ينعقد البيع بما يدل على الرضا لأنه إذا رأيت على عشرة ريالات جئت وأخذت العلبة ثم دفعت عشرة ريالات فهو واضح على أنك تريدها بعشرة ، ولما أخذ العشرة دل على أنه قد رضيها بهذه العشرة مقابل السلعة ، يكون البيع بالدلالة الفعلية ، والدلالة القولية ، إلا أن بالدلالة القولية الإيجاب والقبول يشترط أن لا يوجد فاصل بين الإيجاب والقبول ، والفاصل شرطه أن يكون مؤثرا إذا كان أجنبيا وذا بال ، يعني يقطع الإيجاب عن القبول ، الفاصل القولي الذي يقطع مثل الكلام الأجنبي قال له : أبيعك سيارتي بعشرة آلاف ريال ، قال له : كيف الجو اليوم؟ قال له : والله حار ، بارد، تكلموا عن الجو، ثم قال: قبلت . نقول: لم يصح ، لأن قوله : كيف الجو؟ كيف والدك؟ كيف المريض ؟ كيف فلان؟ إعراض عن قوله : بعني ، أو أبيعك ، فإذا أعرض أصبح كأنه يقول له : دعني من هذا أخبرني عن الجو، أخبرني عن المريض وهو أشبه بقوله لا أريده ، لأنه لو كان يريد لأجاب مباشرة ، فلو جاء بعد هذا كله وقال: قبلت فإن الفاصل مؤثر ، ولا يصح حتى يرجع الأول من جديد، ويقول: أبيعك سيارتي بعشرة آلاف ويقول الآخر قبلت ، هذا فاصل يقع في عقد النكاح أو عقد البيع إلى آخره ، الفاصل بالفعل مثل أن يقوم من مجلس العقد ، فلو قال له : بعتك سيارتي بعشرة آلاف، فقام وخرج من المجلس، وجاء بالشاي ثم رجع وقال : اشتريت، افترق عن البعض ، والمجلس تغيّر، فلابد وأن يقول : أبيعك مرة ثانية وهو يوجب ويقبل بعد ذلك، وهكذا في النكاح وغيرها من العقود يشترط أن لا يوجد الفاصل ، لكن لو وجد فاصل من الأقوال من جنس العقد أو فاصل من الأفعال من جنس العقد يعني مما يعين على إمضاء الصفقة وإتمامها لم يؤثر قال له : أبيعك سيارتي بعشرة آلاف ريال . قال : ما نوعها ؟ قال : أبيعك سيارتي من صفة كذا وكذا الفلانية بعشرة آلاف . قال له : كيف الخراب الأول الذي فيها أصلحته ؟ قال : نعم . أصلحته . قال : ماشية ؟ قال : كذا(5/226)
وكذا . وجلس يسأله عن تفاصيل السيارة نصف ساعة، ثم قال : قبلت ، صح ذلك ؛ لأنه تابع وليس بقاطع ؛ لأنه تابع لإتمام الصفقة، كذلك في الفعل، قالوا : لو أنه قال له: أبيعك سيارتي هذه بعشرة آلاف ريال، وهما واقفان لم يفترقا فقلّب السيارة، قالوا أبيعك هذا الأرز الصاع بمائة، فقلب الأرز وأعاد النظر فيه، ثم قال : قبلت. فإن هذا التقليب والفاصل الفعلي والاشتغال بأفعال هي معينة على إتمام الصفقة فليست بفاصل مؤثر ، إذن الصيغة سواء كانت من الأقوال أو الأفعال تعتبر من حيث الأصل ركن البيع . لو وجد العاقدان ومحل العقد ولم توجد الصيغة لم يوجد البيع، مثال : أنت لو ذهبت إلى معرض السيارات أو إلى المفروشات أو دخلت البقالة، البائع موجود ، والمشتري أنت، والسلعة موجودة، فهل البيع يقع؟ قد تدخل المعرض وتخرج ولا تشتري، وقد تدخل وتتفاوض معه ولا يعجبك وتخرج؛ إذاً لا يكفي وجود المتعاقدين، والمحل ما لم توجد الصيغة هذا بالنسبة لأركان عقد البيع .
كلام العلماء رحمهم الله غالبا في تحقيق هذه الأركان وبخاصة من ناحية شروطها ، وهو ما اعتنى به المصنف رحمه الله وبخاصة في المقطع الأول من كتاب البيوع .(5/227)
فيقول رحمه الله : [ ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب ] : يقول رحمه الله : [ ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب ] هذا بيان لمحل عقد البيع ، يباح بيع كل مملوك؛ لأن الأصل جواز البيع ، كل مملوك هذا يعني يدل على أننا لا نجعل البيع إلا في محل قابل له بمعنى أن البيع لا يقع في الأشياء التي لا تملك، فإذا كان الشيء لا يملك فإنه لا يصح بيعه: أعضاء الآدمي، الحر يبيع نفسه، نقول :هذا غير صحيح وليس ببيع شرعي . في زماننا رجل قال: أريد أن أبيع إحدى كِليتي . نقول إن الكِلية ليست محلا للملك ، وليس ملكا لك؛ وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يقول الله تعالى : (( ثلاثة أنا خصمهم ، ومن كنت خصمه فقد خصمته : رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل استأجر أجيرا ولم يوفه أجره ، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه )) باع حرا : الحر غير مملوك فتسلط عليه بالملكية الباطلة التي ليس لها أصل، فهنا إذا باع كليته فقد باع شيء لا يملكه، وهذا وجه من يقول بعدم صحة التبرع ؛ لأن التبرع شرطه الملكية ، وإذا قلت بصحة التبرع صح البيع هذا من حيث الأصل ، فالشاهد من هذا أنه يقول أن يكون مملوكا ، مملوكا لمن؟ للبائع كما ذكرنا ، فلا يصح أن يبيع ملك غيره ، مملوك فيه نفع ، وهذا النفع يشترط أن يكون مباحا ، بيّنا النفع ، النفع ضد الضر ، فقد يكون فيه النفع في الأصل فلا إشكال ، مثلا الآن تباع السيارة لمنفعة الركوب ، يباع البيت لمنفعة السكنى ، يباع الثوب لمنفعة الكسوة ، يباع الفراش لمنفعة الافتراش والجلوس عليه ، إذًا هذه المنافع مباحة ، فقوله : فيه نفع مباح فيشترط هذا النفع أن يكون مأذونا فيه شرعا ، فخرج ما لم يأذن به الشرع ، وهو النفع غير المباح كآلات الغناء فإنه لا يجوز بيعها ، هذا على القول بأنها نفع ، وكذلك مثلوا له بالخمر؛ لأن منافعها محرمة غير مباحة ، لكن هذا فيه إشكال؛ لأن مذهب طائفة من العلماء أن الخمر لما حرمت(5/228)
سلبت منافعها ، سلبت المنافع الموجودة فيها، وهذا هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام : (( إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها )) إنهم كانوا يتداوون بها من قبل ، وجاء نص الآية في آية البقرة : { قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس } ولكن لما حُرمت سلبت هذه المنافع ، فالشاهد يشترط أن يكون فيه نفع فخرج الذي لا نفع فيه ، وخرج الذي فيه ضرر كالسم ، فلا يجوز بيع السمومات وأن يكون هذا النفع مباحا ، وخرج النفع المحرّم كالآلات المحرمة في الغناء والمعازف ، وكذلك أيضا الخمور على القول بأن فيها منفعة وآلات التصوير المحرم ونحو ذلك .(5/229)
قال رحمه الله : [ إلا الكلب فإنه لا يجوز بيعه ] : [ إلا الكلب ] : استثناء ، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ ، إلا الكلب وهو الحيوان المعروف فلا يجوز بيعه ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيعه ، ففي الصحيحين من حديث عقبة بن عامر –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ثمن الكلب خبيث )) في بعض الألفاظ : (( ثمن الكلب سحت )) وكذلك أيضا ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما – أنه سئل عن ثمن الكلب والسِّنّور ، والسنور هو القط المتوحش ، فقال زجر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عنه ، وزجر من الصيغ التي تدل على التحريم والحظر ، وفي سنن أبي داود من حديث عبدالله بن عباس –رضي الله عنهما- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن ثمن الكلب وقال : (( إن جاءك يريد أكل ثمنه فاملأ كفه ترابا )) فأسقط المالية عنه ، فدل على أنه لا يجوز بيع الكلب ولا شراؤه ؛ وذلك لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- حرمه ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء مأثور عن أبي هريرة وعائشة، وطائفة من أئمة السلف كالحسن البصري وسعيد بن جبير ، وهو مذهب المالكية في المشهور والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث –رحمة الله على الجميع – أنه لا يجوز بيع الكلب عموما، سواء كان كلب صيد فيه منفعة ككلب الصيد أو الحراسة ، أو كان لا منفعة فيه ، أو فيه ضرر كالكلب العقور كلها محرمة ، ودليلهم عموم قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( ثمن الكلب خبيث)) وعموم قوله : (( ثمن الكلب سحت )) وفي حديث أبي مسعود عقبة بن عامر البدري : (( نهى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- عن ثمن الكلب )) وكذلك حديث أبي موسى وحديث جابر الذي ذكرناه وحديث عبدالله بن عباس كلها تدل على تحريم ثمن الكلب ، وقد بينا هذه المسألة وفصلنا فيها في شرح البلوغ .(5/230)
قال رحمه الله : [ ولا غرم على متلفه ] : ولا غرم على من أتلف الكلب ، أي قتله ، لو أن كلبا ملكه شخص لحراسة زرع أو ماشية فجاء شخص فدهسه فإنه في هذه الحالة لا يطالب بضمانه ، ولا يجب عليه الضمان ، ولو أنه آذاه أو تعرض له بالأذية أو عقره أو عقر أهله فقعد له في طريقه ولم يستطع أن يحصل مصالحه فآذاه فقتله فإنه لا يجب عليه الضمان ، ولا غرم على متلفه ، إذا قيل لا غرم على متلفه هو مغزى عند العلماء يريدون منه إسقاط المالية ، أي أنه في حكم الشرع ليست له قيمة ، فإذا أتلف لا يجب عليه ضمانه .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : هل لمس الذكر من خارج الثوب ينقض الوضوء . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
لمس الذكر من خارج الثوب لا ينقض الوضوء ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- اشترط في الحديث الصحيح في النقض الإفضاء ، والإفضاء يكون بدون حائل ، فإن وجد الحائل فإنه لا يؤثر لا في لمس القبل ولا في لمس الدبر ، سواء كان من نفسه أو من غيره كالطبيب في علاجه والمرأة مع صبيها وصغيرها ، هذا كله لا ينقض الوضوء ، وعلى هذا يشترط في النقض أن يكون مباشرة ، أما مع الحائل فلا يؤثر ، والأصل في هذا حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من مس ذكره فليتوضأ )) وحملوا حديث طلق بن علي الحنفي –- رضي الله عنه -- أنه سأل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن لمس الذكر وقال : (( وهل هو إلا بَضْعَة منك )) قالوا إذا لمسه بحائل ، وحملوا حديث طلق في أحد الأجوبة عنه ، والصحيح أن حديث طلق منسوخ ، وذلك لأن حديث طلق في سياقه أنه أتى والنبي –- صلى الله عليه وسلم -- يبني المسجد ، وحديث أبي هريرة في آخر الإسلام لأنه متأخر الإسلام ، ولذلك الأشبه أنه من التشريع المدني الأول . والله-تعالى- أعلم .(5/231)
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : تزوج أبي امرأة لها بنات أعلم أنني محرم لها ولبناتها فهل أكون محرماً لأم الزوجة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
لا أنت محرم لبناتها ولا لأمها ! والدك تزوج امرأة بناتها من قبل النكاح وبعد النكاح من غيره ربائب بالنسبة له ، وهن محارم له ، أما أنت فلست بمحرم ، وإياك أن تعتقد أنه يجوز لك أن تختلي بهن أو تصافحهن أو تسافر معهن ، هن أجنبيات ، ولك أن تتزوج بنت زوجة أبيك من غيره، سواء قبل النكاح أو بعده ، وكذلك أيضا أم زوجة أبيك فهي محرم لأبيك وليست بمحرم لك، وإن شئت أن تتزوجها فعلى بركة الله ! وعندها تمسك بزمام الأمور ، وعلى كل حال ليست بمحرم هذا بإجماع العلماء –رحمهم الله- أن أم الزوجة وبنت الزوجة محرم للزوج نفسه أما أولاده فلا ، ليست بمحرم له. والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : ما حكم الصلاة الفريضة والقراءة فيها عن طريق المصحف . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
القراءة في المصحف تكون في النافلة ، والأصل في ذلك أثر عائشة –رضي الله عنها- حينما كانت تأمر ذكوان مولاها أن يصلي بها ، والعمل على هذا عند جمهور العلماء –رحمهم الله- أنه يجوز في قيام الليل وفي قيام رمضان أن يصلي من لا يحفظ القرآن بأمثاله بالقرآن نظرا ، أو يكون حافظا للقرآن ولا يريد أن يخطئ ، ولا يريد أن يترك شيئا منه ، ويريد أن الله يوفّي له الأجر كاملا ، أو يريد أن يجمع بين الإتقان أو بين العبادة فهذا لا بأس به ، فحينئذ يجوز له أن يقرأ من المصحف نظرا ، وأما في الفريضة فلا ، لأن الأصل المنع من الحركات والأفعال هذه وهو ليس بالمضطر إلى هذا ، لأنه يمكنه أن يقرأ ما تصح به صلاته ، وما زاد عن الفاتحة فليس بركن ولا بفرض حتى يقال بالرخصة بكونه يحمل المصحف ويقرأ منه . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الرابع :(5/232)
فضيلة الشيخ : هل يجوز أن أصلي قيام الليل بعد صلاة الفجر إذا نسيتها من الليل . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا أذن الفجر تمسك عن صلاة الليل ، سواء كان الورد أو الوتر ، لقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( أوتروا قبل أن تصبحوا )) فإذا صليت الفجر انتظرت إلى طلوع الشمس ، فإذا طلعت الشمس قضيت ما فاتك من وردك ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من نام عن حزبه من الليل فقرأه ما بين طلوع الشمس وزوالها كتب له كأنما قرأه من ساعته )) وهذا فضل من الله –- عز وجل -- .
وكذلك في حديث عائشة –رضي الله عنها- في الصحيح : (( كان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- إذا فاته ورده من الليل –إما لمرض أو تعب أو شغل- صلى في النهار ثنتي عشرة ركعة )) وهذا هو السنة أنك تنتظر إلى طلوع الشمس وتقضي ما فاتك من وردك ووترك ، وأما بين الأذان والإقامة في الفجر فتصلي الرغيبة . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : دخلت المسجد والإمام راكع في الركعة الأولى من صلاة العصر ، فكبرت وانحنيت للركوع، فقال الإمام: سمع الله لمن حمده ولم أطمئن ولم أسبح في هذا الركوع ، وأكملت الصلاة مع الإمام وسلمت معه واعتددت بتلك الركعة ، سؤالي هل فعلي هذا صحيح ، وماذا علي هل أعيد الصلاة أو تجزئ بتلك الركعة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/233)
هذا السؤال يحتاج إلى نظر ، أنت تقول إنك أدركت الإمام قبل أن يقول : سمع الله لمن حمده؛ لأنك قلت: كبرت ، القاعدة والأساس أنك إذا انتهيت من (الراء) أكبر فتم تكبيرك قبل أن يبدأ الإمام (بالسين) من (سمَِع) فحينئذ تنحني وتتم الركوع ولو رأيته يرفع ، لأن العبرة أن تدخل ، فإذا كان دخولك بالقول منتهيا قبل ابتدائه بالقول صح إدراكك ، فأنت مدرك مدرك بناء على ما ورد في السؤال ، لكن الخلل لم يأت من هنا ، الخلل جاء في قولك ولم أطمئن ، فإذا ركعت بعد رفعه للركوع وظننت أنه يجب عليك الرفع مباشرة فرفعت مباشرة دون أن تحصّل القدر المجزئ للطمأنينة بطلت ركعتك لإخلالك وليس لمكان السبق ، فينبغي التفريق بين المسألتين : المسألة الأولى أنت مدرك للركوع مادمت قد انتهيت من تكبيرك قبل أن يبدأ الإمام بالتسميع ، ولكن الخلل جاء من جهة عدم إعطاء الركن حقه من الطمأنينة ، وكل ركن فيه طمأنينة ، وهي معتبرة لتحقق الركوع ، ولذلك أمر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- المسيء صلاته أن يعيد صلاته ، فيجب عليك إعادة هذه الركعة ، إذا لم تعد هذه الركعة يجب عليك أن تعيد الصلاة كلها . والله –تعالى- أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : كثير من الناس –إلا من رحم الله- يقومون أثناء قراءتهم للقرآن بوضع أصبعه في فمه، وأخذ شيء من ريقه حتى يقلب صفحات القرآن ، نرجو توجيه ذلك . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
التوجيه في ذلك شيء ، وتوجيه ذلك شيء آخر ، توجيه ذلك يعني غالبا أنه يقصد به التمكن من التفريق بين الصفحات ، ولكن كره بعض أهل العلم ذلك .
والقلب للأوراق بالبصاق
وبعض من إلى العلوم ينتسب
... أمر قبيح شاع في الآفاق
يفعله لجهله المركّب(5/234)
على كل حال القلب بالبصاق مكروه عند طائفة من أهل العلم ، وسئل الوالد –رحمه الله- ذات مرة وكان أحد طلبة العلم يتحمس لذلك على أنه جائز ولا بأس به ، فأفتى الوالد بأنه يتقيه الإنسان ما أمكن ، قال : يا شيخ، ما فيه شيء وصار يراجع الوالد ، قال له لحظة ، فأخذ الوالد من ريقه ، وقال له : ما رأيك لو وضعته على وجهك ترضى ؟ فنحى وجهه ، فقال : إذا كان هذا لا ترضاه أنت فكيف بالصحف المكرمة التي ينبغي أن تحفظ ، فعلى كل حال هذا من باب إكرام كتاب الله –- عز وجل -- وهو أفضل وأكمل ، قالوا إن هذا قبيح في الصورة والشكل ، فينبغي أن يتقى، وإن كان مقصد الإنسان به حسنا ، وكم من أمور يكون فيها المقصد حسنا ، لكنها قد تكون في ظاهرها أو ما تشتمل عليه فيها خلل فيمنع منها ، وعلى كل حال قالوا إنها يختلف فيها القصد، إن قصد فيها تحقير القرآن ما فيه إشكال ، حتى قال بعض العلماء بكفره ، إن قصد به ازدراء القرآن وتحقيره؛ لأنه كالتفل عليه والبصاق والوطء عليه وهذا مما ذكروا من الامتهان بالقرآن بالصور الظاهرة الموجبة للتكفير ، وأما إذا قصد به التمكن من الأوراق وقلبها فهذا مقصود المسلمين غالبا ؛ لأنه ما يوجد مسلم يقصد به إهانة كتاب الله –- عز وجل -- ولذلك قال :
وهو قبيح وإن يرد به
... تحقيره فالكفر قد باء به
وعلى كل حال يحاول من ابتلي بهذا أن يتركه ويتقيه ما استطاع لذلك سبيلا ، لأنه أكمل وأفضل . والله –تعالى- أعلم .
السؤال السابع :
فضيلة الشيخ : هل هناك فرق بين جمهور أهل العلم وجماهير العلماء . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/235)
الجمهور ثلاثة في مقابل واحد من الأربعة ، إذا كانوا ثلاثة في مقابل واحد لا إشكال أنهم جمهور ، كأن يتفق الحنفية والمالكية والشافعية ويخالف الحنابلة فجمهور ، أو يكون اثنان في مقابل اثنين وينسحب أصحاب أحد الاثنين إلى القول الآخر ، وهذا يقع في مسائل ، يخالف الأصحاب أئمتهم لظهور الدليل وبيان الحجة، فينسحبون إلى القول الآخر فيصبح جمهورا عند بعض العلماء ، هذا بالنسبة للجمهور ، الجمهور داخل الأربعة ، الجماهير إذا كان الخلاف خارج الأربعة، فكان الأربعة متفقين على قول وخالفهم غيرهم، فيقال الجماهير زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى ، لأن الخلاف في هذه الحالة ليس كالخلاف في الحالة السابقة ، فالجماهير أو بعض الأحيان الجماهير قد تقارب الجماهير وعامة العلماء وغالب العلماء يعني بعض الأحيان قد تقارب الإجماع في بعض المسائل ، لكنها ليست إجماعا ، والجماهير أكثرية وأكثر العلماء وغالب العلماء ، وعامة أهل العلم ، وعامة الفقهاء ، مع أن العامة بعضهم يعتبرها إجماعا، والواقع أن العامة قد يعبر بها عن ما اطلع عليه من كلام أهل العلم مع وجود المخالف الذي لم يُطَّلع عليه ، وهذا يقع من يستقرأ الخلافات يجد هذا ، ولاشك أن الجماهير تخالف الجمهور، وهذا أيضا نحن نسير عليه أن الجماهير غالبا ما يكون الأئمة الأربعة ، أو يكون الذي خالف قد لا يكون الأئمة الأربعة له نص في المسألة ولكن الخلاف معروف عن الأفراد من السلف فيحكى الجماهير للأكثرية، ثم يحكى غيرهم بهذه الصيغة تنبيها على ضعف الخلاف، وأنه خارج عن الأئمة الأربعة –رحمة الله على الجميع- .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب ، فإنه لا
يجوز بيعه ولا غرمه على متلفه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب(5/236)
قال المصنف رحمه الله : [ ويجوز بيع كل مملوك فيه نفع مباح إلا الكلب ، فإنه لا يجوز بيعه ولا غرمه على متلفه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ]
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فقد ذكر المصنف رحمه الله استثناء الكلب من البيوع المباحة ، ثم بعد ذلك أعقبه بسقوط المالية في قوله : [ ولا غرم على متلفه ] ، وبهذا يثبت أن الكلب لا يجوز بيعه ولا شراؤه ، وأن الثمن المدفوع لقاءه يعتبر سحتا وحراما ، لثبوت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كما في الصحيح بقوله : (( ثمن الكلب سحت)).
وأما بالنسبة لقوله : [ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب]: فهذا من بيان الدليل ، وقد اعتنى المصنف رحمه الله في بعض الأحيان بذكر الأحاديث الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : [ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب] يتضمن أكثر من حديث ، حيث لم يأتِ بحديث معين في النهي ، وإنما قال : لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ثمن الكلب ورد صريحا في قوله : (( ثمن الكلب خبيث )) ، وقوله : (( ثمن الكلب سحت )) وورد أيضا بحكاية الصحابة حينما قال جابر - رضي الله عنه - : (( زجر النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه )) وهذا في الأصل بيان الحكم ، ثم بيان الدليل ، ومن عادة العلماء رحمهم الله أن يقدموا بيان الأحكام ، ثم يدعمونها بالأدلة، وقد تذكر الأدلة ثم تذكر بعدها الأحكام ، مستنبطة منها، وكلاهما يفعله المصنف رحمه الله ، فتارة يقدم الدليل ، ثم يذكر الحكم المبني على الدليل، وتارة يقدم الحكم ثم يدلل بدليل الكتاب والسنة رحمه الله برحمته الواسعة.(5/237)
اللام تعليلية أي من أجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - . والتعليل أو هذا الأسلوب يقع في الأدلة النقلية والأدلة العقلية، فإذا جاء الحكم في داخل المتن ثم أتبع بقوله : لأن في الجملة التعليلية فهو دليل الحكم وحجته .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز بيع ما ليس بمملوك لبائعه إلا بإذن مالك أو ولاية عليه ] : [ولا يجوز بيع ليس بمملوك لبائعه ]: هذا مجمع عليه بين العلماء رحمهم الله أن الأصل أن أموال الناس لا يجوز بيعها ولا الشراء بها إلا بإذن منهم ، وهذا الإذن يكون في الوكالات أو يتصرف في أموال الغير بالبيع والشراء بوجود ولاية عليه ، وهذه الولاية سواء كانت عامة أو خاصة ، والأصل في ذلك أن الله حرم أكل أموال الناس بالباطل ، ومن تصرف في مال أخيه بدون إذنه فباع أو اشترى به ففعله يؤدي إلى أكل المال بالباطل ، وما أدى إلى باطل فهو باطل ، وهذه المسألة ينبني عليها أن البيع إما أن يكون أصالة ، وإما أن يكون وكالة، وإما أن يكون بولاية . فأما بالنسبة للبيع أصالة أن تبيع سيارتك أو تبيع أرضك، أو تبيع مزرعتك، فهذا مالك وأنت حر في بيعه ، وتشتري أصالة، كأن تشتري لنفسك طعاما ، فهذا حقك اشتريت بمالك ، هذا هو الأصل، ودلت الأدلة عليه لأنك فعلته برضى منك وعليه مدار العقد ، أن العقد في الأصل يكون من الإنسان، وأما بالنسبة للوكالة فتنقسم إلى قسمين :
إما أن يوكل وكالة عامة ، وإما أن يوكل وكالة خاصة تستوي في البيع والشراء .
فقد دلت الأدلة في كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - على التوكيل ، فثبت في كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحكم، قال تعالى : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه} فوكلوه أن يشتري عنهم ، وهذا من توكيل الجماعة للفرد، فهذا التوكيل يكون بالشراء ويكون أيضا بالبيع .(5/238)
وقد ثبتت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه وكل بالشراء ، كما في حديث عروة بن أبي الجعد البارقي - رضي الله عنه - الذي ذكره البخاري تعليقا في صحيحه ووصله غيره وصححه غير واحد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعروة بن أبي الجعد: (( اشترِ لنا من هذا الجلب شاة بدينار ))، فوكله بالشراء ، فيقع البيع وكالة ، فإذا وقع أو الشراء البيع وكالة له صورتان :
الصورة الأولى : أن يكون مطلقا .
والصورة الثانية : أن يكون مقيدا .
فالإطلاق أن يقول له : فوضتك ووكلتك أن تبيع من أموالي ما ترى المصلحة في بيعه وتشتري على ذمتي وعلى حسابي ما ترى المصلحة في شرائه . فحينئذ يكون هذا التوكيل مطلقا بحيث ينظر المصلحة ، وهذا كثيرا ما يفعله أصحاب الأموال الكثيرة ، الذين يصعب عليهم أن يمارسوا بأنفسهم ، أو يكون الإنسان كبير سن أو يكون عنده شغل فيوكل سواء قريبا أو غريبا فيقول : وكلتك ، فإذا وكل وقعت الوكالة مطلقة فهي مطلقة .(5/239)
الصورة الثانية : أن يكون مقيدا . الإطلاق طبعا يعطي حرية للإنسان في الزمان والمكان لكنه في المقيد يكون على خلاف ذلك، فإذا قال له : وكلتك وقيد ، إما أن يقيد بالزمان أو يقيد بالمكان أو يقيد بالقدر، أو يقيد بالأشخاص أو يقيد بأمور أخرى ، يقيد بالزمان يقول له : وكلتك أن تبيع سيارتي في مزاد الجمعة اليوم فحينئذ يختص هذا التوكيل بالزمان بيوم الجمعة ، ويختص بالمكان يقول له : وكلتك أن تبيع سيارتي في المدينة ، أو تبيع أملاكي في المدينة ، فهذا تقييد بالمكان ، وقد يقيد بالأشخاص، يقول له : وكلتك أن تبيع أرضي على محمد، أو تبيع أرضي على زيد ، أو تبيع أرضي على قرابتي، أو تبيعها على أهل المدينة ، فهذا تقييد بالأشخاص ، فإذا قيد بالزمان أو بالمكان أو بالأشخاص فهذه الوكالة تصح إذا وقعت ضمن القيد ولا تصح إن خرجت عن القيد، وقد يقيدك بالقدر فيقول له : وكلتك أن تشتري لي عمارة بمليون، فحينئذ لو اشترى بمليونين أو مليون ونصف فهذا خارج عن الوكالة ، فالوكيل الأصل فيه والقاعدة تقول " الوكيل ينزل منزلة الأصيل فيما وكل فيه " ، إذن هو منزل منزلة من وكله لكنهم ضبطوها بقولهم (( فيما وكل فيه)) فإن كان توكيلا مطلقا فهو منزل منزلته بإطلاق ، وإن كان توكيلا مقيدا فهو ينزل منزلته بقيد، إن خرج عن في المقيد القيد رجع أجنبيا ، وصار تصرفه تصرفا فضولياً وسيأتي إن شاء الله هذا بالنسبة لمن يتصرف بالبيع والشراء وكالة ويقع بالولاية ، والولاية تكون عامة وتكون خاصة، الولاية عامة مثل ولاية الحاكم والسلطان، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فالسلطان ولي من لا ولي له )) فالحاكم من حقه أن يبيع أموال الغُيّب، والمال الذي لا يُعرف صاحبه ؛ لأنه ينظر في مصالح المسلمين العامة والخاصة، فإذا باع فإنه يبيع مستندا إلى ولاية عامة، وينزل منزلته القاضي ، ولذلك من صلاحية القضاة وفي أدب القضاة -وسيأتينا إن شاء الله- : أنه إذا جاء وعُيّن أنه ينظر(5/240)
في الأموال هذه، ويتولى بيعها؛ طلباً للمصالح أعني مصلحة بيت مال المسلمين في بيعها .
مثلا الولاية العامة يستفاد منها مثلا في مسجد، أو أرض وقف. المسجد لا يملكه أحد بالنسبة للبشر قد خرج من ملكية البشر، حتى الشخص الذي أوقفه ليس بمالك للمسجد، ومن هنا لو أن المسجد تعطلت مصالحه بالكلية، وأصبح لابد من بيعه، أو استبداله بموضع آخر، فإنه حينئذ لابد من إثبات اليد، حتى يصح البيع، فلا يبيعه إلا القاضي، ولا يباع إلا بحكم القاضي؛ لماذا؟ لأن الوقف يخرج عن ملكية الواقف؛ لأنه يجعله لله - عز وجل - سبيلا لله ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - لعمر كما في الصحيح : (( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها )). فالتحبيس والوقف مرد النظر فيه إلى القضاة ، وهذا مقرر عند أهل العلم، فإذا باع القاضي الوقف يستند إلى ولاية عامة .
وهكذا إذا اشترى، فإذا باع وقفا واشترى بدلا عنه أو كانت هذه المزرعة وقفا على مسجد من غلتها تكون مصلحة للمسجد ، ثم تعطلت هذه المزرعة واحتيج إلى نقلها إلى مكان آخر تباع ويشترى غيرها، فهو في بيعه يستند إلى الولاية العامة وفي شرائه للمسجد بدلا عنها يستند إلى الولاية العامة .
كذلك أيضا تكون الولاية خاصة، وهي الولاية على الصبي والمحجور عليه ، فإذا كان اليتيم له مال ، وترك له والده عمائر، أو أراضي، ومن المصلحة بيع مال اليتيم في هذا الوقت حتى لا يكسد أو في ضرر في بقائه فنظر وليه أنه لابد أن يباع ؛ فحيئنذ يبيع مستندا إلى ولاية خاصة . والقاضي ينصّبه ناظرا في مصلحة ذلك اليتيم ، ولذلك كانت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تلي أيتام أخيها عبدالرحمن، وتشتري لهم وتبيع رضي الله عنها وأرضاها.(5/241)
إذاً إذا باع أو اشترى ؛ إما أن يكون أصالة، أو وكالة، أو بولاية؛ سواء كانت عامة أو خاصة، ما عدا ذلك يعتبر تصرفا خارجا عن الأصل ، فكل من باع مال غيره دون أن يكون مالكا لذلك المال أو وكيلا عنه ، أو له ولاية عليه ؛ فإنه يعتبر بيعه باطل ، إلا إذا باع بنيّته لصاحبه ، أو اشترى بمال لصاحب المال؛ فحينئذ يدخل في مسألة بيع الفُضولي وشراؤه ، فإذا باع الفُضولي واشترى ؛ فللعلماء –رحمهم الله- في هذه المسألة ثلاثة أقوال مشهورة ، وقد تكلمنا عليها في شرح البلوغ والزاد، وفصلنا فيها، وبينا مذاهب السلف والخلف، والأدلة ، وأن القول الراجح هو صحة بيع الفضولي وشرائه إذا أجازه المالك الحقيقي ؛ والدليل على ذلك حديث عروة بن أبي الجعد –رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أعطاه دينارا، وقال له : (( اشتر لنا من هذا الجلب شاة ))، فذهب عروة –- رضي الله عنه -- واشترى بالدينار شاتين ، ثم باع إحدى الشاتين بدينار فرجع إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ومعه دينار وشاة فقال : يا رسول الله ، هذا ديناركم وهذه شاتكم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( بارك الله لك في صفقة يمينك ))، فكان مباركا حتى لو اشترى ترابا ربح فيه بدعاء النبي –- صلى الله عليه وسلم -- له .
موضع الشاهد : أن عروة –- رضي الله عنه -- وكّله النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن يشتري شاة واحدة بدينار واحد ، فاشترى شاتين ، فصار فُضوليا في الشراء ، ثم باع الشاة الثانية فصار فُضوليا بالبيع ، وأقر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- البيع والشراء ، ودعا له بالبركة ؛ لأنه دعاءه عليه الصلاة والسلام مكافأة له ، لأن هذا من الخير، وكان - صلى الله عليه وسلم - يكافئ أصحابه، ويكافئ من أحسن -صلوات الله وسلامه عليه- ، فلا يجزي بالحسنة إلا الإحسان صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين .(5/242)
فالشاهد من هذا أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أقرّ عروة بن أبي الجعد في بيعه وشرائه، وأمضى الصفقة ، فدل على أن بيع الفُضولي وشراءه إذا أمضاه المالك الحقيقي؛ صح ونفذ .
والدليل الثاني من جهة النظر: أن خوف دخول الأموال على المالك أو خروجها من يد المالك يُتلافى بإذن المالك ، فنحن نقول بصحة العقد إذا أمضاه ، فلما أمضاه؛ صح وصار معتبرا ، وعليه فيترجح قول من يقول بصحة بيع الفضولي وشرائه إذا أمضاه المالك الحقيقي .
قال رحمه الله : [ ولا بيع ما لا نفع فيه كالحشرات ] : ولا يصح بيع ما لا نفع فيه كالحشرات ، وهذا عند العلماء –رحمهم الله- منطوق المتن ومفهومه ، ولذلك هو يقول ما فيه نفع مباح ، مفهوم ذلك ما لا نفع فيه ، ومن أمثلته : الحشرات ، وذكر الأئمة –رحمهم الله- أن ما لا نفع فيه كما ذكرنا سابقا؛ إما أن يكون بسبب قلته كالحبة من الأرز ، والحبة من الشعير ، وإما أن يكون لحقارته وكما يعبر بعض العلماء كالإمام النووي –رحمه الله- وغيره خسته والشيء عندهم الخسيس الشيء الحقير الذي يعني النفوس تأنفه كالحشرات وذكر المصنف –رحمه الله- الحشرات جمع حشرة ، فهي لا يصح بيعها؛ لأنها لا نفع فيها ، ثم هذا عند العلماء –رحمهم الله- مقيد بما إذا وجد فيها النفع ، فقد يعترض البعض ويقول الآن تؤخذ الحشرات ويستفاد منها في إطعام الطيور أو إطعام السمك في الأحواض أو تعمل عليها بعض التجارب وهي ميتة فهذه منافع .
والجواب: أن الصور النادرة لا تقدح في الغالب، فالعلماء يتكلمون على الغالب ، فالغالب في الحشرات أن لا نفع فيها ، كونها في بعض الصور تقع فيها بعض المنافع هذا لا يعترض به عليهم ، مع أن الأئمة -رحمهم الله- استثنوا ، ففي زماننا إذا وجدت فيها بعض المنافع يرخص بعض العلماء –رحمهم الله- حتى أن بعض المتقدمين أشار إليها أنه لا بأس ولا حرج .(5/243)
قال رحمه الله : [ ولا ما نفعه محرم كالخمر والميتة ] : فلما قال : [ نفع مباح] خرج بقوله: ما لا نفع فيه، وخرج بقوله : [ مباح ] ما فيه نفعه محرم فقال: كالخمر والميتة ، والخمر أصله: السَّتْر والتغطية ، يقال خمّر الإناء إذا ستره ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : (( خمروا آنيتكم إن في السنة ليلة فيها وباء لا تمر بإناء مكشوف إلا أصابته فأوكوا الأسقية وخمروا الآنية )) فقوله : خمروا آنيتكم وخمروا الآنية أي غطوها ، ومنه الخمار؛ لأنه يستر ، فالخمر سميت بذلك؛ لأنها تستر العقل وتغيبه -والعياذ بالله- وهو من أسمائها.(5/244)
لا يجوز بيع الخمر ولا شراؤها ؛ والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- المتقدم أن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- خطب الناس عام الفتح، وقال : (( أيها الناس إن الله ورسوله حرّما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)) ، فنص على تحريم بيع الخمر فقال: (( إن الله ورسوله حرما )) ، وعند العلماء : حرّم وحُرِّمت وحرّمنا بصيغة الجمع والإفراد وبما سمي فاعله وما لم يسمّ فاعله تعتبر أقوى الصيغ في الدلالة على التحريم، وهي صيغ غير محتملة ، لكن صيغة النهي تحتمل الكراهة وتحتمل التحريم ، والظاهر فيها والأرجح التحريم ، لكن الوصف بالتحريم نص ، فنص عليه الصلاة والسلام على حرمة بيع الخمر ، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام : (( أنه لما فتح الطائف جاءه صديق له في الجاهلية، فأهدى إليه صلوات الله وسلامه عليه مزادتين من خمر -يعني قربتين فيها خمر- ، فلما أهداهما إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- قال عليه الصلاة والسلام : أما علمت أن الله حرمها ؟ فقال: ما علمت ، فقام رجل فسارّه - أي كلمه فيما بينه وبينه- ، فقال - صلى الله عليه وسلم - بم ساررته ؟ قال : أمرته يا رسول الله أن يبيعها ، فقال عليه الصلاة والسلام : إن الذي حرّم شربها حرم بيعها )) فسكب الرجل مزادتين وأفرغهما في الأرض.
فقوله عليه الصلاة والسلام : (( إن الذي حرم شربها حرم بيعها )) صريح في الدلالة على تحريم بيع الخمر .(5/245)
وأجمع العلماء –رحمهم الله- على تحريم بيع الخمر ، ويستوي في الخمر قليلها وكثيرها ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ما أسكر كثيره فقليله حرام )) ، وفي حكم الخمر المخدرات التي ابتلي بها الفُساق في الأزمنة المتأخرة؛ سواء كانت من النباتات أو كانت من غير النباتات ، مركبة أو عضوية، كلها محرمة، ولا يجوز بيعها ولا شراؤها ؛ والأصل في ذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الخمر ، ولذلك يعتبر النهي عن بيع الخمر في أعلى درجات التحريم؛ لأنه يعتبر من كبائر الذنوب ، حيث ثبت في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- (( أنه لعن في الخمر حاملها والمحمولة إليه ، عاصرها ومعتصرها وبائعها وآكل ثمنها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها ومسقاها وقال: هم في الإثم سواء ))، فهذا يدل على أن تحريم بيع الخمر ليس تحريما فقط، بل يرتقي إلى أعلى الدرجات ؛ لأن فيه اللعن ، والقاعدة عند الأئمة كما اختاره جمع من العلماء من السلف ومن المحققين وهو أصل في مذهب ابن عباس –رضي الله عنهما- " أن كل ذنب سماه الله ورسوله كبيرة -عليه الصلاة والسلام- أو توعد الله عليه في كتابه أو على لسان رسوله –- صلى الله عليه وسلم -- بلعنة أو غضب أو نفي إيمان أو نحو ذلك بعقوبة أو بعقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً فهو كبيرة " ، وقد جاء اللعن هنا في الحديث ، فدل على أن بيع الخمر يعتبر من كبائر الذنوب ، وإذا اعتبر من كبائر الذنوب أوجب التفسيق ، ولذلك لا يجوز بيعها ولا المعونة على البيع .
ومن هنا ذهب جمهور العلماء –رحمهم الله- إلى تحريم بيع العنب لمن يعصِره خمرا ، وهذا من باب سد الذرائع ، وهو أصل معتبر في الشريعة الإسلامية، والأدلة عليه في الكتاب والسنة معروفة .(5/246)
فالشاهد من هذا أنه لا يجوز بيع الخمر قليلها وكثيرها، ويلتحق بها المخدرات ، بل المخدرات أسوأ وأعظم شرا من الخمر ، وهي أشد فتكًا وضرراً وبلاء بالأمة ، نسأل الله بعزته وجلاله أن يهدي من ابتلي بها، وأن يرفع عن الإسلام والمسلمين بلاءها وشرها ، فلا يجوز بيعها، ولا شراؤها، ولا ترويجها ، ويعتبر هؤلاء كلهم شركاء في الإثم ؛ ولذلك النبي –- صلى الله عليه وسلم -- شرّك في الخمر من يعصرها ومن يعتصرها، ومن يحملها، ومن تحمل إليه، ومن يسقيها، ساقيها ومسقاها، وبائعها وآكل ثمنها، وعاصرها ومعتصرها، فهؤلاء العشرة كلهم دخلوا في الوعيد وفي اللعن؛ تعظيما لأمر الخمر، وأمر بيعها ، وعلى كل حال لا يجوز بيع الخمر بإجماع العلماء –رحمهم الله- .
عند جمهور العلماء سواء باعها لمسلم أو باعها لكافر فالحكم واحد ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إن الذي حرم شربها حرم أكل ثمنها ))، وفي بعض الروايات : (( بيعها )) ، فدل هذا على تحريم أخذ العوض على الخمر ، فسقطت ماليتها .
أما المخدرات (المواد المخدرة) فإن احتيج لعلاج كما يقع في اسطوانات التخدير ونحوها فمن أهل العلم من استثنى الأفيون والمخدر للمنفعة كما نص الإمام النووي –رحمه الله- في الروضة وغيره ، وفي هذه الحالة يرونه وإن كان ضررا جعلوا الأفيون من السموم .(5/247)
وأما بالنسبة للأصل عند العلماء أن المحرّم إذا اضطر إليه واحتيج يأخذه بدون ثمن ، فإن لم يجد وسيلة عليه إلا أن يدفع الثمن فمذهب طائفة من المحققين من العلماء –رحمهم الله- أنه يدفع الثمن والإثم على من أخذ لا على من أعطى ، وهذا راجع إلى أصول وهو ينتزع من الآثار كما في أثر ابن مسعود –- رضي الله عنه -- وأصله مسألة الرِّشوة في الوصول للحق ، فعلى كل حال إذا تعذر وجودها فإنه يدفع ، ولكن الأصل يقتضي أن يدفع المال لقاء الأجرة، وهي أجرة جعل المواد المخدرة في الاسطوانات ، وتدفع القيمة لقيمة الاسطوانة ، فهذا يجوز المعاوضة عليه ، وما وراء ذلك من المرابحة يعتبر محظوراً شرعاً .(5/248)
قال رحمه الله : [ ولا ما نفعه محرّم كالخمر والميتة ] : الخمر على القول بأن فيها منافع، وقد بينا أن من أهل العلم من قال : إن الخمر سلبت منافعها بتحريمها ، وهذا له أصل؛ فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لما كانت الحمر الأهلية مباحة كانوا يأكلونها ، أعني أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عنهم أجمعين ، ففي الصحيح لما نزل التحريم نادى منادي رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- (( إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر )) وفي بعض الروايات في الصحيح : (( إنها رجس ))، فكانت حينما كانت حلالا مباحة طاهرة فبمجرد أن حرمت أصبحت رجسا ، والرجس: النجس ، وهذا هو أصل جماهير العلماء في قولهم: بأن الميتة نجسة لتحريم أكلها؛ خلافا لمن يقول بعض المتأخرين ما يعرف دليل على تنجيس الميتة ، وهذا من أقوى الأدلة عليه ، وعلى كل حال فإن الخمر قيل أنها سلبت منافعها بتحريمها ، ويؤكد هذا حديث أم سلمة رضي الله عنها حينما انتبذت لإحدى الجواري في البيت حينما اشتكت بطنها، فدخل عليه الصلاة والسلام ورأى النبيذ، فسألهم عن ذلك فأخبرته أنها انتبذت لفلانة وهي مريضة، فأمر به فأريق فقال : (( إنها داء وليست بدواء ))، فهي على القول بأن فيها منافع وهي محرمة وحُرمت للضرر في الغالب يصير ما ذُكر ويكون على القول الآخر بأنها سُلبت منافعها يكون فيه تجوز .
[ إلا الخمر والميتة ] : الميتة هي: الحيوان الذي هلك حتف نفسه أو بغير ذكاة شرعية ، والميتة تنقسم إلى قسمين :
- إما أن تكون ميتة آدمي .
- أو ميتة غير آدمي .(5/249)
فأما ميتة الآدمي فلا يجوز بيعها ولا شراؤها لا من مسلم ولا من كافر ، ورخص بعض المتأخرين في الجثث للتشريح إذا احتاج المسلم لدراسة الطب عند التشريح فأرادوا أن يأخذوا جثث غير المسلمين؛ لأنه لا يجوز تشريح جثث المسلمين إلا في الأحوال الخاصة وليس منها تعلم الطب؛ لوجود البديل بالكافر ، فإذا لم يجد جثثا لأمر يحتاجه لتعلم الجراحة في جراحة ضرورية وتوقف الأمر على أن يشرّح فإنه يدفع المال على الأصل الذي ذكرناه في مسألة التخدير ، ويكون الإثم على من أخذ لا على من أعطى في شراء جثثهم .(5/250)
وأما بالنسبة لجثة الآدمي عموما فليست محلا للبيع ، وحكي الإجماع على هذا ، واستدل له بعض العلماء بقوله تعالى : { ولقد كرمنا بني آدم } فالله –- عز وجل -- كرم بني آدم فلا ينزل منزلة المتاع فيباع ويشترى إلا الكافر الرقيق ، فإن الله ضرب عليه الرق؛ لأنه لما كفر بالله ولم يرض تكريم الله له بالتوحيد، وكفر نعمة الله نزل إلى مقام أحط من البهيمة؛ كما قال تعالى عن الكفار والمشركين : { إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل } فأهل الشرك أحقر وأهون من البهائم ؛ لأن البهيمة إذا أصابها الضُّر رفعت بصرها إلى السماء، والتجأت إلى الله ووحدته - سبحانه وتعالى - ، وهذا كافر بالله ، بل قد لا يقول إن الكون فيه إله –والعياذ بالله- ، لا يؤمن بالله ولا يؤمن باليوم الآخر ، فلما نزل إلى هذا المستوى عومل بالمعاملة الشرعية بالرق، فضرب عليه الرق وبيع واشتري؛ لأنه اعتدى حدود الله –- عز وجل -- وامتنع من تكريم الله له بالتوحيد ، أما ما عدا ذلك؛ فإنه لا يجوز ، الأصل لا يجوز بيع الآدمي ولا شراؤه إلا ما استثناه الدليل ، فلا يجوز بيع الجثة ميتة الكافر والمسلم سواء ، وكذلك أجزاؤها، فالفرع تابع لأصله ، كما حرم بيع الأصل حرم بيع الفرع ، فلا يجوز أن يشتري قرنية ولا كلية ولو كان في حال التدفئة والتروية التي يكون فيها الجثة قريبة من الوفاة بحيث يمكن الانتفاع من الأعضاء بالنقل والغرس ، أما بالنسبة لغير الآدمي وهو الحيوان ميتته؛ إما أن تكون ميتة بر أو ميتة بحر ، فإن كانت ميتة البحر فيجوز بيعها وشراؤها؛ لأن الله أحل لنا ميتة البحر { أحل لكم صيد البحر وطعامه متاع لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما } فالأصل أن صيد البحر حلال، وميتته طاهرة ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال في حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- : (( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )) وقال عليه الصلاة والسلام : (( أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالجراد(5/251)
والحوت )) فميتة البحر طاهرة يجوز بيعها ، ثم ميتة البحر تكون من السمك والحوت ومن غيرهما ، أما السمك والحوت فبالإجماع على أنّ ميتتها طاهرة ويجوز أكلها إذا كانت بالصيد ماتت بالصيد ، أما إذا ماتت حتف نفسها وطفت ففيها خلاف بين الجمهور والحنفية، والصحيح مذهب الجمهور ؛ لأن الحديث الذي استدلوا به على تحريم أكل الطافئ ضعيف ، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام : (( الحل ميتته )) يقتضي الجواز ، ولحديث سرية أبي عبيدة عامر بن الجراح -- رضي الله عنه -- بسيف البحر حينما ألقى له البحر الحوت فأكلوا منه ثم سألوا النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فأحل لهم ذلك وسألهم : (( هل معكم منه شيء )) فأكل عليه الصلاة والسلام ، فهذا يدل على أن ميتة البحر مباحة طاهرة، فيجوز بيعها كسائر الطاهرات .
أما ما كان من غير الحوت والسمك ففيه خلاف ، وظاهر الدليل العموم إلا ما وجدت فيه علة تقتضي تحريمه كالسام والمستخبث وما فيه ضرر إذا أُكل ونحو ذلك ، وعليه فالضابط حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه ، وقد فصلنا في هذه المسألة في كتاب الطهارة وبينا أمرها ، فيتفرع كل ما قلنا هناك إنه طاهر ويجوز أكله وسنتكلم عليه إن شاء الله في باب الأطعمة وتقدم معنا في دورة الأطعمة ، فكل ما قيل بحل أكله وطهارته من ميتة البحر يجوز بيعه وشراؤه والمتاجرة فيه ، أما ميتة البر فميتة البر تنقسم إلى قسمين :(5/252)
إما أن تكون ميتة البر مما له نفس سائلة كالإبل والبقر والغنم فهذه بالإجماع لا يجوز بيعها ولا شراؤها ، فلو أن بقرة ماتت أو شاة أو ناقة، وجاء شخص يريد أن يشتريها من صاحبها نقول لا يجوز لك أن تأخذ عوضا عليها ؛ ما الدليل قوله عليه الصلاة والسلام : (( إن الله ورسوله حرما بيع الميتة )) فحرم عليه الصلاة والسلام بيع الميتة ، وظاهر التحريم في القرآن : { حرمت عليكم الميتة } وهذا عام ، فأصبحت لا قيمة لها؛ لأنها من المحرمات ، فدفع المال في مقابلها من أكل المال بالباطل ، لأن الشرع أسقط المالية عنها بتحريم أكلها، وصرح بتحريم البيع ، فاجتمع الدليل في الأصل العام والدليل الصريح الخاص ، فلا يجوز بيع الميتة مما له نفس سائلة .(5/253)
وأما ما لا نفس له سائلة من غير ذوات الدماء مثل الجراد مثل السوس في التمر والسوس في الدقيق ، الذي لا نفس له سائلة وهو الذي لا دم فيه كالحشرات ونحوها تنقسم إلى قسمين : إما أن تكون متولدة من طاهر كسوس التمر إذا جمع ويعطى للعصافير ونحوها، وسوس الدقيق أيضا إذا جمع وكانت فيه منفعة فيجوز بيعه؛ لأنه طاهر إذا وجدت فيه منفعة ، ولذلك يجوز للإنسان أن يأكل التمر وفيه سوس ولو كانت السوسة حية؛ لأنها طاهرة حية وميتة ، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : (( أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالجراد والحوت )) والجراد من جنس ما لا نفس له سائلة ، ولذلك كان الصحابة يضربونه بالرماح ولا يذكونه ويأكلونه كما فعلوا في الغزوات ، وثبت في الصحيح رواه البخاري وغيره في صحيحه –رحمة الله عليه- ، فالشاهد من هذا أن ما لا نفس له سائلة طاهر، ويجوز أكله وبيعه ، فلو جمع الجراد وهو ميتة فجاء موسم الجراد فجمعه وعرضه للبيع جاز البيع، ولا حرج في ذلك مع أنه ميتة ، إذاً عموم قوله كالميتة مخصص بما فيه منفعة وما كان من الطاهرات، مثل ميتة البحر يجوز بيعها ، وكذلك ما لا نفس له سائلة على التفصيل الذي بيناه ، هذا كله في الميتة ككل ، طيب أجزاء الميتة إذا قلنا إنه لا يجوز بيع البقرة ولا الشاة ولا الناقة ، فلو أنه قطع أجزاءها فقطع يدها أو قص منها الصوف، الشعر، الوبر، أو قص من الشاة شعرها أو أخذ جلدها ، أجزاء الميتة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول: الأجزاء التي تحلها الحياة .(5/254)
والقسم الثاني: الأجزاء التي لا تحلها الحياة، وقد فصلنا في كلا القسمين في باب الطهارة، وقلنا إن الأجزاء التي تحلها الحياة كاليد والرجل فهذه حياتها حياة روح فلا يجوز بيعها وهي آخذة حكم الأصل ، فلا يجوز بيع يد الشاة الميتة كما لا يجوز بيع كل الميتة ، ولا يجوز بيع رجلها ولا رأسها ، لكن لو أنه أخذ من أجزائها ما لا تحله حياة الروح كالشعر ، فإذا أخذ شعر الميتة وجزّه أو أخذ الجلد ودبغه؛ صح له أن يبيعه ، فأجزاء الميتة التي لا تحلها الحياة يجوز بيعها ، فشعر الميتة يجوز أن يجمعه ويبيعه ، وهكذا بالنسبة للجلد إذا دبغه وباعه ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )) وقال كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين ميمونة –رضي الله عنها- : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) فهذا الإهاب إذا دبغ والإهاب هو الجلد فيجوز بيعه وشراؤه والانتفاع به ، ومن هنا نجد بعض العلماء يقول : والميتة بأجزائها التي تحلها الحياة فيخصص، ويقول : ولا يجوز بيع الميتة بجميع أجزائها التي تحلها الحياة ولا يطلق القول ، إنما يريد أن يستثني المواضع التي ذكرناها .(5/255)
قوله : [ ولا يجوز بيع الميتة الخمر والميتة ]: في زماننا الآن ابتلي الناس بالحيوانات المحنطة ، فهذه الحيوانات المحنّطة من جنس السباع مثل الثعلب ونحوه يأخذه ويحنّطه ، أو يكون من جنس ما يؤكل كالغزال ونحو ذلك ويحنّطه ، فإن كان من جنس ما يؤكل وذكاه ثم حنطه فهو طاهر ، والطاهر يجوز بيعه ، لكن يبقى الإشكال في الإسراف، وكونها هل هي منفعة مقصودة أو غير مقصودة ؟ لكن لو أنه حنطه من أجل دراسة الطب أو دراسة طب الحيوانات كالطب البيطري أو نحو ذلك فلا بأس ، لأن هذه منفعة مقصودة وفيها خير وفيها رحمة بالحيوان ، وهي مقصودة شرعا وطبعا ، لكن أن يأخذ مثلا حيوانا محنّطا من السباع أو مما لا يحل أكله كالثعلب وهو أصح قولي العلماء وبينا في دورة الأطعمة أن الجمهور على تحريمه ، فلو أخذه وحنّطه فإنه نجس وميتة فلا يجوز بيعه ولا شراؤه ولا أخذ العوض عليه ، هذا بالنسبة للحيوان إذا كان محنّطا يفرق فيه ، أما إذا كان طاهرا إن كان طاهرا وفيه مصلحة لتحنيطه فلا إشكال واشتراه لهذه المصلحة ، أما إذا كان لا مصلحة أو بالغ في قيمته فهنا إشكال؛ لأن الحيوان في الأصل خُلق للإنسان كما قال تعالى : { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه } فجعل للإنسان من أجل أن ينتفع به ، والمنفعة مقصودة في الحيوان ركوبا وانتفاعا بشرب لبنها، والدفء في جلودها وفي شعرها ، فإذا خرج عن هذه المنفعة المقصودة وعطل هذه المنافع ؛ لأن الغزال بدل أن يؤكل سيحنّط ، حينئذ سيكون مخالفا لمقصود الشرع ، ففيه وجه بالمنع ، هذا حاصل ما يكون في الميتة .(5/256)
قال رحمه الله : [ ولا بيع معدوم كالذي تحمل أمته أو شجرته ] : ولا يجوز بيع المعدوم وهو غير الموجود أثناء العقد ، كالذي تحمل أمته أو شجرته ، كالذي تحمل أمته: هذا في الإنسان والحي ، وشجرته: في النبات ، هذا من التنويع في المثال ، كانوا في القديم يقول له: أبيعك بطن ناقتي ، يعني كل ما تحمله ناقتي ملك لك ، فالناقة أنا أركبها وأنتفع بحليبها ، ولكن إذا حصل فيها حمل فهو ملك لك ، فهذا حرّمه الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- وهو من بيوع الجاهلية ، وفُسّر حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- في الصحيحين : (( أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع حبل الحبلة )) ، قال: إنه من بيوع الجاهلية حيث كانوا يبيعون نتاج النتاج ، فهذا من بيع المعدوم وليس بموجود أثناء العقد ، ولذلك يعتبر بيع المعدوم من بيوع الغرر ، وبيع الغرر: الغرر في الأصل قلنا هو بيع مستور العاقبة أي الشيء الذي يمكن أن يحصل ويمكن أن لا يحصل ، فإذا قال له: أبيعك ما تحمله ناقتي، أو ما تحمله جاريتي أو ما تحمله شجرتي؛ فإنه غير موجود أثناء العقد ، يحتمل أن يوجد ويحتمل أن لا يوجد ، ومن هنا دخل في الغرر ، وقد صح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- كما في حديث أبي هريرة وغيره (( أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الغرر ، ونهى عن الغرر ))، وجمهور العلماء في تفسير الغرر بأنه تدور كلماتهم على أنه بيع مستور العاقبة كما عرفه بعض الأئمة ، وهو الذي يمكن أن يقع، ويمكن أن لا يقع ، وبعضهم يقول هو الذي يمكن أن يحصل منه الغرض، ويمكن أن لا يحصل ، فهذا لا يجوز ، فبيع المعدوم بيع الشيء الذي لم يوجد، دل الدليل على تحريمه في قوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } .(5/257)
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة : أنه إذا باعه شيئا مترددا بين الوجود وعدم الوجود فإنه إذا لم يوجد أكل ماله بالباطل ، فلو قال له: أبيعك ما تحمله جاريتي البطن الآتي فانتظر فلم تحمل أو حملت فأسقطت أو حملت ثم سقط منها ميتا فهذا كله يؤدي إلى أنه يأخذ المال في لقاء هذا الشيء الذي لم يحصل به الغرض الذي من أجله وافق المشتري ، فأدى إلى أكل المال بالباطل .
