وردت في الحر ، وظاهر كلام أبي الخطاب استحباب تأخير الظهر لا المغرب ، وحيث استحب التأخير فهل ذلك مطلقاً ، أو لمن يريد الجماعة ؟ فيه خلاف .
( تنبيه ) : التأخير في الحر قال أبو محمد : حتى تنكسر ، ولا يؤخر إلى آخر الوقت . قال ابن الزاغوني : حتى ينكسر الفيء ذراعاً ، أو نحو ذلك ، وفي التلخيص : إلى رجوع الظل الذي يمشي فيه الساعي إلى الجماعة ؛ وفي الغنم قال ابن الزاغوني : يؤخر إلى قريب من وسط الوقت . اه .
أما العصر فالمستحب تقديمها على المذهب بلا ريب ، لما تقدم ، [ وفي الصحيح ] من حديث أبي برزة [ رضي الله عنه ] ، قال : كنا نصلي مع رسول الله [ ] العصر ، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية .
379 وفي الصحيح أيضاً عن أنس [ رضي الله عنه ] أن رسول الله [ ] كان يصلي إلى العصر والشمس بيضاء مرتفعة حية ، ويذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة حية ، وحكي عنه أن الأفضل مع الصحو التأخير احتياطاً للخروج من الخلاف ، إذ عند البعض لا يدخل وقتها إلا بصيرورة كل شيء مثليه .
وأما المغرب فقد تقدم الكلام عليها .
وأما العشاء فإن الأفضل تأخيرها لما تقدم وفي حديث أبي برزة : وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة .
380 وفي الصحيح من حديث ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال : أعتم النبي [ ] بالعشاء ، فخرج عمر فقال : الصلاة يا رسول الله ، رقد النساء والصبيان . فخرج ورأسه يقطر يقول : ( لولا أن أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة ) .
38
____________________
(1/152)
1 وفيه أيضاً من حديث ابن عمر : مكثنا ليلة ننتظر رسول الله [ ] لعشاء الآخرة ، فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو نحوه . مختصر .
382 وعن معاذ رضي الله عنه ] : قال رسول الله [ ] : ( أعتموا بهذا الصلاة ، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم ، ولم تصلها أمة قبلكم ) مختصر ، رواه أبو داود ، ثم هل يستحب التأخير مطلقاً ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وأبي الخطاب ، وصاحب [ التلخيص ] لظاهر حديث أبي برزة ، ومعاذ ، وغيرهما ، أو أن ذلك معتبر بحال المأمومين ، بحيث لا يشق عليهم غالباً ، وهو اختيار أبي محمد ، لحديث ابن عباس .
383 وفي حديث جابر الصحيح : إذا رآهم اجتمعوا عجل ، وإذا رآهم أبطؤا أخّر . ؟ فيه روايتان .
وأما الصبح فالأفضل تقديمها مطلقاً على إحدى الروايات ، واختيار الخرقي وأبي محمد وطائفة ، لما تقدم ، وفي حديث جابر : والصبح كان النبي يصليها بغلس .
384 وفي الصحيحين من حديث عائشة [ رضي الله عنها ] : لقد كان رسول الله [ ] يصلي الفجر فيشهد [ معه ] نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ، لا يعرفهن أحد من الغلس . وعلى هذا يكره التأخير إلى الأسفار بلا عذر . ( والثانية ) : الأسفار بها أفضل مطلقاً .
385 لما روى رافع بن خديج [ رضي الله عنه ] سمعت رسول الله [ ] يقول : ( أسفروا بالفجر ، فإنه أعظم للأجر ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، والنسائي ، وحمل على أن المراد مطلوبية إطالة القراءة [ فيها ] ، بحيث يفرغ منها مسفراً ، كما جاء عنه في الصحيح أنه كان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه لا أنه يفتتحها مسفراً . وقيل : المراد التأخير حتى يتبين طلوع الفجر ويمضي زمن الوضوء ونحوه ؛ ويعين تأويل الحديث مواظبة النبي [ ] على التغليس كما تقدم ، وفي حديث ابن عباس لما وصف صلاة جبريل بالنبي قال : ثم كانت صلاته بعد التغليس ، لم يعد إلى أن يسفر بها .
( والثالثة ) واختارها الشيرازي الاعتبار بحال أكثر المأمومين ، فإن غلسوا
____________________
(1/153)
غلس ، وإن أسفروا أسفر ، توقيراً [ للجميع ] إذ ما كثر فهو أحب إلى الله [ تعالى ] كما ورد في الحديث ، وقياساً على ما فعله في العشاء ، فإنه كان إذا رآهم اجتمعوا عجل ، وإذا رآهم أبطؤا أخّر .
386 وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله [ ] إلى اليمن ، فقال : ( يا معاذ إذا كان في الشتاء فغلس بالفجر ، وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس ، ولا تملهم ، وإذا كان في الصيف فأسفر بالفجر ، فإن الليل قصير ، والناس ينامون ، فأمهلهم حتى يدركوا ) رواه الحسين بن مسعود الفراء في سننه .
ومحل الخلاف فيما إذا كان الأرفق على المأمومين الإِسفاء مع حضورهم ، أو حضور بعضهم ، أما لو تأخر الجيران كلهم فالأولى هنا التأخير بلا خلاف ، على مقتضى ما قال القاضي في التعليق ، وقال : نص عليه في رواية الجماعة .
واعلم أنا وإن شركنا بين الفجر والعشاء في مراعاة حال الجيران ، إلا أن بينهما فرقا [ لطيفا ] وهو أن التقديم في الفجر أفضل إلا إذا تأخروا ، والتأخير في العشاء أفضل إلا إذا تقدموا وتظهر فائدة ذلك في المصلي وحده ، وفي جماعة تقدموا ولم يشق عليهم التأخير ، فإن الأفضل إذاً تقديم الفجر ، وتأخير العشاء .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) تحصل فضيلة [ أول ] الوقت بأن يشتغل بأسباب الصلاة إذا دخل الوقت ، قال في التلخيص ، ويقرب منه قول المجد : قدر الطهارة ، والسعي إلى الجماعة ، ونحو ذلك .
( الثاني ) ( أبردوا بالصلاة ) أي أخّروها عن ذلك الوقت ، وأدخلوها في وقت البرد ، وهو الزمن الذي ينكسر فيه الحر ، فيوجد فيه برود [ ما ] يقال : أبرد الرجل أي صار في برد النهار ( فيح جهنم ) شدة حرها ، وشدة غليانها ، يقال : فاحت القدر تفيح إذا هاجت وغلت . وقوله : والشمس حية . وقال غيره : حياتها بقاء حرها ( والعوالي ) فسرها مالك بثلاثة أميال من المدينة ، وقال غيره : هي مفترقة ، فأدناها ميلان ، وأبعدها ثمانية أميال ، والله أعلم .
قال : وإذا طهرت الحائض ، وأسلم الكافر ، وبلغ الصبي ، قبل أن تغرب الشمس صلوا الظهر والعصر ، وإن بلغ الصبي ، وأسلم الكافر وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر صلوا المغرب وعشاء الآخرة .
ش : إذا أدرك واحد من هؤلاء من وقت صلاة قدر تكبيرة وجبت تلك الصلاة لما تقدم من حديث أبي هريرة ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة ) ( ومن أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس ) الحديث والصلاة التي قبلها إن كانت تجمع إليها .
387 لما روي عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف رضي
____________________
(1/154)
الله عنه أنهما قالا : إذا طهرت الحائض قبل مغيب الشمس صلت الظهر والعصر ، وإذا رأت الطهر قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب والعشاء . رواه أحمد وغيره . وعن أبي هريرة : إذا طهرت قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب والعشاء . رواه حرب وكذلك رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن عوف ، ولم يعرف لهم مخالف ، وقد روى البيهقي في سننه عن أبي الزناد [ قال ] : كان من أدركت من فقهائنا يقولون فذكر أحكاماً وفيها : والذي يغمى عليه فيفيق قبل الغروب ، يصلي الظهر والعصر ، فإن أفاق قبل طلوع الفجر صلى الفجر صلى المغرب والعشاء ، قالوا : وكذلك تفعل الحائض إذا طهرت قبل الغروب ، أو قبل طلوع الفجر ولأن الشارع نزل وقتي المجموعتين حال العذر وهو الجمع منزلة الوقت الواحد ، وما نحن فيه أقوى الأعذار ، وحكم المجنون يفيق حكم من تقدم ، ويحصل الوجوب بإدراك قدر تكبيرة كما تقدم ، ولا يشترط ركعة ، ولا زمن يتسع للطهارة ، نص عليه .
ومقتضى كلام الخرقي أن الصلاة لا تجب ( على حائض ) ، وهو إجماع ، ولا ( على كافر ) أصلي أو غيره ، أو الأصلي فواضح ، إذ لا يجب عليه الأداء في حال كفره ، ولا يجوز له إلا إن أتى بالشرط ، و [ لا ] القضاء إذا أسلم اتفاقاً ، ومعنى خطابه بالفروع زيادة العقاب على ذلك في الآخرة ، أو كون ذلك وسيلة إلى إسلامه ، إذا كان ممن يصح منه فعله في حال كفره ، كما لو أعتق ونحو ذلك ، أو حصول الثواب له إذا أسلم ، وأما غيره فهل تجب عليه العبادات في حال ردته فتنتفي هذه المسألة ، لأنه إذاً لم يتجدد عليه وجوب بالإِدراك بل الوجوب موجود من أول الوقت .
( والثانية ) وهي ظاهر كلام الخرقي لا ، وعليها تجيء هذه المسألة . اه ، ( ولا على ) صبي مطلقاً ، وهو المذهب . ( وعنه ) تجب على من بلغ عشرا ، وسيأتي [ ذلك ] إن شاء الله تعالى . وعلى هذا أيضاً تنتفي هذه المسألة ، والله أعلم .
قال : والمغمى عليه يقضي جميع الصلوات التي كانت [ عليه ] في إغمائه [ والله أعلم ] .
ش : لأن الصلاة عبادة ، فلا تسقط بالإِغماء كسائر العبادات ، وذلك لأن الإغماء لا ينقطع التكليف به ، بدليل جوازه على الأنبياء .
387 م وقد روي أن عماراً [ رضي الله عنه ] غشي عليه أياما لا يصلي ، ثم استفاق بعد ثلاث فقال : هل صليت ؟ فقالوا : ما صليت منذ ثلاث . فقال : أَعطوني وضوءاً فتوضأ ثم صلى تلك الليلة .
388 وعن سمرة بن جندب [ رضي الله عنه ] قال : المغمى عليه يترك الصلاة ، يصلي مع كل صلاة مثلها . قال : قال عمران : ولكن يصليهن جميعاً . رواهما الأثرم ورواه البيقي عن عمار ولفظه : أنه أغمي عليه في الظهر ، والعصر ، والمغرب ،
____________________
(1/155)
والعشاء ، فأفاق نصف الليل ، فصلى الأربع .
389 وما روي عن رسول الله [ ] في الرجل يغمى عليه ، فيترك الصلاة اليومين والثلاثة ، قال : ( ليس لشيء من ذلك قضاء إلا أن يغمى عليه في صلاته فيفيق وهو فيها فيصليها ) .
ويدخل في كلام الخرقي [ رحمه الله ] الإغماء بتناول المباح ، وهو الصحيح من الوجوه ( والثاني ) لا قضاء عليه فتفوت مصلحته ( والثالث ) إن تطاول الإغماء والحال ما تقدم أسقط القضاء قياساً على الجنون ، وإلا لم يسقط ، ولا إشكال أن زوال العقل بمرض أو سكر لا يسقط القضاء . نعم قيل بسقوط القضاء مع سكر بشرط الإِكراه .
وهذا كله على المذهب المقطوع به ، من أن المجنون لا قضاء عليه .
390 اعتماداً على قوله : ( رفع القلم عن ثلاثة ) الحديث ، أما إن قيل بوجوب القضاء عليه على رواية حنبل الضعيفة فإن من تقدم يجب عليه القضاء بلا ريب ، والله أعلم .
( باب الأذان )
ش : الأذان في اللغة هو الإِعلام ، ومنه قوله تعالى : { وأذان من الله ورسوله } أي وإعلام ، وأصله من الأذن وهو الاستماع ، فإنه يلقي في آذان الناس بصوته ما إذا سمعوه علموا أنهم تدبوا لذلك . و [ هو ] في الشرع : إعلام بدخول وقت الصلاة ، بذكر مخصوص ، [ في وقت مخصوص ] ، من شخص مخصوص ، ويحصل به أيضاً الإِعلام بالدعاء إلى الجماعة [ و ] بإظهار شعائر الإِسلام ، ويطلق على الإِقامة أيضاً ، لأنها إعلام بإقامة الصلاة .
391 والأصل فيه ما روى محمد بن محمد بن إسحاق ، من حديث محمد بن إبراهيم التيمي ، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه ، حدثني أبي ، قال : لما أمر رسول الله [ ] بالناقوس ، يعمل ليضرب به للناس في الجمع للصلاة ، أطاف [ بي ] وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً في يده ، فقلت له : يا عبد الله أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ فقلت : ندعو به إلى الصلاة . قال : أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ؟ قلت : بلى . قال : تقول : الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله . ثم استأخر غير بعيد ، قال : ثم تقول إذا قمت إلى الصلاة : الله أكبر ،
____________________
(1/156)
الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله . فلما أصبحت أتيت رسول الله فأخبرته ما رأيت ، فقال : ( إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال ، فألق عليه ما رأيت ، فليؤذن به ، فإنه أندى صوتا منك ) فقمت مع بلال ، فجعلت ألقيه عليه وهو يؤذن به ، فسمع ذلك عمر وهو في بيته ، فخرج يجر رداءه ويقول : والذي يعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى . فقال رسول الله [ ] ( فلله الحمد ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وفي رواية كرر التكبير أربعاً ، قال الترمذي : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا يعني حديث محمد بن إبراهيم التيمي فقال : هو عندي صحيح . وقال محمد بن يحيى الذهلي : ليس في أخبار عبد الله بن زيد في الأذان خبر أصح من هذا .
392 وفي الصحيح عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] ، قال : كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون ، فيتحينون الصلاة ، وليس ينادي لها أحد ، فتكلموا يوماً في ذلك فقال بعضهم : نتخذ ناقوساً ، مثل ناقوس النصاري ، وقال بعضهم : بل قرنا مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أفلا تبعثون رجلًا ينادي بالصلاة ؟ فقال رسول الله [ ] ( يا بلال قم فناد بالصلاة ) متفق عليه .
393 وروى البيهقي في سننه عن أنس ، قال : كانت الصلاة إذا حضرت على عهد رسول الله [ ] سعى رجل في الطريق ، فنادى ) الصلاة ، الصلاة . فاشتد ذلك على الناس ، فقالوا 19 ( اتخذنا ناقوساً يا رسول الله ، فقال : ( ذلك للنصارى ) فقالوا : لو اتخذنا بوقا . قال : ( ذلك لليهود ) قال : فأمر بلالًا أن يشفع الأذان ويوتر الإِقامة . اه . وبهذا يحصل الجمع بين حديثي ابن زيد ، وابن عمر ، بأن يكون النداء الأول : الصلاة الصلاة . ثم رأى عبد الله بن زيد الأذان ، فأمر بلال أن يؤذن به ، واستقر العمل عليه .
( تنبيه ) ( يتحينون ) يعني يقدرون أحياناً ، ليأتوا إليها فيها ، والحين الوقت والزمان ، والله أعلم .
قال : ويذهب أبو عبد الله [ رحمه الله ] إلى أذان بلال [ رضي الله عنه ] وهو : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله .
____________________
(1/157)
ش : هذا هو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين لما تقدم ، إذا هو الذي كان يفعل بحضرته حضراً وسفراً ، وعليه عمل أهل المدينة ، قال الأِمام أحمد : [ رحمه الله ] هو آخر الأمرين ، وكان بالمدينة ، وقيل [ له ] : إن أذان أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد ، لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة . فقال : أليس قد رجع النبي إلى المدينة ، فأقر بلالًا على أذان عبد الله بن زيد ؟ .
ونقل عنه حنبل : أذان أبي محذورة أعجب إلي ، وعليه عمل أهل مكة إلى اليوم ، وأذان أبي محذورة يرجع فيعيد الشهادتين بعد ذكرهما ، بصوت أرفع من الصوت الأول .
394 قال أبو محذورة : إن رسول الله [ ] علمه الأذان تسع عشرة كلمة ، والإِقامة سبع عشر كلمة ، رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وفي لفظ : ثم تقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله [ أشهد أن محمداً رسول الله ، تخفض بها صوتك ، ثم ترفع صوتك : أشهد أن لا إله إلا الله ، مرتين ، أشهد أن محمداً رسول الله ] والخلاف في الاختيار ، ولا خلاف في جواز الأمرين من غير كراهة ، ) 19 ( على المذهب المعروف ، وحكي عنه كراهة الترجيع والله أعلم .
قال : والإِقامة : الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله .
ش : لما تقدم من حديث عبد الله بن زيد ، وقد تقدم ما يقتضي ترجيحه .
395 وفي الصحيحين عن أنس بن مالك [ رضي الله عنه ] قال : أمر بلال أن يشف الأذان ، ويوتر الإِقامة ، وإن ثنى الإِقامة فلا بأس ، لما تقدم من حديث أبي محذورة ، والله أعلم .
قال : ويترسل في الأذان ، ويحدر الإِقامة .
ش : الترسل التمهل والتبين ، والإِحدار الإِسراع .
396 وقد جاء ذلك من حديث جابر [ رضي الله عنه ] ، أن رسول الله [ ] قال لبلال : ( إذا أذنت فترسل ، وإذا أقمت فاحدر ) مختصر ، رواه الترمذي وقال : إسناده مجهول .
والبيهقي من رواية أبي هريرة وقال : إسناده مظلم .
397 وعن علي [ رضي الله عنه ] قال : كان رسول الله [ ] يأمرنا أن نرتل
____________________
(1/158)
الأذان ، ونحذف الأِقامة . رواه الدارقطني .
398 وروى أيضاً هو والبيهقي عن أبي الزبير مؤذن بيت المقدس قال : جاء عمر بن الخطاب فقال : إذا أذنت فترسل ، وإذا أقمت فاحدر . وفي رواية فاحذم قال الأصمعي : الحذم قطع التطويل . وقد استنبط الشافعي رحمه الله من مطلوبية رفع الصوت في الأذان كما قد ثبت في الصحيح ترتيل الأذان . والله أعلم .
قال : ويقول في أذان الصبح : الصلاة خير من النوم . مرتين .
399 ش : في رواية لأحمد وأبي داود في حديث عبد الله بن زيد : قال : ثم أمر بالتأذين ، فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك ، ويدعو رسول الله [ إلى الصلاة ] . قال : قد فجاء فدعاه ذات غداة إلى الفجر ، فقيل له : إن رسول الله [ ] نائم . [ قال ] : فصرخ بلال بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم . قال سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر .
400 وعن أنس قال : من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر : حي على الفلاح . قال الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله . رواه البيهقي في سننه ، وقال : إسناده صحيح . وموضع ذلك بعد : حي على الفلاح . كما في حديث أنس ، ولما يأتي في حديث أبي محذورة وهذا والذي قبله على سبيل الإِستحباب ، ولهذا قال الخرفي [ بعد ] : وإن أذن لغير الفجر قبل دخول الوقت أعاد . ) 19 ( وقيل بالوجوب في التثويب .
401 لأن في حديث أبي محذورة : أنه علم الأذان وفيه كان في الصبح فقل بعد حي على الفلاح : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم وهذا أمر اه وتخصيص الخرقي ذلك بالصبح يقتضي أنه لا يطلب في غيره ، وهو كذلك .
402 لما روي عن بلال قال : أمرني رسول الله [ ] أن لا أثوب إلاا في الفجر . رواه أحمد وابن ماجه ، وفيه إرسال قاله البيهقي .
403 وعن مجاهد : كنت مع ابن عمر ، فثوب رجل في الظهر أو العصر ، قال : أخرج بنا فإنها بدعة . رواه أبو داود ، والله أعلم .
قال : وإن أذن لغيره الفجر قبل دخول الوقت أعاد [ إذا دخل الوقت ] .
ش : لا يعتد بالأذان قبل دخول الوقت لغير الفجر ، على المذهب المعروف ، لفوات المقصود منه ، وهو الإِعلام بدخول الوقت ، ولما في ذلك من التغرير الممنوع
____________________
(1/159)
منه شرعاً ، ومخالفته الأمر النبي [ ] ، وما كان عليه .
404 ففي الصحيحين عن مالك بن الحويرث ، قال : أتيت النبي [ ] في نفر من قومي فأقمنا عنده عشرين ليل ، وكان بنا [ برا ] رحيماً رفيقاً ، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال : ( ارجعوا فكونوا فيهم ، وعلموهم ، وصلوا ، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم ) .
505 وفي صحيح مسلم ، عن جابر بن سمرة [ رضي الله عنه ] قال : كان بلال يؤذن إذا دحضت ، ثم لا يقيم حتى يرى النبي [ ] فإذا رآه أقام حين يراه وفي الرعاية حكاية رواية بالكراهة وظاهرها مع الاعتداد [ به ] وليست بشيء ، لإِطباق الناس على خلافها . اه ويعتد بالأذان للفجر قبل دخول وقتها على المذهب .
406 لما في الصحيحين وغيرهما ، عن ابن عمر وعائشة [ رضي الله عنهما ] ، أن النبي [ ] قال : ( إن بلالًا يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) .
407 وعن ابن مسعود [ رضي الله عنه ] أن رسول الله [ ] قال : ( لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإن يؤذن أو قال : ينادي بليل ، ليرجع قائمكم ويوقط نائمكم ) متفق عليه أيضاً . وفيه إشارة إلى علة اختصاص الفجر بذلك ، وهو قيام النائم ليقضي حاجته ، فيأتي الصلاة في أول الوقت ، ورجوع القائم ليأتي بالعبادة على وجه النشاط . وقاس الشيرازي على الصبح الجمعة ، فأجاز الأذان لهاع قبل وقتها ليدركها من منزله فيه بعد ونحو ذلك ، وهو أجود من قول [ ابن ] حمدان : وقيل : وللجمعة قبل الزوال . لعموم الأول . واستثنى ابن عبدوس مع الفجر الصلاة المجموعة ، ) 19 ( وليس بشيء لأن الوقتين صار وقتاً واحداً ( وعنه ) رواية بالمنع في التأذين قبل الوقت بالفجر أيضاً ، فغيرها أحرى .
408 لما روى عن ابن عمر ، أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر ، فأمره النبي [ ] أن يرجع فينادي ( ألا إن العبد نام ، ألا إن العبد نام ) ثلاثاً ، فرجع فنادى : ألا إن العبد نام . رواه أبو داود لكن قال ابن المديني : إنه غير محفوظ ، أخطأ فيه حماد . وقال محمد بن يحيى الذهلي : خبر حماد شاذ ، غير واقع على القلب ، [ هو ] خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر .
فعل المذهب شرط الإعتداد بالأذان للفجر قبل وقتها أن يكون بعد منتصف [ الليل ]
____________________
(1/160)
قال طائفة من الأصحاب ، لأن قبل النصف وقت يختص بالعشاء اختصاصاً كلياً ، لكونه وقتها المختار ، وما بعده بخلافه ، والخرقي وجماعة من الأصحاب لم يقيدوا على ذلك ، فيحتمل أنهم أحالوا على العادة . ولا إشكال أنه لا يستحب تقدم ذلك على الوقت كثيراً ، قاله الشيخ وغيرهما .
409 لأن في الصحيح من حديث عائشة : قال القاسم الراوي عنها : لم [ يكن ] بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا .
410 وفي حديث رواه الطيالسي وغيره قال : فكنا نحتبس ابن أم مكتوم عن الأذان ، ونقول : كما أنت حتى نتسحر ، كما أنت حتى نتسحر . ولم يكن بين أذانهم إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا . ومن ثم قال البيقهي رحمه الله : [ مجموع ] ما روي في تقديم الأذان قبل الفجر إنما هو يزمن يسير ، لعله لا [ يبلغ ] مقدار قراءة الواقعة ، بل أقل منها ، ففضيلة التقديم بهذا ، لا بأكثر ، وأما ما يفعل في زماننا من الأذان للفجر من الثث الأخير ، فخلاف السنة ، إن سلم جوازه ، ويستحب لمن أذّن قبل الفجر أن يكون معه من يؤذن في الوقت ، لقضية النص ، وأن يتخذ ذلك عادة ، لئلا يغر الناس ، وفي الكافي ما يقتضي اشتراط ذلك . اه .
إذا تقرر أنه يعتد بالأذان للفجر قبل وقتها ، ولا يعتد بالأذان لغيرها قبل الوقت على المذهب فيهما ، فهل يجوز ذلك أم لا ، أما الغير الفجر فلا يجوز ذلك ، على المعروف من الروايات ، وقد تقدم حكاية رواية بالكراهة ، وظاهرها مع الجواز ، وحكي رواية بالكراهة ، وظاهرها مع الجواز ، وحكي رواية ثالثة بالكراهة إلا أن يعيده بعد الوقت ، وأما للفجر فهل يباح ذلك أو يسن ؟ على قولين ، ثم هل ذلك في جميع السنة ، أو يستثنى من ذلك رمضان ، فيكره الأذان فيه قبل الفجر ، حذاراً من منع كثير من الناس من السحور ، ولعدم معرفتهم بالوقت ، واعتمادهم على الأذان ؟ فيه روايتان ، أشهرهما عند الأصحاب الثاني ، ) 19 ( وعليه هل ذلك مطلقاً ، أو إذا لم تجر عادة بذلك ، نظراً للمعنى المتقدم ، وحذاراً من تعطيل السنة الصريحة ، لورودها بذلك ، وهو قول أبي البركات ؟ فيه قولان .
( تنبيه ) الوقت منوط بنظر المؤذن ، والإِقامة وقتها منوط بنظر الإِمام والله أعلم .
قال : ولا يستحب أبو عبد الله أن يؤذن إلا ظاهراً ، فإن أذن جنباً أعاد .
ش : المستحب أن يؤذن ويقيم وهو طاهر من الحدثين .
411 لما روي عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] أن النبي [ ] قال : ( لا يؤذن إلا متوضيء ) رواه الترمذي ، والبيهقي ، مرفوعاً موقوفاً على أبي هريرة ، وصححاً
____________________
(1/161)
الموقوف ، لأنه ذكر ، فاستحبت له الطهارة ، كبفية الأذكار ، فإن أذن أو أقام محدثاً أجزأ .
412 قال النخعي : كانوا لا يرون بأس أن يؤذن الرجل على غير وضوء . ذكره البيهقي لكن يكره ذلك في الإِقامة دون الأذان ، نص عليه ، وكرهه صاحب التلخيص ، والسامري فيهما لكن الكراهة في الإقامة أشد . وإن أذن جنبا ( فعنه ) كما حكاه جماعة من الأصحاب ، واختاره الخرقي ، وابن عبدوس لا يعتد به فيعاد ، لأنه ذكر يختص فاعله أن يكون من أهل القرب ، فلم يعتد به من الجنب كالقراءة ( وعنه ) وهو اختيار الأكثرين ، ومنصوصه في رواية حرب يعتد به ، إذ العمومات الواردة في الأذان لم يرد في شيء منها اعتبار الطهارة من الجنابة ، ولأنه أحد الحدثين فأشبه الآخر . فعلى هذا إن كان أذانه في مسجد ، فإن كان مع جواز اللبث فيه ، إما بوضوء على المذهب ، أو بجبس ونحو ذلك صح ، ومع تحريم اللبث فيه هو كالأذان والزكاة في موضع غصب ، وفي ذلك قولان ، المذهب منهما عند أبي البركات وطائفة صحته لعدم اشتراطه البقعة له ، والمذهب عند ابن عقيل في التذكرة البطلان ، وهو مقتضى قول ابن عبدوس ، وغالى فقطع باشتراط الطهارة له ، كمكان الصلاة والله [ سبحانه ] أعلم .
قال : ومن صلى [ صلاة ] بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك ، ولا يعيد .
ش : أما كراهة ذلك فلأنه خلاف فعل النبي وأصحابه ، وأما عدم إعادة الصلاة .
413 فلما روي عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال : سئل النبي [ ] عن رجل سهى عن الأذان والأِقامة قال : ( إن الله يتجاوز لأمتي [ عن ] الخطأ والنسيان ) .
414 وعن معاذ بن جبل أنه قيل له رجل نسي الإِقامة والأذان قال : مضت صلاته ، ليس الإِقامة والأذان من فروض الصلاة ، إنما هو من فضل يوجد به ، وشيء يدعى إليه . ورواهما حرب بإسناده . ) 19 (
415 وفي مسلم أنه صلى بعلقمة والأسود في داره ، بغير أذان ولا إقامة .
416 وقد استنبط الشافعي [ رحمه الله ] ذلك من الحديث الصحيح ( إذا أقيمت الصلاة فامشوا وعليكم السكينة ، فصلوا ما أدركتم ، واقضوا ما فاتكم ) قال : فمن أدرك آخر الصلاة فقد فاته أن يحضر أذانا وإقامة ، مع أنه لم يؤذن لنفسه ، ولم يقم ، قال ؛ ولم أعلم مخالفاً أنه إذا جاء المسجد [ وقد خرج الإِمام من الصلاة ] كان له أن يصلي بلا أذان ولا إقامة .
____________________
(1/162)
هذا من حيث الجملة ، أما من حيث التفصيل فقول الخرقي : ( ومن ) عام أريد به خاص ، وهو الرجال ، لعدم مشروعية الأذان والإِقامة للنساء ، على المشهور من الروايات فضلًا عن كراهة تركهما منهن .
417 لما روي عن أسماء [ رضي الله عنها ] قالت : قال رسول الله [ ] : ( ليس على النساء أذان ، ولا إقامة ، ولا جمعة ، ولا اغتسال جمعة ، ولا تتقدمهن امرأة ، ولكن تقوم في وسطهن ) رواه البيهقي في سننه وضعفه ، [ قال : ورويناه أيضاً في الأذان والإِقامة عن أنس مرفوعاً ولم يصح ، بل الأشبه موقوف على أنس ] اه .
418 كذلك يروى عن ابن عمر [ وابن عباس ] وعن علي : المرأة لا تؤم ، ولا تؤذن ، ولا تنكح ، ولا تشهد النكاح . وقال حرب : قال إسحاق : مضت السنة من النبي [ ] أنه ليس على النساء أذان ، ولا إقامة في حضر ولا سفر .
( والثانية ) : إن أذّنّ وأقمن فلا بأس ، وإن لم يفعلن فجائز .
419 لما روى الشافعي في مسنده عن عائشة [ رضي الله عنها ] أنها كانت تؤذن ، وتقيم وتؤم النساء ، وتقوم وسطهن .
( والثالثة ) : يستحب لهن الأِقامة ، ويروى عن جابر [ رضي الله عنه ] وحيث شرع ذلك للمرأة فإنها تخفض صوتها ، وحكم الخنثى مثلها ( اه ) .
وقوله : ومن صلى صلاة . يريد [ به ] نوعاً من الصلاة ، وهي صلاة الخمس ، لأن الأذان لا يشرع لغيرهن ، نعم كلام ابن حمدان كما سيأتي يقتضي مشروعيته للمنذورة ، تشبيها لها بالواجب بأصل الشرع ، وصرح الشيرازي وهو ظاهر كلام غيره أنه لا يشرع لها .
ويسن أن ينادي للعيد ، والكسوف ، والاستسقاء ( الصلاة جامعة ) على المذهب المعروف .
420 لثبوت ذلك في الكسوف ، ووروده مرسلًا في العيد والاستسقاء ، في معناهما . وألحق القاضي بهن التراويح ، والمنصوص أنه لا ينادي لها أصلًا ، كصلاة الجنازة [ على المعروف ] اه .
وقوله : كرهنا له ذلك . قد يؤخذ منه أن الأذان والإِقامة سنان ، ) 19 ( سنة في السفر ، والحضر ، لإِطلاقه الكراهة على تاركها ، والظاهر أن مراده كراهة تنزيه ، لما تقدم من أن تاركهما لا يعيد الصلاة ، ولأنه دعاء إلى الصلاة فلم يجب ، كقوله : ( الصلاة جامعة ) وهذا إحدى الروايات .
( والثانية ) : وهي المشهورة وعليها أكثر الأصحاب أنهما سنتان للمسافرين .
____________________
(1/163)
421 لما ذكره ابن المنذر ، والبيهقي عن علي [ رضي الله عنه ] في المسافر : إن شاء أذن وأقام ، وإن شاء أقام .
422 وعن ابن عمر أنه كان لا يزيد على الأِقامة في السفر في صلاة ، إلا في صلاة الصبح ، ويقول : إنما الأذان للأِمام الذي يجتمع إليه الناس . رواه مالك في موطئه ، وسعيد في سننه ، فرضاً كفاية على المقيمين ، لما تقدم من حديث [ مالك ] بن الحويرث ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم ، وليؤمكم أكبركم ) .
423 وعن أبي الدرداء [ رضي الله عنه ] : سمعت رسول الله [ ] يقول : ( ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن ، ولا تقام فيها الصلاة ، إلا استحوذ عليه الشيطان ) ورواه أحمد .
( والثالثة ) : وهو ظاهر إطلاق طائقة من الأصحاب أنهما فرض كفاية مطلقاً ، لأنهما من أعلام الدين الظاهر فأشبها الجهاد .
424 وفي الصحيح عن مالك بن الحويرث قال : أنيت النبي [ ] أنا وابن عم لي ، فقال : ( إذا سافرتما فأذنا ، وأقيما ، وليؤمكما أكبركم ) ولا نزاع فيما نعلمه في وجوبهما للجمعة ، لاشتراط الجماعة لها ، فكذلك النداء لها ، ولا في أنهما ليسا بشرط لصحة الصلاة كما تقدم . ( واختلف ) إذا قيل بفرضيتهما هل يجري ذلك في القضاء والمنفرد ، والمنذورة ؟ فيه وجهان ، حكاهما ابن حمدان . ثم إذا قيل بالفرضية فاتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الأِمام ، وإذا قام بهما من يحصل به الإِعلام غالباً أجزأ عن الكل ، وإن كان واحداً ، قلت : وينبغي أن يأثم أهل البلد كلهم إن تركوهما . اه .
وقول الخرقي : ومن صلى صلاة بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك . يشمل حالتي الحضر والسفر ، والجماعة والأنفراد ، والمؤداة والمقضية ، وغير ذلك وقد استثنى من ذلك أبو محمد ما إذا دخل مسجداً قد صلى فيه ، فإنه يخير إن شاء أذن وأقام ، وإن شاء تركهما من غير كراهة ، وحكى ابن حمدان ذلك قولا . ثم إن الخرقي [ رحمه الله ] إنما حكم بالكراهة على من تركهما ، فلو أتى بأحدهما فهو مسكوت عنه في كلامه ، وقد صرح أبو البركات بأن المنفرد والمسافر إذا اقتصرا على الإِقامة من غير أذان فإنه يجوز من غير كراهة ، ونص عليه أحمد اه . ) 19 ( وكذلك الثانية من المجموعتين ، وما عدا الأولى من المقضيات ، إن شاء أذن لها ، وإن شاء لم يؤذن ، بل صرح ابن عقيل ، والشيرازي بأنه لا يشرع أذان والحال هذه ، ويقتصر على الإِقامة ، والله أعلم .
قال : ويجعل أصابعه مضمومة على أذنيه .
____________________
(1/164)
ش : نقل ابن بطة أنه سأل الخرقي عن صفة ذلك فضم أصابعه على راحتيه ، ثم جعلهما على أذنيه ، وهذا إحدى الروايات واختيار ابن عبدوس ، وابن البنا ، وصاحب البلغة فيها .
425 لأن ذلك يروي عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] .
( والثانية ) : يجعل أصابعه مضمومة ، مبسوطة على أذنيه .
426 لأن ذلك يروي عن أبي محذورة ، حكاه عنه أحمد .
( والثالثة ) : وهي اختيار ابن عقيل ، والشيخين يجعلهما في أذنيه .
427 لما روى أبو جحيف قال : رأيت بلالًا يؤذن ، وإصبعاه في أذنيه ، ورسوله الله [ ] في قبة له حمراء . رواه [ أحمد ] ، والترمذي وصححه .
428 وعن عبد الرحمن بن سعد ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله [ ] أمر بلالًا أن يدخل أصبعيه في أذنيه . رواه البيهقي في سننه ، والله أعلم .
قال : ويدير وجهه عن يمينه إذا قال : حي على الصلاة . وعن يساره إذا قال : حي على الفلاح ، ولا يزيل قدميه .
429 ش روي أبو جحيفة [ رضي الله عنه ] قال : أتيت النبي [ ] وهو في قبه له حمراء من أدم ، فخرج وتوضأ ، فأذن بلال ، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا ، يقول : يميناً وشمالًا : حي على الصلاة ، حي على الفلاح . متفق عليه ، وفي رواية أبي داود : لوى عنقه يميناً وشمالًا ولا يستدر ، وكلام الخرقي يشمل الأذان في المنارة وغيرها ، وهو إحدى الروايتين ، ( والثانية ) : له أن يدور في المنارة الواسعة ، والصومعة الكبيرة ونحو ذلك ، لأنه أبلغ في سماع الصوت ، وهو المقصود الأصلي بالأذان .
430 وقد روى البيهقي في سننه ، بسنده في حديث أبي جحيفة ، أن بلالًا استدار ، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة ، ولا يحتج به ، على أنه يحمل على أنه أراد بالاستدارة التفاته ، توفيقاً بين ألفاظ الحديث ، والله أعلم .
قال : ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول .
431 ش : في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] ، قال : قال رسول لله [ ] ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول [ المؤذن ] ويجعل موضع الحيعلة الحولقة ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) قاله غير واحد من الأصحاب .
____________________
(1/165)
432 لما روى عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله [ ] : ) 19 ( ( إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله . قال أشهد أن لا إله إلا الله . [ ثم ] قال : أشهد أن محمداً رسول الله . قال أشهد أن محمداً رسول الله . ثم قال : حي على الصلاة . قال : لا حولا ولا قوة إلا بالله . ثم قال حي على الفلاح . قال : لا حول ولا قوة إلا بالله . ثم قال : الله أكبر ، [ الله أكبر ] . قال : الله أكبر [ الله أكبر ] . ثم قال : لا إله إلا الله . قال : لا إله إلا الله . من قبله دخل الجنة ) رواه أحمد ، ومسلم وأبو داود .
433 ونحوه روي من حديث معاذ ، ورافع بن خديج [ رضي الله عنهما ] وقال بعض الأصحاب يجمع [ بين ] الحولقة والحيعلة ، ليأتي بمجموع الأحاديث ، والأول المذهب .
( تنبيه ) يقول في الإِقامة : أقامها الله وأدامها . اتباعاً .
434 لما في سنن أبي داود ، أن بلالًا أخذ في الإِقامة ، فلما قال : قد مامت الصلاة . قال النبي [ ] ( أقامها الله وأدامها ) قال بعض الأصحاب : ويقول في التثويب : صدقت وبزرت . قياساً على ما تقدم ، ويسن جمع ذلك للمئذن خفية ، وكذلك غير المؤذن يخفيه . والله سبحانه أعلم .
( باب استقبال القبلة )
ش : استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة في الجملة ، لقول الله سبحانه : { قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } أي نحوه .
435 وعن أنس [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله [ ] : ( من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم ، له ذمة الله ، وذمة رسوله ، فلا تخفروا الله في ذمته ) رواه البخاري والله أعلم .
قال : وإذا اشتد الخوف وهو مطلوب ابتدأ الصلاة إلى القبلة ، وصلى إلى غيرها راجلًا أو راكباً ، يوميء إيماء على قدر الطاقة [ ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ] .
ش : استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة كما تقدم ، إلا في موضعين ( أحدهما ) : حال المسايفة وهو حال اشتداد الخوف ، وما في معناه كالخوف من سبع أو سيل ، أو هرب مباح من عدو ، ونحو ذلك ، فله أن يصلي على قدر طاقته راجلًا أو راكباً ، إلى
____________________
(1/166)
القبلة إن أمكن ، وإلى غيرها إن عجز ، بركوع وسجود مع القدرة ، وبالإِيماء مع عدمها ، على قدر الطاقة ، ليأتي بما استطاع ، وإن عجز عن الأيماء سقط ، وإن احتاج إلى الكر والفر ، والضرب والطعن فعل ، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها ، لقول الله تعالى : 19 ( { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } ) .
436 وعن نافع ابن عمر ، أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ، ثم قال : فإن كان خوف [ هو ] أشد من ذلك صلوا رجالًا ، قياماً على أقدامهم ، مستقبلي القبلة وغير مستقبلها . قال نافع : ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله . رواه البخاري وعن أحمد رواية أخرى بالتخيير بين الفعل والتأخير إلى الأمن وإن خرج الوقت .
437 لما في الصحيحين عن ابن عمر ، عن النبي [ ] أنه قال : ( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) فصلى قوم في الطريق ، وقالوا : لم يرد بنا تفويت الصلاة ، وأخر قوم الصلاة ، حتى وصلوا إلى بني قريظة وقد فاتتهم الصلاة ، فلم يعب النبي [ ] واحدة من الطائفتين وجه ذلك أن النبي [ ] أقرهم على التأخير ، لمصلحة الجهاد . وأظن عن أحمد رواية أخرى بالتأخير .
استدلالًا بتأخير النبي [ ] يوم الخندق ، والمذهب الأول ، وما تقدم قيل : منسوخ بقوله تعالى : 19 ( { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } ) ونحوه ، ( وعلى الأول ) ظاهر كلام الخرقي أنه يلزمه افتتاح الصلاة إلى القبلة إن أمكنه ذلك ، وهو إحدى الروايتين .
439 لما روى أنس بن مالك [ رضي الله عنه ] ، قال : كان رسول الله [ ] إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعاً ، استقبل القبلة ، فكبر للصلاة ، ثم خلى عن راحلته ، فيصلي حيث [ ما ] توجهت به . رواه أحمد ، وأبو داود ( والثانية ) لا يلزمه ، اختارها أبو بكر ، لأنه جزء من أجزاء الصلاة ، أشبه بقية أجزائها ، والله أعلم .
قال : وسواء كان مطلوباً أو طالباً يخشى فوات العدو ، وعن أبي عبد الله [ رحمه الله ] رواية أخرى أنه إذا كان طالباً فلا يجزئه أن يصلي إلا صلاة أمن .
ش : حكم الطالب لعدو يخشى فواته حكم المطلوب في إحدى الروايتين ، لأن فوات الكافر ربما أدى إلى ضرر عظيم ، فأشبه المطلوب .
440 وعن عبد الله بن أنيس قال : يعثني رسول الله [ ] إلى خالد بن سفيان الهذلي ، وكان نحو عرفة أو عرفات ، قال : ( اذهب فاقتله ) فرأيته وحضرت الصلاة ، فقلت : إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة ، فانطلقت أمشي وأنا أصلي
____________________
(1/167)
أوميء إيماء ، فلما دنوت منه قال [ لي ] : من أنت ؟ قلت : رجل من العرب ، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل ، فجئتك لذلك [ فقال ] : إني لعلى ذلك . فمشيت معه ساعة ، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد . والظاهر أنه أخبر النبي ، أو علم جواز ذلك والرواية ( الثانية ) : واختارها القاضي لا يجوز له أن يصلي إلا صلاة أمن ، لأن الله تعالى شرط لهذه الصلاة الخوف ، وهذا ليس بخائف . والله أعلم .
قال : وله أن يتطوع في السفر على الراحلة ، على ما وصفنا من صلاة الخوف .
ش : هذه الحالة الثانية [ التي ] لا يشترط لها الاستقبال ، وهي التطوع في السفر [ في الجملة ] بالإِجماع .
441 وسنده ما روى ابن عمر [ رضي الله عنه ] أن النبي [ ] كان يسبح على [ ظهر ] راحلته ، حيث كان وجهه ، يوميء برأسه ، وكان ابن عمر يفعله ، وفي رواية : وكان يوتر على بعيره . ولمسلم : غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة . متفق عليه ، وقال تعالى : 19 ( { والله المشرق والمغرب ، فأينما تولوا فثم وجه الله } ) .
442 قال ابن عمر : نزلت في التطوع في السفر . رواه مسلم وغيره .
إذا تقرر هذا فكلام الخرقي يشمل قصير السفر وطويله ، وهو صحيح ، لعموم ما تقدم . وظاهر كلامه اختصاص الحكم بالمسافر ، وهو المذهب من الروايتين ، لما تقدم من الآية الكريمة . و ( قد ) قال ابن عمر : إنها في السفر .
443 وعن أنس أن رسول الله كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ، ثم صلى حيث كان وجهه ركابه . رواه أحمد ، وأبو داود فقيد ذلك بالسفر . ( والرواية الثانية ) : يجوز ذلك للمقيم السائر في مصره ، لأنها رخصة تجوز في قصر السفر ، فشرعت في المصر ، كما التيمم ، وأكل الميتة .
وظاهر كلام الخرقي [ أيضاً ] أن الحكم يختص بمن هو على الراحلة ، فلا يجوز ذلك للماشي ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، ونصبها أبو محمد للخلاف ، لأنه لم ينقل عن النبي [ ] أنه فعل ذلك إلا في حال الركوب ، وليس الماشي في معناه ، لاحتياجه إلى عمل كثير ، ويعضده عموم 19 ( { فول وجهك شطر المسجد الحرام } ) . ( والرواية الثانية ) : يجوز ذلك للماشي كالراكب ، وبها قطع أبو الخطاب في الهداية ، ونصبها أبو البركات ، لعموم { ولله المشرق والمغرب } الآية ، ولأنه مسافر سائر ، أشبه الراكب ، وعلى هذا يستقبل القبلة في الافتتاح ، وفي الركوع ، وفي السجود ،
____________________
(1/168)
ويسجد بالأرض لتيسر ذلك عليه ، ويفعل ما عدا ذلك إلى جهة مسيره ، اختاره القاضي ، واختار أبو البركات والآمدي جواز الإِيمان بالكوع والسجود إلى جهة سيره ، دفعاً لمشقة التوجه ، يكررها في كل ركعة .
وحكم الصلاة في السفر حكم صلاة الخوف ، في أنه إن شق عليه استقبال القبلة كمن حمله مقطور ، أو من يعسر عليه الاستدارة بنفسه ، أو الركوع والسجود ، سقط ذلك عنه ، وأومأ كما تقدم .
444 قال جابر : بعثني النبي [ ] في حاجة ، فجئت وهو يصلي على راحلته ونحو الشرق ، السجود أخفض من الركوع . رواه أبو داود . وإن تيسر عليه الإِستقبال لزمه في ظار كلام الخوقي ، وبه قطع أبو الخطاب ، وقال أبو البركات : إنه ظاهر المذهب ، لما سبق من حديث أنس [ رضي الله عنه ] وخرج أبو محمد رواية بعد اللزوم ، من المسألة السابقة ، واختاره أبو بكر ، لما تقدم من أنه جزء من أجزائها ، أشبه بقيتها ، ثم يتم إلى جهة سيره ، لأنها قبلته ، وكذلك إن تيسر عليه الركوع والسجود على ظهر المركوب لزمه ذلك ، كما إذا تمكن من الاستقبال في جميع الصلاة ، كالراكب في المحفة الواسعة ونحو ذلك ، قال الآمدي : ويحتمل أن لا يلزم شيء في ذلك [ لأن ] الرخصة تعم ، والله أعلم .
قال : ولا يصلي في غير هاتين الحالتين فرضاً ولا نافلة إلا متوجها إلى الكعبة فإن كان يعاينها فبالصواب ، وإن كان غائباً عنها فبالاجتهاد بالصواب إلى جهتها .
ش : قد تقدم أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إلا في الحالين السابقين ، ثم إن كان يعاينها ففرضه إصابة عينها ، لقدرته على ذلك ، فيحاذيها بجميع بدنه ، بحيث لا يخرج شيء منه عنها ، وحكم من كان بمسجد النبي [ ] حكم من كان بمكة ، لأن قبلته [ متيقنة ] الصحة وإن كان غائباً عن الكعبة [ أو عن مسجد الرسول [ ] ففرضه الاجتهاد إلى جهة الكعبة ] على المشهور من الروايتين ، واختاره الخراقي ، والشيخان وغيرهما .
445 لما روى أبو هريرة [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله [ ] : ( ما بني المشرق والمغرب قبلة ) رواه ابن ماجه ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح .
446 وصح عنه أنه قال : ( لا تستقبله القبلة بغائط ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أو غربوا ) وهذا يدل على أن ما بينهما قبلة ( والرواية الثانية ) : يجب الاجتهاد إلى عين الكعبة . اختاره أبو الخطاب في الهداية .
____________________
(1/169)
447 لما روي عن ابن عباس أن النبي [ ] دخل البيت ثم خرج ، فركع ركعتين في قبل الكعبة ، وقال : ( هذه القبلة ) متفق [ عليه ] فعل هذه الرواية من تيامن أو تياسر عن سو اجتهاده بطلت صلاته . وعلى الثانية لا يضر ذلك ما لم يخرج عنها .
ويستثنى في قوله : وإن كان غائباً [ عنها ] إذا كان بالقرب منها ، كمن بمكة أو قريب منها ، والحائل بينهما [ حادث ] ، كالدور ونحوها ، فإن فرضه [ تيقن ] إصابة عينها إما بنفسه ، كمن نشأ بمكة ، أو بخبر عالم بذلك كغيره ، والله أعلم .
قال : وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه .
ش : لأن كلا منهما يعتقد خطأ الآخر ، أشبها العالمين المجتهدين في الحادثة إذا اختلفا ، ولذلك لا يجوز لمن يجتهد منهما اتباع من اجتهد ، نعم : إن ضاق الوقت ففيه وجهان . والله أعلم .
قال : ويتبع الأعمى [ والعامي ] أوثقهما في نفسه .
ش : هذا المذهب المشهور ، لأن الأوثق أقرب وأظهر إصابة في نظره ، ولا مشقة عليه في اتباعه ، وقد كلف الإِنسان في ذلك بغلبة ظنه ، وخرج [ بعض ] الأصحاب [ رواية ] بتقليد أيهما شاء ، بناء على تخيير العامي بين أحد المجتهدين ، وفرق أبو البركات بأن لزوم تقليد الأعلم يفضي إلى كلفة ومشقة ، بخلاف ما تقدم ، ومتى أمكن [ الأعمى ] الإِجتهاد كأن يعرف مهب الرياح ، أو بالشمس ونحو ذلك فإنه يجتهد ولا يقلد . وحكم البصير [ وهو ] جاهل بأدلة القبلة وإن شرحت له حكم أعمى البصر أما إن أمكن الجاهل التعليم والوقت متسع ، فإنه يلزمه ذلك ، ولا يجوز له التقليد ما لم يضق الوقت ، والله أعلم .
قال : وإذا صلى بالإِجتهاد إلى جهة ، ثم [ علم ] أنه قد أخطأ القبلة ، لم يكن عليه إعادة .
ش : لأنه تعذر عليه الوصول إلى جهة الكعبة ، أشبه حال المسايفة .
448 وأهل قباء ، [ فإنهم ] لما بلغهم النسخ في صلاة الصبح استداروا إلى الكعبة ، وبنوا على فعلهم ، لانتفاء علمهم بالنسخ .
449 وقد روى عامر بن ربية عن أبيه قال : كنا مع النبي [ ] في سفر في ليلة مظلمة ، فلم ندر أين القبلة ، فصلى كل رجل حياله ، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله ، فنزلت : 19 ( { فأينما تولوا فثم وجه الله } ) رواه ابن ماجه ، والترمذي وحسنه والله أعلم .
____________________
(1/170)
قال : وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ ، أو الأعمى بلا دليل أعادا .
ش ؛ أما إذا صلى البصير ولو بدليل فأخطأ ، فإن كان بمكة ، أو بمدينة الرسول أعاد ، لتركه النص المقطوع به ، وكذلك إن كان بغيرهما ، على المشهور من الروايتين لتفريطه ، إذ يمكنه علم ذلك إما بخبر مخبر [ عن يقين ] ، أو بمحاريب المسلمين ، فهو كتارك النص للاجتهاد . ( والرواية الثانية ) : لا يجوز له العمل بمحاريب المسلمين ونحو ذلك ، بل يلزمه الاجتهاد ، حكاها ابن الزاغوني في الوجيز . وأما الأعمى إذا صلى بلا دليل فإن كان مع القدرة على [ الدليل ] فواضح ، وإن أصاب ، لأنه ترك فرضه وهو التقليد ، وإن عجز عن الدليل فقيل : يعيد لندرة تعذر الدليل ، وقيل : لا . لأنه لم يترك فرضاً مقدوراً عليه ، [ أشبه الغازي ، وقيل : إن أخطأ أعاد لما تقدم ، وإن أصاب فلا . إذ المقصود الإصابة وقد حصلت والله أعلم ] .
قال : ولا يتبع دلالة مشرك بحال .
ش : أي وإن كان عالماً في دينه ، لأنه غير مأمون في ديننا .
450 ولهذا قال عمر [ رضي الله عنه ] : لا تأمنوهم بعد أن خونهم الله . وكذلك الفاسق المسلم ، ويقبل خير الأنثى ، ومستور الحال ، وفي الصبي المميز وجهان [ والله أعلم ] .
( باب صفة الصلاة )
قال : وإذا قام إلى الصلاة قال : الله أكبر .
451 ش : قال النبي للأعرابي : ( إذا قمت [ إلى ] الصلاة [ فكبر ] .
452 وقال : ( تحريمها التكبير ) وهو ينصرف إلى التكبير المعهود وهو : الله أكبر .
453 وقد روى الترمذي ، وابن ماجه عن أبي حميد الساعدي قال : كان النبي [ ] إذا قام إلى الصلاة رفع يديه وقال : ( الله أكبر ) وهذا إخبار عن دوام فعله .
454 وروى أحمد في مسنده ، عن أبي سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] أن النبي [ قال ] : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاعدلوا صفوفكم ، وأقيموها ، وسدوا الفرج ، وإذا قال إمامكم : الله [ أكبر ] فقولوا : الله أكبر ) والتكبير ركن ، لما تقدم من قوله
____________________
(1/171)
: ( تحريمها التكبير ) ولا يصح بغير هذا اللفظ ، بألله الأكبر ، أو : الكبير أو أكبر الله . ونحو ذلك [ والله أعلم ] .
قال : وينوي بها المكتوبة .
ش : أما اشتراط [ أصل ] نية الصلاة فمجمع عليه ، لقوله تعالى : 19 ( { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ) والإخلاص محض النية ، وصح عنه [ أنه ] قال : ( إنما الأعمال بالنبيات ، وإنما لكل امريء ما نوع ) ولا بد من تعيين الصلاة [ فتعين ] أنها ظهر ، أو عصر ، أو غير ذلك لتتميز عن غيرها ، هذا منصوص أحمد ، وعليه الأصحاب وإذاً الألف واللام في كلام الخرقي للعهد ، أي ينوي بالتكبيرة المكتوبة [ أي ] المفروضة الحاضرة ، ويجوز أن يريد جنس المكتوبة أي المفروضة ، فيكون ظاهره أنه لا يشترط نية التعيين ، بل متى نوى فرض الوقت ، وكانت عليه الصلاة لا يدري هل هي ظهر أو عصر ، فصلى أربعاً ينوي بها ما عليه أجزأه ، وقد روي عن أحمد [ رحمه الله ] ما يدل على ذلك ، لكن المذهب الأول . وهل يفتقر مع نية التعيين إلى نية الفرضية ، ونية القضاء أو الأداء ؟ فيه وجهان ، أشهرهما لا .
قال : فإن تقدمت النية قبل التكبير ، وبعد دخول الوقت ما لم يفسخها أجزأه .
ش : لما كان كلامه السابق يقتضي أن النية تقارن التكبير ، أردف ذلك ما يدل على أن ذلك على سبيل الإِستحباب ، وأن النية إذا تقدمت على التكبير أجزأه ، وذلك لأن الصلاة عبادة يشترط لها النية ، فجاز تقديمها عليها كالصوم ، ولأن التكبير جزء من الصلاة ، فكفى فيه استصحاب النية حكماً لا ذكراً كالصلاة .
وشرط الخرقي لذلك شرطين . ( أحدهما ) : أن يكون ذلك بعد دخول الوقت ، وعلى هذا شرح ابن الزاغوني ، معللًا بأنها ركن ، فلا يفعل قبل الوقت كبقية الأركان ، وأكثر الأصحاب لا يشترطون هذا الشرط ، فإما لإِهمالهم له ، أو اعتماداً منهم على الغالب . ( الشرط الثاني ) أن يستصحب النية حكماً ، فلو فسخها أي قطعها لم يجزئه ، لخلو التكبير بل الصلاة عن نية ، قال ابن الزاغوني : وكذلك لو اشتغل بفعل يعرض به عن السعي إلى الصلاة . وحكم فسخ النية بعد التكبير حكم الفسخ قبله ، ولو تردد في الفسخ فوجهان .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط كون التقدم بزمن يسير ، وعامة الأصحاب على اشتراط ذلك ، والله أعلم .
قال : ويرفع يديه إلى فروع أذنيه ، أو إلى حذو منكبيه .
ش : لا خلاف في رفع اليدين [ عند افتتاح الصلاة ، لما سيأتي من الأحاديث ، واختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في منتهى الرفع ، فروي عنه وهو المشهور أن الأفضل الرفع إلى حذو المنكبين ] .
____________________
(1/172)
455 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة ، وإذا كبر للركوع ، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ، وقال : ( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ) وكان لا يفعل ذلك في السجود . متفق عليه .
456 وعن أبي حميد الساعدي أنه قال في عشرة من أصحاب رسول الله [ ] أنا أعلمكم بصلاته ، كان إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً ، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه . قالوا : [ صدقت ] رواه أبو داود [ والترمذي وصححه ] .
( وعنه ) : الأفضل الرفع إلى فروع أذنيه أي يبلغ بأطراف أصابعه أعلى أذنيه .
457 لما روى مالك بن الحويرث أن رسول الله [ ] كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه ، [ وإذا ركع رفع يده حتى يحاذي بهما أذنيه ] وإذا رفع رأسه من الركوع رفع وقال : ( سمع الله لمن حمده ) فعل مثل ذلك . رواه مسلم وغيره وهذا يشتمل على زيادة ، فالأخذ به أولى . ( والثالثة ) : أنه يخبر بين هاتين الصفتين ، اختارها الخرقي ، لصحة الرواية بهما ، فدل على أنه كان مرة يفعل هذا ، وتارة يفعل هذا ، والله أعلم .
قال : ثم يضع يده ، اليمنى على كوعه [ اليسرى ] .
458 ش : لما روى وائل بن حجر [ رضي الله عنه ] أنه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة ، ثم التحف بثوبه ، ثم وضع اليمنى على اليسرى ، رواه أحمد ومسلم وفي لفظ لأحمد وأبي داود : وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى ، والرسغ والساعد .
قال : ويجعلهما تحت سرته .
ش : هذا إحدى الرواية عن أحمد .
459 لما روى أحمد ، أبو داود ، عن علي رضي الله عنه قال : من السنة وضع الأكف في الصلاة تحت السرة . والسنة المطلقة تنصرف إلى سنة رسول الله [ ] ( والرواية الثانية ) : الأفضل جعلهما تحت صدره .
لما روى قبيصة بن هلب ، عن أبيه قال : رأيت النبي يضع يده على صدره
____________________
(1/173)
ووصف يحيى بن سعيد اليمنى على اليسرى ، فوق المفضل ، رواه أحمد ( والثالثة ) : التخيير بين الصفتين ، اختارها ابن أبي موسى ، وأبو البركات ، لورود الأمر بهما . قال أبو البركات : وعلى الروايات فالأمر [ في الأمرين ] واسع ، لا كراهة لواحد منهما [ والله أعلم ] .
قال : ويقول : ( سبحان اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ) .
461 ش : لما روى أبو سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] قال : كان رسول الله [ ] إذا فتتح الصلاة قال : ( سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك ) رواه الخمسة .
462 وروي من حديث عمر ، وأنس ، وعائشة [ رضي الله عنهم ] .
463 واحتج أحمد بأن عمر كان إذا افتتح الصلاة قال : سبحانك اللهم وبحمدك ، وتبارك اسمك ، وتعالى جدك ، ولا إله غيرك . ويسمع ذلك .
464 وروي عن أبي بكر ، وعثمان ، وابن مسعود ولو استفتح بغير هذا مما روي وصح جاز نص عليه [ والله أعلم ] .
قال : ثمّ يستعيذ .
ش : لقوله الله تعالى : { فإذا قرأت القرآن
____________________
(1/174)
فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم } أي : إذا أردت القراءة .
465 يبيّنه ما روى أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] أن النبي كان إذا قام إلى الصلاة استفتح ، ثم يقول : ( أعوذ بالله [ السميع العليم ] ، من الشيطان الرجيم ، [ من ] همزه ، ونفخه ، ونفثه ) .
وصفة الإِستعاذة : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم . ( في رواية ) اختارها القاضي في الجامع الصغير ، وأبو محمد في المقنع ، لظاهر الآية ، وقال ابن المنذر : جاء عن النبي أنه كان يقول قبل القراءة : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ، ( وفي أخرى ) ( أعوذ بالله السميع العليم ، من الشيطان الرجيم ) لحديث أبي سعيد ( وفي ثالثة ) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، إن الله هو السميع العليم ) واختارها أبو بكر في التنبيه ، والقاضي في المجرد ، وابن عقيل ، جمعاً بين قوله تعالى : { فاستعذ بالله من الشيطان [ الرجيم ] } وقوله : { فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم } .
وفي رواية [ رابعة ] : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان لأن قوله : { فاستعذ بالله إنه هو السمع العليم } لا بد أن يقدر فيه : من الشيطان . ويجوز أن يقدر قبل ، وأن يقدر بعد ، فجمعنا بينهما ، عملًا بما قال الشيخان ، والأمر في هذا واسع ، ومهما استعاذ به جاز بلا كراهة .
( تنبيه ) : واِستفتاح والإِستعاذة مسنونان ، نص عليه ، محتجاً بأن ابن مسعود وأصحابه كانوا لا يعرفون الإِفتتاح ، يكبرون ويقرأون ، وذهب ابن بطة إلى وجوبهما [ والله أعلم ] .
قال : ثم يقرأ : { الحمد لله رب العالمين } .
466 ش : في الصحيحين عن عائشة [ رضي الله عنها ] أن النبي [ ] كان يستفت الصلاة بالتكبير ، والقراءة بالحمد لله رب العالمين . ولا خلاف في أن القراءة ركن في الصلاة ، واختلف في تعيين الفاتحة ، فالمعروف المشهور وعليه الأصحاب تعيينها .
467 لما روى عبادة بن الصامت [ رضي الله عنه ] أن النبي قال : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) رواه الجماعة وفي لفظ ( لا يجزيء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) رواه الدارقطني وقال : إسناده صحيح .
468 وعن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله : ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأسم الكتاب فهي خداج ، هي خداج غير تمام ) رواه الجماعة إلا البخاري ، والخداج النقصان في الذات ، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي . ( وعنه ) لا تتعين ، بل يجزيء قراءة آية ، لقوله تعالى : { فاقرأوا ما تيسر منه } وقوله للأعرابي : ( ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ) وتتعين القراءة في كل ركعة على المذب بلا ريب ، وعنه : تجب في ركعتين لا غير ، [ والله أعلم ] .
قال : يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم .
469 ش : لما روى نعيم المجمر قال : صليت وراء أبي هريرة فقرأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ثم قرأ بأم القرآن ، حتى إذا بلغ { ولا الضالين } قال : آمين . وقال الناس : آمين . ويقول كلما سجد : الله أكبر ، وإذا قام من الجلوس من الثنتين : الله أكبر . ثم يقول إذا سلم : والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله [ ] رواه النسائي ، ورواه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، والحاكم ،
____________________
(1/175)
والبيهقي ، والخطيب وصححوه .
470 وعن أنس [ رضي الله عنه ] : صليت خلف النبي ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم . رواه أحمد ، والنسائي ، وابن خزيمة والدراقطني ، وفي لفظ لابن خزيمة ، والطبراني ، إن رسول الله كان يسرّ بسم الله الرحمن الرحيم . وأبو بكر ، وعمر ، زاد ابن خزيمة في الصلاة .
( تنبيه ) الإجماع على أن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) بعض آية في سورة النمل واختلف هل هي آية مفردة في أول كل سورة ، وفيه روايتان ، المنصوص عنه وعليه عامة أصحابه نعم ، ولا خلاف عنه نعلمه أنها ليست آية من أول كل سورة إلا في الفاتحة ، على رواية اختارها ابن بطة ، وصاحبه أبو حفص ، والمشهور خلافها ، والله أعلم .
قال : ولا يجهر بها .
ش : لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وإن قلنا : إنها من الفاتحة ، لما تقدم من حديث أنس .
471 وفي لفظ البخاري عنه : أن النبي ، وأبا بكر ، وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين . وفي رواية مسلم : لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أول قراءة ولا في آخرها . وعن الدراقطني : لم يصح عن النبي في الجهر حديث ، أما عن الصحابة فمنه صحيح ، ومنه ضعيف . وزعم بعض الأصحاب أنا إذا قلنا : إنها من الفاتحة [ جهر بها كما يجهر بالفاتحة ] ( ونص أحمد ) على [ أن ] من صلى بالمدينة جهر بها ، ليبين أنها سنة ، لأن أهل المدينة ينكرونها .
472 كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة والله أعلم .
قال : فإذا قال : { ولا الضالين } قال : آمين .
ش : إذا قال المصلي : { ولا الضالين } قال : آمين . سواء كان منفرداً ، أو إماماً ، أو مأموماً قالها إمامه أو لم يقلها .
473 لما روى أبو هريرة [ رضي الله عنه ] أن النبي : [ قال : ( إذا أمّن الإِمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له تقدم من ذنبه ) متفق عليه والمنفرد في معناهما ، ويجهر بها فيما يجهر به .
474 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : كان رسول الله ] إذا تلا : { غير المغضوب عليه ولا الضالين } قال : ( آمين ) حتى يسمع من يليه من الصف
____________________
(1/176)
الأول . رواه أبو داود ، وابن ماجه وقال : حتى يسمعها أهل الصف الأول ، فيرتج [ بها ] المسجد .
والسنة أن يؤمن المأموم والإِمام معاً ، ليوافقا تأمين الملائكة .
475 وفي النسائي والمسند من حديث أبي هريرة : ( إذا قال الإِمام { غير المغضبو عليهم ولا الضالين } فقولوا : آمين . فإن الملاكئة تقول : إمين . وإن الإِمام يقول : آمين . فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) ( وقوله ) : إذا أمن الإِمام فأمنوا . أي إذا شرع ، أو إذا أراد ، جمعاً بني الحديثين والمعنى ، والله أعلم .
قال : ثم يقرأ سورة في ابتدائها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .
ش : أما قرتاءة السورة بعد الفاتحة فسنة مجمع عليها .
476 لما روى أبو قتادة الأنصاري أن النبي كان يقرأ في الركعين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين ، يطول في الأولى ويقصر في الثانية ، يسمع الآية أحياناً ، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين ، يطول في الأولى ويقصر في الثانية ، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ، ويقصر في الثانية ، وفي الركعتين الآخيرتين بأم الكتاب . متفق عليه ، في أحاديث أخر ، وأما كونه يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم ، فقد نص عليه أحمد .
477 محتجاً بأن ابن عمر كان لا يدع بسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن ، وللسورة التي بعدها . والله أعلم .
قال : فإذا فرغ كبّر للركوع .
478 ش : لما روى أبو هريرة [ رضي الله عنه ] قال : كان النبي إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ، ثم يكبر حين يركع ، ثم يقول : ( سمع الله لمن حمد ) حين يرفع صلبه من الركعة ، ثم يقول وهو قائم ( ربنا ولك الحمد ) ثم يكبر حين يهوي ، ثم يكبّر حين يرفع رأسه ، ثم يكبر حين يسجد ، ثم يكبر حين يرفع رأسه ، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها ، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس . متفق عليه .
وهذا التكبير واجب في رواية مشهورة ، وفي أخرى فرض ، وفي ثالثة فرض إلا في حق المأموم فواجب ، وفي رابعة سنة ، أما الركوع فركن بالإِجماع ، قال سبحانه : { يا أيها الذي آمنوا اركعوا واسجدوا } الآية .
____________________
(1/177)
قال : ويرفع يديه كرفعة الأول .
ش : يعني إلى حذو منكبيه ، أو إلى فروع أذنيه ، وقد تقدم ذلك والخلاف فيه ، والأصل في الرفع ( هنا ) حديث ابن عمر ، ووائل بن حجر وقد تقدما .
وعن أبي حميد الساعدي أنه قال في عشرة من أصحاب رسول الله [ ] أحدهما أبو قتادة : أنا أعلمكم بصلاة رسول الله . قالوا : ما كنت أقدمنا له صحبة ، ولا أكثرنا له إتياناً . قال : بلى . قالوا : فاعرض . فقال : كان رسول الله إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائماً ، ثم اعتدل ، فلم يصوب رأسه ولم يقنعه ، ووضع يديه على ركبتيه ، ثم قال : ( سمع الله لمن حمده ) ورفع يديه واعتل ، حتى يرحع كل عظم موضعه معتدلًا ، ثم هوى إلى الأرض ساجداً ، ثم قال : ( الله أكبر ) ثم ثنى رجليه وقعد عليها ، واعتدل ، حتى يرجع كل عظم موضعه ، ثم نهض ، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك ، حتى إذا قام من السجدتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه ، كما صنع حين افتتح الصلاة ، ثم صنع ذلك ، حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخر رجله اليسرى ، وقعد على شقه متوركاً ، ثم سلم . قالوا : صدقت ، هكذا صلى رسول الله . رواه الخمسة وصححه الترمذي وسمّى أبو داود في رواية من العشرة أبا هريرة ، وأبا أسيد ، وسهل بن سعد ، ومحمد بن مسلمة .
قال : ثم يضع يديه على ركبتيه ، ويفرج أصابعه .
ش : لحديث أبي حميد [ رضي الله عنه ] .
480 وعن عمر [ رضي الله عنه ] قال : إن الركب سنت لكم ، فخذوا بالركب . رواه النسائي والترمذي وصححه .
قال : ويمد ظهره ، ولا يرفع رأسه ولا يخفضه .
ش : لحديث أبي حميد .
481 وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : وكان رسول الله [ ] إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه ، ولكن بين ذلك .
482 وعن وابصة بن معبد ، قال : رأيت النبي يصلي ، وكان إذا ركع سوى ظهره ، حتى لو صب عليه الماء لاستقر . رواه ابن ماجه . وقدر الإِجزاء الإِنحناء بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه ، لأنه لا يسمى راكعا [ بدونه ] ، والإِعتبار بمتوسطي الناس ،
____________________
(1/178)
لا بطويل اليدين ، ولا بقصيرها ، قال أبو البركات : وضابط الإِجزاء الذي لا يختلف أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل ، والله أعلم .
قال : ويقول [ في ركوعه ] : سبحان ربي العظيم . ثلاثاً ، وهو أدنى الكمال ، وإن قال مرة أجزأة .
483 ش : عن حذيفة [ رضي الله عنه ] قال : صليت مع النبي فكان يقول في ركوعة : ( سبحان ربي العظيم ) وفي سجود ( سبحان ربي الأعلى ) رواه الجماعة إلا البخاري .
484 وعن عقبة بن عامر قال : لما نزلت : { فسبح باسم ربك العطيم } قال النبي : [ اجعلوها في ركوعكم ) فلما نزلت : ( سبح اسم ربك الأعلى ) قال النبي ] ( اجعلوها في سجودكم ) رواه أحمد ، وأبو داود .
485 وعن ابن مسعود [ رضي الله عنه ] أن النبي [ ] قال : ( ءذا ركع أحدكم فقال في ركوعه : سبحان ربي العظيم . ثلاث مرات ، فقد تم ركوعه ، وذلك أدناه ، وإذا سجد فقال في سجوده : سبحان ربي الأعلى . ثلاث [ مرات ] ، فقد تم سجوده ، وذلك أدناه ) رواه أبو داود ، والترمذي ، وهو مرسل ، وإنما أجزأت المرة لظاهر حديث عقبة .
وقد تضمن كلام الخرقي وجوب التسبيح [ في الرجوع ] وسيصرح به ، وهو المشهور لما تقدم ، ( وعنه ) أنه فرض ، ( وعنه ) أنه سنة .
( تنبيه ) غاية الكمال لا حد لها عند القاضي ، ما لم يطل ما يخاف عليه منه السهو ، وقال بعض الأصحاب : غايته أن يسبح قدر قيامه ، لصحة ذلك عن النبي وقيل : الكمال عشر تسبيحات . هذا كله في المنفرد ، أما الإِمام فظاهر كلام أحمد واختاره أبو البركات [ أن يستحب ] أن يزيد على [ أدنى ] الكمال قليلًا ، فيسبح ما بني الخمس إلى العشر ، وقال القاضي : لا يستحب الزيادة على الثلاث ، حذاراً من المشقة على المأمومين . والله أعلم .
قال : [ ثم يرفع رأسه ] ثم يقول : سمع الله لمن حمد . [ ويرفع يديه كرفعه الأول ] .
ش : أي ثم يقول : سمع الله لمن حمد . حين يرفع رأسه من الركوع ، أما قوله : سمع الله لمن حمده . فقد تقدم في حديث أبي هريرة ، وأبي حميد ، وابن عمر ، وأما الرفع إذاً فتقدم أيضاً في حديث ابن عمر ، وأبي حميد ، ومالك بن الحويرث ، وقوله :
____________________
(1/179)
سمع الله لمن حمده . واجب في المشهور ، ( وعنه ) سنة ، أما الرفع من الركوع والاعتدال عنه ففرضان ، لحديث المسيء في صلاته .
قال : ثم يقول : ربنا ولك الحمد .
ش : يعني إذا اعتدل قائماً ، لما تقدم من حديث أبي هريرة ، وابن عمر ، وحكم التحميد في الوجوب حكم التسميع ، ويخير بين إثبات الواو وحذفها ، والأفضل إثباتها نص عليه .
486 للإِتفاق عليه من رواية أنس ، وأبي هريرة ، وابن عمر . والأفضل مع تركها : اللهم ربنا لك الحمد . نص عليه .
487 لأنه متفق عليه من حديث أبي هريرة ، ويجوز : ربنا لك الحمد .
488 لما روى مسلم من حديث أبي سعيد .
489 و ( اللهم ربنا ولك [ الحمد ] ) كما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه [ والله أعلم ] .
قال : ملء السماء ، وملء الأرض ، وملء ما شئت ممن شيء بعد . فإن كان مأموماً لم يزد على قوله : ربنا ولك الحمد .
ش : هذا الذكر مشروع في هذه الحالة في الجملة .
490 لما روى علي بن أبي طالب [ رضي الله عنه ] قال : كان رسول الله إذا رفع رأسه من الركوع قال : ( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ملء السموات ، وملء الأورض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شئت من شيء بعد ) رسواه مسلم وغيره .
491 وعن ابن أبي أوفى مثل ذلك ، رواه .
واختلف عن أحمد لمن شرع هذا الذكر ، ولا خلاف عنه أن الإِمام يقوله ، وكذلك ما قبله .
492 لحديث علي ، وابن أبي أوفي وغيرهما ( واختلف عنه ) في المنفرد ، فالمشهور عنه وهو اختيار الأصحاب أنه يقول الجميع كالإِمام ، إذ الأصل التأسي بالنبي .
493 لا سيما وقد عضده قوله : ( صلوا كما رأيتمون أصلي ) .
( وعنه ) يقتصر على التسميع والتحميد ، ولا يقول : ملء السماء . إلى آخره ، حطا له عن رتبه الأِمام ، ورفعا له عن رتبه المؤتم ، لأنه أكمل منه ، لعدم تبعيته ( وعنه ) يقتصر على التحميد فقط وفيها ضعف .
____________________
(1/180)
أما المؤتم فالمشهور عنه وعليه جمهور الأصحاب الخرقي وغيره أنه يقتصر على التحميد لقوله : ( إذا قال الإِمام : سمع الله لمن حمده . فقولوا : ربنا ولك الحمد ) وظاهره أن التحميد وظيفة المؤتم . ( وعنه ) واختاره أبو البركات أنه يأتي بالتحميد ، وملء المساء ، إلى آخره ، لعموم قوله ( صلوا كما رأيتمون أصلي ) خرج منه التسميع لأنه أمره بالتحميد عقب تسميع إمامه ، ولو شرع له التسميع لأمر به عقب تسميع إمامه ، كما أمر بالتكبير عقب تسميع إمامه ، وهذا اختيار أبي الخطاب ، وكلامه محتمل لأنه يسمع أيضاً ، وعليه اعتمد أبو البركات فقال : ظاهر كلامه أنه يأتي بالتسميع وما بعده ، ونفى ذلك أبو محمد فقال : لا أعلم خلافاً في المذهب أن المؤتم لا يسمع . والله أعلم .
قال : ثمّ يكبّر للسجود ، ولا يرفع يديه .
ش : أما التكبير [ للسجود ] فقد تقدم في حديث أبي هريرة وغيره ، وأما عدم الرفع في السجود فلحديث ابن عمر وغيره ، وعنه يسن الرفع ، والمذهب الأول ، وحكم التكبير في السجود والرفع منه حكم التكبير في الركوع ، وقد تقدم [ والله أعلم ] .
قال : ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه ، ثم يداه ، ثم جبهته وأنفه .
ش : هذا المشهور عن أحمد ، وعليه عامة أصحابة .
494 لما روى وائل بن حجر قال : رأيت النبي إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه . رواه الخمسة إلا أحمد ، وقال الحاكم : على شرط مسلم . ( وعن أحمد ) : يضع يديه قبل ركبتيه .
495 لما روي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير ، وليضع يديه قبل ركبتيه ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه وقد ضعف . والسجود على هذه الأعضاء فرض ، لا يكون ساجداً بدونها ، أعني الركبتين وليدين ، والجبهة ، وكذلك القدمين .
496 لما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ، على الجبهة وأشار بيده على أنفه واليدين ، والركبتين وأطراف القدمين ) متفق عليه ، ولمسلم ( أمرت أن أسجد على سبع ، الجبهة والأنف ، واليدين والركبتين ، والقدمين ) وقيل عنه : لا يجب السجود على غير الجبهة ، لأنه يسمى ساجداً بووضعها ، وإن أخل بغيرها ، أما الأنف ففيه روايتان مشهورتان ، إحداهما فرضيته كالجبهة ، قال القاضي : اختاره أبو بكر ، وجماعة من أصحابنا ، لما
____________________
(1/181)
تقدم من عد النبي [ ] له في المأمور به .
497 وعن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] عن النبي [ ] قال : ( لا صلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض ) رواه الدارقطني . ( والثانية ) : ليس بفرض . اختارها القاضي ، لأنه صح عنه أن أعضاء السجود سبعة ، وعدها في الصحيح بدونه ، وقال : ( سبعة أعظم ) وطرف الأنف الذي يسجد عليه ليس بعظم ، فعلم أن الإِسارة إليه أو عده تنبيه على تبعيته ، واستحباب السجود عليه جمعاً بين الأدلة ، وإلا فيلزم كونها ثمانية ، وهو خلاف النص ، واستيعاب العضو الواحد بذلك ، وهو خلاف الإِجماع ، فإنه لو سجد على بعض يده حتى
____________________
(1/182)
على بعض أطراف أصابعها ، أو ظهرها ، أو ظهر قدميه أجزأه .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يجب عليه مباشرة المصلى بشيء من أعضاء سجوده ، وهو إجماع في القدمين ، والركبتين ، وقول الجمهور في اليدين .
498 ويدل عليه ما روى أحمد ، وابن ماجه ، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال : جاءنا النبي فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل ، فرأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سجد .
أما الجبهة ففي المباشرة بها قولان مشهوران ، هما روايتان عن أحمد ، أصحهما عن أبي البركات واختارها أبو بكر والقاضي لا يجب .
499 لما روى أنس [ رضي الله عنه ] قال : كنا نصلي مع رسول الله [ ] في شدة الحر ، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود . رواه البخاري ( والثانية ) : تجب المباشرة إلا من عذر .
500 لما روى خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله [ ] حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا . ( ومحل الروايتين ) فيما إذا سجد على كور عمامته أو ذؤابتها ، أو ذيله ، ونحو ذلك مما هو حامل له منفصل عنه ، وأصل السجود فرض بالإِجماع ، وبنص الكتاب ، والله أعلم .
قال : ويكون في سجوده معتدلًا .
501 ش : في الصحيحين عن أنس [ رضي لله عنه ] عن النبي أنه قال : ( اعتدلوا في السجود ، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب ) .
قال : ويجافي عضديه عن جنبيه ، وبطنه عن فخذيه ، وفخذيه عن ساقيه ، ويكون على أطراف أصابعه .
502 ش : لما روى أبو حميد الساعدي أي النبي كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض ، من الأرض ، ونحى يديه عن جنبيه ، ووضع كفيه حذور منكبيه ، ورواه الترمذي وصححه ، ولأبي داود : كان إذا سجد فرج بين فخذيه ، غير حامل بطنه على شيء من فخذيه [ والله أعلم ] .
قال : ثم يقول : سبحان ربي الأعلى . ثلاثاً ، وإن قال مرة أجزأة .
ش : حكم التسبيح ف يالسجود حكم التسبيح في الركوع ، وقد تقدم [ ذلك ] ودليله .
____________________
(1/183)
قال : ثم يرفع رأسه مكبراً .
ش : ما التكبير فلما تقدم من حديث أبي هريرة وغيره ، وأما الرفع والإِعتدال عنه فلحديث الأعرابي ( ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ) وهما فرضان كذلك ، والله أعلم .
قال : فإذا جلس واعتدل يكون جلوسه على رجله اليسرى ، وينصب رجله اليمنى .
ش : لما تقدم من حديث أبي حميد الساعدي ، في عشرة من أصحاب النبي [ ] ، وفي الصحيح عن عائشة [ رضي الله عنها ] ، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى . والله أعلم .
قال : ويقول : رب اغفر لي رب اغفر لي .
ش : ظاهر كلام الخرقي أن السنة أن يقول رب اغفر لي مرتين فقط ، وهو قول ابن أبي موسى .
503 لما روى حذيفة [ رضي الله عنه ] أن النبي كان يقول بين السجدتين ( رب اغفر لي ، رب اغفر لي ) رواه الخمسة إلا الترمذي والمشهور أن حكم : رب اغفر لي . حكم التسبيح ، في أن المرأة تجزئه ، وأن أدنى الكمال ثلاث ، وأن كماله نحو قيامه ، أو ما لم يخف منه السهو ، أو عشراً على ما تقدم ، وحديث حذيفة أراد به التكرار في الجملة لأنه في أوله من رواية أبي داود : كان يقعد بين السجدتين نحوا من سجوده . ( وهل ) سؤال المغفرة والحال هذه واجب أو مسنون ؟ فيه روايتان ، المشهور الأولى . والله أعلم .
قال : ثمّ يكبّر ويخر ساجداً .
ش : أما السجدة الثانية ففرض مجمع عليه ، وأما التكبير فلما سبق ، ويقول فيها ما يقول في السجدة الأولى من التسبيح . [ ولله أعلم ] .
قال : ثم يرفع رأسه مكبراً ، ويقول على صدور قدميه ، معتمداً على ركبتيه .
ش : أما التكبير حال الرفع فلما تقدم .
504 وأما القيام على هذه الصفة فلأن في حديث وائل بن حجر في لفظ لأبي داود : رأيت النبي إذا نهض نهض على ركبتيه ، واعتمد على فخذيه .
505 وعن ابن عمر أن النبي نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة . رواه أبو داود . [ والله أعلم ] .
قال : إلا إن يشق ذلك عليه فيعتمد بالأرض .
506 ش : لأن في حديث مالك بن الحويرث في صفة صلاة النبي [ ] أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية جلس ، ثم قام واعتمد بالأرض . رواه النسائي ، والبخاري بمعناه فحملناه على حال العذر لكبر ونحوه ، جمعاً بينه وبين ما تقدم .
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه لا يجلس جلسة الاستراحة ، وهو المختار من الروايتين عن ابن أبي موسى ، [ والقاضي ] ، وابن أبي الحسين ، قاله ابن الزاغوني ، وجماعة من المشايخ .
507 لأنه قول عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، حكاه أحمد عنهم وذكره ابن لمنذر عن ابن عباس ، قال أحمد : وأكثر الأحاديث على هذا . وقال أبو الزناد : تلك السنة . وقال الترمذي : العمل عليه عند أهل العلم . ( والرواية الثانية ) : أنه يجلس للإِستراحة ، اختارها أبو بكر عبد العزيز وشيخه أبو بكر الخلال ، وزعم أن أحمد رجع عن الأولى لما تقدم من حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث ، وحملا على أنه فعله لما بدن وكبر . وكذلك نقول جمعاً بين الأدلة ، وإلا فمثل هذا لا [ يخفى عن ] عمر ، وعلي ، وغيرهما . وعلى هذا الرواية يجلس على قدميه وإليتيه ، ويمس بهما الأرض ، نص عليه في رواية المروذي ، لتفارق الجلسة بين السجدتين .
508 وعليه يحمل قول ابن عباس في الإِقعاء على القدمين : هو سنة نبيكم [ ] للإِتفاق على أنه لا يستحب في غير هذه الصورة ، وقال الآمدي : يجلس على قدميه ولا يلصق أليتيه ، بالأرض ، وزعم أن الأصحاب لا تختلف في ذلك ، قال القاضي : ويحتمل أنه يجلس مفترشاً ، لحديث أبي حميد المتقدم ، والله أعلم .
قال : ويفعل في الثانية مثل ما فعل في الأولى .
ش : لأن في حديث الأعرابي : ( وافعل ذلك في صلاتك كلها ، حتى تقضيها ) ويستثنى من ذلك الإِفتتاح بالتكبير ، لأنه وضع للدخول في الصلاة ، وكذلك الإستفتاح .
____________________
(1/184)
509 وفي مسلم من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله [ ] إذا نهض إلى الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله رب العالمي ، ولم يسكت . واختلف في الاستعاذة ، فعنه لا تستثنى ، فيستعيذ في كل ركعة ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } ) ( وعنه ) استثناؤها ، اكتفاء بالاستعاذ في أول مرة ، جعلًا لقراءة الصلاة وإن تفرقت كالقراءة الواحدة ، ولظاهر خير أبي هريرة نعم لو نسي التعوذ في اوولى أتى به في الثانية ، على كلتا الروايتين . واستثنى أبو الحطاب تجديد النية ، لاستصحابها حكماً ، قال أبو البركات : وترك استثنائها أحسن ، لأنها شرط لا ركن ، ويجوز أن تتقدم الصلاة اكتفاء بالدوام الحكمي ، والله أعلم .
قال : فإذا جلس فيها للتشهد يكون كجلوسه بين السجدتين .
ش : يعني إذا صلى الركعة الثانية ، وجلس فيها للتشهد ، جلس كما جلس بين السجدتين ، لما تقدم في حديث أبي حميد الساعدي [ رضي الله عنه ] والله أعلم .
قال : ثم يبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى .
510 ش : لما روى ابن عمر ، قال : كان رسول الله إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه ، ورفع إصبعه التي تلي الإِبهام ، فدعا بها ويده اليسرى على ركبته ، باسطها عليها . رواه مسلم وغيره وقوله : على فخذه اليسرى . أي لا يخرج بها عنها ، بل يجعل أطراف أصابعه [ مسامته ] للركبة [ والله أعلم ] .
قال : ويده اليمنى على فخذه اليمنى ، ويحلق الإِبهام مع الوسطى .
ش : أي ويضع يديه اليمنى بقرينة : ويحلق .
لما روى وائل بن حجر في صفة صلاة النبي ، أنه وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى ، ثم عقد من أصابعه الخنصر والذي يليها ، وحلق حلقه بإصبعه الوسطى على الإِبهام ، ورفع السبابة يشير بها . رواه أحمد ، وأبو داود ( وعن أحمد ) أنه يقبض الثلاث ، ويعقد الإبهام كعقد الخمسين ، واختارها أبو البركات ، والأول اختيار أبي محمد .
512 لما روى ابن عمر [ رضي الله عنهما ] قال : كان رسول الله إذا قعد في التشهد وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى ، وعقد ثلاثاً وخمسين ، وأشار بالسبابة . رواه أحمد ومسلم ( وعنه ) رواية ثالثة أنه يبسط الجميع ، ليستقبل بهن القبلة كما في حال السجود . [ والله أعلم ] .
قال : ويشير بالسباحة .
____________________
(1/185)
ش : سميت مسبحة لأنه يشار بها للتوحيد ، فهي منزهة مسبحة ، وتسمى سبابة لأنهم كانوا يشيرون بها إلى السب ، والأصل في الإِشارة بها من تقدم ، وموضع الإِشارة بها عند ذكر الله تعالى ، للتنبيه على الوحدانية .
513 وقد روى أبو هريرة أنه رجلًا كان يدعو بأصبعيه فقال رسول لله : ( أحّد أحّد ) رواه النسائي . [ والله أعلم ] .
قال : ويتشهد فيقول : التحيات لله ، والصلوات ، والطيبات ، والسلام عليك أنها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد لله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ) وهو التشهد الذي علمه النبي لعبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ] .
514 ش : في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود [ رضي الله عنه ] قال : كنا إذا جلسنا مع النبي [ في الصلاة ] قلنا : السلام على الله قبل عباده ، السلام على جبريل ، السلام على ميكائيل ، السلام على فلان . فسمعنا رسول الله فقال : ( إن الله هو السلام ، فإذا جلس أحدكم فليقل : التحيات لله ، والصلوات ، والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو ) في لفظ : علمني رسول الله [ ] التشهد كفى بين كفيه ، كما يعلمني السورة من القرآن وهذا التشهد هو المختار عند أحمد .
515 ولو تشهد بغيره مما ثبت عنه ، كتشهد ابن عباس ، وابن عمر ، وأبي موسى الأشعري وغيرهم جاز ، نص عليه ، وإنما اختار ما تقدم لاتفاق الشيخين عليه ، واتفاق ألفاظه ، وكون أكثر أهل العلم عليه ، وكون الأمر بخلاف ذلك في غيره ، ولأنه اختص بأنه أمر بتعليمه ، ففي مسند أحمد أنه أمر ابن مسعود أن يعلمه الناس وهذا التشهد ، والجلوس لو واجبان لا سنة على المشهور من الروايتين .
( تنبيه ) قال جماعة من الأصحاب منهم ابن حامد وغيره : إنه لو ترك حرفاً من تشهد ابن مسعود أعاد الصلاة . واختار القاضي والشيخان أنه متى ترك شيئاً ثابتا في جميع التشهدات أعاد ، وإن ترك شيئاً ساقطاً في بعضها أجزأه فعلى هذا المجزيء [ التحيات ] الله ، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله ، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله أو عبده ورسوله ) . ومعنى ( التحيات ) الملك لله ، قاله أبو عمرو وجماعة من أئمة اللغة ، وقيل البقاء . وقيل غير ذلك . والله أعلم .
____________________
(1/186)
قال : ثم ينهض مكبراً كنهوضه من السجود .
ش : يعني قائماً على صدور قدميه ، معتمداً على ركبتيه مكبراً ، وقد تقدم التكبير في حديث أبي هريرة وغيره ، والله أعلم .
قال : فإذا جلس للتشهد الأخير تورك .
ش : مذهبنا أنه يجلس مفترشاً في جميع جلسات الصلاة إلا في التشهد الأخير من صلاة فيها تشهدان أصليان ، فإنه يتورك ، والعمدة في ذلك حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه وصف جلسته بين السجدتين ، وفي التشهد الأول مفترشاً ، وفي الثاني متوركا . [ والله علم ] .
قال : فينصب رجله اليمنى ، وجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمين ، وجعل إليتيه على الأرض .
ش : هذا اختيار القاضي وأبي البركات .
516 لأن في حديث ابن الزبير : كان إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه . ونقل عنه الأثرم أنه يفرش رجله اليسرى ، وينصب اليمنى ، ويخرجهما من تحته إلى جانب يمينه ، واختاره أبو الخطاب لأن في حديث أبي حميد الساعدي : فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض ، وأخرج قدميه من ناحية واحدة . قال أبو محمد : وأيهما فعل فحسن . وهذا التشهد والجلوس من أركان الصلاة ، أما الأول وجلسته فمن الواجبات ، لا من السنن على الصحيح ، والله أعلم .
قال : ولا يتوك إلا في صلاة فيها تشهدان ، في الأخير منها .
ش : قد تقدم ذلك ، والله أعلم .
قال : ويتشهد بالتشهيد الأول .
517 ش : روى أحمد والنسائي في حديث عبتد الله بن مسعود أن النبي قال : ( إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا : التحيات الله ) . وذكره ، والتشهد الآخير والجلوس له ركنان ، لهذا الحديث ، ولما تقدم أيضاً من حديث ابن مسعود .
518 وقد روى الدارقطني وقال : إسناده صحيح . عن ابن مسعود قال : كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد : السلام على الله ، والسلام على جبريل وميكائيل ، فقال رسول الله : ( لا تقولوا هكذا ، فإن الله هو السلام ، ولكن قولوا التحيات الله ) .
____________________
(1/187)
519 وروى سعيد عن عمر أنه لا تجزيء صلاة إلا بتشهد ، ولا يعرف له مخالف ، والله أعلم .
قال : ويصلي على النبي .
ش : لا إشكال في مطلوبية الصلاة على النبي في التشهد الأخير ، واختلف في حكمها ، فعنه أنها فرض ، وعنه أنه سنة ، وعنه أنها واجبة ، وهي اختيار الخرقي ، وأبي البركات ، ونقل عنه أبو زرعة رجوعه عن الثانية . [ والله أعلم ] .
قال : فيقول : ( اللهم صل على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) .
ش ؛ هذا هو المشهور من الروايتين ، واختيار أكثر الأصحاب .
520 لما روى كعب بن عجرة قال : قلنا : يا رسول الله قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك ؛ فكيف الصلاة ؟ قال : ( قولوا اللهم صلى على محمد ، وعلى آل محمد ، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، اللهم بارك على محمد ، وآل محمد ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ) متفق عليه ، وفي لفظ لمسلم ( وبارك ) ( والثانية ) يقول : ( كما صليت على إبراهيم ، وآل إبراهيم ) وكذلك ( كما باركت على إبراهيم ، وآل إبراهيم ) اختارها ابن عقيل .
521 وكذلك روي في حديث كعب ، رواه النسائي وأحمد .
وقدر المجزيء من ذلك ، الصلاة عليه وعلى آله وآل إبراهيم ، وذكر البركة كذلك ، إلى ( حميد مجيد ) اختاره ابن حامد ، وأبو الخطاب ، لظاهر الأمر بذلك في حديث كعب ، واختار القاضي والشيخان أن المجزيء الصلاة عليه فقط ، لأنه الذي اتفقت عليه أحاديث الأمر بها ، وما عداه سقط في بعضها .
522 وفي الترمذي وصححه عن فضالة بن عبيد قال : سمع النبي رجلًا يدعو في صلاته ، ولم يصل عليه ، فقال النبي : ( عجل هذا ) ثم دعاه فقال له أو لغيره : ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله ، والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي [ ] ثم ليدع بعد بما شاء ) . والسنة تقديمه على الصلاة ، وترتيبه فإن لم يفعل ، بل نكس من غير تغيير ولا إخلال ففي الإِجزاء وجهان ، وكذلك في إبدال لفظة الآل بالأهل وجهان ، والله أعلم .
قال : ويستحب أن يتعوذ من أربع فيقول : أعوذ بالله من عذاب جهنم ، وأعوذ بالله من عذاب القبر ، وأعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال ، وأعوذ بالله من فتنة المحيا والممات .
____________________
(1/188)
523 ش : في صحيح مسلم وغيره ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا فرغ أحدكم من التشهد الاْلأخير فليتعوذ بالله من أربع ، من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن شر المسيح الدجال ) .
524 وفي الصحيح أيضاً أنه كان يدعو بذلك .
قال : فإن دعا في تشهده بما ذكر في الأخبار فلا بأس .
525 ش : نحو ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله : علمني دعاء أدعو به في صلاتي . قال : ( قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم ) متفق عليه .
526 ( وعن علي ) [ رضي الله عنه ] أن النبي لله كان من رخر ما يقول بين التشهد والتسليم ( اللهم اغفر لي ما قدتم ، وما أخرت ، وما أسررت ، وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم ، وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت ) رواه الترمذي وصححه .
527 ( وعن معاذ ) بن جبل رضي الله عنه أن النبي [ ] قال له : ( إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة ، اللهم أعني على ذكرك ، وشكرك ، وحسن عبادتك ) رواه أحمد ، والنسائي وأبو داود .
528 ( وعن عاصم ) بن كليب ، عن أبيه ، عن جده قال : دخلت على النبي وهو يصلي وقد قبض أصابعه وبسط السبابة ، وهو يقول : ( يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك ) رواه الترمذي .
529 ( وعن شداد ) بن أوس رضي الله عنه ، أن رسول الله كان يقول في صلاته : ( اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك ، وأسألك قبلاً سليماً ، ولساناً صادقاً ، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفر لما تعلم ) رواه النسائي .
ولا يتعين [ غير ] ما رود به الخبر ، بل ما في معناه ، مما يعود إلى أمر الآخرة ، ويتضمن قربة وطاعة ، كالدعاء بالرزق الحلال ، ونحو ذلك ، نص عليه ، واختاره وذكره القاضي ، واختاره الشيطان ، لتضمنه معنى ما ورد به الأثر .
____________________
(1/189)
530 وفي أبي داود أن النبي قال لرجل : ( كيف تقول في الصلاة ) ؟ قال : أتشهد ثم أقول : اللهم إن أسألك الجنة ، وأعوذ بك من النار . أما إني لا حسن دندنتك ، ولا دندنة معاذ . فقال النبي : ( حولها ندندن ) وقال أبو محمد : إن ظاهر كلام الخرقي وجماعة من الأصحاب أنه لا يجوز الدعاء بغير مأثور ، ولا إشكال أنه لا يجوز على المذهب الدعاء بما يرجع إلى محض طلب الدنيا وشهواتها ، نحو : اللهم ارزقني جارية حسناء ، وحلة خضراء .
531 لقوله : ( إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ، إنما هي التكبير ، والتسبيح وقراءة القرآن ) رواه مسلم وغيره ، خرج منه ما ورد ، وما في معناه ، فيبقى فيما عدا ذلك على مقتضى العموم . ( وعن أحمد ) جواز ذلك ، قال : إذا دعا في صلاته بحوائجه أرجوا أن لا يضره . وذلك لما تقدم من حديث ابن مسعود ، والله أعلم .
قال : ثم يسلم عن يمينه ، فيقول : السلام عليكم ورحمة الله ، وعن يساره كذلك .
ش : لا نزاع عندنا في تعيين السلام للخروج من الصلاة ، لقوله [ ] ( تحريمها التكبير ، وتحليلها التسلمي ) وظاهره أن لا تحليل لها سواه .
532 وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها : وكان يختم الصلاة بالتسليم . وقد قال : ( صلوا كما رأيتموني أصل ) إذا تقرر هذا فالمشروع أن يسلم كما ذكر الخرقي ، تسليمة عن يمينه ، وتسليمة عن يساره .
533 لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي كان سلم عن يمينه ، وعن يساره ( السلام عليكم ورحمة الله ، السلام عليكم ورحمة الله ) حتى يرى بياض خده . وراه الخمسة ومسلم بمعناه .
534 ( وعن سعد ) بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : كنت أرى النبي يسلم عن يمينه وعن يساره ، حتى يرى بياض خده . رواه مسلم وأحمد ، والنسائي . والسلام ركن في الجملة ، لقوله : ( تحريمها التكبير ، وتحليلها التسلميم ) فإن كان في فريضة وفيت التسليمتان ، في رواية اختارها أبو بكر ، والقاضي . وفي أخرى : الثانية سنة . اختارها أبو محمد . أما صلاة الجنازة ، والنافلة ، فإن الثانية لا تجب فيهما ، قال
____________________
(1/190)
القاضي : رواية واحدة . وهل يكفي ( السلام عليكم ) اختاره القاضي وأبو البركات أو لا بد من ذلك من ( ورحمة الله ) اختاره أبو الخطاب ، وابن عقيل فيه وجهان ، ونص أحمد على الإِستجزاء بالسلام في صلاة الجنازة وفيه احتمال ، ولا يجزيء ( سلام عليكم ) منكراً ولا ( عليكم السلام ) منكساً ، على أصح الوجهين .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط أن ينوي بسلامه الخروج في الصلاة ، وهو المنصوص ، المشهور ، إذ هو بعض الصلاة ، فشملته نية الصلاة كبقية الأجزاء ، واشترطه ابن حامد ، قياساً لأحد الطرفين على الآخر ، وعلى قوله لو أتى بنية الخروج مضيفاً إليه نية السلام على الحفظة والمصلين جاز ، ولم يستحب ، نص عليه ، وحكى ابن حامد وجها بالبطلان ، وعلى الأول لو ترك نية الخروج ، ونوى الحاضرين ، بطلت صلاته ، وجهاً واحداً عن ابن حامد ، والصحيح عند أبي البركات وزعم أنه المنصوص عدم البطلان ، والله أعلم .
قال : والمرأة والرجل في ذلك سواء .
ش : لعموم قوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وغيره من العمومات . [ والله أعلم ] .
قال : إلا أن المرأة تجمع نفسها في الركوع والسجود ، وتجلس متربعة ، أو تسدل رجليها ، فتجعلهما في جانب يمينها .
535 ش : روى يزيد بن أبي حبيب ، أن رسول الله [ ] مر على امرأتين تصليان فقال : ( إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى بعض ، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل ) رواه أبو داود في مراسيله .
536 وقال ابن عمر : تقعد المرأة في الصلاة متربعة .
537 وعن علي [ رضي الله عنه ] : إذا سجدت المرأة فلتحتفز ، ولتضم فخذيها . والسدل أفضل من التربع ، نص عليه ، واختاره الخلال ، لأنه يروي عن عائشة ، وظاهر كلامه أنه يسن لها رفع اليدين كالرجل ، وهو إحدى الروايات .
538 لما روى سعيد ، عن أم الدرداء ، أنها كانت ترفع يديها في الصلاة حذو منكبيها . ( والثانية ) : لا يسن . لإِخلاله بالانضمام اللائق بها . ( والثالثة ) : ترفع دون رفع الرجل قال أبو البركات : وهو أوسط الأقوال . [ والله أعلم ] .
قال : والمأموم إذا سمع قراءة الإِمام فلا يقرأ بالحمد ولا بغيرها ، لقول الله تعالى : { وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ، لعلكم ترحمون } ولما روى أبو هريرة [ رضي الله عنه ] أنه النبي قال : ( ما لي أنازع القرآن ) فانتهى الناس أن يقرؤا فيما جهر فيه النبي .
ش : إذا سمع المؤموم قراءة الإِمام لم يقرأ مطلقاً ، لما استدل به الخرقي [ رحمه
____________________
(1/191)
الله ] من الآية والحديث .
539 ( أما اللآية ) فقال أبو العالية ، زيد بن أسلم : كانوا يقرأون خلف الإِمام ، فنزلت هذه الآية فتركوا .
40 ذ ويروى نحوه عن أبي هريرة ، وابن المسيب ، والحسن ، والزهري ، والنخعي والقرظي وغيرهم ، وقال أحمد في رواية أبي داود رواية أبي داود : أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة .
41 ذ ( وأما الحديث ) فلما روى أبو هريرة [ رضي الله عنه ] أن النبي انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : ( هل قرأ أحد منكم معي آنفاً ؟ ) فقال رجل : نعم يا رسول الله . فقال : ( مالي أنازع القرآن ؟ ) قال : فانتهى الناس عن القراءة معه ، فيما جهر فيه من الصلوات ، حين سمعوا ذلك منه . ورواه مالك في الموطأ ، والخمسة إلا ابن ماجه ولأبي داود : وقال أبو هريرة : فانتهى الناس .
وظاهر المنع في كلام الخرفي رحمه الله التحريم ، وبه جزم القاضي في التعليق ، وهو ظاهر كلام أحمد ، وجعل أبو الخطاب في الهداية والشيخان المنع للكراهة .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يقرأ وإن لم يمكنه القراءة في حال ، وعليه الأصحاب ، واختار أبو البركات قراءة الفاتحة لمن تعذرت عليه القراءة في السكتات .
542 لما روى عبادة بن الصامت قال : صلى النبي [ ] الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : ( إني أراكم تقرؤن وراء إمامكم ) قلنا : إي والله . قال : ( فلا تفعلوا إلا بأم القرآن ، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، ولأبي داود والنسائي ( فلا يقرأ بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن ) ورواه الدارقطني وقال : كلهم ثقات .
ومفهوم كلام الخرقي إن المأموم يقرأ إذا لم يسمع قراءة الإمام ، ولا يخلو من أن يكون ذلك لبعده أو لطرشه ، فإن كان لبعده قرأ على المنصوص ، والمختار للأصحاب ، لظاهر الآية الكريمة ( وعن أحمد ) : لا يقرأ . لما تقدم من قوله : ( لا تقرؤوا بشيء في القرآن إذا جهرت به ) فعلى الأولى هل يقرأ من سمع الهمهمة من غير فهم ؟ على روايتين . وإن كان عدم سماعه لطرشه فقد توقف ، فيخرج على وجهين ، ولعل مبناهما على أن علة المنع الاستماع أو التشويش [ على الإِمام ] والذي ينبغي أن يكونا كلاهما ، لورود المنع منهما ، وإذاً يقرأ إن لم يشوش على الإِمام ، بل والمأمومين ، والله أعلم .
قال : والاستحباب أن يقرأ في سكتات الإِمام ، وفيما لا يجهر فيه .
____________________
(1/192)
ش : لظاهر ما تقدم من حديث أبي هرير ، وعباد [ بن الصامت ] ( رضي الله عنهما ) .
543 وعن علي [ رضي الله عنه ] : اقرؤا في الركعتين الأولتين من الظهر والعصر خلف الإِمام بفاتحة الكتاب وسورة ، وراه الدارقطني وصححه .
ومقتضى كلام الخرقي أن للإِمام سكتات ، قال أبو البركات : وهما سكتتان على سبيل الاستحباب ، إحداهما تختص بأول ركعة للإِستفتاح ، والثانية سكتة يسيرة بعد القراءة كلها ، ليرد إليه نفسه ، لا لقراءة الفاتحة خلفه ، على ظاهر كلام أحمد .
544 وقد روى الحسن عن سمرة ، أن رسول الله كانت له سكتتان ، سكتة حين يفتتح الصلاة ، وسكتة إذا فرغ من السورة الثانية ، قبل أن يركع ، فكتب ذلك لعمران بن حصين فأنكره ، فكتب ذلك إلى أبي بن كعب فقال : صدق سمرة ، رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه وفي رواية لهم : سكتة إذا كبر ، وسكتة إذا فرغ من قراءة { غير المغضوب عليهم } قال أبو البركات : والصحيح في الرواية الأولى ، وعلى تقدير ثبوت الثانية فيحمل على سكتة يسيرة لقد البسملة ، وتصوير ما يقرأ من السورة ، ونحو ذلك [ والله أعلم ] .
قال : فإن لم يفعل فصلاته تامة ، لأن من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة .
ش : هذا تصريح منه بأن القراءة لا تجب على المأمون مطلقاً ، وهو المنصوص ، والمعروف عند الأصحاب ، لما تقدم من الآية وحديث أبي هريرة .
545 ( وعنه ) أيضاً أن رسول الله [ ] قال : ( إنما جعل الإِمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا ) رواه الخمسة إلا الترمذي ، وصححه أحمد ومسلم ، فأمر بالقراءة واستماع ، وهو شامل ، وإن لم يسكت الإِمام .
546 وروى عبد الله بن شداد أبي النبي [ ] قال : ( من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة ) رواه سعيد ، وأحمد في مسائل ابنه عبد الله ، والدارقطني ، وروي مسنداً من طرق [ ضعاف ] والصحيح أنه مرسل ، وذلك لا يضر عندنا وحكى ابن الزاغوني رواية بوجوب القراءة على المأموم ، لما تقدم من حديث عبادة في الصحيحين عنه ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتح الكتاب ) وحملا على الأِستحباب ، مع أن الأول قال أحمد : لا يصح عندنا . وقال : لم يرفعه إلا ابن إسحاق ، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وجوب القراءة حال السر فقط ، قال : إذا جهر الإِمام فأنصت ، وإذا لم يجهر فاقرأ الحمد وسورة ؛ وهو نص حديث عبادة ، وبه تجتمع الأدلة ، والله أعلم .
____________________
(1/193)
قال : ويسر القراءة في الظهر والعصر ، ويجهر بها في الأوليين من المغرب والعشاء وفي الصبح كلها .
ش : هذا مجمع عليه ، وقد ثبت ذلك عن رسول الله بنقل الخلف عن السلف ، وهل الجهر والإِخفات في محليهما سنة أو واجب ؟ فيه وجهان ، المذهب الأول ، ومراد الخرقي والله أعلم الإِمام ، فلا يسن الجهر للمنفرد ، وهو المذهب ، إذا المقصود إسماع نفسه ، نعم يباح له ذلك ، وعنه : يسن له .
وقوة كلامه يقتضي أن هذا في الصلاة المؤداة ، أما المقضية فإن قضى صلاة سر أسر وإن قضاها ليلًا ، وإن قضى صلاة جهر ؛ جهر إن قضى ليلًا ، وأسر إن قضى نهاراً ، على ما قطع به أبو البركات ، وفي المغني احتمال بالجهر ، وقال : إن ظاهر كلام أحمد التخيير ، والله أعلم .
قال : ويقرأ في الصبح بطوال المفصل .
ش : المفصل أوله قيل : القتال . وقيل : الفتح ، وقيل : الحجرات ، وقيل : ( ق ) وهو الصحيح .
547 لما روى أبو داود عن أوس بن حذيفة ، قال : سألت أصحاب رسول الله كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا : ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى ، عشرة ، وثث عشرة وحزب المفصل ، ورواه أحمد ، والطبراني ، وفي آخره : وحزب المفصل من ( ق ) . والأصل في استحباب قراءة طواله في الصبح .
548 لما روى جابر بن سمرة أن النبي كان يقرأ في الفجر بقاف { والقرآن المجيد } ونحوها ، وكانت صلاته بعد إلى التخفيف ، وراه مسلم وغيره .
549 وصح عنه أنه كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة ، وفي الظهر بنحو الثلاثين رية ، وفي العصر على النصف من ذلك . [ والله أعلم ] .
قال : وفي الظهر [ في الركعة الأولى ] بنحو من الثلاثين آية ، وفي الثانية بأيسر من ذلك ، وفي العصر على النصف من ذلك .
550 ش : اتباعاً لفعله ، وإنما استحب أن يقرأ في الثانية بأيسر من الأولى .
551 لما ثبت عنه أنه كان يطول الأولى ، ويقصر الثانية ، ولا اختصاص للظهر . بهذا ، بل المستحب في جميع الصلوات تطويل الأولى ، وتقصير الثانية .
قال : وفي المغرب بسور آخر المفصل .
552 ش : روي عن ( ابن ) عمر قال : كان النبي [ ] يقرأ في المغرب ب 19 ( { قل ي
____________________
(1/194)
أيها الكافرون } ) و 9 ( { قل هو الله أحد } ) رواه ابن ماجه .
قال : وفي العشاء الآخرة نحو { الشمس وضحاها } وما أشبهها .
553 ش : عن بريدة أن رسول الله كان يقرأ في العشاء ب { الشمس وضحاها } وأشباهها من السور ، رواه أحمد ، والترمذي .
554 وفي الصحيح أنه قال لمعاذ لما طول في العشاء ( فلولا صليت ب { سبح اسم ربك الأعلى } و { الشمس وضحاها } .
قال : ومهما قرأ به بعد أم الكتاب في ذلك كله أجرأه .
ش : يعني أن التفصيل المتقدم على سبيل الاستحباب ، ولو زاد على ذلك أو نقص فلا بأس .
555 فقد صح عنه أنه قرأ في المغرب بالطور ، وبالمرسلات ، وبالأعراف ، وقرأ في الصبح بالمعوذتين ، وفي العشاء وهو مسافر ب ( التين والزيتون ) ومقتضى كلامه أن قراءة الفاتحة واجبة ، وقد تقدم ذلك ، وكلامه موهم ، ويدفع ( هذا ) الوهم ما يذكره به في الأركان لا بد له من قراءة شيء بعد الفاتحة .
قال : ولا يزيد على قراءة أم الكتاب في الآخريين من الظهر ، والعصر ، وعشاء الآخر ، والركعة الآخيرة من المغرب .
556 ش : في الصحيحين عن أبي قتادة [ رضي الله عنه ] أن النبي كان يقرأ في الظهر والعصر ، وفي الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين ، وفي الركعتين [ الأخريين ] بفاتحة الكتاب ، وعن علي أنه كان يأمر بذلك ، وقال ابن سيرين : لا أعلمهم يختلفون في ذلك . ثم هل النفي لعدم الاستحباب ، أو للكراهة ؟ فيه روايتان ، أصحهما عند أبي البركات الأول ، لأنه قد جاء عنه أنه زاد أحياناً على قراءة الفاتحة في الآخريين ، والله أعلم .
قال : ومن كان من الرجال ، وعليه ما يستره ما بين سرته وركبته ، أجزأه ذلك .
ش : هذا يتضمن أن عورة الرجل ما بين سرته وركبته ، وهذا المشهورة ، من الروايات ، وعليه العامة .
557 لما روي عن علي [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله [ ] : ( لا تبر
____________________
(1/195)
فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ) رواه أبو داود وابن ماجه .
558 وعن جرهد الأسلمي قال : مر رسول الله وعلي بردة ، وقد انكشف فخذي فقال : ( غط فخذك ، فإن الفخذ عورة ) رواه أحمد ، ومالك في الموطأ ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه .
559 وعن عمرو بن شعيب عن أبي عن جده عن النبي قال : ( ما بين السرة إلى الركبة عورة ) رواه الدارقطني .
( والرواية الثانية ) : أن السرة والزكبة عورة أيضاً . ( والثالثة ) : وإليها ميل أبي البركات أن العورة الفرجان فقط .
560 لما روت عائشة [ رضي الله عنه ] أن رسول الله [ ] كان جالساً كاشفاً عن فخذه ، فاستأذن أبو بكر ، فأذن له وه وعلى حاله ، ثم استأذن عمر ، فأذن له وهو على حاله ، ثم استأذن عثمان ، فأرخى عليه ثيابه ، فلما قاموا قلت : يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر ، فأذنت لهما وأنت على حالك ، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك . فقال : ( يا عائشة ألا أستحيي من رجل والله إن الملائكة تستحيي منه ؟ ) رواه أحمد ، ومسلم ، ولكن قال : كاشفاً [ عن ] فخذية أو ساقيه .
561 وعن أنس أن النبي [ ] يوم خيبر انحسر الإزار عن فخذه ، وقال : حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي . رواه أحمد والبخاري ، وقال : حديث أنس أسند ، وحديث جرهد أحوط .
وقد تضمن كلام الخرقي أن ستر العورة شرط لصحة الصلاة .
562 لقوله : ( لا يطوفن بالبيت عريان ) متفق عليه ، مع تشبيه الطواف بالصلاة .
563 وقوله : ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) .
564 وقوله ( عليه والسلام لما سئل : أتصلي المرأة في درع وخمار ؟ فقال : ( إذا كان واسعاً يغطي ظهور قدميها ) .
____________________
(1/196)
ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يعفى عن يسير شيء من العورة ، وكلامه بعد في عورة المرأة ، وأصرح من هذا ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، والمشهور والمختار للأصحاب أنه يعفى عن اليسير في جميع الصلاة ، كما يعفى عن جميعها في الزمن اليسير .
565 لما صح عن رسول الله [ ] أنه قال للنساء : ( لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال [ جلوساً ] لا ترين عورات الرجال من ضيق الأزر ) والمرجع في اليسير إلى العرف ، لأنه لم يرد فيه تقدير ، والعرف أن المغلظة يفحش منها مالًا يفحش من غير المغلظة ، والله أعلم .
قال : إذا كان على عاتقه شيء من اللباس .
ش : يعني [ أنه ] لا بد للرجل مع ستر عورته من أن يضع على عاتقه شيئاً من اللباس فإجزاء الصلاة متوقف على كليهما .
566 لما روى أبو هريرة [ رضي الله عنه ] أن رسول الله [ ] قال : ( لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ) رواه البخاري ومسلم [ وقال : عاتقيه ] وهذا نهي والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
ومقتضى كلام الخرقي أنه لو ستر أحد المنكبين وأعرى الآخر أجزأه ، ونص عليه أحمد في رواية مثنى بن جامع ، وزعم القاضي وجماعة أنه لا يكفي ستر أحدهما ، وخرج القاضي ومن وافقه من رواية مثنى صحة الصلاة مع كشف المنكبين ، وأبى ذلك الشيخان ، إجراء لنص أحمد على ظاهره موافقه للدليل .
ومقتضى كلام الخرقي أن المشترط أن يضع شيئاً من اللبس ، ولا يشترط ستر جميعه ، ولا يكفي وضع حبل ونحوه ، وهذا اختيار الشيخين لظاهر قوله : ( ليس على عاقته منه شيء ) وهذا على عاتقه منه شيء ، واختار القاضي وجوب ستر جميعه ، وعاكسه بعضهم فقال : يجزيء ولو حبل أو خيط .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين الفرض والنفل ، وهو إحدى الروايتين ، لعموم ما تقدم ، والرواية الثانية يختص ذلك بالفرض ، وهو المشهور ، واختاره القاضي وغيره .
567 لأن عائشة رضي الله عنها قالت : رأيت رسول الله [ ] صلى في ثوب واحد بعضه على عاتقه . رواه أبو داود والغالب أن الثوب الواحد لا يسع لذلك مع ستر المنكب ، ولأن النفل سومح [ فيه ] ما لم يسامح في الفرض ، والله أعلم .
____________________
(1/197)
قال : ومن كان عليه ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه ذلك .
ش : لا إشكال في صحة الصلاة في الثوب الواحد إذا ستر العورة ، وكان العاتق منه شيء .
567 وقد سأل رجل النبي عن الصلاة في الثوب الواحد فقال : ( أولكلكم ثوبان ؟ ) متفق عليه .
569 وفي الصحيح أيضاً عن جابر بن عبد الله [ رضي الله عنهما ] أن النبي قال : ( إذا كان الثوب واسعاً فالتحف به ، وإذا كان ضيقاً فاتزر به ) .
570 وفي الصحيح عنه أيضاً أن النبي صلى في ثوب واحد متشحاً به .
واشعر كلام الخرقي بأن الثوبين أفضل ، وهو واضع ، لأن سؤال الرجل له عن الصلاة في الثوب الواحد يدل على أنه كان من عادته الصلاة في ثوبين .
571 وفي بقية الحديث من [ رواية ] البخاري : ثم سأل رجل عمر فقال : 16 ( إذا وسع الله فأوسعوا . والأفضل من الثوبين ما كان أسبغ ) ، والله أعلم .
قال : ومن لم يقدر على ستر العورة صلى جالساً [ يوميء إيماء ] .
572 ش : لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن نافع عن ابن عمر في قوم انكسرت بهم مراكبهم في البحر ، فخرجوا عراة قال يصلون جلوساً ، يومئون إيمان . ولم ينقل عن صحابي خلافه .
وظاهر كلام الخرقي أن الجلوس على طريق الوجوب ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب ، قال : لا يصلون قياماً ، إذا ركعوا أو سجدوا بدت عوراتهم . لكن عامة الأصحاب على أن الجلوس على سبيل الاستحباب ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم ، إذ الستر آكد من القيام والركوع والسجود ، بدليل وجوبه على الراحلة ، وفي النافلة ، وخارج الصلاة ، واشتراط دوامه في جميعها ، وهذه الأركان آكد ، للإِجماع عليها ، ولأن الركن من ذات العبادة ، والشرط خارج عنها ولأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط ، وإذا تقرر أن كل واحد منهما آكد من وجه ، خيرناه بينهما ، واستحببنا الستر ، لأنه أحسن وأليق [ بالأدب ] وحمل الشيرازي وجها في المنفرد أنه يصلي قائماً ، قال : بناء على أن الستر كان لمعنى في غير العورة ، وهو عن أعين الناس ، وأما ما حكاه في المقنع من وجوب القيام على رواية فمنكر لا نعرفه والله أعلم .
____________________
(1/198)
قال : فإن صلى جماعة عراة كان الإِمام معهم في الصف . [ وسطا ] .
ش : الجماعة مشروعة للعراة كغيرهم ، للعمومات ، والسنة أن يقفوا صفاً واحداً ، والإِمام وسطهم ، لأنه أستر لهم ، ولذلك كانت إمامة النساء في وسطهن .
قال : يومئون إيماء ، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم ، و [ قد روي ] عن أبي عبد الله [ رحمه الله رواية أخرى ] أنهم يسجدون بالأرض .
ش : المختار لمن عدم السترة أن يوميء بالركوع والسجود لما تقدم ، ويكون السجود أخفض من الركوع ، محاكاة للبدل بالمبدل ، ولو ركعوا وسجدوا جاز ، كما تقدم في القيام ، وعن أحمد ، أنه يلزمهم الركوع والسجود بالأرض ، اختارها ابن عقيل ، لئلا يسقط فرضين بتحصيل واحد ، والله أعلم .
قال : ومن كان في ماء وطين أومأ إيماء .
ش : هذا [ المشهور ] المعروف من الروايتين ، لأنه إن سجد على الماء فالماء لا قرار له ، وإن سجد على الطين لحقته مشقة وضرر ، وذلك منفي شرعاً ، وقد صلى النبي على راحلته بالإِيماء كذلك كما سيأتي إن شاء الله ( والرواية الثانية ) أن يسجد على متن الماء ، محافظة على ما أمكن من السجود ، قال : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
وقد شمل كلام الخرقي الراكب ، فإنه يصلي على مركوبه إذا خشي الأذى بالمطر أو الوحل بالإِيماء ، إن تعذر عليه الركوع والسجود على ظهر المركوب .
573 لما روى يعلى بن مرة عن النبي [ ] أنه انتهى إلى مضيق ، ومعه أصحابه ، والسماء من فوقهم ، والبلة من أسفل منهم ، فصل رسول الله [ ] على راحلته ، وأصحابه على [ ظهور ] دوابهم ، يومئون إيماء ، يجعلون السجود أخفض من الركوع . رواه الترمذي وغيره ( وعنه ) المنع .
574 لقوله : ( صل قائماً ) ، وغيره وعلى هذا ينزل بالأرض ويصلي كما تقدم .
( تنبيه ) : زعم أبو محمد أن الموميء للمطر لا يترك الاستقبال ، وفيه نظر ، بل ينبغي أنه إذا صلى على الراحلة فحكمه حكم المتطوع عليها ، والله أعلم .
قال : وإذا انكشف من المرأة الحرة شيء سوى وجهها أعادت [ الصلاة ] .
ش : لا خلاف أن للمرأة كشف وجهها في الصلاة لما سيأتي ، وقد أطلق أحمد [ رحمة الله ] القول بأن جميعها عورة وهو محمول على ما عدا الوجه ، أو على غير الصلاة ، أما ما عدا الوجه ، ( فعنه ) عورة إلا يديها ، اختارها أبو البركات ، لقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } .
575 قال ابن عباس : وجهها وكفاها .
____________________
(1/199)
576 وعن النبي [ ] ( إذا بلغت المرأة المحيض فلا تكشف إلا وجهها ويدها ) ذكره أحمد في رواية عبد الله ، ورواه أبو داود ، ولفظه : ( إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا [ وهذا ) ] وأشار إلى وجهه وكفيه .
577 وعن أم سلمة أنها سألت النبي [ ] : أتصلي المرأة في درع وخمار ، [ ليس ] عليها إزار ؟ قال : ( إذا كان الدرع سابغاً ، يغطي ظهور قدميها ) رواه أبو داود . ( وعنه ) ويديها أيضاً ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي في التعليق ، لأنه لا يلزم كشفها في الإِحرام ، أشبها سائر بدنها . هذا كله في الحرة البالغة ، أما المراهقة فكالأمة على ما سيأتي إن شاء الله [ تعالى ] لمفهوم قوله : ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) والله أعلم .
قال : وصلاة الأمة مكشوفة الرأس جائزة .
578 ش : قال ابن المنذر : ثبت أن عمر [ رضي الله عنه ] قال لأمة رآها مقنعة : اكشفي رأسك لا تتشبهي بالحرائر . ولقد بالغ بعض الأصحاب فقال : لو صلت مغطاة الرأس لم تصح صلاتها . أما ما عدا الرأس فقال ابن حامد وابن عقيل ، وأبو الخطاب ، والشيرازي ، وغيرهم : عورتها كعورة الرجل . وظاهره إجراء روايتي الرجل فيها ، وصرح بذلك ابن البناء في الخصال في النكاح ، والحلواني ، وزعم أبو البركات أن ما بين السرة والركبة منها عورة إجماعاً ، وكأنه حمل إطلاق الأصحاب على أنهم فرعوا على المذهب عندهم .
579 وذلك لما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي [ ] قال : ( إذا زوج أحدكم خادمه [ عبده أو ] أجيره ، فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة ) والمراد بالخادم الأمة ، وقال القاضي في [ الجامع ] : ما عدا رأسها ، وساقها ، وما يظهر غالباً عورة ، وحكاه أبو الحسين نصاً عن أحمد ، إذ الأصل كونها كالحرة لعموم ( لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ) ونحوه ، لكن ترك ذلك فيما يظهر غالباً ، لمشقة احترازها عنه ، وشهد له قصة عمر .
580 وعن علي [ رضي الله عنه ] : تصلي الأمة كما تخرج . رواه الأثرم .
581 وفي الصحيحين أنه لما أو لم على صفية قال المسلمون : إحدى أمهات المؤمنين ، أو ما ملكت يمينه ؟ فقالوا : إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين ، وإن لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه ، فلما ارتحل وطأ لها خلفه ، ومد الحجاب . وقد انتضم من هذا أن [ ظاهر ] كلام الخرقي في أن ما عدا رأسها عورة لا قائل به فالظاهر أن
____________________
(1/200)
الخرقي [ رحمه الله ] إنما نص على الرأس لقصة عمر . وقد شمل كلام الخلاقي المدبرة ، والمعلق عتقها بصفة ، والمكاتبة ، وخرج من كلام المعتق بعضها ، فإنها كالحرة على الصحيح من الروايتين ، والله أعلم .
قال : ويستحب الأم الولد أن تغطي رأها في الصلاة ش : للخروج من الخلاف ، إذ قد نقل عن أحمد [ رحمه الله ] فيها روايتان ، ( إحداهما ) أن حكمها حكم الحرة اختاره أبو بكر ، فيما نقله عنه أبو الحسين ، احتياطاً للعبادة ، إذ قد وجد [ فيها ] سبب الحرية وجوداً لازماً ، ( والثانية ) أن حكمها حكم الأمة ، وهي اختيار الأكثرين ، الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضي وغيرهم ، لأنها رقيقة لم يعتق منها شيء ، أشبهت المكاتبة ، والله أعلم .
قال : ومن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أتمها وقضى المذكورة ، وأعاد [ الصلاة ] التي كان فيها إذا كان الوقت مبقى .
ش : قضاء الصلوات يجب عندنا على الفور حسب الإِمكان ، ما لم تلحقه مشقة .
582 لما روى أنس [ رضي الله عنه ] أن النبي [ ] قال : ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلا ذلك ) متفق عليه .
583 وعن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] أن رسول الله [ ] قال : ( من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، قال الله تعالى : { أقم الصلاة لذكري } رواه مسلم وغيره ، وفي لفظ ( فوقتها إذا ذكرها ) .
584 ويجب مرتباً لما روي عن ابن مسعود [ رضي الله عنه ] أن المشركين شغلوا رسول الله [ ] عن أربع صلوات يوم الخندق ، حتى ذهب من الليل ما شاء الله ، فأمر بلالًا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء . رواه أحمد ، والنسائي ، وفعله ورد مبيناً للصلاة المؤداة وغيرها ، ويعضده قوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .
إذا تقرر هذا فإذا نسي أن عليه الصلاة فلم يذكرها [ مثلًل ] حتى شرع في أخرى كأن ترك صلاة الظهر مثلًا ، ولم يذكرها حتى شرع في صلاة العصر فالمشهور الذي عليه الخرقي وجمهور الأصحاب أن الترتيب لا يسقط ، لإِمكان اعتباره . ( وعن ) أحمد يسقط في المأموم خاصة ، لئلا تتفوت الجماعة في الفريضة المؤداة . واختار أبو البركات سقوطه رأساً .
585 لما روى ابن عباس [ رضي الله عنهما ] أن النبي [ ] قال : ( إذا نسي أحدكم
____________________
(1/201)
صلاة ، فذكرها وهو في صلاة مكتوبة ، فليبدأ بالتي هو فيها ، فإذا فرغ منها صلى التي نسي ) [ رواه الدارقطني ] ولأن الحاضرة بالشروع فيها صارت كالمضيقة للوقت ، بدليل تحريم الخروج منها لغير غرض . ( فعلى هذا ) يتم التي هو فيها وتجزئه ، ثم يقضي الفائتة ، ( وعلى المذهب ) ظاهر كلام الخرقي أنه يتمها ، إماماً كان أو مأموماً ، أو منفرداً ، والمنصوص عن أحمد أن الإِمام يقطعها ، معلًا بأنهم مفترضون خلف متنفل ، وإذاً إن صحت صلاة المفترض خلف المتنفل أتمها إِمام كغيره . ( وعنه في المأموم والمنفرد روايات ( أشهرها ) : أنهما يتمونها نفلًا إما ركعتين وإما أربعاً ، حذاراً من بطلان العمل ، وجمعاً بين المصلحتين . ( والثانية ) : يتمها المأموم دون المنفرد .
586 لما روى الدارقطني عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ] عن النبي قال : ( إذا نسي أحدكم صلاة ، فذكرها وهو مع الإِمام فليصل مع الإِمام ، فإذا فرغ من صلاته فليصل التي نسي ، ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإِمام ) . ( والثالثة ) : عكس الثانية : يتمها المنفرد دون المأموم ، حكاها أبو محمد .
هذا كله بشرط سعة الوقت ، كما صرح به الخرقي ، أما إن ضاق الوقت فإن الترتيب يسقط كما سيأتي إن شاء الله [ تعالى ] ثم الأصحاب يشترطون بقاء قدر يسع الإِتمام التي هو فيها ، وقضاء الفائتة ، ثم إعادة الحاضرة ، وأبو البركات يقول : إنما يشترط ما يسع عقب الذكر للقضاء ، ثم لفعل الحاضرة ، إذ إتمام الألألى نفل ، فلا يسقط بضيق الوقت عنه ترتيب واجب .
ومقتضى كلام الخرقي [ رحمه الله ] أنه لو لم يذكر حتى فرغ من الصلاة التي صلاها فإنها تصح وتجزئه ، وهو المشهور من الروايتين .
587 لقوله : ( عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان ) الحديث ( والثانية ) : لا تجزئه ، مراعاة للترتيب مطلقاً ، حكاها ابن عقيل .
88 ذ لما روي عن أبي جمعة حبيب بن سباع أن النبي [ ] عام الأحزاب صلى المغرب ، فلما فرغ قال : ( هل علم أحد منكم أني صليت العصر ؟ ) قالوا : يا رسول الله ما صليتها . فأمر المؤذن فأقام فصلى العصر ، ثم أعاد المغرب . رواه أحمد وقد ضعف والله أعلم .
قال : فإن خشي فوات الوقت اعتقد وهو فيها أن لا يعيدها ، وقد أجزأته ، ويقضي التي عليه .
____________________
(1/202)
ش : كأن اعتقاد صيرورتها نفلًا إذا ذكر وهو فيها صار لازماً ، فقال : إذا ضاق الوقت يعتقد أن لا يعيدها ، وإلا فالشرط بقاء نيته ، والأصل في سقوط الترتيب مع ضيق الوقت ، سواء كان في صلاة ، أو لم يكن .
589 لعموم قوله : ( إنما التفريط في اليقظة ، أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى ) ولأن في الترتيب تفويتاً للصلاتين ، وفي تركه تحصيلًا لإِحدهما ، فكان أولى ، ولأن فعل الصلاة في وقتها فريضة ، وتأخيرها عنه محرم إجماعاً وأصل الترتيب في القضاء على الفور مختلف في وجوبهما ، وإذاً عند التزاحم مراعاة المجمع عليه أولى ، وعلى هذا يقضي [ إلى ] أن يبقى تمن وقت الحاضرة بقد فعلها ، فإذاً يأتي بها ، ولا تصح منه قبل ذلك . ( وعن أحمد ) رواية أخرى : لا يسقط الترتيب ، بل تلزمه الموالاة في الفوائت قدر الطاقة ، ولا تحسب له حاضرة ما دام عليه فائتة ، اختارها الخلال وصاحبه ، لعموم قوله : ( من نسي صلاة فليصليها إذا ذكرها ) .
590 ويروى عن النبي أنه قال : ( لا صلاة لمن عليه صلاة ) إلا أن أحمد قال : لا أعرفه ؛ وقد أنكر القاضي هذه الرواية ، وحكى عن أحمد ما يدل على رجوعه عنها ، وكذلك أبو حفص قال : إما أن يكون قولًا قديماً أو غلطاً ، ( وعنه ) رواية ثالثة : إن ضاف وقت الحاضرة عن قضاء كل الفوائت سقط ترتيبهن عليها ، وكان له فعلها في أول الوقت . حكاها أبو حفص إذا التأخير عن أول الوقت لا تحصل به براءة الذمة بما فيها ، فاغتنام التقديم أولى . والأول هو المشهور ، اختاره القاضي وغيره ، وعليه : لو خالف وصلى الفائتة إذاً فهل يصح ؟ فيه وجهان .
( تنبيه ) : خشية خروج الوقت الاختياري كخشية خروج الوقت بالكلية ، فإذا خشي الاصفرار فعل الحاضرة ، والله أعلم .
قال : ويؤدب الغلام على الطهار والصلاة إذا تمت له عشر سنين .
591 ش : لما روى عمر بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله : ( مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين ، واضربوهم عليها لعشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وأمره بذلك واجب على الولي ، نص عليه لظاهر الأمر .
وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الصلاة لا تجب عليه ، وهو المشهور ، المختار من الروايتين .
592 لقوله : ( رقع القلم عن ثلاثة ) الحديث .
____________________
(1/203)
والثانية : تجب على من بلغ عشراً . اختارها أبو بكر ، لأنه معاقب إذاً . وهو دليل الوجوب والله أعلم .
قال : وسجود القرآن أربع عشرة [ سجدة ] .
ش : سجدة [ في ] الأعراف آخرها ، وفي الرعد عند { وظلالهم بالغدو والآصال } وفي النحل { ويفعلون ما يؤمرون } وفي سبحان { ويزيدهم خشوعا } وفي مريم { خروا سجدا وبكيا } وفي [ أول ] الحج { يفعل ما يشاء } وفي الفرقان { وزادهم نفورا } وفي النمل { رب العرش العظيم } وفي [ الم ] { تنزيل } السجدة { وهم لا يستكبرون } وفي حم السجدة { إن كنتم إياه تعبدون } اختاره ابن أبي موسى ، وقيل عند { وعم لا يسأمون } اختاره الأكثرون ، فظاهر كلام أحمد التخيير بينهما ، وفي آخر الحج { وافعلوا الخير لعلكم تفلحون } وفي الحجم { فاستجدوا لله واعبدوا } وفي الإِنشقاق { وإذا قريء عليهم القرآن لا يسجدون } وفي { اقرأ باسم ربك } آخرها . فأما العشر الأول فبالإِجماع ، وأما ثانية الحج .
593 فلما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله أفضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين ؟ قال : ( نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) رواه أحمد وأبو داود ، واحتج به أحمد في رواية عبد الله . وأما سجدة النجم .
____________________
(1/204)
594 فلما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي سجد بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون ، والجن والإِنس . رواه البخاري وغيره .
595 وعن ابن مسعود أن النبي قرأ ( والنجم ) فسجد فيها ، وسجد من كان معه ، غير أن شيخاً أخذ كفا من حصباء أو تراب ، فرفعه إلى جبهته وقال : يكفيني هذا . قال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا . متفق عليه . وأما سجدة الإِنشقاق ، و { اقرأ باسم ربك } .
596 فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : سجدنا مع رسول الله في { إذا السماء انشقت } و { اقرأ باسم ربك } . رواه مسلم وغيره .
وظاهر كلام الخرقي أن سجدة ( ص ) وهي عند { وخر راكعاً وأناب } ليست من عزائم السجود ، وهو المشهور ، المختار من الروايتين .
597 لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ليست ( ص ) من عزائم السجود ، وقد رأيت النبي يسجد فيها . رواه البخاري وغيره .
598 وعنه أن النبي سجد في ( ص ) وقال : ( سجدها داود توبة ، وسجدناها شكراً ) رواه النسائي ، وعلى هذا إن سجد خارج الصلاة سجد تأسياً ، وإن سجد في الصلاة ففي الجواز وجهان . ( والرواية الثانية ) هي من عزائم السجود ، يسجد لها في الصلاة وغيرها .
599 لما روى عمرو بن العاص أن النبي قرأ خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث في المفصل ، وفي الحج سجدتان . رواه أبو داود وفيه ضعف ، مع أنا نقول بموجبه لأنا نسميها سجدة ، والله أعلم .
قال : في الحج منها أثنتان .
ش : قد تقدم هذا [ والله أعلم ] .
قال : ولا يسجد إلا وهو ظاهر .
ش : لأنه صلاة ، فيدخل في عموم الأدلة المقتضية لذلك ، ولأنه سجود أشبه سجود السهو ، وحكمه في بقية [ شرائط ] الصلاة من الستارة ، واستقبال القبلة حكم صلاة التطوع ، والله أعلم .
قال : ويكبر إذا سجد .
ش : يكبر إذا سجد ، في صلاة كان أو غيرها ، لعموم ، ( تحريمها التكبير ) .
600 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله يقرأ علينا القرآن ، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه ؛ رواه أبو داود .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يزيد على ذلك ، لظاهر حديث ابن عمر ، وقال غيره : يكبر إذا رفع ، قياساف على سجود السهو والصلب ، وغالى أبو الخطاب فقال : يكبر للإِحرام أيضاً .
قال : ويسلم إذا رقع .
ش : يجلس ويسلم على المشهور ، المختار من الروايتين ، لعموم ( تحليها التسليم ) ، ( والثانية ) : لا يسلم فيه ، لأنه لم يثبت عن النبي ، ويكتفي بتسلميه واحدة عن يمينه ، ونص عليه ، وعنه : بل اثنتان .
____________________
(1/205)
601 وعن ابن مسعود رضي الله عنه روايتان .
قال : ولا يسجد في الأوقات التي لا يجوز أن يصلي فيها تطوعاً .
ش : هذه فرع أن ذات السبب لا تفعل في وقت النهي ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى .
قال : ومن سجد فحسن ، ومن ترك فلا شيء عليه .
ش : السجود للتلاوة سنة ، لا يأثم تاركه على المشهور .
602 لما روى زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي : ( والنجم ) فلم يسجد فيها . رواه الجماعة ، وفي لفظ للدارقطني : فلم يسجد منا أحد .
603 وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ يوم الجمعة في المنبرة سورة النحل ، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد ، وسجد الناس ، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها ، حتى إذا جاء السجدة قال : يا أيها الناس إنما نمر بالسجود ، فمن سجد فقد أصاب ، ومن لم يسجد فلا إثما عليه ، ولم يسجد عمر رضي الله عنه ، ورواه البخاري ، ومالك في الموطأ ، وقال فيه : إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء . وهذا الذي قاله بمحضر من الصحابة ، ولم ينكره أحد ، فصار إجماعاً ، وعن أحمد ما يدل على وجوبه في الصلاة ، والله أعلم .
قال : وإذا حضرا الصلاة والعشاء بدئ بالعشاء .
604 ش : لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي قال : ( إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤا بالعشاء ) متفق عليه .
605 وعنها أيضاً قالت سمعت رسول الله يقول : ( لا صلاة بحضرة الطعام ، ولا هو يدافعه الأخبثان ) والمنع على سبيل الكراهة عند الأصحاب ، فلو خالف وصلى صحت صلاته إجماعاً ، ولا بد من الكراهة أن تطلبه نفسه ، أما إن لم تطلبه فلا كراهة ، والله أعلم .
قال : وإذا حضرت الصلاة وهو محتاج إلى الخلاء بدأ بالخلاء [ والله أعلم ] .
ش : لحديث عائشة المتقدم .
606 وعن عبد الله بن الأرقم قال : قال رسول الله : ( إذا أقيمت الصلاة
____________________
(1/206)
ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء ) رواه أبو داود ، والسنائي ، والترمذي وصححه ، فإن خالف وصلى صحت صلاته ، على المنصوص ، والمختار للأكثرين ، [ إذا غايته ] اشتغال سره ، وهذا لا يمنع الصحة ، كما لو كان له مال خشي تلفه ، ونحو ذلك ، وحملًا للنص على الكراهة ، ونقل عنه حرب يعيد ، عملًا بظاهر النص ، وقال ابن أبي موسى إن أشغل عن الصلاة ، أو عن إتمامها أعاد في الظاهر من قوله ، وظاهر كلام الخرقي أنه يبدأ بالعشاء والخلاء وإن خشي فوات الجماعة ، وهو صحيح ، ولعموم ما تقدم ، والله أعلم .
قال :
( باب ما يبطل الصلاة إذا ترك عامداً أو ساهياً )
ش : يعرف من هذا الباب أركان الصلاة ، وواجباتها ، وسننها . [ والله أعلم ] .
قال : ومن ترك تكبيرة الإِحرام ، أو قراءة الفاتحة وهو إمام أو منفرد ، أو الركوع ، أو الاعتدال بعد الركوع ، أو السجود ، أو الاعتدال بعد السجود ، أو التشهد الأخير ، أو السلام ، بطلت صلاته ، عامداً كان أو ساهياً .
ش : الصلاة تشتمل على ثلاثة أشياء ، أركان ، وواجبات ، وسنن ، وبدأ الخرقي [ رحمه الله ] بذكر الأركان لأنها أهم ، وعدها ثمانية ، تكبرة الإِحرام ، وقراءة الفاتحة ، والركوع ، والاعتدال بعده ، والسجود ، والاعتدال بعده ، والتشهد الأخير ، والسلام ، وقد تقدم ذكر ذلك ، والدليل عليه .
607 ويدل على أكثرها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا دخل المسجد فصلى ، ثم جاء فسلم على النبي [ ] فقال : ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) فرجع فصلى كما صلى ، ثم جاء فسلم على النبي [ ] فقال : ( ارجع فصل فإنك لم تصل ) ثلاثاً ، فقال : والذي بعثك بالحق نبياً لا أحسن غيره فعلمني . قال : ( إذا قمت [ إلى ] الصلاة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ، وافعل ذلك في صلاتك كلها ) متفق عليه .
وبقي على الخرقي [ رحمه الله ] القيام في الفريضة مع عدم العذر ، فإنه ركن ، لقوله لعمران بن حصين ( صل قائماً ) الحديث رواه البخاري وغيره ، وقد يؤخذ من كلامه في صلاة المريض . ( وبقي عليه ) أيضاً الجلوس للتشهد الأخير ، ( وبقي عليه )
____________________
(1/207)
أيضاً الطمأنينة في هذه الأفعال ، الركوع ، والاعتدال عنه ، والسجود ، والاعتدال عنه ، فإنها فرض بلا نزاع ، لحديث الأعرابي وقد تقدم ، وقدر الطمأنينة أدنى سكون بين الخفض والرفع في وجه ، وفي آخر وقواه أبو البركات بقدر الذكر الواجب فيه ، وفائدة الخلاف لو نسي تسبيح الركوع والسجود ، ونحو ذلك ، واطمأن قدراً لا يتسع له ، صحت صلاته على الأول دون الثاني ، ولا بد من مراعاة ترتيب الأركان ، بأن يأتي بالقيام ، ثم الركوع ، على ما تقدم فبعضهم يعده ركناً ، وبعضهم يقول : هو مقوم للأركان ، لا تعتبر إلا به ، كما أن قراءة الفاتحة ركن ، ولا يعتبر إلا بترتيبها ، والسجود ولا يعتبر إلا على الأعضاء السبعة ، كما تقدم .
وقول الخرقي : أو قراءة الفاتحة وهو إمام أو منفرد . احترازاً من المؤتم ، فإن القراءة لا تجب عليه كما تقدم ، وقوله : بطلت صلاته عامداً كان أو ساهياً . أما إذا ترك ذلك عمداً فواضح ، وأما سهواً فإن ذكره في الصلاة قبل أن يشرع في قراءة ركعة أخرى أتى به وبما بعده ، لأنه مرتب عليه ، وبعد الأخذ في قراءة أخرى تصير عوضاً عن الفائت ركنها ، وتبطل تلك ، وإن ذكره وقد سلم بطلت الصلاة على رأي أبي الخطاب ، ومن كلام ابن أبي موسى : والمذهب وهو المنصوص في رواية الجماعة اختصاص البطلان بطول الفصل ، ثم إن كان المتروك سلاماً أتى به فحسب ، وإن كان تشهداً أتى [ به ] وسلم ، وإن كان غيرهما أتى بركعة تامة ، والله أعلم .
قال : ومن ترك شيئاً من التكبير غير تكبيرة الإِحرام ، أو التسبيح في الركوع ، أو التسبيح في السجود ، أو قول : سمع الله لمن حمده ، أو قول : ربنا ولك الحمد . أو قول رب اغفر لي أو التشهد الأول ، أو الصلاة على النبي في التشهد الأخير ، عامداً بطلت صلاته ، ومن ترك شيئاً منها ساهياً أتى بسجدتي السهو قد صحت صلاته [ والله أعلم ] .
ش : هذا النوع الثاني مما اشتملت الصلاة عليه ، وهو الواجبات ، وهو عبارة هنا عما أبطل الصلاة عمده دون سهوه ، وهذا لدليل خاص دال عليه ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى وإلا [ فلا ] فرق [ بينا ] عندنا بين الفرض والواجب على الصحيح ، وقد تقدم ذكر هذه الواجبات ، والخلاف فيها ، ونشير هنا إلى دليل المذهب ، أما التكبير غير التحريم .
608 فلما روى أبو موسى الأشعري ، في حديث له عن النبي [ ] قال : ( فإذا كبر الإِمام وركع فكبروا واركعوا ، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا ) رواه مسلم وغيره وظاهر الأمر الوجوب .
609 وروى رفاعة بن رافع أن النبي [ ] قال في قصة الرجل الذي أمره بإعادة الصلاة ( إنها لن تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ، ثم يكبر الله ،
____________________
(1/208)
ويحمده ويمجده ، ويقرأ ما تيسر من القرآن ، ثم يكبر ويركع ، حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ، ثم يقول : سمع الله لمن حمده . ثم يستوي قائماً ، حتى يقيم صليه ، ثم يكبر ويسجد ، حتى يمكن وجهه ، أو قال : جبهته ، حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ، ويكبر فيرفع ، حتى يستوي قاعداً على مقعدته ، ويقيم صلبه ، ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه ، ويسترخي ويطمئن ، فإذا لم يفعل هكذا لم تتم صلاته ) رواه النسائي وأبو داود . والظاهر أن المراد بنفي التمام نفي الصحة ، لأنه ذكره بيان لما تعاد منه الصلاة ، وإنما سقط بالسهو .
610 لما احتج به أحمد من أنه عنه أنه قام إلى ثالثة ناسياً ، وسجد للسهو ولم يعد ، وقد ترك بسهوة تكبيرة ، مع التشهد ، وجلسته .
وأما التسبيح في الركوع والسجود فللأمر به في حديث عقبة بن عامر المتقدم ، ولقوله تعالى : 19 ( { إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا ، وسبحوا بحمد ربهم } ) فأخبر أنه لا يؤمن إلا من سجد إذا ذكر بالآيات ، وسبح بحمد ربه ، واستدل لذلك أيضاً بقوله تعالى : 19 ( { وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } ) والمراد الصلاة ، وذلك يدل على لزوم التسبيح فيها ، كما في قوله تعالى : 19 ( { قم الليل } ) فإنه يدل على وجوب القيام ، وقوله : 19 ( { وقرآن الفجر } ) يدل على وجوب القراءة ، وفيه نظر ، وإنما سقط بالسهو قياساً على تكبيرات الخفض . ( وأما ) قول : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، وقول : رب اغفر لي . فلأن النبي قال ذلك ، وواظب عليه ، وقال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) وقال : ( إذا قال الإِمام : سمع الله لمن حمده . فقولوا : ربنا ولك الحمد ) وسقط بالسهو قياساً على التكبيرات . ( وأما ) التشهد الأول فلما تقدم في التشهد الأخير ، وإنما قلنا بسقوطه هنا لأنه ثبت أن النبي تركه ، ولم يعد له ، وحكم جلسته حكمه .
وأما الصلاة على النبي فلما تقدم من حديث كعب ابن عجرة ، ولظاهر قوله تعالى : 19 ( { إن الله وملائكته يصلون على النبي ، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ) .
611 وروي عن النبي أنه قال : ( لا صلاة لمن لم يصل على نبيه [ ] رواه ابن ماجه والدارقطني .
612 وإنما سقط بالسهو لما روى فضالة بن عبيد ، قال : سمع النبي رجلًا يدعو في صلاته ، ولم يصل عليه ، فقال النبي : ( عجل هذا ) ثم دعاه فقال له أو لغيره : ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله ، والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ،
____________________
(1/209)
ثم ليدع بعد بما شاء ) رواه الترمذي وصححه ، ولم يأمره بالإِعادة ، وكان جاهلًا ، والجاهل والناسي فيه سواء .
قال أبو البركات : وعد غير الخرقي مع ذلك نية الخروج ، وبعضهم التعوذ والاستفتاح ، وقد تقدم ذلك ، وعد أبو محمد في المقنع والمغني التسليمة الثانية ، في إحدى الروايتين ، وفي الأخرى أنها سنة ، وأبو الخطاب ، وأبو البركات وغيرهما على الخلاف هل الثانية ركن أو سنة بل المذهب عند أبي بكر ، والقاضي والأكثرين أنها ركن ، وقد أُشعر كلام الخرقي بأن ما عدا ذلك سنة ، والله سبحانه أعلم .
قال :
( باب سجدتي السهو )
ش : لا إشكال في مشروعية ذلك في الجملة والأحاديث مستفيضة بذلك .
قال : ومن سلم وقد بقي عليه شيء من صلاته أتى بما بقي عليه من صلاته وسلم ، ثم [ كبرو ] سجد سجدتي السهو ، ثم تشهد وسلم ، لما روى أبو هريرة ، وعمران بن الحصين رضي الله عنهم عن النبي أنه فعل ذلك .
ش : قد ذكر الخرقي رحمه الله الحكم ودليله ، وهو حديث أبي هريرة ، وحديث عمران بن حصين .
613 أما حديث أبي هريرة ففي الصحيحين عن ابن سيرين عنه قال : صلى بنا رسول الله [ ] إحدى صلاتي العشي ، فصلى بنا ركعتين ، ثم سلم ، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد ، فاتكأ عليها كأنه غضبان ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبك بين أصابعه ، ووضع يده اليمنى على اليسرى ، وشبك بين أصابعه ، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى ، وخرجت السرعان من أبواب المسجد ، فقالوا : أقصرت الصلاة ؟ وفي القوم أبو بكر وعمر ، فهاباه أن يكلماه ، وفي القوم رجل يقال له : ذو اليدين ، فقال : يا رسول الله أنسيت ، أم قصرت الصلاة ؟ قال ( لم أنس ، ولم تقصر ) فقال : ( أكما يقول ذو اليدين ؟ ) فقالوا : نعم . فتقدم فصلى ما ترك ، ثم سلم ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه فكبر ، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول ، ثم رفع رأسه وكبر ، فربما سألوه : ثم سلم ؟ فيقول : نبئت أن عمران بن حصين قال : ثم سلم .
614 وأما حديث عمران فرواه مسلم وغيره ، ولفظه : أن رسول الله [ ] صلى العصر ، فسلم في ثلاث ركعات ، ثم دخل منزله وفي لفظ فدخل الحجرة ، فقام إليه رجل يقال له : ( الخرباق ) وكن في يده طول ، فقال : يا رسول الله . فذكر له صنيعه ،
____________________
(1/210)
فخرج غضبان ، يجر رداءه ، حتى انتهى إلى الناس ، فقال : ( أصدق هذا ؟ ) قالوا : نعم . فصلى ركعة ، ثم سلم ، ثم سجد سجدتين ثم سلم .
615 وعن عمران بن حصين أيضاً ، أن النبي [ ] صلى بهم فسهى ، فسجد سجدتين ، ثم تشهد ، ثم سلم . رواه أبو داود والترمذي .
وقول الخرقي : ومن سلم . أي ساهياً ، إذ كلامه في السهو ، لأنه لو فعل ذلك عامداً بطلت صلاته ، وقوله : وقد بقي عليه شيء . يشمل القليل والكثير ، وكذا أطلق أبو الخطاب ، وأبو محمد ، وغيرهما ، وشرط أبو البركات أن يكون ذلك من نقص ركعة تامة فأكثر ، أما لو كان النقص سجدة ونحوها فإنه يسجد له قبل السلام ، وقد نص أحمد على ذلك ، في رواية حرب ، وهو موجب الدليل ، لأن قاعدة أحمد أن السجود كله قبل السلام ، إلا في هذين الموضعين لورود النص بهما ، والنص إنما ورد في نقص ركعة تامة أو ركعتين ، فإن كان الخرقي أراد الإِطلاق فلعله يقول : لا فرق بين نقص ركعة وسجدة ، فهو من باب لا فارق .
وقوله : أتى بما بقي عليه . مشعر بأن صلاته لا تبطل بالسلام ، وهو صحيح إن كان سلامه ظناً منه أن صلاته قد انقضت ، أما لو كان السلام من العشاء [ يظن ] أنها التراويح ، أو من الظهر يظن أنها جمعة ، أو فجر فائتة ، فإن الأولى تبطل ، ولا بناء ، نص عليه ، لاشتراط دوام النية ذكراً أو حكمه ، وقد زالت باعتقاد صلاة أخرى .
وقوله : أتلى بما بقي عليه . شرطه أن لا يطول الفصل ، ولا يشترط البقاء في المسجد ، نص أحمد على ذلك في رواية ابن منصور ، محتجاً بحديث عمران بن حصين المتقدم ، وشرط أبو محمد أيضاً أن لا ينتقض وضوءه ، والذي ينبغي أن يكون حكم الحدث هنا حكم الحدث في الصلاة هل يبني معه ، أو يستأنف ، أو يفرق بين حدث البول والغائط ، وغيرهما ؟ على الخلاف ، وقول الخرقي يشمل وإن دخل في صلاة أخرى ، وهو المشهور عنه ، فعلى هذا يبني ما لم يطل الفصل ، وعنه : يستأنفها ، كذا أطلق الرواية أبو البركات ، وفي المغني اختصاص الرواية بما إذا كانت الثانية تطوعاً ، وقال الشيرازي : يجعل ما عمل في الثانية تماماً للأولى .
( تنبيه ) : يتشهد كالتشهد الأخير ، قاله السامري ، والله أعلم .
قال : ومن كان إماماً فشك فلم يدر كم صلى ، تحرى ، فبنى على أكثر وهمه ، ثم سجد [ أيضاً ] بعد السلام ، كما روى عبد الله بن مسعود عن النبي .
ش : إذا شك الإِمام أو المنفرد في عدد الركعات ، بنيا على اليقين ، على إحدى الروايات ، اختارها أبو بكر ، والقاضي ، وأبو الخطاب ، وأبو البركات .
____________________
(1/211)
616 لما روى عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت النبي [ ] يقول : ( إذا شك أحدكم في صلاته ، فلم يدر : واحدة صلى أم اثنتين ؟ فليجعلها واحدة ، وإن لم يدر : ثنتين صلى أو ثلاثاً . فليجعلها اثنتين ، وإن لم يدر : ثلاثاً صلى أم أربعاً . فليجعلها ثلاثاً ، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس ، قبل أن يسلم سجدتين ) رواه أحمد والترمذي وصححه . وروى ذلك من حديث أبي سعيد ، رواه مسلم وغيره ، ويحمل تحري الصواب في خبر عبد الله بن مسعود على استعمال اليقين ، لأنه أحوط ، فهو أقرب إلى الصواب ( والرواية الثانية ) يبنيان على غلبة ظنهما .
617 لما روى ابن مسعود [ رضي الله عنه ] أن النبي [ ] قال : ( إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب ، فليتم عليه ، ثم ليسلم ، ثم ليسجد سجدتين ) متفق عليه ، ويحمل ما تقدم على استواء الأمرين ، فإنه لا خلاف إذاً في البناء على اليقين .
( والرواية الثانية ) يبني الإِمام على غالب ظنه ، والمنفرد على اليقين ، لأنه أمر بالتحري لما جرى عليه السهو في حال إمامته ، فحملناه على من كان مثل حاله ، وحملنا النص باليقين على المنفرد ، جمعاً بين الأحاديث ، والمعنى في ذلك أن الإِمام يبعد غلطه ، إذ وراءه من ينبهه ، فمتى سكتوا عنه علم أنه على الصواب ، بخلاف المنفرد ، وهذه الرواية اختيار الخرقي ، وأبي محمد ، وقال : إنها المشهورة . أما المأموم فإنه يرجع إلى فعل الإِمام والمأمومين ، بناء على [ أن ] الإِمام إذا سبح به المأمومون أنه يرجع إليهم ، كذلك المأموم ، وحيث قلنا بالبناء على غلبة الظن ، فإن السجود له بعد السلام ، لنص حديث عبد الله بن مسعود والله أعلم .
قال : وما عدا ذلك من السهو فسجوده قبل السلام ، مثل المنفرد إذا شك في صلاته فلم يدر كم صلى فبنى على اليقين ، أو قام في موضع جلوس ، أو جلس في موضع قيام ، أو جهر في موضع تخافت ، أو خافت في موضع جهر ، أو صلى خمساً ، أو ما عداه من السهو فكل ذلك يسجد له قبل السلام .
ش : ما عدا الصورتين المتقدمتين وهو ما إذا سلم وقد بقي عليه شيء من صلاته ، وما إذا كان إماماً فبنى على غلبة ظنه ، وقد تقدما مع دليلهما من صور سجود السهو ، فإن السجود له قبل السلام ، لما تقدم من حديث عبد الرحمن ابن عوف ، وعن أبي سعيد نحوه .
618 وصح عنه أنه لما ترك التشهد الأول سجد له قبل أن يسلم .
619 وعن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] عن النبي قال : ( إذا صلى أحدكم فلم يدر أزاد أم نقص ، فليسجد سجدتين وهو جالس ، قبل أن يسلم ) وهذا يشمل كل
____________________
(1/212)
سهو ، وهو مقتضى القياس ، خرج مهه الصورتان المتقدمتان ، لحديث أبي هريرة ، وعمران بن حصين ، قال أحمد : لولا ما جاء عنه يعني النبي لكان السجود كله قبل اللاسم ، لأنه من تمام الصلاة ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن السجود كله قبل السلام ، لما تقدم من حديث أبي هريرة ، ( وعنه ) : ما كان من زيادة فهو بعد السلام ، وما كان من نقص فهو قبله ، والأول هو المذهب ، وعلى رواية أن الإِمام يبني على اليقين ، فالسجود كله قبل السلام إلا في صورة ، فيكون في المسألة أربع روايات .
____________________
(1/213)
وقول الخرقي : مثل المنفرد إذا شك فبنى على اليقين . قد تقدم ذلك ، وأن المنفرد يبني على اليقين ، على الصحيح بلا نزاع .
وقوله : أو قام في موضع جلوس . كما إذا قام عن التشهد الأول ، أو عن الأخير ، أو عن جلسة الفصل بين السجدتين ، وقوله : أو جلس في موضع قيام . كما إذا جلس عقب الأولى أو الثالثة في الرباعية ، نعم إن كان جلوسه يسيراً فلا [ سجود عليه ] . وقوله : أو جهز في موضع تخافت . كالجهر في الظهر ونحوها ، أو خافت في موضع جهر ، كأن خافت في الصبح وهو إمام ، ونحو ذلك ، وقد اختلف عن أحمد [ رحمه الله ] هل يسن السجود لهاتين الصورتين وما في معناهما من السنن .
620 لعموم قوله : ( لكل سهو سجدتان ) أم الأولى تركه .
621 لأن أنساً [ رضي الله عنه ] 16 ( جهر في موضع تخافت فلم يسجد 6 ( . ثم أبو محمد يخص الروايتين بالسنن القولية دون الفعلية ، وأبو الخطاب وأبو البركات يجريانهما في جميع السنن .
وقوله : أو صلى خمساً . يعني إذا كان في رباعية ، وكذا أربعاً إذا كان في ثلاثية ، وثلاثاً إذا كان في ثنائية ، ولهذه الصور التي ذكره الخرقي [ رحمه الله ] تفاريع وتقاسيم تحتاج إلى بسط وتطويل .
( تنبيه ) : قال أبو البركات : الخلاف في محل السجود ، وهل هو قبل السلام أو بعده في الاستحباب ، أما الجواز فإنه لا خلاف فيه ، ذكره القاضي ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وظاهر كلام أبي محمد وأكثر الأصحاب خلاف هذا ، وفي المستوعب فيما أظن أو غيره : وكل السهو يوجب السجود قبل السلام ، إلا في موضعين ، وقد حكى ابن تميم المسألة على وجهين والله أعلم .
كلام الخرقي ، لما تقدم من حديث عمران بن حصين ، فإن النبي سجد للسهو بعد أن دخل الحجرة ، وتلخص أربعة أقوال ، اشتراط المسجدية ، وقرب الفصل ، وإلغاؤهما ، واشتراط الأول دون الثاني ، وعكسه .
وقول الخرقي : كبر . وكذلك يكبر في الرفع من السجدتين ، لأن في حديث أبي هريرة : كبر وسجد مثل سجود أو أطول ، [ ثم رفع رأسه ثم سجد مثل سجوده أو أطول ] .
وقوله : وتشهد وسلم . قد تقدم التشهد في حديث عمران ابن الحصين ، وتقدم السلام في ما تقدم من الأحاديث ، ويسلم تسليمتين ، والله أعلم .
قال : وإذا نسي أربع سجدات من أربع ركعات ، وذكر وهو في التشهد ، سجد سجدة تصح له ركعة ، ويأتي بثلاث ركعات ، ويسجد للسهو ، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله ، والرواية الأخرى قال : ) ) 16 ( 16 ( كأن هذا يلعب ، يبتدىء الصلاة من أولها .
ش : الرواية الأولى هي المشهورة ، وهي مبنية على أصل لنا ، قال : وإذا نسي أن عليه سجود سهو وسلم ، كبر وسجد سجدتي السهو وتشهد وسلم ، ما كان في المسجد وإن تكلم ، لأن النبي سجد بعد السلام والكلام .
ش : إذا نسي سجود السهو ، فلم يذكر حتى سلم فإنه يسجد لذلك بعد السلام ، لما سيأتي من الأحاديث ، لكن بشرط بقائه في المسجد ، إذ حكم المسجد حكم البقعة الواحدة ، فكأنه باق في مصلاه ، ولهذا لو اقتدى بالإِمام في المسجد جاز ، وإن لم تتصل الصفوف ، والخارج عنه بخلافه ، ولا يشترط ترك الكلام .
622 لما استدل به الخرقي ، وهو لفظ رواية ابن مسعود [ رضي الله عنه ] أن النبي سجد بعد السلام والكلام . رواه أحمد ومسلم .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط عدم طول الفصل ، والمذهب اشتراطه ، لأن سجود السهو تكملة للصلاة ، فلم يجز بناؤه عليها مع طول الفصل ، كسائر أفعالها بعضها على بعض ، وكما لو سلم من نقص ركعة ، ولم يذكر حتى طال الزمان ، فإنه لا يبني ، كذلك هنا ( وعن أحمد ) أنه يسجد وإن خرج وبعد ، لأنه جبران بعد التحلل من العباداة ، فجاز وإن طال الزمان كجبران الحج ، واختار أبو البركات اعتبار قرب الفصل ، وإلغاء البقاء في المسجد ، عكس ظاهر وهو أن من ترك ركناً من ركعة ، فلم يذكره حتى شرع في قراءة ركعة أخرى ، فإن المنسي ركنها تلغو ، وتصير التي شرع في قراءتها أولاه ، ففي هذه الصورة إذا ترك سجدة من الأولى ، فبشروعه في قراءة الثانية بطلت ، وصارت الثانية أولاه ، ثم لما ترك من الثانية سجدة ، وشرع في قراءة الثالثة ، بطلت الثانية أيضاً ، وصارت الثالثة أولاه ، ثم لما ترك من الثالثة سجدة ، وشرع في قراءة الرابعة بطلت الثالثة أيضاً ، وصارت الرابعة أولاه ، ثم لما ترك من الرابعة سجدة وذكر [ وهو ] في التشهد ، فإنه يسجد سجدة ، لعدم المقتضي لبطلان الرابعة ، وإذاً تصح له ركعة ، ويأتي بثلاث ( والرواية الثانية ) تبطل الصلاة رأساً ، وقد علله أحمد بأن هذا كان
____________________
(1/214)
يلعب ، لحصول عمل كثير ملغى في صلاته .
وقول الخرقي : وذكر وهو في التشهد . يخرج ما إذا ذكر بعد السلام ، فإن ابن عقيل قال : تبطل صلاته . وكذلك قال أبو محمد ، زاعماً أن أحمد نص على ذلك ، في رواية الأثرم ، وقال أبو البركات : إنما يستقيم قول ابن عقيل على قول أبي الخطاب فيمن ترك ركناً فلم يذكره حتى سلم ، أن صلاته تبطل ، فأما على منصوص أحمد في البناء إذا ذكر قبل أن يطول الفصل ، ) ) 16 ( 16 ( فإنه يصنع كما يصنع إذا ذكر في التشهد . ( قلت ) : وقياس المذهب قول ابن عقيل ، لأن من أصلنا أن من ترك ركناً من ركعة فلم يذكره حتى سلم ، أنه كمن ترك ركعة ، وهنا الفرض أنه لم يذكر إلا بعد السلام ، وإذاً كان كمن ترك ركعة ، والحاصل له من الصلاة ركعة ، فتبطل الصلاة رأساً ، والله أعلم .
قال : وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه .
ش : هذا إجماع حكاه إسحاق بن راهويه .
623 ويشهد له قوله : ( إنما جعل الإِمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ) وصح عنه أنه لما سجد لترك التشهد الأول سجد الناس معه .
624 ولما تكلم معاوية بن الحكم خلفه جاهلًا لم يأمره بسجود .
625 وقد روى الدارقطني عن ابن عمر عن النبي قال : ( ليس على من خلف الإِمام سهو ، فإن سهى فعليه وعلى من خلفه السهو ) إلا أن إسناده ضعيف .
وظاهر كلام الخرقي أن المسبوق يسجد لسهو إمامه ، وإن كان سهوه في غير ما أدركه فيه ، وهو صحيح ، لعموم ما تقدم ، ولأن صلاته تنقص بمتابعة إمام في صلاة ناقصة .
ومقتضى كلام الخرقي أن الإِمام سهى ولم يسجد أن المأموم لا يسجد ، وهو إحدى الروايتين واختاره أبو بكر وأبو البركات ، لأن المأموم إنما سجد تبعاً للإِمام ، فإذا لم يسجد الإِمام لم يسجد المأموم ، لعدم المقتضي . ( والرواية الثانية ) : يسجد إن يئس ظاهراً من سجود إمامه ، اختارها القاضي في التعليق ، وفي الروايتين ، وابن عقيل ، إذ صلاته نقصت بنقص صلاة إمامه ، فلزمه جبرانها ، كما لو انفرد عن إمامه لعذر ، قال أبو البركات : ومحل الروايتين إذا ترك الإِمام السجود سهواً ، أما إن تركه عمداً ، وهو مما محله قبل السلام ، فإن صلاته تبطل ، على ظاهر المذهب ، وهل تبطل صلاة من خلفه على روايتين ، نعم إن تركه عمداً لاعتقاده عدم وجوبه ، فهو كتركه سهواً عند أبي
____________________
(1/215)
محمد ، والظاهر أنه يخرج على ترك الإِمام ما يعتقد المأموم وجوبه ، [ والله أعلم ] .
قال : ومن تكلم عامداً أو ساهياً بطلت صلاته ، إلا الإِمام خاصة ، فإنه إذا تكلم لمصلحة الصلاة لم تبطل صلاته [ والله أعلم ] .
ش : إذا تكلم عمداً وهو من يعلم أنه في صلاة ، وأن الكلام محرم لغير مصلحة الصلاة بطلت صلاته بالإِجماع ، قاله ابن المنذر ، وإن تكلم عمداً لمصلحتها فروايات ، أشهرها واختارها الخلال ، ) ) 16 ( 16 ( وصاحبه ، والقاضي ، وأبو الحسين ، والأكثرون البطلان مطلقاً .
626 لما روى زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة ، حتى نزلت : 19 ( { وقوموا لله قانتين } ) فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام . متفق عليه وللترمذي فيه [ قال ] 16 ( : كنا نتكلم خلف رسول الله في الصلاة ) . وزيد مدني ، وهو يدل على أن نسخ الكلام كان بالمدينة ، وقال : ( إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ) . ( والثانية ) : عدم البطلان مطلقاً ، لما تقدم في حديث أبي هريرة من قصة ذي اليدين ، وفيها [ في ] رواية متفق عليها ، لما قال : ( لم أنس ، ولم تقصر ) قال : بلى قد نسيت يا رسول الله . فتكلم ذو اليدين بعد ماعلم النسخ ، بكلام ليس بجواب سؤال ، وفي رواية لمسلم : قال : بينما أنا أصلي . وهذا يدل على أن القصة كانت بحضرته ، بعد إسلامه ، [ وإسلامه ] كان عام فتح خيبر ، وتحريم الكلام كان قريباً من الهجرة قبلها ، في قول أبي حاتم بن حبان أو بعدها بقليل ، وأيما كان فإسلام أبي هريرة بعد ذلك بسنين . ( والثالثة ) تبطل إلا صلاة الإِمام خاصة ، اختارها الخرقي ، لأن النبي تكلم وكان إماماً ، فتأسينا به ، وبقينا في المأموم على عمومات النهي ، إذ إلحاقه بذي اليدين متعذر ، لظنه النسخ في وقت يحتمله ، وغيره تكلم مجيباً له [ عليه السلام ] وإجابته واجبة حتى في الصلاة .
627 وروى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى ، قال : كنت أصلي في المسجد ، فدعاني رسول الله فلم أجبه ، ثم أتيته وقلت : يا رسول الله كنت أصلي . فقال : ( ألم يقل الله [ سبحانه ] : 19 ( { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ) ثم بعض الأصحاب يخص البطلان بمن ظن تمام صلاته ، كمن سلم عن نقصان ، ثم تكلم في شأن الصلاة ، لمورد النص ، وهو اختيار أبي محمد ، والقاضي يجعل الخلاف مطلقاً ، وهو اختيار أبي البركات ، لأن الحاجة إلى الكلام هنا قد تكون أشد ، كإمام نسي القراءة ونحوها ، فإنه يحتاج أن يأتي بركعة ، فلا بد له من إعلام المأمومين .
____________________
(1/216)
وإن تكلم [ سهواً ] فروايات أيضاً ، أشهرها وهو اختيار ابن أبي موسى ، والقاضي وغيرهما البطلان لعمومات النهي ، وكما في العقود المنهي عنها ، الملامسة ، والمنابذة ونكاح المرأة على عمتها ، ونحو ذلك ( والثانية ) : عدم البطلان ، لأنه تكلم معتقداً أنه ليس في صلاة ، ) )
____________________
(1/217)
16 ( 16 ( وكذلك أصحابه ، لظنهم النسخ ، فكان كلامهم اعتقاداً منهم لإِباحته وإلا لما أقرهم على ذلك ( والثالثة ) : إن كان لمصلحة الصلاة لم تبطل ، وإلا بطلت ، اختاره [ أبو البركات ] لأن كلامه ، وكلام أصحابه جمع الأمرين ، فيبقى فيما سواه على قضية عموم التحريم والفساد ، ثم هل شرط مالا يبطل كونه يسيراً ، وهو اختيار الشيخين ، والقاضي في المجرد ، زاعماً أنه رواية واحدة ، أو لا يشترط ، وهو اختيار القاضي في الجامع الكبير ، وقال : إنه ظاهر كلام أحمد ؟ وجهان ، [ والله أعلم ] .
( باب الصلاة بالنجاسة وغير ذلك )
قال : وإذا لم تكن ثيابه طاهرة ، وموضع صلاته طاهراً أعاد .
ش : اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة في الجملة .
628 لعموم قوله : ( تنزهوا من البول ) وقوله في حديث أسماء : ( ثم اغسليه ثم صلي فيه ) .
629 وفي حديث النعلين : ( فإن رأى فيهما خبثاً فليمسحه ، ثم ليصل فيهما ) .
630 وعن جابر بن سمرة قال : سمعت رجلًا يسأل النبي : أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي ؟ فقال : ( نعم إلا أن ترى فيه شيئاً فتغسله ) رواه أحمد وابن ماجه وقال ابن المنذر : ثبت أن النبي قال : ( جعلت لي كل أرض طيبة مسجداً وطهوراً ) والطيبة الطاهرة ، والتقييد يقتضي الإِختصاص ، وقد قيل في قوله تعالى : 19 ( { وثيابك فطهر } ) أي أغسل .
إذا تقرر هذا فيجب اجتناب النجاسة في ثوبه ، وموضع صلاته ، وكذلك بدنه بطريق الأولى ، وكذلك يجتنب حملها ، أو حمل ما يلاقيها ، وقال ابن عقيل فيمن [ ألصق ثوبه إلى نجاسة يابسة ، على ثوب إنسان بجنبه : لا تبطل صلاته ، وإن ] لاقاها ثوبه إذا سجد فاحتمالان ، قال أبو البركات : والصحيح البطلان ، على ظاهر كلام القاضي ، وأبي الخطاب والله أعلم .
قال : وكذلك إن صلى بالمقبرة ، أو الحش ، أو الحمام ، أو أعطان الإِبل أعاد .
ش : المشهور من المذهب أن الصلاة في هذه المواضع محرمة ، فلا تجزئه .
631 لما روى أبو سعيد الخدري [ رضي الله عنه ] أن النبي قال : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة ، والحمام ) رواه الخمسة إلا النسائي .
632 وعن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله : ( صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل ) رواه أحمد ، والترمذي ، وصححه .
633 وعن عبد الله بن المغفل قال : قال رسول الله : ( صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل ، فإنها خلقت من الشياطين ) رواه أحمد وغيره ، وإذا منع من الصلاة في المقبرة فالحش أولى ، لأن كونه مظنة للنجاسة أظهر .
634 وقد صح عن الصحابة كراهة الصلاة إليه ، فالصلاة فيه أولى بالمنع . ( وعن أحمد ) : تكره وتصح .
635 لما روى جابر عن النبي قال : ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته ) متفق عليه .
636 ورأى عمر أنساً يصلي عند قبر فقال : 16 ( القبر القبر . ولم يأمره بالإعادة ) ، ذكره البخاري في صحيحه ( وعنه ) إن علم النهي لم تصح ، وإلا صحت ، إناطة بالعذر ، وألحق عامة الأصحاب بهذه المواضع المجزرة والمزبلة ، ومحجة الطريق .
637 لما روي عن عمر [ رضي الله عنه ] أن رسول الله قال : ( سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها ، ظاهر بيت الله [ والمقبرة ] والمزبلة ، والمجزرة ، والحمام ، وعطن الإِبل ، ومحجة الطريق ) رواه ابن ماجه ، وروى أيضاً عن ابن عمر ، عن النبي وقال الترمذي : إنه أشبه وأُصح .
وظاهر كلام الخرقي صحة الصلاة في هذه المواضع ، وهو اختيار أبي محمد .
( تنبيه ) : لا فرق في المقبرة بين الحديثة والعتيقة ، وبين المنبوشة وغيرها ، وشرط أبو محمد أن يكون فيها ثلاثة قبور وأزيد ، أما لو كان فيها قبر أو قبران فإن الصلاة تصح فيها ، ( والحش ) المرحاض ، ولا فرق فيه بين موضع التغوط وغيره ، ( وأعطان الإِبل ) هي التي تقيم فيها ، وتأوي إليها ، نص عليه أحمد .
____________________
(1/218)
638 لأن في بعض ألفاظ الحديث : أنصلي في مبارك الإبل ؟ وقيل : مواضع اجتماعها عند المصدر من المنهل ، ولا فرق في الحمام بين مسلخه وجوانبه ، لشمول الاسم لذلك ، أما الأتون فلا يصلى فيه ، لكونه مزبلة . ( والمجزرة ) الموضع المعد للذبح ، ولا فرق بين البقعة الطاهرة منه والنجسة ، وكذلك لا فرق في المزبلة أن يرمي [ فيها ] زبالة طاهرة أو نجسة . ( ومحجة الطريق ) هو الطريق الذي تسلكه المارة ، نعم إن كثر الجمع ، واتصلت الصفوف ، صحت الصلاة فيه للحاجة ، أما الصلاة على ما علا عن جادة المسافر يمنة أو يسرة ، فتصح الصلاة فيه [ للحاجة ] ولا تكره ، لأنه ليس بمحجة .
والنهي عن الصلاة في هذه المواضع تعبدي عند الأكثرين ، وقيل : بل معلل بكونها مظنة للنجاسات والقاذورات ، لعدم صيانتها عن ذلك غالباً ، فعلى الأول لا تصح الصلاة في أسطحة هذه المواضع ، إذ الهواء يتبع القرار ، بدليل تبعه له في مطلق البيع ، وتصح على الثاني ، والله أعلم .
قال : وإن صلى وفي ثوبه نجاسة وإن قلت أعاد .
ش : لعموم ما تقدم ، وإنما نص الخرقي [ رحمه الله ] على هذه المسألة ، لينبه على مخالفة مذهب الغير ، ولما يستثنى منه ، وهو قوله :
إلا أن يكون ذلك دماً أو قيحاً يسيراً ، مما لا يفحش في القلب .
639 ش : لأن ذلك يروى عن جماعة من الصحابة ، قال أحمد : جماعة من الصحابة تكلموا فيه .
640 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قد كان يكون لإِحدانا الدرع فيه تحيض ، فإن أصابها شيء من دمها بلته بريقها ، ثم قصعته بريقها . رواه أبو داود ، والريق لا يطهره ، ومثل هذا لا يخفى على النبي ، والقيح ونحوه بمنزلة الدم ، قال أحمد : هو أسهل من الدم .
واختلف في حد اليسير اختلافاً كثيراً ، والمشهور أنه ما يفحش في القلب ، والظاهر من قول الخرقي [ أنه ] ما يفحش في قلب كل إنسان بحسبه ، وهو اختيار الخلال ، وقال : إنه الذي استقر عليه قوله ، وإليه ميل الشيخين في كتابيهما الكبيرين ، وقال ابن عقيل وأبو البركات في محرره : إنه ما يفحش في نفوس متوسطي الناس ، فلا عبرة بالقصابين ، ولا المتوسوسين .
وكلام الخرقي يشمل كل دم ، والعفو مختص بدم الطاهر ، وهو واضح ، وكلامه شامل لدم الحيض ، وهو أحد الوجهين ، وبه قطع أبو محمد ، ( والثاني ) : لا يعفى عن
____________________
(1/219)
دم الحيض مطلقاً ، اختاره أبو البركات ، وكذلك الوجهان في الدم الخارج من السبيل ، والله أعلم .
قال : وإذا خفي [ عليه ] موضع النجاسة من الثوب استطهر ، حتى يتيقن أن الغسل قد أتى على النجاسة .
ش : لأنه قد تيقن نجاسة الثوب ، فلا بد من غسل ما يتقين معه طهارته ، إذ اليقين لا يزيله إلا يقين مثله ، وصار هذا كمن تيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، أو بالعكس ، فلو وقعت النجاسة في أحد الكمين ، أو أحد الثوبين ، ونحو ذلك ، ولم يعلم عينه ، لم يحكم بطهارتهما إلا بغسلهما .
وتقييد الخرقي [ رحمه الله ] بالثوب احترازاً مما إذا خفي موضع النجاسة بفضاء واسع ، ونحو ذلك ، فإنه يتحرى ، ويصلي حيث شاء ، دفعاً للحرج والمشقة ، [ والله أعلم ] .
قال : وما خرج من الإِنسان أو البهيمة التي لا يؤكل لحمها ، من بول أو غيره فهو نجس .
ش : الخارج من الإِنسان ثلاثة [ أقسام ] ( طاهر ) بلا نزاع ، وهو الدمع ، والعرق والريق والمخاط ، والبصاق .
641 وفي الصحيح أنه رأى نخامة في قبلة المسجد ، فأقبل على الناس فقال : ( ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه ، فيتنخع [ أمامه ؟ أيحب أن يستقبل فيتنخع ] في وجهه ، فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره ، أو تحت قدمه ، فإن لم يجد فليقل هكذا ) ووصف القاسم فتفل في ثوبه ، ثم مسح بعضه ببعض . ( ونجس ) بلا نزاع ، وهو البول والودي والدم وما في معناه ، والقيء ، وقد قال : ( تنزهوا من البول ) وقال : ( صبوا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء ) ، وقال : ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات ) وقد حكى بعضهم الإِجماع على نجاسة البول . ( ومختلف فيه ) وهو المني ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ، والمذي لتردده بين البول لكونه لا يخلق منه آدمي والمني [ لكونه ناشياً عن الشهوة ، وبلغم المعدة ، لتردده بين القيء ونخامة الرأس ] .
وما عدا الآدمي على ضربين مأكول وغيره ، ( فالمأكول ) بوله وروثه طاهر ، على الصحيح المشهور من الروايتين ، وهو ظاهر كلام الخرقي .
____________________
(1/220)
642 لأنه أمر العرنيين بشرب أبوال الإِبل ولم يأمرهم بغسل أفواههم ، وأباح الصلاة في مرابض الغنم . ( وعنه ) نجس ، لعموم ( تنزهوا من البول ) ونحوه ، وحكم منيه ، وقيئه حكم بوله ، أما عرقه ، ودمعه ، وريقه ، ولبنه فطاهر بلا نزاع ، وعكسه دمه ، وما تولد منه نجس بلا نزاع وغير المأكول ) على ثلاثة أضرب ( نجس ) بلا نزاع ، وهو الكلب ، . والخنزير ، وما تولد منهما ، أو من أحدهما ، فجميع فضلاته نجسة بلا ريب . ( ومختلف فيه ) وهو البغل ، والحمار ، وسباع البهائم وجوارح الطير ، فإن حكم بنجاستها فهي كالكلب والخنزير ، وإن حكم بطهارتها فكالآدمي . ( وطاهر ) بلا نزاع ، وهو الهر وما دونها في الخلقة . وما لا نفس له سائلة ، فالهر وما دونها في الخلقة حكم الخارج [ منها حكم الخارج ] من الآدمي ، إلا منيه فإنه نحبس ، وما لا نفس له سائلة الخارج منه طاهر .
وإذ قد علمت هذا فكلام الخرقي إن حمل على عمومه في أن كل خارج من الإِنسان أو البهيمة التي لا يؤكل لحمها نجس ، وردت عليه صور كثيرة قد تقدمت ، وإن حمل على أنه عنى بالخارج من السبيلين كما فسره أبو محمد فاتته أحكام كثيرة مع أنه يرد عليه الخارج من سبيل ما لا نفس له سائلة ، وقد يقال : مراده العموم ، وسلم له في الكلب والخنزير ، وما تولد منهما ، والبغل والحمار ، وسباع البهائم والطير ، على المذهب . وأما الهرة فهو قد استثنى سؤرها ، ولا شك أن عرقها في معناه أما لبنها فأظن في نجاسته خلاف ، فلعله اختار النجاسة ، وأما الآدمي فيرد عليه سؤره ، وعرقه ، ولبنه ، ومخاطه ولعله ترك التنبيه على طهارة ذلك لوضوحه ، والله أعلم .
قال : إلا بول الغلام الذي لم يأكل الطعام ، فإنه يرش عليه الماء .
ش : ظاهر هذا أن بول الغلام طاهر ، وأنه يرش عليه الماء تعبداً وحكي هذا عن أبي إسحاق بن شاقلا ، والمشهور المعروف في المذهب نجاسته لعموم الأدلة الدالة على نجاسة البول ، وإنما اكتفي برشه وهو نضحه ، بحيث يغمر ، ولا يشترط انفصال الماء عنه ، ولا تجفيفه .
643 لما روت عائشة [ رضي الله عنها ] قالت : أتي رسول الله بصبي فبال على ثوبه ، فدعا بماء فأتبعه بوله ولمسلم فأتبعه بوله ، ولم يغسله .
والإِستثناء [ في كلام الخرقي ] قال أبو محمد : [ قيل ] بمعنى ( لكن ) والأحسن أنه استثناء من مقدر ، والتقدير : وما خرج من الإِنسان يجب غسله إلا بول الغلام فالإِستثناء من قوله : يجب غسله . وقرينة هذا التقدير قوله بالرش في بول الغلام ] .
وتقييد الخرقي بالغلام ليخرج الخنثى والأنثى ، إذ الرخصة إنما وردت في الغلام ،
____________________
(1/221)
والحكمة فيه أن العرب كانوا يكثرون حمل الذكر ، فلو كلفوا بالغسل لأفضى ذلك إلى حرج ومشقة ، بخلاف الأنثى فإنهم لم يكونوا يعتادون حملها ، أو أن بول الغلام يظهر بقوة فينتشر ويعم الحاضرين ، بخلاف بول الأنثى ، فإنه لا يتجاوز محله .
644 وفي المسند ، والترمذي وحسنه ، عن علي [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله : ( بول الغلام الرضيع ينضح ، وبول الجارية يغسل ) قال قتادة : هذا ما لم يطعما ، فإذا طعما غسل بولهما .
وقوله : لم يأكل الطعام . احترازاً مما إذا أكل الطعام ، والطعام الذي يترتب عليه الغسل الذي يأكله تغذياً واشتهاء ، فلا عبرة بلعقة العسل ، ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : والمني طاهر ، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه كالدم .
ش : المشهور المعروف في المذهب أن المني طاهر .
645 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أفرك المني من ثوب رسول الله [ فركاً ] فيصلي فيه ، ولو كان نجساً لما أجزأ فركه ، كالودي ، والمذي .
646 ولأحمد عنها قالت : كان رسول الله يسلت المني من ثوبه بعرق الإِذخر ، ثم يصلي فيه ، ويحته من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه .
647 وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سئل رسول الله عن المني يصيب الثوب ، فقال : ( إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة ) رواه الدارقطني ، وروي موقوفاً على ابن عباس ( وعن أحمد ) رواية أخرى أنه نجس ، لأنه يشترك مع البول في مخرجه ، وعلى هذا فيجزيء فرك يابسه لمكان النص .
648 وفي الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها : 16 ( كنت أفرك المني من ثوب رسول الله إذا كان يابساً ، وأغسله إذا كان رطباً ) ، لكن قال أحمد : إنما يجزيء الفرك في الرجل دون المرأة ، لأن النص إنما ورد فيه ، ولا يحسن إلحاق المرأة به ، إذ مني الرجل يذهب غالبه بالفرك لغلظه ، بخلاف مني المرأة لرقته ، وهل يعفى عن يسيره ؟ فيه روايتان ، والعفو اختيار الخرقي رحمه الله لجعله كالدم ، وهو ظاهر النص والله أعلم .
____________________
(1/222)
قال : والبولة على الأرض يطهرها دلو من الماء
ش : المذهب المشهور المختار للشيخين وغيرهما أن الأرض تطهر إذا عمت بالماء ، ولم يبق للنجاسة أثر ، وإن لم ينفصل الماء .
649 لما روى أنس [ بن مالك رضي الله عنه ] قال : بينما نحن في المسجد ، مع رسول الله ، إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله : مه مه . قال : فقال رسول الله : ( لا تزرموه [ دعوه ] ) فتركوه حتى بال ، ثم إن رسول الله دعاه ثم قال له : ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ، ولا القذر ، إنما هي لذكر الله عز وجل ، والصلاة ، وقراءة القرآن ) أو كما قال رسول الله ، قال : فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه ، متفق عليه واللفظ لمسلم . ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن النجاسة إذا كانت قائمة ، لم تنشفها الأرض لم تطهر إلا بشرط الانفصال ، ويكون المنفصل نجساً ، اختاره أبو بكر ، والقاضي ، وظاهر الخبر خلاف ذلك .
وقول الخرقي : دلو من ماء . اتبع فيه الحديث ، وإلا فالمقصود ذهاب النجاسة ، وكذلك تقييده بالبول ، وخرج بذكر الماء الشمس والريح ، والاستحالة ، فإنها لا تطهر ، والله أعلم .
قال : وإذا نسي فصلى بهم أعاد وحده . [ والله أعلم ] .
650 ش : لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه 16 ( أنه صلى بالناس الصبح ، ثم خرج إلى الجرف ، فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلاماً ، فأعاد ولم يعد الناس ) ، رواه مالك في الموطأ وغيره .
651 وكذلك [ روي ] عن عثمان رضي الله عنه .
652 وعن علي رضي الله عنه أنه قال : 16 ( إذا صلى الجنب بالقوم فأتم بهم الصلاة آمره أن يغتسل ويعيد ، ولا آمرهم أن يعيدوا ) . وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر فتنزل منزلة الإِجماع ، والمعنى في ذلك أن الجنابة مما يخفى على المأمومين ، ويتعذر عليهم معرفتها ، ويقع كثيراً فصح الاقتداء معها ، بخلاف الستارة ونحوها لظهورها ، وبخلاف ترك القراءة ونحوها سهواً لندرة ذلك ، وحكى أبو الخطاب في الانتصار رواية [ أخرى ] بإعادة المأمومين كالإِمام ، قياساً على بقية الشروط ، والأول المذهب . وشرط المسألة أن لا يعلم الإِمام ولا المأمومون [ بالحدث ] إلا بعد الفراغ ، فإن علم الإِمام والمأمومون في الصلاة بطلت وفسدت صلاتهم ، واستأنفوا ، نص عيه ، وقيل عنه فيما إذا علم المأمومون أنهم يبنون ، ولو علم بعض المأمومين دون بعض ، اختص البطلان
____________________
(1/223)
بالعالم عند أبي محمد ، والمنصوص [ أن ] البطلان يعم الجميع .
وتقييد الخرقي الحكم بالجنب [ يحتمل لاختصاص الحكم به ، ويحتمل لأن قضاء الصحابة ورد به ، وقد ألحق الأصحاب بالجنب ] المحدث الحدث الأصغر .
653 وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما وألحق أبو محمد النجاسة بذلك ، إن قيل ببطلان الصلاة بها مع السهو ، نظراً إلى أن جميع ذلك يخفى على المأمومين والله أعلم .
( باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها )
قال : ويقضي الفوائت من الصلوات الفرض ، ويركع للطواف ، ويصلي على الجنائز ، ويصلي إذا كان في المسجد وأقيمت الصلاة وقد كان صلى ، في كل وقت نهى عن الصلاة فيه ، وهو ما بعده الفجر حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس .
ش : المعروف المشهور في المذهب أن أوقات النهي خمسة ، بعد طلوع الفجر ، حتى تطلع الشمس ، وبعد الطلوع ، حتى ترتفع قيد رمح ، وعند قيامها حتى تزول ، وبعد العصر حتى تشرع في الغروب ، وإذا شرعت [ في الغروب ] ، حتى تتكامل .
654 لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبيّ نهى عن الصلاة بعد الفجر ، حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر ، حتى تغرب الشمس .
655 وعن أبي هريرة مثله .
656 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ، ولا صلاة بعد [ صلاة ] الصبح حتى تطلع الشمس ] متفق عليهن .
657 وعن عمرو بن عبسة قال : قلت : يا رسول الله أخبرني عن الصلاة ، قال : ( صل صلاة الصبح ، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس ، وترتفع ، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني الشيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة ، حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة ، فإنه حينئذ تسجر جهنم ، فإذا أقبل الفيء [ فصل ] فإن الصلاة مشهودة محضورة ، حتى تصلي العصر ، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني الشيطان ، وحينئذ يسجد لها الكفار ) رواه أحمد ومسلم .
____________________
(1/224)
658 ولأحمد من حديث كعب بن مرة ، أو مرة بن كعب السلمي ، قال : سألت رسول الله أي الليل أسمع قال : ( جوف الليل الآخر ، ثم الصلاة مقبولة حتى يصبح الصبح ، ثم لا صلاة حتى تطلع الشمس ، وترتفع قيد رمح أو رمحين ) مختصر .
659 وعن عقبة بن عامر قال : ثلاث ساعات نهانا رسول الله أن نصلي فيهن ، أو نقبر فيهن موتانا ، حين تطلع الشمس بازغة ، حتى ترتفع ، وحين يقوم قائم الظهيرة ، وحين تضيف للغروب حتى تغرب ، رواه مسلم وغيره .
وظاهر كلام الخرقي رضي الله عنه أن أوقات النهي ثلاثة ، بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب [ الشمس ] ، وهذا الوقت يشتمل على وقتين كما تقدم ، ولعله اعتمد في ذلك على أحاديث عمر ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد المتفق عليهن ، فإن المذكور فيهن ذلك ، لكن قد صح النهي من رواية مسلم وغيره عن الصلاة بعد الطلوع حتى ترتفع ، ومن رواية عمرو بن عبسة ، وعقبة بن عامر ، ويحتمل أنه عبر عن الارتفاع بالطلوع لاتصاله به ، فإذاً أسقط وقت الزوال لحديث ابن عمر .
660 لأن ابن عمر [ رضي الله عنه ] قال : 16 ( أصلي كما رأيت أصحابي يصلون . لا أنهى أحداً يصلي بليل أو نهار ما شاء ، غير أن لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها ) . رواه البخاري .
والمذهب المعمول عليه الأول ، لحديث عقبة [ رضي الله عنه ] .
إذا تقرر هذا فيستثنى من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات أمور . ( منها ) قضاء ما عليه من الفوائت المفروضات [ بلا نزاع ] .
661 لقوله : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) ثم تلا 19 ( { أقم الصلاة لذكري } ) وهذا وإن كان عاماً من وجه ، خاصاً [ من وجه ] كما أن أحاديث النهي ، كذلك ، لكن يرجح عليها ، لما فيه من الاحتياط لأداء الواجب ، وبراءة الذمة ، ويلحق بذلك المنذورات ، على أشهر الروايتين لاشتراكهما في الوجوب ( ومنها ) ركعتا الطواف .
662 لما روي عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] أن النبي قال : ( يا بني عبد المطلب أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً يطوف بالبيت أو يصلي ، فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس ، إلا عند هذا
____________________
(1/225)
البيت ، يطوفون ويصلون ) رواه الدارقطني ولأن الطواف جائز في كل وقت ، مع كونه صلاة [ كما ] ورد فكذلك ركعتاه ، لأنهما تبع له . ( ومنها ) الصلاة على الجنائز ، بالإِجماع فيما بعد الفجر والعصر ، قاله ابن المنذر ، ولأنها فرض في الجملة أشبهت قضاء الفوائت .
663 وعن النبي أنه قال : ( ثلاث يا علي لا تؤخرهن ، الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيّم إذا وجدت لها كفؤاً ) . ( ومنها ) إعادة الجماعة ، إذا أقيمت وهو في المسجد .
664 لما روى يزيد بن الأسود العامري قال : شهدت مع النبي حجته ، فصليت معه صلاة الفجر في أول مسجد الخيف ، فلما قضى صلاته ، إذا هو برجلين في آخر المسجد لم يصليا [ معنا ] ، قال : ( عليّ بهما ) فجيء بهما ترعد فرائصهما ، فقال : ( ما منعكما أن تصليا معنا ) ؟ قالا : يا رسول الله إنا قد صلينا في رحالنا . فقال : ( فلا تفعلا ، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم ، فإنها لكما نافلة ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وصححه .
وشرط الخرقي وكذلك غيره لإِعادة الجماعة في وقت النهي أن يكون في المسجد ، وشرط القاضي ، وأبو البركات وغيرهما أن يكون المقيم إمام الحي ، إذ قضية النص وردت في ذلك ، ولم يشترط ذلك أبو محمد ، وزعم أنه ظاهر كلام أحمد ، وكلام الخرقي محتمل ، قال أبو البركات : وهذا إذا منعنا التنفل بما له سبب في وقت النهي ، أما إن جوزناه فإنه يجوز إعادة الفجر والعصر ، مع إمام الحي وغيره ، ولا يكره له الدخول إذا كان خارج المسجد ، لأنه نفل له سبب ، أشبه تحية المسجد .
واعلم أن الموضع الذي يجوز فيه صلاتا الطواف ، والجنازة ، وإعادة الجماعة بلا نزاع هو ما بعد الفجر والعصر ، أما عند طلوع الشمس وقيامها ، وغروبها ، ففيه روايتان .
( تنبيه ) : أول وقت النهي المتعلق بالفجر طلوعه ، على المشهور من الروايتين .
665 لقوله : ( إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر ) احتج به في رواية صالح ، ورواه [ هو و ] أبو داود من حديث ابن عمر . ( والرواية الثانية ) واختارها أبو محمد التميمي نفس الصلاة ، لأن النهي ورد مقيداً بذلك في حديث أبي سعيد وعمر وغيرهما وهي أصح إسناداً ، فعلى الأولى تستثنى ركعتا الفجر بلا خلاف [ للحديث ]
____________________
(1/226)
( وآخره ) ما لم يبد شيء من الشمس . ( وأول الوقت الثاني ) بدو شيء من قرص الشمس ، إذا ارتفعت قيد رمح ، أي قدر رمح . ( وأول [ الوقت ] الثالث ) إذا وقف الظل عن التناقص في أعيننا ، إلى أن يأخذ في الزيادة .
وأما الوقت الرابع فيتعلق في حق كل إنسان بفراغه من العصر الحاضرة ، لا بفعل غيره ولا بفعله عصراً فائتة ، ولا بشروعه ، ولو صلاها في وقت الظهر جمعا دخل وقت النهي في حقه ، وفي المذهب قول آخر فيما أظن أنه بدخول وقت العصر ، كما في الفجر ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، ( وآخره ) يعرف بأول الوقت الخامس ، وهو إذا أخذت الشمس في الغروب عند العامة ، وعند الشيخين : إذا اصفرت ، ( وآخره ) كمال غروبها ، والله أعلم .
قال : ولا يبتدئ في هذه الأوقات صلاة يتطوع بها .
ش : ما عدا ما تقدم من التطوع على ضربين . ( أحدهما ) النفل المطلق ، ولا خلاف أنه لا يجوز ابتداؤه في أوقات النهي ، لما تقدم من نهيه ، وأمره بالإِمساك عن ذلك في هذه الأوقات . ( الثاني ) النفل المقيد ، وهو ما له سبب ، كتحية المسجد ، وصلاة الكسوف ، وسجود التلاوة ، وقضاء السنن الراتبة ، ونحو ذلك ، فهل يجوز ابتداؤه في هذه الأوقات ؟ فيه روايتان مشهورتان ( إحدهما ) [ الجواز ] اختارها أبو الخطاب .
666 لعموم قوله : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) .
667 وقوله : ( من نام عن وتره أو نسيه ، فليصله إذا ذكره ) .
668 وقوله : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، فإذا رأيتموها فصلوا ) وهذا وإن كان عاماً من وجه ، خاصاً من وجه ، فيترجح على أحاديث النهي .
669 بما روت أم سلمة قالت : دخل علي رسول الله ذات يوم بعد العصر ، فصلى ركعتين ، فقلت : يا رسول الله صليت صلاة لم أكن أراك تصليها ؟ فقال : ( إني كنت أصلي ركعتين بعد الظهر ، وإنه قدم وفد بني تميم ، فشغلوني عنهما ، فهما هاتان الركعتان ) متفق عليه .
670 وعن قيس بن عمرو قال : رأى النبي رجلًا يصلي بعد الصبح ركعتين ، فقال له : ( أصلاة الصبح مرتين ؟ ) فقال له الرجل : إني لم أكن صليت
____________________
(1/227)
الركعتين قبلهما ، فصليتهما الآن . فسكت عنه النبي ، رواه الخمسة إلا النسائي ، وإذا ثبت ذلك في قضاء السنة ، مع أنها لا تفوت بالتأخير ، فما له سبب مما يفوت بالتأخير أحرى . ( والثانية ) المنع ، واختارها القاضي ، والخرقي لقوله : [ ولا يجوز أن يصلي في الأوقات التي لا يجوز أن يصلي فيها تطوعاً . وقوله ] : وإذا كان الكسوف في غير وقت صلاة ، جعل [ مكان ] الصلاة تسبيحاً . وهو ظاهر إطلاقه هنا ، وتقييده الفوائت بالفرائض ، إذ مفهومه أنه لا يقضي الفوائت النوافل ، والأصل في ذلك أحاديث النهي ، فإنها عامة في كل صلاة ، وإنما يرجح عمومها على أحاديث التحية ونحوها لأنها حاضرة ، وتلك مبيحة أو بادئة ، وكم بينهما .
671 وأيضاً فروى أبو تميمة الهجيمي قال : كنت أقص بعد صلاة الصبح فأسجد ، فنهاني ابن عمر ثلاثاً فلم أنته ، ثم عاد فقال : [ إني ] صليت خلف النبي ، ومع أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فلم يسجدوا حتى تطلع الشمس . رواه أبو داود .
( وأما ) صلاته [ ] بعد العصر فمن خصائصه ، بدليل ما روى أحمد فيه أن أم سلمة قالت : يا رسول الله أفنقضيهما إذا فاتتا ؟ قال : ( لا ) . ( وأما ) حديث قيس بن عمرو ففي إسناده سعد بن سعيد ، وقد ضعفه أحمد ، وقال ابن حبان : لا يحل الاحتجاج به . مع أن الترمذي قال : ليس بمتصل .
واستثنى ابن أبي موسى من الروايتين قضاء ورده ووتره بعد طلوع الفجر ، حتى يصلي الصبح ، وهو حسن ، وتابعه أبو محمد ، وزاد عليه ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح ، وقضاء الراتبة بعد العصر ، لحديثي قيس وأم سلمة ، وفيه جمود .
وقول الخرقي : ولا يبتدئ مفهومه أنه لو كان في صلاة تطوع أتمها ولم يقطعها ، وهو صحيح ، لكنه يخففها ، وحيث منع من الصلاة فخالف وصلى ، لم تنعقد لمكان النهي ، إلا أن يكون جاهلًا ففيه روايتان [ والله أعلم ] .
قال : وصلاة التطوع مثنى مثنى ، وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس .
ش : الأولى في تطوع الليل والنهار كونه مثنى مثنى ، أي يسلم من كل ركعتين .
672 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سأل رجل النبي وهو قائم على المنبر : ما ترى في صلاة الليل ؟ قال : ( مثنى مثنى ) وفي لفظ ( صلاة الليل مثنى مثنى ) متفق عليه .
____________________
(1/228)
673 وعنه أيضاً أن النبي قال : ( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى ) رواه [ الخمسة واحتج به ] أحمد وجود إسناده في رواية الميموني ، وعن البخاري أنه صححه ، وليس بمعارض لما قبله لوقوعه جواب سؤال ، ولا مفهوم له اتفاقاً . وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس .
674 لما روى أبو أيوب أن النبي كان يصلي قبل الظهر أربعاً ، لا يفصل بينهن بتسليم . رواه أبو داود . فلو زاد على أربع بالنهار ، وركعتين بالليل لم يجز عند أبي محمد ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار بعض الأصحاب ، مصرحاً بالبطلان ، لظاهر ما تقدم . مع أنه لم يثبت عنه في التطوع المطلق خلاف ذلك ، ولو جاز لبينه ولو مرة ، والمشهور جواز ذلك مع الكراهة ، اختاره القاضي ، وأبو الخطاب ، وأبو البركات .
675 لما ثبت من صلاته الوتر خمساً ، وسبعاً ، وتسعاً ، بسلام واحد ، وهو تطوع ، فيلحق به غيره من التطوعات .
676 وقد روي في حديث أم هانىء أنه صلى الضحى يوم الفتح ثمان ركعات ، لم يفصل بينهن ، إلا أنه مخالف لروايتها المشهورة أنه سلم بين كل ركعتين ، إذ القصة واحدة ، مع أن أحمد أنكر هذا ، وذكر قول أبي حنيفة : لو أن رجلًا صلى ثماني ركعات ، لم يسلم إلا في آخرها كان مصيباً ، لحديث أم هانيء أن النبي صلى ثمان ركعات لم يسلم إلا في آخرهن ، قيل لأبي حنيفة : ليس في الحديث لم يسلم .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز التطوع بركعة ، وهو إحدى الروايتين ، ونصبها أبو محمد ، لظاهر حديث ابن عمر المتقدم ( والثانية ) يجوز ، ونصبها أبو البركات .
677 لأن عمر دخل المسجد فصل ركعة ، فتبعه رجل فقال : يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة ، قال : هو تطوع ، فمن شاء زاد ، ومن شاء نقص .
678 وصح عن اثني عشر من الصحابة نقض الوتر بركعة ، وهي تطوع ، وكذلك الخلاف في التطوع بالألراد كالثلاث ونحوها ، والله أعلم .
قال : ويباح له أن يتطوع جالساً .
679 ش : لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : لما بدن رسول الله
____________________
(1/229)
وثقل كان أكثر صلاته جالساً . متفق عليه .
680 وعن عمران بن حصين أنه سأل النبي عن صلاة الرجل قاعداً ، قال : ( إن صلى قائماً فهو أفضل ، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد ) رواه البخاري وغيره .
ومفهوم كلامه شيئان ( أحدهما ) أن الفرض لا يباح جالساً ، وهو الركن الذي أهلمه ، [ ثم ] ( الثاني ) : [ أنه ] لا يباح التطوع مضطجعاً ، وهو أحد الوجهين ، حكاهما في التلخيص ، وظاهر كلام الأصحاب ، لعموم أدلة فرضية الركوع ، والاعتدال [ عنه ] ، والثاني يباح ، وحسنه أبو البركات ، لحديث عمران ، والله أعلم .
قال : ويكون في حال القيام متربعاً ، ويثني رجليه في الركوع والسجود .
ش : الأولى لمن صلى جالساً التربع .
681 لما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت : رأيت النبي يصلي متربعاً . رواه الدارقطني . وثني رجليه إذا سجد بلا نزاع ، لمخالفة هيئة الساجد لهيئة القائم ، وكذلك إذا ركع في الأشهر عنه ، اعتماداً على [ أن ] أنساً فعل ذلك [ واختاره ] الأكثرون ، وعنه واختاره أبو محمد ، وحكاه عن أبي الخطاب لا ، لاتفاق حالتي القيام والركوع ، والله أعلم .
قال : والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى قاعداً .
ش : من عجز عن القيام صلى جالساً بالإِجماع .
682 وعن مران [ بن حصين ] رضي الله عنه قال : كانت بي بواسير ، فسألت النبي عن الصلاة ، فقال : ( صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنبك ) رواه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي وزاد ( فإن لم تستطع فمستلقياً ، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) وكذلك إن قدر على القيام ، لكن مع ضرر يلحقه ، إما بزيادة مرضه ، أو بتباطيء برئه ، ونحو ذلك ، دفعا للحرج والضرر المنفيين شرعاً ، [ والله أعلم ] .
قال : فإن لم يطق [ جالساً ] فنائماً .
ش :َي مضطجعاً ، شبهه بالنائم [ لأنه ] على هيئته ، وكأنه اقتدى بقوله في حديث عمران المتقدم ( ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد ) والأصل في ذلك ما
____________________
(1/230)
تقدم من حديث عمران ، والأولى أن يصلي على جنبه الأيمن ، ووجهه إلى القبلة ، ولو صلى على الأيسر كذلك صح ، لأنه لم يعين جنباً ، وكذلك إن صلى مستقلياً ورجلاه إلى القبلة على الأشهر ، لأن المقصود التوجه ، واختار أبو محمد المنع .
683 لما روى الدارقطني عن علي رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( يصلي المريض قائماً إن استطاع ، فإن لم يستطع صلى قاعداً ، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه ، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن ، مستقبل القبلة ، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقياً ، رجلاه [ مما ] يلي القبلة ) ويوميء بالركوع والسجود إن عجز عنهما [ لما تقدم والله أعلم ] .
قال : والوتر ركعة ، يقنت فيها ، مفصولة مما قبلها .
ش : ا إشكال [ عندنا ] في جواز كون الوتر بركعة .
684 لما روى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( الوتر حق على كل مسلم ، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي .
685 وعن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل النبي عن صلاة الليل ، فقال بأصبعيه : [ هكذا ] ( مثنى مثنى ، والوتر ركعة من آخر الليل ) رواه مسلم وغيره . لكن هل يكره إن لم يكن قبلها شفع ، وتسمى البتيراء ، لحديث ورد بذلك .
686 أو لا يكره لأنه قد روى عن عشرة من الصحابة رضوان الله عليهم ، منهم أبو بكر ، وعمر ، وعثمان [ وعلي ] وعائشة وغيرهم الوتر بركعة .
687 وحديث البتيراء ضعيف ؟ فيه روايتان .
وقوله : والوتر ركعة . يحتمل أن يريد : وأقل الوتر ركعة . فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ، ويحتمل أن يريد أنه حاصل بركعة ، أو جائز بركعة ، وهذا أظهر ، وهذا إذا أوتر بثلاث ، أو بإحدى عشرة أما لو أوتر بخمس ، أو بسبع ، أو بتسع ، فإن الجميع وتر كما ثبت في الأحاديث ، وكما نص عليه أحمد ، لكن في الخمس يسردها ، وفي التسع يجلس عقب الثامنة ، فيتشهد ، ثم يأتي بالتاسعة ويسلم ، وكذلك حكم السبع عند أبي محمد ، وعند أبي البركات ، وهو المنصوص حكمها حكم الخمس .
وقوله : مفصولة مما قبلها . هذا كما تقدم فيما إذا أوتر بثلاث ، أو بإحدى عشرة .
688 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله يصلي فيما
____________________
(1/231)
بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة ، يسلم من كل ثنتين ، ويوتر بواحدة ، ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية . مختصرة رواه الشيخان .
689 وروى أبو هريرة [ رضي الله عنه ] عن النبي قال : ( لا توتروا بثلاث ، أوتروا بخمس ، أو سبع ، ولا تشبهوا بصلاة المغرب ) رواه الدارقطني ، وقال : إسناده ثقات . وإذا كان لم يفصل أشبه المغرب .
690 وعن ابن عمر أن رجلاً سأل النبي فقال : ( أفصل بين الواحدة والثنتين بالسلام ) رواه الدارقطني أيضاً ولو لم يفصل بين الثلاث بسلام جاز ، لأنه ورد أيضاً إلا أنه يسردها من غير تشهد لتخالف المغرب ، فإن جلس في الثانية ففي البطلان وجهان ، وله سرد الإِحدى عشرة أيضاً كالتسع ، حتى أن ابن عقيل حكى وجهاً أن ذلك هو الأفضل ، وليس بشيء .
ويقنت في آخر وتره ، على المذهب المشهور .
691 لما روى عن علي رضي الله عنه ، أن رسول الله كان يقول في آخر وتره : ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ) رواه الخمسة .
692 وعن ابنه الحسن [ رضي الله عنهما ] قال : علمني رسول الله كلمات أقولهن في قنوت الوتر ( اللهم اهدني فيمن هديت ، وعافني فيمن عافيت ، وتولني فيمن توليت ، وبارك لي فيما أعطيت ، وقني شر ما قضيت ، فإنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت [ ولا يعز من عاديت ] تباركت ربنا وتعاليت ) رواه الخمسة ، وقال الترمذي : لا نعرف عن النبي في القنوت شيئاً أحسن من هذا . وفي النسائي ( وصلى الله على النبي ) ( وعن أحمد ) يختص القنوت بالنصف الأخير من رمضان ، ومحل القنوت بعد الركوع ، ويجوز قبله وقد وردا ، والأشهر الأول ، ودعاؤه ما تقدم .
وتخصيصه القنوت بالوتر يدل على أنه لا يقنت في غيره من الصلوات ، وهو صحيح .
693 لما روى أبو مالك الأشجعي قال : قلت لأبي : قد صليت خلف رسول الله ، وخلف أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ههنا قريب خمس سنين ، أكانوا
____________________
(1/232)
يقنتون ؟ قال : أي بني محدث . رواه أحمد ، والترمذي وصححه . نعم يقنت في النوازل .
694 لما روى أنس رضي الله عنه ، أن رسول الله قنت شهراً ثم رتكه ، رواه أحمد ، وأبو داود .
695 وعنه : بعث النبي [ ] سبعين رجلًا لحاجة ، يقال لهم القراء ، فعرض لهم حيان من سليم ؛ رعل وذكوان فقتلوهم ، فدعا النبي عليهم شهراً في صلاة الغداة ، وذلك بدو القنوت ، رواه البخاري . ويختص القنوت بالإِمام الأعظم ، وبأمير الجيش ، لا بكل إمام وهل محل القنوت الفجر خاصة ، أو الفجر والمغرب ، أو جميع الصلوات ؟ ثلاث روايات ، .
قال : وقيام [ شهر ] رمضان عشرون ركعة [ والله أعلم ] .
ش : قيام رمضان والمراد هنا التراويح سنة .
696 لما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي قال : ( إن الله عز وجل فرض عليكم صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ، فمن صامه [ وقامه ] إيماناً ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) رواه أحمد والنسائي .
697 وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى في المسجد ، فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى الثانية فكثر الناي ، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم ، فلما أصبح قال : ( قد رأيت الذي صنعتم ، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ) وذلك في رمضان . وقدر ذلك عشرون ركعة .
698 لما روى يزيد بن رومان قال : كان الناس في زمن عمر بن الخطاب [ رضي الله عنه ] يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة . وهذا بحضرة الصحابة ولم ينقل إنكاره ، فكان ذلك إجماعاً ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
( باب الإِمامة )
قال : ويصلي بهم أقرؤهم ، فإن استووا فأفقههم ، فإن استووا فأسنهم [ فإن استووا فأشرفهم ، فإن استووا فأقدمهم هجرة ] .
ش : المعروف المشهور عندنا أن القاريء إذا عرف ما يعتبر للصلاة مقدم على الفقيه .
____________________
(1/233)
699 لما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ، ولا يؤمن [ الرجل ] الرجل في سلطانه ، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه ) .
700 وعن أبي الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدم ، وأحقهم بالإِمامة أقرؤهم ) رواهما مسلم وغيره .
701 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن رسول الله قال : ( ليؤذن لكم خياركم ، وليؤمكم أقرؤكم ) رواه أبو داود .
702 وعن عمرو بن سلمة ، عن أبيه ، عن النبي قال : ( إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكثركم قرآناً ) [ مختصر ] رواه البخاري [ وغيره ] وحكى ابن الزاغوني عن بعض الأصحاب أنه رأى تقديم الفقيه على القاريء . وعلى المذهب لو كان القاريء جاهلًا بما يحتاج إليه [ في الصلاة ] بأن لا يميز بين مفروضها ومسنونها ، ونحو ذلك ، ففيه وجهان ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام أحمد ، والخرقي ، والأكثرين يقدم على الفقيه [ أيضاً ] نظراً لظواهر النصوص ، ولأن القراءة ركن في الصلاة ، بخلاف الفقه فكان اعتبارها أولى . [ والثاني ] وهو اختيار ابن عقيل ، وبه قطع أبو البركات في محرره ، وحسنه في شرحه أن الفقيه إذا أقام الفاتحة والحال هذه مقدم لامتيازه بما لا يستغنى عنه في الصلاة إذ الجاهل قد يترك الفرض لظنه سنيته .
ثم لا نزاع أنه يقدم بعد الأقرأ الأفقه ، لحديث أبي مسعود [ رضي الله عنه ] واختلف فيمن يقدم بعد الفقيه ، فقال الخرقي ، وتبعه أبو الخطاب : يقدم بعده الأسم ، ثم الأشرف ثم الأقدم [ هجرة ] لأن الأسن مظنة الخشوع ، وهو مقصود في الصلاة قطعاً ، قال سبحانه : 19 ( { الذي هم في صلاتهم خاشعون } ) فقدم به على الشرف والهجرة ، إذ لا تعلق لهما بمعنى في الصلاة ، وقدم الشرف على الهجرة إلحاقاً للإِمامة الصغرى بالعظمى ، إذ للشرف تأثير في التقديم في العظمى بخلاف الهجرة ، وقال ابن حامد : يقدم الأشرف ، ثم الأقدم هجرة ، ثم الأسن ، لما تقدم من اعتبار الشرف في الإِمامة العظمى ، بخلاف الهجرة .
703 يعضده ما روى الشافعي رضي الله عنه في مسنده ، عن النبي قال : ( قدموا قريشاً ولا تقدموا عليها ) وقدم الأقدم هجرة على الأسن لحديث أبي مسعود
____________________
(1/234)
المتقدم ، وظاهر كلام أحمد في رواية ابنه عبد الله أنه يقدم الأقدم هجرة ، ثم الأسن ، ثم الأشرف ، وهو اختيار الشيخين ، لحديث أبي مسعود ، فإنه قدم فيه بعد القراءة والفقه الأقدم هجرة ، ثم الأسن ، فعلم تأخير الأشرف وغيره عنهما ، وقال أبو محمد في المقنع : يقدم الأسن ، ثم لأشرف ، ثم الأقدم هجرة ، وهو وجه حكاه في التلخيص ، ووجهه يعرف مما تقدم ، فإن استووا في جميع ما تقدم قدم أتقاهم وأورعهم .
704 لقول النبي : ( اجعلوا أئمتكم خياركم ، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم ) رواه الدارقطني ، ولأبي محمد احتمال بتقديم هذا على الأشرف ، لقوله سبحانه : 19 ( { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } ) فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد ، وما رضي به الجيران أو أكثرهم ، لأن رضاهم [ به ] مظنة امتيازه بمرجح ، فإن استووا فالقرعة كالأذان ، ولا يرجح بحسن الوجه ، ولا بنظامة الثوب .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) [ هذا ] التقديم تقديم أولوية لا إيجاب ، فلو تقدم الأفقه على الأقرأ جاز ، قاله أبو محمد ، وقال : لا أعلم فيه خلافاً ، إذ الأمر فيه أمر إرشاد . ( الثاني ) : الأقرأ الأكثر قرآناً ، كما في حديث عمرو بن سلمة ، أو الأجود ، وإن كان غير أحفظ منه ، قال الشيخان ، والأقدم هجرة أن يهاجر مسلمان من دار الحرب ويسبق أحدهما بالهجرة ، أو يكونا من أولاد المهاجرين ، فيقدم من سبق أبوه ، وفي معنى ذلك الأقدم إسلاماً ، لسبقه إلى الطاعة ، وفي حديث أبي مسعود في رواية لمسلم ( فأقدمهم سلماً ) يعني إسلاماً ، ومعنى الأشرف أن يكون قرشياً ، قاله أبو البركات ، وقال أبو محمد : أشرفهم أعلاهم نسباً ، وأفضلهم في نفسه ، وأعلاهم قدراً ( والتكرمة ) الفراش ، كذلك فسره بعض الرواة في رواية أبي داود ، والله أعلم .
قال : ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر أعاد .
ش : لا إشكال في فسق المعلن بالبدعة ومن يسكر وإذاً في صحة إمامتهما روايتان :
( إحداهما ) : تصح إمامته ، قال أحمد في رواية حرب : يصلي خلف كل بر وفاجر . وسئل : هل يصلي خلف من يغتاب الناس ؟ فقال : لو كان كل من عصى الله لا يصلي خلفه ، من يؤم الناس ؟
705 وذلك لقول النبي في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها ( صلوا الصلاة لوقتها ، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعاً ) .
706 وعن مكحول ، عن أبي هريرة ، عن النبي قال : ( الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم ، براً كان أو فاجراً ، وإن عمل الكبائر ) .
____________________
(1/235)
707 وعن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله يقول : ( من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم ، ومن انتقص من ذلك شيئاً فعليه ولا عليهم ) رواهما أبو داود .
708 وعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان وهو محصور ، فقال : إنك إمام العامة ، ونزل بك ما ترى ، ويصلي لنا إمام فتنة ، ونتحرج من الصلاة معه ، فقال : الصلاة أحسن ما يعمل لناس ، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم . رواه البخاري ولأن العدالة لو كانت شرطاً لاعتبر العلم بها كالإِمامة العظمى ، ولا يعتبر .
( والثانية ) وهي المشهورة ، واختيار ابن أبي موسى ، والقاضي ، والشيرازي ، وجماعة لا يصح .
709 لما روى جابر رضي الله عنه [ أن النبي ] قال : ( لا يؤمن فاجر مؤمناً ، إلا أن يقهره بسلطانه ، أو يخاف سوطه وسيفه ) رواه ابن ماجه .
710 وعن بن عباس رضي الله عنهما قال : 16 ( اجعلوا أئمتكم خياركم ، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل ) . رواه الدارقطني ، ولأنها إحدى الإِمامتين ، فنافاها الفسق كالكبرى ، ولأن الفاسق لا يؤمن أن يترك شرطاً أو ركناً ، وحديث الأمراء قال القاضي : تأوله أحمد على حضور الجمعة في رواية المروذي ، ومكحول لم يلق أبا هريرة ، فالحديث منقطع ، وقد سئل [ عنه ] أحمد في رواية يعقوب بن بختان ، فقال : ما سمعنا بهذا . ثم يحمل إن صح على الجمعة أو على غيرها عند البقية لحديث جابر ، جمعا بين الأدلة ، وعلى هذا لا تصح إمامته وإن لم يعلم بحاله ، نص عليه في رواية صالح والأثرم [ حتى ] إذا صلى خلف من لا يعرف ، ثم تبين أنه صاحب بدعة يعيد ، وقال ابن عقيل : لا يعيد من [ لم ] يعلم بحاله ، كما قلنا فيمن نسي فصلى بهم محدثاً ، وأومأ أحمد في مواضع أنه إن كان متظاهراً بالفسق والبدعة أعاد المقتدي به لتفريطه ، وإن كان جاهلًا مستوراً لا يعيد ، وهذا اختيار الشيخين .
وكلام الخرقي يشمل الفرض والنفل ، وكذا إطلاق جماعة من الأصحاب . وزعم أبو البركات في شرحه أن الخلاف إنما هو في الفرض ، [ فقال في حديث الأمراء : إنما يدل على إمامته في النفل ، ونحن نقول بذلك ، وإنما الروايتان في الفرض ] ( ويشمل ) أيضاً الجمعة وغيرهما ، وهو صحيح فتعاد على المذهب ظهراً ، إلا أنه لا تترك خلف الفاسق على الروايتين ، بخلاف غيرها ، لئلا يؤدي ذلك إلى فتنة .
____________________
(1/236)
711 وفي ابن ماجه [ عن جابر عن النبي ] ( إن الله افترض عليكم الجمعة ، فمن تركها في حياتي ، أو بعد موتي ، وله إمام عادل أو جائر ، فلا جمع الله شمله ، ولا بارك له في عمره ) نعم : لو أقيمت في موضعين ، والإِمام في أحدهما عدل ، وفي الآخر فاسق لزم فعلها وراء العدل . ( ويشمل ) أيضاً الفاسق إذا ائتم بفاسق أنه يعيد ، وهو ظاهر إطلاق غيره ، وقد أورد هذا على القاضي في التعليق ، فأجاب : لا نعرف الرواية فيه ، قال : ولا يمنع أن نقول لا يصح ، بخلاف الأمي ، لأن الأمي لا يمكنه رفع ما هو عليه من النقص ، بخلاف الفاسق ، لإِمكانه زوال فسقه بالتوبة .
وخرج من كلام الخرقي إذا كان المباشر [ له ] عدلًا ، والمولي له فاسقاً ، فإن صلاته تصح على [ الصحيح من ] الروايتين .
( تنبيه ) : الإِعلان الإِظهار ، ضد الإِسرار ، هذا تفسير أبي محمد ، [ فعلى ] هذا يختص البطلان على قول الخرقي بمن يظهر بدعته ويدعو إليها ، ويناظر عليها ، وقد نص أحمد في الرافضي الذي يتكلم ببدعته أن صلاة خلفه تعاد ، بخلاف من سكت ، وإذاً يكون قول الخرقي موافقاً لاختيار الشيخين في أن البطلان مختص بظاهر الفسق دون خفيه .
وعلى هذا قول الخرقي : أو يسكر . يجوز أن يكون بالباء الموحدة ، عطفاً على : ببدعة . ويجوز أن يكون بالياء المثناة ، ويكون من باب قولهم : الخطيب يشرب ويطرب . أي هذا دأبه وسجيته ، وظاهر كلام أبي محمد أنه بالمثناة ، وقال : إنما نص الخرقي عليه من بين لفساق لنص أحمد عليه . قلت : وقد نص أحمد على غيره من الفساق .
كما نص عليه ، ويحتمل أن الخرقي إنما قال ذلك ليخرج من شرب من النبيذ ما لا يسكره ، معتقداً لحله ، فإن الصلاة خلفه تصح . انتهى ، وقال القاضي : المعلن بالبدعة من يعتقدها بدليل ، وضده من يعتقدها تقليداً ، وقال : إن المقلد لا يكفر ولا يفسق ، وعلى هذا فالخرقي إنما خص المعلن بالبدعة ، لأنه الذي يفسق أو يكفر ، وإذاً يتعين قراءة : أو يسكر بالياء المثناة .
واعلم أن المظهر للبدعة ، المناظر عليها ، ( تارة ) تكفره ، كالقائل بخلق القرآن ، أو بأن علم الله مخلوق ، أو بأنه لا يرى في الآخرة ، أو بأن الإِيمان مجرد الإِعتقاد من غير قول ولا عمل ، أو يسب الصحابة تديناً ، ونحو ذلك ، نص أحمد على ذلك ، حتى لو وقف رجل إلى جنبه خلف الصف ، ولم يعلم حتى فرغ أعاد الصلاة ، وهل تفعل الجمعة خلف هؤلاء ؟ فيه روايتان ، ( وتارة ) تفسقه ، كمن يفضل علياً على غيره من الصحابة ، أو يقف عن تكفير من كفر ببدعة ونحو ذلك ، والمقلد لهذا القسم لا يفسق ، والأول فيه قولان ، واستقصاء ذلك موضعه الكتب الأصولية ، والله أعلم .
____________________
(1/237)
قال : وإمامة العبد والأعمى جائزة .
ش : لدخولهما في عموم ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) ونحو ذلك .
712 وفي البخاري أن عائشة رضي الله عنها كان يؤمها عبدها ذكوان من المصحف .
713 وعن أنس قال : استخلف رسول الله ابن أم مكتوم ، يؤم الناس وهو أعمى . رواه أحمد ، وأبو داود ، وكان ابن عباس يؤم وهو أعمى ، ( نعم ) الحر أولى من العبد ، لأنه أكمل منه ، والبصير أولى من الأعمى ، اختاره أبو الخطاب ، وأبو البركات ، لأنه أقرب لاجتناب النجاسة ، وإصابة القبلة ، وسوى القاضي بينهما ، لأنه يقابل ذلك أمنه من النظر إلى محرم ، وما يلهيه ، فيكون أتقى وأخشع ، والله أعلم .
قال : وإن أم أمي أمياً وقارئاً أعاد القاريء وحد .
ش : الأمي في عرف الفقهاء [ هو ] من لا يحسنس فرض الفاتحة إن قيل : بركنيتها ، وإن [ قيل ] : الفرض آية . فالأمي [ من ] لا يحسن آية ، والمعروف من مذهبنا أن إمامته تصح بمثله ، لأنه أهل لتحمل ما يلزم مأمومه لو انفرد ، فصار كالقاريء مع القاريء ، وعن بعض الأصحاب : لا تصح إمامته بمثله ، لعدم أهليته لتحمل القراءة ، ولا تصح بقارييء بلا نزاع ، لعموم ( ليؤمكم أقرؤكم ) رواه أبو داود .
714 وروى النجاد بإسناده عن الزهري قال : 16 ( مضت السنة أن لا يؤم الناس من ليس معه من القرآن شيء ) .
وقد دل كلام الخرقي من طريق الإِشارة على ما قلناه من أن الأمي يؤم بمثله ، ولا يؤم قارئاً ، ومن طريق الدلالة على أن الأمي إذا أم قارئاً وأمياً أن الفساد يختص القاريء ، وعند أبي حنيفة [ رحمه الله ] يعمهما ، وهذا الذي ألجأ الخرقي إلى ذكر هذه الصورة ، وبهذا يعرف أنه ليس مراده أن الأمي تصح صلاته مطلقاً ، إذ ذلك مشروط بأن يكون عن يمين الإِمام ، أو يكون معه أمي آخر ، أما لو كان هو والقاريء فقط خلف الإِمام فإن صلاتهما تفسد ، لأن الأمي وإن انعقد إحرامه فذا لكن فسدت صلاته بدوام فذوذيته ، وهل تبطل صلاة الإِمام والحال هذه ؟ فيه احتمالان ، أشهرهما البطلان ، وفي المذهب وجه آخر حكاه ابن الزاغوني أن الفاسد يختص بالقاريء ، ولا تبطل صلاة الأمي ، قال ابن الزاغوني : واختلف القائلون به في تعليله ، فقال بعضهم : إن القاريء تكون صلاته نافلة ، فما خرج من الصلاة فلم يصر الأمي بذلك فذا . وقال بعضهم : صلاة القاريء باطلة على الإِطلاق ، لكن اعتبار معرفة هذا على الناس أمر يشق ، ولا يمكن الوقوف عليه ، فعفي عنه للمشقة . اه ، ويحتمل أن الخرقي اختار هذا
____________________
(1/238)
الوجه ، فيكون كلامه على إطلاقه ، والله أعلم .
قال : وإن صلى خلف مشرك ، أو امرأة ، أو خنثى مشكل أعاد الصلاة .
ش : أما المشرك فلا يجوز أن يؤتم به ، ومن ائتم به أعاد الصلاة ، وإن لم يعلم حاله [ غالباً ] لأن صلاته لا تصح لنفسه ، فلا تصح لغيره ، ولعموم قوله : ( لا يؤمن فاجر مؤمناً ) والكفر لا يخفى غالباً ، فالجاهل به مفرط ، هذا هو المعروف في النقل ، وفي المذهب ، وحكى ابن الزاغوني [ رواية ] بصحة صلاته ، بناء على صحة إسلامه بها ، وبنى على صحة صلاته صحة إمامته ، على احتمال ، وهو بعيد . ( وأما المرأة ) فلا يجوز أن تؤم رجلًا ، ولا خنثى مشكلًا ، لما روى جابر عن النبي قال : ( لا تؤمن امرأة رجلًا ) رواه ابن ماجه والخنثى يحتمل أن يكون رجلًا ، ويصح أن يؤم المرأة ، كما نص عليه الخرقي بعد .
وكلامه يشمل الفرض والنفل ، ولا نزاع في الفرض ، أما في النفل فظاهر كلام الخرقي أيضاً المنع ، وهو رواية حكاها ابن أبي موسى [ وهو اختيار أبي الخطاب ] وأبي محمد ، عملا بإطلاق الحديث ، ومنصوص أحمد في رواية المروذي ، وهو اختيار عامة الأصحاب أنها يجوز أن تؤمهم في صلاة التراويح ، وتكون وراءهم .
715 لما روى أن أم ورقة سألت رسول الله فقالت : إني أصلي ويصلي بصلاتي أهل داري وموالي ، وفيهم رجال ونساء ، يصلون بقراءتي ، ليس معهم قرآن . فقال : ( قدمي الرجال أمامك وقومي مع النساء ، ويصلون بصلاتك ) رواه المروذي بإسناده ، ورواه أبو داود ، ولفظه : وكانت قرأت القرآن ، واستأذنت النبي أن تتخذ في دارها مؤذناً [ فأذن لها ] وأمرها أن تؤم أهل دارها . مختصر . ( وشرط هذه المسألة ) أن تكون قارئة وهم أميون ، أو يحسنون الفاتحة أو شيئاً يسيراً معها ، وقال القاضي في الخلاف : إنما تجوز إمامتها في القراءة خاصة ، دون بقية الصلاة . معتمداً على ما رواه أبو طالب عنه قال : تؤم المرأة الرجل ، والمرأة تقرأ ، فإذا قرأت ركع وركعت ، يكون هذا في التطوع ولا يكون في الفرض . قال القاضي : فقدم ركوعه على ركوعها ، فعلم أنه الإِمام فيه ، وذلك لأن هذا مقصود الرخصة [ انتهى ] . وهل حكمي غير التراويح من النفل حكمها ، قياساً عليها ، وهو ظاهر رواية أبي طالب ، أو يختص ذلك بالتراويح ، وهو ظاهر رواية المروذي ، واختيار القاضي في المجرد ، للحاجة إلى استماع القرآن في الصلاة ؟ فيه قولان .
وأما الخنثى المشكل فلا يصح أن يؤم رجلًا ، لاحتمال كونه امرأة ، ولا خنثى مشكلًا لاحتمال كون المؤتم رجلًا والخنثى امرأة ، والفرض لا يسقط بالشك ، وحكى ابن الزاغوني احتمالًا بصحة إمامته بمثله للتساوي . انتهى ، ويجوز أن يؤمهما فيما يجوز للمرأة أن تؤم فيه الرجل على ما تقدم ، ويجوز أن يؤم النساء ، لأن للرجل أن يؤمهن ، وكذلك للمرأة أن تؤمهن ، وهو لا يخلو من إحداهما ، ويقفن خلفه ، حذاراً من أن
____________________
(1/239)
يكون رجلاً واقفاً إلى جنب امرأة ، وقال القاضي : رأيت لأبي حفص البرمكي أن الخنثى لا تصح صلاته في جماعة ، لأنه إن قام مع الرجال احتمل أن يكون امرأة ، وإن قام مع النساء ، [ أو ] وحده ، أو ائتم بامرأة ، احتمل أن يكون رجلًا ، وإن أم الرجال احتمل أن يكون امرأة [ وإن أم النساء فقام وسطهن احتمل أنه رجل ، وإن قام بين أيديهن احتمل أن يكون امرأة ] قلت : وهذا ظاهر إطلاق الخرقي ، ولعله يبني على أن المرأة إذا خالفت موقفها فوقفت بين يدي النسوة أن صلاتها تبطل ، وهو احتمال ، أو وجه حكاه اين عبدوس فيما أظن ، والمشهور خلافه ، والله أعلم .
قال : وإن صلت امرأة بالنساء قامت معهن في الصف وسطاً .
716 ش : كذا فعلت أم سلمة ، وعائشة [ رضي الله عنهما ] .
717 وعن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله : يقول : ( ليس على النساء أذان ولا إقامة ، وتصلي معهن في الصف ، ولا تقدمهن ) رواه النجاد .
وقد دل كلام الشيخ [ رحمه الله ] على أن للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة ، ولا نزاع في ذلك لكن هل يستحب لهن ذلك ؟ فيه روايتان .
718 أشهرهما نعم ، لأن عائشة وأم سلمة فعلتا ذلك ، رواه الدارقطني ولما تقدم من حديث أم ورقة ولذلك حكاه إمامنا عن الثلاثة [ رضي الله عنهم ] ( والثانية ) لا .
719 لأن علياً رضي الله عنه قال : المرأة لا تؤم ، ولا تؤذن ، ولا تنكح ، ولا تشهد النكاح . رواه النجاد .
قال : وصاحب البيت أحق بالإِمامة ، إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان .
ش : صاحب البيت أحق بالإِمامة من غيره ، وإن فضله الغير بقراءة أو فقه أو غير ذلك ، بشرط أو تصح إمامته بهم .
720 لقول النبي : ( لا يؤمن الرجل في بيته ، ولا [ في ] سلطانه ] رواه أحمد ومسلم .
721 وعن مالك بن الحويرث ( من زار قوماً فلا يؤمهم ، وليؤمهم رجل منهم ) رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، فإن كان الغير ذا سلطان فإنه يقدم على صاحب البيت ، في اختيار الخرقي ، وأبي محمد ، لعموم ( ولا يؤمن الرجل في سلطانه ) واختار ابن حامد أن صاحب البيت يقدم عليه ، لعموم ( من زار قوماً فلا يؤمهم ) ويقدم صاحب البيت تارة بملك العين ، وتارة بملك المنفعة ، فإن اجتمع المؤجر والمستأجر والمستعير فالمعير أولى ، [ قلت ] : ويتخرج العكس إن قلنا : العارية هبة منفعة .
____________________
(1/240)
( تنبيه ) : وحكم إمام المسجد حكم إمام البيت فيما تقدم ، [ والله أعلم ] .
قال : ويأتم بالإِمام من في أعلى المسجد وغير المسجد إذا اتصلت الصفوف .
ش : يجوز أن يأتم بالإِمام من [ في ] أعلى المسجد ، كمن على سطحه ونحو ذلك ، من غير كراهة .
722 لأن أبا هريرة [ رضي الله عنه ] كان يصلي في ظهر المسجد بصلاة الإِمام . حكاه أحمد وابن المنذر . وعن أنس نحوه ، رواه سعيد .
723 ويروى أيضاً عن ابن عباس [ وابن عمر ] رضي الله عنهما ، ولأن المتابعة حاصلة ، أشبهت العلو اليسير ( وعن أحمد ) اختصاص الجواز بالضرورة ، قال في رواية صالح في الرجل صلى فوق البيت بصلاة الإِمام إن كان في موضع ضيق يوم الجمعة كما فعل أنس ، والأول المذهب .
ويجوز أن يأتم بالإِمام من في غير المسجد ، بشرط أن تتصل الصفوف ، على ظاهر كلام الخرقي ، وتبعه أبو محمد .
724 لظاهر أمر النبي بالدنو من الإِمام . خولف ذلك فيما إذا كانا في المسجد ، أو اتصلت الصفوف للإِجماع ، فيبقى فيما سواهما على العموم ، وظاهر [ كلام ] غير الخرقي من الأصحاب أنه لا يشترط اتصال الصفوف إلا أن يكون بينهما طريق ، لأن المتابعة حاصلة ، أشبه ما لو كانا في المسجد ، أما إن كان بينهما طريق فيشترط لصحة الإِقتداء اتصال الصفوف على المذهب .
725 لما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال : من صلى وبينه وبين الإِمام نهر ، أو جدار ، أو طريق فلا يصلي مع الإِمام .
726 وعن علي رضي الله عنه أنه رأى قوماً في الرحبة فقال : من هؤلاء ؟ فقالوا : ضعفة الناس . فقال : لا صلاة إلا في المسجد .
727 أنه كان يصلي في غرفة له يوم الجمعة ، بصلاة الإِمام ، فحمله أحمد في رواية أبي طالب على أن الصفوف اتصلت .
وعن أحمد : يصح الإِقتداء وإن [ كان ] ثم طريق لم تتصل فيه الصفوف ، محتجاً بأن أنساً فعل ذلك ، وهو اختيار أبي محمد ، لإِمكان المتابعة ، ( وعنه ) : يصح مع الضرورة ،
____________________
(1/241)
محتجاً أيضاً بفعل أنس ، وهو اختيار أبي حفص ، ( وعنه ) : يصح في النفل تسهيلًا فيه ، دون الفرض .
ومعنى اتصال الصفوف تقاربها المسنون ، أو ما زاد عليه يسيراً ، فإن فحش ، بأن [ كان ] بينهما ما يصلي فيه صف آخر فلا اتصال ، كذا قال أبو البركات ، وقيده صاحب التلخيص بثلاثة أذرع [ ونحوها ] . انتهى ، وهذا فيما إذا تواصلت الصفوف للحاجة ، لأن البلوى تعم بذلك في الجمع والأعياد ونحوهما ، أما لغير حاجة بأن وقف قوم في طريق وراء المسجد ، وبين أيديهم من المسجد أو غيره ما يمكنهم فيه الإِقتداء فإن صلاتهم لا تصح ، على المشهور [ في الصلاة ] في قارعة الطريق ، وحكم من وراءهم حكم من اقتدى بالإِمام وبينهما طريق خال ، وإن قلنا بالصحة ثم ، صحت صلاتهم هنا ، إن امتلأ بهم الطريق ، أو وقفوا فيما قرب منهم إلى المسجد ، أما إن تركوا منه بينهم وبين المسجد ما يسع صفا فأكثر ، فهم كمن صل وبينه وبين الإِمام طريق ، وكل موضع حكم فيه بصحة الصلاة في الطريق ، وملأته الصفوف ، فإن صلاة من وراءهم تصح ، وإن بعدوا عنهم على المذهب ، إن وجدت المشاهدة المعتبرة ، وعلى قول الخرقي لا تصح إلا باتصالهم به الاتصال المعتاد ، ولو وقف في بيت عن يمين الإِمام ، فاتصال الصفوف بتواصل المناكب ، ولوكان في علو والإِمام في سفل ، فالاتصال موازاة رأس أحدهما [ ركبة ] الآخر ، قال ذلك صاحب التلخيص . وحكم النهر الذي تجري فيه السفن حكم الطريق فيما تقدم ، إن اقترنت سفينة الإِمام والمأموم صح الاقتداء ، وإلا فلا يصح ، لأن الماء طريق ، وكذلك حكم ما يمنع الاستطراق من نار ، أو سبع ، قاله الشيرازي ، وقال صاحب التلخيص : لا يمنع الشباك على الأظهر .
( تنبيهات ) ( أحدها ) قد علم مما شرحناه أن قول الخرقي : إذا اتصلت الصفوف . إنما يرجع لما إذا كان المقتدي في غير المسجد على ما فيه ، أما إن كان المؤتم في المسجد والإِمام فيه ، فإنه لا يشترط اتصال الصفوف ، بلا خلاف في المذهب ، قاله الآمدي ، وحكاه أبو البركات إجماعاً ، لأنه في حكم البقعة الواحدة . ( الثاني ) : إطلاق الخرقي بصحة الاقتداء في المسجد و [ في ] غير المسجد بشرطه ظاهره : ولو وجد ما يمنع مشاهدة من وراء الإِمام ، وهو إحدى الروايات عن أحمد ، لأن الاقتداء حاصل ، أشبه ما لو شاهده ، وعلى هذه الرواية لا بد من سماع التكبير لتحصل المتابعة بلا نزاع [ واختارها القاضي ] ( والثانية ) لا يصح مطلقاً .
730 لما روي عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت لنساء كن يصلين في حجرتها : 16 ( لا تصلين بصلاة الإِمام ، فإنكن دونه في الحجاب ) . رواه ابن حامد فعللت منع الاقتداء بالحجاب ، ( والرواية الثالثة ) [ اختارها القاضي ] تصح في المسجد ، لأنه في حكم البقعة الواحدة ، لأنه مبني كله للجماعة ، ولا تصح في غيره ، لما تقدم ، ( والرواية الرابعة ) يصح ذلك في التطوع ، دون الفريضة ، حكاها ابن حامد .
731 وقال علي بن سعيد : سألت أحمد عن حديث عائشة : أن النبي كان
____________________
(1/242)
يصلي في الحجرة ، والناس يأتمون به من وراء الحجرة . قال : كأنه على صلاة الليل أو تطوع ، وهذا الحديث رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : صلى رسول الله في حجرته ، والناس يأتمون به من وراء الحجرة ، ورواه البخاري ، مطولًا ذكر ذلك في صلاة الليل ، وبه استدل أيضاً للرواية الأولى ، إذ الأصل مساواة الفرض والنفل . وقد نص أحمد على أن المنبر إذا قطع الصف يوم الجمعة لا يضر ، فمن الأصحاب من قال : هذا على رواية عدم اعتبار المشاهدة ، ومنهم من خص الجمعة ونحوها ، فقال : يجوز [ فيها ] ذلك على الروايتين ، نظراً للحاجة ، ومنهم من ألحق بذلك كل بناء لمصلحة المسجد ، والمشاهدة المعتبرة أن يشاهد الإِمام أو من وراءه ، فإن حصلت المشاهدة في بعض أحوال الصلاة فقال أبو محمد : الظاهر الصحة .
( الثالث ) : الطريق ما العادة استطراقه ، فلو كان الإِمام والمأموم في صحراء ، ليس فيها قارعة [ طريق ] ، وبعدوا عنه ، أو تباعدت صفوفهم جاز ذلك مع سماع التكبير ، ووجود المشاهدة إن اعتبرت . [ والله أعلم ] .
732 ش : لما روى الدارقطني عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : نهى النبي أن يقوم الإِمام فوق شيء ، والناس خلفه . يعني أسفل منه .
733 وروى أن عمار بن ياسر رضي الله عنه أم الناس بالمدائن وهو على دكان ، والناس أسفل منه ، فتقدم حذيفة إليه فأخذه بيده ، فاتبعه عمار ، حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله يقول : ( إذا أم الرجل القوم فلا يقوم في مكان أرفع من مقامهم ) أو نحو ذلك ؟ قال عمار : لذلك اتبعتك ين أخذت على يدي .
733 وعن حذيفة رضي الله عنه أنه أم الناس بالمدائن [ على دكان ] ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك ؟ قال : بلى ، قد ذكرت حين مددتني . رواهما أبو داود .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يكون أعلى وإن أراد تعليمهم ، وصرح به أبو الخطاب والشيخان وقال ابن الزاغوني : إن أراد تعليمهم لم يكره .
735 لما روى سهل بن سعد الساعدي ، أن النبي جلس على المنبر في أول يوم وضع ، فكبر وهو عليه [ ثم ركع ] ثم نزل القهقري فسجد ، وسجد الناس معه ، ثم عاد حتى فرغ ، فلما انصرف قال : ( يا أيها الناس إنما فعلت هذا لتأتموا بي ،
____________________
(1/243)
ولتعلموا صلاتي ) متفق عليه ، وحكى أبو محمد عن أحمد رواية بعدم الكراهة مطلقاً ، أخذا لها من قول علي بن المديني : سألني أحمد عن حديث سهل بن سعد ، وقال : إنما أردت أن النبي كان أعلى من الناس ، فلا بأس أن يكون الإِمام أعلى من الناس بهذا الحديث . انتهى . وأجاب الأولون عن حديث سهل بأن الظاهر أنه كان في الدرجة السفلى ، لئلا يكثر عمله في صعوده ونزوله ، وذلك علو يسير ، يعفى عنه وعما يكون نحوه بلا نزاع .
وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، وهو ظاهر النهي ، ومقتضى قول ابن حامد ، وابن أبي موسى فإنهما أبطلا الصلاة بذلك ، وصرح أبو الخطاب وغيره بالكراهة ، وهو مقتضى قول شيخه ، فإنه قال بعدم البطلان ، وصححه أبو البركات ، مستمسكاً بأن عمارا صلى وأقره على ذلك حذيفة ، وكذلك حذيفة وأقره أبو مسعود ، وبأن النهي عن ذلك لإِفضائه إلى رفع البصر ، بدليل عدم كراهة اليسير ، ورفع البصر لا يبطل فما كره لأجله أولى .
( تنبيه ) : يشترك الإِمام والمأموم في النهي إن انفرد الإِمام بالعلو ، فإن كان معه أحد صحت صلاته وصلاة من معه ، واختص من أسفل منه بالنهي ، على ما جزم به أبو البركات ، وحكى أبو محمد احتمالًا بأن النهي يتناول الإِمام أيضاً ، فتبطل صلاة الجميع إن قيل بالبطلان ، والله أعلم .
قال : ومن صلى خلف الصف وحده ، أو قام بجنب الإِمام عن يساره أعاد الصلاة .
ش : أما من صلى خلف الإِمام وحده يعيد الصلاة .
736 فلما روى وابصة بن معبد ، أن رجلًا صلى خلف الصف وحده ، فأمره رسول الله أن يعيد الصلاة ، رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والترمذي . وقال ابن المنذر : ثبت أحمد وإسحاق هذا الحديث .
737 وعن علي بن شيبان ، أن النبي رأى رجلًا يصلي خلف الصف [ وحده ] فوقف حيث انصرف الرجل ، فقال له : ( استقبل صلاتك ، فلا صلاة لفذ خلف الصف ) رواه ابن ماجه ، وأحمد وقال : هذا حديث حسن . ( ولا فرق ) بين الفرض والنفل على ظاهر كلام الخرقي ، وهو المشهور ، لعموم النص ، وقال القاضي في تعليقه : يحتمل أن تصح صلاة الفذ في النفل ، لأن أحمد نص [ على ] أنه يجوز أن يقف مع الصبي في النفل دون الفرض ، وليس من أهل الموقف ، ورد بأن إمامته لما صحت
____________________
(1/244)
في النفل فكذلك موقفه ( ولا فرق ) أيضاً بين صلاة الجنازة وغيرها ، واستثنى ابن عقيل صلاة الجنازة إذا كانوا خمسة ، نظراً لتحصيل ثلاثة صفوف ، ومراد الخرقي بهذه المسألة إذا صلى جميع الصلاة خلف الصف [ أما لو أحرم خلف الصف ] ثم دخل في الصف ، فتأتي المسألة إن شاء الله تعالى .
وأما كون من صلى بجنب الإِمام عن يساره يعيد الصلاة .
738 فلما روى جابر بن عبد الله قال : قام النبي يصلي المغرب ، فجئت فقمت عن يساره ، فنهاني فجعلني عن يمينه ، ثم جاء صاحب لي فصففنا خلفه . رواه أحمد وغيره ، والنهي دليل الفساد .
739 وثبت أن ابن عباس رضي الله عنهما لما قام عن يسار النبي [ يصلي ] أخذ برأسه فجعله عن يمينه . وهو بيان لمجمل { أقيموا الصلاة } ونحوه فيحمل على الوجوب ، لا سيما وقد لزم منه مشياً وعملًا لغيره حاجة ، ومثل هذا [ لا ] يرتكب لمخالفة فضيلة . ( وعن بعض ) الأصحاب صحة الصلاة ، استدلالًا بقصة ابن عباس ، فإن النبي لم يبطل تحريمته ، وأجيب بأنه لم يكن ركع ، ومثل ذلك يعفى عنه ، كما في إحرام الفذ ، ولأبي محمد احتمال بأنه تجوز الصلاة عن يساره إذا كان وراءه صف ، اعتماداً على [ أن ] النبي وقف في مرضه عن يسار أبي بكر ، وكان أبو بكر [ وهو ] الإِمام وأجيب بالمنع ، بل كان رسول الله هو الإِمام .
ومراد الخرقي إذا لم يكن عن يمين الإِمام أحد ، أما إن كان عن يمينه أحد فتصح الصلاة على يساره بلا نزاع .
740 لما روى عن علقمة والأسود أنهما استأذنا على ابن مسعود قال الأسود : 16 ( وقد كنا أطلنا القعود على بابه ، فخرجت الجارية فاستأذنت لهما ، ثم قام فصلى بيني وبينه ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله : فعل ) . رواه أبو داود وغيره والله أعلم .
قال : وإذا صلى إمام الحي جالساً صلى من وراءه جلوساً ، فإن ابتدأ بهم الصلاة قائماً ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً .
ش : أما إذا ابتدأ إمام الحي [ الصلاة ] جالساً يعني لمرض به فإن من وراءه يصلون جلوساً .
741 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : صلى رسول الله في بيته وهو شاك ، فصلى جالساً ، وصلى وراءه قوم قياماً ، فأشار إليهم أن اجلسوا ، فلما انصرف قال : ( إنما جعل الإِمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا
____________________
(1/245)
صلى جالساً فصلوا جلوساً ) متفق عليه .
742 وروى نحو ذلك جابر ، وأنس ، وأبو هريرة رضي الله عنهم ، وأحاديثهم في الصحيح . وصورة المسألة أن يكون الإِمام إمام الحي كما ذكر الخرقي ، وأن يكون المرض مرجو الزوال ، لأن النبي كان [ هو ] إمام الحي ، وكان مرضه مرجو الزوال ، أما لو لم يكن كذلك فإنه لا تصح إمامته عندنا بالقادر على القيام على المذهب ، كما لو كان [ عاجزاً ] عن الركوع والسجود فإنه لا تصح إمامته بقادر عليه ( وعن أحمد ) أن إمامته تصح وإن لم يكن إمام حي ، أو كان آيساً من زوال مرضه ، لكن والحال هذه يصلون وراءه قياماً .
وظاهر كلام الخرقي أن جلوس المأمومين والحال ما تقدم على سبيل الوجوب ، فلو صلوا قياماً لم تصح صلاتهم ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، قال ابن الزاغوني : واختارها أكثر المشايخ ، لأمر النبي بالجلوس ، فإذا قام فقد خالف الأمر ، بل وارتكب النهي .
743 فإن في مسلم وغيره [ عن جابر رضي الله عنه ] قال : اشتكى رسول الله ، فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياماً ، فأشار إلينا فقعدنا ، فصلينا بصلاته قعوداً ، فلما سلم قال : ( إن كدتم آنفاً تفعلون فعل فارس والروم ، يقومون على ملوكهم وهو قعود ، فلا تفعلوا ، ائتموا بأئمتكم ، إن صلى قائماً فصلوا قياماً ، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً ) .
( والرواية الثانية ) : أن الجلوس على سبيل الرخصة ، فلو أتوا بالعزيمة ، وصلوا قياماً صحت صلاتهم ، اختارها عمر بن بدر المغازلي ، وهو الذي أورده أبو الخطاب مذهباً ، وصححه أبو البركات ، وجزم به القاضي في التعليق فيما أظن ، لأن النبي [ ] لم يأمر من صلى خلفه وهو قائم بالاستئناف .