ثانيا : أنه داخل تحت نهي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن الغرر .
وثالثا : أنه إحدى الصور في نهي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع حبل الحبلة .(5/258)
ورابعا: أنه من البيوع التي نص عليها كما في نهيه –عليه الصلاة والسلام- عن بيع السنين والمعاومة ، وبيع السنين والمعاومة كان من بيوع الجاهلية يأتي صاحب البستان ويقول للرجل: أبيعك ثمرة بستاني ثلاث سنوات وثلاثة أعوام ، فقد تكون الثمرة موجودة في العام الأول ، لكن العام الثاني لم توجد ، والثالث لم توجد فقال السنين والمعاومة ، أي بيع الثمرة كما في فسره الصحابي في صحيح مسلم وغيره حديث عمر –- رضي الله عنه -- هو بيع ثمرة البستان سنينا وأعواما يقول له : ثلاث سنوات ، أربع سنوات ، وفي زماننا يقول أبيعك صيف بستاني ثلاث سنوات ، أو أربع سنوات ، فهذا لا يجوز ، لأنه وإن كان موجودا في السنة التي اتفق عليها ، فإن السنة التي تأتي والتي بعدها لم تخلق ثمرتها بعد ، فلا يجوز بيع المعدومات ، هذا بالنسبة للسنة وما ثبتت ، ويكاد يكون قول جماهير السلف والخلف على تحريم بيع المعدوم ، ينبني على هذا بيع العمائر قبل وجودها ، فإذا كان يقول له سنبني عمارة ثم في هذا الموضع على صفة كذا وكذا وكذا أبيعك إياها بمليون ، فهذا من بيوع الغرر ، وسنتكلم عليه إن شاء الله في مسائل بيوع المعاصرة ونبين دخوله تحت بيع المعدوم ، وأن الأصل يقتضي عدم جوازه ، وهكذا لو قال ستُبنى عمارة ثم يكون فيها مائة شقة كل شقة بكذا وكذا ونحو ذلك ، كله من بيع المعدوم؛ لأنه غير موجود أثناء العقد ، ويغرر به، ولذلك قد ترتفع الأسواق ، فتغلو قيمة المادة مواد البناء ، وقد تغلو قيمة العمالة ، وقد يحصل أيضا العكس مما يوجب الندم والألم وحصول الخصومات بين الناس والمفاسد فيه واضحة ، ولذلك قلّ أن يسلم من ضرر ، وسنبين إن شاء الله في مسائل بيوع المعاصرة جملة مما اشتهر من البيوعات الموجودة، والتي تتخرّج على ما وردت في السنة بتحريمه، ونص أهل العلم –رحمهم الله- على ذكرها .(5/259)
قال رحمه الله : [ أو مجهول كالحمل والغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته ] : ولا يجوز بيع المجهول كالحمل والغائب الذي لم تتقدم رؤيته ، بالنسبة للمجهول الجهالة نوع من الغرر ، الشيء المجهول إذا بيع فقد وقع الغرر ، لأنه مستور العاقبة ، قد تشتري شيئا مجهولا تظنه على صفة كمال وإذا به ناقص ، وهذا عين الغرر ، وقد تظنه على صفة معينة فيأتي على خلافها ، أو تريده على صفة محبوبة فيأتي على صفة مكروهة ، أو تريده على لون فيأتي على لون آخر وهكذا ، فالمجهول كأن يكون مجهول الوجود، أو مجهول السلامة، أو مجهول الصفة، أو مجهول القدر ، مجهول الوجود مثل: أن يقول له أبيعك ما في بطن ناقتي هذه في فرق بين المعدوم وبين المجهول ، لأن المعدوم ما هو موجود أصلا أثناء العقد ، لكن المجهول يحتمل أنه موجود، ويحتمل أنه غير موجود جهالة وجود ، وإذا كان موجودا لا ندري ما هي صفاته ؟ فهي جهالة صفات ، إضافة إلى أننا نجهل هل هو حي أو ميت ، توضيح ذلك بالمثال: فإذا قال له: أبيعك ما تحمله ناقتي بيع معدوم؛ لأنها ستحمل ولم تحمل بعد ، لكن لو كانت الناقة منتفخة البطن أو كانت الشاة في بطنها انتفاخ فقال له: أبيعك ما في بطن هذه البهيمة ، فحينئذ باعه شيئا مجهولا ، وجهالته هنا مستحكمة ، يعني من أقوى أنواع الجهالات ؛ لأننا لا ندري هل هذا الانتفاخ جنين أو مرض ، لأن الدواب والبهائم تنتفخ مرضا وتنتفخ للحمل ، ثم لو قال قائل: إنه في زماننا أمكن وجود الأجهزة التي يمكن أن يعرف بها وجود الجنين وعدمه فانتفت جهالة الوجود نقول وليكن لا ندري هل هو حي أو ميت ؟ فإذا قال أمكن معرفة أنه حي أو ميت نقول: لا ندري صفاته ، فإذا قال أمكن أن يصور ونعرف صفاته ، نقول هل تضمن لنا أن يخرج حيا ؟ وهل تضمن لنا أن يبقى حيا إلى الولادة ؟ طبعا ما يستطيع ، إذا جهالة السلامة ، فأصبح جهالة الوجود، وجهالة الحياة والاستقرار، وجهالة السلامة ، ثم لو خرج حيا ، ولو قال(5/260)
عندنا أو الحكم للغالب أنها إذا وضعت يخرج حياًّ قد يجادلك تقول: هب ذلك، فإننا لا ندري أيخرج سالما أو يخرج معيبا ؟ مثلا قد تلقيه الناقة فيصبح به عاهة أو به شيئا يمنع المشي ، وهذا يقع في الدواب ، وقد تتعثر الولادة فيصيب المولود شيئا لا ينتفع به بحال فيخرج على حال لا يمكن الانتفاع به ، فعلى كل حال هذه جهالة مستحكمة ؛ والأصل فيها (( أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع حبل الحبلة )) ، من صوره قالوا : الجنين في بطن أمه ، حبل الحبلة يعني الجنين في بطن الناقة الحبلى الحامل ، وهذا يدل على أنه بيع النفس الجنين ، ومن أهل العلم من قال : هو الجنين الثاني ، كانوا في الجاهلية يقول له : أرأيت هذا الحمل بعت على فلان ، أبيعك جنين جنينه يعني لما يخرج ويحمل أنا أبيعك الجنين الذي يكون في بطن الولد ، والجاهلية لا حد لها، ولا يردعها شيء لا دين ولا عقل ، كل شيء مسموح ومفتوح! ما في يقول له : أبيعك حتى لو كان شيئا رجل يصنع الإله والصنم من التمر فإذا جاع أكله ، يصنعه من التمر ويعبده ويناديه ويستغيث به -والعياذ بالله- ثم إذا جاع أكله، أي انحطاط يعني وصلوا إلى أحط ما يكون نسأل الله السلامة والعافية !، والرجل يتزوج زوجة أبيه ، جاهلية يعني في الحضيض نسأل الله السلامة والعافية، فهم يتبايعون ببيوعات منها من صورها نهى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع حبل الحبلة منها هذه الصورة قالوا أن يبيعه البطن الثاني وليس الأول ، فحينئذ تكون جهالة فوق جهالة ، فنحن نجهل هذا الذي في بطنها هل هو جنين أو لا ؟ ونجهل وجوده وسلامته وبقاءه حيا إلى الولادة وسلامته بخروجه ، ثم هل يبقى بعد ذلك ؟ ثم هل هو ذكر أو أنثى؟ حتى نقول أنه جنين الجنين ،- أثبت العرش ثم انقش- إلا إذا كان يقول أن الذكر يحمل ! فالمقصود من هنا أنهم لا يتورعون عن شيء ، في هذا النوع الذي ذكره المصنف –رحمه الله- إشارة إلى الشرط الذي ذكرناه أن(5/261)
البيع لا يصح إلا إذا كان المبيع معلوما ، وهذا من رحمة الله بعباده ولطفه بهم { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } رحمة بمعنى عظيم واسع جدا :
أولا تعبير بأسلوب الحصر والقصر { ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } أسلوب الحصر والقصر ، والقصر يعني كأنه ما في شيء أرسلناك إلا أن تكون رحمة للعالمين .
ثانيا : التعبير بالنكرة رحمة .
ثالثا : للعالمين ، وهذه الرحمة شاملة لجميع شؤون الناس مادام أن هذا الدين فيها فلتعلم أنها مرحومة ، وأن هذه الأمة تكمل رحمتها بكمال تمسكها بدينها ، وتُحرم –والعياذ بالله- من الرحمة على قدر ما فرطت من دينها ، فمن الرحمة حتى في التشريعات ، فلن تجد حكما شرعيا يعني شخص قد يأتيك الآن ويقول لك: لماذا يا أخي، تحرم على الناس! تقول ما يجوز بيع العمارة قبل وجودها ؛ ولماذا لا يجوز بيع الجنين ؟ يا أخي هذا رجل حر يبيع والآخر حر ، قال أنا مستعد أدفع خمسمائة في مقابل هذا الجنين كان جنيناً أخذته ، ما كان لو يكون شيطاناً رجيماً أريده ، يقول : هذا نعم بعضهم يكابر يقول: أنا راض أن أدفع الخمسمائة ، تقول له: إذا رضيت أن تكون سفيها فلم ترضَ لك الشريعة أن تكون في مجتمعها وأن تعلم السفه الغير وتغريه بمالك ، لأن الذي ليس عنده عقل يحسن به التصرف بماله يمنع ويحجر ، فالشريعة لما منعت هذا الشيء لمصلحة الناس كيف ؟ تأمل هذه البيوعات التي تتردد بين السلامة وعدمها تجد أنها في الغالب تفضي إلى النزاع، وإلى الخصومة وإلى الأذية والإضرار ، قل أن تجد رجلا يشتري شيئا يحتمل أن يقع أو لا يقع ثم لا يقع الشيء إلا وحمل الضغينة في قلبه للذي باعه ، وتربص به أن يبيعه شيئا مثل ما باع وقد يكون بأضعاف ما غبنه به؛ انتقاما ، وقد يتحامل عليه وقد يؤذيه بلسانه وقد يسل سيفه؛ لأن النفوس أحضرت الشح ، هذا المال إذا تنافس الناس فيه ربما سالت دماؤهم كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم(5/262)
كما أهلكتهم )) فهذا النوع من البيوعات يفضي إلى النزاعات ويفضي إلى الخصومات .
إذاً قَفْل النزاعات وقفل الأبواب المفضية للنزاعات عذاب أو رحمة ؟ لاشك أنه رحمة ، ومن هنا تشريعات الإسلام نعمة ورحمة لقوم يعقلون، ولقوم يفقهون، ويفهمون ، وكل من تأمل حكما شرعيا في ظاهره شدة وجد أن خلاف هذا الحكم أشد ، فإن كان التشدد في الحكم على فرد فإنه إذا لم يلتزم بهذا الحكم وعملت بخلافها أو نظرت إلى خلافه ؛ وجدت أن البلاء فيه أعظم ، أبدا لا أحسن من الله حكما لقوم يوقنون { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } فكل من تأمل الشريعة وإن وجد في الظاهر لا يجوز ، حرام ، أو سمعت مفتيا يفتي بتحريم شيء بالدليل من الكتاب والسنة ، وسمعت جاهلا يسفّه رأيه ويرد قوله الذي دل عليه دليل الكتاب والسنة فاعلم أنه إذا قال أن هذا تشدد أن التشدد في تحليل ما حرم الله؛ لأنه سيفضي إلى البلاء على الأفراد والمجتمعات ، ومن هنا هذه البيوعات من الحِكَم العظيمة المستفادة من تحريمها : أنها قطعت أسباب النزاع والخصومات ، وذكر العلماء –رحمهم الله- ذلك وأشاروا إليه أن الله –- عز وجل -- أحل لعباده أن يتعاملوا بالدنيا ما لم تكن سبيلا بأن تؤذيهم في دينهم، فتفسد ما بينهم من الأخوة ، ولذلك حرم الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- بيع المسلم على بيع أخيه، وسومه على سوم أخيه ، لأن هذا يورث الحقد والضغائن ، فالحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، قد جاءت رسل ربنا بالحق ، الحمد لله الذي رحمنا بهذا الكتاب وهدانا به إلى الصواب وأرشدنا به إلى سبيل أولي الألباب ، ورفعنا به من الحضيض ، فلولا الله ثم هذا النور وهذه الرحمة لكنا في ضلال مبين { بل الله يمن عليكم أن هداكم } من الذي هدى؟ هو الله ، (( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم)) ، اللهم إنا نستهديك فاهدنا ، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا التمسك بدينه والثبات(5/263)
على شرعه .
قال رحمه الله : [ أو مجهول كالحمل والغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم رؤيته ] : الغائب : أن يبيع شيئا غائبا . لم يوصف ولم تتقدم رؤيته .
الغائب له حالتان : باعك شيئا غائبا مثلا قال لك عندي سيارة عندي أرض عندي عمارة عندي كتاب ووصفه لك ، ما هو موجود في مكان العقد، فإذا كان هذا الغائب أنت تعرفه من قبل مثلا قال لك: مزرعتي في المدينة التي جئتني فيها أبيعكها بمليون أو أريد أن أبيعها بمليون ، فأنت تعرف المزرعة وقد جئتها وقد رأيتها ، فهذا الغائب الذي تقدم بالرؤية يجوز بيعه بشرط بقائه على صفته دون تغيّر ، فإن تغير عن ما كان عليه حال الرؤية وجب على البائع أن يخبر المشتري بأنه ليس كحالته الأولى ، فإن كان على حالته الأولى جاز البيع ولا إشكال ، لكن الإشكال في الغائب الذي لم تتقدم رؤيته .
فيجوز بيع الغائب من العقارات والمنقولات بالصفة ، فإذا وصفه وصفا سليما يتبين به على الصفة المعتبرة شرعا كما ذكروا أن يصفه بما يعتد به في السلم صح البيع ، ثم يكون للمشتري الخيار وهو الذي يسمى عند العلماء خيار الرؤية ، فإن رأى المبيع على الصفة التي ذكرها البائع ولم تختلف لزمه البيع على أصح قولي العلماء ؛ لأن الجمهور حينما صححوا بيع الغائب بالصفة اختلفوا في الخيار هل هو ثابت سواء وافقت الصفة أو لم توافق ، كقول الحنفية –رحمهم الله- أم أنه يختص في حال عدم موافقة الحال للصفة السابقة ، فعلى كل حال بيع الغائب صحيح إذا كان بالصفة على الوجه المعتبر شرعا ، ويكون الخيار للمشتري إذا رآه وخالف في الصفة بين أن يمضي البيع وبين أن يلغيه .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : عملي موزع أدوات السباكة فأقوم ببيع تلك البضاعة على أن آخذ ثمنها بالأجل على دفعات أسبوعية ، فهل هذا يجوز . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(5/264)
فأي أدوات مباحة شرعا ينتفع بها يجوز بيعها وشراؤها، ويجوز بيعها نقدا وسلفا وقرضا ، ويجوز في السلف أن تؤخر إلى دفعة واحدة أو تقبض على دفعات ، هذا كله جائز ولا بأس به ولا حرج ، وإذا بعت مجموعة من هذه الأدوات سلفا وجعلتها أقساطا على من اشترى فلا بأس ولا حرج ، وإن قلت له ادفع المبلغ مرة واحدة في آخر أجل تحدده فلك ذلك ولا بأس به ولا حرج . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : هل يسن القيام للصلاة عند قول المقيم قد قامت الصلاة ، أم متى يسن أفتونا في ذلك . أثابكم الله ؟
الجواب :
الأمر في هذا واسع ، ولكن السنة عن أصحاب رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- أنهم كانوا إذا أحسوا بخروج النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وقفوا ، وكما ثبت في الصحيح أن بلالا -- رضي الله عنه -- لما أحس بالحركة وراء الستر أقام فقام الصحابة -رضوان الله عليهم- ، فلم يخرج النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وطال قيامهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (( إذا رأيتموني فقوموا ))، فهذه سنة من قام عند رؤية الإمام فله وجه من السنة ، لأن هذا يدل على أن الصحابة كانوا يفعلونه في زمان النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وهذا هو الأحب والأفضل عند رؤية الإمام داخلا أن يقام ، وإذا قام بعد انتهاء الإقامة فلا بأس ولا حرج ، وإذا قام عند قد قامت الصلاة فلا بأس ولا حرج ، وكله أقوال لأهل العلم -رحمهم الله- ، ولكن ليس هناك إلزام في وقت معين ، إلا إذا كانت تسوية الصفوف ويحتاج لقيامه مبكرا لمصلحة لازمة فيلزمه أن يقوم مبكرا ، وأما إذا أمكنه أن يحقق مقصود الشرع بالقيام والوقوف في الصف على الوجه المعتبر فلا إشكال أنه يقوم في الوقت الذي يتيسر له دون إلزام بوقت معين ، والسنة والأفضل عند رؤية الإمام . والله -تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :(5/265)
فضيلة الشيخ : خطبت فتاة صالحة ذات دين وخلق ، ومن عائلة متدينة جدا وذو أصل طيب ، ولكن الشيطان يوسوس لي بطلاقها ، فأرشدونا كيف نتخلص من ذلك . جزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
هذا من توهين الشيطان ، ما علم باب خير على العبد في دينه ودنياه إلا أضره والتمس جميع السبل للإضرار به ، ولكن كما قال الله تعالى : { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } شهد الله من فوق سبع سماوات أن كيد الشيطان ضعيف. قال : { إن } التي تدل على التوكيد تأكيد الأمر على أنه أمر مؤكد لاشك فيه ولا مرية ، { إن كيد الشيطان } جاء به كله نكرة كيد جميع ما يكيد به ثم نسب إليه بإضافة كيد الشيطان ثم قال كان الذي تدل على الدوام والاستمرار في أي حين في أي وقت في جميع أحواله، ولو بلغ الكيد أقصى ما يبلغ فإنه ضعيف بشهادة رب السماوات والأرض -- سبحانه وتعالى -- ، ضعيف وضعيف نكرة ، { كان ضعيفا } فهو ضعيف ، ولكن يضعف كيد الشيطان بقوة الإيمان ويتلاشى ويذهب ويدحر وينخنس عدو الله ويخسّأ به بالإيمان بالله وبقوة وصدق اللجأ إلى الله -- عز وجل -- وذكر الله -- سبحانه وتعالى -- .
أخي في الله، حافظ على أذكار الصباح والمساء .(5/266)
ثانيا : خذ بالأسباب؛ لأن هذا البلاء إذا جاء الإنسان بلاء في أي نعمة في زواج أو في غيره فليعلم أنه ما أصابته مصيبة إلا من نفسه ، فإن الله لا يظلم الناس ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، فعليك تتفقد نفسك فقد يكون ذنب أصبته أو آذيت أحدا من أولياء الله أو اغتبت ، فتب واستغفر وأكثر من الاستغفار تُرحم ، فهذه الوسوسة يتسلط بها الشيطان خاصة إذا وجدت أذية من المسلم لإخوانه فيتفقد الإنسان نفسه ، ومن صدق مع الله ؛ صدق الله معه ، فمن علم الله من قرارة قلبه أنه يريد الندم والتوبة والرجوع إلى الله من البلاء الذي حل به، ويريد أن يعرف سبب البلاء لكي يتوب ويرجع ؛ قلّ أن يحرم التوفيق ، خاصة إذا صدق مع الله ؛ فإن الله يصدق معه ، وهذا شيء مجرب، فاصدق مع الله يصدق الله معك ، أوصيك أن لا تبالي بهذه الوساوس ، وأن تحس أن الله أنعم عليك بنعمة باختيار المرأة الصالحة في المعدن الطيب ، وهذا من توفيق الله لك ، فاستعن بالله ولا تعجز ، وكن مع الله ولا تبالي ، وهذا إن شاء الله شر يزول ، ولعل الله –- سبحانه وتعالى -- أن يرفع به درجتك .
وأسأل الله بعزته وجلاله أن يصرف عنا وعنكم وعن المسلمين الخواطر الردية، والوساوس المردية ، وأن يكفينا وإياكم شرور شياطين الإنس والجن، وأن يكبتهم فيردهم على أعقابهم خاسرين، إنه ولي ذلك وهو رب العالمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ولا معجوز عن تسليمه
قال المصنف رحمه الله : [ ولا معجوز عن تسليمه ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين، والصلاة الأتمان الأكملان على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد :(5/267)
فقد تقدم معنا أن من شروط صحة البيع أن يكون البائع قادراً على تسليم المبيع، وكذلك المشتري قادر على تسليم ما اشترى به ، وهذا مبني على أن العجز عن التسليم يعتبر إضاعة للحقوق، سواء كان من البائع أو من المشتري أو منهما ؛ ولذلك لابد من أن يكون المبيع يمكن تسليمه، ومن هنا قرّر العلماء رحمهم الله عدم صحة بيع المعجوز عن تسليمه، والأصل في ذلك دليل الكتاب في قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض } .
وجه الدلالة من الآية الكريمة : أنه إذا باع شيئا معجوزا عن تسليمه ، ودفع المشتري الثمن ، وعجز عن استلام المثمن ؛ فقد أُكِل ماله بالباطل ، وقد حرّم الله - عز وجل - أكل المال بالباطل ، ومن هنا أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم بيع المعجوز عن تسليمه إلا لمن يقدر على أخذه واستلامه ، والأصل في ذلك ما ذكرناه من دلالة الكتاب .
وكذلك في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورد حديث النهي عن بيع السمك في الماء والطير في الهواء ، وفيه كلام ، ولكن متنه صحيح ومعمول به عند أهل العلم رحمهم الله .
قال رحمه الله : [ ولا معجوز عن تسليمه ] : أي ولا يصح بيع المعجوز عن تسليمه ، سواء وقع العجز في كل المبيع ، أو وقع العجز في بعض المبيع ، فمادام أن فيه شيئا يعجز عن تسليمه فإنه لا يجوز كما لو كان معجوزا عن تسليم الكل ، فلو قال المشتري : أنا رضيت ، وسآخذه ، إن حصلت عليه فبها ونعمت ، وإن لم أحصل فأنا متنازل عن حقي ، فرضاه وجوده وعدمه على حد سواء ، كما لو رضي بالربا ، ولذلك لا يلتفت إلى الرضى إذا كان واقعا في غير موقعه ، فالشريعة حرّمت هذا النوع من العقود ، بغض النظر من كونه راضيا بالغبن أو غير راض به .(5/268)
قال رحمه الله : [ كالآبق ] : كالآبق وهو العبد الذي فرّ عن سيده ، وإذا أبق العبد وشرد فإنه إذا باعه سيده على شخص يحتمل أن يتحصّل عليه ويجده ويحتمل أن لا يتحصل عليه ، ومن هنا جعل العلماء رحمهم الله المعجوزَ عن تسليمه مندرجا تحت بيوع الغرر ، لأن الغرر بيع مجهول العاقبة ، وهو الشيء الذي يتردد بين أن يمكن أن يحصل ويمكن أن لا يحصل ، وهذا الاندراج صحيح ، وجعله من بيوع الغرر صحيح .
قال رحمه الله : [ والشارد ] : كالبعير الشارد ، شخص عنده بعير ، ففرّ البعير وشرد ، فقال له : أبيعك بعيري الذي شرد ، أو قال له شخص : بعيرك الذي شرد أنا أشتريه منك ، إن وجدته كان لي وإن لم أجده فإنني راض أن تأخذ المال ويكون لك فإنه لا يجوز ، وهكذا الطير في الهواء ، مثل أن يكون عنده حمام ثم يفرّ الحمام ، فقال له : أبيعك الحمام الذي فرّ ، فإنه لا يصح ، لكن لو باع الحمام كالزاجل ونحوه الحمام المعروف والذي يأوي إلى مكانه ، فمن أهل العلم من صحّح البيع ومنهم من قيّده ، صححه بقيد ، فقال : يصح بيعه إذا أوى ، ولا يصح إذا كان في ذهابه ، ومن هنا قالوا يصح بيعه ليلا ولا يصح نهارا ، قالوا كله خوف الغبن ، خوف أنه لا يرجع ، ثم بعد ذلك يغبن البائع ، ولكنهم قالوا لما كان الغالب رجوعه نُزِّل منزلة الموجود ، وهذا من باب التقدير ، فالتقدير تنزيل المعدوم منزلة الموجود فتسامحوا فيه للغلبة ، هذا بالنسبة لبيعه ، فلو قال : عندي خمسون حمامة من نوع كذا وكذا ، تشتريها مني ؟ قال : نعم . أين هي ؟ قال : الآن لعلها تحضر بعد ساعة تحضر بعد غروب الشمس ، أو تأوي بعد غروب الشمس ، فاتفقوا ، فالإشكال في وقت العقد أنها غير موجودة وهي غائبة ، فالصحيح جواز البيع وصحته ، كما لو باعه الغنم وهي سائمة ، أو باعه الإبل وهي ترعى ، وقال له : إذا آوت أسلمها لك ، لكن هذا لا يندرج تحت المعجوز عن تسليمه ؛ لأنه في هذه الحالة الغالب فيه أنه سيرجع ، والبيع واقع(5/269)
على أنه سيرجع ، والغالب يُنَزّل منزلة الموجود ، يعني مادام أنه قد غلب في أحواله أن يرجع ، فحكمه حكم الموجود الذي هو بين يدي البائع .
قال رحمه الله : [ والطير في الهواء ، والسمك في الماء ] : ومنه مسألة بيع الطير في الهواء ، والسمك في الماء ، يقول له : هذه الحمامة كانت لي أبيعكها بعشرة ، قال : قبلت . ما يصح البيع ، قال : أرأيت هذه السمكة ؟ قال : نعم ، قال : كانت عندي وسقطت من المركب أو من السفينة أبيعكها بعشرة . قال : قبلت ، ما يصح . لا السمك في الماء ، ولا الطير في الهواء ، ويستثنى من هذا السمك في الماء أن يكون في موضع يمكن الحصول عليه ، ولا يزال إلى عصرنا الحاضر بعض المطاعم تأتي بالسمك ، فبدل أن تخرجه وتضعه في الثلاجة فيتغير طعمه ، تضعه في بحيرة أو مستنقع أو بِركة صغيرة من الماء وتضع من السمك وتأتي أنت وتختار السمك ، فالعلماء قالوا كالسمك في الماء ، يستثنى منه إذا كان في ماء منحصر يمكن الوصول إليه ، ومن هنا قالوا : إن البعير الشارد إذا كان الذي يشتريه يستطيع أن يمسكه والعبد الآبق إذا كان الذي يشتريه الغالب قدرته على أن يجده ويمسكه ؛ صح البيع؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما ، فالعلة هي العجز عن التسليم ، فإذا كان قادرا على استلام حقه زالت العلة ، والقاعدة : " أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما " .(5/270)
قال رحمه الله : [ ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه ] : أي ولا يجوز بيع المغصوب ، وهو المأخوذ قهرا ، الغصب يكون علانية وقهرا ، والسرقة تكون خُفية ، حتى إن الإنسان لا يعلم من الذي سرق ، والغصب محرّم وسيأتي -إن شاء الله- بيان أحكامه في موضعه ، فلو أن شخصا -والعياذ بالله- اغتصب مال أخيه المسلم ، ثم عرض هذا المال للبيع ، فإنه لا يجوز أن يُشترى ، وكذلك أيضا لو عرضه صاحبه يعني صاحب الأرض المغصوبة عرضها ، وقال : هذه أرضي التي اغتصبها مني فلان أبيعها بمائة ألف من يشتريها ؟ قال شخص : أنا أشتريها . نقول : لا يجوز ، في الحالة الأولى لا يصح شراء المغصوب من الغاصب ؛ لأنه ظالم ، وليس لعرق ظالم حق ، ولأنه معونة على الإثم والعدوان ، ولقد صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (( من ظلم قِيد شبر من الأرض طُوِّقه يوم القيامة من سبع أراضين )) حتى قال بعض العلماء : يمد الله عنقه بقدر سبع أراضين ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : يُطوّق يُطوّق ، وهذا يدل على أنه ليس له حق فيما اغتصبه فلا يصح الشراء منه ، وإذا عرض المغصوب المظلوم لو عرض السلعة التي أخذت منه مثل أرض أخذت منه ، فقال : من يشتري الأرض التي اغتصبها فلان ؟ لا يصح البيع ؛ لماذا ؟ لأنه في حكم المعجوز عن تسليمه ، فهو لا يستطيع أن يأخذ أرضه ، فضلا عن أن يأخذها الغير ؛ لأنه يغرر بالمشتري ، فقد يستطيع المشتري أن يأخذها وقد يعجز، وحينئذ لا يصح البيع كبيع البعير الشارد ، والعبد الآبق ، وهذا يعني تلاحظ أنه يذكر العلماء الأمثلة المتجانسة ، والتي ترجع إلى أصل واحد ، وهنا الأصل العجز عن التسليم ، فمَثَّل رحمه الله بمثالين : في الآدميين ، وفي الحيوانات ، في الآدميين قال : كالعبد الآبق ، وفي الحيوانات : كالبعير الشارد ، ثم هذا الذي يعجز عن تسليمه تارة يُجز عن تسليمه بأمر خارج عن المكلّف بفرار العبد وفرار الدابة ، وتارة يكون قهرا وغلبة فمثَّل(5/271)
بالمغصوب ، وهذا المراد به التنوع ، حتى تعلم أن الأمر لا يختص بطير في الهواء ولا بسمك في الماء ، إنما يرجع إلى قاعدة واحدة وهي : " العجز عن التسليم " ، فإذا حصل العجز عن التسليم ؛ فإنه حينئذ لا يصح البيع .
بيع المغصوب لشخص آخر يقع من المغصوب منه في صورة العجز عن التسليم ، وإذا أردت أن تمثل لبيع ما لا يملكه الإنسان أن تقول: أن يبيع الغاصب نفسه ، فتكون العلة في الغاصب نفسه إذا باع غير العلة في المغصوب والمظلوم إذا باع ، فالمظلوم وهو المغصوب منه إذا باع تكون العلة هي العجز عن التسليم ، ولذلك إذا وجد شخص عنده قوة وسلطة يستطيع أن يأخذ المغصوب من الغاصب وقال لك : أنا أشتري منك هذه الأرض ، وأنا أستطيع أن آخذها من فلان ؛ صح البيع وجاز ، لو قال : أنا عندي قدرة ويعرف أن عنده قدرة أن يتحصل على مغصوب ؛ لماذا ؟ لأن العلة قد زالت ، والعلة في تحريم البيع هي العجز عن التسليم .(5/272)
قال رحمه الله : [ ولا بيع المغصوب إلا لغاصبه أو من يقدر على أخذه منه ] : ولا يصح بيع المغصوب إلا لغاصبه أو من يقدر على أخذه كما ذكرنا . لو أن الغاصب قال للمغصوب منه : أرضك التي اغتصبتها أريد أن أعطيك بدلا منها هذه المائة الألف ، فإن قال المظلوم : رضيت بطيب نفس منه ؛ صح وجاز ، لكن لو أن المظلوم لا حيلة له ولا يريد بيع أرضه ، وأصبح كالمكره ليس بيده إلا أن يأخذ المال لم يصح ؛ لأنه في حكم المكرَه ، وقلنا من شرط صحة البيع أن لا يكون هناك إكراه ؛ لأن الله اشترط الرضى ، والإكراه ينتفي به الرضى أو ينعدم أو يفسد به الاختيار ، وعليه فبيع المغصوب للغاصب شرطه أن يرضى المغصوب منه ، وأن يكون بطيب نفس منه ، والعلماء قالوا : إلا لغاصبه هنا إشارة إلى زوال العلة وهي العجز عن التسليم ، فمادام أن الغاصب لا توجد فيه هذه العلة رجع البيع إلى الأصل وهو الصحة والجواز ، لكن ينبغي أن يضاف القيد الذي ذكرناه ولم يذكره العلماء ، البعض لما يشرح المتون يقول : هنا ملاحظة هنا كذا. لا . أصلا هم يذكرون المثال ويذكرون العلة المخصوصة بموضعها ، مسألة من يكون راضيا أو كذا ، هذه معروفة في أصول البيع ، ولذلك العلماء يحترمون من يقرأ هذه الكتب ، فالبعض يأتي ويقول : لنا ملاحظة على هذا – ما أكثر أصحاب الملاحظات- يبحث له عن أي نقد لكتب العلماء فلينتبه لهذا ، إن المصنف ليس من غفلته ، أنه ما قال بشرط أن يكون راضيا . لا . لأن هذا مقرر في أصل البيع ؛ لكن نحن ننبه عليه لضعف التحصيل في طلبة العلم غالبا في هذه الأزمنة ؛ لأنه لابد من ضبط هذه القيود التي وضعها العلماء في كل قيد بحسبه ، فهم هنا قالوا : إلا لغاصبه أي بشرط أن يكون المغصوب منه قد أخذ حقه، وأن يكون عنده الرغبة في أن يبيع له ، أما إذا انتفى ذلك رجع إلى علة أخرى ، وهي انتفاء الرضى في البيع ، ومن شرط صحة البيع : أن يكون البائع والمشتري كل واحد منهما مختارا في بيعه(5/273)
وشرائه .
قال رحمه الله : [ ولا بيع غيرِ معين ] : أي ولا يجوز البيع إذا كان لشيء غير معين ، وهو الإبهام بين أشياء متعددة ، وهي مختلفة في الصفات أو مختلفة في القِيَم ، فهذه الأشياء مثلا أن يقول له : أبيعك شاة من قطيعي ، عنده غنم فوقف عليه وقال له : أريد أن تبيع شاة ، فقال : أبيعك شاة من هذا القطيع بمائة ريال ، فالشياه فيها الجيد ، وفيها الرديء ، وفيها الوسط لا يصح حتى يعيّن ويقول : أبيعك هذه الشاة . السبب في هذا أنه من الغرر ، ووجه الغرر أنه ربما ظن المشتري أنه سيختار له الشاة الطيبة ، فيختار له الرديئة ، وعليه فإنه لا يصح البيع إذا كان على هذه الصورة ، أن يقول له : أبيعك شاة من قطيعي ، وفي زماننا أن يكون عنده ثلاث سيارات ، فيقول له : أبيعك سيارة من سياراتي ، وهي مختلفة ، منها الجيدة ، ومنها الرديئة ، ومنها بين وبين ، لم يصح ؛ لأنه سيغرر به ، فهو إذا اختار له الرديء من الغنم ، والرديئة من السيارات ، فقال المشتري : لماذا اخترت لي هذه الرديئة ؟ قال : أنا قلت لك : سيارة من سياراتي . وقلت لك : شاة من قطيعي . فيلزمك أن تقبل ؛ لأن الألفاظ في العقود معتبرة ، ومن هنا لما كانت الشريعة تنظر إلى صيغة العقد بين الطرفين ، ولذلك ستلزم المشتري ؛ لأنه قال له : سأعطيك سيارة من سياراتي ، وهذا قبِل ، بكل شيء يصدق عليه أنه سيارة من السيارات ، فحينئذ الشريعة تحتاط لحق المشتري . والعكس ربما أن صاحب الغنم قال له : أبيعك شاة من قطيعي بخمسمائة ريال وظن أن الذي يشتري سيختار الرديئة ، أو يختار الوسط وظن أنه لا يعرف الغنم أو لا يحسن الاختيار فاختار الذي لا يباع إلا بستمائة ، فغبن البائع ، فحينئذ الشريعة تحتاط للطرفين ، وإن كان الأكثر في الغبن بالنسبة للمشتري ، وعلى كل حال هذا البيع لا يصح ، ولابد من التعيين ، وهذا ما ينبه عليه العلماء بوصف التعيين المعتبر في البيع : شاة من قطيعي ، أو في زماننا سيارة من(5/274)
سياراتي ، عمارة من عمائري ، أو قطعة أرض في مخططي ، والمخطط هذا فيه قطع جيدة ، وفيه قطع رديئة ، وفيه قطع ممتازة ، ففي هذه الحالة لا يمكن للشريعة أن تأذن للبائع أن يغرر بالمشتري فلابد أن يعين .
قال رحمه الله : [ إلا فيما تتساوى أجزاؤه كقفيز من صُبْرة ] : إلا فيما تتساوى أجزاؤه : استثناء ، والاستثناء إخراج بعض ما يتناوله اللفظ ، كأنه يقول : لا يصح البيع في هذه الصور إلا في صورة واحدة أو لا يصح في هذه الأحوال وهي المبهمة التي لم يعين فيها المبيع ولكن يصح في حالة . وهي : أن تكون السيارات ، وأن يكون القطيع ، وأن تكون العمائر والأراضي كلها على صفة واحدة ، فإن كانت كلها على صفة واحدة صح أن يقول له : أبيعك سيارة من سياراتي ، مثل الآن السيارات تأتي مثلا بموديل واحد ، وتجد صفاتها كلها واحدة ، يعني كلها على النوع الممتاز ، أو كما يقولون : فل كامل مثلا ، وتكون ألوانها مختلفة ، ويقول لك : أبيعك سيارة من هذه السيارات ؛ صح ، ويقول لك مثلا : أبيعك أرضا من أراضي وعنده ثلاث أراضي كلها يعني أسعارها واحدة ، وتتساوى في المميزات والخصائص ؛ فحينئذ ما فيه غرر على المشتري .
إذن الأصل في قوله : أبيعك شاة من قطيعي ، أبيعك ثوبا من ثيابي ، أبيعك صاعا من طعامي ، أبيعك عمارة من عمائري ، وأرضا من أراضي ، كل هذا الأصل فيه المنع ؛ لماذا ؟ لأن أغلب صوره قائمة على الغرر ، ولذلك في الأصل أنه ممنوع ، لكن يستثنى متى ؟ إذا تساوت الأجزاء . فإذا تساوت الأجزاء صح .(5/275)
قال رحمه الله : [ إلا فيما تتساوى أجزاؤه كقفيز من صُبْرة ] : يعني مثلا كيس الأرز الآن جميعه على صفة واحدة ، فقال له : هذا الكيس أبيعك منه صاعا بعشرة ، أبيعك منه كيلو مثل ما يقع في البقالة ، فترى السكر أو ترى الأرز وترى الطعام كله على صفة واحدة ، فيقول لك : أنا أجعل الصاع منه مثلا بعشرة ريالات ، الكيلو بخمس ريالات ؛ صح وجاز ؛ لأن الأجزاء متساوية ؛ إذن العلة هي خوف الغرر ؛ لأنه فيه ضرر على المشتري أن يصرف إلى الرديء وهو يرغب الجيد .
قال رحمه الله : [ فصل ] : يقول المصنف رحمه الله : [ فصل ] : الفصل غالبا ينبني على الباب الذي قبله ، وفصل الشيء : تمييزه عن غيره ، والذي نريد أن ننبه عليه أن البيوع منها ما أذن الله به ، ومنها ما حرّم الله ، والذي أذن الله فيه من البيوع لا يمكن حصره ، لا يستطيع أحد من أهل العلم أن يجمع البيوع المشروعة ، لأنها تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة ، وعددها لا ينحصر حتى ولو في زماننا من كثرتها ، ولكن البيوع التي حرمها الله منحصرة ومنضبطة بضوابط معينة ، فأصبح المحرم يمكن تمييزه وحصره ، والمباح لا يمكن حصره ، ولهذا دل على هذا دليل الكتاب والسنة : في الكتاب قال الله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربا } فلما جاء للإباحة عمم قال : { وأحل الله البيع } ولما جاء يحرم قال : { وحرم الربا } فخصص .(5/276)
السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تجد الأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تأت مثلا : أبحنا لكم بيع الدواب، أبحنا لكم بيع الأرض ، أبحنا لكم بيع الطعام ، لا . وإنما جاءت : (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الملامسة)) (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المنابذة )) (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحصاة )) ، جاءت ببيوع مخصوصة ، ومن هنا أصبحت البيوع المحرمة منحصرة ، والبيوع غير محرمة غير منحصرة . فأنت من الناحية المنطقية لو جئت تنظر إلى شيء منحصر وشيء غير منحصر ، وتريد أن تميز هذا من هذا فإنك ستتكلم عن المنحصر أو غير المنحصر ؟ ستتكلم عن المنحصر ، وإذا بيّنت المنحصر المحرّم عُلم أن ما عداه جائز ومباح ، إذا بيّنت البيوع المحرمة علمت أن ما عداها جائز ومباح . هذا بالنسبة للفائدة الأولى .
ولذلك تجد في كتاب الله كما ذكرنا وفي السنة ، وفي كتب العلماء من المحدثين والفقهاء مراعاة لذلك. المحدثون إذا رجعت إلى كتبهم وجدتهم يعنونون في أبواب البيع بالبيوع المحرمة باب بيع كذا مما نهى الله ، بعضهم يأتي بها ويقول : باب ما نهي عنه من البيوع ، فيذكر البيوع المحرمة ، ومنهم من يذكرها على حسب أنواعها ، ويفصل فيها : باب بيع الملامسة ، باب بيع المنابذة ، كما في الصحيحين وغيرهما فالشاهد من هذا أنهم راعوا بيان البيوع المحرمة لكي تتميز البيوع المباحة والمأذون فيها شرعا .
الفائدة الثانية : أن هذا المحرم الذي حرمه الله ورسوله من البيع ينقسم إلى قسمين :
قسم من البيوع المحرّمة يوجب فساد البيع ، وحينئذ تحكم بفسخ البيع وبطلانه .
وقسم نهى الله عنه ، فالمنفعة له ، وهو يعلم الحكم فهو آثم ، ولكن البيع صحيح .
القسم الأول : يعود النهي فيه إلى ذات البيع .
والقسم الثاني : يعود النهي فيه إلى أمر خارج عن البيع .(5/277)
ويقصد الشرع به أمرا معينا ، لكن هذا الأمر دفع ضرر مثلا ويكون الضرر خارجا عن ذات البيع ، إذن عندنا منهيات ، نهي عنها ، والسبب الموجب للفساد متعلق بذات البيع وحينئذ يفسخ العقد ويحكم ببطلانه ، وإذا حكمت بفساد العقد ، فلا البائع يملك الثمن ، ولا المشتري يملك المثمن ، ولو وقع هذا البيع الفاسد ومضت عليه عشر سنوات فإنه لا يزال المبيع ملكا للبائع والثمن ملكا للمشتري، الباطل لا يغيّر في الحقيقة شيئا ، هذا الذي نهي عنه ويقتضي فساد البيع يأتي من أربعة أسباب بينتها أدلة الكتاب والسنة ، فهذه منهيات أربعة هي أصول لفساد عقد البيع :
أولها : تحريم عين المبيع .
وثانيها : الربا .
وثالثها : الغرر .
ورابعها : اشتمال البيع على شرط ينتهي إلى الربا أو إلى الغرر أو إلى مجموع الأمرين .
إذن هذه أربعة أسباب اصطلح أهل العلم على تسميتها بأسباب فساد البيع العامة ، أي بيع وجد فيه سبب من هذه الأسباب حكمت ببطلانه ، وعدم صحته .(5/278)
هناك أسباب خاصة ، هذه الأسباب الخاصة التي لا تقتضي فساد البيع ، تأتي لأسباب عارضة ، والعقد في ذاته مستوف للشروط ليس عليه أي غبار فهو صحيح ، ولكن المكلف يحرم عليه أن يفعله على وجه ما مثلا : تجد الشريعة نهت عن البيع بعد أذان الجمعة ، فحينئذ يحرم عليه أن يبيع ويشتري بعد أذان الجمعة ، لكنه لو باعه واشترى فالعقد من حيث الأصل مستوف للشروط الشرعية : أركان العقد وشروطها مما ذكرنا في البائع والمشتري والمبيع ، ما يوجد خلل لا في البائع ولا في المشتري ولا في المبيع ، ولا في الصيغة . فأصبح مكتملا ، فإذا اكتمل توجه الخطاب الشرعي والنص في قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } فإذا تم العقد بالصفات التي وضعتها الشريعة كاملة حكمنا بإمضائه ، ولكن نقول : إن الله نهى عن إيقاع هذا البيع في هذا الوقت ، فلما اجترأ المكلف على إيقاعه حكمنا بإثمه بمخالفته للشرع ، ولكن العقد لا نستطيع أن نفسده ؛ لأننا وجدناه على حسب الصفات التي وضعتها الشريعة كاملة ، هذا الذي يجعل جمهور العلماء رحمهم الله يفرقون بين ما يرجع إلى ذات البيع وما كان راجعا إلى أمر خارج عن البيع . حينما نهى عن بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سوم أخيه ، فالبيع من حيث هو مستوف للشروط ، تقول : عندي أدلة شرعية على أنني إذا وجدت العلامات والأمارات التي نصّبها يعني أقامها الشرع للحكم بالصحة أحكم بالصحة ، وحينئذ أقول : وجدت هذه العلامات كاملة فأقول : البيع صحيح ، ولكنه ظلم أخاه المسلم وآذاه فهو آثم من هذا الوجه .(5/279)
إذن هذا الذي يكون لسبب خاص إما أن يكون في الزمان في الوقت المستحق لما هو أهم ، وهذا السبب الذي هو بيع بعد أذان الجمعة نعتبره سببا دينيا ، ومن أمثلته : بيع المصحف للكافر ، بعض العلماء يرى أنه سبب ديني ، ولكنه يوجب الفساد ؛ لماذا ؟ لأصل خارج عن البيع ، وهو سد الذرائع، كبيع السلاح في الفتنة إذا علم أنه سيستخدم في قتل المسلم ، هذا يسمونه السبب القوي العارض ، هذا خارج عن العقد كليا ، ولهذا تجد أنه يوجب الفساد ويوجب الفسخ للعقد ، وبعض العلماء لا يرى فيه الفسخ وإنما يرى فيه تحريما ، ويحرم بيع المصحف للكافر ، لأن حالة امتهانه في بعض الأحوال وليس في كلها ، فقد يقرأه ويتوب ويسلم . السبب الديني منها بيع المصحف للكافر ، ومنها البيع بعد أذان الجمعة هذا كتصنيف لهم للأسباب .
أما بالنسبة للأسباب الأخرى الخارجة عن الدين فهي عامة وخاصة ، وغالبا لا يحرم الله لسبب عام أو بسبب خاص إلا بسبب وجود الضرر ، فقد يكون الضرر خاصا ، فينهى الله - عز وجل - عن البيع من أجله ، مثل ما ذكرنا في بيع الرجل على بيع أخيه ، فإنه إذا باع على بيع أخيه أضر بالبائع ، وهنا ضرر خاص ببائع واحد ، ولكن قد يكون الضرر عاما مثل تلقي الركبان وبيع الحاضر للبادي ؛ لأن هذا يرفع أسعار السوق ، ولكن إذا تُرك البادي يبيع سلعته ، فإنه يقنع بالقليل ، ولا يطمع ، وحينئذ ترخص الأسعار ، ويكون فيها رفق .
تلقي الركبان فيه ضرر عام بالركبان ؛ لأن الركب سيتضرر لا يعرف قيمة السوق ، فيأتي التجار ويقابلونه قبل أن يدخل أسواق المدينة حتى لا يعلم بالسعر ، ويشترون بثمن أقل فيتضرر .
إذن هذه المنهيات منها ما يوجب الفساد ، ومنها ما يوجب الإثم والعقد صحيح .(5/280)
العلماء رحمهم الله في أسباب الفساد العامة منها ما يركب شرطا من الشروط لصحة البيع ، ولذلك حينما تقول الأربعة الأسباب العامة : تحريم عين المبيع ، الربا ، الغرر ، الشروط التي تؤول إليهما أو إلى واحد منهما ، تجد مثلا : تحريم عين المبيع كبيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام كما تقدم معنا في حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام )) فهذه إذا بيعت البيع فاسد ، ولا يملك به ثمنا ولا مثمنا ، أصلا ما لها قيمة ، أسقط الشرع قيمتها ، فلا يجوز بيعها فلا تستحق بالعقد .
كذلك أيضا الربا لو أنه صرف الريالات التي معه صرفا فيه ربا الفضل أو فيه ربا النسيئة أو الاثنين ، فإننا نحكم بفساد العقد ، وردّ الريالات ، وردّ الدولارات .
يكون الصرف فيه ربا الفضل مثل أن يصرف العشر الريالات الورقية بتسع ريالات معدنية فهذا ربا الذي لعنه الله آخذه ومعطيه ، وسيأتي إن شاء الله بيانه وبيان السبب في ذلك . هذا ربا الفضل . لو قال له : اصرف لي هذه العشرة الريالات فأعطاه ثمانية ريالات وقال له : بعد ساعة أعطيك الريالين ، أو مُر عَلَيّ فيما بعد أعطيك ريالين ، هذا ربا النسيئة ، أو اشترى منه شيئا بثماني ريالات فأعطاه عشرة وبقي ريالان وقال: ما عندي ترجع لي فيما بعد ، فهذا ربا النسيئة ؛ لأنه لما اشترى بثمانية ريالات هذا عقد بيع، وبقي الريالان من العشرة في مقابل ريالين متفرقة صرف يجب أن يكون يدا بيد.(5/281)
كذلك الغرر ، الغرر فيما ذكرنا مثل بيع الجنين في بطن أمه ، مثل بيع المعدوم ، هذه كلها قد تكون عقودا تنتهي إلى الربا أو إلى الغرر ، مثلا بيع العينة ينتهي إلى الربا ، قال له : أبيعك هذه السيارة بمائة ألف مقسطة على سنتين بشرط أن تبيعنيها نقدا بتسعين ألفا ، قال : قبلت وهو يريد السيولة ، بشرط أن تعطيني نقدا هو حتى ولو لم يقل له بشرط لم يجز ؛ لأنه بيع عينة ، فإذا اشترط صار الشرط يؤول إلى الربا ، فصارت حقيقة الأمر أنه أعطاه التسعين المعجّلة نقدا في مقابل المائة الألف إلى أجل ، وهذا عين الربا ، وسيأتي تفصيله –إن شاء الله- في موضعه .
إذن عندنا أسباب فساد عامة توجب فساد البيع ، وأسباب فساد خاصة .
تلاحظ أن البيوع التي تقدمت معنا أكثرها توجب فساد البيع ، وأكثر صورها في الغرر ، وسيذكر المصنف رحمه الله أيضا بقية لهذه البيوع منها ما يرجع إلى الغرر ، ومنها ما يرجع إلى الضرر ، سواء كان عاما أو خاصا ، فشرع رحمه الله في ذلك في قوله : [ فصل ] .(5/282)
يمتاز هذا الفصل بأن المصنف رحمه الله ذكر فيه ما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سنته ، وانظر كيف تكون المتون الفقهية التي يجترئ بعض من يجهلها ، ومن جهل شيئا عاداه ، يقول لك : المتون الفقهية مجرد آراء ! ويل له إذا وقف بين يدي الله - عز وجل - ، فكذب على العلماء ، وكذب على أهل العلم ، وغش أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - باتهامهم بأنها مجرد آراء ، وستكتب شهادتهم ويسألون ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله حينما يزهّد في كتب العلم ، أنتم الآن تنظرون نأتي بالعبارة ونأتي بأدلتها المتكاثرة بالكتاب والسنة ليس العيب في هذه الكتب ، ولكن العيب في الجهل بها وعدم العلم بما فيها ونقدها ظلما وزورا ؛ ولذلك هذه المتون الفقهية بالاستقراء والتتبع وبخاصة كتب العلماء ومتون الأئمة التي دُوِّنت في العصور التي كان فيها العلماء والجهابذة مدروسة بعناية ، والله ، إني في بعض الأحيان أقرأ المتن لا أفرق بينه وبين الباب في صحيح البخاري ومسلم حتى في ترتيب الأفكار والمسائل ، لكن يعرف هذا من درس دراسة علمية بإنصاف ووعي ، ولذلك هذا الاحتقار لأهل العلم واحتقار هذه الكتب ما ضاعت الأمة إلا بالانفلات ، كانت الأمة في القديم كل من يتكلم بفتوى يقال له : على أي أصل بنيته ؟! ومن أي مذهب أنت ؟ دواوين العلم وأئمة العلم كل مذهب له أصوله ، فبمجرد أن يخرج عن هذه الأصول يقولون : هذا شيء من عندك ، ما كان أحد يستطيع أن يعبث بالفتاوى أيام العلماء ، حينما كانت هذه الكتب تعطى حقها من الدراسة والوعي والفهم ، ولكن بمجرد ما انسلخ طلبة العلم عن هذا التراث العظيم المستنبط من الكتاب والسنة أصبحت الأمور شذر مذر ، يأتيك بالفتوى والله ما تعرف هو في الشرق ولا في الغرب ، ولو جئت تجادله كما قال الإمام الشافعي: (( جادلني عالم فجدلته –لأنه في أصول يرجع إليها- ، فجادلني جاهل فجدلني –غلبني- )) لأنك ما تعرف كيف تقنعه ، والسبب في(5/283)
هذا عدم الانضباط في هذه الكتب ، وكانت فيها من الخير والبركة للأمة ، لو كانت مجرد آراء ما وضع الله لها القبول ، وانتفعت بها الأمة في القضاء ، وانتفعت بها في الفتوى ، ونحن نقرر هذا ؛ لأن هذا من حق أهل العلم الذين انتفعنا بعلمهم أن نكون منصفين في الحكم على كتبهم . فالشاهد من هذا انظر إلى هذا الفصل بكامله ، كله من السنة : ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى يعلم الإنسان أن الجرأة على أهل العلم –والعياذ بالله- تورد صاحبها الموارد ، وأن التكلم بالعلم بالتهور وعدم الانضباط أنه دحض مزلة ، ولكن عليه أن يزم نفسه بزمام الورع ، وإذا تكلم عن الشيء يتكلم عن علم وعن معرفة ، وإذا جئت تريد أن تسمع من أحد يتكلم في كتب العلماء فلا تسمع رحمك الله إلا لمن قرأها وعرفها . أما الذين يجهلونها ولا يعرفونها فهم يعتذرون عن جهلهم ويغطون جهلهم بأنها مجرد آراء ، ولو سألت أحدهم في الربا الصراح في مسألة من مسائل الربا الدقيقة العويصة لما حك بها رأسه ، ولربما تأتيه بأوضح الأدلة في تحريم الربا لما عرفها ولما استطاع أن يأتيك به سليما كاملا ، هذا كله سببه الجرأة على كتب العلماء ، هذا الفصل بكامله من السنة .(5/284)
وهكذا أئمة العلم ودواوين العلم رحمهم الله ، لكن ليس معنى هذا أن هذه المتون معصومة ، بل إن أصحابها الذين ألفوها رحمهم الله بينوا ما عندهم ، وقالوا نحن نعتقد هذا لكذا وكذا ، وبينوا حجتهم ودليلهم ، فما كانوا رحمهم الله يعتقدون لأنفسهم العصمة ، لكن انظر إلى المتأخرين ، تقرأ في هذه الكتب وإذا به يعطيك الحكم مستنبطا من دليله أو يقرر لك المتن وأنت ترجع إلى كتب متخصصة مثلا المتن ما يذكر فيه الأدلة غالبا ، ترجع إلى الشروحات تجد أدلة المسألة نقلية أو عقلية أو هما معا ، فأعطاك ما عنده ، لكنه ما قال لك : إني وحدي صاحب السنة ! وما قال لك : الذي يخالفني يعتبر مخالفا للسنة ! لكن تعال إلى المتأخرين ، وإذا به يحتكر المسألة كلها وهي مسألة فرعية اختلف فيه العلماء والأئمة يحتكر أنه ما يعرف السنة أحد غيره ، وأنك إذا خالفته فأنت عدو السنة ، تأتي إلى مسألة مثلا في البيوع في العبادات في المعاملات ... يعطيك مقدمة كاملة عن حجية السنة { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } يشعر من يقرأ له أنه لا يمكن أن تقع عينه على سنة إلا من خلال كتبه أو آرائه أو فتواه ، من الذي كان يحتكر ؟! هؤلاء ذكروا هذا العلم وتركوا لك أن ترجع إلى الأمهات ، أن تميز بكل أمانة ، بل إن الواحد منهم يخاف من الأتباع ، بل إنه يذكر علمه لأنه لا يريد أن يكتم علمه ، لكن ليس معنى كلامنا كما ذكرنا أن نعتقد فيهم العصمة ، لكن نقول والله ، إنهم علماء ، وكما قال الله : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } إنما الطامة الكبرى أن تأتي في مسألة فرعية من مسائل العبادات والمعاملات وتخاطب الأمة على أنه لا يعلم السنة فيها أحد غيره ، ولا تغتر بفلان ولا تشتغل بفلان ، وهؤلاء هم كذا ، والحنفية رأييون ، والمالكية كذا ! هذا ما يصلح ، ولا قامت الدنيا باحتقار أهل العلم ولا قعدت ، إنما تقوم بالعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، أن تذكر(5/285)
قولك بكل أمانة وتذكر دليله ، وتنصح للأمة وتقول : هذا ما عندي ، وهذا مبلغ علمي ، وهذا الذي أعذر به إلى الله بتبليغ الرسالة ، ولا تحتكر الأمة كلها تبعا لك، هذا هو الذي درج عليه العلماء والأئمة والصالحون في كل زمان ومكان من سلف هذه الأمة ومن بعدهم .