744 ففي البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي صرع من فرسه ، فجحش شقه أو كتفه ، فأتاه أصحابه يعودونه ، فصلى بهم جالساً وهم قيام ، فلما سلم قال : ( إنما جعل الإِمام ليؤتم به ، فإن صلى قائماً فصلوا قياماً ، وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً ) ولأن سقوط القيام عن إمامهم رخصة [ له ] فليكن عنهم مثله ، وحكى أبو محمد احتمالًا بالصحة مع الجهل [ دون العلم ] .
وأما إذا ابتدأ [ بهم ] الصلاة قائماً ثم اعتل فإنهم يصلون وراءه قياماً .
745 لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما ثقل رسول
____________________
(1/246)
الله ، قال : ( مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ) فلما دخل في الصلاة وجد النبي في نفسه خفة ، فقام يهادى بين رجلين ، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر ، فأومأ إليه ، فجاء فجلس عن يسار أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي قائماً ، ورسول الله [ ] يصلي جالساً ، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله [ ] ، والناس بصلاة أبي بكر . فلما ابتدؤا الصلاة قياماً وراء إمام قائم أتموا قياماً ، بخلاف ما تقدم ، فإن النبي ابتدأ بهم الصلاة جالساً ، فلذلك أمرهم بالجلوس ، فالنصان وردا على حالين مختلفين ، فيستعملان على ما وردا عليه .
ونظير ذلك لو افتتح مسافر الصلاة خلف مسافر ، فإنه يقصر ، ولو افتتحها خلف مقيم ثم استخلف المقيم مسافراً لم يدخل معه ، فدخل في الصلاة بنية القصر ، فإنه لا يجوز للمأموم القصر وإن جاز لإِمامه ، حيث افتتحها خلف مقيم ، وهذا أولى من دعوى النسخ ، لأنه خلاف الأصل ، ويعضد ذلك ويعينه أن الصحابة فعلت ما قلناه من صلاتهم جلوساً خلف إمام جالس حيث ابتدأ بهم [ الصلاة ] كذلك .
746 قال أحمد و إسحاق : فعل ذلك أربعة من الصحابة . والأربعة أبو هريرة ، وجابر ، وأسيد بن حضير ، وقيس بن فهد ، وفعلهم ذلك يدل على ثبوت الحكم ، لا سيما وفيهم [ اثنان ] من رواة الحديث .
( فائدة ) قال أبو البركات : لا تختلف الرواية عن أحمد أن النبي لما خرج من مرض موته بعد دخول أبي بكر في الصلاة أنه صار إماماً لأبي بكر ، وأبو بكر بقي على إمامته لجماعة المسلمين [ والله أعلم ] .
قال : ومن أدرك الإِمام راكعاً فركع دون الصف ، ثم مشى حتى دخل في الصف ، وهو لا يعلم بقول النبي لأبي بكرة ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) قيل له : لا تعد . وقد أجزأته صلاته [ فإن عاد بعد النهي لم تجزئه صلاته ] .
ش : إذا أدرك الإِمام راكعاً ، فخشي إن دخل مع الإِمام في الصف أن تفوته الركعة ، فركع دونه ، أو لم يجد فرجة في الصف فأحرم دونه ونحو ذلك ، ثم دخل في الصف قبل رفع الإِمام من الركوع ، أو وقف معه آخر ، فإن صلاته تصح على المنصوص المشهور ، المجزوم به .
747 لما يروى عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال : أتيت رسول الله من آخر الليل فصليت خلفه ، فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه . رواه أحمد . ولحديث أبي بكرة فإنه أحرم خلف رسول الله فذاد ، ولم يأمره بالإِعادة .
748 [ وكان ابن مسعود إذا أعجل ] يدب إلى الصف راكعاً ، وزيد ابن ثابت مثله ، أخرجه مالك في الموطأ ، وعن ابن الزبير أنه قال : ذلك من السنة . ولإِدراكه في الصف
____________________
(1/247)
ما تدرك به الركعة ، وحصوله فذا في القيام لا أثر له ، بدليل إحرام الإِمام وحده ، أو المأموم الواحد خلفه ، ومن عادة الجماعة التلاحق .
وظاهر كلام الخرقي أنه متى أخذ في الركوع فذا وهو عالم بالنهي أن صلاته لا تصح ، لظاهر حديث أبي بكرة الآتي إن شاء الله تعالى ، وحكى ذلك أبو البركات في محرره رواية ، وهو ظاهر نقل أبي حفص ولم يذكر أبو البركات في شرحه بذلك نصاً ، وإنما حكى الظاهر من كلام الخرقي ، وأما أبو محمد فصرف كلام الخرقي عن ظاهره ، وحمله على ما بعد الركوع ، ليوافق المنصوص ، وجمهور الأصحاب .
وإن لم يدخل مع الإِمام في الصف حتى رفع من الركوع ففيه ثلاث روايات ( إحداها ) يصح مطلقاً ، لأنه [ زمن ] يسير ، فعفي عن الفذوذية فيه [ كما قبل الركوع ] .
749 وروى سعيد في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يركع قبل أن يدخل في الصف [ ثم ] يمشي راكعاً ويعتد بها ، وصل إلى الصف أو لم يصل . ( والثانية ) : إن علم بالنهي عن ذلك لم يصح .
750 لما روى أبو بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله راكع ، قال : فركعت دون الصف ومشيت إلى الصف ، فلما قضى رسول الله قال : ( أيكم الذي ركع دون الصف ، ثم مشى إلى الصف ؟ ) قلت : أنا . قال : ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) رواه أحمد والبخاري والنسائي ، وأبو داود وهذا لفظه وهذا نهي فيقتضي الفساد ، لكن ترك في الجهل لمكان العذر ، ولذلك لم يأمره النبي بالإِعادة . ( والرواية الثالثة ) لا يصح مطلقاً ، نص عليه أحمد ، مفرقاً بينه وبين ما إذا أدرك الركوع في الصف ، واختارها أبو البركات ، لأنه [ لم يدرك ] في [ الصف ] ما يدرك به الركعة ، أشبه ما لو أدركه في السجود ، وحديث أبي بكرة واقعة عين ، والظاهر منها أنه أدرك الركوع مع النبي في الصف ، وقوله : [ له ] ( لا تعد ] نهى تنزيه عن العجلة ، كذا حمله أبو حفص ، وأبو البركات .
751 ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود وزيد من فعل ذلك ، وقول ابن الزبير : إنه من السنة .
752 وروى البخاري في كتاب القراءة خلف الإِمام عن أبي بكرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى صلاة الصبح فسمع نفساً شديداً من خلفه أو بهراً . فلما قضى الصلاة قال لأبي بكرة : ( أنت صاحب النفس ؟ ) قال : نعم ، خشيت أن تفوتني ركعة معك ، فأسرعت المشي . فقال [ له ] : ( زادك الله حرصاً ولا تعد ، صل ما أدركت ، واقض ما سبقت ) قلت : وعلى هذا فالرواية ( ولا تعد ) بسكون العين ، وضم الدال ، من العدو ، وعلى الأولى الرواية ( ولا تعد ) بضم العين وسكون الدال ، من العدو ، ورأيت
____________________
(1/248)
في بعض كتب الحنفية أظنه النسفي أن فيه رواية ثالثة ( ولا تعد ) بضم التاء وكسر العين وسكون الدال ، من الإِعادة ، أي لا تعد الصلاة انتهى .
وإن لم يدخل مع الإِمام في الصف حتى سجد لم تصح تلك الركعة بلا نزاع ، لكن [ هل ] يختص البطلان بها حتى أنه لو دخل في الصف بعد الركوع أو انضاف إليه آخر فإنه يصح له ما بلقي من صلاته ، ويقضي [ تلك ] الركعة ، أو لا تصح الصلاة رأساً ؟ فيه روايتان منصوصتان ، حكاهما أبو حقص ، واختار هو أنه يعيد ما صلى خلف الصف فقط ، لأنه صلى [ بعض ] الصلاة منفرداً فلم تبطل جميعها ، كالتكبيرة ، والركوع من غير سجود ، والمشهور بطلان جميع الصلاة ، لأن القياس البطلان مطلقاً ، كالمتقدم في الصف وإنما عفي عن التحريمة ونحوها لقصة أبي بكرة .
وقد تبين لك بهذا أن صور المسألة أربع ( إحداها ) إذا أحرم فذا ثم زالت فذوذيته قبل الركوع ، فإن الصلاة تصح بلا نزاع . ( الثانية ) : زالت بعد الركوع ، فكذلك على المعروف ، خلافاً لظاهر قول الخرقي . ( والثالثة ) : زالت بعد الرفع ، ففيها الخلاف المشهور . ( والرابعة ) : زالت بعد السجود ، لم تصح تلك الركعة ، وفي البقية الخلاف السابق .
هذا كله إذا [ كان ] قد فعل ذلك لغرض كما تقدم ، أما إن فعله لغير غرض ، كما إذا أدرك الإِمام في أول الصلاة ، ووجد فرجة ونحو ذلك ، وركع فذا ، فإن تحريمته لا تنعقد على المختار من الوجهين لأبي الخطاب والشيخين ، لأنه بمثابة من أحرم قدام الإِمام [ ثم صافه ] ، وإنما ترك هذا حال الفرض نظراً للنص . ( والثاني ) : تنعقد ، لأنه حصل فذا في زمن يسير ، فأشبه ما لو فعله لغرض ، وقيل : تنعقد صلاته وتصح إن زالت فذوذيته قبل الركوع [ وإلا فلا ] .
753 لما يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي : ( إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف ) ذكره الطحاوي ، وابن عبد البر ، وذكره إمامنا عن أبي هريرة موقوفاً ، والله أعلم .
قال : وسترة الإِمام سترة لمن خلفه .
ش : قال الترمذي : قال العلماء : سترة الإِمام سترة لمن خلفه ، ومعنى ذلك أن المأمومين لا يستحب لهم اتخاذ سترة مع سترة الإِمام ، ومتى مر بينهم وبين الإِمام ما يقطع الصلاة لم تبطل صلاتهم ، ولو مر بين يدي الإمام بطلت صلاة الكل .
754 وذلك لأنه : [ كان ] يصلي إلى العنزة ، والبعير وغيرهما مما جاء في الأخبار ، ولم يأمر من يصلي خلفه باتخاذ سترة ، ولما أرادت البهمة أن تمر بين يديه دارأها حتى مرت من خلفه ، أمام أصحابه
755 وكذلك [ مر ] 16 ( ابن عباس رضي الله عنه بين يدي بعض الصف بالأتان ، فل
____________________
(1/249)
يعب عليه ) . وفي كلام الخرقي [ رحمه الله ] إشارة إلى مطلوبية السترة ، ولا إشكال في ذلك .
756 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا صلى أحدكم ، فليجعل تلقاء وجهه شيئاً ، فإن لم يجد فلينصب عصا ، فإن لم يجد فليخط خطا ، ثم لا يضره ما مر أمامه ) رواه أبو داود ، وأحمد وصححه هو وابن المديني .
757 وعن سبرة الجهني قال : قال رسول الله : ( إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم ) رواه أحمد .
758 وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله كان يعرض راحلته ، ويصلي إليها . وقدر السترة مثل مؤخرة الرحل .
759 قالت عائشة رضي الله عنها : إن النبي سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي ، فقال : ( كمؤخرة الرحل ) رواه مسلم . فإن لم يجد فعصا أو خطا كما في الحديث ، وصفة الخط مثل الهلال نص عليه ، والعصا ينصبها ، فإن لم يمكنه ألقاها عرضاً لا طولا ، نص عليه ، والله أعلم .
قال : ومن مر بين يدي المصلي فليردده .
760 ش : لما روى ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه ، [ فإن أبى فليقاتله ، فإن معه القرين ) رواه أحمد ومسلم .
761 ولمسلم أيضاً وغيره عن أبي سعيد ، أن رسول الله قال : ( إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحداً يمر بين يديه ] ، وليدرأه ما استطاع ، فإن أبى فليقاتله ، فإنما هو شيطان ) ويرد المار وإن لم يكن آدمياً ، و ( من ) يتناول ما لا يعقل بالتغليب .
762 وذلك لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، أن النبي صلى إلى جدار ، فجاءت بهيمة تمر بين يديه ، فما زال يداريها حتى ألصق بطنه بالجدار ، ومرت من ورائه ، أو كما قال مسدد ؛ [ مختصر ] رواه أبو داود .
وظاهر كلام الخرقي أنه يرد من مر بين يديه وإن لم يكن سترة ، وهو كذلك ، لما تقدم من حديث ابن عمر ، وأبي سعيد ، وقوله : ( إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يمر من بين يديه فليدفعه ) بعض أفراد ما تقم فلا يقتضي التخصيص .
____________________
(1/250)
وقد أشعر كلام الخرقي بأنه ليس لأحد أن يمر بين يدي المصلي ، ولا إشكال في ذلك مع نصب سترة ، فليس لأحد أن يمر دونها ، ويعضي بذلك .
763 لما روى أبو جهيم قال : قال رسول الله : ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه ، لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه ) سقال أبو النضر : لا أدري قال : أربعين يوماً ، أو شهراً ، أو سنة . وفي مسند البزار ( أربعين خريفاً ) .
764 [ قال الترمذي ] : وقد روي عن النبي ( لأن يقف أحدكم مائة عام خير له [ من ] من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي ) وهذا اللفظ لأحمد ، وابن ماجه من حديث أبي هريرة [ والذي قاله أبو البركات أنه يعصي إدا مر دون السترة وجه ] [ ومع عدم السترة ] هو أهو ، فيكره ، كذا قال أبو البركات ولا يختص ذلك بمحل السجود ، بل وبما قرب منه ، وفي قدر القريب وجهان ( أحدهما ) تحديده بما لو مشى إليه لدفع مار ، أو فتح باب ، ونحو ذلك لم تبطل صلاته ، لأن النبي أمر بدفع المار مطلقاً ، خرج منه بالإِجماع بعيد ، تبطل الصلاة بالمشي إليه ، فيبقى ما عداه على الظاهر ، وهو اختيار أبي محمد . ( والثاني ) : أنه محدود بثلاثة أذرع ، وهو الأقوى عند أبي البركات ، نظراً إلى أن ذلك منتهى المسنون في وضع السترة والله أعلم .
قال : ولا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم [ والله أعلم ] .
ش : سهذا [ إحدى ] الروايتين عن أحمد ، وأشهرها على ما قال أبو محمد .
765 لما روى عبد الله بن الصامت قال : سمعت أبا ذر رضي الله عنه يقول : [ سمعت ] رسول الله يقول : ( إذا صلى الرجل وليس بين يديه كآخرة الرحل ، قطع صلاته الكلب الأسود ، والحمار ، والمرأة ) فقلت لأبي ذر : ما بال الكلب الأسود ، من الأحمر ، من الأبيض ، فقال : يابن أخي سألتني عما سألت عنه رسول الله فقال : ( الكلب الأسود شيطان ) رواه الجماعة إلا البخاري .
766 وعن أبي هريرة أن النبي : ( يقطع الصلاة المرأة ، والكلب ، والحمار ، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل ) رواه مسلم .
767 وعن عبد الله بن مغفل مثله ، رواه أحمد ، وابن ماجه ، وهذا نص في القطع بالثلاث ترك [ العمل به ] في المرأة والحمار .
768 لأن عائشة رضي الله عنها لما قيل لها ذلك قالت : 16 ( بئس ما عدلتمونا بالكلاب والحمر ، ولقد رأيتني معه مضطجعة على سرير ، فيجيء رسول الله
____________________
(1/251)
فيتوسط السرير فيصلي . ) وفي لفظ : كان يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة .
769 وعن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] قال : 6 ( أقبلت راكباً على حمار أتان ، ورسول الله يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار ، فمررت بين يدي بعض الصف ، [ فنزلت ] وأرسلت الآتان ترتع ، فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليّ أحد . )
متفق عليهما . وهذان يعارضان ما روى [ من ] القطع بالمرأة والحمار ، فيجب التوقف فيهما . أما القطع بالكلب فلا معارض له ، فيجب العمل به .
770 وما روى الفضل بن عباس قال : زار النبي عباساً في بادية لنا ، ولنا كليبة وحمارة ، فصلى رسول الله [ العصر ] وهما بين يديه ، فلم يؤخرا ولم يزجرا . روغه أحمد ، والنسائي . ليس فيه بيان الكليبة ما هي ، فيحمل على أنها لم تكن سوداء ، جمعاً بين الأحاديث .
والرواية لثانية وهي اختيار أبي البركات يقطع الكلب ، والمرأة ، والحمار لما تقدم أولًا ، إذ كون المرأة والحمار يقطعان لا بد فيه من إضمار ، والمرور فيه مضمر بيقين ، فلا إَراد علينا ، إذ الأصل عدم الإِضمار ، وإذا ثبت أن المرور فيه مضمر ، فعائشة [ رضي الله عنها ] لم تمر بين يدي النبي ، إنما كانت لابثة ، فالحديث لم يتناولها .
771 يؤيد هذا أن النبي أمر بدفع المار ، ولو كان حيواناً ، وجوز جعل البعير ، وظهر الرجل سترة ، وأقر [ عائشة رضي الله عنها ] على اضطجاعها أمامه ، فبان بهذا أن المرور مفارق للبث ، وحديث ابن عباس فيه أنه مر بين يدي بعض الصف ، ولم يذكر أنه مر بين يدي الإِمام .
772 وما روى عن أبي سعيد قال : قال رسول الله : ( لا يقطع الصلاة شيء ، وادرؤا ما استطعتم ، فإنما هو شيطان ) رواه أبو داود ، وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف ، ثم لو ثبت فهو عام فيخص بما تقدم .
وقول الخرقي : الأسود البهيم . ليس في الحديث ذكر البهيم ، لكن النبي علل القطع بكونه شيطاناً .
733 وقد قال : ( لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها ، فاقتلوا منها [ كل ] أسود بهيم ، فإنه شيطان ) فبين أن الشيطان منها هو الأسو
____________________
(1/252)
البهيم ، فعلم أنه المراد في نص القطع ، والبهيم هو الذي لا يخالط سواده شيء من البياض ، في إحدى الروايتين ، حتى لو كان بين عينيه بياض فليس ببهيم ، كذا قال ثعلب . ( والرواية الأخرى ) وهي الصحيحة عند أبي البركات أنه بهيم وإن كان بين عينيه بياض .
774 لما روى جابر [ رضي الله عنه ] قال : أمرنا النبي بقتل الكلاب ، ثم نهى عن قتلها ، وقال : ( عليكم بالأسود البهيم ، ذي الطفيتين ، فإنه شيطان ) مختصر رواه مسلم والطفية خوص المقل ، شبه الخطين الأبيضين منه بالخوصتين . ولو كان البياض في غير هذا الموضع فليس ببهيم رواية واحدة ، اعتماداً على قول أهل اللغة ، من غير تعارض .
وكلام الخرقي يشمل الفرض والنفل ، وهو المشهور والمعمول به ، وعنه [ ما يدل على ] أن النفل لا يبطل بذلك ، اعتماداً على حديث عائشة [ رضي الله عنها ] [ فإنه ورد فيه ، وحملا لأحاديث القطع على الفرض ، ومن قال بالأول أخذ بالعموم ] وقال : حديث عائشة لا يعارض ذلك لما تقدم ، وقول : [ الخرقي ] لا بد فيه أيضاً من إضمار المرور كما تقدم في الحديث ، وقد يحمل على إطلاقه ، وقد اختلف عن أحمد فيما يقطع الصلاة مروره ، هل يقطع إذا كان واقفاً ؟ ( فعنه ) : يقطع ، لعموم الحديث ، نظراً إلى أن المضمر له عموم ، ولأن عائشة [ رضي الله عنها ] فهمت التسوية بينهما ، وإلا لم تعارض ذلك باضطجاعها بين يديه وعلى هذا فقضية عاشة كانت خاصة بالنبي ، أو واردة على الإِباحة الأصلية ، وحديث أبي ذر ونحوه ناقل . ( وعنه ) لا يقطع . تفرقة بين للبث والمرور ، كما فرق بينهما بالدفع كما تقدم ، وقد تبين لك أن لأحمد رحمه الله في الجمع بين الأحاديث ثلاث طرق فتارة جمع بالفرق بين الفرض والنفل ، وتارة بالفرق بين اللابث والجالس ، [ وتارة بدعوى التخصيص بالنبي ، والله سبحانه وتعالى أعلم ] .
( باب صلاة المسافر )
ش : فعل الرباعية في السفر ركعتين في الجملة أمر مجمع عليه ، لا نزاع فيه ، حتى أن من العلماء من يوجبه ، ومستند الإِجماع قول الله تعالى : 19 ( { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ) الآية ، وما تواتر من الأخبار أن رسول الله كان يقصر حاجاً ، ومعتمراً ، وغازياً ، وكذلك أصحابه من بعده .
775 وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : صحبت رسول الله ،
____________________
(1/253)
فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ري الله عنهم كذلك ، متفق عليه . ( فإن قيل ) : فظاهر الآية الكريمة التقييد بالخوف من الكفار ؟ ( قيل ) : قد قال أبو العباس رحمه الله : إن القصر قصران ، قصر مطلق ، وقصر مقيد ، فالمطلق ما اجتمع فيه قصر الأفعال ، وقصر العدد ، كصلاة الخوف ، حيث كان مسافراً ، فإنه يجتمع فيه القصران ، قصر العدد ، وقصر العمل ، فإنه يرتكب فيها أمور لا تجوز في صلاة الأمن ، والآية وردت على هذا ، وما عدا هذا فهو قصر مقيد ، كالمسافر فقط ، يقصر العدد ، والخائف فقط ، يقصر العمل ، وهذا توجيه حسن في الآية الكريمة .
776 لكن يرد عليه ما روى عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : 19 ( { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ، إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } ) فقد أمن الناس ؟ فقال : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله عن ذلك ، فقال : ( صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ) رواه الجماعة إلا البخاري . فظاهر ما فهمه عمر ويعلى تقييد قصر العدد بالخوف ، والنبي أقرهما على ذلك ، وبين لهما أن جواز القصر من غير شرط الخوف صدقة من الله عليهم ، والله أعلم .
قال : وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخاً ، ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي ، فله القصر إذا جاوز بيوت قريته ، إذا كان سفر واجباً ، أو مباحاً .
ش : إنما يجوز القصر بشروط . ( أحدها ) أن يقصد سفراً تبلغ مدته ستة عشر فرسخاً ، بلا خلاف نعلمه عن إمامنا ، وهو اختيار عامة أصحابنا .
777 لما روى ابن خزيمة في مختصر المختصر عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي قال : ( يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد ، من مكة إلى عسفان ) .
778 ونقله أحمد عن ابن عباس ، وابن عمر قولفا وفعلًا ، وعليه اعتمد ، وقال أبو محمد : الحجة مع أن من أباح القصر لكل مسافر ، إلا أن ينعقد الإِجماع على خلافه ، نظراً لظاهر الآية الكريمة .
779 ولقول النبي : ( إن الله وضع عن المسافر الصوم ، وشطر الصلاة ) رواه أحمد .
____________________
(1/254)
780 وسئل أنس رضي الله عنه عن قصر الصلاة ، فقال : 16 ( كان النبي إذا خرج ثلاثة أميال ، أو ثلاثة فراسخ شعبة الشاك صلى ركعتين ) . رواه مسلم . وأقوال الصحابة قد اختلفت في ذلك .
781 فعن ابن مسعود ما يدل على أنه لا يقصر إلا إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام .
782 وعن علي رضي الله عنه أنه 16 ( خرج من قصره بالكوفة ، حتى أتى النخيلة ، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين ، ثم رجع من يومه ، وقال : أردت أن أعلمكم سنتكم ) . رواه سعيد .
783 وقال ابن المنذر : ثبت 16 ( أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقصر الصلاة إذا خرج إلى أرض اشتراها من بني لجينة ) ، وهي ثلاثون ميلًا .
784 قال : وكان الأوزاعي يقول : كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فيما بينه وبين خمسة فراسخ .
785 وقال الخطابي : روي عن ابن عمر أنه قال : 16 ( إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر ) وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى ظاهر الكتاب والسنة اه والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل اثنى عشر ألف قدم ، وتعتبر المسافة في سفر البحر بالفراسخ المعتبرة في سفر البر ، والمعتبر بنية المسافة المقدرة ، لا تحقيقها ، فلو نواها ثم بدا له في أثنائها مضى ما صلاه ، وفي العود هو كالمستأنف للسفر .
وقول الخرقي ) : وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخاً . ظاهره أنه لا بد من تحقق ذلك ، فلو سافر لبلد وشك هل مسافته المسافة المعتبرة لم يقصر ، [ لعدم الجزم بالنية ، ولو خرج لطلب آبق ونحوه ، على أنه متى وجده رجع لم يقصر ] على مقتضى قول الخرقي ، ونص عليه أحمد ، لعدم نيته مسافة القصر ، وقال ابن عقيل : إذا بلغ مسافة القصر قصر ، وكذلك لو سمع به في بلد بعيد ، ونوى أنه إن وجده دونه رجع ، لعدم الجزم بالنية ، ولو قصد البلد البعيد ، ثم نوى في أثناء السفر أنه متى ما وجده رجع ، قصر في قياس المذهب ، قاله أبو البركات ، لانعقاد سبب الرخصة ، وقد يتخرج الإِتمام ، بناء على ما إذا انتقل من سفر مباح إلى محرم .
ودخل في كلام الخرقي من لا تلزمه الصلاة ممن له قصد صحيح ، كالكافر ، والحائض ، والصبي المميز ، إذا قصد المسافة المعتبرة ، ثم وجبت عليه الصلاة في أثناء السفر ، فإنه يقصر وإن لم يبق من السفر المسافة المعتبرة . ( الشرط الثاني ) أن يجاوز بيوت قريته ، لقول الله تعالى : 19 ( { وإذا ضربتم في الأرض } ) الآية ، ومن لم يفارق البيوت لم يضرب في الأرض ، وحكم خيام قومه حكم بيوت قريته .
ومقتضى قول الخرقي أنه يقصر إذا فارق البيوت ، وإن كان بين المقابر
____________________
(1/255)
والبساتين ، وهو كذلك .
وقوله : بيوت قريته . يحتمل أن مراده المعدة للسكنى ، فعلى هذا لو خرب بعض البلد ، وحيطانه قائمة ، جاز له القصر فيه ، وهو أحد الوجهين ، كما لو صار فضاء ، ويحتمل أن مراده مطلقاً ، فلا يقر ، وهو اختيار القاضي ، اعتباراً بما كان . ( الشرط الثالث ) : أن يكون سفره واجباً ، كالحج ، والجهاد ، ونحوهما ، أو مباحاً ، كالتجارة ، وزيارة صديق ، ونحو ذلك ، لعموم 19 ( { وإذا ضربتم في الأرض } ) ولما تقدم من قوله : ( إن الله وضع عن المسافر الصوم ، وشطر الصلاة ) .
786 وعن عمر رضي الله عنه قال : صلاة المسافر ركعتان ، تمام من غير قصر ، على لسان محمد . رواه أحمد ، والنسائي .
787 وعن النخعي قال : أتى رسول الله رجل فقال : إني أريد البحرين في تجارة ، فكيف تأمرني في الصلاة ؟ فقال : ( صل ركعتين ) رواه سعيد ، ( والظاهر ) أن مراد الخرقي بالمباح الجائر ، فيدخل فيه سفر النزهة والفرجة ، لعموم ما تقدم ، وعن أحمد رواية [ أخرى ] لا يقصر في هذا ، لأنه مجرد لهو ، لا مصلحة فيه . ( وخرج ) من كلامه سفر المعصية ، كالآبق ، وقاطع الطريق ، والتاجر في الخمر ، ونحو ذلك ، فإنهم لا يقصرون ، إذ الرخص شرعت تخفيفاً وإعانة على المقصد ، فشرعها في سفر المعصية إعانة عليه وأنه لا يجوز ، قال سبحانه وتعالى : 19 ( { وتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الإِثم والعدوان } ) ولأنه إذا لم يبح له أكل الميتة والحال هذه ، مع كونه مضطراً ، فلأن لا تخفف [ عنه ] بعض العبادة أولى ، ودليل الأصل قول الله تعالى : 19 ( { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } ) .
788 قال ابن عباس رضي الله عنهما ( غير باغ ) على المسلمين ، مخيفاً لسبيلهم ، ( ولا عاد ) بالسيف عليهم شاقاً لهم .
وقول الخرقي : إذا كان سفره واجباً . يحتمل ابتداءه ، فلو قصد سفراً مباحاً ، ثم صار محرماً قصر ، وهو أحد الوجهين ، كمن وجدت منه معصية في سفره ، ويحتمل أن مراده جميع سفره ، فلا يقصر والحال ما تقدم ، وهو مختار أبي البركات ، وقال القاضي في تعليقه : إنه ظاهر كلام أحمد . إذ المعصية تناسب قطع التخفيف ، ولهذا لو نقل سفر المعصية إلى مباح ، وبقي من المدة مسافة القصر قصر ، [ والله أعلم ] .
قال : ومن لم ينو القصر في وقت دخوله إلى الصلاة لم يقصر .
ش : هذا المجزوم به عند ابن أبي موسى ، والمذهب عند القاضي ، والشيخين وغيرهما ، لأن القصر كما سيأتي رخصة ، فإذا لم ينوها لم يأخذ بها ، فيتعين الإِتمام لأنه الأصل ، وصار كالمنفرد ، لا يحتاج أن ينوي الإِنفراد لأنه الأصل ، والإِمامة والإِئتمام لما تضمنتا تغييرا عن الأصل افتقرتا إلى النية ، وقال أبو بكر : لا يحتاج
____________________
(1/256)
القصر إلى نية ، فيقصر وإن نوى الإِتمام . قال أبو البركات : ووجه ذلك على أصلنا أنها رخصة ، خير فيها قبل الدخول في العبادة ، فكذلك بعده كالصوم ( قلت ) : وقد ينبني على ذلك هل الأصل في صلاة السافر الأربع ، وجوز له أن يترك ركعتين منها تخفيفاً عليه ، فإذا لم ينو القصر لزمه الأصل ، ووقعت الأربع فرضاً ، أو أن الأصل في حقه ركعتان ، وجوز له أن يزيد ركعتين تطوعاً ، فإذا لم ينو القصر فله فعل الأصل ، وهو الركعتان ؟ فيه روايتان ، المشهور منهما الأول ، والثاني أظنه اختيار أبي بكر ، وينبني على ذلك إذا ائتم به مقيم ، هل يصح بلا خلاف ، أو هو كالمفترض خلف المتنفل ، [ والله أعلم ] .
قال : والصبح والمغرب لا يقصران .
ش : إذ قصر الصبح يجحف بها ، وقصر المغرب ( يل وتريتها ، مع أن هذا إجماع [ والله أعلم ] .
قال : وللمسافر أن يتم ويقصر ، [ كما له أن يصوم ويفطر ] .
ش : لا خلاف عندنا فيما أعلمه أن للمسافر أن يتم ويقصر ، لظاهر قول الله تعالى : 19 ( { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ) ورفع الجناح [ ظاهره ] يقتضي الإسقاط والتخفيف ، دون الإيجاب .
789 وقوله سبحانه : 19 ( { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ) ورد على سبب ، وهو تحرجهم الطواف بهما .
890 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجت مع النبي في عمرة رمضان ، فأفطر وصمت ، وقصر وأتممت ، فقلت : بأبي وأمي أفطرت وصمت ، وقصرت وأتممت . قال : ( أحسنت يا عائشة ) .
79( وعنها ) أيضاً رضي الله عنها أن النبي كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم . رواهما الدارقطني ، وحسن إسناد الأول وصحح الثاني . ( وأيضاً ) ما تقدم من قوله : ( إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة ) وقوله : ( تلك صدقة تصدق الله بها عليكم ) وهذا ظاهر في أن القصر رخصة لا عزيمة .
79( وقد ثبت ) أن عثمان رضي الله عنه أتم بمنى ، بمحضر من الصحابة وغيرهم ، وفي رواية لأبي داود أنه أتم لأن الأعراب كثروا عامئذ ، فصلى بالناس أربعاً ، ليعلمهم أن الصلاة أربع ، وثبت أن ابن مسعود وابن عمر صليا خلفه أربعاً ، وفي أبي داود أنه قيل لابن مسعود : عبت على عثمان ثم صليت أربعاً ؟ قال : الخلاف شر . وهذا يدل على جواز ذلك وإنكارهما على عثمان كان على ترك الفضيلة ، لأنهم كانوا
____________________
(1/257)
ينكرون في السنن ، قال أبو البركات : ومن تأويل إتمام عثمان على أنه أجمع الإِقامة في الحج فقد أخطأ ، لأن عثمان مهاجري ، لا يحل له أن يقيم بمكة ، والمعروف عنه أنه كان لا يطوف للإِفاضة والوداع إلا وراحلته قد رحلت . انتهى .
793 وقد روى ابن عبد البر عن أنس رضي الله عنه قال : 16 ( كنا أصحاب رسول الله نسافر ، فيتم بعضنا ، ويقصر بعضنا ، ويصوم بعضنا ، ويفطر بعضنا ، ولا يعيب أحد على أحد ) . ( وقول ) عمر رضي الله عنه : 16 ( صلاة السفر ركعتان ، تمام غير قصر ) . أي في الأجر والثواب .
794 ( وقول ) عائشة رضي الله عنها : أول ما فرضت الصلاة ركعتان ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر . أي : أقرت في حكم الإِجتزاء بها ، لا في منع الزيادة ، بدليل ظاهر القرآن ، وما تقدم عنها عن غيرها من الإِتمام .
وأما الأصل الذي قاص عليه الخرقي فلا نزاع فيه أيضاً ، لما تقدم .
795 ولما في الصحيح أن النبي قال لحمزة بن عمرو الأسلمي : ( إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ) .
796 وقول أنس رضي الله عنه في الصحيح : ( فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ) [ والله أعلم ] .
قال : والقصر والفطر أعجب إلى أبي عبد الله رحمه الله .
ش : لما تقدم من قول النبي : ( صدق تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته ) وهذا أمر .
797 وعن [ ابن عمر رضي الله عنهما ، أن ] النبي قال : ( إن الله يحب أن تؤخذ رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته ) رواه أحمد .
798 وقد قال : ( ليس من البر الصوم في السفر ) .
799 وقال : ( ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله ) ولأن هذا هو الغالب على النبي وأصحابه ، ولهذا أنكره أكابر الصحابة على عثمان لما أتم مع أنه إنما أتم والله أعلم لمعنى كما تقدم .
800 قال ابن مسعود لما قال له عن إتمام عثمان : صليت مع رسول الله بمنى ركعتين ، بكم الطرق ، فيا
____________________
(1/258)
ليت حظي من أربع [ ركعات ] ركعتان متقبلتان . متفق عليه [ والله أعلم ] .
قال : وإذا دخل وقت الظهر على مسافر وهو يريد أن يرتحل صلى الظهر وارتحل ، فإذا دخل وقت العصر صلاها ، وكذلك المغرب وعشاء الآخرة ، وإن كان سائراً فأحب أن يؤخر الأولى فيصليها في وقت الثانية فجائز .
ش : قوله : دخل وقت الظهر على مسافر . أي مسافر له القصر ، واعلم أن الصلوات التى تجمع هي الأربع التي مثل بها الخرقي ، الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء .
ثم الجمع على ضربين [ جمع ] تقديم ، وهو أن يقدم الثانية إلى وقت المغرب ، وكل منهما على ضربين ، تارة يكون نازلًا ، وتارة يكون سائراً ، فالصور أربعة والمشهور المعمول به في المذهب جواز جميعها ، وظاهر قول الخرقي اختصاص الجواز بصورة منها ، وهو جمع التأخير إذا كان سائراً ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله .
801 لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله : إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم نزل فجمع بينهما ، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب ، وفي رواية : كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر ، فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء .
80( وعن ) ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله يجمع بين صلاتي الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ، ويجمع بين المغرب والعشاء .
80( وعن ) ابن عمر رضي الله عنهما : رأيت رسول الله إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء . قال سالم : وكان عبد الله يفعله إذا أعجله السير . متفق عليهن . وظاهرها اختصاص الجميع بجمع التأخير ، وبحالة السير .
804 ووجه المذهب أنه يجوز في التقديم ، وفي حالل النزول ما روى معاذ رضي الله عنه ، أن النبي كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر ، يصليهما جميعاً ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب . رواه أبو داود ، والترمذي وقال : حسن غريب .
805 وروى أبو الزبير المكي ، عن أبي الطفيل ، أن معاذاً أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله في غزوة تبوك ، فكان رسول الله يجمع بين الظهر والعصر ،
____________________
(1/259)
وبين المغرب والعشاء ، فأخر الصلاة يوماً ، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً . رواه أحمد وأبو داود ، وصححه ابن عبد البر . وقد اشتمل هذا الحديث على جواز [ جمع ] التقديم ، في المنزل .
806 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله في السفر ؟ قالوا : بلى . قال : كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر [ قبل أن يركب ، وإذا لم تزغ سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ] ، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا حانت العشاء نزل فجمع بينهما . رواه أحمد فهذا يبين أن الرسول فعل الأمرين ، وإن كان فعله للأول أكثر وأغلب ، ولهذا كان منصوص أحمد رحمه الله ، والذي عليه أصحابه أن جمع التأخير أفضل .
واعلم أن للجمع في وقت الأولى شروط ، ( أحدها ) تقديم الأولى لتكون الثانية تابعة لها ، لأنها لم يدخل وقتها .
( الثاني ) : نية الجمع على الصحيح ، ليتميز التقديم المشروع على غيره ، ثم هل يكتفى بالنية عند الفراغ ، أو لا بد من وجودها عند الإِحرام ؟ فيه وجهان ، أصحهما الثاني .
( الثالث ) : أن يوالي بينهما اتباعاً لمورد النص ، فإن فرق تفريقاً كثيراً بطل الجمع ، ومرده العرف ، لأن الشرع لم يحده ، وقد قرب تحديده بالإِقامة والوضوء ، لأنهما من مصالح الصلاة ، فإن صلى سنة الصلاة بينهما ففي بطلان جمعه روايتان ، أصحهما البطلان ، ومحل الخلاف إذا لم يطل الصلاة ، فإن أطالها بطل الجمع رواية واحدة ، وكذلك لو أطال الوضوء ، كأن كان الماء على بعد منه . ( ويخرج ( لجمع السفر شرط رابع وهو بقاء السفر إلى أن يفرغ من الثانية . .
أما الجمع في وقت الثانية فيشترط له شرطان . ( أحدهما ) نية الجمع في وقت الأولى ، ما لم يضق الوقت عن فعلها ، لأنه إذا لم ينوها عصى ، لأنه لم يأت بالعزيمة في وقتها ولم يلتزم الرخصة ، لأن قبولها بالعزم ، فيكون إذاً مؤخراً ، ووقت النية ما لم يضق الوقت عن فعل الأولى ، لزوال فائدة الجمع ، إذ فائدته التخفيف بالمقاربة بينهما ، وهو حاصل هنا ، لأنه إذا فعل الأولى دخل وقت الثانية في الحال . ( الشرط الثاني ) الترتيب ، وشرطه الذكر ، كترتيب الفوائت ، لأن الصلاتين قد استقرتا في ذمته واجبتين ، فيسقط ترتيبهما بالنسيان كالفائتتين ، بخلاف الجمع بينهما في وقت الأولى ، فإن الترتيب لا يسقط بالنسيان ، وهل يسقط الترتيب هنا بضيق الوقت ، بأن لا يبقى من وقت الثانية
____________________
(1/260)
ما لا يتسع إلا لواحدة ؟ أسقطه القاضي في المجرد ، ولم يسقطه في تعليقه ، وهو مختار أبي البركات ، وهل يشترط للجمع في وقت الثانية الموالاة ؟ على وجهين أصحهما : لا يشترط .
وقد أشعر كلام الخرقي بأن الجمع جائز ، وليس بمندوب إليه ، بخلاف القصر والفطر على ما تقدم ، وهو المنصوص والمختار للأصحاب ، خروجاً من الخلاف ، ولأن النبي لم يداوم عليه .
807 ولهذا خفي على بعض الأكابر كابن مسعود ، وعنه : الجمع أولى . نظراً للسهولة والتخفيف ، والله أعلم .
قال : وإذا نسي صلاة حضر ، فذكرها في السفر ، أو صلاة سفر ، فذكرها في الحضر ، صلى في الحالتين صلاة حضر .
ش : أما إذا نسي صلاة حضر ، فذكرها في سفر فصلاتها صلاة حضر بالإِجماع ، حكاه ، أحمد ، وابن المنذر ، واعتباراً بما استقر في ذمته ، وأما إذا نسي صلاة سفر ، فذكرها في الحضر ، صلاها صلاة حضر ، قال أحمد : احتياطاً . وذلك لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والإِتمام ، فغلب جانب الإِتمام ، كما لو أقام المسافر ، ولأن القصر رخصة فبزوال سببها يعود إلى الأصل كالمريض .
وقد يفهم من كلام الخرقي بأنه إذا نسي صلاة سفر ، فذكرها في السفر أيضاً أنه يقصر ، وهو كذلك ، لشملو النصوص للمؤداة والفائتة ، نعم لو ذكرها في سفر آخر فوجهان ، أصحهما يقصر أيضاً ، والله أعلم .
قال : وإذا دخل مع مقيم وهو مسافر أتم .
ش : لعموم قوله : ( إنما جعل الإِمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه ) الحديث .
808 وعن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : إذا دخل المسافر في صلاة المقيم صلى بصلاته . حكاه أحمد ، وابن المنذر ، ولا يعرف لهما مخالف .
809 وعن نافع ، أن ابن عمر رضي الله عنه كان يصلي وراء الإِمام أربعاً ، فإذا صلى بنفسه صلى ركعتين . رواه مالك في الموطأ ، وللصحيحين معناه .
وكلام الخرقي يشمل الإِدراك القليل ، حتى لو أدركه في التشهد أتم ، وهذا إحدى الروايتين وأصحهما لما تقدم ( والثانية ) : أنه إذا لم يدرك معه ركعة قصر ، جعلا له كالمنفرد ، حيث لم يدرك ما يعتد به ، كما في الجمعة ، فعلى هذا لو أدرك المسافر تشهد الجمعة قصر ، وعلى المذهب يتم ، نص عليه أحمد [ والله أعلم ] .
قال : وإذا صلى مسافر ومقيم خلف مسافر ، أتم المقيم إذا سلم إمامه .
____________________
(1/261)
ش : هذا إجماع من أهل العلم .
810 وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : غزوت مع رسول الله ، وشهدت معه الفتح ، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة ، لا يصلي إلا ركعتين ، ويقول : ( يا أهل البلد صلوا ركعتين فإنا سفر ) رواه أبو داود .
قال : وإذا نوى المسافر الإِقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم .
ش : هذه إحدى الروايات ، واختيار الخرقي ، وأبي بكر ، وأبي محمد .
811 لما احتج به أحمد من حديث جابر ، وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة ، فأقام بها الرابع ، والخامس ، والسادس ، والسابع ، وصلى الصبح في اليوم الثامن ، ثم خرج إلى منى ، وكان يقصر في هذه الأيام ، وقد أجمع على إقامتها .
81( وعن ) أنس رضي الله عنه : خرجنا مع رسول الله من المدينة إلى مكة ، فصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، قال : وأقمنا بها عشراً . متفق عليه ، قال أحمد : إنما وجه حديث أنس عندي أنه حسب مقام النبي بمكة ومنى ، وإلا فلا وجه له غير ذها ، وإذا حسبت هذه المدة كانت إحدى وعشرين صلاة ، فمن أقام مثل هذه الإِقامة قصر ، وإن زاد أتم ، لأن القياس الإِتمام في الحضر مطلقاً ، لأنه الأصل ، وقد زال بسبب الرخصة . ( والرواية الثانية ) إن نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة أتم ، وإلا قصر ، اختارها القاضي في تعليقه ، لأن الذي تحقق أنه نواه هو إقامة أربعة أيام ، لأنه كان حاجاً ، والحاج لا يخرج من مكة قبل يوم التروية ، فثبت أنه نوى إقامة الرابع ، والخامس ، والسادس ، والسابع ، وأما أول الثامن فيحتمل أنه لم ينوه ابتداء ، فلا يعتبر مع الشك . ( والرواية الثالثة ) : إن نوى إقامة أربعة أيام أتم ، وإلا قصر .
813 لقوله : ( يقيم المهاجر بعد قضاي نسكه ثلاثاً ) وقد كان حرم على المهاجر المقام بمكة ، فلما رخص له في هذه المدة علم أنها ليست في حكم الإِقامة .
814 وما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : أقام النبي تسع عشرة يقصر الصلاة ، فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا ، وإن زدنا أتممنا . رواه البخاري وغيره . محمول على أنه لم ينو المقام ، قال أحمد : أقام النبي ثماني
____________________
(1/262)
عشرة زمن الفتح ، لأنه أراد حنيناً ، ولم يكن ثم إجماع على المقام ، .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن ينوي الإِقامة ببلد مسلمين أو كفار ، وهو كذلك .
( تنبيه ) : يحتسب عندنا بيوم الدخول والخروج ، والله أعلم .
قال : وإن قال : اليوم أخرج ، أو غدا أخرج . قصر وإن أقام شهراً [ والله أعلم ] .
ش : لما تقدم في حديث عمران أن النبي أقام في الفتح ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين .
815 وعن جابر رضي الله عنه : 16 ( أقام النبي بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ) . رواه أحمد ، وأبو داود .
816 وعن علي رضي الله عنه قال : 16 ( يقصر الذي يقول : أخرج اليوم ، أخرج غداً ) . شهراً .
817 وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه 16 ( أنه أقام في بعض قرى الشام أربعين يوماً يقصر الصلاة . رواهما سعيد ) . ولا فرق إذا لم ينو الإِقامة ، أو نواها مدة لا تمنع القصر بين أن يكون البلد منتهى قصده أو لم يكن ، على ظاهر كلام الخرقي ، وهو المنصوص ، واختبار الأكثرين ، لأن النبي قصر في حجه مدة إقامته بمكة ، وكانت منتهى قصده ، وكذلك خلفاؤه بعد رضي الله عنخم ، وقال بعض أصحابنا : إذا كان منتهى قصده لم يقصر حتى يخرج منه ، لانتهاء سفره . وهذا كله إذا كان البلد غير وطنه أما فيمنع القصر بمجرد دخوله إليه ، وكذلك إذا كانت له فيه زوجة ، أو تزوج فيه ، ونقل عنه ابن المنذر : أو مر ببلد ماشية كانت له فيه ، وعنه رواية أخرى يتم إلا أنه يكون ماراً ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
( باب صلاة الجمعة )
ش : الجمعة مثلثة الميم حكاه ابن سيده ، والأصل الضم ، واشتقاقها قيل : من اجتماع الناس للصلاة . قاله ابن دريد ، وقيل : بل لاجتماع الخليقة فيه وكمالها .
818 ويروى عن النبي أنها سميت بذلك لاجتماع آدم فيه مع حواء في الأرض .
819 وروى الدارقطني بإسناده عن سلمان الفارسي ، أن النبي قال : ( إنما سميت الجمعة لأن آدم جمع فيها خلقه ) .
____________________
(1/263)
820 ولأحمد في مسنده معناه من رواية أبي هريرة . وقيل : إن أول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي ، واسمه القديم يوم العروبة ، قيل : سمي بذلك لأن العرب كانت تعظمه ، قال الله تعالى : 19 ( { عرباً أتراباً } ) .
والأصل في فرضية الجمعة قول الله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ، وذروا البيع } ) الآية .
82( وعن ) أبي الجعد الضمري وكانت له صحبة أن النبي قال : ( من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه ) رواه الخمسة .
822 وفي الموطأ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال مالك : لا أدري أعن النبي أم لا نحوه .
82( وعن ) الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر ، وأنا هريرة حدثاه أنهما سمعاً رسول الله يقول على منبره : ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين ) .
824 ( وعن ) صفوان بن سليم أن النبي قال لقوم يتخلفون عن الجمعة ( لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي : ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم ) رواهما مسلم ، والنصوص في الباب كثيرة ، سيأتي منها إن شاء الله تعالى جملة [ والله أعلم ] .
قال : وإذا زالت الشمس يوم الجمعة صعد الإِمام على المنبر .
ش : لما كان المقصود بالذات هو بيان صفة الصلاة بدأ به الخرقي رحمه الله تعالى فقال : وإذا زالت الشمس ، والمراد بهذا على طريق الأولوية ، أما الجواز فسيأتي له أنه في السادسة أو الخامسة ، وإنما كان الأولى فعلها إذا زالت الشمس .
825 لما روى سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، قال : كنا نجمع مع رسول الله إذا زالت الشمس ، ثم نرجع نتتبع الفيء . متفق عليه ، وفي رواية : نصلي مع رسول الله ، ثم ننصرف وليس للحيطان يظل يستظل به .
826 وعن أنس رضي الله عنه أن النبي كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس ، رواه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، ولأن فيه خروجاً من الخلاف ، فإن
____________________
(1/264)
الإِجماع على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة .
وفي كلام الخرقي إشعار بأنها تفعل عقب الزوال صيفاً وشتاء ، وذلك لما تقدم .
827 وقد قال سهل بن سعد : كنا نصلي مع النبي ثم تكون القائلة ، وفي رواية : ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة . متفق عليه ، ولأن الجمعة لها الناس ، فلو انتظر لها الإِبراد شق عليهم .
وقول الخرقي : صعد الإِمام على المنبر . فيه استحباب المنبر ، ولا نزاع في ذلك .
828 وقد ثبت أن رسول الله اتخذ منبراً ، وخطب عليه ولذلك توارثته الأمة بعده ، ولأن ذلك أبلغ في الإِعلام ، وهو حكمة مشروعية المنبر .
829 قال أبي بن كعب : كان رسول الله يخطب إلى جذع إذ كان المسجد عريشاً ، وكان يخطب إلى ذلك الجذع ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله هل لك أن نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة ، حتى يراك الناس ، وتسمعهم خطبتك ؟ قال : ( نعم ) فصنع له ثلاث درجات ، فلما صنع المنبر وضع في موضعه الذي وضعه فيه رسول الله ، فلما أراد أن يأتي المنبر مر عليه ، فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق ، فرجع رسول الله فمسحه بيده حتى سكن ، ثم رجع إلى المنبر . رواه أحمد .
قال : فإذا استقبل الناس سلم عليهم .
830 ش : لما روى عن جابر رضي الله عنه قال : كان النبي إذا صعد المنبر سلم . رواه ابن ماجه .
831 وعن أبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وابن الزبير كذلك ، رواه عنهم الأثرم ، وكذلك روى النجاد عن عثمان ، ولا نزاع فيما نعلمه أن يسلم عليهم إذا خرج عليهم كغيره .
وقول الخرقي : إذا استقبل [ الناس ] فيه إشارة إلى استحباب استقبال الخطيب : الناس ، وهو كالإِجماع قاله ابن المنذر ، وينحرف الناس إليه .
832 قال ابن مسعود : 16 ( كان رسول الله إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا ) . رواه الترمذي ، ومنصوص أحمد أن الاستقبال وقت الخطبة ، وقال أبو بكر
____________________
(1/265)
في التنبيه : يستقبل إذا خرج . [ والله أعلم ] .
قال : وردوا عليه [ السلام ] .
ش : الرد عليه واجب كما في غيره ، ويجزيء رد البعض .
833 قال زيد بن أسلم : إن رسول الله قال : ( يسلم الراكب على الماشي ، وإذا سلم أحد من القوم أجزأ عنهم ) رواه مالك في الموطأ .
قال : وجلس .
ش : لما سيأتي إن شاء الله تعالى من حديث السائب .
قال : وأخذ المؤذنون في الأذان .
834 ش : لما روى السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإِمام على المنبر ، على عهد رسول الله ، وأبي بكر ، وعمر ، فلما كان في خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث ، فأذن به على الزوراء ، فثبت الأمر على ذلك . رواه البخاري ، وأبو داود ، والنسائي .
قال : وهذا الأذان الذي يمنع البيع ، ويلزم السعي ، إلا لمن منزله في بعد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون فيه مدركاً للجمعة .
ش : الأذان للجمعة في الجملة يمنع البيع ، ويلزم السعي ، لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ، وذروا البيع } الآية . والمؤثر في ذلك هو الأذان الذي بين يدي الإِمام على المنبر ، لأنه هو الذي كان على عهد رسول الله ، فالآية وردت عليه ، فيتعلق الحكم به . ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن المنع من البيع ولزوم السعي يتعلق بالأذان الأول ، الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه ، لعموم الآية .
835 مع الأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين من بعده ، رضي الله عنهم . ( وعنه ) رواية ثالثة أن المنع يتعقل بالزوال ، لأنه أمر منضبط ، لا يختلف ، بخلاف الأذان ، ولدخول وقت الوجوب ، قال أبو البركات : وقياس هذا وجوب السعي إذاً للتمكن ، والأول المذهب .
ووجوب السعي بالأذان في حق من منزله قريب ، يدرك بذلك ، أما من منزله بعيد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركاً للجمعة ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب ، والجمعة واجبة ، ولا تتم إلا بالسعي إليها قبل النداء ، فيجب السعي إذ ذاك ، وهذا في السعي الواجب ، أما المسنون فمن طلوع الفجر عندنا .
____________________
(1/266)
836 لقوله : ( من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإِمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر ) متفق عليه ، ولمالك في الموطأ ( ثم راح في الساعة الأولى ) وذكر الساعات بالألف واللام ينصرف إلى المعهودات .
837 ولقوله : ( من غسل واغتسل يوم الجمعة ، وبكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنى من الإِمام ، واستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة عمل سنة ، أجر صيامها وقيامها ) رواه الخمسة . وما قيل : من أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال مؤول بأن المراد بالرواح القصد إليها ، كما يقال للخارج للحج حاج ، والله أعلم .
وقول الخرقي : وهذا الأذان الذي يمنع البيع [ أي ] في حق من تلزمه الجمعة ، لأنه هو المأمور بالسعي ، فلا يحرم على امرأة ، وعبد ، ونحوهما ، نعم يكره ذلك [ منهما ] في الأسواق ونحوها ، حذرا من الاستخفاف بحرمة الأذان ، ولما فيه من تغرير من لا علم عنده بذلك ، وحكى ابن أبي موسى رواية في بيع من لا تلزمه الجمعة من المقيمين أنه لا يصح ، والأول المذهب .
وقوله : يمنع البيع . أي يمنعه بالكلية ، فلا يصح ، نظراً لقاعدة النهي في اقتضائه الفساد ، وقيل : يصح مع التحريم .
وقد شمل كلام الخرقي جميع أنواع البيع ، من الصرف ، والسلم ، والتولية ، والإِقالة إن قيل : إنها بيع ، ونحو ذلك ، وكذلك الإِجارة ، قاله ابن عقيل ، وشمل بيع القليل والكثير ، وهو كذلك ، حتى شرب الماء ونحوه ، [ وقوله لشخص : أعتق عبدك عني . قاله ابن عقيل ] .
واستثني من كلام الخرقي إذا اضطر إلى البيع في ذلك الوقت ، لجوع ، أو عطش شديد ، يخاف منه الهلاك ، أو التضرر في نفسه تضررا يباح [ في ] مثله استعمال الأبدال ، فإنه يجوز له الشراء ، ويجوز لمالك البيع . وكذلك يستثنى شراء كفن ، وحنوط لميت يخشى عليه الفساد ، وكذلك شراء أبيه ليعتق [ عليه ] وشراء ما يستعين به على حضور الجمعة ، كشراء أعمى عبداً يأخذ بيده ، ونحو ذلك ، على احتمال فيهما ذكره ابن عقيل .
____________________
(1/267)
[ ومقتضى كلامه أنه لو جاء وقت النداء ولم يناد لعذر للإِمام ، أو لفتنة ، ونحو ذلك لم يمنع البيع ، وهو كذلك ، وأن النداء لغيرها من الصلوات لا يمنع . وهو أحد احتمالي ابن عقيل ، وظاهر كلام الأصحاب . والثاني : يمنع النداء لغيرها ، كما يمنع لها ، وينبغي أن يكون المراد بهذا النداء الإِقامة ] .
وخرج منه غير البيع ، من النكاح ونحوه ، وهو أصح [ الوجهين أو ] الروايتين ، وقيل : الصحيح العكس . وكذلك خرج فسخ العقد ، وإمضاؤه ، وهو كذلك ، ، إذ ليس ببيع [ قال ابن عقيل ، وقد يتخرج فيه ما يخرج في الرجعة في حق المحرم ، وأن فيها روايتين ، وأشار بأن الخيار [ قد ] يفضي إلى المنع من الجمعة ، كما أن الرجعة قد تفضي إلى النكاح ، ثم أشار أيضاً إلى أنا إذا جعلنا الرجعة كالعقد ، فأولى أن نجعل الارتجاع كالبيع ، لأن الرجعية ملكه ، بخلاف المبيع ، ثم قال : والصحيح الأول ] .
( تنبيه ) : لو وجد أحد شقي العقد قبل النداء ، والآخر بعده ، أو كان أحد العاقدين لا جمعة عليه ، لم يصح العقد ، لأن بعض المنهي ككله ، قاله صاحب التلخيص ، وابن عقيل ، وبالغ فقال : لو نودي بالصلاة بعد ما شرع في القبول لم يتمه ، وأورد أبو محمد المذهب أنه يحرم في حق من تلزمه الجمعة ، [ ويكره في حق غيره ، ولو كان للبلد جامعان يصح إقامة الجمعة ] فيهما ، فسبق النداء في أحدهما ، فهل يحرم البيع مطلقاً ، أو لا يحرم إلا إذا كان الجامع الذي نودي فيه من جنب داره ، أما لو كان من الجانب الذي داره ليس فيه فلا يحرم ؟ فيه احتمالان ، ذكرهما ابن عقيل ، والله سبحانه أعلم .
قال : فإذا فرغوا من الأذان خطبهم قائماً .
ش : لا إشكال في مشروعية الخطبة ، إذ ذاك مما استفاضت به السنة الصحيحة ، ومذهبنا ومذهب الجمهور أن الخطبة شرط لصحة الجمعة ، لأن الله أمر بالسعي إلى ذلك بقوله : { فاسعوا إلى ذكر الله } والمراد به على ما قال المفسرون الخطبة ، وظاهر الأمر الوجوب ، والسعي الواجب لا يكون إلا إلى واجب ، ولأن النبي داوم على ذلك ، مع قوله : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .
838 ولأن الخطبتين بدل عن الركعتين ، كذا روي عن عمر ، وابنه ، وعائشة ، وغيرهم رضي الله عنهم .
وقول الخرقي : قائماً . ظاهره الوجوب ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد .
839 لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : كان النبي يخطب قائماً ، ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب قائماً ، فمن قال : إنه كان يخطب جالساً . فقد كذب ، فلقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة . رواه مسلم وغيره .
____________________
(1/268)
840 ودخل كعب بن عجرة ، وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً ، فقال : انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعداً ، قال الله تعالى : 19 ( { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً } ) رواه مسلم والنسائي ، وبهذا استدل أحمد رحمه الله . ( والرواية الثانية ) وهي المشهورة عند الأصحاب يجوز أن يخطب جالساً ، والقيام سنة ، لظاهر الآية الكريمة ، فإن الذكر قد أطلق ولم يقيد ، والمقصود حاصل بدونه ، وفعله يحمل على الفضيلة ، والله أعلم .
قال : فحمد الله [ عز وجل ] وأثنى عليه ، وصلى على النبي [ وقرأ شيئاً من القرآن ووعظ ] .
841 ش : أما الحمد والثناء على الله تعالى ، فلما روى عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم ) رواه أبو داود .
842 وعن جابر بن عبد الله قال : كانت خطبة النبي يوم الجمعة يحمد الله ، ويثني عليه بما هو أهله . وذكر الحديث رواه مسلم ، ( وأما الصلاة على النبي ) فلأن الخطبة اشترط فيها ذكر الله تعالى ، فيشترط فيها ذكر رسوله كالأذان .
843 وعن أبي هريرة رضي الله عنه وذكر إسراء النبي ، وذكر فيه قوله الله تعالى : 19 ( { ورفعنا لك ذكرك } ) قال : ( فلا أذكر إلا ذكرت معي ، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي ) رواه الخلال في كتاب العلم ، وكتاب السنة .
844 ( وأما قراءة شيء من القرآن ) فلمت روى جابر بن سمرة قال : كان النبي يخطب قائماً ، ويجلس بين الخطبتين ، ويقرأ آيات ، ويذكّر الناس . رواه أحمد ومسلم .
قال : ثم جلس .
ش : [ لا إشكال ] في سنية هذا الجلوس بين الخطبتين ، اقتداء بفعل رسول الله ، كما تقدم في حديث جابر بن سمرة .
845 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله يخطب خطبتين وهو قائم ، يفصل بينهما بجلوس ، ولا يجب على المذهب المشهور ، لحصول المقصود بدونه .
____________________
(1/269)
846 وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه لم يجلس بين الخطبتين . ذكره أحمد ، وابن المنذر .
847 وروى النجاد عن أبي إسحاق قال : رأيت علياً يخطب على المنبر ، فلم يجلس حتى فرغ ، والظاهر أنه قد حضرهما جماعة من الصحابة ، ولم ينقل إنكار ، وذهب أبو بكر النجاد من أصحابنا إلى وجوبه ، لمداومته على ذلك ، والله أعلم .
قال : وقام فأتى أيضاً بالحمد لله ، والثناء عليه ، والصلاة على النبي ، وقرأ ووعظ .
ش : قوله : قام . يعني يخطب خطبة ثانية ، ولا إشكال أن المذهب وجوب الثانية كالأولى ، لأن النبي كان يخطب خطبتين ، وفعله وقع بياناً لمجمل الذكر المأمور به في الآية الكريمة ، ولأن الخطبتين بدل الركعتين ، فليكونا واجبتين كهما . ( وقيل ) : عن أحمد ما يدل على أن الواجب خطبة واحدة ، ولا عمل عليه . ( ثم ) الثانية تشتمل على ما اشتملت عليه الأولى من الحمد ، والصلاة ، والقراءة ، لما تقدم ، وزاد الخرقي في الثانية الموعظة ، لحديث جابر بن سمرة : ويذكر الناس . ولأنه المقصود من الخطبة ، والمهتم به .
واعلم أن هذه الأربع من الحمد ، والصلاة ، والقراءة ، والموعظة ، أركان للخطبتين ، لا تصح واحدة من الخطبتين إلا بهن ، [ إلا أن القراءة لا تجب إلا في خطبة واحدة ، ومن الأصحاب من يشترط الإِتيان بلفظ الحمد ] ، وقد تقدمت الإِشارة إلى دليل ذلك ، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يجب إلا الحمد والموعظة .
وظاهر كلام الخرقي أن الموعظة لا تجيء إلا في الثانية ، وفي المذهب قويل : أن القراءة لا تجب إلا في خطبة ، ومن الأصحاب من يعين الأولى .
لما روى عن الشعبي أنه قال : كان النبي إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس ، وقال : ( السلام عليكم ) ويحمد الله ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس ، ثم يقول : فيخطب ، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه . رواه الأثرم . وظاهره أن القراءة في الأولى ، والموعظة في الثانية ، والأول المذهب ( ولا يشترط ) الإِتيان بلفظ الوصية ، بل إذا قال : أطيعوا الله . ونحو ذلك أجزأه ، ولهذا قال الخرقي : ووعظ . ( ويتشرط ) الإِتيان بلفظ الصلاة على رسول الله عند العامة ، وعند أبي البركات ، يكتفي بنحو : وأن محمداً عبده ورسوله . فالواجب عنده ذكر الرسول الله ، لا لفظ الصلاة ، اعتماداً على ظاهر حديث أبي هريرة في { ورفعنا لك ذكرك } .
والواجب في القراءة قراءة آية على المشهور ، وعنه يكتفى بقراءة بعض آية ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، ونظر أبو البركات إلى المعنى ، فاكتفى ببعض آية يحصل المقصود ، نحو { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ، ولتنظر نفس ما قدمت لغد } ولم
____________________
(1/270)
يكتف بآية لا تحصله ، نحو { والعاديات ضبحا } و { ثم عبس وبسر } ولا يعبر عن القراءة بغيرها ك { الحمد لله رب العالمين } في الصلاة ، نعم من لا يحسنها ، ولم يوجد غيره ، فهل يبدلها بفضل ذكر ، كما في الصلاة ، وكما يأتي ببقية الأركان بلغته ، أو تسقط عنه القراءة رأساً ، لحصول معناها من بقية الأركان ؟ فيه احتمالان . ويبدأ بالحمد ، ثم بذكر الرسول ، ثم بالموعظة ، ثم بالقراءة ، فإن نكس فوجهان ( ويشترط ) للخطبتين أيضاً تقديمهما على الصلاة ، اقتداء بفعل رسول الله ، وحضور العدد المعتبر للجمعة ، لسماع أركانهما ، لأنهما بدل الركعتين ، فإن فات السماع لنوم ، أو ضجة ، أو غفلة لم يؤثر ، وإن فات لبعدهم عنه ، أو لخفض صوته أثر ، وكان كما لو خطب وحده ، وإن فات لصمم بهم وهم بقربه ، ووراءه من لا يسمعه للبعد ، ولا صمم به فوجهان ، ويشترط لهما أيضاً الوقت ، لأنهما كبعض الصلاة ، ويشترط أيضاً الموالاة في الخطبة ، وبين الخطبتين ، وبينهما وبين الصلاة ، على الأصح ، بأن لا يفرق بينهما تفريقاً فاحشاً .
وهل يشترط النطق للخطبة ؟ فيه قولان ، أصحهما نعم ، فلو كانوا كلهم خرساً صلوا ظهراً ، والثاني : لا . فيخطب أحدهم بالإِشارة . ( وهل ) يشترط أن يكون المستخلف ممن شهد الخطبة ؟ فيه روايتان أصحهما لا ؛ هذا إن كان العدد تاماً بدون المستخلف الذي لم يشهد الخطبة ، أما إن لم يتم إلا به فإن التجميع لا يجوز لهم بحال .
وهل يشترط لهما الطهارة ؟ أما الطهارة الصغرى فلا تشترط ، على ما جزم به الأكثرون ، القاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وأبو البركات وغيرهم ، وحكى أبو محمد رواية بالاشتراط ، وأخذها من قول أبي الخطاب في الهداية : ومن سننهما الطهارة ، وأن يتولاهما من يتولى الصلاة ، وعنه أن ذلك من شرائطهما ، فرجع بالإِشارة إلى المسألتين وأما أبو البركات فرجع بالإِشارة إلى الثانية ، وجعل الأولى محل وفاق ، وهذا أولى ، توفيقاً بين كلام الأصحاب ، إذ لم نر أحداً حكى الخلاف في ذلك إلا صاحب التلخيص ، فإن كلامه ظاهر في حكاية قول بالاشتراط . ( وأما الطهارة الكبرى ) فمنصوص أحمد أيضاً في رواية صالح صحة الخطبة مع فقدها ، قال : إذا خطب بهم جنباً ، ثم اغتسل وصلى بهم ، أرجو أن تجزئه . وتبع إطلاق المنصوص الشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، وقيده القاضي في جامعه ، وفي تعليقه ، وصاحب التلخيص فيه : بأن يكون المنبر خارج المسجد ، لأن لبثه فيه معصية تناتفي العبادة ، وقال صاحب التلخيص ، وأبو محمد : لا تصح خطبته مطلقاً ، بناء على الصحيح في اعتبار الآية للخطبة ، ومنع الجنب منها ، وقال الشريف : إنه [ قياس ] قول الخرقي ، وكأنه أخذ ذلك من عدم اعتداده بأذان الجنب ، وأبو البركات خرج المنع من الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث حرمت القراءة ، أما لو اغتسل ثم قرأ الآية ، أو
____________________
(1/271)
نسي الجنابة ، فإن الخطبة تصح ، لعدم تحريم القراءة ، ولا أثر عنده للبث ، لأنه قد يتوضأ فيباح له ، وقد ينسى جنابته ، وحيث حرم عليه لا أثر له في شيء من واجبات العبادة ، فهو كما لو أذن جنباً في المسجد . والله أعلم .
قال : وإن أراد أن يدعو لإِنسان دعا .
ش : أي للسلطان ونحوه ، لأن صلاحه صلاح المسلمين ، ولأن الدعاء للمعين يجوز في الصلاة على الصحيح ، فكيف بالخطبة ، ولا يستحب ذلك ، لما فيه من مخالة السبب ، نعم دعاؤه للمسلمين مستحب .
849 لأن النبي دعى في خطبة الجمعة مستسقياً . ويستحب رفع اليد في الدعاء عند ابن عقيل ، لعموم مطلوبية رفع الأيدي في الدعاء ، وهو بدعة عند أبي البركات .
850 لما روى عمارة بن رؤيبة ، أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه ، فقال : قبح الله تينك اليدين ، لقد رأيت رسول الله ما كان يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بأصبعه المسبحة ، رواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي .
قال : وينزل .
ش : كذلك توارثه الخلف ، عن السلف ، عن رسول الله ، والمراد بثم هنا الترتيب ، وأن الصلاة تتأخر عن الخطبة ، وليس المراد التراخي ، بل الموالاة شرط كما تقدم ، وهل ينزل عند قول المؤذن : قد قامت الصلاة . أو يبادر بحيث يصل إلى المحراب عند قولها ؟ فيه احتمالان ، حكاهما في التلخيص .
قال : فيصلي بهم الجمعة ركعتين .
ش : هذا إجماع معلوم بالضرورة ، وقد قال عمر رضي الله عنه : صلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر .
قال : يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد ، وسورة .
ش : لا نزاع في ذلك ، وقد استفاضت السنة بذلك عن رسول الله والمستحب أن تكون السورة في الأولى الجمعة ، وفي الثانية المنافقين ، وعلى المشهور من الروايتين .
851 لما روى ابن عباس أن النبي كان يقرأ في الفجر [ يوم الجمعة ] 19 ( { آلم تنزيل } ) في الأولى ، وفي الثانية 19 ( { هل أتى على الإِنسان } ) وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين . رواه مسلم ،
____________________
(1/272)
وأبو داود ، والنسائي .
852 وعن أبي هريرة رضي الله عنه : سمعت رسول الله يقرأ بهما . مختصر ، رواه مسلم أيضاً وغيره . ( والرواية الثانية ) : يقرأ في الثانية ب 19 ( { سبح اسم ربك الأعلى } ) اختارها أبو بكر في التنبيه .
853 لما روى عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، قال : أخبرت عن ابن مسعود قال : كان النبي في صلاة الجمعة يقرأ بسورة الجمعة ، و 19 ( { سبح اسم ربك الأعلى } ) وفي صلاة الصبح يوم الجمعة 19 ( { الم تنزيل } ) و 19 ( { تبارك الذي بيده الملك } ) .
854 وقد جاء في الصحيح أن النبي قرأ في الأولى بالجمعة ، وفي الثانية بالغاشية .
855 وأنه قرأ في الأولى بسبح ، وفي الثانية بالغاشية .
856 وجاء في سنن سعيد أنه قرأ مع سورة الجمعة { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } والله أعلم .
قال : ويجهر بالقراءة .
ش : هذا أمر متوارث من رسول الله ، وإلى زماننا هذا ، والله أعلم .
قال : ومن أدرك معه منها ركعة يسجد فيها أضاف إليها أخرى ، وكانت له جمعة .
857 ش : لعموم قوله : ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ) .
858 ويؤيده ما روى النسائي عن ابن عمر قال : قال النبي : ( من أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت صلاته ) .
859 وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي [ قال ] : ( من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك ) رواه النسائي أيضاً .
قال : ومن أدرك معه أقل من ذلك بنى على ظهر ، إذا كان قد دخل بنية الظهر .
ش : إذا أدرك مع الإِمام أقل من ركعة بسجدتيها فله صورتان ( إحداهما ) أن يدرك معه مالا يعتد له به ، كما إذا أدركهم في التشهد ، أو بعد الركوع في الثانية ، والمذهب المعروف هنا أن الجمعة لا تحل له .
860 لما روي عن النبي أنه قال : ( من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى ، ومن أدركهم جلوساً صلى الظهر أربعاً ) ، رواه الدارقطني وغيره من طرق
____________________
(1/273)
فيها مقال ، إلا أن أحمد ، قال : لولا الحديث الذي يروى في الجمعة ، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوساً . وظاهر هذا أنه يعتمد عليه .
861 ولأن هذا قول الصحابة ، حكاه أبو بكر عنهم في التنبيه إجماعاً ، وقال مهنا : قلت لأحمد : إذا أدركت التشهد مع الإِمام يوم الجمعة كم أصلي ؟ قال : أربعا ، كذلك قال ابن مسعود ، وكذلك فعل أصحاب رسول الله .
وحكى بعضهم رواية عن أحمد أن الجمعة تدرك ولو بتكبيرة ، كبقية الصلوات .
862 ولعموم ( ما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) ومنع بعض الأصحاب من صحة الصلاة مع الإِمام والحال هذه رأساً ، لأن الجمعة فاتته ، والظهر لا تصح خلف من يؤدي الجمعة لاحتلاف النيتين ، والمذهب الأول ، وعليه إذا لم تصح له جمعة فتصح له ظهراً ، ولكن برط أن ينويه بإحرامه ، على قول الخرقي ، فلو نوى جمعة لم تصح ، وهو ظاهر كلام أحمد ، لأنه قال : يصلي الظهر أربعاً ، واختيار أبي البركات ، وذلك لظاهر قوله : ( ومن أدركهم جلوساً صلى الظهر أربعاً ) ولأنه إن نوى جمعة فما هي فرضه ، فقد ترك فرضه ، ونوى غيره ، فأشبه من عليه الظهر فنوى العصر ، وقال أبو إسحاق ابن شاقلا وزعم القاضي في التعليق في موضع أنه المذهب ينوي جمعة ، ويبني على ظهر لئلا تخالف نيته نية إمامه ، وقيل : إن مبنى الوجهين أن الجمعة هل هي ظهر مقصورة ، أم صلاة على حيالها ؟ فيه وجهان ذكرهما ابن شاقلا ، وعلى الوجهين شرط صحة الظهر إحرامه بعد الزوال ، فإن كانت قبلة كانت نفلا ، ولم يجزئه جمعة لفواتها ، ولا ظهراً لفوات شرطها وهو الوقت .
والصورة الثانية أن يدرك معه ما يعتد به ، كمن أدرك الركوع في الثانية ، وزحم عن السجود ، أو أدرك القيام ، وزحم عن الركوع والسجود ، أو سبقه الحدث ففاته ذلك بالوضوء وقلنا : يبني حتى سلم الإِمام . ففيه روايات ( إحداها ) يتمها جمعة ، ( اختارها ) الخلال ، لأنه أدرك ما يعتد به ، أشبه مدرك الجمعة ( والثانية ) : لا يدرك الجمعة . وهي اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى ، [ والقاضي ، واظهر قول ابن أبي موسى ] وأبي الخطاب ، لما تقدم في الصورة الأولى من النص والإِجماع . ( والرواية الثالثة ) : إن أدرك الركوع ، وزحم عن السجود ، أو نسيه أتمها جمعة ، وإن فاته الركوع والسجود لم يصل جمعة ، لأنه فاته معظم الركعة .
وحيث قيل : لا يصلي جمعة . فهل يصلي ظهراً ، أو يستأنف ؟ يبنى على الخلاف ، واختيار [ الخرقي ] وأبي البركات عدم البناء ، لأن شرط البناء الدخول بنية الظهر ، وقد فات ذلك ، وعلى قول بأنه لا يدرك الجمعة لو أدرك السجدتين في التشهد قبل سلام الإِمام فقد تمت ركعته ، وأدرك بها الجمعة على رواية صححها أبو البركات ،
____________________
(1/274)
وعلى أخرى لا ، ومبناهما الإِدراك الفعلي هل هو كالحكمي ؟ والله أعلم .
قال : ومتى دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أتموا بركعة أخرى ، وأجزأتهم جمعة .
ش : آخر وقت الجمعة آخر وقت الظهر بالاتفاق فإذا خرج وقت الظهر وقد أحرمواب بالجمعة أتموها جمعة ، وأجزأتهم عند جمهور الأصحاب ، أبي بكر ، وابن أبي موسى ، وابن حامد ، والقاضي وأصحابه ، حتى أن أبا البركات حكاه عن ما عدى الخرقي ، لأنها صلاة مؤقتة ، فلا يمنع خروج وقتها إتمامها ، كبقية الصلوات .
وظاهر كلام الخرقى أنهم إن أدركوا ركعة أتموها جمعة ، وإن أدركوا أقل من ذلك فلا ، وبه قطع أبو محمد في المقنع ، لمفهوم قوله : ( من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك ) ( ومن أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت جمعته ) وعلى هذا إذا لم يصلوا ركعة فهل يتمون ظهراً ، أو يستأنفون ظهراً ؟ على وجهين سبقا .
وليس عن أحمد في المسألة نص إلا فيما قبل السلام ، فإنه قال في رواية صالح وعبد الله : إذا صلى الإِمام الجمعة فلما تشهد قبل أن يسلم دخل وقت العصر ، فإنه تجزئه صلاته . فأخذ أبو محمد من هذا أن ظاهر كلام أحمد أن الوقت يشترط لجميع الصلاة لا السلام وأن الوقت إن خرج قبل ذلك صلوا أن استأنفوا ، ولم يعرج أحد من الأصحاب فيما علمت على ذلك ، ودعوى أبي محمد أن هذا ظاهر النص يتنازع فيه ، فإن ظاهره أنه وقع جواب سؤال كما هو دأب أحمد ، وإذاً فلا مفهوم له اتفاقاً ، وإن لم يكن جواب سؤال فقد يسلم الظاهر بناء على المفهوم ، وقد ينازع فيه ، والله أعلم .
قال : ومن دخل والإِمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما .
863 ش : في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال : جاء رجل والنبي يخطب الناس يوم الجمعة ، فقال : ( صليت يا فلان ) ؟ قال : لا . قال : ( قم فاركع ركعتين ) وفي رواية أبي داود قال له : ( يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما ) ثم قال : ( إذا جاء أحدكم والإِمام يخطب فليركع ركعتين ، وليتجوز فيهما ) ويقتصر من عليه فائتة عليها ، وكذلك من لم يصل سنة الجمعة ، إن قيل لها سنة ، لأن الصلاة تحصل بكل صلاة يصليها ، ولو كانت الجمعة في غير مسجد كدار وصحراء لم يصل شيئاً ، على ظاهر كلام الأصحاب ، لأن الركعتين تحية المسجد ، وقد عدم سببهما .
وقد أشعر كلام الخرقي بمنع الصلاة في حال الخطبة ، وهو كذلك ، ينقطع النفل المبتدأ بجلوس الإِمام على المنبر .
864 لما روى نبيشة أن رسول الله قال : ( إن المسلم إذا اغتسل يوم
____________________
(1/275)
الجمعة ، ثم أقبل إلى المسجد ، لا يؤذي أحداً ، فإن لم يجد الإِمام قد خرج [ صلى ما بدا له ، وإن وجد الإِمام قد خرج ] جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإِمام جمعته وكلامه ، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها ) رواه أحمد .
865 وعن عمر : 16 ( خروج الإِمام يقطع الصلاة ، وكلامه يقطع الكلام ) . ويستوي في المنع من النفل من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها على الصحيح لما تقدم .
866 وعن ثعلبة بن أبي مالك 16 ( القرظي أنهم كانوا في زمن عمر يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر ، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر ، وأذن المؤذنون ، جلسنا نتحدث ، حتى إذا سكت المؤذن ، وقام عمر سكتوا ، فلم يتكلم أحد ) . رواه مالك في الموطأ . وقال ابن عقيل : يتطوع الذي لا يسمع بما شاء ، معللًا بأن المنع كان لأجل السماع وقد انتفى . والله أعلم .
قال : وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلًا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة ، وإن صلوا أعادوها ظهراً .
ش : يشترط لصحة الجمعة وانعقادها حضور أربعين رجلًا ، حراً [ مكلفاً ] ، مستوطناً ، مقيماً ، في المشهور من الروايات ، قال ابن الزاغوني : اختاره عامة المشايخ .
867 لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره عن أبيه كعب ، 16 ( أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة ، )6 ( قال : فقال له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة ؟ قال : لأنه أول من جمع بنا ، في هزم النبيت من حرة بني بياضة ، في بقيع يقال له نقيع الخضمات . قلت : كم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعون رجلًا ) رواه أبو داود .
868 وقال أحمد في رواية 16 ( الأثرم : بعث النبي مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين ، وكانت أول جمعة جمعت ) ، ويقال : إن هذه الجمعة هي المنسوبة إلى أسعد بن زرارة ، وهذا صريح في انعقاد الجمعة بأربعين ، فاقتصرنا عليه ، إذ التجمع تغيير فرض ، فلا يصار إليه إلا بنص أو اتفاق ، ولم يثبت ذلك .
869 وقد روى عن جابر قال : مضت السنة أن في كل [ أربعين ] فما فوق [ ذلك ] جمعة ، وأضحى ، وفطرا . رواه الدارقطني لكنه ضعيف ( والرواية الثانية ) لا تنعقد إلا بخمسين .
____________________
(1/276)
870 لما روى عن أبي أمامة أن النبي قال : ( على الخمسين جمعة ، وليس فيما دون ذلك ) رواه الدارقطني .
( والرواية الثالثة ) : تنعقد بثلاثة . لإِطلاق 19 ( { فاسعوا إلى ذكر الله } ) { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } وهذا جمع ، وأقله ثلاثة . ( والرواية الرابعة ) تنعقد بسبعة ، حكاها ابن حامد ، وعلى جميع الروايات هل يشترط كون الإِمام زائداً على العدد المعتبر ؟ فيه روايتان ، أصحهما : لا .
إذا تقرر هذا فمتى كان في القرية دون العدد المعتبر فإن الجمعة لا تجب عليهم ، لفقد الشرط ، ومتى صلوا جمعة أعادوا ظهراً ، لأنه الواجب عليهم ، لا ما فعلوه .
وقد أشعر كلام الخرقي بجواز إقامة الجمعة في القرى ، وأنه يشترط لها المصر ، وهو كذلك لما تقدم من حديث أسعد ابن زرارة ، ولأجل هذا الحديث جوز أصحابنا إقامتها فيما قارب البنيان من الصحراء ، [ والله أعلم ] .
قال : وإذا كان البلد كبيراً يحتاج إلى جوامع ، فصلاة الجمعة في حميعها جائزة .
ش : لا خلاف في المذهب أنه لا يجوز إقامة جمعتين في بلد من غير حاجة ، لأنه خلاف فعل رسول الله ، وأصحابه من بعده ، واختلف هل يجوز مع الحاجة ، كما إذا كان البلد كبيراً ، يشق على أهله التجميع في مكان واحد ، أو لا يسعهم جامع واحد ، أو يخشى من الإِقامة بمكان واحد فتنة ونحو ذلك ، فعنه : لا يجوز لما تقدم ، قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله : هل علمت أن أحداً جمع جمعتين في مصر واحد ؟ قال : لا أعلم أحداً فعله . ( وعنه ) وهو المشهور ، واختيار الأصحاب يجوز قياساً على العيد ، بجامع مشروعية الاجتماع لهما ، والخطبة .
871 ودليل الأصل ما حكاه الإِمام أحمد عن علي رضي الله عنه ، 16 ( أنه كان يأمر رجلًا يصلي بضعفة الناس في المسجد صلاة العيد ، ويخرج هو إلى الجبانة ) ولأن منع ذلك يفضي إلى منع خلق كثير من التجميع ، وهو خلاف مقصود الشارع .
872 ولأن صلاة الجمعة في الخوف جائزة على الصفة التي صلاها رسول الله بذات الرقاع ، إذا كمال العدد في كل طائفة ، والطائفة الثانية قد استفتحت الصلاة بعدما صلاها غيرهم ، وجواز ذلك كان لحاجة عارضة ، فمع الحاجة الدائمة أولى ، [ والله أعلم ] .
قال : ولا تجب الجمعة على مسافر ، ولا امرأة ، ولا عبد ، وإن حضروها أجزأتهم ، وعن أبي عبد الله رحمه الله في العبد روايتان ، إحداهما أن الجمعة واجبة عليه ، والأخرى ليست بواجبة عليه .
____________________
(1/277)
ش : اعلم أن لوجوب الجمعة شروطاً ، ثم من تجب عليه تارة [ تجب عليه ] بنفسه وتارة تجب عليه بغيره ، فمن تجب عليه بنفسه يشترط له شروط . ( أحدها ) أن يكون ممن يكلف بالمكتوبة ، وهو المسلم ، العاقل ، البالغ ، فلا تجب على كافر ، ولا مجنون ، ولا صبي ، وفي كلام الخرقي ما يدل على ذلك حيث قال : وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلًا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة . ذلك لأنها صلاة مكتوبة ، أشبهت بقية المكتوبات . وهل تلزم الجمعة ابن عشر إن قلنا : تجب عليه المكتوبة ؟ فيه وجهان ، أصحهما : لا .
873 لأن في النسائي عن حفصة أن النبي قال : ( رواح الجمعة واجب على كل محتلم ) ( الشرط الثاني ) الذكورية فلا تجب على امرأة ، وقد صرح به الخرقي هنا .
874 لما روى طارق بن شهاب أن النبي قال : ( الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة ، إلا أربعة ، عبد مملوك ، أو امرأة أو صبي أو مريض ) رواه أبو داود ، وقال : طارق رأى النبي ولم يسمع منه . وقال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن لا جمعة على النساء ، ولا تجب على خنثى مشكل ، لأن ذكوريته لم تتحقق .
الشرط الثالث : الحرية فلا تجب على عبد ، في أشهر الروايات وأصحهما عند الأصحاب .
875 لما تقدم من حديث طارق ، وروي نحوه من حديث جابر ، رواه الدارقطني ( والرواية الثانية ) تجب عليه ، لدخوله في الآية الكريمة ، لأنه من الذين آمنوا ، ( والرواية الثالثة ) إن أذن له سيده وجبت عليه ، وإلا فلا تجب عليه ، لأن المنع ملحوظ فيه كونه لحق السيد ، لاشتغاله بالخدمة ، فإذا أذن له زال المانع ، والمكاتب والمدبر كالقن ، وكذلك المعتق بعضه ، لتعلق حق المالك بباقيه ، وقيل : تلزمه الجمعة في يوم نوبته إن كان ثم مهايأة ، تغليباً لجانب العبادة ، ويحتمل هذا كلام الخرقي ، لأنه إنما نفى الوجوب عن العبد .
( الشرط الرابع ) : الإِقامة ، فلا تجب على مسافر ، لأن النبي وافى عرفة يوم جمعة ، فجمع بين الظهر والعصر ، ولم يجمّع ، ومعه الخلق الكثير ، ولم يزل هو وخلفاؤه يسافرون للنسك والجهاد ، ولم يصلوا في أسفارهم جمعة ، وكما لا يلزم المسافر جمعة بنفسه ، فكذلك بغيره ، نص عليه .
876 لما روى عن جابر أن النبي قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
____________________
(1/278)
فعليه الجمعة يوم الجمعة ، إلا مريض أو مسافر ، أو امرأة ، أو صبي ، أو مملوك ) رواه الدارقطني .
( الشرط الخامس ) : الاستيطان . فلا جمعة على أهل قرية يسكنونها شتاء ، ويظعنون عنها صيفاً ، وكذلك بالعكس ، وكذلك المقيم إقامة تمنع القصر ، لتجارة ، أو علم ، لا جمعة عليه إن لم يكن أهل البلد ممن تلزمهم الجمعة ، لعدم الاستيطان ، وكذلك المسافر إلى بلد دون مسافة القصر ، وأهله ليسوا من أهل الجمعة .
877 لأن النبي كان بعرفة يوم الجمعة ومعه خلق كثير من أهل مكة ، ولم يأمرهم بجمعة ، وهذا الشرط أهمله الخرقي . ( الشرط السادس ) الوطن وهي القرية المبنية مما جرت العادة به ، من حجر ، أو قصب ، أو خشب ، فلا جمعة على أهل الحلل والخيام ، لأن المدينة كان حولها حلل [ وخيام ] وأبيات من العرب ، ولم ينقل أنهم أقاموا جمعة ، ولا أن النبي أمرهم بذلك . ( الشرط السابع ) إذا بلغوا أربعين ، وقد تقدم هذا الشرط والكلام عليه ( فالتكليف ) شرط للوجوب [ والصحة ، إلا البلوغ فإنه شرط للوجوب ] والإنعقاد ، [ ( والذكورية ) شرط للوجب والإِنعقاد ] وكذلك الحرية والإِقامة ، فالمسافر والعبد والمرأة لا تجب عليهم الجمعة ، ولا تنعقد بهم ، ولا تصح إمامتهم فيها ، وتصح منهم إجماعاً ، لأن السقوط عنهم رخصة ، وأما الاستيطان ، والوطن والعدد فشروط أيضاً للانعقاد والوجوب [ على المكلف ] بنفسه .
وقد تجب عليه بغيره ، وهو ما إذا سمع النداء كأهل الحلل ، والخيام ، والقرية التي فيها دون العدد المعتبر ، أو التي يرتحل عنها أهلها بعض السنة ، فهؤلاء إذا كانوا من البلد الذي يجمع فيه بحيث يسمعون النداء لزمهم السعي إلى الجمعة ، نص عليه أحمد رحمه الله ، ولا تنعقد بهم الجمعة ، وهل تصح إمامتهم ؟ فيه احتمالان ، فالصحة للزوم الجمعة له ، وعدمها لعدم انعقادها به ، وحكم فاقد الاستيطان كالمقيم في مصر لعلم ، أو شغل ونحو ذلك كذلك على أصح الوجهين ، وقيل : لا تجب [ عليه ] أصلًا ، لأنه عن وطنه على مسافة تمنع النداء ، أشبه المسافر ، وإنما اعتبرنا سماع النداء لعموم قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا } ) الآية .
878 مع ما روى عبد الله بن عمرو عن النبي أنه قال : ( الجمعة على من سمع النداء ) رواه أبو داود والدارقطني ، وفي لفظ للدارقطني ( إنما الجمعة على
____________________
(1/279)
من سمع النداء ) وإذا عدم سماع النداء انتفى وجوب الجمعة بنفسه وبغيره ، لكنهم إذا حضروها صحت منهم ، أما إن أقاموها بأنفسهم فلا تصح منهم ، وقد تقدم ذلك للخرقي في دون الأربعين ، والمعتبر في حق من تلزمه بسماع النداء أن يكون بمكان يسمع منه النداء غالباً إذا كان المؤذن صيتاً ، والرياح ساكنة ، والأصوات هادئة والموانع زائلة ، إذ اعتبار حقيقة السماع لا تمكن ، لاختلافه باختلاف حال المنادي ، والسامع ، ومكانهما ، ثم إن أحمد في رواية الأثرم اعتبر سماع النداء وأطلق ، وفي رواية صالح ، وإسحاق بن إبراهيم قيده بالفرسخ ، فاختلف أصحابه فمنهم من لم يقدر النداء بحد على ظاهر رواية الأثرم ، وجعل التحديد بالفرسخ رواية أخرى ، فتكون [ المسألة ] على روايتين ، ومنهم من حده بالفرسخ قال : لأنه الذي ينتهي إليه النداء غالباً ، وهو ظاهر كلام الإِمام [ أحمد ] في رواية صالح ، قال : تجب الجمعة على من يبلغه الصوت ، والصوت يبلغ الفرسخ ، فعلى هذا تكون المسألة رواية واحدة ، وأبو الخطاب جعل كل واحدة من سماع النداء ومسافة الفرسخ فما دونهما موجباً ، فقال : يسمع النداء أو بينه وبين موضع تقام فيه الجمعة فرسخ ، فجعل أيضاً المسألة رواية واحدة ، إعمالًا لنصيه جميعاً .
واعلم أن الجمعة إذا وجبت قد تسقط بأعذار ، كالمرض الشديد ، والمطر الذي يبل الثياب وغير ذلك مما يبلغ نحو عشرة أشياء ، وليس هذا محل بيانها ، فيسقط الوجوب إذاً ، ومتى حضرت والحال هذه وجبت ، وانعقدت بمن حضر ، وصحت إمامته فيها ، والله أعلم .
قال : ومن صلى الظهر يوم الجمعة ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإِمام ، أعادها بعد صلاته ظهراً .
ش : لأنه صلى الظهر قبل وجوبها عليه ، أشبه من صلاها قبل الزوال ، ودليل الوصف أن فرض الوقت عندنا هو الجمعة ، وإنما الظهر بدل عنه عند التعذر ، بدليل الأمر بالسعي في الآية الكريمة .
879 وقول النبي ( إن الله افترض عليكم الجمعة ) .
وقوله : ( الجمعة حق واجب على كل مسلم ) ولأنه بفعل الجمعة يكون طائعاً مثاباً ، فدل على أنها الأصل ، وبتركها إلى الظهر من غير عذر يكون عاصياً بالإِجماع .
وقول الخرقي : قبل صلاة الإِمام . أي قبل فراغ الإِمام من صلاته ، كذا صرح به غيره . وقوله : أعادها بعد صلاته ظهراً . هذا إذا تعذر عليه التجميع ، أما إن أمكنه فيلزمه ، لأن ذلك فرضه .
وقد أفهم كلام الخرقي شيئين . ( أحدهما ) أن من صلى الظهر ممن عليه حضور
____________________
(1/280)
الجمعة بعد صلاة الإِمام أن صلاته تصح ، ولا إشكال في ذلك ، لتعذر التجميع ، وهذا بشرطه وهو أن يدخل وقت الظهر . ( الثاني ) : أن من لا حضور عليه كالمسافر ، والعبد والمرأة ، ومن له عذر ، ونحوهم من لا حضور عليه ، إذا صلى الظهر قبل صلاة الإِمام أن صلاتهم تصح ، ولا تلزمهم الإِعادة ، وهذا هو المذهب المنصوص ، المختار للأصحاب ، لأنه لا يلزمه الجمعة ، أشبه الخارج من المصر ، حيث لا يسمع النداء ، ودليل الوصف قول النبي ( الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة ) الحديث ، وذهب أبو بكر [ إلى ] أن صلاتهم لا تصح قبل الإِمام بحال ، كمن تجب عليه الجمعة ، لاحتمال زوال العذر ، وحكى ذلك ابن عقيل ، وابن الزاغوني رواية ، وينتقض التعليل [ بالمرأة ] وعلله ابن عقيل بخشية اعتقاد أفتياتهم على الإِمام ، أو كونهم لا يرون صلاة الجمعة ، وهو أيضاً منتف غالباً في حق المرأة ، ثم إن مثل ذلك لا يعطي المنع الجازم ، والله أعلم .
قال : ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل .
ش : لا إشكال في مطلوبية غسل الجمعة واستحبابه .
880 لما روى أبو سعيد رضي الله عنه أن النبي قال : ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم ، والسواك ، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه ) .
881 وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده ) متفق عليهما .
882 وعن حفصة أن النبي قال : ( على كل محتلم رواح الجمعة ، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل ) رواه أبو داود وهل يجب ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) يجب . اختارها أبو بكر ، لهذه الأحاديث ، لكن لا يشترط لصحة الصلاة اتفاقاً ، ( والثانية ) : لا يجب . وهي اختيار الخرقي ، وجمهور الأصحاب .
883 لما روى سمرة بن جندب عن النبي قال : ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه .
884 وعن ابن عمر 16 ( أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة ، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين ، فناداه عمر : أية ساعة هذه ؟ فقال : إني شغلت ، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين ، فلم أزد على أن توضأت . قال : والوضوء أيضاً ) ، وقد علمت أن النبي كان يأمر بالغسل . متفق عليه .
____________________
(1/281)
885 وهذا الرجل هو عثمان رضي الله عنه ، كذا في مسلم وهذا كالإِجماع من الصحابة على أن الغسل غير واجب ، لأن عثمان تركه ، ولم يعدله ، وقد أقره عمر وغيره من الصحابة على ذلك ، وإنكار عمر على ترك السنة ، كما أنكر عليه عدم التبكير ، وقوله : ( غسل الجمعة واجب ) محمول على تأكيد الاستحباب ، كما يقال : حقك عليّ واجب . جمعا بين الأدلة ، ويرشحه اقترانه بالسواك والطيب ، وهما غير واجبين إجماعاً .
وقول الخرقي : يستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل . يخرج منه من لم يأتها ممن لا تجب عليه كالمسافر ، والعبد ، وغيرهما ، فإنه لا يستحب له الاغتسال ، ونص عليه أحمد ، لحديث حفصة ،
886 وفي الصحيح ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل ) .
ويدخل في كلامه من أتى الجمعة [ وإن ] لم تجب عليه ، كالمسافر ونحوه ، فإن الغسل مستحب [ له ] لما تقدم ، إلا المرأة على ظاهر كلام أحمد .
887 لقول النبي ( وليخرجن تفلات ) .
ومقتضى كلام الخرقي أن الغسل لأجل الجمعة ، فيختص الغسل بما قبلها ، ولا نزاع عندنا في ذلك ، وأول الوقت من طلوع الفجر يومئذ ، والمستحب عند الرواح ، والله أعلم .
قال : ويلبس ثوبين نظيفين .
888 ش : لما روى عبد الله بن سلام أنه سمع النبي يقول على المنبر في يوم الجمعة ( ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة ، سوى ثوبي مهنته ) رواه أبو داود وابن ماجه .
889 وعن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن النبي كان يعتم ويلبس برده الأحمر في العيدين ، والجمعة ، رواه أحمد في مسائل ابنه صالح .
قال : ويتطيب .
ش : لما تقدم من حديث أبي سعيد وغيره ، والله أعلم .
قال : وإن صلوا الجمعة قبل الززوال في الساعة السادسة أجزأتهم .
ش : المذهب المعروف المنصوص أنه يجوز فعل الجمعة قبل الزوال .
890 لما روى جابر بن عبد الله أن النبي كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى
____________________
(1/282)
جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس ، يعني النواضح .
891 وعن سهل بن سعد الساعدي قال : 16 ( ما كنا نقيل زلا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله ) . رواهما أحمد ومسلم قال ابن قتيبة : لا يسمى قائلة ولا غداء إلا ما كان قبل الزوال . لإِجماع الصحابة .
892 فروى عبد الله بن سيدان السلمي قال : 16 ( شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول : انتصف النهار ، ثم شهدتها مع عثمان بن عفان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول : زال النهار . فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره ) . رواه الدارقطني وأحمد محتجاً به .
893 وعن ابن مسعود 16 ( أنه كان يصلي الجمعة ضحى ويقول : إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم ) . رواه أحمد .
894 وعن معاوية نحوه ، رواه سعيد ، وقال أحمد : روي عن ابن مسعود ، وجابر ، وسعد ، ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال ، وإذا صلى هؤلاء مع من يحضرهم من الصحابة ولم ينكر فهو إجماع ، وما روي من الفعل بعد الزوال لا ينافي هذا ، لأن سائر المسلمين لا يمنعون ذلك بعد الزوال . ( وعن أحمد ) رواية أخرى حكاها أبو الحسين عن والده : لا يجوز قبل الزوال .
895 لما روى سلمة بن الأكوع قال : كنا نصلي مع رسول الله الجمعة إذا زالت الشمس ، ثم نزجع فنتتبع الفي . متفق عليه .
896 وعن أنس : كنا نصلي مع رسول الله الجمعة حين تميل الشمس . رواه البخاري وغيره ، ولأنها ظهر مقصورة ، فكان وقتها كالمقصورة في السفر . والأول المذهب ، والأحاديث قد تقدم الجواب عنها ، وكونها ظهراً مقصورة لنا فيه منع ، وإن سلم لا يمنع افتراقها هنا كما افترقا في كثير من الشروط .
وعلى هذا فهل يختص فعلها بما يقارب الزوال ، أو يجوز فعلها في وقت صلاة العيد ؟ فيه قولان ، ( والأول ) : اختيار الخرقي وأبي محمد ، لأن الثابت من فعل رسول الله الصلاة قبل الزوال قريباً [ منه ] ، فاقتصرنا عليه ، واختلفت نسخ الخرقي ، ففي بعضها : الخامسة ، وكذلك حكاه عنه أبو إسحاق بن شاقلًا ، وأبو الخطاب ، وفي أكثرها ( السادسة ) وهو الذي صححه القاضي ، وأبو البركات ، لأنه المتيقن ، وغيره مشكوك فيه ( والثاني ) : منصوص أحمد ، واختيار عامة الأصحاب ، لأن ابن مسعود ، ومعاوية صلياها ضحى كما تقدم .
____________________
(1/283)
897 16 ( وفعلها ابن الزبير في وقت العيد ، وصوبه ابن عباس وأبو هريرة ) ، ولأنها صلاة عيد ، فجازت قبل الزوال كبقية الأعياد .
898 ويدل على الوصف قول النبي : ( قد اجتمع في يومكم هذا عيدان ) الحديث انتهى ، وهل من قبل الزوال وقت لوجوبها ؟ فيه روايتان إحداهما : نعم ، والثانية : لا ، وإنما وقت الوجوب الزوال ، وهذا اختيار الأصحاب لعموم 19 ( { أقم الصلاة لدلوك الشمس } ) والتقديم [ ثم ] ثبت رخصة بالسنة والآثار ، والله أعلم .
قال : وتجب الجمعة على من بينه وبين الجامع فرسخ والله أعلم .
ش : قد تقدمت هذه المسألة والخلاف في تحديد الوجوب هل هو بالفرسخ ، أو بسماع النداء ، وأن هؤلاء هم الذين تجب الجمعة عليهم بغيرهم ، لا بأْنفسهم ، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أن الفرسخ أو سماع النداء يعتبر من الجامع ، لأن السعي الذي تختلف المشقة باختلافه إليه ينتهي ، وظاهر كلام أحمد وهو الذي صححه أبو البركات أنه معتبر من طرف البلد .
899 لما يروى عن النبي أنه قال : ( هل عسى أحدكم أن يتخذ الغنم على رأس ميل ، أو ميلين ، أو ثلاثة من المدينة ، فتأتي الجمعة فلا يجمع ، فيطبع الله على قلبه ، فيكون من الغافلين ) رواه أبو بكر النجاد ، وفي ابن ماجه نحوه ولأن طرف البلد قد يكون عن الجامع أكثر من فرسخ ، أو بحيث لا يسمع النداء ، فيفضي اعتبارهما إلى سقوط الجمعة عن قرب من المصر ، وهو ممتنع ، والله أعلم .
( باب صلاة العيدين )
ش : سمي العيد عيداً لأنه يعود ويتكرر لأوقاته ، وقيل : لأنه يعود بالفرح والسرور ، وقيل : تفاؤلًا بعوده ، كما سميت القافلة قافلة في ابتداء خروجها ، وتفاؤلًا بقفولها سالمة أي رجوعها ، والأصل في مشروعيتها ، الإِجماع ، وما تواتر من أن النبي وخلفاءه صلوها .
900 وقد قيل في قوله الله تعالى : 19 ( { فصل لربك وانحر } ) أن المراد صلاة العيد ، واختلف عن أحمد في حكمها ، فعنه أنها فرض عين ، ( وعنه ) سنة ، ( وعنه ) وهي المذهب : فرض كفاية ، كصلاة الجنازة ، والجهاد قال : ويظهرون التكبير في ليالي العيدين ، وهو في الفطر آكد ، لقول الله تعالى : 19 ( { ولتكملوا العدة ، والتكبروا الله على ما هداكم ، ولعلكم تشكرون } ) .
ش : يسن التكبير في ليالي العيدين ، لأن ابن عمر كبر فيهما .
____________________
(1/284)
901 قال أحمد : كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعاً ، ويعجبنا ذلك ، وهو في الفطر آكد ، للآية الكريمة .
902 وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره : 16 ( هو تكبيرات ليلة الفطر ) ويسن إظهار التكبير ، أي رفع الصوت به ، إظهاراً للشعار وتنبيها للغافل .
903 وكان عمر 16 ( يكبر في قبته بمنى ، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ، ويكبر أهل الأسواق ، حتى ترتج منى تكبيراً ) .
وظاهر كلام الخرقي أن التكبير لا يتقيد بأوقات الصلوات ، بل يكبرون في ليالي العيدين مطلقاً ، وهو كذلك والله أعلم .
قال : فإذا أصبحوا تطهورا .
ش : دل هذا على شيئين ( أحدهما ) : أنه يسن التطهير أي الاغتسال للعيدين ، لأنه يوم عيد يجتمع الناس فيه ، فسن الغسل فيه كيوم الجمعة .
904 وقد روى الفاكه بن سعد وكانت له صحبة أن النبي كان يغتسل يوم الجمعة ، ويوم عرفة ، ويوم الفطر ، ويوم النحر ، وكان الفاكه بن سعد 16 ( يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام ) ، رواه عبد الله بن أحمد في المسند ، وابن ماجه ، ولم يذكر الجمعة ، ( الثاني ) : أو وقت الغسل بعد الفجر ، وهو قول القاضي وغيره ، وظاهر الحديث ، إذ اليوم إنما يدخل بذلك ، وجوزه ابن عقيل بعد نصف ليلته ، نظراً إلى [ أن ] المقصود التنظيف وهو حاصل بذلك ، ولأنه وقت ضيق ، فلو تقيد الاغتسال بالفجر لفات غالباً ، بخلاف الجمعة فإن وقتها متسع .
قال : وأكلوا إن كان فطراً .
ش : قد تضمن منطوق كلام المصنف الأكل في الفطر ، ومفهومه الإِمساك في الأضحى .
905 والأصل في ذلك ما روى بريدة رضي الله عنه قال : كان رسول الله لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل ، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع . رواه الترمذي ، وابن ماجه والإِمام أحمد وزاد : فيأكل من أضحيته .
906 وعن أنس قال : كان النبي لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ، ويأكلهن وترا . رواه البخاري وليأت بالمأمور به في عيد الفطر [ حسا ] ، وإن وجد شرعاً ، وليفطر على أضحيته في الأضحى ، وقد اقتضى ما تقدم أنه لا يسن له التأخير في الأضحى إلا إذا كانت له أضحية ، ونص عليه أحمد ، والله أعلم .
____________________
(1/285)
قال : ثم غدوا إلى المصلى ، مظهرين التكبير .
ش : السنة فعل العيد في المصلى .
907 لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى . ولم ينقل عنه أنه صلاهما في المسجد لغير عذر ، وكذلك خلفاؤه ، من بعده ، وقد اشتهر عن علي رضي الله عنه 16 ( أنه استخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد ) .
908 وفي أبي داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أصابهم مطر في يوم عيد ، فصلى بهم النبي صلاة العيد في المسجد .
909 وقد ذكر أحمد في رواية أبي طالب عن مخنف بن سليم رضي الله عنه أنه قال : 16 ( الخروج إلى المصلى يوم الأضحى يعد حجة ، ويم الفطر يعدل عمرة ) .
ويسن التكبير روإظهاره في الرواح إلى المصلى .
910 لما روى ابن عمر أن النبي كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى ، رواه الدراقطني .
911 وعن ابن عمر أنه 16 ( كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير ، حتى يأتي المصلى ، ثم يكبر حتى يأتي الإِمام ) ، رواه الدارقطني .
912 وروي التكبير في العيد عن علي ، وأبي قتادة رضي الله عنهما .
وينتهي التكبير بالوصول إلى المصلى في رواية ، وفي أخرى بخروج الإِمام إلى الصلاة ، وفي ثالثة وهي اختيار القاضي وأصحابه بفراغ الخطبة ، والله أعلم .
قال : وإذا حلت الصلاة تقدم الإِمام فصلى بهم ركعتين .
ش : يحتمل أن اللام في الصلاة للعهد ، و ( حلت ) من الحلول أي إذا حلت صلاة العيد ، أي جاء ودخل وقتها .
ويحتمل أن اللام للجنس ، أي جنس الصلاة النافلة ، و ( حل ) من الحل وهو الإِباحة ، كقوله تعالى : 19 ( { ويحل لهم الطيبات } ) أي إذا أبيحت صلاة النافلة ، وهو إذا ارتفعت الشمس قيد رمح كما تقدم ، وهذا أجود ، لتضمنه معرفة أول وقت الصلاة ، وهو كما قلنا إذا خرج وقت [ النهي ] .
913 لما روى يزيد بن خمير الرحبي قال : 16 ( خرج عبد الله بن بشر صاح
____________________
(1/286)
رسول الله في يوم عيد فطر أو أضحى ، فأنكر إبطاء الإِمام ، وقال : إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه ، وذلك حين التسبيح ) ، رواه أبو داود ، وابن ماجه أي وقت صلاة النافلة ، وآخر وقتها إذا قام قائم الظهيرة ، وهي ركعتان بالإِجماع ، والسنة المستفيضة ، والله أعلم .
قال : بلا أذان ولا إقامة .
914 ش : في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال : شهدت مع النبي العيدين ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، بلا أذان ولا إقامة .
915 وصح ذلك [ أيضاً ] من حديث ابن عباس وغيره والله أعلم .
قال : ويقرأ في كل ركعة منهما بالحمد الله وسورة .
ش : أما قراءة الحمد قلما تقدم من قوله : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) وأما قراءة السورة فلا نزاع في استحبابها لما سيأتي ، والمستحب أن يقرأ في الأولى بسبح ، وفي الثانية بالغاشية ، على أشهر الروايات .
916 لما روي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي كان يقرأ في العيدين ب 9 ( { سبح اسم ربك الأعلى } ) و 9 ( { هل أتاك حديث الغاشية } ) رواه الإِمام أحمد ، وهو لابن ماجه من حديث النعمان بن بشير ، وابن عباس ، ويرشح هذا عمل الصحابة .
917 فروى النجاد عن أنس وعمر 6 ( أنهما كانا يقرآن بهما ) .
( والثانية ) : يقرأ في الأولى بقاف ، وفي الثانية باقتربت .
918 لما في مسلم والسنن عن أبي واقد الليثي ، أنه كان يقرأ بقاف واقتربت . ( والثالثة ) : ليس فيهما سورة يتعين استحبابها ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لأن النبي تارة قرأ بتين وتارة قرأ بتين ، كما تقدم ، فدل على أنه لا يتعين .
قال : ويجهر بالقراءة .
ش : هذا إجماع توارثه الخلف عن السلف ، وفي قولهم : إنه كان يقرأ في الأولى بكذا ، وفي الثانية بكذا ، دليل على ذلك ، والله أعلم .
قال : ويكبر في الأولى سبع تكبيرات ، منها تكبير الافتتاح .
919 ش : روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ، أن النبي كبر ثنت
____________________
(1/287)
عشرة تكبيرة ، سبعا في الأولى ، وخمساً في الأخرى ، ولم يصل قبلها ولا بعدها ا ، رواه أحمد وابن ماجه . قال أحمد : أنا أذهب إلى هذا ، وكذلك ذهب إليه ابن المديني وصحح الحديث ، نقله عنه حرب ، ورواه أبو داود ولفظه : أن نبي الله قال : ( التكبير في الفطر سبع في الأولى ، وخمس في الآخرى ، والقراءة بعد كليهما ) ولحديث عمرو بن عوف المزني وسيأتي .
920 مع أنه روي عن جماعة من الصحابة ، وإنما عدت تكبيرة الافتتاح من السبع لأنها تفعل في القيام ، بخلاف تكبيرة القيام في الثانية ، فإنها لم تعد من الخمس ، لأنها تفعل مع القيام .
قال : ويرفع يديه مع كل تكبيرة ، [ كتكبيرة الإِحرام ] .
ش : يرفع [ يديه ] مع جميع التكبيرات يبتديه مع ابتدائه ، وينهيه مع انتهائه ، اتباعا .
921 لما روي عن عمر رضي الله عنه 16 ( أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة ، في الجنازة ، وفي العيد ) ، وعن زيد بن ثابت مثله رواهما الأثرم .
قال : ويستفتح في أولها .
ش : هذا المشهور من الروايتين ، لأن الاستفتاح يراد للدخول في الصلاة ، والرواية الثانية : يؤخره إلى أن يفرغ من جميع التكبيرات ، اختارها الخلال وصاحبه ، لتليه الاستعاذة ، كبقية الصلوات ، ولتوالي التكبيرات والله أعلم .
قال : ويحمد الله ، ويثني عليه ، ويصلي على النبي بين كل تكبيرتين ، وإن أحب قال : الله أكبر كبيراً ، والحمد الله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلا ، وصلوات الله على محمد النبي الأمي ، وعليه السلام وإن أحب قال غير ذلك .
922 ش : [ ذكر ابن المنذر واحتج به أحمد عن ابن مسعود أنه [ قال ] : 16 ( بين كل تكبيرتين يحمد الله [ ويثني عليه ] ، ويصلي على النبي ويدعو ) وهذا الذي ذكره الخرقي يشتمل على هذا ، وإن أحب قال نحو ذلك ] كسبحان الله ، والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وصلى الله على محمد ، أو ما شاء من الذكر ، قال أحمد في رواية حرب : ليس بين التبكيرتين شيء مؤقت .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يقول ذلك بعد الأخيرة ، وقاله القاضيان ، أبو يعلى وأبو الحسين ، وظاهر كلام أبي الخطاب أنه يقوله بعد الأخيرة ، وهو الذي صححه أبو البكرات ، وقد اختلف النقل في ذلك عن ابن مسعود والله أعلم .
قال : ويكبر في الثانية خمس تكبيرات ، سوى التكبيرة التي يقوم بها من السجود ،
____________________
(1/288)
ويرفع يديه مع كل تكبيرة .
ش : قد تقدم هذا فلا حاجة إلى إعادته ، وظاهر كلام الخرقي [ أن القراءة تكون ] بعد التكبير في الركعتين ، وهو المشهور من الروايتين ، واختيار القاضي وعامة أصحابه ، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب .
923 وعن عمرو بن عوف المزني أن النبي كبر في العيدين في الأولى سبعاً قبل القراءة ، وفي الثانية خمساً قبل القراءة ، رواه الترمذي [ وحسنه ] قال : هو أحسن شيء في الباب عن النبي ، وصححه البخاري هو وحديث عمر بن شعيب .
( والرواية الثانية ) : يوالي بين القراءتين ، ويكون التكبير في الثانية بعد القراءة ، اختارها أبو بكر .
924 لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( التكبير في العيدين سبعاً قبل القراءة ، وخمساً بعد القراءة ) رواه أحمد ( وعن أحمد ) رواية ثالثة بالتخبير ، قال في رواية الميموني : اختلف أصحاب رسول الله في التكبير ، وكل جائز . والله أعلم .
قال : وإذا سلم خطب بهم خطبتين ، يجلس بينهما .
ش : قد تضمن هذا الكلام أن خطبة العيد [ تكون ] بعد الصلاة ، وهذا كالإِجماع ، وقد استفاضت به الأحاديث عن صاحب الشرع ، وعن خلفائه الراشدين .
925 ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : 16 ( كان رسول الله وأبو بكر ، وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة ) .
926 [ وعن جابر رضي الله عنه : شهد رسول الله يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ] بلا أذان ولا إقامة .
927 16 ( وتقديم عثمان لهما في أواخر خلافته رضي الله عنه لكثرة الناس ، ) ليدرك عامتهم الصلاة ، فإنها أهم من الخطبة المتفق على كونها سنة ، والسنة أن يخطب خطبتين ، يجلس بنيهما .
928 لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال : 16 ( السنة أن يخطب الإِمام في العيدين خطبتين ، يفصل بينهما بجلوس ) ؛ رواه الشافعي في مسنده .
929 وقال جابر : خرج النبي يوم فطر أو أضحى ، فخطب قائماً ، ثم قعد
____________________
(1/289)
قعدة ، ثم قام . رواه ابن ماجه [ وصفة هذه الخطبة كخطبة الجمعة ، إلا أنه يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات ، وفي الثانية بسبع ] وهل يجلس عند صعوده المنبر كالجمعة ، وهو ظاهر كلام أحمد ، أو لا يجلس ، لأن الجلوس ثم للأذان ولا أذان هنا ؟ وجهان . والقيام فيها مستحب وإن وجب في الجمعة في رواية فلو خطب قاعداً ، أو على راحلته فلا بأس ، لأنها أشبهت صلاة التطوع .
930 وقد روي عن عثمان ، وعلي والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم 16 ( أنهم خطبوا على رواحلهم ) ، وتفارق الجمعة [ أيضا في الطهارة و ] في كونها يليها من يلي الصلاة ، وفي الجلسة بين الخطبتين ، فإن ذلك وإن وجب للجمعة لا يجب لها ، ولا يعتبر لها العدد ، وإن اعتبرناه للجمعة والله أعلم .
قال : فإن كان فطراً حظهم على الصدقة ، وبين لهم ما يخرجون ، وإن كان أضحى رغبهم في الأضحية ، وبين لهم ما يضحى به .
ش : يذكر في كل خطبة ما يليق بها ، ففي عيد الفطر يرغبهم في الصدقة ، ويبين لهم حكمها ، وما اشتملت عليه من الثواب ، وقدر المخرج ، وجنسه وعلى من تجب ، ونحو ذلك وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية ، ويبني لهم حكمها ، والمجزيء فيها ، ووقت ذبحها ، ونحو ذلك .
931 وقد ثبت أن النبي ذكر في خطبة الأضحى كثيراً من أحكام الأضحية من رواية أبي سعيد ، والبراء وغيرهما ، والله أعلم .
قال : ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها .
ش : لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب .
932 وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله يوم فطر ، فصلى ركعتين ، لم يصل قبلها ، ثم أتى النساء ومعه بلال ، فأمرهن بالصدقة ، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها .
933 وللبخاري [ عنه ] 16 ( أنه كره الصلاة قبلها ) .
934 واستخلف علي أبا مسعود على الناس ، فخرج يوم عيد فقال : 16 ( يا أيها الناس إنه ليس من السنة أن يصلي قبل الإِمام ) . رواه النسائي .
935 وعن ابن سيرين ، أن ابن مسعود وحذيفة 16 ( قاما ، أو قاما أحدهما ، فنهيا أو نهى الناس أن يصلوا يوم العيد قبل خروج الإِمام ) ، رواه سعيد .
936 وقال الزهري : 16 ( لم أسمع أحداً من علمائنا يذكر أن أحداً من سلف هذ
____________________
(1/290)
الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة ، ولا بعدها ) . رواه الأثرم .
937 وعن مطر الوراق قال : 6 ( ما صلى في العيد قبل الإِمام بدري ) . رواه سعيد .
وكلام الخرقي يشمل المسجد وغيره ، وصرح به القاضي وغيره ، لكن كلام الخرقي مقيد بمصلى العيد ، وأما لو صلى في غيره فلا بأس ، فعله أحمد ، وذكره الأصحاب .
938 أنه كان لا يصلي قبل العيد شيئاً ، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين . رواه ابن ماجه ، وأحمد بمعناه ، والله أعلم .
ثال : وإذا غدا من طريق رجع في غيرها .
939 ش : قال جابر رضي الله عنه : كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق . رواه البخاري .
940 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان النبي إذا خرج إلى العيد يرجع من غير الطريق الذي خرج فيه . رواه مسلم وغيره .
واختلف لأي شيء فعل ذلك ، فقيل : لتشهد له الطريقان ، وقيل : ليتصدق على أهلهما . وقيل : ليغيظ المنافقين ، ويريهم كثرة المسلمين ، وقيل ليساوي بينهما في التبرك به ، والمسرة بمشاهدته والانتفاع بمساءلته . وقيل : لأن الطريق الذي كان يغدو فيه أطول ، والثواب [ يكثر ] بكثرة الخطا إلى الطاعة . وقيل غير ذلك ، وبالجملة يقتدى به ، لاحتمال وجود المعنى في حقنا ، وتستحب المخالفة في الجمعة أيضاً نص عليه ، والله أعلم .
قال : ومن فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات كصلاة التطوع [ يسلم في آخرها ] وإن أحب فصل بسلام بين كل ركعتين .
ش : من فاتته صلاة العيد استحب له قضاؤها .
941 لأن 6 ( ابن مسعود وأنساً قضياها ) . ويقضيها أربعاً ، على المشهور من الروايات واختارها الخرقي ، والقاضي ، والشريف ، وأبو الخطاب في خلافاتهم ، وأبو بكر فيما حكاه عنه القاضي والشريف .
942 لأن ابن مسعود رضي الله عنه قال : 6 ( من فاته العيد فليصل أربعاً ) . رواه سعيد .
943 قال أحمد : يقوي ذلك حديث علي أنه أمر رجلًا يصلي بضعفه النا
____________________
(1/291)
أربعاً ، ولا يخطب ، وعلى هذه الرواية يصلي بلا تكبير ، وقد أشار إليه الخرقي بقوله : كصلاة التطوع . ثم إن أحب صلى الأربع بسلام واحد ، وإن شاء بسلامين ، على إحدى الروايتين ، والرواية الأخرى بسلام واحد . ( والرواية الثانية ) : يقضيها ركعتين لا غير ، اختارها الجوزجاني ، وأبو محمد في العمدة ، وأبو بكر في التنبيه ، فيما حكاه عنه أبو الحسين .
944 لأن أنساً رضي الله عنه 16 ( كان إذا لم يحضر العيد مع الناس جمع أهله وولده وصلى ركعتين ، يكبر فيهما ) ، وعلى هذه الرواية يكبر فيها . ( والثالثة ) يخير بين ركعتين بتكبير ، وأربع بلا تكبير ، لأن كليهما ثبت عن الصحابة فخيرناه بينهما .
وقول الخرقي : ومن فاتته الصلاة . ظاهره أنه فاتته جميع الصلاة ، فلو أدركهم بعد الركوع في الثانية فإنه يقضيهما ركعتين بلا نزاع ، وهذه طريقة الشيخين وغيرهما ، وفي التعليق الكبير أنه على الخلاف في القضاء ، وقاسه على الجمعة وقد نص أحمد على الفرق في رواية حنبل ، وقال : إذا أدرك التشهد في العيد يصلي ركعتين ، وإن أدرك مثله في الجمعة صلى أربعاً ، ومع تصريح الإِمام بالفرق يمتنع الإِلحاق .
قال : ويبتديء التكبير يوم عرفة من صلاة الفجر ، ثم لا يزال يكبر [ في ] دبر كل صلاة مكتوبة صلاها في جماعة ، وعن أبي عبد الله رحمه الله عليه رواية أخرى أنه يكبر لصلاة الفرض وإن كان وحده ، حتى يكبر لصلاة العصر من آخر أيام التشريق ثم يقطع . والله أعلم .
ش : قد تضمن هذا الكلام مشروعية التكبير عقب الصلوات في عيد النحر ولا نزاع في ذلك في الجملة ، وقد قال الله تعالى : 19 ( { واذكروا الله في أيام معدودات } ) .
945 وقد فسرت بأيام التشريق مع يوم النحر ، ثم الكلام في وقته ، ومحله ، وصفته .
أما وقته ففي حق المحل من صلاة الفجر يوم عرفة ، إلى العصر من آخر أيام التشريق ، لما تقدم من الآية الكريمة [ إذا ظاهرها الذي في جميع الأيام ] .
946 ويؤيده ما في صحيح مسلم وغيره عن نبيشة ، عن النبي قال : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل ) .
947 وقد روى الدارقطني من طرق عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال : ( الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله [ ومد
____________________
(1/292)
التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق . وفي بعض الطرق أنه لا إله إلا الله ] والله أكبر ، الله أكبر والله الحمد ) .
948 وقيل للإِمام أحمد رحمه الله تعالى : بأي حديث تذهب ، إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة ، إلى آخر أيام التشريق ؟ [ قال : بإجماع عمر وعلي ، وابن عباس ، وابن مسعود رضي الله عنهم ، وفي حق المحرم من صلاة الظهر يوم النحر ، إلى آخر أيام التشريق ] العصر ، لأنه قبل ذلك مشتغل بالتلبية ، وعن أحمد : ينتهي بصلاة الفجر من آخر أيام التشريق ، والأول المذهب .
وأما محله فعقب الصلوات المفروضات في جماعة ، بالإِجماع الثابت بنقل الخلف عن السلف ، لا النوافل ، وإن صليت في جماعة ، وفي الفريضة إذا صلاها وحده روايتان ، المشهور منهما وهو اختيار أبي حفص ، والقاضي ، وعامة الأصحاب لا يكبر .
949 لأن ابن مسعود رضي الله عنه قال : 16 ( التكبير على من صلى في جماعة ) . رواه حرب وغيره .
950 وقال أحمد : أعلى شيء في الباب حديث ابن عمر أنه صلى وحده ولم يكبر ، [ وإليه نذهب ، ( والثانية ) : وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى يكبر ] نظراً لإِطلاق الآية الكريمة والحديث ، وفي التكبير عقيب صلاة عيد الأضحى قولان ، [ أحدهما ] : وهو اختيار أبي بكر ، وظاهر كلام الخرقي يكبر ، لشبهها بفرض العين في اشتراك الجميع في الخطاب ، والثاني : لا ، لشبهها بالنافلة في سقوطها عن المكلفين في ثاني الحال .
وكلام الخرقي يشمل المقيم والمساقر ، والرجل والمرأة ، وهو المشهور ، وعن أحمد : لا تكبر المرأة كالأذان ، نعم إن صلت مع الرجال كبرت معهم تبعاً ، ويشمل المسبوق ببعض الصلاة فإنه صلى في جماعة .
وأما صفته فالله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، [ ولله الحمد .
لما تقدم في حديث جابر .
951 وعن ابن مسعود رضي الله عنه 16 ( كان يكبر أيام التشريق : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ] ولله الحمد ) ، وعليه اعتمد أحمد ، وروي ذلك أيضاً عن عمر ، وعلي رضي الله عنهما ، والله سبحانه أعلم .
____________________
(1/293)
( كتاب صلاة الخوف )
ش : الإِضافة بمعنى اللام ، أي الصلاة للخوف ، أو بمعنى ( في ) أي الصلاة في الخوف ، وهي ثابتة بنص الكتاب وبالسنة قال الله تعالى : 19 ( { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منها معك } ) الآية واستفاضت السنة أن النبي كان يصلي صلاة الخوف ، وأجمع العلماء على ذلك ، وعامتهم على ثبوت ذلك بعد النبي ، لأن ما ثبت في حقه ثبت في حقنا .
952 مع أن الصحابة رضي الله عنهم [ قد ] فعلوها بعد موته ، ومنهم علي ، وأبو موسى الأشعري ، وحذيفة ، وهو دليل على بقاء الحكم .
قال : وصلاة الخوف إذا كانت بإزاء العدو ، وهو في سفر ، صلى بطائفة ركعة [ وثبت قائماً ] وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة ، ثم ذهبت تحرس وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فصلت معه ركعة ، وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد الله [ وسورة ] ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد ويسلم بهم .
ش : ورد في صفة صلاة الخوف أحاديث صحاح جياد ، قال أحمد : ستة أو سبعة وقيل أكثر من ذلك . وأحمد رحمه الله على قاعدته ، يجوز جميع ما ورد ، إلا أن المختار عنده إذا كان العدو في غير جهة القبلة هذه الصفة التي ذكرها الخرقي واقتصر عليها .