فالشاهد من هذا أننا ننبه على مسألة اتهام المتون الفقهية بأنها مجرد آراء محضة ، وأنها لا تعتني بالدليل ، وهم طبعا الفقهاء عندهم منهج يذكرون الفقه في مكانه ، والحديث له كتبه ، والتفاسير لها كتبه ، وإذا قرأت التفسير علمت أدلة الكتاب ، حتى توجد تفاسير متخصصة في دلالة الأدلة وهي آيات الأحكام : أحكام القرآن للجصاص، وأحكام القرآن لابن العربي، وأحكام لإلكيا الطبري رحمة الله على الجميع لأن هذا هو تخصصهم .
فالشاهد من هذا أن المتون الفقهية تعتني بالسنة، وليس هناك أحد في المذاهب الأربعة لا يعتني بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل هم أئمة الدين الذين زكّتهم الأمة لنا، ونحن على ما سار عليه سلف الأمة وخلفها الصالح من تعظيم الأئمة الأربعة وإجلالهم : الإمام أبوحنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، وأحمد، رحمة الله عليهم أجمعين، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفاه، ورزقنا حسن الاتساء بهم على الوجه الذي يرضي الله تعالى .
يقول المصنف رحمه الله : [ فصل ] : قال رحمه الله : [ ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الملامسة ] : ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الملامسة : النهي ثابت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عن الجميع .
وأجمع العلماء على أنه ثابت عنه عليه الصلاة والسلام ، وحقيقة الملامسة : مفاعلة من اللمس، والمفاعلة تستلزم وجود شخصين فأكثر كالمقاتلة والمخاصمة والمشاتمة، فإن الإنسان لا يخاصم نفسه، ولا يشاتمها.(5/286)
الملامسة من اللمس وهو الإفضاء بالبشرة إلى الشيء، والأصل فيها الإفضاء باليد إلى الشيء، وهذا النوع من البيوع كان في الجاهلية، والعلماء رحمهم الله اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه: وهذه الثلاثة الأوجه كلها بالإجماع محرمة ، لكن الخلاف هل النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد هذه الصورة أو هذه الصورة أو هذه ؟ أما كونها كلها محرمة فكلها محرمة، فمن حيث الحكم فمتفق عليه، إنما المراد ما الذي عناه النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ .
القول الأول : أن الملامسة أن يقول له : أبيعك الثوب على أن يقوم لمسك مقام نظرك . أبيعك الثوب على أن يقوم لمسك مقام نظرك .
القول الثاني : قالوا : أن يقول له : إذا لمست الثوب فلا خيار لك .
والقول الثالث : أن يتبايعا باللمس دون الفتش ، وهذا هو تفسير أبي هريرة - رضي الله عنه - وبعضهم يقول : يتبايعان ليلاً ، ولكن تفسير أبي هريرة - رضي الله عنه - عام .
بالنسبة لقوله : أبيعك الثوب على أن يقوم لمسك مقام نظرك . المراد بذلك : أنه يفرش له الثوب أمامه، ويضع أمامه الثوب فيأتي ويلمس، ولكن ما يفتش الثوب ولا يفتحه، لمسك مقام نظرك قالوا في هذه الحالة تكون العلة هي جهالة صفات المبيع ؛ لأن المبيع يعرف باللمس، ويعرف بالفتش، وهو منعه من الفتش، وحينئذ لاشك أن الصفات تكون غائبة عنه .
القول الثاني : أبيعك إذا لمست فلا خيار لك، هذا النوع من الألفاظ يقصد به قطع الخيار عن المشتري، فالمشتري بالخيار، إن شاء أتم البيع أو لم يتمه، لكن يقول له : لو وضعت يدك على الثوب فلا خيار لك، في هذه الحالة يكون الغرر أشد من الحالة الأولى؛ لأن الحالة الأولى يلمس الثوب فينظر هل هو خفيف أو ثخين، يتلَمّس ويتحصّل على بعض الصفات، لكن هذا بمجرد أن يأتي ويريد أن يلمس فإذا حصل منه اللمس قطع عليه الخيار وأوجب عليه البيع .(5/287)
الصورة الثالثة : أن يتبايعا، ويلمس كل واحد منهما ثوب الآخر ولا يفتشه، فهي قريبة من الصورة الأولى . وهي وجه ثالث عند الشافعية .
والصورة الأولى : وهي أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك فهي مذهب الجمهور. وهي التي فسر بها بعض الرواة كأبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها .
في الصورة الأولى أن يقول له : أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك لا يشترط أن يتكلم، كانوا في الجاهلية يعرفون هذا، ويتعارفون عليه بدون كلام، بحيث إنه يأتي ويقوم بلمس الثوب دون فتشه، يكون هذا متعارفاً عليه، لكن العلماء ذكروه ، في هذه الصورة يعني يلاحظ أن هذه الصور استنبط منها بعض العلماء فوائد في حالة قوله : أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك تكون العلة جهالة المبيع، في حالة الملامسة أن يلمس الثوب وكل منهما يقوم باللمس على أنه إشارة على إتمام العقد، العلة في هذا واضحة وهي عدم استتمام الرؤية والكشف عن حال المبيع، في كلتا الحالتين تتخرج صورة معاصرة في زماننا تكون شبيهة ببيع الملامسة في الجاهلية، لأنه الآن ما تجد واحداً يقول لك: أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك يعني كما كانوا في القديم، ولكن قد توجد صور من البيع شبيهة بما كان يفعلها أهل الجاهيلة، مثلا الآن تجد الثوب داخل الكرتون أو مغلّفاً، فيقول لك : إذا فتحت الغلاف فحينئذ تدفع قيمة الثوب، الثوب واجب عليك، بمجرد أن يفتحه، لأنه سيفتح من أجل أن يفتشه، فلما منعه من الفتش كان كقول الآخر : أبيعك الثوب على أن يقوم لمسك مقام نظرك، يعني لا تفتشه، والمعنى واحد فيهما، ومن هنا إذا بيعت الأشياء المغلّفة من الثياب وغيرها وقال له : إذا فتحتها إذا فتشتها، إذا فككتها، إذا قلّبتها، وجب عليك البيع، فهذا مثل قوله : أبيعك الثوب، مثل قوله : إذا لمست الثوب فقد وجب عليك البيع، لو قال البائع الآن: أنا عندي ثياب، وكل زبون يأتي ويفتش الثياب ويفتحها هذا(5/288)
يضرني، لأن عرض الثياب وجودة العرض تؤثر في رغبة الزبون وحسن عرض البضاعة، فأنا أتضرر إذا سمحت لكل زبون أن يفتش البضاعة، لأنه يفتشها ويقول: ما أريدها، فحينئذ أنا متضرر، فأصبحنا بين ضررين، المشتري يقول: أريد أن أعرف صفات الثوب والمبيع، والبائع يقول: إذا مكّنتك من ذلك أضررت بالسلعة وأضررت بعرضي، فالحل نقول : أخرج ثوباً هو عينة للثياب الموجودة المغلّفة، وحينئذ يخرج عينة من كل صنف تختلف صفاته، حتى إذا جاء المشتري نظر إلى الصفات وتمكّن من معرفة المبيع، هذا بالنسبة لبيع الملامسة .
قال رحمه الله : [ وعن المنابذة ] : المنابذة مفاعلة من النبذ، أصل النبذ: الطرح، يقال: نبذ الشيء إذا طرحه، ومنه سمّي النبيذ نبيذاً ، لأنهم كانوا يطرحون الرطب و التمر والبلح في الماء والسقاء، والمراد بالمنابذة فيها ثلاث صور كالملامسة :
الصورة الأولى : أن يقول له : أي ثوب أنبذه عليك فهو عليك بعشرة .
والصورة الثانية : إذا نبذت الثوب فلا خيار لك .
والصورة الثالثة : أن يتنابذا، ويكون هذا عرفهم في البيع . هذه ثلاث صور :
أما الصورة الأولى : أي ثوب أنبذه عليك. فالسبب في تحريمه يقول له : أي ثوب أرميه عليك فهو عليك بكذا، كانوا يفعلون هذا في الجاهلية، فإذا نبذ عليه الثوب ألزمه به، وفي بعض الأحيان أي شيء ينبذه عليه يقف عليه، فإذا نبذه عليه ألزمه، طبعا العلة فيه جهالة المبيع، جهالة صفات المبيع قد ينبذ عليه ثوباً جيداً ، وقد ينبذ عليك ثوباً رديئاً، وقد ينبذ عليه ثوباً جيداً لكن لا يريده ولا يرغب فيه، وقد ينبذ عليك ثوب الصيف في الشتاء، وينبذ عليك ثوب الشتاء في الصيف، لأنه قال لك: أي ثوب، فأنت ملزم بمجرد نبذه لك ، جاهلية! ، فالشريعة حرمت هذا؛ لكونه مشتملاً على الغرر.(5/289)
ثانياً : إذا نبذت الثوب فلا خيار لك، هذا حق الخيار للمشتري، فإذا أراد البائع أن يقطعه عليه غرّر به، ومن هنا يتركه يفكّر، فإذا جاء يفكّر لم يشعر إلا والثوب قد نبذ عليه ولزمه البيع .
في الصورة الثالثة : وهي أن ينبذ كل واحد منهما للآخر وهي كما قال الحافظ ابن حجر أقرب لظاهر الحديث في لفظ المنابذة، لأنها من شخصين، ماذا كانوا يفعلون في هذه الصورة؟ إلى الآن في القرى والهِجر شيء يعرف بأسواق الأيام، يعني سوق الخميس، سوق السبت، سوق الأحد، فإذا جاءوا في هذه الأسواق يعرضون ما عندهم، كانوا في الجاهلية يعرضون ما عندهم يقف الرحل وعنده ثوب يريد أن يبيعه يضع الثوب أمامه، ويقف في السوق هكذا ويأتي من يشتري وعنده أي متاع أخر يحمله معه يريد أن يبيعه، فرضنا أنه مثلا عنده ثوب لكن من نوع ثان، أنت وضعت الثوب أمامك ووقفت، فيأتي هو وينظر إلى ثوبك، ما يلمسه ولا يفتشه فقط ينظر إليه ، ويعرف أنه من النوعية التي يريدها، ماذا يفعل؟ يقوم ويرمي الذي بيده، كأنه يقول لك : أنا أرغب أن آخذ الذي عندك بهذا الذي نبذته سواء كان مثله أو شيئا آخر، فإذا أعجب البائع الذي نبذه يقوم ويرفع الثوب من الأرض الذي له ويرميه له، فيجعلون هذا النبذ قائم مقام: بعتك، واشتريت، هذا عرف عندهم، حتى لو جاء مثلا عنده سلاح واضع على الأرض مثلا سيفا وجاء الآخر بثوب فيأتي ويقف بالثوب أمام السيف ويرميه، فإذا أعجب صاحب الثوب قام ونبذ السيف له كما نبذ له، هذا عرف عنده في الجاهلية، أما إذا لم يعجبه فإنه تنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة ما يتحرك؛ لأنه لو حرّك الثوب يلزمه حتى ينصرف، يعلم أنه إذا وقف ولم ينبذ له ما عنده يعني معناه توكّل على الله .(5/290)
إذًا هذه الصورة في الحقيقة فيها إشكال عند العلماء، أخذ منها بعض الشافعية دليلاً على عدم صحة بيع المعاطاة، بيع المعاطاة التي ذكرناها بالأمس وهو أن تأتي وتأخذ البضاعة من البقالة أو من السوق وتدفع الثمن وهو مكتوب عليها أو تعرف سعرها فتدفع الثمن وتأخذ البضاعة دون أن تتكلم، ودون أن يتكلم البائع، فهذا مثل النبذ قالوا؛ لأنه سبب التحريم في هذه الصورة عدم وجود الصيغة وهي : بعتك واشتريت، والصحيح أن سبب التحريم هو جهالة المبيع، وليس عدم وجود الصيغة، وعلى هذا فبيع المعاطاة صحيح كما سيأتي - إن شاء الله - ، والعلة في الصورة؛ أنه سينبذ لك ثوباً لا تفتشه، ولن تستطيع أن تعرف حقيقته، وهو أيضاً لا يعرف حقيقة ثوبك، فهذه جهالة صفة المبيع، هذه الثلاث الصور هل في زماننا شيء يشبهها ؟ نعم في زماننا الآن تأتي إلى البقالة فتجد شيئا يعجبك وتقول للبائع: نزّلْ لي مثلا هذا الشيء الذي على الرفّ، يقول لك: إذا نزلته تدفع عشرة وتأخذه، بمعنى ألزمك بالبيع بتنزيله، مثل قوله: إذا نبذت الثوب فقد وجب عليك البيع، نفس الشيء البائع يقول: أنا ما أستطيع كل ما جاء زبون أنزل له البضاعة وهو له الخيار أن يترك البيع، فهذا يجحف بي ويؤذيني، ولو قلنا للزبون إنه يُلزم بالبيع تضرّر بأخذ المجهول، ما هو الحل؟ نفس الحكم في الصورة الأولى أنه يجب عليه أن ينزّل عينة تشبه الذي في الأعلى ويفتحها للزبون ويمكّنه من رؤيتها والعلم بصفاتها .(5/291)
قال رحمه الله : [ وعن بيع الحصاة ] : يلاحظ الآن أن المصنف - رحمه الله - طبعاً لا زال يسرد ما وردت السنة به، نهى عن الملامسة، ونهى عن المنابذة، وعن الحصاة، وبيع المنابذة طبعا ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك تعليقاً عند البخاري – رضي الله عن الجميع- ، وأما بالنسبة لبيع الحصاة فهو ثابت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : (( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحصاة )) .
بيع الحصاة: الحصاة واحدة الحصى الحجر المعروف، وهذا النوع من البيع كانت له صور :
قال بعض العلماء : أن يقول البائع للمشتري: أبيعك من أرضي ما انتهت إليه حصاتي بمائة، فكان إذا جاء يشتري منه الأرض يقول له : أبيعك منها بقدر ما أرمي الحصاة، فيرمي الحصاة جاءت قريبة أو بعيدة هذا القدر يدفع القيمة المتفق عليها بين الطرفين ويلزمه، ما هي العلة ؟ جهالة قدر المبيع؛ لأنه في المذروعات، والجهالة وقعت في القدر لا نعلم هل سيكون كبيراً أو صغيراً .
الصورة الثانية : أن يقول له : إذا رميت الحصاة فلا خيار لك ، وهي قطع الخيار، مثل ما تقدّم في المنابذة، يجلس يفكر هل يأخذ أو لا يأخذ، وإذا به يرمي عليه الحصاة، فإذاً يؤذي البائع المشتري ويقطع عليه حقه في الخيار .(5/292)
الصورة الثالثة : أي شيء تقع عليه حصاتي فهو عليك بمائة، أو بعشرة، يكون أمامه مثلا لو كان أمامه قطيع من الغنم قال له : أبيعك شاة من هذا القطيع، طيب أيها؟ يقول: أنا أرمي الحصاة فأي شاة أصابتها الحصاة فهي عليك بعشرة، أمامه ثياب، فيقول له : أنا أرمي الحصاة أي ثوب تصيبه الحصاة فهو عليك بعشرة، طبعاً هذا مثل ما تقدم معنا في عدم التعيين ( تعيين المبيع ) ، وتكون العلة فيه الغرر، في الحقيقة هذه الثلاث الصور مجمع على تحريمها، في زماننا شيء يشبه بيع الحصاة، وهو موجود في بعض البلدان الإسلامية ، وهو ما يسمى ببيع الطوق، والطوق يأخذون طوقاً دائرياً ، ثم يضعون أشياء عديدة، ويكن أجود الأشياء وأفضلها بعيداً عن الرامي، فيقول لك: الرمية من هذا الطوق بعشرة أو ادفع عشرة وارم الطوق، إن وقع على شيء جيد فهو لك، وإن وقع على شيء ردئ فهو لك، وإن وقع خارج الأشياء فلا شيء لك، فيأخذ الطوق ويرمي دفع عشرة قد يقع على شيء قيمته مائة، وقد يقع على شيء قيمته ريال، وقد لا يقع على شيء فلا شيء له، فهذا عين الغرر، وهو من أكل أموال الناس بالباطل، مثل قول أي شاة تقع عليه حصاتي فحينئذ باعه شيئا مجهولاً، عدم التعيين، هذا حاصل ما يقال في بيع الملامسة والمنابذة والحصاة.(5/293)
في السنة اللفظ والمعنى، فالنبي –- صلى الله عليه وسلم -- حرّم أشياءً، ولكن ينبغي أن نعلم ما هو السبب والمعنى الذي من أجله حرمت هذه الأشياء، فإذا علمنا المعنى ووجدناه في أي صورة في أي زمان أو مكان حكمنا بالتحريم؛ لأن الشريعة تعتني بوضع القواعد العامة والمعاني العامة حتى يصلح أن يلحق الفقيه المسكوت عنه بالمنطوق به، ولذلك استخدم الصحابة القياس، وعمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري في كتابه المشهور الذي شرحه الإمام ابن القيم في الأعلام في أكثر من مائة صفحة وفيه الأمر بالقياس، وقال أبوموسى الأشعري –- رضي الله عنه -- كما سيأتي في الربا حينما ذكر قال : وكذلك ما يكال، والرواية عنه صحيحة، وكذلك أي مثل ذلك كل شيء يكال، فألحق المسكوت عنه من المكيلات غير الموجودة في زمان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بالمنطوق به، أو حتى الموجود وعليه فإنه يلحق المسكوت عنه بالمنطوق به إذا شاركه في العلة إذا كان المعنى واحداً نقول : هذا حرام؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- حرّم هذا من أجل هذا، والذي من أجله حرُم هذا موجود في الشيء الذي حكمنا بحرمته في زماننا .
قال رحمه الله : [ وعن بيع الرجل عن بيع أخيه ] : ونهى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الرجل على بيع أخيه، والحديث ثابت في الصحيحين عنه – عليه الصلاة والسلام- من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وابن عمر رضي الله عن الجميع وغيرهما .
نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرجل على بيع أخيه، وكذلك قال : (( لا يبع بعضكم على بيع بعض )) وقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ولا يبيع الرجل على بيع أخيه)) وقال : (( ولا يبيع أحدكم على بيع أخيه )) .
وكذلك أيضا ثبت في صحيح مسلم وغيره : (( أنه نهى عن سوم الرجل على سوم أخيه ))، وهذا كله صحيح وثابت، بيع الرجل على بيع أخيه، وسومه على سومه .(5/294)
بيع الرجل على بيع أخيه أجمع العلماء على أنه محرّم أن يبيع الرجل على بيع أخيه مجمع على أنه محرم والخلاف هل يوجب الفسخ أو لا ؟ .
وبيع الرجل على بيع أخيه أن يكون عند ميل البائع للمشتري والمشتري للبائع، وهو الذي يسمّيه العلماء بالركون، أن يركن كل منهما للآخر، كأنه يعني ارتاح لكلامه ويريد أن يمضي الصفقة، لكن ما تم البيع، ففي حال الركون لا يجوز سواء في البيع أو في الخطبة في النكاح لا يجوز له أن يبيع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبته، والركون أن يعرض عليه مثلا يقول له : عندي سيارة من نوع كذا وكذا بمائة ألف، فنظر المشتري فصار يسأله كيف صفاتها؟ كيف أوصافها التي فيها ؟ والأشياء التي يسأل عنها، وكأن هناك رغبة، لأنه من البداية إذا كان مائة ألف يقول: ما أريدها، لكن هذا بدأ يسأل وعنده ميل أن يأخذ هذه السلعة، فإذا بالآخر يقول : أنا عندي سيارة مثلها أبيعكها بتسعين ألفاً أو بثمانية وتسعين، يعني بثمن أقل من ثمن الأول .
كذلك أيضا يقع في وقت الخيار في المجلس، لاحظ عند الركون، وعند خيار المجلس في حال الخيار يعني مادام أنه قال له : بعني سيارتك بمائة ألف، قال: قبلت، وتبايعا، وتمت الصفقة، لك الخيار ما دمت في المجلس أن تفسخ العقد سواء عندك عذر أو ما عندك عذر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )) في هذا الوقت في حال الخيار قال له : أنا عندي سيارة مثلها أبيعها لك بأرخص، فحينئذ لا يجوز، إذاً في جميع هذه الصور يحرم بيع الرجل على بيع أخيه .(5/295)
السوم إذا سام منه وقال له : سيارتك هذه تعجبني أشتريها منك بمائة ألف فما رأيك؟ الرجل كأنه رغب قال: تدفع لي نقداً أو شيكاً يفاوضه وركن إليه ومال إليه، وأعجبه السوم لكن لم يوجب البيع، فيقول له الآخر: أنا أشتريها منك بمائة وعشرة يعطيه قيمة أكثر من قيمة الأول، قال: أرضي ومزرعتي أريد أن أبيعها، قال له : أرضك ومزرعتك أشتريها منك بمليون ما رأيك يا أبا فلان ، قال: والله مليون كأنه يعني راضي بالشيء، قال: طيب المليون كيف تعطيني إياه، ما قال طيب لا ليس معي، قال: كيف تعطيني إياه نقداً ما حصل تأخير، ما حصل تأخير، فدخل الآخر وقال: أنا أشتريها منك بمليون ومائة ألف، أشتريها منك بمليون ومائتين، أشتريها منك بمليون ونصف، أشتريها منك بمليونين، هذا في حال الركون.
في حال خيار المجلس نفس الشيء يقول له : أشتري منك أرضك الزراعية مثلا بمائة ألف - في حال الخيار من أهل العلم من يجعله خاصا بخيار المجلس، ومنهم من يجعل خيار الشرط كأن يجعل خيار مدة معينة ثلاثة أيام أو أسبوع- فيأتي ويدخل عليه صفقة غير الصفقة التي رغب فيها، أو يطمّعه بثمن وسوم أغلى من الثمن الذي أعطاه المشتري، كل هذه الصور تعتبر داخلة في نهي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الرجل على بيع أخيه، وعن سوم الرجل على سوم أخيه، وللعلماء وجهان في قوله : على بيع أخيه: منهم من قال: هذا خاص بالمسلم فلا يلتحق به الذمي .(5/296)
ومنهم من قال : إن قوله على بيع أخيه خرج مخرج الغالب، ولم يعتبر مفهومه، فلا يبيع على بيع المسلم ولا على بيع الذمي، وفقه المسألة راجع إلى النهي هل هو خوف فساد الأخوة بين المسلم وأخيه؟ وهذا المعنى غير موجود في الكافر، أو هو لحقّ التعاقد بغضّ النظر عن كون العاقد مسلماً أو كافراً، يعني نظرت الشريعة إلى احترام العقود، فإذا وقع العقد بين رجل ورجل لا يأتي بين الاثنين لا يأتي ثالث ليفسد ما بينهما بغض النظر عن كونه مسلماً أو كافراً ، وعليه قالوا إنه على هذا الوجه يدخل فيه غير المسلمين .
وأما على الوجه الآخر فيجوز أن يبيع على بيع الذمي، وإذا وجد مسلماً مثلاً يريد أن يشتري من الذمي فيأتي هو ويبيع سلعته بأقل على المسلم ، وإذا وجد ذمياً يريد أن يسوم شيئا سام أكثر من سوم الذمي، الأول باع على بيعه، والثاني سام على سومه، فيشتري في السوم بأغلى من القيمة التي يسوم بها الذمي.
الأسئلة
السؤال الأول : فضيلة الشيخ : الأغذية المعلبة كالأجبان ونحوها وكذلك البطيخ ونحوه أليست مجهولة فكيف يصح بيعها . وجزاكم الله خيراً ؟
الجواب : بسم الله . والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد: كل المغلفات إذا وضعت عليها أوصاف وتميزت بهذه الأوصاف ولم تختلف عن هذه الأوصاف؛ صح البيع وجاز، فمثلا الجبن يكتب عليه نوعه، هو بقري أو غنمي، وتكتب صفاته التي لابد أن تعرف عنه على الغلاف، هذا الشرط الأول: أن يكون موصوفاً .
ثانياً : أن لا يختلف ما بداخله عن هذا الوصف، فإذا وصف وصفاً يتميز به وتزول به جهالته، ولم يختلف المبيع عن الصفة ؛ صح البيع وجاز. والله تعالى أعلم . سواء في الجبن أو غيره كثيرا من الأشياء إذا وصفت وصفاً كاملاً أو وصفاً تزول به الجهالة صح بيعها بشرط أن يتفق ما بداخلها مع تلك الصفات والله تعالى أعلم .(5/297)
إذا وجد أن المكتوب شيء، ووجد اختلاف في أي كلمة فإنه يكون له الخيار، يقال له : أنت بالخيار، إن شئت ترضى، وإن شئت تفسخ العقد، إذا اختلف خيار الرؤية في الأشياء الغائبة بيعها بالصفة؛ لأن الذي بداخل الغلاف غائب في حكم الغائب وإن كان حاضراً في مجلس العقد، لكنه مغيب، فإذا اختلف عنه كان له الخيار . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني : أشكل عليّ الجمع بين قوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } وقوله تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } وجزاكم الله خيراً ؟ .
الجواب : لا إشكال، الآية الأولى { لتسألن يومئذ عن النعيم } خبر، أخبر الله - عز وجل - فيها عن محاسبته لعباده - سبحانه وتعالى - عن كل ما يكونون فيه، ومن ذلك: ما يتنعمون به من الطيبات، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما دخل حائط الأنصاري، فأكل من رطبه وتمره وبسره، ثم شرب عليه الصلاة والسلام مع أصحابه ، فقال: (( والله، لتسألن عن نعيم يومكم هذا )) ، وهذا سؤال النعم، والدواوين تنشر للعبد يوم القيامة، فيها ديوان النعمة، هل شكرها؟ وديوان لحقّ الله - عز وجل - ، وديوان لحقوق العباد والمظالم التي له وعليه .
فديوان النعم هو الذي أشار الله - عز وجل - إليه بقوله : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } ، حتى الغطاء تغطى به رأسك، الفراش تفرشه تحت قدميك يسألك الله عن نعيمه، وبرد جنبك، وتسأل عن برد جنبك، وأن تضع جنبك على اللحاف، ونعومته ولذته يسألك الله هل ذكرته وشكرته ؟! هل شكرته بجنانك حينما اعتقدت الفضل له سبحانه ؟! وهل شكرته بلسانك فأثنيت عليه بما هو أهله؟! وهل شكرته بجوارحك فاستعنت به على طاعته ومرضاته ؟! وتقوّيت به على ذلك ؟! هذا يسألك الله - عز وجل - عنه .(5/298)
أما تحريم الطيبات فلا علاقة له بهذا البتة؛ لأن التحريم حكم، والمراد بذلك أن يحكم بأن الذي أحله الله على عباده حرام، فخالف شرع الله وغيّر دين الله { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده }، فهذا الحكم بتحريم ما أحل الله هو الذي عتب الله على من فعله وأنكره عليه - سبحانه وتعالى - ، لكن كَوْن البعض يفهم أما الامتناع عن بعض المباحات يدخل، يعني هو امتنع منها خوفاً عن أن يسأل { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } فإذا امتنع خوف أن يسأل فقد حرم الطيبات التي أخرج الله له، نقول : هذا خطأ، لأنه لا تلازم، لأنه امتنع خوفاً وخشية لله - عز وجل - ، يثاب على هذا، لكن لم يعتقد حرمتها، هو يقول : لا أريد أن أحاسب على هذا، فالله أعطاه أن يتنعم بها، وأن يتلذذ بها، على الوجه الذي يرضي الله ولا شيء عليه حتى لو حاسبه الله، يسأله فيجيب، فإذا هو اختار أنه لا يُسأل، ولم يعتقد التحريم فلا شيء عليه، لكن إذا قاد هذا الامتناع إلى الورع الكاذب فهو ممنوع، والورع الكاذب المبنيّ على الغلوّ، وعلى الشطط، والتنطع في الدين، ولذلك تجده مثلا يمتنع من الشيء ويتكلف في هذا الامتناع، ذُكر للإمام أحمد رحمه الله أن رجلاً لا يأكل اللوزنيج نوع من الحلوى، قال: لماذا؟ قال: إنه يقول إنه لا يستطيع أن يؤدي شكرها، يعني هذا الحلوى من لذتها وجمالها ما يستطيع أن يؤدي شكرها، فإذا جاء ضيف امتنع أن يأكلها، وإذا جاءته هدية امتنع أن يأكلها، يقول : إنه ما يستطيع أن يؤدي شكرها، فقال : أبعده الله، وهل يستطيع أن يؤدي شكر الماء البارد في اليوم الصائف؟! لأنه إذا جاء يريد أن ينظر بهذه النظرة هو اللوزنيج لوحده! فهذا نوع من الغلو الزائد عن الحد، كُلْ من طيبات الله واشكره، وكلْ من الطيبات واعتقد فضله، وكلْ من الطيبات واستعن بها على مرضاته ولا يضرك شيء. قال الإمام علي - رضي الله عنه - وأرضاه: (( إنك إن اتقيت الله لم يضرك ما لبست )) ، تلبس الغالي أو(5/299)
الرخيص، تأكل اللذيذ وغير اللذيذ، مادام أنك عندك تقوى الله ، وهذا الذي تأكله وتشربه وتتنعم به لا تتجاوز به حدود الله قرّت عينك، وهنأت نفسك ما دام أن هناك تقوى، فتجده يلبس أحسن ما يلبس وهو من المتواضعين، ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم ضربوا في هذا المثل، فكانوا لما جاءتهم النعم وفتحت الأمصار ما جاءوا يتقشّفون بالمرة ويتركون الدنيا، وإنما أخذوا هذه النعم فوضعوها تحت أقدامهم فتصدقوا بها على الفقراء، وواسوا بها الضفعاء، وأكلوا منها وشربوا، وحمدوا الله على ما أكلوا وشربوا، وكانوا يمنعون النفس أن تجمح، فأن تلبس مثلا لباسا طيبا لكن إذا وجدت النفس تغتر كبحت جماحها، فتجد من الأخيار ربما يلبس ثوبا طيباً فيجد أنه أُعجب به فيتصدق به، فهذا لم يحرّم طيبات ما أحل الله له، لبسه وتلذذ به فلما وجد النفس تجمح منعها، وقد يمنعها بالقول، وقد يمنعها بالتواضع، ولذلك كان أبوهريرة - رضي الله عنه - يصرع في المسجد حتى يأتي الرجل، ويضع يده على رقبته يظن أن به اللمم يقول - رضي الله عنه - : (( وما بي الجنون وما بي إلا الجوع )) - رضي الله عنه - وأرضاه من شدة الجوع، لأنه كان لا يشتغل لا ببيع ولا بشراء ملازما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين وعن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - خير الجزاء، وقال : (( إن إخواني من الأنصار كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وكنت أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني، أشهد إذا غابوا )) .(5/300)
وهذا الصحابي - رضي الله عنه - لما فتحت عليه النعمة وولي في الكوفة وأصبح في نعمة وخير، لبس يوما من الأيام ثوبا جميلا ومشى، فلما دخل أخرج المنديل من أجل أن يتمخّط أمام الناس، المنديل من العادة أن يمتخط فيه، فلما أخرج المنديل ليمتخط قال : (( بخ بخ أبوهريرة يتمخط في الكتان )) نفوس سامية، نفوس عالية، هذا الذي يأتي أمام الناس، وينطق بالتواضع، ويفعل فعل المتواضعين، من أكمل ما يكون إيماناً وصدقاً وإخلاصاً لوجه الله، ما يفعل هذا من أجل أن يقال إنه متواضع. لا، يفعل هذا وهو في مراتب الإحسان والإخلاص كما فعل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هذا الذي يفعل ذلك من أصدق الدلائل على أنه إنسان عاقل، وأنه إنسان فاضل، لأنه نظر أن فضله بالله، ثم بأخلاقه وقِيَمه، وليس بثوبه، ولا بشكله ولا بلونه، إنما بالقيم والمبادئ، ولذلك إذا كان الإنسان عزيزا صالحا مستقيما، والله لو لبس المرقّع فمكانه في النفوس في سويداء القلوب، ولو أنه أسرف وأجحف وظلم وفجر وآذى خلق الله فمكانه في الحضيض، ولو لبس الوثير، ونام على السرير، ولو قيل له من القليل والكثير .
الحقيقة التي يبحث عنها الناس أخلاق الإنسان وفضاله وشمائله، يبحث عنها عن الإنسان حيا وميتا، شاهدا وغائبا، لا يعرفه الناس لا بلونه ولا بحسبه ولا بنسبه { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وهذا الحب والود كله لا يكون إلا بالمبدأ .
فالشاهد أنه إذا سمت نفسه وطهرت وزكت وصلحت لو أنه لبس أحسن ما يُلبس أو لبس أضعف ما يُلبس وأقل ما يُلبس فإنه عزيز بالله - عز وجل - ثم باستقامته وصلاحه، ولو أنه كان - والعياذ بالله- على عكس ذلك فلو لبس ما ينفعه ذلك بشيء أبداً، ومن هنا ليس هناك تعارض بين الآيتين .(5/301)
وقوله تعالى : { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } جاءت في سياق { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } ، كانوا يتفاخرون، ولذلك ينبغي أن ينظر إلى سياق الآية، والعلماء يقولون: السياق والسباق محكّم – أي محتكم إليه في الفهم- فكانوا يتفاخرون. قيل : { ألهاكم التكاثر } لما يفتخروا يكون الفخر للأكثر، فيتفاخرون بالأحساب والأنساب: أبي فلان، الذي فعل وفعل، وجدّي فلان الذي فعل وفعل، وأنا ابن فلان وابن فلان وابن فلان، وكانوا حتى في حجهم إذا حجّوا يجلسون في المشعر يتفاخرون، كما قال تعالى :{ فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا } أي وأشد ذكرا، فهذا التفاخر والتعالي على الناس بيّن الله - عز وجل - أن صاحبه سيسأل؛ لأن هذا التكاثر يأتي من النعم ، والنعم ينبغي أن لا تصرف في التكاثر ، فإذا صرفت في التكاثر عذّب صاحبها حينما يسأل بين يدي الله - عز وجل - ؛ لأنه كفر نعمة الله عليه . ما أعطاه الله النعمة لكي يتعالى على الناس، ولا أعطاه النعمة من أجل أن يتباهى بها على الناس، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( بينما رجل ممن كان قبلكم يمشي إذ أعجبه بَرْد عطفيه – يمشي مختالاً فقط أعجبه برد عطفيه وأصابه الغرور- فخسف الله به الأرض فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة )). والحديث صحيح. هذا فقط أعجبه برد عطفيه، وهذا كما يقولون في السيئات القاصرة، قيل : أعجبه برد عطفيه حتى ينتقص الغير، لكن إذا كان هذا مع انتقاص الغير وأذية الغير فما بالك ، وعلى المسلم دائما أن يحاسب نفسه .
وأما الآية فلاشك أن فيها عظة عظيمة، والله إن مما يحيّر الإنسان هذه النعم والمنن المترادفة المتتابعة على الإنسان في صباحه ومسائه وعشيه وإنكاره، بل في كل لحظة وفي كل طرفة عين .(5/302)
أسعد الناس في هذه الدنيا من عرف الله، ومن أعظم ما يعين على المعرفة بالله النعم، إنك ما تنظر إلى نعم الله عليك في نفسك وأهلك ومالك ومجتمعك وبيئتك وأهلك وعشيرتك إلا أحببت الله، وعظمت الله، وأحسنت الظن بالله .
فأسعد الناس في الدنيا من عرف قيمة النعمة . الناس اليوم انظر حينما تأتي وتركب سيارتك ، تمشي من بيتك إلى الحرم، في عز الظهر الهاجرة، في شدة الحر وأنت تنعم بنعمة من الله إذ يرسل لك الهواء البارد. جرب يوما من الأيام وأنت تركب سيارتك في عز الصيف والحر أن تخرج على قدميك وتمشي خمس دقائق لكي تعرف قيمة الذي كنت فيه، ثم ليس هذا وحده، تمشي آمناً في سربك معافىً في بدنك، وعندك قوت يومك ، بل لو عندك فقط كسرة خبز تضعها في فمك، فأنت في نعمة من الله - عز وجل - ، لو لم يكن عندك شيء حتى كسرة خبز وعندك عافية في بدنك فأنت في غنى من الله، من الذي اليوم يقف إذا جاء يريد أن ينام، ويبدأ من صبحه حينما تقلّب من فراشه وقام، فتذكّر أن الله ردّ عليه روحه، ولو شاء الله لأصبح ميتا، ثم وقف فامتطى فتذكّر الذي اضطجع على فراشه فقام منه مشلولاً، ثم مشى فتذكر الذي وقف ولم يستطع أن يسير، وتذكّر الذي وقف فجاءه أمر الله فخر ميتا، ثم ينطلق إلى قضاء حاجته، فتذكر من حبس عن بوله وغائطه، فإذا قضى حاجته وحصل له الارتياح وتذكر المريض الذي يتأوه، وتذكر من يُحمل إلى الحمام حتى يصل إلى قضاء حاجته، وتذكّر الذي يجلس لقضاء حاجته فلا يستطيع أن يزيل الأذى عن جسده، حتى يجد من يغسّله، أي نعم! هذه كلها فقط في خلال خمس دقائق، تذكر يوما من الأيام وأنت داخل في بيتك وأنت داخل في غرفتك، جرب وأنت ترى هذا المصباح الوهاج الذي ترى به ثقب الإبرة في شدة الليل وظلمائه، لو أنك أطفأت هذا المصباح، وقلت أريد أن أتذكر نعمة الله، فأطفأت مصباحك ومشيت في غرفتك، لكي تتلمس وتنظر أين تضع يدك، وأين تضع قدمك، لكي تعرف ما الذي أنت فيه .(5/303)
أي نعم هذه النعم في جنب نعمة لا يمكن أن تساويها نعمة، وبجنب منة من الله لا يمكن أن تساويها منة، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأنك من أهل الإسلام والتوحيد، كيف لو أن الإنسان – والعياذ بالله- عاكف على حجر أو شجر أو بقر أو على قبر، أو على صنم – والعياذ بالله- { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ذلك هو الضلال البعيد، يدعو لمن ضره أقرب من نفعه، لبئس المولى ولبئس العشير}، تذكر أن الله أعطاك هذه النعمة، فأنعم عليك، كان ابن عمر - رضي الله عنه - إذا وقف على الصفا يقول : (( اللهم إنك قلت وقولك الحق – كما روى البيهقي بسنده – ادعوني أستجب لكم، وإنك لا تخلف الميعاد، اللهم كما رزقتني الإسلام وجعلتني مسلما فلا تنزعه مني حتى تتوفاني عليه )) . هذه النعم، نعم الدين: إنك تصلي، وكم من أناس في الضلالات في العمى، أي نعم تذكر، وأي نعم أعطاه الله لعباده، يحمل الإنسان بين السماء والأرض، إلى أطباق السماوات ويرفع بهذا القدر الهائل الذي تحار فيه العقول، شخص لو طلع فقط على سطح غرفة كانوا في القديم لا يطلعون على سطوح الغرف إلا بعناء وكلفة وخوف شديد؛ لأنه يخاف أن يسقط أو تنكسر رجله، أو يصيبه بلاء، وأنت ترفع إلى أطباق السماء، في هذه الطائرة : آكل، شارب، لا تشعر ببرد، ولا بحرّ، أي نعم . أين الإنسان؟! . ثم انظر كيف أن الإنسان يسافر إلى مئات الكيلو مترات ثم يرجع إلى أهله سالماً غانماً ، يفطر في المدينة، ويتغدى في جدة، ويتعشى في الرياض، يفطر في جدة، ويتغدى أو يتعشى في أصقاع الدنيا في مشارق الأرض ومغاربها، من رأى أمة نزلت من الطائرة فصاحت. وقالت: يا رب، لك الحمد والشكر، من الذي ينزل من سيارته في السفر فيقول: يا رب ، لك الحمد، سلمك من المخاوف، من الأخطار، لو وقع أقل خلل في سيارتك لكنت في عداد الأموات، وأقل خلل في الطائرة في كهربائها ممكن يفجرها بين السماء والأرض، من ومن .. { وسخر لكم ما في السماوات(5/304)
والأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات} لكن من هم ؟ الذين يتعظون، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يحيى موات قلوبنا ، وأعظم نعمة نعمة هذا الدين وأن تطلب العلم وأن تسمع وأن تقرأ ، ولذلك الشيطان يأتي لطالب العلم وهو جالس في المجلس ويشعر بالسآمة والملل ، لكنه حينما يتفكر ويتذكر ويذكر نعمة الله عليه أن الله أنعم عليه بنعمة عظيمة زاده الله ، ولذلك انظر للأولين وكبار السن كيف كان الواحد منهم والله الذي يقول إن الناس يعيشون بالمال كذاب ، ومن يقول إن الناس يعيشون بالبناء والعمائر كذاب ، ما تعيش الناس بشيء أعظم من الإيمان بالله ثم القناعة والغنى بالله –- عز وجل -- ، فتجد الأولين كبار السن والقدماء الرجل منهم يعيش وليس عنده إلا ريال في يومه وهو من أسعد الناس لأنه يعرف قيمة النعمة ، ويعرف قيمة الشكر ، تجده يقوم يقول الحمد لله ، يجلس الحمد لله ، يمسي ، يصبح ، فتجد الراحة والطمأنينة تحفه من جميع الجوانب في شكر ، والله من فوق سبع سماوات وعد كل من شكر أن يزيده ، فتجدهم في زيادة ، والعكس تجد الشاب الآن يركب السيارة الوثيرة الغالية وهو في نعمة من الله لا يحس أنه يركب هذه السيارة يريد ما هو أغلى منها ، وأحسن منها ، ما ينظر إلى نعمة الله ، ولكن ينظر -والعياذ بالله- إلى أنه استوجب على ربه أن يزاد ، هذا هو الذي يريده الشيطان ، دائما انظر أين أنت ، والله إنك تعيش في بيت لو تجد فيه مكيفا صحراوياً أو مكيفاً عادياً تقول: أين أنا حينما تتذكر الأمم الماضية الذين كانوا يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ويهش الإنسان بمروحته حتى ينام ، فاحمدوا الله على النعم ، واشكروه على المنن يتأذن سبحانه بالمزيد ، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يبارك لنا في نعمه ، وأن يرزقنا شكرها وأن يجعلنا من المثنين عليه بما هو أهل فيها، وأن يحسن لنا العاقبة فيها إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .(5/305)
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ونهى رسول-صلى الله عليه وآله وسلم- عن الملامسة ، وعن المنابذة ،
وعن بيع الحصاة ، وعن بيع الرجل على بيع أخيه ، وعن بيع حاضر لباد وهو أن يكون له سمسارا
قال المصنف –رحمه الله- : [ ونهى رسول-صلى الله عليه وآله وسلم- عن الملامسة ، وعن المنابذة ، وعن بيع الحصاة ، وعن بيع الرجل على بيع أخيه ، وعن بيع حاضر لباد وهو أن يكون له سمسارا ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(5/306)
فلازال المصنف –رحمه الله- يعرض الأحاديث الواردة عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في البيوع المنهي عنها والفاسدة ، وقد تقدّم معنا قبل ذلك بيان جملة من تلك المنهيات ، ثم شرع في بيع الحاضر للبادي ، وقد صحت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالنهي عن بيع الحاضر للبادي كما في الصحيحين من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- وغيره ، ومن حيث الأصل المراد بالبادي هو: كل من يقدم إلى المدينة بغض النظر عن كونه من سكان البادية أو لم يكن منها ، سواء قدم من البادية أو قدم من مدينة ثانية أو من قرية أو من أي موضع آخر مادام أنه غريب عن البلد نفسه ، وأيضا الحاضر يستوي فيه أن يكون من أهل المدينة نفسها أو مقيما فيها ، فكل ذلك يصدق عليه إذا وقع البيع بعرض أحدهما وهو الحاضر على الآخر وهو البادي وهو خارج المدينة أنه من بيع الحاضر للبادي ، فسر المصنف –رحمه الله- بيع الحاضر للبادي أن يكون له سمسارا بمعنى أن البادي إذا أحضر السلعة والغالب أن أهل البادية يجلبون للمدن ، وهذا الجلب للمدن يحصل به الرفق للناس ، وإذا تولى البادي بيع السلعة فإن عنده قناعة والغالب فيه أنه لا يكون فيه جشع كالحضري ، فالغالب أنه يبيع بسعر قليل ، والغالب أنه يريد أن يرجع إلى أهله فيخفف في السعر ، فإذا خفف في السعر حصل الرفق للناس ، وحينئذ ترخص الأسعار ، وتكون الأسواق منتفعة ببيعه لنفسه ، والعكس فإذا تولى الحضري البيع للبادي ، فإنه يريد مصلحة لنفسه ويسوي هذا الجلب بما هو موجود في السوق فيرتفع سعر البضائع المجلوبة كالبضائع الحاضرة ، وحينئذ يستضر أهل السوق ، ومن هنا ذكر بعض العلماء أن الضرر هنا عام ، لأنه يضر بأسواق المسلمين ، ويعتبر هذا من باب المصلحة للفرد المبنية على الضرر للجماعة ، والضرر يقدم على المصلحة لأن درء المفاسد وإزالة الأضرار مقدم على جلب المصالح ، ومن هنا جاءت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بأن(5/307)
لا يتولى الحضري البيع للبادي ، بل كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض )) فيحصل الرزق والسعة حينما تباع على الوجه المعتاد من أن صاحب السلعة يبيعها بنفسه ويرضى بالقليل الذي يقتنع به .
بيع الحاضر للبادي جماهير العلماء –رحمهم الله- على تحريمه ، وأنه لا يجوز ، وورد عن الإمام أحمد –رحمه الله – كما ذكر الإمام أبو إسحاق بن شاقلا عن الحسن بن صالح المصري أنه سأل الإمام أحمد –رحمه الله- عن بيع الحاضر للبادي فلم ير به بأسا، فذكر له الحديث فقال هذا كان في أول الأمر ، أي حينما كان على المسلمين ضيق ، ثم وسع فيه ، والصحيح مذهب الجمهور لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الحاضر للبادي ولم يقيّد ذلك بزمان ولا بمكان ، والعلة موجودة في كل الأزمنة ، ومن أهل العلم من وضع شروطا لهذا التحريم فاشترطوا أولا : أن يكون البادي قد أحضر السلعة ليبيعها ، فخرج ما إذا أحضرها إلى المدينة ليهديها أو يأكلها أو غير ذلك ، وهذا من باب تحقيق المعنى الذي من أجله ورد النهي .
وكذلك اشترطوا الشرط الثاني: أن يقصد الحاضر البادي فيأتي ويقول له: أنا أبيع لك السلعة ، أو أنا أدلل عليها ، أو أنا سمسارك ، فأما إن قصده البادي قالوا فلا حرج لأن المعنى من التخفيف غير موجود واشترطوا شرطا ثالثا وهو أن يقصد البادي بيعها بسعر يومها ، فإن لم يقصد ذلك ضعف المعنى وزال الضرر .
واشترطوا شرطا رابعا: أن يكون البادي جاهلا بسعر اليوم ، لأنه إذا كان عالما بسعر يومها فالمعنى أيضا يضعف ؛ لأنه سيبيع بنفس السعر بخلاف الأولى فإنه سيخفف على الناس وترخص أسواق المسلمين .(5/308)
وأما الشرط الخامس والأخير فهو: أن يكون مما يحتاج إليه الناس مثل الأقوات والأرزاق ، فإن كان شيئا نادرا أو شيئا لا يستضر الناس به ، ليس به حاجة فخففوا فيه ، وهذه الشروط كما ذكر بعض الأئمة منها ما هو قوي ، ومنها ما هو ضعيف ، كما نبه إليه الإمام الحافظ ابن حجر –رحمه الله- في شرحه للصحيح ، وكذلك الإمام البدر العيني الحنفي –رحمه الله برحمته الواسعة- وكذلك الإمام ابن الملقن في الإعلام حيث بينوا أن هذه العلل تارة تقوى وتارة تضعف ، ولكن الأصل في السنة تحريم بيع الحاضر للبادي ، ثم اختلف العلماء على وجهين : هل يقتضي هذا النهي فساد البيع أو لا يقتضي ؟ والصحيح مذهب الجمهور أنه لا يقتضي .(5/309)
قال رحمه الله : [ وعن النجش ] : النَّجَش والنَّجْش أصله الإثارة ، قالوا منه نجش الصيد بمعنى إثارته حتى يتمكن منه ، ووصف هذا النوع من البيع بكونه نجشاً؛ لأن الإنسان إذا عرض سلعة للبيع يتواطأ بعض الناس مع بعضهم على أن يزيدوا في السلعة إذا كانوا يريدون مصلحة البائع ، أو ينكفّوا عن الزيادة إذا أرادوا مصلحة أنفسهم ، ففي الحالة الأولى وهي: أن يتفق صاحب السلعة مع بعض الأشخاص أن يزيدوا في قيمة السلعة في المزاد ، فإذا عرضت السلعة كالسيارة مثلا وزاد الناس فيها وقال أحدهم بخمسين ، قال الثاني منهما : خمسة وخمسون ، ثم يقول الآخر: ستون ، ثم يقول الآخر: خمسة وستون ، سبعون ، فإذا جاء الغريب أو جاء من لا يعلم باتفاقهم يظن أن السلعة لها قيمة وأنها جيدة ، فلما فعلوا هذا الفعل حركوه ، كالصيد لما يستثار ، فوصف هذا البيع بهذا الوصف ، والنجش لاشك أن فيه خديعة للمسلمين وفيه غش وظلم ، لأن السلعة إذا تركت في السوق وحصل عليها المزاد حصل الرزق والرفق ، فلذلك يزاد فيها إلى القدر الذي يشاء الله أن تبلغه ، ولكن إذا دخل أهل النجش وزادوا في السلعة وهم لا يرغبون شراءها ، فحينئذ يكون الظلم للمشتري ، والمصلحة للبائع ، ومن هنا جعل العلماء ضابط النجش أن يزيد في السلعة وهو لا يرغب في شرائها ، إلا أن هذا الضابط حصل فيه إشكال حيث إن بعض العلماء يقول : إذا اتفقوا على أنهم يحددون شخصان أو ثلاثة يزيدون في العمارة إذا سيمت ، أو في السيارة إذا عرضت لا إشكال أنه محرم وأنه نجش ، لكن الإشكال إذا كنت ترى سلعة تعرض وأنت تعلم أنها تستحق قيمة من الزيادة ، فزدت فيها لأنها تستحق وقصدك النصيحة فقال الأول : خمسين ، فأنت ترى أنها تستحق خمسة وخمسين فقلت خمسة وخمسين ، ثم تستحق أكثر قال ستين ، وأنت ترى أنها تستحق أكثر فزدت ، هل إذا زدت نصيحة وأنت لا ترغب في الشراء ولكن من باب النصيحة هل هذا يدخل في النجش ؟ وجهان للعلماء –رحمهم الله-(5/310)
: من نظر إلى أن النجش غش وأن العلة هي الغش أجاز؛ لأن هذا نصيحة ، والمقصود به النصيحة للبائع .
ومن رأى أن العلة فيها غش وفيها إضرار بالسوق برفع الأسعار ، والإنسان إذا جاء إلى السوق يريد أن يشتري سلعة والآخر يريد أن يشتري نفس السلعة والمنافسة فهذا رزق من الله ، فإن لم يكن هناك أحد ينافسه وهو رزق أيضا من الله ، فهذا يضيق عليه ، ومن هنا قالوا إنه لا يزيد ، وهذا المذهب لاشك أنه أحوط أن الإنسان لا يزيد في السلعة وهو لا يرغب في شرائها ، وإذا استنصح نصح .
قال رحمه الله : [ وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ] : وهو أي هذا البيع المحرم الذي ثبتت السنة في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- أنه نهى عن بيع النجش كما في الصحيح من حديث أبي هريرة من قوله : (( ولا تناجشوا )) فهذا نهي ، والنهي يدل على التحريم ، وجماهير أهل العلم –رحمهم الله- على تحريم بيع النجش ، ولكن الخلاف هل يقتضي فساد البيع أو لا يقتضي ؟ والقول بأنه يكون له الخيار لأنه نوع من الغش وهو أقرب إلى الفساد أقوى .
قال رحمه الله : [ وعن بيعتين في بيعة ] : أي ونهى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيعتين في بيعة ، وقد صححه غير واحد من أهل العلم –رحمهم الله- وهو ثابت ، البيعتان في بيعة فسرها المصنف –رحمه الله- بتفسيرين : هناك بيعتان في بيعة بذكر ثمنين في مثمون واحد . وهناك بيعتان في بيعة بذكر مثمونين في ثمن واحد . وهناك بيعتان في بيعة بصفقتين في صفقة واحدة ، فهذه كلها من صور البيعتين في بيعة .(5/311)
الثمنان في المثمن الواحد مثل إما أن يكون نقدا أو يكون نسيئة ، أو يجمع بينهما ، ففي النقد يعطيه نقدين أحدهما أفضل من الآخر ، فيقول لك: أشتري منك هذه بعشرة صحاح ، أو بعشرة مكسرة ، الصحاح كانت الدنانير والدراهم السليمة أكمل وزنا وأكثر رواجا ، والمكسرة أنقص وزنا وأقل رواجا ، ولكنه هو يزنها بالمكسرة حتى تصل الوزن المعتبر فيقول: أشتري منك بعشرة صحاح بعشرة مكسرة ، فهناك فرق بين القيمتين ، في زماننا مثاله: أن يقول لك: أشتري منك هذه السيارة بعشرة آلاف ريال ، أو بخمسة آلاف دولار ، الخمسة الآلاف دولار أكثر من عشرة آلاف ريال ، فأعطاك ثمنين مختلفين في مثمن واحد وهو السيارة ، فإذا أعطى الثمنين المختلفين في المثمن الواحد فهو بيعتان في بيعة ، وإن أعطى الثمنين المتساويين في مثمن واحد فليس من البيعتين في بيعة ، لأنه إذا كانت قيمتهما واحدة فهما بمثابة الثمن الواحد ، مثلا لو قال له هذه السيارة أشتريها منك بعشرة الآلاف ريال، أو بثلاثة آلاف ومائتي دولار ، والثلاثة الآلاف ومائتي دولار تعادل العشرة آلاف حينئذ لا إشكال ، واختلاف نوعيهما لا يضر ، لكن تكون البيعتان في بيعة إذا كان الثمنان مختلفين أحدهما أعلى من الثاني ، والسبب في هذا في تحريمه أنه ربما ظن البائع أنه سيعطيه الثمن الأعلى فيعطيه المشتري الثمن الأقل ، فيقول له: أشتري منك هذه السيارة بخمسة آلاف دولار أو ب بعشرة آلاف ريال فيظن أنه سيعطيه خمسة آلاف دولار فيقول له أعطيك عشرة آلاف ريال خذ هذه العشرة الآلاف ريال، فيقول له: أنا أريد الخمسة الآلاف دولار ، قال لا أنا قلت لك أعطيك هذا أو هذا وأنت وافقت ، فحينئذ يغرّر به .(5/312)
ثانياً: أن يعطيه مثمونين في ثمن واحد ، أبيعك سيارتي أو عمارتي بعشرة آلاف ريال ، السيارة مبيعة مثمنة ، والعمارة مثمنة ، فقد تكون أنت ترغب في السيارة فتقول: قبلت على أنك تظن أنك ستحصل على السيارة ، وإذا به يصرفك إلى العمارة ، أو ترغب في العمارة فيصرفك إلى السيارة ، ومن هنا فإن قال قائل: قد أرغب في الاثنين فلا ضرر ، نقول الشريعة تضع الحكم للغالب ، ما تنظر إلى مسألة أفراد الناس، فتقول من حيث العقد الذي وقع بين الاثنين فإذا ردده بين مثمونين في ثمن واحد فقد غرر به ، والمصنف –رحمه الله- فسر البيعتين في بيعة فقال .
وهو أن يقول بعتك هذا بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة ] : بعشرة صحاح أو عشرين مكسرة، فإذا ذكر الثمنين مختلفين فإنه حينئذ يكون قد غرر به .(5/313)
قال رحمه الله : [ أو يقول بعتك هذا على أن تبيعني هذا أو تشتري مني هذا ] : هذا صفقتان في صفقة واحدة بالشرط يقول له أبيعك سيارتي بشرط أن تشتري فلتي في المدينة ، أبيعك سيارتي هذه بعشرة آلاف بشرط أن تشتري فلتي بنصف مليون ، هذان مبيعان مثمونان بثمنين فهما صفقتان في صفقة واحدة ، أبيعك سيارتي على أن تبيعني عمارتك أيضا ، أبيعك سيارتي على أن تبيعني دارك ، وهذا كله جعله بعض العلماء من أهل العلم من أدخله في بيعتين في بيعة ، ومنهم من أخرجه فأدخله تحت أصل آخر وهو أقوى وهو نهي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع وشرط ، فهو أقرب من مسألة بيعتين في بيعة لأن بعض العلماء يعلّله في الثاني بشبهة الربا ، وقالوا إن وجهه كأنه يعطيه المؤجل والمعجل ، أبيعك هذا بشرط أن تأخذ مني ذاك ، هناك طبعا من بيعتين في بيعة صورة ذكرها العلماء والأئمة وهي مشهورة أن يقول له: أبيعك هذا المتاع بعشرة نقدا أو بعشرين إلى أجل ، وفي زماننا يقول: أبيعك السيارة بعشرة آلاف نقداً أو بخمسة عشر ألف بالتقسيط ، فإذا قال له: أبيعك هذه السيارة بعشرة آلاف نقدا ، أو بخمسة عشر أو بعشرين بالتقسيط لا يخلو من حالتين :(5/314)
الحالة الأولى : أن يحدد إحدى الصفقتين فيقول: أنا أشتريها نقدا، أو يقول: اشتريتها بالتقسيط بعشرين ألفاً ، فإذا حدّد فهذا جائز ولا بأس به في قول جماهير أهل العلم –رحمهم الله- من السلف والخلف وهو قول ابن عباس –رضي الله عنهما- وأصحابه ، وذكر أصحاب مصنفات الرواية عنهم في ذلك ، كابن أبي شيبة في مصنفه أنه إذا حدد إحدى القيمتين فليس من بيعتين في بيعة في شيء لماذا ؟ لأنه يفارقه وقد اختار بيعة واحدة ، والنبي –- صلى الله عليه وسلم -- بين أنه يفارقه ولازال معلقا على بيعتين ، بدليل قوله : (( فله أوكسهما أو الربا )) قوله بعد ذلك : (( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)) فإذا حدد فإنه حينئذ يكون قد اشترى بصفقة واحدة وليس بصفقتين ، بعض العلماء قال من السلف وأيضا اختاره بعض المتأخرين –رحمة الله على الجميع- يقول : إن هذا من بيعتين في بيعة ؛ لأنه ذكر له النقد والتقسيط ، وهذا ضعيف لماذا ؟ لأن العرض ليس ببيع حقيقة ، إذ لو كان العرض بيعا حقيقة لكان كل الناس يبيعون بيعات في بيعة ، لما تأتي تشتري شيئا سيقول لك: أبيعك بعشرة ، تقول: لا ، بعشرين ، حتى تثبت على قيمة معينة ، إذاً العرض تخيير بين النقد والتقسيط فبتَّ على أحدهما فقد بَتّ على صفقة واحدة وليس على صفقتين ، وعلى بيعة واحدة وليس على بيعتين ، وما سبق من العرض لا قيمة له مادام أنه قد استقر على واحدة منهما .(5/315)
أما لو أنه فارق وهي الصورة الثانية فارقه ولم يحدد إحدى البيعتين فقال له قبلت ، قال له أبيعك هذه العمارة بمليون نقدا ، أو بمليون ونصف بعد سنتين ، قال قبلت ، ثم لم يحدد هل اشتراها نقدا أو اشتراها بالتقسيط ، هذا هو من البيعتين في بيعة ، بمعنى أن الحديث ينطبق على هذا ؛ لأنه قال عليه الصلاة والسلام : (( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا )) وتوضيح ذلك أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وصف البائع للبيعتين في بيعة أنه إما أن يكون له الوكس أو الربا ، لأنه إذا أعطاه العمارة بمليون نقدا وبمليون ونصف إلى أجل ولم يحدد له وافترقا ظن البائع أنه أخذها بمليونين فيفرح ، فإذا به قد جاءه بالوكس وهو النقص ، فله أوكسهما فخيّب ظنه ، أو الربا وذلك حينما يشتري المشتري في نفس هذه الصورة وفي نيته أن يدفع نقدا بمليون ، فلما رجع إلى بيته قال : لماذا أنا أشدد على نفسي مادام قال نقدا وتقسيط خلّني أجعلها تقسيطاً ، فكأنه باع المليون بالمليون والنصف إلى أجل ، أو الربا ، (وأَوْ) لا تأتي إلا بالتخيير ، والتخيير لا يكون إلا في المشترك يعني في أكثر من واحد ، ولا يمكن أن يقع البيع في أكثر من واحد إلا إذا كان مشتركا ، وهذا يدل على أنه إذا فارقه على إحدى البيعتين ما يحصل فله أوكسهما أو الربا ، لكن إذا تردد وافترقا عن بعضهما ولم يحدد إحدى البيعتين فهو الذي عناه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بقوله : (( فله أوكسهما أو الربا )) وعليه فإنه يجوز أن يعرض عليه النقد والتقسيط ولا بأس بذلك ولا حرج ، إذا كان مفترقين على إحداهما ، وأما إذا افترقا دون تعيين أو تحديد فهو من بيعتين في بيعة فيفسخ العقد ويبطل .(5/316)
قال رحمه الله : [ وقال عليه الصلاة والسلام : (( لا تلقوا السلع حتى يهبط بها الأسواق )) ] : هذا ثابت في الصحيح من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- وغيره في السنن أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن تلقي الركبان ، كانوا في القديم يأتي الركبان ومعهم من الأرزاق مما فيها معايش الناس ومصالحهم مثل الأطعمة كالسمن والعسل والبر ونحو ذلك ، فالتجار يخرجون إلى خارج المدينة أو على أبواب المدينة وينتظرون هؤلاء الذين يجلبون الأرزاق ، ويشترون منهم قبل أن يدخلوا إلى السوق ، والسبب في ذلك أنهم إذا اشتروا والحال ما ذكر يكون ذلك أرخص فيغبنونهم ويظلمونهم ، فهذا فيه ظلم للركبان ، لأن الركبان لم يعلموا قيمة السلع في السوق ، ولو دخلوا السوق لوجدوا أن السعر أغلى مما عرض عليه ، فنهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن تلقيه ، وإذا وقع هذا البيع كان للبائع الخيار كما صح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فإذا هبط بها كان له خير النظرين إن شاء رضي ، وإن شاء طالب بحقه وضمن له ، هذا بالنسبة لتلقي الركبان ، وفي تلقي الركبان في بعض الأحيان تأتي مثلا تريد أن تدخل سيارتك المعرض لكي يوقف عليها في المزاد فتجد البعض يخرج خارج المعرض ويتلقاك قبل أن تدخل لكي يعطيك قيمة هو يعلم أنها أرخص مما في السوق ويعلم أنك لو دخلت السوق لكانت سيارتك تستحق الأكثر فهذا أيضا من تلقي الركبان ، إذاً تلقي الركبان لا يشترط فيه أن يكون جاء من البادية ، بل إنه قد يقع حتى في داخل المدن ، كل ما يكون فيه غش لصاحب السلعة وحيلولة دون أن يصل إلى السوق حتى يعلم سعر السوق ويقطع عليه الطريق بذلك هذا من تلقي الركبان ، والمعنى فيه كالمعنى في تلقي الركبان ، وينطبق عليه حكمه .(5/317)
قال رحمه الله : [ وقال عليه الصلاة والسلام : (( من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه )) ] : هذا أيضا ثابت في الصحيحين عنه -عليه الصلاة والسلام- من نهيه عن بيع الطعام قبل قبضه ، والمراد بذلك أنه إذا اشترى طعاما فعليه أن يكيل هذا الطعام إذا كان مما يكال ، أو يزنه إذا كان مما يوزن ، أو يعده إذا كان بالعدد حتى يتأكد منه ويقبضه القبض الذي ينتقل به ضمان السلعة إليه ، وفي هذه الحالة يستطيع بعد ذلك أن يبيع وأن يأخذ ربح ما ضمن ، لأنه قد قبض ، ونهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الطعام قبل قبضه ولاشك أن بيع الطعام قبل القبض فيه ضرر في بعض الصور ، وكان بعض السلف يرى أن فيه شبهة الربا ، وأثر عن ابن عباس ذلك حيث جعل أنه مثلا لو جاء واشترى مائة صاع من صاحبها وأعطاه النقود ثم لم يقبض الطعام وذهب وباع مثلا اشترى بألف وباع بألف وخمسمائة قال ابن عباس : كأنه اشترى الألف بألف وخمسمائة ، لأنه ما حصل القبض بالطعام ، فكأنه يدفع ألفاً ويأخذ الألف والخمسمائة في مقابلها ، وهذا فيه إشكال عند الجمهور حيث إن اليد اختلفت ، وما اختلفت فيه اليد ضعفت فيه علة الربا كالعينة ، وبناء على ذلك هذه العلة فيها إشكال ، ويقوى قضية الضمان وقضية الغبن في بعض الصور مثلا أنت قد تشتري وأنت رجل معروف في السوق بالأمانة وبالصدق فتأتي وتشتري من شخص على خلاف ذلك فتقول له: كم صاعاً؟ ، يقول لك: مائة صاع، فتأخذها على أنها مائة صاع ، ثم يتبين أنها دون ذلك ، ولذلك هذا أيضا من المفاسد المترتبة على عدم قبض الطعام ، ولذلك ورد في الحديث : (( حتى يجري فيه صاع البائع والمشتري ))، أيضا من العلل أنه من بيع أخذ ربح ما لم يضمن لأن الضمان ينتقل بالقبض ، الشيء الذي ما قبضت ما تضمنه ، مثلا لو جئت إلى البقالة وقلت له: بكم العسل ؟ - عسل ثلاثة كيلوات في زجاجة- سألت . قال لك: هذا العسل بمائة ريال . قلت له : أشتريتها ، فأراد أن ينزلها فسقطت(5/318)
وانكسرت ، من الذي يضمن ؟ البائع ، لأنك إلى الآن ما قبضت ، لما تقبض أو توكّل من يقبض عنك حينئذ أنت ضامن ، فإذا لم تقبض ففي هذه الحالة لا ضمان عليك ، والقاعدة في الشريعة (( أن الذي يأخذ الربح هو الذي يتحمل الخسارة ويضمن)) ، وهو معنى قولهم: (( الخراج بالضمان)) ، ومعنى قولهم: ((الغنم بالغرم والغرم بالغنم ))، فإذا كان قد اشترى طعاما ولم يقبضه وبقي الطعام عند البائع أو بقي في مكانه فهو على ضمان البائع ، فهو إلى الآن لم ينقل الطعام إلى ضمانه فيذهب ويبيعه وهو في ضمان غيره ، هذا ظلم ، والشريعة تعطي الربح لمن يضمن الخسارة ، وإذا كان غير ضامن للخسارة فحينئذ يستطيع أن يحمل غيره تبعة الطعام وأن يأخذ المنفعة ، فلم تصحح الشريعة مثل هذا البيع ولم تجز ، هذا بالنسبة لقضية البيع قبل القبض .
قال المصنف -رحمه الله- : [ باب الربا ] : يقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الربا ] : الربا في لغة العرب الزيادة ومنه قوله تعالى : { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي أكثر وأزيد عددا ، ومنه قوله تعالى : { وترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج } اهتزت وربت أي نما ما فيها وكثر خيرها ، فالربا في لغة العرب الزيادة .
وأما في الاصطلاح : فهو زيادة مخصوصة في أشياء مخصوصة ، وهذه الزيادة هي زيادة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا ، في أشياء مخصوصة هي: التي يسميها العلماء الأصناف الربوية ، والأصناف الربوية التي هي محل الربا تنقسم إلى قسمين :
منصوص عليها . وملحقة بالمنصوص عليه .(5/319)
فالمنصوص عليها يسميها العلماء الأصناف الستة وهي التي وردت في حديث عبادة بن الصامت –رضي الله عنه وأرضاه- في صحيح مسلم ، وليس عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- حديث جمع أصناف الربا كحديث عبادة هذا ، وهذا الحديث يعتبر قاعدة الربا العظمى ، حيث بين فيه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أصناف الربا ، وأنواع الربا بنوعيه ربا النسيئة وربا الفضل ، وبين فيه عليه الصلاة والسلام جملة من الأحكام اجتمعت فيه ولم تجتمع في غيره ، ولذلك يعتبرونه قاعدة الربا ، حديث عبادة بن الصامت –- رضي الله عنه -- قال سمعت رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد )) وفي بعض الروايات : (( سواء بسواء فمن زاد أو استزاد فقد أربى فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد )) وهذه هي الأصناف الربوية فقول العلماء في أشياء مخصوصة هي الأصناف الستة المنصوص عليها، والأصناف التي قيست على هذه الأصناف الستة وشابهتها فأخذت حكمها ، وسيأتي إن شاء الله بيان العلة التي يقاس بها غير الأصناف الستة على الأصناف الستة .(5/320)
والربا من المحرمات العظيمة وذكر العلماء –رحمهم الله- أنه محرم في جميع الشرائع ، ولذلك قال الله يعاتب أهل الكتاب من قبلنا : { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل } وحرم الله –- عز وجل -- الربا قالوا في جميع الشرائع السماوية ، فليست هناك شريعة سماوية تجيز الربا بخلاف مذهب الخمر كان مباحا في شرائع مَن قبلنا في صدر الإسلام ثم حرم علينا ونحو ذلك ، من الأمور التي تختلف فيها الشرائع قال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } فالربا لم تختلف فيه الشرائع وهذا يدل على تعظيم تحريمه ، وعظم أمره ، وثانيا : أن تحريمه في أعلى درجات التحريم ؛ لأنه يعتبر من كبائر الذنوب ، والأصل في أن الكبيرة كل ما سماه الله ورسوله كبيرة أو ورد فيه وعيد بعقوبة في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا ، أو عقوبة بنفي إيمان أو غضب ونحو ذلك ، والربا لعن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- آكله وموكله وكاتبه وشاهديه ، فجمع بين الربا والمعونة على الربا في التحريم ، وقد نص الله –- عز وجل -- على تحريمه في قوله سبحانه : { وأحل الله البيع وحرم الربا } فلما أراد أن يبين حرمته جاء بصيغة {حرم} ، وهذه الصيغة عند علماء الأصول من الصيغ الصريحة التي لا تحتمل معنى آخر ، وهي من أقوى صيغ التحريم ، وهناك صيغ قوية وهناك صيغ ضعيفة محتملة ، لكن صيغة {حرم} نص في التحريم : حرمنا ، حرمت ، هذا كله يدل على أن المذكور محرم ، وقال الله –- عز وجل -- وحرم الله –- عز وجل - - الربا وقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } هذه الآية صدرها الله –- عز وجل -- بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } وقالت أم المؤمنين –رضي الله عنها- عائشة: إذا سمعت الله يقول : {يا أيها الذين آمنوا } فأرعه سمعك فإنه هو خير تؤمر به أو شر(5/321)
تنهى عنه . فقال : { يا أيها الذين آمنوا } فناداهم بنداء الإيمان ، وكان بعض العلماء يقول : نداء التشريف والتكليف ، فقلّ أن تأتي يا أيها الذين آمنوا إلا وراءها أمر أو نهي ، فإما أن يَزْجُر وإما أن يُرغّب ويحبّب ويكلّف بالفعل أو الترك ، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } فبدأ بتقواه لعظم ما سيذكره من بعدها فقال : { اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } حتى قال بعض العلماء كأنه يقول التقوى أن تذر الربا ، والذي لم يذر الربا لم يتق الله –- عز وجل -- { وذروا ما بقي من الربا } وما بقي ولم يقل ذروا الربا فإذا كان ما بقي محرماً فلأن يحرّم كله من باب أولى وأحرى ، { وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } فجاء أيضا بقوله { إن كنتم مؤمنين } وهذا من أبلغ ما يكون للدلالة على أن الإخلال بهذا الأمر سيؤثر في كمال إيمان العبد { اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } ثم زاد الأمر أولا أنه نهى قال : {ذروا ما بقي من الربا } ثم قال: { إن كنتم مؤمنين} وصدر بقوله : { اتقوا الله } ثم أضاف إلى ذلك بالوعيد الشديد على المخالفة، ومن أجمع ما يكون من نصوص الكتاب والسنة أن يُؤمر بالشيء وأن يُذكر عقوبة الإخلال بالأمر ، وهذه من أعلى درجات الخطاب الإلهي أمرا ونهيا ، في الترغيب أن يذكر المأمور به ويذكر ثوابه ، وهذا من أعلى الدرجات أنه يزيد في امتثال المأمور به فعلا والمأمور بتركه تركا ، فذكر الله العاقبة فقال : { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } من هذا الذي يستطيع أن يحارب الله ورسوله ، فآكل الربا محارب لله ومحارب لرسوله ، { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } . ذكر بعض العلماء –رحمهم الله- أنه لا يمكن لآكل الربا أن يُنْصر إذا كان من أهل الإسلام ، لأن الله يقول : { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ومن حارب الله ورسوله لا يُنْصر ، لأن الله يقول : { ولينصرن الله من ينصره } ومن هنا جعل الله أكثر من زاجر(5/322)
يمنع ، وأكثر من مرغّب يرغّب في امتثال الأمر بترك الربا { وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } وجاءت أيضا آية آل عمران في قوله - سبحانه وتعالى - : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون } في هذه الآية الكريمة بيّن الله –- سبحانه وتعالى -- أنه لا يجوز أكل الربا أضعافا مضاعفة ، وبيّن حرمة الربا وخصه بقوله : { أضعافا مضاعفة } ففي هذه الآية إشكال حتى إن بعض المتأخرين يقولون : يجوز أكل الفوائد الربوية إذا كانت يسيرة لأن الله يقول : { أضعافا مضاعفة } فأوردت هذه الشبهة على الآية ، والواقع أنهم فهموا الآية بالعكس ، نسأل الله السلامة والعافية ، ونسأل الله أن لا يطمس بصائرنا ، فيجعل الحق ملتبسا علينا ، الآية حينما قالت : { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } فيها نكتة عظيمة من عدة وجوه :
الوجه الأول : أن الذي يرضى بضعف واحد ويأكل ضعفا من الربا وفائدة من الربا سيأكل الفوائد من باب أولى وأحرى ، فلما تأتي تنهى إنسانا عن شيء فيه القليل وفيه الكثير وتريد أن تهول فعله فإنك تذكر أقصى ما يصل إليه ابتداء الفعل ، لأن ابتداء الفعل منته به إلى الغاية ، فالذي يرضى بأكل الفائدة ويطلب الفائدة الواحدة إذا أخر عليه ماله سيركب الفائدة الثانية ، فهو آكل للأضعاف المضاعفة سواء وقع ذلك أو لم يقع آكل له بأصل العقد ، فعقود الربا من حيث هي في الأصل تجد أنه إذا وضع فائدة على شهر ولم يسدد جاءه في الشهر الثاني ليطلبه نفس الفائدة التي مضت ، فصار الربا بالفائدة هذه طلباً للفوائد وراءها ، فلا ينكف ولا ينزجر والشريعة هنا تتكلم عن المبدأ ، ولذلك قال تعالى : { كذبت عاد المرسلين } وهم كذبوا رسولا واحدا ، لأن الذي كذّب رسولا واحدا كأنه كذّب الرسل كلهم ، فهذا المبدأ إذا كان قد رضي بمبدأ أخذ الفائدة الواحدة سيأخذها أضعافا مضاعفة.(5/323)
الوجه الثاني من جمال هذه الآية وكل آيات القرآن جميلة : أن تكون الآية جاءت للتبشيع والتقريع والتوبيخ ، لأن الربا غالبا ما يقع فيه إلا الفقراء ، من الذي يستدين؟ ، ومن الذي يأخذ الدين بالفوائد غير الفقراء والضعفاء ، فإذا كان الغالب ممن يتعامل بهذه المعاملة تحت الضغط وتحت الحاجة هم الفقراء ، فالغالب أنهم يعجزون عن السداد أول مرة ، ومن هنا تتراكم عليهم الفوائد ، وبعبارة أخرى يتضح أن الذي تتركب عليهم الفوائد هم أَضعف الناس وأفقر الناس ، فاختار الله في الربا أشد ما يكون الظلم فاختاره أضعافا مضاعفة ، وكأنه يعتب عليهم ظلم هؤلاء الذين غالبا ما يطلبون الديون وهم الضعفاء والفقراء ، ولذلك يقعون في الربا أضعافا مضاعفة .(5/324)
الوجه الثالث نقول لهم : إن هذه الآية الكريمة فرد من أفراد العام الذي اشتملت عليه آية البقرة ، والقاعدة : (( أن ذكر الفرد من أفراد العام لا يقتضي تخصيص الحكم به )) ، فأنت تقول مثلا ليدخل الناس بيتي ، ثم تقول ليدخل محمد بيتي ، فأنت حينما أذنت للناس ثم أذنت لمحمد إذنك لمحمد لا يلغي إذنك لبقية الناس ، وعلى هذا نقول حرم الله الربا أضعافا مضاعفة وغير مضاعفة ، وجاء بذكر الأضعاف المضاعفة كفرد من أفراد العام ولم يقتض ذلك تخصيص ذلك الحكم به ، وبعبارة أخرى أن تقول : تحريم الربا أضعافا وغير أضعاف بمنطوق آية البقرة لأن الله يقول : { لا تأكلوا الربا } { اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } ولم يفرق بين كونه أضعافا وغيره ، ثم جاءت آية آل عمران فنقول لهم منطوقها { لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } فهمتم منها كلوه إذا لم يكن أضعافا مضاعفة ، فنقول هذا غير صحيح ، لماذا ؟ لأن المنطوق هناك نطق بحكمه وهو التحريم ، والمفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق ، وهذا كله في جواب هذه الشبهة ، وهي التي للأسف أجاز بها بعض المتأخرين شهادات الاستثمار اليسيرة وإن كان لهم شبهة أخرى بأن الربا فيها غير الشخص غير مضمون والفائدة غير مضمونة ، وسيأتي جوابها إن شاء الله عند بيان أحكام شهادات الاستثمار وبعض مسائل الربا المعاصرة .(5/325)
أجمع العلماء –رحمهم الله- على تحريم الربا كما ذكرنا لورود الأدلة في الكتاب والسنة على تحريمه ، أما في سنة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة –- رضي الله عنه --: (( اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله قال الشرك بالله وعقوق الوالدين وأكل الربا وأكل مال اليتيم ..)) الحديث فجعل الربا من الموبقات ، وهذا يدل على حرمته وعدم جوازه ، والموبق هو المهلك ، وقوله : (( اجتنبوا السبع الموبقات )) يعني المهلكات ، ولذلك قل أن تجد أحدا يتعامل بالربا إلا أهلكه الله ، فهو مهلكة بشهادة رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وهو مهلكة في الدنيا ومهلكة في الآخرة ، أما في الدنيا فإن الله تعالى يقول : { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } وأما في الآخرة فقد بين الله صورة من صور محق صاحب الربا وآكله ومن رضي به في قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وأثر عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن الرجل منهم يقوم وكأن بطنه كالبيت الضخم كلما قام انكفأ على وجهه –والعياذ بالله- ، وفي الأحاديث في تحريم الربا كثيرة ومنها الصحيح وفيه : (( أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) ، وهذا يدل على أنهم في الإثم سواء ، وأما الإجماع فقد أجمع العلماء على أن الربا محرم من حيث الجملة ، وأما من حيث التفصيل فاتفقوا على تحريم ربا النسيئة ، وأما ربا الفضل فكان فيه خلاف عن ابن عباس –رضي الله عنهما- وتبعه بعض أصحابه كسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ، ثم انتقل هذا القول إلى أتباع التابعين ، إلى أن انقرض بعد ذلك بثبوت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وأصبح كالقول الواحد تحريم الربا بنوعيه ربا النسيئة وربا الفضل ، وكان الخلاف في ربا الفضل في أول الأمر حيث حكي عن ثمانية من الصحابة عن(5/326)
عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وعبدالله بن مسعود وزيد بن الأرقم وأسامة وكذلك عبدالله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان والبراء بن عازب ، هؤلاء الثمانية حكي عنهم القول بجواز ربا الفضل ، وصح هذا القول بالرواية عن ابن عباس وعن عبدالله بن مسعود وعن عبدالله بن عمر وعن زيد بن أرقم وعن البراء بن عازب ومعاوية فهؤلاء ستة ، وأما أسامة بن زيد وعبدالله بن الزبير فلم تثبت عنهم رواية صحيحة بالقول بجواز ربا الفضل ، فالستة الباقون منهم من صح عنهم القول والرجوع وهم من عدا ابن عباس وهم عبدالله بن عمر وكذلك أيضا زيد بن أرقم والبراء بن عازب وعبدالله بن مسعود ومعاوية بن أبي سفيان –رضي الله عنهم أجمعين- وأما ابن عباس فاختلف فيه العلماء على ثلاثة أقوال :(5/327)
قول إنه رجع واستدلوا برواية زياد أنه سأل عبدالله بن عباس قبل أن يموت بسبعين ليلة عن درهم بدرهمين فرجع واستغفر ، والذين قالوا إنه لم يرجع استدلوا برواية سعيد بن جبير في الصحيح قال سألت ابن عباس قبل أن يموت بشهر عن درهم بدرهمين فقال لا بأس فوالله ما رجع عن ذلك حتى توفاه الله ، وهذا هو الصحيح أن ابن عباس –رضي الله عنهما- توفي وهو يقول بربا الفضل لأن رواية سعيد في الصحيح ، والمثبت مقدم على النافي ، ورواية زياد أضعف ، ثم رواية زياد بسبعين ليلة ، ورواية سعيد بشهر ، وابن عباس –رضي الله عنهما- كان يقول بجواز ربا الفضل وهو درهم بدرهمين إذا كان يدا بيد ويستدل بحديث أسامة بن زيد –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا ربا إلا في النسيئة )) وهذا الحديث عارضته الأحاديث الصحيحة فقول ابن عباس –رضي الله عنهما- هذا رده كبار أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فعلى تحريم الربا الخلفاء الراشدون أبوبكر وعمر وعثمان وعلي بنوعيه سواء كان نسيئة أو تفاضلا ، وقول الخلفاء الراشدين وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عمر وأجلاء أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- كلهم على تحريم ربا الفضل، وهي من المسائل التي شذ فيها ابن عباس وتعبير العلماء بالشذوذ إشارة إلى أنه لا يقبل الاتباع ، أي أنه قول مهجور يحكى ولا يعمل به كقوله بحل المتعة ونحو ذلك ، فما يتأول به الخلاف ونحوه ، فيعتبرونها من مفرداته ومن المسائل الشاذة ، وخالفه جمهور أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وهم أكبر وأعلم ، ويجاب عن دليل ابن عباس من وجوه :(5/328)
الوجه الأول : النسخ . والوجه الثاني : الجمع . والوجه الثالث : الترجيح . هذه ثلاثة مسالك أصولية مرتبة لا يصار إلى الثاني بعد ثبوت الأول، ولا يصار إلى الثالث مع إمكان الثاني، كما نبه عليه الأئمة من الأصوليّين ، النسخ ثم الجمع ثم الترجيح ، فلا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع ، ولا يقال بالجمع بين الناسخ والمنسوخ ، فالجواب عن حديث أسامة من جهة السند ومن جهة المتن ، وهذا كله داخل في الوجوه التي سنذكرها :
أولا : من ناحية النسخ، وهذا من أقوى الأجوبة أن حديث أسامة –- رضي الله عنه -- منسوخ يشهد له حديث البراء بن عازب ، فإنه لما أفتى بهذه الفتوى قال - رضي الله عنه - : قدم النبي –- صلى الله عليه وسلم -- المدينة علينا ونحن نتعامل -وفي بعض الألفاظ- وتجارتنا هكذا - أي يصرفون الدرهم بالدرهمين والدينار بالدينارين- ، فقال: قدم علينا النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وهذا في أول التشريع المدني ، وروايات حديث ربا الفضل جاءت عن متأخري الإسلام وعن كبار الصحابة وهذا يقوي أنه منسوخ ، وهذا المسلك يميل إليه بعض الأئمة كالإمام الحميدي أشار إليه في مسنده وغيره .(5/329)
أما المسلك الثاني وهو مسلك الجمع أن نجمع بين الحديثين فنقول: إن حديث: ((لا ربا إلا في النسيئة )) المراد به تعظيم أمر ربا النسيئة ، والأحاديث التي يسميها العلماء أحاديث التعظيم لا ينظر فيها إلى ظاهرها بأن يراعى مفهومها ، من أمثلتها قوله عليه الصلاة والسلام : (( الحج عرفة )) فقد قال عليه الصلاة والسلام : (( الحج عرفة )) تعظيما لعرفة ، لا أن المبيت بمزدلفة ليس بواجب ، ولا رمي الجمار والمبيت بمنى وبقية أفعال الحج ، إنما قال أعظم ما يكون الحج إذا كان في عرفة ، وكذلك أعظم ما يكون الربا إذا كان في النسيئة ، وهذا صحيح لأن ربا النسيئة في حال اتحاد الصنف مع الجنس كما سيأتي ويقع في حال اتحاد الجنس واختلاف الصنف لقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد )) فأصبح ربا النسيئة أقوى من ربا الفضل ، فاستقام أن يحمل الحديث على التعظيم ، لأننا وجدنا النوعين من الربا أحدهما أقوى من الآخر وأعظم فساغ أن يحمل الحديث على ما يوافق لا على ما يخالف ، هذا من جهة الجمع بين الحديثين .(5/330)
هناك جواب ثالث للإمام الشافعي –رحمه الله- حمل حديث : (( لا ربا إلا في النسيئة )) على أنه خرج مخرج السؤال والجواب ، أي أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- سئل عن مسألة فيها ربا النسيئة فقال عليه الصلاة والسلام : (( لا ربا إلا في النسيئة )) أي هذا الذي تسأل عنه هو الربا بعينه ، والقاعدة في الأصول: ((أن النص إذا خرج مخرج الجواب عن السؤال لم يعتبر مفهومه)) ، مثال حينما تقول: نجح الطلاب فقد حكمت بكونهم ناجحين ، لكن إذا قلت: نجح محمد وعبدالله وصالح نفهم أن البقية لم ينجحوا ، فأنت حينما حدّدت محمد وعبدالله وصالحاً في الإخبار نطقا هؤلاء ناجحون ، فهما نفهم أن من عداهم ليسوا بناجحين ، إذًا لماّ تحدد الأشخاص ويكون منك ابتداء يستقيم أن تقول أن من عداهم ليس بناجحين ، طيب لو سأل سائل فقال: هل نجح عبدالله وصالح ومحمد؟ فقال المجيب: نعم نجح عبدالله وصالح ومحمد ، هل معناه أن من عداهم لم ينجح ؟ الجواب لا ، إذاً هذا معنى قول العلماء النص إذا خرج في جواب السؤال لم يعتبر مفهومه ، وقال إن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- سئل فأجاب بهذا الجواب فحكى الصحابي الجواب ولم يحك السؤال ، هذا اختيار الإمام الشافعي –رحمه الله- وجوابه عن حديث زيد بن الأرقم .(5/331)
أما مسلك الترجيح فمسلك الترجيح ترجح أحاديث جمهور الصحابة –رضوان الله عليهم- المحرمة على حديث ابن عباس سندا ومتنا ، أما من جهة السند فإن حديث ابن عباس من رواية أصاغر الصحابة ، لأنه يرويه عن أسامة بن زيد ، وعبدالله –- رضي الله عنه -- وأسامة كلاهما من صغار الصحابة ، وهذا عند العلماء –رحمهم الله- ليس انتقاصا بالصحابة ، وإنما مرادهم أن الصحابي الأكبر كان أقرب إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وأكثر شهودا لموطن التنزيل ، وأعرفهم بما يكون من النبي –- صلى الله عليه وسلم -- من فعل وقول ، ولذلك قال : (( ليليني أولوا الأحلام )) فقدم الأكابر ، وكان يليه الكبار ثم الصبيان ثم النساء ، فهذا معلوم بالسنة ، ثم ابن عباس نفسه يسلم بهذا المسلك الأصولي ، فإنه لما سأله أبو موسى –رضي الله عنه وأرضاه- وقال اتق الله يا ابن عم رسول الله أيأكل الناس الربا بفتواك ، هذا الذي تفتي الناس به أشيئا وجدته في كتاب الله أو شيئا سمعته من رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فقال كل ذلك لا أقول ، أما كتاب الله فلا ، يعني ليس فيه آية تحل ربا الفضل لأن الآية عامة ، وهو مفسر للقرآن ، وأما أحاديث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- هذا كلام في الصحيح فأنتم أعلم برسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- مني ، انظر كيف هذه الأمة من الصحابة يأتي في معرض الخلاف ويقول لمن يخالفه: أنت أعلم مني ، فأين هذه الروح والنفس ، ما كان الصحابة –رضي الله عنهم- يمنعهم من الاعتراض بالحق أي شيء ، قلوب زكية ولذلك العلماء لما قالوا الإجماع السكوتي حجة بعض العلماء يقول حجة في زمان الصحابة ، لأنهم ما يعرف منهم أن يسكتوا أبدا عن الحق من صفائهم ونقائهم وحرصهم على الحق ، فقال أنتم أعلم برسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- مني ، فهذا يدل على تقديم رواية الأكابر على رواية الأصاغر ، هذا من جهة السند ، أن أحاديث الجمهور من رواية الأكابر وأحاديث(5/332)
أسامة من رواية الأصاغر .
ثانيا : أن أحاديث الجمهور عن الصحابة الذين رووها متصلة ، عبادة بن الصامت يقول سمعت رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، عمر بن الخطاب في الصحيحين عنه –- رضي الله عنه -- قال : (( الذهب بالذهب ربا إلا هاه وهاه )) وأبو موسى الأشعري أيضا في الصحيحين يقول : (( ولا تشفوا بعضها على بعض في الذهب والفضة )) وكل من عمر وأبي موسى يقول: سمعت ، فالرواية متصلة ، لكن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال حدثني أسامة فروايته بواسطة ، وأحاديث الجمهور روايتها بدون واسطة فتقدم الرواية المتصلة على الرواية بالواسطة .
قلنا: إن أحاديث الجمهور ترجح من جهة السند ومن جهة المتن ، أما من جهة السند فلأمرين :
الأول: كونها من رواية الأكابر وحديث ابن عباس من رواية الأصاغر .
ثانيا : أنها متصلة بالسماع وحديث ابن عباس بواسطة فيقدم المتصل على ما كان بواسطة ، لماذا يقدم المتصل على ما كان بواسطة ؟ لأن الذي بواسطة يحتمل أن يكون هناك سبب أو تكون هناك حادثة أو شيء يفسر الحديث ، ولم ينقل كاملا ، ولذلك تعتبر الرواية التي تأتي بسماع أو شهود الصحابي لها هذا عند التعارض وإلا فالكل مقبول ، يعني هذه الأمور التي يضعها علماء الأصول عند التعارض فقط ، هذا معنى لما يختلفون في حدثنا وسمعت ونحو ذلك ، كله وتقسيم الأحاديث إلى صحيح وحسن وضعيف وصحيح لذاته وحسن لذاته وحسن لغيره وصحيح لذاته وصحيح لغيره كله فقط عند التعارض ، فالمتصل مقدم على ما كان بواسطة ، وإلا فالكل مقبول ، لكن قبول هذا بحصول الطمأنينة ليس كقبول هذا بحصول الشك والاحتمال ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا .
وأما بالنسبة للترجيح متنا فأحاديث التحريم الذي يستدل به الجمهور ترجح لأنها من جهة المنطوق ، وحديث ابن عباس من جهة المفهوم ، (( لا ربا إلا في النسيئة )) مفهومه أنه يجوز في غير النسيئة ، ومن هنا يقدم المنطوق على المفهوم هذا الوجه الأول .(5/333)
الوجه الثاني: أن أحاديث الجمهور حاظرة موجبة للتحريم ، وحديث ابن عباس عن أسامة مبيح ، والقاعدة إذا تعارض الحاظر والمبيح يقدم الحاظر على المبيح ، قالوا لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قدم النهي على الأمر ، فقال : (( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا )) ومن علماء الأصول من يقول يقدم الحاظر على المبيح؛ لأن الحاظر ينقل عن الأصل وهو البراء الأصلية بالحل ، فأفاد علما زائدا ، ولذلك الزيادة هذه تقدم على ما لم يشتمل عليها ، وعليه فإن تحريم ربا بنوعيه نسيئة وتفاضل هو الذي عليه المعوّل وهو الذي دلت عليه الأدلة في الكتاب والسنة . والله –تعالى- أعلم .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : ما حكم شراء المعلبات التي بداخلها نقود سواء قصدها أو لم يقصدها . وجزاكم الله خيراً ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فهذه المسألة من مسائل بيوع الجوائز ، وهي البيوع التي تكون فيها جوائز ، وسنتكلم عليها إن شاء الله في البيوع المعاصرة ونبين بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بها ، لكن ما ورد في السؤال من وضع النقود داخل المبيعات مثل علب الحليب يوضع فيها نقود أو جنيهات ذهب هذا لا يجوز ؛ أولا : لأنه من بيع الغرر ، لأن الناس يشترون وهم يظنون أنهم سيربحون هذه الجوائز ولكن لا يربحون ولا يجدون شيئا ، فغرر البائع بالمشتري .(5/334)
وثانيا : أنه لو وجدت فيها نقوداً إن كان حليبا فإنه ينقص قدره بما بداخله من النقود ، فإن كانت النقود ورقا يعني شيئا يسيرا فحينئذ نقول باع النقد بالنقد ، لأنه في هذه الحالة لو كان الذي بداخل العلبة مائة ريال وهي علبة حليب قيمتها عشرة ريال كأنه بادل العشرة بالمائة مع زيادة أيضا بالحليب، وحينئذ يكون يشتري العلبة من أجل النقد ، وكأنه يشتري النقد بالنقد متفاضلا ومع وجود الزيادة من غير النقد ، وسنفصّل في أحكام بيوع الجوائز إن شاء الله إذا انتهينا من مسائل البيوع نسأل الله بعزته وجلاله أن ييسر ذلك بمنه وكرمه ، وأن يلهمنا فيه الصواب وأن يعصمنا فيه من الزلل والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : من لم ينو الصيام ولكن لم يأكل ولم يشرب ولم يجامع ولم يباشر حتى قبل غروب الشمس بساعتين نوى الصيام هل يصح منه الصيام ، وهل يكتب له أجر يوم كامل أو من وقت النية . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
أما صيام الفريضة فلا يصح إلا إذا بيّت النية بالليل؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من لم يبيّت النية بالليل فلا صوم له )) وأما صيام النافلة فيجوز ما لم ينتصف النهار ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- دخل على أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- وقال: (( هل عندكم من شيء ؟ قالت: لا . قال: إني إذا صائم )) ، وهذا أصل عند العلماء في جواز تأخر نية النافلة ، وأنها تطرأ أثناء اليوم وإن لم يكن ناوياً من أوله ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
باب الربا(5/335)
قال المصنف –رحمه الله- : [ باب الربا ] قال رحمه الله : [ عن عبادة بن الصامت –- رضي الله عنه -- قال : قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى )) ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فقد صدر المصنف –رحمه الله- بحديث عبادة بن الصامت –رضي الله عنه وأرضاه- وهذا الحديث حديث عظيم ، ولذلك يسميه العلماء بقاعدة الربا ، يعني مسائل بيوع الربا هذا الحديث أصل لها ، لأنه بين نوعي الربا: ربا النسيئة وربا التفاضل ، وبين فيه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ضوابط الربا والأصناف الربوية، ولم يرد عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- حديثاً جمع أصناف الربا كهذا الحديث، فغيره قد تفرقت فيه الأصناف الستة ، ولكن حديث عبادة –- رضي الله عنه -- جمع ما لم يجمعه غيره .
يقول رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فيه : (( الذهب بالذهب )) الذهب هو المعدن المعروف، ويشمل الأصفر منه والأبلتين في قول أهل الخبرة إنه كالذهب ، وظاهر قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( الذهب بالذهب )) العموم ، بمعنى أنه لا يجوز بيع ذهب في مقابل ذهب إلا إذا تحقق أمران :
الأمر الأول: التماثل .
الأمر الثاني: التقابض . فلا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصرف ذهبا بذهب أو يبادل ذهبا بذهب إلا إذا كان مثلا بمثل يدا بيد .(5/336)
أما الشرط الأول وهو التماثل فالمراد به التساوي ، وهذا ما عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله : (( سواء بسواء )) وهذا التماثل والتساوي يكون بالوزن ، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم عنه - رضي الله عنه - أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا تبيعوا الذهب بالذهب وزنا بوزن والفضة بالفضة وزنا بوزن )) وفي حديث أبي سعيد –- رضي الله عنه -- في الصحيح : (( لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا وزنا بوزن )) فالتماثل هنا في الميزان ، فيبيع الكيلو بالكيلو ، والمائة غرام بالمائة غرام وهكذا ، إذاً التماثل بالذهب يكون بالوزن ، وقد عبر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- باللفظين فقال : (( مثلا بمثل )) وقال : (( سواء بسواء )) والمراد بذلك اتحاد وزن الثمنين ثم قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( الذهب بالذهب )) الباء للبدلية والمقابلة ، أو المقابلة فالذهب في مقابل الذهب عام من رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- سواء كان تِبرا أو كان مسبوكا أو كان مصوغا حُليا كالأسورة والخواتيم والقلائد والبناجر ، أو كان مضروبا كالجنيهات والأوراق النقدية في القديم كانت كلها مما كان رصيدها ذهب كلها من الذهب كالدينار والدولار والجنيه والليرة كلها أصلها ذهب ، فهذا كله بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بعموم قوله : (( الذهب بالذهب )) أنه يجب فيه التماثل ، فلو أنه بادل مضروبا بمضروب كجنيهات بجنيهات وجب التماثل ولو كان أصلها مختلفا كالجنيه السعودي مع االجنيه الانجليزي مثلا ، أو الجنيه المصري ، أو الجنيه الفرنسي ، إذا كان الجنيهات القديمة من الذهب ، فهذه يجب فيها التماثل إذا كانت مضروبة ، ويحل الوَرَق محلها، فيكون التماثل بعدده لأنه راجع إلى وزنه ، فلو صرف عشرة جنيهات مجموعة في ورقة واحدة ، أو مائة جنيه بورق واحد بمائة جنيه مفرقة ينبغي أن يكون العدد واحدا لكي يتساوى الوزن في أصله ،(5/337)
وسنبين هذا في مسألة البيوع المعاصرة في حقيقة الورق النقدي، هذا إذا كان مضروبا ، ومن هنا نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الدينار بالدينارين ، والدرهم بالدرهمين ، وهذا يدل على أنه يجب التماثل ، وكذلك لو كان الذهب مصوغا ، فلو أن امرأة عندها ذهب قديم أرادت أن تبادله بذهب جديد فجاءت بذهب يساوي ألفي غرام وهما كيلوان فأرادت أن تبادله بذهب جديد فلابد وأن يماثله في الوزن ، فيكون كيلوين في مقابل كيلوين ، فلو قال لها ادفعي القديم وأعطيك الجديد ، وادفعي مائة ريال أو ألف ريال أو ريالا واحدا فرقا لم يجز ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أمر بالتماثل في بيع الذهب بالذهب ، وفي هذه الحالة لابد من الأخذ بهذا العموم ، ثم نفس هذا المعنى كما يستفاد من عموم الحديث يستفاد من فتاوى الصحابة –رضوان الله عليهم- فإن عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- لما أفتى معاوية –- رضي الله عنه -- الصحابة ومن معهم حينما كانوا في غزو الشام أن يبيعوا أواني الغنيمة متفاضلة لقاء الجودة، فالإناء الجيد يباع بأضعافه من الآنية الرديئة، بلغ عمر ذلك فكتب إلى معاوية ينهاه .(5/338)
وروى مالك –رحمه الله- في الموطأ عن نافع أن رجلا صائغا سأل عبدالله بن عمر وقال: يا أبا عبدالرحمن، إني أصنع الذهب وإذا أردت بيعه استفضلت قدر الصنعة - بمعنى لو جاءني أحد يريد أن يأخذ ما صنعته أخذت زيادة في الوزن على الوزن مقابل الصنعة- فهل يحل لي ؟ فنهاه عبدالله بن عمر، وراجعه الرجل ولم يزل يراجعه حتى بلغ عبدالله –- رضي الله عنه -- باب المسجد وأراد أن يركب راحلته والرجل يراجعه فالتفت إليه وقال : عهد رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- إلينا الذهب بالذهب ، فعمم - رضي الله عنه - ، وهذا القول قال به جماهير السلف والأئمة –رحمهم الله- من الصحابة والتابعين ومن بعدهم منهم الأئمة الأربعة ، فالصنعة والجودة لا تؤثر في التفاضل ، ولو قال قائل: كيف إذا كان الذهب أكثر صنعة أبيعه بذهب ليست فيه صنعة متساويا ؟ نقول هذا حكم الشرع ، وإذا أردت أن تخرج من هذا الإشكال تبيع القديم بالنقد وتستلم النقد، ثم بعد ذلك تشتري ما شئت من الجديد ، ودلت على ذلك السنة كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة –رضي الله عن الجميع- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- استعمل رجلا على خيبر - وجاء في رواية الدار قطني وأبي عوانة أن اسمه سواد بن غَزِيَّة - فجاءه بتمر من خيبر فقال فأعجب النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وكان تمرا جيدا، فقال عليه الصلاة والسلام: أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا نبيع الصاع من هذا بالصاعين - أي أننا نأخذ الرديء الذي عندنا ونعطي لصاحب هذا التمر الجيد في مقابل الصاع من هذا الجيد بالصاعين - فقال عليه الصلاة والسلام : (( لا تفعل )) وفي بعض الروايات : (( أوه! عين الربا رده رده ، بع الجمع بالدراهم ثم اشتر به جنيباً )) .(5/339)
فقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( بع الجمع بالدراهم )) يعني الرديء (( ثم اشتر به جنيبا )) يعني جيدا ، ولذلك نقول من كان عنده ذهب قديم يريد أن يبادله بجديد أنت بالخيار بين أمرين، إما أن تبادل مثلا بمثل سواء بسواء كما أمر رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- دون زيادة أو نقصان ، وإما أن تبيع القديم وتفارق البائع حتى تتم الصفقة الأولى؛ لأن البيعين بالخيار ما لم يتفرقا ، فإذا أتتمت الصفقة الأولى رجعت واشتريت الجديد ، وهذا بشرط أن لا يشترط عليك حينما يشتري منك القديم أن تشتري منه الجديد ، وعليه فإن السنة واضحة في الدلالة ومنصوص كلام العلماء والأئمة في المذاهب كلها على أنه لا يجوز أن يجعل لجودة الصنعة أو جودة الذهب ، فالذهب فيه عيار أربعة وعشرين وعيار إحدى وعشرين وعيار ثمانية عشر ، والسبب في اختلافه في ذلك هو اختلاف الشوب إذا كان خالصا من الشوب كان أصفاه وأعلاه ، ثم ينقص بحسب ذلك ، ومن هنا خففوا في شوب النحاس مع الذهب لعدم تحقق التماثل ، وحكى ابن رشد الإجماع على ذلك؛ لأنه مغتفر ، فإذا بادل عيار ثمانية عشر بعيار أربع وعشرين نقول له: أنت بالخيار إما أن تبادل مثلا بمثل يدا بيد؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنكر إعطاء التمر الجيد صاعين من الرديء في مقابل الصاع من الجيد ، فدل على أن جيد هذه الأصناف الربوية وكل الأصناف الربوية ورديئها سواء ، وهذا من باب سد الذرائع ، لأنه فعلا الجيد له قيمة ، ولكن الشريعة لو فتحت للناس لاسترسلوا في أهوائهم ، وأصبح المزاج في الجيد والرديء يختلف من قوم إلى قوم ومن عُرف إلى عرف ومن بلد إلى بلد، ومن هنا ضبطت الشريعة الأصل بوجوب التساوي ، إذا ظاهر قوله –عليه الصلاة والسلام : (( الذهب بالذهب )) العموم ، ونستمسك بهذا العموم وندين الله أنه لا يجوز التفاضل في صرف ذهب بذهب ، وأنه يجب أن يكون هناك التماثل في الوزن ، قال عليه الصلاة والسلام : (( الذهب بالذهب(5/340)
والفضة بالفضة )) الفضة بالفضة كالذهب بالذهب دل الحديث على أنها يجب فيها التماثل ويجب فيها التقابض، سواء كانت الفضة مضروبة أو غير مضروبة، مضروبة كالدراهم والريالات الفضية ، والدراهم الفضية ، والأوقيات كلها من المضروب سواء كانت مضروبة أو كانت مصوغا ، أو غير ذلك ، فلو جاء بريالات فضة قديمة وأراد أن يشتري بها فضة من أسورة أو قلائد نقول تزن الريالات الفضة القديمة فإذا وجدتها تساوي مائة غرام يدفع في مقابلها من الحلي وزن مائة غرام ، هذا التساوي باعتدال الوزن ، وكذلك أيضا لو بادل الحلي من الفضة بالحلي من الفضة يجب أيضا التماثل ولا يجوز أن يكون هناك فضل في أحدهما على الآخر .(5/341)
قوله عليه الصلاة والسلام : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة )) نفس الكلام الذي قلناه في جودة الفضة في جودة الذهب ورداءتها من حيث الصنعة ، فلو كان هناك أشياء مصنوعة من الفضة جميلة وصنعتها تزيد في قيمتها وبودلت هذه الأشياء بأشياء ليس فيها ذلك فإننا نوجب التماثل كما ذكرنا في الذهب بالذهب ، والدليل عموم قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( الذهب بالذهب )) وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل )) لا تبيعوا نهي إلا مثلا بمثل (( ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا غائبا منها بناجز )) كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد –رضي الله عنه وأرضاه- فاجتمع الشرطان ، إذا بادل الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة فلابد من التماثل ، ولابد من التقابض ، أما التقابض في الذهب بالذهب والتقابض في الفضة بالفضة وهو الشرط الثاني فقد دل عليه منطوق حديث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في قوله : (( يدا بيد )) ، ودل عليه أيضا في قوله –عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين : (( ولا تبيعوا غائبا منها بناجز )) ودل عليه حديث عمر –- رضي الله عنه -- في الصحيحين أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( الذهب بالذهب ربا إلا هاه وهاه والفضة بالفضة ربا إلا هاه وهاه )) فقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( هاه وهاه )) يعني هه وهه وهو الصوت الذي يكون عند الدفع ، وقيل يكون عند الدفع وعند الأخذ ، هه يعني أعطني ، لكن المعروف أنه يكون عند الدفع، فأنت تقول له : هه قال عليه الصلاة والسلام : (( إلا هاه وهاه )) وهذا يدل على أنه مباشر ، هذا الشرط الثاني وهو التقابض الأصل في قوله : (( يدا بيد )) كما في حديثنا أن يعطيه بيد وأن يأخذ بيد أخرى ، فلو أنه صرف الذهب بالذهب أو صرف الفضة بالفضة أو باع الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة فيعطي البائع بيد ويستلم بيد أخرى ،(5/342)
على ظاهر قوله يدا بيد ، يصبح في هذه الحالة لو أعطاه وتأخر الطرف الثاني هل يجوز ؟ للعلماء وجهان :
منهم من قال : لا يصح إلا إذا كان يدا بيد ، وهي مسألة صندوق التاجر ومسألة مجلس العقد .
ومنهم من قال : يجوز التأخير ماداما في مجلس العقد ولم يفترقا فمادام أنهما لم يفترقا فالأمر أخف .
الذين يقولون ينبغي أن يكون في مجلس العقد يستدلون بقوله : ((يدا بيد )) والذين يقولون يجوز يدا بيد ويجوز متأخرا بشرط أن لا يفترقا يستدلون بما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- سأله عبدالله –- رضي الله عنه -- فقال : يا رسول الله إني أبيع بالدراهم وأقتضي بالدنانير فما يحل لي ؟ - بمعنى أنه كان يبيع الإبل بالدراهم، فإذا جاء الرجل يسدده الدين يقول ما عندي إلا دنانير أو يبيع بالدنانير الذهب فإذا جاء وقت السداد يقول: ما عندي إلا فضة (دراهم)، فهل يجوز هذا الصرف يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -،- قال: (( لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء ))، فجعل العبرة بمجلس العقد ، ومن هنا خفف جمهور العلماء –رحمهم الله- في تأخير الصرف مادام أنهما في مجلس العقد ، ولكن الأورع والأفضل والأكمل أن يكون مباشرة يدا بيد ، وهذا له حكمة عظيمة في قوله : (( هاه وهاه )) وقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( يدا بيد )) فلو تأملت الآن بعض الأحيان تأتي بالرجل وتعطيه المائة ريال من أجل أن يصرفها ، أو تشتري بخمسين وتبقى لك خمسون ، فلو كان يطبق شرط الشرع ويعطيك الخمسين مباشرة ما حصل إشكال ، فحقك عندك وحقه عنده ، لكن ما الذي يجري ، بعض الأحيان يأخذ منك المائة ريال ويرميها في الصندوق ثم يقول لك: كم أعطيتني ؟ فتقول: أعطيتك مائة ، يقول: لا أعطيتني عشرة ، وبعض الأحيان تعطيه خمسمائة يقول أعطيتني مائة ، وبعض الأحيان يقول ما أعطيتني شيء لأن الرجل مشغول ، ومن هنا الشريعة تريد أن تضمن الحق ، ما ظلمت الناس ، هذه مائة ريال صرف ، كما أنه أخذ(5/343)
حقه حينما يأخذها يعطي ما يقابلها فورا ليس بتشدد ، ولا تزمت ، ولا تضييق ، هذا حفظ لحقوق الناس ، لما يكون حفظاً لحقوق الناس هو عين العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، فهي تريد أن تحتاط ، ولا تريد حق الإنسان أن يضيع عليه ، فمذهب من يقول أنه ينبغي أن يكون يدا بيد في مجلس العقد لاشك أنه أسلم وأحفظ للحقوق ، فهي تحتاط للمتعاقدَين، وما ظلمت أحد منهما ، قالت خذ حقك وأعط حق الناس ، فما في داعي أن تأخذ من الآخر وتماطل وتؤخر ولو كان في مجلس العقد على مذهب من يقول : إنه ينبغي أن يكون يدا بيد ، إذا هناك شرطان التماثل وضابطه التساوي في الوزن ، والتقابض وهو أن يتقابضا في مجلس العقد والأفضل أن يكون يدا بيد مباشرة ، الذهب بالذهب هذان النوعان يعتبران من جنس الأثمان ، فحديث عبادة الذي معنا –رضي الله عنه وأرضاه- فيه جنس أثمان وجنس مثمونات ، فهذه الأصناف الستة تنقسم إلى قسمين : القسم الأول : يتعلق بالأثمان و، القسم الثاني: يتعلق بالمثمونات وبالأخص المطعومات ، ومن هنا قال العلماء –رحمهم الله- حديث الأصناف الستة فيه جنسان : جنس الأثمان بالذهب والفضة ، وجنس المطعومات وهي الأربعة الباقية : التمر، والبر، والشعير، والملح ، فبين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في جنس الأثمان أنه يشترط التماثل والتقابض ، الأربعة المطعومة نفس الكلام الذي قلناه في الذهب والفضة نقول في الأربعة المطعومة ، فلا يجوز بيع البر بالبر ، ولا التمر بالتمر ، ولا الشعير بالشعير ، ولا الملح بالملح إلا إذا تحقق الشرطان :(5/344)
الشرط الأول: أن يكونا مثلا بمثل، والتماثل في المطعومات يكون بالمكيل كيلا، وبالموزون وزنا ، فما يكال كصاع من تمر في مقابل صاع من تمر ، فلا يجوز أن يبيعه صاعاً من تمر جيد بصاعين من تمر رديء ، أو بصاع ونصف من تمر رديء ، ولا يجوز أن يبيعه صاعا جيدا من البر بصاعين من البر الرديء أو من نوع آخر من البر ، وهكذا بالنسبة للشعير والملح ، يجب التماثل ، والدليل على ذلك ما قلناه قوله عليه الصلاة والسلام : (( مثلا بمثل )) وقوله : (( سواء بسواء )) وفي الصحيح من حديث معمر بن عبدالله –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا تبيعوا الطعام إلا مثلا بمثل )) وحديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري الذي تقدم معنا في عامل خيبر يدل على اشتراط التماثل، وأنه إذا وقع التفاضل تحت أي مبرر سواء الجودة والرداءة أو القدم والجدة مثلا أن يكون التمر من العام الماضي حولياًُ بتمر جديد هذه السنة فيقول أعطيك التمر الجديد من هذه السنة من السكري صاعا على أن تعطيني صاعين من تمر العام ، لا يجوز وهذا عين الربا ، إذاً لابد من التماثل ، ولابد من التقابض فيعطيه ويقبض منه، ولا يفترقا وبينهما شيء ، وذلك لقوله –عليه الصلاة والسلام- في حديثنا : (( يدا بيد )) فدل على أنه يجب التقابض ، ولا يجوز النَّسَاء ، هذا بالنسبة للأربعة الأصناف وهي : البر، والتمر، والشعير والملح ، هذه الأصناف الستة ذكر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لها حالتين :
الحالة الأولى: أن تبيعها متحدة الجنس والصنف .