953 وهو ما روى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي يوم ذات الرقاع ، أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو ، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً ، وأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى ، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالساً فأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم . رواه الجماعة إلا ابن ماجه ، وفي رواية أخرى للجماعة : عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة عن النبي ، بمثل هذه الصفة ، وإنما اختار أحمد هذه الصفة على غيرها قال : لأنها أنكأ للعدو ، إذ الطائفة التي تقف تجاه العدو تقف مستيقظة للعدو ، إذ ليست في صلاة لا حساً ولا حكماً ، ولموافقتها لظاهر القرآن ، لأن الله سبحانه وتعالى قال : 19 ( { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم ، فإذ
____________________
(1/294)
سجدوا فليكونوا من ورائكم } ) فجعل سبحانه السجود لهم خاصة ، فعلم أنهم يفعلونه منفردين ، وقال سبحانه : 9 ( { ولتأت طئفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك } ) [ وظاهره أن جميع صلاتهم تكون معه ] وكذا في هذه الصفة ، لأن الطائفة الأولى تصلي معه ركعة ، ثم تفارقه فتصلي الركعة الثانية وحدها ، والثانية تصلي معه الركعة الثانية ، ثم ينتظرها في التشهد حتى تأتي بالركعة فيسلم بها فأتمامها به لم يزل إلا بالسلام .
وقول الخرقي : وصلاة الخوف إذا كان بإزآء العدو ، أي بحضرة العدو ، يعني أن الصلاة للخوف لا يكون إلا بحضرة العدو ، فلا تفعل في غير ذلك ، وهو شامل لما إذا كان العدو في جهة القبلة ، أو في غير جهتها ، ونص عليه أحمد ، إلا أن هذه الصفة تختار إذا كان العدو في [ غير ] جهة القبلة ، وجعله القاضي ، وأبو الخطاب شرطاً .
954 لأنه إذا كان في جهتها فيستغني عن هذه الصلاة بصلاة عسفان ، التي هي أقل مخالفة للأصل من هذه الصلاة ، و أبو البركات في الحقيقة يختار هذا القول ، لأنه قال : عندي أن كلام أحمد رحمه الله محمول على ما إذا لم تمكن صلاة عسفان ، لاستتار العدو ، أو خوف كمين له ، وكلام القاضي وأبي الخطاب على ما إذا أمكنت صلاة عسفان ، وهو ظاهر كلام طائفة من الأصحاب .
وقوله : وهو في سفر . يحترز به عن الحضر كما سيأتي . وقوله : صلى بطائفة ركعة . ظاهره إطلاق الطائفة ، وهو اختيار أبي محمد ، نظراً إلى [ أن ] الطائفة تقع على القليل والكثير ، وقال أبو الخطاب وتبعه صاحب التلخيص ، وأبو البركات شرط الطائفة أن تكون ثلاة فصاعدا لقوله سبحانه : 9 ( { فلتقم طائفة منهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا } ) وهذا جمع ، وأقل الجمع ثلاثة ، لكن على القولين لا بد وأن تكون الطائفة التي بإزآء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها .
وقوله : وأتمت لأنفسها [ أخرى . يعني إذا قام إلى الثانية نوت مفارقته ، وأتمت لأنفسها ] ركعة أخرى ويقف الإِمام ينتظر الطائفة الثانية وهو يقرأ ، فإذا جاءت الطائفة الثانية دخلت معه في الركعة الثانية ، فإذا جلس للتشهد قامت فأتت بركعة أخرى ، وهم في حكم الإِئتمام به ، ويكرر هو التشهد حتى تدركه فيه فيسلم بهم .
واعلم أن من شرط صلاة الخوف بلا نزاع عندنا أن يكون العدو يحل قتاله ، ويخاف هجومه ، والله أعلم .
قال : وإن خاف وهو مقيم صلى بكل طائفة ركعتين ، وأتمت الطائفة الأولى بالحمد الله في كل ركعة ، والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة .
ش : قد دل هذا على أن صلاة الخوف تفعل في الحضر ، كما تفعل في السفر ، وذلك لعموم 9 ( { وإذا كانت فيهم } ) الآية ، وإنما له تأثير في قصر الصفة ، وأي نقصها
____________________
(1/295)
والسفر له تأثير في قصر العدد ، ولهذا قيل : إذا اجتمعا وجد القصر المطلق ، ولهذا قيدت الآية الكريمة بالخوف ، لأنه مع الضرب في الأرض يجتمع الأمران ، فالمراد بالآية الكريمة والله أعلم القصر المطلق ، لا المقيد ، وقيل : عن أحمد ما يدل [ على ] جواز فعلها ركعة ، والأول المشهور .
ودل كلامه أيضاً على أن ما يدركه المسبوق آخر صلاته ، وما يقضيه أولها ، لأنه جعل الطائفة الأولى تتم بالحمد لله فقط ، لأنها أدركت أول الصلاة بلا ريب ، والطائفة الثانية تتم بالحمد لله وسورة ، لأن ما أدكرته آخر صلاتها ، فالذي تقضيه أولها ، وهذا هو المشهور من الروايتين ، وعليه الأصحاب .
955 لما روى أن أبو هريرة رضي الله عنه ، عن النبي أنه قال : ( ما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاقضوا ) رواه أحمد ، والنسائي ، ولمسلم ( فصل ما أدركت ، واقض ما سبقك ) والحجة فيه من ثلاثة أوجه ( أحدهما ) : قوله : ( ما أدركتم فصلوا ) والذي أدركه مع الإِمام آخر صلاته ، فوجب أن يصليه معه ، ( والثاني ) : قوله : ( وما فاتكم ) و ( ما سبقك ) والذي فاته وسبقه به أول الصلاة ، فعلم أنه الذي يفعله بعد مفارقته ، ( والثالث ) : قوله : ( فاقضوا ) والقضاء إنما يكون لما فات وقته ، وانقضى محله ، لأن المأموم تابع ، فلا يشتغل بغير ما يفعله إمامه .
( والرواية الثانية ) : أن ما يدركه المسبوق أول صلاته ، وما يقضيه آخرها .
956 لقول النبي : ( فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا ) والإِتمام إنما يكون لما فعل أوله ، فيتم آخره ، وأجيب بأن الإِتمام إنما يستدعي النقصان ، أولًا كان أو آخراً ، فإذاً يحمل قوله : ( فأتموا ) أي فأتموا قضاء ، جمعاً بين الروايتين .
وللخلاف فوائد ( منها ) الاستفتاح ، لا يستفتح على المذهب إلا في أول ركعة يقضيها ، لحكمنا أنها أول صلاته ، وعلى الثانية إذا افتتح الصلاة ( ومنها ) التعوذ ، إذا قلنا : يختص بأول ركعة لا يتعوذ إلا إذا قام يقضي ، على المختار ، وعلى الثانية مع التحريم . ( ومنها ) الجهر والإِسرار ، إذا فاته الأولتان من المغرب جهر في قضائها إن شاء ، وعلى الثانية لا يجهر . ( ومنها ) [ قدر ] القراءة ، إذا فاتته الركعتان ، من الرباعية قرأ في قضائها بالحمد وسورة على المذهب ، وعلى الرواية الأخرى يقرأ بالحمد فقط ، وهذه مسألة الخرقي . ( ومنها ) قنوت الوتر إذا أدركه المسبوق خلف من يصلي الثلاث بسلام واحد ، فإنه إذا قضى لم يعد القنوت إلا على الرواية الضعيفة . ( ومنها ) تكبيرات العيد الزوائد ، إذا أدرك منها ركعة فإنه يكبر مع إمامه [ فيها ] فإذا قام يقضي الركعة التي فاتته فإنه يكبر فيها التكبير المشروع في الأولى ، نص عليه ، وقياس الرواية الثانية أنه لا يكبر إلا المشروع في الثانية ، ( ومنها ) محل التشهد الأول ، فإذا أدرك ركعة من
____________________
(1/296)
المغرب ، ثم قام يقضي ، فإنه يتشهد عقب ركعة ، على الرواية المرجوحة ، وعلى المشهور ، وفيه عن أحمد روايتان ( إحداهما ) أنه يأتي بركعتين متواليتين ، ثم يتشهد عقيبهما ، لأن الذي فاته كذلك ، ( والثانية ) يتشهد عقيب ركعة منه ، وإن كان أول صلاته .
957 لأن ابن مسعود رضي الله عنه قال ذلك . ولا يعرف له مخالف من علماء الصحابة رضي الله عنهم ، وإذاً يكون ما أدركه أو صلاته حكماً لا فعلًا ، والله علم .
( تنبيه ) : هل تفارقه الطائفة الأولى إذا أنهى تشهده وينتظر الثانية وهو جالس ، أن تكون المفارقة والإِنتظار في الثالثة ؟ فيه وجهان ، والله أعلم .
قال : وإن كانت الصلاة مغرباً صلى بالطائفة الأولى ركعتين ، وأتمت لأنفسها ركعة ، تقرأ فيها ب 19 ( { الحمد لله رب العالمين } ) ويصلي بالطائفة الأخرى ركعة ، وأتمت لأنفسها ركعتين ، تقرأ فيهما بالحمد لله ، وسورة .
ش : لأنه إذا لم يكن بد من [ أن ] إحدى الطائفتين تصلي ركعة ، فالحمل لنا على الطائفة الثانية أولى ، لأن الأولى تميزت بالسبق ، والله أعلم .
قال : وإذا كان الخوف شديداً ، وهو في [ حال ] المسايفة . صلوا رجالًا وركباناً ، إلى القبلة أو إلى غيرها [ يومئون إيماء ] يبتدؤن بتكبيرة الإِحرام إلى القبلة إن قدروا ، [ وإلا إلى غيرها ] .
ش : قد تضمن هذا الكلام أن الصلاة حال المسايفة والتحام الحرب لا يسقط ، ولا نزاع في ذلك ، وأنه لا يجوز تأخيرها إن لم تكن الأولى من المجموعتين ، على المشهور في الروايتين ، لقول الله تعالى : 19 ( { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } ) أي : فصلوا رجالًا أو ركبانا . وظاهر الأمر بالصلاة على هذه الصفة والحال هذه ، والأمر للوجوب والفور عندنا .
958 ( وعن ) ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي وصف صلاة الخوف ، وقال : ( فإن كان خوفاً أشد من ذلك فرجالاً أو ركبانا ) رواه ابن ماجه .
( والرواية الثانية ) : حكاها ابن أبي موسى يجوز التأخير حال الإِلتحام .
959 لأن النبي أخر الصلاة يوم الخندق .
960 ( وعن ) ابن عمر رضي الله عنهما قال : نادى فينا رسول الله يوم انصرف عن الأحزاب ( أن يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة ) فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة ، وقال آخرون : لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله ،
____________________
(1/297)
وإن فاتنا الوقت . قال : فما عنف رسول الله واحداً من الفريقين . رواه مسلم وغيره .
96( وأجيب ) بأن تأخير الصلاة يوم الأحزاب كان قبل أن ينزل قوله تعالى : 19 ( { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } ) كذا رواه أحمد والنسائي ، من رواية أبي سعيد وقال ابن عبد البر : هو حديث ثابت ، ويجوز أن يكون لعذر من نسيان أو غيره .
962 يؤيد ذلك ما رواه أحمد أنه قال الأصحابة : ( هل علم أحد منكم أني صليت العصر ؟ ) قالوا : لا . فصلاها . وفي ادعاء النسخ نظر ، لأن الجمع بينهما ممكن ، بأن تحمل الآية والحديث على الجواز ، وفعله على ذلك ، وإذاً يحصل الجمع ، وهو أولى مع النسخ . وبالجملة الأول المذهب ، وعليه : يصلون كيف ما أمكنهم ، رجالًا وركباناً ، إلى القبلة وغيرها ، يومئون إيماءاً على قدر طاقتهم ، ويكون إيماؤهم بالسجود أخفض من إيمائهم بالركوع ، يضربون ، ويكرون ويفرون على حسب المصلحة ، ولا يشترط الاضطرار إلى ذلك ، ولا يلزمهم الافتتاح إلى القبلة إن عجزوا عنه ، وإن أمكنهم فروايتان ، المشهور وهو الذي قاله الخرقي اللزوم .
وظاهر كلام الخرقي وقاله الأصحاب أن لهم أن يصلوا جماعة ، ومال أبو محمد إلى المنع ، حذارا من تقدم الإِمام والله أعلم .
قال : ومن أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن ، وكذلك إن كان آمناً فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف . والله أعلم .
ش : الحكم يوجد بوجود علته ، وينتفي بانتفائها ، والمقتضي لهذه الصلاة هو الخوف ، فإذا أمن زال الخوف ، فيصلي صلاة آمن ، بواجباتها وصفتها المعروفة ، وما صلاه وهو خائف على صفته محكوم بصحته ، وإن كان آمناً فخاف فقد وجدت العلة فيوجد الحكم ، والله أعلم .
____________________
(1/298)
( كتاب صلاة الكسوف )
ش : الكسوف والخسوف واحد ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة ، قال المنذري : روى حديث الكسوف تسعة عشر نفساً ، بعضهم بالكاف ، وبعضهم بالخاء ، وبعضهم باللفظين جميعاً . انتهى ، وقيل : الكسوف للشمس ، والخسوف للقمر ، وقيل : الخسوف في الكل ، والكسوف في البعض ، وقيل : الكسوف تغيرهما ، والخسوف تغيبهما في السواد .
والأصل في سنيتها ومطلوبيتها السنة المستفيضة الصحيحة ، ففي الصحيح في غير حديث أن النبي صلاها وأمر بها .
963 قال أبو مسعود البدري رضي الله عنه : قال رسول الله : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا ، وادعوا حتى ينكشف ما بكم ) متفق عليه ، ومتفق على نحوه من حديث ابن عمر ، وعائشة وابن عباس ، وأبي موسى ، وغيرهم ، رضي الله عنهم .
قال : وإذا خسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة ، إن أحبوا جماعة ، وإن أحبوا فرادى [ بلا أذان ، ولا إقامة ] .
ش : أي فزع الناس مما وقع ، ومضوا إلى الصلاة .
964 وفي الصحيح قال : خسفت الشمس في زمان رسول الله ، فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة ، حتى أتى المسجد ، فقام فصلى بأطول قيام ، وركوع ، وسجود ، ما رأيته يفعل في صلاة قط ، ثم قال : ( إن هذه الآيات التي يرسلها الله ، لا تكون لموت أحد من الناس ، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ، ودعائه واستغفاره ) .
وظاهر كلامه أنه لا يشترط لها إذن الإِمام ، وهو المذهب قال أبو بكر : في إذن الأِمام روايتان ، والله أعلم .
قال : ويقرأ في الأولى بأم الكتاب وسورة طويلة ، ويجهر بالقراءة ، ثم يركع فيطيل الركوع ، ثم يرفع فيقرأ ويطيل القيام ، وهو دون القيام الأول ثم يركع فيطيل الركعوع وهو دون الركوع الأول ثم يسجد سجدتين طويلتين ، فإذا قام فعل مثل ذلك ، فيكون أربع ركعات وأربع سجدات ، ثم يتشهد ويسلم .
____________________
(1/299)
ش : المستحب والمختار في صلاة الكسوف كما ذكر الخرقي رحمه الله أن يصلي ركعتين ، تشتمل كل ركعة منهما على ركوعين وسجدتين ، على الصفة المذكورة .
965 لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : خسفت الشمس على حياة رسول الله ، فخرج رسول الله إلى المسجد ، [ فقام ] فكبر وصف الناس وراءه ، فاقترأ قراءة طويلة ، ثم كبر ، فركع ركوعاً طويلًا ، هو أدنى من القراءة الأولى ، ثم رفع رأسه فقال : ( سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك [ الحمد ) ثم قام فافترأ قراءة طويلة ، هو أدنى من القراءة الأولى ، ثم كبر فركع ركوعاً طويلًا هو أدنى من الركوع الأولى ، ثم قال : ( سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ] ) ثم سجد ، ثم فعل في الركعة [ الأخرى ] مثل ذلك ، حتى استكمل أرب ركعات ، وأربع سجدات ، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ، ثم قام فخطب [ الناس ] فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل ، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة ) .
966 وفي الصحيحين أيضاً عنها أن النبي جهر في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات ، في ركعتين وأربع سجدات ) وقد تبين من الحديث السابق أنه إذا قام من الركوع أنه يسمع ويحمد ، ثم يقرأ ، ونص على ذلك الأصحاب ، والخرقي أهمل ذكر ذلك .
967 واعلم أنه قد جاء في صحيح مسلم وغيره أن النبي أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات ، وأربع ركوعات .
968 وفي السنن بخمس وأحمد رحمه الله على قاعدته يجوز الجميع ، وإن كان مختاره الصفة الأولى .
969 بل وجاء أنه صلاها بركوع واحد ، ولهذا عندنا أن الركوع الثاني سنة ، يجوز تركه .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا خطبة لها ، وهو المشهور من الروايتين ، وعليه الأصحاب ، لأن النبي لم يأمر لها بخطبة ، وخطبته كان ليعلمهم حكمها .
ولم يعين الخرقي قدر القراءة ، ولا قدر الركوع ، ذلك على [ نحو ] ما تقدم من حديث عائشة وغيرها ، وقال أبو الخطاب وغيره : يقرأ في الأولى بقدر سورة البقرة ، ثم في كل قيام كمعظم قراءة الذين قبله .
970 وذلك لأن في الصحيح من حديث ابن عباس قال : خسفت الشمس ، فصلى رسول الله ، فقام قياماً طويلًا ، نحوا من سورة البقرة ، ثم ركع ركوعاً
____________________
(1/300)
طويلًا ، ثم رفع فقام قياماً طويلًا ، وهو دون القيام الأول . الحديث .
971 وفي حديث لعائشة قالت : وأطال القيام في صلاته ، قالت : فأحسبه قرأة بسورة البقرة . رواه أحمد ، والنسائي ، ولو قرأ بدون ذلك جاز .
972 فقد جاء أنه قرأ في الركوع الأول بالعنكبوت ، وفي الثانية بالروم ، رواه الدارقطني ، وقال القاضي ، و أبو الخطاب ، وغيرهما : يسبح في الركوع الأول بقدر مائة آية ثم بعده في كل ركوع كمعظم الذي قبله . وقال ابن أبي موسى يسبح في كل ركوع بقدر معظم القراءة في القيام الذي قبله . وهذا اختيار أبي البركات ، لما تقدم من حديث عائشة ، وليس لأحمد في ذلك نص ، وظاهر كلام كثير من الأصحاب أن الجلسة بين السجدتين وقيام الرفع من الركوع لا يطيلهما ، وهو ظاهر حديث عائشة المتقدم ، وقال صاحب التلخيص : يطيل الجلسة . والله أعلم .
قال : وإذا كان الكسوف في غير وقت صلاة جعل مكان الصلاة تسبيحاً والله أعلم .
ش : إذا وجد الكسوف في غير وقت صلاة وهو الوقت المنهي عن الصلاة فيها وقد تقدمت جعل مكان الصلاة تسبيحاً ، لأن النبي أمر بالصلاة والذكر ، وإذا تعذرت الصلاة تعين الذكر ، وهذا بناء من الخرقي على أن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي ، وقد تقدم الكلام على ذلك .
وظاهر كالام الخرقي أنه لا يصلي [ لغير ] الكسوفين ، وهو صحيح ، إلا أن الأصحاب استثنوا الزلزلة الدائمة ، فإنه يصلي [ لها ] .
973 لأن ابن عباس رضي لله عنهما 16 ( صلى لها ) ، وقال ابن أبي موسى : يصلي لجمع الآيات . وهو ظاهر كلام أحمد ، والله أعلم .
____________________
(1/301)
( كتاب صلاة الاستسقاء )
ش : الاستسقاء طلب السقي ، والصلاة لذلك سنة ، لأن النبي فعلها ، وكذلك خلفاؤه من بعده .
قال : وإذا أجدبت الأرض ، واحتبس القطر ، خرجوا مع الإِمام .
ش : سبب صلاة الاستسقاء الجدب الذي [ هو ] ضد الخصب ، وقلة المطر .
974 وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت : شكى الناس إلى رسول الله قحوط المطر ، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه ، قالت : فخرج رسول الله حين بدا حاجب الشمس ، فقعد على المنبر ، فكبر وحمد الله عز وجل ، ثم قال : ( إنكم شكوتم جدب دياركم ، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم ، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم ) ، ثم قال : ( الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، لا إله إلا الله يفعل ما يريد ، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت ، الغني ونحن الفقراء ، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت قوة وبلاغا إلى حين ) ثم رفع يديه ، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض أبطيه ، ثم حول إلى الناس ظهره ، وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه ، ثم أقبل على الناس ، ونزل فصلى ركعتين فأنشأ الله سبحانه سحابة ، فرعدت وبرقت ، ثم أمطر بإذن الله تعالى ، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول ، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه ، فقال : ( أشهد أن الله على كل شيء قدير ، وأني عبد الله ورسوله ) رواه أبو داود .
قال : وكانوا في خروجهم كما روي عن النبي أنه كان إذا أراد الاستسقاء خرج متواضعاً ، متبذلًا ، متخشعاً ، متذللًا ، متضرعاً .
ش : لا شك أن المقام يناسب الخروج على هذه الصفة .
975 وفي المسند وسنني النسائي وابن ماجه أن ابن عباس سئل عن الصلاة في الاستسقاء فقال : خرج رسول الله متواضعاً متبذلًا ، متخشعاً ، متضرعاً ، فصلى ركعتين كما يصلي العيد ، لم يخطب خطبكم هذه .
قال : فيصلي بهم ركعتين .
____________________
(1/302)
ش : لا نزاع في أن الصلاة للاستسقاء ركعتان ، والأحاديث صريحة في ذلك .
وظاهر كلام الخرقي [ أنه ] يصلي بلا تكبير ولا جهر ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، لأن كثيراً من الأحاديث ليس فيها ذكر التكبير ( والرواية الثانية ) وهي المشهورة عند الأصحاب يكبر فيها كصلاة العيد ويجهر ، لما تقدم من حديث ابن عباس .
976 وفي البخاري وغيره من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه قال : خرج النبي يستسقي ، فحول رداءه ، وصلى ركعتين ، جهر فيما بالقراءة .
قال : ثم يخطب .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، واختيار أبي البركات ، والقاضي ، في الروايتين ، وأبي بكر ، وزعم أن الرواة اتفقوا عن أحمد على ذلك [ وكذلك ] قال في المغني إنه المشهور ، لما تقدم من حديث عائشة .
977 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج النبي يوماً يستسقي فصلى بنا ركعتين ، بلا أذان ولا إقامة ، ثم خطبنا ، ودعا الله عز وجل ، وحول وجهه نحو القبلة ، رافعاً يديه ، ثم قلب رداءه ، فحول الأيمن على الأيسر ، والأيسر على الأيمن . رواه أحمد وابن ماجه ( والرواية الثانية ) لا يخطب للاستسقاء ، وهي الأشهر عن أحمد نقلًا ، واختيار القاضي في التعليق ، وغالى فحمل الرواية الأولى ، وقول الخرقي على الدعاء ، لما تقدم من حديث ابن عباس .
( فعلى الأولى ) يخطب بعد الصلاة ، كما ذكره الخرقي ، وهو المشهور ، واختيار القاضي في روايتيه وأبي محمد في المغني ، لحديث أبي هريرة . ( وعنه ) بل قبلها ، لحديث عائشة رضي الله عنها ، ( وعنه يخير بين الأمرين ، وهو اختيار أبي بكر ، وابن أبي موسى ، وأبي البركات ، لورود الأمرين عنه .
وظاهر كلام الخرقي أنه يخطب خطبة واحدة ، وهو المنصوص ، لحديث ابن عباس المتقدم : لم يخطب خطبكم . [ الحديث ] وقيل : بل ثنتين ، ويفتتحها بالتكبير كخطبة [ العيد على المشهور ، وقال القاضي في الخصال بالحمد كخطبة ] الجمعة ، وقال أبو بكر في الشافي : بالاستغفار ، لأنه في الاستسقاء أهم ، والله أعلم .
قال : ويستقبل القبلة ويحول رداءه ويجعل اليمين يساراً ، واليسار يمينا .
ش : لما تقدم من حديثي عائشة [ وعبدالله بن زيد رضي الله عنهما ] وفعله لذلك قيل : تفاؤلًا ليتحول الجدب خصباً ، وقيل : بل أمارة بينه وبين ربه عز وجل لا تفاؤلًا ،
____________________
(1/303)
إذ شرط التفاؤل أن لا يكون بقصد ، وإنما قيل له : حول رداءك ، ليتحول حالك . والله أعلم .
قال : ويفعل الناس كذلك .
ش : أي يحولون أرديتهم ، كما يحول الإِمام رداءه .
978 لأن في حديث عبد الله بن زيد : 16 ( وتحول الناس معه ) . رواه أحمد .
قال : فيدعو ويدعون ، ويكثرون في دعائهم الاستغفار .
ش : قد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها في الدعاء .
979 وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي في الاستسقاء قال : ( اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ) مختصر ويكثرون في دعائهم الاستغفار ، لأنه سبب نزول المطر ، قال الله سبحانه وتعالى : 19 ( { استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، يرسل السماء عليكم مدرارا } ) .
980 وعن علي رضي الله عنه : 16 ( عجبت ممن يبطيء عنه الرزق ومعه مفاتيحه . قيل [ له ] : وما مفاتيحه ؟ قال : استغفار . )
قال : فإن سقوا وإلا عادوا في اليوم الثاني والثالث .
ش : لأن الحاجة داعية إلى ذلك ، وقد جاء ( إن الله يحب الملحين في الدعاء ) .
قال : وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا ، وأمروا أن يكونوا منفردين عن المسلمين والله أعلم .
ش : أما كون أهل الذمة لا يمنعون من الخروج ، لأنهم يطلبون رزقهم والله ضمن لهم ذلك ، قال الله سبحانه : 19 ( { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } ) الآية وقال ابن أبي موسى : لا يمنعون ، ولكن خروجهم في يوم مفرد أجود ، وأما انفرادهم عن المسلمين فلاحتمال أن ينزل عليهم عذاب فيصيب المسلمين ، قال الله سبحانه : 19 ( { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، واعلموا أن الله شديد العقاب } ) .
وظاهر كلام الخرقي أن الإِمام لا يخرجهم ، وهو كذلك ، بل يكره إخراجهم على المشهور ، وظاهر كلام أبي بكر أنه لا بأس به ، والله أعلم .
( باب الحكم فيمن ترك الصلاة )
قال : ومن ترك الصلاة وهو بالغ عاقل ، جاحداً لها ، أو غير جاحد ، دعي إليها
____________________
(1/304)
في وقت كل صلاة ، ثلاثة أيام ، فإن صلى وإلا قتل والله أعلم .
ش : التارك للصلاة قسمان : ( جاحد ) لها ، كمن قال : الصلاة غير واجبة ، أو غير واجبة علي ، ( وغير جاحد ) ، فالجاحد [ لها ] لا إشكال في كفره ، ووجوب قتله ، لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله ، وحكمه حكم غيره من المرتدين ، في أنه يستتاب ثلاثة أيام ، فإن تاب بأن أقر بالوجوب وإلا قتل .
وأما التارك لها غير جاحد بأن يتركها تهاونا أو كسلا فإنه يقتل عندنا بلا نزاع ، لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ) إلى قوله : 19 ( { فإن تابوا ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، فخلوا سبيلهم } ) فأباح سبحانه القتل إلى غاية ، فما لم توجد الغاية فهو باق على الإِباحة .
981 وفي الحديث : ( نهيت عن قتل المصلين ) .
982 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بعث علي وهو باليمن إلى النبي بذهيبة ، فقسمها بين أربعة ، فقال رجل : يا رسول الله اتق الله . فقال : ( ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ) ثم ولى الرجل . فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال : ( لا ، لعله أن يكون يصلي ) فقال خالد : فكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . فقال رسول الله : ( إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم ) فجعل النبي العلة في منع القتل الصلاة .
983 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله ) متفق عليهما .
984 وأما قوله : ( لا يحل دم امريء مسلم ) الحديث فمخصوص بما تقدم ، على أنا نقول بموجبه ، إذ هذا تارك لدينه ، ولا يقتل حتى يدعى إليها ، لاحتمال أن يتركها [ لعذر ] أو لما يظنه عذراً . واختلف بماذا يحكم بقتله ، فروي : بترك صلاة واحدة ، وبضيق وقت الثانية ، وهو المشهور ، وظاهر كلام الخرقي .
985 لما [ روى ] معاذ بن جبل ، أن رسول الله قال : ( من ترك صلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله ) رواه أحمد ، ولأنه إذا دعي إليها في وقتها فقال : لا أصلي .
____________________
(1/305)
ولا عذر له فقد ظهر إصراره ، فإذاً تعين إهدار دمه ، زجراً له ، وإنما اعتبر ضيق وقت الثانية لأن القتل لها دون الأولى ، لأنه لما خرج وقت الأولى ، ودعي إليها صارت فائتة والفائتة وقتها موسع عند جماعة من العلماء ، والقتل لا يجب بمختلف في إباحته وحظره ، وعلى هذا لو دعي إلى صلاة في قوتها فامتنع حتى فاتت ، قتل وإن لم يضق وقت الثانية ، نص عليه .
وروي : بترك ثلاث صلوات ، وبضيق وقت الرابعة ، ليتحقق الإصرار ، لأن الصلاة والصلاتين ربما تركا كسلا وضجرا ، وقال ابن شاقلا : يقتل بترك الواحدة ، إلا إذا كانت الأولى [ من المجموعتين ، فلا يقتل حتى يخرج وقت الثانية ، لأن وقتها وقت الأولى ] في حال الجمع ، فأورث شبهة هاهنا ، وتغالى بعض الأصحاب فقال : يقتل لترتك الأولى ، ولترك كل فائتة ، إذا أمكنه من غير عذر ، بناء على أن القضاء عندنا على الفور .
وإذا حكم بقتله فلا بد وأن يستتات بعد ذلك ثلاثة أيام ويضيق عليه ، كي يرجع على المذهب ( وعنه ) تستحب الاستتابة ولا تجب .
وإذا قتل قتل بالسيف في عنقه . وهل يقتل حداً أو لكفره ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) : وهي اختيار أبي عبد الله بن بطة ، وابن عبدوس ، وأبي محمد يقتل حداً .
986 لما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد ، من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له ) رواه أحمد .
987 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة ، فإن أتمها ، وإلا قيل : انظروا هل له من تطوع ؟ فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك ) رواه أحمد وأبو داود ، والترمذي وحسنه . ( والثانية ) : وهي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار الأكثرين يقتل كفرا .
988 لما روى جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة ) رواه أحمد ، [ ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي وصححة .
____________________
(1/306)
989 وعن بريدة الأسلمي قال : سمعت رسول الله يقول : ( العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر ) رواه أحمد ] والنسائي ، والترمذي وصححه .
990 وقال عمر : 16 ( لاحظ في الإِسلام لمن ترك الصلاة ) . ذكره أحمد في رسالته .
991 وقال علي : 16 ( من لم يصل فهو كافر ) . رواه البخاري في تأريخه . وعلى هذه الرواية هو كالمرتد ، لا يغسل ، ولا يصلى عليه ولا يرثه ورثته من المسلمين ، إلى غير ذلك من أحكام المرتد . وعلى الأولى كالزاني والقاتل ، فتنعكس هذه الأحكام ، ويحكم بكفره حيث يحكم بقتله ، ذكره القاضي والشيرازي ، وهو مقتضى نص أحمد ، وإنما يحكم بالكفر والقتل إذا دعي إليها في وقتها ، وخوّف وهدد ، فامتنع مصراً ، من غير عذر ، أما من تركها في وقتها ولم يدع إليها ، وقضاها فيما بعد ، أو كان في نفسه قضاؤها ، فلا نزاع في عدم تكفيره وقتله ، والله أعلم .
____________________
(1/307)
( كتاب الجنائز )
ش : الجنائز جمع جنازة ، بفتح الجيم وكسرها ، وقيل : بالفتح الميت ، وبالكسر الأعواد التي يحمل عليها ، وقيل عكسه ، وحكاه صاحب المطالع ، مشتق من : جنز يجنز إذا ستر ، قاله ابن فارس .
قال : وإذا تيقن الموت وجه إلى القبلة .
992 ش : روى عبيد بن عمير [ عن أبيه ] وكانت له صحبة أن رجلًا قال : يا رسول الله ما الكبائر ؟ [ قال : سبع ] فذكر منها ( استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ) رواه أبو داود .
993 وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال : 16 ( وجهوني ) .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستحب توجيهه قبل تيقن موته .
994 وقد أنكر ذلك سعيد المسيب . والمشهور في المذهب أن الأولى التوجيه .
995 لأن فاطمة رضي الله عنها فعلت ذلك ولأنه الذي عليه الناس سلفاً وخلفاً والأفضل فيه الاستلقاء على ظهره ، ورجلاه إلى القبلة ، في رواية اختارها أبو الخطاب ، لأنه أسهل في خروج روحه .
وعنه وهو المشهور وصححه أبو البركات أن الأفضل أن يكون على جنبه الأيمن ، لأن فاطمة كذلك فعلت . وعنه يخير بينهما ، وبه قطع أبو البركات في محرره والله أعلم .
قال : وغمضت عيناه .
ش : إذا تيقن موته استحب تغميض عينيه ، لئلا يقبح منظره .
996 وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر ، فإن البصر يتبع الروح ، وقولوا خيراً ، فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت ) رواه ابن ماجه وأحمد ، قال أحمد : يقول إذا غمضه : بسم الله ، وعلى وفاة رسول الله .
____________________
(1/308)
قال : وشد لحياه ، لئلا يسترخي فكه .
997 ش : عن عمر رضي الله عنه أنه 16 ( لما حضرته الوفاة قال لابنه عبد الله : إذا رأيت روحي بلغت لهاتي ، فضع كفك اليمنى على جبهتي ، واليسري تحت ذقني ) . ولأنه إذا ترك قد تدخل الهوام في فيه .
قال : وجعل على بطنه مرآة أو غيرها ، لئلا يعلو بطنه .
998 ش : وعن أنس رضي الله عنه أنه 16 ( مات مولى له فقال : ضعوا على بطنه شيئاً من حديد ) . انتهى ، وإذا لم يكن حديد فطين مبلول والله أعلم .
قال : وإذا أخذ في غسله ستر من سرته إلى ركبته .
ش : إذا [ أريد ] غسله وجب ستر عورته ، وهو ما بين سرته وركبتيه على المذهب ، أو السوأتان فقط على رواية ، حذاراً من النظر إليها .
999 وقد قال لعلي : ( لا تبرز فخذك ، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت ) واستحب تجريده على ظاهر كلام الخرقي وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار ابن أبي موسى ، والشيرازي ، وأبي الخطاب في الهداية ، وأبي محمد ، لأنه أمكن في غسله ، وأبلغ في تطهيره ، إذ يحتمل أن يخرج منه شيء فينجس الثوب به ، ثم قد ينجس الميت .
____________________
(1/309)
1000 وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول : 16 ( لما أرادوا غسل رسول الله قالوا : والله ما ندري أنجرد رسول الله من ثيابه كما نجرد موتانا ، أم نغسله وعليه ثيابه ؟ فلما اختلفوا أوقع الله عليهم النوم ، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره ، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو : أن اغسلوا النبي وعليه ثيابه . فقاموا إلى النبي فغسلوه وعليه قميص ، يصبون الماء فوق القميص ، ويدلكونه بالقميص ) . رواه أحمد وأبو داود . وهذا يدل على أن عادتهم في الموتى كان هو التجريد ، ومعلوم أنه علم ذلك ، وغسله في ثوب من خصائصه ، ثم المفسدة وهي احتمال تنجس الثوب منتفية في حقه عليه الصلاة والسلام لأنه طيب حياً وميتاً ( والرواية الثانية ) الأفضل أن يغسل في ثوب ، مستدلًا بأنه غسل وعليه ثوب ، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير ، وفي التعليق ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وابن البنا ، ونصره أبو البركات ، لأنه هو الذي اختاره الله لنبيه ، فكان أولى .
قال : والاستحباب [ أن ] لا يغسل تحت السماء .
ش : حذراً من أن يستقبل السماء بعورته .
1001 وعن عائشة رضي الله عنها : 16 ( غسلنا بعض بنات النبي ، فأمرنا أن نجعل بينها وبين السقف ثوباً . )
قال : ولا يحضره إلا من يعين في أمره ما دام يغسّل .
ش : أي والاستحباب أن لا يغسل بحضرة أحد إلا معاون في أمره ، بأن يصب الماء ، أو يناول حاجة ، ونحو ذلك ، لأن الحاجة داعية إلى المعاون دون غيره ، ولاحتمال عيب كان به وهو يستره ، أو يظهر منه ما يستنكر في الظاهر .
قال : ويلين مفاصله إن سهلت عليه وإلا تركها .
ش : ليسهل غسله وتكفينه ونحو ذلك ، ويفعل ذلك عقب موته ، قبل أن يبرد ، هذا إن سهل ذلك ، أما إن عسر التليين فإنه يترك ، لاحتمال كسر بعض أعضائه .
1002 وقد روى عنه أنه قال : ( كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ) .
قال : ويلف على يده خرقة فينقي مابه من نجاسة .
ش : يلف على يده خرقة لئلا يمس عورته الممنوع من مسها ، كما منع من النظر إليها بطريق الأولى ، ودليل الأصل حديث علي المتقدم .
1003 وذكر المروذي عن أحمد رحمه الله أن علي بن أبي طالب 16 ( حين غسل النبي لف على يده خرقة ، حين غسل فرجه ) . وصفة ذلك أن يلف على يده خرقة ، فيغسل بها أحد الفرجين ، ثم ينحيها ويأخذ أخرى للفرج الآخر ، وفي المجرد أنه يكفي خرقة واحدة للفرجين ، وحمل على أنها غسلت وأعيدت ، لأن الأصحاب قالوا : إن كان خرقة خرج عليها شيء لا يعيدها .
قال : ويعصر بطنه عصراً رفيقاً .
ش : يعصر بطنه ليخرج ما في بطنه من فضلة ، مخافة أن يخرج بعد الغسل والتكفين .
قال : ويوضئه وضوءه للصلاة .
ش : قياساً على غسل الحي .
1004 وفي الصحيح أن النبي قال لأم عطية في غسل ابنته ( ابدأن بميامنها ، ومواضع الوضوء منها ) .
قال : ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه فإن كان فيهما ، أذى أزاله بخرقة .
ش : لما قال : إنه يوضئه [ وضؤه ] للصلاة اقتضى أن يمضمضه وينشقه ، فاستثنى
____________________
(1/310)
ذلك ، فقال : لا يدخل الماء في فيه ولا أنفه ، وذلك لاحتمال دخوله بطنه ، ثم يخرج فيفسد وضوءه ، وربما حصل منه انفجار ، وبهذا علل أحمد ، واستحب أحمد وعامة الأصحاب أن يدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه ، فيمسح أسنانه ، وفي منخريه فينظفهما ، لأمن ما تقدم ، مع قوله : ( إذا أمرتكم بأمر ) وأوجب ذلك أبو الخطاب في خلافه للحديث ، والأولى أن يكون ذلك بخرقة نص عليه ، صيانة لليد عن الأذى ، وإكراماً للميت قال : ويصب عليه الماء ، فيبدأ بميامنه ، ويقلبه على جنبيه ، ليعم الماء سائر جسده .
ش : يصب عليه الماء بعد الوضوء ، فيبدأ برأسه ، ثم بسائر جسده ، ويبدأ بميامنه ، كما يفعل بالحي ، ولقول النبي : ( ابدأن بميامنها ) الحديث ، ويقلبه على جنبيه ليعم بقية بدنه ، المطلوب تعميمه شرعاً ، وصفة ذلك أن يغسل رأسه ولحيته أولًا ، ثم يده اليمنى من منكبه إلى كفه ، وصفحة عنقه اليمنى ، وشق صدره ، وفخذه ، وساقه يغسل الظاهر من ذلك وهو مستلق ، ثم يغسل الأيسر كذلك ، ثم يرفعه من جانبه الأيمن ولا يكبه لوجهه ، فيغسل الظهر ، وما هناك من وركه ، وفخذه ، وساقه ، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك ، ذكره أبو محمد تبعاً للقاضي ، وإذاً يفرغ من غسله مرة في أربع دفعات ، قال أبو البركات : وظاهر كلام أحمد في رواية حرب ، وابن منصور ، وأبي الخطاب يفعل ذلك دفعتين ، فيحرفه أولًا على جنبه الأيسر ، فيغسل شقه الأيمن من جهتي ظهره وصدره كما وصفنا . ثم يحرفه على جنبه الأيمن ، ويغسل الأيسر كذلك ، قال أبو البركات : وهو أقرب إلى قوله : ( ابدأن بميامنها ) وأشبه بغسل الجنابة ، وما ذكره القاضي أبلغ في النظافة ، وكيفما فعل أجزأه ، والله أعلم .
قال : ويكون في كل الماء شيء من السدر ، ويضرب [ السدر ] فيغسل برغوته رأسه ولحيته .
1005 ش : في الصحيحين في حديث أم عطية ، في غسل ابنته ، أنه قال : ( اغسلنها ثلاثاً ، أو خمساً ، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ، بماء وسدر ، واجعلن في الآخرة كافوراً ) .
1006 وفي حديث ابن عباس في المحرم ( اغسلوه بماء وسدر ) .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط كون
____________________
(1/311)
السدر يسيراً ، ولا يجب الماء القراح بعد ذلك ، وهو ظاهر كلام الإِمام أحمد في الأول ، ونصه في الثاني ، قال في رواية صالح : يغسل بماء وسدر الثلاث غسلات . وقال [ له ] أبو داود : أفلا يصبون ماء قراحاً ينظفه ؟ قال : إن صبوا فلا بأس . واحتج بحديث أم عطية ، وشرط ابن حامد كون السدر يسيراً ، وقيل عنه : يكون درهماً ونحوه ، لئلا يخرجه عن الطهورية ، وقال القاضي ، و أبو الخطاب ، وطائفة ممن تبعهما : يغسل أولًا بثفل السدر ، ثم عقب ذلك بالماء القراح ، فيكون الجميع غسلة واحدة ، والاعتداد بالآخر دون الأول ، سواء زال السدر أو بقي منه شيء ، لأن أحمد شبه غسله بغسل الجنابة ، والجنب كذا يفعل ، وحذراً من زوال طهورية الماء بكثير السدر ، وعدم تأثيره بقليله ، وهذا من الأصحاب بناء على المذهب عندهم ، من أن الماء تزول طهوريته بتغيره بالطاهرات ، وأبو محمد لما كان يميل إلى عدم زوال الطهورية والحال هذه احتج لظاهر كلام أحمد لكن قد يغلب على أجزائه ، فيسلبه الطهورية بلا خلاف ، فلهذا حمل أبوالبركات كلام الخرقي على قول القاضي وغيره .
ومنصوص أحمد والخرقي أن السدر يكون في الغسلات الثلاث ، وعنه : يختص بالأولى ، والثانية ، لتكون الثالثة للكافور ، وجعله أبو الخطاب مختصاً بالأولى ، لئلا يبقى من جرمه شيء ، والله أعلم .
قال : ويستعمل في كل أموره الرفق به .
ش : من تقليبه وتليين مفاصله ، وعصر بطنه ، ونحو ذلك ، لأن حرمته كحرمة الحي ، وحذاراً من أن ينفصل بعض أعضائه ، فيفضي إلى المثلة وعنه : ( كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ) .
قال : والماء الحار ، والأشنان ، والخلال ، يستعمل إن احتيج إليه .
ش : إذا احتيج إلى الماء الحار لبرد ، أو لإِزالة وسخ ، أو إلى الأشنان للوسخ ، [ أو إلى الخلال ، لإِزالة شيء من بين الأسنان ] ونحو ذلك استعمل نظرا للحاجة ، وإلا فالأولى ترك ذلك ، لأن الماء الحار يرخي الميت ، والأشنان لم يرد ، والخلال ربما حصل به تأذية الميت ، ولهذا استحب أن يكون من شجرة لينة ، والله أعلم .
قال : ويغسل الثالثة بماء فيه كافور وسدر ، ولا يكون فيه سدر صحيح .
ش : يجعل في الغسلة الثالثة مع السدر كافوراً ، لحديث أم عطية رضي الله عنها ( واجعلن في الأخيرة كافوراً ) والحكمة فيه أنه يصلب الجسد ويبرده ، ويمنع الهوام برائحته ، ولا يكون في الماء سدر صحيح ، لعدم الفائدة في ذلك ، إذ الحكمة في السدر التنظيف ، والتنظيف ، إنم هو بالمطحون ، قال القاضي : ويجعل الكافور في الماء ، لأنه لا يسلبه الطهورية ، واختار أبو البركات أنه يجعل مع سدر الأخيرة على ما تقدم ، لحصول المقصود ، وفراراً من أن يتغير الماء ، فيزول على وجه .
وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يغسل ثلاثاً وهذا هو المسنون بلا ريب ، قال في ابنته ( اغسلنها ثلاثاً ) الحديث .
قال : فإن خرج منه شيء غسله إلى خمس ، فإن زاد فإلى سبع .
____________________
(1/312)
ش : يعني إذا خرج منه شيء بعد تغسيله ، وقبل تكفينه فإنه يغسل إلى خمس ، ثم إن خرج بعد غسل إلى سبع ، نص عليه أحمد ، وعليه جمهور الأصحاب ، لأِطلاق قوله في ابنته ( اغسلنها ثلاثاً ، أو خمساً ، أو أكثر من ذلك ) وفي رواية ( أو سبعاً ) وليكون آخر أمره الطهارة الكاملة ، واختيار أبي الخطاب في الهادية أنه لا يعاد غسله ، بل يغسل موضع النجاسة ويوضأ ، كالجنب إذا أحدث بعد غسله ، والخارج من غير السبيل كالخارج منه في إعادة الغسل له ، نص عليه في رواية الأثرم ، وقال في رواية أبي داود : هو أسهل . فيحتمل أن لا يعاد له الغسل مطلقاً ، ويحتمل أن لا يعاد إذا كان يسيراً ، كما لا ينقض الوضوء يسيره .
وقد اقتضى كلام الخرقي والمسألة التي تأتي بعد أنه لا يعاد غسله بعد السبع ، ونص عليه أحمد والأصحاب ، لما في الإِعادة من الحرج والمشقة ، ولئلا يفسد باسترخائه .
قال : فإن زاد حاشه بالقطن .
ش : أي إذا زاد الخارج بعد السبع فإنه لا يعاد غسله كما تقدم ، وإنما يحشى محل الخارج بالقطن ليمتنع الخارج ، وكالمستحاضة ، وقال أبو الخطاب في الهداية ، وصاحب النهاية فيها : يلجم المحل بالقطن ، فإن لم يمنع حشاه به ، إذالحشو فيه تتوسيع للمحل ومباشرة له ، فلا يفعل إلا عند الحاجة إليه .
ولم يذكر الخرقي الوضوء حذاراً من الحرج والمشقة ، وقال جماعة من الأصحاب : إنه يوضأ كالجنب إِذا أحدث بعد الغسل ، وهما روايتان منصوصتان .
قال : فإن لم يستمسك فبالطين الحر .
ش : إن لم يستمسك الخارج بالقطن حشاه بالطين الحر أي الخالص ، لأنه له قوة تمنع الخارج .
قال : وينشفه بثوب .
ش : لئلا يبتل الكفن فيسرع تلفه ، وربما أسرع إلى إفساد الميت .
1007 ويروى 16 ( أن النبي لما غسل جفف ) . رواه أحمد .
( تنبيه ) الفرض في الغسل غسل مرة واحدة ، بالماء القراح ، كغسل الجنابة ، والنية على الصحيح ، لأنه تطهير أشبه تطهير الحي ، وقيل : لا تشترط ، لأن المقصود التنظيف ، أشبه غسل النجاسة ، ويظهر أو يتعين إن قيل : غسله لتنجيسه بالموت . وفي التسمية وجهان ، وقيل : روايتان ، وهل يشترط الفعل ؟ فيه وجهان ، فلو وضعه تحت ميزاب ، ونوى غسله حتى غمره الماء انبنى على الخلاف ، أما الغريق فإن لم يشترط
____________________
(1/313)
الفعل ولا النية لم يحتج إلى غسل ، وإن اشترطااحتيج إلى إخراجه وغسله ، وإن اشترط أحدهما عمل على ذلك ، كغسل الجنابة ، وشرط غاسله أن يكون ممن تصح طهارته ، فلا يصح من كافر ، لأنه عبادة وليس من أهلها ، وخرج الصحة بناء على عدم اشتراط النية ، وعلى الأول هل يصح إن حضر المسلم وأمر الكافر ؟ فيه قولان ، ولا من مجنون بل من مميز ، وخرج عدم الصحة كأذانه ، لأنه فرض وليس من أهله ، والله أعلم .
قال : وتجمر أكفانه .
ش : أي تبخر .
1008 لما روى جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إذا جمرتم الميت فأجمروه ثلاثاً ) رواه أحمد .
1009 وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، أنها قالت لأهلها : 16 ( أجمروا ثيابي إذا مت ، ثم حنطوني ، ولا تذروا في كفني حنوطاً ، ولا تتبعوني بنار ) . رواه مالك في الموطأ .
قال : ويكفن من ثلاثة أثواب ، يدرج فيها إدراجاً .
1010 ش : قالت عائشة رضي لله عنها : 16 ( كفن رسول الله في ثلاثة أثواب بيض سحولية ، من كرسف ، ليس فيها قميص ولا عمامة ) . متفق عليه ، وقال أحمد : إنه أثبت الأحاديث وأصحها ، لأنها أعلم من غيرها . وفي رواية : أدرج فيها إدراجاً .
( تنبيه ) سحولية نسبة إلى سحول بفتح السين قرية باليمن ، وقيل : السحولية المقصورة ، كأنها نسبت إلى السحول وهو القصار ، لأنه سحلها أي يغسلها .
قال : ويجعل الحنوط فيها بينها .
ش : يحنط كفن الميت ، لأن الحنوط مشروع ، بدليل قوله في المحرم ( ولا تحنطوه ) والمستحب في التحنيط أن يذر بين اللفائف ، حتى على اللفافة [ التي تلي جسد الميت ، قال في المجرد : التي تفرش أولًا لا يذر فوقها حنوط . وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجعل الحنوط فوق اللفافة ] . ونص عليه أحمد والأصحاب ، لما تقدم عن أسماء .
1011 وعن عمر ، وابنه وأبي هريرة 16 ( أنهم كرهوا ذلك ) .
1012 وعن الصديق رضي الله عنه أنه قال : 16 ( لا تجعلوا على أكفاني حنوطاً ) . ( تنبيه ) الحنوط ما تطيب به أكفان الميت خاصة .
____________________
(1/314)
قال : وإن كفن في قميص ، ومئزر ، ولفافة ، وجعل المئزر مما يلي جلده ، ولم يزر .
ش : الأولى التكفين في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص كما تقدم ، ويجوز التكفين في قميص ، ومئزر ، ولفافة ، بالإِجماع .
1013 وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : الميت يقمص ويؤزر ، ويلف بالثوب الثالث ، فإن لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه . رواه مالك في الموطأ .
1014 وثبت أنه أعطى قميصه لعبد الله بن أبي ليكفن فيه .
1015 وعن ابن عباس 16 ( أنه كفن في قميص وحله نجرانية ، الحلة ثوبان ) ، رواه أحمد وأبو داود ، لكن الثابتت في تكفينه هو الأول ، ويجعل المئزر مما يلي جلده كما يفعل بالحي ، وهل يزر القميص ؟ فيه [ روايتان ] إحداهما وهي اختيار الخرقي لا يزر عليه القميص ، نظراً لحال الحي في نومه ، بل وهو الأفضل له مطلقاً إلا لحاجة .
1016 لأنه كان قميصه مطلقاً ، ( والثانية ) : يزر عليه نظراً لحال الحي في زينته . والله أعلم .
قال : ويجعل الذريرة في مفاصله ، ويجعل الطيب في مواضع السجود والمغابن ، ويفعل به كما يفعل بالعروس .
ش : يجعل الطيب في مفاصل الميت ومغابنه ، وما ينثني من الإِنسان ، كطي الركبتن وتحت الإِبطين ، وأصول الفخذين .
1017 لأن أحمد روى في مسائل صالح أن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك . وفي مواضع سجوده تكريماً لها .
1018 ويفعل به كما يفعل بالعروس ، كذا يروى عن النبي .
1019 ويروي أن أنساً رضي الله عنه لما ما طلي بالمسك ، من قرنه إلى قدميه .
1020 وعن ابن عمر أنه طلا ميتا [ بالذريرة ] .
قال : ولا يجعل في عينيه كافورا .
ش : لأن الكافور يفسدهما .
قال : وإن أحب أهله أن يروه لم يمنعوا .
1021 ش : قالت عائشة رضي الله عنها : رأيت رسول الله يقبل عثمان بن
____________________
(1/315)
مظعون وهو ميت ، حتى رأيت الدموع تسيل .
1022 وقبل الصديق النبي ثم بكى ، وقال : 16 ( بأبي أنت وأمي يا رسول الله لن يجمع الله عليك موتتين ) .
قال : وإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه لم يعد إلى الغسل . وحمل .
ش : [ إذا خرج من الميت شيء يسير بعد وضعه في أكفانه لم يعد إلى الغسل ] بلا خلاف نعلمه بين أصحابنا ، لما في ذلك من الحرج والمشقة ، والتأخير المخالف للسنة ، مع أن الخارج لا يبطل الغسل ، إنما ينقض الوضوء .
وفي الكثير روايتان ، أشهرهما وهي المختاره عند الأكثرين أن حكمه حكم اليسير لما تقدم ، قال الخلال : روى جماعة أنه لا يعاد ، وما رواه ابن منصور يمكن أن يكون . قاله مرة ( والثانية ) : وهي أنصهما ، وظاهر كلام الخرقي أنه يعاد ، بخلاف اليسير ، لفحشه ، ولأن مثله يؤمن في المرة الثانية ، لتحفظهم ، واحترازهم بالتلجم ، قال ابن الزاغواني : قال بعض الأصحاب : إنما يعاد إذا كان قبل السبع ، أما بعدها فلا ، وهو حسن . وإذا قلنا : لا يعاد . ففي غسل الكفن وجهان ، الغسل لعدم المشقة في ذلك ، وعدمه تبعاً للميت .
قال : والمرأة تكفن في خمسة أثواب ، قميص ومئزر ، ولفافة ، ومقنعة ، وخامسة تشد بها فخذاها .
ش : لأن الكمال في حق الحية كذلك .
1023 وقد روي عن ليلى [ بنت قانف ] الثقفية قالت : كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله ، فكان أول ما أعطانا رسول الله الحقو ثم الدرع ، ثم الخمار ، ثم الملحفة ، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر . قالت : ورسول الله عند الباب ، معه كفنها يناولنا ثوباً [ ثوباً ] . رواه أحمد وأبو داود .
ولأنها تزيد على الرجل في اللباس في الحياة ، فكذلك بعد الموت ، وتلبس المخيط في الإِحرام ، فكذلك بعد الموت .
واعلم أن ظاهر الحديث أنها تكفن في ( مئزر ) [ وهو الحقو ] ( وقميص ) وهو الدرع ( وخمار ) وهو المقنعة ، ( ولفافتين ) وهذا اختيار القاضي ، وأبي محمد وجمهور الأصحاب ، والخرقي جعل الخامسة تشد بها فخذاها ، يعني تحت المئزر ، وهو منصوص أحمد ، واختياره أبو بكر .
____________________
(1/316)
1024 لحديث يروى في ذلك رواه حرب ، لتنضم بذلك ، وحكى ابن الزاغوني وجهاً آخر أنها تستثفر بها ، وهو أن تشد في وسطها خرقة ، ثم يؤخذ أخرى فيشد أحد طرفيها مما يلي ظهرها ، والآخر مما يلي السرة ، ويكون لجاماً على الفرجين ، ليؤمن بذلك خروج خارج ، وقال : إنه الأشهر عند الأصحاب ، وشذ ابن حمدان ، في الصغرى فزاد على الخمسة ما يشد فخذيها ، واختيار أبي البركات أنه يشد فخذيها بالإِزار تحت الدرع ، وتلف فوق الدرع والخمار باللفافتين .
ومفهوم كلام الخرقي أن الصغيرة تخالف المرأة ، ونص أحمد على أن الصبي يكفن في خرقة ، والجارية التي لم تبلغ في لفافتين وقميص ، ثم اختلف في حد البلوغ ، فقيل عنه : إنه البلوغ المعتاد ، وقيل وهو الأكثر عنه إنه بلوغ تسع سنين ، وإذاً تساوى المرأة . والله أعلم .
قال : ويضفر شعرها ثلاثة قرون ، ويسدل من خلفها .
ش : لأن في حديث أم عطية في غسل ابنة النبي قالت : 16 ( وضفرنا شعرها ثلاثة قرون ، فألقيناها خلفها ) .
قال : المشي بالجنازة الإِسراع .
1025 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أسرعوا بالجنازة ، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه ، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ) متفق عليه .
1026 وقال أبو بكرة رضي الله عنه : لقد رأيتنا مع رسول الله وإنا نكاد نرمل بالجنازة رملًا . قال القاضي : والمستحب لا يخرج عن المشي المعتاد . قال أبو البركات : يمشي أعلى درجات المشي المعتاد ، وقد منع أحمد من شدة السير ، وأمر بالرفق ، بل ونقل عنه أنه يسار مع الجنازة كيف سارت .
1027 وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : [ مرت ] برسول الله جنازة تمخض مخض الزق ، فقال رسول الله : ( عليكم القصد ) رواه أحمد .
قال : والمشي أمامها أفضل .
1028 ش : لما روى الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، قال : رأيت النبي ، وأبا بكر ، وعمر يمشون أمام الجنازة . رواه الخمسة ، واحتج به أحمد في رواية أبي
____________________
(1/317)
طالب ومهنا ، لكن قال في رواية الأثرم ، وإبراهيم بن الحارث : ما أراه محفوظاً ، عدة أرسلوه ، وما أراه إلا من كلام الزهري . قيل له : فتذهب إلى المشي أما الجنازة ؟ فقال : نعم .
1029 ابن المنكدر سمع ربيعة [ يقول ] : رأيت عمر يقدم الناس أمام الجنازة ؟ . وكذا قال الترمذي : إن أهل الحديث يرون أن المرسل أصح . وهذا لا يخرج الحديث عن الحجية على قاعدة أحمد في المرسل ، [ وقد ] قال ابن المنذر : [ ثبت ] أن النبي ، وأبا بكر ، وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة ولأن المصلين شفعاء للميت .
1030 قال رسول الله : ( ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين ، يبلغون مائة ، كلهم يشفعون له ، إلا شفعوا فيه ) رواه مسلم وغيره . والشفيع يتقدم المشفوع له .
ومفهوم كلام الخرقي أن الراكب الماشي ، وهو صحيح ، فإنه السنة له أن يكون خلفها ، قال الخطابي : لا أعلمهم اختلفوا في أن الراكب خلفها .
1031 وقد روى المغيرة بن شعبة أن النبي قال : ( الراكب يمشي خلف الجنازة ، والماشي كيف شاء منها ، والطفل يصلي عليه ) رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه . وكذلك أحمد في رواية أحمد بن أبي عبدة .
قال : والتربيع أن توضع على كتفه اليمنى إلى الرجل ، ثم الكتف اليسرى إلى الرجل .
ش : يحتمل أن يكون معطوفاً على ما تقدم ، أي والمشي أمامها أفضل ، والتربيع أفضل ، ثم بين صفته فقال : أن توضع أي وصفته أن توضع ، وهذا هو المقصود ، وإن كان ظاهر كلامه بيان صفة التربيع فقط ، أما أفضلية التربيع .
1032 فلما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : من اتبع جنازة فليحمل من جوانب السرير كلها ، فإنه من السنة ، ثم إن شاء فليتطوع ، وإن شاء فليدع . رواه ابن ماجه . ولا بأس بالحمل بين العمودين ، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور .
1033 لأنه يروى أن النبي حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين .
1034 وأن سعد بن أبي وقاص حمل عبد الرحمن بن عوف بين العمودين .
1035 وأن عثمان حمل سرير أمه بين العمودين ، فلم يفارقه حتى وضع ،
____________________
(1/318)
وسأل أبو طالب أحمد عن الحمل بين العمودين فقال : لا . قال القاضي : معناه لا أختاره . وحمل ابن الزاغوني النص على ظاهره فجعل في [ الكراهة روايتين ، و [ قد ] قال [ أحمد ] : إن عمر كرهه .
وأما صفته فأن يأخذ بجوانب ] السرير الأربع ، كما ذكر الخرقي ، فيضع قائمة النعش اليسرى وهي التي تلي يمين الميت على الكتف اليمني ، ثم ينتقل إلى المؤخرة ، ثم يضع قائمة النعش اليمنى على الكتف اليسرى ، ثم ينتقل إلى المؤخرة ، هذا اختيار الخرقي وغيره ، وهو المشهور عن أحمد ، كما في الغسل يبدأ بشقه الأيمن إلى رجله ، ثم بالأيسر كذلك ، ونقل عنه حنبل : يبدأ بالرأس ، ويختم بالرأس .
1036 معتمداً على أن ابن عمر فعله والله أعلم .
قال : وأحق الناس بالصلاة عليه من أوصى أن يصلي عليه .
ش : هذا إجماع أو كالإجماع .
1037 فعن أبي بكر رضي الله عنه أنه أوصى أن يصلي عليه عمر ، قال أحمد . قال : وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب ، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد ، وأبو بكرة أوصى أن يصلي عليه أبو برزة ، وقال غير أحمد : وعائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة ، وابن مسعود أوصى أن يصلي عليه الزبير .
1038 وأوصى أبو سريحة أنيصلي عليه زيد بن أرقم ، فجاء عمرو بن حريث وهو أمير الكوفة ليتقدم فثيصلي عليه ، فقال ابنه : أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم . فقدم زيداً . وهذه قضاياً اشتهرت من غير إنكار ولا مخالف ، فكانت إجماعاً .
وشرط الوصي أن يكون مستور الحال ، فلا تصح لفاسق ، لأنه غير مؤتمن ، ولأن ذلك نوع ولاية ، والفاسق ليس أهلًا للولاية .
قال : ثم الأمير .
ش : أحق الناس بالصلاة [ عليه ] بعد الوصي غير الفاسق الأمير ، لعموم قوله : ( لا يؤمن الرجل في سلطانه ، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ) رواه مسلم وغيره ، وخرج منه الوصي لما تقدم ، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم ، ولأن النبي وخلفاءه من بعده كانوا يصلون على الموتى ، ولم ينقل أنهم استأذنوا العصبة .
1039 وعن أبي حازم قال : شهدت حسيناً حين مات الحسن ، وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص ، أمير المدينة ، وهو يقول : لولا السنة ما قدمتك .
1040 وقال الحسن البصري أدكرت الناس وأحقهم بالصلاة على جنائزهم ، من
____________________
(1/319)
رضوه لفرائضهم . ذكره البخاري في صحيحه .
قال : ثم الأب وإن علا ، ثم الابن وإن سفل ، ثم أقرب العصبة .
ش : يقدم بعد الأمير في الصلاة على الميت الأب ، ثم الجد وإن علا على الابن ، لأنه شارك [ الابن ] في العصوبة ، وزاد عليه بالحنو والشفقة ، وبهما يحصل كمال الدعاء ، الذي هو مقصود صلاة الجنازة ، فقدم كالنكاح ، ثم الابن وإن سفل ، لتقدمه في النكاح والإِرث جميعاً على الأخ ومن بعده ، ثم أقرب العصبة ، ثم ترتيب الميراث ، هذا اختيار الخرقي ، وأبي بكر ، والقاضي في التعليق ، وأبي محمد وغيرهم ، وقال صاحب التلخيص فيه ، وأبو البركات : يقدم بعد الأمير أقرب العصبة . فيحتمل أنهما أرادا أن الابن يقدم على الأب ، لأنه أقرب العصبة بدليل الميراث ، ويحتمل أنهما أرادا ما أراد الأصحاب ، وغايته أن الأقرب يختلف باختلاف الأبواب ، وهذا أولى ، توفيقاً بين كلام الأصحاب ، يؤيده أن أبا البركات في شرحه لم يحك خلافاً في تقديم الأب على الابن ، إنما حكى رواية بتقديم الابن على الجد ، والأخ وابنه أيضاً عليه ، كما في النكاح . انتهى ، وفي تقديم الأخ للأبوين على الأخ للأب أو التسوية بينهما قولان ، من الروايتين في النكاح .
وظاهر كلام الخرقي أن العصبة [ يقدم ] على الزوج ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار الخلال وأبي محمد .
1041 لأن عمر رضي الله عنه قال لقرابة امرأته : أنتم أحق بها . ذكره أحمد في رواية حنبل ، ومحمد بن جعفر ، محتجاً به ، ولأن النكاح يزول بالموت ، والقرابة باقية ، وعلى هذا إن لم يكن عصبة فالزوج أولى نص عليه ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى اختارها القاضي في التعليق ، وأبو الخطاب في الخلاف ، وأبو البركات يقدم الزوج على العصبة .
1042 لأن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الرجل أحق بغسل امرأته ، وبالصلاة عليها . إلا أن أحمد قال : هذا منكر .
1043 واحتج أحمد بقضية رويت عن أبي بكرة ، تدل على أن الزوج أحق . والله أعلم .
قال : والصلاة عليه يكبر الأولى ، ثم يقرأ الحمد لله ، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي ، كما يصلي عليه في التشهد ، ويكبر الثالثة ويدعو لنفسه ، ولوالديه ، ويدعو للمسلمين ، ويدعو للميت ، وإن أحب أن يقول : اللهم اغفر لحينا ، وميتنا ، وشاهدنا ، وغائبنا ، وصغيرنا ، وكبيرنا ، وذكرنا ، وأنثانا ، إنك تعلم منقلبناً ومثوانا ، إنك على كل شيء قدير ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإِسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإِيمان ، اللهم إنه عبدك ، وابن أمتك ، نزل بك ، وأنت خير منزول به ، ولا نعلم إلا
____________________
(1/320)
خيراً ، اللهم إن كان محسناً فجازه بإحسانه ، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ، اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده ، واغفر لنا وله . ويكبر الرابعة .
ش : أما كونه يكبر أربع تكبيرات كما تضمنه كلامه :
1044 فلما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر ، أن النبي صلى على أصحمة النجاشي ، فكبر عليه أربعاً .
1045 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى على قبر بعد مادفن ، فكبر أربعاً . وأما كونه يقرأ الحمد في الأولى فلعموم قوله : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) .
1046 وعن ابنعباس أنه صلى على جنازة ، فقرأ بفاتحة الكتاب ، وقال : لتعلموا أنه من السنة . رواه البخاري وأبو داود ، الترمذي وصححه ، والنسائي ولفظه : قرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر ، فلما فرغ قال : سنة وحق .
1047 وقال مجاهد : سألت ثمانية عشر رجلًا من أصحاب النبي عن القراءة على الجنازة ، فكلهم قال : يقرأ . رواه الأثرم ، ونقل عنه [ البرزاطي ] : إذا صلى على القبر يقرأ ، كما يقرأ [ إذا صلى ] على الجنازة ؟ قال : لا يقرأ على القبر شيئاً من القرآن . قال القاضي : المذهب الصحيح وجوبها على القبر ، لأن الجماعة رووا عنه جواز الصلاة على القبر ، وعن غير منع القراءة . وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستفتح ، ولا يتعوذ ، وهو إحدى الروايات ، لبناء هذه الصلاة على التخفيف ، والثانية : يستفتح ، ويتعوذ كغيرها ، والثالثة : يتعوذ ولا يستفتح ، وبها قطع أبو البركات في محرره ، وصححها في شرحه ، للأمر بالتعوذ ، والاستفتاح لم يرد فيها .
( تنبيه ) يسر بالقراءة ، نص عليه وقال : إنما جهر ابن عباس ليعلمهم . وأما كونه يصلي على النبي في الثانية :
1048 فلما روي عن أبي أمامة بن سهل رضي الله عنه ، أن رجلًا من أصحاب النبي أخبره أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإِمام ، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى ، سراً في نفسه ، ثم يصلي على النبي ، ويخلص الدعاء للجنازة ، والتكبيرات لا يقرأ في شيء منهن ، ثم يسلم سراً في نفسه . رواه الشافعي في مسنده .
1049 وقال أبو هريرة : إذا وضعت يعني الجنازة كبرت ، وحمدت الله ، وصليت على نبيه . مختصر ، رواه مالك في الموطأ ، [ وصفة الصلاة على
____________________
(1/321)
النبي كما في التشهد ، لأن النبي ] لما سألوه : كيف نصلي عليك ؟ علمهم ذلك ، قال أبو محمد : وإن أتى بالصلاة على غير ذلك فلا بأس ، لأن القصد مطلق الصلاة ، وقال أحمد في رواية عبد الله : يصلي على النبي ، وعلى الملاكئة المقربين . وقال القاضي : يدعو عقيب الصلاة على النبي للمؤمنين والمؤمنات فيقول : اللهم صل على ملائكتك المقربين ، وأنبيائك والمرسلين ، وأهل طاعتك أجمعين ، من أهل السموات وأهل الأرضين ، إنك على كل شيء قدير .
وأما كونه يدعو في الثالثة لنفسه ، ولوالديه ، وللمسلمين ، وللميت .
1050 فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : كان النبي إذا صلى على جنازة قال : ( اللهم اغفر لحينا وميتنا ، وشاهدنا وغائبنا ، وصغيرنا وكبيرنا ، وذكرنا وأنثانا ، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإِسلام ، ومن توفيته منا فتوفه على الإِيمان ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه وزاد ( اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تضلنا بعده ) .
1051 وعن عو ف بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله وصلى على جنازة يقول : ( اللهم اغفر له ، واعف عنه وعافه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، واغسله بما وثلج وبرد ، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلًا خيراً من أهله ، وزوجاً خيراً من زوجه ، وقه فتنة القبر وعذاب النار ) قال عوف : فتمنيت لو كنت أنا الميت ، لدعاء النبي لذلك الميت . رواه مسلم والنسائي ، والترمذي وصححه .
1052 وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله قال : ( إذا صليتم على الميت فأخصلوا له الدعاء ) رواه أبو داود ، وابن ماجه . وقوله : لا نعلم إلا خيراً . إنما يقوله لمن لا يعلم منه شراً ، لئلا يكون كاذبا .
1053 وقد ذكر القاضي حديثاً عن النبي وقال فيه : ( ولا نعلم إلا خيراً ) فقال بعض الصحابة : يا رسول الله وإن لم أعلم خيراً ؟ قال : ( لا تقل إلا ما تعلم ) .
1054 وروي عن النبي : ( ما من مسلم يموت فيشهد له ثلاث أبيات من جيرانه الأدنين ، إلا قال الله تعالى : قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا ، وغفرت له ما أعلم ) رواه أحمد .
قال : ويرفع يديه مع كل تكبيرة .
1055 ش : لأنه يروى عن ابن عمر ، رواه الشافعي ، وعن ابن عباس ، رواه
____________________
(1/322)
سعيد ، وعن عمر ، وزيد بن ثابت ، رواه الأثرم .
قال : ويقف قليلًا .
ش : يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلًا من غير دعاء ، على ظاهر كلام الخرقي ، وهو إحدى الروايتين ، قال أخمد : لا أعلم فيه شيئاً ، والثانية : يدعو فيها كالثالثة ، اختارها أبو البركات في شرحه .
1056 لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى أنه ماتت ابنة له فكبر عليها أربعاً ، وقام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو ، ثم قال : كان النبي يصنع في الجنازة هكذا . رواه أحمد ، واحتج به في رواية الأثرم ، وقال : لا أعلم شيئاً يخالفه . وفي صفة ما يدعو به وجهان ( أحدهما ) أنه يقول : 19 ( { ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار } ) اختاره ابن أبي موسى ، وأبو الخطاب ، وحكاه ابن الزاغوني عن الأكثرين .
1057 لأنه [ قد ] صح عن أنس رضي الله عنه أنه كان لا يدعو بدعاء إلا ختمه بهذا الدعاء . ( والثاني ) : يقول : اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتنا بعده . اختاره أبو بكر ، والمنصوص عن أحمد أنه يخلص الدعاء في الرابعة للميت ، بل قد نص في رواية جماعة أنه يدعو في الثالثة للمسلمين والمسلمات ، وفي الرابعة للميت ، ومن هنا قال الأصحاب : لا تتعين الثالثة للدعاء ، بل لو أخرى الدعاء للميت إلى الرابعة جاز . والله أعلم .
قال : ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه .
ش : المشهور المختار المنصوص أنه يسلم تسليمة واحدة .
1058 : لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى على جنازة .
فكبر أربعاً ، وسلم تسليمة واحدة ، رواه الدارقطني ، إلا أن أحمد قال : هذا عند موضوع . والعمدة لأحمد فعل الصحابة .
1059 وقال أحمد : التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن يمينك عن ستة من أصحاب النبي ، ليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم .
وفيه رواية أخرى أنه يسلم ثنتين كبقية الصلوات ، وجعل القاضي الثنتين للاستحباب ، والواحدة للجواز ، وصفة التسليم أن يكون عن يمنيه على المذهب ، ولو سلم تلقاء وجهه جاز نص عليه ، وجعله بعض الأصحاب الأولى ، وكمالة : السلام عليكم ورحمة الله [ وإن لم يقل : ورحمة الله . أجزأة ] على المنصوص وفيه احتمال .
( تنبيه ) الواجب مما ذكره الخرقي رحمه الله القيام في فرضها ، فلاتصح من
____________________
(1/323)
القاعد ، ولا على الراحلة إلا لعذر ، والتكبيرات ، وقراءة الحمد ، والصلاة على النبي [ إن أوجبناها في التشهد ] ، وأدنى دعاء للميت ، ويسقط بعض واجباتها عن المسبوق كما سيأتي ، وتجب لها أيضاً النية ، ولا يشترط معرفه عين الميت ، ولا ذكوريته وأنوثيته ، بل تكفي نية الصلاة على الميت الحاضر ، ومن شرطها تطهير الميت بالغسل ، أو بالتيمم عند تعذره ، مع بقية شروط الصلاة . والله أعلم .
قال : ومن فاته شيء من التكبير قضاه متتابعاً .
ش : من فاته شيء من التكبير حتى سلم الأِمام ، قضاه بعد سلام إمامه متتابعاً ، على منصوص أحمد ، واختيار الخرقي ، وابن عقيل في التذكرة ، وأورده أبو البركات مذهباً ، وقال أبو الخطاب في الهداية متابعة للقاضي ، وتبعهما أبو محمد في المقنع : يقضيه على صفته ، إلاأن ترفع الجنازة فيقضيه متوالياً ، لعموم قوله : ( وما فاتكم فاقضوا ) والقضاء يحكي الأداء ، قال أبو البركات : ومحل الخلاف فيما إذا خشي رفع الجنازة ، أما إن علم بعادة أو قرينة أنها تترك حتى يقضي فلا تردد أنه يقضي على الصفة أن يأتي بالتكبير والذكر المشروع في محله ، فإذا أدرك الإِمام في الدعاء تابعه فيه ، ثم قام فأتي بالحمد ، ثم أتى بالصلاة على النبي ، على المذهب في أن ما أدركه مع الإِمام آخر صلاته ، وما يقضيه أولها ، وعلى القول بالعكس إذا دخل المسبوق قرأ الفاتحة ، ثم بني على ذلك ، والله أعلم .
قال : فإن سلم مع الإِمام ولم يقض فلا بأس .
ش : المنصوص في أحمد وهو اختيار الخرقي ، والقاضي وأصحابة ، والشيخين أن قضاء ما فات المأموم من التكبير على سبيل الاستحباب ، فلو سلم مع الإِمام ولم يقض فلا بأس .
1060 لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إني أصلى على الجنازة ، ويخفى عليّ بعض التكبير . فقال : ( ما سمعت فكبري ، وما فاتك فلا قضاء عليك ) .
1061 واعتمد أحمد على ما رواه العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : لا يقضي . وفي المذهب رواية أخرى ، اختارها أبو بكر ، أن القضاء على سبيل الوجوب ، فلم سلم ولم يقض بطلت صلاته ، قياساً على بقية الصلوات ، إذ التكبيرات بمنزلة الركعات ، ولعموم قوله : ( ما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فاقضوا ) .
قال : ويدخل القبر من عند رجليه ، إن كان أسهل عليهم .
1062 ش : لما روى أبو إسحاق قال : أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد ، فصلى عليه ، ثم أدخله القبر من عند رجلي القبر ، وقال : هذا من السنة .
____________________
(1/324)
رواه أبو داود .
1063 وعن أنس أنه كان في جنازة ، فأمر بالميت فسل من عند رجلي القبر ، رواه أحمد .
1064 وعن قال : قال رسول الله : ( يدخل [ الميت ] من قبل رجليه ويسل سلا ) رواه ابن شاهين .
وقوله : إن سهل عليهم . احترازاً مما إذا شق ذلك ، فإنه يفعل ما هو الأسهل إذا المقصود الرفق بالميت . والله أعلم .
قال : والمرأة يخمر قبرها بثوب .
1065 لأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يغطي قبر المرأة .
1066 وعن علي رضي الله عنه أنه مر بقوم قد دفنوا ميتاً ، وبسطوا على قبره الثوب ، فجذبه وقال : إنما يصنع هذا بالنساء ، ولأنها عورة ، فربما ظهر منها شيء .
وخرجَ من كلام الرجل ، لما تقدم ، وليخرج عن مشابهة النساء .
قال : ويدخلها محرمها .
ش : يدخل المرأة القبر محرمها ، وهو من كان يحل له النظر إليها ، والسفر بها ، وهذا مما لاخلاف فيه والحمد لله ، ولأن امرأة عمر رضي الله عنه لما توفيت قال لأهلها : أنتم أحق بها .
وظاهر كلام الخرفي [ أن ] المحرم يقدم على الزوج ، وهو بناء على قاعدته في تقديمه عليه في الصلاة ، وإذا قلنا ثم : إن الزوج يقدم ، قدم هنا . والله أعلم .
قال : فإن لم يكن فالنساء .
ش : إذا عدمت المحارم فإن النساء يدخلنها القبر ، لأنهن أحق بغسلها ، ولهن أحق بغسلها ، ولهن النظر إليها ، فمن أحق من غيرهن ، وعلى هذا يقدم الأقر ب منهن فالأقرب ، وحملها أبو البركات على ما إذا لم يكن في دفنهن محذور ، من اتباع الجنازة ، أو التكشف بحضرة الرجال ، لأن منصوص أحمد كذلك ، قال حرب : قيل لأحمد : امرأة ماتت في طريق مكة ، فغسلها النساء ، وليس معها إلا محرم واحد ، يدفنها الرجال ؟ قال : إن دفنها النساء أعجب إلى ، وإن اضطروا إلى ذلك دفنوها . وعن أحمد : النساء لا يستطعن أن يدخلن القبر ، ولا يدفن . قال أبو محمد : وهذا أصح وأحسن .
1067 لأن النبي حين ماتت ابنته أمر أبا طلحة فنزل في قبرها .
____________________
(1/325)
1068 ورأى النبي نسوة في جنازة فقال : ( هل تحملن ؟ ) قلن : لا . قال : ( هل تدلين فيمن يدلي ؟ ) قلن : لا . قال : ( فارجعن مأزورات غير مأجورات ) رواه ابن ماجه . وهو استفهام إنكار ، فيدل على أنه غير مشروع لهن بحال ، وعلى كلا الروايتين لا يكره للرجال دفنها ، وإن كان محرمها حاضراً ، والله أعلم .
قال : قإن لم يكن فالمشايخ .
ش : إذا لم يكن محارم ولا نساء ، فالمشايخ والخصيان ، لأنهم أقل شهوة ، وأبعد من الفتنة ، وكذلك يليهم أهل الستر والصلاح .
( تنبيه ) أولى الناس بدفن الرجل أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه .
قال : ولا يشق الكفن في القبر ، وتحل العقد حلًا .
ش : لا يجوز شق الكفن [ في القبر ] لأنه إتلاف مستغنى عنه ، ولم يرد الشرع به .
1069 بل ورد بتحسين الكفن ، فقال : ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه ) وتخريفه يذهب بحسنه ، وستحب حل العقد [ إذ عقده كان ] للخوف من انتشاره ، وقد أمن ذلك بذفنه .
قال : ولا يدخل القبر آخراً ، ولا خشباً ، ولا شيئاً مسته النار .
ش : لا يدخل القبر شيئاً مسته النار ، تفاؤلًا بأن لا تمسه النار .
1070 وقد روي عن أبي بردة رضي الله عنه قال : أوصى أبو موسى حين حضره الموت فقال : لا تتبعوني بجمرة . فقالوا له : أو سمعت فيه شيئاً ؟ قال : نعم من رسول الله . رواه ابن ماجه ، ولا آجراً ، لأنه مما مسته النار .
1071 وعن النخعي : أنهم كانوا يكرهون الآجر ، والبناء بالآجر . رواه الأثرم .
1072 وعن زيد بن ثابت أنه منع منه ، وهذان الأثران والله أعلم اللذان حديا الخرقي على ذكر الآجر ، وإلا فهو مما مسته النار . ولا يدخله خشباً ، لأنه معد لمس النار .
1073 وعن عمرو بن العاص : لا تجعلوا في قبري خشباً ولا حجراً . رواه أحمد . ويستحب أن ينصب على اللحد اللبن .
1074 قال سعد رضي الله عنه : الحدوا لي لحدا ، وانصبوا عليه اللبن نصباً ، كما صنع برسول الله . رواه أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، ويلحق باللبن القصب ،
____________________
(1/326)
واختلف عن أحمد أيهما أفضل ، قال الخلال : كان أحمد رحمه الله يميل إلى اللبن ، ثم مال إلى القصب ، وهذا اختيار أبي بكر ، والأول اختيار أبي البركات ، والله أعلم .
قال : ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر .
1075 ش : في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى على قبر بعد ما دفن ، فكبر عليه أربعاً .
1076 وفي الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شاباً ، ففقدها رسول الله ، فسأله عنها أو عنه ، فقالوا : مات . فقال : ( أفلا كنت آذنتموني ؟ ) قال : فكأنهم صغروا أمرها أو أمره ، فقال : ( دلوني على قبره ) فدلوه فصلى عليه ، ثم قال : ( إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليها .
1077 وقال أحمد : يروي عن النبي من ستة أوجه ، أنه صلى على قبر [ بعد ] ما دفن .
وقد دل كلام الخرقي على أن الميت وإن صلي عليه ، يجوز لمن لم يصل عليه أن يصلي عليه ، لا وهو كذلك ، لما تقدم ، بل قد قال ابن حامد واختاره أبوالبركات : إن من صلى عليه أيضاً [ يجوز ] أن يصلي عليه تبعاً لمن لم يصل عليه ، كما في إعادة الجماعة تعاد مع الغير ، ولا تستحب ابتداء ، والمنصوص وعليه الأكثرون أن من صلى عليه مرة لا يصلي عليه مرة أخرى ، كما أن من سلم مرة ، لا يسلم ثانية ، نعم الأفضل أنها إذا صلى عليها ورفعت لا توضع لأحد ، ويصلي من فاتته على القبر ، طلباً للمبادرة إلى دفنه ، وإن وضعت وصلى عليها ولم يطل الزمان جاز ، والله أعلم .
قال : وإن كبر الإِمام خمساً كبر بتكبيره .
ش : نص كلام الخرقي رحمه الله أن الإِمام إذا كبر خمساً تابعه المأمون في الخامسة ، وظاهر كلامه أنه لا يتابعه فيما زاد على ذلك ، وهذا إحدى الروايات عن أحمد رحمه الله ، بل أشهرها .
1078 لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : [ كان ] زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعاً ، وأنه كبر على جنازة خمساً ، فسألته فقال : كان رسول الله يكبرها ، رواه الجماعة إلا البخاري .
1079 وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى على جنازة فكبر
____________________
(1/327)
خمساً . مختصر رواه أحمد . ( والرواية الثانية ) : يتابع [ يعني ] إلى سبع ولا يزيد على ذلك ، اختارها عامة الأصحاب ، الخلال ، وصاحبه أبو بكر وابن بطة وصاحبه أبو حفص ، والقاضي ، وجمهور أصحابه ، الشريف ، وأبو الخطاب ، وولده أبو الحسين ، وأبو البركات .
1080 لما روي عن علي رضي الله عنه أنه كبر على [ سهل بن حنيف يعني ستا رواه البخاري .
1081 وعنه أيضاً أنه كبر على ] أبي قتادة سبعاً ، وقال : إنه شهد بدراً . ذكره أحمد محتجاً به .
1082 وعن الحكم بن عتيبة أنه قال : كانوا يكبرون على أهل بدر خمساً ، وستاً ، وسبعاً . رواه سعيد في سننه . واعتمد أحمد على عموم قوله : ( إنماجعل الإِمام ليؤتم به ) .
1082 وعلى قول ابن مسعود : كبروا ما كبر إمامكم . هذا اللفظ رواه سعيد والأثرم وفيه : لا وقت ، ولا عدد ، ( والرواية الثالثة ) : لا يتابع في الزيادة على أربع . اختارها ابن عقيل ، لأن هذا هو الأكثر من فعله ، فالظاهر أنه آخر الأمير .
1084 يؤيده ما روى الأثرم بسنده عن ابن عباس قال : آخر جنازة صلى عليها النبي كبر أربعا .
1085 وعن جابر عن النبي قال : ( صلوا على الميت أربع تكبيرات بالليل والنهار سواء ) رواه أحمد . وهذا أمر فيتعين ، إلا أن في السند ابن لهيعة وفيه ضعف .
وعلى جميع الروايات فالمختار أربع ، نص عليه أحمد في رواية الأثر لأنه الغالب على فعله ، ولهذا اتفق الشيخان على آخراجه ، والزائد فعله ليبين الجواز ، وقصة زيد بن أرقم تدل على ذلك ، ولا خلاف أنه لا يتابع في الزائد على سبع ، قال أحمد : هو أكثر ما جاء فيه ، فلا يزاد عليه .
( تنبيه ) كل تكبيرة قلنا : يتابع الإِمام فيها . فله وللمنفرد فعلها ، وهل يدعو فيها ؟ قولان ، وكل تكبيرة قلنا : لا يتابع فيها [ الإِمام ] . فليس له ولا للمنفرد فعلها ، ومن خالف فزادها عمداً بطلت صلاته على وجه ، إذ التكبيرة هنا بمنزلة الركعة ، ولم تبطل على المنصوص ، لأنه ذكر مشروع ، أشبه تكرار الفاتحة ، وعلى هذا فالمأموم لا يسلم قبله ،
____________________
(1/328)
بل ينتظره حتى يسلم معه ، نص عليه والله أعلم .
قال : والإِمام يقوم عند صدر الرجل ، وعند وسط المرأة .
ش : نص أحمد على هذا في رواية عشرة من أصحابه ، وعليه عامة أصحابه ، حتى أن أبا محمد في المغني قال : لا يختلف المذهب أنه يقف عند صدر الرجل أو عند منكبيه .
1086 لما روي عن أبي غالب الخياط رضي الله عنه ، قال : شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل ، فقام عند رأسه ، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة فصلى عليها ، فقام وسطها ، وفينا العلاء بن العدوي ، فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة فقال : يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله يقوم من الرجل حيث قمت ، ومن المرأة حيث قمت ؟ قال : نعم . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وفي لفظ رواه أحمد : قال أبو غالب : صليت خلف أنس على جنازة ، فقام حيال صدره . وذكر الحديث .
1087 وفي الصحيحين عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي على امرأة ماتت في نفاسها ، فقام وسطها . ونقل عنه حرب : رأيته قام عند صدر المرأة . إلا أن الخلال قال : سهى فيما حكى عنه . والعمل على أما رواه الجماعة ، وروي عنه أنه يقف عند رأس الرجل ، وهو الذي قاله أبو محمد في المقنع ، والكافي ، وهو المشهور في حديث أنس ، قال أبو البركات : والقولان متقاربان ، فإن الواقف عند أحدهما يمكن أن يكون عند الآخر لتقاربهما ، فالظاهر أنه وقف بينهما ، وقد قال أحمد في رواية الأثرم وذكر الحديث : يقف من الرجل عند منكبيه ، ونحو هذا قال أبو محدم في المغني .
وظاهر كلام الخرقي [ أنهما ] إذا اجتمعا وقف منهما كذلك ، وهو إحدى الروايات عنه ، واختيار أبي الخطاب في خلافه ، والشيرازي قياساً على حال الإِنفراد . ( والثانية ) : وهي المنصوصة عنه ، وبها قطع القاضي في التعليق ، وفي الجامع ، والشريف أبو جعفر يسوى بين رأسيهما ، ويقف حذاء صدريهما .
1088 لما روي عن الشعبي 16 ( أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر توفياً جميعاً ، فأخرجنا جنازتهما ، فصلى عليهما أمير المؤمنين ، فسوى يين رؤوسهما وأرجلهما حين صلى عليهما . )
رواه سعيد في سننه ، وقيل : إن هذه الجنازة حضرها ثمانون صحابياً ، وفعله ابن عمر ، وعليه اعتمد أحمد . ( والثالثة ) : التخيير ، مع اختيار التسوية . والله أعلم .
____________________
(1/329)
قال : ولا يصلى على القبر بعد شهر .
ش : هذه هو المشهور في المذهب ، لأنه لا يعلم بقاء الميت أكثر من ذلك ، والذي ورد في الصحيح كان قرب الدفن ، وجعل أبو محمد ما قارب الشهر في حكم الشهر ، وكذلك قال القاضي ، وحده باليوم واليومين .
1089 لما روى سعيد بن المسيب أن أم صعد ماتت والنبي غائب ، فلما قدم صلى عليها ، وقد مضى لذلك شهر ، رواه الترمذي واحتج به أحمد .
1090 وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى على قبر بعد شهر ، رواه الدارقطني ، وأول أبو بكر هذا على الشهر ، قال : لقوله تعالى : 19 ( { ولتعلمن نبأه بعد حين } ) يريد حينا .
وقيل : يجوز ما لم يبل الميت . وعن ابن عقيل الجواز مطلقاً ، لقيام الدليل على الجواز ، وما وقع من الشهر فاتفاق .
1091 ويؤيده أن النبي صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين ، رواه البخاري وغيره .
وابتداء الشهر من الدفن على المشهور ، لأنه إذاً يصير مقبوراً ، وقال ابن عقيل : من الموت . وهو ظاهر حديث أم سعد . والله أعلم .
قال : وإن تشاح الورثة في الكفن جعل بثلاثين درهما ، فإن كان موسراً . فيخمسين .
: الكفن معتبر بحال الميت ، فإن كان موسراً كان كفنه رفيعاً حسناً ، على حسب ما يلبس في الحياة ، وإن لم يكن موسراً [ فعلى حسب حاله ] قال أبو محمد : وقول الخرقي ليس على سبيل التحديد ، إذ لا نص في ذلك ولا إجماع ، ولعل الجيد والمتوسط كان يحصل في زمنه بما ذكره ، والكفن يجب في رأس المال ، مقدماً على الدين وغيره .
ولم يتعرض الخرقي رحمه الله هل الواجب ثوب واحد أو أكثر من ذلك ؟ والمشهور أن الواجب [ ثوب ] ساتر لجميع الميت ، رجلًا كان أو امرأة ، اختاره ابن عقيل ، وأبو محمد ، وقيل وعزي إلى القاضي : يجب في حقهما ثلاثة ، وجعل صاحب التلخيص محل الوجهين في نفوذ وصية الميت بإسقاط الثوبين ، قال : وعلى كليهما لا يملك الغرماء ولا الورثة المضايقة فيهما ، وقيل : تجب الثلاثة : إلا مع الدين المستغرق ، وهذا اختيار أبي البركات في الشرح ، وقيل : بل ثلاثة في حق الرجل ،
____________________
(1/330)
وخمسة في حق المرأة ، ويتلخص خمسة أوجه ، واعلم أن أبا البركات جوز وصية الميت بالثوب الواحد بالإِجماع ، والله أعلم .
قال : والسقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلى عليه .
ش : لأنه ميت فيه روح ، أشبه المولود ، ودليل الوصف يأتي إن شاء الله تعالى .
1092 وقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله قال : ( الراكب يمشي خلف الجنازة ، والماشي كيف شاء منها ، والسقط يصلي عليه ) رواه أحمد ، والنسائي ، والترمذي وصححه [ وكذلك أحمد في رواية أحمد بن أبي عبدة ] .
وشرط الخرقي الموت بعد أربعة أشهر ، وهو منصوص أحمد في رواية حرب وصالح ، وعليه الشيخان وغيرهما ، لأن من لم يستكملها فليس بميت ، [ لعدم نفخ الروح فيه ، والغسل والصلاة إنما شرعاً لميت ] .
1093 والدليل على ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه : حدثنا رسول الله [ وهو ] الصادق المصدوق ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات ، يكتب رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح ) متفق عليه ، وعليه اعتمد أحمد ، وظاهر كلام أحمد في رواية صالح ، في موضع آخر تعليق الحكم بكونه تبين فيه خلق الإِنسان ، من غير نظر إلى الأربعة أشهر ، وكذلك ذكره ابن أبي موسى ، وأبو بكر في التنبيه ، وأبو الخطاب في الهداية ، وابن حمدان ، والله أعلم .
قال ؛ وإن لم يتبين أذكر هو أم أثنى سمي اسماً يصلح للذكر والأنثى .
ش : يستحب تسمية السقط باسم الذكر إن تبين أنه ذكر ، وباسم الأنثى إن تبين [ أنه أنثى ، وبما يصلح لهما كقتادة ، وطلحة ، ونحوهما إن لم يتبين ] حاله .
1094 لأنه يروى عن النبي [ أنه ] قال : ( سموا أسقاطكم فإنهم أفراطكم ) رواه أبو بكر ، وقيل : الحكمة في ذلك ليدعوا بأسمائهم يوم القيامة .
قال : وتغسل المرأة زوجها .
ش : هذا هو المشهور المنصوص ، الذي قطع به جمهور الأصحاب ، وقد حكاه الإِمام أحمد ، وابن المنذر ، وابن عبد البر إجماعاً .
1095 ويشهد له قول عائشة رضي الله عنها : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله إلا نساؤه . رواه أحمد وأبو داود ، وابن ماجه .
____________________
(1/331)
1096 وأوصى الصديق أن تغسله زوجته أسماء فغسلته ، وحكى أبو الخطاب في الهادية وتبعه صاحب التلخيص فيه ، وأبو محمد في المقنع رواية بالمنع ، إذ البينونة حصلت بالموت ، فتزول عصمة النكاح ، المبيحة للنظر واللمس ، وإذاً لا يجوز لها غسله كالأجنبية ، وقد حكى أبو البركات أن الرواية أثبتها ابن حامد وغيره ، آخذين لها من رواية صالح الآتية وغيرها ، ولم يثبتها هو رواية ، [ قال ] : لأن منطوق أحمد لا يدل على المنع ، ومفهومه كما يحتمل التحريم يحتمل الكراهة ، فيحمل عليه ، موافقة للإِجماع .
وقول الخرقي : وتغسل المرأة زوجها . يدخل فيه وإن لم تكن في عدة حال غسله ، كما إذا وضعت عقب موته ، وهو كذلك ، ويدخل فيه [ أيضاً ] المطلقة الرجعية ، لأنها امرأته ، وخرج المنع ، بناء على تحريمها ، ويخرج من كلامه المبتوتة في مرض موته ، لا تغسله ، لأنها ليست زوجته ، وفيه احتمال ، بناء على الإِرث .
قال : وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس .
ش : كذلك قال ابن أبي موسى ، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية صالح ، وقد سئل : هل يغسل الرجل زوجته ، والمرأة زوجها ؟ قال : كلاهما واحد ، إذا لم يكن من يغسلها ، فأرجو أن لا يكون به بأس . وذلك لما تقدم من أن البينونة حصلت بالموت ، وإنما جاز مع الضرورة ، لأن الضرورات تبيح المحظورات ، ولأنه ورد فيه نوع رخصة [ فحمل على الضرورة ، جمعاً بين الأدلة ، والفرق بين المرأة تغسل زوجها ، والرجل لا يغسل زوجته إلا عند الضرورة ، أن المرأة لها نوع رخصة ] في النظر للأجنبي ، بخلاف الرجل ، إذ محذور الشهوة فيها أخف من الرجل ، ( وعنه ) [ يجوز مطلقاً ] وهو المشهور عند الأصحاب ، حتى أن القاضي في الجامع الصغير ، والشريف ، وأبا الخطاب ، في خلافيهما ، [ والشيرازي ] لم يذكروا خلافاً ، قياساً له عليها .
1097 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : رجع رسول الله من جنازة بالبقيع ، وأنا أجد صداعاً في رأسي ، وأقول : وارأساه . فقال : ( بل أنا وارأساه ، ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك ، وكفنتك ، ثم صليت عليك ودفنتك ) رواه أحمد ، وابن ماجه .
1098 وعن علي أنه غسل فاطمة ، إلا إن أحمد قال : ليس له إسناد .
ومرة قال : روي من طريق ضعيف . واحتج به في رواية حنبل .
1099 وقال في قول ابن عباس : الرجل أحق بغسل امرأته : إنه منكر . وقيل عنه رواية بالمنع مطلقاً ، والمنع مطلقاً والجواز عند الضرورة ، واعلم أن أبا محمد قد نفي هذا القول ، وحمل كلام الخرقي على التنزيه ، وحمله ابن حامد والقاضي على
____________________
(1/332)
ظاهره ، وهو أوفق لنص أحمد . والله أعلم .
قال : والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل ، ولم يصل عليه ، ودفن في ثيابه .
ش : أما كون الشهيد لا يغسل :
1100 فلما روى جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثواب الواحد ، ثم يقول : ( أيهم أكثر أخذاً للقرآن ) ؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد ، وأمر بدفنهم في دمائهم ، ولم يغسلوا ، ولم يصل عليهم ، رواه البخاري ، والنسائي ، والترمذي وصححه .
1101 ولأحمد أن النبي قال في قتلى أحد ( لا تغسلوهم ، فإن كل جرح ، أو كل دم ، يفوح مسكاً يوم القيامة ) ولم يصل عليهم .
وقول الخرقي : لا يغسل . [ يعني ] للموت ، فلو كان به ما يقتضي الغسل من جنابة أو غير ذلك ، فإنه يغسل .
1102 لما روى ابن إسحاق في المغازي ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن محمود بن لبيد ، أن النبي قال : ( إن صاحبكم لتغسله الملائكة ) يعني حنظلة ( فاسألوا أهله ما شأنه ؟ ) فسئلت صاحبته [ عنه ] فقالت : خرج وهو جنب ، حين سمع الهائعة .
قال رسول الله : ( لذلك غسلته الملائكة ) .
وأما كونه لا يصلى عليه وهو المشهور من الروايات ، واختيار القاضي ، وعامة أصحابه فلما تقدم .
1103 وعن أنس رضي الله عنه أن شهداء أحد لم يغسلوا ، ودفنوا بدمائهم ، ولم يصل عليهم ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي . والرواية الثانية : يصلى عليهم . اختارها الخلال ، وعبد العزيز في التنبيه ، وأبو الخطاب .
1104 لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه ، أن النبي خرج يوماً فصلى على قتلى أحد ، صلاته على الميت ، ثم انصرف إلى المنبر فقال : ( إني فرطكم ، وأنا شهيد عليكم ، وإن والله لأنظر إلى حوضي الآن ، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها ) متفق عليه واللفظ للبخاري .
____________________
(1/333)
1105 وله أنه صلى على قتلى أحد ، بعد ثمان سنين ، كالمودع للأحياء والأموات .
1106 وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى على قتلى أُحد .
1107 وعنه أنه صلى على حمزة ، وقد ضعف حديث ابن عباس من قبل رواته ، وأنكر أحمد قضية حمزة ، في رواية مهنا ، وقال : ليس له إسناد . وأما حديث عقبة فقيل : خاص بقتلى أحد ، توديعاً للأحياء والأموات ، وفيه شيء ، فإن الذي ورد أنه لم يصل عليهم هم قتلى أحد ، فإما أن يكون آخر الأمرين من فعله هو الصلاة ، أو فعل ذلك ليبين الجواز ، وهذا هو ( الرواية الثالثة ) : أنه يخير في الصلاة وتركها ، لورود الأمرين بهما ، لكن الفعل أفضل ، وعنه : الترك أفضل .
وأما كونه يدفن في ثيابه التى استشهد فيها أي يكفن فيها فلما تقدم .
1108 وعن عبد الله بن ثعلبة قال : قال رسول الله : ( زملوهم بدمائهم ، فإنه ليس أحد يكلم في سبيل الله إلا أتى يوم القيامة جرحه يدمأ ، لونه لون الدم ، وريحه ريح المسك ) رواه النسائي ، وأحمد ولفظه ( زملوهم في ثيابهم ) .
وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل الوجوب ، وهو المنصوص ، وعليه جمهور الأصحاب ، منهم القاضي في الخلاف ، وشذ في المجرد ، فجعل ذلك مستحباً ، وتبعه على ذلك أبو محمد .
1109 محتجاً بأن صفية أرسلت إلى النبي ثوبين ، ليكفن فيهما حمزة ، فكفنه رسول الله في أحدهما ، وكفن في الآخر رجلًا . قال يعقوب بن شيبة : هو صالح الإِسناد . وأجاب القاضي في الخلاف بأنه يحتمل أن ثيابه سلبت ، أو أنهما ضماً إلى ما كان عليه .
1110 قلت : وقد روي في المسند ما يدل على ذلك .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) : المراد بالشهيد هنا الذي قتل بأيدي الكفار ، في معركتهم ، أما المقتول ظلماً كقتيل اللصوص ونحوه فهل يلحق بالشهيد ، فلا يغسل ، ولا يصلى عليه ، وهو اختيار القاضي وعامة أصحابه ، لأنه شهيد ، أشبه شهيد المعركة ، أو لا يحلق به ، فيغسل ، ويصلي عليه ، وهو اختيار الخلال ، لأنه عمر ، وعلياً ، والحسين رضي الله عنهم قتلوا ظلماً ، وغسلوا ، وصلي عليهم ؟ فيه روايتان . واختلف في العادل إذا قتله الباغي ، فقيل : حكمه حكم قتيل اللصوص ، وهو اختيار أبي بكر ، والقاضي ، وقيل : بل حكم قتيل الكفار ، وهو المنصوص ، واختيار الشيخين .
____________________
(1/334)
1111 لأن علياً رضي الله عنه لم يغسل من قتل معه ، وعمار أوصى أن لا يغسل . أما الشهيد غير القتيل ، كالمبطون ، والمطعون ، والنفساء ، ونحوهم ، فحكمهم حكم بقية الموتى بلا نزاع ، وفي الصحيحين أن النبي صلى على امرألا ماتت في نفاسها ، فقام وسطها .
( الثاني ) : عدم غسل الشهيد قيل : دفعاً للحرج والمشقة ، لكثرة الشهداء في المعترك ، وقيل : لأنه لما لم يصل عليه لم يغسل ، وقيل وهو الصحيح : لئلا يزول أثر العبادة المطلوب بقاؤها ، كما دلك عليه حديث عبد الله بن ثعلبة ، وعدم الصلاة عليه قيل : لأنهم أحياء عند ربهم ، والصلاة إنما شرعت على الأموات ، وقيل : لغناهم عن الشفاعة .
1112 فإن الشهيد شفيع في سبعين من أهله . ( وفرط القوم ) المتقدم عليهم في السير ، السابق إلى الماء ، أي أني متقدم بين أيديكم ، فإذا قدمتم علي تروني وتجدوني لكم منتظراً ( والمنافسة ) المغالبة على تحصيل الشيء ، والإِنفراد به ، ( وزملوهم ) لفوهم . والله أعلم .
قال : وإن كان عليه شيء من الجلود أو السلاح [ نحي عنه .
ش : قد تقدم أن الشهيد يدفن في ثيابه ، فلو كان عليه شيء من الجلود والسلاح ] فإنه يزال عنه .
1113 لما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : أمر رسول الله يوم أحد بالشهداء أن تنزع عنهم الحديد ، والجلود ، وقال : ( ادفنوهم بدمائهم وثيابهم ) رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه .
قال : وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه .
ش : هذا الذي احترز عنه الخرقي في قوله : الشهيد إذا مات في موضعه . فلو حمل وبه رمق ، أي حياة مستقرة ، ثم مات ، فإنه يغسل ، ويصلى عليه .
1114 لأن سعد بن معاذ أصابه سهم يوم الخندق ، فحمل إلى المسجد ، ثم مات بعد ذلك ، فغسله رسول الله ، وصلى عليه .
وظاهر كلام الخرقي [ أنه ] لا يشترط لغسله والصلاة عليه طول الفصل ، بل 19 ( مات عقب الحمل ، وقد كانت فيه حياة مستقرة ، فإنه يغسل ، ويصلي عليه ، وهو الذي أورده أبو البركات مذهباً . وقيل : يشترط طول الفصل ، وهو مختار أبي محمد ، فلو لم يطل الفصل لم يغسل ، والله أعلم .
قال : والمحرم يغسل بماء وسدر ، ولا يقرب طيباً ، ويكفن في ثوبيه ، ولا يغط
____________________
(1/335)
رأسه ولا رجلاه .
1115 ش : في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، قال : بينما رجل واقف مع النبي ، إذ وقع عن راحلته فأوقصته ، وفي لفظ فوقصته ، فذكر ذلك لرسول الله فقال : ( اغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبين ، ولا تحنطوه ، ولا تخمروا رأسه ، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً ) وفي رواية ( في ثوبيه ) وفي أخرى ( لا تغظوا وجهه ، ولا تقربوه طيباً ) وفي رواية لأبي داود : أن النبي قال : ( اغسلوا المحرم في ثوبيه اللذين أحرم فيهما ، واغسلوه بماء وسدر ، وكفنوه في ثوبيه ، ولا تمسوه طيباً ، [ ولا تخروا رأسه ] فإن يبعث يوم القيامة محرماً ) وهذا يبين أن المراد ليس ذلك المحرم بعينه ، وأن حكم الإهحرام باق بعد موته .
وقول الخرقي : لا تغطى رجلاه . هو رواية حنبل عن أحمد ، [ وقد ] أنكره الخلال ، وقال : لا أعرف هذ في الأحاديث ، ولا رواه أحمد عن أبي عبد الله غير حنبل . قال : وهو عندي وهم من حنبل ، والعمل على أن يغطى جميع المحرم ، إلا رأسه ، لأن الإِحرام لا يتعلق بالرجلين ، ولهذا لا يمنع من تغظيتهما في حياته ، فكذلك بعد مماته . قلت : قد يقال : كلام الخرقي وأحمد خرج على المعتاد ، إذ في الحديث أنه يكفن في ثوبيه ، أي الرداء ، والإِزار [ والإِزار ] العادة أنه لا يغطي من سرته إلى رجليه ، فخرج كلامهما على ذلك .
وظاهر كلام الخرقي أنه يغطي وجهه . وهو المشهور من الروايتين بناء على المشهور [ من ] أنه يجوز تغطيته في حال الحياة ، ونظراً إلى أن الأكثر في الروايات وذكر الرأس فقط ، وهذا إذا كان المحرم رجلًا ، أما إن كان امرأة فحكمها بعد الموت حكمها في الحياة ، ) 19 ( لا تمنع من لبس المخيط ، وتغطي رأسها لا وجهها ، والله أعلم .
قال : وإن سقط من الميت شيء غسل وجعل معه في أكفانه .
ش : إذا سقط من الميت شيء أو كان ساقطاً كبعض أعضائه فإنه يغسل ، ويجعل في أكفانه ، لأنه بعضه جزء من أجزائه ، [ فأعطي حكم كله ، ولما فيه من جمع أجزاء الميت ] في موضع واحد ، وأنه أولى ، والله أعلم .
قال : وإن كان شاربة طويلًا أخذ وجعل معه في أكفانه .
ش : أما أخذه فلأن ذلك يراد للتنظيف ، ويسن في حياته ، من غير ضرر فيه ، فكذلك بعد وقاته ، وأما جعله معه فلما تقدم ، وفي معنى أخذ الشارب قلم الظفر ، لأنه في معناه ، وعنه يكره قلم الظفر ، لأنه من الجملة ، ولهذا ينجس بالموت ، بخلاف الشعر .
واقتصار الخرقي على ذكر أخذ الشارب يقتضي أنه لا يختن ، ونص عليه أحمد ، وحذاراً من إزالة بعض أعضائه ، ولأن المقصود من الختان التطهير من النجاسة ، وقد
____________________
(1/336)
زال ذلك ، والجنة لا بول فيها ولا تغوط .
ويقتضي كلامه أيضاً أن عانته لا تؤخذ ، وهي اختيار أبي محمد ، حذاراً من كشف العورة ومسها ، وهتك حرمة الميت ، ونص أحمد في رواية صالح على أخذها .
1116 محتجاً بأن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه غسل ميتاً ، فدعى بموسى . ولأنه من الفطرة ، أشبه قلم الظفر ، وهذا مختار الجمهور ، والقاضي في التعليق ، وأبي الخطاب وصاحب التلخيص ، وغيرهم ، ثم قال القاضي في شرح المذهب : تزال بنورة ، نظراً إلى الأسهل ، وحذاراً من المس ، وقال أحمد : تأخذ بموسى أو بمقراض ، نظراً لقصة سعد ، والنورة ربما أتلفت الجسد ، وخير أبو الخطاب في الهداية بينهما . والله أعلم .
قال : ويستحب تعزية أهل الميت .
1117 ش : عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أن النبي قال : ( من عزى مصاباً فله مثل أجره ) .
1118 وعن أبي برزة ، أن رسول الله قال : ( من عزى ثكلى كسي بردافي الجنة ) رواهما الترمذي .
( تنبيه ) ( ثكلى ) المرأة تفقد ولدها ومن يعز عليها ، والله أعلم .
قال : والبكاء [ عليه ] غير مكروه ، إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة .
ش : إذا تجرد البكاء عن الندب والنياحة لم يكره .
119 لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : شهدنا بنت رسول الله ، ورسوله الله جالس على القر ، فرأيت عينيه تدمعان ، فقال : ( هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة ؟ ) فقال أبو طلحة : أنا . فقال : ( انزل في قبرها ) البخاري . ) 19 (
1120 زهم تبم هكر قال : اشتكى سعد بن عبادة شكوى ، فأتاه النبي يعوده ، مع عبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن مسعود ، فلما دخلوا عليه ، وجده في غشية ، فقال : ( قد قضى ؟ ) فقالوا : لا يا رسول الله . فبكى رسول الله ، فلما رأى القوم بكاءه بكوا ، فقال : ( ألا تسمعون ، إن الله لا يعذب بدمع العين ، ولا بحزن القلب ، ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم ) .
____________________
(1/337)
1121 وعن جابر رضي الله عنه قال : صيب أبي يوم أحد ، فجعلت أبكي ، فجعلوا ينهوني ورسول الله لا ينهاني ، فجعلت عمتي فاطمة تبكي ، فقال النبي : ( تبكين أو لا تبكين ، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه ) متفق عليهما .
1122 وعن عائشة رضي الله عنها ، أن سعد بن معاذ لما مات ، حضره رسول الله ، وأبو بكر وعمر ، قالت : فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر ، من بكاء عمر ، وأنا في حجرتي رواه أحمد .
أما إن كان مع البكاء ندب وهو تعداد محاسن الميت ، نحو : واسيداه ، وأرجلاه ، ونحو ذلك ، أو نوح فإنه يحرم ، لما اشتمل عليه من ذلك .
1123 ففي الترمذي وغيره عن أبي موسى رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله يقول : ( ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول : واجبلاه ، واسيداه ، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه ، ويقوللان : أهكذا كنت ؟ ) .
1124 وعن أم عطية رضي الله عنها قالت : أخذ علينا رسول الله مع البيعة أن لا ننوح . مختصر ، متفق عليه .
1125 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : لعن رسول الله النائحة ، والمستمعة . رواه أبو داود ، وقال أحمد في قوله تعالى : 19 ( { ولا يعصينك في معروف } ) إنه النياحة ، وقد ورد ذلك مرفوعاً .
1126 فعن أسماء بنت يزيد قالت : قالت امرأة من النسوة : ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه ؟ قال : ( لا تنحن ) مختصر ، رواه الترمذي .
وقيل : إذا تجرد تالندب والنياحة عن اللطم ، ونتف الشعر ، وذكر الميت بما ليس فيه ، ونحو طلك ، كره ولم يحرم ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وقيل عن أحمد ما يحتمل الإِباحة ، واختاره الخلال وصاحبه .
1127 لأنه روي عن واثلة بن الأسقع ، وأبي وائل أنهما كانا يستمعان النوح ويبكيان ، رواه حرب ، والمذهب الأول .
1128 وعليه حمل أبو محمد ما في الصحيح عن النبي ، أنه قال : إن الميت ليعذب ببكاء أهل عليه ) وفي رواية ( ليعذب ببكاء الحي عليه ) وفي رواية ( بما
____________________
(1/338)
نيح عليه ) فحمله على بكاء معه ندب أو نياحة ، ) 19 ( وقيل : بل ما ورد محمول على من أوصى بذلك ، وهو قول الخطابي ، وابن حامد من أصحابنا كقول طرفة :
إذا مت فانعيني بما أنا أهله
وشقي على الجيب يا ابنة معبد
وقيل : بل يحمل على من أوصى بذلك ، وقيل : محمول على من عادتهم وسنتهم النوح ، ولم يوصهم بترك ذلك . اختاره أبو البركات [ لتفريطه ، أما مع الوصية باجتناب ذلك فلا ، وهذا قول صاحب التلخيص ] وقد حمل ذلك على ظاهره راوياً الحديث عمر وابنه رضي الله عنهما ، وأنكرت ذلك عائشة رضي الله عنها .
1129 ففي الصحيحين عنها أنها قالت : يرحم الله عمر وابنه ، ما حدث رسول الله أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، ولكن قال : ( إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهل عليه ) وقالت : حسبكم القرآن ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) قال ابن أبي مليكة : فما قال ابن عمر شيئاً .
1130 وقالت أيضاً : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، أما إنه لم يكذب ، ولكن نسي أو أخطأ . وفي رواية وهم إنما مرة رسول الله على يهودية [ يبكي عليها ] فقال : ( إنه ليبكي عليها لتعذب في قبرها ) .
1131 وعن ابن عباس نحو هذا ، وقال : والله أضحك وأبكي . انتهى .
ولا بأس باليسير من الكلام في صفة الميت ، إذا كان صدقاً ، ولم يخرجه مخرج النوح ، قال أحمد : إذا ذكرت المرأة مثل ماحكي عن فاطمة ، في مثل الدعاء لا يكون مثل النوح .
1132 والذي حكي عن فاطمة ما رواه أنس قال : لما ثقل رسول الله جعل يتغشاه الكرب ، فقالت فاطمة : واكرب أبتاه ، فقال : ( ليس على أبيك كرب بعد اليوم ) فلما مات قالت : يا أبتاه ، أجاب ربا دعاه ، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه . رواه البخاري .
( تنبيه ) ( يقارف ) .
1133 في مسند أحمد أن رقية لما ماتت ، قال النبي : ( لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله ) فلم يذخل عثمان بن عفان رضي الله عنه القبر ، ( والوزر ) الإِثم والذنب المثقل للظهر ، والمراد : لا يحمل أحد من المذنبين ذنب أحد ، ( واللهز ) الدفع
____________________
(1/339)
في الصدر بجميع الكف ، والله أعلم .
قال : ولا بأس أن يصلح لأهل الميت طعاميبعث به إليهم ، ولا يصلحون هم طعاماً للناس .
ش : أما إباحة ذلك لغير أهل الميت :
1134 فلما روي عن عبد الله بن جعفر قال : لما جاء نعي جعفر حين قتل ، قال النبي ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً ، فقد أتاهم ما يشغلهم ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه .
وأما عدم إباحته لهم فلما علل به ، ) 19 ( من أنهم في شغل بمصابهم .
1135 وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت ، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة . رواه أحمد .
وظاهر كلام الخرقي أنه يباح لغير أهل الميت صنع الطعام ، ولا يباح لأهل الميت ، وقال غيره : ويسن لغير أهل الميت ، ويكره لأهله ، والله أعلم .
قال : والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك ، فلا يشق بطنها ، وتسطو القوابل عليه فيخرجنه .
ش : المذهب المنصوص والذي عليه الأصحاب أن المرأة إذاماتت وفي بطنها ولد يتحرك ، أن بطنها لا يشق ، لأن في الشق هتك حرمة متيقنة لإِبقاء حياة موهومة ، إذ الغالب والظاهر أن الولد لا يعيش ، واحتج أحمد في رواية أبي داود بما روت عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله قال : ( كسر عظم الميت ككسر عظم الحي ) رواه أبو داود ، وابن ماجه ، ورواه ابن ماجه من رواية أم سلمة ، وزاد ( في الإِثم ) وتوقف أحمد عن ذلك في رواية الأثرم ، ولميجزم بحجية [ الحديث ] بل قال : قيل : كسر عظم الميت ككسر عظم الحي . وحكى أبو الخطاب في الهداية ومن بعده احتمالًا بالشق ، إذا غلب على الظن أن الولد يعيش لأن حفظ حرمة الحي أولى ، وكما لو خرج بعضه حياً ، وتعذر إخراج باقيه من غير شق ، [ فإنه يشق ] .
فعلى الأول تسطو عليه القوابل ، أي يدخلن أيديهن في فرجها . فيخرجنه إن غلب على ظنهن حيات ، بحركته مع قرب ولادتها ، ونحو ذلك .
فإن لم تقدر عليه النساء ، أو لم يوجدن فهل يسطو عليه الرجال ؟ فيه روايتان ( إحدهما ) : لا يسطون ويترك حتى يموت ، اختاره القاضي ، وصاحب التلخيص ، وأبو محمد ، وغيرهم ، ويحتمله كلام الخرقي ، لما فيه من هتك حرمتها مع الرجال ، مع
____________________
(1/340)
بعد احتمال الحياة ( والثانية ) : وهي المنصوصة عنه ، واختيار أبي بكر ، وأبي البركات يسطون ، لأن ذلك يحتمل في حق الأحياء ، فالأموات أولى ، ولم يقيد أحمد الرجل بالمحرم ، وقيده ابن حمدان بذلك ، وحيث تعذر إخراجه فإنها تترك حتى يتيقن موته ، قال أحمد : ينتظرنها مادام حياً ، والله أعلم .
قال : وإذا حضرت الجنازة ، وصلاة الفجر ، بديء بالجنازة .
ش : لأنا إذا قدمنا الجنازة فعلناها في غير وقت نهي ، أو في وقت اختلف فيه ، أما إن أخرناها ، فإننا نفعلها في وقت نهي بلا نزاع ، فكانت البداءة بها أولى ، وكذلك إذا حضرت [ الجنازة ] وصلاة العصر ، بدئ بالجنازة بطريق الأولى ، إذ وقت النهي إنما يدخل بفعل الصلاة على المذهب ، ) 19 ( بخلاف الفجر ، فإن وقت النهي فيها يدخل بطلوع الفجر على المذهب ، والله أعلم .
قال : وإن حضرت وصلاة المغرب بدئ بالمغرب .
ش : وإن حضرت الجنازة وصلاة المغرب ، بدئ بالمغرب ، لتأكد المغرب ، ولكراهة تأخيرها ، ولا محذور في تأخير الجنازة ، إذ لا نهي بعد الغروب ، وكذا إذا حضرت وصلاة الظهر أو العشاء ، بدئ بالعشاء والظهر ، لتأكدهما . والله أعلم .
قال : ولا يصلي الإمام على الغال ، ولا على من قتل نفسه .
ش : الغال هو الذي يكتم الغنيمة أو بعضها ، فلا يصلي الإِمام عليه ، ولا على من قتل نفسه عمداً . على المنصوص ، والمذهب بلا ريب .
1136 لما روى جابر بن سمرة رضي الله عنه ، أن النبي جاؤه برجل قد قتل نفسه بمشاقص ، فلم يصل عليه . رواه مسلم وغيره .
1137 وفي السنن عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال : توفي رجل من جهينة يوم خبير ، فذكر ذلك لرسول الله ، فقال : ( صلوا على صاحبكم ) فتغيرت وجوه القوم ، فلما رأى ما بهم قال : ( إن صاحبكم غل في سبيل الله ) ففتشنا متاع . ، فوجدنغا فيه خرزاً من خرز اليهود ، ما يساوي درهمين . رواه الخمسة إلا الترمذي واحتج به أحمد ، فامتنع من الصلاة عليه ، وهو الإِمام ، وأمر غيره بالصلاة عليه ، وكذلك روي عنه فيمن قتل نفسه ، قال أحمد وسئل : من قتل نفسه يصلى عليه ؟ قال : أما الإِمام فلا يصلي عليه ، وأما الناس فيصلون عليه ، هكذا فعل النبي بالذي قتل نفسه ، لم يصل عليه ، وأمرهم أن يصلوا عليه ، وإذاً يلحق به غيره من الأئمة ، إذ ما ثبت في حقه ، ثبت في حق غيره ، ما لم يقم دليل يخصه ، وجعل أبو
____________________
(1/341)
البركات ترك صلاة الإِمام استحباباً ، من باب الردع والزجر ، وعدى ذلك إلى كل معصية ظاهرة ، مات عنها صاحبها من غير توبة .
( تنبيه ) : الإِمام هنا هو أمير المؤمنين خاصة ، قاله الخلال وغيره ، ونقل عنه حرب أن الإِمام هو الوالي ، وأن إمام كل قرية واليهم ، وخطأ الخلال حرباً ، وقال : إن الذي عليه العمل من قوله هو الأول . قاله أبو البركات : وهذا تحكم ، والصحيح تصويبه ، وجعل ذلك رواية .
قال : وإذا حضرت جنازة رجل وامرأة ، وصبي ، جعل الرجل مما يلي الإِمام ، والمرأة خلفه ، والصبي خلفهما .
ش : لا خلاف في المذهب أن الرجل الحر يلي الإِمام ، لشرفه بالذكورية ، والحرية ، والتكليف ، ثم بعده هل يقدم الصبي لشرفه بالحرية ، وهو اختيار الخلال ، أو العبد البالغ ، لشرفه بالتكليف ، ) 19 ( وهو اختيار القاضي في التعليق ، وأبي محمد ، وظاهر كلام الخرقي ؟ فيه روايتان منصوصتان ، ثم بعد الصبي المرأة ، لشرفه بالذكورية ، فيقدم عليها ، نص عليه أحمد في رواية صالح ، وأبي الحارث .
1138 ويشهد له ما روى عمار مولى بني هاشم ، قال : 16 ( شهدت جنازة صبي وامرأة ، فقدم الصبي مما يلي القوم ، ووضعت المرأة وراءه ، وفي القوم أبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وأبو قتادة ، وأبو هريرة رضي الله عنهم ، فقلنا لهم : فقالوا : السنة ) . وقال الخرقي : يؤخر الصبي عن المرأة ، لشرف المرأة بالتكليف ، وهذا الذي نصبه القاضي في التعليق ، ولم يذكر به نصاً ، والخنثى يقدم على المرأة لاحتمال ذكوريته ، والله أعلم .
قال : وإن دفنوا في قبر واحد جعل الرجل مما يلي القبلة ، والمرأة خلفه ، والصبي خلفهما ، ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب .
ش : لا إشكال أن جهة القبلة في الدفن هي الجهة الفاضلة ، فيقدم الأفضل ثم الذي يليه إليها ، على ما تقدم في تقديمهم إلى الإِمام ، ويشهد لذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وقد تضمن كلام الخرقي أنه يجوز دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد ، وهو صحيح ، نص عليه أحمد والأصحاب .
1139 لما روى هشام بن عامر قال : شكونا إلى رسول الله يوم أحد ، فقلنا ، يا رسول الله الحفر علينا لك إنسان شديد . فقال : ( احفروا ، وأعمقوا ، وأحسنوا ، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد ) قالوا : فمن نقدم يا رسول الله ؟ قال : ( قدموا أكثرهم قرآنا ) وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد . رواه النسائي ، والترمذثي
____________________
(1/342)
بنحوه وصححه . فإن اختلفت أنواعهم كرجال ونساء قدم إلى القبلة من [ يقدم ] إلى الإِمام عند الصلاة عليه ، هذا كله مع الضرورة ، لكثرة الموتى ونحو ذلك ، أما مع عدم ] الضرورة فالذي عليه عامة الأصحاب أنه لا يدفن في القبر إلا واحد ، لأن النبي كان يدفن كل واحد في قبر ، وعلى ذلك استمر فعل الصحابة ، ومن بعدهم من السلف والخلف ، ونقل عنه أبو طالب إذا ماتت امرأة وقد ولدت ولداً ميتاً ، فدفن معها ، جعل بينها وبينه حاجز من تراب ، أو يحفر له في ناحية منها ، وإن لم يدفن معها فلا بأس ، فظاهر هذا جواز دفن الاثنين في قبر من غير ضرورة بلا كراهة ، وهو ظاهر إطلاق الخرقي ، ويحتمل أن يختص كلام أحمد [ بما ] إذا كان أو أحدهما ممن لا حكم لعورته لصغره ، كحالة النص .
وحيث دفن في القبر اثنان فأكثر جعل بين كل اثنين حاجز من تراب ، ) 19 ( ليجعل كأن كل واحد منهما منفرد بقبر ، والله أعلم .
قال وإذا ماتت نصرانية وهي حامل من مسلم ، دفنت بين مقبرة المسلمين والنصاري .
ش : لأنها إن دفنت في مقبرة المسلمين تأذوا بعذابها ، وإن دفنت في مقبرة النصاري تأذى الولد بعذابهم ، فتدفن وحدها ، وقد حكى هذا أحمد عن واثلة بن الأسقع .
فإن قيل : فالولد على كل حال يتأذى بعذابها ؟ ( قيل ) : هذا محل ضرورة ، وهو أخف من عذاب المجموع . انتهى ، ويجعل ظهرها إلى القبلة ، على جنبها الأيسر ، لأن الولد إذاً يكون إلى القبلة ، على جنبه الأيمن ، لأن وجهه إلى ظهرها . والله أعلم .
قال : ويخلع النعال إذا دخل المقابر .
ش : يستحب خلع النعال في المقبرة ، ويكره المشي فيها إذاً .
1140 لما روى بشير مولى رسول الله [ قال : بينما أنا أماشي رسول الله ] مر بقبور المشركين ، فقال : ( لقد سبق هؤلاء خيراً كثيراً ) ثلاثاً ، ثم مر بقبور المسلمين فقال : ( لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيراً ) ثم حانت من رسول الله نظرة ، فإذا رجل يمشي عليه نعلان ، فقال له : ( يا صاحب السبتيتين ألقهما ) فنظر الرجل فلما عرف رسول الله خلعهما ، فرمى بهما . راه أبو داود ، والنسائي ، واحتج به أحمد في رواية حنبل وغيره ، وقال : هذا أمر من النبي ، وصححه في رواية محمد بن الحكم ، ونقل عنه ما يدل على جواز ذلك من غير كراهة .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يخلع ما عدا النعال من الخفاف ، والتمشكات ، وغيرهما ، ولذلك قال القاضي : لا تتعدى الكراهة إلى التمشكات ، ولا إلى غيرها ،
____________________
(1/343)
قصراً للنص على موضعه ، وقيل بتعديه إلى التمشكات ، لأنه في معنى النعل ، لا إلى الخف ، ، لأن في الخلع مشقة ، ولهذا كان أحمد يلبس الخفاف في المقابر .