والحالة الثانية : أن تبيعها متحدة الجنس مختلفة الصنف .(5/345)
نحن قلنا في الحديث جنسان : جنس أثمان ، وجنس مطعومات ، فجنس الأثمان تحته صنفان : الذهب والفضة ، وجنس المطعومات تحته أربعة أصناف : البر والتمر والشعير والملح ، فإذا نظرت إلى هذا الحديث وجدت النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ذكر حالتين لهذه الأصناف الستة ، الحالة الأولى متحدة الجنس والصنف، وهذا منطوق قوله : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر وبالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح )) فالذهب بالذهب متحد الجنس متحد الصنف ، والبر بالبر والتمر بالتمر إلى آخره ، مع أن البر بالبر والتمر بالتمر قد يكون أنواعا أخر ، فالبر أنواع ، والتمر أنواع لكنها متحدة الجنس ، ومتحدة الصنف ، فإذا بادلت هذه الستة متحدة الجنس متحدة الصنف - إذا بادل أو باع أو صرف أو فعل أي شيء من هذه المقابلة باتحاد جنس وصنف فلابد من أمرين هما : التماثل ، والتقابض ، فإن شئت قلت يشترط التماثل والتقابض ، وإن شئت عكست فقلت جرى الربا من وجهين : النسيئة ، والفضل ، فإن تحقق الشرطان جاز ، وإن تخلف الشرطان وقع الربا من وجهين ، نسيئة وتفاضلا ، وإن تحقق شرط ولم يتحقق الآخر فتماثلا ولم يتقابضا أو تقابضا ولم يتماثلا فإما ربا نسيئة وإما ربا فضل ، إن تماثلا ككيلو ذهب بكيلو ذهب تماثلا في الوزن ، ولكن قالوا أعطيك الكيلو الآن وتعطيني غدا ، حينئذ نسيئة ، ربا النسيئة ، ولو قال له : أعطيك صاع تمر بصاع تمر تماثلا ، قال أعطيك الصاع الآن وتعطيني بعد ساعة ، هذا ربا النسيئة، والعكس تقابضا ولم يتماثلا ، فقال له : أعطيك كيلو من الذهب القديم في مقابل نصف كيلو من الذهب الجديد ، قال : قبلت ، فأعطاه في مجلس العقد ، ولكنهما متفاضلان ، فيقع ربا الفضل ، إذا لم يستويا وزنا في الذهب والفضة فربا الفضل ، وإذا لم يستويا كيلاً في الأربعة المنصوص عليها من المطعومات فربا الفضل ، وإذا أخّر أحدهما أو كلاهما فربا النسيئة ، هذا بالنسبة لما ذكره النبي –-(5/346)
صلى الله عليه وسلم -- في الحديث ، ذكر اتحاد الجنس والصنف بقوله كما ذكرنا الذهب بالذهب إلى آخر الستة، وذكر اتحاد الجنس واختلاف الصنف في قوله : (( فإذا اختلفت هذه الأصناف )) إذاً عرفنا أنه عند اتحاد الجنس والصنف لابد من الأمرين فإن الحالة الثانية هي أن يتحد الجنس ويختلف الصنف ، ويقع هذا في جنس الأثمان ، ويقع في جنس المطعومات ، فأما بالنسبة في جنس الأثمان وهما الذهب والفضة ، المبادلة بين الذهب والفضة يعطيه مثلا فضة في مقابل ذهب مثل ما يجري الآن في الريالات الورقية في القديم كان يعطيه ديناراً في مقابل الدرهم ، أو يعطيه كيلو ذهب في مقابل ثلاثة كيلو من الفضة ، وإلى زماننا هذا قد يفعله الصاغة ، فإذا بادل الذهب بالفضة هناك شرط واحد وهو أنه يجب عليهما أن يتقابضا ، ولا يجب عليهما أن يتماثلا ، فإذاً يجري الربا من وجه واحد وهو ربا النسيئة ، وعليه فإذا اتحد الجنس كالأثمان واختلف الصنف كذهب بفضة في جنس الأثمان ، أو اتحد الجنس كالمطعومات كجنس المطعومات واختلف الصنف كبُرّ بتمر ، وشعير بملح ، وملح ببر كل هذا يجب فيه شيء واحد وهو أن يتقابضا في مجلس العقد، يجوز أن يبيعه الصاع من البر في مقابل المائة من التمر والمائة من الشعير والمائة من الملح ، لا يجب التماثل إذا اختلف الصنف، فإذا باع البر بالتمر ، والشعير بالملح ، والملح بالبر كله يجوز فيه التفاضل ولا يجوز فيه النساء، يعني التأخير ، ومن هنا أصبح ربا النسيئة أعظم من ربا الفضل ، وهذا الذي ذكرناه بالأمس أن ربا النسيئة يقع مع اتحاد الجنس والصنف ويقع مع اتحاد الجنس واختلاف الصنف ، فأصبح أكثر ومن هنا عظم أمره كما أن الوقوف بعرفة فيه المقصود الحج الأعظم فعظم أمره فعظمه الشرع بقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( الحج عرفة )) وعظم ربا النسيئة بقوله : (( لا ربا إلا في النسيئة )) بمعنى لا ربا كامل ، لأنه يقع في جميع الصور في حال اتحاد الأصناف واختلافها .(5/347)
أشار النبي –- صلى الله عليه وسلم -- إلى هذه الحالة الثانية وهي اتحاد الجنس واختلاف الصنف بقوله : (( فإذا اختلفت هذه الأصناف )) ولذلك بعضهم يقول: تعود إلى أقرب مذكور وأقرب مذكور الأربعة ، ويتبعها الذهب والفضة معنًى بالدلالة منه عليه الصلاة والسلام ، فيصبح اختلاف البر مع التمر والشعير مع الملح لا يجب فيه إلا التقابض ، هاتان حالتان : الأولى اتحاد الجنس والصنف، فيجب فيه أمران والثانية اتحاد الجنس واختلاف الصنف فيجب فيها أمر واحد وهو التقابض ، بقيت حالة أخيرة وهي أن يختلف الجنسان مثل أن تأخذ واحد من جنس الأثمان في مقابل واحد من الأربعة من جنس المطعومات، فتشتري مثلا بالذهب برا أو تمرا أو شعيرا أو ملحا ، أو تشتري بالفضة برا أو تمرا أو شعيرا أو ملحا ، لا يجب التماثل ولا يجب التقابض ، فأنت بالورق النقدي الريال منزل منزلة رصيده وهو الفضة الريال الفضة ، فآخذ حكم الفضة ، لو اشتريت بريال الفضة صاعا من تمر لم يشترط التماثل ولا تماثل بين موزون ومكيل ، ولا يشترط التقابض ، فلك أن تعطيه الريال الآن ويعطيك الصاع غدا سلما ، ولك أن تأخذ منه الصاع الآن وتعطيه الريال غدا دينا وقرضا ، ولك أن تدفع له حالا ويدفع لك حالا ، إذاً إذا كان جنس الأثمان في مقابل جنس المطعومات لا يشترط التماثل ولا التقابض ، ولذلك أجاز النبي –- صلى الله عليه وسلم -- تعجيل الذهب والفضة وتأخير الطعام فقال كما في الصحيحين من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- : (( من أسلم )) وفي لفظ : (( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم )) فكان السلف أنه يعطي الدنانير والدراهم لصاحب المزرعة أو للشخص مثلا تقول له هذه ألف ريال أريد منك عشرة آصع من تمر السكري في أول رمضان ، قدمت الثمن من الفضة وأخر المثمن من المطعومات وهو التمر ، لابأس ولا حرج ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أذن بذلك ، فأصبح قوله : (( فإذا اختلفت هذه الأصناف(5/348)
)) في مبادلة الأربعة ببعضها، ومبادلة الذهب والفضة ببعضهما ، هذا حاصل ما يقال بالنسبة للأصناف المنصوص عليها .
في هذا الحديث بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ربا النسيئة وربا التفاضل بالتفصيل الذي ذكرناه ، ثم قال عليه الصلاة والسلام في بعض ألفاظ الحديث : (( ولا تبيعوا غائباً منها بناجز )) وفي بعض ألفاظ الحديث: (( فمن زاد أو استزاد فقد أربى )) قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( فمن زاد )) أي دفع الزيادة في الحالة التي لا يجوز فيها التفاضل وهي حالة اتحاد الجنس والصنف ، سواء من الأثمان أو من المطعومات ، (( فمن زاد فقد أربى )) فالذي يدفع الزيادة مرابي، (( أو استزاد )) أي طلب الزيادة استفعال السين والتاء للطلب ، أي طلب الزيادة ، فقال أنا ما أعطيك صرف هذه العشر الريالات الورقية إلا إذا أعطيتني ريالا منها فأعطيك تسعة معدنية ، وهي كلها راجعة إلى الريال تجد حتى الحديد يسمى ريالاً لأنه قائم مقام رصيده وهو الفضة ، فيكون حينئذ استزاد طلب ريالا على صرفه ، وهكذا في القديم يقول له لا أصرف لك العشرة دراهم إلا بتسعة ، وهذا استزاد (( فمن زاد أو استزاد)) فيه دليل على أن دافع الربا –والعياذ بالله- وآخذه سواء –والعياذ بالله- ، ومن هنا لو قال له شخص أنا أعطيك مائة ألف ريال دينا وتردها بفائدة وهي مائة وعشرة ، فتأتي وتقول له يا أخي اتق الله –- عز وجل -- هذا عين الربا ، يقول أنا لم آكل الربا ، والله لعن آكل الربا ، وأنا لم آخذ الربا ، إنما الذي أخذ الربا هو الذي استدنت منه أو أقرضني نقول إن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فمن زاد )) فقد دفعت وزدت ، وسوى بينك وبين الطرف الثاني فقال : فمن زاد أو استزاد فقد أربى فوصفك بكونك مرابيا فيحل عليك ما يحل على المرابي ، لماذا لأن النص لحديث عبادة بين هذا ، ومن هنا ورد اللعن للآكل والموكل ، وفي قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( فقد أربى )) أي وقع في الربا ،(5/349)
وفي هذا دليل على ما قدمنا من وجوب مراعاة التماثل والتقابض في الأصناف الربوية على التفصيل الذي ذكرناه .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز بيع مطعوم مكيل أو موزون بجنسه إلا مثلا بمثل ] : [ ولا يجوز بيع مطعوم مكيل أو موزون] بعد أن بين لنا رحمه الله الحديث الوارد في الربا شرع في بيان ما ينبني عليه، وعند العلماء رحمهم الله في الربا الأصناف الربوية تنقسم إلى قسمين :
أصناف منصوص عليها ، وأصناف ملحقة بالمنصوص عليها ، وهذا مبني على مسألة وهي جريان القياس في الشريعة ، وللعلماء في حديث عبادة –- رضي الله عنه -- الذي صدر به المصنف باب الربا مسلكان :(5/350)
المسلك الأول يقول : إن هذه الأصناف التي ذكرها النبي –- صلى الله عليه وسلم -- هي أصول يقاس عليها غيرها مما وجدت فيه العلة الموجبة للقياس والإلحاق ، ومنهم من قال : إن هذه الأصناف الستة هي التي يجري فيها الربا ولا يجري في غيرها البتة ، فعلى المذهب الأول يكون حديث عبادة –- رضي الله عنه -- من باب الخاص الذي أريد به العموم ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من الصحابة ومن بعدهم ومنهم الأئمة الأربعة. وعلى القول الثاني أو المذهب الثاني أن الربا خاص بهذه الأصناف الستة يكون حديث عبادة –- رضي الله عنه -- من باب الخاص الذي أريد به الخصوص ، فلا يتجاوز الربا هذه الأصناف الستة ، وأصل هذه المسألة راجع إلى مسألة أصولية وهي هل القياس حجة في الشريعة أو لا ؟ والذي دلت عليه الأدلة في الكتاب والسنة أن القياس حجة ، وقد دلت على ذلك الأدلة بعمومها وخصوصها وللإمام ابن القيم –رحمه الله- مبحث نفيس في أعلام الموقعين أجاد فيه وأفاد كعادته –رحمه الله- في حجية القياس ، وهو من أنفس من تكلم على هذه المسألة الأصولية ، حيث دل الدليل من كتاب الله –- عز وجل -- على مشروعية الاجتهاد والنظر قال تعالى : { فاعتبروا يا أولي الأبصار } والاعتبار من العبور ، فجعل ما حدث لمن قبل سيحدث لمن بعد إن وجدت العلة وهي الظلم أو تكذيب الرسل أو نحو ذلك مما يوجب العذاب ، فالمقصود من هذا أن الاعتبار أو النظر له أصل في الشرع وقد قال عليه الصلاة والسلام أحاديث في استعماله للقياس مشهورة منها : ما ثبت عنه –عليه الصلاة والسلام- أنه جاءه رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما وذكر لونا غير لونه فقال له هل لك من إبل ؟ قال نعم ، قال ما لونها ، فذكر لونها فقال عليه الصلاة والسلام هل فيها من أورق ؟ يعني لوناً يخالف اللون الذي ذكرته ، قال نعم إن فيها لورقا قال عليه الصلاة والسلام من أين جاء ؟ قال : (( لعله نزعه عرق ))، فقال عليه الصلاة والسلام :(5/351)
(( وهذا لعله نزعه عرق)) ، فقاس ما يحدث للآدميين على ما يحدث للحيوان وهو الإبل في انتفاء الشبهة وسقوط التهمة بقوله وهذا لعله نزعه عرق ، يعني قس هذا على هذا ، كما أن هذا يحتمل أنه نزعه عرق وهو حيوان أنت أيضا ربما كان في أجدادك أو كان في أجداد المرأة من فيه هذا اللون فنزع الولد لسلفه ، فهذا قياس ، كذلك أيضا ثبت عنه –عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح لما سئل فقال له السائل إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ، فقال أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيه ؟ قال نعم ، قال فدين الله أحق أن يقضى ، فقاس صلوات الله وسلامه عليه انشغال الذمة بحقوق الآدميين ووجوب الوفاء بعد الموت على انشغالها بحقوق الله ووجوب الوفاء بها بعد الموت ، فهذا يدل على مشروعية القياس وأنه سنة مأثورة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وسأله عمر –- رضي الله عنه -- فبين وذكر في سؤاله أنه هش فقبل امرأته فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( أرأيت لو تمضمضت؟ -يعني هل يبطل صومك- قال: لا ، قال: فمه )) ، والمراد من هذا الحديث أن الشهوة القاصرة لا تفضي لانتقاض الصوم في شهوة الفرج ، فكذلك لا تفضي لانتقاضه في شهوة الفرج ، توضيح ذلك أن من وضع الماء في فمه لم يبلعه والماء من جنس شهوة البطن ، ولذلك قال : (( يدع طعامه وشرابه وشهوته )) فالمحرم على الصائم شهوة البطن وشهوة الفرج ، فالبطن تشتهي الأكل والشرب وحرم عليه شهوة البطن ، وحرمت عليه شهوة الفرج بالجماع ، فإذا وضع الماء في فمه قد ينتفع برطوبة الفم ويستجم بها ، وهكذا لو قبل فإنه يجد نوعا من الشهوة واللذة ولكنها قاصرة في كلتا الحالتين ، كما لم تنقض الأولى لم تنقض الثانية ، وكذلك عن الصحابة –رضوان الله عليهم- لأنهم استعملوا القياس ، حتى إن أبا سعيد الخدري –- رضي الله عنه -- فيما جاء عنه في الرواية الصحيحة التي اختلف في رفعها ووقفها والصحيح وقفها أنه قال : (( وكذلك ما يكال ويوزن ))، وفي(5/352)
بعضها ((وكذلك الميزان)) ، فهذا يدل على أنه يلتحق بهذه الأصناف إذا كان آخذا حكمها ، والذين منعوا القياس وهم الظاهرية استدلوا بأن القياس رأي ، والرأي مذموم في الشرع كما قال تعالى : { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } وهذا باطل ، هذه المسألة دائما ينبغي أن ينتبه لها ، أهل الظاهر يعتبون على الفقهاء والأئمة استخدامهم للنظر والفهم ، ويحتجون بمثل هذه الآيات التي ذم الله فيها الرأي ، وهذا احتجاج باطل كما قرره بعض الأئمة ، لأن الرأي ينقسم إلى قسمين في الشريعة :(5/353)
رأي محمود ورأي مذموم ، أما الرأي المحمود فهو المستنبط من الشرع ، والرأي المستنبط من الشرع والفهم المبني على الشرع محمود صاحبه بكتاب الله وسنة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، أما في كتاب الله فإن الله يقول: { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } كان إبراهيم النخعي –رحمه الله- يقول : لولا هذه الآية لأشفقت على المجتهدين ، أي لخفت عليهم ، وهي قوله تعالى : { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما } قصة سليمان وداود مبنية على الرأي والاجتهاد ، ولذلك صحح الله اجتهاد سليمان وأثنى عليه ؛ لأنه أكثر فهما وأثنى على فهم داود –عليه السلام- ، وهذا مبني على أنه لما نفشت الغنم في الليل ورعت في مزرعة الرجل أفسدتها ، فلما أصبح واشتكى إلى داود فنظر فوجد أن قيمة الأرض والزرع الذي فسد تساوي قيمة الغنم ، فحكم بأن الغنم تصبح ملكا لصاحب الزرع ما ظلم ، لأن صاحب الزرع يطالب صاحب الغنم بقيمة والغنم تساوي القيمة فأخذ حقها ، هذا ما فيه إشكال من حيث الظاهر ، لم يعطه أكثر من حقه ، ولم ينتزع من صاحب الملك أكثر من حقه ، فلما خرجا من عند داود قال سليمان لو كان الأمر إلي لحكمت بغير هذا ، أحكم على صاحب الغنم أن يأخذ الأرض فيزرعها حتى تعود كما كانت عليه ، وأحكم على صاحب الزرع أن يأخذ الغنم فينتفع من صوفها ولبنها حتى يعود إليه حقه، يعني تعود إليه مزرعته كما كانت ، فأثنى الله على حكم سليمان لأن حكم سليمان أبقى الأصل ، لأن الأصل أن صاحب الأرض مالك لأرضه وصاحب الغنم مالك للغنم ، فحينئذ رجع كل ذي حق حقه وبقيت الأيدي كما هي هذا أفضل ، من هنا قال : {ففهمناها} وهذا زيادة مبنى تدل على زيادة في المعنى أن حكم سليمان كان أكثر لمراعاته للأصل ، فأثنى الله على كلا الفهمين ، لأن داود استنبط من الشريعة ، وسليمان استنبط من الشريعة –عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام- فكل من استنبط من الشرع وكان من أهل الاستنباط وراعى ضوابط(5/354)
الاستنباط فإنه مأجور غير مأزور ، جاءت شريعتنا تؤكد هذا فقال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين : (( إذا اجتهد الحاكم فأصاب كان له أجران وإن اجتهد وأخطأ كان له أجر واحد )) لأنه إذا اجتهد وأصاب كان له ثواب الاجتهاد وثواب الإصابة ، وإذا اجتهد وأخطأ كان له ثواب الاجتهاد والتعب والعناء والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، فإذا كون الرأي وكون الفهم وكون الفقه يستنبط من شرع الله ومن كتاب الله ومن سنة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فصاحبه يحمد ولا يذم ، ولا يسوى بالآراء المذمومة ، وهذا تحميل للآيات والأدلة ما لا تحتمله ، ومن هنا الرأي نقول إذا استنبط من الشرع فهو من الشرع، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إذا اجتهد الحاكم )) فبين أن في شريعة الله اجتهاد وأن في شريعة الله رأياً، وقال تعالى : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } ولم يقل كلهم ، فلم يسو بين عباده في الفهم ، فهذا يدل على أن الرأي إذا كان مستنبطا من الشرع فإنه فرع ، والفرع آخذ حكم أصله ، فصاحب هذا الفهم إذا كان من أهل الفهم ومأذونا له بالفهم مأجور غير مأزور بأجرين إن أصاب وبأجر إن أخطأ ، فمسألة القياس مسألة صحيحة حتى إن الصحابة –رضوان الله عليهم- استخدموه ، ولما أشكلت مسألة العول على عمر –- رضي الله عنه -- وجمع لها أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فقال الزبير –- رضي الله عنه - - في مسألة الأختين والزوج ، فالزوج نصيبه في كتاب الله النصف ، والأختان نصيبهما في كتاب الله الثلثان ، ففي هذه الحالة لا يمكن أن يجتمع النصف والثلثان ، فاستشار أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فقال الزبير يا أمير المؤمنين وهو عمر –- رضي الله عنه -- يا أمير المؤمنين ما أرى هذا إلا كرجل مات عليه دين أكثر مما ترك قسم ما ترك بين الغرماء بحظهم ، وهذا هو العول ، ولذلك تقسم المسألة على طريقة العول وتعول إلى سبعة ويكون للأختين من(5/355)
السبعة الأربعة وللزوج من السبعة الثلاثة ، فصار النقص على الطرفين ، كل بحسب نصيبه وحظه ، وهذا قياس قاس الحقوق في التركة على حقوق في الذمة ، ولأن الميت له وعليه ، وهذا قياس صحيح وعمل به جماهير العلماء –رحمهم الله- في العول سلفا وخلفا ، فالمقصود أن القياس حجة إذا كان حجة فيقاس غير هذه الأصناف عليها ، إذا قلنا بالقياس فعندنا الذهب والفضة وعندنا البر والتمر والشعير والملح ، فأما الذهب والفضة فيلتحق بهما كل ما كان موزونا من غير الأطعمة ، كل شيء من غير الأطعمة إذا كان يباع وزنا جرى فيه الربا ، فوجب فيه التماثل والتقابض إذا اتحد الجنس والصنف ، ووجب فيه التقابض دون التماثل إذا اتحد الجنس واختلف الصنف ، مثال لو سألك سائل وقال : عندي حديد من الزهر وهو أردأ أنواع الحديد ، وهناك تاجر عنده حديد من الصلب فقال الذي عنده حديد الصلب الجيد للذي عنده حديد الزهر أعطني طنين أعطيك طنا من الصلب ، نقول لا يجوز ، لأن الحديد موزون ولا يباع مع اتحاد الصنف إلا مثلا بمثل مع التقابض ، ولو سألك صاحب خشب فقال إنه يريد أن يبادل الطن من الخشب بطنين أو الطنين بالثلاثة ، تقول لا يجوز إلا مثلا بمثل مع التقابض ، وذلك مبني على العلة ، فالعلة في الذهب والفضة الوزن ، وهذا هو مذهب الحنفية ورواية عن الإمام أحمد ، قال صاحب الإنصاف أنها هي المذهب ، ودليلها حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- في الصحيح : (( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن )) وهذا مبني على أن تحقق العدل راعت الشريعة فيه في جنس الأثمان بالوزن ، ومن هنا وقد تكلم على ذلك ابن رشد في بداية المجتهد كلاما نفيسا وانتصر لهذا المذهب وبين أنه أقوى وأن الشريعة قصدت بالوزن المماثلة حتى لا يحصل السفه ولا يحصل الظلم والجور ، هذا بالنسبة للذهب والفضة يلتحق بهما كل موزون من غير الأطعمة ، أما إذا كان غير موزون ويباع بالعدد(5/356)
كالأبواب والنوافذ والشبابيك والسيارات والأدوات الكهربائية والساعة والكتاب والقلم فإنه يجوز فيه التفاضل ولا يشترط فيه التماثل ، فلو سألك عن مبادلة سيارة بسيارتين مع اتحاد الصنف والنوع تقول يجوز ، ولو سألك عن مبادلة باب ببابين وطاقة بطاقتين وكتاب بكتابين وقلم وساعة بساعتين تقول يجوز ، لأنها تباع بالعدد ولا تباع بالوزن ، ويجري الربا في كل موزون إذا كان من جنسه مع اتحاد الصنف من الوجهين ، أما بالنسبة عند الجمهور أن العلة هي الثمانية وهي التي تسمى بالقاصرة ، واختلف في التعليل بها والجمهور يعللون بها خلافا للحنفية كما قال صاحب المراقي رحمه الله :
وعللوا بما خلت عن تعدية ليعلم امتناعه والتقوية(5/357)
أما بالنسبة للأصناف الأربعة وهي البر والتمر والشعير والملح فالعلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن ، كونها قليلة أو موزونة ، فكل طعام يباع كيلا أو وزنا إذا اتحد صنفه جرى فيه الربا من وجهين : نسيئة وتفاضلا ، وإذا بيع مع غير صنفه جرى فيه من وجه واحد وهو النساء ، فمثلا إذا كان يباع الطعام وزنا أو كيلا فإنه يقصد الشرع من هذا التماثل وعدم حصول الظلم والتضييق على الناس في أقواتهم ، فلا يجوز له أن يبيع الكيلو بالكيلوين كما في الأرز ، ولا يجوز له أن يبيع اللتر باللترين كما في الحليب لأن الكيلو وزن واللتر كيل ، اللتر والصاع والمد والفرق كلها مكيلات ، والكيلوغرام والغرام والطن هذه كلها موزونات ، ومن باب الفائدة هناك الوزن وهناك الكيل وهناك العدد وهناك الذرع ، فالوزن مثل ما ذكرنا في الغرامات والكيلوغرام والطن والكيل في الصاع واللتر والقفيز والرطل ، والعدد مثل الحبة تبيع بالحبة ، تقول عندي سيارة مثل بيع الحيوانات بعير ، بعيران ، ثلاثة ، ما في أحد يبيع الإبل بالوزن ، ولا أحد يبيع السيارة بالوزن ، إذا هي معدودة ، ولا تباع بالكيل فهي معدودة ، المذروع مثل العقارات تقول خمسون متراً في خمسين متراً ، عشرون متراً في عشرين متراً ، هذا مذروع ، ومثل القماش الياردة ونحو ذلك ، والمتر أيضا في القماش ، هذا كله مذروع ، فإذا كان الذي يباع من الأطعمة إما أن يباع بالوزن مثل ما ذكرنا الأرز في زماننا ، أو يباع بالكيل مثل اللتر كما في الحليب لذلك تجد في علبة الحليب يكتب عليه لتر ، لتران ، أو يباع الطعام بالعدد في بعض الأحيان مثلا كالبطيخ يباع بالعدد وقد يباع بالوزن في بعض الأعراف ، أو الحلوى بعض الحلاوة تباع بالحبة ، هذا يسمى معدود ، وقد تباع الأطعمة جزافاً ، لكن هذه الثلاث الأحوال هي الموجودة والغالبة ، فإذا كان الطعام يباع كيلا أو وزنا جرى فيه الربا ، وهذا هو إحدى الروايات عن الإمام أحمد واختاره غير واحد(5/358)
منهم شيخ الإسلام ابن تيميه –رحمه الله- وهذا القول قول سعيد بن المسيب من السلف –رحمة الله على الجميع- ، فإذا كان مطعوما يكال أو يوزن لابد فيه من التماثل والتقابض عند اتحاد صنفه ، ولا يجوز أن يبيعه متفاضلا ، وعليه فلو سئلت عن الفاكهة كالتفاح والبرتقال والموز تباع في أعرافنا بالوزن يجب فيها التماثل ، فلو قال أريد أن أبادل صندوق من التفاح بصندوقين من نوع آخر من التفاح ، تقول لا يجوز إلا مثلا بمثل ، ولو سئلت عن برتقال يباع وزنا كذلك ، والموز كذلك ، هذا على مذهب من يقول بالطعم مع الكيل أو الوزن ، فكل طعام يكال أو يوزن يجري فيه الربا من وجهين إذا اتحد صنفه ويجري من وجه واحد إذا اختلف الصنف ، فلو سألك عن بيع التفاح بالموز ، تقول يجب التقابض ولا يجب التماثل ، فيجوز أن يبيع مائة كيلو من التفاح بمائتين من الموز ، لكن يجب أن يكون يدا بيد ، ولا يفترقان عن مجلس العقد حتى يحصل التقابض ، هذا بالنسبة للعلة في الأصناف الأربعة ، وقد بينا خلاف العلماء وأدلتهم في شرح بلوغ المرام وفي شرح زاد المستنقع وفصلنا في هذه المسألة وذكرنا الأدلة والراجح في علة الذهب والفضة الوزن ، وفي علة الأصناف الأربعة الطعم مع الكيل أو الوزن .
الدليل على الأصناف الأربعة أنه الطعم مع الكيل والوزن حديث معمر بن عبدالله في صحيح مسلم وغيره أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا تبيعوا الطعام إلا مثلا بمثل )) والمماثلة في الطعام تقع في الموزون وزنا وبالمكيل كيلا ، وعليه فإنه يترجح قول من قال إن العلة هي الطعم مع الكيل أو الوزن .(5/359)
قال رحمه الله : [ ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بشيء من جنسه وزنا ولا موزون كيلا ] : هذه المسألة ترجع إلى أن التماثل في المكيلات كيلا وفي الموزونات وزنا ، بمعنى أنك في الغالب لا تستطيع أن تجعل التماثل متحققا في شيء يباع بالكيل بالوزن ، لأن الوزن يرجع إلى الثقل ، والكيل يرجع إلى الحجم ، فقد تجد الشيء الكبير الحجم يملأ ما لا يملأه صغير الحجم ، فيفضل كيلا ، لكن يكون صغير الحجم أثقل فيفضل وزنا ، ومن هنا لا تستطيع أن تحقق العدل في المكيلات بالوزن ، ولا في الموزونات بالكيل ، وهذه المسألة نبه عليها الإمام ابن قدامة من دقته ، نبه عليها هنا ونبه عليها في المغني ، ونبه عليها الإمام النووي والأئمة –رحمهم الله- من الفقهاء والمتقدمين تنبني عليها مسألة دقيقة وهي أن الكفارات الواردة في الشرع وردت بالكيل كالفدية ونحوها ، فإذا وردت بالكيل لا تضبط في الوزن ، ومن هنا كان الأئمة والسلف كلهم لم يجعلوا في صاع زكاة الفطر تقديرا له بالوزن ، ولم يذكروا عدله من الوزن ، لأن المكيل لا ينضبط بالموزون ، فأنت إذا نظرت إلى التمر وجدته أنواعا عديدة فيه نوع كبير الحجم خفيف الوزن مثل عندنا العنبرة كبيرة الحجم قليلة الوزن بحيث أنه قليلة وزنها يملأ الصاع ، والعجوة خاصة نمرة واحد هي نوعان نمرة واحد ونمرة اثنين ، نمرة واحد أثقل ، فنمرة واحد منها بالنسبة للعنبرة صغيرة الحجم ثقيلة كالرصاص ، فكيف تستطيع أن تقول التمر نخرج منه كيلوين أو ثلاثة كيلوات ، ثم نفس الحب يختلف بجودته ورداءته ونوعه في الثقل في الميزان ، مع أنه في الحجم واحد ، فلا ينضبط المكيل بالوزن ، ولا ينضبط الموزون كيلا ، ولذلك وإن اختار بعض المشايخ المعاصرين أنهم يقدرون بالوزن ولكن هذه المسألة تطرق لها العلماء والسلف والأئمة وهي موجودة ، ونبه عليها الإمام النووي في باب الربويات في الروضة وغيرها ، ونبه عليها الإمام ابن قدامة في المغني ، لأنه لا يمكن ضبطه ،(5/360)
لا ينضبط الموزون بالكيل ولا ينضبط المكيل بالوزن ، ولذلك لن تجد في كتب الفقهاء في زكاة الفطر تقديرا مع أن العلماء –رحمهم الله- قدروا كل شيء حتى في مسافة القصر قدروها بحبات الشعير ، فهم لا يمتنعون لو كان هناك مجال للتقدير لذكروه توسعة على الناس ، ثم أيضا من الفقه أن الناس نسوا الصاع ونسوا هذه السنن المحفوظة ، فمن الفقه أن تبقى في الناس ، وأن لا يعدل إلى غيرها حتى لا يتناسى الناس هذا الأصل ، وهذا من فقه الفتوى ، لأنه سيأتي زمان لا يعرفون ما هو الصاع ، وعليه ينبغي البقاء عليه ، إضافة إلى أن المدينة آكد ، خاصة كما ذكر العلماء في حديث الصحيحين : (( اللهم بارك لنا في مدنا وصاعنا )) ودعوته البركة في المد والصاع قال الأئمة أنه لا ينبغي ترك المد والصاع لدعوة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بالبركة فيه .
قال رحمه الله : [ وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يدا بيد ] : وإن اختلف الجنسان مثل ما ذكرنا الذهب في مقابل البر أو التمر أو الشعير أو الملح ، والفضة في مقابل واحد من الأربعة ، في زماننا لو اشتريت بالريالات برا أو تمرا أو شعيرا أو ملحا جاز أن تدفع وتأخذ مباشرة ، وجاز أن تؤخر الدفع ويعطيك ، وجاز أن تعطيه ويؤخر تسليم المثمن لك ، كله جائز ، لأنه اختلف الجنسان ، إذاً إذا اتحد الجنس والصنف جرى الربا من وجهين ، وإذا اتحد الجنس واختلف الصنف جرى الربا من وجه واحد ، وإذا اختلف الجنسان لم يجر الربا من وجه لا نسيئة ولا تفاضلا .(5/361)
قال رحمه الله : [ ولم يجز النسأ فيه ولا التفرق قبل القبض إلا في الثمن بالمثمن ] : [ ولم يجز النسأ] التأخير، يقال أنسأ إذا أخر ، ومنه قوله تعالى : { إنما النسيء زيادة في الكفر } وقد كانوا يؤخرون الأشهر الحرم عن زمانها ، وإذا اختلف الصنفان فإنه حينئذ يجوزالتفاضل ولا يجوز النسأ كما ذكرنا ، سواء في جنس الأثمان أو جنس المثمونات المطعومة ، أما إذا اختلف الجنسان فقد ذكرنا أنه يجوز الأمران : النسيئة والتفاضل .(5/362)
قال رحمه الله : [ وكل شيئين جمعهما اسم خاص فهما جنس واحد إلا أن يكونا من أصلين مختلفين] : وكل شيئين جمعهما اسم واحد لا يخلو إما أن يكون الأصل واحدا أو مختلفا ، أن يكون الأصل واحدا كالتمر والزبيب ، فحينئذ الأصل واحد ، ولو اختلف الزبيب الشامي بالزبيب الحجازي، أو الزبيب الحجازي بالزبيب المصري فإنه أصلهما واحد ويجب التماثل والتقابض ، وكذلك الأرز تجد الأرز أنواعا ، لكنه يرجع إلى أصل واحد ونوع واحد ، فحينئذ يحكم بوجوب التماثل والتقابض ، جنس كجنس التمور عند اتحاده وعند الاختلاف يجمعهم اسم واحد ويختلف الأصل كالخل ، هناك خل الزبيب وخل التمر وخل العنب ، فالمخللات هذه جنسها واحد وهو الخل ولكن أصلها مختلف ، فحينئذ تختلف ، لكن العبرة باتحاد الأصل حتى يسري الحكم ، والأصل في هذا أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- جعل الأصل واحدا مع اختلاف الأسماء كما في الحديث الصحيح عند أبي داود وغيره عن سعد بن أبي وقاص –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- سئل عن بيع الرطب بالتمر كله من ثمار النخل وأصلهم واحد ، فقال عليه الصلاة والسلام : (( أينقص الرطب إذا يبس ، قالوا نعم ، قال فلا إذا )) ، فهذا الحديث أصل لعدة مسائل ولذلك قال بعض الأئمة هذا الحديث أصل عظيم فينبغي الاعتناء به ، هذا الحديث حديث سعد بن أبي وقاص أصل عظيم فينبغي الاعتناء به لما ينبني عليه من المسائل ، فهو في حال إذا اتحد الجنس واختلف الأصل يعني كان جنسهما واحد ولكن الأصل مختلف حكم باختلاف الأصل وإذا اختلف الاسم والأصل واحد حكم باختلاف باتحاد الحكم ، وبناء على ذلك لو باعه خلا من عنب بخل من زبيب أو خل من عنب بخل من تمر فإنه في هذه الحالة لا يجب التماثل ويجب التقابض .(5/363)
قال رحمه الله : [ إلا أن يكونا من أصلين مختلفين فإن فروع الأجناس أجناس وإن اتفقت أسماؤها كالأدقة والأدهان ] : كالأدقة والأدهان ، الأدهان مثلا جنس واحد ، الدهن جنس واحد ، لكن هناك مثلا الزيوت جنسها واحد الزيت ، لكن هناك زيت السمسم ، زيت الزيتون ، زيت اللوز ، فكل واحد له أصل مختلف ، فإذا كان له أصل مختلف عومل بأصله ، وأما إذا كان أصلا واحدا والجنس واحدا فيجب التماثل ويجب التقابض .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز بيع رطب منها بيابس من جنسه ] : [ ولا يجوز ] أي لا يحل وهو محرم أن يبيع رطبا منها بيابس ، والأصل في ذلك ما قدمنا من حديث سعد بن أبي وقاص ، وهو أصل لما اتحد أصله واختلف اسمه ، وكذلك أيضا لما اتحد أصله واختلف وصفه ، فالرطب على صفة تخالف صفة التمر ، لكن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نظر إلى ما يؤول إليه الرطب إذا يبس فقالوا إنه ينقص ، فلم تتحقق المماثلة المطلوب شرعا فحكم بالربا فقال (( فلا إذاً ))، وعليه فإنه يجب التماثل وإن اختلف الاسم كالرطب والتمر لأن الجنس واحد ومردهما إلى أصل واحد(5/364)
قال رحمه الله : [ ولا خالصه بمشوبه ] : ولا يجوز بيع الخالص بالمشوب ، لاحظ تسلسل الأفكار ، هو يقرر لك الأصل من التماثل ، ثانيا هذا الأصل في أي شيء يجب ومتى يجب والأحوال التي يجب فيها ، ثم العوارض ، مثلا إذا كنت جئت تبادل صاع بصاع ولكن هذا صاع فيه شوب وهذا صاع لا شوب فيه ، حينئذ لا يتحقق التماثل ، الخالص هو : الذي لا يخالطه غيره ، والمشوب، هو: الذي يخالطه غيره ، والشوب إما أن يكون مما يتعذر كاليسير فهذا يعفى عنه وراجع إلى ضابط الاستحسان، وإما أن يكون شوبا ظاهرا فحينئذ يؤثر ، فمثلا لو أنه أخذ الحب وعنده صاع من الحب يريد أن يبادله بصاع من حب ، والذي عند الآخر فيه شوب السنابل وما هو مصفى ، والذي عندي مصفى لم يجز ، لأن الشوب مؤثر ، والخالص ليس كالمشوب ، ومن هنا يؤثر في نقص الكيل ، لأن له جرماً وله وضع في التقدير ، فلا يجوز بيع الخالص بالمشوب في الحبوب والتمور وغيرها ، وهكذا لو كان الاستفضال في الصفة بأن يكون تمر بتمر ، ولكن يأخذ تمرا وينزع منه النوى في مقابل تمر فيه نوى لم يجز ، لأن المماثلة لم يتحقق على هذا الوجه وقس على هذا ، لابد وأن يكونا متماثلين ، ولا يجوز بيع الرطب منها باليابس لحديث سعد ، ولا الخالص بالمشوب ، لأنه أمر بالتماثل والتماثل لا يقع في هذا .
قال رحمه الله : [ ولا نيئه بمطبوخه ] : ولا يجوز بيع الني بالمطبوخ ، فلو كان الحب نيئاً وعنده حب مطبوخ طبخه أو يكون بعض الحبوب تقلى بحبوب غير مقلية ، أو مثلا في اللحم اللحم المقدد الذي جفف في الشمس باللحم الني ولو كان وزنهما واحدا فإنه لا تتحقق به المماثلة المطلوبة .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : ما حكم الشرط في البيع كأن أبيع بيت وأشترط أن أسكنه سنة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(5/365)
فإذا بعت البيت واشترطت سكناه سنة فلا بأس ولا حرج ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- اشترى من جابر بعيره فاشترط جابر –- رضي الله عنه -- أن يركب البعير إلى أن يرجع إلى المدينة ، فقال واشترط حملانه إلى المدينة ، فصحح النبي –- صلى الله عليه وسلم -- الشرط ، وهذا النوع من الشروط الذي ورد في السؤال لا يؤثر وهو مباح والعقد صحيح ، إنما الذي يؤثر الشرط الذي يخالف مقتضى العقد ، مثل أن يقول له أبيعك هذا البيت على أن لا تبيعه لأحد ، فإن من لازم ملكية البيت أن يبيعه لمن شاء أن يهبه لمن شاء ، وأبيعك الأرض على أن لا تهبها لأحد ، وأبيعك هذه الدار على أن لا تسكنها ، وهذه السيارة على أن لا تركبها ، كلها شروط تخالف مقتضى العقد ، من ثبوت اليد والملكية وهي الشروط التي نهيت عنها شرعا ، وقد نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن الثنيا والمراد بها هذا النوع ، وحمل العلماء عليه حديث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- أنه نهى عن بيع وشرط وهو الشرط الذي يخالف مقتضى العقد . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : هل يجوز بيع جلد الميتة وهو نجس يمكن تطهيره قبل دبغه وبعده ، وهل الخمر النجس لو استحال خلا هل يجوز بيعه . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بالنسبة للمسألة الأولى وهي جلد الميتة إذا كان المبيع نجسا إذا كان المبيع يقبل التطهير فلا إشكال في جواز بيعه ، كما ذكرنا في الثوب إذا تنجس ، ولذلك الجلد يطهر بالدبغ فيجوز بيعه ، وأما بالنسبة للطرف الثاني من السؤال إذا استحالت الخمر خلا لها حالتان :(5/366)
إما أن تستحيل من نفسها ، فحينئذ هي طاهرة ويجوز بيعها فيجوز بيع مخللات التي استحالت بنفسها من الخمر ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( نعم الإدام الخل )) وأما إذا استحالت بفعل المكلف نفسه فلا ، هذا هو تفصيل جمهور العلماء –رحمهم الله- في مسألة الاستحالة . والله –تعالى- أعلم ودليلهم أن أبا طلحة –- رضي الله عنه -- لما جاء إلى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وعنده خمر الأيتام أمره النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن يريق الخمر وأن يكسر الدنان ، فهذا مال يتيم ، فلو كان الخمر يجوز تخليلها بفعل المكلف لأذن له أن يخللها ، لأن مال اليتيم فيه مجال لإصلاحه ، والنصيحة واجبة على ناظر مال اليتيم ، ومن هنا لم يأمره أن يخللها ، ثم جاء وامتدح الخل ، مع أن الخل يكون من الخمر ، فلما امتدح الخل دل على أن هناك فرقا بين أن يخلله المكلف وبين أن يتخلل بنفسه كما نص عليه الأئمة –رحمهم الله- والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : لي صديق أبره وأحسن إليه ويسيء إلي ويعاملني معاملة توحي أنه قد أصابه الملل من هذه الصداقة ، فهل أترك صداقته ، وما هي أهم حقوق الأخوة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
الأخوة أمرها عظيم ، ومن يعرف حق الأخوة ويقوم بهذا الحق طاب عيشه ، وانشرح صدره ، وعاش حميدا ومات سعيدا ، بل يموت وهو في الناس حي من مكارمه ومآثره وشمائله التي خلدها في قلوب الناس ، الأخ الصادق في أخوته من يبيع نفسه لأخيه في وقته وقوته وحوله وجاهه وما يملكه كله وفاء للأخوة .
إن أخاك الحق من كان معك
ومن إذا ريب الزمان صدعك
... ومن يضر نفسه لينفعك
شتت فيك شمله ليجمعك(5/367)
هذا الأخ الصادق الذي انطلق في أخوته من أساس التقوى ، وليس هناك أخوة على وجه الأرض أقدس ولا أطهر ولا أزكى من أخوة لله وفي الله ، وبنيت على الحب في الله وهي الأخوة الباقية إلى يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } هذه الأخوة الصادقة التي بنيت على تقوى ومن أسس بنيانه على التقوى من الله ورضوان طاب بناؤه وطابت ثماره وأينعت أشجاره ، هذه الأخوة التي يزعمها الكثير ولا يحفظ ودها وحقها إلا القليل ، أحب أقوام إخوانهم ، فما رأوا باب خير إلا دلوا عليه ، ولا سبيل رشد إلا أعانوا عليه ، فالأخ الصادق في أخوته تجده أكبر معين لأخيه على مرضاة الله ، ومحبة الله وطاعة الله ، وأحب الله ذلك منه حتى أظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، وهذه المحبة تجد آثارها الطيبة في النفوس من سلامة الصدر والحمل على أحسن المحامل ، تجد آثارها الطيبة في النفوس شاهدا وغائبا، فهو وهو شاهد يهش في وجهك ويبش ، ويفتح لك قلبه قبل أن يفتح لك ذراعيه فيشملك بحنانه ومحبته وبره وإحسانه لله وفي الله ، وإذا غبت عنه حفظ ود الأخوة فلم يذكرك إلا بالخير ، ولا يذكرك إلا ذكرك بدعوة صالحة ، ولا رأى خيرا فيك إلا سره ، ووالله إن من الإخوان من يصيبه السرور بالنعمة لأخيه أكثر من سرور ذي النعمة من صدقه في الأخوة ، وصدقه في المحبة ، وإذا اجتمع الأخ الصادق مع أخيه في هذه الدنيا وعاش معه أيام الأخوة الصادقة فإن هذه الأيام لن تنسى ، ولن تمحى من النفوس الطاهرة النقية فيرتحل الإخوان وتبقى أخبارهم وآثارهم ومواقفهم ومآثرهم في النفوس منقوشة لا يمكن أن تذهب أو تنسى ، حتى إن الرجل يفقد أخاه وحبه فيموت قبله فلا يزال يذكره بخير ويترحم عليه ، ويدعو له وتجده حزينا لفراقه ، لم ينس أيام المحبة والصفاء والإخاء .
اثنان لو بكت الدماء عليهما
لم يبلغ المعشار من حقيهما
... عيناك حتى يؤذنا بذهاب(5/368)
فقد الشباب وفرقة الأحباب
وما هز الإخوان الصادقين في آخر أعمارهم شيء مثل فراق الأحباب حينما كان يخرج إلى أخيه في الله فيجد منه ما يعينه على محبته في الله ومرضاته ، ثم تراه وقد ولى عنه أخوه فيتفطر قلبه ويحزن في ذلك الأخ الصادق فلا يذكره إلا بكى ولا تذكر مآثره إلا اشتكى ، كما فعل أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فكانوا إذا ذكروه بعد موتهم رقوا وخشعوا ودخل أبوبكر وعمر –رضي الله عنهما- على أم أيمن فذكرت لهما رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فهيجتهما فبكيا –رضي الله عنهما وأرضاهما- وكان - صلى الله عليه وسلم - بعد موت أصحابه أوفى ما يكون في أخوته ووفائه لإخوانه وأصحابه –صلوات الله وسلامه عليه- وكان جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- ابنا لعبدالله بن حرام صاحب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- الذي استشهد معه في أحد فكان - صلى الله عليه وسلم - يعطف على جابر ويحسن إليه ويتفقد أحواله وأموره ، وكان لربما يزور المرأة التي قتل زوجها وقتل أخوها فيزورها بعد موت زوجها لكي يضمد جراحها ويواسي قلبها ، كان - صلى الله عليه وسلم - أبر ما يكون في أخوته ، ولذلك قال لأصحابه وهو في بقيع الغرقد حينما قال : (( وودت أني رأيت إخواني . قالوا : ألسنا إخوانك ؟ قال: بل أنتم أصحابي )) فكان - صلى الله عليه وسلم - أبر ما يكون في أصحابه ، أنزله المنزلة السامية يقول فلان صاحبي فسموا بالصحبة ووصفوا بها تشريفا وتكريما لهم ، وقد بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن حفظ العهد من الإيمان ، فالأخ الصادق في أخوته لا يؤذي أخاه ولا يضره ولا يتسبب في أي أذية له ، ولا يغشه الأخ الصادق ليس بكذاب يأتي إلى أخيه فيأكل من طعامه ومن شرابه ويجلس معه ويتحرم بهذه العشرة فيجد أنها سياج عظيم وأنها حق كبير لا يمكن أن يخون معه ، وكانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء إذا قتل الرجل أبا الرجل ثم جاء وأكل من طعامه نسي(5/369)
ما بينه وبينه من الثأر تعظيما لأمر ما بينه وبينه ، فكيف بحال الناس اليوم حينما يدعي الرجل أنه أخ لأخيه فلا يترك سرا إلا نشره ، ولا خبرا إذا أذاعه ولا عيبا إلا فضحه ، كيف يكون أخا صادقا وهو كذاب غشاش يتصنع بصنيع المنافقين يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( حفظ العهد من الإيمان )) والعهد قد يكون لحظة تجلس مع أخيك في حلقة علم ، وتجلس مع أخيك على طاعة وبر فلا تنسى هذه اللحظة ، يقول الشافعي –رحمه الله- : (( الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة ))، فهذه الأخوة المزعومة حينما يكون الإنسان مع أخيه لا يرقب فيه إلا ولا ذمة –والعياذ بالله- لا يرقب إلا المصلحة ، فإن قضى له مصلحته فهو أخوه، وإن قضى له حاجته فهو الوفي والشهم والرضي ، وأما إذا لم يقض له شيئا من ذلك فهو وهو مما يتسبب في أذيته والإضرار به ، ولاشك أن أمثال هؤلاء سيعيشون في تعاسة وهم وغم ، لأنه لن يطيب لهم العيش ماداموا على خصال المنافقين ناسين للمحبة وعهود الأخوة والصداقة، فليس من السهل أن يدخلك أحد إلى بيتك ، وليس من السهل أن يدخلك إلى قلبه ، إذا أدخلك إلى بيته وطعامه فهذا أمر عظيم ، لكن أن يدخلك إلى قلبه وأسراره فيحدثك عن أخيه وعن أمه وأبيه وعن زوجته وعن أولاده فإنه والله قد غل عنقك بأمانة ، ووضعك في موقف صعب إنه الموقف لما يقول لك السر ويدخلك إلى قلبه ومكنون صدره فعندها تعلم أنه قد جاءت الساعة التي تحمل فيها أمانة برئت منها السماوات والأرض ، حينما يقول لك أخي أو أمي أو أبي أو أختي أو فلان أو علان فمعناها السر معناها أنك مثلي وأنك مؤتمن على هذا ، فلو ضربت رقبة الحر ما أخشى سراً ، ولذلك قالوا في الحكمة (( قلوب الأحرار قبور الأسرار)) ، أين الإخوان اليوم ؟، الرجل بمجرد أن يجلس مع الرجل أقل مجلس إن كان من العظماء خرج لكي يتحدث ما لون فراشه ، وما نوع طعامه ، وكيف يأكل ، وكيف يمد رجله ، وكيف يجلس ، وإن كان شيخا تحدث عن جميع ما رأى(5/370)
منه ويقول إن هذا قدوة ، ولا يفرق بين القدوة وبين السر ، هناك أشياء من القدوة إذا أردت أن تكون قدوة فتحدث بما يعين على طاعة الله ، وبما يعين على مرضاة الله ، وكذلك أيضا إن كان ضعيفا أنه ربما يجلس معه فيستضعفه إذا كان فقيرا أو غيره فلا يعطيه وجها ولا يبالي به ، فإذا خرج من عنده لم يرقب فيه إلا ولا ذمة ، على كل أخ أن يعيد النظر في أخوته ، وأن يعيد النظر في خلته ومحبته وصداقته ، وأن يختار لمكنون قلبه ووده وحبه من هو أهل ، وأن يعاشر الأخيار فإن معاشرة الأخيار تعين على الخير ، ومعاشرة الأبرار تعين على البر ، ومن عاشر قوما تأثر بهم وكان معهم ، ولربما حشر معهم ، فعاشر الأخيار ، واحرص على محبتهم وودهم .
أما ما ذكرت أخي بأن الأخ تحبه ولا يظهر لك المحبة ، تقبل عليه فيصد ، وتحترمه فيهينك فهذا أعظم لأجرك إن أحببته في الله ، وعود نفسك ، وليعود كل مؤمن نفسه على أن يعامل الله فما عند الله يبقى، وما عند غيره ينفذ ، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، إذا التفت إلى صدوده فإنك في هذه الحالة ستخسر الكثير ، وكن صادقا معه فإن وجدته أخا صادقا أعطيته من الأخوة الصادقة ، وإلا فأعرض عنه ويغنيك الله عنه ، فإن وجدته أنه في حاجة إليك ولا يفهم كما ذكروا عن الأحمق أنك تقترب منه لنفعه فإذا به يؤذيك في قربك وقصدت وجه الله فاصبر واصطبر لعل الله أن يعظم أجرك في هذا البلاء .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وقد نهى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- عن المزابنة
قال المصنف –رحمه الله- : [ وقد نهى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- عن المزابنة ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(5/371)
فقد جاءت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالنهي عن جملة من البيوعات المشتملة على الربا ، ومنها بيع المزابنة ، فكان الرجل يأتي إلى صاحب النخل ويقول له : أشتري ما على النخلة بهذا التمر الذي معي، وفي بعض الأحيان يجعل له فضلا وزيادة بحكم أن الذي على النخل جديد وهو مرغوب فيه أكثر فيزيد، وتارة يساوي بالخرص ، وفي كلتا الحالتين نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، ولذلك بين العلماء -رحمهم الله- أن هذا يفضي إلى التفاضل والتماثل هنا غير محقق ، فإنه يبيع الذي على الأرض معلوم قدره ، ولكن الذي على النخل مقدر خرصا ، ومن هنا منع لأنه غالبا يفضي إلى التفاضل ، فبعد أن بين رحمه الله الأصل الذي دلت عليه السنة من وجوب التماثل ذكر هذا النوع من أنواع البيوع، وقد نهى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- كما في الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه (( نهى عن المزابنة والمحاقلة)) ، والمحاقلة: بيع الحب في سنابله بجنسه على الأرض؛ فيأتيه مثلا بخمسين صاعاً ستين صاعاً من الحب ويقول له أنا أشتري منك هذا الشعير وهذا الحب الذي في السنبل بهذا الحب من جنسه وغالبا ما يقع نوع من التفاضل ، لكن من حيث هو لا يجوز؛ لأنه لا تتحقق فيه المماثلة ، نحن نعلم أن على الأرض كم قدره، ولكن الذي في السنابل أو التمر أو الثمر الذي على النخل لا يعلم قدره ، ومن هنا حرّمت الشريعة هذا النوع من البيوعات .
قال رحمه الله : [ وهو شراء التمر بالتمر في رؤوس النخل ] : وهو شراء التمر عندك على الأرض بالتمر على رؤوس النخل كما ذكرنا ، وهذا لا يمكن أن تتحقق فيه المماثلة ، إذا نظرت إلى هذا تلحق به كل شيء موجود في زماننا لا تستطيع أن تتحقق عن طريقه المماثلة سواء كان من جنس المطعومات أو كان من غيرها .(5/372)
قال رحمه الله : [ ورخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق أن تباع بخرصها يأكلها أهلها رطبا] : ورخص في بيع العرايا جمع عرية والعرية من الإعراء وللعلماء رحمهم الله في هذا النوع من الترخيص وجهان :
من أهل العلم من قال : إن العرايا أصلها أن صاحب البستان يكون عنده نخل فيعطي نخلة هدية لشخص أو هبة ، ثم بعد ذلك يتضرر من كثرة دخوله على البستان ، لأنهم كانوا يجلسون في بساتينهم بأهليهم ، فدخول الأجنبي عليهم يضرهم ويؤذيهم ويجحف بهم ، فيشتري منه هذه العرية ، وهذا الشراء لا يكون بالنقد ، وإنما يقدر كم في هذه النخلة بخرصها تمرا فيقال مثلا فيها مائة صاع فيعطيه مائة صاع ويمضي ، هذا وجه .
العرية بهذا المعنى كانت مشهورة عند العرب ، ولذلك كانوا يعرون النخل أشبه بالإعارة ، لأنه لا يملك إلا الثمرة ، فكأن النخلة مردودة على صاحبها . قال :
وليست بسنهاء ولا رُجَبيّة ولكن عرايا في السنين الجوائح
فكانوا يهبون ويعطون .(5/373)
أما الوجه الثاني فقالوا: إن هذه الرخصة سببها أن أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- اشتكى بعضهم إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- أنهم يحبون التمر والرطب وليس بأيديهم مال ونقد يشترون به الرطب ، لأن من المعلوم أن ثمرة النخيل تكون بلحا وتكون رطبا وتكون تمرا ، وفي الحديث الصحيح أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لما دخل على الصحابي في مزرعته وجد له عرجونا قال له النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ما هذا ؟ قال له يا رسول الله أردت أن تتخيّر من بُسَرِه ورُطَبه وتَمْره ، يعني أضع الجميع بين يديك ، فالشاهد من هذا أن النخل تكون فيه البُسَر وهو البلح يسمى بلحا وزَهْوا وبُسَرا وإذا طاب وانتصف الصيف بدا فيه الزبول وهو بداية الرطب فيكثر ويقل فيقال له رطبا ، فإذا استكمل الاستواء يبدأ ييبس ، فإذا يبس وجف العرجون جدّ عندها فيكون الصرام ويكون تمرا ، التمر هو أجود ما يكون وله عدة مميزات فهو أفضل الثمار وأحسنها وأطيبها وأكثرها نفعا وأيضا يبقى أكثر من بقاء البُسَر والرُّطَب ، فيبقى عند الإنسان مدة أطول ، فمن هنا ربما كان عنده تمر من العام الماضي وهو يريد أن يأكل بلحا أو يأكل رطبا أو يريد تمر هذه السنة ، فالذي يريده من هذاه النخل لا يستطيع أن يتوصل إليه لأنه ليست عنده سيولة ونقد ، وكان النقد عزيزا وقليلا ، وكان أكثر بيوعات الناس بالمقايضة يبادلون وبخاصة في زمان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، فكانوا يحتاجون إلى هذه ويريدونها ، فاشتكوا إلى النبي –- صلى الله عليه وسلم - - أنهم ليس عندهم مال يشترون به ، وما عندهم إلا تمر ، فرخص لهم عليه الصلاة والسلام أن يبادلوا هذا التمر بالتمر الذي على رؤوس النخل ، وهذا هو نفس المزابنة التي تقدمت معنا ، لكنه لما رخص لهم رخص لهم فيما دون خمسة أوسق ، أو خمسة أوسق على الشك في الرواية ، والوسق ستون صاعا ، والخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع وهي نصاب الزكاة ، ما كان(5/374)
دونها بحيث لو جاء وقال أنا أريد أن أبادل ما عندي من التمر بهذا التمر الذي على رؤوس النخل يقال له في هذا القدر دون ثلاثمائة صاع ، فحينئذ يأخذ هذا القدر ثم يعطيه لصاحب النخلة ثم يأخذ منه النخلة وينتفع ببسرها ورطبها وتمرها ، قال زيد –- رضي الله عنه -- ((ورخص في العرايا)) ، الرخصة تدل على أن الأصل حرام ، ولذلك الرخصة استباحة المحظور بدليل راجح ، فهذه الاستباحة جاءت بإذن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، ونظرا لورود الاختلاف في السبب اختلف العلماء –رحمهم الله- فمنهم من اشترط أن تكون هناك حاجة للذي يريد أن يترخص برخصة العرايا .