( تنبيه ) : السبتية نسبة إلى السبت ، جلود مدبوغة بالقرض ، يتخذ منها النعال ، والله أعلم .
قال : ولا بأس أن يزور الرجال المقابر .
ش : تستحب للرجال زيارة القبور ، على المنصوص ، والمشهور عند الأصحاب .
1141 لما روى بريدة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، فأمسكوا ما بدا لكم ، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء ، فاشربوا في الأسقية كلها ، ولا تشربوا مسكراً ) رواه مسلم وغيره .
وقيل : يباح ولا يستحب ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لأن في رواية أحمد والنسائي عن بريدة ( ونهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر ، ) 19 ( ولا تقولوا هجراً ) وهو الغالب في الأمر بعد الحظر ، لا سيما وقد قرنه بما هو مباح ، وهو ادخار لحوم الأضاحي ، والإِنتباذ في كل سقاء .
قال : ويكره للنساء . والله أعلم .
ش : هذا إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله ، قال : لا تخرج المرأة إلى المقابر ، ولا [ إلى ] غيرها .
1142 وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي لعن زوارات القبور ، رواه أحمد ، وابن ماجه ، والترمذي وصححه .
1143 وروي أيضاً من حديث حسان ، وابن عباس رضي الله عنهم وهذا النهي خاص بالنساء ، وذلك النهي والأمر يحتمل أنهما خاصان بالرجال ، ويحتمل أنهما لهما ، ويحتمل أن هذا الحديث بعد الإِذن في الزيارة ، وإذا دار الأمر بين الحظر والإِباحة ، فأقل الأحوال الكراهة ، بل لو قيل : بالحظر لم يكن بعيداً ، لا سيما والمرأة قليلة الصبر ، فالظاهر تهييج حزنها ، برؤية قبور أحبتها ، فقد يقع منها ما لا ينبغي .
1144 وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال : بينما نحن نسير مع رسول الله ، إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها ، فلما توسط الطريق وقف ، حتى انتهت إليه ، فإذا هي فاطمة بنت رسول لله ، فقال لها : ( ما أخرجك من بيتك يا فاطمة ؟ ) فقالت : أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم ، وعزيتهم بميتهم . قال : ( لعلك بلغت معهم الكدى ؟ ) قالت : معاذ الله أن أكون بلغتها ، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر .
____________________
(1/344)
فقال : ( لو بلغتها معهم ، ما رأيت الجنة ، حتى يراها جد أبيك ) رواه أحمد ، والنسائي ، وهذا لفظه ، وقد صحح وضعف . وحسن .
والرواية الثانية : يباح لها ذلك ، قال أحمد : أرجو أن لا يكون به بأس ، وذلك لعموم حديث بريدة رضي الله عنه .
1145 وعن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة رضي الله عنها 16 ( أقبلت ذات يوم من المقابر ، فقلت لها : يا أم المؤمنين من أين أقبلت ؟ قالت : من قبر أخي عبد الرحمن . فقلت لها : أليس كان نهى رسول الله عن زيارة القبور ؟ قالت نعم ، كان نهى عن زيارة القبور ، ثم أمر بزيارتها ) . رواه الأثرم في سننه ، واحتج به أحمد في رواية إبراهيم بن الحارث ، ففهمت دخولهن في العموم .
واعلم أن الخلاف السابق حكاه أبو الخطاب في الهداية ، والشيخان وغيرهم في الكراهة ، وحكاه صاحب التلخيص في التحريم ، ولعله أوفق لنص أحمد ، وجمع ابن حمدان الطريقتين ، فحكى ثلاث روايات ، الإِباحة ، والكراهة ، والتحريم . وعلى جميع الروايات متى علمت من نفسها أنها متى زارت بدا منها ما لا يجوز ، ) 19 ( لم تجز لها الزيارة قولًا واحداً .
( تنبيهان ) ( أحدهما ) يقول الزائر لها ، والمار عليها :
1146 ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله كلما كان ليلتها من رسول الله ، يخرج من آخر ليلتها إلى البقيع ، فيقول : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون ، غدا مؤجلون ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد ) .
1147 وعن بريدة قال : كان رسول الله يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر وكان قائلهم يقول : ( السلام على أهل الديار وفي لفظ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ، أسأل الله لنا ولكم العافية ) رواهما مسلم . ويخير في السلام بين التنكير والتعريف ، للأحياء والأموات ، لأن السنة وردت بذلك ، وقال ابن عقيل : في الأحياء التنكير ، وفي الأموات التعريف . ورد بالسنة ، وبأن أحمد نص في رواية أبي طالب في السلام على الأحياء معرفاً ، ونص في السلام على الأموات على التعريف والتنكير .
( الثاني ) : ( الهجر ) بالفتح الهذيان ، وهو النطق بما لا يفهم ، ( والكدى ) جمع كدية وهي الأرض الصلبة ، لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة ، والله أعلم .
____________________
(1/345)
( كتاب الزكاة )
ش : الزكاة في اللغة النماء ، والزيادة ، والتطهير ، قال الواحدي : الأظهر أنها مشتقة من : زكى الزرع يزكو زكاء بالمد إذا زاد . قال : والزكاة أيضاً الصلاح يقال : رجل زكي أي زائد الخير من قوم أزكياء : وزكى القاضي الشهود . إذا بين زيادتهم في الخير ، فسمي المال المخرج زكاة لأنه يزيد في المخرج منه ، ويقيه الآفات . وفي عرف الشرع اسم لإِخراج شيء مخصوص ، من مال مخصوص ، على وجه مخصوص .
وهي مما علم وجوبها من دين الله بالضرورة ، وقد قال عز من قائل 19 ( { أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } ) .
1148 وقال النبي لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة ، تؤخذ من أغنيائهم ، فترد على فقارئهم ) مختصر متفق عليه .
[ في آي وأخبار سوى هذين ] ، وأجمع الصحابة على وجوبها ، وعلى قتال مانعيها ، والله أعلم .
قال : وليس فيما دون خمس من الإِبل سائمة صدقة
ش : إعلم أن الذي تجب فيه الزكاة في الجملة أربعة أنواع ( بهيمة الأنعام ) ، وهي الإِبل والبقر ، والغنم ( والخارج ) من الأرض ، ( والأثمان ) ، ( وعروض التجارة ) ، وأكثر هذه ، وأعمها عند العرب ، بهيمة الأنعام ، وأنفس بهيمة الأنعام عندهم الإِبل ، فلذلك بدأ بها الخرقي ، وقد انعقد الإِجماع على وجوب الزكاة في الإِبل في الجملة ، وأن أقل نصاب الإِبل خمس ، فما دون الخمس لا شيء فيها ، وقد جاءت السنة مصرحة بذلك .
1149 ففي الصحيحين أن رسول الله قال : ( ليس فيما دون خمس ذود صدقة ) مع ما يأتي إن شاء الله تعالى ، والذود ما بين الثلاث إلى العشر من الإِبل ، وقيل : ما بين الثنتين إلى التسع ، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها ، والله أعلم .
قال : فإذا ملك خمساً من الإِبل ، فأسامها أكثر السنة ففيها شاة ، وفي العشر شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياه ، وفي العشرين أربع شياه .
ش : هذا أيضاً مجمع عليه بحمد الله تعالى .
____________________
(1/346)
1150 والأصل في الباب ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه ، [ أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ] لما استخلف كتب له ، جين وجهه إلى البحرين هذا الكتاب ، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر ( محمد ) سطر ، ( ورسول ) سطر ، ( والله ) سطر ، بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه فريضة الصدقة ، التي فرضها رسول الله ، والتي أمر الله بها رسوله ، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعط ، في أربع وعشرين من الإِبل فما دونها من الغنم ، في كل خمس شاة ، فإذا بلغت خمساً وعشرين ، إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض ، فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون ، فإذا بلغت ستاً وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى ، فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل ، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة ، فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين ففيها بنتاً لبون ، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان ، طروقتا الفحل ، فإذا زادت على عشرين ومائة ، ففي كل أربعين بنت لبون ، وفي كل خمسين حقة ، وممن لم يكن عنده إلا أربع من الإِبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، فإذا بلغت خمساً من الإِبل ففيها شاة ، وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين ، إلى عشرين ومائة شاة شاة ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان ، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه ، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة ، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة ، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ، ولا يخرج في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار ، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق ، وفي الرقة ربع العشر ، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة ، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، ومن بلغت عنده من الإِبل صدقة الجذعة ، وليس عنده جذعة ، وعنده حقة ، فإنها تقبل منه الحقة ، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له ، أو عشرين درهماً ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة ، وليست عنده الحقة ، وعنده الجذعة ، فإنها تقبل منه الجذعة ، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة ، وليست عنده إلا ابنة لبون ، فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين ، أو عشرين درهماً ، ومن بلغت صدقته بنت لبون ، وعنده حقة ، فإنها تقبل منه الحقة ، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين ، ومن بلغت صدقته بنت لبون ، وليست عنده ، وعنده بنت مخاض ، فإنها تقبل منه بنت مخاض ، ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين ، ومن بلغت صدقته بنت مخاض ، وليست عنده ، وعنده بنت لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء ، وفي رواية ( ابن لبون ذكر ) رواه البخاري . قال الحميدي : في عشرة مواضع
____________________
(1/347)
من كتابه ، بإسناد واحد مقطعاً ، والنسائي ، وأبو داود ، وأحمد ، وقال في رواية ابن مشيش وسئل أي الأحاديث أثبت عندك في الصدقات ؟ فقال : ما أصح حديث ثمامة بن أنس يرويه حماد بن سلمة وقال في رواية الميموني : لا أعلم في الصدقة أحسن منه . انتهى ، وهو أصل عظيم يعتمد ، وقد قال فيه : ( إن في أربع وعشرين من الإِبل فما دونها من الغنم ، في كل خمس شاة ( تنبيه ) وهذا الشاة . .
وقول الخرقي : فأسامها . نص ف يأن من شرط وجوب الزكاة في الإِبل أن تكون سائمة ، فلا تجب الزكاة في المعلوفة ، وهو صحيح ، لا إشكال فيه ، لأن في الحديث السابق ( وصدقة الغنم في سائمتها ) أي يجب في سائمتها ، أو الواجب في سائمتها ، فجعل الوجوب مختصاً بالسائمة ، والإِبل في معنى الغنم .
1151 مع أن في السنن عن بهز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله قال : ( في كل سائمة إبل في كل أربعين بنت لبون ) ولأن المعلوفة ما لغير معد للنماء ، أشبه ثياب البذلة ، والمشترط السوم في أكثر السنة ، إقامة للأكثر مقام الكل ، إذ اعتباره في جميع الحول يمنع الوجوب إلا نادراً .
ويستثنى من كلام الخرقي العوامل ، فإن الزكاة لا تجب فيهن وإن كن سائمة ، نص عليه أحمد في رواية جماعة ، وقال : أهل المدينة يرون فيها الصدقة ، وليس عندهم في هذا أصل .
1152 وقد روى الحارث الأعور عن علي ، قال زهير وهو ابن معاوية : أحسبه عن النبي فذكر حديثاً وفيه ( وليس على العوامل شيء ) رواه أبو داود ، لكن الحارث فيه كلام ،
1153 وقد روي أيضاً من حديث ابن عباس ، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، رواهما الدارقطني .
والمعنى في ذلك أن القصد منها الانتفاع بظهرها ، لا الدر والنسل ، أشبهت البغال والحمير .
وقوله : فأسامها . ظاهره أنه وجد منه فعل السوم ، فيكون من مذهبه اشتراط نية السوم ، وهو أحد الوجهين ، والوجه الآخر : لا يشترط ، فلو سامت بنفسها ، أو أسامها غاصب ، وقلنا بوجوب الزكاة في المغصوب ، وجبت الزكاة .
( تنبيه ) السائمة عبارة عمن رعت المباح ، والله أعلم .
____________________
(1/348)
قال : فإذا صارت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض ، إلى خمس وثلاثين ، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر ، فإذا بلغت ستاً وثلاثين ، ففيها ابنة لبون ، إلى خمس وأربعين ، فإذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل ، إلى ستين ، [ فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة ، إلى خمس وسبعين ، فإذا بلغت ستاً وسبعين ففيها بنتاً لبون ، إلى تسعين ، فإذا بلغت إحدى وتسعين ] ففيها حقتان ، طروقتا الفحل ، إلى عشرين ومائة .
ش : هذا كله مجمع عليه بحمد الله ، وما تقدم من كتاب أبي بكر نص فيه .
وقول الخرقي : فإن لم يكن فيها بنت مخاض يعني في إبله فابن لبون . يعني إن وجده في إبله ، فشرط إجزاء ابن اللبون عدم بنت المخاض في إبله ، ووجود ابن اللبون ، أما إن عدمه فإنه يلزمه شراء بنت مخاض ، وهذا ظاهر ما تقدم ( فإن لم تكن عنده بنت مخاض على وجهها ، وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه ) ولأن العدول عن بنت المخاض كان للرفق به ، ومع الشراء قد زال الرفق ، فيرجع إلى الأصل ، وحكم وجودها معيبة في إبله حكم ما لو عدمها ، إذ الممنوع منه شرعاً كالمعدوم حساً ، ولهذا قال في الحديث ( على وجهها ) أي على الوجه الشرعي ، أما إن وجدها أعلى من الواجب عليه ، فإنه لا يجزئه إخراج ابن اللبون ، بل يخير بين إخراجها ، وبين شراء بنت مخاض ، على صفة الواجب ، كما هو ظاهر الخبر وكلام الخرقي .
( تنبيه ) : بنت المخاض من الإِبل وابن المخاض ما استكمل سنة ، ثم هو كذلك إلى آخر الثانية ، سمي بذلك لأن أمه من المخاض أي الحوامل ، والمخاض اسم الحوامل ، لا واحد له من لفظه ، وليس [ كون ] أمها من المخاض شرطاً فيها ، وإنما ذكر ذلك اعتباراً بغالب حالها ، وكذلك بنت اللبون ، إذ الغالب أن من بلغت سنة تكون أمها حاملًا ، ومن بلغت سنتين تكون أمها ذات لبن .
( وبنت اللبون ) وابن اللبون ما استكمل الثانية ، ثم هو كذلك إلى تمام الثالثة سمي بذلك لأن أمه ذات لبن .
( والحقة ) والحق ما استحمل الثالثة ، ثم هو كذلك إلى آخر الرابعة ، سمي بذلك لاستحقاقه أن يحمل ، أو يركبه الفحل ، ولهذا قال : ( طروقة الفحل ) أي يطرقها ويركبها ( والجذعة ) والجذع ما استكمل الرابعة ، ثم هو كذلك إلى آخر الخامسة ، سمي بذلك لأنه يجذع إذا سقط سنه .
وقوله الخرقي : فابن لبون ذكر . تبع يه لفظ الحديث ، وإلا فابن لون هو ذكر ، وهو تأكيد ، كقوله تعالى : 19 ( { تلك عشرة كاملة } ) .
1154 وقول النبي : ( ورجب مضر ، الذي بين جمادى وشعبان ) وهو
____________________
(1/349)
كثير ، وتنبيه لرب المال والمصدق ، ليطيب رب المال نفساً بالزيادة المأخوذة منه ، إذا علم أنه كان قد أسقط عنه ما كان بإزائه من فضل الأنوثة ، وليعلم المصدق أن هذا مقبول من ربالمال . والله أعلم .
قال : فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون ، وفي كل خمسين حقة .
ش : ظاهر هذا أنها إذا زادت واحدة على العشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون ، وهو المشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب ، لظاهر كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه ( فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون ) وبالواحدة قد حصلت الزيادة .
1155 وفي كتاب الصدقات الذي كتبه النبي ، وكان عند آل عمر وفيه ( فإذا زادت واحدة أي على التسعين ففيها حقتان ، إلى عشرين ومائة ، فإذا كانت الإِبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة ، وفي كل أربعين ابنة لبون ) رواه أبو داود ، والترمذي وحسنه ، ورواه أبو داود عن سالم [ مرسلًا ] . وفيه ( فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون ) .
( والرواية الثانية ) : لا يتغير الفرض إلى مائة وثلاثين ، فيجب حقة وبنتا لبون . نقلها عنه القاضي البرثي ، واحتج له بحديث ثمامة بن أنس .
1156 وبحديث عمرو بن حزم ، وقال : هو عن كتاب وهو صحيح ، وفي هذا النقل عنه نظر ، لأن حديث أنس المشهور ليس فيه ذلك ، بل أحمد قد احتج به في رواية النيسابوري على الرواية الأولى ، وأما حديث عمرو بن حزم فلعل فيه ذلك ، بل أحمد قد احتج به في رواية النيسابوري على الرواية الأولى ، وأما حديث عمرو بن حزم فلعل فيه ذلك ، لكن لم أرهم نقلوا ذلك ، وقد يستدل لهذه الرواية بأن في بعض ألفاظ حديث ابن عمرو رواه أحمد ( فإذا كثرت الإِبل ففي كل خمسين حقة ، وفي كل أربعين ابنة لبون ) والواحدة لا تكثر بها الإِبل .
1157 وفي سنن ابن بطة عن الزهري قال : هذه نسخة كتاب رسول الله لتي كتب في الصدقة ، وهي عند آل عمر وقال فيه : ( فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان ، طروقتا الفحل ، حتى تبلغ عشرين ومائة ، فإذا كانت ثلاثين ومائة ، ففيها حقة وبنتاً لبون ) ويجاب بأن هاتين الروايتين فيهما إجمال وما تقدم يفسرهما .
وعلى كلتا الروايتين متى بلغت الفريضة مائة وثلاثين ففيا حقة
____________________
(1/350)
وبنتاً لبون ، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبوت ، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق ، وفي مائة وستين أربع بنات لبون ، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون ، وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون ، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون ، وفي مائتين أربع حقاق ، أو خمس بنات لبون ، لأن المائتين أربع خمسينات ، وخمس أربعينات هذا ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، وابن حامد ، وأبي محمد ، والقاضي ، قالب في الروايتين : [ إنه ] الأشبه . وقال الآمدي : إنه ظاهر المذهب . ويحتمله كلام أحمد في رواية صالح وابن منصور وذلك لظاهر حديث أبي بكر ، إذ فيه ( في كل أربعين ابنة لبون ، وفي كل خمسين حقة ) وعن الزهري قال : نسخة كتاب رسول الله ، الذي كتبه في الصدقة ، أقرأنيه سالم بن عبد الله ابن عمر . وفيه ( فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق ، أو خمس بنات لبون ، أي السنين وجدت أخذت ) .
ونقل علي بن سعيد عن أحمد : يأخذ من المائتين أربع حقاق . فمن الأصحاب من فسر ذلك بأن فيها أربع حقاق بصفة التخيير ، ويكون القصد أن تسعين ومائة [ فيها ] ثلاث حقاق وبنت لبون ، فإذا بلغت مائتين ففيها أربع حقاق ، ومنهم من أقره على ظاهره ، وقال : تتعين الحقاق ، إلا أن لا يكون فيها إلا بنات لبون فتجزيء بنات اللبون وهذا قول ابن عقيل .
وظاهر كلام أحمد تتعين الخقاق مطلقاً ، نظراً لحظ الفقراء ، إذ هي أنفع لهم ، لكثرة درها ونسلها .
هذا كله إذا لم يكن المال ليتيم ، فإن كان ليتيم أو مجنون تعين على الولي إخراج الأدون المجزيء من الفرضين اعتماداً على أن ذلك هو الأحظ ، وإنما يتصرف في ماله بذلك ، والله أعلم .
قال : ومن وجبت عليه حقة وليست عنده ، وعنده ابنة لبون أخذت منه ومعها شاتان أو عشرون درهماً ، ومن وجبت عليه ابنة لبون ، وليست عنده ، عنده حقة ، أخذت منه وأعطي الجبر من شاتين أو عشرين درهماً والله أعلم .
ش : قد تقدم هذا مصرحاً به في حديث أبي بكر [ الصديق ] رضي الله عنه ، وكذلك إذا وجبت عليه ابنة مخاض ، فعدمها ووجد ابنة لبون ، [ فإنه ] يدفعها ويأخذ شاتين أو عشرين درهماً ، [ وكذلك إن وجب عليه حقة وليست عنده ، وعنده جذعة ، فإنها تؤخذ منه ومعها شاتان أو عشرون درهماً ] ، وكل هذا في حديث أبي بكر رضي الله عنه ، وليس له أن ينزل عن بنت مخاض أصلًا ، إذا هي أدنى أسنان الإِبل المجزئة في الزكاة ، وللمالك أن يصعد إلى [ الثنية ] بلا جبران ، لأنها أعلى .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجبر بشاة وعشرة دراهم ، وهو أحد الوجهين حذاراً من تخيير ثالث ، والثاني يجوز ، لأن الشارع جعل العشرة في مقابلة الشاة .
وقد يقال : إن ظاهر كلامه يضاً أنه إذا عدم السن التي تلي الواجب أنه ليس له أن ينتقل إلى ما هو أدنى منها ، أو إلى ما هو أعلى منها ، وذلك كما لو وجبت عليه
____________________
(1/351)
ابنة لبون ، فعدمها وعدم الحقة ، فليس له أن ينتقل إلى الجذعة ، ويأخذ أربع شياه ، أو أربعين درهماً ، [ أووجبت عليه حقة فعدمها ، وعدم بنت اللبون ، لم يخرج بنت مخاض ، ويدفع أربع شياه ، أو أربعين درهماً ] ، إذ النص لم يرد به ، والزكاة فيها شائبة التعبد ، وهذا اختيار أبي الخطاب ، وابن عقيل ، وقال صاحب النهاية فيها : إنه ظاهر المذهب .
وأومأ أحمد إلى جواز ذلك ، وهو اختيار القاضي ، وأورده الشيخان مذهباً ، لأن الشارع جوز الانتقال إلى الذي يليه مع الجبران ، ، إذا كان هو الفرض ، فهاهنا لو كان موجوداً أجزى ، فإذا عدمه جاز العدول عنه إلى ما يليه كما لو كان هو الفرض ، والله أعلم .
( باب زكاة البقر )
1158 ش : الأصل في وجوب زكاة البقر ما في الصحيح عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : ( ما من صاحب إبل ، ولا بقر ، ولا غنم ، لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر ، تطؤه ذات الظلف بظلفها ، وتنطحه ذات القرن بقرنها ، ليس فيها جماء ولا مكسورة القرن ) قلنا : يا رسول الله وما حقها ؟ قال : ( إطراق فحلها ، وإعارة دلوها ، ومنحتها ، وحلبها على الماء ، وحمل عليها في سبيل الله ) مختصر ، رواه مسلم ، والنسائي ، وإذا ثبت هذا الوعيد العظيم في هذا الحق ، فالزكاة أولى ، ونسخ الأصل لا يلزم منه نسخ الفحوى على الأشهر .
1159 وعن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله قال : بعثه النبي إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة ، ومن كل حالم ديناراً ، أو عدله معافر . رواه أحمد وهذا لفظ ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، والحاكم ، وقال : صحيح على شرط الشيخين . وإنما لم يذكر زكاة البقر في حديث أبي بكر الصديق ، وفي الكتاب الذي كان عند آل عمر لقلة البقر في الحجاز ، إذ نيدر ملك نصاب منه ، بل لا يوجد ، فلما بعث النبي معاذاً إلى اليمن ، ذكر له حكم البقر ، لوجودها عندهم ، مع أن وجوب الزكاة في البقر قد حكي إجماعاً .
( تنبيه ) ( القاع ) [ المكان ] المستوى من الأرض الواسع ، وجمعه قيعة وقيعان ، كجيرة وجيران ، و ( قرقر ) بفتح القافين الأملس ، قاله أبو السعادات ، والظلف ) للبقر ، والغنم ، والظباء ، ( والقدم ) للآدمي ( والحافر ) للفرس ، والبغل ، والحمار ( وتنطحه ) بفتح الطاء
____________________
(1/352)
وكسرها وهو أفصح ( والجماء ) الشاة التي لا قرن لها ، ( وإطراق الفحل ) إعارته للضراب : طرق الفحل الناقة . إذا ضربها ( والمنحة ) العطية ، والمنيحة الشاة أو الناقة تعار لينتفع بلبنها ثم ترد ، ( وحلبها على الماء ) بفتح اللام ، لا بسكونها على الأشهر ، وهذا كان والله أعلم قبل وجوب الزكاة ، أو في موضع تتعين فيه المواساة ، ( والحالم ) البالغ ، ( وعدل الشيء ) بفتح العين مثله في القيمة ، وهو المراد هنا ، وبكسرها مثله في الصورة ( والمعافري ) منسوب إلى ثياب باليمن ، ينسب إلى معافر ، حي من همدان ، لا ينصرف كدراهم والله أعلم .
قال : وليس فيما دون ثلاثين من البقر سائمة صدقة .
ش : أقل نصاب البقر ثلاثون ، لحديث معاذ ، فإنه أوجب في الثلاثين ، والأصل عدم الوجوب فيما دون ذلك ، فليس فيما دون ثلاثين شيء .
قال : فإذا ملك ثلاثين من البقر فأسامها أكثر السنة ففيها تبيع أو تبيعة ، إلى تسع وثلاثين ، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة ، إلى تسع وخمسين ، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان ، إلى تسع وستين ، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة ، فإذا زادة ففي كل ثلاثين تبيع ، وفي كل أربعين مسنة .
ش : [ الأصل في هذا كله خبر معاذ ، فإنه جعل في كل ثلاثين تبيعا ، وفي كل أربعين مسنة ] ، واعتبار السوم فيها قياساً على الإِبل والغنم ، وإذا بلغت مائة وعشرين اتفق الفرضان ، فإن شاء أخرج ثلاث مسنات أو أربع تبائع ، وقد تقدم منصوص أحمد على ذلك . والله أعلم .
قال : والجواميس كغيرها من البقر والله أعلم .
ش : الجواميس أحد نوعي البقر فحكمها حكمها . والله أعلم .
( باب صدقة الغنم )
ش : الأصل في وجوبها الإِجماع ، وسنده ما تقدم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره ، والله أعلم .
قال : وليس فيما دون أربعين من الغنم سائمة صدقة .
ش : أقل نصاب الغنم أربعون ، فليس فيما دونها صدقة ، لحديث أبي بكر : ( فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة ، فلا شيء فيها ، إلا أن يشصاء ربها ) والله أعلم .
قال : فإذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها شاة ، إلى عشرين ومائة ، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان ، إلى مائتين ، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه ، إلى ثلاثمائة .
____________________
(1/353)
ش : الأصل في هذه الجملة ما تقدم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو نص في ذلك ، والله أعلم .
قال : فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة .
ش : ظاهر هذا أنه بعد الثلاثمائة يستأنف الفريضة ، فيجب بفي كل مائة شاة شاة ، فعلى هذا لا يجب شيء إلى أربع مائة ، فيجب أربع شياه ، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار القاضي وجمهور الأصحاب ، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وفي الكتاب الذي كان عند آل عمر نحو ذلك .
( والرواية الثانية ) : في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه ، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ خمسمائة ، فتكون خمس شياه ، اختارها أبو بكر ، كذا حكى الرواية أبو محمد ، وأبو العباس ، وغيرهما ، وقال القاضي في الروايتين بعد أن حكى الرواية الأولى : ونقل حرب : لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ثلاثمائة ، فإذا زادت عليها شاة ففيها أربع شياه ، وعلى هذا كلما زدات على مائة شاة ففيها شاة ، قال : وهو اختيار أبي بكر . وظاهر هذا أن في أربع مائة وواحدة خمس شياه ، وفي خمس مائة وواحدة ست شياه ، وعلى هذا ، وحكى ابن حمدان هذا رواية ثالثة . والله أعلم .
قال : ولا يؤخذ في الصدقة تيس ، ولا هرمة ، ولا ذات عوار ، ولا الربى ، ولا الماخض ، ولا الأكولة .
ش : قد جمع الخرقي رحمه الله في هذا بين ( ما لا يؤخذ ) لدناءته وهو التبس ، والهرمة وذات العوار ، وذلك لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، إذ فيه ( لا يخرج في الصدقة هرمة ، ولا ذات عوار ، ولا تيس ، إلا أن يشاء المصدق ) وقال سبحانه : 19 ( { ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } ) ( ومل لا يؤخذ ) لشرفه وهو الربى ، والماخض والأكولة ، وذلك لقوله في حديث معاذ المتفق عليه ( وإياك وكرائم أمولهم ) .
1160 وفي حديث لأبي داود فيه طول ، عنه [ أنه ] قال : ( ولكن من وسط أموالكم ، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره ) .
1161 وعن سفيان بن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعثه مصدقاً ، فكان يعد على الناس بالسخل ، فقالوا : أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه ؟ فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر ذلك له فقال : نعم تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ، ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة ، ولا الربى ، ولا الماخض ، ولا فحل الغنم ، وتأخذ الجذعة والثنية ، وذلك عدل بين غذاء المال وخياره ، رواه مالك في الموطأ .
____________________
(1/354)
( تنبيهان ) ( أحدهما ) ما لا يؤخذ لدناءته لا يدفع في الزكاة مطلقاً ، وما لا يؤخذ لشرفه إن رضي رب المال بإخراجه جاز ، لأن الحق ، له ، وإلا فلا .
( الثاني ) : ( الهرمة ) الكبيرة الطاعنة في السن ، ( والعوار ) بفتح العين على الأفصح العيب ، ويجوز الضم ، ( والمصدق ) بتخفيف الصاد ، وتشديد الدال عامل الصدقة ، وهو الساعي أيضاً ، وكان أبو عبيد يرويه ( المصدّق ) بفتح الدال ، يريد صاحب الماشية ، وخالفه عامة الرواة ، فقالوا : بكسرها . يريدون العامل فعلى قول أبي عبيد المراد بالتيس فحل الغنم ، فهو من كرائم الأموال ، فلا يؤخذ إلا أن يشاء رب المال ، فالإِستثناء راجع إليه ، فقط . وعلى قول الجمهور التيس هو الكبير ، فلا يؤخذ لدناءته ، وهذا هو المشهور عند أصحابنا فيما أظن ، وعلى هذا يخير الساعي . قيل : إما لأن الجميع على صفته ، فله أخذ ذلك ، لأن الجميع على صفة النقص ، وفيه نظر ، لأن الساعي يجب عليه إذاً الأخذ من غير تخيير . وقيل : لأنه اجتمع فيه صفتان ، صفة الإِطراق ، وهي صفة شرف ، وصفة الكبر وهي صفة دنيئة ، فخير الساعي ، لأنه إنما يختار الأصلح ، فمهما ترجح عنده فعله ، وهذا أجود من الذي قبله . والإِستثناء أيضاً راجع إلى التيس فقط ، وجوز كثير من العلماء رجوع الإِستثناء إلى الثلاثة ، ويخير الساعي ، فإن رأى الخير للفقراء أخذ ، وإلا فلا . ( والكرائم ) جمع كريمة وهي النفيسة . ( والأكولة ) المعدة لوكل ، أو التي تأكل كثيراً فتكون سمينة ، ( والربى ) قال أحمد : التي وضعت وهي تربي ولدها ، وقيل : هي التي في البيت لأجل اللبن . ( وغذاء المال ) جمع غذي وهو الحمل أو الجدي . أي لا يأخذ الساعي خيار المال ولا رديئه ، وإنما يأخذ عدلًا بين الكبير والصغير ، [ والله أعلم ] .
قال : وتعد عليهم السخلة ، ولا تؤخذ منهم .
ش : يعني أن النصاب إذا نتج في أثناء الحول فإن حوله حول الأمهات ، وإذاً يعد الساعي السخال ، لكن لا يأخذ من السخال ، وكذا قال عمر رضي الله عنه .
وظاهر كلام الخرقي أن هذا إنما هو في نصاب فيه صغار وكبار ، أما لوكان النصاب كله صغاراً كما لو أبدل الكبار بصغار في أثناء الحول ، أو ماتت الأمهات وقد كانت نتجت نصاباً فحال الحول عليها وهي صغار ، فإن المنصوص والمختار عند القاضي وأصحابه ، والشيخين جواز أخذ الصغيرة .
1162 لقول الصديق رضي الله عنه : لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم عليه . وبالإِجماع لا تؤخذ العناق في الكبار ، فيتعين حمله على كون النصاب كله عناقاً ، ولأن الزكاة مواساة ، والمواساة ، إنما تكون مما أنعم الله
____________________
(1/355)
عليه . وقال أبو بكر في الخلاف : لا يؤخذ [ من ] المراض مريضة ، ولا يؤخذ إلا ما يجوز في الأضاحي ، [ معتمداً على قول أحمد في رواية أحمد بن سعيد : لا يأخذ إلا ما يجوز في الأصاحي ] قال القاضي : ويجيء على قوله لا يؤخذ من الصغار صغيرة . فعلى قوله تجب كبيرة صحيحة على قدر المال .
( تنبيه ) : ( السخلة ) من ولد المعز بفتح السين على الأشهر ، ويجوز كسرها . ( والعناق ) الجذعة من المعز التي قاربت الحمل ، وقيل : [ هي ] ما لم يتم سنة من الإِناث خاصة ، وقيل : ليس المراد في الحديث حقيقة العناق ، إنما المراد ، بالتنكير التقليل ، أي : لو منعوني شيئاً ما من الزكاة بدليل أن في الرواية الأخرى : لو منعوني عقالًا . والعقال على أحد الأقوال الحبل الذي يعقل به البعير ، وهو غير واجب في الزكاة على قول ، [ والله أعلم ] .
قال : ويؤخذ من المعز الثني ، ومن الضأن الجذع .
ش : يعني إذا كان النصاب كله كباراً ، أو فيه كبار وصغار ، والأصل في هذا ما تقدم من قول عمر رضي الله عنه .
1163 وعن سعر بن ديسم قال : 16 ( جاءنا رجلان على بعير ، فقالا : إنا رسولًا رسول الله إليك ، لتؤدي صدقة غنمك . فقلت : ما عليّ فيها ؟ قالا : شاة . فأعمد إلى شاة قد عرفت مكانها ، ممتلئة مخضاً وشحماً ، فأخرجتها إليهما ، فقالا : هذه شاة الشافع . وقد نهانا رسول الله أن نأخذ شافعاً ، فقلت : فأي شيء تأخذان ؟ قالا : عناقاً جذعة أو ثنية ) . مختصر ، رواه أبو داود ، والنسائي .
( تنبيه ) : ( الجزع ) من الضأن ما له ستة أشهر ، ( والثني ) من المعز ماله سنة ، قاله أصحابنا ، وقال ابن الأثير : الجذع من المعز ما له سنة ، والثني منه ماله سنتان ، ولنا وجه آخر أن الجذع من الضأن ماله ثمانية أشهر . انتهى . ( والمخض ) اللبن ، أي ممتلئة لبناً وشحماً . ( والشافع ) قال ابن الأثير : التي معها ولدها . وفي رواية لأبي داود : التي في بطنها ولدها . وشاة الشافع من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كصلاة الأولى ، والله أعلم .
قال : فإن كانت عشرين ضأناً ، وعشرين معزاً أخذ من أحدهما ما يكون قيمته نصف شاة ضأن ، ونصف [ شاة ] معز .
ش : قوله أخذ . أي الساعي ، وذلك لأنه يأخذ الوسط ، وهذا هو الوسط ، وقال أبو بكر : لا تعتبر القيمة كما لو كانا نوعاً واحداً ، فإنه لا تعتبر القيمة ، كذلك هنا ، فعلى هذا يخرج وسطاً من أيهما شاء ، وعلى الأولى [ ينظر ] فإذا كانت الشاة الوسط من الضأن تساوي عشرين درهماً ، والشاة الوسط من المعز تساوي عشرة دراهم ، أخرج من
____________________
(1/356)
أحدهما ما قيمته خمسة عشر درهماً ، وكذلك الحكم في البقر والإِبل .
وقد تضمن كلام الخرقي أنه يضم نوعاً الغنم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب ، وقد حكاه ابن المنر إجماعاً ، وتضمن أيضاً أنه يخرج من أيهما شاء ، وأنه لا يخرج من كل [ واحد ، ولكل ] ما لحقه ، والله أعلم .
قال : وإن اختلط جماعة في خمس من الإِبل أو ثلاثين من البقر ، أو أربعين من الغنم ، وكان مرعاهم ، ومسرحهم ، ومبيتهم ، ومحلبهم ، وفحلهم واحداً أخذت منهم الصدقة ، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص .
ش : الخلطة تؤثر في بهيمة الأنعام ، وهي الإِبل ، والبقر ، والغنم ، فتجعل المالين كالمال الواحد في الزكاة ، وفي أخذ الساعي الفرض من مال أي الخليطين شاء ، والأصل في ذلك ما تقدم في حديث أبي بكر [ الصديق رضي الله عنه ] ( لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع ، خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية ) .
وعن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر ، قال : كتب رسول الله : [ كتاب الصدقة ] فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض ، فقرنه بسيفه ، فعمل به أبو بكر رضي الله عنه حتى قبض ، ثم عمل به عمر رضي الله عنه حتى قبض ، فذكره وفيه ( ولا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع ين متفرق ، مخافة الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية ) رواه أبو داود وابن ماجه ، والترمذي وحسنه ، وقال البخاري : أرجو أن يكون محفوظاً .
( وفيه دليلان ) أحدهما : قوله : ( ولا يجمع بين متفرق ) أي لا يجمع الرجلان النصابين من الغنم ، ليجب عليهما في الثمانين شاة واحدة ، ولا يجمع الساعي مالي الرجلين ليوجب عليهما الزكاة ، كما إذا كان لكل واحد عشرون من الغنم ، وقوله : ( ولا يفرق بين مجتمع ) أي لا يفرق الرجلان ماليهما ، لتقل عليهما الزكاة ، كما إذا كان لكل واحد [ منهما مثلًا ] مائة [ و ] شاة ، وخلطه فإنه يجب عليهما ثلاث شياه ، فإذا فرقاه وجب على كل واحد [ منهما ] شاة ، أو لا يفرق الساعي الثمانين مثلًا ليوجب على كل واحد شاة . ومقتضى هذا كله أن للخلطة تأثيراً .
( الدليل الثاني ) : قوله : ( وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان [ فيما ] بينهما بالسوية ) والتراجع إنما هو في خلطة الأوصاف .
إذا تقرر هذا ، فقول الخرقي : وإن اختلط جماعة . أراد بالجماعة الاثنين فصاعداً ، من الجمع وهو الضم .
وشرط الخليطين أن يكونا من أهل الزكاة ، [ فلو كان أحدهما من غير أهل الزكاة ] فوجوده كعدمه .
____________________
(1/357)
وقوله : [ في ] خمس من الإِبل ، أو ثلاثين من البقر ، أو أربعين من الغنم . إشارة إلى أن الخلطة [ إنما تؤثر في نصاب ، وهو واضح ، وتنبيه على مذهب مالك رحمه الله ومن وافقه ، من أن الخلطة إنما ] تؤثر إذا كان لكل واحد نصاباً ، وعندنا لا يشترط ، بل كما يؤثر إذا كان لكل واحد نصاباً ، يؤثر فيما دونه .
وقوله : وكان مرعاهم ، ومسرحهم ، ومبيتهم ، ومحلبهم ، وفحلهم واحداً . تنصيص على شروطذ الخلطة ، وأنها إنما تصير المالين بمنزلة المال الواحد بهذه الشروط .
1164 والأصل في هذه الشروط ماروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله [ يقول ] : ( لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، والخليطان ما اجتمعا في الحوض ، والفحل ، والراعي ) . رواه الدراقطني . وبقية الشروط في معنى هذه الثلاثة ، ولأن هذه الشروط تؤثر في الرفق بالخلطاء ، فوجب اعتبارها ، كالراعي ، والفحل ، ( والمرعي ) معروف : الشيء الذي يرعى ويلزم من اتحاده اتحاد موضعه ، ( والمسرح ) فسره أبو محمد بالموضع الذي ترعى فيه الماشية ، ويلزم من اتحاده اتحاد المرعى ، فلذلك قال أبو محمد وسبقه إلى ذلك ابن حامد : إنهما شيء واحد ، وفسره صاحب التلخيص بموضع جمعها عند خروجها للمرعى وهذا أولى ، دفعا للتكرار . ( والمبيت ) موضع مبيتها ، ( والمحلب ) بفتح الميم [ الموضع ] الذي تحلب فيه ، قال صاحب التلخيص : مع تمييز [ لبن ] كل واحد منهما ، فإن الشركة فيه ربا ، ( والفحل ) معروف ، ومعنى اتحاده أن لا يكون فحولة أحد المالين لا تطرق الآخر .
وهذه الشروط لا نزاع في المذهب في اشتراطها فيما أعلمه ، وعليها اقتصر أبو البركات ، وزاد أبو الخطاب ، وصاحب التلخيص ، وأبو محمد ، وغيرهم : اتحاد المشرب ، يعني أن يكون مضوع مشربها واحداً وزاد أبو الخطاب ، وأبو محمد ، وغيرهما : اتحاد الراعي ، ( وهو منصوص أحمد والحديث . قال أبو محمد : ويحتمل أن يفسر المرعى ] في كلام الخرقي بذلك ، ليوافق للنص ، ويندفع [ به ] التكرار .
ثم بعد هذا هل يشترط فيه الخلطة ؟ فيه وجهان مشهوران .
وقوله : أخذت منهم الصدقة ، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص . يقتضي بعمومه أن للساعي أن يأخذ من مال [ أي ] الخليطين شاء ، مع الحاجة [ وعدمها ] وهو صحيح ، نص عليه أحمد والأصحاب ، وإطلاق الحديث يقتضيه ، فعلى هذا لو اختلط من له ثلاثون تبيعا ، مع شخص له أربعون مسنة ، فأخذ الساعي مسنة من الثلاثين وتبيعا من الأربعين ، فإن له ذلك ، ويرجع صاحب الثلاثين على صاحب الأربعين [ بقيمة أربعة
____________________
(1/358)
أسباع مسنة ، وصاحب الأربعين على صاحب الثلاثين ] بقيمة ثلاثة أسباع مسنة .
وقوله : أخذت منهم الصدقة ، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص . يعني [ في ] الصدقة المأخذوة ، وقد تقدم مثاله ، فلو أخذ الساعي شيئاً ظلماً لم يرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته ، إذ من ظلم لا يظلم غيره ، نعم لو أخذ غير الفرض بتأويل كما لو أخذ القيمة ، أو أخذ الصحاح ، أو الكبار عن المراض أو الصغار فإنه يرجع على خليطه بحصته ، لأن الساعي فعل ما له فعله ، إذ مستنده الاجتهاد ، أو تقليد من يسوغ تقليده ، وإذا يصير المأخوذ هو الواجب .
واعلم أن الخرقي رحمه الله نبه بالتأثير في خلطة الأوصاف وهو أن يكون مال كل واحد [ منهما ] متميزاً بصفة ، فخلطاه واشتركا فيما تقدم على التأثير في خلطة الأعثان ، وهو أن يكون أعيان أموالهما مختلطة ، كأن ورثا نصاب ، أو اشترياه ونحو ذلك بطريق الأولى ، نعم الشروط المذكورة مختصة بشركة الأوصاف ، والله أعلم .
قال : فإن اختلطوا في غير هذا أخذ من كل واحد [ منهم ] على إنفراده ، إذا كان ما يخصه [ تجب ] فيه الزكاة .
ش : يعني [ أن ] الخلطة لا تؤثر في غير بهيمة الأنعام وإذا لم تؤثر فإن الساعي يأخذ من كل واحد منهم على انفراده ، بشرط أن يكون ما يخص كل واحد منهم نصاباً ، وهذا هو المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين ، لقوله : ( لا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع ، مخافة الصدقة ، وأرباب الأموال مرادون منه بلا نزاع ، وإنما يفرقون أو يجمعون حذاراً [ من الصدقة ] في الماشية ، إذ غيرها لا وقص فيه . ثم ما روي من قوله بعد ( والخليطان ما اجتمعا في الحوض ، والفحل ، والراعي ) ظاهره حصر الخليطين فيمن هذه صفتهم ، وأيضاً فالخلطة في الماشية تارة يحصل الرفق فيها لأرباب الأموال ، كرجلين لكل واحد منهما أربعون فخلطاها ، وتارة للفقراء [ كرجلين لكل واحد منهما عشرون ، أما غير الماشية فتأثير الخلطة نفع للفقراء ] دائماً ، وضرر على أرباب الأموال ، والضرر منفي شرعاً ، ولهذا قلنا : لا تخرج الصحيحة عن المراض .
( والرواية الثانية ) تؤثر الخلطة . قال أبو الخطاب في خلافه الصغير : وهو أقيس .
1165 لمفهوم قوله : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) مفهومه أنه إذا بلغهما [ أن ] فيه صدقة ، ولم يفرق بين أن يكون المال لواحد أو لاثنين . وقد يستدل له بقوله : [ ] ( لا يجمع بين متفرق ) بناء على أن الخطاب للساعي أيضاً ، فلا يجمع مائة ومائة ليأخذ زكاتهما ، وعلى هذه تؤثر [ الخلطة ] في شركة الأعيان . وهل تؤثر في شركة الأوصاف ؟ فيه وجهان ، حكاهما ابن عبدوس
____________________
(1/359)
وغيره ( أحدهما ) لا ، اختاره أبو محمد ، وابن حمدان ( والثاني ) : نعم ، وهو ظاهر كلام الأكثرين ، لإِطلاقهم الرواية ، وعليه : يشترط في الدراهم ونحوها اتحاد الخازن والمخزن ، وفي الزورع والشجر اتحاد المشرب والفلاح ، والله أعلم .
قال : والزكاة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين .
ش : من شرط [ وجوب ] الزكاة الحرية ، فلا تجب الزكاة على عبد ، على المذهب المعروف المقطوع به ، لأنه لا يملك ، وإن قلنا يملك فملكه غير تام ، أشبه المكاتب ، ودليل الأصل يأتي إن شاء الله تعالى . ( وعنه ) تجب عليه ، لدخوله في عموم الخطاب ، ( وعنه ) : بإذن السيد ، ونظير هذا الخلاف في وجوب الجمعة عليه ، وهو ثمّ أشهر .
ومن رط الوجوب الإِسلام أيضاً ، بلا نزاع أي وجوب الأداء ، إذ الزكاة قربة وطاعة ، والكافر ليس من أهلها ، ولافتقارها إلى نية ، وهي ممتنعة من الكافر ، أما الوجوب في الذمة بمعنى العقاب في الآخرة فنعم ، بناء على أن الكافر مخاطب بالفروع ويسقط عنه ذلك بإسلامه .
1166 لقوله : الإِسلام يجبّ ما قبله ) ( وعنه ) لا تسقط عن المرتد ، لالتزامه ذلك بإسلامه ] نعم إن زال ملكه بردته سقطت لذلك ، والله أعلم .
قال : والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما .
ش : قد تضمن هذا أن الزكاة تجب في ماليهما ، وعموم المسألة السابقة يقتضيه .
1167 والأصل في ذلك ما روى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي خطب الناس فقال : ( من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه ، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة ) رواه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً على عمر ، ورواه الدراقطني عن النبي من طرق لكنها ضعيفة ، قال أحمد في رواية مهنا وسئل عن هذا الحديث فقال : ليس بصحيح ، يرويه المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . قال له : فرواه غير المثنى ؟ قال : نعم . ابن جريج يقول : قال عمرو بن شعيب . مرسلًا كذا ، ولم يسمعه من عمرو بن شعيب . انتهى . وهذا لا يقدح على قاعدة أحمد ، إذ المرسل عنده حجة .
واعتمد أحمد على أقوال الصحابة ، فقال في رواية الأثرم : خمس من أصحاب رسول الله يزكون مال اليتيم .
1168 وفي الموطأ : بلغه أن عمر بن الخطاب قال : اتجروا في مال اليتيم لا تأكله الصدقة .
____________________
(1/360)
1169 وفيه أيضاً عن القاسم بن محمد قال : كانت عائشة رضي الله عنها تليني أنا وأخا لي يتيمين في حجرها ، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة .
1170 وروى الأثرم نحو ذلك عن علي ، وابن عمر ، وجابر رضي الله عنهم ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة .
1171 إلا رواية عن ابن عباس ، وهي معارضة بروايته الأخرى ، ولأن الزكاة من حقوق المال ، فوجبت على الصبي والمجنون ، كنفقة قريبهما وزوجتيهما ، وبهذا فارقت الصلاة والحج ، لتعلقهما بالبدن ، ونية الصبي تضعف عنها .
117( ورفع القلم عن ثلاثة ) لا يرد ، إذ المخاطب بالإِخراج الولي ، وتعلق الوجوب [ إن قيل ] بالعين فلا كلام ، وإن قيل بالذمة فكثبوت الصلاة في ذمة النائم . إذا ثبت هذا فالمخاطب هو الولي ، لأنه المخاطب بالحقوق [ المتعلقة ] بهما ، بدليل أنه ينفق على قريبهما وزوجتيهما ، ويؤدي ما لزمهما من إتلاف ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : والسيد يزكي عمافي يد عبده ، لأنه مالكه .
ش : قد تضمن كلام الخرقي رحمه الله أن العبد لا يملك ، وأن ما في يد العبد ملك للسيد ، فإذا كان ملكاً له وجبت عليه الزكاة ، لدخوله في العمومات المقتضية لذلك ، أما إن قلنا [ أن ] العبد يملك فإن الزكاة لا تجب على السيد ، لانتفاء الملك ، ولا على العبد لضعف الملك ، وقد تقدم ذلك ، [ والله أعلم ]
قال : ولا زكاة على مكاتب .
ش : [ هذا المذهب بلا ريب ] .
1173 لما روي عن أبي الزبير ، عن جابر رضي الله عنه عن النبي قال : ( ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق ) رواه الدارقطني ، ورواه أبو بكر موقوفاً على جابر .
1174 وعن ابن عمر : المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وليس في ماله زكاة . ( وعنه ) يزكي بإذن سيده .
وقد دخل في كلام الخرقي . وجوب العشر عليه ، وصرح الأصحاب ، لأنه عندنا زكاة ، فيدخل فيما تقدم .
قال : فإن عجز استقبل سيده بما في يده من المال حولًا [ وزكاه إن كان نصاباً ] .
ش : إذا عجز المكاتب فقد استقر ملك سيده على ما في يده ، فيستقبل به حولًا
____________________
(1/361)
[ كالذي ] ورثه ، أو اتهبه ، ونحو ذلك والله أعلم .
قال : وإن أدى وبقي في يده منصب للزكاة استقبل به حولًا .
ش : إذا أدى المكاتب فقد عتق ، فإن فضل في يده نصاب فإن الحول ينعقد عليه حينئذ ، لاستقرار ملكه عليه ، والله أعلم .
قال : ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول .
1175 ش : روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله يقول : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) رواه ابن ماجه .
1176 وعن الحارث عن علي رضي الله عنه ، عن النبي قال : ( إذا كانت لك مائتا درهم ، وحال عليها الحول ، ففيها خمسة دراهم ، وليس عليك في الذهب شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً ، فإذا كانت لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار ، فما زاد فبحساب ذلك ) قال الحارث : فلا أدري أعلي يقول ذلك أو رفعه إلى النبي ؟ ( وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ) رواه أبو داود .
1177 وعن القاسم أن أبا بكر [ الصديق ] رضي الله عنه لم يكن [ يأخذ ] من مال زكاة حتى يحول عليه الحول . مختصر رواه مالك في الموطأ .
واعلم أن كلام الخرقي عام في جميع الأموال ، وكذلك الحديث ، ويستثنى من ذلك الخارج من الأرض ، وما في معناه من حب ، وثمر ، ومعدن ، وركاز ، وعسل ، أما في الحب والثمر فلقوله تعالى : { وآتوا حقه يوم حصاده } وإيجاب الحق يوم الحصاد ينافي اشتراط الحول ، ولأن نماءه يتناهى بجعله في الجرين ، فوجب أن تستقر الزكاة إذاً ، إذ الحكمة في اشتراط الحول [ تكامل النماء ، وهذا قد تكامل نماؤه ، ولهذا قلنا : لا يشترط الحول ] للمعدن ، والركاز ، والعسل ، لأن بوجودها حصل النماء . وقد نص الخرقي رحمه الله من ذلك على المعدن ، والبقية كلامه فيه محتمل .
ويستثنى أيضاً نتاج السائمة ، وربح التجارة ، فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصاباً ، وإلا فمن كمال النصاب ، وقد نبه الخرقي على النتاج بقوله : وتعد عليهم السخلة . وقد تقدم ذلك ، والدليل عليه ، ولأن الماشية تختلف وقت ولادتها فإفراد كل واحدة بحول يؤدي إلى حرج ومشقة [ وهما منتفيان شرعاً ، وربح التجارة في معنى النتاج ، لعدم ضبط حولها ] ، وقد نص عليه الخرقي فيما بعد ، وشرط النتاج السوم في بقية السنة ، فإن كان بشرب اللبن فوجهان .
وقد دخل في كلام الخرقي المستفاد بإرث أو عقد ، في اشتراط الحول له ، [ من
____________________
(1/362)
غير ضم إلى ما معه ] وهو صحيح ، لعموم ما تقدم .
1178 وفي الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله : ( من استفاد مالًا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول ) زاد في رواية ( عند ربه ) .
قال الترمذي : وقد روي موقوفاً على ابن عمر . وقال أحمد في رواية أبي طالب : الحديث ( ليس على مال [ استفيد ] زكاة حتى يحول [ عليه الحول ] ) فإن قيل : ( اللام للعهد ) ، أي حول المال الذي كان معه . قيل : [ بل ] للعهد ، العام الذي هو اثنا عشر شهراً .
( تنبيه ) : قد يقال : [ ظاهر ] كلام الخرقي أن مضي الحول على جميع النصاب شرط [ فلو نقص ] الحول نقصاً يسيراً أثر ، وهذا ظاهر كلام القاضي ، لكنه ذكر ذلك فيما إذا وجد النقص في أثناء الحول ، وقال أبو بكر : ثبت أن نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه ، وكذلك قال أبو البركات : لا يؤثر نقصه دون اليوم . قال أبو محمد : ويحتمل أن أبا بكر أراد النقص في طرف الحول ، والقاضي قال ذلك في أثنائه ، فيرتفع الخلاف ، والله أعلم .
قال : ويجوز تقدمة الزكاة .
ش : يجوز تقدمة الزكاة في الجملة .
1179 لما روى حجية عن علي أن العباس سأل النبي في تعجيل صدقته قبل أن تحل ، فرخص له في ذلك ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي . وفي رواية أخرى للترمذي أن النبي قال لعمر : ( إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام ) لكن حجية قال أبو حاتم : شيخ لا يحتج بحديثه شبيه بالمجهول . وقال البيهقي : اختلف في هذا الحديث ، والمرسل فيه أصح ، واختلف عن أحمد فيه ، فضعفه في رواية الأثرم ، وإبراهيم بن الحارث ، ونقل عنه أيضاً إبراهيم بن الحارث ، أنه احتج به ، وهو يدل على أن الضعف الذي فيه لم يزل الإحتجاج به .
1180 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بعث رسول الله عمر بن الخطاب على الصدقة ، فمنع ابن جميل ، وخالد بن الوليد ، والعباس عم رسول الله ، فقال رسول الله : ( ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله ، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالداً ، وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله ، وأما العباس عم رسول الله فهي علي ومثلها ) ثم قال : ( يا عمر أما شعرت أن الرجل صنو أبيه ؟ ) رواه الشيخان وغيرهما . والحجة في قوله : ( فهي علي ومثلها
____________________
(1/363)
معها ) وهذا لفظ مسلم وأبي داود ، ومعناه أنه قد تسلف منه صدقة سنتين ، فصارت ديناً عليه ، وقيل : قبض منه صدقة عامين ، العام الذي شكى فيه العامل ، وتعجيل صدقة عام ثان ، وقيل : بل ضمن أداءها عنه سنتين ، وعلى هذا لا حجة فيه . ولفظ البخاري والنسائي في هذا الحديث : ( هي عليه صدقة له ومثلها معها ) قال البيهقي : يبعد أن يكون محفوظاً ، لأن العباس هاشمي ، تحرم عليه الصدقة . وقال غيره : إلا أن يكون [ قبل ] تحريم الصدقة عليهم ، ورأى إسقاط الزكاة عنه عامين . وقال أبو عبيد : أرى والله أعلم أنه أخر عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس . إذا تقرر هذا فشرط تقدمة الزكاة عن الحول تمام النصاب ، ليوجد سبب الزكاة فتصير في سلك تقديم الحكم بعد وجود سببه ، وقبل وجود شرطه ، كالكفارة تقدم بعد اليمين ، وقبل الحنث ، وكفارة القتل ، تقدم بعد الجرح وقبل الزهوق ، وفدية الأذى تقدم بعد الأذى وقبل الحلق ، ونحو ذلك . ويشترط أيضاً وجود الحرية والإسلام . والفرق على ما قاله القاضي وغيره أن الحرية والإسلام لا يختصان بالزكاة ، بل هما شرطان للحج وغيره ، أما الحول فيختص بها ، ويرد على هذا الفرق السوم في الماشية ، فإن وجوده شرط للإخراج ، وهو مختص بالزكاة . وقد يقال : [ في الفرق ] بين الحول وهذه الشروط : أن الأصل بقاء الحياة ، والظاهر مضي الحول ، فأقمنا الظاهر مقام الحقيقة أما في هذه الشروط فإن الأصل عدمها ، فبقينا على الأصل ، ومن جهة النص أن الشارع إنما رخص في هذا الشرط ، ولم يرد الترخيص في غيره .
ثم اعلم أنه يجوز تقدمة زكاة عام واحد ، بلا خلاف عندنا ، وفي تعجيلها لأكثر من ذلك روايتان ، كذا في كتب أبي محمد ، تبعاً لأبي الخطاب في الهداية ، وقيدهما أبو البركات ، وابن الزاغوني [ بعامين ] ونص أحمد ورد على ذلك ، والله أعلم .
( تنبيه ) : نقم ، ينقم ، ونقم ينقم ، ( وأعتده ) جمع ( عتد ) بفتح العين والتاء القوس الصلب ، وقيل : المعد للركوب ، وقيل : السريع الوثب ورواه جماعة ( وأعبده ) بالباء الموحدة جمع قلة للعبد ، وروى ( عقاره ) بالقاف والعقار الأرض ، والضياع والنخل ، ومتاع البيت ، وروي ( أعتاده ) والعتاد ما أعد من سلاح وآلة ومركوب للجهاد ( والصنو ) المثل أي مثل أبيه ، وأن أصله وأصل أبيه واحد ، وأصل الصنو [ أن ] تطلع النخلتان والثلاث من عرق واحد ، والله أعلم .
قال : ومن قدم زكاة ماله ، فأعطاها لمستحقيها فمات المعطى قبل الحول أو بلغ الحول وهو غني منها أو من غيرها ، أجزأت [ عنه ] .
ش : المعتبر عندنا حال الإخراج ، فإذا دفع الزكاة المعجلة إلى مستحقها فمات قبل الحول أو ارتد ، أو وصل الحول وهو غني ، أجزأت عنه ، ولو دفعها إلى غني أو عبد ، فصار عند الحول فقيراً أو حراً لم تجزئه ، كما اقتضاه مفهوم [ كلام ] الخرقي ، وصرح به غيره ، لأن الله سبحانه جعل الصدقة للأصناف المذكورة ، فمن دفعها إليهم
____________________
(1/364)
فقد خرج عن العهدة لظاهر الآية ، ومن دفعها إلى غيرهم لم يخرج عن العهدة ، إذ المدفوع لم يخرج عن كونه صدقة ، ولأن ما جاز تقديمه على وقت وجوبه فالمراعي فيه حال التعجيل ، دون حال الوجوب ، أصله الرقبة في الكفارة ، إذا أعتقها قبل الموت ، أو قبل الحنث ، ثم عمي العبد ، أو حدث به ما يمنع الإجزاء ، فإنه لا يؤثر ، كذلك [ ها ] هنا ، [ والله أعلم ] .
قال : ولا يجزيء إخراج الزكاة إلا بنية ، إلا أن يأخذها الإمام منه قهراً .
ش : الزكاة عبادة ، فلا بد لها من النية كالصلاة ، قال الله سبحانه وتعالى : 19 ( { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ) وقال النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل أمري ما نوي ) . وقال : ( لا عمل إلا بنية ) ولا نزاع عندنا في هذا إذا كان المخرج هو المالك ، أو النائب عنه ، كولي الصبي والمجنون ، أما إن أخذها الإمام من غير نية رب المال فإنها تجزئه في الظاهر بلا نزاع ، بمعنى أنه لا يؤمر بأدائها ثانياً . وهل تجزئه في الباطن ؟ فيه ثلاثة أوجه : ( أحدها ) : تجزئه مطلقاً ، وهو قول القاضي أظنه في المجرد ، لأن للإمام ولاية عامة ، ولذلك يأخذها من الممتنع ، فأشبه ولي الصبي والمجنون ، ولأن أخذه يجري مجرى القسم بين الشركاء . ( والثاني ) : لا تجزئه مطلقاً ، وهو اختيار أبي الخطاب ، وابن عقيل ، وأبي العباس في فتاويه إذ الزكاة عبادة ، فلا تجتزي بنية الإمام إن أخذها قهراً ، لأن له [ إذاً ] ولاية على الممتنع ، فقامت نيته مقام نيته ، كولي الصبي والمجنون ، ولا يجتزى بنيته إن أخذها طوعاً ، لعدم ولايته ، وهذا اختيار الخرقي ، والله أعلم .
قال : ولا يعطي الصدقة المفروضة للوالدين وإن علوا ، ولا للولد وإن سفل .
ش : لا يعطي من الصدقة المفروضة للوالدين وإن علت درجتهم ، وكانوا من ذوي الأرحام ، كأبي أبي أمه ، ولا للولد وإن سفل ، وكان من ذوي الأرحام ، كبنت بنت بنت بنته ، نص عليه أحمد والأصحاب ، لأن ملك أحدهما في حكم ملك الآخر ، بدليل أنه لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر ، ولا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه ، وإذا كان في حكم ملكه فكأنه لم يزل ملكه عنه ، ومن شرط الزكاة زوال الملك ، ولأن الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى والديه في الحال التي تجب عليه نفقتهما فنقول : قرابة أثرت [ في ] منع الزكاة ، فوجب أن تؤثر مطلقاً ، دليله قرابة النبي تؤثر في المنع وإن كان الخمس معدوماً .
ومفهوم كلامه أن يجوز دفع صدقة التطوع إليهم ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى ، ومفهومه أن يجوز دفع الصدقة المفروضة إلى سائر الأقارب ، ولا يخلو القريب [ من غير عمودي النسب ] إما أن تجب نفقته على الدافع أو لا ، فإن لم تجب نفقته [ عليه ] جاز الدفع إليه بلا نزاع ، وإن وجبت نفقته ففيه روايتان مشهورتان : ( إحداهما ) وهي اختيار الخرقي ، ذكره في باب قسم الفيء والغنيمة ، والقاضي في التعليق ، وصاحب
____________________
(1/365)
التلخيص المنع ، قال القاضي : وهي أشهرهما . قلت : وأنصهما . نظراً إلى أن من تلزمه نفقته غني بوجوب النفقة له ، فأشبه الغني ، ولأن نفع الزكاة والحال هذه يعود إلى الدافع ، لأنه يسقط عنه [ النفقة ] لغنى المدفوع إليه بها ، فأشبه ما لو دفعها لعبده .
1181 وقد روى الأثرم في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : 16 ( إذا كان ذو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك ، وإن كنت تعولهم فلا تعطهم ، ولا تجعلها لمن تعول ) . ( والثانية ) وقال أبو محمد في المغني : إنها الظاهرة عنه الجواز :
1182 لعموم قوله : ( الصدقة على المسكين صدقة ، وهي لذي الرحم ثنتان ، صدقة وصلة ) . رواه أحمد والترمذي ، وابن ماجه ، والصدقة والرحم عامان .
1183 وعن أبي أيوب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح ) رواه أحمد .
( تنبيه ) : إعلم أن عامة الأصحاب على حكاية الروايتين ، وقال القاضي في التعليق في النفقات : وها هنا يمكن حملها على اختلاف حالين ، فالموضع الذي منع إذا كانت النفقة واجبة ، والموضع الذي أجاز إذا لم تجب [ كما ] إذا لم يفضل عنه ما ينفق عليهم ، والله أعلم .
قال : ولا للزوج ولا للزوجة .
ش : عطف على الوالدين ، أما الزوجة فبالإجماع ، قاله ابن المنذر ، ولأن نفقتها واجبة عليه ، وبها تستغني عن الزكاة ، وأما الزوج ففيه روايتان منصوصتان :
( إحداهما ) وهي اختيار القاضي في التعليق الجواز ، لدخوله تحت قوله تعالى : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء } ) الآية .
1184 وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت : قال رسول الله : ( تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن ) قالت : فرجعت إلى عبد الله فقلت : إنك رجل خفيف ذات اليد ، وإن رسول الله أمرنا بالصدقة ، فأته فاسأله ، فإن كان ذلك يجزيء عني ، وإلا صرفتها إلى غيركم . قالت : فقال عبد الله : بل ائتيه أنت . قالت : فانطلقت فإذا امرأة [ من الأنصار ] بباب رسول الله ، حاجتها حاجتي ، قالت : وكان رسول الله قد ألقيت عليه المهابة ، قالت : فخرج علينا بلال ، فقلنا له : ائت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك أتجزيء الصدقة عنهما على أزواجهما ، وعلى أيتام في حجورهما ، ولا تخبر من نحن . قالت : فدخل [ بلال ] فسأله ، فقال له : ( من هما ) ؟ قال : امرأة من الأنصار ، وزينب . قال : ( أي الزيانب ؟ ) قال : امرأة عبد الله . فقال : ( لهما أجران ، أجر القرابة وأجر الصدقة ) متفق عليه ،
____________________
(1/366)
وللبخاري : أتجزيء عني أن أنفق على زوجي ، وأيتام لي في حجري ، انتهى . لا يقال : السياق يقتضي التطوع ، لأنا نقول الاعتبار باللفظ لا بالسبب .
( والثانية ) : وهي اختيار الخرقي ، وأبي بكر المنع ، قياساً لأحد الزوجين على الآخر ، ولأن النفع يعود لها ، لأنها تتمكن إذاً من أخذ نفقة الموسرين منه أو من أصل النفقة مع العجز الكلي . وحديث زينب تأوله أحمد في رواية ابن مشيش على غير الزكاة ، والله أعلم .
قال : ولا الكافر .
ش : عطف أيضاً على ما تقدم ، وهذا إجماع حكاه ابن المنذر .
1185 وفي الصحيحين في حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي قال له : ( أخبرهم أن [ الله قد فرض ] عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) والصدقة إنما تؤخذ من أغنياء المسلمين ، والذمي ليس من فقرائهم ، والله أعلم .
قال : ولا المملوك .
ش : لأن العبد يجب على سيده نفقته ، فهو غني بغناه ، وقد قال أبو محمد : لا أعلم فيه خلافاً .
قال : إلا أن يكونوا من العاملين [ عليها ] ، فيعطون بحق ما عملوا .
ش : هذا الاستثناء راجع إلى الوالدين ، والمولودين ، والزوجة ، والزوج ، والكافر والمملوك ، وبه يتم الكلام على ما تقدم ، وإنما جاز لمن تقدم أن يأخذ من الزكاة إذا كان عاملًا لأن الذي يأخذه أجرة عمله ، لا زكاة ، فلذلك يقدر ما يأخذه بقدر عمله ، قال أحمد : يأخذ على قدر عمالته .
واعلم أن كلام الخرقي رحمه الله تضمن أموراً : ( أحدها ) : أن قوله : الصدقة المفروضة . يدخل فيه الزكاة ، وقد نص الخرقي على الكفارة في بابها ، مصرحاً بأن حكمها حكم الزكاة . ونص أبو الخطاب في الهداية أيضاً على ذلك . وخرج بقوله : المفروضة . التطوع ، فإنه يجوز لمن تقدم الأخذ منه ، ولا ريب في ذلك ، لقوله تعالى : 19 ( { ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ، ويتيماً ، وأسيراً } ) والأسير يومئذ هو الكافر .
1186 وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمت عليّ أمي [ وهي مشركة ] فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة ، أفأصلها ؟ قال : ( نعم صلي أمك ) .
( الثاني ) : أن ظاهر كلامه أن العامل يجوز أن يكون كافراً أو عبداً ، أو أباً ، وهو
____________________
(1/367)
مبني على ما تقدم من [ أن ] الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة ، لكن اختلف عن أحمد هل من شرطه الإسلام ؟ على روايتين : ( إحداهما ) : لا ، وهي اختيار الخرقي ، والقاضي في الجامع الصغير ، وفي التعليق الكبير ، وابن البنا وجماعة ، لإطلاق قوله تعالى : 19 ( { والعاملين عليها } ) . ولما تقدم من أن الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة ، وتجوز إجارة الكافر . ( والثانية ) : نعم ، اختاره القاضي فيما حكاه عنه أبو الخطاب ، وكأنه في المجرد ، نظراً إلى أن من شرط العامل الأمانة بالإتفاق والكافر ليس بأمين . وأجاب القاضي في التعليق بأنا نشترط أمانته ، كما نشترط عدالته في الوصية في السفر . ( الأمر الثالث ) أن الخرقي إنما جوز دفع الزكاة [ لمن تقدم ] إذا كانوا عمالًا فقط ، لأنه إنما استثنى العامل [ لا غير ] وقال : [ أبو الخطاب ] وصاحب التلخيص ، و 19 ( أبو البركات ) : يجوز دفع الزكاة لمن تقدم إذا كانوا عمالًا ، أو غزاة ، أو مؤلفة ، أو غارمين لإصلاح ذات البين ، وهو مقتضي كلام القاضي في التعليق ، لأنهم إنما يأخذون لمصلحتنا ، لا لحاجتهم .
1187 وفي سنن أبي داود ، والموطأ عن عطاء بن يسار ، أن رسول الله قال : ( لا تحل الصدقة لغني إلا [ لخمسة ] ، لغاز في سبيل الله ، أو لعامل عليها ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني ) . ولأبي سعيد رضي الله عنه عن النبي معناه ، قاله أبو داود ، ورواه أحمد ، والحاكم ، وقال : على شرطهما وحكى أبو محمد في المغني عن الأصحاب أنهم جوزوا الدفع إلى الغارم لمصلحة نفسه ، وإن كان من ذوي القربي ، وحكى هو احتمالًا بالمنع ، والله أعلم .
قال : ولا لبني هاشم ولا لمواليهم .
ش : أي ولا يدفع من الصدقة المفروضة لبني هاشم ، ولا لمواليهم .
1188 [ أما بنو هاشم ] فلما روى المطلب بن ربيعة بن الحارث بن [ عبد ] المطلب ، أنه و [ الفضل ] بن العباس انطلقا إلى رسول الله ، قال : ثم تكلم أحدنا فقال : يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات ، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة ، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس . فقال : ( إن الصدقة لا تحل لمحمد ، ولا لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس ) مختصر ، رواه أحمد ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي .
1189 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة ، فجعلها في فيه ، فقال رسول الله : ( كخ كخ [ إرم بها ] أما علمت أنا لا نأكل الصدقة ؟ ) وفي رواية : ( أنا لا تحل لنا الصدقة ) متفق عليه .
____________________
(1/368)
1190 وأما مواليهم فلما روى أبو رافع رضي الله عنه قال : بعث رسول الله رجلًا على الصدقة من بني مخزوم ، قال أبو رافع : فقال [ له ] : اصحبني فإنك تصيب منها معي ، قلت : حتى أسأل رسول الله ، فانطلق إلى النبي فقال : ( مولى القوم من أنفسهم ، وإنا لا تحل لنا الصدقة ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي .
ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز دفع صدقة التطوع إليهم ، وهو المشهور والمختار من الروايتين .
1191 نظراً إلى أن النبي قال : ( المعروف كله صدقة ) متفق عليه ، ولا خلاف في إباحة المعروف إلى الهاشمي .
1192 وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه 16 ( كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة ، فقلت له : أتشرب من الصدقة ؟ فقال : إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة ) . ( والرواية الثانية ) لا يجوز ، لعموم ما تقدم ، ورد بأن التعريف للعهد لا للعموم .
( فعلى الأولى ) : يجوز لهم الأخذ من الوصايا والنذور ، قال أبو محمد : لأنهما تطوع وفي الكفارة قولان .
ومقتضى كلامه أيضاً [ أنه لا يجوز أن يأخذوا لعمالتهم ، ( سقط : وظاهر كلامه 0000 إلى أخر الصفحة )
____________________
(1/369)
( سقط : من أول الصفحة إلى فقرة رقم 1196 ) ، ولا لقوي مكتسب ويستثنى من ذلك العامل ، والمؤلف ، والغارم لإصلاح ذات البين ، فإن الغنى لا يمنع من الدفع إليهم ، لما تقدم من أن الدفع لمصلحتنا ، لا لحاجتهم ، ويجوز للغني أن يأخذ من صدقة التطوع لما تقدم .
( تنبيه ) : ( المرّة ) القوة والشدة ، و ( السوي ) المستوي الخلق ، التام الأعضاء ، والله أعلم .
قال : وهو الذي يملك خمسين درهماً ، أو قيمتها من الذهب .
ش : اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في حد الغنى ، فنقل عنه مهنا أن يكون له كفاية على الدوام ، إما من تجارة ، أو من صناعة ، أو أجرة عقار ، أو غير ذلك ، فالحكم على هذه الرواية منوط بالحاجة وعدمها ، فمن كان محتاجاً حلت له الزكاة وإن ملك نصباً ، ومن لم يكن محتاجاً لم تحل له وإن لم يملك شيئاً ، وهذه الرواية اختيار أبي الخطاب ، وابن شهاب العكبري .
1197 لأن النبي
قال لقبيصة بن مخارق : ( يا قبيصة لا تحل المسألة إلا
____________________
(1/370)
لأحد ثلاثة ) وذكر الحديث إلى أن قال : ( ورجل أصابته فاقة ، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه : لقد أصابت فلاناً فاقة . فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ، أو سداداً من عيش ) رواه مسلم وغيره . فأباح المسألة حتى يصيب القوام أو السداد ، فمن ملك خمسين درهماً ولم يصب القوام ولا السداد حل له بمقتضى النص الأخذ ، ولأن في العرف أن من كان محتاجاً فهو فقير ، فيدخل في عموم النص .
ونقل عنه جماعة أن من ملك خمسين درهماً أو قيمتها من الذهب وإن كان حلياً فهو غني وإن لم تحصل له الكفاية ، وإن ملك عقاراً قيمته عشرة آلاف درهم أو يحصل له من غلته مثل ذلك ، أو أقل ، أو أكثر ، ولا يقوم بكفايته يأخذ من الزكاة ، وهذا هو المذهب عند الأصحاب ، حتى إن عامة متقدميهم لم يحكوا خلافاً .
1198 وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشاً أو كدوشاً في وجهه ) قالوا : يا رسول الله وما غناه ؟ قال : ( خمسون درهماً أو حسابها من الذهب ) رواه الخمسة ، وحسنه الترمذي ، وأحمد في رواية الأثرم ، فقال : حسن بين وإليه نذهب . انتهى .
1199 وقال في رواية عبد الله : روي عن سعد ، وابن مسعود ، وعلي . يعني اعتبار الخمسين ، وهذا نص في أن من ملك خمسين درهماً أو حسابها من الذهب أنه غني ، وما عداه يبقى فيه على قصة قبيصة ، وعلى قوله عليه السلام : ( لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ) .
( تنبيه ) : ( الحجى ) العقل ، والله أعلم .
قال : ولا تعطي إلا في الثمانية الأصناف التي سمى الله عز وجل .
ش : لأن الله سبحانه وتعالى حصرها في الثمانية بقوله : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ، والمؤلفة قلوبهم ، وفي الرقاب والغارمين ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل } ) الآية .
1200 وعن زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله فبايعته . فذكر حديثاً طويلًا ، فأتاه رجل فقال : أعطني من الصدقة . فقال [ له ] رسول الله : ( إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت منهم أعطيتك ) رواه أبو داود .
وقد تضمن كلام الخرقي رحمه الله أنه لا يعطى منها لبناء قنطرة ولا سقاية ،
____________________
(1/371)
ونحو ذلك ، وهو صحيح لما تقدم .
وتضمن أيضاً أن حكم المؤلفة باق ، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد ، واختيار الأصحاب ، لأن الله تعالى ذكرهم ، وكذلك المبين لكتابه ، وأعطاهم ، فالأصل بقاؤهم ، إلا أن يدل دليل على النسخ ولا دليل عليه ، واحتماله غير كاف .
____________________
(1/372)
( وعن أحمد ) رحمه الله أن حكمهم انقطع للإستغناء عنهم .
1201 وعن عمر رضي الله عنه : 16 ( إنا لا نعطي على الإسلام شيئاً ، ( فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ) .
( تنبيه ) : مقتضى كلام الشيخين جريان الخلاف على الإطلاق ، ومقتضى كلام [ صاحب ] التلخيص تبعاً لأبي الخطاب في الهداية أن الخلاف مختص بالكافر منهم ، أما المسلم فالحكم باق في حقه بلا نزاع ، وكلام القاضي في التعليق يحتمل ذلك ، والله أعلم .
قال : إلا أن يتولى الرجل إخراجها بنفسه ، فيسقط العامل .
ش : لما دل كلامه السابق على أنه يجوز دفعها في الثمانية ، استثنى من ذلك [ ما ] إذا تولى الرجل إخراجها بنفسه ، فإن العامل يسقط للاستغناء عنه إذاً ، إذ هو إنما يأخذ أجر عمله ولا عمل ، والله أعلم .
قال : وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه إذا لم يخرجه إلى الغنى .
ش : المشهور والمختار عند جمهور الأصحاب من الروايتين أنه يجوز لرجل دفع زكاته إلى صنف واحد من الأصناف بشرطه ، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للاختصاص ، ولبيان جهة المصرف ، ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { إن تبدو الصدقات فنعماً هي ، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } ) [ فاقتصر سبحانه على الفقراء بعد ذكر الصدقات وهو عام ] وقال تعالى : 19 ( { والذين في أموالهم حق معلوم ، للسائل والمحروم } ) فجعل الحق والظاهر أنه الزكاة لصنفين فقط .
1202 وقال لمعاذ : ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ، فترد في فقرائهم ) فلم يذكر إلا صنفاً واحداً .
1203 ويروى أنه قال لسلمة بن صخر : ( اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ) .
1204 وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال : تحملت حمالة فأتيت رسول الله أسأله فيها ، فقال : ( أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها ) مختصر ، رواه مسلم وغيره .
( وعن أحمد رحمه الله ) رواية أخرى : يجب أن يستوعب الأصناف إلا أن يخرجها بنفسه فيسقط العامل ، اختارها أبو بكر في تعاليق أبي حفص ، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للملك ، ولحديث زياد بن الحارث الصدائي فإنه قال : ( جزأها ثمانية أجزاء ) وحمل على بيان وجه المصرف .
وقول الخرقي : ما لم يخرجه إلى الغنى . بيان لشرط الدفع ، وهو أنه إذا دفع إلى صنف أو أكثر إنما يدفع ما تحصل به الكفاية والاستغناء ، وتزول به الحاجة ، إلا أن قول الخرقي رحمه الله : إذا لم يخرجه إلى الغنى . ظاهره أن شرط الإعطاء أن لا يوصله إلى الغنى ، [ بل لا بد أن ينقص عنه ، ونص أحمد والأصحاب يقتضي أنه يوصله إلى الغنى ] لكن لا يزيد عليه ، وإذاً فلنتعرض إلى ما يدفع إلى كل واحد من الأصناف ، على سبيل الاختصار .
فيدفع إلى الفقير والمسكين أدنى ما يغنيهما ، فإن كان المدفوع إليهم غير الذهب والفضة دفع إليهما [ تمام ] كفايتهما لسنة ، قاله القاضي ، وأبو البركات ، وغيرهما ، نظراً إلى أن ظاهر كلام أحمد اعتبار كفاية العمر [ وكفاية العمر ] تحصل بذلك ، إذ في كل سنة يدفع إليهما ، [ فتحصل لهما ] الكفاية الأبدية ، فإن كان المدفوع إليه ذا حرفة ، واحتاج إلى ما يعمل به من عدة ونحو ذلك ، دفع إليه ما يحصل ذلك ، وكذلك الحكم إن كان المدفوع إليهما ذهباً أو فضة ، وقلنا : المعتبر في الغنى الكفاية ، من غير نظر إلى قدر من المال . وإن قلنا : الغنى يحصل بخمسين درهماً ، أو قيمتها من الذهب . لم يدفع إليهما أكثر من ذلك ، نص عليه أحمد في رواية الأثرم ، وإبراهيم بن الحارث ، ومحمد بن الحكم ، وينبغي أنه إذا كان معهما قدر من ذلك أنه يكمل لهما تمام الخمسين ، أو قيمتها من الذهب .
ويدفع إلى العامل أجرة مثله ، ويدفع إلى المؤلف ما يحصل به التأليف ، قاله أبو محمد ، وقال صاحب التلخيص فيه : يدفع إليه ما يراه الإمام ، وهو قريب من الأول ، ويدفع في الرقاب بأن يعطي المكاتب ما عليه إن لم يجد وفاءه ، أو يفتدي أسيراً ، ونحو ذلك ، على ما سيأتي [ بيانه ] إن شاء الله تعالى ، ويدفع إلى الغارم قدر دينه . وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه . وإلى الفقير ما يحج به في رواية ، ويدفع إلى ابن السبيل ما يوصله بلده ، ولا يزاد أحد منهم على ذلك ، والله أعلم .
قال : ولا تخرج الصدقة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة .
ش : المذهب أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة ، مع القدرة على دفعها في بلدها ، هذا المعروف في النقل ، وظاهر كلام أحمد [ والخرقي ] وإن كان القاضي في روايتيه ، وجامعه الصغير ، وتعليقه الكبير ، ترجم المسألة بلفظ الكراهة ، واحتج أحمد بحديث معاذ المتفق عليه ، أن النبي قال له : ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم ) .
____________________
(1/373)
لا يقال : المراد فقراء المسلمين . لأنا نقول : الضمير راجع إلى أهل اليمن ، إذ هم المبعوث إليهم ، أي صدقة تؤخذ من أغنياء مسلمي اليمن ، فترد في فقراء مسلمي اليمن ، ( فإن قيل ) : اليمن بلاد كثيرة ، فعموم الحديث يقتضي الدفع إلى جميع فقرائها ؟ ( قيل ) : لكنه ظاهر في منع الدفع في إقليم آخر ، وإذاً فيتعارض ظاهران ، والحمل على جانب العموم أولى ، لتطرق التخصيص إليه غالباً ، ثم قوله : ( فترد في فقرائهم ) في معنى الأمر ، فلو حمل على جميع [ بلاد ] اليمن لحمل على المكروه ، وحمل الأمر على المكروه ممتنع .
1205 واحتج أحمد أيضاً بما روى الأثرم في سننه ، عن طاوس [ قال : في كتاب ] معاذ بن جبل : 16 ( ( من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته ) ) انتهى .
1206 وعن عمران بن حصين ، أنه استعمل على الصدقة ، فلما رجع قيل له : أين المال ؟ قال : وللمال أرسلتني ؟ أخذناه من حيث كنا نأخذه على عهد رسول الله ، ووضعناه حيث كنا نضعه .
1207 ولما بعث معاذ الصدقة إلى عمر من اليمن ، أنكر ذلك عمر ، وقال : لم أبعثك جابياً ، ولا آخذ جزية ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس ، فترد في فقرائهم . فقال معاذ : ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني . رواه أبو عبيد في الأموال ولأن في النقل ضياع فقراء تلك البلد ، وهو عكس مشروعية الزكاة .
( وعن أحمد رحمه الله ) رواية [ أخرى ] : يجوز النقل مطلقاً ، لظاهر قوله سبحانه : { إنما الصدقات للفقراء } الآية ، ولم يفرق سبحانه بين فقراء وفقراء ، ولأن النبي قال لقبيصة : ( أقم حتى تأتينا الصدقة ، فنأمر لك بها ) فدل على أن الصدقة كانت تنقل .
( وأجيب ) عن الآية بأن المراد منها بيان المصرف ، وعن الحديث بأنه محمول على الفاضل من الصدقات .
1208 وبهذا أجاب أحمد عما روي من نقل الصدقات إلى النبي ، وإلى أبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما .
( وعنه ) رواية ثالثة نص عليها في رواية جماعة أنه يجوز نقلها إلى الثغور خاصة ، وقال في هذا غير شيء ، وذلك لأن المرابط قد لا يمكنه الخروج [ من ] الثغر ، فالحاجة داعية إلى البعث إليه ، لا سيما وما هم عليه فإنه من أعظم أمور الدين ، بل هو أصلها .
فعلى الأولى إن خالف ونقل فهل يجزئه ؟ فيه روايتان ، حكاهما أبو الخطاب وأتباعه ، وعن القاضي أنه قال : لم أجد عنه نصاً في المسألة . واختار هو وشيخه المنع لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه ، أشبه ما لو دفعها إلى غير الأصناف . واختار أبو الخطاب الجواز ، لأن الأدلة في المسألة متقاربة ، وقد وصلت إلى الفقراء ، فدخلت
____________________
(1/374)
في عموم الآية ، ولعل قصة عمر المتقدمة تشهد لذلك .
وقول الخرقي : ولا تخرج الصدقة . اللام في الصدقة للعهد المتقدم ، وهو الزكاة ، ويشمل زكاة المال والبدن ، أما صدقة التطوع فيجوز نقلها بلا كراهة ، وأما الكفارات ، والنذور ، والوصايا ، فيجوز نقلها ، قاله في التلخيص ، [ قال ] : وخرج القاضي وجهاً في الكفارات بالمنع ، فيخرج في النذور والوصية مثله . ( قلت ) : ومراد صاحب التلخيص بالوصية ؛ الوصية المطلقة ، كالوصية للفقراء [ مثلًا ] أما الوصية لفقراء بلد فإنه يتعين صرفها في فقرائه ، نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم . وقوله : من بلدها . أي [ من ] البلد الذي وجبت فيه ، أو الذي المال فيه ، فلو كان ماله غائباً عنه زكاه في بلده ، نص عليه في رواية بكر بن محمد ، فقال : أحب إلي أن تؤدي حيث يكون المال ، فإن كان بعضه حيث هو ، وبعضه في بلد آخر ، يؤدي زكاة كل مال حيث هو . وظاهر كلامه أنه ولو في نصاب من السائمة ، وفيه وجه آخر أنه في السائمة والحال هذه يجزيء الإخراج في بعضها ، حذاراً من التشقيص ، ولو كان ماله تجارة يسافر به ، فقال أحمد في رواية يوسف بن موسى : يزكيه في الموضع الذي مقامه فيه أكثر . ( وعنه ) أنه سهل في إعطاء البعض في بلد ، والبعض في البلد الآخر . وعن القاضي : يخرج زكاته حيث حال [ عليه ] حوله . أما زكاة البدن فيزكي حيث البدن .
وقوله : إلى بلد تقصر في مثله الصلاة . [ مفهومه أنها تنقل إلى بلد لا تقصر في مثله الصلاة ] ، ونص عليه أحمد والأصحاب ، لأن ما قارب البلد في حكمه .
وكلام الخرقي [ وغيره ] شامل للساعي ، ولرب المال ، وهو ظاهر كلام أحمد ، وشامل لما إذا كان في البلد البعيد أقارب محاويج أو لم يكن ، وصرح به غيره ، ويستثنى مما تقدم ما إذا استغنى فقراء بلده ، فإنه يفرقها في أقرب البلاد إليه وكذلك إن كان ماله ببادية فرق زكاتع في أقرب البلاد إليه .
( تنبيه ) : ( المخلاف ) والله أعلم .
قال : وإذا باع ماشية قبل الحول بمثلها زكاها إذا تم حوله من وقت ملكه الأول .
ش : إذا باع ماشية وهي الإبل ، والبقر ، والغنم في أثناء الحول بمثلها ، بأن باع إبلًا بإبل ، أو بقراً ببقر ، أو غنماً بغنم ، فإن حوله لا ينقطع ، فيزكيه إذا تم الحول ، نظراً إلى أنه لم يزل في ملكه نصاب من الجنس ، أشبه ما لو نتج النصاب نصاباً ، ثم ماتت الأمات فإن الحول لا ينقطع ، كذلك هاهنا ، وخرج أبو الخطاب قولًا بالانقطاع ، ولم يلتفت لذلك أبو محمد في المغني ، والله أعلم .
قال : وكذلك إن باع مائتي درهم بعشرين ديناراً ، أو عشرين ديناراً بمائتي درهم ، فلا تبطل الزكاة بانتقالها .
____________________
(1/375)
ش : لما كان قياس ما تقدم أنه لو باع نصاباً بجنسه أن الحول لا ينقطع ، وأنه لو باعه بغير جنسه [ أن الحول ينقطع ، أراد إن ينبه على أن الدراهم والذهب يخالفان ذلك ، فلو باع نصاباً من الفضة بنصاب ] من الذهب [ أو نصاباً من الذهب ] بنصاب من الدراهم ، لم ينقطع الحول ، لأنهما في حكم الجنس الواحد ، إذ هما قيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، والنفع بأحدهما كالنفع بالآخر . وفي معنى ما ذكره الخرقي إذا باع عرضاً للتجارة [ بأحدهما ] أو اشتراهما به ، فإن الحول لا ينقطع ، إذ الزكاة في قيمتها ، وهي أحدهما .
واعلم أن الذي ذكره الخرقي من أن الحول لا ينقطع ببيع أحد النقدين بالآخر يحتمل أنه بناء منه على ما سيأتي له إن شاء الله تعالى من ضم أحد النقدين للآخر ، وهي طريقة أبي محمد ، وطائفة من الأصحاب ، وصححها أبو العباس .
وطريقة القاضي وجماعة منهم أبو البركات أن الحول لا ينقطع [ مطلقاً ] وإن لم نقل بالضم ، والله أعلم .
قال : ومن كانت عنده ماشية ، فباعها قبل الحول بدراهم ، فراراً من الزكاة ، لم تبطل الزكاة عنه .
ش : إذا باع ماشية قبل الحول بدراهم ، فلا يخلو إما أن يفعل ذلك فراراً من الزكاة أو لا ، فإن فعله فراراً من الزكاة ، لم تسقط [ الزكاة ] عنه ، لأن سبب الوجوب وهو انعقاد الحول ، مع ملك النصاب قد وجد ، فلا تسقط [ عنه ] بفعل محرم ، وهذه قاعدة لنا : أن الحيل كلها لإسقاط واجب ، أو لارتكاب محرم باطلة . ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليها في غير هذا الموضع . وقد عاقب الله سبحانه من فر من الصدقة وقصد منع المسكين ، قال الله تعالى : 19 ( { إنا بلوناهم ، كما بلونا أصحاب الجنة ، إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } ) إلى قوله : 19 ( { فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } ) الآية .
وإن لم يفعل ذلك فراراً من الزكاة فقد انقطع الحول ، ولا زكاة عليه ، لأن الحول لم يحل على مال ، ولا على ما [ هو ] في معناه .
واعلم أن الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال ، والضابط على سبيل التقريب والاختصار أنه إن باع نصاباً بجنسه لم ينقطع الحول ، وبغير جنسه فاراً فكذلك ، وغير فار ينقطع ، إلا في بيع العرض بأحد النقدين ، وبيع أحد النقدين بالآخر على ما تقدم .
( تنبيه ) : ظاهر كلام الخرقي أنه يشترط أن يكون البيع فراراً في آخر الحول ، وهو الغالب على كلام كثير من المتقدمين ، واختيار طائفة من المتأخرين ، كابن عقيل ، وأبي البركات ، وغيرهما ، وكان القاضي قديماً ، وأبو الخطاب ، وطائفة من الأصحاب ، ومنهم أبو محمد ، يخصصون ذلك بما إذا [ كان البيع ] فعله في آخر الحول ، كالنصف
____________________
(1/376)
الثاني من الحول ، أما لو كان في أوله ، أو وسطه ، فإن الحول ينقطع ، والله أعلم .
قال : [ والزكاة تجب في الذمة بحلول الحول ] ، وإن تلف المال ، فرط أو لم يفرط .
ش : هذا الكلام دل على أحكام : ( أحدها ) أن الزكاة تجب في الذمة ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار صاحب التلخيص ، وأبي الخطاب في الانتصار ، وغالي فزعم أن المسألة رواية واحدة ، ورد مأخذ شيخه في التعليق بالعين ، لأنها زكاة واجبة فكان محلها الذمة كزكاة الفطر ، ولأنها لو وجبت في المال لامتنع ربه من التصرف فيه بالبيع والهبة كالمرهون ، ولامتنع من الأداء من غيره ، ولملك الفقراء جزءاً منه مشاعاً ، بحيث يختصون بنمائه ، واللوازم باطلة ، وإذا بطلت بطل الملزوم .
والرواية الثانية وهي المشهورة ، حتى أن القاضي في التعليق وفي الجامع لم يذكر غيرها ، واختارها أبو الخطاب في خلافه الصغير ، والشيرازي وصححها أبو البركات في الشرح .
1209 لظاهر قوله : ( في أربعين شاة شاة ، وفيما سقت السماء العشر ، فإذا كان لك مائتا درهم ، وحال عليها الحول ، ففيها خمسة دراهم ، فإذا كانت لك عشرون ديناراً ، وحال عليها الحول ، ففيها نصف دينار ) فأثبت الزكاة في المال .
وفائدة الخلاف على ما قاله القاضي في التعليق ، وأبو الخطاب ، والشيخان ، وغير واحد لو مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاته ( فإن قلنا ) : الزكاة تتعلق بالعين . لم يجب إلا زكاة واحدة ، لأن النصاب قد تعلق للفقراء به حق ، فنقص الملك في ذلك القدر ، ومن شرط وجوب الزكاة استقرار الملك في جميع النصاب وتمامه ، وهذا الملك غير تام في جميعه . ( وإن قلنا ) : الزكاة تتعلق بالذمة . وجبت زكاته لأن النصاب لم يتعلق به شيء ، فالملك في جميعه تام ، اللهم إلا إذا قلنا : إن دين الله يمنع كدين الآدمي . فإنه لا تجب إلا زكاة واحدة ، قاله القاضي وغيره ، ومنع ذلك صاحب التلخيص ، متابعة لابن عقيل ، وقال هنا : لا يمنع ، لأن الشيء لا يمنع مساويه . ثم منع أصل البناء وقال : إنه مناقض لما فسروا به الوجوب في العين ، [ إذ قد فسروه بأنه كتعلق الجناية بالمجني لا كتعلق المرتهن بالرهن ، ولا كتعلق الشريك بالعين ] المشتركة ، ولهذا صح البيع قبل الأداء ، نص عليه ، وتبقى الزكاة على البائع ، لاختياره الإخراج من غيره ، نعم للبائع فسخ البيع في قدر الزكاة ، مع إعسار البائع ، ثم لو كان كتعلق الجناية بالعبد المجني ، لسقط [ بتلف ] المال ، كما تسقط الجناية بتلف العبد المجني [ عليه ] قال : وإذاً تتكرر الزكاة بتكرار الأحوال على كلتا الروايتين ، وتكون فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال ، بخلاف الوجوب في الذمة ، وتقديم
____________________
(1/377)
الزكاة على الرهن قلت : وما تقدم من التعليل لا يرد عليه شيء إن شاء الله تعالى ، وقول القاضي وغيره : أنه كتعليق الجناية بالعبد المجني . هو معنى ما قلناه ، إذ لا شك أن تعلق الجناية بالمجني ينقص الملك فيه [ ويزلزله ] مع أن الملك باق ، لا يمتنع بيعه ، ولا هبته ، ونحو ذلك .
وقوله : إنه يلزم سقوط الزكاة بتلف المال ، كما تسقط الجناية بموت المجني . قلنا : الغرض من التشبيه بالعبد الجاني نقصان الملك مع بقائه لا التشبيه به في جميع أحكامه ، والزكاة وإن تعلقت بالعين ، فهي مع ذلك لها تعلق بالذمة قطعاً ، فإذا وجبت لا تسقط ، كما لا تسقط الصلاة إذا دخل الوقت ، وإن لم يتمكن المكلف من الأداء ، ثم قوله : إن فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال ، وهو معنى ما قالوه ، فالذي فر منه وقع فيه .
واعلم أن محل الخلاف والتردد فيما عدا شياه الإبل ، أما في شياه الإبل فإنها تجب في الذمة بلا تردد ، ولأن الواجب من غير الجنس ، وشذ السامري فقال بالتعليق بالعين على روايتها ، قال : لأن التعليق حكمي .
( الحكم الثاني ) : مما دل عليه كلام الخرقي أن الزكاة لا تسقط بتلف المال وإن لم يفرط في الإخراج ، وهذا المذهب المعروف المشهور ، إذ الزكاة حق آدمي ، أو مشتملة عليه ، فلا تسقط بعد وجوبها كدين الآدمي ، أو زكاة واجبة ، فلا تسقط بتلف المال ، كزكاة الفطر ( وحكى ) الشيخان رواية بالسقوط قبل إمكان الأداء ، وذكرها في المغني نصاً من رواية الميمومي ، واختارها ، لأن الزكاة في يده أمانة كالوديعة ، والذي في التعليق من رواية الميموني وجوب الزكاة فرط أو لم يفرط . ( وحكي ) من رواية النيسابوري ما يدل على أنه في الماشية تسقط الزكاة ، وفي الدراهم لا تسقط ، قال أبو حفص : وهو خلاف ما روى الجماعة ، ولعل مدرك هذه الرواية أن السعاة كانوا يعتبرون ما وجدوا [ لا غير ] ولهذا لم يمنع الدين في الأموال الظاهرة ، وقد منع القاضي أنها أمانة ، وفرق بأن [ في ] الأمانة لا يلزمه مؤنة التسليم ، وهنا يلزمه .
ويستثنى المعشرات ، فإنها إذا تلفت بآفة سماوية بعد الوجوب تسقط ، إذ استقراره منوط بالوضع في الجرين .
( الحكم الثالث ) : أن الزكاة تجب بحلول الحول ، ولا يشترط في الوجوب إمكان الأداء وهو صحيح ، لمفهوم قوله : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول ) ولأنه لو اشترط إمكان الأداء لم ينعقد الحول الثاني حتى يتمكن من الأداء ، وليس كذلك ، والله أعلم .
قال : ومن رهن ماشية فحال عليها الحول أدى منها إذا لم [ يكن ] له مال يؤدي عنها ، والباقي رهن .
____________________
(1/378)
ش : قد دل كلام الخرقي رحمه الله على أحكام ( أحدها ) : أن الزكاة تجب في العين المرهونة ، وهو واضح ، لأن الملك فيها تام .
( الثاني ) : أنه إذا كان معه ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن لزمه الإخراج ، إذ الزكاة بمنزلة مؤونة الرهن ، [ ومؤونة الرهن ] على الراهن ، ولا يجوز له الإخراج من الرهن ، لتعلق حق المرتهن به .
( الثالث ) : إذا لم يكن له ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن ، فإنه يخرج منه ، بناء على ما تقدم من أن تعلق الزكاة بالنصاب ، كتعلق الجناية بالعبد المجني ، وحق الجناية مقدم على حق المرتهن ، فكذلك حق الزكاة ، وهذا واضح على القول بتعلق الزكاة بالنصاب ، أما على القول بتعلقها بالذمة ففيه نظر ، لأن حق الراهن يتعلق بالرهن والذمة ، وحق الفقراء والحال هذه لا يتعلق إلا بالذمة ، وماله تعلق بالعين ، آكد مما لا تعلق له بها .
[ وقد يقال : إن المرتهن دخل على ذلك ، لأنه دخل على حكم الشرع ، ومن حكم الشرع وجوب الزكاة ] .
واعلم أن عموم كلام الخرقي هنا يقتضي أن الدين لا يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة لأن كلامه يشمل ما [ إذا ] كان الفاضل عن الدين نصاباً ، وما إذا نقص عن النصاب ، وسيأتي ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى .
( باب زكاة الزروع والثمار )
ش : الأصل في وجوب الزكاة في ذلك في الجملة قوله تعالى : 19 ( { وآتوا حقه يوم حصاده } ) .
1210 فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال [ في ] حقه : الزكاة المفروضة . وقوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض } ) وقد استفاضت السنة بذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وأجمع المسلمون عليه في البر ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والله أعلم .
قال : وكل ما أخرج الله عز وجل من الأرض مما ييبس ويبقى ، مما يكال ويدخر ، ويبلغ خمسة أوسق فصاعداً ، ففيه العشر ، إن كان سقيه من السماء والسيوح ، وإن كان يسقى بالدوالي والنواضح وما فيه الكلف فنصف العشر .
ش : يشترط [ في ] وجوب الزكاة في الخارج من الأرض شروط : ( أحدها ) : أن يكون مما ييبس ، فلا تجب في الخضراوات كالقثاء ، والخيار ، ونحو ذلك .
1211 لما روي أن معاذاً رضي الله عنه كتب إلى رسول الله في الخضراوات ، [ فكتب ] : ( ليس فيها شيء ) رواه الترمذي وضعفه .
____________________
(1/379)
1212 وعن عطاء بن السائب قال : أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة ، فقال له موسى [ بن طلحة ] : ليس لك ذلك إن رسول الله كان يقول : ( ليس في ذلك صدقة ) رواه الأثرم في سننه ، وهو قوي في المراسيل ، لاحتجاج من أرسله به . ( الشرط الثاني ) : أن يكون مما يبقى ، أي يدخر عادة ، فلا تجب في التين ونحوه ، لعدم ادخاره ، لأن غير المدخر لم تكمل ماليته ، لعدم التمكن من الانتفاع به في المآل ، أشبه الخضر .
1213 وقد روى الأثرم بإسناده 16 ( أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك ما هو أكثر من الكرم أضعافاً مضاعفة ، فكتب إليه عمر : ليس عليها عشر ، هي من العضاه ) .
( الشرط الثالث ) : أن يكون مما يكال ، فلا تجب في الجوز ، والأجاص ، والتين ، ونحوها ، لانتفاء كيلها .
1214 لأن النبي قدر ذلك بالكيل فقال : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) متفق عليه . وفي لفظ لمسلم وأحمد : ( ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة ) والتقدير بالكيل يدل على إناطة الحكم به . ( الشرط الرابع ) : أن يبلغ ذلك خمسة أوسق لما تقدم ، ثم لا بد مع ذلك أن يكون أنبتته أرض مملوكة له .
وقد شمل كلام الخرقي رحمه الله ما كان من القوت كالحنطة ، والشعير ، والقطنيات كالباقلا ، والعدس ، والماش ، ونحو ذلك ، ومن البزور كبزر القثاء ، والخيار [ ونحوهما ] ومن الأبازير ، كالكزبرة ، والكمون ، ونحوهما [ ومن الحبوب كحب البقول ، وحب الفجل ، وسائر الحبوب بالشروط السابقة ] وخالف في ذلك ابن حامد ، فلم يوجب الزكاة في الأبازير وحب البقول [ انتهى ] . وكذلك جميع الثمار كالتمر ، واللوز ، والفستق ونحوها .
وشمل أيضاً ما أنبته الآدميون كما تقدم ، وما نبت بنفسه كبزر قطوناً [ ونحوه ] وهو اختيار القاضي ، وصاحب التلخيص ، وغيرهما ، بشرط أن يكون قد نبت في أرضه كما تقدم . وشرط ابن حامد أن يكون مما أنبته الآدمي ، فلو نبت بنفسه فلا زكاة ، وهو اختيار أبي محمد .
وشمل أيضاً ما كان حباً أو ثمراً كما تقدم ، وما ليس كذلك كالأشنان ، والصعتر ونحوهما ، وهو اختيار العامة . وشرط أبو محمد أن يكون حباً أو ثمراً ، تمسكاً بما تقدم من قوله : ( ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة ) .
ويتلخص الخلاف في ثلاثة شروط :
( أحدها ) : هل من شرطه أن لا يكون أبازير ؟
____________________
(1/380)
( الثاني ) : هل من شرطه أن يكون مما أنبته الآدمي ؟
( الثالث ) : هل من شرطه أن يكون حباً أو ثمراً ؟
إذا تقرر هذا فالواجب فيما سقي بغير كلفة كالسيوح ، والسماء ، ونحو ذلك العشر ، وفيما سقي بكلفة كالدوالي ، والنواضح نصف العشر .
1215 لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي قال : ( فيما سقت الأنهار والغيم العشر ، وفيما سقي بالسانية نصف العشر ) رواه مسلم وغيره .
1216 وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي قال : ( فيما سقت السماء والعيون ، أو كان عثرياً العشر وما سقي بالنضح نصف العشر ) رواه البخاري وغيره .
1217 وقال معاذ : بعثني رسول الله إلى اليمن ، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء العشر ، وما سقي بالدوالي نصف العشر . رواه النسائي .
ثم أعلم أنه قد خرج من كلام الخرقي رحمه الله الزيتون ، لأنه لا ييبس ، ولا يدخر على حاله ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختيار أبي بكر ، والقاضي في التعليق ، لفوات الشروط السابقة . ( والرواية الثانية ) : تجب فيه الزكاة . اختارها الشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة ، نظراً إلى أنه مكيل ولهذا اعتبر نصابه بالأوسق نص عليه ، ولأن ما يخرج منه يدخر ، ولأن الله تعالى قال : 19 ( { وآتوا حقه يوم حصاده } ) بعد ذكر الزيتون .
1218 والمراد بالحق الزكاة ، كذا روي عن ابن عباس وغيره ، والصحيح أن هذه الآية مكية ، نزلت قبل فرض الزكاة .
وخرج من كلامه القطن أيضاً والزعفران ، لعدم كيلهما ، وهو إحدى الروايتين ، واختيار أبي بكر والقاضي في التعليق ، وأبي محمد ، لفوات الشرط . ( والرواية الثانية ) : يجب فيها الزكاة . وهو اختيار الشيرازي ، وابن عقيل ، قياساً على الأشنان ونحوه . وفي العصفر ، والورس وجهان ، بناء على الروايتين ، ونصاب هذه حيث أوجبنا الزكاة فيهما أما الزيتون فبالكيل ، نص عليه ، وأما القطن ، والزعفران ، وما لحق بهما ، فاختلف كلام القاضي ، فقال في المجرد : يعتبر نصاب ذلك بالوزن ، فلا بد وأن يبلغ الواحد منها ألفاً وستمائة رطل . وتبعه على ذلك أبو محمد . وقال في التعليق : لم يقع لي عن أحمد مقدار النصاب . قال : ويتوجه أن يقدر بما تكون قيمته خمسة أوسق ، من أدنى نبات يزكى ، وتبعه على ذلك أبو البركات ، وجعل القاضي في التعليق العصفر تبعاً للقرطم ، فإن بلغ القرطم خمسة أوسق وجبت الزكاة ، وإلا فلا .
( تنبيه ) : ( الفرسك ) هو الخوخ ، و ( العضاه ) . و ( الأوسق ) والأوساق جمع وسق
____________________
(1/381)
بفتح الواو وكسرها . و ( السواني ) جمع سانية ، وهي الناقلة التي يستقى عليها .
1219 ومنه حديث البعير الذي يشكي إلى النبي ، فقال أهله : كنا نسنو عليه . أي نسقي .
و ( العثري ) . . . و ( الدوالي ) جمع دالية ، وهي الدولاب تديره البقر ، والناعورة يديرها الماء و ( النواضح ) جمع ناضح وناضحة ، وهما البعير والناقة ، ويستقى عليها و ( السيوح ) جمع سيح ، قال الجوهري : هو الماء الجاري على وجه الأرض ، والمراد الأنهار ونحوها ، والله أعلم .
قال : والوسق ستون صاعاً .
ش : ( الوسق ) بفتح الواو وكسرها ، والأشهر في اللغة [ أنه ] كما قال الخرقي ، وأطبق علماء الشريعة على ذلك .
1220 وفي المسند ، وسنن ابن ماجه ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : 16 ( الوسق ستون صاعاً ) . والله أعلم .
قال : والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي .
ش : قد تقدم قدر الرطل العراقي ، وتقدم صاع الماء هل هو خمسة أرطال أو ثمانية ؟ أما ما عداه فلا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه خمسة أرطال وثلث .
1221 لما روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي ، قال : قلت لمالك بن أنس : 16 ( أبا عبد الله كم قدر صاع النبي ؟ قال : خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته . فقلت : أبا عبد الله خالفت شيخ القوم ، )6 ( قال : من هو ؟ قلت : أبو حنيفة رحمه الله ، يقول : ثمانية أرطال . فغضب غضباً شديداً ، ثم قال لجلسائه : يا فلان هات صاع جدك ، ويا فلان هات صاع جدك ، ويا فلان هات صاع جدك . قال إسحاق : فاجتمعت آصع ، فقال : ما تحفظون في هذا ؟ فقال هذا : حدثني أبي عن أبيه ، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي . وقال هذا : حدثني أبي ، عن أخيه ، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي . فقال الآخر : حدثني أبي ، عن أمه ، أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي . فقال مالك : أنا حزرت هذه ، فوجدتها خمسة أرطال وثلثاً ) .
1222 وروي 16 ( أن أبا يوسف سأل مالك بن أنس بحضرة الرشيد عن مقدار صاع النبي ، فاستهمله إلى الغد ، ثم جاء من الغد ، ومعه أولاد المهاجرين والأنصار ، ومع كل واحد منهم صاعه الذي ورثه عن مورثه ، الذي كان يؤدي به الزكاة إلى رسول الله ) .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : ظاهر كلام الخرقي هنا أن النصاب هنا تحديد ، فلو نقص
____________________
(1/382)
يسيراً فلا زكاة فيه ، لقوله : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) وهو قول القاضي ، قال : إلا أن يكون نقصاً يدخل [ في ] المكاييل ، كالأوقية ونحوها فلا تؤثر ، وهذا إحدى الروايتين ، ( والثانية ) : أنه تقريب ، وعليها قال في التلخيص : لا تسقط إلا بمقدار لو وزع على الخمسة أوسق لظهر النقصان .
( الثاني ) : النصاب معتبر بالكيل ، [ وإنما ذكر الوزن ليضبط ويحفظ ، ولذلك تعلقت الزكاة بالمكيل ] دون الموزون ، والمكيل يختلف [ فيه ] وزنه ، ونص أحمد رحمه الله على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة . قال في التلخيص : لا تعويل على الوزن إلا في البر ، ثم مكيل ذلك من جميع الحبوب . انتهى . ( وعنه ) أنه قدر ذلك بالعدس .
( الثالث ) : تعتبر الخمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب بلا نزاع ، وبعد الجفاف في الثمار على المذهب ، عند أبي محمد ، وصاحب التلخيص ، وابن عقيل في التذكرة ، وصححه القاضي [ في التعليق ] ، وأبو الخطاب في الهداية . وقال في الروايتين : إنها الأشبه في المذهب .
1223 لأن في حديث أبي سعيد المتقدم ( ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة ) رواه مسلم وأحمد ، والنسائي ، لكن في رواية أخرى لمسلم ( ثمر ) بالثاء ذات النقط الثلاث .
1224 وفي الدارقطني في حديث عتاب : أن النبي أمره أن يخرص العنب زبيباً ، كما تخرص التمر ) . ( وعن أحمد رحمه الله ) رواية أخرى : أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطباً وعنباً ، ويؤخذ منه مثل عشر الرطب ، أو نصف عشره ، تمراً أو زبيباً ، وهذا نص عنه ، واختيار الخلال ، وصاحبه أبي بكر في الخلاف ونصبها الشريف ، وأبو الخطاب ، وشيخهم في خلافاتهم ، مع أن شيخهم صحح الأولى وذلك لظاهر قول النبي : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) مفهومه [ أنه ] إذا بلغها وجبت ، ولم يعتبر الجفاف .
1225 وعن عتاب بن أسيد رضي الله عنه قال : أمر رسول الله أن يخرص العنب كما يخرص النخل ، فتؤخذ زكاته زبيباً ، كما تؤخذ صدقة النخل تمراً . رواه أبو داود ، والترمذي . فأمر بخرص العنب ولم يشترط الجفاف ، ( وحمل أبو محمد ) هذه الرواية على أنه [ أراد أن ] يؤخذ عشر ما يجيء منه من التمر إذا بلغ رطباً خمسة أوسق . قال : لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر ، إيجاب لأكثر من العشر ، وذلك يخالف النص والإجماع . ( وهذا ) التأويل لا يصح ، فإن أحمد قال في رواية الأثرم : قال الشافعي رحمه الله يخرص ما يؤول إليه ، وإنما هو على ظاهر الحديث ، قيل له
____________________
(1/383)
فإن خرص عليه مائة وسق رطباً ، يعطي عشرة أوسق تمراً ؟ فقال : نعم هو على ظاهر الحديث ، وهذا نص صريح في مخالفة التأويل ، وقوله : إنه يخالف النص والإجماع . مردود إذ لا نص صريح ، وأحمد قد خالف ، فأين الإجماع ، والله أعلم .
قال : والأرض أرضان ، صلح وعنوة ، فما كان من صلح ففيه الصدقة .
ش : يعني إذا صالحنا الكفار على أرض كانت بأيديهم ، فيقع ذلك تارة على أن الأرض لهم ، ولنا الخراج عنها ، فالخراج والحال هذه في حكم الجزية ، متى أسلموا سقط عنهم ، وإن انتقلت إلى مسلم فلا خراج عليه ، وإن زرعها المسلم فعليه الزكاة بشرطها ، بالإجماع قاله ابن المنذر .
والغرض من ذكر هذه [ المسألة ] أن أرض الصلح ، ليس فيها إلا العشر ، بخلاف أرض العنوة ، على ما سيأتي إن شاء الله ، والله أعلم .
قال : وما كان عنوة أدى عنها الخراج ، وزكى ما بقي إذا بلغ خمسة أوسق ، وكان لمسلم .
ش : العنوة هي ما أجلي عنها أهلها بالسيف ، وهي أرض كثيرة فتحها عمر رضي الله عنه ، ووقفها على المسلمين ، وضرب عليها خراجاً معلوماً ، يؤخذ ممن هي في يده في كل عام ، فهذه إذا زرعت اجتمع الخراج والعشر بشرطه ، وهذا الغرض من ذكر هذه المسألة ، أن العشر والخراج يجتمعان ، لعموم قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض } ) وقوله : ( فيما سقت السماء العشر ) ولأن الخراج بمنزلة الأجرة ، فجاز اجتماعه مع العشر ، كالأرض المؤجرة ، ولأنهما حقان يجبان عن عين ، فلم ينف أحدهما الآخر ، دليلة قيمة الصيد والجزاء ، وأجرة الدكان وزكاة التجارة .
1226 وما يروى عن أبي حنيفة عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال : ( لا يجتمع العشر والخراج على مسلم في أرضه ) فيرويه عن أبي حنيفة يحيى بن عنبسة وهو هالك . قال ابن حبان : ليس هذا الحديث من كلام رسول الله ، ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث ، وهو كذب على أبي حنيفة ومن بعده ، إلى رسول الله . وقال ابن عدي : لم يصل هذا الحديث غير يحيى ، وهو مكشوف الأمر ، ورواياته عن الثقات الموضوعات .
وقول الخرقي : وكان لمسلم . لأن الزكاة لا تجب إلا على مسلم ، ونبه على هذا وإن كان فهم من قوله السابق : الأحرار المسلمين . لئلا يتوهم [ متوهم ] أن اختصاص هذه المسألة بالذكر لاختصاصها بحكم غير ما تقدم .
وقوله : أدى عنها [ الخراج ] وزكى ما بقي إن كان خمسة أوسق . لأن الزكاة لا تجب إلا في هذا القدر ، وهو صريح في أن الخراج مقدم على الزكاة ، فتمتنع الزكاة في قدره .
____________________
(1/384)
وأصل هذا أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة ، كالنقدين ، والعروض ، على المذهب بلا ريب . وهل يمنع في الأموال الظاهرة ، كالزروع ، والماشية ؟ ( فيه روايتان ) ، أشهرهما وهي اختيار أبي بكر ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، وأكثر الأصحاب ، يمنع ؛ لقول النبي في حديث معاذ : ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة ، تؤخذ من أغنيائهم ) والمدين ليس بغني .
1227 يرشحه قول النبي : ( لا صدقة إلا عن ظهر غني ) ولأن الزكاة مواساة ، ولا مواساة مع الدين .
1228 واعتمد أحمد رحمه الله بأن عثمان رضي الله عنه خطب الناس فقال : هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤد دينه ، ثم ليزك ما بقي . فلم يأمر بإخراج الزكاة عن المؤدى في الدين ، وهذا قاله بمحضر من الصحابة ، ولم ينقل مخالفته ، فيكون إجماعاً ( والثانية ) : لا يمنع لعموم ( في خمس من الإبل شاة ، وفيما سقت السماء العشر ) ولأنه كان يبعث [ السعاة ] إلى أرباب الأموال الظاهرة ، وكذلك خلفاؤه بعده ، ولم ينقل [ عنهم ] أنهم سألوا أربابها : هل عليكم دين ؟ ولأن أنفس [ الفقراء ] تتشوف إليها ، بخلاف الباطنة ، وعلى هذه الرواية ما لزمه لمؤنة الزرع ، من أجرة كحصاد ، وكراء أرض ، ونحو ذلك يمنع ، نص عليه أحمد ، وذكره ابن أبي موسى ، وقال : رواية واحدة ، وتبعه صاحب التلخيص ، وحكى أبو البركات رواية أخرى : أن الدين لا يمنع في الظاهرة مطلقاً . قال أبو العباس : ولم أجد بها نصاً عن أحمد .
إذا تقرر هذا فقول الخرقي في الخراج : إنه يؤديه ، ويزكي الباقي إن بلغ خمسة أوسق . يحتمل أن يتعدى هذا إلى كل دين ، فيكون من مذهبه أن الدين يمنع مطلقاً ، كما هو المشهور ، ويكون غرضه من المسألة السابقة فيما إذا رهن ماشية ، أن الزكاة تؤدي من عين الرهن ، إذا لم يكن له ما يؤدي [ عنه ] وهذا أوفق للمذهب ويحتمل أن يريد أن الدين لا يمنع في الظاهرة ، بناء على [ ظاهر ] إطلاقه ثم ، وعلى مقتضى كلامه في باب زكاة الدين ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، لكن يستثنى من ذلك ما لزمه من مؤنة الزرع ، كما نص عليه أحمد ، وقال ابن أبي موسى : إنه رواية واحدة ، والله أعلم .
قال : وتضم الحنطة إلى الشعير ، وتزكى إذا كانت خمسة أوسق ، وكذلك القطنيات .
ش : اختلفت الرواية عن أحمد : هل تضم الحبوب بعضها إلى بعض ؟ . ( فعنه ) : لا تضم مطلقاً ، وإليها ميل أبي محمد ، لأنهما جنسان ، فلا يضم أحدهما إلى الآخر ، كالتمر ، والزبيب ، لكن قد نقل إسحاق بن إبراهيم أن أحمد رجع عن هذا ، فقال بعد
____________________
(1/385)
أن نقل عنه القول بعدم الضم : قد رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة ، وقال : يضم الذهب إلى الفضة ويزكى ، وكذلك الحنطة إلى الشعير ، يضم بعضه إلى بعض ، وضم القليل إلى الكثير هو أحوط . قال القاضي : وظاهر هذا الرجوع عن منع الضم .
( وعنه ) : يضم بعضها إلى بعض مطلقاً ، اختارها أبو بكر ، والقاضي في التعليق على ما رأيت في النسخة المنقول منها ، لظاهر قول النبي : ( لا زكاة فيما دون خمسة أوساق من حب ولا تمر ) مفهومه أنه إذا بلغ خمسة أوساق من حب ففيه الصدقة ، وهو شامل بظاهره كل حب ، [ وكذا ] علل أحمد بأنه يطلق عليها اسم حبوب ، واسم طعام .
( وعنه ) : تضم الحنطة إلى الشعير ، والقطنيات بعضها إلى بعض . اختارها الشريف ، وأبو الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وحكيت عن القاضي ، وهي ظاهر كلام الخرقي ، لأن الحنطة والشعير في حكم الجنس الواحد ، لاتفاقهما في المنبت ، والمحصد ، والإقتيات ، فجرى ذلك مجرى أنواع الحنطة ، كالبر ، والعلس ، وكذلك القطاني تتفق في المنبت ، والمحصد وكونها تؤكل أدماً وطبخاً .
( تنبيه ) : القطنيات بكسر القاف وفتحها ، مع تخفيف الياء وتشديدها ، فيهما ، جمع قطنية ، ويجمع أيضاً [ على ] قطاني ، فعليه من : قطن يقطن في البيت . أي يمكث فيه ، وهي حبوب كثيرة ، فمنها الحمص ، والعدس ، والماش ، والجلبان ، واللوبيا ، والدخن والأرز ، والباقلا ، فهذه وما يطلق عليه هذا الاسم يضم بعضه إلى بعض ، أما البزور فلا تضم إليها ، لكن يضم بعضها إلى بعض على هذه الرواية ، كالكزبرة والكراويا ونحو ذلك ، وحبوب البقول لا تضم إلى القطاني ، ولا البزور ، وما تقارب منها ضم بعضه إلى بعض ، وما شككنا فيه فلا يضم ، وحيث قيل بالضم فإنه يؤخذ من كل جنس ما يخصه ، ولا يؤخذ من جنس عن غيره إلا في الذهب والفضة ، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : وكذلك الذهب والفضة ، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه لا يضم ، ويخرج من كل صنف [ على انفراده ] إذا كان منصباً للزكاة ، والله أعلم .
ش : أي وكذلك الذهب والفضة يضم بعضها إلى بعض ، وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى أنه لا يضم ، ويخرج من كل صنف إذا كان منصباً للزكاة ، أي محلًا للزكاة ، بأن يبلغ نصاباً بانفراده ، وقد تقدمت هذه الرواية في الحبوب ، أما الذهب والفضة ففي ضم أحدها إلى الآخر [ إذا لم يبلغ كل منهما نصاباً ، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر ] روايتان مشهورتان : ( إحداهما ) : يضمان . اختارها الخلال ، والقاضي ، وولده ، وعامة أصحابه ، كالشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما ، والشيرازي ، وابن عقيل في التذكرة ، وابن البنا ، لأنهما في حكم الجنس الواحد ، إذ هما قيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، ويجمعهما لفظ الأثمان ، واستدل القاضي بقوله
____________________
(1/386)
تعالى : 19 ( { والذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله } ) الآية قال : فظاهرها وجوب الزكاة فيهما في عموم الأحوال ، وأجاب عن إفراد الضمير بأن العرب تذكر المذكر ، وتعطف عليه المؤنث ، ثم تكني عن المؤنث وتريدهما ، كما في قوله تعالى : 19 ( { واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها لكبيرة } ) وقوله تعالى : 19 ( { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } ) ( والثانية ) : لا يضمان . اختارها أبو بكر في التنبيه ، مع اختياره في الحبوب الضم ، وهو ظاهر رواية الميموني ، وقال لأحمد : إذا كنا نذهب في الذهب والفضة إلى أن لا نجمعهما [ لم لا نشبه الحبوب بهما ؟ قال : هذه يقع عليها إذا لم يبلغ كل منهما نصاباً ، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر اسم طعام ، واسم حبوب . قال : ورأيت أبا عبد الله في الحبوب يحب جمعها ] ، وفي الذهب ، والبقر ، والغنم ، والفضة لا يجمع ، وذلك لأنهما جنسان فلا يجمعان ، كالتمر ، والزبيب ، ولظاهر قول النبي : ( ليس فيما [ دون ] خمس أواق صدقة ) .
1229 وفي حديث عمرو بن شعيب : ( ليس في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب شيء ) انتهى . وحيث قلنا بالضم فإنه بالأجزاء لا بالقيمة ، على ظاهر رواية الأثرم ، وسأله عن رجل عنده ثمانية دنانير ، ومائة درهم ، فقال : [ إنما قال ] : من قال فيها الزكاة إذا كانت عشرة دنانير ، ومائة درهم . وهذا اختيار القاضي في جامعه وفي تعليقه ، والشريف ، وأبي الخطاب في خلافيهما وأبي محمد ، نظراً إلى أنه لو وجب التقويم في حال الإنفراد لوجب في حال الإجتماع ، دليله العبد في التجارة ، يقوم منفرداً ، ومع غيره من العروض ، وعن القاضي أظنه في المجرد أنه قال : قياس المذهب أنه يعتبر الأحظ للمساكين [ من الأجزاء والقيمة ، قال في التعليق : وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي ، فقال : أذهب إلى الضم ، هو أحظ للمساكين ] ، فاعتبر الاحتياط قياساً على الثوبين في التجارة .
( تنبيه ) : مما يتعلق بالضم : هل يخرج أحد النقدين عن الآخر ؟ فيه روايتان مشهورتان ، اختار أبو بكر منهما المنع ، كما اختار عدم الضم ، ووافقه أبو الخطاب هنا ، وخالفه ثم ، فاختار الضم ، وأبو محمد صحح [ هنا ] الجواز . ولم يصحح [ ثم ] شيئاً ، والله سبحانه أعلم .
( باب زكاة الذهب والفضة )
ش : الأصل في زكاة الذهب والفضة قوله تعالى : 19 ( { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله } ) الآية فظاهر هذا الوعيد أنه عن واجب ، وفي البخاري في حديث أنس رضي الله عنه : ( وفي الرقة ربع العشر ) .
وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) .
1230 وفيهما أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول
____________________
(1/387)
الله : ( ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى به جنبه ، وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت له ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضي الله بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ) مع أن هذا إجماع في الجملة .
( تنبيه ) : ( الرقة ) : الهاء فيها بدل من الواو في الورق والورق بكسر الراء وإسكانها الفضة المضروبة ، وقيل : وغيرها ، كما هو المراد بالحديث . ( والأواقي ) : بتشديد الياء [ وتخفيفها ، جمع أوقية بضم الهمزة ، وتشديد الياء ] وأنكر الجمهور ( وقية ) وحكى اللحياني الجواز . وجمعها وقايا .
والأوقية الشرعية أربعون درهماً بلا نزاع ، وخص ( الجنب ، [ والجبين ] والظهر ) بالذكر دون بقية الأعضاء ، نظراً لحال البخيل . المسؤول لأنه إذا سئل قطب وجهه ، وجمع أساريره ، فيتجعد جبينه ، ثم إن تكرر الطلب ناء بجنبه ، ثم إن ألح عليه في الطلب ولى بظهره ، وهي النهاية في الرد .
و ( فيرى ) يروى على البناء للفاعل والمفعول ، والله أعلم .