ثانيا : أن لا يكون عنده قدرة على شراء النخل .(5/375)
وثالثا: أن تكون فيما دون الخمسة الأوسق واختلف في الخمسة الأوسق على الشك في الرواية وهو الأحوط والأسلم في المذهبين ، واتفقوا على أن ما زاد على خمسة أوسق لا يجوز ، وإنما الخلاف في الخمسة الأوسق ، واتفقوا على أن ما دون خمسة أوسق جائز ، لأن الرواية عن زيد (( فيما دون خمسة أوسق أو خمسة أوسق ))، وكذلك أيضا اشترطوا أن تكون بخرصها ، والخارص يقدر الذي على النخلة ، والخرص غالبا يصيب ، وقد شاهدنا هذا وعشناه ، وكنت أذكر الوالد –رحمه الله- ربما جاء بثلاثة يخرصون النخل وكلهم من أهل الخبرة ، ووالله لقد عايشت منه أنه جاء بثلاثة لا يعلم أحدهم بالآخر فجاء الأول فقدّر وخرص ثم جاء الثاني وقدّر وخرص ثم جاء الثالث وقدّر وخرص وبينهم أيام أحدهم من بادية المدينة ليس حتى من داخل المدينة ، ولا يعرف الذي من داخل المدينة ، واثنان من داخل المدينة وإذا بكلمتهم واحدة ما اختلفت أن الذي ينتهي هو كذا وكذا ، فالخرص يعني علم يدرك بالتجربة وبالمعرفة ، وكان عبدالله بن رواحة خارص رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، فكان يبعثه إلى خيبر حينما عامل اليهود على زراعتها فكان كما في الصحيحين من حديث ابن عمر نصف تمر خيبر للنبي –- صلى الله عليه وسلم -- ونصفه لليهود –المساقاة- ، فكان يبعث لهم عبدالله بن رواحة من أجل أن يقول لهم أدوا هذا إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فكان يخرص ، فالخرص يقارب كثير الحقيقة ، فالشاهد من هذا أن تكون خرصا ، والخراّص إنهم أناس عندهم خبرة ينظرون إلى النخل ، ويقدرون ما يسقط غالبا من الريح ، وما يفسد غالبا من الثمر ، وما يكون من بعض الأمور العارضة ثم يقول نخلك سيكون فيه كذا وكذا أو هذه النخلة ستأتي بكذا وكذا ، ويعرف الخارص بالتجربة يعرف منه الإتقان ، فقالوا أن يكون خرصا ، وأن يتقابضا في المجلس لأنه لابد من التقابض ، وقد بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن التمر بالتمر يدا بيد وقد تقدم(5/376)
معنا ، فلا يجوز أن يقول له أشتري منك هذه النخلة بخرصها فتخرص ثم يقول له إذا فيها عشرة آصع فيها مائة صاع آتيك بها غدا ما يجوز بل يعطيه في مجلس العقد ويتم التقابض ، ويخلي الآخر بينه وبين النخلة ، وحينئذ يحصل التقابض المعتبر .
قال رحمه الله : [ ورخص في بيع العرايا فيما دون خمسة أوسق أن تباع بخَرْصِها يأكلها أهلها رطبا ] : يأكلها أهلها رطبا كما ذكرنا وهذا عند مذهب الحنابلة ومنصوص عليه وأشار إليه الشارح أيضا من اشتراط أن يكون بهم حاجة أن يأكلوا الرطب أو يحبوا أكل الرطب فوجود الحاجة عندهم شرط لحل العرايا ، وأما على الوجه الثاني الذي ذكرنا فتكون الحاجة هي تأذي وتضرر صاحب البستان من دخول الرجل عليه من أجل النخلة التي أعراها إياه ووهبها له .(5/377)
قال رحمه الله : [ باب بيع الأصول والثمار ] : الأصول جمع أصل والثمار جمع ثمرة وباب بيع الأصول والثمار هذا الباب جاءت به السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ببيان حكمه ، وهو في الحقيقة يتعلق بمسألة مهمة في البيع وهي إذا بعت الشيء ما الذي يتبع المبيع وما الذي لا يتبعه ؟ ومن هنا تقع الخصومة بين الناس إذا حصل البيع فيقول المشتري أريد المبيع وكذا ، أريد المبيع بما فيه وأنت بعتني هذا الشيء فأنا آخذه بما فيه ، ويقول البائع بل بعتك البيت ولم أبعك ما فيه ، وبعتك السيارة ولم أبعك ما بداخلها ، وحينئذ تقع الخصومة بين الناس ، فجاءت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالفصل بين العين المبيعة وبيان ما يلحقه وما لم يلحقه في مسألة تعتبر كأصل عند العلماء في الزروع والثمار ويلتحق بها غيرها ، وهذه المسألة راجعة إلى حديث عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- في الصحيح أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من باع نخلا قد أبّرت فثمرها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ومن باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع )) ففصّل عليه الصلاة والسلام في هذا ، فنظرا إلى أن هناك مبيعاً وزيادة على المبيع ناسب أن يذكره بعد باب الربا ، لأن باب الربا يقوم على الزيادة ، وحينئذ أراد أن يُفَصّل بين المبيع وغيره وما يزاد فيه مما هو مما ليس منه ، هذا بالنسبة لمقصود الفقهاء من ذكر باب بيع الأصول والثمار .(5/378)
باب بيع الأصول والثمار راجع إلى معرفة الحقوق في المبيعات ، مثلا لو أن شخصا الآن باع عمارة ثم جاء وفك أبوابها وأخرج مصابيحها وأخرج المراوح وأخرج المكيفات وهناك أشياء له حق أن يخرجها، وهناك أشياء لا حق له في إخراجها ، هناك أشياء لا حق له في إخراجها كأصل المبيع مثلا باب البيت ، نوافذ البيت ، والشبابيك ، هناك أشياء له حق إخراجها مثلا الثريات الخاصة ، أما الإضاءة التي هي من أصل البيت فلا يخرجها لأنه جرى العرف بتركها ، فإذا هناك أشياء يمكن أن تتبع المبيع ، وهناك أشياء لا يمكن أن تتبع المبيع ، تتبع المبيع إذا لم تكن من الأصل تتبعه بالشرط ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إلا أن يشترطه المبتاع )) ننبه على هذه المقدمة لأن بعض طلبة العلم باب بيع الأصول والثمار يقرأ هذا الباب في كتب الحديث وكتب الفقه ولا يدري ما الذي بداخل الباب ، من باع نخلا قد أبرت إيش علاقة من باع نخلا قد أبرت ، فالعلماء وضعوا هذا الباب في هذا الموضع ، ولذلك تجد المحدثين أيضا وضعوه في أبواب البيع ، لأنه يتعلق بهذه المسألة في إثبات الحقوق ما الذي يتبع المبيع وما الذي لا يتبعه ، وأيضا لو باع مزرعة وفيها نبات وهذا النبات منه ما يجز مرة واحدة ، ومنه ما يجز مرة بعد مرة ، فلو كانت فيه جزة مثل مثلا يجز مرة كالبرسيم مزرعة كلها برسيم ثم باعها والبرسيم فيه جزة ظاهرة فقال البائع الجزة الظاهرة لي هذه الجزة لي لأنها في ملكي ، وقال المشتري ليست لك لأنك بعتني الأرض وما فيها ، فحينئذ نقول الجزة الظاهرة للبائع لأنها في ملكه وخرجت في ملكه ، والجزة المستقبلة للمشتري لأنها تابعة لأصلها وحدثت في ملكه ، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية ، ولذلك العلماء –رحمهم الله- والفقهاء يعتنون بذكر الأصل وما بني عليه ، فذكروا حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- وما بني عليه ، وقالوا باب بيع الأصول والثمار لأن أصل هذه المسألة جاء بيانها في بيع النخيل ،(5/379)
والنخيل أصول والثمار فروع لهذه النخيل ، فلما جاء الحديث في أصل حديث من باع نخلا قد أبرت قالوا باب بيع الأصول والثمار ، وإلا ففي الحديث بيع العبد بماله هل يتبعه ماله أو لا يتبعه ، مثلا لو أن شخصا مثلا باع جوالا لو أن شخصا باع مسجلا لو باع سيارة لو باع جهازا كهربائيا أيا كان هذا الجهاز لابد أن تعرف أنت كفقيه وكطالب علم ما الذي يتبع المبيع وما الذي لا يتبعه ، فالذي يتبعه في حقيقة المبيع لا إشكال في الحكم بكونه للمشتري ، وهناك شيء يتبعه بالعرف، يعني العرف جرى أن من باع الدار يترك مثلا الترباس الذي تغلق به الدور وقد يجري العرف بخلعه ، في زماننا يجري العرف مثلا أنه يأخذ المكيف ويخرجه ، من حقه أن يخرج المكيف ، وأنّه يسلّم مثلا البيت بدون مكيفات ، لو جرى العرف في بيئة أنه إذا باع أن المكيفات تترك وأن البيت يباع بما فيه حتى ولو بفراشه مثلا لو باعه على أنه فندق ليس كما لو باعه على أنه بيت ، لو باعه على أنه مهيأ للسكن أو أنه مفروش للشقق المفروشة للإيجار فقال أريد أن آخذها منك على أنها تؤجر مباشرة ، قال نعم فمعنى ذلك أنه إما بالشرط يتبع بالشرط أو يجري العرف فإذا جرى العرف أن هناك أشياء تترك في المبيع من العقارات والمنقولات وجب تركها ، باعه سيارة وفي السيارة أشرطة للمسجل ، وفي السيارة مثلا فراش زائد موضوع على مقاعد السيارة ، وفي السيارة مثلا آلة رفع ، وفي السيارة مثلا صندوق فيه مثلا أجهزة لإصلاح السيارة ثم اختصما فقال البائع سآخذ هذه الأشياء كلها ، قال المشتري لا بعتني السيارة وأنا آخذها وآخذ ما فيها ، يعني اشتريت السيارة وأنت ما استثنيت ، فحينئذ يرد السؤال ما الذي يتبع وما الذي لا يتبع ؟ جرى العرف على أنه لا يتبع السيارة فراش البائع فيها ، ولا يتبع السيارة الأشرطة التي فيها ، ولا يتبع السيارة صندوق الأجهزة للمفاتيح ونحوها إذا كان زائدا للسيارة ، ولكن يتبعها آلة الرفع مثلا ، يتبعها(5/380)
مثلا الكَفَر الزائد لعطلها لو جاء يخلع الكَفَر، هذه أشياء نمثل بها في واقعنا لأن اليوم ما يوجد واحد يقول لك من باع عبدا وله مال ، وإنما يقول لك عندي سيارة وعندي جوال وعندي كذا وعندي يريد شيئا واقعا يعيشه ، ومن هنا ينبغي أن يعلم أن طالب العلم أشد ما يكون حاجة لمعرفة هذا الأصل ، هو من حيث الأصل يعني حتى يرتاح طالب العلم هناك أشياء تتبع المبيع بالاسم وتتبع المبيع بالعرف يجد العرف بكونها تتبع كما مثلنا ، وهناك مثلا حينما يشتري شيئا ويسميه باسم معين ويقول أريده فحينئذ كل ما يصدق عليه هذا الاسم وتتحقق به وصفه بهذا الوصف يجب دفعه إليه كاملا لو زاد شيء عليه ووجد في العرف ما يقتضي أن يكون معه أتبعناه ، وأما إذا لم يجر العرف بهذا ولا ذاك فحينئذ نقول بعدم كونه تابعا إلا بالشرط فباعه بيتا ثم أراد أن يأخذ مثلا في البيت الأجهزة الكهربائية والأشياء الموجودة فيها فأراد أن يأخذها فقال أنا اشترطت عليك أن يكون البيت جاهزا فحينئذ لا يخرجها ودخل وراء البيت ونظر في البيت كما هو فيريد أن يأخذه جاهزا للإيجار جاهزا للسكن فاشترط ، فإذا اشترط نعم يتبع ، فإذا يتبع بالشرط وبالعرف وبالحقيقة ، الحقيقة أن يكون اسم الشيء موجوداً ، وعليه اختلف العلماء في مسألة لو أنه باعه دارا أو أرضا ثم وجد فيها كنزا فهل يكون للبائع أو للمشتري ؟ طبعا من حيث الأصل إنه باعه الدار والدار ما فيها وما عليها تابع لها في الأصل يعني الكنز في داخل الدار ، فإذا كان الكنز من الدفن الحديث فهو للبائع وإن كان من الركاز القديم فهو للمشتري لأن من ملك أرضا ملك ملك ما فيها ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من ظلم قِيْد شبر من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أرضين )) فأتبع الأسفل للأعلى وهذا مما تفرعت عليه مسائل كثيرة منها صحة الطواف في الدور الثاني ، وصحة الطواف في سطح المسجد ونحو ذلك من المسائل كلها لأن الذي أسفل البناء وأعلاه يتبعه ،(5/381)
وأن المعتكف لو صعد إلى أعلى المسجد أو نزل إلى بدروم في نفس المسجد ولم يخرج إلى خارج المسجد كأنه في داخل المسجد كل هذا تابع على أن الأرض يتبعها ما سفل وما علا ، وعليه قالوا أنه من حيث الأصل أن طالب العلم ينبغي أن يعلم ما الذي يتبع المبيع وما الذي لا يتبعه ، قال رحمه الله : [ باب بيع الأصول والثمار ] أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق ببيع الأصول وهي النخيل والثمار وهي الفرع المنبني على الأصل ببيان حكم ما الذي يتبع وما الذي لا يتبع ، أي الحالة التي يحكم فيها بتمكين المشتري من الثمرة ، وهي الشرط ، أو أن يكون البيع قبل التأبير ، والحالة التي لا يستحق وهي أن يكون البيع بعد التأبير ولم يشترط .(5/382)
قال رحمه الله : [ روي عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال : (( من باع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع )) ] : روي عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- حديث صحيح عن عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- وهو في الصحيح وقد يتجوز العلماء بصيغة التمريض فيقولون روي عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لا يقصدون حقيقة التضعيف ، روي عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يريدون به مطلق الورود أنه قال : (( من باع نخلا قد أبرت )) النخل تمر بمراحل والمراد ثمرة النخل ، فهناك ما يقرب من الشهرين تكون فيها النخلة ليست فيها شيء وهذه يسمّيها بعض أهل العلم بمرحلة السكون ما فيها شيء ، يعني هذه المرحلة تكون بعد الجذاذ بعد جذ النخلة وقبل الطلع ، فما بين مرحلة الجذاذ ومرحلة الطلع تتخلق بقدرة الله –- عز وجل -- الثمرة وفي هذه المدة تتكون ثم تبدأ تطلع ، فإذا أطلعت خرجت منها أسياف النخل ، وسيف النخل في داخله الثمرة ، وفي داخله الطلع الذي تغبر به الثمرة ، فالنخل فيها ذكور وفيها إناث ، فما كان من الإناث وهو الذي فيه الثمار تخرج الثمرة محفوظة بإذن الله في كيس ، يعني من الخشب ، وأكثر من ذراع ويعرض وينحف على حسب اختلاف أنواع النخل ، والغالب في الفحول أنها تكون كبيرة منتفخة ، فالشاهد أنه يبدأ هذا السيف في الطلوع قليلا قليلا حتى يستتم طلوعه ، فإذا طلع هذا السيف تشقق بقدرة الله –- عز وجل -- فإذا انشق رأيت هذه الثمرة مركبة مرتبة مقدرة بتقدير العزيز العليم بما تحار فيه العقول ، ومن أعلم دلائل عظمة الله –- عز وجل -- حينما ترى هذه الثمرة بتناسقها وترتيبها فإذا خرجت تخرج صغيرة جدا قد حبة الفلفل هذه الثمرة التي قد تقارب في بعض الأحيان الأصبع إذا اكتمل حجمها ، فتخرج صغيرة فإذا تشققت وفي بعض الأنواع قبل أن تتشقّق يبادرها الفلاح فيخرج الغطاء الخشبي هذا الذي حفظ الله به هذا العرجون فإذا أخرجه بدت(5/383)
شماريخ العرجون وفيها الحبيبات التي هي ثمرة النخلة ، التي تكون على أجزاء الشمروخ ، فهذه الشماريخ يوضع فيها اللقاح هناك ذكور وهي الفحول من النخل تخرج أسيافها منها ما ينشر للشمس يطيب بها اللقاح ، ومنها ما يؤخذ مباشرة ، فتجد فيه غبارا الذكر يطلع الطلع والأنثى تطلع الثمار ، فإذا أخذ من الفحل اللقاح غبرت به هذه العراجين ولا تستطيع أن تغبر دون أن تضبط كل نخلة بضابطها ، هناك النخلة التي تحتاج الكثير ، وهناك النخلة التي تحتاج إلى القليل ، حتى إن بعض النخل لا تحتاج إلى غبار ، ويلقح بالرياح فتنقل قيل من نفس الفحول غباره حتى قال بعض العلماء في قوله تعالى : { وأرسلنا الرياح لواقح } وبعض المتأخرين يقول إن هذه الآية لم يظهر تفسيرها الآن حينما صارت قضية احتكاك السحب وكذا ، نحن نقول ما ذكره العلماء والأئمة في التفسير نعم وعلى العين والرأس وبخاصة إذا كان محفوظا ودلت عليه لسان العرب وقال به أئمة التفسير فهو تفسير على رغم أنف من شاء ومن أبى ، وإذا طرأ شيء جديد نضيفه إلى ذاك؛ لأن الله ما خص عصراً دون عصر ، ولا زماناً دون زمان ، فنعتبر هذا من إعجاز القرآن أنه صالح في كل زمان ومكان ، لكن ما نقول إن الأولين كانوا يجهلون معنى الآية الكريمة ، ولا يغلى في هذا ، لأن هذا في زمان فقط ، لكن هذا التفسير الذي فسر في أربعة عشر قرناً ، ولذلك ينبغي أن ينتبه لهذه القضية ، فالشاهد أنها تلقح الرياح بعضها فإذا لقحت هذا التلقيح والتأبير ويكون في فصل معين من السنة وإذا غبرت تبدأ تنعقد الثمرة حتى تكتمل ثم بعد ذلك تصير أول ما تطلع تكون خضراء تكتمل خضراء ثم يضربها اللون ، فإذا ضربها اللون بدأت مرحلة الإزهاء التي عناها النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بحديث أنس في الصحيحين : (( نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الثمرة حتى تزهي قالوا وما تزهي يا رسول الله قال تحمارّ أو تصفارّ )) وأيضا في قوله : (( حتى تُشقّح(5/384)
قالوا وما تشقّح ؟ قال : تحمارّ أو تصفارّ )) إذا احمرت أو اصفرت بدا الصلاح ، وإذا بدا صلاحها تهيأت بقدرة الله للأكل وحينئذ جاز بيعها كما سيأتي إن شاء الله في الباب الذي يلي هذا الباب ، فإذا مرحلة التأبير هي المرحلة التي تلي مرحلة الطلع ، فإذا كان البستان الذي باعه البائع قد غبر الثمرة أطلعت وغبرها ووبرها فحينئذ قد ثبتت الثمرة في ملكه ، وحينئذ إذا وقع البيع والثمرة مغبرة مؤبرة أو وقع البيع بعد أن صارت زهوا ، أو وقع البيع وهي رطب فالثمرة ملك للبائع لأنها متى وقع البيع بعد أن تؤبر ، فهذا معنى قوله : (( من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع ))، أما لو وقع البيع في مرحلة السكون يعني جذ النخل فلما جذ جاء وقال: بعني بستانك. قال: أبيعك إياه بمليون، فاشتراه فلا إشكال أن الثمرة القادمة في العام القادم بإذن الله ستكون في ملك المشتري ولا طريق للبائع عليه ، وهكذا لو اشتراها ويبدو فيها الطلع ، على خلاف بين العلماء هل بداية التأبير بزمان التأبير أو بفعل التأبير ؟ ولكن بداية الطلع لا تدخل في هذا لأن بداية الطلع ليست هي آخذة حكم المرحلة نفسها ، إنما الخلاف لو كان الزمان زمان التأبير ولم يتمكن البائع من تأبيره كله ، لأن بعض الفلاحين يعرض البستان للبيع ويوافق ذلك وقت التأبير ، ثم لا يفرغ لكي يغبر يقول كيف أغبر البستان يعني بائعه بائعه ، فلا يريد أن يتكفل مشقة تغبيره وربما كلفه ذلك ، فحينئذ يكون الزمان زمان تأبير ، فهل العبرة بالزمان أو بالتأبير حقيقة ؟ وظاهر قوله قد أبرت يقوي مسلك من قال بالفعل، ومن قال إنه بالزمان لأنه راعى ثبوت الملك وهذا المذهب أقوى نظرا والأول أقوى أثرا .(5/385)
قال رحمه الله : [ وكذلك بيع الشجر إذا كان ثمره باديا ] : بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في قوله فثمرنها للبائع إذا كان قد أبرها إلا أن يشترطها المبتاع ، المبتاع هو المشتري ، وهذا يدل على أنه إذا قال له اسمع الثمرة أنت الذي أبرتها والنبي –- صلى الله عليه وسلم -- أثبت لك الملك ولكن أشترط أن آخذ البستان بالثمرة ، قال قبلت ، فحينئذ يستحق بالشرط ، وبقوله إلا أن يشترطها المبتاع دليل على جواز الشروط في البيع ، فلما جاءت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- تمنع الشروط تارة وتبيح الشروط تارة علمنا أن الذي منعه عليه الصلاة والسلام غير الذي أحله ، فوجدنا أن الذي أحله لا يخالف مقتضى العقد وليس فيه غرر ، ولا مضاد لكتاب الله –- عز وجل -- وعلمنا أن الذي رده هو من جنس ما خالف مقتضى العقد أو كان معارضا للشرع فعلمنا أن الشروط فصلوا في حكمها ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليس في كتاب الله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) وهذا حينما اشترط أهل بريرة أن يكون الولاء لهم فضادوا يعني خالفوا الشرع ، فكل شرط يضاد الشرع لا يكون موافقا لكتاب الله وسنة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فهو ساقط ، وأيضا نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن الثنيا وهذا يدل الثنيا الاستثناءات ثم أجاز لجابر أن يستثني ، فعلمنا أن الثنيا المجهولة توجب الغرر وأن الثنيا المعلومة لا توجب الغرر ، فجابر استثنى الركوب لكن لو جاء وقال: أبيعك هذه السيارة على أن لا تركبها استثنى ركوبها ، وهذا يخالف مقتضى العقد ، فالمقصود من هذا أن قوله إلا أن يشترطها يدل على مشروعية الشرط في البيوع .(5/386)
قال رحمه الله : [ وكذلك بيع الشجر إذا كان ثمره باديا ] : وكذلك أي مثل ذلك الحكم بيع الشجر مثل أشجار الفواكه بأنواعها كالبرتقال والتفاح والموز والأعناب ، كذلك المزروعات إذا كان ثمره باديا يعني ظاهرا لأنه ما بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- هذه الأشياء ، لكن بين النخل كأصل لها ، فلما كان عند التأبير إذا بدت الثمرة أبرت ألحق العلماء بهذا كله ثمرة بادية ، فإذا باعه العنب قد بدت ثمرته أو باعه التين وقد بدت ثمرته ، أو باعه الورد وعنده بستان ورد كله أشجار ورد لم تتفتح أكمامه ولكن بدت زهور الورد ولو كانت مغلقة لم تنفتح بعد ، لأن انفتاحها بدو الصلاح ، وأما إذا خرجت الزهرة فهو الذي عليه المعول كالتأبير ليس بداية لبدو الصلاح وإنما بداية تخلق الثمرة ، وعليه فكلما كان في بداية تخلق الثمرة وقد ظهرت وخرجت يصبح في هذه الحالة في ملك البائع وإذا خرجت في ملك البائع كان من حقه سواء كان خروجها كاملا أو ناقصا .
قال رحمه الله : [ فإن باع الأرض وفيها زرع لا يحصد إلا مرة فهو للبائع ما لم يشترطه المبتاع ] : كالحبوب مثلا إذا باعه أرضاً مزروعة بالشعير جذ واحدة وكذلك الذرة يجذ جذة واحدة فحينئذ نقول إنه ملك للبائع لأن هذا شيء يعني في ملكه وهو الذي قام عليه ويده على مملوك المباع ، فحينئذ يستحقه ، لكن لو كان الشيء يحصل مرة بعد مرة أو يجز مرة بعد مرة .(5/387)
قال رحمه الله : [ وإن كان يجزّ مرة بعد أخرى فالأصول للمشتري والجزة الظاهرة عند البيع للبائع ] : إن كان يجز مرة بعد مرة مثل ما ذكرنا في البرسيم للدواب والكرات للأوادم مثلا الكرات يجز مرة بعد مرة ، والبرسيم يجز مرة بعد مرة فباعه أرضا مزروعة بالبرسيم ثم اختصموا في هذا البرسيم الموجود فقال البائع لي ، وقال المشتري بل لي ، نقول مادام قد باعك والجزة الظاهرة موجودة فهي ملك للبائع ؛ لأنها ثبتت في ملكه ، وحينئذ يستحقها ، والجزة الباطنة التي تليه هي لك أنت لأنها حدثت في ملكك أعني المشتري .(5/388)
قال رحمه الله : [ فصل : نهى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ] : فصل نهى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، هذا النهي ثابت في حديث أنس بن مالك –- رضي الله عنه -- وحديث عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- وحديث زيد بن ثابت وحديث عبدالله بن عمر وأنس بن مالك في الصحيحين قال عبدالله –- رضي الله عنه -- : (( نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري )) وكذلك أيضا في حديث أنس -- رضي الله عنه -- : (( أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الثمرة حتى تزهي. فقالوا : يا رسول الله، وما تزهي؟ قال: تحمار أو تصفارّ)) فدلت هذه الأحاديث الصحيحة على أنه لا يجوز بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، وبدو صلاح الثمرة في النخل يكون بمرحلة الإزهاء التي بيناها سابقا ، فإذا ضرب اللون للثمرة في النخيل فقد بدا صلاحها لقوله حتى تزهي ، والإزهاء يكون بالاحمرار والاصفرار ، ومن هنا فاللون علامة من علامات بدو الصلاح ، أيضا من علامات بدو الصلاح الزمان وقد جاء فيها حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- : (( نهى عن بيع الثمرة حتى يطلع النجم ، وتؤمن العاهة)) وحسنه غير واحد، وكان عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- يعمل به فكان لا يبيع ثمرة بستانه حتى يطلع النجم وهو الثريا ، وفي المدينة معروف هذا ويكون لاثنتي عشرة ليلة خلت من مايو أيار ، كذلك أيضا يكون بدو الصلاح بالطعم ، فإذا كانت الثمرة في بعض النخيل لا يحمر ولا يصفر ويبقى أخضر إلى أن يصير تمراً كالخُضْري فهذا ما تستطيع أن تقول ينهى حتى يبدو صلاحه؛ لأنه لا يحمر ولا يصفر ، فعلامة بدو الصلاح فيه الطعم ، وفيها حديث زيد في الصحيح: (( أنه نهى عن بيع الثمرة حتى تطعم)) ، فهذه كلها من علامات بدو الصلاح في النخلة ، فإذا بدت الصلاح في النخلة(5/389)
جاز بيعها ، تبيع النخلة كلها ، فلو أن حبة واحدة احمرت أو اصفرت جاز بيع النخلة كاملة ، وكما جاز بيع النخلة كاملة يجوز بيع نفس النوع الذي بدا فيه الصلاح في البستان كله ، وكما جاز في البستان كله جاز في المدينة كلها وإن لم يظهر عند الغير. لماذا ؟ لأنه لا يبدو الصلاح في نخلة إلا سرى إلى بقية النخل وقد أدركنا هذا بالتجربة ، فربما تأتي آخر النهار ولا تجد حبة صفراء وبمجرد أن تصبح إذا به قد انتشر بدو الصلاح في كثير من النخل ، فإذا بدا في نخلة واحدة أجمع العلماء على جواز بيع النخلة كلها ، وكما جاز بيع النخلة كلها جاز بيع أخواتها ، لأن الزمان زمان أمن العاهة ، والغالب أن النخلة تسلم فيجوز بيعها ، ويجوز بيع جيرانها من البساتين في الموضع نفسه ، ولذلك قال بعض العلماء : يجوز بيعها في البستان وحده ، ومن الالزامات قيل لبعضهم : أرأيت لو أن بستانا كان ملكا لرجل وفيه مائة نخلة من صنف واحد وبدا الصلاح في نخلة واحدة أيبيعه كله ؟ قال : نعم ، يبيع النخلة في جميع البستان ، قال : أرأيت لو توفي فورثه أولاده من بعده ابنان ذكران وقسم البستان بالنصف فبدا في أحدهما ولم يبد في الآخر فأسكت ما استطاع سكت لأنه بالأمس يقول يجوز البيع والآن يقول: لا، فدل على أن أصل المسألة هو بلوغها إلى قدر تؤمن فيه العاهة ويغلب على الظن سلامته ، ولذلك العلماء يقولون : إذا بدا الصلاح الغالب السلامة بقدرة الله ، ومن هنا اعتبروا الزمان واعتبروا الصفة ، فجعل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لبدو الصلاح علامة ظاهرة وجعل له زمانا محدودا .(5/390)
قال رحمه الله : [ ولو باع الثمرة بعد بدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز ] : فإذا كانت الثمرة قد بدا صلاحها أولا قبل بدو الصلاح لا يجوز بيع الثمر وهذا مذهب جمهور العلماء -رحمهم الله- ، قال بعض العلماء وهو مذهب الحنفية : يجوز بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بيعا مطلقا ويجب على المشتري أن يقطع الثمرة وهو مذهب الحنفية –رحمهم الله- ، والصحيح مذهب الجمهور أنه لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو الصلاح ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يقول ابن عمر كما في حديث : ((نهى البائع والمشتري)) ، والسنة في هذا واضحة ، وأما بالنسبة إذا كان بعد بدو الصلاح فيجوز بيعها بعد بدو الصلاح سواء كان يريدها حالا أو يريد أن يؤخرها إلى أن تصير تمرا ، فهناك ثلاث مراحل بعد بدوّ الصلاح :
المرحلة الأولى : البلح والزهو والبسر .
والمرحلة الثانية : الرطب .
والمرحلة الثالثة : أن تصير تمرا .(5/391)
فبمجرد أن تصير بلحا ويبدو الصلاح فيها بالاحمرار والاصفرار يجوز البيع ، سواء كان يريدها بلحا أو يريدها رطبا أو يريدها تمرا ، وخالف أيضا في هذه المسألة فقهاء الحنفية –رحمهم الله- فقالوا إذا اشتراها بلحا أو رطبا وجب عليه القطع ، وهذا راجع إلى أصل عند الحنفية –رحمهم الله- أنهم يعتبرون من بيوع الغرر فيجب عليه أن يقطع مباشرة ، والصحيح مذهب الجمهور ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، والقاعدة أن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها في الحكم ، فلما قال حتى يبدو صلاحها يعني إذا بدا صلاحها جاز البيع ، وعليه فيجوز بيعها سواء كان يريد أن يأكلها مباشرة أو يتركها إلى الجذاذ ، ومن السلف –رحمهم الله- من قال : لا يجوز بيع الثمرة إذا بدا صلاحها إلا إذا صارت تمرا ، وهو قول أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف التابعي الفقيه المشهور وكذلك قال به عكرمة تلميذ بن عباس ، والصحيح ما ذهب إليه الجماهير من جواز بيعها ، أما إذا باع قبل بدو الصلاح وقال : أريد أن أشتري منك هذه الثمرة وأقطعها مباشرة علفا للدواب فهذا ما يسميه العلماء –رحمهم الله- البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع فهذا جائز ؛ لأنه إذا باع قبل بدو الصلاح بشرط القطع لا يريد تبقية الثمر ، فحينئذ تنتفي العلة ، (( أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك))، لأنه يريد شيئا حاضرا منظورا ، ومن هنا لا يقع فيه العلة التي من أجلها ورد التحريم فيجوز البيع ، وهذا مذهب جماهير العلماء واستدلوا بحديث أنس –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( أرأيت لو منع الله الثمرة عن أخيك فبم تستحل أكل ماله ؟ )) فدل على أن العلة في التحريم خوف فساد الثمرة ، فإذا كان يريد الثمرة على حالها فحينئذ يصح البيع ويجوز .(5/392)
قال رحمه الله : [ فإن أصابتها جائحة رجع بها على البائع ] : فإن أصابت الثمرة جائحة لو باعه صيف البستان بمائة ألف بعد بدو الصلاح ثم جاءت جائحة ، الجائحة أو الجوائح تنقسم إلى قسمين :
الجوائح العامة ، والجوائح ذات الأضرار الخاصة .
فأما الجوائح العامة فمثل الغرق بالسيول والفيضانات والطوفان ونحوها فيكون مثلا البستان في موضع ثم يأتي سيل ويغرق هذا فتتلف المحاصيل ، وأيضا الأعاصير إذا ضرب المزارع إعصار فهذا عام وليس خاصا لمزرعته ، وهذا العام ينقسم إلى قسمين :
تارة يكون مما للمخلوق فيه دخل . وتارة يكون لا دخل للمخلوق فيه .
فالذي لا دخل للمخلوق فيه مثل السيول والطوفان ونحوها فهذه الجوائح توضع ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أمر بوضع الجائحة ، واعتبر العلماء الجائحة فيه .(5/393)
وأما إذا كان مما للمخلوق فيه دخل مثل الجيوش إذا دخلت فأفسدت ثمار البساتين ومحاصيلها ، اشترى منه بستانا ثم هجم على البلد فحصل فيه من العدو حرق وإتلاف للمحاصيل فهذه مما للمخلوق فيها دخل ، هذه فيها خلاف بين العلماء ، بعض العلماء يرى الجوائح خاصة بالأشياء الإلهية مثل الأمطار والأعاصير ونحو ذلك الرياح الشديدة إذا عبثت بالمحاصيل قالوا هذه هي الجوائح التي توضع ، وأما ما كان من المخلوق ، والصحيح أن الجوائح العامة التي للمخلوق فيها دخل كالجيوش والسراق الكثيرون الذين يأتون بالعصابات لإفساد المحاصيل وإحراقها أنها تأخذ حكم الجائح، أما الأفعال الخاصة كالسرقات ونحوها من الأفراد فهذه لا تدخل في الجوائح ، إنما تكون الجائحة بما ذكرناه ، إذا أصابت المحاصيل الجائحة بعض الأحيان تصيبها بالحشرات فتأتي الحشرات وتتلف الثمرة ، وتارة يأتي بعض الدود الذي يفسد الثمار فتسقط الثمرة ، وتارة تأتي بعض الرياح مثلا الفغو الذي يصيب الثمار فإذا أصابت الرياح الثمرة تفسدها غالبا إذا أكثرت عليها وبخاصة بالأتربة فيعلق التراب وفي التراب بعض الدود فيفسد الثمار والتمر سواء كان بلحا أو رطبا أو تمرا ، فهذه توضع مثل هذه الجوائح ، منهم من خصها بالثلث ومنهم من لم يخصها بالثلث ، لكنها لابد أن تكون ذات شأن حتى توضع ، والأصل في ذلك كما ثبت عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنه أمر بوضع الجوائح وقال: (( بم يستحل أحدكم أكل مال أخيه ؟ )) فإذا نزلت جائحة مثلا اشترى منه بمائة ألف والجائحة أخذت ثلثي النخل فيسقط عنه ثلثي القيمة ويأخذ منه الثلث لما تبقى .(5/394)
قال رحمه الله : [ فإن أصابتها جائحة رجع بها على البائع لقول رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- : (( لو بعت من أخيك ثمر فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق )) ] : هذا الحديث واضح في أن الجائحة إذا أصابت الثمرة وأفسدتها فإن المال لا يستحق في مقابل هذه الثمرة الفاسدة ، ومن هنا يكون من أكل مال الناس بالباطل ، وعليه جمهور العلماء من حيث الأصل في وضع الجوائح واعتبارها على تفصيل عندهم .
قال رحمه الله : [ وصلاح ثمر النخل أن يحمر أو يصفر ] : هذه علامة اللون وقد تقدمت .
قال رحمه الله : [ والعنب أن يتموه ] : أول ما يقوم الفلاح بالتأبير والحبة صغيرة جدا ثم تبدأ تكبر تكبر حتى تبلغ قدرها المعتاد الذي هو قدر الثمرة بقدرة الله ، فيه الكبير وفيه الصغير وفيه الوسط ، وفيه ما هو أنحف ما يكون ، وفيه ما يكون ممتلئا لكي يعلم الخلق أن هناك خالقا ؛ وهذه الأشياء من أبلغ الدلائل على كذب من يقول إن الحياة وجدت بنفسها ، ويقولون من خيرات الطبيعة من هي الطبيعة التي ترزق من خيرات رب العالمين الذي أطعم وسقى وكفى ، من خيرات الله الذي لا إله إلا غيره ولا رب سواه ، فهذا الاختلاف من أصدق الدلائل على وحدانيته ، فالشاهد أنه إذا بلغت قدرها في الطول ضربها اللون ، فكل بيع قبل اللون محرم وبعد اللون بعد أن يضربها اللون مباح على التفصيل الذي ذكرناه ، فذكر في النخيل علامة اللون كما ذكرنا ، وهناك علامة الطعم ، وهناك علامة الزمان ، فهذه ثلاث علامات .
قال رحمه الله : [ والعنب أن يتموه ] : وعلامة الصلاح في العنب أن يتموه ، العنب أول ما يخرج يخرج صغير القدر شديد الحموضة ، ثم يبدأ يكبر شيئا فشيئا حتى يبلغ القدر المعتبر فيه ، فإذا بلغ قدره يكون شديد الخضرة وشديد الحمرة في .(5/395)
أما العنب فإنه أول ما يكون منه شديد الخضرة يبتدئ نضجه عند ابتداء التموه ، وهذا هو معنى قول المصنف حتى يتموه ، يبدو فيه الصلاح بجريان الماء على وجهه ، ومن هنا جاء في الحديث في رواية أحمد (( نهى عن بيع العنب حتى يسود )) والماء يوصف بكونه أسود كما في الحديث (( الأسودان التمر والماء )) على القول بعدم التغليب ، فالمقصود أن الماء إذا نظر إليه مع الخضرة أنه يكون مائلا إلى السواد .
ومن أهل العلم من حمل حديث (( حتى يسودّ )) على العنب الأحمر هناك نوع من أنواع العنب تضربه الحمرة الشديدة القريبة إلى السواد ، فهذه علامة اللون ، فالعنب إذا تفتّحت خضرته بالماء وهذا معروف عند أهل الخبرة فإنه يبدأ في طيب الطعم يطيب طعمه وتخف حموضته ، وحينئذ يبدو صلاحه ، فإذا بدا فيه الصلاح جاز له أن يبيعه ، فلو كان عنده بستان فيه عنب نقول يجوز لك البيع إذا بدا الصلاح بتموه العنب .
قال رحمه الله : [ وسائر الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله ] : وسائر الثمر كل بحسبه ، فهناك من الثمر ما يبدو فيه الصلاح باكتمال الامتلاء مثل الطماطم ، ومثل البطيخ فينتفخ حتى يكتمل انتفاخه ، ومنه ما يكون بدو الصلاح فيه باكتمال الطول كما في بعض المزروعات كقصب السكر ونحوه ، ومنه ما يكون طيبه بتفتح أكمامه مثل الورد ونحوه من الأزهار ، فلو كان عنده بستان ورد ويريد أن يبيعه نقول لا يبيعه حتى يبدو صلاحه وبدو صلاحه بتفتح أكمامه ، ومنه ما يكون بدو الصلاح فيه بالطعم فيحلو من بعد حموضته كما يقع هذا في التين ونحو ذلك من الفواكه ، وعلى كل حال كل ثمرة لأهل الخبرة فيها ضابط تعرف به فذكروا الطول والقصر والامتلاء والطعم وكذلك اللون كما يقع في النخل يقع في غيره ، كل ثمرة على حسب ما يعرف عند أهل الخبرة ببدو صلاحها وبداية نضجها .
الأسئلة :
السؤال الأول :(5/396)
فضيلة الشيخ : هل يجوز بيع روث الغنم عندنا الذين يربون الأغنام يبيعون روث الشاة للفلاحين أرشدونا . جزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فالزِّبْل إذا كان طاهرا جاز بيعه ، واختلف العلماء في الحيوانات في حكم الطاهر منه وما ليس بطاهر، والأقوى والأصح فيما يظهر أن ما أبيح أكل لحمه فورثه وفضلته طاهرة ، والأصل في ذلك حديث العرنيين كما في حديث أنس في الصحيحين (( قدم أناس من عُكَل أو عُرَينة إلى المدينة فاجتووها أي أصابهم الجوا فأمرهم النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن ينطلقوا إلى إبل الصدقة وهي بالقاحة فانطلقوا إلى الإبل فأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ، فموضع الشاهد في قوله أن يشربوا من أبوالها وألبانها)) ، فالأبوال فضلة لكنها فضلة الإبل وهي مأكولة اللحم ؛ ولأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- لما سئل عن الصلاة في مرابض الغنم أجاز الصلاة فيها ، وكذلك أيضا طاف على بعيره وأوتر على بعيره وصلى عليه الصلاة والسلام على بعيره النافلة ، والبعير يكون منه العرق وهو عليه عليه الصلاة والسلام دل على طهارته وطهارة فضلته ، فكل ما يؤكل لحمه فضلته طاهرة فيجوز بيعها كسائر الطاهرات ، فلو أنه احتاج إلى زريبة غنم أن يبيع ما فيها من الزبل وهو طاهر جاز له ذلك لأنه يستصلح به النبات ، وكذلك أيضا فضلة الطيور تستخدم في إصلاح أشجار الليمون كما هو معروف، فذرق الحمام من أفضل ما يكون في إصلاح شجر الحمضيات ، فلو كان عنده حمام وله ذرق فأراد أن يبيع ذرقه أو وضعه في أكياس وعلم قدره فحينئذ يجوز ولابأس بذلك ولا حرج والله -تعالى- أعلم . بالنسبة للجواز بشرط أن يكون معلوما فالزريبة تخرج ويوضع في أكياس معلومة أو يحدد قدرها حتى يكون البيع بشيء معلوم لا مجهول . والله -تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :(5/397)
فضيلة الشيخ : هل عصى موسى –عليه الصلاة والسلام- هي العصا التي كان يستعملها سليمان بن داود –عليه السلام- . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
لو كانت هي لكان ما قال : { هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي} لأنه أشرف له ذلك، كان قال عصا داود ، هذه عصاه كان يهش بها على غنمه ، وكان في مدين وخرج لكي يفتح الله عليه أبواب السعادة في الدنيا والآخرة ، خرج في تلك الليلة لكي يخرجه الله لأمته هاديا ومبشّرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا كشأن الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ومسألة أنها من داود أو من سليمان هو قال : { وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها } . ذكروا أن في العصا مائة فائدة، ومنها ما ذكره موسى -عليه السلام- أتوكأ عليها إذا تعبت ، أو أردت أن أطلع أو أتحسس بها الأشياء ، أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ، هذا الذي قاله موسى وهذا الذي أخبر الله به ، وما قاله غيره فلا نصدقه ، ولا نشك في أنه باطل ، فما كان لسليمان المنسأة ويبعد جدا لم يكن مستحيلا أن تكون العصا هي عصا داود وسليمان والنص في هذا واضح وظاهر . والله -تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : أنا أشتري من البقالة وأسدد في نهاية الشهر ، وفي بعض الأحيان أستلف نقودا فهل هذا يجوز يا شيخ . أحسن الله إليكم ؟
الجواب :
لا بأس أن تشتري من البقالة وتجعل ما تشتريه دينا آخر الشهر ، أو ترسل ابنك أو ترسل من ترسله ليأخذ ما تريد من البقالة ويسجل عليك ثم تسدده في آخر الشهر؛ لأن الثمن في مقابل المثمن لا يجري فيه الربا لا نسيئة ولا تفاضلا ، وأما كونك تستدين من البقالة النقد فيجوز أن تستدين من البقالة وغيرها النقد فلا حرج ، ولكن تسدد نفس الذي استدنته دون زيادة .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب الخيار
قال المصنف رحمه الله : [ باب الخيار ] :
الشرح :(5/398)
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
الخيار : النظر في خيري الأمرين، وأصلحهما ، فإذا نظر في الشيء لكي يعرف الأصلح فيه هل يأخذه أو يتركه فقد تخير، وإذا جعل له ذلك النظر فقد خيّره، فالخيار جعلُ النظر لخيري الأمرين، والأمران هما في البيع : إما إمضاؤه، وإما فسخه . وإذا قلنا باب الخيار في البيع بمعنى أنه يُجعل للبائع والمشتري أو لأحدهما حق النظر في إمضاء البيع أو فسخه ، مثال ذلك : لو باعه شيئا ثم تبيّن أن المبيع فيه عيب فحينئذ يكون للمشتري إذا توفّرت شروط العيب المؤثّر نقول للمشتري أنت بالخيار بمعنى إما أن تختار إمضاء البيع وبقاءه، وإما أن تختار فسخه .
إذا اختار الإمضاء أو اختار الفسخ فإنه في هذه الحالة يعني حقه، إذا وجد العيب وقال ما أريد، أريد مالي من حقه ، ما لم يكن بيعا على الموصوف في الذمة ، على ما هو المعروف في التفصيل.
أما من حيث الأصل فالخيار يجعل للمتعاقدين أو أحدهما حق النظر في الإمضاء والفسخ.
الخيار أنواع : هناك خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار التدليس، وخيار التخبير في الثمن، وخيار اختلاف المتبايعين . هذه ستة أنواع ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الباب .
وباب الخيار هو نوع من أنواع البيوع الخاصة ، فالبيوع تنقسم في أحكامها إلى أحكام عامة وإلى أحكام خاصة ، فعقد البيع فيه شروط تتعلق بالبيوع عموما، وفيه شروط تتعلق بأفراد البيوع . كل بيع على حدة .
فالبيوع العامة شروطها تقدمت ، والبيوع الخاصة تذكر بعد البيوع العامة .
فالبيوع الخاصة تنقسم إلى قسمين :
بيوع مشروعة ، وبيوع ممنوعة .
فالبيوع المشروعة الخاصة مثل بيع الخيار وبيع الصرف بيع السلم ، بيع المرابحة، هذه كلها بيوع خاصة مباحة شرعا .(5/399)
وهناك بيوع خاصة محرمة شرعا مثل بيع الربا بيع العينة بيع الملامسة بيع المنابذة كما تقدم معنا .
فالمصنف رحمه الله بعد أن ذكر الأحكام العامة للبيع شرع في بيان الأحكام التي تخص كل بيع على حدة ، وهذا ترتيب منطقي؛ لأنك تذكر الأحكام العامة كأصول ، ثم تبني عليها وتقول مثلا بيع السلم يشترط في صحته ما يشترط في البيع أصلا ، ويزاد على ذلك كذا وكذا وكذا ، فإذاً البيوع الخاصة تأتي بعد ذكر البيوع العامة .
يقول رحمه الله : [ باب الخيار ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالخيار في عقد البيع .
الخيار يقع في العقود اللازمة، والعقود في الشريعة تنقسم عقود المعاوضات تنقسم إلى قسمين : عقود لازمة ، وعقود جائزة ، والعقد اللازم هو الذي لا يملك أحد الطرفين فسخه إلا برضى الطرف الآخر ، وأما العقد الجائز فهو الذي يملك فيه كل واحد من الطرفين فسخه سواء رضي الآخر أو لم يرض سواء عنده عذر للفسخ أو ليس عنده عذر ، مثال ذلك لو قال له : بعتك سيارتي بعشرة آلاف ريال قال قبلت وأعطاه العشرة آلاف وأخذ السيارة ثم انطلق بها وافترقا ، ثم رجع البائع وقال أعطني سيارتي ما أريد أبيع أو رجع المشتري وقال: أعطني العشرة آلاف ما أريد سيارتك؛ قلنا العقد لازم ولا يجوز لك أن ترجع إلا إذا رضي البائع أن يقيلك أو رضي المشتري أن يعطيك ويفسخ البيع ، إذاً هذا العقد اللازم، لو قال له أجرتك شقتي بعشرة آلاف ريال ، قال قبلت ثم بعد ما اتفقا وافترقا عن المجلس رجع صاحب الشقة أو رجع المستأجر نقول هذا عقد لازم لا يملك أحد الطرفين فسخه إلا إذا رضي الطرف الآخر ، هذه العقود اللازمة . من أمثلة العقود اللازمة البيع والإجارة والنكاح هذه عقود لازمة .(5/400)
وأما العقود الجائزة فهي تنقسم إلى عقود جائزة في أول حال وثاني حال ، وإلى عقود جائزة قد تؤول إلى اللزوم ، العقد الجائز؛ إما أن يكون جائزا في أول حال وثاني حال جائزا دون تخصيص، وإما أن يخص جوازه في أول حال ولكنه يؤول إلى اللزوم .
فأما العقد الجائز في أول الحال وثاني الحال فمثل الشركة، لو أن اثنين اشتركا ودفع كل واحد منهم مليون وكونوا الشركة وبدأت الشركة ثم جاء أحدهم وقال: أنا أريد فسخ الشركة من حقه ، سواء عنده عذر أو ليس عنده عذر ، والعكس أيضا جاء الطرف الثاني بعد مضي الشركة وقال: أريد فسخ الشركة من حقه سواء ذكر العذر أو لم يذكر هذا جائز للطرفين ، وقد يكون جائزا في أول حال مثل الشركة مثل المضاربة القراض مثلا لو أعطاه مائة ألف قال له خذ هذه المائة ألف واضرب بها في الأرض والربح بيني وبينك ، قال: قبلت فأخذ المبلغ ثم ضارب ثم يوم من الأيام قال صاحب المال أعطني المال نريد أن نفسخ ، أو قال العامل ما أريد أن أستمر أريد أن أفسخ من حقهما ، ولا يشترط إذن الطرف الثاني هذا العقد الجائز، ثم هذا الجائز يكون جائزا كما ذكرنا في أول حال وثاني حال كالشركات والمضاربة والوديعة والوكالة ، ويكون جائزا في أول الحال يؤول إلى اللزوم مثل السبق، فلو قال مثلا في وضع الجائزة للمتسابقين من خارج عنهما وهي الصورة الجائزة فلو قال تسابقا فمن سبق منكما فله مني عشرة آلاف ريال، ففي البداية إذا قال من سبق منكما فله عشرة آلاف له أن يقول لا رجعت ما أريد أن أعطيكم ، وأيضا لو قالا رضينا ثم أرادا أن يسابق ثم قال أحدهم ما أريد أن أسابق أو قال الاثنان ما نريد أن نسابق من حق هذا وحق هذا ، لكن إذا شرعا فحينئذ يؤول إلى اللزوم ، ويكون اللزوم في حق أحد الطرفين وهو الباذل للسبق ، فهذه من أمثلتها . الجعالة لو قال من وجد سيارتي المفقودة أعطيه عشرة آلاف ريال ، في البداية هذا الكلام قال شخص: أنا سأبحث لك عنها وإذا وجدتها آخذ(5/401)
العشرة آلاف قال قبلنا وتم العقد بينهما ثم أراد أن يفسخ الذي عرض صاحب السيارة أو أراد أن يفسخ العامل الذي يبحث من حقه، لكن لو شرع ووجد مثلا السيارة وأراد أن يوصلها مثلا إليه فقال بعد وجوده ومقاربة حصوله عليها قال له: لا فسخت لم يكن من حقه ، كالسبق فالمقصود من هذا أن الخيار يقع في العقود اللازمة لأنها هي التي يحتاج فيها إلى الخيار ، أما العقود الجائزة فهي جائزة من أساسها فالأمر فيها واسع ، يقول المصنف رحمه الله : [ باب الخيار ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام التي تتعلق بالخيار في عقد البيع .(5/402)
قال رحمه الله : [ البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما ] : البيعان بالخيار: البائع والمشتري بالخيار لهما النظر في خيري الأمرين (ما لم يتفرقا) هذه الجملة قطعة من حديث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في الصحيحين عن عبدالله بن عمر وحكيم بن حزام –رضي الله عن الجميع- أنه قال عليه الصلاة والسلام : (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )) فنص على أن الخيار ثابت للمتعاقدين بشرط أن لا يقوما عن مجلس العقد ، وكذلك جاء في حديث حكيم الزيادة : (( فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما )) هذا الحديث يدل على مشروعية خيار المجلس، ولذلك قال [بأبدانهما] ، ومعنى الحديث أن كلا من البائع والمشتري له الحق أن يلغي الصفقة وأن يبقيها ماداما في مجلس التعاقد ، فإذا جلسا في غرفة أو في مكتب أو في معرض أو في صالة فقال له: بعتك هذه السيارة بعشرة آلاف قال: قبلت ولو أعطاه الثمن ولو قبض الآخر المثمن فإن كل واحد منهما له حق النظر في الفسخ أو الإبقاء ؛ سواء فسخ بعذر أو بدون عذر ، قال له: هذه غرفة النوم أبيعك إياها بعشرة آلاف ريال قال: قبلت وأعطاه العشرة آلاف ريال ثم قبل أن يفارقه قال: ما أريد من حقه له الحق ماداما في مجلس العقد ، وهذا أمر يجهله كثير من الناس، فهذه رحمة من الله جعلها للمتعاقدين ، لو جاء في سيارة، وقال هذه السيارة أبيعها لك بعشرة آلاف ريال قال: قبلت فهما بالخيار وأعطاه العشرة آلاف وقبضها أو كتبوا العقد فأتموا الصفقة فقال البائع: ما أريد أعطني سيارتي، أو قال المشتري ما أريد أعطني فلوسي أو نقودي من حقه؛ سواء كان عنده عذر أو لم يكن عنده عذر ؛ لماذا ؟ لأن هذا الخيار جعله الشرع وهو خيار حكمي حكم به الشرع لا يملك المكلف إلغاءه في الأصل يعني كحكم شرعي إلا إذا كان اتفقا على عدم الخيار ، فهذا أمر آخر لكن من حيث الأصل (( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )) نص حديث رسول الله –- صلى(5/403)
الله عليه وسلم -- ما لم يتفرقا هذا التفرق بالأبدان، فإن كانا في غرفة يخرج أحدهما إن كانا في صالة فأعطى أحدهما الآخر ظهره وقيل حتى يتوارى عن نظره فقد فارقه فنص المصنف –رحمه الله- على أن الافتراق بالأبدان لكي يرد على قول من قال إن الافتراق بالأقوال .
ومذهب طائفة من أصحاب النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ومن بعدهم من الأئمة على ثبوت خيار المجلس؛ لثبوت السنة لحديث عبدالله بن عمر وحكيم بن حزام وأبي برزة الأسلمي وعبدالله بن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو عبدالله بن عمرو بن العاص كلها تدل على مشروعية خيار المجلس ، والافتراق يكون بالأبدان لا بالأقوال ، وهذا هو مذهب طائفة من السلف منهم سعيد بن المسيب من فقهاء المدينة وابن أبي ذئب وكذلك الحسن البصري وكذلك الأوزاعي فقيه الشام والليث بن سعد فقيه مصر وهو مذهب طائفة من السلف كعبدالله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد القاسم بن سلام وأبي ثور إبراهيم بن خالد بن يزيد الكلبي وهو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث وطائفة من أصحاب الإمام مالك الحافظ بن عبدالبر واختاره ورجحه، وكذلك غيرهم من الأئمة لأنهم رأوا أن السنة تدل على ثبوت هذا النوع من الخيار .
قال بأبدانهما لكي يرد على قول من قال إن الافتراق في الحديث بالأقوال، يعني المتساومان لهما حق الرجوع حتى يثبتا على سعر واحد ، وهذا معنى كما ذكر العلماء مردود؛ لأنه معلوم بداهة أن البيع إذا كان في حال السوم لم يقع أصلا ، ولذلك هم يقولون سماهما متبايعين من باب المجاز لما يؤول إليه الأمر ، والعرب تسمي الشيء بما يؤول إليه ، وهذا ضعيف؛ لأن الأصل حمل اللفظ على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز.
ثانيا: أن الافتراق على الظاهر بالأبدان .(5/404)
ثالثا : أن الصحابي راوي الحديث فسره بافتراق الأبدان كما فسره ابن عمر وفسره أبو برزة –رضي الله عنهما وأرضاهما- فيضعف هذا القول والعمل عند أهل العلم على أن المراد بالافتراق افتراق الأبدان لا افتراق الأقوال .
قال رحمه الله : [ فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع]: [فإن تفرقا ولم يترك أحدهما البيع] تفرقا عن بعضهما والصفقة كما هي سواء في عقار أو منقول، وأتما الصفقة فليس من حق أحدهما أن يرجع إلا برضى الطرف الثاني ، لو قال له بعتك عمارتي بمليون قال قبلت وافترقا عن مجلس العقد ثم جاء وقال ما أريد أن أبيع العمارة قال إذاً أقلتك هذا من حقه ، لكن ليس ملزما بالإقالة ؛ لأن هذا راجع إلى رضى الطرفين .