قال : ولا زكاة فيما دون المائتي درهم ، إلا أن يكون في ملكه ذهب أو عروض للتجارة ، فيتم به .
ش : نصاب الفضة مائتا درهم ، بلا نزاع بين أهل العلم ، وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله ففي الصحيحين [ ما تقدم ] من حديث أبي سعيد : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) .
1231 وفي البخاري من حديث أنس : ( فإن لم يكن إلا تسعين ومائة ، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها ) فإذا كان عنده دون المائتي درهم ، فلا زكاة [ عليه ] ، إلا أن يكون عنده ذهب فيتم به [ لما تقدم على المذهب من أن كل واحد من النقدين يضم إلى الآخر ، أو يكون عنده عروض للتجارة فيتم به ] إذ عرض التجارة يضم إلى كل واحد من النقدين ، ويكمل به نصابه بلا نزاع ، لأن الزكاة تجب في قيمتها ، وهي تقوم بكل واحد منهما ، فتضم إلى كل واحد منهما ، والله أعلم .
قال : وكذلك دون العشرين مثقالًا .
ش : يعني من الذهب ، لا زكاة فيها إلا أن تكون عنده فضة أو عروض ، فيتم به ، وإنما قلنا : نصاب الذهب عشرون مثقالًا .
1232 لما تقدم في حديث علي : ( وليس عليك شيء [ يعني ] في الذهب حتى
____________________
(1/388)
يكون لك عشرون ديناراً ، [ فإذا كانت لك عشرون ديناراً ] وحال عليها الحول ، ففيها نصف دينار ، فما زاد فبحساب ذلك ) قال الحارث : فلا أدري أعلي يقول : بحساب ذلك ، أم رفعه إلى النبي . رواه أبو داود .
1233 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي أنه قال : ( ليس في أقل من عشسرين مثقالًا من الذهب ، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة ) رواه أبو عبيد .
وظاهر كلام الخرقي أن النصاب [ في النقدين ] تحديد ، فلو نقص يسيراً لم تجب الزكاة ، وهو اختيار أبي الفرج والشيرازي ، وأبي محمد ، اعتماداً على الأصل واستصحاباً [ للبراءة ] الأصلية ، حتى يتحقق [ الموجب ] ، وتمسكاً بظاهر قوله : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) . والمشهور عند الأصحاب أنه لا يعتبر النقص [ اليسير ] كالحبة والحبتين ، لاختلاف الموازين بذلك ، ثم بعد ذلك يؤثر نقص ثمن ، في رواية اختارها أبو بكر ، وفي أخرى في الفضة ثلث درهم ، وفي أخرى في الذهب نصف مثقال ، ولا يؤثر الثلث .
( تنبيه ) : لا فرق بين التبر والمضروب ، كما اقتضاه كلام الخرقي ، وشرط النصاب أن يكون خالصاً ، فلو كان مغشوشاً فلا زكاة حتى يبلغ النقد الخالص فيه نصاباً ، لأن قوله : ( ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة ) إنما ينصرف للخالص ، والدراهم المعتبرة هنا ، وفي نصاب السرقة ، وغير ذلك ، هي التي كل عشرة فيها سبعة مثاقيل بمثقال الذهب ، وكانت الدراهم في الصدر الأول صنفين ( طبرية ) ، وهي أربعة دوانيق ( وسوداء ) وهي ثمانية دوانيق ، فجمعا وجعلا درهمين متساويين ، كل درهم ستة دوانيق ، فعل ذلك بنو أمية ، فصارت عدلًا بين الصغير والكبير ، ووافقت سنة رسول الله ، ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية ، أما المثقال فلم يختلف في جاهلية ولا إسلام ، والله أعلم .
قال : فإذا تمت ففيها ربع العشر .
ش : أي إذا تمت الفضة مائتي درهم ففيها ربع العشر ، وإذا تمت العشرون ديناراً ففيها ربع العشر ، لما تقدم من حديثي أبي سعيد وعلي ، قال أبو محمد : ولا نعلم فيه خلافاً ؛ والله أعلم .
قال : وفي زيادتها وإن قلت .
ش : أي في زيادة المائتي درهم وإن قلت ربع العشر ، وفي زيادة العشرين ديناراً وإن قلت ربع العشر ، لعموم قوله : ( وفي الرقة ربع العشر ) خرج منه ما دون المائتي درهم بالنص ، فيبقي فيما عداه على مقتضي العموم ، وما تقدم من حديث علي رضي الله عنه ، والله أعلم .
____________________
(1/389)
قال : وليس في حلي المرأة زكاة إذا كان مما تلبسه أو تعيره .
ش : المذهب المنصوص ، المختار للأصحاب أنه لا زكاة في الحلي في الجملة ، قال أحمد في رواية الأثرم : فيه عن خمسة من أصحاب رسول الله .
1234 وقد رواه مالك في الموطأ عن عائشة رضي الله عنها ، وابن عمر .
1235 ورواه الدارقطني عن أسماء بنت أبي بكر ، وأنس بن مالك .
1236 وقال أبو يعلى : أنبأنا القاضي أبو الطيب الطبري ، قال : ثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي ، قال : ثنا أبو الحسين أحمد بن المظفر الحافظ ، قال : ثنا أحمد بن عمير بن جوصا ، قال : ثنا إبراهيم بن أيوب [ قال : ثنا عافية بن أيوب ] عن ليث بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي قال : ( ليس في الحلي زكاة ) وهذا نص ، إلا أنه ضعيف من قبل عافية ) .
ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل مباح ، أشبه ثياب البذلة ، وعبيد الخدمة ، ودور السكني ، أو نقول : معد لاستعمال مباح ، أشبه ما ذكرنا .
وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى حكاها ابن أبي موسى : تجب فيه الزكاة ، لعموم قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } الآية ، وقوله : ( في الرقة ربع العشر ) ولعموم مفهوم : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) .
1237 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن [ جده ] قال : إن امرأة أتت النبي ومعها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، فقال : ( أتعطين زكاة هذا ؟ ) قالت : لا . قال : ( أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ ) [ فخلعتهما ] ، فألقتهما إلى النبي ، وقالت : هما لله ولرسوله . رواه الترمذي ، والنسائي ، وأبو داود ، وهذا لفظه .
1238 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل عليَّ رسول الله فرأى في يدي فتخات من ورق ، فقال : ( ما هذا يا عائشة ) ؟ فقلت : صنعتهن أتزين لك يا رسول الله . قال : ( أتؤدين زكاتهن ؟ ) فقلت : لا . أو ما شاء الله . قال : ( هو حسبك من النار ) . رواه أبو داود . وقد أجيب عن عموم الآية ، والحديثين الأولين بدعوى تخصيصهما بما تقدم . وعن الحديثين الآخرين بأن فيهما كلاماً ، وقد قال الترمذي بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب : لا يصح في هذا الباب شيء وعلى تسليم الصحة بأن ذلك حين كان الحلي بالذهب حراماً على النساء ، فلما أبيح لهن سقطت منه الزكاة ، قاله القاضي وغيره .
____________________
(1/390)
1239 [ أو ] بأن المراد بالزكاة عاريته ، هكذا روي عن سعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وغيرهما ، ويجوز التوعد على المندوبات ، كما في قوله تعالى : 19 ( { ويمنعون الماعون } ) أو بأن المراد ما صنع بعد وجوب الزكاة فيه .
إذا تقرر هذا فقد تقدمت الإشارة بأن الأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة ، إلا حيث عدل به عن جهة النماء ، إلى فعل مباح مطلوب ، كما إذا صيره للبس ، أو للعارية .
أما الحلي المحرم قال أبو العباس : وكذلك المكروه . وما أعد للكراء ، أو التجارة أو النفقة عند الحاجة [ إليه ] فهو باق على أصله في وجوب الزكاة .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين قليل الحلي وكثيره ، وهو المذهب . نعم يقيد ذلك بما جرت عادتهن بلبسه ، كالسوار ، والتاج ، والخلخال ، بخلاف ما لم تجر عادتهن به ، كمنطقة الرجل ، واتخاذ قبقاب [ من ذهب ] ونحو ذلك ، فإنه يحرم ، وتجب فيه الزكاة . وجعل ابن حامد ما بلغ ألف مثقال يحرم [ في حقها مطلقاً ، وحكاه في التلخيص رواية ، وتوسط ابن عقيل فقال : إن بلغ الحلي الواحد ألف مثقال حرم ] وإن زاد المجموع على ألف فلا .
( تنبيه ) : ( المسكة ) بالتحريك السوار من الذبل ، وقيل : هي من قرن الأوعال ، وإذا كانت من غير ذلك أضيف إلى ما هي منه ، فيقال : من ذهب ، أو من فضة . أو غير ذلك ( والفتخة ) بالتحريك ، وجمعها فتخات بفتحتين ، حلقة من فضة لا فصّ لها ، فإذا كان فيها فص فهي خاتم . وقال عبد الرزاق : هي الخواتم ، وتجعل في الأرجل ، وقيل في الأيدي ، والله أعلم .
قال : وليس في حلية سيف الرجل ، ومنطقته ، وخاتمه زكاة .
ش : إنما سقطت [ الزكاة ] من ذلك لإباحتها للرجال ، فهي كحلية النساء ، [ إذ قد صرفت عن جهة النماء إلى فعل مباح ، أشبهت ثياب البذلة ] والدليل على إباحة ذلك .
1240 أما السيف فلأن أنساً رضي الله عنه قال : كانت قبيعة سيف النبي فضة .
1241 وقال هشام بن عروة : كان سيف الزبير محلى بالفضة . رواهما الأثرم . وأما المنطقة فلأن ذلك معتاد للرجل ، أشبه الخاتم ، وهذا المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين . وعن أحمد رحمه الله أنه كرهها ، لما فيها من الفخر ، والخيلاء .
1242 وأما الخاتم فلأن النبي اتخذ خاتماً من ورق ؛ متفق عليه .
____________________
(1/391)
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : قول الخرقي يشمل التحلية بالذهب والفضة ، وينبغي أن يحمل كلامه على الفضة ، لأن الذهب لا يباح منه إلا حلية السيف ، على المشهور [ من الروايتين ] ولا يلحق به كل سلاح على قول العامة ، خلافاً للآمدي ، وما دعت إليه الضرورة كشد الأسنان به ، ولا يباح اليسير منه مفرداً كالخاتم ، بلا خلاف أعلمه ولا تبعاً لغيره على المذهب ، فلو حمل كلامه على الذهب لزم فساده في الخاتم قطعاً ، وفي المنطقة على المذهب .
( الثاني ) : قول الخرقي : حلية السيف . يشمل القبيعة ، وهي ما على طرف مقبضه وغيرها ، وأكثر الأصحاب يخص ذلك بالقبيعة ، وكان أبو العباس كتب في شرح العمدة فيما يباح من الذهب قبيعة السيف ، ثم ضرب عليه ، وكتب : حلية السيف . وهذا مقتضى كلام أحمد .
1243 لأنه قال : روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب . وقال : إنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب . [ والمنطقة [ تجعل في الوسط ، وتسميها العامة الحياصة .
( الثالث ) : ظاهر كلام الخرقي [ أنه ] لا يباح للرجل تحلية غير هذه الثلاثة . وقد خرج القاضي في الجوشن ، والدرع ، والخوذة ، والمغفر وجهين . ( أحدهما ) أنها كالمنطقة ، وهو قول الأكثرين ، أبي الخطاب ، وابن عقيل ، والمتأخرين ( الثاني ) المنع رواية واحدة ، كما هو ظاهر كلام الخرقي ، والخف ، والران ، عند القاضي ، والآمدي ، وأبي الخطاب ، والأكثرين كالجوشن ، وعند ابن عقيل لا يباح ، ففيه الزكاة ، وكذلك الحكم عنده في الكمران ، والخريطة قال أبو العباس : وعلى قول غيره هما كالخف . وقال التميمي : يكره عمل خفين من فضة كالنعلين ، ولا يحرم ، وألحق أبو الخطاب وجماعة حمائل السيف وهي علائقه [ بالمنطقة ] وجزم القاضي بالمنع ، وحكاه عن أحمد . والله أعلم .
قال : والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص ، وفيها الزكاة .
ش : هذا المشهور المعروف ، المنصوص [ عليه ] من الروايتين ، حتى أن القاضي في التعليق ، وجمهور الأصحاب لم يحكوا خلافاً ، إذ الإِتخاذ يراد للاستعمال ، والاستعمال محرم ، فكذلك الإِتخاذ ، دليله آلات اللهو ، كالطنبور ، والعود . ( والرواية الثانية ) : يباح الإِتخاذ ، نظراً [ إلى ] أن المحرم الاستعمال ، أما الإِتخاذ فإنه تغيير المال من صفة إلى صفة ، فلا يؤثر والله أعلم .
قال : وما كان من الركاز وهو دفن الجاهلية ، قل أو كثر ففيه الخمس لأهل الصدقات ، وباقيه فله .
ش : عرف الخرقي رحمه الله الركاز بأنه دفن الجاهلية ، ويعرف ذلك بأن توجد
____________________
(1/392)
عليه أسماء ملوكهم ، أو صلبانهم ، ونحو ذلك . قال مالك رحمه الله في الموطأ : الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا ، والذي سمعت أهل العلم يقولون ، أن الركاز إنما هو دفن يوجد من دفن الجاهلية ، ما لم يطلب بمال ، ولم يتكلف فيه بنفقة ، ولا كبير عمل ولا مؤنة . انتهى أما ما وجد عليه علامة المسلمين كأسماء ملوكهم ، وأنبيائهم ، أو آية من القرآن ، أو نحو ذلك ، أو على بعضه ، فليس بركاز ، لأن ذلك قرينة صيرورته إلى مسلم ، وكذلك لو لم يوجد عليه علامة ، لانتفاء الشرط ، وهو علامة الكفار ،
إذا تقرر [ ذلك ] فما حكم بأنه ركاز ففيه الخمس .
1244 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( العجماء جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس ) رواه الجماعة ، ولا فرق بين القليل والكثير ، لعموم الحديث ، ولأنه مال مخمس من مال الكفار ، أشبه الغنيمة ، ومصرف الخمس لأهل الزكاة ، في إحدى الروايتين ، اختارها الخرقي ، نظراً إلى أنه مستفاد من الأرض ، أشبه المعدن .
1245 وعن علي رضي الله عنه أنه أمر صاحب الكنز أن يتصدق به عل المساكين ، حكاه الإِمام أحمد . ( والرواية الثانية ) وهي اختيار ابن أبي موسى ، والقاضي في تعليقه وجامعه وابن عقيل ، وأبي محمد أن مصرفه مصرف الفيء ، لأنه مال كافر مخموس ، أشبه الغنيمة .
1246 ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه والباقي بعد الخمس لواجده ، وله صور : ( إحداها ) : إذا وجده في موات ، أو في أرض لا يعلم مالكها ، أو في ملكه الذي ملكه بالإِحياء ، ونحو ذلك ، فهذا يكون له بلا نزاع . ( الثانية ) : وجده في ملك انتقل إلبه بهبة أو بيع ، أو غير ذلك ، [ فهو ] لواجده أيضاً ، في أنص الروايتين ، واختيار القاضي في التعليق ، نظراً إلى أنه يملك بالظهور عليه ، أشبه الغنيمة .
( والرواية الثانية ) : يكون لمن انتقل عنه إن اعترف به ، وإلا فلأول مالك ، قال أبو محمد : فإن لم يعرف أول مالك فكالمال الضائع ، نظراً إلى يملك بملك الأرض كأجزائها ولهذه المسألة التفات إلى مسألة المباح من الكلأ ونحوه ، هل يملك بملك الأرض ، أو لا يملك إلا بالأخذ ؟ فيه روايتان ، كذا أشار إليه القاضي وغيره .
( الثالثة ) : وجده في ملك آدمي معصوم ، كأن دخل دار إنسان فحفر فوجد ركازاً ، فحكمه حكم الذي قبله ، فيه الروايتان عند أبي البركات ، وأبي محمد في المقنع وقطع صاحب التخليص هنا تبعاً لأبي الخطاب في الهداية أنه لمالك الأرض ، وقد أورد على القاضي هذه المسألة ، فقال : لا يمتنع أن يقول : [ إنه ] لواجده ، كما لو وجد طائراً أو
____________________
(1/393)
ظبياً . انتهي . وقد نص أحمد فيمن استأجر إنساناً ليحفر له بئراً ، فوجد ركازاً ، أنه لصاحب الدار ، ونص في رواية الكحال في الساكن إذا وجد كنزاً أنه له ، ومن مسألة الأجير أخذ القاضي وغيره الرواية في الملك المنتقل إليه [ أنه يكون لمن انتقل إليه ] قالوا : لأنه لم يجعله للأجير بالظهور ، بل جعله لمالك الأرض ، ثم إن القاضي في التعليق كلامه يقتضي أنه سلم مسألة الأجير ، فقال لما أورد عليه الأجير : عمله لغيره . وهذا التسليم يمنع من جريان الخلاف ، ويشعر بتقرير النصوص على ظواهرها .
( الرابعة ) : وجده في أرض الحرب بنفسه ، فهو ركاز ، وإن وجده بجماعة لهم منعة فهو غنيمة .
واعلم أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق [ بين ] أن يكون الركاز ذهباً ، أو عروضاً ، أو غير ذلك ، ونص عليه أحمد . وظاهر كلامه أيضاً أن هذا الخمس لا يجب إلا على مسلم ، فإنه قال : يصرف لأهل الصدقات . فيكون صدقة ، وقد قال : إن الصدقة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين . وكذا قال في التلخيص ، إن قلنا : إنه زكاة . لم تجب على الذمي ، [ وإن قلنا : إنه فيء . وجب عليه ، وقدم في المغني أنه يجب على الذمي ] ثم قال : ويتخرج أن لا يجب عليه بناء على أنه زكاة ، قال : والأول أصح .
( تنبيه ) : العجماء : الدابة ، والجبار : الهدر ، يعني أن الدابة إذا أتلفت شيئاً فلا شيء فيه ، وهذا له موضع يذكر فيه إن شاء الله تعالى ، وكذا المعدن والبئر إذا تلف بهما أجير فلا شيء فيه ، والله أعلم .
قال : وإذا أخرج من المعادن [ من الذهب ] عشرين مثقالًا ، أو من الورق مائتي درهم ، أو قيمة ذلك من الرصاص ، أو الزئبق أو الصفر ، أو غير ذلك مما يستخرج من الأرض ، فعليه الزكاة من وقته والله أعلم .
ش : المعادن جمع معدن بكسر الدال ، قال الأزهري : سمي معدنا لعدون ما أنبته الله سبحانه وتعالى فيه ، أي لإِقامته يقال : عدن بالمكان ، يعدن عدونا ، والمعدن المكان الذي عدن فيه الجوهر من جواهر الأرض ، أي ذلك كان . انتهى ، وصفة المعدن الذي تتعلق به الزكاة ما يخرج من الأرض ، مما يخرق [ فيها ] من غيرها ، سواء كان أثمانا أو غيرها ، ينطبع أو لا ينطبع ، لعموم قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، ومما أخرجنا لكم من الأرض } والأصل في وجوب الزكاة فيه في الجملة هذه الآية الكريمة .
1247 وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد ، أن رسول الله أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية ، وهي من ناحية الفرع ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها [ إلا ] الزكاة إلى اليوم . رواه أبو داود ، ومالك في الموطأ . قال أبو عبيد :
____________________
(1/394)
القبلية بلاد معروفة في الحجاز .
وإنما تجب الزكاة إذا أخرج نصاباً من الذهب ، أو الفضة ، أو ما يبلغ أحدهما من غيرهما ، لعموم قوله : ( ليس فيما دون خمس أواق صدقة ) ليس عليك شيء [ يعني ] في الذهب ، حتى يكون لك عشرون ديناراً وإنما لم يلحق بالركاز لأن الركاز مال كافر ، أشبه الغنيمة ، وهذا وجب مواساة ، وشكر لنعمة الغنى ، فاعتبر له النصاب كسائر الأموال ، ولا يعتبر له الحول كما تقدم ، ولأنه مستفاد من الأرض ، أشبه الزورع والثمار ، وقدر الواجب فيه ربع العشر ، لعموم قوله : ( في الرقة ربع العشر ) ولأن الواجب زكاة ، بدليل قصة بلال رضي الله عنه ، وإذا كان زكاة كان الواجب فيه ربع العشر بلا ريب ، وإنما ترك الخرقي رحمه الله والله أعلم التنبيه على ذلك اكتفاء بذكر نصاب الذهب والفضة ، إذ بذلك ينتبه الناظر ، على أن الواجب فيه كالواجب فيهما .
وقد شمل كلام الخرقي [ رحمه الله ما أخرجه من أرض مباحة ، أو مملوكة ، وهو صحيح ، وشمل أيضاً ] الإِخراج على أي صفة كان ، وقد شرط الأصحاب في الإِخراج أن يخرجه في دفعة أو دفعات ، لم يترك العمل بينهما ترك إهمال ، والله سبحانه أعلم .
( باب زكاة التجارة )
ش : الأصل في وجوب زكاة التجارة عموم قوله تعالى : 19 ( { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } ) الآية وقوله : 19 ( { والذين في أموالهم حق معلوم } ) .
1248 وروى سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : أما بعد فإن رسول الله كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع . رواه أبو داود .
1249 وعن ابن عمر رضي الله عنهما : ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة . رواه البيهقي . مع أن ذلك قد حكاه ابن المنذر إجماعاً ، وإن كان قد حكي فيه خلاف شاذ عن داود ونحوه ، والله أعلم .
قال : والعروض إذا كانت للتجارة قومها إذا حال [ عليها ] الحول وزكاها .
ش : العروض جمع عرض بسكون الراء ، ما عدا الأثمان ، كأنه سمي بذلك لأنه يعرض ليباع ويشترى ، تسمية للمفعول باسم المصدر ، كتسمية المعلوم علماً . والحكم الذي حكم به الخرقي ، وجوب الزكاة في عروض التجارة ، وقد تقدم [ دليل ] ذلك ، واشترط لذلك حولان الحول .
1250 وذلك لعموم قول النبي : ( لا زكاة في مال حتى يحول عليه
____________________
(1/395)
الحول ) [ وظاهر ] إطلاق الخرقي يقتضي [ وجوب ] الزكاة لكل حول ، وهو كذلك ، خلافاً لمالك في اقتصاره على وجوب الزكاة في الحول الأول .
وقوله : قومها . إشعار لايعتبر ما اشتريت به ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى . وفيه إشارة بأن الزكاة تجب في القيمة لا في العين ، وأن الإِخراج يكون منها .
وقوله : إذا كانت للتجارة . صيرورتها للتجارة بأن يملكها بفعله ، بنية التجارة بها ، ولا يشترط أن يملكها بعوض على الأصح ، فلو ملكها بغير فعله كأن ملكها بإرث أو بفعله لكن لم ينو التجارة بها لم تصر للتجارة ، وكذا إن ملكها بفعله لكن بلا عوض كأن اتهبها ، أو غنمها على وجه ، نعم لو نواها للتجارة بعد ففيه روايتان يأتي بيانها إن شاء الله تعالى .
( تنبيه ) : وقدر الواجب ربع العشر بلا نزاع ، والله أعلم .
قال : ومن كانت له سلعة للتجارة ، ولا يملك غيرها ، وقيمتها دون المائتي درهم ، فلا زكاة عليه حتى يحول [ عليه ] الحول من يوم ساوت مائتي درهم .
ش : يشترط لوجوب الزكاة فيما أعد للتجارة أن تبلغ قيمته نصاباً [ بلا نزاع ، ويعتبر وجود النصاب في جميع الحول كالأثمان ، فعلى هذا لو كانت عنده سلعة للتجارة لا تبلغ قيمتها نصاباً ] فلا زكاة فيها حتى تبلغ قيمتها نصاباً ، فينعقد عليها الحول إذاً على المذهب ، حتى جعله رواية واحدة ، وقيل عنه إذا كمل النصاب بالربح ، فحوله حين ملك الأصل كالماشية في رواية .
وقوله : ومن كانت له سلعة للتجارة ولا يملك غيرها . احترازاً مما إذا ملك غيرها من الدراهم أو الدنانير ، فإنه يضم إليها ، فإن بلغا نصاباً انعقد الحول عليهما ، وإلا فلا .
وقوله : ساوت مائتي درهم . وكذلك إذا ساوت عشرين مثقالًا ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والله أعلم .
قال : وتقوم السلع إذا حال عليها الحول بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق ، ولا يعتبر ما اشتريت به .
ش : لأنه قد وجب تقويمه لحق المساكين شرعاً ، فاعتبر الأحظ لهم ، كما لو اشترى سلعة بعرض فحال عليها الحول ولها نقدان مستعملان ، فإنها تقوم بما هو أحظ للمساكين ، [ فكذلك ههنا ] فعلى هذا إذا بلغت قيمتها نصاباً بالدراهم دون الدنانير قومت به ، وإن كان اشتراها بالدنانير ، وكذلك بالعكس ، فإن بلغت بكل منهما نصاباً ، قومت بالأحظ منهما أيضاً للفقراء عند القاضي ، وأبي محمد في الكافي ، وصاحب التلخيص وغيرهم .
____________________
(1/396)
وقال في المغني : تقوم بأيهما شاء ، لكن الأولى أن تقوم بنقد البلد ، والله أعلم .
قال : وإذا اشتراها للتجارة ، ثم نواها للاقتناء ، ثم نواها للتجارة ، فلا زكاة فيها حتى يبيعها ، فيستقبل بثمنها حولًا .
ش : أما إذا اشتراها للتجارة ثم نواها للاقتناء ، فلا إشكال في انقطاع الحول ، وسقوط الزكاة ، لأنه نوى ما هو الأصل وهو القنية ، فوجب اعتباره ، كما لو نوى المسافر الإِقامة ، فإذا عاد فنواها للتجارة لم تصر للتجارة ، على أنّ الروايتين ، [ وأشهرهما ] واختارها الخرقي ، والقاضي ، وأكثر الأصحاب ، لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله ، لا يصير محلاً لها بمجرد النية ، كالمعلوفة إذا نوى فيها السوم .
( والثانية ) : تصير للتجارة اختارها أبو بكر ، وابن أبي موسى ، وابن عقيل ، وأبو محمد في العمدة ، لعموم حديث سمرة المتقدم ، ولأنها تصير للقنية بمجرد النية ، فكذا للتجارة بل أولى ، تغليباً للإِيجاب ، وفرق بأن القنية هي الأصل ، فالنية ترد إليها ، بخلاف التجارة ، فعلى الأولى لا زكاة حتى يبيغ العرض فيستقبل بثمنه حولًا ، والله أعلم .
قال : وإذا كان في ملكه منصب للزكاة ، فاتجر فيه ، أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال [ عليه ] الحول ، والله أعلم .
ش : حول النماء في التجارة حول الأصل ، إذ لو اعتبر لكل جزء حول لأفضى ذلك إلى حرج ومشقة ، وهما منتفيان شرعاً ، ولأنه نماء جار في الحول ، تابع لأصله في الملك ، فضم إليه في الحول كالنتاج ، ودليل الأصل قول عمر رضي الله عنه لساعيه : 16 ( اعتد عليهم بالسخلة ، ولا تأخذها منهم . والله سبحانه أعلم ) .
( باب زكاة الدين والصدقة )
ش : الصدقة بفتح الصاد وضم الدال ، لغة في الصداق بفتح الصاد وكسرها ، وفيه لغتان أخريان ، صدقة بسكون الدال ، مع فتح الصاد وضمها ، والله أعلم .
قال : وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه .
ش : قد تقدمت هذه المسألة مبسوطة في باب زكاة الزروع [ والثمار ] ، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون الدين لآدمي أو لله تعالى كالكفارة ونحوها ، وفي دين الله تعالى حيث منع دين الآدمي [ روايتان أصحهما أنه كدين الآدمي . ( والثانية ) : لا يمنع وإن منع دين الآدمي ] ، ومبنى ذلك عند القاضي وأتباعه على أن الدين هل يمنع وجوب الكفارة وفيه روايتان ، فإن قيل : [ يمنع . لم تمنع الكفارة ونحوها الزكاة ، لضعفها عن الدين ، وإن قيل ] : لا يمنع . منعت الكفارة الزكاة ، لأنها إذاً أقوى من الدين ، وإذا منع الضعيف قالقوي [ من باب ] أولى . واختلف في الخراج ، بل من ديون [ الآدميين ] ، كديون بيت المال ، والزكاة دين الله تعالى ، فيمنع الزكاة عند الأكثرين ،
____________________
(1/397)
كالكفارة ، وعند ابن عقيل ، وصاحب التخليص : لا يمنع . قالا : لأن الشيء لا يمنع مساويه ، والله أعلم .
قال : وإذا كان له دين على مليء فليس عليه زكاة حتى يقبضه ، فيؤدي لما مضى .
ش : دل كلام الخرقي على مسائل : ( إحداها ) : أن الزكاة تجب في الدين على المليء ، وهذا مقتضى ما روي عن علي ، وعائشة ، وابن عمر رضي الله عنهم كما سيأتي ، وذلك لعموم النصوص ( في الرقة ربع العشر ) فإذا كان لك عشرون ديناراً ، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار ) ونحو ذلك ، ولأنه مال ممكن الاستيفاء ، تام الملك ، فوجبت فيه الزكاة ، كبقية الأموال . ( المسألة الثانية ) : أنه لا يجب أداء الزكاة حتى يقبض ، فيؤدي عنه إذاً ، على المذهب المعروف المنصوص ، إذ الزكاة مواساة ، وليس من المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه .
1251 وقد روى أحمد بسنده عن عائشة وعلي [ وابن عمر رضي الله عنهم ] أنهم كانوا لا يرون في الدين زكاة حتى يقبض . ذكر ذلك أبو بكر . وحكى الشيرازي رواية أخرى أن الأداء يجب قبل القبض ، لأنه نصاب مقدور على أخذه بالطلب ، أشبه الوديعة . ( المسألة الثالثة ) : أنه إذا قبض زكي لما مضى من الأحوال ، على المذهب المشهور أيضاً ، لأنه في جميع الأحوال عى حال [ واحد ] فترجيح بعضها بالوجوب [ ترجيح ] بلا مرجح ، وقيل عنه ( رواية أخرى ) أن الزكاة تجب لحول واحد فقط .
وقوله : على مليء . أي بماله وقوله وبدنه . فيخرج منه المعسر ، والجاحد ، والمماطل ، والحكم في ذلك كالحكم في المال المغصوب على ما سيأتي .
وشمل كلام الخرقي المؤجل ، وبه قطع صاحب التلخيص ، وأبو محمد في كتابيه ، معتمداً على أنه ظاهر كلام أحمد ، وفي بعض نسخ المقنع إجراء روايتي الدين على المعسر فيه ، وهي طريقة القاضي والآمدي ، وفرق بأن الأجل ثابت باختياره ، وله في التأخير فائدة ، فأشبه ما لو دفعه إلى آخر مضاربة .
وقوله : حتى يقبضه . لا مفهوم له ، بل لو قبض البعض زكى بحسابه على المذهب ، وقيل : إن قبض دون نصاب فلا شيء عليه إلا أن يكون بيده ما يتمه به ، والله أعلم .
قال : وإذا غصب مالًا زكاه إذا قبضه لما مضى ، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله والرواية الأخرى قال : ليس هو كالدين الذي [ متى ] قبضه زكاه لما مضى ، وأحب [ إليّ ] أن يزكيه .
ش : الرواية الأولى نقلها مهنا ، و [ أبو ] الحارث ، واختارها القاضي ، وأبو بكر وأبو الخطاب ، وابن عقيل ، وابن عبدوس ، وأكثر الأصحاب ، لعموم ما تقدم في التي
____________________
(1/398)
قبلها ، والمنع [ من ] التصرف لا أثر له ، بدليل المال المرهون . ( والرواية الثانية ) : نقلها إبراهيم بن الحارث وغيره ، واختارها أبو محمد في العمدة ، إذ الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة ، بدليل أنها لا تجب إلا في مال نام ، فلا تجب في العقار ونحوه ، وحقيقة النماء ومظنته منتفية ههنا ، لعدم القدرة على التصرف .
1252 وقد روي عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا : لا زكاة في مال الضمار . وهوالمال الذي لا يعرف مالكه موضعه . ( وفي المذهب رواية ثالثة ) : أن ما لا يؤمل رجوعه كالمسروق ، والمغصوب ، والمجحود لا زكاة فيه ، وما يؤمل رجوعه كالدين على المفلس ، أو الغائب المنقطع خبره فيه الزكاة . قال أبو العباس : وهذه أقرب إن شاء الله تعالى ، ( وفيه رواية رابعة ) : أن الذي عليه الدين إن كان يؤدي زكاته فلا زكاة على ربه ، وإلا فعليه الزكاة ؛ [ نص عليه في المجحود ] حذارا من وجوب زكاتين في مال واحد .
( تنبيه ) : وكذا الخلاف في المال المسروق ، والضال ، والدين على معسر [ أو جاحد ] أو مماطل ونحو ذلك ، والله أعلم .
قال : واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولًا ثم زكاها .
ش : إنما تصير اللقطة كسائر مال الملتقط إذا كانت مما يملك بعد الحول ، على ما سيأتي وإذاً يستقبل بها حولاً ، فإذا مضى الحول زكاها ، ولا يحتسب بحول التعريف ، لعدم الملك إذاً ، وهذا منصوص أحمد ، لأنه ملكها ملكاً تاماً ، فوجبت فيها الزكاة كبقية أمواله ، وكون لمالكها انتزاعها إذا عرفها لا يضر ، بدليل ما وهبه الأب لابنه ، وعن القاضي : لا زكاة فيها ، نظراً إلى أنه ملكها مضمونة عليه بمثلها أو قيمتها ، فهي دين عليه في الحقيقة ، وكذلك عن ابن عقبيل ، [ لكن ] نظر إلى عدم استقرار الملك فيها ، ورد الأول بأن البدل إنما يثبت بظهور المالك ، والثاني بما وهبه الأب لابنه ، والله أعلم .
قال : فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعاً منها .
ش : هذه صورة من صور المال الضال ، وقد تقدم الخلاف فيه ، وأن المذهب وجوب الزكاة ، ولو لم يملكها الملتقط بعد الحول زكاها مالكها لجميع الأحوال على المذهب ، والله أعلم .
قال : والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى .
ش : ينعقد الحول على الصداق على المذهب المشهور المعروف ، حتى أن القاضي جعله في التعليق رواية واحدة [ وذلك لعموم ما تقدم في غيره من الديون ] ( وقيل عنه ) : لا ينعقد ، لأن الملك فيه غير تام ، إذ هو بصدد أن يسقط أو يتنصف ، وقيل :
____________________
(1/399)
محل الخلاف فيما قبل الدخول ، فعلى المذهب إن كان الصداق على مليء زكي عند القبض لما مضى ، وإن كان على غير مليء جرى فيه الخلاف السابق ، هذا كله إن كان الصداق في الذمة ، أما إن كان معيناً كأن أصدقها هذه الخمس من الإِبل ونحو ذلك فإن الحول ينعقد عليها من حين الملك بلا ريب ، نص عليه أحمد ، وقال القاضي : رواية واحدة ، ولو لم تقبض الصداق فإن كان لجحد [ الزوج ] أو فلسه ونحو ذلك فلا شيء على المرأة ، إذ لا مواساة مع انتفاء القبض ، وكذلك ما سقط لطلاق الزوج ، إذ لا صنع لها في ذلك ، أما من سقط لفسخها فاحتمالان ( الوجوب ) ، لأنه سبب من جهتها ( وعدمه ) لعدم تصرفها ، ومن هنا اختلف عن أحمد رحمه الله فيما إذا وهبت المرأة [ زوجها ] صداقها ، ( فعنه ) وهو الصحيح عند القاضي عليها زكاته ، وعلله أحمد بأنه كان في ملكها ، يعني وقد تصرفت فيه بالهبة ، فأشبه ما لو أحالت به أو قبضته ، ( وعنه ) : الزكاة على الزوج ، لأنه ملك ما ملك عليه قبل قبضه منه ، فكأنه لم يزل [ ملكه ] عنه ، ولأبي محمد في الكافي احتمال بنفي الزكاة عنهما ، المبريء لعدم قبضه ، والمدين لأن ذلك سقط عنه فلم يملكه ، والله أعلم .
قال : والماشية إذا بيعت بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل البائع بها حولًا ، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري ، لأنه تجديد ملك ، والله أعلم .
ش : هذا مبني على أصل ، وقد أشار إليه الخرقي ، وهو أن البيع ينقل الملك إلى المشتري بمجرد العقد ، إن لم ينقض الخيار ، على المشهور من الروايتين .
1253 لقول النبي : ( من باع عبداً وله مال فماله للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع ) جعله للبائع بمجرد البيع . ( والرواية الثانية ) لا ينتقل الملك إلا بانقضاء مدة الخيار ، فعلى الأولى إذا كان المبيع مما تجب فيه الزكاة فقد انتقل الملك فيه بمجرد العقد ، فينقطع حول البائع ، فإذا رد عليه فقد تجدد له الملك بعد زواله ، فيستقبل به حولًا ، وعلى الرواية الأخرى الملك باق له ، فكذلك الحول ، وقول الخرقي : إذا بيعت بالخيار ، وكذلك لو ردت في مدة خيار المجلس ، والله أعلم .
( باب زكاة الفطر )
ش : من باب إضافة الشيء إلى سببه ، إذ سبب وجوبها الفطر من رمضان ، أما ( الفطرة ) فكلمة مولدة ، وقد عدها بعضهم مما يلحن فيه العامة ، وإن كان قد استعمل كثيراً من كلام الفقهاء وغيرهم .
والأصل في وجوبها قيل : قوله تعالى : 19 ( { قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى } ) .
____________________
(1/400)
1254 فعن سعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز أنها زكاة الفطر .
1255 والمعتمد في الوجوب على ما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله زكاة الفطر صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير ، على الحر والعبد ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين ، وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة . متفق عليه واللفظ للبخاري .
ودعوى أن : فرض . بمعنى : قدر . مردود بأن كلام الراوي لا سيما الفقيه محمول على الموضوعات الشرعية .
1256 وبأن في الصحيح أيضاً في حديثه : أمر رسول الله بزكاة الفطر صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير . قال عبد الله : فجعل الناس مكانه مدين من حنطة واختلف عن أحمد رحمه الله في زكاة الفطر هل تسمى فرضاً ؟ على روايتين ، مبناهما على أنه لا يسمى فرضاً إلا ما ثبت في الكتاب ، وما ثبت بالسنة يسمى واجباً ، أو أن كل ثابت وإن كان بالسنة يسمى فرضاً ، والله أعلم .
قال : وزكاة الفطر واجبة على كل حر وعبد ، ذكر وأنثى من المسلمين .
ش : هذا نص رواية ابن عمر المتقدم ، فاعتمد الخرقي عليها ، وكفى بذلك معتمداً ، وقد دخل في الحديث وفي كلام الخرقي اليتيم ، فتجب في ماله ، وخرج الكافر ، وإن كان عبداً ، أو صغيراً [ وفي المذهب وجه أنها لا تجب على من لم يكلف بالصوم ، نظراً إلى أنها طهرة للصائم كما ورد ، ومن لا يكلف بصوم ، لا حاجة إلى تطهير صومه ] .
( تنبيه ) : لو هلَّ هلال شوال على عبد مسلم ملكاً لكافر فهل تجب على سيده الكافر بطرته ، فيه وجهان ، مبناهما على أن السيد هل هو متحمل أو أصيل ؟ فيه قولان ، إن قلنا : إنه متحمل وجبت عليه ، وإن قلنا : أصيل ، لم تجب عليه ، والله أعلم .
قال : صاع بصاع النبي ، وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي ، من كل حبة وثمرة تقتات .
ش : الواجب في الفطرة صاع ، لما تقدم من حديث ابن عمر .
1257 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من زبيب ، أو صاعاً من أقط ، فلم نزل نخرجه حتى كان معاوية ، فرأى أن مدين من بر تعدل صاعاً من تمر . قال أبو سعيد : أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت . متفق
____________________
(1/401)
عليه ، ( وخرج ) إجزاء نصف صاع بر كما في الكفارات ، ويشهد له فعل معاذ .
1258 وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي بعث منادياً في فجاج مكة ( ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم ، ذكر أو أنثى ، حر أو عبد ، صغير أو كبير ، مدان من قمح أو سواه صاع من طعام ) رواه الترمذي انتهى . والصاع بصاع النبي خمسة أرطال وثلث ، لما تقدم في باب زكاة الزروع .
وصفة المخرج أبن يكون من كل حبة وثمرة تقتات على قول الخرقي ، وأبي بكر ، إذ المتفق عليه في الحديث بلا ريب البر ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وذلك حب أو ثمرة تقتات ] فاعتبر ما شابهها في الوصفين ، ولم يعتبر ابن حامد ، وصاحب التلخيص إلا القوتية فقط .
1259 نظراً إلى قول النبي ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) وبالقوت يحصل الغنى لا بغيره ، ولأن الشارع قد نص على الأقط ، وليس بحب ، ولا ثمر ، فعلى هذا يجزيء اللحم وإن كان سمكاً ، واللبن ونحو ذلك لمن كان قوته ، وعلى الأول لا يجزيء ولأبي الحسن ابن عبدوس [ احتمال ] أنه لا يجزيء غير الخمسة المنصوص عليها ، وتبقى الفطرة عند عدمها في ذمته ، والله أعلم .
قال : وإن أعطى أهل البادية الأقط صاعاً أجزأ إذا كان قوتهم .
[ ش : نقل بكر بن محمد ، وحنبل عن أحمد ما ] يدل على أن الأقط أصل بنفسه ، فقال : وقد سئل عن صدقة الفطر صاع من شعير ، أو تمر ، أو أقط ، أو زبيب ، أو حنطة . فعلى هذا يجزئ مع وجود الأربعة المذكورة وإن لم يكن قوته ، وهذا اختيار أبي بكر ، وجزم به ابن أبي موسى ، والقاضي وأبو الخطاب في خللافيهما ، وابن عقيل ، وابن عبدوس ، وابن البنا ، والشيرازي وغيرهم .
1260 لأن في رواية النسائي في حديث أبي سعيد المتقدم قال : فرض رسول الله صدقة الفطر صاعاً من طعام ، أو صاعاً من شعير ، أو صاعاً من تمر ، أو صاعاً من أقط . مع أن اقترانه بالأربعة في الروايات الصحيحة ، مشعر بأنه كهي .
ونقل عنه ابن مشيش [ ما يدل على أنه بدل ، فقال في رواية ابن مشيش ] : إذا لم يجد التمر فأقط ، هذا نقل القاضي في روايتيه ، ولفظه في تعليقه عن ابن مشيش : إذا أعطى الأعرابي صاعاً من البر أجزأ عنه ، والأقط أعجب إلى ، على حديث أبي سعيد ؛ ونحو هذا اللفظ نقل حنبل ، وبكر بن محمد ، وهذا لا يعطي رواية ، إنما يدل على أن الأقط لأهل البادية أفضل ، لكن أبا الخطاب في الهداية ، وصاحب التلخيص والشيخين ، وغيرهم ، على حكاية رواية البدلية ، وذلك لأنه [ لا ] يجزيء في الكفارة ، أشبه اللحم ، والمشهور من رواية أبي سعيد : كنا نخرج . وقد يكون ذلك لكونه
____________________
(1/402)
قوتهم ، واختلف الحاكون لهذه الرواية ، فقال صاحب التلخيص ، و أبو محمد ، تبعاً لأبي الخطاب : لا يجزيء إلاعند عدم الأربعة . وقال أبو البركات : لا يجزيء إلا لمن هو قوته . وظاهره : وإن وجدت ، وهذا مقتضى قول الخرقي ، وإنما ذكر أهل البادية نظراً إلى الغالب . انتهى ، فعلى الأول وهو المذهب في إجزاء اللبن والجبن وجهان .
( تنبيه ) : الأقط فيه أربع لغات ، تثليث الهمزة مع سكون القاف ، وفتح الهمزة مع كسر القاف ، وهو شيء يعمل من اللبن المخيض ، وزعم ابن الأعرابي أنه يعمل من ألبان الإِبل [ خاصة ، والله أعلم .
قال : واختيار أبي عبد الله رحمه الله إخراج التمر .
ش : أفضل الخمسة المنصوص عليها التمر ، وإن كان قوت ] البلد غيره ، نص عليه أحمد في رواية أبي داود ، وظاهر إطلاقه : وإن كان غيره أعلى [ منه ] قيمة ، وصرح به القاضي ، لما تقدم من حديث ابن عمر ، فإنه لم يذكر البر فيما فرضه رسول الله ، إنما ذكر التمر والشعير ، ثم هو راوي الحديث ، وقد كان يواظب على إخراج التمر .
1261 ففي النسائي ، والموطأ ، وغيرهما أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر ، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيراً ، وفي لفظ : فأعوز أهل المدينة التمر عاماً ، فأعطى الشعير .
1262 وقد روى الإِمام أحمد رحمه الله عن أبي مجلز قال : قلت لابن عمر : إن الله قد أوسع ، والبر أفضل من التمر ، قال : إن أصحابي سلكواب طريقاً ، وأنا أحب أن أسلكه . وظاهر هذا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يداومون على إخراجه ، ولأنه ساوى غيره في القوتية ، وزاد عليه بالحلاوة ، وقرب التناول . وحكى ابن حمدان [ رواية ] أن الأقط أفضل لمن هو قوته ، ولعل يعتمدها رواية ابن مشيش ونحوها المتقدمة ، وهي إنما تعطي أنه أفضل من البر .
واختلف في الأفضل بعد التمر ، فعند الأكثرين الزبيب ، ثم البر ، ثم الشعير ، لأنه يساوي التمر في القوتية ، والحلاوة ، وقرب التناول ، فألحق به ، وإنما قدم التمر عليه لاتفاق الأحاديث [ عليه ] ولمداومة الصحابة [ عليه ] ولأنه أقوى في القوتية ، وعند أبي محمد في كتابيه : الأفضل بعد التمر البر ، لأنه أبلغ في الإِقتيات ، فيكون أوفق لقول النبي ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) وأفضل ، ولهذا جعل معاوية مداً منه يعدل مدين وإنما عدل عنه إلى التمر لفعل الصحابة ، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل ، وله احتمال في المغني أن الأفضل بعد البر ما كان أغلى قيمة ، وأكثر نفعاً ، وهو ظاهر قوله في المقنع ، وقد تقدم نص أحمد أن الأقط لمن هو قوته أفضل من البر ، والله أعلم .
____________________
(1/403)
قال : ومن قدر على البر أو التمر أو الشعير أو الزبيب أو الأبط فأخرج غيره لم يجزئه .
ش : هذا هو المذهب المعروف المشهور لظاهر حديث ابن عمر وأبي سعيد ، إذ ظاهرهما أنه لم يفرض غير ذلك ، فالعدول عن ذلك عدول عن المنصوص عليه ، أشبه ما لو عدل إلى القيمة ، وخرج أبو بكر قولًا آخر أنه يعطي ما قام مقام الخمسة على ظاهر الحديث ( صاعاً من طعام ) والطعام قد يكون براً أو شعيراً ، أو ما دخل فيه الكيل ، ويجاب بأنه قد جاء ( صاعاً من بر ) مكان ( طعام ) ، فدل على أن المراد بالطعام البر .
وقد دل كلام الخرقي على أنه متى أخرج التمر ونحوه أجزأه ، وإن كان القوت في غيره ، ودل على أن ما تقدم من قوله : ( من كل حبة وثمرة تقتات ) أنه مع عدم الخمسة .
وقد يقال : إن ظاهر كلامه أنه لا يجزيء الدقيق ولا السويق مع وجود أصليهما ، لأن الروايات الصحيحة ليسا فيها والمنصوص عن أحمد رحمه الله إجزاؤهما .
1263 لأن سفيان بن عيينة ذكر في حديث أبي سعيد ( أو صاعاً من دقيق ) وهو ثقة فتقبل زيادته ، وقد اعتمد أحمد على ذلك في رواية مهنا ، فقال : سفيان بن عيينة يقول : عن محمد بن عجلان ، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح ، عن أبي سعيد [ يقول : دقيقاً . قلت له : أي شيء مذهبك في هذا ؟ فقال : حديث عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد ] ولأن النبي قال : ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) ولا ريب أن الغنى يحصل بالدقيق أكثر من الزبيب ونحوه ، وقال ابن أبي موسى : لا يجزيء السويق ، لأنه خرج عن الأقتيات لعموم الناس ، بخلاف الدقيق .
( تنبيه ) يعتبر صاع الدقيق [ والسويق ] بوزن حبهما ، ولا يشترط نخل الدقيق ، والله أعلم .
[ قال : ومن أعطى القيمة لم تجزئه ] .
ش : نص على هذا أحمد رحمه الله ، معتمداً على قول ابن عمر : فرض رسول الله . الحديث ، ومن دفع القيمة لم يعط ما فرضه رسول الله .
1264 وعن معاذ أن رسول الله قال له حين بعثه إلى اليمن : ( خذ الحب من الحب ، والشاة من الغنم ، والبعير من الإِبل ، والبقر من البقر ) رواه أبو داود ، وظاهره وجوب ذلك ، والله أعلم ] .
قال : ويخرجها إذا خرج إلى المصلى .
____________________
(1/404)
ش : لا إشكال في مطلوبية إخراج زكاة الفطر عند الخروج إلى صلاة العيد تحقيقاً لقول النبي : ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) .
1265 لأن في البخاري في حديث ابن عمر : فرض رسول الله صدقة الفطر . الحديث وقال فيه : وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ، ولمسلم : أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة ، ولأبي داود : وكان ابن عمر يؤديها قبل خروج الناس إلى الصلاة . أما إن قدمها على ذلك فسيأتي [ بيان ذلك ] إن شاء الله تعالى ، فإن أخرها عن الصلاة ففي بقية اليوم تجوز ، وتقع إذاً ، لحصول الغنى في ذلك اليوم ، لكن يكره ذلك عند أبي محمد ، لعدم حصول الغنى في جميع اليوم ، ولم يكرهه القاضي ، وشدد بعض الأصحاب فجعلها بعد الصلاة قضاء لظاهر ما تقدم .
1266 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : فرض رسول الله زكاة القطر طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات . رواه أبو داود ، وبعد يوم العيد يأثم ، وهي قضاء بلا ريب . والله أعلم .
قال : وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه .
ش : هذا منصوص أحمد رحمه الله ، وقول أصحابه ، لا أعلمهم يختلفون في ذلك .
1267 لأن [ في ] حديث ابن عمر في الصحيح : وكانوا يعطون قبل العيد بيوم أو يومين .
وهذا إشارة إلى جماعتهم ، فيكون كالإِجماع ، وقوله : ( أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم ) لا يدفع ذلك ، إذ ما قارب الشيء أعطي حكمه .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز تقديمها أكثر من ذلك وهو المذهب بلا ريب ، إذ ظاهر الأمر بأدائها قبل الصلاة ، والإِغناء عن السؤال في يوم العيد ، ونحو ذلك [ يقتضي ] أن لا يجوز التقديم مطلقاً ، خرج منه التقديم باليوم واليومين لما تقدم فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل ، ( وقيل عنه ) : يجوز تقديمها بثلاث .
1267 لأن في رواية الموطأ أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة . ( وقيل عن أحمد ) : رواية ثالثة : يجوز تقديمها بعد نصف الشهر ، كما يجوز تقديم أذان الفجر بعد نصف الليل . ( وفي المذهب قول رابع ) : تجوز من أول الشهر ، لدخول سبب الوجوب ، أشبه تقديم زكاة المال بعد النصاب ، وقبل تمام الحول الذي به الوجوب ، والدليل على أن الصيام سبب الوجوب قول ابن عباس المتقدم : فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم الحديث .
____________________
(1/405)
1269 وفي الصحيح في حديث ابن عمر : فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان . فأضافها إلى الفطر من رمضان .
1270 وفي سنن أبي داود ، والنسائي عن الحسن البصري رضي الله عنه قال : خطب ابن عباس رضي الله عنهما في آخر رمضان ، على منبر البصرة فقال : أخرجوا صدقة صومكم . انتهى وفرق بين هذا وبين صدقة المال ، بأنه إذا خرج هنا من أول الشهر لم يحصل المقصود الذي قصده الشارع بالإِغناء عن السؤال في يوم العيد ، بخلاف ثم .
( تنبيه ) : وقت الوجوب [ على الصحيح المنصوص ] يدخل بغروب شمس آخر يوم من رمضان ، على الصحيح [ المنصوص ] المشهور من الروايتين ، لما تقدم من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : فرض رسول الله [ صدقة الفطر من رمضان ، فرض رسول الله زكاة الفطر ، طهرة للصائم والفطر من رمضان في الحقيقة يحصل بغروب الشمس من آخر ] يوم من رمضان ، فوجب أن يتعلق الوجوب به ( [ والرواية ] الثانية ) تجب بطلوع فجر يوم العيد ، لأن الفطر من رمضان على الإِطلاق [ يقع ] على يوم الفطر .
1271 قال النبي ( فطركم يوم تفطرون ) فأضاف الفطر على الإِطلاق إلى اليوم .
1272 ونهى عن صيام يومين ( يوم فطركم من صيامكم ، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم ) ورد بأن الفطر في الحقيقة إنما هو بخروج وقت الصوم كما تقدم ، وقوله : ( الفطر يوم تفطرون ) أي الفطر بالنهار يوم تفطرون .
وينبني على ذلك أنه لو ملك عبداً ، أو ولد له ولد ، أو تزوج أو أسلم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وجب عليه له ولهم وبعد طلوع فجر يوم العيد لا تجب ، وفيما بينهما الروايتان ، ولو كان معسراً فأيسر قبل الغروب وجبت ، [ وبعد طلوع الفجر لا تجب ، وفيما بينهما الخلاف .
( وعنه ) رواية أخرى : إن أيسر يوم العيد وجبت ] : اختارها أبو العباس ، لحصول اليسار في وقت الوجوب فهو كالمتمتع إذا قدر على الهدي يوم النحر ، ( وعنه ) إن أيسر في أيام العيد وجبت ، وإلا فلا ، فيحتمل أن يريد أيام النحر ، ويحتمل أن يريد الستة من شوال ، لأنه قد نص في رواية أخرى أنه إذا قدر بعد خمسة أيام يخرج ( وعن أحمد ) رواية أخرى : تبقى في ذمته ككفارة الظهار ونحوها ، والأول اختيار الأكثرين ،
____________________
(1/406)
والله سبحانه أعلم .
قال : ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله ، إذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته .
ش : يلزمه أن يخرج عن نفسه بلا ريب ، والأحاديث صريحة بذلك ، وعن عياله وهم من يمونه .
1273 لأنه يروى في بعض طرق حديث ابن عمر : فرض رسول الله الفطر عن كل صغير ، وكبير ، وعبد ، ممن تمونون . رواه الدارقطني .
1274 ولإِطلاق قول النبي ( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ) ويشترط في وجوبها أن يكون عنده فضل عن قوت يوم العيد وليلته ، لأن صاحب الشرع أمر بإغناء السؤال في يوم العيد ، ومن لم يكن عنده فضل عن قوت يوم العيد هو أحق بإغناء نفسه ، قال : ( ابدأ بنفسك ) أما إن فضل عنده فضل فيلزمه الإِخراج ، وإن لم يملك نصاباً ، لأنه قد حصل له غناء هذا اليوم ، فاحتمل ماله المواساة .
1275 ولعموم حديث ابن عمر : فرض رسول الله [ زكاة الفطر ] صاعاً من تمر ، أو صاعاً من شعير ، على العبد والحر ، والذكر والأنثى ، والصغير والكبير من المسلمين .
1276 وعن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله : ( زكاة الفطر صاع من بر ، أو قمح ، عن كل صغير أو كبير ، حر أو عبد ، ذكر أو أنثى ، أما غنيكم فيزكيه الله ، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه ) رواه أبو داود وقال أحمد في رواية حنبل : فرض رسول الله : [ صدقة الفطر ] على الغني والفقير . وظاهر هذا صحة هذا الحديث [ عنده ] ( وقد دخل ) في كلام الخرقي زوجته ، وعبده ووالده وولده ، وكل من تلزمه نفقته ، لأنهم في عياله ، وحكمهم في التقديم يأتي في النفقات إن شاء الله تعالى ، ( ودخل ) في كلامه [ كل ] من تبرغ بمؤنته في شهر رمضان ، فإنه تلزمه فطرته ، لأنه قد مانه حقيقة فيدخل في قوله عليه السلام : ( ممن تمونون ) وهذا منصوص أحمد ، وقول عامة أصحابه ، وخالفهم أبو الخطاب في الهداية ، وتبعه أبو محمد ، فقالا : فطرته على نفسه . وجعلا الإِعتبار بلزوم المؤنة ، وحكى ذلك ابن حمدان رواية ، ( فعلى الأولى ) تعتبر المؤنة في جميع الشهر على المشهور ، وقال ابن عقيل : قياس المذهب أنه إذا مانه آخر ليلة وجبت فطرته ، كما لو ملك عبداً عند الغروب ، فلو مانه جماعة فعلى قول ابن عقيل فطرته على من مانه آخر
____________________
(1/407)
ليلة ، وعلى المشهور هل تجب على جميعهم بالحصص ، لاشتراكهم في سبب الوجوب ، أو لا تجب عليهم ، لأن الوجوب على كل واحد منوط بمؤنة جميع الشهر ولم يوجد ؟ فيه احتمالان .
( تنبيه ) : يعتبر مع كفاف يوم العيد وليلته سد حوائجه الأصلية ، من دار يسكنها ، ودابة يحتاج إلى ركوبها ، وثياب يتجمل بها ونحو ذلك ، على ما قاله صاحب التلخيص ، وأبو محمد وغيرهما ، وأورد ابن حمدان المذهب بعدم اعتبار ذلك ، ولعله ظاهر كلام الخرقي ، والله أعلم .
قال : وليس عليه في مكاتبه زكاة .
ش : لأنه لا يمونه ، فلا يدخل تحت قوله عليه السلام ( ممن تمونون ) ولأنه لا يلزمه مؤنته ، فأشبه الأجنبي .
قال : وعلى المكاتب أن يخرج عن نفسه زكاة الفطر .
ش : لأنه تلزمه نفقة نفسه ، فلزمه فطرتها كالحر ، والله أعلم .
قال : وإذا ملك جماعة عبداً أخرج كل واحد منهم صاعاً ، وعن أبي عبد الله رواية أخرى صاعاً عن الجميع .
ش : تجب قطرة العبد المشترك على مواليه ، نص عليه أحمد ، لعموم ما تقدم من الأحاديث ( ثم هل على الجميع صاع ) يقسم بينهم على قدر حصصهم ، وهو الظاهر عن أحمد ، بل قيل : إنه الذي رجع إليه آخراً ، لأن النبي أوجب على كل واحد صاعاً ، ولم يفرق بين مشترك وغيره ، ولأن الفطرة تتبع النفقة ، والنفقة تقسم عليهم بالحصص ، فكذلك الفطرة ( أو على كل [ واحد ] صاع ) وهو اختيار أبي بكر . قال القاضي و الخرقي : لأنها طهرة ، فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء ، ككفارة القتل ؟ فيه روايتان ، والله أعلم .
قال : ويعطي صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطي صدقة الأموال .
ش : لأنها صدقة ، فتدخل تحت قوله : 19 ( { إنما الصدقات للفقراء } ) . الآية ، وتحت قوله عليه السلام لمعاذ : ( أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة يؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) إلى غير ذلك . ويمنع منها من يمنع من صدقة الأموال كالذمي ، والعبد ، والزوجة ، والولد ونحوهم ، لأنها صدقة واجبة ، فحكم عليها بما يكم على بقية الصدقات ، والله أعلم .
قال : ويجوز أن تعطى الجماعة ، ما يلزم الواحد .
ش : لإِطلاق 19 ( { إنما الصدقات للفقراء } ) الآية ، مع أن أبا محمد قال : لا أعلم فيه خلافاً والله أعلم .
____________________
(1/408)
قال : ويعطي الواحد ما يلزم الجماعة .
ش : لأنها صدقة واجبة ، فجاز أن يدفع للواحد فيها مايلزم الجماعة كصدقة المال ، وقد تقدم الدليل على الأصل ، فلا حاجة إلى إعادته ، والله أعلم .
قال : ومن أخرج عن الجنين لحسن ، وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يخرج عن الجنين .
1276 م ش : المشهور المعروف من الروايتين أن إخراج زكاة الفطر عن الجنين مستحب ، لفعل عثمان رضي الله عنه ولا يجب ، لأن هذا حكم من أحكام الدنيا ، فلم يتعلق به كبقية الأحكام . ونقل عنه يعقوب بن بختان وجوبها اتباعاً لفعل عثمان رضين الله عنه ، ولأنه آدمي تصح الوصية له وبه ، ويرث ، أشبه المولود ، والله أعلم .
قال : ومن كان في يده ما يخرح صدقة الفطر ، وعليه دين مثله ، لزمه أن يخرج ، إلا أن يكون مطالباً به فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه ، والله أعلم .
ش : أما مع عدم المطالبة فتلغابر التعلق إذ هذه زكاة بدن ، وتلك زكاة مال ، ومع الدين قد نقص المال ، فلذلك أثر ثمّ بخلاف هنا ، ولأن زكاة الفطر آكد وجوباً من زكاة المال ، بدليل وجوبها على الفقير ، فلا يلزم من المنع ثم المنع هنا ، وأما مع المطالبة فقد وجب الصرف إلى الغريم ، فصار وجود المال كعدمه ، فيكون معسراً هذا هو المذهب المجزوز به عند الشيخين وغيرهما ، وقيل : لا يمنع الدين مطلقاً لما تقدم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
____________________
(1/409)
( كتاب الصيام )
ش : الصيام والصوم مصدر ( صام ) وفي اللغة : عبارة عن الإِمساك ، قال الله سبحانه : { فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } وقال الشاعر :
خيل صيام وخيل غير صائمة
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
أي ممسكة عن الصهيل . وفي الشرع : إمساك مخصوص ، في وقت مخصوص ، [ على وجه مخصوص ] وهو من أركان الإِسلام المعلومة من دين الله تعالى بالضرورة ، وقد شهد لذلك قوله تعالى : { كتب عليكم الصيام } إلى قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } الآية .
1277 وقول النبي : ( بني الإِسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا ) الحديث إلى غير ذلك من الأحاديث ، والله أعلم .
قال : وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوماً طلبوا الهلال .
ش : يستحب للناس أن يتراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ، احتياطاً لصومهم ، وحذاراً من الاختلاف .
1278 وقد روت عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله يتحفظ من شعبان مالا يتحفظ من غيره ، ثم يصوم لرؤية رمضان ، فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام . رواه أحمد وأبو داود ، والدارقطني وقال : هذا إسناد صحيح . والله أعلم .
قال : فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم .
ش : أي طلب الناس الهلال ، فإن رأوه وجب صيامه ، وهذا إجماع ، لقوله تعالى : 19 ( { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ) . وإن لم يروه فإن كانت السماء مصحية [ لم يصوموا ذلك اليوم ] لأنه ( إما يوم شك ) وهو منهي عن صيامه .
1279 قال صلة بن زفر : كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه ، فأتي بشاة ، فتنحى بعض القوم ، فقال عمار : من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم . رواه أبو
____________________
(1/410)
داود ، والنسائي ، وابن ماجه [ والترمذي ] وصححه . ( أو غير شك ) وقد نهي عنه أيضاً .
1280 فروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين ، إلا أن يكون صوم يصومه رجل ، فليصم ذلك اليوم ) رواه الجماعة .
1281 وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( لا تقدموا الشهر ، حتى تروا الهلال ، أو تكملوا العدة ، ثم تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ) رواه النسائي وأبو داود . وهذا المنع على طريق [ الكراهة ] عند القاضي وأبي الخطاب ، والأكثرين .
ولأبي محمد في الكافي احتمال بالتحريم ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، وكلام صاحب التلخيص في يوم الشك [ قال : صيام يوم الشك ] منهي عنه ، وفي صحته مع النهي ما في الصلاة في أوقات النهي . انتهى وهو مقتضى نصوص أحمد رحمه الله ، قال في رواية أبي داود : الشك على ضربين ، فالذي لا يصام إذا لم يحل دون منظره سحاب ولا قتر ، والذي يصام إذا حال دون منظره سحاب أو قتر ، وفي رواية المروذي : سئل عن نهي النبي عن صيام [ يوم ] الشك ، فقال : هذا إذا كان صحوا لم يصم ، وأما إن كان في السماء غيم [ صام ] . وفي رواية الأثرم : ليس بنبغي أن يصبح صائماً إذا لم يحل دون منظر الهلال شيء من سحاب ولا غيره . انتهى وذلك لظواهر النصوص .
ويستثنى من المنع النذر ، والورد ، كمن عادته صوم يوم الخميس فوافق آخر الشهر ، أو صوم يوم وفطر يوم للحديث .
( تنبيه ) : يوم الشك [ قال بعض المتأخرين ] : اليوم الذي يتحدث الناس برؤيته لا يثبت ، وحرر القاضي ذلك في تعليقه بأن يكون في الصحو ، وزاد عليه : إذا لم يتراء الناس الهلال حتى جاوز وقت الرؤية أو لم تكن السماء مصحية وقلنا : لا يجب الصوم ] أما إن قلنا بوجوبه فليس بشك [ عند القاضي ، وهو شك ] عند الخلال فيما أظن ، وهما روايتان عن أحمد ، والله أعلم .
قال : وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه ، وقد أجزأ إن كان من شهر رمضان .
ش : هذا هو المذهب المشور ، المختار لعامة الأصحاب ، الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضيد وأكثر أصحابه .
____________________
(1/411)
1282 لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله يقول : ( إذا رأيتموه فصوموا ، وإن رأيتموه فأفطروا ، فإن غم عليكم فاقدروا له ) متفق عليه . أي فضيقوا له العدد ، من قوله تعالى : 19 ( { ومن قدر عليه رزقه } ) الآية أي ضيق عليه رزقه 19 ( { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ) أي يضيق عليه 19 ( { وقدر السرد } ) أي ضيق { فظن أن لن نقدر عليه } أي لن نضيق عليه . وتضييق العدد ، بأن يجعل شعبان تسعة وعشرين .
1283 ويدل على هذا مافي سنن أبي داود وغيره عن نافع قال : وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعاً وعشرين نظر له ، فإن رؤي فذاك ، وإن لم ير ، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر ، أصبح مفطراً ، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائماً ، قال : وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب وهو راوي الحديث وأعلم بمعناه فيرجع إلى تفسيره ، كما رجع إلى تفسيره في ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) فكان إذا بايع رجلًا بشيء مشى خطوات لا سيما وهو من أتبع الناس [ للسنة ] ويجوز أن يكون معنى ( فاقدروا له ) أي اقدروا طلوعه .
1284 يدل عليه أن في مسلم وسنن أبي داود في الحديث ( إنما الشهر تسع وعشرون ، فإذا رأيتموه فصوموا ) فقوله : ( الشهر تسع وعشرون ) كالتوطئة [ لقوله ] ( فاقدروا له ) . أي لا تظنوا أن الشهر ثلاثون ، إنما هو تسع وعشرون ، فإذا مضى تسع وعشرون وغم عليكم ، فاقدروا طلوعه ، وهذا معنى الذي قبله ، لأنا إذا قدرنا طلوعه ، فقد ضيقنا شعبان .
1285 ( فإن قيل ) : ففي هذا الحديث في مسلم ( فإن أغمي عليكم فاقدروا ثلاثين ) وفي البخاري ( فأكملوا العدة ثلاثين ) .
( قيل ) : يحمل الأول [ على ] فضيقوا عدة شعبان ، أو قدروا طلوع الهلال ، لتصوموا ثلاثين . والثاني [ على ] فأكملوا عدة رمضان ثلاثين ، لأنه أقرب مذكور ، فالألف واللام بدل من المضاف إليه ، جمعا بين الأدلة .
1286 ويؤيده أن في الصحيح كما سيأتي إن شاء الله تعالى : ( فصوموا ثلاثين ) .
1287 وعلى هذا ما في الصحيحين وغيرهما عن عمران بن حصين رضي الله أن رسول الله قال لرجل : ( هل صمت من سرر هذا الشهر شيئاً ؟ ) قال : لا . قال : ( فإذا أفطرت فصم يوماً ) وفي رواية ( يومين ) وسار الشهر : آخره . سمي بذلك
____________________
(1/412)
لاستسرار القمر فيه فلا يظهر ، محمول على حال الغيم ونحوه . وحديث أبي هريرة : ( لا تقدموا رمضان ) على الصحو . ليتوافقا إذ ] في حال الغيم لا يعلم أنه تقدم رمضان بيوم ولا يومين ، فلا يدخل تحت النهي ، ولأن هذا قول جماعة من الصحاية رضي الله عنهم .
1288 فعن مكحول : أن عمر كان يصوم يوم الشك إذا كانت السماء في تلك الليلة متغيمة ، ويقول : ليس هذا بالتطدم ، ولكنه بالتحري . رواه أبو حفص بسنده .
1289 وكات عائشة رضي الله عنها تقول إذا غم : لأن أصوم يوماً من شعبان ، أحب إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان . وقد تقدم عن ابن عمر أنه كان يصوم يوم [ الغيم .
1290 وعلى هذا يحمل ما روي عن أسماء ، وأبي هريرة ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم من صوم يوم ] الشك على وجود الغيم ونحوه ، وهؤلاء من أكابر الصحابة ، وعلمائهم ، وهم رواة أحاديث الباب ، فلا يظن بهم مخالفتها ، ولا مخالفة ظاهرها ، ولأن الصوم في ذمته بيقين ، ولا يبرأ منه بيقين إلا بصوم ذلك ، كما لو كانت عليه صلاة من يوم لا يعلم عينها ، وجب عليه أن يصلي خمس صلوات .
وعن أحمد رحمه الله ( رواية ثانية ) : لا يصام هذا اليوم ، بل ينهى عنه ، لأنه يوم شك ، وقيل : إن هذا اختيار ابن عقيل ، وأبي الخطاب ، في خلافيهما ، والذي نصره أبو الخطاب في الخلاف الصغير هو الأول ، فلعل هذا في الكبير وذلك لما تقدم [ من ] أنه من يوم شك ، ويوم الشك منهي عنه لما تقدم ، ولما تقدم من حديث عائشة رضي الله عنها ، فإن فيه : عدّ ثلاثين يوماً ثم صام . وحديثي أبي هريرة ، وحذيقة ، في النهي عن التقدم .
1291 وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين ) رواه البخاري . ولمسلم ( فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ) . وقوله في حديث ابن عمر : ( فاقدروا له ) أي قدروا له عدد ثلاثين حتى تكملوها . يدل عليه بقية الروايات ، وكون [ التقدير ] التضييق ممنوع ، إنما هو غير التضييق والتوسيع .
1292 كما قيل في قوله : 19 ( { وقدر في السرد } ) لا توسع الحلقة ولا تضيقها ، ولا ترقق المسامير ولا تغلظها ، وفي 19 ( { ومن قدر عله رزقه } ) أي جعل بقدر لا ينقص ، ولا يفضل عن حاجته . وفي 19 ( { فظن أن لن نقدر عليه } ) أي نضيق عليه . وفعل الصحابة لعله عن اجتهاد وظن ، كما ظنه غيرهم .
____________________
(1/413)
1293 ثم قد روي عن بعضهم [ وعن غيرهم ] خلاف ذلك ، والاحتياط في الوجوب إنما يكون فيما علم وجوبه ، أما ما شك فيه فلا يجب ، وإلا يلزم الوجوب بالشك ، وعلى هذا فهل النهي نهي تحريم أو تنزيه على قولين .
ومن نصر الأول قال : لا نسلم أن هذا يوم شك ، مع أن عماراً رضي الله عنه لم ينقل لنا عن النبي لفظاً ، فيجوز أن يكون قاله عن اجتهاد ، بناء على النهي عن التقدم ، وأما حديثا أبي هريرة وحذيفة في التقدم فتقدم الجواب عنهما ، وأما حديث أبي هريرة وحذيفة في التقدم فتقدم الجواب عنهما ، وأما حديث أبي غلط من الراوي ، وأن سائر الرواة لم يذكروا ذلك ، مع أن في المسند ومسلم والنسائي في هذا الحديث ( فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ) وفي لفظ لأحمد والترمذي وصححه ، ( فعدوا ثلاثين ثم أفطروا ) والحديث واحد فتتعارض الروايتان ويتساقطان . ثم على تقدير صحة الأول فيحمل على ما إذا غم رمضان ، بعد أن غم شعبان ، فإنا لا نفطر ، ونعد شعبان إذاً ثلاثين يوماً ورمضان ثلاثين يوماً ، ويكون الصوم أحداً وثلاثين .
وعن أحمد رحمه الله رواية ثالثة : الناس تبع للإِمام في الصوم والفطر .
1294 لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : ( الفطر يوم يفطر الناس ، والأضحى يوم يضحي الناس ) رواه الترمذي وصححه .
قال أحمد : السلطان أحوط في هذا ، وأنظر للمسلمين ، وأشد تفقدا ، ويد الله على الجماعة .
وقيل عن أحمد رواية أخرى باستحباب الصوم ، لا بإيجابه ، ولا بالمنع منه ، وهذا اختيار أبي العباس ، وقال : إن المنقول عن أحمد أنه كان يصومه ، أو يستحب صيامه ، اتباعاً لابن عمر ، قال : ولم أقف من كلام أحمد على ما يقتضي الوجوب ، وحملا للأوامر بإتمام شعبان ، ونحو ذلك على بيان الواجب ، وما ورد من صيام ذلك على الاستحباب ، لا سيما وفيه احتياط لعبادة ، وأصول الشريعة لا تمنع من ذلك .
وقيل عنه رواية بالإِباحة ، قال بعضهم : تحكى فيه الأحكام الخمسة . وقول سادس وهو التبعية .
فعلى الأولى : يشترط له النية من الليل ، على أنه من رمضان حكماً ، فإن تبين أنه من رمضان أجزأه ، وإلا فهو نفل ، وهل تصلى التراويح ليلته ؟ فيه وجهان : قال صاحب التلخيص : أظهرهما لا . وحكي عن أحمد وعن التميمي أنه ينويه جزماً ، وإذاً تصلى التراويح . ولو نوى : إن كان غدا من رمضان فهو فرض ، وإلا فهو نفل ، لم يجزئه إن قيل باشتراط التعيين في النية لفواته ، وإلا أجزأه بطريق الأولى ، لمكان العذر هنا ، وهل تثبت بقية الأحكام من الأجل المعلق برمضان ، والطلاق المعلق به ، ونحو ذلك ؟ فيه
____________________
(1/414)
احتمالان ، ذكرهما القاضي في التعليق ، فالثبوت للحكم برمضانيته ، والمنع لأنه حق لآدمي .
( تنبيه ) : ( الغيم ) قال ابن سيده : الغيم السحاب . وقيل أن لا ترى شمساً من شدة الدجى . وجمعه غيوم وغيام . و ( القتر ( جمع قترة وهي الغبار ومنه قوله تعالى : 19 ( { ترهقها قترة } ) .
1295 قال ابن زيد : الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء ، والغبرة ما كان أسفل في الأرض . و ( فاقدروا له ) قد تقدم معناه والصواب عند أهل اللغة والتفسير المعنى الثاني ، وهو بالوصل ، وكسر الدال وضمها ، و ( سرر الشهر ) و ( سراره ) وسراره ثلاث لغات ، قال الفراء : والفتح أجود . ويقال فيه أيضاً : سر الشهر . وجاءت به السنة ، وقد تقدم معناه ، وقيل : سره وسطه ، وسر كل شيء جوفه ويدل عليه أن في بعض الروايات ( أصمت من سرة هذا الشهر ؟ ) وفسر ذلك بأيام البيض والله أعلم .
قال : ولا يجوز صيام فرض حتى ينويه أيَّ وقت كان من الليل .
ش : أما أصل النية في الصوم وإن كان تطوعاً فمجمع عليها ، لأنه عبادة فيدخل تحت قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وعمل فيدخل تحت قوله عليه السلام : ( إنما الأعمال بالنيات ) ثم إن كان [ الصوم ] فرضاً كرمضان وصوم الكفارة والنذر اشترط أن ينويه من الليل .
1296 لما روي عن ابن عمر عن حفصة رضي الله عنهم عن النبي قال : ( من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له ) رواه الخمسة ، وفي لفظ ( من لم يجمع الصيام ) وروى موقوفاً على ابن عمر .
1297 وعن عمرة عن عائشة رضي الله عنهما قالت : من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له . رواه الدارقطني وقال : إسناده كلهم ثقات . وما يورد من صوم عاشوراء فوجوبه كان في النهار فلذلك أجزأت فيه النية .
1298 على أن أبا حفص قد قال : إنه لم يكن واجباً ، بدليل حديث معاوية سمعت رسول الله يقول : ( إن هذا يوم عاشوراء ، ولم يكتب عليكم صيامه ، وإني صائم فمن شاء فليصم ) ورد بأن معاوية إنما أسلم عام الفتح ،
1299 ووجوب عاشوراء كان في الثانية من الهجرة ، يوماً واحداً ثم نسخ بصوم
____________________
(1/415)
رمضان في ذلك العام فهو إنما سمع ذلك بعد النسخ ، ولا شك أنه إذا ذاك غير مكتوب . انتهى .
وفي أي وقت نوى من الليل أجزأه ، لإِطلاق الحديث ، وسواء وجد بعد النية مناف للصوم ، كالجماع والأكل ، أو لم يوجد [ على المذهب ] عملًلا بإطلاق الحديث ، وقيل : يبطله المنافي من الأكل ، ونحوه ، كما لو فسخ النية ، ولا بد مع النية من تعيين ما يصومه ، فينوي الصوم عن كفارته ، أو نذرة ، أو فرض رمضان ، على ظاهر كلام الخرقي هنا ، لقوله : ولا يجوز صيام فرض حتى ينويه . أي ينوي ذلك الفرض ، وهو إحدى الروايتين ، وأنصهما عن أحمد ، وهي اختيار أبي بكر ، وأبي حفص ، والقاضي ، وابن عقيل ، والأكثرين ، لظاهر قول النبي : ( إنما الأعمال بالنيات ) ومن أطلق لم ينو صوم رمضان ، وكذلك من نوى تطوعاً بطريق الأولى ( والرواية الثانية ) : لا يشترط تعيين النية لرمضان ، حكاها أبو حفص عن بعض الأصحاب ، وهي اختيار الخرقي في شرح المختصر ، قال في صوم يوم الشك : إن قيل : كيف يجوز أن ينويه من رمضان وهو غير متحقق ؟ قيل : ليس يحتاج أن ينوي من رمضان ولا غيره ، لأن من أصلنا : لو نوى أن يصوم تطوعاً فوافق رمضان أجزأه ، لأنه يحتاج أن يفرق بين الفرض والتطوع ، لما يصلح لها ، وشهر رمضان لا يصلح أن يصام فيه تطوع . انتهى .
وذلك لما أشار إليه الخرقي بأن هذا الزمن متعين لصوم رمضان ، لا يتأتي فيه غيره ، فلا حاجة إلى النية ، وصار هذا كمن عليه حجة الإِسلام فنوى تطوعاً ، وفرق بأن الحج آكد حكماً ، بدليل المضي في فاسده ، وانعقاده مع الفساد ، فلذلك لم يعتبر له تعيين النية ، بخلاف الصوم ثم نص الرواية إنما هو في من نوى وأطلق ، والقاضي وجماعة يحكون الرواية في من أطلق ، أو نوى تطوعاً .
وفي المسألة قول ثالث اختاره أبو العباس : أنه مع العلم يجب عليه تعيين النية ، وإلا يكون عاصياً لله بقصد ما لا يحل له ، ومع عدم العلم كمن لم يعلم أن غدا من رمضان ، ونوى صوماً ما مطلقاً أو مقيداً ، فتبين أنه من رمضان ، لا يجب التعيين ، بل يجزيء الإِطلاق [ ونية غير رمضان عنه ] لمكان العذر ، ونص الخرقي في شرحه ، وكذلك كلام أحمد [ في ] رواية : الإِجزاء إنما هو في مثل هذا . انتهى .
وهل يكفي نية من أول الشهر عن جميعه ؟ فيه روايتان : أشهرهما عن أحمد وأصحهما عند الأصحاب لا ، والله أعلم .
قال : ومن نوى من الليل ، فأغمي عليه قبل طلوع الفجر ، فلم يفق حتى غربت الشمس ، لم يجزه صيام ذلك اليوم .
ش : لأن الصوم الشرعي مركب من إمساك مع النية .
1300 بدليل قول النبي ( يقول الله تعالى : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام
____________________
(1/416)
فإنه لي ، وأنا أجزي به ، يدع طعامه ، وشرابه من أجلي ) متفق عليه فأضاف ترك الطعام والشراب إليه ، ومن أغمي عليه جميع النهار لم يضف إليه إمساك النية ، فلم يصح صومه ، إذ المركب ينتفي بانتفاء جزئه .
وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو أفاق قبل غروب الشمس أجزأه ، وهو صحيح ، لوجود الإِمساك في الجملة .
ودل كلامه على أن المغمى عليه يجب عليه الصوم ، ولا نزاع في ذلك ، لأن الولاية لا تثبت عليه ، فلم يزل به التكليف كالنوم ، ولهذا جاز على الأنبياء ، والله أعلم .
قال : ومن نوى صيام التطوع من النهار ولم يكن طعم أجزأه .
1301 ش : لما روت عائشة رضي الله عنها قالت : دخل على النبي ذات يوم فقال : ( هل عندكم شيء ) قلنا : لا . قال : ( فإني إذاً صائم ) مختصر رواه مسلم . وفيه دليلان ( أحدهما ) طلبه الأكل ، والظاهر أنه كان مفطراً ، وإلا يلزم إبطال العمل المطلوب إتمامه . ( والثاني ) : قوله : ( إني إذاً ) و ( إذاً ) للاستقبال ، وبهذا يتخصص قوله عليه السلام : ( من لم يبيت الصيام قبل الفجر . . . ) الحديث ، وشرط هذا أن لا يوجد مناف غير نية الإِفطار ، اقتصاراً على مقتضى الدليل ، ونظراً إلى أن الإِمساك هو المقصود الأعظم ، فلا يعفى عنه أصلًا .
وظاهر كلام الخرقي والإِمام أحمد أنه لا فرق بين [ قبل ] الزوال وبعده ، وهو اختيار ابن أبي موسى ، والقاضي في الجامع الصغير ، وأبي محمد ، لأن ما صححت النية في أوله ، صحت في آخره كالليل ، وعن أحمد : لا يجزئه بعد الزوال ، واختاره القاضي في المجرد ، وابن البنا في الخصال ، لأنه قد مضى معظم اليوم ، ومعظم الشيء في حكم كله في كثير من الأحكام ، فكذلك ها هنا .
( تنبيه ) : يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية ، على المنصوص والمختار لأبي محمد وغيره ، إذ ( ليس لامريء إلا ما نوى ) بنص الرسول وعند أبي الخطاب يحكم له بالصوم من أول النهار نظراً إلى أن الصوم لا يتبعض ، وهو ممنوع ، والله أعلم .
قال : وإذا سافر إلى ما تقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره .
ش : يجوز الفطر في السفر بنص الكتاب ، قال سبحانه : 19 ( { فمن كان منكم مريضاً ، أو على سفر فعدة من أيام أخر } ) وقال النبي : ( ليس من البر الصوم
____________________
(1/417)
في السفر ) .
ومن شرط الفطر أن يكون [ سفره ] تقصر في مثله الصلاة ، وهو ستة عشر فرسخاً فأزْيَد ، إذ ما دون ذلك في حكم المقيم لما تقدم في قصر الصلاة ، وأن يترك البيوت وراء ظهره ، أي يتجاوزها [ لأنه ما لم يتجاوزها ] فهو حاضر غير مسافر ، فيدخل تحت قوله تعالى : 19 ( { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ) والله أعلم .
قال : ومن أكل ، أو شرب ، أو احتجم ، أو استعط ، أو أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان ، أو قَبَّلَ فأمنى أمذى ، أو كرر النظر فأنزل ، أي ذلك فعل عامداً وهو ذاكر لصومه ، فعليه القضاء بلا كفارة ، إذا كان صومه واجباً ، وإن فعل ذلك ناسياً فهو على صومه ، ولا قضاء عليه .
ش : أما الفطر بالأكل والشرب فبدلالة قوله تعالى : 19 ( { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض ، من الخيط الأسود من الفجر ، ثم أتموا الصيام إلى الليل } ) أباح سبحانه الأكل إلى غاية هي تبين الخيط الأبيض ، من الخيط الأسود ثم أمر سبحانه بالإِمساك عنهما إلى الليل ، وقال النبي : ( يقول الله تعالى : كل عمل ابن آدم له ، إلا الصوم ، فإنه لي ، وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشرابه من أجلي ) فدل على أن الصوم حالته هذه ، ولا فرق بين مغذ وغيره ، لظاهر إطلاق الكتاب .
1302 وأما الفطر بالاحتجام فلما روى شداد بن أوس أن رسول الله أتى على رجل وهو بالبقيع ، وهو يحتجم ، وهو آخذ بيدي ، لثمان عشرة خلت من رمضان فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه والحاكم وصححه ، وصححه أيضاً الإِمام أحمد وإسحاق ، وابن المديني ، والدارمي وغيرهم .
1303 وعن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) رواه أحمد ، والترمذي ، وقال أحمد : إنه أصح حديث في الباب . وفي رواية : إسناده جيد .
1304 ولأحمد وأبي داود من حديث ثوبان مثله . وقال ابن المديني : إنه وحديث شداد أصح شيء في الباب . وقال الأثرم : ذكرت لأبي عبد الله حديث ثوبان وشداد بن أوس صحيحان هما عندك ؟ [ قال : نعم ] .
1305 ولأحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مثله .
1306 ولأحمد من حديث عائشة ، وأسامة بن زيد مثله .
1307 وعن الحسن عن معقل بن يسار الأشجعي ، أنه قال : مر عليَّ رسول
____________________
(1/418)
الله وأنا أحتجم في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) .
1308 وروى أحمد بسنده مثل ذلك من حديث مصعب بن سعد ، عن أبيه .
1309 ومن حديث بلال ، ومن حديث صفية ، ومن حديث أبي موسى الأشعري ، ومن حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده ذكر ذلك ابنه عبد الله في مسائله [ عنه ] فهؤلاء اثناعشر صحابياً رووا هذا الحديث ، وهذا يزيد على رتبة المستفيض ، قال الإِمام ابن خزيمة : ثبتت الأخبار عن رسول الله أنه قال : ( أفطر الحاجم والمحجوم ) . انتهى . وما يذكر من أنهما كانا يغتابان ، بعيد ، لأنهما من الصحابة ، إذ الظاهر تنزيههما عن ذلك ، وقد ذكر هذا لأحمد فقال : لو كان للغيبة ما كان لنا صوم . أي أنا لا نسلم من ذلك ، فكيف يحمل الحديث على أمر يغلب وقوعه ، ثم إن هذه الأحاديث كلها ليس فيها ذكر الغيبة ، فكيف يجوز أن يترك من الحديث ما الحكم [ منوط ] به ، ثم لو قدر وجودها في الحديث فالاعتبار بعموم اللفظ .
1310 ثم قد روى أحمد في مسائل ابنه عبد الله الإِفتاء بهذا اللفظ عن علي ، وعائشة ، وأبي هريرة ، وصفية ، وابن عمر .
1311 وعن الحسن عن عدة من أصحاب النبي ، وهذا يدل على تثبته والأخذ بعمومه عندهم .
1312 وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي احتجم وهو صائم ، واحتجم وهو محرم رواه البخاري ، وفي لفظ ( احتجم وهو محرم صائم ) رواه أبو داود والترمذي وصححه ، ( سقط : إلى آخر الصفحة )
____________________
(1/419)
( سقط : من أول الصفحة إلى فقرة رقم 1316 ) حتى لو أوصل إلى جوفه سكيناً أفطر ، لأنه أوصل إلى جوفه ما هو ممنوع من إيصاله إليه ، أشبه ما لو أوصل إليه مأكولا .
1316 وقد روي في حديث أن النبي أمر بالإِثمد عند النوم ، وقال : ( ليتقه الصائم ) رواه أبو داود وغيره .
وقول الخرقي : [ أو أدخل إلى جوفه شيئاً ] من أي موضع كان . من عطف العام على الخاص ، لاختصاص الخاص وهو الأكل والشرب ، والإِستعاط بمعنى لم يوجد في العام وهو النص .
1317 وأما الفطر بالقبلة مع الإِمناء والإِمذاء فلما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله يقبل وهو صائم ، ويباشر وهو صائم ، ولكنه أملككم
____________________
(1/420)
لإِربه . متفق عليه واللفظ لمسلم ، وفي لفظ له : يقبل في رمضان وهو صائم . وفيه إشارة إلى أن من لا يملك إربه يضره ذلك .
1318 وعن عمر رضي الله عنه قال : هششت فقبلت وأنا صائم [ فقلت : يا رسول الله صنعت اليوم أمراً عظيماً ، قبلت وأنا صائم ] قال : ( أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم ؟ ) قلت : لا بأس به . قال : ( فمه ) رواه أبو داود . شبه القبلة بالمضمضة من حيث أنها مقدمة للشهورة بالمضمضة ، والمضمضة إذا لم يكن معها نزول ماء لم يفطر ، ومع النزول يفطر ، كذلك القبلة ، إلا أن أحمد ضعف هذا الخبر ولأنه إنزال بمباشرة ، أشبه الإِنزال بالجماع .
ومفهوم كلام الخرق أن القبلة إذا خلت عن [ إنزال لم يفطر ، ولا ريب في ذلك ، لما تقدم من الحديثين ، وحكم الاستنماء باليد حكم القبلة .
وأما الفطر بتكرار النظر مع ] الإِنزال أي إنزال المني ، إذ هذا العرف في الإِنزال فلأنه عمل يمكن التحرز منه ، ويتلذذ به ، أشبه الإِنزال باللمس ، وخرج بذلك إنزال المذي ، فلا يفطر به على الصحيح ، لأنه إنزال لا عن مباشرة فلم يلتحق المذي بالمني لضعفه [ عنه ] وعن أبي بكر : يفطر . وخرج أيضاً بطريق التنبيه إذا لم ينزل .
ومفهوم كلام الخرقي : أنه لو أنزل بنظره لم يفطر ، ولا يخلو إما أن يقصد النظر أو لا ، فإن لم يقصد لم يفطر بلا ريب ، وإن قصده فكذلك ، على ظاهر كلام أبي محمد ، وأبي الخطاب وغيرهما ، وظاهر كلام أبي البركات أن في المذي في النظر وجهان فالإِمناء أولى ، وقطع القاضي بالفطر .
ومقتضى كلام الخرقي أن الفكر لا أثر له ، وهو كذلك إن غلبه ، وكذلك إن استدعاه على أصح الوجهين .
1319 لعموم قول النبي ( عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها ، ما لم تعمل أو تتكلم ) .
وشرط الإِفطار في جميع ما تقدم أن يكون عامداً أي قاصداً للفعل ، فلو لم يقصد بأن طار إلى حلقه ذباب ، أو غبار ، أو ألقي في ماء فوصل إلى جوفه ، أو صب في حلقه ، أو أنفه شيء كرهاً ، أو حجم كرهاً ، أو قبلته امرأة بغير اختياره ، ونحو ذلك لم يفطر .
1320 لما روى أبو هريرة أن النبي قال : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ،
____________________
(1/421)
ومن استقاء فعليه القضاء ) رواه الخمسة والحاكم وقال : صحيح على شرطهما ، والدارقطني وقال : رواته كلهم [ ثقات ] . نفى القضاء لسبق القيء لانتفاء الاختيار ، فيلحق به ما في معناه .
1321 ولقوله عليه السلام : ( عفي لأمتي عن الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ) ولأن من لم يقصد غافل ، والغافل غير مكلف ، وإلا يلزم تكليف ما لا يطاق .
وأن يكون ذاكراً لصومه ، فلو كان ناسياً لم يفطر في شيء مما تقدم .
1322 لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من نسي وهو صائم فأكل أو شرب ، فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه ) متفق عليه . وفيه دليلان : أحدهما أنه قال : فليتم صومه فاقتضى أن ثم صوم يتم . والثاني قوله : ( فإنما أطعمه الله وسقاه ) فأضاف الفعل إلى الرب سبحانه وتعالى ، فدل على أنه لا أثر لذلك الفعل بالنسبة [ إليه ] .
1323 مع أن الدارقطني قد روى في الحديث من طرق قيل إنه صحح بعضها ( فإنما هو رزق ساقه الله إليه ، ولا قضاء عليه ) وفي لفظ له ( ولا قضاء عليه ، لأن الله أطعمه وسقاه ) . وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب قسنا عليه ما عداه ، لأنه في معناه .
1324 مع أن الدارقطني والحاكم رويا ( من أفطر من شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة ) وصحح ذلك الحاكم ويؤيد ذلك عموم قوله عليه السلام ( عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان ) الحديث ( وعن أحمد ) رواية أخرى أن الحجامة تفطر مع النسيان ، لإِطلاق الحديث ، ولعدم استفصاله من معقل بن يسار وغيره ، وفي الاستمناء وجه ، إلحاقاً له بالجماع .
ومقتضى كلام الخرقي أن الجهل بالتحريم لا أثر له ، وهو اختيار الشيخين ، لظاهر حديث معقل بن يسار ، لأنه كان جاهلًا بالتحريم وجعله صاحب التلخيص تبعاً لأبي الخطاب كالمكره والناسي .
( تنبيه ) : النائم كالناسي ، لعدم قصده ، أما المكره بالوعيد فقال القاضي في تعليقه : ليس عن أصحابنا فيه رواية . ثم حكى [ فيه ] احتمالين ، وحكى ابن عقيل عن الأصحاب أنه كالملجأ [ لعموم الحديث قال ] : ويحتمل عندي أن يفطر ، لأنه لدفع ضرر عنه ، أشبه من شرب لدفع عطش . انتهى .
ومن حكم بفطره ممن تقدم فعليه القضاء إن كان صومه واجباً ، لأن الصوم ثابت
____________________
(1/422)
في ذمته ، فلا تبرأ إلا بأدائه ولم يؤد ، فيجب قضاؤه ، والواجب في القضاء عن كل يوم ؛ يوم ، إذ القضاء يحكي الأداء .
1325 وفي حديث المجامع في رمضان ( صم يوماً مكانه ) رواه أبو داود . ولا كفارة في شيء مما تقدم .
1326 أما في الأكل والشرب فلعموم قول النبي ( ليس في المال حق سوى الزكاة ) ولأن الأصل براءة الذمة ، فلا يثبت الشغل إلا بدليل من نص ، أو إجماع ، أو قياس ، ولم يوجد [ واحد ] منها ، والقياس على الجماع ممنوع ، لأنه أفحش ، فالحاجة إلى الزجر عنه أبلغ ، وقيل : تجب الكفارة على من أكل أو شرب عمداً كالجماع ، ( وأما ) في الاحتجام فلما تقدم ، ولأن النبي [ لم يلزمه بالكفارة و ] لو كانت واجبة لبينها ( وعنه ) إن كان عالماً بالنهي وجبت وإلا فلا ، وعلى هذه هل هي كفارة وطء أو مرضع ؟ فيه روايتان ، ( وأما ) في الإستعاط ، ومن أدخل إلى جوفه شيئاً من أي موضع كان ، فلما تقدم في الأكل والشرب . ( وأما ) في القبلة وتكرار النظر فلأنه إفطار بغير مباشرة ، أشبه الإِفطار بالأكل والشرب ، واعتماداً على الأصل ، وهذا إحدى الروايتين ، واختيار الخرقي ، وأبي بكر ، وابن أبي موسى . ( والرواية الثانية ) : تجب الكفارة ، واختارها القاضي في تعليقه ، لأنه إفطار باستمتاع ، أشبه الفطر بالجماع . وحكم الاستمناء حكم القبلة ، قاله في التلخيص ، وجزم القاضي في التعليق بعدم الكفارة فيه ، معتمداً على نص الإِمام في رواية ابن منصور ، وفرق بينه وبين ما تقدم ، بأن الاستمناء ليس بإنزال عن مباشرة ، إذ المباشرة لا تكون إلا بين شخصين .
ومفهوم كلام الخرقي في قوله : إذا كان صوماً واجباً . أن الصوم لو لم يكن واجباً لا قضاء فيه ، وهو المذهب بلا ريب ، وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى .
وقوله : وإن فعل كل ذلك ناسياً فهو على صومه ، ولا قضاء عليه . [ هو ] مفهوم ( ذاكراً ) وقد تقدم الكلام عليه .
( تنبيه ) ( الأَرب ) بفتح الهمزة والراء الحاجة ، وكذلك بكسر الهمزة وسكون الراء ، وقيل : بل العضو أي الذكر ، والله أعلم .
ش : لحديث أبي هريرة المتقدم والإِستقاء : طلب القيء ، والذرع خروجه . بغير اختياره . وظاهر كلام الخرقي : أنه لا فرق بين قليل القيء وكثيره ، وهو المذهب بلا ريب ، وعنه : لا يفطر إلا بملء الفم . وعنه : بل بملء نصفه . والله أعلم .
قال : ومن ارتد عن الإِسلام فقد أفطر .
____________________
(1/423)
ش : لأن الصوم عبادة محضة ، فنافاها الكفر كالصلاة ، مع أن أبا محمد قال : لا أعلم في هذا خلافاً والله أعلم .
قال : ومن نوى الإِفطار فقد أفطر .
ش : هذا هو المذهب المعروف المشهور ، لأنها عبادة من شرطها النية ، فبطلت بنية الخروج منها كالصلاة ، ولأنه قد خلي جزء من العبادة عن النية المشترطة لجميع العبادة ، والمركب يفوت بفوات جزئه فيبطل . وعن ابن حامد : لا يفطر ، لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها ، فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج . فعلى الأول : إذا تردد في قطعه ، أو نوى أن سيقطعها ، أو علقها على شرط [ فنوى الإِفطار ] كوجود الفداء ونحوه فوجهان ، هذا كله إذا كان الصوم فرضاً ، أما إن كان نفلًا فنوى الإِفطار فقد أفطر ، ثم الذي وجد من صومه في حكم العدم ، فإذا عاد فنوى الصوم أجزأه وإن كان بعد الزوال على الصحيح ، والله أعلم .
قال : ومن جامع في الفرج ، فأنزل أو لم ينزل ، أو دون الفرج فأنزل ، عامداً أو ساهياً ، فعليه القضاء والكفارة ، إذا كان في شهر رمضان .
1327 ش : الأصل في الجماع في رمضان ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي فقال : هلكت يا رسول الله . قال : ( وما أهلكك ) ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان . قال : ( هل تجد ما تعتق رقبة ؟ ) قال : لا . قال : ( فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : ( فهل تجد ما تطعم ستين مسكيناً ؟ ) قال : لا . ثم جلس فأتي النبي بعرق فيه تمر ، فقال : ( تصدق بهذا ( فقال : على أفقر منا ؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا . فضحك النبي حتى بدت نواجذه ثم قال : ( اذهب فأطعمه أهلك ) رواه الجماعة ، وفي لفظ لابن ماجه وأبي داود ( وصم يوماً مكانه ) قال بعض الحفاظ : روي الأمر بالقضاء من غير وجه .
إذا تقرر هذا فمتى جامع في نهار في رمضان في الفرج عامداً فقد فسد صومه ، وعليه القضاء والكفارة [ نظراً ] لهذدا الحديث ، إذ هو العمدة في الباب ، ولا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل ، لعدم الاستفصال في الحديث ، ولا بين كون الفرج قبلًا أو دبراً ، من آدمي أو بهيمة ، على المذهب المختار للقاضي ، والشريف ، وأبي الخطاب ، والشيرازي ، وأبي البركات وغيرهم ، وقيل عنه : لا تجب الكفارة بوطء البهيمة . ومبنى الروايتين عند الشريف ، وأبي الخطاب [ على ] وجوب [ الحد ] بوطئها وعدمه ، ولا بين كون الموطوءة زوجته أو أجنبية .
وإن جامع دون الفرج ب [ فأنزل ] عامداً فكذلك ، عليه القضاء والكفارة ، على المشهور
____________________
(1/424)
من الروايتين ، حتى أن القاضي لم يذكر في التعليق غيرها ، وخص الروايتين بالقبلة واللمس ، وكذلك الخرقي ، وابن أبي موسى ، وأبو بكر ، قالوا هنا بالكفارة ، مع قولهم ثم بعدمها ، وذلك لأنها مباشرة اقترن بها الإِنزال ، أشبهت المباشرة في الفرج ، ولشمول : وقعت لها مع عدم الإِنزال ضعفت المباشرة ، فصارت بمنزلة اللمس ونحوه .
واختلف في وطء الساهي ، هل حكمه حكم وطء العامد فيما تقدم ؟ فعنه وهو المشهور عنه ، والمختار لعامة أصحابه [ الخرقي ] والقاضي وغيرهما : نعم يجب القضاء والكفارة ، لما تقدم من حديث الأعرابي ، فإن النبي لم يستفصله بين أن يكون ناسياً أو عامداً ، ولو اختلف الحكم لاستفصله وبينه [ له ، ] بذلك استدل أحمد رحمه الله ، وما يورد من قول الأعرابي : هلكت . يحتمل أنه قال ذلك لعلمه أن النسيان هنا لا يؤثر ] . ( وعن أحمد ) رواية أخرى : يجب القضاء ولا تجب الكفارة . نص عليها في رواية أبي طالب ، واختارها ابن بطة ، ولعله مبني على أن الكفارة ماحية ، ومع النسيان لا إثم يمحى . ونقل أحمد بن القاسم عن الإِمام أحمد : كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره . فأخذ من هذا أبو الخطاب [ ومن تبعه ] رواية بانتفاء القضاء والكفارة والحال ما تقدم ، وهو ظاهر قول النبي : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان . . ) الحديث ، وقياسه الأكل [ ناسياً ] ونحوه ، وليست هذه الرواية عند القاضي ، بل قال في تعليقه : يجب القضاء رواية واحدة . وكذلك قال الشيرازي ، وهو مقتضى قول الشريف ، وأبي الخطاب ، وابن الزاغوني ، وأبي البركات [ لجزمهم بذلك ، ونقل أبو داود عن أحمد رحمه الله التوقف .
وحكم المخطئ كمن جامع يظن ] أن الفجر لم يطلع وقد طلع أو أن الشمس قد غربت ولم تغرب حكم الناسي عند أبي البركات ، وجزم أبو محمد بوجوب القضاء والكفارة [ عليه ] ، وكذلك نص أحمد في رواية حنبل وعبد الله ، وكلام القاضي في التعليق محتمل . وكذلك حكم المكره حكم الناسي عند أبي الخطاب ، والشيخين في مختصريهما وعن القاضي الجزم بوجوب الكفارة به ] بناء عنده على أن الإِكراه على الوطء لا يتصور . واستثنى ابن عقيل الملجأ الذي غلبته نفسه فلم يجعل عليه قضاء ولا كفارة ، والظاهر أن رواية ابن القاسم المتقدمة [ تدل ] على ذلك ، وقال أبو محمد : ظاهر كلام أحمد [ وجوب القضاء ] لقوله في المرأة إذا غصبها رجل فجامعها : عليها [ القضاء ] .
فالرجل أولى ، وكذلك جزم القاضي في تعليقه فقال : إذا جامع امرأة مكرهة أو نائمة فعليها القضاء واستشهد بنص أحمد . وحكم النائم الملجأ عند ابن عقيل : لا قضاء عليه ولا كفارة ، والقاضي يجعل عليه القضاء .
____________________
(1/425)
وقول الخرقي فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان . الشرط راجع إلى الكفارة فقط فلا تجب الكفارة بالجماع في غير رمضان ، اتباعاً [ للنص ] ويعضده أن الأصل براءة الذمة ، أما [ القضاء ] فهو في كل صوم واجب .
( تنبيه ) : العرق بفتح [ العين و ] الراء مكتل ، والله أعلم .
قال : والكفارة عتق رقبة ، فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً [ لكل مسكين مدبر أو نصف صاع من تمر أو شعير ] .
ش : لحديث أبي هريرة المتقدم ، فإنه نص فيه على الثلاثة ، وهو ظاهر في الترتيب .
وأنص منه ما روى ابن ماجه في الحديث أنه قال : ( أعتق رقبة ) قال : لا أجدها . قال : ( صم شهرين متتابعين ) . قال : لا أطيق . قال : ( أطعم ستين مسكيناً ) . أمره بالعتق وظاهر الأمر الوجوب ، ولم ينقله عنه إلا عند العجز ، وهذا هو المذهب والمختار من الروايتين بلا ريب .
( وعنه ) [ رواية أخرى : أن ] الكفارة على التخيير فيخير بين الثلاثة ، لأنه قد ورد بلفظ [ أو ] [ في بعض الروايات ] .
1328 وقال أحمد : حدثنا روح ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة أن رجلًا أفطر في رمضان ، فأمره رسول الله : بعتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكيناً . [ وذكر الحديث ] رواه مسلم .
والأصح والأشهر في الرواية ما تقدم ، ثم هو لفظ الرسول ، والثاني لفظ الراوي ، لكن [ قد يقال ] : ليس في الرواية الصحيحة دلالة على الترتيب ، وتقديم العتق يحتمل [ أن يكون ] لشرفه ، ورواية ابن ماجه الأمر فيها يحتمل أنه للإِرشاد ، لتتوافق الروايات ، إذ القصة واحدة ، والأصل عدم خطأ الراوي بالمعنى ، وصفة الرقبة تذكر إن شاء الله تعالى في الظهار ، ( وصوم الشهرين ) يكون متتابعاً لنص الحديث ، ( وصفة الإِطعام ) لكل مسكين مدبر ، أو نصف صاع [ من ] تمر أو شعير ، إذ حكم الإِطعام هنا حكم الإِطعام في كفارة الظهار ، حملا للمطلق على المقيد ، والواجب في كفارة الظهار كذلك .
1329 بدليل ما روي عن أبي سلمة ، عن سلمة بن صخر رضي الله عنه أن النبي أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعاً فقال : ( أطعمه ستين مسكيناً ، وذلك لكل مسكين مد بر ) رواه الدارقطني ، وللترمذي معناه .
____________________
(1/426)
1330 وفي حديث خويلة بنت مالك قالت : ظاهر مني أوس بن الصامت ، فجئت رسول الله أشكو إليه ، ورسول الله يجادلني فيه ، ويقول : ( اتقى الله ، فإه ابن عمك ) فما برح حتى نزل القرآن 19 ( { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } ) إلى الفرضد فقال : ( يعتق رقبة ) فقلت : لا يجد . قال : ( فيصوم شهرين متتابعين ) قلت : يا رسول الله إنه شيخ كبير ، ما به من صيام . قال : ( فليطعم ستين مسكيناً ) قلت : ما عنده من شيء يتصدق به . قال : ( فإني سأعينه بعرق من تمر ) قلت : يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر . قال : ( قد أحسنت ، فاذهبي فأطعمي عنه ستين مسكيناً ، وارجعي إلى ابن عمك ) والعرق ستون صاعاً ، رواه أبو داود وفي رواية : والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعاً . وقال : هذا أصح .
1331 وروى أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد المدني ، قال : جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ، فقال رسول الله للمظاهر ( أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر ) . وبهذا الحديث يحصل الجمع بين الأحاديث ، وبين أن الواجب من التمر والشعير نصف صاع ، ومن البر مد .
واقتصر الخرقي رحمه الله على ذكر التمر والبر والشعير ، لورود النص بها ، وإلا فالواجب في الكفارة ما يجزيء في الفطرة ، وفي الخبز ، وقوت البلد خلاف ، يأتي إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع ، والله أعلم .
قال : وإذا جامع فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة .
ش : إذا جامع في يوم في رمضان ، ثم لم يكفر حتى جامع في ذلك اليوم ثانياً ، فكفارة واحدة بلا نزاع ، لأن الكفارات زواجر ، بمنزلة الحدود ، فتتداخل كالحدود ، وإن جامع في يوم ثم لم يكفر حتى جامع في يوم آخر فوجهان : ( أحدهما ) وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر في التنبيه ، وابن أبي موسى لا يجب إلا كفارة واحدة ، كما لو كانا في يوم ، وقياساً على الحدود ، ولأن حرمة الشهر كله حرمة واحدة ، فهو كاليوم الواحد ، ولهذا أجزأ بنية واحدة على رواية . ( والثاني ) : يجب عليه كفارتان ، أو كفارات بعدد الأيام ، اختاره ابن حامد ، والقاضي في خلافه ، وفي جامعه ، وروايتيه ، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما ، وصاحب التلخيص ، لأنهما يومان لو انفرد كل منهما بالفساد تعلقت به الكفارة ، فإذا عمهما الفساد وجب أن يتعلق بكل منهما كفارة ، كاليومين من رمضانين ، ولأن كل يوم بمنزلة عبادة منفردة ، بدليل أن فساد بعضها لا يسري إلى بقيتها ، واحتياج كل يوم إلى نية على المذهب ، والله أعلم .
قال : وإن كفّر ثم جامع فكفارة ثانية .
ش : نص أحمد رحمه الله على هذا في رواية حنبل والميموني ، لأنه وطء محرم
____________________
(1/427)
لحرمة رمضان ، فوجب أن تتعلق به الكفارة كالوطء الأول ، أو عبادة يجب بالجماع فيها كفارة ، فجاز أن تتكرر الكفارة مع الفساد ، دليله الحج ، والله أعلم .
قال : وإن أكل وظن أن الفجر لم يطلع ، وقد كان طلع ، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء .
ش : لأنه أكل مختاراً ذاكراً ، أشبه ما لو أكل يوم الشك فتبين أنه من رمضان ، ولأنه كان يمكنه التحرز ، أشبه العامد .
1332 وقد روي عن هشام بن عروة ، عن فاطمة امرأته ، عن أسماء ، قالت : أفطرنا على عهد رسول الله في يوم [ غيم ] ثم طلعت الشمس . قيل لهشام : أمروا بالقضاء ؟ قال : لا بد من القضاء . أخرجه البخاري . أما إن أكل ظاناً أن الفجر لم يطلع ، وأن الشمس قد غربت ، ولم يتبين له شيء ، فلا قضاء عليه ، ولو تردد بعد ، قاله أبو محمد ، إذا لم يوجد يقين أزال ذلك الظن ، فالأصل بقاؤه وأوجب عليه صاحب التلخيص القضاء في ظن الغروب ، إذ الأصل بقاء النهار ، ومن هنا قال : يجوز الأكل بالاجتهاد [ في أول اليوم فلا يجوز في آخره إلا بيقين . وأبو محمد يجوز الأكل بالاجتهاد ] فيهما . واتفقوا على وجوب القضاء فيما إذا أكل شاكاً في غروب الشمس ، لا في طلوع الفجر ، نظراً للأصل فيهما ، والله أعلم .
قال : ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر ، وهو على صومه .
ش : قد دل على ذلك إشارة النص في قوله تعالى : 19 ( { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ) الآية وهو يشمل جميع الليلة ومن ضرورة حل الرفث في جميع الليلة أن يصبح جنباً صائماً ، وقد شهدت السنة [ لذلك ] .
1323 فعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال : يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ؟ فقال رسول الله : ( وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ) فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر . فقال : ( والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى وأعلمكم بما أتقى ) . رواه أحمد ومسلم ، وأبو داود .
1334 وفي الصحيحين عن أم سلمة قالت : كان رسول الله يصبح جنباً من جماع لا حلم [ ثم ] لا يفطر ولا يقضي .
1335 وحديث أبي هريرة ( من أصبح جنباً فلا صوم له ) قال الخطابي أحسن
____________________
(1/428)
ما سمعت فيه أنه منسوخ . والله أعلم .
قال : وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها قبل الفجر ، فهي صائمة إذا نوت الصوم قبل طلوع الفجر ، وتغتسل إذا أصبحت .
ش : لأنه حدث يوجب الغسل ، أشبه الجنابة ويشترط لصحة صومها انقطاع الحيض من الليل ، وإلا لو انقطع في أول جزء من اليوم أفسده ، ونية الصوم قبل طلوع الفجر ، لما تقدم من وجوب النية من الليل في الفرض ، والله أعلم .
قال : والحامل إذا خافت على جنينها ، والمرضع على ولدها ، أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكيناً .
ش : أما إفطارهما فأمر مطلوب ، بحيث يكره تركه ، لأن خوفهما على ولديهما خوف على آدمي ، أشبه خوفهما على أنفسهما ، ولو خافتا على أنفسهما أفطرتا ، لأنهما بمنزلة المريض [ فكذلك إذا خافتا على ولديهما .
وأما القضاء فلما تقدم من أنهما بمنزلة المريض ] والمريض عليه القضاء بنص الكتاب ، قال سبحانه : 19 ( { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر } ) فكذلك هما .
وأما وجوب إطعامهما عن كل يوم مسكيناً فلقوله تعالى : 19 ( { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ) أي إذا أفطروا والحامل والمرضع يطيقان الصوم ، فدخلا في الآية الكريمة ، ولا يقال :
1336 هذه الآية منسوخة بما بعدها من قوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } كذا في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنهما .
1337 لأنا نقول : قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أثبتت للحبلى والمرضع . وعنه : 19 ( { وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } ) قال : كانت رخصة للشيخ الكبيرة ، والمرأة الكبيرة ، وهما يطيقان الصيام ، أن يفطروا ويطعما مكان كل يوم مسكيناً ، والحبلى والمرضع إذا خافتا . رواه أبو داود ، وقال : إذا خافتا يعني على أولادهما . فظاهر قوله الأول نسخ الحكم في حق غير الحامل والمرضع ، وبقاء الحكم فيهما . وظاهر قوله الثاني أن الآية [ الكريمة ] محكمة غير منسوخة ، وأنها إنما أريد بها هؤلاء من باب إطلاق العام وإرادة الخاص ، وهذا أولى من إدعاء النسخ ، فإنه خلاف الأصل ، فالواجب عدمه أو تقليله ما أمكن وما يقال من أن قوله : بعد 19 ( { وأن تصوموا خير لكم } ) ينافي الحمل على ما تقدم ، إذ الصوم ليس بخير لها ولا يجاب عنه بأن تخصيص آخر الآية لا يدل على تخصيص أولها على الصحيح ، كما في قوله تعالى : 19 ( { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك } ) بعد 19 ( { والمطلقات يتربصن } ) ونحوه . بقي أن يقال : فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنه لا يجب إلا الفدية فقط ، فإيجاب القضاء
____________________
(1/429)
يخالف ظاهر الآية ؟ فيقال : القضاء من دليل آخر ، وهو القياس على المريض .
وقول الخرقي : والمرضع . يشمل الأم وغيرها [ وهو كذلك ] وإطعام المسكين مد بر ، أو نصف صاع تمر أو شعير على ما تقدم .
ولو كان خوف الحامل أو المرضع على نفسها لم يجب إلا القضاء فقط ، على ظاهر كلام الخرقي ، وقول العامة ، لتحقق شبهها بالمريض ، بل هي فرد من أفراده ، وظاهر كلام أحمد بل نصه : وجوب القضاء والفدية . قال في رواية الميموني : الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما يفطران ، ويطعمان ، ويصومغان إذا أطاقتا . وقال في رواية صالح : [ تخاف على نفسها ] تفطر وتقضي وتطعم وهذا ظاهر [ إطلاق ] ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وحمل القاضي كلام أحمد على أنها خافت على ولدها أيضاً مع خوفها على نفسها [ وهو ] بعيد من اللفظ . والله أعلم .
قال : وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر ، وأطعم عن كل يوم مسكيناً .
ش : نص على هذا أحمد في رواية الميموني وحرب ، وذلك لما تقدم من الآية الكريمة ، وقول ابن عباس في تفسيرها ، ولأنه صوم واجب ، فجاز أن ينوب عنه المال ، كالصوم في كفارة الظهار والجماع ، وفي معنى العجز عن الصوم لكبر العجز عنه لمرض لا يرجى برؤه ، وقد ذكر ذلك الخرقي في أول الحج ، والله أعلم .
قال : وإذا حاضت المرأة [ أو نفست ] أفطرت وقضت وإن صامت لم يجزئها .
ش : هذا إجماع و ( الحمد لله رب العالمين ) .
1338 وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : كنا نحيض فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة .
1339 وفي البخاري : قال النبي : ( أليست إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم ، فذلك من نقصان دينها ) وهذا أخبار عن شأنها الشرعية وحالها ، ودم النفاس هو دم حيض في الحقيقة ، فحكمه حكمه ، وتأثم بالفعل لارتكابها المنهي عنه ، والله أعلم .
قال : فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها عن كل يوم مسكين .
ش : القضاء واجب على الحائض والنفساء بالإِجماع ، وقد شهد له حديث عائشة ، ثم لا يخلو [ إما ] أن يمكنها القضاء أو لا ، فإن لم يمكنها لمرض أو سفر ، أو ضيق وقت ، ونحو ذلك ، حتى ماتت فلا فدية عليها ولا مضى عليها أحوال ، في ظاهر كلام الخرقي ، وهو الصحيح المعروف من الروايتين ، لأنه حق الله تعالى ، وجب
____________________
(1/430)
بالشرع ، مات من وجب عليه قبل إمكان فعله ، فسقط إلى غير بدل كالحج . ( والرواية الثانية ) : تجب الفدية ، لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه ، فوجب الإِطعام عنه ، كالشيخ العاجز عن الصيام .
وإن أمكنها القضاء فلم تقضى حتى ماتت فلا يخلو إما أن يكون قبل أن يدركها رمضان آخر ، أو بعد أن أدركها رمضان آخر ، فإن كان قبل أن أدركها رمضان آخر وجب أن يطعم عنها من تركتها لكل يوم مسكين .
1340 لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال : ( من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه [ مكان ] كل يوم مسكين ) رواه الترمذي [ وقال ] : الصحيح أنه عن ابن عمر موقوف .
1341 وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء ، وإن نذر قضى عنه وليه . رواه أبو داود .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز أن يصام [ عنه ] والحال ما تقدم ، لما تقدم ، ولأنه نوع عبادة لا تصح النيابة عنه في حال الحياة عند العجز عنه ، فلا تصح النيابة عنه بعد الموت كالصلاة .
1342 وقول النبي ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ) محمول على النذر جمعا بين الأدلة ويؤيده أن عائشة رضي الله عنها هي راوية الحديث .
1343 وقد روي عنها أنها قالت : يطعم في قضاء رمضان ولا يصام . رواه الأثرم في سننه والظاهر من حالها فهم التخصيص ، وهو أولى من ذهولها عما روت .
وإن ماتت بعد أن أدركها رمضان آخر فوجهان ، وقيل : روايتان : ( إحداهما ) وهو ظاهر إطلاق أحمد في رواية المروذي والخرقي ، والقاضي ، والشيرازي . وغيرهم : يطعم عنه لكل يوم مسكين [ إذ بذلك يزول التفريط بالتأخير ، فيصير كما لو مات من غير تفريط . ( والثاني ) : يطعم عنه لكل يوم مسكينان ] جزم به أبو الخطاب في الهداية وصاحب التلخيص ، وأبو البركات ، لأن الموت مع التفريط بدون التأخير عن رمضان آخر يوجب كفارة ، والتأخير بدون الموت يوجب كفارة ، فإذا اجتمعا وجب أن يجب كفارتان ، والله أعلم .
قال : ولو لم تمت المفرطة حتى أظلها [ شهر ] رمضان آخر صامته ثم قضت ما كان عليها ، وأطعمت عن كل يوم مسكيناً .
____________________
(1/431)
ش : قد تقدم [ له ] حكم التفريط مع الموت ، بقي حكم التفريط مع الحياة ، فقال : إنه إذا أظلها [ مع التفريط ] شهر رمضان آخر ، فإنها تصومه ، لما تقدم من أن زمنه متعين له ، لا يمكن أن يقع فيه غيره ، ثم تقضي ما كان عليها نذراً كالواجب ، ثم تطعم لكل يوم مسكيناً ، نص على ذلك .
1344 معتمداً على قول الصحابة [ منهم ] ابن عمر وابن عباس ، وأبو هريرة رضي الله عنهم ، وقد روى ذلك عنهم الدارقطني بسنده .
1345 ورواه مرفوعاً إلى النبي من حديث أبي هريرة ، لكن فيه ضعف وكلام الخرقي يقتضي أنه لا يجب أكثر من إطعام مسكين وإن حصل التأخير رمضانات ، وأشعر كلامه بأنها لو أخرت مفرطة ثم فعلت قبل أن يدخل [ عليها ] رمضان فلا شيء عليها ، لأنها قد فعلت الواجب في وقته ، أشبه ما لو لم تؤخره ، وهذا يتضمن أن وقت أداء قضاء رمضان جميع السنة .
1346 وذلك لقول عائشة رضي الله عنها : كان يكون على الصيام من رمضان ، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان ، وذلك لمكان رسول الله . [ رواه الجماعة ] وفي الدلالة منه نظر لتصريحها بالعذر ، والله أعلم .
قال : وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة إذا فرطا في القضاء .
ش : يعني ما تقدم في الحائض والنفساء من أنهما إذا فرطا وماتا وجب الإِطعام عنهما لكل يوم مسكيناً ، ومن أنهما إذا أخرتا مفرطتين حتى أظلهما رمضان أنهما يقضيان ويطعمان يجري مثله في المريض والمسافر ، لاشتراك الكل في المعنى المتقي للاشتراك في الحكم .
وقوله : إذا فرط في القضاء . لأنهما إذا لم يفرطا فلا شيء عليهما مع الموت ، ومع الحياة يلزمها الفعل ليس إلا ، والله أعلم .
قال : وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه .
ش : للمريض أن يفطر في الجملة بالإِجماع ، وقد شهد له قوله تعالى : 19 ( { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة } ) أي : فأفطر فعليه عدة ، أو فالواجب عدة ، ومن قرأ ( عدة ) بالنصب فالتقدير : فليصم عدة ، ومن شرط جواز الفطر عندنا التضرر بالصوم ، بأن يزيد بالصوم مرضه أو يتباطأ [ برؤه ] ونحو ذلك ، لأن ذلك وقع رخصة لنا ، ودفعا للحرج [ والمشقة ] عنا ، ولذلك قرنه بالسفر ، فإذا لم يوجد الضرر فلا معنى للفطر ، والله أعلم .
قال : فإن تحمل وصام كره له ذلك وأجزأه .
____________________
(1/432)
ش : إذا تحمل من جاز له الفطر بالمرض وصام كره له ذلك ، لإِضراره بنفسه ، وتركه تخفيف الله تعالى ، ورخصته المطلوب إتيانها .
1347 قال النبي : ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته ) ولأن بعض العلماء لا يصحح صومه ، ويمنع [ من ] التقدير في الآية . انتهى ، فإن فعل أجزأه لإِتيانه بالأصل الذي هو العزيمة ، وصار هذا بمنزلة من أبيح له ترك القيام في الصلاة فتكلف وقام ، والله أعلم .
قال : وكذلك المسافر .
ش : أي حكم المسافر المتقدم في أول الباب الذي يجوز له الفطر حكم المريض في أن الفطر أولى له ، وأنه إن صام أجزأه لما تقدم .
1348 وفي الصحيحين أن النبي قال : ( ليس من البر الصوم في السفر ) .
1349 وقال : ( عليكم برخصة الله التي رخص لكم ) .
1350 وقال النبي لحمزة بن عمرو الأسلمي وكان كثير الصوم ، وقد سأله عن الصوم في السفر فقال : ( إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر ) فهذا لبيان الجواز ، وتلك للأفضلية ، والله أعلم .
قال : وقضاء شهر رمضان متفرقاً يجزيء .
ش : لإِطرق قوله تعالى : 19 ( { ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } ) وبذلك استدل ابن عباس رضي الله عنهما .
1351 قال البخاري : قال ابن عباس : لا بأس أن يفرق ، لقوله تعالى : 19 ( { فعدة من أيام أخر } ) .
1352 وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : ( قضاء رمضان إن شاء فرق ، وإن شاء تابع ) رواه الدراقطني .
1353 وعن محمد بن المنكدر قال : بلغني أن رسول الله سئل عن تقطيع قضاء رمضان ، فقال ( ذاك إليك ، أرأيت لو كان على أحد دين فقضى الدرهم والدرهمين ، ألم يكن قضاء ؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر ) رواه الدارقطني وحسن إسناده وهو مرسل .
1354 وما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : نزلت 19 ( { فعدة من أيام أخ
____________________
(1/433)
متتابعات } ) فسقطت متتابعات . رواه الدارقطني إن صح فهو محمول على أنه سقط حكمها بالنسخ ، لا أنه ضاع لقوله تعالى : 9 ( { إنا نحن الذكر وإنا له لحافظون } ) والله أعلم .
قال : والمتتابع أحسن .
ش : إذ القضاء يحكي الأداء ، وخروجاً من خلاف العلماء ، والله أعلم .
قال : ومن دخل في صيام تطوع فخرج منه فلا قضاء عليه .
ش : من دخل في صوم تطوع جاز له الخروج منه وإن لم يكن له عذر ، ولا قضاء عليه على المذهب المنصوص المعروف .
1355 لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل على النبي ذات يوم فقال : ( هل عندكم شيء ؟ ) فقلنا : لا . فقال : ( إني إذا صائم ) ثم أتانا يوماً آخر ، فقلنا : يا رسول الله قد أهدي لنا حيس . فقال : ( أرينيه فلقد أصبحت صائماً ) فأكل . وفي لفظ : قال طلحة هو ابن يحيى فحدثت مجاهداً بهذا الحديث فقال : ذاك يمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله ، فإن شاء أمضاها ، وإن شاء أمسكها . رواه مسلم .
1356 وعن أم هانئ أن رسول الله دخل عليها بشراب فشرب ، ثم ناولها فشربت ، وقالت : يا رسول الله أما إني كنت صائمة ، فقال رسول الله : ( الصائم المتطوع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ) [ رواه أحمد والترمذي ] . وفي رواية قالت : إني صائمة ، ولكني كرهت أن أرد سؤرك . فقال : ( يعني إن كان قضاء رمضان فاقضي يوماً مكانه ، وإن كان تطوعاً فإن شئت فاقضي ، وإن شئت فلا تقضي ) رواه أحمد ، وأبو داود بمعناه . وهذا نص .
ونقل حنبل عن أحمد : إذا أجمع على الصيام من الليل ، فأوجبه على نفسه ، فأفطر من غير عذر ، أعاد يوماً مكانه . فظاهر إطلاق هذا وجوب القضاء على من خرج من صوم التطوع لغير عذر .
1357 وذلك لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : أهدي لحفصة طعام ، وكنا صائمتين فأفطرنا ، ثم دخل رسول الله فقلنا : يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية واشتهيناها فأفطرنا . فقال رسول الله : ( لا عليكما ، صوماً مكانه يوماً آخر ) رواه أبو داود . ومنع القاضي وغيره رواية حنبل ، وحملوها على النذر ، توفيقاً بي
____________________
(1/434)
نصوصه ، وأما الحديث فقد أنكره أحمد في رواية الأثرم ، وقال أبو داود : لا يثبت . وقال الترمذي : فيه مقال ، ثم هو محمول على الندب جمعا بين الأدلة ، وبقرينة ( لا عليكما ) أي لا بأس أو لا حرج ، ومن لا بأس عليه لا قضاء عليه حتماً .