قال رحمه الله : [ إلا أن يشترط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة ] : يستثنى في بيع الخيار أن يقطعاه من البداية أو يقطعه أحدهما فيقول مثلا لو قال لك أبيعك سيارتي هذه بعشرة آلاف ريال تقول له ولا خيار لك؛ لماذا لأنه في بعض الأحيان تريد أن تقبض السيارة مباشرة وتبيعها، فإذا بقي على خياره ما تستطيع في بعض الأسواق الأوراق النقدية ونحوها كالصرف تحتاج قد تكون كلكم في مجلس واحد فتشتري من هذا ثم تبيع لهذا وتأخذ من هذا وتبيع للآخر فتحتاج إلى أن تبت البيع فتشترط أسقاط الخيار وقد بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ذلك بقوله : (( إلا أن يقول أحدهما لصاحبه اختر )) فهذا يدل على أنه يسقط الخيار إذا اشترط عليه إسقاطه .(5/405)
قال رحمه الله : [ إلا أن يشترط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة ] : هذا النوع الثاني وهو خيار الشرط، النوع الأول خيار المجلس ، والنوع الثاني خيار الشرط ، وخيار الشرط أن يشترط أحدهما لنفسه شرطا مثلا يقول: أنا بالخيار ثلاثة أيام قبلت البيع ولكن لي الخيار إلى يومين أريد أن أشاور والدي أريد منك مثلا أسبوع على القول بأنها أكثر من ثلاثة أيام ، فله ذلك ، خيار الشرط ثابت بالسنة في قوله –عليه الصلاة والسلام- لمنقذ –- رضي الله عنه -- : (( إذا ابتعت فقل: لا خلابة ولي الخيار ثلاثا)) فأثبت النبي –- صلى الله عليه وسلم -- له الخيار ثلاثة أيام ، فهذا يدل على مشروعية خيار الشرط ، لكن العلماء يختلفون هل هي ثلاثة أيام أو أكثر من ثلاثة أيام في خلاف بينهم وإن كان الظاهر من جهة النظر مذهب من يقول أكثر من ثلاثة أيام أقوى ومن جهة الأثر التخصيص بثلاثة أقوى .
قال رحمه الله : [ إلا أن يشترط الخيار لهما أو لأحدهما مدة معلومة فيكونان على شرطهما ] : [يكونان على شرطهما] مثل ما ذكرنا؛ لأنه إذا قال لي الخيار ثلاثة أيام له حقه. هناك خلاف بين العلماء –رحمهم الله- .
بعض أهل العلم يرى أن منقذ خصه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بهذا فيختص بالثلاثة الأيام .(5/406)
ومن أهل العلم من يقول إن الأصل وجود الحاجة، بمعنى أنك في بعض الأحيان تبيع السلعة وأنت تخاف أن موافقتك عليها فيها ضرر، فتريد أن تشاور مثلا أهل الخبرة أو تخاف في ربحها في بعض الأحيان يعرض لك الشخص السلعة ويذكر لك أشياء تغريك بشرائها فيقول لك هذه السلعة مربحة أو هذه الصفقة فيها خير لك، وقد يكون في ظاهر حاله صادقا يعني رجل قد تثق فيه في ظاهر حاله، لكن تحتاج أن ترجع إلى من تثق فيه أكثر، وقد يكون رجل ما عنده خبرة يعني رجل يخبرك على حسب علمه، وهو صادق وتعرف فيه الصدق لكن تحتاج أن ترجع إلى من هو أكثر خبرة منه ، ففي هذه الحالة ما تستطيع أثناء المجلس أن تبت الأمر ولا تستطيع أثناء مجلس العقد أن تحسم بأنك قد اخترت البيع وأنك رضيت بما ذكره الرجل ، فتحتاج أن ترجع إلى من هو أعلم أو أعرف أو عنده خبرة، وحينئذ تعمل بقوله فتقول: أريد الخيار ثلاثة أيام إذا جعلا مدة في الخيار لا تخلو من حالتين : إما أن تكون محددة، وإما أن تكون مطلقة ، فإذا كانت مطلقة على سبيل الغرر والإبهام فهذا لا يجوز عند الجميع كما حكى بعض العلماء الإجماع عليه مثل أن يقول له مثلا لي الخيار إلى هبوب الريح أو نزول المطر أو موت فلان هذا يعتبر باطل ، لكن إذا حدد مدة إما أن تكون ثلاثة أيام فأقل أو تكون أكثر من ثلاثة أيام ، فإن كانت ثلاثة أيام فلا إشكال وإن كانت فوق الثلاثة الأيام ففيها خلاف بين العلماء، والحقيقة مذهب من يقول أنه ما فوق الثلاثة الأيام تحديد الثلاثة أيام مذهبه أقوى أثرا ، ومذهب من يقول أكثر من ثلاثة أيام أقوى نظرا؛لأنه نظر إلى علة الحديث، وعلة الحديث هي دفع الضرر عن أحد المتعاقدين في الاستعجال بالإنعام وقبول الصفقة ، وحينئذ يكون إعطاء المهلة أكثر أبلغ .(5/407)
قال رحمه الله : [ فيكونان على شرطهما وإن طالت المدة إلا أن يقطعاه ] : فيكونان على شرطهما وإن طالت المدة دليل على أنه لا يتقيد بثلاثة أيام ، إلا أن يقطعاه صورة المسألة اتفقوا على أنه يكون له الخيار عشرة أيام، فخلال العشرة مثلا قد يكون من الطرفين يقول البائع: أبيعك هذه العمارة بمليون على أن لي الخيار عشرة أيام ، أو أرد عليك بعد عشرة أيام بالبت أو عدمه ، يقول المشتري: وأنا لي عشرة أيام اتفقوا على عشرة أيام، إذا اتفقوا على العشرة الأيام لو جاء أحدهم أثناء العشرة الأيام قبل تمامها، فجاء مثلا في اليوم الخامس أو جاء في اليوم السابع أو جاء في اليوم الثامن قبل تمام المدة المتفق عليها بين الطرفين وقال: أنعمت البيع أريد البيع قال الآخر إذا أنا نفس الشيء أريد أن أقطع البيع، وحينئذ ينقطع إلا أن يقطعاه ويكون القطع برضى الطرفين .
قال رحمه الله : [ وإن وجد أحدهما بما اشتراه عيبا لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب ] : هذا النوع الثالث من الخيارات وهو خيار العيب، والعيب في لغة العرب النقص.(5/408)
وأما في الاصطلاح: فهو نقصان المالية نقصانا مؤثرا ، بمعنى أن السلعة إذا وجد فيها شيء يوصف بكونه عيبا، هذا الشيء لو عرضت السلعة خالية منه كانت قيمتها كاملة ، ولو عرضت وفيها هذا العيب أنقصها نقصانا مؤثرا ؛ لأنه في بعض الأحيان ينقصها نقصانا غير مؤثر الشيء التافه واليسير يعني لو كان باعه عمارة بمليون، وهذا الشيء قيمته مثلا خمسين ريال، ما يعتبر عيبا ذي بال بالنسبة للمبيع ، فإذاً حده عند العلماء أن ينقص المالية القيمة، ولذلك ضبطوا العيب في البيوع نقصان المالية نقصانا مؤثرا ، يكون العيب حسيا مثل أن يكون مثلا في الحيوانات يبيعه الدابة، فيتبين أنها عرجاء أو شلاء أو مقطوعة، أو مريضة ، ويكون العيب معنويا يعني غير محسوس مثل الجنون كما كان في بيع الرقيق في القديم، يتبين أنه مجنون، والدابة جموح يعني كلما يركب عليها تنفر هذا عيب مؤثر لكنه عيب نفسي ، والعيب النفسي يقع في الحيوانات، وذكروا أنه قد يقع حتى في العقارات. ذكر الإمام ابن قدامة رحمه الله منه سكنى الدار أن تكون مسكونة بالجن، وهذا ثابت ومعروف، فإذا ثبت أنها مسكونة بالجن كان له حق الفسخ ، وهذه العيوب لابد أن تكون مؤثرة، ثم العيوب تنقسم إلى قسمين : عيوب تستحق لكونها منقصِة للمالية ، وعيوب يستحق بها الرد ويستحق بها الخيار إذا اشترط أضدادها ، وهذا النوع من العيوب الثاني كمالات يكون في الصفات الكاملة . أما الأول فيكون في الصفات الأساسية، يعني مثلا العيب في الأساس نقصان المالية، فلو باعه سيارة وتبين أن السيارة لا تمشي ، ولا تسير، فهذا عيب مؤثر، فله الخيار ومن حقه الفسخ ، هذا العيب وهو عدم مشي السيارة؛ لأن المقصود من السيارة ركوبها وقضاء المصالح والعيب مؤثر فيها، ويؤثر في قيمتها بل قد لا تباع أصلا ، إذاً هو مؤثر ، قد يكون العيب عيب كمال، مثلا وجود المسجل في السيارة ليس بمؤثر في سيرها ، وليس بمؤثر في قضاء المصالح عليها ، لكن هذا العيب عيب(5/409)
كمال، الأفضل في السيارة أن يكون فيها مسجل ، فعيب الكمال لا يؤثر إلا إذا اشترطه أو جرى به العرف ، اشترطه فقال: أشترط أن تكون السيارة فيها مسجل ، أشترط أن تكون الدابة سريعة وهِمْلاجة ، وأن البيت فيه مثلا أشياء معينة من المواصفات لون حيطانه كذا أو يكون مثلا على تفصيل ممتاز أو نحو ذلك ، هذه كمالات والدار كاملة وموجودة حيث يمكن قضاء المصالح منها لكن هذه الأشياء فيها كاملة يعني تجعلها في مرتبة الكمال ، السيارات مثل ما يعرف في الأعراف الآن الفل الكامل مثلا تكون جميع مواصفاتها على أفضل مواصفات ، فمن كونها مثلا هذه السيارة على هذه المواصفات واتفق معه على أنها بهذه الاسم مثلا معروف عرفا أن هذا الوصف فل كامل فيه أربعة أو خمسة أشياء مثلا الزجاج أن يكون بالكهرباء في السيارة فوجد أن الزجاج باليد من حقه أن يرد ؛ لأنه استحقه بالشرط ، مع أن السيارة إذا كان زجاجها باليد ليس بعيب مؤثر في السيارة ، فالشاهد من هذا أن العيب يكون مؤثرا إذا أنقص المالية ، فإن كان كمالا يكون مؤثرا بأحد أمرين الشرط والعرف ، مثلا لو أنه باعه دارا ليست فيها كهرباء هذا عيب لكن إذا كانت الدار خارج المدينة أو في موضع في الأصل لا يتيسر وجود الكهرباء إلا في حالات خاصة ، إذا العرف جرى على أن وجود الكهرباء غير مؤثر ، لكن لو باعه داخل المدينة فالعرف جار بوجود هذا الشيء ، إذًا هذا الكمال وهو وجود الكهرباء فيها أو مثلا التلفون أو الأشياء المواصفات الموجودة في العمائر والعقارات يكون فقدها مؤثرا إذا كانت كمالا إذا جرى بها العرف ، وأما إذا لم يجر العرف بوجودها فإنها لا تستحق إلا بالشرط. يقول" أشترط أن يكون في البيت مثلا تلفون أو يكون في موضع فيه كهرباء وماء وتلفون حينئذ إذا لم يجد شرطه كان له الخيار .
قال رحمه الله : [ وإن وجد أحدهما بما اشتراه عيبا لم يكن علمه فله رده أو أخذ أرش العيب ] : أولا : أن يكون هناك عيب مؤثر.(5/410)
ثانيا : أن لا يكون المشتري قد علم به ، فإذا أطلعه البائع على أن السيارة فيها خلل في مكينتها أو فيها خلل في جهاز دفعها وقال له هذا العيب موجود فيها وأطلعه على العيب فليس من حقه أن يرد.
وثالثا: أن يكون هذا العيب موجودا قبل العقد أو أثناء العقد، فإذا طرأ العيب بعد العقد لا يؤثر ، فلو باعه السيارة بدون عيب ثم طرأ العيب بعد ذلك لا يؤثر إلا في حالة واحدة وهي أن يكون هذا العيب ناشئا من خلل قبل العقد، إذا وجد ذلك أثر وإلا فلا .(5/411)
قال رحمه الله : [ فله رده أو أخذ أرش العيب ] : له رد السلعة أو أخذ الأرش الأرش الفرق بين القيمتين إذا كان مثلا السيارة بالعيب قيمتها عشرة آلاف ريال ، وقيمتها بدون العيب خمسة عشر ألف ريال، فمعنى ذلك أن العيب أنقصها ثلث القيمة؛ لأن قيمتها بدون عيب خمسة عشر، وبالعيب عشرة آلاف، فإذا أنقصها ثلث القيمة ، فنقول: بكم اتفقت؟ قال: والله أنا حابيته بالسعر وبعته بتسعة آلاف ريال ، إذا يستحق ثلاثة آلاف ريال ؛ لأنه قد يبيعه الشيء وقيمته خمسة عشر آلاف ريال يبيعه بتسعة آلاف ريال ، وقد يبيعه مثلا بثلاثين ألف ريال يعني هذا بيع وشراء على ما اتفق عليه الطرفان ، فإذا ثبت أن العيب موجود وأنه لم يكن على علم به وأن العيب مؤثر في الصفقة؛ فحينئذ نقول للمشتري: أنت بالخيار بين أمرين: إما أن ترضى بالعيب، وهذا حقك وتطالب بالأرش وهو الفرق بين قيمة السيارة معيبة وقيمتها سليمة ، وإما أن تفسخ البيع . قال: أنا ما أريد أنا أريد فلوسي نقول: افسخ العقد ، قال أريد الأرش السيارة أريدها وأرغبها لكن أنا مظلوم بوجود هذا العيب نعطيه أرش العيب ، إذاً هو يخير بين أمرين بين أخذ أرش العيب وهو النقص الفرق بين القيمتين، وهو ما أنقص القيمة نفسها، فننظر مثلا إلى قيمة السيارة كما ذكرنا سليمة وقيمتها معيبة، والفرق بين القيمتين هو النسبة ، التي عليها يركّب من أصل المبلغ المتفق عليه بين الطرفين ، وعلى هذا لو أن السيارة سليمة من العيب قيمتها عشرة آلاف ريال وقيمتها بالعيب ثمانية آلاف ريال نعلم أنه أنقص خمس القيمة فلو كان قد باعه السيارة بخمسة آلاف ريال رد له ألف ريال وهو خمس القيمة .
قال رحمه الله : [ وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له ] : خيار العيب ثابت بالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب فقوله –تعالى- : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } .(5/412)
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة : أن الآية الكريمة اشتملت على مشروعية الرد بالعيب من وجهين:
الوجه الأول في قوله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وتوضيحه: أنه حينما باعه السلعة بالمبلغ المتفق عليه فقد أعطاه هذا المبلغ على أنها لا عيب فيها ، فإذا وُجد فيها العيب فقد أنقص القيمة ، وإذا أنقص القيمة فمعناه أنه قد أكل من ماله بالباطل على قدر ما أنقصه من القيمة ، والله –- عز وجل -- حّرم ذلك ، فالله –- سبحانه وتعالى -- حرم أكل أموال الناس بالباطل ، فإذا كان الأمر كذلك شُرع تلافيه ولا يتلافى إلا بإثبات الخيار للمشتري .
كذلك أيضا الوجه الثاني في الآية الكريمة في قوله –- سبحانه وتعالى -- : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } ووجه الدلالة: أن الله –- عز وجل -- أحل وأباح عند وجود الرضى ، فدل على أنه إذا انتفى الرضى لم يحل المال ، ومن المعلوم أن المشتري اشترى المبيع ورضي به بدون عيب ، فإذا وجد العيب فقد أفسد الرضى ، لأنه لم يرضَ به معيبا ، وإنما أخذه سالما من العيب ، فدلت الآية من الوجهين الاثنين على مشروعية خيار العيب بإثبات الحق والوصول إلى هذا الحق يفتقر إلى الخيار فصار الخيار مشروعا .
ثانيا : السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- : (( لا تصرّوا الإبل ولا الغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين : إن سخطها ردها وصاعا من تمر وإن رضيها أمسكها )) .(5/413)
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- حرم صرّ وتحفيل الضرع للشاة وللناقة ، لأنه غش فكانوا يربطون أخلاف الإبل والغنم ولا يحلبونها يومين ثلاثة فينتفخ ضرعها فمن رآها ظن أنها حلوب فيشتريها فهي مصراة ، وأصل التصرية الحبس، ومعناه أنه حبس لبنها فيها فلم تحلب ، فالذي يراها يرغبها خاصة إذا كان يريد الشاة من أجل الحليب ، فإذا اشتراها [ فمن ابتاعها ] يعني اشتراها فهو بخير النظرين، هذا موضع الشاهد ((بخير النظرين)) والخيار بينه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بقوله : (( إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر)) ، قد تشتري الشاة وهي محفلة وأنت تريد حليبا بنسبة ثم بعد ما تحلبها ثلاثة أيام وتنكشف حقيقتها تجد أن الحليب الذي فيها فيه خير وبركة ، وترغب الشاة وتحبها وتحس أن المبلغ الذي دفعته طيب فيها فترضى إن رضيها أمسكها وإن سخطها قال لا ما أريد ردها وصاعا من تمر ، وهذا سببه أنه اشترى شاة وحليبا بل كان فيها حليب ، ولذلك ألزم بدفع الصاع ضمانا أو بمثابة المقابل للحليب الذي أخذه قضاء من السنة ، وإن كان على خلاف الأصل في أشياء، لكن نقول إنه مستثنى من الأصول .
أما الإجماع فقد أجمع العلماء على مشروعية الرد بالعيب أنه يوجب الخيار للمشتري أو للبائع على حسب وجود البيع عند البائع أو المشتري، فيثبت الخيار لهما والإجماع منعقد على هذا من حيث الجملة .(5/414)
قال رحمه الله : [ وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له ] : الكسب يكون مثل العبد إذا اشتراه فيه عيب، فجلس يعمل واكتسب وأعطى سيده ، وكذلك أيضا الأرض يستغلها بالزراعة فتخرج وتنتج قد يجد العيب في الأرض بعد سنتين أو ثلاث سنوات، وكذلك أيضا النماء المنفصل من شرب الحليب ونحوه وقص الشعر والانتفاع بشعر البهائم وجزها، وكذلك سكنى الدار مدة فلو فرضنا أنه اشترى عمارة وتبيّن له العيب فيها بعد سنتين فعنده نماء منفصل وهو سكنى العمارة سنتين، كذلك أيضا لو أنه ركب الدابة الركوب والمشي عليها والذهاب إلى عمله ولربما سافر بها ولربما كان يستخدمها في الأجرة فكان يركب عليها الناس ويأخذ منها الأجرة كله نماء منفصل .(5/415)
النوع الثاني من النماء النماء المتصل الذي لا يمكن فصله عن المبيع مثل مثلا اشترى فرسا هزيلا فاعتنى به، وأطعمه فأصبح سمينا ، اشترى مثلا ناقة هزيلة ضعيفة أو شاة هزيلة ضعيفة اعتنى بها وأطعمها وسقاها فأصبحت بحال طيب لكن هذا السمن وهذا النماء، لا يمكن أن يفصل عن المبيع ، فهذا النماء له حكم خاص، والنماء الأول وهو النماء المنفصل أيضا له حكم خاص ، فالعلماء –رحمهم الله- عندهم النماء المتصل، والنماء المنفصل ، فبين رحمه الله أن النماء المنفصل يملكه المشتري خلال المدة التي لم يعلم بها بالعيب ، فلو أنه أخذ سيارة وانتفع بها سنتين، واكتشف العيب العيب يستحق ولو بعد عشر سنوات ، ولو بعد مائة سنة ، لو أنه باعه أرضا زراعية ثم انتفع بها وعمرها واستغلها ثم بعد عشر سنوات تبين أنها مستحقة لآخر أو مغصوبة أو تبين أن هذه الأرض مثلا باع على أن لها صك شرعي وإذا بها ليس لها صكاً شرعياً ونحو ذلك يستحق المدة هذه ثلاث سنوات والأربع سنوات جميع ما اكتسبه له ، لمن؟ للمشتري ، لأنه لو تلفت هذه العين تلفت على ضمانه ، والنبي –- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( الخراج بالضمان )) وهذا متفق عليه بين أهل العلم أن الربح لمن يضمن الخسارة ، فالسلعة في خلال هذه الفترة كانت في ضمان المشتري فإذا باعه سيارة واشتراها منه بعشرة آلاف ريال ثم جلست عند المشتري شهرين وهو يسافر بها أو يركب الناس ينتفع بها في الأسفار ونحو ذلك حتى كسب منها مثلا عشرة آلاف ريال وفي خلال الشهرين أو ثلاثة أشهر فسدت السيارة أو تلفت بالكلية قبل أن يطلع على العيب لكان على ضمانه ، ومن هنا كان له حق الربح ، هذا الربح المنفصل ، لكن النماء المتصل يأخذه البائع والنماء المنفصل يأخذه المشتري وهذا عدل فالنماء المتصل لو أنه وجد العيب في الدابة وكانت الدابة كما ذكرنا هزيلة فأصبحت سمينة، كانت مريضة فداواها وعالجها فأصبحت سليمة حينئذ نقول له تردها بحالها ، ولا يقول(5/416)
والله كانت مريضة وأريد أن يدفع لي أجرة نقول لا هذا نماء متصل يرد المبيع ويأخذ الربح وعليك الخسارة ، هذا إذا اختار أن يفسخ العقد ، كذلك في حكم النماء المتصل لو أن السيارة كانت مثلا فيها عيوب في مكينتها فأصلحها خلال الشهرين وتعب عليها وأصلح ما فيها فهذا نماء متصل؛ لأنه لا يمكن إزالة هذه الأشياء وإن كان إزالتها بالميكانيكا ونحوها لكنها تعتبر في حكم النماء المتصل، ولذلك ذكر العلماء أنه لو عالج الدابة وكانت مريضة أنه لا يستحق أجرة العلاج؛ لأن الصحة من النماء المتصل والسمن من النماء المتصل الذي لا يمكن فصله عن العين المبيعة ، وعليه فإنه يستحق ذلك النماء المتصل إذا كان بائعا، ويستحق ذلك النماء المنفصل إذا كان مشتريا .
قال رحمه الله : [ وما كسبه المبيع أو حدث فيه من نماء منفصل قبل علمه بالعيب فهو له لأن الخراج بالضمان ] : لأن اللام تعليلية أي من أجل أن الخراج بالضمان وهذا تعليل للحكم مبني على الدليل، وهو أن الخراج بالضمان، وهذه الكلمة الخراج بالضمان أصلا هي كلمة مرفوعة كما ذكرنا من حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها-وأخذ العلماء منها القاعدة المشهورة " الخراج بالضمان" ، بعضهم يقول الخراج بالضمان ؛ تأدبا مع السنة على الوارد ، وبعضهم يقول : الغنم بالغرم وبعضهم يعكس ويقول الغنم بالغرم والغرم بالغنم وعلى كل حال المعنى واحد المراد به أن الذي يتحمل الخسارة هو الذي يأخذ الربح، وهذا من عدل الله بين عباده .(5/417)
قال رحمه الله : [ وإن تلفت السلعة أو عتق العبد أو تعذر رده فله أرش العيب ] : هنا يرد إشكال يعني إذا كانت السلعة لا يمكن ردها، ولا يمكن يعني تداركها ، من أمثلة ذلك إذا تلفت، أو عتق العبد العتق لا يمكن تلافيه ، فلو اشترى منه عبدا، ثم في العبد عيب ولم يعلم به فأعتقه ثم تبين أنه معيب، وشهدت البينة أو اعترف البائع أنه فعلا هذا العيب موجود فيه وهو عيب يستحق به نقول في هذه الحالة يضمن له الأرش؛ لأنه ما يمكن رد العين ، لأننا قلنا يخيّر بين رد الأرش وبين رد العين فإذا كان لا يمكن رد العين بقي رد الأرش .
قال رحمه الله : [ وقال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- : (( لا تُصَرّوا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر )) ] : هذا الحديث الذي سبقت الإشارة إليه، وهو حديث صحيح عن أبي هريرة –- رضي الله عنه -- ولا إشكال في أنه دل على مسائل منها : تحريم التصرية ؛ لأنها غش ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من غشنا فليس منا )) .
وثانيا : دل على مشروعية الخيار أعني خيار العيب ورد في بيع الحيوان وهو أصل في البيوعات كلها فأثبت النبي –- صلى الله عليه وسلم -- به خيار العيب ، وأن من اشترى سلعة وفيها عيب يستحق الرد ، وأنه إذا وجد الشاة مصراة هذه المسألة الثالثة أن عليه أن يردها إذا اختار الفسخ مع صاع من تمر ، فإن علم بالتصرية قبل أن يحلبها مثل جاءه من يثق به وقال له : الشاة أنا رأيت فلان يصريها أو أقر البائع أنها مصراة وقد تم العقد بينهما ولم يحلبها بعد حينئذ يردها دون الصاع من التمر ، لأن صاع التمر مركب على الانتفاع من حليبها .
قال رحمه الله : [ فإن علم بتصريتها قبل حلبها ردها ولا شيء معها ] : كما ذكرنا .(5/418)
قال رحمه الله : [ وكذلك كل مدلس لا يعلم تدليسه ] : هذا النوع الرابع خيار التدليس، تقع المبيعات على صور محسّنة مجملة ثم يتبين أن الأمر بخلاف ذلك ، وهذا من الظلم للناس وأكل مالهم بالباطل ، وهو نوع من أنواع الغش ، ويجعل السلعة على صفة من يراها يحبها، وعلى صفة وهي صفة كمال والواقع أن السلعة ليست بكاملة ، فهذا كله يوجب الخيار للمشتري إذا اطلع على حقيقة الأمر، وهذا النوع من الخيار خيار التدليس له صور ذكرها العلماء قال رحمه الله : [ وكذلك] أي مثل ذلك بمعنى يثبت الخيار في التدليس كما يثبت بالعيب .
قال رحمه الله : [ وكذلك كل مدلس لا يعلم تدليسه فله رده كجارية حمّر وجهها ] : لا يعلم تدليسه هذا الشرط، بشرط أن يكون المشتري لا يعلم لكن لو كان يعلم واشترى فلا إشكال أن حقه ساقط ؛ لأنه كأنه رضي أن يشتريه بالنقص .
قال رحمه الله : [ كجارية حمّر وجهها ] : كجارية حمّر وجهها وهذا اللون مفضل يعني أرغب وأحظى أن لا يكون البياض شديدا أن لا يكون دون ذلك فيكون الحمرة، فهذا يرغب في الشراء أكثر ومن هنا كجارية حمّر وجهها وهذا عن طريق المساحيق فترى على الصفة الكاملة فإذا رؤيت على هذه الصفة الكاملة ثم انكشفت الحقيقة فهذا يوجب خيار التدليس ، لو رآها محمّرة الوجه ثم رآها على خلاف ذلك وعلم أنه قد وضع بعض لها المساحيق أو بعض بعض الأشياء التي تؤثر في لون بشرتها فحينئذ يكون له خيار التدليس .
قال رحمه الله : [ كجارية حمر وجهها أو سوّد شعرها ] : أو سوّد شعرها الشعر هي مثلا بيضاء الشعر بيضاء فاقع لونها لا تسر الناظرين ، طبعا هذا المشيب يروّع
قد أصبحت أم سليم تدّعِ
لما رأت برأس شيب الأصلع
... علي ذنبا كله لم أصنعِ
أفناه قيل الله للشمس اطلعِ(5/419)
هذا ما له ذنب فيه ، فالشاهد أنها إذا كانت مثلا بيضاء الشعر يعني يظن فيها كبر السن والجارية قد يراد بها التسري ، فكلما كانت أصغر كلما كانت أحظى، ولو كانت صغيرة وهي يعني يبدو فيها الشيب أثر هذا في قيمتها، وأثر في رغبة المشتري ، فقامت على شعرها وصبغت ، فبدت كأنها صغيرة وهي كبيرة ، أو مثلا على أنها صفة أجمل لها فطبعا لا يجوز صبغ الشعر بالسواد وهو مذهب الجمهور؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد )) فالشاهد من هذا أنه إذا سود شعرها وتبين أنه مسود يستحق الرد .(5/420)
قال رحمه الله : [ أو سوّد شعرها أو جعّده ] : جعده هذا صفة من صفات الشعر ، هو لابد أن يكون العبث والتدليس في شيء يؤثر في رغبة المشتري ، هذا أمر مهم جدا ، ولذلك يعني الجارية مثلا لو أنه أراد أن يبيع جارية فألبسها –-أكرمكم الله- حذاء غاليا هذا ما يعتبر تدليساً ، لأن هذا ما له علاقة، الكل يعرف أن هذا الحذاء سيكون عنده وعند غيره ، فإذا لابد أن يكون عمله وتدليسه في شيء يزيد من الرغبة، ويزيد من القيمة في بعض الأحيان ، فتجعيد الشعر: الشعر المسترسل نوع، والشعر المجعد نوع، وهذه من خصائص الشعر ، وإذا كان وسطا بين الجعد القَطَط وبين المسترسل فهذا أفضل ما يكون على ما كان عليه شعره –عليه الصلاة والسلام- أنه ليس بمسترسل ولا بالجعد القَطَط ، فتراه يعني مجعّدا تجعيدا مقبولا وهو الوسط بين المسترسل والجعد ، فالجارية يحمد فيها هذا أن يكون شعرها جعدا ، وإذا فعل هذا وتكلّفه ويكون هذا عن طريق الكهرباء وعن طريق النار كما يفعلونه في القديم والآن يوجد بالآلات الكهربائية فيظن أنها على هذه الصفة، وطبعا الآن ما في جواري، واضح يفتح الله ، لكن فائدة طالب العلم يستفيد من كلام العلماء في معرفة الضابط ولعل ولعل ، يأتي يوم مثلا فيه هذا ، فعلى كل حال هذا حكم الله وهذا ما نص عليه العلماء –رحمهم الله- أن هذا الشيء إذا فُعل من رآه يرغب في المبيع ، وما يزيد في الرغبة وما يدعو إلى الشراء فهذا يدخل فيه التدليس ، وما كان خارجا عن ذلك لا يؤثر ، لماذا العلماء يقولون سوّد شعرها جعده؛ لأن هذه محل للرغبة ، وعلى طالب العلم إذا درس خيار التدليس أن يعلم ما الذي يحرّك المشتري لشراء السلعة ويرغبه فيها ويدفعه إليها ، وإذا كان في شيء يدفع أو يزيد الرغبة؛ فحينئذ يكون التدليس مؤثرا .(5/421)
قال رحمه الله : [ أو رحى ضم الماء وأرسله عليها عند عرضها على المشتري ] : إذا بيعت المزارع أهم شيء في المزرعة أن يكون فيها ماء؛ لأن المزرعة حياتها على الماء ، فإذا كان ماؤها كثيرا رُغَّب فيها وازدادت الرغبة ، ولذلك تجد الزبون أو المشتري إذا أراد أن يشتري بستانا سأل أو بحث أو اكتشف حقيقة ماءه حتى يستطيع أن يقبل أو يمتنع ، لأنه إذا جف الماء مات نخله ومات زرعه ، ولو وجد بستانا من أحسن وأجمل ما يكون عليه البستان وماؤه قليل لم يشترِ ، ولو وجد بستانا أو حتى أرضا بورا ما فيه زرع ولكن فيها ماء وهي صالحة للزراعة؛ فإنه سيرغبها ، إذاً وجود الماء يحرك ويدعو إلى الرغبة في الشراء والرغبة في الأخذ؛ فحينئذ يقوم بجمع الماء في القديم ويرسله عند دخول المشتري ، وحينئذ يكون تدليسا ، في زماننا المكينة التي ترفع الماء وتضخ الماء تضخ مثلا في الساعة الأولى والماصورة مثلا دفعها كامل فلو كانت مثلا ثلاثة بوصة أو أربع بوصة ترى دفعها كاملا ، ثم بعد ساعة ينقص ثم بعد ساعة أخرى ينقص ، فإذا كان الماء ناقصا ينقص ، وربما يصل حتى إلى بوصتين وهي أربع بوصات ، لأن الماء قليل، فحتى يخدع المشتري ماذا يفعل ينتظر إلى دخول المشتري البستان فيحرّك المكينة فإذا بالماء يدفع كثيرا فيظن أن الماء كذلك ، أو قال له الماء أربع بوصة، ثم شغل مكينة في حال دخوله وإذا كاملة معمدة فنقول هذا غش وتدليس ويوجب خيار التدليس .(5/422)
قال رحمه الله : [ وكذلك لو وَصَف المبيع بصفة يزيد بها ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد أو كتابة ] : هذا في الحقيقة يرجع إلى صفات الكمال التي ذكرناها في العيب ، ولكن هنا ذكر صفة تزيد في الرغبة في الشراء وإتمام الصفقة ، فصار داخلا تحت التدليس من هذا الوجه ، وإدخاله تحت التدليس له وجه ، فإذا وصفه بأنه كاتب؛ لأنه كانوا في القديم يحتاجون مثلا إلى العبيد والمماليك في المصالح، فمثلا يريده للكتابة، يريده شاعرا، يريده حجاما، يريده صاحب صنعة؛ لأنه يريد من وراء صنعته أن يأخذ منه ويكتسب منه ، ففي هذه الحالة إذا وصفه بصفة تزيد بالرغبة فيه ثم لم يجد الصفة صار خيار تدليس ويدخل في خيار العيب بالشرط بصفات الكمال، ولكن من أهل العلم كما درج عليه المصنف –رحمه الله- أدخله في خيار التدليس .
قال رحمه الله : [ وكذلك لو وصف المبيع بصفة يزيد بها ثمنه فلم يجدها فيه كصناعة في العبد أو كتابة أو أن الدابة هِمْلاجة ] : صناعة في العبد أو كتابة بعض الأحيان يصفه ، ومن أهل العلم من قال : التحريك بالفعل كصريح القول، التحريك بالفعل كانوا في القديم لما يأتي عرض العبد ماذا يفعل إذا يريد هو ما يعرف العبد يكتب فيلطخ ثيابه بالحبر، فإذا رآه المشتري ظن أنه من أمهر الكُتاب ، وهو يريده كاتبا ، ثم إذا أخذه إذا بالأمر على خلاف ذلك أو مثلا قصّابا جاء وألبسه ثياب القصاب أو وضع فيه شيء من أهل العلم من قال الفعل كالقول، لكن المصنف –رحمه الله- سلك مسلك الإخبار ما فيه إشكال ، لكن إذا كان بالأفعال، ووضع عليه أشياء يعني فعلا تدل على شيء فيه هو الحقيقة يقوى وهو أحد الوجهين ذكرهما العمراني –رحمه الله- في البيان وغيره من فقهاء الشافعية يقْوى القول بأنه إذا كان بالفعل كالقول مثل إرسال الرحى ونحو ذلك .(5/423)
قال رحمه الله : [ كصناعة في العبد أو كتابة أو أن الدابة هملاجة ] : الصناعة يعرف مثلا نجار قال له حداد ثم طلع لا نجارا ولا حدادا ، حينئذ يعتبر هذا غشاً وموجباً للخيار للمشتري .
قال رحمه الله : [ أو أن الدابة هملاجة ] : هملاجة سريعة وإذا بها تنزل عليها السكينة ، أو تكون السيارة أو يقول له: والله هذه السيارة طيبة
أيا حسن سيارتنا بهتف تسير بنا ساعة وساعتين تقف
يعني كل شيء يُشترى لمقصود يعني الذي يشتري السيارة يريد أن يركبها ، مثلا حتى السيارات تختلف مقاصد الناس فيها ، فإذا اشتراها لمقصد ولم يجد ذلك المقصد فيها هِملاجة سريعة ويريدها مثلا لأغراضه يريدها مثلا للبريد يريد أن تكون سريعة يريد أن يقضي عليها مصالحه فغشه وإذا به على خلاف ذلك .
قال رحمه الله : [ أو أن الدابة هملاجة والفهد صيود أو معلم ] : نعم لأنهم كانوا يستخدمونه في الصيد ، وذكر الدميري أن يعرف الفهود من أقوى ما تكون في الصيد ، وعدي بن حاتم –رضي الله عنه وأرضاه- سأل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن الصيد وكان مولعا بالصيد؛ وفيه نزل قوله –تعالى- : { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح ... } الآية وهو الذي قال : إني أصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم وأصيد بهذه البزات الصقور ، وكان يصيد بالفهود وكانت معروفة بالوفاء ، ويقال أنه لما توفي رضي الله عنه وأرضاه عكفت الفهود على قبره . قالوا إنه من وفائها له ، فتعلم للصيد، وهي أسرع ما تكون في الصيد فلو قال على أن الفهد صيود وتبين أنه لا يصيد يكون خيار التدليس .(5/424)
قال رحمه الله : [ أو أن الطائر مصوّت ونحوه ] : الطير يجوز شراؤه إذا كان صوته حسنا، ودلت السنة على جواز حبس الطيور إذا كان يطعمها ويقوم على مصالحها ، واستدل العلماء –رحمهم الله- لهذه المسألة بما ثبت في الحديث عنه –عليه الصلاة والسلام- من قوله : (( يا أبا عمير ما فعل النغير )) وكان له النغري وهو العصافير الصغيرة هذه. فقال له ما فعل النغير فلم ينكر عليه –عليه الصلاة والسلام- حبسه للنغري فدل على أنه مادام أنه يطعمه ويقوم على مصالحه ولا يؤذيه ولا يعذبه أن هذا جائز ولابأس به ولا حرج ، فإذا أراد أن يشتري مثلا البلابل أو نحوها من الطيور التي لها أصوات طيبة وحسنة فلابأس ولا حرج ، قال له والله، هذا طائر مصوت وتبين أنه غير مصوت كان له الحق في الرد في خيار التدليس .(5/425)
قال رحمه الله : [ ولو أخبره بثمن المبيع فزاد عليه رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح إن كان مرابحة ] : هذا خيار التخبير بالثمن ، يخبره أنه اشترى السلعة بمائة ألف هذا ما يسميه بعض الباعة لما تأتيه يقول لك: رأس مالي في هذه السيارة مائة ألف كم تربحني ؟ تقول: أربحك النصف معناه أنك ستشتريها بمائة وخمسين ، أو تقول أربحك الربع فحينئذ معناه أنك ستدفع مائة وخمسا وعشرين ألفاً فلما أخبرك أنه اشترى بثمن تبيّن أنه أخطأ أو كذب ، فإذا أخطأ أو كذب بحث العلماء –رحمهم الله- هذه المسألة في موضع خاص، وجعلوا لبيع المرابحة أحكاما خاصا ، وهذه هي المرابحة الشرعية ، المرابحة الشرعية يعرفها المسلمون حتى العوام ، تأتي إلى الرجل ويأتي مثلا بالشاة تقول: كم؟ يقول رأس مالي خمسمائة كم تربحني هذا بيع المرابحة ، أن تكون مالكاً للسلعة حقيقة ثم تبين رأس مالك فيها وتطلب منه الربح بناء على رأس المال ، أما أن تذهب وتختار من المعرض ما تشاء ثم يأتي البنك ويشتريها ثم بعد ذلك تربح البنك فهذا ليس من المرابحة في شيء ؛ لأنه هو الذي عين السلعة وهو الذي حددها واتفق مع صاحب المعرض هذه ليست بالمرابحة ، يقول إنها مرابحة ولكننا نقول مرابحة إسلامية ، واليوم ما شاء الله مرابحة إسلامية، الإسلام أصبح يعني كالشماعة يعلق عليه كل شيء ، طبعا في اجتهاد لبعض العلماء يرى هذا ، ولكن ينبغي الدقة في استعمال المصطلحات الشرعية وضبطها بضوابط أهل العلم –رحمهم الله- ، هذا المعروف المرابحة إلى الآن كبار السن لو تدخل سوق حتى الغنم فتجد رجلاً كبير السن على فطرته يقول لك رأس مالي مائة كم تربحني ؟ بكل وضوح هذه مرابحة ملكت السلعة وهي في ضمانها يقول لك كم تربحني ؟ وتكون المرابحة بعد الملكية وتحديد رأس المال ، لا أنه يحدد له السلعة ثم بعد ذلك يدفعها لا لشبهة الربا كما بيناه غير مرة ، فالشاهد من هذا أن بيع المرابحة إذا أخبره الثمن وتبين أنه أخطأ أو كذب(5/426)
يكون له الخيار وهذا يسمى خيار التخبير بالثمن ؛ لأنه أخبره بالثمن على وجه وتبين أنه بخلافه .
قال رحمه الله : [ وإن بان أنه غلط على نفسه خُيّر المشتري بين رده وإعطائه ما غلط به ] : إذا قال له: أنا اشتريتها بمائة ريال أو بمائة ألف وكان المسكين يظن أنها فعلا بمائة ألف وتبين أن المائة ألف فاتورة بضاعة أخرى ، فحينئذ إذا قال له: رأس مالي فيها مائة ألف قال له أنا أشتريها منك بمائة وخمسين فمعناه أنه أعطاه الربح بكم؟ بنسبة النصف ، فإذا تبين أنه اشتراها بثمانين ألف لا بمائة ألف نقول حينئذ يكون له مائة وعشرون ألف ريال ، ويرد له الثلاثين ألف ، لأنه في هذه الحالة يكون النقص على النسبة بين القيمتين .
قال رحمه الله : [ وإن بان أنه مؤجل ولم يخبره بتأجيله فله الخيار بين رده وإمساكه ] : لو قال له رأس مالي فيها هذه السيارة رأس مالي فيها مائة ألف وهو صادق أن رأس ماله فيها مائة ألف لكن اشتراها بالتقسيط مؤجلة ، ومن المعلوم أنه إذا قال لك رأس مالي فيها مائة ألف تحسب أنها نقد ، والذي يريد الأصل النقد ، وهذه فائدة معرفة الأصول في الأشياء حتى يعرف ما خالفها ، فالأصل النقد ، فإذا قال لا أنا اشتريتها بمائة ألف وتبين أنه اشتراها بالتقسيط نقول كان المنبغي أن يقول رأس مالي فيها مائة ألف تقسيطا ، يبين لك ، فإذا لم يبين لك فقد دلس ، وحينئذ يكون لك الخيار إما أن تمضي وإما أن تفسخ .(5/427)
قال رحمه الله : [ وإن اختلف البيّعان في قدر الثمن تحالفا ] : هذا ما يسميه العلماء بخيار الاختلاف في الثمن ، يحلف أول من يحلف البائع ، ثم يحلف بعده المشتري ، قال البائع : بعتك بيتي وعمارتي بمليون ، قال: لا ، بعتني العمارة بثمانمائة ألف ريال ، فالبائع يذكر قيمة والمشتري يذكر قيمة اختلفا، والسلعة قائمة يتحالفان ، في الروايات: يحلف البائع هنا قال: يتحالفان على زيادة المسند ، والأصل في هذه المسألة الحقيقة أن ترجع باب القضاء ، ولكن العلماء من عادتهم أن يذكروا المسائل الخاصة بالقضاء في كل باب بتبعه إذا تعلقت به أكثر ، فالأصل في الدعوى أن هناك مدعياً ومدعياً عليه الذي يكون قوله موافقاً للأصل فهو مدعى عليه ، والذي يكون قوله خلاف الأصل فهو مدعٍ ، والذي يكون قوله خلاف الظاهر فهو مدعٍ والذي يكون قوله موافقاً للظاهر فهو مدّعى عليه، ما هو الأصل وما هو الظاهر الأصل مثلا أن المتهم بريء لو قال: فلان كذب علي فلان نسأل الله العظيم كذاب فلان غشاش نقول الأصل براءته من هذا الشيء حتى تثبت إذاً من المدعي المدعي الذي يقول هذا والمدعى عليه موافق للأصل الذي يُتّهم ، فالمدعي من خالف الأصل، أو خالف الظاهر مثلا تأتي إلى رجلين راكبين على بعير قال أحدهما: هذا ملكي قال الثاني هذا ملكي الاثنان على البعير. الأول يقول هذا لي، والثاني يقول هذا لي ، هذا يقول انزل الثاني يقول انزل ، كل منهم يدعي ، من المدعي ومن المدعى عليه ؟ هنا ما في أصل ما هو الأصل، ما في أصل، الأصل أن الذي يركب على الدابة يملكها في الأصل ، والذي يتصرف فيها مالك لها ، حينئذ يرجع إلى شيء يسميه العلماء الظاهر ، فدلالة الظاهر يحتكم إليها،فجرى العرف في الظاهر أن الذي يركب في المقدمة هو صاحب الدابة، والذي يركب في المؤخرة أنه رديف، فنقول الذي في المقدمة مالك على الظاهر، فيطالب الذي في المؤخرة بالبينة ، أيضا في الدار والبيوت لو واحد ادعاها والثاني(5/428)
ادعاها وأحدهما داخل الدار والثاني خارجها نقول الظاهر أنها ملك لمن كان بداخلها ، فالشاهد من هذا أنه ينتزع الأصل أن البائع مدعىً عليه لأنه يدعي عليه أنه باعه بأقل من هذه القيمة، والأصل أنها ملك له حتى يدل الدليل أنه قد باع ، فقوي جانب البائع من هذه الوجوه وإن شاء الله سيأتي التفصيل أكثر في باب القضاء بوضع ضوابط الدعاوى، وعلى من تكون اليمين وعلى من تكون البينة ، قال: تحالفا طيب إذا تحالفا من يحلف أولا قالوا البائع ثم يحلف المشتري، وفي هذه الحالة لو حلف البائع وامتنع المشتري فإنه يقضى بالنكول على أحد قولي العلماء –رحمهم الله- في القضاء بالنكول، وفيه سنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فيلزم بالقيمة التي حلف عليها البائع، وإلا يحلف ويبرأ .
قال رحمه الله : [ وإن اختلف البيعان في قدر الثمن تحالفا، ولكل واحد منهما الفسخ إلا أن يرضى بما قال صاحبه ] : واضح لو قال له مثلا بعتك مائة وخمسين ورضي فلا إشكال ، أو قيل له احلف اليمين قال لا أريد أنا أرضى وأَكِل أمري إلى الله له ذلك .
أولا : أوصي إخواني طلاب العلم بتقوى الله –- عز وجل -- .
ثانيا : الأهم في العلم ضبطه وليس كثرته ولا كثرة مسائله .
من الناس من قرأ من العلم القليل فبارك الله له، فحاز الثواب الجليل ، ومنهم من قرأ من العلم الكثير ونزع الله منه البركة فلم ينتفع في نفسه ولم ينفع الله به .
أوصي طلاب العلم لأمر مهم جدا وهو قضية ضبط العلم ، ونحن كنا قبل رمضان قد أخذنا كتب العبادات، وسرنا على طريقة الحقيقة ضغطنا فيها طلاب العلم كثيرا، وأخذنا دورة إلى أن انتهينا من كتاب العبادات كاملا .(5/429)
طالب العلم الذي هو بحق ويريد أن يرضي الله –- عز وجل -- لا يفوّت من العلم شيئا ، وإذا أردت أن ترى طالب العلم بحقّ فانظر إليه في تحضيره للدرس ، وأيضاً في ضبطه لما يقال أثناء الدرس ، وفهمه وتحصيله وحرصه على أن لا يفوته شيء ، وانظر إليه بعد انتهاء مجلس العلم كيف يرجع ويراجع ، فإن رأت عيناك طالب علم شغله الله بقراءة هذا العلم مستشعرا للأمانة ، ويعلم الله أنه ما جلس بين يدي شيخه ولا جلس مجلس علم إلا وقد قرأ وأتعب نفسه حتى لا تضيع منه كلمة أو لا يضيع منه حرف قبل الكلمة ، لأنه يعرف ويعلم أن الله سيرفع درجته بهذا العلم ، إذا وجدته أتعب نفسه في التحضير وأتعب نفسه في مجلسه في العلم، وخرج من مجلس العلم وقد جمع ما قيل أو أغلب ما قيل؛ لأنه يعلم أنه مؤتمن من أمة محمد –- صلى الله عليه وسلم -- على هذه المسائل ، وأن أي مجلس علم تذكر فيه مسائل العلم فمعنى ذلك أن كل من حضرها وسمعها وفهمها مسؤول أمام الله أن يبلغها للأمة ، والعالم تبرأ ذمته، ولذلك الأمل في الله، ثم في طلاب العلم ، فإذا وجدته في مجلس العلم بهذه المثابة ووجدته بعد مجلس العلم أخذ ذاك الذي قرأه، فإن كان في شريط فرّغه وإن كان في شريط سمعه المرة بعد المرة حتى يحفظ هذا العلم حفظا صحيحا ، وإن من أهل العلم من أدركناهم فوالله، إني سمعت بعضهم من مشائخنا –رحمة الله عليهم- سئل عن المسألة وبعض الأحيان يسأل عن العبارات في الكتب ليشرحها فيأتي بجملة حفظت بعض الجمل وكتبتها حرفيا، ونظرت إليه بعد أربع سنوات يسأل عن المسألة إياها، وبعد يمكن أكثر من خمس سنوات يسأل عن شرح يمر على نفس هذه الجملة التي قبل أربع سنوات فوجدت أنه لم يزد حرفا ولم ينقص حرفا ، العلم أمانة العلم مبني على الحفظ والرعاية ما يعطيك من رأسه، شيء حفظه عن علمائه وأداه إليك ، حتى إن بعض أهل العلم ممن تقرأ بعض كتبهم وشروحهم وبعض العلماء الكبار الذين أدركناهم –رحمة الله عليهم- وجدناهم(5/430)
إذا تعرضوا لبعض المسائل الفقهية نسمع بعض الأشرطة لهم أو تدوّن بعض المذكرات وبعض المسائل فتأتي إلى الكتب القديمة العتيقة فتجد أن الكلام نفسه ؛ لماذا ؟ لأنه علم أخذ بالأمانة وأدي بالأمانة ، فإذا كان طالب العلم بهذه الصفة فمعناه وهذا الذي نريد معناه أنه يبحث عن علم يضبطه ولو قليل لا عن علم لا يضبطه ولو كان كثيرا .
المشكلة اليوم في طلبة العلم أنهم يبحثون عن عشرات الدورات، ولا يلام فمنهومان لا يشبعان ويبحثون عن عشرات الدروس وبعضهم يقول أنا سأسافر وأرجع إلى بلدي فتجده عنده دروس الجامعة مثلا فيها من العلم والخير الكثير، وعنده دروس الحرم فتجده يخلط بين الاثنين بطريقة ((إن المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا قطع)) ، تأتي بعد نصف السنة أو السنة الكاملة تقول له ماذا عندك يقول: والله ضائع ما أدري ماذا أفعل ؛ لماذا ؟ أولا قل أن تجده فتح كتابا قبل أن يأتي إلى مجلس العلم، في دورة نعم في دورة بسم الله متى بعد العصر بعد العصر خلاص بسم الله ، جاء وجلس في الدورة اكتب دون أو اسمع حتى يمضي الوقت ثم يقوم لا كأن شيئاً حدث ، تلك الكراسة إن كتب في كراسته رماها في دولابه ، وهو لا يعلم مدى مسؤوليته أمام الله عن هذا الذي سمع ، ولذلك لو أن طالب علم بحق تجده يتمنى أن ليس له بالأسبوع إلا درس واحد، لكن يحفظ فيه كل كلمة ويضبط فيه كل مسألة، ويخرج للأمة ضابطا للعلم كما خرج الصحابة الذين منهم ابن عمر الذي حفظ البقرة في ثمان سنوات وخرج للأمة فانتشرت فتاويه في أصقاع الدنيا من البركة التي وضعها الله –- عز وجل -- العلم بالاستكثار وعدم النظر في إتقانه مصيبة على الإنسان فيجد بعد فترة أن عنده أشرطة الدروس كلها، وعنده الكراريس مليئة لكن أين ؟ هل يستطيع هذا الذي سمع باب الطهارة هل يستطيع أن يفتي في مسألة واحدة؟ هل يستطيع أن يخرج نفسه من هذا البلاء ؟ والله ، إن القلوب تتقرح نحاسب أهل العلم قبل أن نحاسب أنفسنا فتجده يقول(5/431)
والله الشيخ ما عنده إلا درس واحد، والله ما في الجامعة إلا شيخان أو ثلاثة نستفيد منهم ، كأننا بلغنا القدوة في طلب العلم ، علينا أن نسأل أنفسنا نحن، مالذي قدمناه ؟ وما الذي فعلناه؟ وبعض المشايخ لهم شرح كامل في الفقه، إذا شرح الفقه كاملا فقد أعذر إلى الله ، لكن أين طلاب العلم من هذا الشرح الآن، هل تستطيع أن تجد شيخا شرح كتابا كاملا . ويقول لك : فلان من طلابي أستطيع أن آمن وأحيلك عليه، يفتيك في هذه المسألة ، أو فلان من طلابي اذهب إليه يشرح لك هذا الكتاب، لأنه طالب بحق، ولكن مصيبة إذا كانت الكثرة موجودة والقلة معدودة، كانت مجالس الشيخ عبدالعزيز رحمه الله والشيخ محمد تكتحل بها العيون من الأمة التي تحضر ، لكن أين الذين خلفوا ؟! وأين الذين أبقوا لهذا العالم الجليل، الإمام، الذي قدم للأمة علمه حتى تكون فعلا رد له بعض الجميل على الأمة ؟! حضر له دروس لا تحصى له كثرة، ولكن ما أبقى شيئا ، إلى متى ؟! نحن ما نبحث عن أن يكون عندنا والله عشرون يوما دورة ، خمسون يوما دورة، حينما فعلنا دورة العبادات لأول مرة شرحناها بهذا الوجه تركنا شهر رمضان، وشوال، وذي القعدة ووافقت الاختبارات ما نستطيع . طلاب العلم إذا عندهم اختبارات بين أمرين : إما أنهم يتركون ، وبعضهم يقول : هذا علم لله، وهذا للجامعة، ما يصلح هذا، نحن نريد طالب العلم أن يأخذ من الجامعة ومن الحرم ، وأن يأخذ من أي عالم عنده علم وعنده حق، والله، وجدنا في الجامعة من العلم ما لم نجده في الحرم، ووجدنا في الحرم من العلم ما لم نجده في الجامعة، نحن نبحث عن حكمة وحق، فإذا جاءت أيام الاختبارات نتوقف رفقا للطلاب ، لأننا نحس أننا نحملهم هذه الأمانة والمسؤولية، ونحملهم هذه الأمانة، فإذا شرحت كتب العبادات كاملة فيحتاج طالب العلم بالاستقراء والتجربة إلى ما لا يقل عن سنة مراجعة لكتاب العبادات، كتاب العبادات إذا أخذته كاملا في الفقه تحتاج ما لا يقل عن(5/432)
سنة، سنة بمعنى الكلمة بمعنى أنك تكتب جميع ما في الشريط تفرغه، ثم تأخذ المسائل وترتّبها، ثم تضع فهرسا لهذه المسائل، ثم تبدأ بالحفظ والمراجعة ثم تطبق على نفسك، والله، ثم والله، لا أخفي ما يجده كل من بُلي بمسؤولية تعليم الناس من الألم والحزن حينما لا يجد من يخلفه، ولا يمكن أن يتصور أحد مقدار الفرحة للعالم والأستاذ والشيخ والمعلم إذا وجده من يخلفه، رأس مال العالم في هذه الدنيا بعد تعليمه طلبة العلم، فإذا نصحوا فوالله، قدموا له يعني كافئوا وردوا له جميله، حينما يردون، العلم ما هو الثناء على العلماء وذكر أوصافهم وألقابهم وضبطهم وتحريرهم ، العلم أن تنقل علمه، وأن تؤدي هذه الأمانة على الوجه الذي يرضي الله، نجد في بعض الأحيان طلابا يواظبون ، وهذا ليس هنا يعني من خلال تجربتي في عدة مواضع ، فتألمت وتقرّح قلبي، وما الذي جعلني لا أكثر من الدروس، آتي وأجد طالب العلم في بعض الأحيان لا يفارقني، من أسبق الطلاب ، ما شاء الله ، لا حول ولا قوة بالله حضورا، وتجد عنده حرصا ومحبة للعلم وضبطا له، فتجده مثلا قرأنا بابا في الطهارة والله، هذا شيء أشهد به رأيته وسمعته وعشته ليس من واحد ، بل من أكثر من واحد، فتجد هذا الطالب قد حضر دروس الطهارة، في الفقه وفي الحديث ، وتكرر هذه الدروس ، وأعرف بعضهم من سألني في مسائل في المناسك، ومنهم من قرأ بعض المتون في المناسك، ثم أفاجأ بعد مدة ، وإذا به يقول : يا شيخ، الوالد أو الوالدة أو فلان من جيراننا أو فلان من قرابتنا عنده سؤال مشكل في مناسك الحج، ما هو هذا السؤال المشكل؟ الذي قرأه والذي حضره، والذي سمعه عشرات المرات، أي حزن، هناك جروح يعني لا نلوم أهل العلم، نريد أن نستفيق من الغفلة، يعني حينما يخرج بعض الأسئلة تأتي لا يمكن سؤال يطرح في الدرس إلا وأقرأه بإذن الله - عز وجل - ، وأنا أوصي الإخوان أن يجمعوها، لكن وجدت بعض طلبة العلم طلبة العلم بحق ، حينما تجد(5/433)
السؤال فعلا يدلك على أنه قرأ الدرس، وحضر، حينما تجد كما هائلا من الأسئلة ليس حول الدرس نهائيا، أو تجد أنك تقول شيء وإذا به في شيء آخر، نقول مثلا الخرص مشروع ودل عليه الكتاب والسنة يقول: ما هو الخرص الذي قال الله عنه : { قتل الخراصون } ما هذا ؟! يعني هذه مصيبة نعم نقول هذا واقع ، هذا شيء موجود، قبل أن نحاسب أهل العلم علينا أن نحاسب أنفسنا، والله، إن كل من يحمل العلم ويرى طلبة العلم بحق ، حُفّاظا لهذا العلم، أمناء لهذا العلم، ما يغش، لما يأتي إلى درس العالم ويجلس بين يديه يشعر أنه فعلا أنه قد حضر هذا الدرس في بيته، وقرأه ثلاث مرات أربع مرات خمس مرات، كنا ندخل على طلبة العلم الصادقين في الجامعة نجد سهر الليل، ونجدهم في شدة الهاجرة، لا مكيفات ولا غيرها يتصببون عرقا وقد جاؤوا من دروس الجامعة وقد وضعوا كتب التفسير وكتب الحديث وكتب الفقه بين أيديهم، ما كان طالب العلم يجد شيئا يشغله عن العلم؛ لأنه يحس بالأمانة والمسؤولية، اليوم هو يومك، وغدا لك إن حفظت يومك، أما هذا الذي نبحث عنه حتى إن البعض يأتي يبحث فقط عن صفات الكمال، ويريد دروسا بطريقة معينة ، وإن استطاع أن يجعل الشيخ يشرح بطريقة معينة نعم، لكن ما الذي قدمه، نريد أكثر من درس، نريد الخلافات والتفريعات، ثم إذا جاءت الخلافات نريد الاختصار، لماذا تشتتنا، نريد شيئا مختصرا، أصبحت الأهواء ، نريد نريد ... ما تنفع ، ثم النظريات هذه شبعنا منها، نريد حفظا للعلم الذي يقال : الذي تريده وتبحث عنه هل الذي يقوله حق، أو لا، وهل الذي ينطق به صدق أو لا، فإن كان حقا فاحفظه، هذا الذي نريد، أما مسألة نريد تأصيلا، نريد التوسع، يعني مثلا في بعض الشروح توسعنا، وذكرنا الخلاف وبسطنا، وفي بعض الشروح نذكر أساسيات المتن لأننا نريد أن نؤصل لطالب العلم، فنجعل دائما في الشروح ، لا أريد طالب علم يقتصر على شرح واحد، ولن أستطيع أن أجعل شرحا مكررا، وإذا أعانني -(5/434)
عز وجل - وفت عليّ بفضله، فسأجعل كل شرح يكمل غيره، حتى يصبح طالب العلم يحس أن هذا العلم بفضل من الله - عز وجل - وليس له منتهى، ومن الذي يجعلنا نطيل المدة في ختم الكتب لأننا وجدنا بعض طلبة العلم يجلس عند الشيخ الشهر والشهرين يختم ثم يحرج للأمة، فيقال: هذا تلميذ فلان، لا علم طريقة التعامل مع طلبة العلم، ولا فقه في طريقة التعامل مع النصوص، ولا فقه في التعامل مع العلماء سلفا وخلفا، ثم يخرج هكذا يرتجل العلم وقيادة الناس، طول الزمان هو المحك لا يثبت فيه إلا الصادقون، ولا يصبر فيه إلا المرابطون، طول الزمان مقصود، ولذلك البعض قد يغتاب بعض أهل العلم يقول والله يطيل في دروسه ، ما عليك من أهل العلم، لست عليهم بمصيطر، وما على المحسنين من سبيل، فإذا وجدت أحداً من أهل العلم فرغ نفسه لطلبة العلم فكف لسانك عنه، واشتغل بما ينفعك، وما يعنيك، هذا النقد الذي نجده لأهل العلم والاشتغال بالاقتراحات هذا مضيعة ، ولن نصغي بآذاننا ولن نلتفت أبدا إلى مثل هؤلاء؛ لأننا سئمنا من هذه الأشياء، لنا طريق اخترناه على أهل العلم وجدنا أمانة نسأل الله بعزته وجلاله أن يبارك لنا فيه وأن يعيننا على بلاغه، والذي نريد ونصل إليه أن طالب العلم يبحث عن شيء يرضي الله - عز وجل - ، ورضى الله في ضبط العلم ، ومن هنا أقول: كل طالب العلم لو قرأ كتاب البيوع أو باب الربا فقط يستطيع أن يطلب شهرين يراجعه، لأنه يحتاج أن يضبط هذا الباب، ثم إذا ضبطه يأتي بعد الشهرين لتسمع الأسئلة المفيدة، لكي تسمع من طالب العلم يملأ عينك، تأتي في الدروس عشرات من العوام يحيط بك ويسألون أسئلة يعني بسيطة جدا وطلاب العلم غائبون، وإنا لله وإليه راجعون، أين طلاب العلم الذين يكتحل بهم العيون، أين طلاب العلم إذا نزل الإنسان من أهل العلم وأحاطوا به أسئلة قيمة مفيدة وأدبا وخلقا ؟! وأما الآن إلا من رحم الله ما يحيط بأهل العلم خاصة إذا خرج إلا أناس من العوام(5/435)
ويصبح الشيخ يسكت هذا ويعترض على هذا لكي يذهب بهاء العلم وسناء العلم ، نريد أن نعيد النظر قبل أن ننتقد أهل العلم ننتقد أنفسنا، وعلينا أن نستشعر الأمانة والمسؤولية، والهدف من هذا كله ليس هذا الدرس، كل الدروس، والأمر عام في هذا ، طلاب العلم في دراستهم في الجامعة عليهم أمانة، ويحتاجون إلى وقت ، يحتاجون إلى ضبط، ولذلك أنسب وقت اختاره هو الوقت الذي لا يكون فيه الاختبارات، ونحتاج ولو نأخذ بابا من أبواب البيوع، ويعطينا طالب العلم مراجعة دقيقة تبدأ أول شيء تأخذ العبارة ، وتنظر فيه، حتى كل من ورث العلم عن العلماء له ذوق في الكلمات التي يختارها، قرأت في فتاوى الإمام واعتبره شيخ الإسلام محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله برحمته الواسعة شيخ المشايخ، وإمام العلماء، رحمه الله قرأت له في فتاويه وفي تقريراته تتعجب والله، إن الكلمة إذا رفعتها لا يمكن أن تحل الكلمة مكانها، هناك ذوق، العلم الموروث هذا له طريقة ، من عود نفسه عليه خرج للأمة على أرض ثابتة، تأخذ الشريط وتفرغه وتفرغ العبارة تنقح العبارة المكررة تنظر فيها تعيدها تكررها تجرب كأنك أنت الذي تشرح ، تجرب أنك تحكي قول شيخك حتى تضبط، ثم بعد ذلك تلتفت إلى الدليل: الحديث بعض الأحاديث ما هي مخرجة تخرجها، ترجع إلى الأمهات، تنظر الفوائد ، يفتح الله لك من أبواب رحمتك ما لم يخطر لك على بال، وتجد أنك فعلا في جنة العلم التي هي جنة الدنيا قبل الآخرة ، ثم بعد ذلك ترتب المسائل وتجعل لك فهرسا ثم تجعل لك متنا خاصاً ترجع إليه، يقال لكل عالم أصل يرجع إليه، أنا قرأت هذا الكتاب على شيخي في باب كذا ، وإذا به منقّح مرتب، ثم بعد ذلك يصبح ديدنك ليلا نهارا، قائما قاعدا، كي تفهم هذه العبارات، كانوا يجلسون من بعد صلاة الفجر، وأدركت بعض حلق أهل العلم القديمة، من بعد صلاة الفجر على متن فقهي إلى صلاة الظهر وهم لم يجاوزوا ثلاثة أسطر، الثلاثة الأسطر هذه يقرأونها،(5/436)
وتصحح العبارة، ثم يعاد ثم يعاد شرحها، ثم يعاد ضرب الأمثلة لها ، ثم يعاد بيانها بطريقة عامية ، ثم يعاد بيانها بطريقة تأصيلية، ثم يسأل الطلاب عنها، ثم تفتح إشكالات الطلاب، فيؤذن الظهر وقد يكون في بعض الأحيان ما انتهوا، وجلست على بعض مشايخنا رحمة الله عليهم في الموافقات للشاطبي في نصف سطر ثلاثة مجالس، كل مجلس ساعتان، والله، ما كرر كلاما، العلم ما هو هذه السطحية وهذا الارتجال، حرام على الإنسان أن يأتي ويحضر في مجالس العلم وهو ما يسمى بأهل العلم لا يعرف الحديث إلا في مجلس العلم ، ولا يعرف فتحة الكتاب إلا في مجلس العلم، ثم إذا رجع رمى الكتاب واشتغل بزوجته وأولاده ولا يدري عن شيء، ثم يقول إنه طالب علم، ثم يأتي ويصيح: يا شيخ، أنا طالب علم، وعندي هم وغم، نعم هم وغم قد يسلط الله بإضاعة الأمانة ، أنا طالب علم لا أجد روحانية العلم ، متى كنت طالب علم ، قبل أن تكون أصابني والهم والغم، هذا الذي نريد، نريد منهجها صحيحا .