( تنبيه ) : ( الحيس ) تمر وأقط وسمن يطبخ ، والله أعلم .
قال : وإن قضاه فحسن .
ش : لا يجب عليه قضاء صوم التطوع إذا أفسده ، وإن قضاه فحسن . لما تقدم من حديث عائشة ، وللخروج من الخلاف .
( تنبيه ) : وحكم سائر التطوعات حكم الصوم فيما تقدم ، عدا الحج والعمرة ، فإنهما يلزمان بالشروع ، وعنه أنه قال : الصلا أشد ، فلا يقطعها ، يعني من الصوم . قيل له : فإن قطعها قضاها ؟ قال : إن قضاها فليس فيه اختلاف ؛ فمال الجوزجاني [ من هذا ] إلى أنها تلزم بالشروع ، لأنها ذات إحلال وإحرام ، فأشبهت الحج ، وعامة الأصحاب على خلافه ، وكلام أحمد لا دلالة فيه على وجوب القضاء ، بل [ على ] تأكد استحبابه ، والله أعلم .
قال : وإذا كان للغلام عشر سنين وأطاق الصوم أخذ به .
ش : أي ألزم به ، ليتمرن على ذلك ويعتاده ، كما يؤمر بالصلاة إذا بلغ عشراً ، ثم هل هذا الأخذ على سبيل الوجوب عليه أم لا ؟ فيه روايتان . ( إحداهما ( نعم ) .
1358 لما روي عن النبي أنه قال : ( إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام رمضان ) ( والثالثة ) : وهي المذهب لا . لرفع القلم عنه كما في الحديث ، ثم الخرقي قيده بعشر سنين . وغيره ينيطه بالتمييز مع الإِطاقة ، والله أعلم .
قال : وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبل من بقية الشهر .
ش : لا نزاع في ذلك ، لصيرورته أهلًا لأداء العبادة الواجبة على كل مكلف .
وقد روى ابن ماجه عن سفيان بن عبد الله بن ربيعة رضي الله عنهما قال : حدثنا وفدنا الذين قدموا على رسول الله بإسلام ثقيف قال : وقدموا عليه في رمضان ، وضرب عليهم قبة في المسجد ، فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر .
ومقتضى كلامه أنه لا يجب عليه قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه ، ولا نزاع في ذلك أيضاً عندنا ، إذ الإِسلام يجب ما قبله ، وكرمضان الماضي ، واختلف عن أحمد في اليوم الذي أسلم فيه هل يلزمه إمساكه وقضاؤه ؟ فيه روايتان ( إحداهما ) وهي المنصوصة عن الإِمام و [ المذهب ] عند القاضي وغيره يلزمانه ، لإِدراكه جزءاً من [ وقت ] العبادة ، أشبه من أدرك ركعةً من وقت الصلاة .
1360 وفي الصحيحين أن النبي قال في يوم عاشوراء : ( من كان أصبح
____________________
(1/435)
صائماً فليتم صومه ، ومن كان أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ) .
1361 وفي أبي داود عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه رضي الله عنهما أن أسلم أتت النبي فقال : ( صممتم يومكم هذا ؟ ) قالوا : لا . قال : ( فأتموا يومكم واقضوا ) وهذا صريح في وجوب الإِتمام والقضاء .
( والثانية ) : لا يجبان ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، لعدم تمكنه من [ التلبس ] بالعبادة أشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم ، وحكى أبو العباس رواية ثالثة فيما أظن واختارها : يجب الإِمساك ولا يجب القضاء ، نظراً إلى أن الحديث الصحيح إنما فيه الأمر بذلك ، والله أعلم .
قال : ومن رأى هلال رمضان وحده صام .
ش : هذه إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله قال : أعجب إليّ أن يصوم وهو المذهب [ عند الأصحاب ] لظاهر قوله تعالى : 19 ( { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } ) وقول النبي : ( صوموا لرؤيته ) وهذا قد رآه ، ولأنه قد تيقنه من رمضان ، فلزمه صومه كاليوم الذي بعده . ( والرواية الثانية ) وهي أنصهما لا يصوم إلا في جماعة الناس ، لظاهر قول النبي : ( فإن شهد ذوا عدل فصوموا ) فعلق الرؤية على ذوي عدل ، ولأنه يوم محكوم به من شعبان ، أشبه الذي قبله ، والله أعلم .
قال : فإن كان عدلًا صوم الناس بقوله .
ش : إذا كان الرائي عدلًا صوم الإِمام أو نائبه الناس بقوله ، هذا هو المذهب المنصوص ، المختار للأصحاب .
1362 لما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء أعرابي إلى النبي فقال : إني رأيت الهلال . قال بعض الرواة : يعني رمضان . فقال : ( أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ ) قال : نعم . قال : ( أتشهد أني رسول الله ؟ ) قال : نعم . قال : يا بلال أذن في الناس أن يصوموا ) رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه ، وروي عن عكرمة مرسلًا .
1363 وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله أني رأيته ، فصام وأمر الناس بصيامه رواه أحمد وأبو داود . وهذا ظاهر في أنه رتب صومه وصوم الناس على إخباره ، ولأنه خبر يلزم به عبادة يستوي فيه المخبر والمخبر ، لا يتعلق به حق آدمي ، فقبل منه [ قول ] واحد ، كالإِخبار عن
____________________
(1/436)
النبي ، ولا يلزمه هلال شوال ، لأنه يتعلق به حق آدمي وهو الإِفطار ، ولا الشهادة في سائر الحقوق ، لعدم استواء المخبر فيهما وعدم لزوم العبادة [ فيها ] ( وعن أحمد ) ما يدل [ على ] أنه لا يقبل فيه إلا قول اثنين كبقية الشهود .
1364 لما روي عن أمير مكة الحارث بن حاطب رضي الله عنهما قال : عهد إلينا رسول الله أن ننسك للرؤية ، فإن لم نره وشهد شاهدان عدلان نسكنا لشهادتهما ، رواه أبو داود والدارقطني ، وقال : هذا إسناد متصل صحيح . وأجيب بأنا نقول بمنطوقه ، ومفهومه قد عارضه منطوق ما تقدم ، ولا ريب أن المنطوق يقدم على المفهوم . وتوسط أبو بكر فقال : إن كان الواحد بين جماعة الناس ، وتفرد بالرؤية لم يقبل ، لأنهم يعاينون ما عاين ، فالظاهر خطؤه ، وإن كان منفرداً قبل كالأعرابي الجائي من الحرة ، لما شهد عند النبي ، ورد بحديث ابن عمر المتقدم .
( تنبيه ) : [ هذا ] الخلاف السابق مبني على أن هذا هل يجري مجرى الإِخبار أو مجرى الشهادة ؟ والمذهب إجراؤه مجرى الإِخبار ، وعليه فلو أخبره من يثق بقوله قبل قوله ، وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم ، وتقبل فيه المرأة ، وعلى الثاني لا تقبل ، والله أعلم .
قال : ولا يفطر إلا بشهادة عدلين .
ش : حكم هلال شوال حكم بقية الشهور لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين .
1365 لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال : إني جالست أصحاب النبي [ وسألتهم ، وإنهم حدثوني أن رسول الله ] قال : ( صوموا لرؤيته ، وأفطروا [ لرؤيته ، وأنسكوا ، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين ، وإن شهد شاهدان ذو عدل فصوموا وأفطروا ) ] رواه النسائي .
1366 وعن ابن عمر عن النبي : ( أنه أجاز رجل واحد على رؤية الهلال ، وكان لا يجيز على شهادة الإِفطار إلا [ شهادة ] رجلين ) وفارق هلال رمضان ، لما فيه من الاحتياط للعبادة .
وظاهر قول الخرقي أن شرطهما أن يكونا رجلين وهو كذلك إذ هذا ليس بمال ، ولا يقد به المال ، ويطلع عليه الرجال . وقوله : بشهادة [ اثنين ] . يحتمل عند الحاكم ، ويحتمل مطلقاً ، وبه قطع أبو محمد ، فجوز الفطر بقول عدلين لمن يعرف حالهما ، ولو ردهما الحاكم لجهله بهما ، قال : ولكل واحد من العدلين [ أيضاً ] الفطر ، والله أعلم .
قال : ولا يفطر إذا رآه وحده .
____________________
(1/437)
ش : هذا منصوص أحمد رحمه الله في رواية جماعة ، وقال : يتهم نفسه .
1367 وذلك لظاهر قول النبي : ( صومكم يوم تصومون ، وفطركم يوم تفطرون ) .
1368 وعن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال يعني شوال وقد أصبح الناس صياماً ، فأتيا عمر رضي الله عنه فذكرا ذلك له ، فقال لأحدهما : أصائم أنت ؟ قال : بل مفطر . قال : ما حملك على هذا ؟ قال : لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال . وقال للآخر . قال : أنا صاسم . قال : ما حملك على هذا ؟ . قال : لم أكن لأفطر والناس صيام . فقال للذي أفطر : لولا مكان هذا لأوجعت رأسك . ثم نودي في الناس أن أخرجوا . رواه سعيد . وهذا ظاهر في أنه أراد ضربه لإِفطاره برؤيته ، ورفع عنه الضرب لشهادة صاحبه . وقيل : يفطر سرا ، لظاهر قول النبي : ( صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ) [ الحديث ] ولأنه يوم تيقن أنه من شوال ، أشبه الذي بعده ، والله أعلم .
قال : وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام ] .
ش : قياساً على من اشتبهت عليه أدلة القبلة ، فإن صلى [ مع القدرة عليه ] بغير اجتهاد لم يجزه لأنه ترك فرضه ، وبدونها كما إذا خفيت عليه الأدلة وجهان ، أصلهما إذا صلى على حسب حاله ، لخفاء أدلة القبلة ، والله أعلم .
قال : فإن صام شهراً يريد به شهر مضان فوافقه أو ما بعده أجزأه ، وإن وافق ما قبله لم يجزئه .
ش : إذا تحرى وصام شهراً يريد به شهر رمضان ، فإن لم ينكشف له الحال فلا ريب عندنا في الإِجزاء ، وإن تبين له الحال فإن وافق شهر رمضان فبها ونعمت ، ولا يضره التردد في النية ، لمكان الضرورة ، وإن وافق بعده أجزؤه أيضاً ، ولا يضره عدم نية القضاء وإن اشترطت ، لمحل العذر ، وإن وافق [ ذلك ] قبله لم يجزئه لعدم تعلق الخطاب به إذاً .
وظاهر إطلاق الخرقي أنه متى وافق شهراً بعده أجزأه ، وإن كان ناقصاً ورمضان تام ، وصرح بذلك القاضي ، وصاحب التلخيص ، وأورده أبو البركات مذهباً ، كما لو نذر شهراً ، واختار أبو محمد أنه يلزمه بعدة أيام رمضان ، لظاهر قوله تعالى : { فعدة من أيام أخر } ، والله أعلم .
قال : ولا يصام يوما العيدين ، ولا أيام التشريق ، لا عن فرض ، ولا عن تطوع ، فإن قصد لصيامهما كان عاصياً ، ولم يجزئه عن فرض ، وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى : أنه يصومها للفرض ،
____________________
(1/438)
ش : لا يجوز أن يصام يوم العيد لا الفطر ولا الأضحى عن فرض ولا عن تطوع .
1469 لما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله نهى عن صيام يومين ، يوم الفطر ويوم النحر ، وفي لفظ للبخاري ( لا صوم في يومين ) ولمسلم : ( لا يصح الصوم في يومين ) .
1370 وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال : شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فصلى ، ثم انصرف فخطب الناس ، فقال : إن هذين يومان نهى رسول الله عن صيامهما ، يوم فطركم من صيامكم ، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم . متفق عليه . فإن قصد صيامهما كان عاصياً ، لقصده ارتكاب ما نهى الشارع عنه ، ولم يجزئه عن فرض ، لارتكابه النهي المقتضي لفساد المنهي عنه ، هذا هو المشهور ، وهو قياس المذهب فيمن صلى في ثوب غصب ، أو [ في ] بقعة غصب ، أو حج بمال غصب ، أن باع وقت النداء ونحو ذلك ، والمنصوص عن أحمد في رواية مهنا الصحة مع التحريم . وهو قياس القول الآخر في هذه المسائل .
وقول الخرقي : ولم يجزئه عن فرض . ربما أوهم أنه يجزئه عن التطوع ، وليس كذلك ، وإنما المحتاج إليه في البيان [ هو الفرض ] أما المتطوع فقد اقتضى كلامه أنه يعصي بقصد صومه ، والحكم على صحته وفساده لا حاجة إليه . انتهى .
أما أيام التشريق فلا يجوز صيامها عن تطوع .
1371 لما روى نبيشة الهذلي قال : قال رسول الله : ( أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذكر الله تعالى ) رواه مسلم .
1372 وعن سعد بن أبي وقاص قال : أمرني رسول الله أن أنادي أيام منى ( إنها أيام أكل وشرب ، ولا صوم فيها ) يعني أيام التشريق . رواه أحمد .
و [ في ] جواز صومها عن الفرض روايتان : ( إحداهما ) وهي التي رجع إليها [ أحمد ] أخيراً قال : كنت أذهب إليه ، يعني [ عن ] صوم المتمتع لأيام التشريق فأما اليوم فإني أهابه ، لقول النبي ( هي أيام أكل وشرب ) واختيار الخرقي ، وابن أبي موسى ، والقاضي ، والشيرازي وغيرهم لا يجوز لما تقدم .
1373 وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله نهى عن صوم خمسة أيام في السنة ، يوم الفطر ، ويوم النحر ، وثلاثة [ أيام التشريق . رواه الدراقطني ] .
____________________
(1/439)
( والثانية ) : يجوز إذ يوم النحر أحد العيدين ، فوجب أن يختص بحظر الصوم فيه دون ما بعده ، دليله يوم الفطر ، وابن أبي موسى خص الخلاف بالصوم عن دم المتعة ، ونص أحمد بالجواز إنما هو في ذلك ، نعم أومأ إلى الجواز في النذر .
1374 وذلك لما روى عن عائشة رضي الله عنها وابن عمر رضي الله عنهما قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي . رواه البخاري وأجاب القاضي عن هذا بأنه خاص مختلف فيه ، والأول عام متفق عليه ، فتقدم على المختلف فيه . انتهى ، وفيه نظر ، فعلى الأول إن صامها فهو كصيام يوم العيد على ما مر .
( تنبيه ) : أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر ، والثاني عشر ، والثالث عشر ، من ذي الحجة ، سميت بذلك لأنهم يشرقون فيها لحوم الأضاحي ، أي يقطعونها تقديداً وقيل : بل لأجل صلاة العيد وقت شروق الشمس . وقيل : بل لأن الذبح بعد الشروق ، والله أعلم .
قال : وإذا رؤي الهلال نهاراً قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة .
ش : أما بعد الزوال فللمقبلة بلا نزاع نعلمه ، لقربه منها .
1375 ولقصة عمر رضي الله عنه ، وأما قبله فعنه للماضية لقربه منها . وعنه للمقبلة ، وهي المذهب .
1376 لما روي أبو وائل قال : جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين : أن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهاراً فلا تفطروا حتى تمسوا ، إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية . وهذا يشمل ما قبل الزوال وبعده ، ( وعنه ) إن كان في أول الشهر فللماضية ، وفي آخره للمقبلة ، احتياطاً للعبادة .
( تنبيه ) : هذا التعليل وكلام أبي محمد [ وغيره ] يقتضي أن هذا مختص برمضان ، فاللام في كلام الخرقي للعهد ، والله أعلم .
قال : والإِختيار تأخير السحور .
ش : لا نزاع في مطلوبية السحور .
1377 قال النبي : ( تسحروا فإن في السحور بركة ) . متفق عليه .
1378 وقال عليه السلام : ( إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور ) رواه مسلم وغيره . والمستحب تأخيره .
____________________
(1/440)
1379 لما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي كان يقول : ( لا تزال أمتي بخير ما [ أخروا ] السحور ، وعجلوا الفطر ) رواه أحمد .
( تنبيه ) : السحور بفتح السين اسم لما يؤكل في السحر ، وبالضم اسم الفعل على الأشهر ، وقيل : يجوز في اسم الفعل [ الفتح ] أيضاً ، والمراد في كلام الخرقي الفعل ، فيكون بالضم على الصحيح و ( الأكلة ) بفتح الهمزة ، ورواه بعضهم بضمها ، قال الحافظ زكي الدين : والوجه الفتح ، فإن الأكلة بالفتح بمعنى المرة الواحدة . مع الاستيفاء ، وبالضم اللقمة إذا لم يكن معها ماء ، والله أعلم .
قال : وتعجيل الإفطار .
ش : أي [ والاختيار تعجيل الإفطار ] لما تقدم .
1380 وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي قال : ( لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ) .
1381 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال : ( يقول الله عز وجل : إن أحب عبادي إليّ أعجلهم فطراً ) رواه أحمد والترمذي ، والله أعلم .
قال : ومن صام [ شهر ] رمضان ، واتبعه بست من شوال ، وإن فرقها فكأنما صام الدهر .
1382 ش : ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( من صام رمضان ثم اتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر ) رواه مسلم وغيره .
1383 وعن ثوبان رضي الله عنه عن رسول الله قال : ( من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر ، كان تمام السنة ، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) رواه ابن ماجه .
وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أن الأولى متابعتها ، مبادرة للمندوب إليه ، ومحافظة على ( وأتبعه ) [ إذ المتابعة ] ظاهرها التوالي ، والله أعلم .
قال : وصيام يوم عاشوراء ، كفارة سنة ، ويوم عرفة كفارة سنتين .
1384 ش : لما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله :
____________________
(1/441)
( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ، ماضية ومستقبلة ، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية ) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي .
( تنبيه ) : عاشوراء بالمد على الأشهر ، وقيل : وبالقصر وفيه [ لغة ] ثالثة عاشورا . وهو اليوم العاشر من المحرم .
1385 وعن ابن عباس : أنه التاسع ونص أحمد على استحباب صومهما ، وعلى صيام ثلاثة أيام مع إشتباه أول الشهر ، ويوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة بلا ريب ، سمي بذلك قيل : [ لأن الوقوف بعرفة فيه . وقيل ] : لأن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه عرف فيه أن رؤياه حق ، والله أعلم .
قال : ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم ، ليتقوى على الدعاء .
1386 ش : عن أم الفضل رضي الله عنها : ( أنهم شكوا في صوم النبي يوم عرفة ، فأرسلت إليه بلبن ، فشرب وهو يخطب الناس بعرفة ) متفق عليه .
وجعل الخرقي رحمه الله [ المعنى ] في الإِفطار التقوي على الدعاء المطلوب في هذا اليوم ، وهو حسن ، وعن أبي العباس . لأنه يوم عيد .
1387 ويشهد له ما روى عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله : ( يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق عيدنا أهل الإِسلام ، وهي أيام أكل وشرب ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي ، والله أعلم .
قال : وأيام البي التي حض رسول الله على صيامها هي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر [ من كل شهر ] ، والله أعلم .
1388 ش : ثبت أن النبي أوصى أبا هريرة بصيام ثلاثة أيام من كل شهر .
1389 وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر ) فأنزل الله تعالى : [ تصديق ذلك في كتابه : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } اليوم بعشرة ) رواه ابن ماجه والترمذي . والأيام البيض هي اليوم الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر .
1390 لما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أيضاً : قال : قال رسول الله : ( يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس
____________________
(1/442)
عشرة ) رواه أحمد والنسائي والترمذي .
وعن بعض العلماء : الثاني عشر بدل الخامس [ عشر ] وسميت بيضاً لابيضاض ليلها كله بالقمر [ أي ] أيام الليالي البيض ، وقيل : لأن الله تعالى تاب على آدم فيها وبيض صحيفته ذكره التميمي ، والله سبحانه أعلم .
____________________
(1/443)
( كتاب الاعتكاف )
ش : الاعتكاف في اللغة لزوم الشيء والإقبال عليه . قال سبحانه : 19 ( { ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون } ) وقال : { يعكفون على أصنام لهم } وفي الشرع : لزوم المسجد للطاعة من مسلم عاقل ، طاهر مما يوجب غسلا ، وأقله أدنى لبث إن لم يشترط الصوم ، مع الكف عن مفسداته ، ولا يكفي العبور بكل حال ، ذكره في التلخيص .
1391 وهو مشروع ، قالت عائشة رضي اللَّه عنها : كان رسول اللَّه يعتكف العشر الأواخر من رمضان . حتى توفاه اللَّه تعالى ، ثم اعتكف أزواجه من بعده .
1392 وعن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال : كان رسول اللَّه يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، فلم يعتكف عاما ، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين . رواه أحمد . والترمذي وصححه . وقد أمر اللَّه سبحانه نبيه [ إبراهيم ] بتطهير بيته 19 ( { للطائفين والعاكفين والركع السجود } ) .
قال : والاعتكاف سنة ، إلا أن يكون نذرا فيلزم الوفاء به .
ش : هذا إجماع والحمد للَّه ، وقد شهد له ما تقدم .
1393 وإنما لم يجب لأن النبي لم يأمر به أصحابه ، بل في الصحيحين أنه قال لهم ( من أحب منكم أن يعتكف فليعتكف ) .
1394 وإنما وجب بالنذر لما روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن عمر سأل النبي قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ قال ( فأوف بنذرك ) متفق عليه وللبخاري ( فاعتكف ليلة ) أمره وظاهر الأمر للوجوب .
1395 وقال عليه السلام ( من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه ) رواه البخاري ، واللَّه أعلم .
قال : ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره : بصوم .
____________________
(1/444)
ش : يجوز الاعتكاف بلا صوم ، على المشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب ، لحديث عمر المتقدم ، وفيه نظر ، لأن في رواية في الصحيح أيضا ( أن أعتكف يوما ) فدل على أنه أطلق الليلة وأراد بها اليوم ، إذ الواقعة واحدة .
1396 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي قال ( ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه ) رواه الدارقطني والحاكم ، وقال بعض الحفاظ : والصحيح أنه موقوف ولأنها عبادة تصح بالليل ، فلا يشترط لها الصوم كالصلاة ، ( والثانية ) : لا يجوز إلا بصوم .
1397 لما روي عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع . رواه أبو داود ، ويجاب عنه إن صح بنفس الكمال ، جمعاً بين الأدلة .
فعلى الأولى يصح اعتكاف ليلة مفردة ، وبعض يوم مطلقاً . وعلى الثانية : لا يصح اعتكاف ليلة [ مفردة ] ولا بعض يوم من مفطر ، أما من صائم فقطع أبو البركات بصحته ، لوجود الشرط وهو الصوم ، وهو احتمال لأبي محمد في المغني ، والذي أورده مذهباً البطلان ، نظراً إلى أن الصوم لم يقصد له ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه .
ش : لا يجوز الاعتكاف إلا في المسجد في الجملة بلا ريب ، لقول اللَّه تعالى : 19 ( { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } ) وصف سبحانه المعتكف بكونه في المسجد ، ولأن النبي كان يعتكف في مسجده .
1398 قالت عائشة رضي اللَّه عنها : وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . وفعله خرج بياناً للاعتكاف المشروع ، وقد تقدم قول عائشة رضي اللَّه عنها : لا اعتكاف إلا في مسجد جامع . ومن شرط المسجد أن يجمع فيه ، أي تقام فيه الجماعات ، إن تضمن الاعتكاف وقت صلاة ، والمعتكف ممن تجب عليه الجماعة ، وهو الحر البالغ ، غير المعذور ، حذاراً من ترك الواجب الذيى هو الجماعة ، أو تكرر الخروج المنافي للاعتكاف في اليوم والليلة خمس مرات ، مع إمكان التحرز عن ذلك ، أما إن لم يتمضن الاعتكاف وقت صلاة ، أو كان المعتكف ممن لا تجب عليه الجماعة ، كالصبي والعبد ، إن لم تجب عليه الجمعة والمرأة ، ونحوهم ، فالمشترط المسجدية فقط ، لزوال المحذور ، نعم لا يصح الاعتكاف في مسجد البيت بلا ريب ،
____________________
(1/445)
لانتفاء حكم المسجدية عنه في سائر الأحكام ، فكذلك هنا ، ولا يشترط للمسجد إقامة الجمعة فيه لندرة الخروج منه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان .
ش : كذا في الصحيحين عن عائشة رضي اللَّه عنها : وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ، وحاجة الإنسان البول والغائط ، كني عنهما بحاجة الإنسان ، وفي معنى [ ذلك ] الاغتسال من الجنابة والوضوء ، قال أحمد : لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد . وكذلك الأكل والشرب ، إن لم يكن له من يناوله ذلك ، وإذا خرج للبول والغائط ، وثم سقاية أقرب من منزله ، ولا ضرر عليه في دخولها لزمه ذلك ، لزوال العذر وإن تضرر بدخولها كمن عليه نقيصة في ذلك ، أو لعدم التمكن من التنظيف ، ونحو ذلك لم يلزمه ، دفعاً للضرر ، وله المضي إلى منزله ، وإذا خرج مشى على المعتاد من غير عجلة ، ولا توان ، لا لأكل ولا لغيره ، نعم قال ابن حامد : يأكل في بيته اليسير كلقمة ونحوها ، لا جميع أكله ، وقال القاضي : يتوجه أن له الأكل في بيته ، والخروج إليه ابتداء ، لما في الأكل في المسجد من الدناءة ، ونصر أبو محمد الأول ، لحديث عائشة رضي اللَّه عنها . واللَّه أعلم .
قال : وإلى صلاة الجمعة .
ش : أي وله الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه إذا لم تقم فيه الجمعة ، وبهذا يتبين أن قول الخرقي : يجمع فيه . أي تقام فيه الجماعة ، لا أنه يجمع فيه أي تقام فيه الجمعة ، لأن الخروج للجمعة كالمستثنى باللفظ ، للزوم ذلك له ، ولأن ذلك واجب متحتم عليه ، أشبه الخروج لقضاء العدة ، وإذا خرج فصلى ، فإن أحب أن يتم اعتكافه في الجامع فله ذلك ، وإلا استحب له الإسراع إلى معتكفه ، قال أبو محمد : ويحتمل أن يخير في تعجيل الرجوع وتأخيره ، لأنه مكان يصلح للاعتكاف ، أشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ، إلا أن يشترط ذلك .
ش : أما مع عدم الشرط فلا يفعل ذلك على المشهور من الروايتين ، والمجزوم عند [ عامة ] الأصحاب ، لما تقدم من حديث عائشة رضي اللَّه عنها : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً ، ولا يشهد جنازة ويرجحه حديث الصحيحين : وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان .
1399 وفي الصحيح عنها رضي اللَّه عنها أنها قالت : إن كنت لأدخل البيت للحاجة ، والمريض فيه ، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة . ولأن عيادة المريض مستحبة ، فلا يترك لها واجب ، وشهود الجنازة إن لم يتعين فكذلك ، وإن تعين أمكن فعله في المسجد فلا حاجة إلى الخروج ، نعم إن لم يمكن شهودها في المسجد فالخروج
____________________
(1/446)
لواجب تعين عليه ، لا لشهود جنازة ، ( والرواية الثانية ) : له ذلك كما له الوضوء .
1400 وعن علي رضي اللَّه عنه : 16 ( ( إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة ، ولعيد المريض وليحضر الجنازة ، وليأت أهله ليأمرهم بالحاجة وهو قائم ) ) رواه الإمام أحمد وأما مع الشرط فيجوز بلا ريب .
1401 لعموم قوله ( المسلمون على شروطهم ) ونحوه ولأن مع الشرط المنذور اعتكافه حقيقة ما عدا هذه الشروط .
( تنبيه ) : محل الخلاف في الاعتكاف الواجب ، أما الاعتكاف المتطوع به فله ذلك ، لأن له تركه رأساً ، لكن الأولى عدم الخروج اقتداءً برسول اللَّه ، فإنه لم يكن يعرج على المريض ، مع كون اعتكافه كان تطوعاً ، واللَّه أعلم .
قال : ومن وطيء فقد أفسد اعتكافه .
ش : يحرم على المعتكف الوطء لنص الكتاب قال اللَّه تعالى : 19 ( { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد ، تلك حدود اللَّه فلا تقربوها } ) والجماع مراد من الآية بلا ريب ، إما عموما وإما خصوصا ، وهو أظهر ، فإن وطىء فقد أفسد اعتكافه ، لأنه وطء حرام في العبادة ، فيفسدها كالوطء في الحج والصوم ، مع أن هذا إجماع في العمد حكاه ابن المنذر ، انتهى .
وإطلاق الخرقي يشمل العمد وغيره وهو صحيح قياساً على الحج والصوم . ويتخرج من الصوم عدم البطلان مع العذر كنسيان ونحوه .
ومقتضى كلامه أنه لا كفارة عليه لأجل الوطء ، وهو إحدى الروايتين واختيار أبي محمد وزعم في المغني أنه ظاهر المذهب وفي الكافي أنه المذهب ، إذ الوجوب من الشرع ولم يرد ، ولأنها عبادة لم تجب بأصل الشرع فلم يجب بإفسادها بالوطء كفارة كالوطء في الصوم المنذور . ( والرواية الثانية ) واختارها القاضي و الشريق و أبو الخطاب في خلافيهما تجب الكفارة لأنها عبادة يفسدها الوطء ، فوجب به كفارة كالحج ، ثم هذه الكفارة كفارة يمين [ عند الشريف أبي جعفر ، تبعاً لأبي بكر في التنبيه ، لأنها كفارة نذر ، وكفارة النذر كفارة يمين ] وعند القاضي في الخلاف : كفارة واطىء في رمضان قياساً لها عليها ، وقد حكى الشيرازي القولين روايتين ومقتضى كلامه أن المباشرة دون الفرج لا تبطل ، وهو كذلك إن عريت عن الإنزال ، أما مع الاقتران به فتفسد على المذهب المجزوم به عند الأكثرين كما في الصوم ، وفيه احتمال لابن عبدون واللَّه أعلم .
قال : ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجباً .
____________________
(1/447)
ش : إذا فسد الاعتكاف بالوطء ، نظرت فإن كان تطوعاً لم يجب القضاء ، بناء على قاعدتنا من أن النوافل ما عدا الحج والعمرة لا تلزم بالشروع ، وقد تقدم ذلك في الصوم . وإن كان الاعتكاف واجباً بأن نذره وجب القضاء ، لأن الذمة مشتغلة ، ولم يوجد ما يبرئها فوجب براءتها ، وهذا من حيث الجملة ، أما من حيث التفصيل فإن كان النذر لأيام متتابعة فقد أفسده بالفطر غير المعذور فيه ، فيلزمه الاستئناف بإمكان الإتيان [ بالمنذور ] على صفته ، نعم مع العذر ، بل يقضي ويجري في الكفارة وجهان ، وإن كان النذر لأيام معينة كعشر ذي الحجة ونحو ذلك فهل يبطل التتابع ، كما لو اشترطه بلفظه ، أو لا يبطل لأنه إنما حصل لضرورة الزمن ؟ فيه وجهان ، فعلى الأول يستأنف العشرة . وعلى الثاني : يتم بقية العشرة ويقضي اليوم الذي أفسده ، وتلزمه الكفارة على الوجهين ، بتركه عين المنذور ، وينبغي أن يجري في الكفارة مع العذر وجهان واللَّه أعلم .
قال : وإذا وقعت فتنة خاف منها ترك الاعتكاف .
ش : إذا وقعت فتنة فخاف على نفسه ، أو أهله ، أو ماله ، منها ، جاز له الخروج وترك الاعتكاف ، إذ ذاك يترك له الواجب بأصل الشرع ، وهو الجمعة والجماعة ، فما أوجبه على نفسه أولى ، وفي معنى ذلك المرض الذي يشق المقام معه ونحو ذلك واللَّه أعلم .
قال : فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياماً معلومة ، وقضى ما ترك ، وكفر كفارة يمين .
ش : إذا زال المعنى الذي جاز لأجله ترك الاعتكاف كما إذا أمن [ في ] الفتنة ونحو ذلك ، والاعتكاف تطوع خير بين الرجوع وعدمه ، وإن كان واجباً وجب عليه الرجوع إلى معتكفه ، ليأتي بالواجب ، ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال ( أحدها ) نذر أياماً معلومة مطلقة ، كاعتكاف عشرة أيام غير متتابعة ، أو عشرة أيام وقلنا : لا يلزمه التتابع على المذهب ، فإنه يتم باقيها لا غير ، ولا شيء عليه ، لإتيانه بالمنذور على وجهه ، ويبتدىء اليوم الذي خرج فيه من أوله ، قاله أبو محمد . ( الثاني ) : نذر أياماً متتابعة غير معينة كعشرة أيام متتابعة ونحو ذلك فيخير بين البناء وقضاء ما بقي منها ، مع كفارة يمين ، لفوات صفة المنقور ، وبين الاستئناف بلا كفارة ، لإتيانه بالمنذور على وجهه ، وقد نبه الخرقي على هذا في النذر فقال : ومن نذر أن يصوم شهراً متتابعاً ولم يسمه ، فمرض في بعضه ، فإذا عوفي بنى ، وكفر كفارة يمين ، وإن أحب أتى بشهر كامل متتابع ، ولا كفارة عليه وكذلك إذا نذرت المرأة صيام شهر متتابع وحاضت فيه . ( الثالث ) : من الأحوال : نذر أياماً معينة ، وهو مراد الخرقي هنا لقوله : معلومة ، كعشر ذي الحجة ونحوه ، فيقضي ما ترك ، ليأتي بالواجب ، ويكفر كفارة يمين ، لترك المنذور في وقته ، إذ النذر كاليمين ، ولو ترك ما حلف على فعله ، أو فعل ما حلف على تركه ،
____________________
(1/448)
وجبت الكفارة ، وإن كان معذوراً ، ( وعن أحمد ) ما يدل على أنه لا كفارة مع العذر ، حملاً على العذر ، إذ الكفارة زاجرة أو ماحية ، وهما منتفيان معه ( وعن القاضي ) إن وجب الخروج ، كالخروج لنفير عام ، أو شهادة متعينة ونحو ذلك ، فلا كفارة كالخروج للحيض ، وإن لم يجب وجبت ، ويقرب منه قول صاحب التلخيص وابن عبدون : إنت كان الخروج لحق نفسه كالمرض والفتنة ونحوهما ، وجبت ، وإن كان لحق عليه ، كأداء الشهادة ، والنفير ، والحيض ، لا كفارة . قال : وقيل : تجب ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك في النفير إذا احتيج إليه .
ش : إذا احتيج للمعتكف في الجهاد ، بأن استنفره الإمام ، أو حصر العدو بلده ونحو ذلك ، تعين عليه ترك الاعتكاف ، والخروج لذلك ، وحكمه إذا زال ذلك في رجوعه إلى معتكفه ، وفي القضاء والكفارة حكم ما تقدم من التفصيل ، لأنه ساواه معنى ، فيساويه حكماً ، واللَّه أعلم .
قال : والمعتكف لا يتجر .
ش : الاعتكاف وضعه حبس النفس للطاعة ، والتجارة تنافي ذلك في الجملة .
1402 ولأن النبي : نهى عن البيع والشراء في المسجد ، رواه الترمذي وحسنه . وإذا نهي عن البيع والشراء في غير حال الاعتكاف ففيه أجدر .
( تنبيه ) : له أن يشتري ما لا بد منه من مأكول ونحوه ، لكن خارج المسجد ، والَّه أعلم .
قال : ولا يتكسب بالصنعة .
ش : كالخياطة ونحوها ، إذ ذاك في معنى التجارة ، فمنع منه كهي .
ومفهوم كلام الخرقي أن له فعل الصنعة لا متكسباً ، وظاهر كلام أحمد المنع ، قال في رواية المروذي وقد سأله : ترى له أن يخيط ؟ قال : لا ينبغي أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل . وقرر ذلك القاضي فقال : لا يجوز أن يخيط في المسجد ، وإن احتاج إليها ، قلت : وقال أبو محمد : الأولى فعل ما احتاج إليه وقل ، مثل أن انشق قميصه فيخيطه ، ونحو ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ولا بأس أن يتزوج في المسجد ، ويشهد النكاح .
ش : إذ النكاح طاعة ، وحضوره قربة ، ومدته لا تطول ، أشبه رد السلام ، وتشميت العاطس ، واللَّه أعلم .
قال : والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة تخرج لقضاء العدة ، وتفعل كما فعل الذي خرج لفتنة .
____________________
(1/449)
ش : المتوفى عنها زوجهاإذا كانت معتكفة فإنها تخرج لتعتد في بيت زوجها ، إذ ذاك واجب بأصل الشرع ، والاعتكاف إن كان تطوعاً فواضح ، وإن كان واجباً فهي التي أوجبته على نفسها ، ولأن الاعتكاف لا يفوت ، لأنه يقضى ، والعدة تفوت ، لانقضائها بمضي الزمن ، فإذا انقضت العدة فإنها تفعل [ كما ] فعل الذي خرج للفتنة ، فترجع إلى معتكفها ، وتقضي وتكفر ، على ما مضي من التفصيل فيه ، لاشتراكهما في أنه خروج لواجب ، واللَّه أعلم .
قال : والمعتكفة إذا حاضت خرجت من المسجد ، وضربت خباء في الرحبة .
ش : إذا حاضت المعتكفة خرجت من المسجد ، لأنه حدث يمنع اللبث في المسجد ، فهو كالجنابة ، بل آكد .
1403 وقد قال النبي ( إني لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض ) رواه أبو داود .
1404 وفي حديث آخر : ( إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض ) رواه ابن ماجه ، وإذا خرجت فإن لم يكن للمسجد رحبة مضت إلى بيتها ، وإن كانت له رحبة ضربت خباء ، وأقامت فيها لأن ذلك أقرب إلى محل اعتكافها .
1405 وقد روى أبو حفص بسنده عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : 16 ( كن [ المعتكفات ] إذا حضن أمر رسول اللَّه بإخراجهن من المسجد ، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن ) . وهذا على سبيل الاستحباب قال أبو البركات ، وصاحب التلخيص ، حاكياً له عن بعض الأصحاب ، وكذلك قال أبو محمد : الظاهر أنه مستحب وشرط ذلك الأمن على نفسها ، وإلا رجعت إلى بيتها ، ولهذا قال بعضهم هذا مع سلامة الزمان ، وإذا طهرت رجعت ، فأتت بما بقي من اعتكافها ، ولا كفارة عليها ، كما أشعر به كلام الخرقي ، حيث لم يجعلها كالخارجة لقضاء عدتها ، وهو واضح ، إذ هذا خروج معتاد أشبه الخروج للجمعة ، ولأنه كالمستثنى لفظا ، وقد تقدم أن صاحب التلخيص حكى قولاً بوجوب الكفارة عليه [ وكذلك حكاه أبو البركات ، نظراً إلى أن العذر لا يمنع وجوب الكفارة ] .
وقد دل كلام الخرقي على أن رحبة المسجد ليست في حكم المسجد ، وعن أحمد ما يدل على روايتين ، وجمع القاضي بينهما على اختلاف حالتين ، فالموضع الذي قال فيه تقيم ، إذا كانت محوطة وعليها باب في حكمه ، وما لا فلا ، واللَّه أعلم .
قال : ومن نذر أن يعتكف شهراً بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/450)
ش : هذا هو المشهور من الروايتين ، إذ الشهر يدخل بدخول الليل ، ولهذا ترتبت الأحكام المعلقة بها من حلول الديون ونحوها بذلك ، ومن ضرورة اعتكاف جميع الليل الدخول قبل غروب الشمس ، نظراً إلى قاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به [ فهو ] واجب . ( والرواية الثانية ) : قبل طلوع فجر أول يوم من أوله ، ولعله بناء على اشتراط الصوم له ، وإذاً لا يبتدىء قبل الشرط .
1406 واستدل بعضهم بأن النبي كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه . متفق عليه . وهذا لا يبيح الدعوى لأن النبي لم يدخل إلا بعد صلاة الصبح ، وهم يوجبون قبل ذلك ، على أن اعتكافه كان تطوعاً ، والمتطوع متى شاء شرع ، مع أن ابن عبد البر قال : لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بهذا الحديث . واللَّه أعلم .
____________________
(1/451)
( كتاب الحج )
ش : الحج بفتح الحاء وكسرها القصد ، وعن الخليل : كثرة القصد إلى من يعظمه ، وفي الشرع : عبارة عن القصد إلى محل مخصوص [ من عمل مخصوصّ .
وهو مما علم وجوبه من دين اللَّه تعالى بالضرورة ، بشهادة الكتاب ، والسنة ، والإجماع قال اللَّه تعالى : 19 ( { وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ) .
1407 وقال النبي ( بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه ، وإقام الصلاة وإيناء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) وأجمع المسلمون على ذلك واللَّه أعلم .
قال : ومن ملك زاداً وراحلة ، وهو عاقل بالغ ، لزمه الحج والعمرة .
ش : يشترط [ لوجوب ] الحج شروط :
( أحدها ) الاستطاعة ، لأن الخطاب إنما ورد للمستطيع ، إذ ( من ) بدل من ( الناس ) فتقدير الكلام : وللَّه على المستطيع . ولانتفاء تكليف ما لا يطاق شرعاً ، بل وعقلاً ، والاستطاعة عندنا أن يملك زاداً وراحلة .
1408 لما روي عن أنس رضي اللَّه عنه ، عن النبي ، في قوله عز وجل 19 ( { من استطاع إليه سبيلا } ) قال : قيل يا رسول : ما السبيل ؟ قال ( الزاد والراحلة ) رواه الدارقطني .
1409 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال ( الزاد والراحلة ) يعني قوله عز وجل { من استطاع إليه سبيلا } رواه ابن ماجه .
1410 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : جاء رجل إلى رسول اللَّه فقال : ما يوجب الحج ؟ قال ( الزاد والراحلة ) رواه الترمذي وقال : وعليه العمل عند أهل العلم ، ولأنها عباد ة تتعلق بقطع مسافة بعيدة ، فكانت الاستطاعة فيها شرط ذلك ، دليله الجهاد ، وكون القوة قد يحصل بها الاستطاعة يتخلف في غالب الناس ، والحكم
____________________
(1/452)
إنما يناط بالأعم الأغلب .
ويشترط في الزاد والراحلة أن يكونا صالحين لمثله ، لمدة ذهابه وإيابه ، وأن يكون ذلك فاضلاً عن نفقة نفسه ، وعياله وحوائجه الأصلية ، وبيان ذلك له موضع آخر إن شاء اللَّه ، وإنما يشترط الراحلة لمن بينه وبين مكة مسافة القصر ، أما من كان دون ذلك ، ويمكنه المشي ، فلا تشترط له الراحلة .
وقول الخرقي : من ملك . مقتضاه [ أنه ] لو بذل له ذلك لم يصر مستطيعاً ، وإن كان الباذل ابنه ، وهو صحيح لما تقدم ، إذا قوله عليه السلام في جواب ما يوجب الحج ؟ قال ( الزاد والراحلة ) انتهى .
( الثاني والثالث ) : العقل والبلوغ فلا يجب الحج على مجنون ولا صبي .
1411 لما روى ابن عباس قال : أتي عمر رضي اللَّه عنه بمجنونة قد زنت ، فاستشار فيها أناساً ، فأمر بها عمر أن ترجم ، فمر بها علي بن أبي طالب فقال : ما شأن هذه ؟ قالوا : مجنونة بني فلان زنت ، فأمر بها أن ترجم . فقال : ارجعوا بها . فقال : يا أمير المؤمنين إن القلم مرفوع عن ثلاثة ، عن المجنون حتى يبرأ ، وفي رواية حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يعقل . فقال : بلى . قال : فما بال هذه ؟ قال : لا شيء . قال : [ فأرسلها ] . فأرسلها عمر قال : فجعل يكبر ، وفي رواية قال له : أو ما تذكر أن رسول اللَّه قال . . وذكر الحديث وفيه : وقال : ( عن الصبي حتى يحتلم ) رواه أبو داود .
( الشرط الرابع ) : الحرية ، ويأتي في كلام الخرقي إن شاء اللَّه تعالى .
( الشرط الخامس ) : الإسلام ، وكأن الخرقي إنما ترك هذا الشرط لوضوحه ، إذ جميع العبادة لا يجب على كافر أداؤها ، ولا قضاؤها إذا أسلم ، وإنما معنى توجه الخطاب إليه ترتب ذلك في ذمته فيسلم ويفعل ، وفائدة ذلك العقاب في الآخرة ، نعم اختلف فيما إذا وجد المرتد الاستطاعة في زمن الردة ، ثم أسلم وفقدت ، هل يجب عليه الحج بناء [ على أنه ] في حكم المسلم حيث التزم حكم الإسلام ، أو لا يجب عليه ، بناء [ عى أنه ] في حكم الكافر الأصلي ، والإسلام يجب ما قبله ؟ فيه روايتان أشهرهما الثاني ، انتهى .
فظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لوجوب الحج غير ما ذكر ، وهذا إحدى الروايتين ، وإليها ميل أبي محمد ، لظاهر إطلاق الكتاب والسنة ، وهو قوله تعالى { وللَّه على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } الآية ، وقول النبي ( وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ) وأصرح من هذا لما سئل النبي عن ما يوجب الحج قال ( الزاد والراحلة ) ولأن إمكان الأداء على قاعدتنا ليس بشرط في وجوب العبادة ، بدليل ما إذا
____________________
(1/453)
طهرت الحائض ، أو بلغ الصبي ، أو أفاق المجنون ، ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن الأداء فيه . ( والرواية الثانية ) : وهي ظاهر كلام ما ابن أبي موسى ، والقاضي في الجامع : يشترط لوجوب الحج شرطان آخران ، سعة الوقت ، وأمن الطريق ، إذ بدونهما يتعذر فعل الحج ، فاشترطا كالزاد ، والراحلة ، فعلى الأولى هما شرطان للزوم الأداء ، وفائدة الروايتين إذا مات قبل الفعل ، فعلى الأولى يخرج من تركته للوجوب ، وعلى الثانية لا ، لعدمه ، ومعنى سعة الوقت أن يمكنه المسير على العادة في وقت جرت العادة به ، ومعنى تخلية الطريق أن يكون آمناً مما يخاف في النفس ، والبضع ، والمال ، سالماً من خفارة وإن كانت يسيرة ، اختاره القاضي وغيره ، حذاراً من الرشوة في العبادة ، وعن ابن حامد : يجب بذل الخفارة اليسيرة ، هذا نقل أبي البركات ، وأبي محمد في الكافي ، وفي المقنع والمغني والتلخيص : إن لم يجحف بماله لزمه البذل ، لأن ذلك مما يتسامح بمثله .
وحيث وجب الحج فهل تجب العمرة ؟ فيه ثلاث روايات : ( أشهرها ) وبه جزم جمهور الأصحاب : نعم .
1412 لما روي عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : قلت يا رسول للَّه هل على النساء جهاد ؟ قال ( نعم عليهم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة ) رواه أحمد وابن ماجه ، قال بعض الحفاظ : ورواته ثقات .
1413 وعن أبي رزين العقيلي رضي اللَّه عنه أنه أتى النبي فقال : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ، ولا الظعن ، فقال ( حج عن أبيك واعتمر ) رواه الخمسة وصححه الترمذي ، وقال الإمام أحمد : لا أعلم في وجوب العمرة حديثاً أجود من هذا ، ولا أصح .
1414 وعن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال : بينما نحن جلوس عند النبي إذ جاء رجل فقال : يا محمد ما الإسلام ؟ فقال : ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه ، وأن محمداً رسول اللَّه ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان ) وذكر باقي الحديث ، وأنه قال ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) رواه الدارقطني ، وقال : هذا إسناد صحيح ثابت .
1415 وقد قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : 16 ( إنهما لقرينة الحج في كتاب اللَّه ) . يشير إلى قوله سبحانه 19 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه } ) .
____________________
(1/454)
1416 والظاهر أن الصبي بن معبد فهم ذلك [ أيضاً ] وأقره عمر رضي اللَّه عنه عليه حيث قال لعمر : يا أمير المؤمنين إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي ، فأهللت بهما ، فقال عمر : هديت لسنة نبيك محمد ، رواه أبو داود والنسائي . ( والرواية الثانية ) : لا تجب .
1417 لما روي [ عن ] جابر رضي اللَّه عنه أن النبي سئل عن العمرة : واجبة هي ؟ قال ( لا ، وأن تعتمر فهو أفضل ) رواه أحمد وضعفه ، والترمذي وصححه .
( والرواية الثالثة ) : تجب إلا على أهل مكة ، وهذا المذهب عند أبي ومحمد في المغني إذ ركن العمرة ومعظمها هو الطواف ، وهو حاصل منهم .
1418 قال أحمد : كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ، ويقول : يا أهل مكة ليس عليكم عمرة ، إنما عمرتكم الطواف بالبيت . واللَّه أعلم .
قال : فإن كان مريضاً لا يرجى برؤه ، أو شيخاً لا يستمسك على الراحلة ، أقام من يحج عنه ويعتمر .
ش : هذان شرطان لوجوب المباشرة بلا ريب ، حذاراً من تكليف ما لا يطاق ، أو حصول الضرر المنفي شرعاً ، وإذا عدما وبقية الشروط موجودة فيه ، ووجد مالاً فاضلاً عن حاجته المعتبرة ، وافياً بنفقة راكب ، وجب عليه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من بلده ، لما تقدم من حديث أبي رزين .
1419 وعن أبي عباس رضي اللَّه عنهما أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول اللَّه إن أبي أدركته فريضة اللَّه في الحج شيخاً كبيراً ، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره ، قال ( فحجي عنه ) رواه الجماعة .
1420 وعن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه عنهما قال : جاء رجل [ من خثعم ] إلى رسول اللَّه فقال : إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير ، لا يستطيع ركوب الرحل ، والحج مكتوب عليه ، أفأحج عنه ؟ قال ( أنت أكبر ولده ؟ ) قال : نعم . قال ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته [ عنه ] أكان ذلك يجزىء عنه ؟ ) قال : نعم . قال ( فحج عنه ) رواه أحمد والنسائي بمعناه ، فأخبره عليه الصلاة والسلام بأن الحج مكتوب عليه وفريضة على من هذا حاله ، ولم ينكر ذلك ، وإذا وجبت وجبت النيابة لتبرأ الذمة .
____________________
(1/455)
ومفهوم كلامه أن المريض المرجو البرء ليس له الاستنابة ، و [ كذلك ] الصحيح بطريق الأولى ، وهو كذلك في الفرض ، أما في النفل فالمريض له الاستنابة ، والصحيح فيه روايتان ، ( الجواز ) بشرط أن يحج الفرض ، نظراً إلى أن الحج لا يلزمه بنفسه ، أشبه المعضوب ، ( وعدمه ) لأنه يقدر على الحج بنفسه ، فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض هذه طريقة أبي محمد في المغني ، وطريقة صاحب التلخيص ، وابن حمدان في الصغرى جريان الروايتين فيهما .
( تنبيهان ) : [ أحدهما ] : حكم المحبوس حكم المريض المرجو البرء .
( الثاني ) : لو لم يجد العاجز من ينوب ، فقال أبو محمد : قياس المذهب أنه يبني على الروايتين في إمكان المسير ، هل هو شرط للوجوب ، أو للزوم الأداء ؟ فعلى الأول : لا يجب عليه شيء ، وعلى الثاني : يثبت الحج في ذمته ، واللَّه أعلم .
قال : وقد أجزأ عنه وإن عوفي .
ش : إذا أقام المعضوب من يحج عنه فإنه يجزىء [ عنه ] ذلك وإن عوفي ، لأنه أتى بالمأمور به ، فيخرج عن العهدة ، كما لو لم يبرأ ، إذ الشارع إنما يكلف العبد بما ظنه واجتهاده ، لا بما لا اطلاع له عليه .
واعلم أن هذا له ثلاث حالات : ( إحداها ) برىء بعد فراغ النائب ، فيجزئه بلا ريب عندنا ، ( الحالة الثانية ) بريء قبل إحرام النائب ، فلا يجزئه بلا ريب ، للقدرة على المبدل قبل الشروع في البدل ، أشبه المتيمم إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة ، ( الحالة الثالثة ) : بعد شروع النائب وقبل الفراغ ، فقال أبو محمد : ينبغي أن لا يجزئه ، هو أظهر الوجهين عند أبي العباس ، كالمتيمم إذا وجد الماء في الصلاة ( والثاني ) وهو احتمال لأبي محمد في المغني ، واختاره صاحب الوجيز يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي ، واللَّه أعلم .
قال : وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل .
ش : المذهب المشهور المعروف أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم .
1421 لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها ، أو أخوها ، أو زوجها [ أو ابنها ] أو ذو محرم منها ) رواه أبو داود والترمذي ، ومسلم ، وللبخاري نحوه .
1422 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي قال ( لا تسافر المرأة ثلاثاً إلا ومعها ذو محرم ) متفق عليه .
____________________
(1/456)
1423 وعن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها ) رواه مسلم ، وأبو داود ورواه البخاري والترمذي وقالا ( أن تسافر يوماً وليلة ) ولأبي داود في رواية ( بريدا ) .
1424 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه سمع رسول اللَّه يخطب يقول ( لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم ) فقام رجل فقال : يا رسول اللَّه إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا . قال ( فانطلق فحج مع امرأتك ) متفق عليه . وهذا معنى دخول سفر الحج في العموم .
وعن أحمد رحمه اللَّه جواز ذلك في الفريضة ، قال : أما في حجة الفريضة فأرجو أنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته ، وأما في غيرها فلا ، لأنه عليه السلام فسر الإيجاب بالزاد والراحلة ، وهذه واجدتهما ، ولأنه سفر واجب ، فلم يشترط له المحرم كسفر الهجرة ، وأجيب بأن ما تقدم أخص ، وفيه زيادة ، وهو أكثر رواة ، وأصح بلا ريب ، وسفر الهجرة محل ضرورة ، فلا يقاس عليه غيره .
وبالجملة لا تفريع ولا عمل على هذه الرواية ، أما على المذهب فيشترط المحرم لمسافة القصر فما زاد ، وفي اشتراطه لما دونها روايتان : ( أشهرهما ) : الاشتراط ، ولعل مبناهما اختلاف الأحاديث ، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال :
1425 أما أبو هريرة فيقول : يوم وليلة . ويروى عن أبي هريرة ( لا تسافر سفراً ) أيضاً ، وأما حديث أبي سعيد فيقول ( ثلاثة أيام ) قيل له : ما تقول أنت : قال : لا تسافر قليلاً ولا كثيراً إلا مع ذي محرم . وعلى هذا فيجمع بين الأحاديث بأن النبي قال ذلك في مواطن مختلفة ، بحسب أسئلة ، فحدث كل بما سمع ، وإن كان واحداً فحدث بها مرات على حسب ما سمعها ، أو يقال : المراد بالليلة مع اليوم ، وذلك إشارة إلى مدة الذهاب .
1426 وقد روي في الصحيح ( يومان ) فيكون إشارة إلى مدة الذهاب والرجوع ، ورواية ( الثلاث ) إشارة إلى مدة الذهاب ، والرجوع ، واليوم الذي يقضي فيه الحاجة ، أو يقال : هذا كله تمثيل للعدد القليل ، فاليوم الواحد [ أول العدد وأقله ، والاثنان أول الكثير وأقله ، والثلاث أول الجمع وأقله فأشار واللَّه أعلم إلى أن مثل هذا ] في قلة الزمن لا تسافره إلا مع ذي محرم ، فكيف بما فوقه . انتهى .
وهل المحرم شرط للوجوب ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، أو للزوم الأداء ؟ فيه روايتان .
____________________
(1/457)
والمحرم زوج المرأة ومن تحرم عليه على التأييد بنسب أو سبب مباح ، قال أبو محمد متابعة لكثير من الأحصا : فيخرج زوج الأخت ونحوها ، إذ تحريمها [ عليه ] ليس على التأبيد ، وكذلك عبد المرأة ، لا يكون محرماً لسيدته على المذهب المشهور والمجزوم به عند الأكثرين ، منهم أبو محمد ، وصاحب التلخيص لذلك .
1427 وقد جاء عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي ( سفر المرأة مع عبدها ضيعة ) [ رواه سعيد ] ( وعن أحمد ) وزعم القاضي في شرح المذهب أنه المذهب أنه محرم لها ، لأنه يباح له النظر إليها ، أشبه ذا رحمها ، ويخرج الزاني والواطىء بالشبهة لا يكون محرماً للمزني بها ، والموطوءة بشبهة ، لعدم إباحة السبب ، هذا المذهب المنصوص ، وقيل : بل هو محرم لها ، نظراً للتحريم المؤبد ، وقيل ويحكى عن ابن عقيل : تحصل المحرمية في وطء الشبهة [ دون الزنا ، لعدم وصف وطء الشبهة ] بالتحريم ، وهو ظاهر في التلخيص ، قال : لسبب غير محرم . وعدل أبو البركات فقال : زوجها ، ومن تحرم عليه أبداً ، لا من تحريمها بوطء شبهة أو زنا . فقيل ) إنما قال ذلك حذاراً من أن يرد عليه أزواج النبي ، لأن تحريمهن على المسلمين أبداً بسبب مباح ، وهو الإسلام ، ليسوا بمحارم لهن ، فكان يجب استثناؤهن كما استثنى المزني بها ، فأجيب لانقطاع حكمهن [ فأورد عليه الملاعنة ، ولا جواب عنه .
ويعتبر للمحرم التكليف والإسلام ، نص عليهما ، والبذل للخروج فلو ] امتنع لم يجبر على المذهب ، وعنه : يجب عليه الخروج ، فيقتضي أنه يجبر ، واللَّه أعلم .
قال : فمن فرط فيه حتى توفي ، أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة .
ش : ( من ) من أدوات الشرط ، يشمل المذكر والمؤنث ، على المشهور من قولي الأصوليين ، فمن وجب عليه الحج من الرجال والنساء ، ولم يحج حتى مات ، وجب أن يحج عنه ، ويعتمر إن قلنا بوجوب العمرة ، وهو المذهب .
1428 لما روي عن ابن عباس ري اللَّه عنهما أنه قال : أتى رجل النبي فقال : إن أختي نذرت أن تحج ، وإنها ماتت ، فقال النبي ( لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ ) قال : نعم . قال ( فاقض اللَّه فهو أحق بالقضاء ) وفي رواية : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت : إن أمي نذرت أن تحج ، فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال ( حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ ) قالت : نعم . قال ( اقضوا اللَّه فاللَّه أحق بالوفاء ) متفق عليه .
1429 وله أيضاً قال : أتى رجل النبي فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال ( أرأيت لو أن أباك ترك ديناً عليه أقضيته عنه ؟ ) قال : نعم .
____________________
(1/458)
رواه الدارقطني .
1430 وعن بريدة قال : جاءت امرأة إلى النبي فقالت : إن أمي ماتت ولم تحج ، أفأحج عنها ؟ قال ( مهك حجي عنها ) رواه الترمذي انتهى . ويحج عنه من جميع ماله ، لأنه دين مستقر ، أشبه دين الآدمي ، فإن اجتمع معه دين آدمي تحاصا على المذهب ، لاستواء الحقين في الوجوب ، ووجود مرجح لكل منهما ، فدين اللَّه يقدم لعظم مستحقه ، وقد قال النبي ( اللَّه أحق بالوفاء ) ودين الآدمي لشحه ، وقيل : يقدم دين الآدمي ، للمعني الثاني .
ويجب أن يحج عنه من حيث وجب ، من بلده ، أو من محل يساره ، لتعلق الوجوب من ثم ، والقضاء على وفق الأداء ، نعم لو خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات ، لأن ما مضى سقط عنه وجوبه ، حتى لو فعل بعض المناسك سقطت عنه ، وفعل ما بقي ، ولو لم تف تركته بالإخراج من حيث وجب حج عنه من حيث يبلغ على المذهب ، لقول النبي ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) ( وعنه ) ما يدل على سقوط الحج والحال هذه ، لعدم الإتيان به على الكمال ، وحيث وجب الإتيان به من مح ل فأتى به من دونه فإن كان دون مسافة القصر أجزأ ، لأنه في حكم القريب ، وإن بلغها فقولان : ( الإجزاء ) ، وهو احتمال لأبي محمد ، كما لو أحرم دون الميقات وهو فرضه ، ( وعدمه ) ، قاله القاضي ، لعدم الإتيان بالواجب .
وقول الخرقي : فمن فرط حتى توفي . لا مفهوم له ، بل من مات بعد وجوب الحج عليه وجب أن يحج عنه بشرطه ، وإن لم يكن فرط ، إذ التمكن من الأداء ليس بشرط في الوجوب ، والظاهر أن الخرقي رحمه اللَّه أشار بهذا إلى أن الحج وجوبه على الفور ، وهو المشهور والمذهب
____________________
(1/459)
من الروايتين ، بناء على قاعدتنا من أن الأوامر كلها على الفور .
1431 وفي الباب بخصوصه عن ابن عباس ، عن النبي ( تعجلوا إلى الحج يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ) رواه أحمد ، وفيه غير ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ومن حج عن غيره ، ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ . وكانت الحجة عن نفسه .
ش : لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره على الصحيح المشهرو من الروايتين ، حتى أن القاضي في الروايتين قال : لا يختلف أصحابنا أنه لا ينعقد عن المحجوج عنه .
1432 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : إن النبي سمع رجلاً يقول : لبيك عن شبرمة . قال : ( ومن شبرمة ؟ ) قال أخ لي أو قريب لي . قال ( أحججت عن نفسك ؟ ) قال : لا . قال ( حج عن نفسك ثم احجج عن شبرمة ) رواه أبو داود ، وقال البيهقي : هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه .
( والثانية ) : يجوز ، حكاها أبو الحسين وغيره ، لأن الحج تدخله النيابة ، فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة ، فعلى هذا يقع عن الغير لعموم ( الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ) .
وعلى المذهب فاختار أبو بكر في الخلاف وحكاه عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد يقع إحرامه باطلاً ، لأنه لم ينو عن نفسه فلا يحصل له إذ ليس لامرىء إلا ما نوى ، وغيره ممنوع من الإحرام [ عنه ] فلا يصح له ، لارتكابه النهي ، وقال الخرقي و ابن حامد و القاضي وأتباعه : يقع حجة عن نفسه ، إلغاء لنية التعيين ، فيصير كما لو أحرم مطلقاً ، ولو أحرم مطلقاً صح عن نفسه بلا ريب فكذلك هاهنا ، وفارق الصلاة ، فإنها لا تصح بنية مطلقة ، وكذلك الصوم على المذهب .
1433 وقد جاء في الحديث ( هذه عنك ، وحج عن شبرمة ) رواه الدارقطني وقال أبو حفص العكبري : يقع الإحرام عن المحجوج [ عنه ] نظراً للنية ، ثم [ يجب أن ] يقلبه الحاج عن نفسه .
1434 إذ في الحديث ( اجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة ) رواه ابن ماجه وحيث لا يقع الحج عنالغير فإنه يرد ما أخذ ، لأنه لم يعمل العمل الذي أخذ العوض لأجله .
( تنبيهات ) : ( أحدها ) : الحكم فيما إذا كان عليه قضاء أو نذر فحج عن الغير كالحكم في حجة الإسلام على ما سبق .
( الثاني ) : كما أنه لا يجوز أن يحج عن الغير [ من ] لم يحج عن نفسه كذلك يجب إذا حج عن نفسه أن يقدم الفريضة ، ثم حجة القضاء ، ثم النذر ، ثم النافلة وإذا جوزنا [ ثم جوزنا ] هنا ، فعلى الأول : إذا خالف فقدم على حجة الإسلام غيرها ، أو على القضاء النذر ، أو على النذر التطوع ، فهل يقع باطلاً ، أو عن ما يجب الإيقاع عنه ، على ما تقدم من الخلاف ؟ هذا نقل أبي البركات ، وأما أبو الحسين في الفروع ، وصاحب التلخيص ،
____________________
(1/460)
و أبو محمد في المغني ، فحكوا هنا روايتين أصحهما الوقوع عما يجب الإيقاع عنه .
( والثانية ) : أنه يقع عما نواه ، قال أبو الحسين : وهو ظاهر كلام أبي بكر . وقال أبو محمد : وهو قول أبي بكر ، ولم يحكوا القول بالبطلان هنا ، مع حكايتهم قول أبي بكر ثم . انتهى .
وحكم نائب المعضوب أو الميت يحرم بتطوع أو نذر عمن عليه حجة الإسلام حكم ما لو أحرم هو كذلك ، إذ حكم النائب حكم المنوب عنه ، نعم له أن يستنيب رجلين أحدهما يحرم بالفريضة والآخر بالمنذورة في سنة واحدة ، لكن أيهما أحرم أولاً وقع عن الفريضة ، ثم الثاني عن النذر ، قاله أبو محمد ( الثالث ) : العمرة إن قيل بوجوبها كالحج فيما تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : ومن حج وهو غير بالغ فبلغ ، أو عبد فعتق فعليه الحج .
ش : من حج وهو صبي أو بلغ أو [ وهو ] عبد ثم عتق لم يجزئهما عن حجة الإسلام ، وعليهما الحج بعد البلوغ والعتق .
1435 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قال رسول اللَّه ( أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى ، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى ) رواه البيهقي [ وغيره ] وقال بعض الحفاظ : ولم يرفعه إلا يزيد بن زريع عن شعبة وهو ثقة .
1436 وعن محمد بن كعب القرظي عن النبي قال ( أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه ، فإن أدرك فعليه الحج ، وأيما رجل مملوك حج به أهله ، فمات أجزأت عنه ، فإن عتق فعليه الحج ) ذكره أحمد في رواية ابنه عبد اللَّه هكذا مرسلاً ولأنهما فعلا الحج قبل وجوبه عليهما فلم يجزئهما ، أصله إذا صلى الصبي الصلاة ثم بلغ في وقتها ، مع أن هذا قول عامة أهل العلم إلا شذوذا ، بل قد حكاه الترمذي إجماعاً .
وقد فهم [ من ] كلام الخرقي أنه يصح حج الصبي والعبد ، ولا ريب في ذلك لما تقدم ، ولأن العبد من أهل العبادات والتكاليف في الجملة .
1437 وروى ابن عباس رضي اللَّه عنهما عن النبي أنه لقي ركباً بالروحاء فقال ( من القوم ؟ ) قالوا : المسلمون . فقالوا : من أنت ؟ قال ( أنا رسول اللَّه ) فرفعت إليه امرأة صبياً فقالت : ألهذا حج ؟ قال ( نعم ولك أجر ) رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، وفي رواية لمسلم ( صبياً صغيراً ) .
____________________
(1/461)
واقتضى كلام الخرقي أيضاً أن الحج لا يجب عليهما وإلا لأجزأهما ، وهو كذلك ، لما تقدم من حديثي ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ، ولأن الصبي القلم مرفوع عنه ، والعبد مشغول بحقوق سيده ، والحج تطول مدته غالباً ، ويعتبر له الزاد والراحلة ، فلم يجب على العبد كالجهاد .
( تنبيه ) : لو حصل العتق أو البلوغ قبل الفراغ من الحج ، فإن كان بعد فوات وقت الوقوف لم يجزئهما ذلك عن حجة الإسلام بلا ريب ، لفوات الركن الأعظم وهو الوقوف ، وإن كان في وقت يدركان معه الوقوف ووقفا ، نظرت فإن كان قبل السعي ، أو بعده وقلنا السعي ليس بركن أجزأتهما تلك الحجة عن حجة الإسلام ، لإدراكهما الركن [ الأعظم ] وهو الوقوف ، والإحرام مستصحب .
1438 واعتمد أحمد بأن ابن عباس قال : إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته ، وإن أعتق بجمع لم تجزىء عنه . وإن كان العتق أو البلوغ بعد السعي ، وقلنا بركنيته فوجهان ( أحدهما ) واختاره ابن عقيل تبعاً لقول شيخه في المجرد : أنه قياس المذهب لا يجزئه ، لوقوع الركن في غير وقت الوجوب ، أشبه ما لو كبر للإحرام ثم بلغ . ( والثاني ) وهو اختيار القاضي أظنه في التعليق ، و أبي الخطاب ، وظاهر كلام أبي محمد يجزئه ، نظراً لحصول الركن الأعظم وهو الوقوف ، وجعلا لغيره تبعاً له ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا حج بالصغير جنب ما يجتنبه الكبير .
ش : إذا حج بالصبي وجب أن يجنب ما يجنبه الكبير من الطيب ، واللباس ، وقتل الصيد ، وحلق الشعر ، وغير ذلك ، لأن الحج يصح له بحكم النص السابق ، وإذا صح له ترتبت أحكامه ، ومن أحكامه تجنب ما ذكر ، وهو لا يخاطب بخطاب تكليفي ، فوجب على الولي أن يجنبه ذلك ، كما وجب عليه تجنيبه شرب الخمر ، وغيرها من المحرمات .
1439 وقد روي عن عائشة رضي اللَّه عنها 16 ( أنها كانت [ تجرد ] الصبيان إذا دنوا من الحرم ، واللَّه أعلم ) .
قال : وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه .
ش : كما إذا عجز عن الرمي ، أو الطواف ونحوهما .
1440 لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : 16 ( حججنا مع رسول اللَّه ومعنا النساء والصبيان ، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم ) . رواه أحمد وابن ماجه .
1441 وعن ابن عمر أنه كان يحجج صبيانه وهم صغار ، فمن اصتطاع منهم أن
____________________
(1/462)
يرمي رمى ، ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه .
1442 وعن أبي إسحاق أن أبا بكر رضي اللَّه عنه طاف بابن الزبير في خرقة . رواهما الأثرم .
وظاهر كلام الخرقي أن ما أمكن الصبي عمله عمله ، وذلك كالوقوف ، والمبيت بمزدلفة ، وبمنى ، ونحو ذلك ، وكذلك الإحرام أن عقله صح منه بإذن الولي بلا ريب وبدون إذنه فيه وجهان : أصحهما وبه جزم أبو محمد لا يجزئه ، قياساً على بقية تصرفاته ، إذ لا ينفك عن لزوم [ مال ] فهو كالبيع .
والثاني : يجزئه تغليباً لجانب العبادة ، وإن لم يعقله فعله الولي ، ( والولي ) هو من يلي ماله من أب أو غيره ، وفي صحة إحرام الأم عنه وجهان ، ( الصحة ) وهو ظاهر كلام أحمد ، اخرتاه ابن عقيل ، ومال إليه أبو محمد ، لظاهر حديث ابن عباس ، إذ الظاهر أن الأجر الثابت لها لكون الصغير تبعاً لها في الإحرام ، ( وعدمها ) وهو اختيار القاضي ، لعدم ولايتها [ عليه ] في المال ، أشبهت الأجنبي ، وفي بقية العصبات وجهان مخرجان من القولين فيها ، فأما الأجنبي فلا يصح أن يحرم عنه وجهاً واحداً ، ومعنى الإحرام عنه أن يعقد له الإحرام ، فيصير الصبي محرماً بذلك [ الإحرام ] دون العاقد ، واللَّه أعلم .
قال : ومن طيف به محمولاً كان الطواف له دون حامله ، واللَّه أعلم بالصواب .
ش : يصح طواف المحمول في الجملة ، وستأتي هذه المسألة إن شاء اللَّه تعالى ، ثم لا يخلو من ثمانية أحوال ( أحدها ) : نويا جميعاً عن [ الحامل ، فيصح له فقط بلا ريب . ( الثاني ) نويا جميعاً عن ] المحمول ، فتختص الصحة به أيضاً .
( الثالث ) : نوى كل منهما عن نفسه ، فيصح الطواف للمحمول دون الحامل ، جعلا له كالآلة ، وحسن أبو محمد صحة الطواف لهما [ وهو مذهب الحنفية ، واحتمال لابن الزغوانيّ نظراً إلى نيتهما ، ومنع أبو حفص العكبري الصحة في هذه الصورة رأساً ، زاعماً أنه لا أولوية لأحدهما ، والفعل الواحد لا يقع عن اثنين ، وهذه الصورة واللَّه أعلم هي الحاملة للخرقي على ذكر هذه المسألة . ( الرابع والخامس ) : نوى كل منهما عن نفسه ، ولم ينو الآخر [ شيئاً ] فيصح للناوي دون غيره .
( السادس والسابع والثامن ) : لم ينو واحد منهما ، أو نوى كل منهما عن صاحبه ، فلا يصح لواحد منهما ، ويتحرر أنه يصح الطواف للمحمول في ثلاث صور ، إذا نويا جميعاً له ، أو نوى هو لنفسه ولم ينو الآخر شيئاً ، أو نوى كل منهما لنفسه ، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم .
( باب ذكر المواقيت )
ش : المواقيت جمع ميقات ، وهو الزمان والمكان المضروب للفعل ، واللَّه أعلم .
قال : وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشام ومصر والمغرب من
____________________
(1/463)
الجحفة ، وأهل اليمن من يلملم ، وأهل الطائف ونجد من قرن ، وأهل المشرق من ذات عرق .
1443 ش : روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، ويهل أهل الشام من الجحفة ، ويهل أهل نجد من قرن ) قال ابن عمر رضي اللَّه عنه : وذكر لي ولم أسمع أن رسول اللَّه قال ( يهل أهل اليمن من يلملم ) .
1444 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم ، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ، ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة ) متفق عليهما ، فهذه الأربع مواقيت ثبتت في الصحيح .
1445 وأما ذات عرق لأهل المشرق ففي سنن أبي داود والنسائي عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول اللَّه : وقت لأهل العراق ذات عرق .
1446 وفي البخاري عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : 16 ( لما فتح هذان المصران ، أتوا عمر بن الخطاب فقالوا : يا أمير المؤمنين إن رسول اللَّه حد لأهل نجد قرناً ، وإنه جور عن طريقنا ، وإنا إن أردنا أن نأتي قرناً شق علينا . قال : فانظروا حذوها من طريقكم . قال : فحدّ لهم عمر ذات عرق ) . فيحتمل أن اجتهاد عمر رضي عنه وقع على وفق ما قاله رسول اللَّه ، فإنه رضي اللَّه عنه كان موفقاً للصواب ، ويحتمل اختصاص عمر بذلك ، وكافيك به لكن ثبوت توقيت ذلك عن رسول اللَّه ليس كغيره ، وقد أنكر أحمد رحمه اللَّه حديث عائشة في ذات عرق .
1447 وجاء عن ابن عباس قال : وقت رسول اللَّه لأهل المشرق العقيق ، رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، قال الحافظ المنذري : وفيه يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف .
( تنبيه ) : ( ذو الحليفة ) بضم الحاء وفتح اللام موضع عند قرية ، بينه وبين المدينة ستة أميال أو سبعة ، ( والجحفة ) بجيم مضمومة ، ثم حاء مهملة ساكنة قرية جامعة تميز على طريق المدينة من مكة كان اسمها ( مهيعة ) ، فجحف السيل بأهلها فسميت به ،
____________________
(1/464)
( ومهيعة ) بفتح الميم ، وسكون الهاء ، وفتح الياء ، وقال بعضهم بكسر الهاء كجميلة ، وهي [ على ] ثلاث مراحل من مكة ، و ( قرن ) بفتح القاف [ وسكون الراء المهملة ، ويقال له ( قرن المنازل ) و ( قرن الثعالب ) ورواه بعضهم بفتح الراء وغلط ، قيل ] من قال بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع ، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه ، فإنه موضع فيه طرق مفترقة ، وهو تلقاء مكة ، على يوم [ وليلة ] منها ، و ( يلملم ) بفتح الياء آخر الحروف ، و [ يقال ] : ألملم باللام والراء ، وهو على ليلتين من مكة ، و ( ذات عرق ) منزل معروف من منازل الحاج ، يسمى بذلك لأن فيه عرقاً وهو الجبل الصغير ، وقيل : العرق من الأرض سبخة تنبت الطرفاء ، و ( العقيق ) قبل ذات عرق بمرحلة أو مرحلتين ، وكل مسيل شقه ماء السيل فوسعه فهو عقيق ، و ( المصران ) البصرة والكوفة والمصر المدينة ( والجور ) الميل عن القصد ، واللَّه أعلم .
قال : وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل .
ش : ميقات أهل مكة إذا أرادوا العمرة من الحل .
1448 لقول عائشة رضي اللَّه عنها : نزل رسول اللَّه [ بالمحصب ] فدعى عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال ( اخرج بأختك [ من الحرم ] فلتهل بعمرة ، ثم لتطف بالبيت ، فإني أنتظركما هنا ) مختصر ، متفق عليه . وليجمع في النسك بين الحل والحرم ، إذ أفعال العمرة كلها في الحرم ، فلو أحرم منه لم يجمع بينهما ، وهذا بخلاف الحج ، إذ في الحج يخرج إلى عرفة ، فيحصل الجمع ، ومن أي الحل أحرم جاز ، وإنما أمرت عائشة رضي اللَّه عنها واللَّه أعلم بالإحرام من التنعيم لأنه أقرب الحل إلى مكة . وقال أحمد في المكي : كلما تباعد فهو أعظم للأجر ، هي على قدر تعبها ، وذكر صاحب التلخيص أن أفضل مواقيتها الجعرانة ، ثم التنعيم ، ثم الحديبية ، فلو خالف فأحرم بها من الحرمك ، أثم ولزمه دم . لمخالفة الميقات ، ثم إن خرج إلى الحل قبل إتمامها وعاد أجزأته عمرته ، لوجود الجمع بين الحل والحرم ، وإن لم يخرج حتى أتم أفعالها فوجهان ( أحدهما ) : وهو المشهور يجزئه ، إذ فوات الإحرام من الميقات لا يقتضي البطلان ، دليله الحج
( والثاني ) : لا يجزئه ، نظراً إلى أن الجمع شرط وقد فات ، فعلى هذا لا يعتد بأفعاله ، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا أرادوا الحج فمن مكة .
ش : إذا أراد أهل مكة الحج فميقاتهم من مكة ، لما تقدم من حديث ابن عباس رضي اللَّه عنه ، وفي رواية ( حتى أهل مكة يهلون منها ) .
1449 وقال جابر رضي اللَّه عنه : أمرنا رسول اللَّه لما أحللنا أن نحرم إذا
____________________
(1/465)
توجهنا من الأبطح . رواه مسلم ( وعن أحمد ) فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة : يهل بالحج من الميقات ، فإن لم يفعل فعليه دم . وذكر القاضي أظنه في المجرد ونقله عن أحمد فيمن دخل مكة محرماً عن غيره بحج أو عمرة [ ثم أراد أن يحرم عن غيره بحج أو عمرة ] أنه يلزمه الإحرام من الميقات ، فإن لم يفعل فعليه دم ، لأنه جاوز الميقات مريداً للنسك ، والمشهور وهو اختيار أبي محمد الأول عملاً بإطلاق الحديث ، وعليه لو أحرم من الحل فقال أبو محمد : إن كان من الحل الذي يلي عرفة فهو كالمحرم دون الميقات ، فيلزمه دم ، وكذلك إن كلن من الجانب الآخر ولم يسلك الحرم ، لعدم الجمع بين الحل والحرم ، وإن سلكه فهو كالمحرم قبل الميقات فلا دم عليه ، وحكى أبو البركات وغيره روايتين على الإطلاق ، وعلى رواية وجوب الدم لو أحرم بين مكة والحل ففي وجوب الدم أيضاً روايتان ، حكاهما في التلخيص .
( تنبيه ) : أهل مكة من كان فيها ، ساء كان مقيماً بها أو غير مقيم ، وحكم الحرم حكم مكة في [ جواز ] إحرام المكي منه ، وقد أحرم الصحابة من الأبطح . واللَّه أعلم .
قال : ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم .
ش : لما تقدم من حديث عمر رضي اللَّه عنه : انظروا حذوها من طريقكم . فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم قبلة ، إذ الإحرام قبل الميقات جائز ، وبعده حرام ، ولا يجب الإحرام حتى يعلم المحاذاة ، حذاراً من الوجوب بالشك ، واللَّه أعلم .
قال : وهذه المواقيت لأهلها ، ولمن مر عليها من غير أهلها ، ممن أراد حجا أو عمرة .
ش : المواقيت التي تقدمت لأهلها الذين ذكرهم ، ولمن مر عليها من غير أهلها ، سواء كان مريداً للحج أو للعمرة فإذا حج الشامي من طريق المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته ، لحديث ابن عباس ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجاً أو عمرة ) ، واللَّه أعلم .
قال : والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته .
ش : لأن النبي وأصحابه رضي اللَّه عنهم لم يحرموا إلا من الميقات ، ولا يفعلون إلا الأفضل والأكمل قطعاً ، ولم ينقل عن النبي أنه أمر أحداً أن يحرم قبل الميقات .
1450 وعن الحسن 16 ( أن عمران بن الحصين أحرم من البصرة ، )6 ( فبلغ ذلك عمر رضي اللَّه عنه ، فغضب وقال : يتسامع الناس أن رجلاً من أصحاب رسول اللَّه أحرم من مصره . )
____________________
(1/466)
1451 وقال 16 ( إن عبد اللَّه بن عامر أحرم من خراسان ، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع ، وكرهه له ) . رواهما سعيد والأثرم .
1452 وقال البخاري في صحيحه 16 ( : كره عثمان أن يحرم الرجل من خراسان ) . ولأنه يعرض نفسه لمواقعة المحظور ، وفيه مشقة على نفسه ، فلم يطلب كالوصال في الصوم .
1453 وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال : قال رسول اللَّه ( ليستمتع أحدكم بحله [ ما استطاع ] فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه ) .
1454 ويرشح هذا قوله عليه السلام ( بعثت بالشريعة السهلة السمحة ) ونحو هذا .
1455 وما روي عن أم سلمة رضي اللَّه عنها قالت : سمعت النبي يقول ( من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه أحمد وأبو داود فمختص واللَّه أعلم ببيت المقدس ، ليجمع في الصلاة بين مسجدين في إحرام واحد ، ولهذا أحرم ابن عمر منه .
1456 قال مالك في موطئه : عن الثقة عنده 16 ( أن ابن عمر أهل بحج من إيلياء ) مع أن الحديث قد ضعف ، قال المنذري : اختلف الرواة في متنه وفي إسناده اختلافاً كثيراً .
1457 وما يروى عن عمر وعلي رضي اللَّه عنهما [ أنهما ] 16 ( قالا في قوله تعالى 9 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه } ) : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ) . ففسره أحمد وسفيان بأنه ينشى لهما سفراً من بلده مقصوداً لهما ، ويعين هذا أن النبي وأصحابه لم يحرموا إلا من الميقات ، وإلا يلزم مخالفة الأمر ، وهو منفي قطعاً ، ثم قد تقدم أن عمر أنكر على عمران إحرامه من مصره ، فكيف ينكر المأمور ، واللَّه أعلم .
قال : فإن فعل فهو محرم .
ش : إذا ترك الاختيار ، وأحرم قبل الميقات صح إحرامه بالإجماع ، حكاه ابن المنذر وما تقدم عن عمر وعثمان يدل على ذلك ، إذ لم يأمرا من أحرم قبل الميقات بإعادة الإحرام ، وهل يكره ؟ فيه قولان المجزوم به عند أبي محمد الكراهة ، تبعاً لما نقل عن عثمان رضي اللَّه عنه وحذاراً من المخالفة لما فعله سيد الأنام .
قال : ومن أراد الإحرام فجاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم من الميقات ، فإن أحرم من موضعه فعليه دم وإن رجع محرماً إلى الميقات .
____________________
(1/467)
ش : يجب على المريد للنسك أن يحرم من الميقات ، اقتداء بفعل رسول اللَّه ، وبقوله ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة ) الحديث ، ولأنه ميقات للعبادة ، فلم يجز تجاوزه كميقات الصلاة ، فإن أحرم فبها ونعم ، وإن جاوزه غير محرم فقد أثم إن كان عالماً ، ووجب عليه الرجوع إن أمكنه ، ليأتي بالواجب ، فإن رجع فأحرم من الميقات فلا دم عليه ، وإن لم يرجع وأحرم من مكانه فعليه دم لتركه الواجب .
1458 وقد روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنه عن النبي أنه قال ( من ترك نسكاً فعليه دم ) روي موقوفاً ومرفوعاً وسواء رجع محرماً إلى الميقات أو لم يرجع ، إذ بالإحرام دون الميقات حصل ترك الواجب فوجب الدم ، والأصل عدم سقوطه .
وقول الخرقي : ومن أراد الإحرام . ومفهومه أن من لم يرد الإحرام ليس حكمه كذلك ، فلا يخلو غير المريد للإحرام إما أن يريد الحرم أو دونه ، فإن كان مراده دون الحرم فلا إحرام عليه بلا نزاع ، لحديث ابن عباس ، ولأن النبي أتى بدراً مرتين ولم يحرم ، ثم إن بدا له الإحرام أحرم من موضعه ولا شيء عليه ، على ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي محمد ، اعتماداً على ظاهر حديث ابن عباس ، وعن أحمد : يلزمه الرجوع إلى الميقات . انتهى .
وإن كان مراده الحرم فلا يخلو من ثلاثة أحوال :
( أحدها ) أن يكون قصده لذلك لحاجة تتكرر ، كالاحتشاش والاحتطاب ، ونحوهما ، أو لقتال مباح ، أو خوف ، فيجوز له الدخول بغير إحرام ، لظاهر حديث ابن عباس ، ويخص القتال والخوف ونحوهما .
1459 بما روى جابر أن النبي دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام . رواه مسلم ، والنسائء .
1460 وفي الصحيح أنه دخل مكة [ عام الفتح ] وعلى رأسه المغفر ، الحديث قال مالك : ولم يكن رسول اللَّه يومئذ محرماً ، ويخص من تكررت حاجته لأن في وجوب الإحرام عليه إذاً حرجاً ومشقة ، وهما منتفيان شرعاً .
الحال الثاني : أن يكون ممن لم يتعلق به الوجوب ، كالصبي والعبد والكافر ، فهؤلاء لا إحرام عليهم ، لحديث ابن عباس ثم [ أيضاً ] إن بلغ الصبي ، وعتق العبد ، وأرادا النسك وجب عليهما الإحرام من موضعهما ، ولا شيء عليهما ، لتعلق الوجوب بهما
____________________
(1/468)
إذاً ، وكذلك الكافر يسلم على إحدى الروايتين ، واختيار أبي محمد ، نظراً إلى أن الإسلام يجب ما قبله ، فحكم الخطاب إنما تعلق إذاً ( والرواية الثانية ) : يجب عليه الرجوع إلى الميقات ليحرم منه ، فإن أحرم من موضعه فعليه دم ، اختاره أبو بكر والقاضي ، وأبو الخطاب في خلافه الصغير وغيرهم ، بناء على مخاطبته بالفروع على المذهب ، ومن هنا يمتنع تخريج أبي محمد الرواية للصبي والعبد .
( الحال الثالث ) من عدا ما تقدم ، كالداخل لتجارة ، أو زيارة ونحو ذلك ، ففيه روايتان ، أنصهما وهو اختيار جمهور الأصحاب وجوب الإحرام ، لأنه من أهل فرض الحج ، وحاجته لا تتكرر ، أشبه مريد النسك . والثانية : وهو ظاهر كلام الخرقي لا إحرام عليه ، وهو ظاهر النص .
1461 وحكاه أحمد عن ابن عمر فعلى الأولى إذا دخل طاف وسعى وحلق وحل ، نص عليه أحمد ، واللَّه أعلم .
قال : ومن جاوز الميقات غير محرم فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم ، واللَّه أعلم .
ش : من جاوز الميقات ممن يلزمه الإحرام غير محرم ، فخشي أنه إن رجع إلى الميقات فاته الحج ، فإنه يسقط عنه الرجوع ، ويحرم من موضعه ، محافظة على إدراك الحج ، ونظراً إلى وجوب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما وعليه دم لتركه الواجب واللَّه سبحانه وتعالى أعلم .
( ( باب ذكر الإحرام ) )
قال : ومن أراد الحج وقد دخل أشهر الحج فإذا بلغ الميقات فالاختيار [ له ] أن يغتسل .
ش : الاختيار لمن أراد الإحرام أن يغتسل .
1462 لما روي عن خارجة بن زيد عن أبيه ، أن النبي تجرد لإهلاله واغتسل . رواه الترمذي وقال : حسن غريب .
وثبت أن النبي أمر أسماء بنت عميس لما نفست أن تغتسل وتهل .
1464 وكذلك أمر عائشة لما حاضت .
1465 [ وفي الموطأ عن نافع ، 16 ( أن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما كان يغتسل لإحرامه ] قبل أن يحرم ، ولدخوله مكة ، ولوقوفه عشية بعرفة ) .
____________________
(1/469)
فإن لم يجد ماء سن له التيمم عند القاضي ، لأنه قائم مقامه ، فشرع كالغسل الواجب ، ولم يسن له التيمم عند أبي محمد ، لأنه غسل مسنون ، أشبه غسل الجمعة ، ولفوات المقصود منه وهو التنظيف .
وقد أشعر كلام الخرقي بأن المطلوب أن لا يحرم الإنسان بالحج إلا من الميقات المكاني ، وفي الميقات الزماني ، أما الأول فقد تقدم ، وأما الثاني فلا ريب فيه ، بحيث لو أحرم قبل ذلك كره ، قياساً على الميقات المكاني وخروجاً من الخلاف ، فإن بعض العلماء لا يصحح إحرامه بالحج قبل أشهره ، وهو رواية عن أحمد رحمه اللَّه ، ويحتمله كلام الخرقي ، لظاهر قول اللَّه تعالى 19 ( { الحج أشهر معلومات } ) أي وقت الحج أشهر معلومات ، وإذا كان هذا وقته فلا يجوز تقديم شيء منه عليه كوقت الصلاة .
1466 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : 16 ( من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ) . رواه البخاري . أي الطريقة والشريعة ، هذا هو الظاهر ( والمذهب ) المنصوص المختار للأصحاب صحة الحج قبلها ، قياساً على الميقات المكاني ، ولإطلاق قوله تعالى 19 ( { يسألونك عن الأهلة ، قل هي مواقيت للناس والحج } ) ظاهره أن جميع الأهلة مواقيت الحج ، وتحمل الآية الكريمة السابقة على ما عدا الإحرام من أفعال الحج ، أو يقال : الإحرام مستصحب ، فيكتفي بالجزء الواقع فيها ، فما خرج شيء من أفعال الحج عنها ، والسنة في قول ابن عباس يحتلم أنها المقابلة للواجب .
1467 كما في قول النبي ( إن اللَّه فرض صيام رمضان ، وسننت أنا قيامه ) .
وعلى الرواية الأولى ولعلها أظهر إذا أحرم بالحج صح عمرة ، لصحة الإحرام بها في كل السنة ، ومجرد الإحرام يقتضي أفعالها ، وهو الطواف والسعي والحلق ، وما زاد على ذلك مختص بالحج ، وإذا بطل الخصوص بقي العموم فهو كما لو أحرم بالصلاة قبل وقتها ، لكن يقال على هذا بأن اقتضاء الإحرام لأفعالها لا يقتضي أنه إذا بطل الحج أنه تحصل له عمرة ، إذ العمرة نسك آخر ، فهو كالعصر إذا نقلها للظهر لا تصح ظهراً ، غايته أن يقال : يتحلل بعمل عمرة .
وقد يبني الخلاف في انعقاد الحج قبل أشهره على الخلاف في الإحرام ، هل هو شرط أو ركن ؟ فإن قلنا ركن لم يصح ، إذ ركن العبادة لا يصح في غير وقتها ، وقد يقال : على القول بالشرطية لا يصح أيضاً ، لأن بالإحرام دخل في الحج ، فيلزم إيقاع جزء من العبادة في غير وقتها ، والانفصال عن هذا جميعه بأنا لا نسلم أن هذه الأشهر هي الوقت له ، بل جميع السنة وقت له ، واللَّه تعالى أعلم .
____________________
(1/470)
وقد عرفت من هنا أن تقييد الخرقي مريد الحج بهذا الحكم لتخرج العمرة ، فإنها تفعل في كل السنة .
1468 قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : عن النبي ( عمرة في رمضان تعدل حجة ) متفق عليه .
1469 وعنه أن النبي اعتمر أربعاً ، إحداهن في رجب . رواه الترمذي وصححه .
1470 وعن عائشة رضي اللَّه عنها أن النبي اعتمر عمرتين ، عمرة في ذي القعدة ، وعمرة في شوال . رواه أبو داود ، واللَّه أعلم .
قال : ويلبس ثوبين نظيفين .
ش : أي والاختيار [ للمحرم ] أن يلبس ثوبين [ أي ] نوعين من الثياب ، وهما الإزار والرداء .
1471 لما روي عن ابن عمر في حديث له عن النبي قال ( وليحرم أحدكم في إزار ورداء ، ونعلين ، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ، وليقطعهما أسفل [ من ] الكعبين ) ، رواه أحمد ، وقال ابن المنذر : ثبت ذلك عن رسول اللَّه ، ( والمستحب ) أن يكونا نظيفين ، جديدين أو غسيلين ، إذ يستحب له تنظيف بدنه ، فكذلك ثيابه ، والأولى أن يكنا [ أبيضين .
1472 لقوله عليه السلام ( خير ثيابكم البياض ) ] ، واللَّه أعلم .
قال : ويتطيب .
ش : لما روت عائشة رضي اللَّه عنها قالت : طيبت رسول اللَّه بيدي هاتين لإحرامه حين أحرم ، ولحله حين أحل ، قبل أن يطوف ، وبسطت يديها ، وفي رواية : بطيب فيه مسك . وفي أخرى : في حجة الوداع للحل والإحرام . وفي أخرى : بأطيب ما أجد ، حتى أجد وبيض المسك في رأسه [ ولحيته ] . وفي أخرى : قال محمد بن المنتشر : 16 ( سألت عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرماً . فقال : ما أحب أن أصبح محرماً أنضح طيباً ، لأن أطلي بقطران ، أحب [ إلي من ] أن أفعل ذلك . [ فدخلت علي عائشة ، فأخبرتها أن ابن عمر قال : ما أحب أن أصبح محرماً أنضح طيباً ، لأن أطلي بقطران ، أحب [ إلي من ] أن أفعل ذلك ] . فقال
____________________
(1/471)
عائشة رضي اللَّه عنها : أنا طيبت رسول اللَّه عند إحرامه ، ثم طاف في نسائه ، ثم أصبح محرما ) زاد في رواية : ينضح طيباً متفق عليه .
1474 ورئي 6 ( ابن عباس محرماً وعلى رأسه مثل الرب من الغالية ) .
1475 وقال مسلم بن صبيح : 6 ( رأيت [ ابن ] الزبير وهو محرم ، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو [ كان ] لرجل اتخذ منه رأس مال ) .
وكلام الخرقي يشمل ما له جرم ، وما لا جرم له ، وصرح به غيره .
1476 وفي سنن أبي داود عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : كنا نخرج مع رسول اللَّه إلى مكة ، فنضمد جباهنا بالسّكّ المطيب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها ، فيراه النبي فلا ينهانها .
ويشمل أيضاً الطيب في البدن والثياب ، وكذلك كلام كثير من الأصحاب ، إذ التنظيف مقصود فيهما ، وقال أبو محمد في الكافي والمغني : يستحب في بدنه لا في ثوبه . وهو الذي أورده ابن حمدان مذهباً ، لأن في بعض روايات حديث عائشة رضي اللَّه عنها : طيبت رسول اللَّه لحله وطيبته لإحرامه ، طيباً لا يشبه طيبكم هذا . تعني ليس له بقاء ، رواه النسائي . وفي الثوب يبقى .
1477 وحديث يعلى بن أمية رضي اللَّه عنه أن رجلاً أتى النبي وهو بالجعرانة ، قد أهل بعمرة ، وهو مصفر لحيته ورأسه ، وعليه جبة ، فقال : يا رسول اللَّه أحرمت بعمرة وأنا كما ترى ؟ فقال ( انزع عنك الجبة ، واغسل عنك الصفرة ) . متفق عليه ، ورواه أبو داود وقال ( اغسل عنك أثر الخلوق أو قال : أثر الصفرة ) محمول [ على ] أنه كان زعفراناً .
1478 والنبي نهى أن يتزعفر الرجل ، وإذا نهى عن ذلك في غير الإحرام ففيه أحذر ، ثم حديث عائشة متأخر ، لأنه في حجة الوداع ، في السنة العاشرة ، وهذا الحديث بالجعرانة سنة ثمان ، والعمل بالمتأخر أولى ، ودعوى اختصاصه بالتطيب لهذا الحديث ، مردود بقول عائشة المتقدم : كنا نخرج مع رسول اللَّه [ إلى مكة ] فنضمد جباهنا . الحديث . ثم هو في مقام البيان ، وقد قال ( خذوا عني مناسككم ) فكيف لا يبين الخصوصية .
( تنبيه ) : اللام في ( لحله ) لام الوقت ، أي لوقت حله ، كما في قوله تعالى 9 ( { أقم
____________________
(1/472)
الصلاة لدلوك الشمس } ) و ( بيض الطيب ) بريقه ولمعانه ، يقال : وبص الشيء يبص وبيصاً ، وبص يبص بصيصاً ، و ( ينضح ) يفوح ، وأصله الرشح ، فشبه كثرة ما يفوح من طيبه بالرشح ، والرواية بالحاء المهملة ، وجاء في بعض نسخ مسلم : ( ينضح ) بخاء معجمة ، فقيل : هما سيان في المعنى ، وقيل : بل النضح بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة ، وقيل غير ذلك . و ( نضمد ) يقال : ضمدت الجرح . إذا جعلت عليه الدواء ، وضمدته بالزعفران ونحوه . وإذا لطخته . و ( السّكّ ) نوع من الطيب ، و ( الجعرانة ) في الحل بين الطائف ومكة ، وهي إلى مكة أقرب ، وتخفف وتشدد ، والتخفيف أكثر ، قال المنذري : [ هو الذي قيده ] المتقنون واللَّه أعلم .
قال : فإن حضر وقت صلاة مكتوبة صلاها ، وإلا صلى ركعتين .
ش : المستحب أن يحرم عقب صلاة ، إما فريضة أو نافلة .
1479 لما روي عن أنس بن مالك : أن رسول اللَّه صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء ، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر . رواه النسائي .
1480 وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما : خرج رسول اللَّه حاجاً ، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعيته ، أوجب في مجلسه . واللَّه أعلم .
قال : فإن أراد التمتع وهو اختيار أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه تعالى فيقول : اللَّهم إني أريد العمرة .
ش : الأنساك ثلاثة ، التمتع ، والإفراد ، والقران ، ولا خلاف بين الأئمة والحمد للَّه في جواز كل منها .
1481 [ وقد شهد لذلك قول عائشة رضي اللَّه عنها : خرجنا مع رسول اللَّه فقال : ( من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل ] ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل ) قالت : وأهل رسول اللَّه بالحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل معه ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بالعمرة ، وكنت فيمن أهل بعمرة . متفق عليه .
واختلف الأئمة في الأولى منها [ والأفضل ] فذهب إمامنا رحمه اللَّه في نفر كثير من الصحابة وغيرهم إلى أن التمتع أفضل ، وذهب أبو حنيفة رضي اللَّه عنه وجماعة إلى أن القران أفضل ، وذهب مالك ونفر من الصحابة وغيرهم ، وهو ظاهر مذهب الشافعي إلى أن الإفراد أفضل . واختلفوا في إحرام رسول اللَّه ، فادعى كل أنه أحرم كمختاره ، واختلافهم لاختلاف الأحاديث ، فقد تقدم عن عائشة رضي اللَّه عنها أنه أهل بالحج ، وفي رواية عنها : أنه أفرد الحج .
____________________
(1/473)
1482 وكذا في مسلم وغيره عن ابن عمر ، أن رسول اللَّه أحرم بالحج مفرداً . 1483 وروى أنس رضي اللَّه عنه أنه سمع رسول اللَّه يلبي بالحج والعمرة جميعاً . وفي رواية : سمعت رسول اللَّه يقول ( لبيك حجاً وعمرة ) .
1484 وعن جابر أن رسول اللَّه : قرن الحج والعمرة . رواه الترمذي والنسائي .
1485 وعن ابن عمر 16 ( أنه قرن الحج والعمرة ، وقال : هكذا رأيت رسول اللَّه يفعله ) . رواه النسائي .
1486 وجاء في رواية في الصحيح أنه أدخل الحج على العمرة ، وأنه طاف لهما طوافاً واحداً وقال : كذلك فعل رسول اللَّه .
1487 وعن علي نحو ذلك .
1488 وعن عمر رضي اللَّه عنه : سمعت رسول اللَّه وهو بوادي العقيق يقول ( أتاني الليلة آت [ من ربي ] فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة ) رواه أحمد والبخاري وأبو داود ، وفي رواية : ( وقل عمرة وحجة ) .
1489 وقال عمر رضي اللَّه عنه للصبي بن معبد لما أخبره أنه أهل بهما : 16 ( هديت لسنة نبيك ) ، رواه النسائي وغيره .
1490 وقال سراقة بن مالك رضي اللَّه عنه : سمعت النبي يقول ( دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ) قال : وقرن رسول اللَّه في حجة الوداع . رواه أحمد ، انتهى .
1491 وروى ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : تمتع رسول اللَّه ، وأبو بكر وعمر ، وعثمان ، وأول من نهى [ عنها ] معاوية . رواه الترمذي والنسائي .
1492 وعن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه عنه قال : لقد تمتعنا مع رسول اللَّه . رواه مسلم وفي رواية النسائي وغيره : صنعناها مع رسول اللَّه بأمره ، وصنعها هو .
____________________
(1/474)
1493 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما سمعت عمر رضي اللَّه عنه يقول : واللَّه لا أنهاكم عن المتعة ، فإنها لفي كتاب اللَّه ، ولقد فعلها رسول اللَّه أأمر أبي نتبع أم أمر رسول اللَّه ؟ فقال الرجل : بل أمر رسول اللَّه . [ فقال : لقد صنعها رسول اللَّه ] رواه الترمذي .
1495 وفي الصحيحين في رواية عن عمران بن حصين : تمتع نبي اللَّه وتمتعنا معه .
1496 وفي الصحيحين أيضاً عن ابن عمر : تمتع رسول اللَّه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وروي غير ذلك .
وقيل : إنه أحرم مطلقاً ، بدليل حديث عمر المتقدم ، والمحققون على أنه كان نسكه قراناً ، والظاهر أنه أحرم بعمرة ، ثم أدخل عليها الحج ، كما تقدم في الصحيح عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه فعل ذلك ، وأنه أخبر أن رسول اللَّه فعله .
1497 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : أهل رسول اللَّه بعمرة ، وأهل أصحابه بالحج . رواه مسلم ، وأبو داود والنسائي .
1498 وفي الصحيحين من حديث حفصة أنها قالت : يا رسول اللَّه ما شأن الناس حلوا ، ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال ( إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر ) أي واللَّه أعلم من عمرتك التي ابتدأت بها الإحرام .
وبهذا يحصل وباللَّه التوفيق الجمع بين الأحاديث ، فمن أخبر أنه أفرد الحج فلأنه أحرم به مفرداً ، حيث أدخله على العمرة ، ومن أخبر أنه قرن فلأن نسكه كان قراناً فأخبر بما آل إليه الحال ، ومن أخبر أنه تمتع فلأنه لم يفرد الحج [ بسفرة ] ، والعمرة بسفرة ، بل جمع بينهما في نسك واحد ، فقول الراوي : تمتع رسول اللَّه بالعمرة إلى الحج . أي [ تمتع ] بالعمرة موصلاً بها إلى الحج ، وعلى هذا فالآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : 19 ( { فمن نتمتع بالعمرة إلى الحج } ) قد يقال : إنه يشمل القران والتمتع .
____________________
(1/475)
وإنما اختار إمامنا رحمه اللَّه تعالى المتعة ليس واللَّه أعلم لأن إحرام النبي كان تمتعاً ، ولكن لأمره أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ، وقد ثبت ذلك عنه ثبوتاً لا ريب فيه ، وسيأتي طرف منه إن شاء اللَّه تعالى ، ولم يكن لينقلهم إلى المفضول ويترك الأفضل ، وإنما منعه من الفسخ سوق الهدي ، كما صرح به .
1499 ففي حديث عائشة في رواية لأبي داود أنه قال ( من شاء أن يهل بحج فليهل ، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل ، ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة ) .
1500 وعنها أيضاً أن رسول اللَّه قال ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ) رواه أبو داود والبخاري بنحوه .
1501 وفي حديث جابر لما أمر أصحابه بجعل نسكهم عمرة قال ( إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت [ ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت ) متفق عليه .
1502 وفي حديث أنس ( لو استقبلت من أمري ] ما استدبرت لجعلتها عمرة ، ولكن سقت الهدي ، وقرنت بين الحج والعمرة ) رواه أحمد فأخبر عليه السلام أنه إنما منعه من الإحرام بالعمرة سوق الهدي ، وأنه لولا سوقه لفسخ إحرامه إلى العمرة ، وتأسف على ذلك ، ولم يكن ليندم إلا على الأفضل والأولى ، ثم إن التمتع مذكور في كتاب اللَّه تعالى ، بخلاف غيره ، ويجتمع له العمرة والحج في أشهر الحج ، مع كمالهما وكمال أفعالهما ، مع سهولة ، وزيادة نسك ، [ وهو الدم ] يرشح هذا حديث أبي أيوب المتقدم . ( ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع ، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه ) وأيضاً فإن عمرة التمتع تجزىء بلا خلاف ، بخلاف عمرة القران ، والعمرة من التنعيم بعد الحج ، فإن فيهما خلافاً .
ثم من العلماء من أوجب التمتع .
1503 كما يحكى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما وهو قول الظاهرية ، بخلاف النسكين الآخرين ، فإنه لا يعلم قائل بوحوبهما .
1504 وما يحكى عن عمر وعثمان من نهيهما عن ذلك ، فقد خالفهما غيرهما .
1505 قال سعيد بن المسيب : 16 ( اجتمع عثمان وعلي بعسفان ، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة ، فقال له علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول اللَّه تنهى النا
____________________
(1/476)
عنه ؟ فقال [ له عثمان ] : دعنا عنك . قال : إني لا أستطيع أن أدعك . فلما رأى ذلك أهل بهما جميعاً . ) متفق عليه وقد تقدم الإشارة من ابن عمر إلى الإنكار على أبيه .
1506 مع أن في الصحيحين في حديث لأبي موسى أنه كان يفتي بالمعتة في زمن أبي بكر ، وشطراً من خلافة عمر ، وأنه قيل له : اتئد في فتياك ، إنك لا تدري ما يحدث أمير المؤمنين في شأن النسك 6 ( [ وأنه جاء إلى عمر فقال : إن نأخذ بكتاب اللَّه فإن اللَّه يقول : { وأتموا الحج والعمرة للَّه } وإن نأخذ بسنة رسول اللَّه فقد قال ( خذوا عني مناسككم ) فإن النبي لم يحل حتى نحر الهدي . ) 16 ( ) وفي رواية لمسلم : 6 ( قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ، ثم يروحون إلى الحج تقطر رؤوسهم . )
فهذا في الحقيقة ليس بمخالفة ، فإن عثمان لم يبين [ حجة ] ، بل أذعن لذلك ، وعمر بيّن عذره في ذلك ، وهو الأمر بإتمام الحج والعمرة ، ومراده في ذلك واللَّه أعلم أن يأتي بكل من النسكين في سفرة ، كما روي عنه أنه يحرم بهما من دويرة أهله ، ولا نزاع بين أهل العلم أن هذا الصورة أفضل بلا نزاع ، واعتذر أيضاً بأن رسول اللَّه لم يحل حتى نحر الهدي ، وقد بين الرسول عليه السلام المانع له من الحل ، واعتذر أيضاً بأنه [ كره ] أن يظلوا معرسين إلى آخره .
1507 وقد ذكر ذلك لرسول اللَّه ، فقالوا : كيف ننطلق إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا ؟ فغضب رسول اللَّه ، ودخل على عائشة رضي اللَّه عنها فقالت : من أغضبك أغضبه اللَّه ؟ قال : ( كيف لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع ) رواه أحمد وابن ماجه انتهى .
وعن أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى واختارها أبو العباس فيما أظن أنه إن ساق الهدي فالقرآن أفضل ، لأنه الذي اختاره اللَّه لنبيه ، وأمره به ، كما تقدم في حديث عمر ، ولقوله عليه السلام : ( لولا أن معي الهدي لأحللت بعمرة ) .
وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة ، وهي تحتمل أكثر من هذا ، وحالنا وحال الكتاب يقتضي الاقتصار على هذا وباللَّه التوفيق . إذا تقرر هذا فصفة التمتع [ أن يحرم ] بالعمرة [ في أشهر الحج ] ثم يحج من عامه ، لقوله تعالى : 9 ( { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } ) أي تمتع [ بالعمرة ] موصلاً بها إلى الحج ، وقد أشار [ إلى هذا ] الشيخان أبو البركات ، و أبو محمد في المغني ، عند [ ذكر ] شروط وجوب الدم على المتمتع ، قال : حقيقة التمتع ، وذكر ما قلناه ، ولا يغرنك ما وقع في كلام أبي محمد وغيره من أن التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ، ويفرغ منها ، ث
____________________
(1/477)
يحرم بالحج [ من مكة ] إلى آخره ، فإن هذا التمتع الموجب للدم [ ومن ] هنا قلنا : إن تمتع حاضري المسجد الحرام صحيح على المذهب ، وقال ابن أبي موسى : لا متعة لهم . ويحكى ذلك رواية ، وقد تعرض أبو محمد لها فقال : نقل عن أحمد : ليس على أهل مكة متعة ، ومعناه ليس عليهم دم متعة ، لأن المتعة له لا عليه ، انتهى . ( قلت ) : وقد يقال : إن هذا الإمام بناء على أن العمرة لا تجب عليهم ، فلا متعة عليهم ، أي الحج كافيهم ، لعدم وجوب العمرة [ عليهم ] فلا حاجة لهم إلى المتعة .
وقول الخرقي : يقول : اللهم إني أريد العمرة . أراد به الاستحباب ، وإلا فالمشترط قصد ذلك ، واللَّه أعلم .
قال : ويشترط فيقول : إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني ، فإن حبس حل من الموضع الذي حبس فيه ، ولا شيء عليه .
ش : الاشتراط عندنا في الإحرام جائز بل مستحب .
1508 لما روى ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول اللَّه فقالت : يا رسول اللَّه إني [ أريد ] الحج أشترط ؟ قال : ( نعم ) قالت : كيف أقول ؟ قال : ( قولي : لبيك اللهم لبيك ، ومحلي [ من الأرض ] حيث حبستني ) رواه الجماعة إلا البخاري ، وهذا لفظ أبي داود . وفي رواية للنسائي : ( فإن [ لك ] على ربك ما استثنيت ) .
1509 وهو للشيخين من رواية عائشة رضي اللَّه عنها .
1510 ورواه أحمد عن عكرمة ، عن ضباعة قالت : قال رسول اللَّه ( أحرمي وقولي : إن محلي حيث حبستني ، فإن حبست أو مرضت فقد حللت من ذلك ، بشرطك على ربك عز وجل ) وصفته كما في الحديث وما في معناه ، لأن المعنى هو المقصود .
1511 وعن ابن مسعود أنه كان يقول : 16 ( اللَّهم أني أريد العمرة إن تيسرت لي ، وإلا فلا حرج علي . ) ويفيد هذا الشرط شيئين :
( أحدهما ) : [ أنه ) متى حبس بمرض ، أو ذهاب نفقة ، ونحوهما فإنه يحل ، على ظاهر كلام الخرقي ، و صاحب التلخيص فيه ، و أبي البركات ، وهو ظاهر الحديث ، وقال القاضي في الجامع ، و أبو الخطاب في الهداية ، و أبو محمد : إن له التحلل . فإذاً لا بد من قصده .
____________________
(1/478)
( الثاني ) : أنه متى حل بذلك أو بعذر ونحوه فلا شيء عليه من دم ، ولا غيره .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : هل يكفي قصده للاشتراط تبعية للإحرام ، أو لا بد من التلفظ ، كالاشتراط في الوقت ونحوه ؟ فيه احتمالان .
( الثاني ) : ( محلي ) بكسر الحاء وفتحها ، وهو موضع الحلول ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أراد الإفراد قال : اللهم إني أريد الحج . ويشترط .
ش : الإفراد أن يحرم بالحج مفرداً [ قاله أبو محمد ] . وقال بعض الأصحاب أن لا يأتي في أشهر الحج بغيره . وهو أجود . ويشترط فيه كالعمرة ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أراد القران قال : اللهم إني أريد العمرة والحج . ويشترط .
ش : القران أن يحرم بالعمرة والحج معاً ، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج ، قبل فعل ركنها الأعظم وهو الطواف .
1512 وفي الصحيحين عن ابن عمر ، 16 ( أنه أدخل الحج على العمرة عام حجة الحرورية . وذكر الحديث وقال : هكذا صنع رسول اللَّه . )
1513 وكذلك [ في الصحيح ) عن جابر أن رسول اللَّه أمر عائشة بذلك . وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى . ولو أدخل العمرة على الحج لم يصح ، لعدم الأثر في ذلك ، ولأنه لم يستفد به فائدة ، بخلاف ما تقدم .
وظاهر كلام الخرقي أنه يستحب أن ينطق بما أحرم به من عمرة ، أو حج ، أو هما ، وهو المشهور . وعن أبي الخطاب : لا يستحب ذكر ما أحرم به ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا استوى على راحلته لبى .
ش : ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلبي إلا إذا استوت به راحلته .
1514 وذلك لما روى ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : 16 ( بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول اللَّه فيها ، ما أهل رسول اللَّه إلا من عند الشجرة ، حين قام به بعيره ، ) وفي رواية : رأيت رسول اللَّه يركب راحلته بذي الحليفة ، ثم يهل حين تستوي به قائمة . متفق عليه .
والمشهور في المذهب أن الأولى أن يلبي حين يحرم .
1515 لما روى سعيد بن جبير قال : قلت لعبد اللَّه بن عباس : 16 ( يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول اللَّه في إهلال رسول اللَّه حين أوجب . فقال : إني لأعلم الناس بذلك إنها إنما كانت من رسول اللَّه حجة واحدة ، فم
____________________
(1/479)
هناك اختلفوا ، خرج رسول اللَّه حاجاً ، فلما صلى بمسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه ، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه ، فسمع ذلك منه أقوام فحفظت عنه ، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل ، وأدرك ذلك منه أقوام ، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالاً ، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا : إنما أهل حين استقلت به ناقته ، ثم مضى رسول اللَّه ، فلما علا على شرف البيداء أهل ، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا : إنما أهل حين علا على شرف البيداء وايم اللَّه لقد أوجب في مصلاه ، وأهل حين استوت به ناقته ، وأهل حين علا على شرف البيداء . ) رواه أبو داود ، وقال المنذر : وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وهو ضعيف .
( تنبيه ) : ( البيداء ) البرية ، والمراد في الحديث موضع مخصوص بين مكة والمدينة . و ( الإهلال ) رفع الصوت بالتلبية ، وكل شيء ارتفع صوته فقد استهل ، وبه سمي الهلال ، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه ، ( أوجب ) إذا باشر مقدمات الحج من [ الإحرام ] والتلبية . و ( أرسالا ) أي متتابعين ، قوماً بعد قوم ، و ( استقلت به راحلته ) أي نهضت به حاملة له ، واللَّه أعلم .
قال : فيقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
ش : لما ذكر أنه يلبي [ ذكر ] صفة التلبية ، وهذه تلبية رسول اللَّه .
1516 ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن تلبية رسول اللَّه ( لبيك اللهم لبيك ، [ لبيك ] لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ) قال : وكان عبد اللَّه بن عمر يزيد في تلبيته : 6 ( لبيك لبيك ، لبيك وسعديك ، والخير بيديك ، والرغباء إليك والعمل . )
( تنبيه ) : ( لبيك ) لفظ يجاب به الداعي ، وهو في تلبية الحج إجابة لدعاء اللَّه تعالى الناس إلى الحج في قوله تعالى : 9 ( { وأذن في الناس بالحج } ) الآية ومعنى هذه التثنية فيه ، أي مرة بعد مرة ، وهو من : ألب بالمكان . إذا أقام به ، كأنه قال : إقامة على إجابتك بعد إقامة . وقيل : من قولهم : أنا ملب بين يديك . أي خاضع ، وقيل غير ذلك ، ( وسعديك ) المساعدة الطاعة أي مساعدة بعد مساعدة ، قال الجرمي : ولم يسمع سعديك مفرداً . و ( الرغباء والرغبى ) بالفتح مع المد ، والضم مع القصر ، والمعنى هنا الطلب والمسألة . ( وإن الحمد ) بالفتح ، وبالكسر ورجحه بعضهم ، قال ثعلب : من قال بالكسر فقد عم ، ومن قال بالفتح فقد خص ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/480)
قال : ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا ، أو هبط وادياً ، وإذا التقت الرفاق ، وإذا غطى رأسه ناسياً ، وفي دبر الصلوات المكتوبة .
ش : أما فيما عدا تغطية الرأس .
1517 فلما يروى عن جابر رضي اللَّه عنه قال : كان رسول اللَّه يلبي في حجته إذا لقي ركباً ، أو علا أكمة ، أو هبط وادياً ، وفي أدبار الصلوات المكتوبة ، وفي آخر الليل .
1518 وعن إبراهيم : 16 ( كانوا يستحبون ) . وذكر نحوه ، إلا أنه أبدل آخر الليل : فإذا استوت به راحلته . وأما في تغطية الرأس ، وما في معناه من فعل محظور ناسياً ، فليبادر لما هو عليه ، والإقلاع عما صدر عنه ، واللَّه أعلم .
قال : والمرأة أيضاً يستحب لها أن تغتسل عن الإحرام ، وإن كانت حائضاً أو نفساء ، لأن النبي أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام .
ش : قياساً على الرجل ، والحائض والنفساء كغيرهما ، بل قال أبو محمد : إنه في حقهما آكد ، لورود السنة فيهما .
1519 ففي حديث جابر الصحيح : أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول اللَّه كيف أصنع ؟ فقال : ( اغتسلي ، واستثفري بثوب ، واحرمي ) .
1520 وفي حديثه الصحيح أيضاً [ في قصة عائشة ) أنها لما حاضت ، وكانت قد أحرمت بعمرة قال لها : ( هذا أمر كتبه اللَّه على بنات آدم ، فاغتسلي ثم أهلي بالحج ) ففعلت .
1521 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال : ( النفساء والحائض إذا أتتا على الميقات ، يغتسلان ، ويحرمان ، ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت ) رواه أبو داود والترمذي . ولأن المقصود من غسل الإحرام ، التنظيف ، وهما أجدر بذلك ، وهذا يؤيد أن غسل الجنابة يصح من الحائض ، وأن التيمم لا مدخل له في غسل الإحرام .
( تنبيه ) : ( استثفري ) استثفرت المرأة الحائض إذا شدت على فرجها خرقة ، وعطفت طرفيها إلى شيء مشدود في وسطها ، من مقدمها ومؤخرها ، مأخوذ من ( ثفر الدابة ) وهو ما يكون تحت ذنبها ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/481)
قال : ومن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه .
ش : لما تقدم من حديث يعلى بن أمية ، والخالع غير لابس ، واللَّه أعلم .
قال : وأشهر الحج شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . واللَّه أعلم .
1522 ش : قال ابن عمر رضي اللَّه عنهما : 16 ( أشهر الحج شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . ) رواه البخاري .
1523 وللدارقطني مثله عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير .
1524 وعن ابن عمر أن رسول اللَّه : وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال : ( أي يوم هذا ؟ ) قالوا : يوم النحر . قال : ( هذا يوم الحج الأكبر ) رواه البخاري ، وأبو داود ، ونزل بعض الشهر منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا . وإنما رآه في ساعة منها . انتهى . وفائدة ذلك عندنا وعند الحنفية اليمين ، وعند الشافعي عدم صحة الإحرام في غيرها ، وعند مالك وجوب الدم بتأخير طواف الزيارة عنها ، قال القاضي : جميع ذلك ، واللَّه أعلم .
( ( باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له ) )
قال : ويتوقى المحرم في إحرامه ما نهاه اللَّه عز وجل عنه من الرفث وهو الجماع والفسوق وهو السباب والجدال ، وهو المراء .
ش : قال اللَّه تعالى : 19 ( { الحج أشهر معلومات ، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ، ولا فسوق ولا جدال في الحج } ) قرئت [ المنفيات ] الثلاث بالنصب والرفع ، وعلى كليهما هو خبر بمعنى النهي ، أي لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا ، وهذه وإن منع الإنسان منها في غير الحج ، لكن فيه أجدر ، ولهذا وردت بلفظ الخبر ، إشارة بأنها جديرة بأن تنفى ولا توجد البتة ، وقرىء الأولان بالرفع ، والثالث بالنصب ، حملا للأوليين واللَّه أعلم على النهي ، أي لا يكون رفث ولا فسوق ، والثالث على الخبر [ المحض ] بانتفاء الجدال .
1525 وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب ، فتقف في المشعر الحرام ، وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ، ويؤخرونه سنة ، وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر اللَّه سبحانه أنه قد ارتفع الجدال في الحج .
1526 ويؤيد هذا قول النبي ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) ولم يذكر الجدال ، وميل الخرقي رحمه اللَّه تعالى للأول .
____________________
(1/482)
1527 وفسر الرفث بالجماع ، والفسوق بالسباب ، والجدال بالمراء ، تبعاً في ذلك لابن عباس رضي اللَّه عنهما ، ذكره عنه البخاري تعليقاً .
1528 وحكى ذلك [ أيضاً ] عن ابن عمر ، وجماعة من التابعين وقيل : الرفث الفحش من الكلام ، وأصله الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه كلفظ النيك .
1529 ويحكى عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما 16 ( أنه أنشد وهو محرم : وهن يمشين بنا هميساً إن تصدق الطير ننك لميسا قيل له : أرفثت ؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء ) . انتهى . وكني به عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو منه . وقيل في الفسوق : إنه الخروج عن حدود اللَّه تعالى ، وهو أعم وأوفق للغة ، والمراد بالمراء المراء مع الخدم ، والرفقاء ، والمكارين ونحو ذلك .
( تنبيه ) ( هميساً ) : [ المشي ] اللين و ( لميسا ) اسم جارية لابن عباس رضي اللَّه عنه واللَّه أعلم .
قال : ويستحب [ له ] قلة الكلام إلا فيما ينفع ، وقد روي عن شريح رحمه اللَّه أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء .
ش : قلة الكلام في الجملة مستحب لكل أحد ، وهو في حق المحرم آكد ، لتلبسه بهذه العبادة العظيمة ، وتشبهه بالقادم على ربه عز وجل في يوم القيامة .
1530 وفي الصحيح : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) .
153( ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .
1532 وقد استشهد أحمد رحمه اللَّه تعالى على قلة الكلام في هذا بخصوصه بفعل شريح رحمه اللَّه تعالى أما ما فيه نفع من الكلام كتعليم جاهل ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، ونحو ذلك فأمر مطلوب بلا ريب ، بل قد يجب ، ويتأكد في حق المحرم ، فإنه كما يتأكد في [ حقه ] ترك المنهيات ، كذلك يتأكد في حقه فعل الواجبات والمندوبات واللَّه أعلم .
قال : ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل .
ش : المحرم لا يقتل القمل في أنص الروايتين ، واختيار الخرقي ، لأنه مما يترفه به ، فمنع منه كقطع الشعر .
1533 وهو ظاهر حال كعب بن عجرة .
1534 وفي الموطأ عن نافع أن ابن عمر قال : 16 ( يكره أن ينزع المحرم حلم
____________________
(1/483)
أو قراداً من بعيره ) . ( والثانية ) : له ذلك منيطاً للحكم بالأذى ، قال : كل شيء من جسده لا بأس به ، إذا آذى انتهى ، وقياساً على البراغيث ، فاءنه لا نزاع في جوز قتلهن ، وقال أبو محمد : وقتل القمل ، وإلقاؤه على الأرض ، وقتله بالزئبق ونحو ذلك سواء ، نطراً لعلة المنع وهو الترفه . انتهى قال القاضي في الروايتين : وموضع الروايتين إذا ألقاها من بين شعر رأسه ، أو بدنه ، أو لحمه ، أما إن ألقاها من ظاهر بدنه ، أو ثيابه ، أو بدون محل ، أو محرم غيره ، فهو جائز ، ولا شيء عليه رواية واحدة . انتهى . والتفلي وسيلة إلى قتل القمل ، فإن جاز جاز وإلا منع ، وحيث تفلى وقتل القمل حيث منع منه ( فعنه ) : لا شيء عليه لأن كعبا رضي اللَّه عنه قتل قملاً كثيراً بحلق رأسه ، ولم يؤمر إلا بفدية حلق الشعر فقط .
1535 وعن ابن عمر : 6 ( هو أهون مقتول ) .
1536 وعن ابن عباس 6 ( في محرم ألقى قملة ثم طلبها : تلك ضالة لا تبتغى ) ( وعنه ) : 6 ( يتصدق بشيء ما ، جبراً لما حصل منه ) ، واللَّه أعلم .
قال : ويحك رأسه وجسده حكاً رفيقاً .
ش : يحك رأسه وجسده في الجملة ، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك .
1537 وقد روى مالك في الموطأ عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه قالت : 6 ( سمعت عائشة زوج النبي تسأل عن المحرم يحك جسده ؟ قالت : نعم فليحكه وليشدد . قالت عائشة : لو ربطت يداي فلم أجد إلا رجلي لحككت . )
ويكون برفق حذاراً من إزالة ما منع منه من شعر أو قمل ، فءن حك فوجد في يديه شعراً استحب له الفداء احتياطاً ، ولا يجب حتى يتيقن أنه قعله ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يلبس القميص ، ولا السراويل ، ولا العمامة ، ولا البرنس .
ش : هذا إجماع والحمد للَّه من أهل العلم .
1538 وقد شهد له ما في الصحيحين وغيرهما عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما قال : سئل رسول اللَّه ما يلبس المحرم ؟ فقال : ( لا يلبس المحرم القميص ، ولا العمامة ، ولا البرنس ، ولا السراويل ، ولا ثوباً مسه ورس ، ولا زعفران ، ولا الخفين ، إلا أن لا يجد نعلين ، فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ) . وفي رواية : ما يترك المحرم من الثياب ؟ فتخصيصه القميص تخصيص تمثيل ، فيلحق به ما في معناه من الجبة ، والدراعة ونحوهما ، وكذلك العمامة يلحق بها ما في معناها ، من كل ساتر معتاد ، أو كل ساتر ملاصق ، على اختلاف العلماء ، وكذلك السراويل يلح
____________________
(1/484)
به التبان وما في معناه ، وضابط ذلك كل شيء عمل للبدن على قدره ، أو قدر عضو منه ، كهذه المذكورات ، وسواء كان مخيطاً أو غير مخيط كلبد ونحو ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يجد الإزار لبس السراويل ، فإن
____________________
(1/485)
لم يجد النعلين لبس الخفين .
1539 ش : لما روى عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي قال : ( من لم يجد إزاراً فليلبس السراويل ، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين ) رواه الجماعة ، ولفظ الترمذي : ( المحرم إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل ، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين ) .
1540 وعن جابر رضي اللَّه عنه قال : قال رسول اللَّه ( من لم يجد نعلين فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزاراً فليلبس سراويل ) رواه أحمد ومسلم واللَّه أعلم .
قال : ولا يقطعهما ولا فداء عليه .
ش : إذا لبس المحرم الخفين لعدم النعلين جاز له لبسهما من غير قطع ، على المنصوص [ المشهور ] المختار من الروايتين ، عملاً بإطلاق حديثي ابن عباس وجابر ، فإنه لم يأمر فيهما بقطع ، ولو وجب لبنيه ، لا يقال : قد بين ذلك في حديث ابن عمر ، فيحمل المطلق على المبين ، جمعاً بين الأدلة ، لأنا نقول : يشترط في حمل المطلق على المقيد أن لا يفضي الإطلاق إلى تأخير بيان واجب ، والحمل هنا مفض إلى ذلك ، لأن حديث ابن عمر كان في المدينة ، كذا في رواية لأحمد والدارقطني .
1541 ففي رواية أحمد قال : سمعت رسول اللَّه يقول على هذا المنبر ، وفي رواية الدارقطني : أن رجلاً نادى في المسجد : ماذا يترك المحرم من الثياب ؟ وحديث ابن عباس كان في خطبته بعرفات ، كذا في الصحيح ، وهو وقت الحاجة للبيان ، وقد حضره في ذلك الوقت من لم يحضره في غيره ، واجتمع من الخلائق عدد لا يحصيهم إلا اللَّه تعالى ، ثم تفرقوا عنه بعد قليل ، والذين حضروا قوله بالمدينة كانوا نفراً يسيراً ، بحيث يقطع المنصف بأنه لا يتصور منهم البيان لكل من حضر إذ ذاك ، فيلزم من ذلك أن يكون إطلاق خبر ابن عباس ناسخاً للتقييد في حديث ابن عمر ، دفعاً لمحذور تأخير البيان عن وقت الحاجة ويؤيد هذا أن جملة الصحابة عملوا على ذلك .
1542 فعن عمر رضي اللَّه عنه : 16 ( الخفان نعلان ، لمن لا نعل له ) .
1543 وعن علي رضي اللَّه عنه : 16 ( السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخفان لمن لم يجد النعلين ) ، ونحوه عن ابن عباس .
1544 ورؤي على المسور بن مخرمة في رجليه خفان وهو محرم ، فقيل له : 16 ( ما هذا ؟ قال : أمرتنا به عائشة ) . روى ذلك كله النجاد بإسناده ، ويرشج هذا ما في القطع من إفساد المال المنهي عنه شرعاً .
1545 على أنه قد روى ابن أبي موسى ، عن صفية بنت أبي عبيد ، عن عائشة رضي اللَّه عنها أن رسول الَّه رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما . 16 ( [ وكان ابن عمر يفتي بقطعهما ] قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع ) وهذا تصريح بالنسخ .
1546 إلا أن الذي في سنن أبي داود عن سالم بن عبد اللَّه ، 16 ( أن عبد اللَّه بن عمر كان يصنع ذلك يعني يقطع الخفين للمرأة المحرمة . ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة رضي اللَّه عنها حدثتها ، أن رسول اللَّه قد كان رخص للنساء في الخفين . فترك ذلك . )
( والرواية الثانية ) : يقطعهما إلى أسفل الكعبين ، فإن لبسهما من غير قطع افتدى ، وهذا مذهب أكثر الفقهاء ، حملاً للمطلق على المقيد تساهلاً . قال الخطابي : العجب من أحمد في هذا يعني في قوله بعدم القطع قال : فاءنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه ، وقل سنة لم تبلغه . قلت : والعجب كل العجب من الخطابي رحمه اللَّه في توهمه عن الإمام أحمد رحمه اللَّه مخالفة السنة أو خفاءها ، وقد قال المروذي : احتججت على أبي عبد اللَّه بقول ابن عمر عن النبي ، قلت : هو زيادة في الخبر . فقال : هذا حديث ، وذاك حديث . فقد اطلع رحمه اللَّه على السنة ، وإنما نظر نظراً لا ينظره إلا الفقهاء المتبصرون ، وهو يدل على غايته في الفقه والنظر .
وقد دل كلام الخرقي رحمه اللَّه أنه لا فدية على من لبس السراويل لعدم الإزار ، ولا من لبس الخفين لعدم النعلين ، وهو واضح ، لظاهر حديثي ابن عباس وجابر رضي اللَّه عنهما ، واللَّه أعلم .
قال : ويلبس الهميان ، ويدخل السيور بعضها في بعض ، ولا يعقدها .
ش : يلبس الهميان ، قال أبو عمر بن عبد البر : على ذلك جماعة الفقهاء ، متقدموهم ومتأخروهم ، ويدخل السيور بعضها في بعض ، لئلا تسقط ، ولا يعقدها لعدم الحاجة إلى ذلك ، نعم إن احتاج إلى ذلك ، كأن لا يثبت بدون العقد جاز ذلك ، نص عليه أحمد .
1547 لقول عائشة رضي اللَّه عنها 16 ( أوثق عليك نفقتك ) .
1548 وعلى هذا يحمل قول إبراهيم النخعي : كانوا يرخصون في عقد
____________________
(1/486)
الهميان للمحرم ، ولا يرخصون في عقد غيره ، واللَّه أعلم .
قال : وله أن يحتجم .
1549 ش : في الصحيحين عن عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما .
قال : احتجم النبي وهو محرم .
1150 وعن أنس : أن النبي احتجم وهو محرم ، على ظهر القدم من وجع كان به . رواه أبو داود ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقطع شعراً .
ش : لإطلاق قوله تعالى : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ) فإن احتاج إلى القطع فله ذلك .
1551 لما رواه عبد اللَّه بن مالك بن بحينة قال : احتجم رسول اللَّه بلحي جمل ، من طريق مكة في وسط رأسه . متفق عليه ومن ضرورة ذلك حلق الشعر ، وتلزمه والحال هذه الفدية لقوله تعالى : 19 ( { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام } ) الآية ، واللَّه أعلم .
قال : ويتقلد بالسيف عند الضرورة .
1552 ش : لما روى البراء بن عازب رضي اللَّه عنهما قال : لما صالح رسول اللَّه أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا بجلبان السلاح . فسألته : ما جلبان السلاح ؟ قال : االقراب بما فيه . رواه الشيخان وأبو داود وهذا لفظه ، وهذا محل حاجة ، لأنه عليه السلام لم يأمن أهل مكة أن ينقضوا العهد . ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يفعل ذلك لغير ضرورة ، ولذلك قال أحمد : لا إلا من ضرورة .
1553 وذلك لأن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : 16 ( لا يحمل المحرم السلاح في الحرم . قال أبو محمد : والقياس إباحة ذلك ، لأنه ليس في معنى اللباس المنصوص على منعه .
( تنبيه ) : ( الجلبان ) بضم الجيم واللام ، وفتح الباء الموحدة المشددة ، وبنون بعد الألف ، وروي بضم الجيم وسكون اللام ، مثل الجلبان من الحبوب ، وصوبه جماعة ، وقد فسرها هنا بالقراب وما فيه .
1554 وفي حديث آخر : السيف والقوس ونحوه ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/487)
قال : وإن طرح على كتفيه القباء والدواج فلا يدخل يديه في الكمين .
ش : لا إشكال في أنه ليس له أن يدخل يديه في كمي القباء والفرجية ونحوهما ، ومن فعل ذلك افتدى ، أما إن وضع ذلك على كتفيه ، ولم يدخل يديه في كميه ، فظاهر كلام الخرقي أن له ذلك ولا شيء عليه ، وهو الذي صححه صاحب التلخيص ، لأنه لم يشتمل على جميع بدنه ، أشبه ما لو ارتدى بالقميص . وظاهر كلام الإمام أحمد المنع من ذلك ، قال في رواية حرب : لا يلبس الدواج ولا شيئاً يدخل منكبيه فيه . وقال في رواية ابن إبراهيم : إذا لبس القبا لا يدخل عاتقيه فيه . وهذا اختيار القاضي في خلفه و أبي الخطاب ، و أبي البركات وغيرهم ، لأنه يلبس معتاداً هكذا ، فمنع منه كالقميص .
1555 وقد روى النجاد بإسناده عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي اللَّه عنه قال : 16 ( من اضطر إلى لبس قباء وهو محرم ، ولم يكن له غيره ، فلينكس القباء وليلبسه ) .
1556 وروى ابن المنذب أن النبي نهى عن لبس الأقبية وعلى هذا عليه الفدية كما لو لبس القميص ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يظلل على رأسه في المحمل .
هذا هو المشهور عن أحمد ، والمختار لأكثر لأكثر الأصحاب ، حتى أن القاضي في التعليق وفي غيره ، وابن الزغواني ، وصاحب التلخيص ، وجماعة لا خلاف عندهم في ذلك ، لأن المحرم أشعث أغبر ، وهذا تظليل مستدام فيزيلهما .
1557 واعتمد أحمد على قول ابن عمر وقد رأى رجلاً محرماً على رحل ، ) 16 ( قد رفع ثوبه بعود يستره منحر الشمس فقال : 16 ( أضح لمن أحرمت له ) ، رواه الأثرم ، وفي لفظ أنه قال له : إن اللَّه لا يحب الخيلاء . وفي لفظ أنه ناداه : اتق اللَّه . رواهما النجاد .
وحكى ابن أبي موسى ، والشيخان رواية بالجواز ، وهي اختيار أبي محمد ، قال : ظاهر كلام أحمد رحمه اللَّه أنه إنما كره ذلك كراهية تنزيه ، وذكر رواية الأثرم عن أحمد : أكره ذلك ذلك ، قيل له : فإن فعل يهريق دماً ؟ قال : لا وأهل المدينة يغلظون فيه .
1558 وذلك لما روت أم الحصين رضي اللَّه عنها قالت : حججنا مع رسول اللَّه حجة الوداع ، فرأيت أسامة وبلالاً ، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي ، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة . رواه مسلم وغيره .
1559 وعن عثمان رضي اللَّه عنه 16 ( أنه ظلل عليه وهو محرم . )
15660 وعن 16 ( ابن عباس : لا بأس بالظل للمحرم ) . وكما لو استظل بخيمة ، أو
____________________
(1/488)
بيت ونحوهما ، وقد ذكر لأحمد حديث أم الحصين فقال : هذا في الساعة ، يرفع له الثوب بالعود ، يرفعه بيده من حر الشمس ، يعني أن هذا يسير غير مستدام ، [ بخلاف ظل المحمل ونحوه ، فإنه مستدام ] وهذا هو الجواب عن الاستظلال بالخيمة ونحوها ، وعلى هذا يحمل قول ابن عباس ، وحمل القاضي قوله وفعل عثمان على أن ثم عذراً من حر أو برد ، وهو يمشي له في فعل عثمان ، لأنها واقعة عين ، بخلاف قول ابن عباس . واللَّه أعلم .
قال : فإن فعل فعليه دم .
ش : هذا إحدى الروايتين ، واختيار الخرقي ، والقاضي في التعليق ، لأنه ستر ممنوع منه [ مستدام ] أشبه ما لو ستره بعمامة ونحوها .
( والثانية ) : وإليها ميل أبي محمد لا فدية عليه ، إذ الأصل عدم الوجوب والمنع من الستر احتياطاً ، لاختلاف العلماء ، والروايتان عند ابن أبي موسى ، وأبي محمد في الكافي ، وأبي البركات على الروايتين في الأصل ، فإن قلنا بالجواز ثم فلا فدية ، وإلا وجبت ، وهما عند القاضي وموافقيه على القول بالمنع ، إذ لا جواز عندهم ، إلا أن القاضي يستثني اليسير فيبيحه ، ولا يوجب فيه فدية ، ونص أحمد على ذلك في رواية الجماعة ، وبه أجاب عن [ حديث ] أم الحصين كما تقدم ، وقال في رواية حرب وقد سئل : هل يتخذ على رأسه فوق المحمل ؟ ) 16 ( فقال : لا إلا الشيء الخفيق .
وحكى صاحب التلخيص في الفدية ثلاث روايات ، الثالثة تجب الفدية في الكثير دون اليسير ، وأطلق القول بالمنع ، كما أطلقه الخرقي وجماعة ، وهو مردود بالحديث ، وبنص أحمد ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقتل الصيد ولا يصيده .
ش : هذا إجماع والحمد للَّه [ وقد شهد له ] قوله تعالى : 19 ( { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ) وقوله : 19 ( { أحل لكم صيد البحر وطعامه ، متاعاً لكم وللسيارة ، وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً ، واتقوا اللَّه الذي إليه تحشرون } ) . واللَّه أعلم .
قال : ولا يشير إليه ، ولا يدل عليه حلالاً ولا محرماً .
1561 ش : لما روى قتادة رضي اللَّه عنه قال : كنت يوماً جالساً مع رجال من أصحاب رسول اللَّه في منزل في طريق مكة ، ورسول اللَّه أمامنا ، والقوم محرمون ، وأنا غير محرم عام الحديبية [ فأبصروا حماراً وحشياً ، وأنا مشغول أخصف نعلي ، فلم يؤذنوني به ، وأحبوا لو أني أبصرته ، فالتفت فأبصرته ، فقمت إلى الفرس فأسرجتهّ ثم ركبت ونسيت السوط والرمح ، فقلت لهم : ناولوني السوط والرمح . قالوا : واللَّه لا نعينك عليه بشيء . [ فغضبت ] فنزلت فأخذتهما ، ثم ركبت فشددت على الحمار
____________________
(1/489)
فعقرته ، ثم جئت به وقد مات ، فوقعوا فيه يأكلونه ، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم ، فرحنا وخبأت العضد معي ، فأدركنا رسول اللَّه فسألناه عن ذلك ، فقال ( هل معكم شيء ) ؟ فقلت : نعم ، فناولته العضد فأكلها وهو محرم وفي رواية : فقال لهم النبي ( منكم أحد أمره أن يحمل عليه ، أو أشار إليه ) ؟ قالوا : لا . قال ( فكلوا ما بقي من لحمها ) متفق عليه . [ قلت ] : وظاهره أن جواز الأكل مرتب على عدم الإشارة ونحوها ، وكذا فهم الصحابة رضي اللَّه عنهم حيث قالوا : واللَّه لا نعينك .
( تنبيه ) : ( خصف نعله يخصفها ) إذا أطبق طاقا على طاق ، وأصل الخصف الضم والجمع ، و ( عقرت الصيد ) إذا أصبته بسهم أو غيره فقتلته ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يأكله إذا صاده الحلال لأجله .
ش : لا يأكل المحرم الصيد الذي صاده الحلال من أجله .
1562 لما روى جابر رضي اللَّه عنه قال : سمعت رسول اللَّه يقول ( صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وقال الشافعي : وهو أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس . ) 16 ( انتهى وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث ، فإن النبي قد ثبت عنه في الصحيح أنه أكل مما صاده أبو قتادة ، فيحمل على أنه علم أو ظن أنه لم يصده لأجله .
1563 مع أنه قد ورد في حديث أبي قتادة : وإني إنما صدته لك . فأمر النبي أصحابه فأكلوا ، ولم يأكل حين أخبرته أني اصطدته له . رواه أحمد ، وابن ماجه ، والدارقطني ، قال بعض الحفاظ : بإسناد جيد . وقال الدارقطني : قال أبو بكر يعني النيسابوري : قوله : اصطدته لك . وقوله : ولم يأكل منه . لا أعلم أحداً ذكره في الحديث غير معمر ، وهذا إن ثبت فهنو كحديث جابر ، لا يحتاج إلى تأويل . انتهى . ويحمل ما في الصحيح أنه أكل على أنه أكل ظاناً أنه لم يصده له ، فلما أخبره بالحال امتنع .
1564 ويحمل حديث الصعب بن جثامة . وهو أنه أهدى إليه النبي حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال ( إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ) متفق عليه . [ على أنه علم أنه صيد من أجلهّ .
وقد فهم من [ كلام الخرقي أن المحرم يأكل مما صاده الحلال لا من أجله ، وهون واضح لما تقدم ، وفهم من ] كلامه بطريق التنبيه أنه لا يأكل ما صاده محرم مطلقاً ، ولا
____________________
(1/490)
ما صاده هو بطريق الأولى ، وكذلك ما أعان عليه ، أو أشار إليه .
وفهم من كلامه [ أيضاً ] أن للمحل أكل ما صاده الحلال لأجل المحرم ، وهو كذلك ، لأن النبي لما رد على الصعب بن جثامة الحمار الوحشي علل بكونه حرماً ، ولم ينهه عن أكله ، وهل للمحرم غير الذي صيد لأجله أكله ؟ فيه احتمالان ، واللَّه أعلم .
1565 ش : هذا إجماع ، وقد شهد له قوله عليه السلام : في المحرم ( لا تحنطوه ، ولا تخمروا رأسه ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ، فدل على أن المنع لأجل الإحرام ، والطيب ما تطيب رائحته ، ويتخذ للشم ، كالمسك ، والكافور ، والعنبر ، والغالية ، والزعفران ، وماء الورد ، ودهن البنفسج ، ونحو ذلك ، وفي النباتات الطيبة الريح كالريحان ، والورد ، والبنفسج ونحوها ثلاثة أقوال ، ثالثها وهو اختيار أبي محمد يباح [ شم ] الريحان ونحوه مما لا يتخذ منه طيب ، دون الورد ، والبنفسج ، ونحوه مما يتخذ منه طيب ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يلبس ثوباً مسه ورس ، ولا زعفران [ ولا طيب ] .
ش : لما تقدم من حديث ابن عمر ( ولا ثوباً مسه ورس ولا زعفران ) وغيرهما من الطيب مقيس عليهما .
( تنبيه ) : ( الورس ) نبت أصفر يكون باليمن ، ) 16 ( تصبغ به الثياب ، يخرج على الرمث ، بين الشتاء والصيف ، والرمث براء مهملة مكسورة ، وميم وثاء مثلثة مرعى من مراعي الإبل ، واللَّه أعلم .
قال : ولا بأس بما صبغ بالعصفر .
1566 ش : لما روى ابن عمر أنه سمع رسول اللَّه ينهى النساء في إحرامهن عن القفازن ، والنقاب وما مس الورص والزعفران من الثياب ، ولتلبس ما أحبت من ألوان الثياب ، من معصفر ، أو خز ، أو حلي أو سراويل ، أو قميص ، أو خف . رواه أبو داود .
1567 وعن عائشة بنت سعد رضي اللَّه عنها قالت : 16 ( كن أزواج النبي يحرمن من المعصفرات ) . رواه الإمام أحمد في المناسك وفارق الورص والزعفران ، فإنه ليس بطيب ، بخلافهما ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقطع شعراً من رأسه ولا جسده .
ش : لقوله تعالى : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتي يبلغ الهدي محله ، فمن كان منك مريضاً أو ب
____________________
(1/491)
أذى من رأسه ففدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك } ) ولا فرق بين قطع الشعر بالموسى أو بغير ذلك ، أو زواله بنتف ونحوه ، ولا بين شعر الرأس والبدن ، لما في ذلك من الرفاهية التي حال المحرم ينافيها ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يقطع ظفراً إلا أن ينكسر .
ش : لا يقطع ظفراً إجماعاً ، لأنه يترفه به ، فمنع منه كإزالة الشعر ، فإن انكسر فله قطع ما انكسر بالإجماع أيضاً ، لأنه يؤذيه ويؤلمه ، أشبه الصيد الصائل عليه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء .
ش : لا ينظر في المرآة لإصلاح شيء زينة كتسوية شعر ونحوه ، قال أحمد ؛ لا بأس [ أن ينظر ] في المرآة ، ولا يزيل شعثاً ، ولا ينفض عنه غباراً ، وذلك لزوال الشعثة والغبرة اللتين هما من صفات المحرم .
1568 وفي الترمذي عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أن رجلاً قال لرسول اللَّه : من الحاج ؟ قال : ( الشعث التفل ) قال : وأي الحج أفضل ؟ قال : ( العج والثج ) قال : وما السبيل ؟ قال : ( الزاد والراحلة ) وله أن ينظر في المرآة لا لزينة .
1569 وقد روى مالك في الموطأ 6 ( أن ابن عمر نظر في المرآة لشكوى بعينه وهو محرم ) .
1570 وعن ابن عباس أيضاً 6 ( أنه أباح ذلك ) ، رواه البخاري وعلى كل حال فالمنع من ذلك منع أدب ، لا فدية فيه قاله أبو محمد .
( تنبيه ) : ( الشعث ) البعيد العهد بتسريح شعره وغسله . )6 ( ( التفل ) التارك للطيب واستعماله ، و ( العج ) رفع الصوت . و ( الثج ) سيلان دماء الهدي ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يأكل من الزعفران ما يجد ريحه .
ش : إذ المقصود من الطيب ريحه ، وهو موجود ، فلا فرق بين ما مسته النار وغيره ، لوجود المقتضي للمنع وهو الرائحة ، وذكر الزعفران على سسبيل التمثيل ، فيساويه كل مأكول فيه طيب وجد ريحه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يدهن بما فيه طيب .
ش : كدهن البنفسج والورد ونحوهما ، لوجود الطيب الممنوع منه شرعاً ، واللَّه أعلم .
قال : ولا ما لا طيب فيه .
____________________
(1/492)
ش : لا يدهن بما لا طيب فيه ، كالزيت ، والشيرج ، ونحوهما ، على أنَّ الروايتين ، واختيار الخرقي ، لأنه يزيل الشعثة والغبرة ، وعلى هذا اعتمد أحمد رحمه اللَّه قال في رواية أبي داود : الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه . فذكرت له حديث ابن عمر أن النبي ادّهن بزيت غير مقتت ؛ فسمعته يقول : الأشعث الأغبر . ( والرواية الثانية ) : يجوز ذلك ، سأله الأثرم : يدهن بالزيت والشيرج ؟ قال : نعم ، يدهن به إذا احتاج إليه . وذلك لما استدل به أبو داود رحمه اللَّه على أحمد .
1571 وهو ما روى عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أن النبي كان يدهن بدهن غير مقتت ، يعني غير مطيب ، وفي رواية : كان يدهن بالزيت وهو محرم غير المقتت . رواه أحمد ، وابن ماجه ، والترمذي وقال : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث فرقد السبخي ، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد ، وقد روى عنه الناس .
1572 وعن ابن عباس قال : يشم المحرم الريحان ، وينظر في المرآة ، ويتداوى بما يأكل بالزيت والسم ، رواه البخاري . وهنا شيئاً ( أحدهما ) منع أحمد إنما هو في الرأس ، فلذلك خص أبو محمد في مقنعه ومغنيه الروايتين بذلك ، أما البدن فيجوز عنده دهنه بلا نزاع ، وجعل ذلك في الكافي احتمالاً ، وقدم إجزاء الروايتين فيهما ، وهذه طريقة الأكثرين ، القاضي في تعليقه ، وأبي الخطاب وصاحب التلخيص ، وأبي البركات وغيرهم ، فلعلهم نظروا إلى تعليل أحمد بالشعث ، وذلك موجود في البدن ، وإن كان في الرأس أكثر . ( الثاني ) : حيث قيل بالمنع فإن الفدية تجب كغيره ، على ظاهر كلام عامة الأصحاب ، ولذلك قال القاضي في تعليقه : إنه ظاهر كلام الإمام أحمد ، لأن منع منه ، وهو اختيار الخرقي انتهى . ولم يوجب أبو محمد الفدية على الروايتين ، وقد ذكر ذلك أيضاً القاضي في تعليقه لكنه جعل المنع بمعنى الكراهة ، ) 16 ( فقال : ويحتمل أن يكون منع على طريق الكراهة من غير فدية .
( تنبيه ) : ( المقتت ) المطيب بالقت ، وهو الذي تطبخ فيه الرياحين حتى يطيب واللَّه أعلم .
قال : ولا يتعمد لشم الطيب .
ش : كما إذا جلس عند العطار للشم ، أو دخل البيت حال تجميره لذلك ، إذ المقصود من الطيب الرائحة ، فإذا تعمد شم الطيب فقد وجد الممنوع منه شرعاً وهو الطيب ، ولو لم يتعمد الشم فشم كما إذا جلس عند العطار لحاجة ونحو ذلك فلا شيء عليه ، لأن ذلك يشق الاحتراز منه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يغطي شيئاً من رأسه .
ش : لما تقدم من حديث ابن عمر ( ولا العمامة ولا البرنس ) وحديث ابن عباس
____________________
(1/493)
في المحرم الذي وقصته ناقته ( لا تخمروا رأسه ) والمنهي عنه يحرم فعل بعضه ، بدليل الحلق . وكلام الخرقي يشمل التغطية بمعتاد كالعمامة والبرنس ونحوهما [ وغيره ] كما لو عصبه أو طينه بطين ، أو جعل عليه دواء ونحوه . وهو كذلك . نعم يستثنى من ذلك ما لو حمل على رأسه طبقاً ونحوه ولو قصد به الستر ، لأنه لا يقصد له غالباً ، ولم يستثنه ابن عقيل مع الستر ، ويستثني أيضاً الستر بيديه ، وتلبيد الشعر بغسل أو نحوه ، وستر بعضه بطيب الإحرام .
1573 لأن النبي لبد رأسه ، وكان وبيص الطيب في مفرقه ، واللَّه أعلم .
قال : والأذنان من الرأس .
ش : فلا يجوز تغطيتهما كبقية أبعاض الرأس .
1574 لأنه يروى عن النبي ( الأذنان من الرأس ) رواه ابن ماجه من طرق .
1575 وعن الصنابحي أن النبي قال : ( إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه ) وذكر الحديث إلى أن قال : ( فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه ، حتى تخرج من أذنيه ) رواه مالك في الموطأ ، والنسائي وابن ماجه فقوله ( حتى تخرج من أذنيه ) دليل على دخولهما في مسماه .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يحرم عليه تغطية وجهه . وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار القاضي في تعليقه ، و [ في ] جامعه ، وأبي محمد وغيرهما ، لأن الأشهر والأكثر .
في الرواية في المحرم ( ولا تخمروا رأسه ) ومفهومه جواز [ تخمير ] ما عدا ذلك .
1576 16 ( وقد خمر عثمان وجهه ) ، ذكره مالك في الموطأ .
1577 ورواه عنه أيضاً وعن زيد ، وابن الزبير ، وابن عباس ، [ وجابر ] وسعد رضي اللَّه عنهم ؛ النجاد رحمه اللَّه تعالى . ( والرواية الثانية ) لا يجوز .
1578 لأن في رواية في الصحيح ( ولا تخمروا وجهه ولا رأسه ) . ) 16 (
1579 وعن نافع ، أن ابن عمر كان يقول : 16 ( ما فوق الذقن من الرأس ، فلا يخمره المحرم ) . رواه مالك في الموطأ أي من حكم الرأس ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/494)
قال : والمرأة إحرامها في وجهها .
ش : المرأة إحرامها في وجهها ، فلا تغطيه ببرقع ، ولا نقاب ولا غيرهما .
لأن في حديث ابن عمر رضي اللَّه عنه الذي في الصحيح ( ولا تنتقب المرأة ، ولا تلبس القفازين ) وفي حديثه الذي في السنن أنه سمع رسول اللَّه ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين ، والنقاب .
1580 وروى النجاد بإسناده عن نافع عنه قال : 16 ( إحرام المرأة في وجهها ، وإحرام الرجل في رأسه ) .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) : يجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطية الوجه ، ولا يمكن تغطية محل الرأس إلا بتغطية جزء من الوجه ، ولا كشف [ جميع ] الوجه إلا بكشف جزء من الرأس ، فإذاً المحافظة على ستر الرأس أولى ، قاله أبو محمد ، لأنه عورة يجب ستره مطلقاً .
( الثاني ) : ( القفاز ) بالضم والتشديد ، قال الجوهري : [ هو ] شيء يعمل لليدين ، يحشى بقطن ، و يكون له أزرار تزرر على الساعدين من البرد . وقال صاحب المطالع : هو غشاء الأصابع مع الكف ، معروف يكون من جلد وغيره . ونحو هذا قال صاحب التلخيص قال : معمول لليد كالمعمول لأيدي البازبازية ونحو ذلك قال ابن الزاغوني ، وقال ابن دريد و ابن الأنباري : ضرب من الحلي . ثم قال ابن دريد : لليدين .
وقال الآخر : وللرجلين . واللَّه أعلم .
قال : فإن احتاجت سدلت على وجهها .
ش : إذا احتاجت المرأة لستر وجهها حذاراً من رؤية الرجال سدلت على وجهها ثوباً ونحوه .
1581 لما روي عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت : 16 ( كان الركبان يمرون بنا ، ونحن مع رسول اللَّه محرمات ، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها [ من رأسها ] على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه ) . رواه أبو داود وابن ماجه .
1582 وعلى هذا يحمل ما روى مالك في الموطأ عن فاطمة بنت المنذر قالت : 16 ( كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر ) .
ثم شرط القاضي في الساتر كونه متجافياً عن وجهها ، بحيث لا يصيب البشرة ، فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها ، كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي ، ) 16 ( وخالفه في ذلك أبو محمد ، فقال : لم أر هذا الشرط عن أحمد ، ولا هو في الخبر ، بل الظاهر من الخبر خلافه واللَّه أعلم .
____________________
(1/495)
قال : لا تكتحل بكحل أسود .
ش : لأن في حديث جابر الطويل وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى قال : وقدم علي من اليمن ، فوجد فاطمة رضي اللَّه عنها ممن حل ، ولبست ثياباً صبيغاً ، واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، وقال : من أمرك بهذا ؟ قالت : أبي . فقال النبي ( صدقت صدقت ) فدل هذا على أنها قبل الإحلال ممنوعة من ذلك ، وتقييده بالأسود لأنه الذي تحصل به الزينة ، فيخرج ما ليس للزينة ، كالذي يتداوى به ، فلا تمنع منه .
1583 لما روى نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد اللَّه بن معمر اشتكى عينيه وهو محرم ، فأراد أن يكحلها ، فنهاه أبان بن عثمان ، وأمره أن يضمدها بالصبر ، وحدثه عن عثمان عن النبي [ أنه كان يفعلهّ رواه مسلم وغيره ، ولفظ النسائي : عن النبي ( للمحرم إذا اشتكى عينه أن يضمدها بالصبر ) فيلحق بذلك ما في معناه مما ليس فيه زينة .
وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، بل قد يقال : ظاهر كلامه وجوب الفدية ، وقد أقره على ذلك أبو الحسن بن الزاغواني ، فقال : كالطيب واللباس ، وجعله أبو البركات مكروهاً ، وكذلك أبو محمد ، ولم يوجب فيه فدية ، وسوى في ذلك بين الرجل والمرأة ، واللَّه أعلم .
قال : وتجتنب كل ما يجتنب الرجل إلا في اللباس ، وتظليل المحمل .
ش : لأن حكم الرسول [ على المحرم ] بأمر ، يدخل فيه النساء ، وإنما استثني اللباس ، وتظليل المحمل ، لحاجتها إلى السترة إذ هي عورة ، [ وقد ] قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم [ على ] أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجل إلا بعض اللباس ، وأجمعوا على أن للمحرمة لبس القميص ، والدرع ، والسراويلات ، والخمر ، والخفاف ، وقد تقدم حديث ابن عمر ( ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب ) إلى آخره ، واللَّه أعلم .
قال : ولا تلبس القفازين .
ش : يستثنى من جواز اللباس لها القفازان فإنها تمنع منهما كما يمنع الرجل ، لما تقدم في حديث ابن عمر ( ولا تلبس القفازين ) وتقدم ثم أيضاً معناهما ، واللَّه أعلم .
قال : ولا الخلخال وما أشبهه .
ش : أي من الحلي كالسوار ونحوه ، لأن ذلك يتخذ للزينة ويدعو إلى نكاحها ،
أشبه الطيب ، وقد قال أحمد : المعتدة والمحرمة يتركان الطيب [ والزينة ] ، ولهما ما عدا ذلك . ) 16 (
وظاهر كلام الخرقي و أحمد في هذا النص أن المنع من ذلك على سبيل التحريم ، ونص [ أحمد ] في رواية حنبل على الجواز ، فقال : تلبس المحرمة الحلي
____________________
(1/496)
والمعصفر . وعلى هذا جمهور الأصحاب . لما تقدم من حديث ابن عمر ( ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب ، من معصفر ، أو خز ، أو حلي ) وحمل أبو محمد كلام الخرقي على الكراهة ، كقوله في الكحل ، وجزم بأنه لا فدية فيه ، واللَّه أعلم .
قال : ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بمقدار ما تسمع رفيقتا .
ش : لما كان مفهوم كلام الشيخ أنه يباح لها ما يباح للرجل ، استثنى من ذلك رفع صوتها بالتلبية ، فإنها لا ترفع إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها ، حذاراً من الفتنة بصوتها ، ولهذا لم يشرع في حقها أذان ولا إقامة .
1584 وعن سليمان بن يسار أنه قال : 16 ( السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال ) .
وقال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها ، وإنما عليها أن تسمع صنفسها ، وظاهر إطلاق الخرقي تحريم الزيادة على ذلك ، وهو ظاهر إطلاق الشيخين وغيرهما ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يتزوج المحرم ولا يزوج ، فإن فعل فالنكاح باطل .
ش : هذه المسألة قد ذكرها الخرقي هنا وفي النكاح ، وقد تكلمنا عليها في النكاح وللَّه الحمد ، فلا حاجة إلى إعادتها ، ونزيد هنا بأنه إذا خالف وفعل فلا فدية عليه بلا خلاف نعلمه ، لأنه عقد فسد لأجل الإحرام ، أشبه شراء الصيد ، واللَّه أعلم .
قال : فإن وطىء المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل فقد فسد حجهما .
ش : مجرد النكاح لا يفسد الإحرام بلا ريب ، بل إذا وطىء فيه ، أو وطىء مطلقاً في الفرج فقد فسد حجه اتفاقاً ، قاله ابن المنذر ، فقال : أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع ، انتهى وقد قضى بهذا الصحابة .
1585 فقال مالك في الموطأ : 16 ( بلغني أن عمر ، وعلياً ، وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم [ بالحج ] فقالوا : ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما ، ثم عليهما حج من قابل والهدي . )
1586 قال : وقال علي : وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا ، حتى يقضيا حجهما .
1587 وعن ابن عمر وابن عباس نحو ذلك ، رواه الأثرم في سنهنه ( ولا فرق بين ) أن ينزل أو لا ينزل ، لإطلاق الصحابة ، ( ولا بين ) أن يكون الوطء قبل الوقوف أو بعده ، ) 16 ( لإطلاقهم أيضاً ، ( ولا بين ) الوطء قبل الوقوف أو بعده ، لإطلاقهم أيضاً ، ( ولا بين ) الوطء في القبل أو الدبر ، من آدمي أو
____________________
(1/497)
بهيمة ، لأنه وطء محرم ، يجب الاغتسال ، أشبه وطء الآدمية في القبل ، يتخرج أن لا يفسد الحج بوطء البهيمة ، كما لا تجب الكفارة على الصائم في نهار رمضان في قول . ( ولا فرق : بين العامد والساهي ، على المنصوص المشهور المختار للأصحاب ، حتى أن الشيخين [ وجماعة ] لم يذكروا خلافاً . وخرج القاضي في الروايتين رواية بعدم الفساد مع النسيان ، قال : من قوله في رواية أبي طالب في الصائم : إذا وطىء ناسياً لم يفسد صومه . ( قلت ) : وقد يخرج من رواية عدم وجوب الكفارة ثم ، وهو أولى ، إذ إيجاب الكفارة [ ثم ] هو نظير إفساد الحج ، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى .
وأيضاً هذه الرواية هي أشهر ثم من القول الذي خرج منه القاضي ، وهذا التخريج لازم لأبي محمد ، لأنه المخرج في البهيمة أنه لا يفسد الحج بوطئها ، لكنه لم ينص على محل التخريج ، انتهى .
وحكم الجاهل بالتحريم والمكره حكم الناسي قاله أبو محمد ، واللَّه أعلم .
قال : وعليه بدنة إن كان استكرهها ، وإن كانت طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة .
ش : لا يخلو الواطىء المحرم من أن يكون استكره الموطوءة أو طاوعته ، فإن طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة ، على المشهور من المذهب ، والمختار للأصحاب ، لأنها أحد المجامعين ، أشبهت الرجل .
1588 وقد ثبت الأصل بما في الموطأ عن ابن عباس 16 ( أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنة ) .
1859 وعنه أيضاً أنه قال : أهد ناقة ولتهد ناقة .
1890 قال أحمد في رواية أبي طالب : على كل واحد هدي أكرهها أو لم يكرهها ، هكذا قال ابن عباس . ( وعن أحمد ) أنه قال : أرجو أن يجزئها هدي واحد . وخرج ذلك القاضي في روايتيه من قوله في الصوم : لا كفارة وإن طاوعت . وعلى هذه [ الرواية ] لا يجب مع الإكراه إلا بدنة واحدة بطريق الأولى ، وذلك على المذهب على المشهور من الروايتين ، إذ المكره لا ينسب له فعل ، فوجوده كالعدم . ( وعنه ) : عليها بدنة كالرجل ، وقد تقدم نصه على ذلك ، واعتماده على قول ابن عباس ، وقد تقدم نصه على ذلك ، واعتماده على قول ابن عباس ، وعلى هذه يتحملها الزوج عنها على المشهور ، لأن ذلك حصل [ بسبب ] فعله وعدوانه ، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب أنها تستقر عليها ، ) 16 ( وحكم النائمة حكم المكرهة ، واللَّه أعلم .
قال : فإن وطئها دون الفرج فلم ينزل فعليه دم ، فإن أنزل فعليه بدنة وقد فسد حجه .
ش : إذا وطىء دون الفرج فلا يخلو إما أن ينزل أولاً . فإن لم ينزل لم يسد
____________________
(1/498)
نسكه بلا نزاع ، ووجب عليه دم ، لأنه فعل محرم ، لم يفسد النسك ، أشبه الحلق ، ثم هل هو شاة أو بدنة ؟ على روايتين أشهرهما الأول ، وإن أنزل وجبت بدنة بلا ريب ، لأنه وطء اقترن به الإنزال ، أشبه الوطء في الفرج . وهل يفسد النسك ؟ فيه روايتان أشهرهما عنه وهي اختيار الخرقي وأبي بكر والقاضي في روايتيه يفسد ، لما تقدم ، ولأن الصحابة أطلقوا الإصابة . ( والثانية ) واختارها أبو محمد لا يفسد ، لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد ، فلم يفسد النسك ، كما لو لم ينزل ، والإصابة في كلام الصحابة رضي اللَّه عنهم كناية عن الوطء في الفرج ، واللَّه أعلم .
قال : وإن قبل فلم ينزل فعليه دم ، فإن أنزل فعليه بدنة ، وعن أبي عبد اللَّه رحمه اللَّه رواية أخرى : إن أنزل فسد حجه .
ش : إذا قبل أو مس فلم ينزل فعليه دم لما تقدم .
1591 وقد روى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث أن عمر بن عبيد اللَّه قبل عائشة بنت طلحة محرماً ، فسأل فأجمع له على أن يهريق دماً والظاهر أنه لم ينزل وإلا لذكر . ( وإن أنزل ) فعليه بدنة لأنه نوع مباشرة أشبه المباشرة فيما دون الفرج ، وفل يفسد نسكه ؟ فيه روايتان ، توجيههما يفهم مما تقدم .
واعلم أن الخرقي رحمه اللَّه جزم [ ثم ] بالفساد ، وحكى الروايتين هنا ، وتبعه على ذلك صاحب التلخيص ، [ وعاكسه ] ابن أبي موسى فيما أظن ، فحكى [ الروايتين ] في الوطء دون الفرج . وجزم في القبلة بعدم الفساد ، وجعل القاضي والشيخان الروايتين في الجميع ، وهو أوجه من جهة النقل ، إذ أحمد قد نص على الفساد بالقبلة ، وإذا أردت جمع الطرق كان في المسألتين ثلاثة أقوال ، ونظير ذلك لو باشر في الصيام ، على ما حكاه أبو البركات تجب الكفارة ، لا تجب ، تجب بالوطء [ دون الفرج دون القبلة وهي المشهورة ، واختيار الخرقي هنا أيضاً ، ولا شك أن الوطء ] دون الفرج أبلغ من القبلة ونحوها ، واللذة به أزيد ، فاقتى زيادة في الواجب ، واللَّه أعلم .
قال : وإن نظر فصرف بصره فأمذى فعليه دم .
ش : ظاهر هذا أنه إذا أمذى بمجرد النظر كان عليه دم ، وعلى ذلك شرح ابن الزاغوني ، لأنه إنزال يؤثر في فساد الصوم ، فأوجب الكفارة ، دليله إنزال المني ، وظاهر كلام أبي الخطاب ، ) 16 ( وصاحب التلخيص ، والشيخين بل صريحه أنه لا يجب والحالة هذه شيء ، لأن ذلك يوجد كثيراً ، لا سيما من الشبان ، فالوجوب به فيه حرج . واللَّه أعلم .
قال : فإن كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة .
ش : وهذا إحدى الروايتين ، لأن نوع استمتاع ممنوع منه ، أشبه القبلة ونحوها
____________________
(1/499)
( والثانية ) وهي المنصوصة عليه شاه ، لأنه إنزال لا عن مباشرة ، أشبه الإنزال بالفكر انتهى . ولو كرر النظر فمذى فاتفق الأصحاب هنا فيما علمت أنه يجب عليه شاة ، ويفهم ذلك مما تقدم من كلام الخرقي بطريق التنبيه .
وفهم من كلام الخرقي أيضاً أنه متى لم ينزل بالنظر فلا شيء عليه ، وهو كذلك ، وقد بقي عليه من أنوال الاستمتاع الفكر ، إذا أنزل به ، ولا نزاع أنه لا شيء عليه إذا غلبه ، وكذلك إن استدعاه ، على أشهر الوجهين ، وقد يقال : إنه مقتضى كلام الخرقي .
( تنبيه ) : فساد النسك هنا بمنزلة وجوب الكفارة في الصوم ، لأن ذلك الأمر الأغلظ فيهما ، ووجوب الكفارة هنا بمنزلة فساد الصوم ثم ، لأن الأخف فيهما ، فالوطء [ في الفرج ] موجب للفساد والكفارة في البابين ، والوطء دون الفرج مع الإنزال موجب لفساد الصوم [ بلا ريب ] والكفارة على الأشهر ، وهنا موجب للكفارة بلا ريب [ وكذلك ] لفساد النسك على الأشهر .
والقبلة ونحوها مع الإنزال موجب للفساد ثم بلا ريب أيضاً ، [ غير ] موجب للكفارة على الأشهر .
وتكرار النظر بشرطه يفسد ثم ، ويوجب الكفارة هنا ، ولا يقتضي كفارة ثم ، ولا فساداً هنا ، والإنزال بالفكر المستدعى لا يوجب كفارة ثم ، ولا فساداً هنا ، وهل يفسد ثم ، ويوجب الكفارة هنا ؟ فيه وجهان ، واللَّه أعلم .
قال : وللمحرم أن يتجر .
1592 ش : لما روى أبو داود عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية : 19 ( { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } ) [ قال ] : كانوا لا يتجرون بمنى ، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات .
1593 وفي الصحيح عنه قال : كان ذو المجاز ، وعكاظ متجر الناس في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك ، حتى نزلت : 19 ( { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } ) في مواسم الحج ، واللَّه أعلم .
قال : ويصنع الصنائع كلها .
ش : لأن ذلك في معنى التجارة ، واللَّه أعلم .
قال : ويرتجع زوجته ، وعن أبي عبد اللَّه أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى في الارتجاع أن لا يفعل ذلك . ) 16 (
ش : الرواية الأولى اختيار أبي محمد ، والقاضي في روايتيه ، إذ الرجعية زوجة ،
____________________
(1/500)
والرجعة إمساك ، قال سبحانه : 19 ( { فإمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان } ) ولهذا لا يفتقر إلى الولي ، ولا إلى الشهود . ( والثانية ) : هي اوشهر عن أحمد ، واختيار القاضي في التعليق في مواضع ، لأنه عقد يتوصل به إلى استباحة بضع مقصود ، فمنع منه الإحرام ، دليله عقد النكاح . ولا يرد شراء الأمة [ إذ ] المقصود منه الملك ، لا استباحة البضع ، ولا المظاهر إذا كفر في حال الإحرام ، فإنه يتوصل إلى إباحة ، لكن ذلك ليس بعقد .
وقد أورد على هذا أن الرجعية مباحة فلا استباحة ، فأجاب القاضي : الاستباحة تتعلق بها ، وإن قلنا هي مباحة ، فإنه لو تركها حتى مضت العدة حرم وطؤها ، فرجعتها تبيح الوطء بعد مضيب [ مدة ] العقد ، واللَّه أعلم .
قال : وله أن يقتل الحدأة ، والغراب ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور .
1594 ش : في الصحيحين [ وغيرهما ] من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال : ( خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهم جناح الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ، متفق عليه .
وقد شمل كلام الخرقي وكلام غيره من الأصحاب صغار هذه ، وعموم الحديث [ أيضاً ] يقتضيه ، وإذا قيل : إن فسقهن لأذاهن فلا ينبغي أن يدخل في ذلك إلا من وجد فيه حقيقة الأذى ، أو تأهله لذلك .
( تنبيه ) : المراد بالغراب الغراب الأبقع بلا ريب ، وهو الذي في بطنه وظهره بياض ، وغراب البين عندنا كذلك ، نظراً لعموم الأحاديث الصحيحة وونه يعدو على الناس ، ويحرم أكله ، فهو كالأبقع ، ويخرج من ذلك غرب الزرع لجواز أكله ، وعدم أذاه . وقيل : المراد في الحديث الأبقع فقط ، حملاً للمطلق على المقيد ، إذ في مسلم ( والغراب الأبقع ) و ( الحدأة ) بكسر الحاء والهمزة ، ( والعقور ) العضوض ، فعول بمعنى فاعل ، أي العاقر ، واختلف فيه ، فقيل : هو كل سبع يعقر ، نظراً لجانب اللفظ .
1596 ويؤيده أن النبي دعى على عتبة بن أبي لهب فقال : ( اللهم سلط عليه كلباً من كلابك ) فافترسه الأسد .
وقيل : هو الكلب المألوف ، نظراً لجانب العرف ، إذ الظاهر في اللام أنها لمعهود ذهني ، و ( الحرم ) ضبطه جماعة بفتح الحاء والراء وهو الحرم المشهور ، وضبطه القاضي في المشارق بضم الحاء والراء ، جمع حرام ، كقوله سبحانه وتعالى : 19 ( { وأنتم حرم } )
____________________
(1/501)
قال : ) 16 ( والمراد به المواضع المحرمة . قال النووي : والأول أظهر .
وتمسية هؤلاء فواسق قيل : لخروجهن عن السلامة منهن إلى الأذى ، وقيل : لخروجهن عن الحرمة إلى الأمر بقتلهن .
وقيل : سمي الغراب فاسقاً لتخلفه عن نوح ، [ وخروجه ] عن طاعته ، وأصل الفسوق الخروج ، يقال : فسقت الرطبة ، إذا خرجت عن قشرها ، واللَّه أعلم .
قال : وكل ما عدا عليه ، أو آذاه ، ولا فداء عليه .
ش : أي يجوز قتله ، ويحتمل أن يريد بذلك كل ما عدا على المحرم في نفسه أو ماله ، وإن لم يكن من طبعه الأذى ، ولا نزاع في ذلك ، لأنه إذاً هو الجاني على نفسه ، ويحتمل أن يريد ما في طبعه الأذى وإن لم يوجد [ منه ] كسباع البهائم ، وجوارح الطير ، كالنمر ، والفهد ، والبازي ، والعقاب ، ونحو ذلك . والزنبور ، والبق ، والبراغيث ، وشبهها من الحشرات المؤذية ، إذ قوله ( خمس من الفواسق يقتلن ) من باب ترتيب الحكم على الوصف ، فحيث وجد الفسق ترتب الحكم ، ثم إنه أكد ذلك بأن عدد أنواعاً ، تنبيهاً على ما في معناها [ كالعقرب ] .
1597 وفي رواية أحمد ذكر الحية تنبيهاً على ما يشاركها في الأذى باللسع كالبرغوث والزنبور .
والفأرة تبيه على ما آذى بالنقب والتقريض كابن عرس ونحوه .
والغراب والحدأة تنبيه على ما يؤذي بالاختطاف كالصقر .
والكلب العقور تنبيه على كل عاد كالنمر ونحوه ، والاحتمالان صحيحان [ على المذهب ] لكن ظاهر كلامه [ هو ] الأول .
وقد يقال عليه : إن ظاهر كلامه منع قتل ما عدا الخمسة المذكورة ما لم تعد عليه ، ويرجحه أن في مسلم ( يقتل خمس فواسق ) بالإضافة من غير تنوين ، وهي إضافة بمعنى [ من ] أي من الفواسق . وتخصيص هذه الخمسة بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداها ، ويرجح ذلك رواية ابن عمر السابقة ، واللَّه أعلم .
قال : وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم .
ش : هذا إجماع من أهل العلم ، وللَّه الحمد .
1598 وقد دل عليه ما روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه قال : لما فتح اللَّه عز وجل على رسول اللَّه مكة ، قام في الناس ، فحمد اللَّه ثم أثنى عليه ، ثم قال : ( إن اللَّه حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، وإنها لا تحل لأحد من بعدي ، فلا ينفر
____________________
(1/502)
صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفدي وإما أن يقتل ) فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول اللَّه ، فإنا نجعله في قبورها وبيوتنا . ) 16 ( فقال رسول اللَّه ( إلا الإذخر ) فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال : اكتبوا لي يا رسول اللَّه . فقال رسول اللَّه ( اكتبوا لأبي شاه ) متفق عليه واللفظ لمسلم ، وفي لفظ : لا يختلى خلاه .
1599 وفي الصحيحن أيضاً عن ابن عباس نحوه .
وقد شمل كلام الخرقي الصيد من آبار الحرم وعيونه ، ونحو ذلك ، وهو إحدى الروايتين ، لعموم ( لا ينفر صيدها ) والثانية وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى يباح ذلك ، لأن الإحرام لا يحرمه ، أشبه الحيوان الأهلي .
( تنبيه ) : ( الخلا ) مقصور الحشيش الرطب . واختلاؤه قطعه و ( الأذخر ) بذال معجمة حشيشة طيبة الريح ، تسقف بها البيوت فوق الخشب ، واللَّه أعلم .
قال : وكذلك شجرة ونباته ، إلا الإذخر ، وما زرعه الإنسان .
ش : أي يحرمان على الحلال والمحرم أي قطعهما إلا الإذخر ، وما زرعه الإنسان ، فإن يباح أخذهما ، وهذه الجملة مجمع عليها ، قاله ابن المنذر ، وقد تقدم قوله ( لا يختلى شوكها ) و ( لا يختلى خلاه ) وفي حديث ابن عباس ( لا يعضد شوكها ) أي لا يقطع ، والإذخر قد تقدم استثناؤه ، وما زرعه بتركه [ فهو ] كالإذخر وأولى .
[ وقول الخرقي : و ] ما زرعه الإنسان . يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر ، ويحتمل أن يعم جميع ما يزرع ، فيدخل الشجر ، وهما وجهان للأصحاب ( أحدهما ) وهو اختيار القاضي ما نبت أصله في الحرم لا يباح أخذه ، لعموم الحديث ، وما نقل من الحل إلى الحرم يباح أخذه ، نظراً إلى أصله .
وقد دخل في عموم كلام الخرقي الشوك ، والعوسج ، واليابس من الشجر والحشيش ، وقد استثنى الشوك والعوسج ونحوهما جمهور الأصحاب ، نظراً لأذاه ، فهو كسباع البهائم ، ومنع أبو محمد من استثنائه أخذاً بصريح الحديث ، واتفق الكل فيما علمت على استثناء اليابس ، لأنه بمنزلة الميت ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أحصر بعدوّ نحر ما معه من الهدي وحل .
ش : الحصر والمنع ، يقال : حصره العدو فهو محصور ، وأحصر بالمرض فهو محصر ، هذا هو الأشهر قاله غير واحد ، وقيل : يجوز فيهما حصر وأحصر ، وهو ظاهر القرآن ، ولا نزاع بين العلماء أن من منعه عدو عن الوصول إلى البيت أن له التحلل في الجملة ، لقوله سبحانه : 19 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه ، فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ، ولا تحلقوا
____________________
(1/503)
رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله } ) الآية : قال أبو محمد : لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية .
1600 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما : )6 ( خرجنا مع رسول اللَّه معتمرين ، فحال كفار قريش دون البيت ، فنحر رسول اللَّه وحلق رأسه .
1601 وعن مسور ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح أن النبي لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحاب
____________________
(1/504)
( قوموا فانحروا ثم احلقوا ) رواهما البخاري وغيره .
ويشترط لجواز الحل أن لا يجد طريقاً آمناً ، فإن وجد طريقاً آمناً لزمه سلوكه ، وإن بعد وخاف الفوات ، وإذا جاز له التحلل فلا يتحلل إلا بنحر الهدي إن قدر عليه ، أو ببدله إن عجز عنه ، وهو الصيام ، للآية الكريمة ، إذ قوله تعالى : { فما استيسر من الهدي } أي فالواجب ما استيسر من الهدي ، أو فعليكم ما استيسر من الهدي ، [ أو فأهدوا ما استيسر من الهدي ] ثم قال تعالى : { ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله } ولأن النبي كذا فعل ، نحر وأمر أصحابه أن ينحروا ، وفعله خرج بياناً للأمر المشروع .
وقول الخرقي : وإن حصر أي عن البيت ، بدليل قوله بعد في المريض [ ولو حصر ] في الحج عن عرفة وحدها لم يكن له التحلل ، ولزمه المضي إلى البيت ، فيتحلل بعمرة ، ولا شيء عليه [ على ] المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين و ( الثانية ) له التحلل كما لو صد عن البيت ، ويحتملها إطلاق الخرقي .
وقوله : وإن حصر [ بعدو ] يشمل في الحج وفي العمرة ، وقبل الوقوف وبعده ، وفي الحج الصحيح والفاسد ، وهو كذلك ، ويشمل إذا أحاط العدو به من جميع الجوانب ، وكذلك أطلق غيره ، قال صاحب التلخيص : ويحتمل عندي أنه ليس له التحلل والحال هذه ، لأنه لا يتخلص منه فهو كالمرض ، ويشمل الحصر العام والخاص ، كما لو حصر هو وحده ، بأن أخذته اللصوص ، أو حبس وحده ، نعم يشترط لذلك أن يكون مظلوماً ، فلو حبس بحق يلزمه ويمكنه أداؤه لم يكن له التحلل ، ويشمل العدو الكافر والمسلم ، ولا يتحقق الحصر به إلا إن احتاج في دفعه إلى قتال أو بذل مال كثير ، فإن كان يسيراً والعدو مسلماً فهل يجب الدفع ولا يتحلل ، أو لا يجب فيتحلل ؟ فيه وجهان .
وقوله : نحر ما معه من الهدي . ظاهره في الموضع الذي حصر فيه ، وهو منصوص أحمد ، ومختار الأصحاب ، لأن النبي لما أحصر نحر وقال ( لأصحابه قوموا فانحروا ) وكان ذلك بالحديبية ، وهي من الحل ، قال مالك رحمه اللَّه [ في الموطأ ] : إذا أحصر بعدو يحلق في أي موضع كان [ ولا قضاء عليه ] لأن رسول اللَّه وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا ، وحلوا من كل شيء قبل الطواف بالبيت . مختصر ويشهد لهذا قوله تعالى : 19 ( { والهدي معكوفاً أن يبلغ محله } ) فأخبر سبحانه أن الهدي حبس عن بلوغ محله . ) 16 (
وعن أحمد رحمه اللَّه رواية أخرى : ليس له نحره إلا في الحرم ، فيبعث به ، ويواطىء رجلاً على نحره في وقت يتحلل فيه ، لظاهر قوله سبحانه : 19 ( { ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله } ) أي مكانه الذي يجب نحره فيه .
1602 وعن عمرو بن سعيد النخعي ، أنه أهل بعمرة ، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ ، فخرج أصحابه إلى الطريق ، عسى أن يلقوا من يسألونه ، فإذا هم بابن مسعود ، فقال لهم : ليبعث بهدي أو بثمنه ، واجعلوا بينكم وبينه أمارا يوماً ما ، فإذا ذبح الهدي فليحل ، وعليه قضاء عمرته . وقال في المغنى : هذا واللَّه أعلم فيمن حصره خاص أما من حصره عام فلا ينبغي أن يقال ، لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل ، لتعذر وصول الهدي إلى محله ، وعلى هذا حكى الرواية في الكافي .
1603 ويشهد لذلك قول ابن عباس رضي اللَّه عنه : إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ ، فأما من حبسه عدو أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع ، وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به ، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله . رواه البخاري انتهى ، ولا يرد غلى [ هذا ] فعل الرسول وأصحابه ، لأن الظاهر أن البعطث تعذر عليهم .
وعن أحمد رحمه اللَّه رواية ثالثة : لا يجزئه الذبح إلا يوم النحر ، إذ هذا وقت ذبحه ، كذا أطلق الرواية في التلخيص ، وقيدها في الكافي بما إذا ساق هديا . انتهى .
ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به ، لأن الهدي يكون لغيره ، فلزمته النية طلقاً للتمييز .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب الحلاق . وهو إحدى الروايتين . ( والثانية ) يجب ، وهو اختيار القاضي في التعليق وغيره ، وبناهما أبو محمد في الكافي على أنه نسك أو إطلاق من محظور . فإن قلنا : نسك . وجب وتوقف الحل عليه ، ولا يحصل إلا بثلاثة أشياء النحر مع النية والحلق ، وإن قلنا : إطلاق من محظور لم يتوقف الحل عليه ، فيحصل بالنحر مع النية .
وقول الخرقي : حل . ظاهره أن الحل مترتب على النحر ، وقد تقدم ، وسيأتي ما هو أصرح من ذلك ، ولا ريب أن ذلك هو المذهب لما تقدم .
1604 وقال ابن عباس رضي اللَّه عنه : أحصر رسول اللَّه ، فحلق رأسه ونحر هديه ، وجامع نساءه ، حتى اعتمر عاماً قابلاً . [ رواه البخاري ] . وعنه في المحرم
____________________
(1/505)
بالحج : لا يحل إلا يوم النحر ليتحقق الفوات ، لاحتمال زوال الحصر ، واللَّه أعلم .
قال : وإن لم يكن معه هدي ، ولا يقدر عليه ، ) 16 ( صام عشرة أيام ثم حل .
ش : إذا لم يكن معه هدي لزمه أن يشتري هديا لم يكن له التحلل في المشهور من الروايتين ، والمختار للأصحاب .
1607 لما روى أيوب السختياني ، عن رجل من أهل البصرة [ كان قديماً ] أنه قال : خرجت إلى مكة ، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي ، فأرسلت إلى مكة وبها عبد اللَّه بن عباس ، وعبد اللَّه بن عمر ، والناس ، فلم يرخص لي أحد أن أحل ، وأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر ، حتى حللت بعمرة .
1608 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : من حبس بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، فإن اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها ، أو الدواء صنع ذلك وافتدى . رواهما مالك في موطئه .
1609 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما : لا حصر إلا حصر العدو . رواه الشافعي [ في مسنده ] وأيضاً ما تقدم من حديث ضباعة بنت الزبير ، فإن النبي أمرها بالاشتراط خوفاً من حبسها بالمرض ، ولو كان المرض مبيحاً للتحلل لم تكن حاجة إلى الاشتراط ، ويفارق حصر العدو [ لأنه ثم إذا تحلل حاجة إلى الاشتراط ، ويفارق حصر العدو [ لأنه ثم إذا تحلل تخلص من العدوّ وهنا لا يتخلص بالتحلل مما وقع فيه .
و [ الرواية ] الثانية ولعلها أظهر : له التحلل ، لظاهر قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما
____________________
(1/506)
استيسر من الهدي } إذ أحصر إن كان يستعمل للمنع بالعدو والمرض فهو شامل لهما ، وإن كان للمرض وهو الأشهر حتى قال الأزهري : إنه كلام العرب ، وعليه ( أهلّ اللغة وقال الزجاج : ) 16 ( إنه الرواية عن العرب . فالآية إنما وردت في حصر المريض ، واستفيد حصر العدو بطريق التنبيه ، وبورود الآية بسببه .
1610 وروى الحجاج بن عمرو الأنصاري قال : سمعت رسول اللَّه يقول : ( من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه الحج من قابل ) قال عكرمة : فسمعته يقول ذلك ، فسألت ابن عباس وأبا هريرة رضي اللَّه عنهم عما قال فصدقاه . رواه الخمسة وحسنه الترمذي وزاد أبو داود في رواية ( أو مرض ) لا يقال : هذا متروك الظاهر ، لأنه لا يحل بمجرد ذلك . لأنا نقول : هذا مجاز سائغ ، إذ من أبيح له التحلل فقد حل ، لا يقال : فابن عباس قد خالف ذلك ، وهو يضعف ما روي عنه من التصديق ، لأنا نقول : غايته أن يكون مخالفاً لروايته ، ومخالفة الراوي لظاهر الحديث [ لا ] يقدح فيه ، على المشهور من قولي العلماء ، وأصح الروايتين عن أحمد ، وحمله على الحل بالفوات ، أو على الاشتراط بعيد جداً ، وما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي اللَّه عنهم فقد تقدم عن ابن مسعود ما يخالفه ، وحديث ضباعة في الاشتراط فيه فائدة غير الحل ، وهو عدم وجوب شيء ، وكونه لا يتخلص من الأذى الذي به ممنوع ، فإنه يتخلص من مشقة الإحرام ، ثم رجوعه إلى بلده أخف عليه من بقائه على الإحرام حتى يقدر على . البيت ، ثم يرجع إلى بلده .
فعلى هذه الرواية حكمه حكم من حصر بعدو ، وينحر الهدي ، أو يصوم إن لم يجد الهدي ثم يحل ، وعلى المشهور إن كان ساق هدياً بعث به ليذبح بمكة ، ثم إن فاته الحج تحلل بعمرة كغير المريض .
( تنبيهان ) : ( أحدهما ) حيث تحلل المحصر بعدو أو مرض ونحوه فلا قضاء عليه على إحدى الروايتين ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار القاضي وابنه [ أبي الحسين ] وغيرهما ، لما تقدم عن ابن عباس : إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ . الحديث ولأن النبي لم ينقل عنه أنه أمر من حل معه بالحديبية أن يقضوا ، والظاهر أنه لو وقع لنقل .
( والرواية الثانية ) يجب القضاء ، لأن النبي لما تحلل قضى من قابل .
1611 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه قال : 16 ( أليس حسبكم سنة رسول اللَّه ، إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت ، وبالصفا والمروة ثم حل من كل شيء ، حتى يحج عاماً قابلاً ، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً ) . رواه البخاري
____________________
(1/507)
وغيره ( وأجيب ) بأنه لا نزاع في القضاء ، إنما النزاع في وجوبه ، وقول ابن عمر يحمل على من تحلل من حج واجب فإنه لا نزاع في قضاء ذلك نظراً للوجوب السابق .
( التنبيه الثاني ) : ( عرج ) [ بفتح الراء ] يعرج إذا أصابه شيء في رجليه فجمع ومشى مشية العرجان ، ) 16 ( وليس بخلقة ، فإذا كان خلقة قيل : بالكسر قاله المنذري ، وقال الزمخشري : ( عرج ) بالفتح إذا تعارج ، وعرج بالكسر إذا كان خلقة ، واللَّه أعلم .
قال : وإن قال : أنا أرفض إحرامي وإحل . فلبس المخيط ، وذبح الصيد ، وعمل ما يعمله الحلال ، كان عليه في كل فعل فعله دم [ وكان على إحرام ] .
ش : [ يعني ] إذا قال الممنوع من البيت بمرض ونحوه : أنا أترك إحرامي وأحل . فإن إحرامه لا يرتفض بهذا ، لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد ، فلا يخرج منها بالرفض ، بخلاف سائر العبادات ، وإذاً يلزمه فداء كل جناية جناها على إحرامه ، لبقائه في حقه ، ولا يلزمه بالرفض شيء ، لأنه نية لم تؤثر ، واللَّه أعلم .
قال : وإن كان وطىء فعليه للوطء بدنة ، مع ما يجب عليه من الدماء .
ش : كما لو وطىء من غير رفض ، لبقاء الإحرام ، وقد فهم من فحوى كلام الخرقي أن المحرم لو رفض إحرامه من غير حصر لم يرتفض ، واللَّه أعلم .
قال : ويمضي في حج فاسد .
ش : يعني من وطىء فقد فسد حجه كما تقدم ، ويجب عليه أن يمضي فيه فيفعل ما يفعله من حجه صحيح من الوقوف والمبيت بمزدلفة ، والرمي ، وغير ذلك ، ويجتنب ما يجتنبه من حجه صحيح من الوطء ثانياً ، وقتل الصيد وغيرهما ، حتى لو جنى جناية على هذا النسك الفاسد ، لزمه فداؤها ، لإطلاق قوله تعالى : 19 ( { وأتموا الحج والعمرة للَّه } ) وهو شامل للصحيح والفاسد ، وقد يقال الفاسد ليس بحج ، إذ الحقائق الشرعية إنما تحمل على صحيحها ، دون فاسدها ، والمعتمد . في ذلك قول الصحابة عمر ، وعلي ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس رضي اللَّه عنهم وقد تقدم ذلك عنهم ، واللَّه أعلم .
قال : ويحج من قابل واللَّه أعلم بالصواب .
ش : لما [ تقدم عن ] الصحابة أيضاً .
( تنبيه ) : إن كان ما فسد واجباً قبل الإحرام كحجة الإسلام ، والمنذورة ، والقضاء أجزأت الحجة من قابل عن ذلك ، وإن كان تطوعاً فبالإحرام وجب تمامه ، فإذا أفسده وجب قضاؤه ، واللَّه أعلم .
( باب ذكر الحج ودخول مكة )
نبدأ وباللَّه التوفيق قبل الشروع في ذلك بحديث جابر ، في صفة حج النبي ، فإنه حديث عظيم ، يعرف منه غالب المناسك .
____________________
(1/508)
1612 قال جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : دخلنا على جابر بن عبد اللَّه ، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت : أنا محمد بن علي بن حسين . فأهوى بيده إلى رأسي ، فنزع زري الأعلى ، ثم نزع زري الأسفل ، ثم وضع كفه بين ثديي ، وأنا يومئذ غلام شاب ، فقال : مرحباً بابن أخي ، سل عما شئت . فسألته وهو أعمى ، وحضر وقت الصلاة ، فقام في ساجة ملتحفاً بها ، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب ، فصلى بنا ، فقلت : أخبرني عن حجة رسول اللَّه فقال بيده ، فعقد تسعاً ، فقال : إن رسول اللَّه مكث تسع سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة : إن رسول اللَّه حاج ، فقدم المدينة بشر كثير ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللَّه ويعمل مثل عمله ، فخرجنا معه ، حتى أتينا ذا الحليفة ، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول اللَّه : كيف أصنع ؟ فقال ( اغتسلي واستثفري بثوب ، وأحرمي ) فصلى رسول اللَّه في المسجد ، ثم ركب القصواء ، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت مد بصري بين يديه ، من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول اللَّه بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء عملنا به ، فأهل بالتوحيد ( لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك له لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ) وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول اللَّه شيئاً منه ، ولزم رسول اللَّه تلبيته ، قال جابر : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثاً ، ومشى أربعاً ، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فقرأ 19 ( { واتخذوامن مقام إبراهيم مصلى } ) فجعل المقام بينه وبين البيت ، فكان أبي يقول : ولا أعلمه ذكره إلا عن رسول اللَّه ، كان يقرأ في الركعتين : 19 ( { قل هو اللَّه أحد } ) و : 19 ( { قل يا أيها الكافرون } ) ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا من الصفا قرأ : 19 ( { إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه } ) ( أبدأ بما بدأ اللَّه ) فبدأ بالصفا ، فرقي عليه ، حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، ووحد اللَّه وكبره ، وقال ( لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا اللَّه وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي ، [ سعى ] حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا ، حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة قال ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وليجعلها عمرة ) [ فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه الهدي ] فقام سراقة بن جعشم فقال : يا رسول اللَّه ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فشبك رسول اللَّه أصابعه [ واحدة ] في الأخرى ،
____________________
(1/509)
وقال ( دخلت العمرة في الحج ) مرتين ( لا بل لأبد أبد ) وقدم علي بن أبي طالب من اليمن ببدن [ رسول اللَّه ] فوجد فاطمة ممن حل ، ولبست ثياباً صبيغاٍ ، واكتحلت ، فأنكرت ذلك عليها ، فقالت : أبي أمرني بهذا قال : وكان علي يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول اللَّه فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال ( صدقت صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ ) قال : قلت اللهم إني أهل بما أهل به رسول اللَّه . قال : ( فإن معي الهدي ، قال : فلا تحل ) قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به على من اليمن ، والذي أتى به رسول اللَّه مائة ، قال : فحل الناس كلهم وقصروا ، إلا النبي ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم الروية توجهوا إلى منى ، وأهلوا بالحج ، فركب رسول اللَّه ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة ، فسار رسول اللَّه ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ، فأجاز رسول اللَّه حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها ، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي ، فخطب الناس وقال : ( إن دماءكم ، وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي [ موضوع ، ودماء الجاهلية تحت قدمي ] وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ، كان مسترضعاً في بني سعد ، فقتلته هذيل . وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه رباناً ربا العباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، فاتقوا اللَّه في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللَّه ، واستحللتم فروجهن بكلمة اللَّه ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب اللَّه ، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟ ) قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ، ونصحت . فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ، وينكتها إلى الناس ( اللهم اشهد ، اللهم اشهد ) ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام ، فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب رسول اللَّه حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلاً ، حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول اللَّه ، وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى ( أيها الناس السكينة السكينة ) كلما أتى حبلاً من الحبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء [ بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع رسول اللَّه حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح ] بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام ،
____________________
(1/510)
فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ، ووحده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ، فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن العباس ، وكان رجلاً حسن الشعر ، أبيض وسيماً ، فلما دفع رسول اللَّه مرت ظعن يجرين ، فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول اللَّه [ يده ] على وجه الفضل ، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول اللَّه يده [ من الشق ] الآخر [ على وجه الفضل ، فصرف وجهه من الشق ] ينظر حتى أتى بطن محسر ، فحرك قليلاً ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ، فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها ، مثل حصى الخذف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثاً وستين بدنة ، ثم أعطى علياً فنحر ما غبر ، وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مرقها ، ثم ركب رسول اللَّه فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ) فناولوه دلوا فشرب منه . رواه أبو داود ، وابن ماجه ، [ ومسلم ] وهذا لفظه ، وله في رواية أخرى ( نحرت هاهنا ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ههنا ، وعرفة كلها موقف ، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف ) .
( تنبيه ) : محمد بن علي بن حسين هو الباقر ، والذي فعله معه جابر من وضع كفه بين ثدييه ونحره تأنيساً به ، ورقا عليه ، أو تبركاً بالذرية الطاهرة ، ( ومرحباً ) كلمة تقال عند المسرة للقادم ، ومعناها : صادفت رحباً ، أي سعة . ( والساجة ) الطيلسان ، ويقال لها أيضاً ( الساج ) وقيل : هي الخضر خاصة وفي رواية أبي داود ( نساجة ) بكسر النون ، ضرب من الملاحف المنسوجة ، وقوله : بشر كثير . قيل حضر معه حجة الوداع أربعون ألفاً . ( والمشجب ) بكسر الميم وبالشين المعجمة ، وباء موحدة بعد الجيم [ عيدان تضم رؤسها ] ، ويفر / بين قوائهما ، توضع الثياب عليها ، وقد تعلق عليها الأسقية ، لتبريد الماء ( واستثفري ) بالثاء المثلثة ، وقد تقدم معنا ، وفي أبي داود ( واستفذري ) بذال معجمة ، قيل : مأخوذ من ( الذفر ) وهو كل ريح ذكية من طيب أي تستعمل طيباً يزيل هذا الشيء عنها ، ( والقصوى ) بفتح القاف ممدود وقيل ومقصور ناقة رسول اللَّه [ والقصواء هي الناقة التي قطع طرف أذنها . فقيل : كانت ناقته ] كذلك وقيل وهو المشهور : إنما كان [ هذا ] لقباً لها ، لأنها كانت لا تكاد تسبق ، كان عندها أقضى الجري .
وقوله في الصفا : فرقي عليه . أي صعد ، بكسر القاف على الأشهر .
وقوله : محرشاً على فاطمة . التحريش الإغراء بين القوم والبهائم ، وتهييج بعضهم على بعض ، وهو ههنا ذكر ما يوجب عتابه لها .
____________________
(1/511)
ويوم التروية هو [ اليوم ] الثامن من ذي الحجة ، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده ، وقيل : لأن قريشاً كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحجاج تسقيهم وتطعمهم ، فيروون منه . وقيل : لأن الإمام يروي للناس فيه من أمر المناسك . وقيل : لأن إبراهيم تروى فيه في ذبح ولده . ( والمورك ) بكسر الراء المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل ، يضع الراكب رجله عليها ، يستريح من وضع رجليه في الركاب ، شبه المخدة الصغيرة و ( الوسامة ) الحسن الوضيء الثابت ( والإفاضة ) الدفع في السير ، قيل : أصلها الصب ، فاستعيرت لذلك ( والبضعة ) بفتح الباء القطعة من اللحم . ( وحبل المشاة ) بفتح الحاء المهملة ، أي صفهم ومجتمعهم في مشيهم ، وقيل : طريقهم الذي يسلكونه في الرمل .
وقوله : ( كلما أتى حبلاً ) الحبل المستطيل [ من الرمل ] وقيل : الحاج دون الحبال .
وقوله : ينكتها . بالتاء ثالث الحروف ، هذه الرواية ، وروي : ينكبها . بالباء الموحدة ، قال المنذري : وهو الصواب أي يميلها إليهم ، يشهد اللَّه عليهم .
وقوله : ( بكلمة اللَّه ) قيل : قوله : 19 ( { فإمساك بمعروف ، أو تسريح بإحسان } ) وقيل : إباحة اللَّه الزواج ، وإذنه فيه .
وقوله : ( تكرهونه ) قيل : أن لا يستخلين مع الرجال ، وليس المراد الزنا ، لأنه حرام مع من يكرهه أو [ من ] لا يكرهه ، ( مبرح ) أي غير مؤثر ولا شاق . ( والظعن ) بضم العين المهملة وسكونها ، جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ، فإذا لم تكن فيه فليست بظعينة .
وتحريكه في بطن محسر : قال الشافعي : يجوز أنه فعله لسعة الموضع ، أو لأنه مأوى الشياطين .
1613 و ( حصى الخذف ) قال الشافعي : أصغر من الأنملة طولاً وعرضاً ، وقال عطاء : مثل طرف الإصبع .
1614 و ( الناس ) في قوله 19 ( { ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ) قيل : آدم ، وقيل : إبراهيم ، وقيل : سائر العرب . واللَّه أعلم .
قال : وإذا دخل المسجد الحرام فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة .
ش : اقتداء بالنبي .
1615 فعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، قال : كان النبي إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء ، وإذا خرج خرج من الثنية السفلى . متفق عليه . وعلى هذا استمر فعل الأمة سلفاً بعد سلف ، واللَّه أعلم .
____________________
(1/512)
قال : فإذا رأى البيت رفع يديه .
1616 ش : لما روي عن ابن جريج أن النبي كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال ( اللهم زد هذا البيت تشريفاً ، وتكريماً ، وتعظيماً [ ومهابة ، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه واعتمره تشريفاً ، وتعظيماً ، وتكريما ] وبراً ) رواه الشافعي في مسنده ، واللَّه أعلم .
قال : وكبر .
ش : إشعاراً بعظمة الرب سبحانه وتعالى .
1617 وفي حديث ابن عباس قال : طاف رسول اللَّه على بعير ، كلما أتى [ على ] الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر . رواه البخاري والرائي للبيت آت على الركن ، واللَّه أعلم .
قال : ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع وقبله .
ش : لما تقدم في حديث جابر : حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن .
1618 وعن عابس بن ربيعة قال : رأيت عمر يقبل الحجر ، ويقول : إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أني رأيت رسول اللَّه يقبلك ما قبلتك . رواه الجماعة .
وقوله : ثم أتى الحجر الأسود إن كان . أي إن كان الحجر في مكانه ، والعياذ باللَّه كما وقع ذلك في زمن الخرقي رحمه اللَّه ، لما أخذته القرامطة فإنه يقف مقابلاً لمكانه ، ويستلم الركن ، عملاً بما استطاع ، واللَّه أعلم .
قال : فإن لم يستطع قام حياله ، ورفع يديه ، وكبر اللَّه تعالى وهلله .
ش : إذا لم يستطع الاستلام والتقبيل المندوبين وأمكنه الاستلام بشيء في يده فعل .
1619 لأن النبي طاف على بعير يستلم الركن بمحجنه ، وإن لم يمكنه قام حياله ، ورفع يديه مشيراً بهما إليه ، وكبر اللَّه عز وجل وهلله .
1620 لما روي عن عمر رضي اللَّه عنه أن النبي قال له ( يا عمر إنك رجل قوي ، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف ، إن وجدت خلوة فاستلمه ، وإلا فاستقبله وهلل وكبر ) رواه أحمد .
____________________
(1/513)
1620 م وله أيضاً عن ابن عباس : طاف رسول اللَّه على بعير ، كلما أتى [ على ] الركن أشار إليه بشيء في يده [ وكبر ] .
1621 وقال بعض الأصحاب : يقول إذا استلمه ( بسم اللَّه ، واللَّه أكبر ، إيماناً بك ، وتصديقاً بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتباعاً لسنة نبيك محمد ) لأن ذلك يروى عن النبي .
( تنبيه ) : والاستلام مسح الحجر باليد ، أو بالقبلة ، افتعال من السلام وهو التحية ، ولذلك أهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا ، أي أن الناس يحيونه ، قاله الأزهري ، وقال القتيبي والجوهري : افتعال من السلام وهي الحجارة ، واحدها ( سلمة ) بكسر اللام ، يقول : استلمت الحجر . إذا لمسته ، كما يقول : اكتحلت من الكحل ، وقيل : افتعال من المسالمة ، كأنه فعل ما يفعله المسالم [ انتهى . وقيل : الاستلام ] أن يحيى نفسه عند الحجر بالسلام لأن الحجر لا يحييه ، كما يقال : اختدم . إذا لم يكن له خادم ، وقال ابن الأعرابي : هو مهموز الأصل ، ترك همزة ، مأخوذ من المسالمة وهي الموافقة ، وقيل : من الملاءمة وهي السلاح ، كأنه خص نفسه بمس الحجر . انتهى .
و ( المحجن ) عصا محنية الرأس . واللَّه أعلم .
قال : واضطبع بردائه .
1622 ش : لما روى يعلى بن أمية أن النبي طاف مضطبعاً ، وعليه رداؤه . رواه ابن ماجه ، والترمذي ، وأبو داود ، وأحمد ولفظه : لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له أخضر . والإضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن ، وطرفيه على عاتقه الأيسر [ سمي بذلك لإبداء الضبعين ، وهما ما تحت الإبط ، وهل يسير إلى آخر الطواف أو إلى آخر الرمل ؟ فيه روايتان ، واللَّه أعلم ] .
قال : ورمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعاً .
ش : كذلك قال جابر : رمل ثلاثاً ، ومشى أربعاً .
1623 وفي الصحيح أيضاً عن ابن عمر أن النبي كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثاً ، ومشى أربعاً ، لا يقال : فالرسول [ إنما ] فعل هذا لإظهار الجلد للكفار .
1621 كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : قدم رسول اللَّه وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم غداً قوم وقد وهنتهم الحمى ، ولقوا منها شدة ، فجلسوا مما يلي الحجر ،
____________________
(1/514)
وأمرهم النبي أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا بين الركنين ، ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذي زعمتم أن الحمى وهنتهم ، ولا أجلد من هؤلاء . قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما : ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . وقد زال ذلك . لأنا نقول : قد فعل ذلك رسول اللَّه في حجة الوداع ، كما ثبت في حديث جابر وغيره ، بعد زوال ذلك المعنى .
1625 وقد جاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : رمل رسول اللَّه في حجته وفي عمره كلها ، وأبو بكر ، وعمر ، والخلفاء . رواه أحمد .
1626 وعن أسلم : سمعت عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه يقول : فيم الرملان ، والكشف عن المناكب ، وقد أطأ اللَّه تعالى الإسلام ، ونفى الكفر وأهله ؟ لكن مع ذلك لا ندع شيئاً كنا نفعله مع رسول اللَّه . رواه أبو داود .
( تنبيه ) : ( الرمل ) قال الجوهري : الرمل الهرولة ، وقال الأزهري : الإسراع ، وفسر الأصحاب الرمل بإسراع المشي ، مع تقارب الخطا من غير وثب ، ( والوهن ) الضعف ، ( والجلد ) القوة والصبر . ( والأشواط ) جمع شوط ، والمراد به المرة الواحدة من الطواف بالبيت ، و ( أطأ ) مهد وثبت ، والهمزة بدل من الواو ، ثمل ( أقت ) من وقت . واللَّه أعلم .
قال : كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود .
ش : أي ما تقدم من أن الرمل في الثلاثة الأشواط ، والمشي في الأربعة يكون من الحجر إلى الحجر . لمال تقدم من حديثي جابر وابن عمر .
1627 وفي الصحيح عن جابر أن رسول اللَّه رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه .
1628 وكذلك في حديث ابن عمر في الصحيح : رمل من الحجر إلى الحجر . وهذان يقدمان على حديث ابن عباس : أنه لم يرمل بين الركنين ، لتأخرهما عنه ، واحتمال أن ذلك مختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم . يؤيد هذا عمل جلة الصحابة على ما قلناه .
وقد فهم من مجموع ما تقدم أن الداخل للبيت أول ما يبدأ بالطواف ، ما لم تقم الصلاة ونحو ذلك ، اقتداء بفعل رسول اللَّه وفعل أصحابه ، إذ هو تحية المسجد ،
____________________
(1/515)
كما أن الصلاة تحية بقية المساجد ، وقال صاحب التلخيص تبعاً لابن عقيل : أول ما يبدأ بتحية المسجد ، اعماداً على عموم ( إذا دخل أحدكم المسجد ) الحديث . وجعلا الطواف تحية الكعبة ، والاعتماد على الأول . واللَّه أعلم .
قال : ولا يرمل في جميع طوافه إلا هذا .
ش : لا يرمل في طواف الزيارة ، ولا طواف الوداع [ ولا غيرهما ] إلا في الطواف أول ما يقدم مكة ، وهو طواف القدوم ، أو طواف العمرة ، لأن النبي وأصحابه إنما رملوا في ذلك ، هذا اختيار الشيخين وغيرهما وزعم القاضي وصاحب التلخيص أنه لو ترك الرمل في القدوم ، أتى به في الزيارة ، وأنه لو رمل في القدوم ولم يسع عقبه ، فإذا طاف للزيارة رمل ، حذاراً من أن يكون التابع وهي السعي أكمل من المتبوع لوجود الرمل فيه ، واللَّه أعلم .
قال : وليس على أهل مكة رمل .
ش : قال أحمد : ليس على أهل مكة رمل عند البيت ، ولا بين الصفا والمروة ، وذلك لأن الرمل [ في الأصل ] كان لإظهار الجلد ، وذلك معدوم في أهل مكة ، وحكم من أحرم من مكة حكم أهلها .
( تنبيه ) : يسن الاضطباع لمن يسن له الرمل ، واللَّه أعلم .
قال : ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه .
ش : لأنه هيئة فلا تجب إعادته ، كهيئات الصلاة ، ولا فرق في ذلك بين العامد والناسي ، بناء على أنه سنة .
وظاهر كلام الخرقي أن من تركه عامداً عليه الإعادة ، وقد يحمل على استحباب الإعادة ، ليأتي بما فعله رسول اللَّه [ وأصحابه ] وليخرج من الخلاف ، فإن بعض العلماء أوجب في تركه دماً ، واللَّه أعلم .
قال : ويكون طاهراً في ثياب طاهرة .
ش : يشترط للطائف أن يكون طارهاً من الحدث والخبث ، في ثياب صفتها أنها طاهرة في المشهور ، والمختار للأصحاب من الروايتين .
1629 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه قال : ( الطواف حول البيت مثل الصلاة ، إلا أنكم تتكلمون فيه ، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ) رواه النسائي والترمذي وهذا لفظه ، وحكم المشبه حكم المشبه به ، فيثبت له ما يثبت له .
1630 وقد عمل على هذا الصحابة فقال ابن عمر : أقلوا من الكلام ، فإنما أنتم في
____________________
(1/516)
صلاة . رواه النسائي .
1631 وفي الصحيح أن النبي قال لعائشة رضي اللَّه عنها [ لما حاضت ] ( فعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي ) .
1632 وفي حديث أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه عن النبي قال : ( لا يطوف بالبيت عريان ) والنهي يقتضي فساد المنهي عنه .
( والرواية الثانية ) : أن ذلك واجب ، يجبر بالدم ، وليس بشرط ، لإطلاق 19 ( { وليطوفوا بالبيت العتيق } ) ومن طاف وهو كذلك فقد طاف به ، ون الطواف فعل من أفعال الحج فلم تكن الطهارة شرطاً فيه ، كالسعي ، والوقوف .
وأجيب بأن هذين لا تجب لهما الطهارة ، والطواف تجب له الطهارة ، وعن الآية بأن الطواف والحالة هذه منهي عنه ، فلا يدخل تحت الأمر .
( تنبيه ) : نص أحمد الذي أخذ منه الرواية الثانية فيما إذا تركه ناسياً قال : يهريق دماً [ وقال : الناسي أهونّ . فأخذ من ذلك القاضي ومن بعده رواية الوجوب ، فيجبر [ بالدم ] مطلقاً . وأجرى أبو حفص العكبري النص على ظاهره ، فقال : لا يختلف قوله إذا تعمد أنه لا يجزئه ، واختلف قوله في الناسي على قولين ، والخرقي رحمه اللَّه تعالى ليس في كلامه تصريح بالاشتراط ولا عدمه ، إنما يدل على الوجوب ، واللَّه أعلم .
قال : ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني .
ش : أما كونه لا يستلم الركن العراقي ولا الشامي وهما اللذان يليان الحجر .
1633 فلقول ابن عمر رضي اللَّه عنهما : لم أر رسول اللَّه يستلم من البيت إلا الركنين اليمانين ، متفق عليه .
1634 وعن أبي الطفيل قال : كنت مع ابن عباس ، ومعاوية لا يمر بركن إلا استلمه ، فقال له ابن عباس : إن النبي لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود ، والركن اليماني . فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجوراً . رواه الترمذي وغيره .
1635 وفي أبي داود أن ابن عمر قال : إني لأظن رسول اللَّه لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت ، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك .
____________________
(1/517)
وأما كونه لا يقبلهما . فلعدم ورود ذلك .
وأما كونه يستلم الأسود واليماني فلما تقدم من حديث ابن عمر وابن عباس رضي اللَّه عنهم .
1636 وعن عبيد بن عمير أن ابن عمر رضي اللَّه عنهما كان يزاحم على الركنين ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن إنك تزاحم على الركنين ، زحاماً ما رأيت أحداً من أصحاب رسول اللَّه يزاحمه . فقال : إن أفعل فإني سمعت رسول اللَّه يقول : ( إن مسحهما كفارة للخطايا ) وسمعته يقول ( من طاف بهذا البيت أسبوعاً فأحصاه ، كان كعتق رقبة ) وسمعته يقول ( لا يرفع قدماً ، ولا يحط قدماً إلا حط الَّه عنه بها خطيئة ، وكتب له بها حسنة ) رواه النسائي والترمذي .
وأما كونه يقبلهما ، أما الأسود فلما تقدم ، ولا نزاع فيه ، وأما اليماني فظاهر كلام الخرقي أنه يقبله .
1637 لما روي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : كان النبي يقبل الركن اليماني ، ويضع خده عليه . رواه الدارقطني .
1638 وعنه أيضاً قال : كان النبي إذا استلم الركن اليماني قبله رواه البخاري في تأريخه .
وقال أحمد في رواية الأثرم : يضع يده . فقيل له : ويقبل ؟ فقال : يقبل الحجر الأسود . وعلى هذا الأصحاب ، القاضي ، والشيخان ، وجماعة ، لأن المعروف المشهور في الصحاح والمسانيد إنما هو تقبيل الأسود . وحديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال ابن المنذر : لا يصح .
( وفي المذهب ) قول ثالث أنه يقبل يده إذا مسه تنزيلاً له منزلة بين منزلتين ، واللَّه أعلم .
قال : ويكون الحجر داخلاً في الطواف ، لأن الحجر من البيت .
ش : أي يكون طوافه خارجاً عن الحجر ، فلو طاف في الحجر ، أو على جداره لم يجزئه ، لما علل به الخرقي من أن الحجر من البيت ، واللَّه سبحانه قد أمر بالطواف بالبيت [ جميعه بقوله : { وليطوفوا بالبيت ] العتيق } ومن ترك بعضه لم يطوّف به ، إنما طاف ببعضه .
1639 والدليل على أن الحجر من البيت ما روت عائشة رضي اللَّه عنها قالت : كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه ، فأخذ رسول اللَّه بيدي ، فأدخلني في
____________________
(1/518)
الحجر فقال لي : ( صلي فيه إن أردت دخول البيت ، فإنما هو قطعة منه ، وإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة ، فأخرجوه من البيت ) رواه الخمسة إلا ابن ماجه ، وصححه الترمذي .
1640 وعنها أيضاً قالت : سألت رسول اللَّه عن الحجر ، أمن البيت هو ؟ قال : ( نعم ) قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ فقال : ( إن قومك قصرت بهم النفقة ) قالت : فما شأن بابه مرتفعاً ؟ قال : ( فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤا ، ويمنعوا من شاؤا ، ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الحجر في البيت ، وأن ألصق بابه بالأرض ) متفق عليه .
( تنبيه ) : المشي على شاذروان البيت كالمشي على الجدار ، لأنه من البيت ، نعم لو مس الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح ، لأن معظمه خارج من البيت ، وقدر الشاذروان ستة أذرع ، قاله في التلخيص ، وقال ابن أبي الفتح نحو سبعة أذرع ، واللَّه أعلم .
قال : ويصلي ركعتين خلف المقام .
ش : أي إذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم ، لما تقدم من حديث جابر ، وقد بين النبي مستنده في ذلك ، وهو قوله سبحانه : 19 ( { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } ) والمستحب أن يقرأ فيهما ب : 19 ( { قل يا أيها الكافرون } ) و : 19 ( { قل هو اللَّه أحد } ) لما تقدم من حديث جابر ، ولو قرأ فيهما بغير ذلك ، أو لم يصلهما خلف المقام فلا بأس .
1641 وقد روي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما أنه ركعهما بذي طوى ، وهما أيضاً سنة .
1642 لقول النبي ( خمس صلوات كتبهن اللَّه على العبد في اليوم والليلة ) الحديث .
1643 وقول الأعرابي للنبي : هل علي غيرها ؟ لما أخبره أن اللَّه فرض عليه خمس صلوات قال : ( لا إلا أن تطوع ) .
( وهل ) تجزىء عنهما المكتوبة ، اختاره أبو محمد ، كركعتي الإحرام ، أو لا تجزىء فيفعلهما بعدها ، اختاره أبو بكر ، كركعتي الفجر لا تجزيء عنهما الفجر ؟ فيه قولان والمنصوص عن أحمد الإجزاء ، مع أن الأفضل عنده فعلهما ، والَّه أعلم .
____________________
(1/519)
قال : ويخرج إلى الصفا من بابه .
ش : إذا فرغ من الركعتين فالمستحب له أن يمضي إلى الحجر الأسود فيستلمه ، وقد أهمل ذلك الخرقي ، ثم يخرج إلى الصفا من باب الصفا ، لما تقدم في حديث جابر ، واللَّه أعلم .
قال : فيقف عليه فيكبر اللَّه تعالى ، ويهلله ، ويحمده ، ويصلي على النبي ، ويسأل اللَّه تعالى ما أحب .
ش : أما الرقي على الصفا ، والتكبير ، والتهليل ، والتحميد ، والدعاء بما أحب من أمر الدنيا والآخرة ما لم يتضمن مأثماً ، فلما تقدم من حديث جابر رضي اللَّه عنه أنه رقى على الصفا ، حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد اللَّه ، وكبره وقال ( لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، لا إله إلا اللَّه [ وحده ] ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ) ثم دعى بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات .
1644 وفي الموطأ عن نافع أنه سمع ابن عمر يدعو على الصفا يقول : اللهم إنك قلت : { ادعوني أستجب لكم } وإنك لا تخلف الميعاد ، وأنا أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني ، حتى تتوفاني وأنا مسلم .
1645 وورد عنه أنه كان يطيل الدعاء هناك .
1646 وأما الصلاة على النبي فلما روى فضالة بن عبيد قال : سمع النبي رجلاً يدعو في صلاته ، فلم يصل على النبي ، فقال : ( عجل هذا ) ثم دعاه فقال له أو لغيره ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد اللَّه والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي ، ثم ليدع بما شاء ) رواه الترمذي وصححه .
( تنبيه ) : جميع ما تقدم مستحب ، والواجب قطع ما بين الصفا والمروة [ بأن يلصق عقبيه ] بأصل الصفا ، وأصابع رجليه بأصل المروة ، ولا يسن للمرأة الرقي ، واللَّه أعلم .
قال : ثم ينحدر من الصفا ، فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي ، يرمل من العلم إلى العلم ، ثم يمشي حتى يأتي المروة ، فيقف عليها ، فيقول كما قال على الصفا ، وما دعى به أجزأه ، ثم ينزل ماشياً إلى العلم ، ثم يرمل حتى يأتي العلم ، يفعل ذلك سبع مرات ، يحتسب بالذهاب سعية ، وبالرجوع سعية .
ش : أما كونه ينحدر من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي ، وهو الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد ، فلأن في حديث جابر : ثم نزل إلى
____________________
(1/520)
المروة ، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي . وأما كونه يرمل من العلم المذكور إلى العلم الأخضر وهما الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد ، وحذاء دار العباس فلأن في حديث جابر : حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة ، وفي رواية أبي داود : حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي ، حتى إذا صعدتا مشى .
والخرقي واللَّه أعلم تبع هذا الحديث فقال : يرمل . وظاهره أنه بالرمل السابق في الطواف ، والأصحاب قالوا : إنه هنا يسعى سعياً شديداً .
1647 لما روى أحمد في المسند عن حبيبة بنت أبي تجراة رضي اللَّه عنها قالت : رأيت رسول اللَّه يطوف بين الصفا والمروة ، والناس بين يديه وهو وراءهم ، وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، يدور به إزاره ، وهو يقول ( اسعوا فإن اللَّه كتب عليكم السعي ) .
وأما كونه يمشي بعد ذلك حتى يأتي المروة ، فيقف عليها فيقول كما قال على الصفا ، فلأن في حديث جابر كذلك ، وأما كونه ما دعى به أجزأه فلأنه لم يرد فيه شيء مؤقت وفي قوله هنا وقوله : ثم دعا بما أحب . إشعار بأنه لا يجب عليه الاقتصار على ما وردت به الآثار ، بخلاف الصلاة يمنع الكلام فيها بخلاف هذا . وأما كونه ينزل ماشياً إلى العلم ، ثم يرمل حتى يأتي العلم ، يفعل ذلك سبع مرات . فلأن ذلك مما ورثه الخلف ، عن السلف ، عن رسول اللَّه ، وكالمرة الأولى . وأما كونه يحتسب بالذهاب سعية ، وبالرجوع سعية ، فلأن في حديث جابر : حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة . وهو قد بدأ بالصفا ، وإنما يكون آخر طوافه عند المروة إذا احتسبت بالذهاب سعيه وبالرجوع سعية ، وهذا كله على سبيل الاستحباب والواجب قطع ما بينهما على ما تقدم وإكمال السبع ، واللَّه أعلم .
قال : ويفتتح بالصفا ويختم بالمروة .
ش : هذا على سبيل الوجوب ، فلو بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط ، لأن النبي بدأ بالصفا ، اتباعاً لما بدأ اللَّه به .
1648 وقد قال ( خذوا عني مناسككم ) .
1649 مع أن في النسائي في حديث جابر ( ابدؤا بما بدأ اللَّه به ) وهذا أمر ، واللَّه أعلم .
قال : وإن نسي الرمل في بعض سعيه فلا شيء عليه .
____________________
(1/521)
ش : القول في ترك الرمل في السعي كالقول في تركه للطواف ، وقد تقدم ، واللَّه أعلم .
قال : وإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعاً قصر من شعره ثم قد حل .
ش : لما تقدم في حديث جابر : فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي .
1650 وفي حديث ابن عمر الصحيح قال : فلما قدم رسول اللَّه مكة قال للناس ( من كان معه هدي لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ) .
ويستثنى من ذلك من كان معه هدي فإنه لا يتحلل ، بل يقيم على إحرامه ، ثم يدخل الحج على العمرة ، على المختار من الروايات [ لما تقدم ] .
1651 وفي الصحيحين عن حفصة رضي اللَّه عنها أنها قالت : يا رسول اللَّه ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك ؟ قال : ( إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر ) .
وعن أحمد : يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة ، قال : كما فعل النبي ، وذلك .
1652 لما روى معاوية رضي اللَّه عنه قال : قصرت شعر رسول اللَّه بمشقص . متفق عليه ، ولأبي داود والنسائي : رأيته يقصر على المروة بمشقص .
وبهذا يتخصص عموم ما تقدم ، [ ويجاب ] عنه بأن المشهور والأكثر في الرواية ما تقدم .
1653 وقد قال معاوية لابن عباس رضي اللَّه عنهم : أعلمت أني قصرت من رأس رسول اللَّه عند المروة ؟ فقال : لا . انتهى .
1654 وقال قيس : الناس ينكرون هذا على معاوية .
ونقل عنه يوسف بن موسى فيمن قدم متمتعاً وساق الهدي : إن قدم في شوال نحر الهدي وحل ، وعليه هدي آخر ، وإن قدم في العشر أقام على إحرامه . وقيل له : معاوية [ يقول ] : قصرت شعر رسول اللَّه بمشقص ؟ فقال : إنما حل بمقدار التقصير ، ورجع حراماً ، مكانه وكأن أحمد رحمه اللَّه لحظ قبل العشر أن في البقاء مشقة ، وأن
____________________
(1/522)
الذي وقع من عدم الحل إنما هو في العشر ، واستثنى مقدار تقصير الشعر فقط للنص ، وبه يتخصص عموم كلامه الأول في رواية حنبل : إذا قدم في أشهر الحج وقد ساق الهدي ، فلا يحل حتى ينحره . [ والعشر أوكد ، فإذا قدم في العشر لم يحل ، لأن رسول اللَّه قدم في العشر ولم يحل . ومن وجه آخر وهو أنه قال : إذا قدم لم يحل حتى ينحر ] وقال في رواية يوسف بن موسى : ينحر ويحل . وليس بين الروايتين تناف ، بل متى قدم قبل العشر ونحر حل على مقتضى الروايتين ، ويؤيد هذا أنه قال : إذا قدم في العشر لم يحل ، فأطلق ولم يقل : حتى ينحر .
وهذا كله في المتمتع ، أما المعتمر غير المتمع فإنه يحل وإن كان معه هدي . وقول الخرقي : قصر من شعره . يدل على أن الأفضل للمتمتع التقصير ، وعلى هذا جرى أبو محمد ، وقال أحمد : يعجبني إذا دخل متمتعاً أن يقصر ، ليكون الحلق للحج .
1655 وذلك لما تقدم من فعل الصحابة ، ومن أمر النبي لهم بذلك ، ولما علل به أحمد ، إذ الحج هو النسك الأكبر ، فاستحب أن يكون الحلق الذي هو الأفضل فيه ، وقال صاحب التلخيص فيه : الحلق أفضل من التقصير في الحج والعمرة . وتبعه على ذلك أبو البركات ، فقال : إن كان في عمرة حلق أو قصر وحل .
وقول الخرقي : قصر ثم حل . يقتضي أن التقصير نسك ، وسيأتي ذلك إن شاء اللَّه تعالى ، واللَّه أعلم .
قال : وطواف النساء وسعيهن مشي كله .
ش : أي لا رمل فيه ولا اضطباع أيضاً ، وهذا بالإجماع [ قاله ابن المنذر ] ولأن الأصل في مشروعيتها إظهار الجلد ، وو غير مطلوب من المرأة ، واللَّه أعلم .
قال : ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وقد أجزأه .
ش : المذهب المشهور المنصوص ، والمختار للأصحاب من الروايتين عدم اشتراط الطهارتين للسعي بين الصفا والمرة .
1656 لما روت عائشة رضي اللَّه عنها قالت : خرجنا مع رسول اللَّه لا نذكر إلا الحج ، حتى جئنا سرف فطمثت ، فدخل عليَّ رسول اللَّه وأنا أبكي ، فقال : ( ما لك لعلك نفست ؟ ) فقلت : نعم . فقال : ( هذا شيء كتبه اللَّه على بنات آدم ، فافعلي ما يفعل الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي .
1657 وأصرح من هذا ما في المسند عنها عن النبي قال : ( الحائض تقضي المناسك إلا الطواف ) رواه أحمد ، والطواف ينصرف إلى المعهود وهو
____________________
(1/523)
الطواف بالبيت ، ( وعن أحمد ) رواية أخرى حكم السعي في الطهارة قال في رواية ابن إبراهيم : الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ولأنه طواف فيدخل أو يقاس على ما تقدم ، ودليل الوصف قوله سبحانه وتعالى : 19 ( { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ) .
1658 وقال النبي لعائشة ( طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة ، يكفيك لحجك وعمرتك ) رواه أبو داود وغيره ، ولا نزاع أن المستحب أن يسعى على طهارة ، خروجاً من الخلاف .
وحكم طهارة الخبث حكم طهارة الحدث ، لأنها أخف منها .
أما الستارة فالأكثرون لا يذكرون في عدم اشتراطها خلافاً ، وأجرى أبو محمد في الكافي والمقنع الخلاف فيها . واللَّه أعلم .
قال : وإن أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى صلى فإذا صلى بنى .
1659 ش : أما إذا أقيمت الصلاة فلعموم قول النبي ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) وفي لفظ ( إلا التي أقيمت ) والصلاة قد أقيمت والحال هذه ، فلا يصلي إلا هي ، وكذلك لا يسعى بطريق الأولى ، وأما صلاة الجنازة فلأن التشاغل عنها ربما فوتها ، وتأخيرها ربما أفسد الميت ، مع أن الزمن يسير .
ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يترك الطواف لغير هذهي ، وهو كذلك ، ومتى ترك وطال الفصل بطل ، لفوات شرطه وهو الموالاة على المذهب ، وإن لم يل لم يبطل فيبني ، ودليل اشتراطهما أن النبي شبه الطواف بالصلاة ، والموالاة تشترط في الصلاة ، فكذلك في الطواف ، ولأن النبي وإلى في طوافه وقال : ( خذوا عني مناسككم ) ( وفي المذهب قول ثان ) لا تشترط الموالاة ، فلو طاف أول النهار شوطاً ، وآخر النهار بقية الأسبوع أجزأه ، حكاه أبو الخطاب تخريجاً ، وصاحب التلخيص وجهاً ، وأبو البركات رواية ، وكذلك أبو محمد في الكافي والمغنى ، لكنه خصها بحال العذر ، ونص الإمام إنما يدل على ذلك ، قال : إذا أعيى في الطواف لا بأس أن يستريح .
1660 وقال : 16 ( الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله ، فلما أفاق أتمه ) .
وظاهر كلام الخرقي أن حكم السعي حكم الطواف في الموالاة ، وعلى هذا اعتمد القاضي ، وصاحب التلخيص ، وأبو البركات وغيرهم ، وخالفهم أبو محمد ،
____________________
(1/524)
فاختار أنها لا تشترط هنا بخلاف ثم ، وهو ظاهر كلام أحمد ، واختيار أبي الخطاب ، واللَّه أعلم .
قال : وإن أحدث في بعض طوافه تطهر وابتدأ الطواف إن كان فرضاً .
ش : الطواف في حكم الصلاة ، فيثبت له ما يثبت لهاإلا ما استثناه الشارع ، فإذا أحدث في طوافه فإن كان عمداً أبطله واستأنف ، وإن سبقه الحدث فهل يتطهر ويستأنف ، أو يبني ، أو يستأنف إن كان الحدث غائطاً أو بولاً ، ويبني إن كان غيرهما ؟ على ثلاث روايات ، كالروايات الثلاث في الصلاة ، كذا ذكره القاضي في روايتيه ، وبناه أيضاً على القول باشتراط الطهارة للطواف ، وفيه نظر ، فإنه وإن لم يشترطها ، فالخلاف جار ، ليأتي بالواجب فإنه لا نزاع في وجوبها ، نعم ينبغي البناء على أصل آخر وهو الموالاة ، فإنا إن لم نشترطها ينبغي البناء مطلقاً .
وقول الخرقي : وابتدأ الطواف إن كان فرضاً . يحترز به عن النفل ، فإنه لا يلزمه أن يبتدىء به ، لأنه لا يلزم بالشروع ، بخلاف الفرض ، فإنه لازم له ، ولا يتوهم أن مراده إذا كان نفلاً أنه يبني ، فإنه لا فرق في البناء وعدمه في الفرض والنفل ، واللَّه أعلم .
قال : ومن أطاف أو سعى محمولاً لعلة أجزأه .
ش : إذا طاف راكباً أو محمولاً لعذر من مرض أو غيره أجزأه بلا ريب .
1661 لما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، قال : طاف النبي في حجة الوداع على بعير ، يستلم الركن بمحجن ، وفي رواية لأبي داود أن النبي قدم مكة وهو يشتكي ، فطاف على راحلته .
1662 وعن أم سلمة رضي اللَّه عنها قالت : شكوت إلى رسول اللَّه أني أشتكي ، فقال : ( طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ) فطفت ورسول اللَّه يصلي إلى جنب البيت ، يقرأ ب { الطور ، وكتاب مسطور } متفق عليه .
وإن طاف راكباً أو محمولاً لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي وهو إحدى الروايات وأشهرها عن الإمام محمد ، واختيار القاضي أخيراً ، والشريف أبي جعفر [ لا يجزئه . لأن النبي ] شبه الطواف بالصلاة ، والصلاة لا تفعل كذلك إلا لعذر ، فكذلك الطواف ، وطواف النبي راكباً كان لعذر ، إما لشكاية به كما تقدم في رواية أبي داود ، وإما ليراه الناس فيأتموا به ، ويتعلموا منه .
1663 قال جابر رضي اللَّه عنه : طاف النبي في حجة الوداع على راحلته
____________________
(1/525)
بالبيت ، يستلم الركن بمحجنه ، وبين الصفا والمروة ليراه الناس ، وليشرف وليسألوه ، فإن الناس غشوه . رواه مسلم ، وأبو داود والنسائي . وكذلك قال أحمد في رواية محمد بن أبي حرب ، وحنبل . ( والرواية الثانية ) يجزئه ولا شيء عليه ، على ظاهر كلام أحمد ، اختارها أبو بكر . في زاد المسافر ، وابن حامد ، والقاضي قديماً ، قال في تعليقه : كنت أنصر أنه يجزئه [ ولا دم عليه ] ثم رأيت كلام أحمد أنه لا يجزئه ، فنصرت نفي الإجزاء ، وذلك لأن اللَّه تعالى ذكر الطواف ولم يبين صفته ، فكيف ما طاف أجزأه ، ولطوافه راكباً ، وقد تقدم الجواب عن ذلك . وحكى أبو محمد ( رواية ثانية ) : يجزئه ويجبره بدم . ولم أرها لغيره ، بل قد أنكر ذلك أحمد في رواية محمد بن منصور الطوسي ، في الرد على أبي حنيفة قال : طاف رسول اللَّه على بعيره . وقال هو : إذا حمل فعليه دم . انتهى . وحكم السعي حكم الطواف عند الخرقي ، وصاحب التلخيص ، وأبي البركات وغيرهم ، قال القاضي : وهو ظاهر كلام أحمد ، قال في رواية حرب : لا بأس بالسعي بين الصفا والمروة على الدواب للضرورة ، وخالفهم أبو محمد فقطع بالإجزاء ، كما اختار أنه لا تشترط له الطهارة .
( تنبيه ) : إذا طاف أو سعى راكباً لم يرمل ، نص عليه أحمد ، واختاره أبو محمد ، لأنه لم ينقل عن النبي ، واختار القاضي أظنه في المجرد أن بعيره يخب به ، واللَّه أعلم .
قال : ومن كان قارناً أو مفرداً أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ، ويجعلها عمرة ، إلا أن يكون قد ساق معه هدياً فيكون على إحرامه .
ش : قد ثبت أن النبي أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة ، ثبوتاً لا ريب فيه ، وقد تقدم في حديث جابر رضي اللَّه عنه أمره بذلك ، قال جابر رضي اللَّه عنه : حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال : ( لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة ) فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول اللَّه ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فشبك رسول اللَّه أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : ( دخلت العمرة في الحج ) مرتين ( لا بل لأبد أبد ) .
1664 وعن أبي موسى رضي اللَّه عنه قال : قدمت على رسول اللَّه وهو منيخ بالبطحاء ، فقال لي : ( حججت ؟ ) فقلت : نعم . قال ( بما أهللت ؟ ) قال : قلت لبيك بإهلال كإهلال رسول اللَّه ، قال : ( فقد أحسنت ، طف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وأحل ) قال : فطفت بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم أتيت امرأة من بني قيس ، ففلت رأسي ، ثم أهللت بالحج ، قال : فكنت أفتي به الناس ، حتى كان في خلافة عمر رضي
____________________
(1/526)
اللَّه عنه ، فقال له رجل : يا أبا موسى أو يا عبد اللَّه بن قيس رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس من كنا أفتيناه فتيا فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم ، فبه فأتموا ، قال فقدم عمر ، فذكرت ذلك له فقال : إن نأخذ بكتاب اللَّه فإن كتاب اللَّه يأمرنا بالتمام ، وإن نأخذ بسنة رسول اللَّه فإن رسول اللَّه لم يحل حتى بلغ الهدي محله . متفق عليه واللفظ لمسلم . وفي رواية له قال : ( هل سقت من هدي ؟ ) قال : لا . قال : ( فطف بالبيت ، وبالصفا والمروة ثم حل ) وفي رواية له أيضاً أن عمر قال : قد علمت أن النبي قد فعله وأصحابه ، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ، ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم .
1665 وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال : تمتع رسول اللَّه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول اللَّه فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول اللَّه بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد ، فلما قدم رسول اللَّه قال للناس : ( من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة ، وليقصر وليحلل ، ثم ليهل بالحج وليهد ) . مختصر متفق عليه واللفظ لمسلم .
1666 وعن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قال : خرجنا مع رسول اللَّه ونحن نصرخ بالحج صراخاً ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي ، فلما كان يوم التروية ورجعنا إلى منى أهللنا بالحج ، رواه أحمد ومسلم .
1667 وقد روي ذلك [ أيضاً من حديث أسماء ، وعائشة ، وابن عباس ، وأنس بن مالك وكلها في الصحاح ، وروي ] أيضاً عن البراء بن عازب وغيرهم ، قال أبو عبد اللَّه بن بطة : سمعت أبا بكر بن أيوب يقول : سمعت إبراهيم الحربي يقول وسئل عن فسخ الحج فقال : [ قال ] سلمة بن شبيب لأحمد : كل شيء منك حسن غير خلة واحدة ، قال : ما هي ؟ قال : تقول بفسخ الحج ، قال أحمد : كنت أرى لك عقلاً ، عندي ثمانية عشر حديثاً صحيحاً أتركها لقولك . انتهى .
ولا نزاع بين المسلمين أن النبي أمر أصحابه بذلك ، وإنما النزاع هل كان ذلك خاصاً بأصحاب رسول اللَّه ، أو لمعنى آخر لا يشركهم فيه غيرهم ، أو لأن إحرامهم وقع مطلقاً . فقيل وهو أضعفها لم يكونوا أحرموا بالحج .
____________________
(1/527)
1668 قال : لأن الشافعي رضي اللَّه عنه روى أن النبي وأصحابه أحرموا مطلقاً ينتظرون القضاء . فلما نزل عليهم القضاء قال : ( اجعلوها عمرة ) ولا نزاع أن من لم يعين ما أحرم به له أن يجعله عمرة ، وهذا ذهول أو مكابرة في الأحاديث ، فإن في حديث جابر : لسنا نريد إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة . وفي حديث أبي موسى أنه أهل كإهلال النبي ، وقد تقدم نسك النبي ، والخصم يدعي أنه كان مفرداً أو قارناً ، وفي حديث أبي سعيد : نصرخ بالحج صراخاً .
1669 وفي حديث أسماء في رواية لمسلم : قدمنا مع رسول اللَّه مهلين بالحج . وفي حديث عائشة : لا نرى إلا أنه الحج .
1670 وفي حديث أنس رضي اللَّه عنه : أنه بات بذي الحليفة حتى أصبح ، ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما .
1671 وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفراً ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبي وأصحابه صبيحة رابعة ، مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول اللَّه أي الحل ؟ قال : ( الحل كله ) متفق عليه .
وهذه الأحاديث مع جملة أيضاً من الأحاديث تنفي أنهم أحرموا مطلقاً .
وقيل : لأن الفسخ كان لمعنى في حقهم ، وهو معدوم في حقنا ، وهو أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ، بدليل حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما المتقدم . ورد بأنه لو كان كذلك لما خص بالفسخ من لم يسق الهدي ، لأن الجميع كانوا في الاعتقاد على حد سواء ، ولكان الرسول علل امتناعه من الفسخ بكونه يعتقد جواز العمرة ، ولم يعلل بذلك ، وإنما علل بسوق الهدي .
وقيل وهو أقواها عندهم إن ذلك كان خاصاً لأصحاب النبي .
1672 بدليل ما روي عن الحارث بن بلال ، عن أبيه ، قال : قلت : يا رسول اللَّه أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : ( بل لنا خاصة ) رواه الخمسة إلا الترمذي .
1673 وعن أبي ذر قال : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد خاصة . وفي رواية قال : كانت رخصة . يعني متعة الحج ، رواه مسلم ، ولأبي داود : كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة : لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول اللَّه .
____________________
(1/528)
وقد أجاب أحمد رضي اللَّه عنه عن هذا ، فقال عبد اللَّه : قيل لأبي : حديث بلال بن الحارث ؟ قال : لا أقول به ، فلا يعرف هذا الرجل . وقال في رواية الميموني : أرأيت لو عرف بلال بن الحارث ، إلا أن أحد عشر رجلاً من أصحاب رسول اللَّه يروي ما يروي ، أين يقع بلال بن الحارث منهم ؟ وقال في رواية أبي داود : ليس يصح حديث في أن الفسخ كان لهم خاصة ، وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر ، وشطراً من خلافة عمر . انتهى . فقد أشار أحمد رحمه اللَّه إلى ضعف الحديث ، ثم على تقدير صحته عارضه بالجم الغفير من الصحابة الذي رووا خلاف ذلك ، ويشهد بذلك حديث جابر ( لا بل لأبد الأبد ) وهذا خبر لا يقبل الفسخ والتغيير ، ويؤيد هذا أن عمر رضي اللَّه عنه لم يذكر تخصيصاً ، وإنما استدل بظاهر الكتاب ، وبفعل الرسول ، بل قد أقر أن النبي وأصحابه فعلوا ذلك ، واعتذر بما ذكر من أنهم يظلون معرسين ، وقد تقدم الجواب عن قولهم ، في أي الأنساك أفضل ، وقول أبي ذر رضي اللَّه عنه موقوف عليه ، وهو مخالف لقول صاحب الشريعة ، ثم قد خالفه أبو موسى وأفتى به في خلافة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما ، وخالفه أيضاً ترجمان القرآن ابن عباس رضي اللَّه عنهما ، بل كان من مذهبه أنه متى طاف بالبيت حل .
1674 فعن عطاء قال : كان ابن عباس رضي اللَّه عنهما يقول : لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل . قيل لعطاء : من أين يقول ذلك ؟ قال : من قول اللَّه سبحانه : { ثم محلها إلى البيت العتيق } قيل لعطاء : فإن ذلك بعد المعرف ، قال : فكان ابن عباس يقول : هو بعد المعرف وقبله ، وكان يأخذ ذلك جوازاً من أمر النبي ، حين أمرهم أن يحلوا من حجة الوداع .
إذا تقرر هذا فشرط جواز الفسخ عدم سوق الهدي ، أما من ساق الهدي فإنه لا يجوز له الفسخ ، لما تقدم من النصوص ، ( وشرطه ) أيضاً عدم الوقود ، أما بعد الوقوف فلا فسخ ، لوجود معظمه ، ولأنه إذاً يشرع في تحلله ، فلا يليق فسخه ، مع أن النص لم يرد بذلك ، ولو فسخ السائق أو الواقف لم ينفسخ .
ومعنى الفسخ أنه إذا طاف وسعى فسخ نية الحج ، ونوى عمرة مفردة ، فيصير متمتعاً ، فيقصر ويحل ، هذا ظاهر الأحاديث ، ومقتضى كلام الخرقي وأبي محمد ، وعن ابن عقيل : الطواف بنية العمرة هو الفسخ ، وبه حصل رفض الإحرام لا غير ، فهذا تحقيق الفسخ وما ينفسخ به .
( قلت ) : وهذا جيد ، والأحاديث لا تأباه ، والقاضي وأبو الخطاب وغيرهما لم يفصحا بالمسألة ، بل قالوا : يفسخ نيته بالحج ، وينويان إحرامهما ذلك لعمرة ، فإذا فرغا منها أحرما بالحج ، ولا يغرنك كلام ابن المنجا فإنه قال : إن ظاهر كلام المصنف أن الطواف والسعي شرط في استحباب الفسخ ، قال : وليس الأمر كذلك ، لأن الأخبار تقتضي الفسخ قبل الطواف والسعي ، ولأنه إذا طاف وسعى ثم فسخ يحتاج
____________________
(1/529)
إلى طواف وسعي لأجل العمرة ، ولم يرد مثل ذلك ، قال : ويمكن تأويل كلام المصنف على أن ( إذا ) ظرف لأحببنا له أن يفسخ وقت طوافه ، أي وقت جواز طوافه . انتهى كلامه .
وقد غفل رحمه اللَّه عن كلام الخرقي وعن كلام الشيخ في المغني فإن نصه ما قلته ، وكلام القاضي ومن وافقه لا يأبى ذلك ، فإنهم لم يشترطوا للفسخ إلا عدم سوق الهدي والوقوف ، وكلامه صريح بأنه لو فسخ بعد الطواف صح ذلك ، وليس في كلامهم ما يقتضي أنه يطوف [ طوافاً ] ثانياً كما زعم ، ولا بعد أن ينقلب الطواف فيصير للعمرة ، [ كما ينقلب إحرامه للحج فيصير للعمرة ] ، وقوله : إن الأخبار تقتضي الفسخ قبل الطواف والسعي . ليس كذلك ، بل قد قال : إن ظاهرها أن الفسخ إنما هو بعد الطواف ، ويؤيد ذلك حديث جابر المتقدم ، فإنه كالنص ، فإن الأمر بالفسخ إنما كان بعد طوافهم . انتهى .
وظاهر كلام الخرقي وتبعه أبو محمد ، وصاحب التلخيص [ وغيرهم ] أن الفسخ على سبيل الاستحباب ، وهو مقتضى النصوص ، و القاضي و أبو الخطاب و أبو البركات جعلوا ذلك جائزاً .
( تنبيه ) : ( اتئد في فتياك ) ( يظلوا معرسين بهن في الأراك ، ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم ) .
( الفجور ) الميل عن الواجب ( الدبرلإ جمع دبرة وهي العقرة في ظهر البعير يقول : دبر البعير بالكسر ، وأدبره القتب . ( وعفا الأثر ) .
قال : ومن كان متمتعاً قطع التلبية إذا وصل إلى البيت ، واللَّه أعلم .
ش : منصوص أحمد رحمه اللَّه في رواية الجماعة الميموني ، والأثرم ، وحنبل ، وأبي داود أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر ، لأنه إذاً شرع في التحلل ، أشبه الحاج إذا شرع في رمي جمرة العقبة .
1675 وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما يرفع الحديث : أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة حين يستلم الحجر . رواه الترمذي وصححه .
1676 وعنه عن النبي قال : ( يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر ) رواه أبو داود ، قال : وقد روي موقوفاً عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما .
وقول الخرقي : إذا وصل إلى البيت ، يجوز أن يحمل على منصوص الإمام ، لأن الرائي للبيت غالباً يشرع في الطواف ، وعلى هذا حمله [ أبو محمد ، ويجوز أن يحمل
____________________
(1/530)
على ظاهره ، وأن يقطع بمجرد الرؤية وإن لم يشرع في الطواف ، وعلى هذا حمله ] أبو البركات ، وجوز القاضي في التعليق الاحتمالين ، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم .
( باب ذكر الحج )
قال : وإذا كان يوم التروية أهل بالحج .
ش : ظاهر هذا الكلام أن كل من كان بمكة لم يحرم بالحج فإنه يحرم به يوم التروية ، سواء كان من المقيمين بمكة ، أو من المتمتعين الذين حلوا ، أو لم يحلوا لسوق الهدي ، ويحتمله كلام أبي البركات ، وكلام صاحب التلخيص يقتضي أن من ساق الهدي من المتمتعين يحرم بالحج [ عقب ] طوافه وسعيه ، قال : إلا أن يكون قد ساق الهدي ، فيحرم بالحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل التحلل منها ، وكذلك قال القاضي قبله : المتمتع السائق للهدي إذا طاف وسعى لعمرته لا يحل منها ، ولكن يحرم بالحج ، ويحتمل هذا كلام أبي محمد ، وأن استحباب الإحرام يوم التروية لمن كان حلالاً ، ويشهد لهذا حديث جابر المتقدم ، قال : فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي ومن كان معه هدي ، فلما كان يوم التروية ووجهوا إلى منى أهلوا بالحج . وظاهره أن الذين حلوا هم الذين أحرموا يوم التروية .
وقوله : أهل بالحج : يعني من مكة ، لما تقدم له من أن ميقات أهل مكة من مكة ، ولو أحرم من خارج مكة من الحرم جاز ، لقول جابر : فأهللنا بالحج من الأبطح . ويستحب أن يغتسل ويتنظف ، ونحو ذلك مما يفعله عند الإحرام [ ويطوف أسبوعاً ، ثم يصلي ركعتين ، ويحرم ، ولا يسن تطويف بعد الإحرام ] .
( تنبيه ) : يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة ، سمي بذلك قيل : لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده . وقيل : لأن قريشاً كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم ، فيرتوون منه وقيل : لأن الإمام يروي للناس فيه من أمر المناسك . وقيل : لأن إبراهيم عليه السلام تروى فيه في ذبح ولده ، واللَّه أعلم .
قال : ومضى إلى منى فيصلي بها الظهر إن أمكنه ، لأنه يروى عن النبي أنه صلى بمنى خمس صلوات .
ش : كذا في حديث جابر ، قال : فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى ، وأهلوا بالحج ، فركب رسول اللَّه فصلى بها الظهر ، والعصر والمغرب ، والعشاء ، والفجر .
وقول الخرقي : إن أمكنه . لأن كثيراً من الناس يشتغل يوم التروية بمكة إلى آخر النهار ، قال أبو محمد : وهذا كله على سبيل الاستحباب . وظاهره أن المبيت بمنى في هذه الليلة لا يجب .
( تنبيه ) : لو صادف يوم التروية يوم الجمعة وجب فعلها لمن تجب عليه [ وأقام
____________________
(1/531)
حتى زالت الشمس ، وإلا لم تجب ] ، واللَّه أعلم .
قال : فإذا طلعت الشمس دفع إلى عرفة .
ش : من المستحب أيضاً أن لا يدفع من منى حتى تطلع الشمس ، كما صنع رسول اللَّه ، واللَّه أعلم .
قال : فأقام بها حتى يصلي مع الإمام الظهر والعصر بإقامة لكل صلاة ، وإن أذن فلا بأس .
ش : إذا دفع من منى إلى عرفة فالأولى أن يقيم بنمرة ، ثم يخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها حكم الوقوف ، والمبيت بمزدلفة ، ويحثهم على المهم من أمر الإسلام ، تأسياً بالنبي ، فقد ثبت ذلك عنه في حديث جابر ، ثم ينزل الإمام فيصلي بهم الظهر والعصر ، ويجمع بينهما بأذان يعقب الخطبة ، ثم بإقامة لكل صلاة ، كما في حديث جابر ، وحكى صاحب التلخيص في الأذان روايتين ، والخرقي رحمه اللَّه خير في الأذان ، وكذا قال أحمد ، لأن كلا يروى عن النبي .
وإطلاق الخرقي يشمل كل من كان بعرفة من مكي وغيره ، وصرح به أبو محمد . معتمداً على أن النبي جمع فجمع معه من حضره ، ولم يأمرهم بترك الجمع .
1677 كما أمر بترك القصر في محل آخر ، حيث قال ( أتموا فإنا قوم سفر ) وإلا يكون تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وقد قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، وكذلك من صلى مع الإمام .
وشرط القاضي وأصحابه ومتابعوهم كأبي البركات وصاحب التلخيص كذلك أن يكون ممن يجوز له الجمع
.
( تنبيه ) : ( نمرة ) موضع بعرفة ، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم ، على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف ، قاله المنذري ، وبهذا يتبين أن قول صاحب التلخيص : أقام بنمرة ، وقيل بعرفة . ليس بجيد ، إذ نمرة من عرفة ، وكلام الخرقي قد يشهد لهذا ، لأنه قال : دفع إلى عرفة . ثم قال : ثم يسير إلى موقف عرفة . واللَّه أعلم .
قال : وإن فاته مع الإمام صلى في رحله .
1678 ش : أي إذا فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله ، كذا يروى عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، ولأنه يجمع مع الإمام ، فجمع وحده كغير هذا الجمع ، واللَّه أعلم .
قال : ثم يصير إلى موقف عرفة عند الجبل .
ش : كذا قال جابر : ثم أذن ثم أقام ، فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم
____________________
(1/532)