باب السَّلَم
قال المصنف – رحمه الله- : [ باب السَّلَم ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فقد ترجم المصنف –رحمه الله- بباب السلم ، هذا النوع من البيوع يعتبر عند العلماء من البيوع الخاصة ، وهذه البيوع الخاصة منها ما أحله الله ، ومنها ما حرمه الله –- عز وجل -- ، والبيع الخاص يشترط فيه ما يشترط في البيوع عموما كما تقدم بيان الشروط في أول كتاب البيع ، ويضاف إلى هذا شروط خاصة تختص بكل بيع أحله الله –- عز وجل -- من البيوع الخاصة ، وهناك بيوع خاصة حرمها الله –- عز وجل -- كبيع الملامسة والمنابذة وقد تقدمت معنا ، فالمصنف –رحمه الله- ذكر بيع الخيار ، ثم أتبعه ببيع السلم، وكل من بيع الخيار وبيع السلم بيع خاص .(5/437)
السلم والسلف لغتان، ووردت بهاتين اللغتين السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- كما في صحيح مسلم قال : (( من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم )) وقال : (( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم )) إلا أن عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- كان يكره أن يقال السلم ، وكان يقول الإسلام لله ، وهذا من باب التورع منه –رضي الله عنه وأرضاه- كما ذكر العلماء والأئمة أنه صان هذا المصطلح وهو خاص بالطاعة بالله –- عز وجل -- والانقياد له سبحانه والخلوص من الشرك جعله بمكان يكون فيه أرفع من أن يستخدم في العقود المالية ، وإلا فالجواز يجوز، وقد وردت به السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، هذا النوع من البيوع كان في الجاهلية كان الرجل يعطي الشخص ألف دينار على سلعة في زمان معين بعد سنة أو سنتين أو ثلاث سنوات ، وكان أكثر ما يجري هذا في النخيل والثمار فكان الرجل يقول للرجل : أسلفتك هذه المائة الدينار في مائة صاع من البر أو التمر أو الشعير في أجل وهو كذا وكذا فيقول قبلت ، فجاءت الشريعة الإسلامية بجواز هذا النوع من البيوع مع أنه كان معروفا في الجاهلية ، إلا أنها اشترطت شروطا للحكم بجوازه ، ولذلك في الأصل بيع السلم من بيع المعدوم ؛ لأنه غير موجود أثناء التعاقد ، وغالبا ما يأتي الرجل لصاحب البستان أو صاحب الأرض الزراعية يكون صاحب الأرض الزراعية يريد أن يزرعها بالشعير وليس عنده مال يشتري به البذور ، وليس عنده مال يستأجر من أجل حرث الأرض أو يأخذ العمال ليقوموا عليها فيحتاج إلى المال ، فيأتيه من يريد الشعير أو يريد ما تنتجه أرضه من سائر المزروعات من الحبوب ونحوها فيقول له خذ هذا المبلغ في مقابل مائة صاع أو ثلاثة مائة صاع من كذا وكذا ، الثلاثة المائة صاع من الشعير غير موجودة أثناء العقد ، ولذلك جمهور العلماء –رحمهم الله- على أن هذا البيع بيع السلم في الأصل مستثنى(5/438)
من نهي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع المعدوم ، وهو الذي ثبتت به السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في حديث حكيم بن حزام –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال له : (( لا تبع ما ليس عندك )) وهو أثناء التعاقد ليس موجودا عنده مائة صاع من البر أو الشعير أو غير ذلك ، فأجازت الشريعة هذا النوع من العقود رفقا بالناس ، ورحمة بالعباد ، ووجه الرفق في ذلك : أن صاحب المزرعة يستفيد بإحياء أرضه وحصول النتاج له والنفع فيه ظاهر ، طيب صاحب المال يستفيد الذي هو المشتري كيف تكون فائدته ؟ تكون فائدته أن العادة جرت أن تعجيل الثمن وتأخير المثمن سيجعل الحظ للمشتري ؛ لأن مائة صاع من تمر السكري مثلا لو قلت لشخص : خذ هذه ألف ريال أسلفها لك بمائة صاع من تمر السكري في أول رمضان تحضر لي مائة صاع من تمر السكري ، قال قبلت فمائة صاع في أول رمضان قيمتها ألفان ؛ وحينئذ لما يعجل المبلغ ستصبح القيمة أقل ، فينتفع المشتري بتخفيف الثمن عليه وينتفع البائع بكونه حصل له الرفق من أخذ هذا المال وزراعة أرضه والقيام على حرثه وتبارك الله أحكم الحاكمين يقص الحق وهو خير الفاصلين ، فوسع الله على البائع وعلى المشتري ، وعقد البيع إذا إما أن يكون ناجزا وإما أن يكون يعجل أحدهما ويؤخر الآخر ، بمعنى أن كل واحد من البائع والمشتري إما أن ينجزا ما عندهما فيقول بعتك سيارتي هذه بعشرة آلاف تدفعها الآن نقدا فيعطيه السيارة ويعطيه الآخر عشرة آلاف ريال ، هذه الصورة الأولى .(5/439)
الصورة الثانية أن يؤخر أحد الاثنين : إما أن يؤخر البائع فيقول له المشتري : أعطيك ألف ريال في مقابل مائة صاع من البرحي أو الشعير أو السكري أو غير ذلك من الثمار في أول رمضان ، والعكس إما أن يقدم السلعة ويؤخر الثمن فيقول له : بعتك سيارتي هذه بعشرة آلاف ريال بالتقسيط على أربع سنوات ؛ فحينئذ إما أن ينجزا وإما أن يؤخر أحدهما ، أما لو أخّر الاثنان على أن البائع يؤخر المثمن والمشتري يؤخر الثمن فهذا لا يجوز بالإجماع ؛ لأنه بيع الدين بالدين والشريعة لا تجيز هذا النوع من البيوع ، ولذلك ورد في الحديث : (( نهى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الكالئ بالكالئ )) وهو الدين بالدين ، والإجماع منعقد على تحريم هذا النوع فبقيت ثلاث صور ، إذا نجز كل واحد من الطرفين فقال بعتك سيارتي بعشرة آلاف نقدا فكل منهما سيحرص على أن يكون الغبن في الطرف الثاني ، فالسيارة إذا كانت قيمتها عشرة آلاف سيقول البائع بعتك السيارة بأحد عشر ، وإذا كانت القيمة عشرة آلاف سيقول المشتري أشتريها بتسعة آلاف وخمسمائة ، كل واحد يريد أن يكون له حظ في هذا البيع ، هذا إذا كان ناجزا من الطرفين ، أما إذا كان نسيئة من أحدهما مثلا قال له : هذه عشرة آلاف في مقابل تمر أو شعير سلفا فحينئذ يكون الحظ للمشتري أن القيمة أقل ، والعكس بالعكس ، فإذا قال له بعتك سيارتي بالتقسيط فإنها بالنقد غالبا تكون أقل قيمة ، هذا حاصل الصور ، فأجازت الشريعة الإسلامية تعجيل الثمن وتأخير المثمن في بيع السلم رفقا بالعباد ، وهذا النوع من البيوع – كما قلنا- مستثنى من الأصل لأنه بيع المعدوم ، ودل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على مشروعيته ، أما الكتاب فإن الله –تبارك وتعالى- يقول في آية الدين : { يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } الآية ، هذه الآية الكريمة كان حبر الأمة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس –رضي الله عنهما وأرضاهما-(5/440)
يقول : أشهد أن الله أحل السلف المضمون بهذه الآية ويقرؤها ، أشهد أن الله أحل السلف المضمون بهذه الآية ويقرأ آية الدين ، فهي أصل في جواز بيع السلم .
ثانيا : السنة في قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم )) والحديث في الصحيح ، وصدر به المصنف –رحمه الله- باب السلم ، ووجه الدلالة ظاهر حيث نص النبي –- صلى الله عليه وسلم -- على جواز بيع السلم ، إلا أنه اشترط في جوازه شروطا معينا .
وأما الإجماع فقد أجمع العلماء –رحمهم الله- على مشروعية بيع السلم ، وممن نقل الإجماع على ذلك الإمام ابن المنذر وغيره –رحمة الله على الجميع - .
يقول المصنف –رحمه الله- : [ باب السلم ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام التي تتعلق ببيع السلم ، بيع السلم إما أن يكون في المكيلات ، وإما أن يكون في الموزونات ، وإما أن يكون في المعدودات ، وإما أن يكون في المذروعات .
فأما بيع السلم في المكيلات فمثل ما ذكرنا يقول له أعطيك مائة ريال في مقابل عشرة آصع من الشعير في شعبان ويحدد الأجل ، هذا سلم في مكيل ، مائة صاع ، عشرة آصع ، خمسة آصع ، هذا كيل .
ثانيا : يكون في الموزونات يقول له أعطيك عشرة آلاف ريال مقابل طن من القمح أو من الشعير ، هذا موزون ؛ لأن القمح يكال ويوزن ، ويدخله الكيل ويدخله الوزن .(5/441)
يكون في المعدودات ، ومن أمثلته السلم في الحيوان كأن يعطيه ألفا مقابل ناقتين أو شاتين إلى أجل معلوم ، ومن أمثلته في زماننا السيارة إذا خرجت لموديل قادم ، فالشركة مثلا تعطي مواصفات السيارة للموديل القادم وتقول قيمتها عشرة آلاف ريال ، عشرون ألفا ، مائة ألف ، مائتا ألف ، فأنت تدفع تعجل هذا الثمن لاستلامها فهذا سلم ، وسلف ، ويدخل تحت بيع السلف ، ومذهب جمهور العلماء –رحمهم الله- جماهير العلماء ومنهم الأئمة الأربعة على جواز السلم في المعدودات ، واستدلوا له بحديث أنس بن مالك –- رضي الله عنه -- في الصحيح أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- استسلف بَكْرا ورده خياراً رَباعيا وقال في الحديث في نهايته : (( أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء )) فاستسلف بكرا هذا نص الرواية في الصحيح ورده ، وكذلك أيضا حديث عبدالله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- في السنن قال : (( أمرني رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة )) وهذا كان يطرأ على النبي –- صلى الله عليه وسلم -- الغزو في الجهاد ، ففي القديم لا يتيسر وجود الظهر في كل وقت الذي هو الإبل والخيل ، فإذا احتاج السفر فجأة يؤخذ دينا وسلفا على بيت مال المسلمين حينما تأتي الزكاة يقضى فقال : أمرني أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ، وهذا من السلف وأصل عند من قال بمشروعية وجواز السلف في المعدودات .
أما المذروع فمن أمثلته في الأقمشة ، فلو أن تاجر أقمشة اتفق مع شخص وقال له : أعطيك مائة ألف ريال في مقابل ألف طاقة قماش من القماش الفلاني كل طاقة ذرعها كذا وكذا إلى نهاية السنة إلى السنة القادمة فهذا سلم في المذروع ، هذا بالنسبة لمكان السلم ومجاله ، أما بالنسبة لأحكامه فالمصنف –رحمه الله- صدر بحديث عبدالله بن عباس –رضي الله عنهما- في الصحيح وأتبع ذلك ببيان الأحكام والمسائل المبنية عليه .(5/442)
قال رحمه الله : [ عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال : قدم رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال : (( من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم )) ] : هذا الحديث صدر به المصنف –رحمه الله- باب السلم ، وسبق أن نبهنا غير مرة أن العلماء –رحمهم الله- لا يذكرون الأحاديث في المتون الفقهية ولا يذكرون الآيات ليس إعراضا عنها ، فحاشاهم وهم أرفع من ذلك ، وإنما هذا لأن المتون الفقهية تخصصت في سرد المسائل والأحكام ، فمعونة لطالب العلم يذكر له ما يستنبط من الأدلة من الكتاب والسنة سردا دون ذكر الأدلة ؛ لأن منهج العلماء أنهم جعلوا كتبا متخصصة في الأدلة نفسها تشرحها إن كانت من الكتاب فكالتفاسير حتى تخصصت بعض التفاسير في تفاسير آيات الأحكام ، وإن كانت أحاديث من السنة وشروح الأحاديث ، وأما حتى بعض كتب الحديث في أحاديث الأحكام كالبلوغ والعمدة ، وأما بالنسبة للمطولات كالمغني وفتح القدير وبدائع الصنائع ونحوها من كتب المطولات فهي التي يشتغل فيها بذكر الخلاف والأدلة والردود والمناقشات ، أما المتون فهي تصوغ المسائل والأحكام الفقهية بأخصر عبارة وأوضح دلالة حتى يستطيع طالب العلم أن يجمع شتات ما تضمنته الآيات والأحاديث ويستطيع أن يركز في فتواه وفي قضائه ، وليس المقصود من ذلك إهمال الأدلة ، وفي هذا رد على من يقول إن الكتب الفقهية ما تعتني بالأدلة أو المتون الفقهية وقد بينا أن كتب العلماء والأئمة أرفع من أن يقدح فيها من يجهل حقيقتها ، فالمصنف –رحمه الله- يذكر في بعض الأحيان بعض الأحاديث ، ومن هنا ذكر حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- .(5/443)
هذا الحديث يقول العلماء : هو أصل في باب السلم ، والأحاديث التي تسمى أحاديث الأصول هي الأحاديث التي دارت عليها أكثر المسائل والأحكام المتعلقة بالباب ، وهذا من جوامع كلمه بأبي وأمي –صلوات الله وسلامه عليه- ، فلربما رأيت الحديث الواحد قل أن تخرج عنه مسألة في الباب ، وهذا مما أعطي صلوات الله وسلامه عليه من جوامع الكلم ، فيتكلم بالكلام اليسير الذي ينتظم تحته المعاني والأحكام الكثيرة ، وحديث ابن عباس كذلك بين فيه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- مشروعية السلم وجوازه ؛ لأنه قال : (( من أسلف )) فقوله : (( من أسلف )) دل على جواز السلم ولكن بشروط .
(( من أسلف )) السلف يقوم على التأخير ، ولذلك حقيقة بيع السلم في الاصطلاح اصطلاح العلماء مستنبطة من النص (أنها بيع الموصوف في الذمة بثمن مقبوض في مجلس العقد)، بيع موصوف في الذمة: فخرج بيع الأعيان فلا يقع عليها بيع السلم ، فلا يقول له أسلفتك هذه ألف ريال في سيارتك هذه أستلمها في رجب ولا شعبان ، هذا لا يقع الأعيان ، وقد بينا معنى العين ومعنى الذمة ، فالسلم يكون على الموصوف في الذمة ، بيع موصوف في الذمة بثمن معجل مقبوض في مجلس العقد ، فقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من أسلف )) دل على أن الشرط الأول: أنه يكون في المؤجل لا في المعجل ، أن يكون السلم آجلا لا عاجلا لا محالاً .
ثانيا : (( من أسلف فليسلف )) فليسلف يعني فليعط ، وجاءت الرواية الأخرى بقوله بلفظ : (( فليسلم )) وأسلم إلى فلان الشيء إذا أعطاه إياه وسلمه له ، فقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من أسلم فليسلم )) أخذ منه الأئمة كما نص عليه بعض عليه بعض أئمة السلف دليلا على الشرط الثاني وهو أن يقبض الثمن في مجلس العقد لأنه قال : (( فليسلم )) يعني فليعط .(5/444)
(( من أسلم فليسلم في كيل معلوم )) هذا الشرط الثالث أن يكون الكيل والوزن والعدد على القول بجواز السلم في المعدودات والمذروعات معلوما ، فلا يجوز إذا كان مجهولا .
وفي قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم )) فيه هذه الشروط أولها أن يكون مؤجلا ، وثانيهما : أن يقبض الثمن في مجلس العقد .
الشرط الثالث : أن يكون الكيل والوزن أو العدد والذرع معلوما ، فإذا لم يعطه الثمن في مجلس العقد فلا يجوز ، لماذا ؟ لأنه صار من بيع الدين بالدين ، وهو منهي عنه شرعا كما بينا ، والإجماع على أنه لا يجوز بيع الدين بالدين .(5/445)
وقوله -عليه الصلاة والسلام- : (( إلى أجل معلوم )) هذا الشرط الرابع أن يكون مؤجلا -أول شيء أن يكون له أجل- ، وأن يكون الأجل معلوما ، بعضهم جعل الأجل في قوله في أول : (( من أسلف)) لكن قوله أن يكون له أن يكون له أجل كما ذكره بعض العلماء الأجل هنا قصدوا منه الأجل الذي له بال وله شأن ، ولذلك بعضهم يقول أن يكون أجل له تأثير أو يؤثر مثله في القيمة ، ولا يمكن مثلا أن يقول له أسلفتك بعد ساعة ، بعد نصف ساعة إلا إذا كان له أثر في القيمة . أن يكون هذا الأجل معلوما فلا يجوز أن يكون بأجل مجهول ، لأن هذا يفضي إلى الغرر ، وقد نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع الغرر ، وأدخل بعض العلماء شرطا مفهوما في قوله : (( إلى أجل معلوم )) لانتفاء الغرر فاشترطوا شرطا خامسا فقالوا : أن يغلب على الظن وجود السلعة المتفق عليها في مثل هذا الأجل؛ حتى لا يكون من بيع الغرر ، فإذا قال له إلى رمضان أن يغلب على الظن وجود الحب إلى رمضان ، وإذا قال له إلى شعبان يغلب على الظن وجود التمر في شعبان وقس على هذا ، وقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( في كيل معلوم ووزن معلوم )) أخذ منه العلماء أن يكون السلم في الشيء الذي ينضبط ، فخرجت الأشياء الذي لا تنضبط وهو الشرط السادس ، مثلا كانوا في القديم الأواني والأباريق والكؤوس ونحوها تصنع ولكنها لا تضبط بمقياس معين ، خلافها في زماننا الآن ونحن ننبه على هذا لأن البعض يقرأ الكتب القديمة ويطبق على الموجود حديثا بطريقة غير صحيحة ، فكانوا يمنعون من السلم في الأواني ؛ لأنها كانت لا تنضبط في زمانهم ، أما في زماننا فأمكن ضبطه عند أهل الخبرة ، فإن كانت من الأواني التي تنضبط عند أهل الخبرة مثل التي تأتي مصنعة من الخارج بمقاسات معينة أو تصنع مثلا في الداخل أواني الزجاج بمقاسات معينة ومنضبطة فلابأس ، لكن لو كانت من أواني التي تكون مثلا عند الحدادين أو عند الذين يصنعون الأواني بالصنعة(5/446)
اليدوية كما هو موجود إلى زماننا الآن فحينئذ يسري عليها ما يسري على القديم ، أي لا يصح السلم في مثل هذا ، فلا يصح أن يقول له : مثلا الصاع صاع الحديد يصنع عند أهل الخبرة ، لكن ما يستطيع أن يضبط الصاع وليس له وزنة معينة ينضبط بها ، فلو قال له أريدك أن أسلمك هذه ألف ريال بعشرة آصع من الصِّفْر تسلمها مثلا في أول جمادى ، نقول: لا يجوز ، لأنه لا ينضبط مثلها ، ولذلك الصاع إذا أخذته من الحداد أو أخذته من الصانع ما تذهب تكيل به مباشرة ، يحتاج إلى شيء كنا في أيام مشايخنا –رحمة الله عليهم- يقولون حرر الصاع ، حرر الصاع بمعنى أن تذهب إلى صاع قديم موروث منضبط وتأتي بالصاع الجديد ربما يكون أوسع فوهة فيكون كمال الكيل به أن تمسح عليه ، وبعض الأحيان يكون القديم تمسح عليه ولكن هذا الجديد لابد أن تُربي حتى يتناثر ، فإذا معنى ذلك أنها ما تنضبط ، وأنه ليس لها ميزان منضبط ، فمثل هذه الأنواع قالوا ومن أمثلتها الجواهر ، فالجواهر في القديم كانت تنضبط ، لكن في زماننا قد لا تنضبط وعليه فالمدار على ضبط المبيع ، فإذا كان له صفة ينضبط بها ويؤمن معه الغرر ويحفظ فيها حق المشتري فبها ونعمت وإلا فلا ، فقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( إلى أجل معلوم )) فيه دليل على اشتراط الأجل كما قدمنا ، وجاء في رواية المصنف فيه ثمر ، وقال العلماء : إن قوله : (( في كيل معلوم ووزن معلوم )) راعى فيه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ما كان غالبا في زمانه وكان يعاملون به وهو الكيل والوزن ، وإذا جاء النص مراعيا للغالب لم يعتبر مفهومه ، ومن هنا جاءت السنة بالسلف في الحيوان ، وعليه فقالوا يجوز أن يكون في غير المكيل والموزون كما ذكرنا .(5/447)
قال رحمه الله : [ ويصح السلم في كل ما ينضبط بالصفة إذا ضبطه بها ] : بكل ما ينضبط بالصفة، خرجت الأواني التي لا تنضبط بالصفة والجواهر كما ذكرنا ، لكن إذا انضبطت كما في زماننا في بعض الأحوال جاز البيع ، التجار الآن مثلا تجار الجواهر قد يعرفون نوعيات معينة من الجواهر لها مقاسات معينة وصفات معينة ، فإذا كان حصل سلم على هذا النوع جاز ، مع أن العلماء نص بعضهم على عدم جواز السلم في الجواهر ؛ لأنها في القديم لا تنضبط لماذا ؟ لأن العلة عدم الانضباط ، فإذا ضبطت كما في زماننا جاز لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما ، فيجوز السلم في كل ما ينضبط ، كله صفة ينضبط هذا أول شيء يكون مما ينضبط .
ثانيا : أن يضبطه بهذه الصفة ، قد يكون مما ينضبط ولا يضبطانه ، ومن هنا نص المصنف من دقته على اشتراط الانضباط وأن يقوم العقد على بيان مواصفات معينة يتحقق بها هذا الانضباط .
قال رحمه الله : [ إذا ضبطه بها وذكر قدره بها يقدر به من كيل أو وزن أو ذرع أو عد ] : وذكر قدره لأن المبيع يشترط في صحته كما ذكرنا أن يكون معلوم القدر ، فإذا قال له هذه عشرة آلاف ريال مقابل رز أو مثلا شعير أو تمر ؛ فحينئذ لا يصح حتى يبين ضبطه بالكيل كيلا وبالوزن وزنا ، وهكذا بالنسبة للعدد والذرع كما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ وجعل له أجلا معلوما ] : وجعل له أجلا معلوما لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إلى أجل معلوم )) لماّ قال إلى أجل فُهِم أن السلم لا يكون في الحال .(5/448)
وثانيا : في قوله : ( معلوما ) خرج الأجل المجهول فلو قال له خذ هذه عشرة آلاف ريال في مقابل مثلا مائة صاع من السكري متى ما جئت بها جئت بها لا يجوز ، بل عليه أن يحدد الأجل وأن يكون الأجل معلوما ، وأن يغلب على الظن وجود المبيع في هذا الأجل ، فخرجت الآجال المجهولة ، والآجال التي فيها غرر والآجال البعيدة بعداً متفاحشاً، رخص بعض العلماء في التأخر في القبض يوما ويومين إلى ثلاثة تعجيل رأس المال كما هو منصوص عليه في مذهب المالكية –رحمهم الله- ، ولكن ظاهر السنة قوي في اشتراط التقابض قوله : (( فليسلف )) فليعطه ، وخفف المالكية –رحمهم الله- لأنه عندهم أصل ويعتبر كالقاعدة : ما قارب الشيء أخذ حكمه ، فخففوا في اليوم واليومين إلى الثلاثة على تفصيل عندهم .(5/449)
قال رحمه الله : [ وأعطاه الثمن قبل تفرقهما ] : وأعطاه الثمن قبل تفرقهما هذا اشتراط القبض ، وقد بينا أن السنة جاءت به في قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( فليسلم )) يعني فليعطه ، فاشترط عليه الصلاة والسلام تعجيل الثمن ، ولأنه إذا لم يعجل الثمن في مجلس العقد صار من بيع الدين بالدين ، وهذا لا يجوز ، والإجماع منعقد عليه ، وكما ذكرنا خالف في هذا الشرط بعض العلماء ، هو لا يخالف في الشرط في الحقيقة المالكية لا يخالفون ، لكنهم يتسامحون في اليوم واليومين والثلاثة ، وهذا راجع إلى ما ينقدح في نفس المجتهد من التخفيف ، حتى بعض العلماء –رحمهم الله- ذكر لهذا أصلا كنت أفهمه من حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- في الصحيح أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وأبابكر استأجرا رجلا من بني الديل هاديا خريتا وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال وهو عبدالله بن أريقط ، والإجارة نوع من البيع ، فالسلم في المنافع ، فهنا أسلما في منفعة وهي منفعة التوصيل للمدينة ، واستأجروا عبدالله بن أريقط من مكة وأعطاه وطلبوا منه بعد ثلاث ليال أن يأتي إلى النبي -- صلى الله عليه وسلم -- وأبي بكر وهذا فيه يعني عدم اشتراط التعجيل في القبض وألحقوه بالإجارة ، وأن فيه تسامحا من الشريعة لأنه سيكون من بيع الدين بالدين ، لأن الركوب بعد ثلاث ليال والعقد ليس منجّزا وإنما كان معلقا .(5/450)
قال رحمه الله : [ ويجوز السلم في شيء يقبضه أجزاء متفرقة في أوقات معلومة ] : يجوز السلم في شيء يقبضه متفرقا إذا كان معلوما أو مجزّأ أجزاء معلومة ، صورة المسألة تأتي إلى صاحب البقالة وتقول له : أسلمك مثلا ألف ريال هذه أو الثلاثمائة ريال ويأتيك ابني كل يوم ويأخذ بعشرة ريالات من حليب مثلا وكذا وكذا يحدد الأجزاء ، فيشتري بعشرة ريالات أشياء مثلا خمسة ريالات حليب ، وخمسة ريالات خبز ، فأسلمه على أن يكون مقسطا على طيلة أيام الشهر ، فالبقالة صاحب البقالة تارة يبيع لك دينا وتعطيه آخر الشهر ، وتارة يقول أنا ما أستطيع أنا أريد أن أضمن حقي ، أو مثلا عائلة محتاجة أو أيتام أو أرامل تقول له أنفق عليهم يقول لك : أنا ما أستطيع أن أنفق عليهم ما أضمن حقي من يضمن حقي ؟ تقول : إذا أنا أعجل لك المبلغ وأعطيك ثلاثمائة ريال ويأتيك هذا المحتاج كل يوم يأخذ بعشرة ريالات ، إذا حصل سلم مجزأ ومقسطا على أيام معلومة والشيء المشترى حدد بأن يقول مثلا بعشرة ريالات كذا وكذا الذي هو الكيل المعلوم والوزن المعلوم يحدد الشيء الذي يشترى وهذا جائز كما يكون دفعة واحدة يكون أجزاء ولابأس بذلك ولا حرج .
قال رحمه الله : [ وإن أسلم ثمنا واحدا في شيئين لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس ] : قال له : أعطيك عشرة آلاف ريال في مقابل مائة كيس من السكر ومائة كيس من الأرز ، لكنه لم يبين كم قيمة السكر من العشرة الآلاف وكم قيمة الأرز، فأسلم في شيئين ولم يسلم في شيء واحد ؛ فحينئذ لا يجوز حتى يقول : أسلمتك عشرة آلاف ريال خمسة آلاف ريال منها في مقابل خمسين كيسا من الأرز وخمسة آلاف ريال في مقابل خمسين كيسا من السكر ، يبين ما لكل منهما يجوز ، لكن إذا لم يبين فحينئذ لا يجوز ، الجهالة هذه مؤثرة .(5/451)
قال رحمه الله : [ ومن أسلف في شيء لم يصرفه إلى غيره ] : من أسلف في شيء لم يصرفه إلى غيره فلو قال له أسلفتك أو أسلمتك هذه ألف ريال مقابل عشرة تنكات من السكري كل تنكة بوزن كذا وكذا ، قال: قبلت ، قال: أستلمها في رمضان ، ثم جاء بعد شهر ، ثم جاء بعد يوم المهم جاء بعد الافتراق من المجلس فقال له هذه الصفقة لا أريدها وأريد أن تجعلها في مقابل مائة صاع من الحب من الشعير أو القمح ، لا يجوز لأنه من بيع الدين بالدين ، كأنه نقل ما كان في الذمة إلى جديد آخر ، وكل منهما مؤجل وهذا لا يجوز .
قال رحمه الله : [ ولا يصح بيع المُسْلَم فيه قبل قبضه ] : ولا يصح بيع المسلم فيه قبل قبضه مثلا لو أسلمه في طعام وقال له : هذه ألف ريال في مقابل مائة صاع من التمر السكري أستلمها منك في أول رمضان ، ثم جاءك وقال يا فلان أنا اشتريت من المحل الفلاني مائة صاع بألف ريال إلى أول رمضان ما رأيك تأخذها مني بألف ومائة ، قال قبلت ما يجوز أن يبيعها للغير ، ولا يحيل عليها –كما سيأتي- وعلى هذا تتم الصفقة لا يجوز له أن يبيعها لأنه طبعا أول شيء السنة واضحة في هذا كما في الحديث الصحيح عنه –عليه الصلاة والسلام- (( أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه)) ؛ وحينئذ يقبض الطعام أولا ويقبض التمر ويقبض ما اتفق عليه ثم بعد ذلك يبيعه ، وأما قبل قبضه فإنه لا يجوز له البيع ، وهكذا لو حل الأجل مثلا هو اتفق معك على أن يعطيك مائة صاع من تمر السكري في أول رمضان، فحل الأجل وما بقي إلا أن تستلم والسلعة موجودة ولم تقبضها فذهبت تبحث عن زبون لها ، لا يجوز حتى تقبضها ، فإذا قبضتها جاز لك بيعها ، وهذا له أصل من السنة الذي ذكرناها .(5/452)
قال رحمه الله : [ ولا الحوالة به ] : ولا أن يحيل عليه ، فمثلا لو اتفقت مع شخص بمائة صاع من السكري قيمتها مثلا ألف ريال ، وفي شخص له عليك ألف ريال فجاءك وقال أعطني ألف ريال ، قلت له اسمع أنا عندي مائة صاع اشتريتها من فلان والموعد رمضان أو شعبان اذهب وخذ هذه المائة الصاع في مقابل الذي لك علي ، فأحاله لم تصح الحوالة ، لأنها لا تكون إلا في دين مستقر ؛ وحينئذ لا يجوز أن يحيل ولا يجوز له أن يبيع وأن يتصرف إلا بعد القبض وإتمام الصفقة الأولى وصفقة السلم .
قال رحمه الله : [ وتجوز الإقالة فيه أو في بعضه لأنها فسخ ] : وتجوز الإقالة لو أن شخصا اشترى مثلا من صاحب تمر مائة صاع إلى رمضان وأعطاه ألف ريال ، ثم بعد شهر بعد شهرين جاء وقال : يا فلان، أنا عندي ظروف وأريد أن تقيلني من البيع وتلغيه ، أقلني أقالك الله أريد منك أن تفسخ البيع لأني محتاج لهذه الألف ريال ، فحينئذ إذا رضي لأن البيع عقد لازم ، إذا اتفقت مع أحد على صفقة بيع وتمت ولزمت بالافتراق ما من حقك أن تفسخ إلا برضاه ، وليس من حقه أن يفسخ إلا برضاك ؛ لأن العقد اللازم لا يملك أحد الطرفين فسخه إلا برضا الطرف الآخر ، فلابد أن يوافق ، فإذا وافق فقد أقالك ، هذا يسمى إقالة وفيها الأثر (( من أقال نادما أقال الله عثرته يوم القيامة )) وهي مندوب إليها عند العلماء –رحمهم الله- وفيها فضيلة عظيمة ، لأن الإنسان يأتي مكروبا وقد يستعجل في البيع ويقبل وقد تطرأ عليه بعض الظروف ، فإذا جاء يشتكي إليك ويقول لك والله طرأت عندي ظروف وأريد منك أنا نادم على هذا البيع فأريد منك أن تفسخه، فقبل وقال له أقلتك صحت الإقالة لأنها فسخ للبيع ، لكن هل تصح الإقالة في البعض ، وجهان للعلماء ، والأقوى أنها لا تصح إلا في الكل ، أو يترك الكل أو يأخذ الكل ، وهذا دائما هو الشأن فيما خرج عن الأصول أنه يبقى فيه على الأصل حتى يكون ذلك أبلغ في العمل بالوارد .(5/453)
قال رحمه الله : [ وتجوز الإقالة فيه أو في بعضه لأنها فسخ ] : لأنها فسخ هذا التعليل لأنه يرى أنها فسخ البيع ، فكما يجوز لك فسخ الكل يجوز لك فسخ البعض ، هذا يعني تأويلهم أنه إذا جاز لك أن تفسخ الكل جاز أن تفسخ البعض ، والأورع والأقوى نحن قلنا أن الأقوى لا يستلزم الترجيح وقد بينا هذا في منهجنا والأفضل أن يقيل الكل أو يترك الكل ، إما أن يترك الكل أو يأخذ الكل ، ولا تقع في البعض .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : ما الفرق بين المعدوم والمجهول . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
الشيء المعدوم هو الذي لم يوجد وليس موجودا أثناء التعاقد ، وأما المجهول فيكون موجودا ولكن لا تعلم ما هي صفاته ، مثال : لو قال شخص لآخر : أبيعك ما تحمله ناقتي البطن التالي ، يعني إذا حملت ناقتي فحملها لك بخمسمائة ريال ، فهذا بيع معدوم ؛ لأنه أثناء العقد غير موجود لا الجنين ولا الحمل؛ وحينئذ يبيعه شيئا لم يوجد بعد ، ومن أمثلته (( نهي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيع السنين والمعاومة)) كما في الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وهو أن يبيعه ثمرة بستانه أعواما ، فمثلا لو قال له أبيعك ثمرة بستاني السنة القادمة أو مثل ما يسمى في أعراف الناس اليوم الصيف أبيعك صيف البستان ثلاث سنوات ، فإذا كان الصيف موجودا في السنة هذه فإنه ليس موجودا بالنسبة للسنة الثانية والسنة الثالثة ، وهو بيع السنين والمعاومة ، وهو كما قال الراوي : (أن يبيعه ثمرة بستانه سنين أو أعواما عديدة )، فهذا لا يجوز ؛ لأنه بيع معدوم ما هو موجود أثناء العقد .(5/454)
بيع المجهول يقول لك عندي سيارة - السيارة موجودة- أبيعها لك بخمسة آلاف تشتري مني سيارة بخمسة آلاف ، قال قبلت ، نقول لا يصح حتى يقول لك من موديل كذا وكذا ، صفتها كذا وكذا يعطيك الصفات ، فالمعدوم يستلزم الجهالة ، والجهالة لا تستلزم العدم ، وعلى هذا فإن المعدوم غير موجود ، والمجهول يكون موجودا ولكن يجهل صفاته، قال عندي أرض في المدينة أبيعك أرضا في المدينة بخمسة آلاف ، الأرض موجودة لكن ما هي صفات الأرض كم طولها ؟ كم عرضها ، أين تقع؟ هل تقع على شارع أو على شارعين ، لها مواصفات أو مميزات ، أبيعك أرضاً هل هي زراعية ، أو أرض عمار إذاً هذا مجهول ، والجهالة تفضي إلى الغرر الموجب لفساد العقد . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : ذكرتم يا شيخ أن الكلب لا يجوز بيعه وثمنه سحت ، فهل يدخل في ذلك كلب الصيد . وجزاكم الله خيراً ؟
الجواب :(5/455)
جماهير العلماء –رحمهم الله- على أن التحريم لبيع الكلب يشمل كلب الصيد وغيره ، والدليل على ذلك حديث أبي مسعود عقبة بن عامر البدري –- رضي الله عنه -- في الصحيح أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ثمن الكلب سحت )) وقال : (( ثمن الكلب خبيث )) وفي لفظ عنه : (( نهى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- عن ثمن الكلب )) وفي السنن عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الكلب وقال : (( إن جاءك يريد ثمنه فاملأ كفه ترابا )) فهذا كله يدل على تحريم بيع الكلب ، وظاهر هذه الأحاديث لم يفرق النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فيه بين كلب الصيد وكلب غير الصيد ، كلب فيه منفعة أو لا منفعة فيه ، بل جاء النص عاما ، ولذلك لما سئل جابر بن عبدالله – رضي الله عنهما- كما في صحيح مسلم عن ثمن الكلب والسنور فقال : زجر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عنه ، ما سأل السائل هل هو كلب الصيد أو لا ، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال ، أي زجر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن بيعه، سواء كان كلب صيد أو غيره ، ذهب بعض السلف كأبي الشعثاء جابر بن زيد وأيضا يحكى عن زيد بن علي وحماد بن أبي سليمان إلى القول بجواز بيع الكلب إذا كان كلب صيد ، ومذهب الحنفية –رحمهم الله- على جواز بيع الكلب عموما ، والذين استثنوا كلب الصيد استدلوا بحديث السنن عند النسائي وغيره أنه قال : (( نهى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد )) قالوا : هذا استثناء، وهذا الحديث فيه أبو الحسين بن أبي جعفر الكرابيسي وضعفه غير واحد من أئمة العلم كالإمام أحمد والنسائي وغيرهما ، وعلى القول بتحسينه أنه حسن فيجاب عنه بأن قوله : (( إلا كلب صيد )) المراد به العطف الموجب للتشريك في الحكم ، أي ولو كان كلب صيد ، وهذا من أمثلته ذكروا في قوله تعالى : { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا(5/456)
} أي ولا خطئا بتعاطي أسباب الإهمال والتقصير، وحملوا عليه أيضا قوله سبحانه : { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } فقالوا: ولا ما قد سلف فارقوهم ولا تستديموا النكاح ، فهذا وجه معروف في لسان العرب، وانتصر لهذا الجواب الإمام ابن قدامة –رحمه الله- في المغني وحكى له قول الشاعر :
وكل أخ يفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي والفرقدان ، فقالوا : المراد به العطف الموجب للتشريك في الحكم ، كأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يقول : نهى عن ثمن الكلب حتى ولو كان كلب صيد لأن النفوس تتعلق بكلب الصيد أكثر ؛ وبهذا يتبين تحريم بيع الكلب عموما . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : يوجد في بعض محلات الملابس شرط في البيع بعدم الترجيع ، ولكن يسمح بالتبديل دون إرجاع المبلغ فهل هذا البيع جائز . وجزاكم الله خيراً ؟
الجواب :(5/457)
إذا قال البضاعة لا ترد ولا تستبدل هذا شرط يوافق مقصود الشرع أن العقد ماضٍ ؛ ولذلك قال الله –- عز وجل -- في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } الأصل أن الإنسان إذا اشترى أن لا يرد ولا يستبدل ؛ وحينئذ الشرط من حيث الأساس يعتبر موافقا لمقصود الشرع ، والشروط التي توافق مقصود الشرع مثلا يشترط عليه تعجيل الثمن ونحو ذلك ، يشترط عليه رهناً لضمان حقه ، هذه شروط توافق المقصود من العقد من إتمام الصفقة فهي جائزة ، لكن ليس معنى هذا أنه لو وجد عيباً وأراد أن يرد أنه لا يستحق الرد ، لماذا ؟ لأن هذا الشرط يسقط حقاً شرعياً ومخالف للشرع ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- أنه قال : (( لا تصروا الإبل ولا الغنم فمن ابتاعها –يعني اشتراها ووجدها مصرّاة معيبة- فهو بخير النظرين إن شاء أمسكها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر )) فجعل للمشتري حقا في رد السلعة إذا وجد فيها العيب، وهذا بإجماع العلماء على أن العيب مؤثر في إثبات الخيار للمشتري ، فإذا جاء يشترط عليه أن ما له حق فقد أكل ماله بالباطل ، ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح : (( قضاء الله أحق وشرط الله أوثق )) وقال عليه الصلاة والسلام في القصة نفسها : (( ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) وفي بعض الروايات : (( وإن كان مائة شرط )) فهذا الشرط ليس في كتاب الله ، كيف معنى ليس في كتاب الله ؟ يعني إذا خالف شيئا مشروعا ، والذي شرعه الله أن المشتري له حق الرد ، فإذا جئت بالفاتورة ترد السلعة وقال لك : والله أنا كتبت لك البضاعة لا ترد ولا تستبدل قل له هذا الشرط ليس في كتاب الله ، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل كما قال النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، ومن حقك قضاء أن تسترد القيمة ومن حقك أن تمتنع ، لكن لو كانت السلعة(5/458)
ما فيها عيب وأخذ السلعة ولم تعجبه أو ذهب بها إلى البيت ولم تعجب أهله وليس فيها عيب ؛ حينئذ نقول للبائع لك الحق إن شئت رددت فجزاك الله خيرا وهذه إقالة وقد بينا أنها مندوبة ومستحبة ولك فيها أجر ، وإن شئت أصررت على أن لا ترد ، وإن شئت فهذا مقام العدل والأول مقام الفضل ، وإن شئت أن تستبدل تأذن له بأن يبادل فلابأس ولا حرج الخيار للبائع ، أما المشتري فلا خيار له إذا كانت السلعة ما فيها عيب وعلى حسب الاتفاق بين الطرفين . والله –تعالى- أعلم .
بعض العلماء يجيز مسألة البراءة وهذا مثل ما يجري في حراجات السيارات وبيع المزاد ، البراءة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أن يبرأ من عيب معلوم ويقول لك : أبيعك هذه السيارة وفيها عيب مثلا في زجاجها، فيها عيب في محركها كذا وكذا وأنا بريء من هذا العيب ، لا تأتي غدا وتقول لي السيارة فيها عيب، هذه براءة مجمع على جوازها ، وهذا هو بيع المسلم للمسلم النصيحة والبيان قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركت بيعهما )) .(5/459)
الصورة الثانية من البراءة : أن يقول لك : أبيعك هذه السيارة -ملح في ماء- مهما تجد فيها من عيب أنا غير مسؤول ، خذ السيارة وفتشها وانظر كل ما فيها ، لكن إذا وجدت فيها عيبا غدا أنا غير مسؤول ، هذا يسمى بيع البراءة ، وبرئ مما علم ومما لا يعلم ، وقد يعلم هناك عيوبا لكن ما يخبر بها ويقول السيارة عندك فتشها وأنا لست مسؤولا لكن إذا وجدت فيها عيبا فأنا لا أضمن لك هذا العيب وليس لك حق الرد ، هذه يسمونه شرط البراءة للعلماء فيه قولان أصحهما أنه لا يجوز ؛ لأنه يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل ، فإذا قال له أبيعك السيارة ملح في ماء واشترط عليه هذا الشرط فهو باطل ويستحق الرد لأن هذا ليس من بيوعات المسلمين وهو يفضي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وليس من شرع الله –- عز وجل -- إذن للناس أن يحتالوا على أموال المسلمين وأن يأتي الرجل بالسيارة المعيبة التي يعلم أنها فاسدة ويعلم الله من فوق سبع سماوات أنه لو فعل به هذا ما رضي ، وأنه لو صنع معه هذا ما رضي ، وإذا كان يبيع سيارة قديمة بثلاثة آلاف والثلاثة الآلاف لا تساوي شيئا عند صاحب المعرض الذي شبع وبطر فليعلم أنها تساوي الكثير عند من لا يجد الثلاثة الآلاف ريال إلا بالكدح والتعب سنوات حتى يجدها ، هذا من أكل أموال الناس بالباطل ، وليس فيه حق للبائع أن يسقط حق المشتري في خيار العيب ، فإذا وجد العيب فإنه يستحق الرد ولو اشترط عليه مائة شرط من هذا النوع . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : ما معنى قول الله –- عز وجل -- : { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة } هل كان لداود تسع وتسعون امرأة، وهل أراد أن يأخذ من الجندي زوجته . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/460)
هذا من الاسرائيليات الفاسدة المكذوبة على أنبياء الله المختلقة التي لا تصدق ، قضية داود –عليه السلام- كان له يوم يختلي فيه للعبادة ويدخل إلى محرابه وطبعا لا يستطيع أحد أن يصل إليه فيختلي بربه ويتعبد ، ففوجئ بالخصمين وهما ملكان أرسلهما الله إليه ليعلماه كيفية القضاء والفصل بين الخصوم ، والله يعلم أنبياءه ويبين لهم - سبحانه وتعالى - ، فهو الذي علم داود وعلم سليمان وعلم الأنبياء وعلم العلماء ، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، فالشاهد أنهما دخلا على سليمان فلما دخلا عليه فزع قالا : لا تخف ، فزع لأنه ما يستطيع أحد أن يصل إليه فكيف وصلا مع كونه مسوّرا ، دخلوا على داود ففزع منهم فهذا الفزع ناشئ على أنهم دخلوا عليه وهو في محرابه وخلوته فسأله الأول وقال : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ، عز إذا غلب فألح عليه حتى أحرجه وعزني في الخطاب ، كان المفروض أن ينتظر داود حتى يتكلم الخصم ويقول : هل هذه الدعوة صحيحة أو غير صحيحة ، أو بعضها صحيح وبعضها غير صحيح ، فاستعجل عليه السلام وقال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ثم وصف الوصف العام فقال : وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض قيل إنها من الله –- عز وجل -- أكمل بها الآية ، وقيل إنها من كلام داود ، فصار خطأ الخصم وحمله تبعة الخصم أنه ظلم قبل أن يسمع منه هل هذا حقيقة أو لا ، ولذلك قال الله تعالى : { إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى } فجاء عتاب الآية متعلقا بصفة القضاء وهو أن يكون حكمه عادلا ، والقاضي موقفه حيادي بين الخصمين ، ولذلك ينبغي له أن يسوي بينهما حتى في النظر ، قالوا : يسوي بينهما في لحظه ومجلسه ومكانه ولا يفضل أحدهما على الآخر فلا يدمن النظر لأحدهما أكثر من الآخر ، ولا ينظر إلى أحدهما شذرا وينظر إلى الآخر أبدا ، مسؤول أمام الله –- عز وجل -- عن هذا كله ، فمن شدة(5/461)
القضاء أن الله –- عز وجل -- أدب حتى نبيه فيه –صلوات الله وسلامه عليه- أنه كيف يحكم للخصم قبل أن يسمع من الخصم الثاني ، ولذلك بيّن الله تعالى وقال : { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } وسياق القصة والسباق محتكم إليه كله في تعليم القضاء ، قال بعض السلف ويحكى عن بعض أصحاب النبي –- صلى الله عليه وسلم -- : الحكمة وفصل الخطاب فصل الخطاب البينة على المدعي واليمين على من أنكر قال إنها هي فصل الخطاب ؛ لأن الله يفصل بها خطاب الخصوم ، فالخصم إذا ادعى شيئا وجاء بالبينة فقد صدق ، وإن لم يأت ببيّنة فدعواه مردودة إلا أن يصدقه خصمه ، ولذلك جاء في حديث ابن عباس الذي صححه غير واحد عند الحاكم أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( البينة على المدعي واليمين على من أنكر )) ، ثم هذه البينة تطلب من كل مدعٍ في القضاء ولو كان أصدق الناس ، لو كان يعرف أنه من أصلح خلق الله وجاء يدعي على شخص يقال له احضر البينة ، عدل من الله –- عز وجل -- بين عباده .
والمدّعي مطالب بالبينةْ وحالة العموم فيه بينةْ(5/462)
يعني ما ننظر إلى كونه صالحا أو فاجراً ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - للأشعث –- رضي الله عنه -- : ليس لك إلا يمينه ، قال الأشعث : يا رسول الله الرجل فاجر ويحلف ولا يبالي ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ليس لك إلا يمينه ، ثم قال : لو يعطى الناس بدعواهم لادعى أناس دماء أقوام وأعراضهم ، ولكن اليمين على من أنكر ، فالشاهد من هذا أن الآية لا علاقة لها بهذه الخزعبلات والترهات والأكاذيب التي اختلقها أعداء الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم- عليهم من أنه كان عنده جندي ورأى امرأته فأعجبته ثم أرسله إلى الغزو حتى يموت ، هذا عبث ، وأنبياء الله –صلوات الله وسلامه عليهم- أرفع وأقدس وأطهر من هذا الكذب ؛ ولذلك ينبغي اعتقاد ما قاله أئمة السلف –رحمهم الله- في تفسير الآية الكريمة أن المراد بها تعليم الله -- عز وجل -- لنبيه الفصل بين الخصوم ، وهذا هو الذي عليه المعول . والله تعالى أعلى وأحكم –- سبحانه وتعالى -- .
السؤال الخامس : فضيلة الشيخ : ما المقصود بقول : (( ولا تجعلوا الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا)) وجزاكم الله خيرا؟
الإنسان وهبه الله - عز وجل - نور العقل، والعقل يعلم به الأشياء يميز به بين صالحها وطالحها، فإذا أراد الله أن يسعد عبده جعل علمه علما نافعا، وليس هناك أنفع من العلم الذي يقرب إلى الله - سبحانه وتعالى - ، وهو العلم الشرعي، وهو الذي وردت النصوص في الكتاب والسنة بمدحه، ومدح أهله، ولا يراد بالعلم في كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مفضلا مشرفا مكرما إلا العلم الشرعي ، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له، وأما العلوم الدنيوية : الهندسة والطب هذه يحترمها الإسلام، ولا عار على المسلم أن يكون طبيبا مهندسا لكن ليست هي المقصودة بالعلم الذي يرفع الله أهله الدرجات، إنما هو علم الحلال والحرام والشريعة والأحكام، وهو العلم الذي ورثه العلماء من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه أجمعين .(5/463)
قال - صلى الله عليه وسلم - : (( العلماء ورثة الأنبياء )) .
وأما هذا الخلط أن يدخل الحداد والنجار والسواق وعلماء الحرفة كلهم يدخلون في مدح العلماء فلا والله ، يأبى الله ويأبى رسوله ويأبى العلماء الذين يعرفون النصوص ودلائلها، وينبغي وضع كل شيء في موضعه، والشريعة لا تمنع العلوم الدنيوية، ولكن لا تغلو فيها ، العلوم الدنيوية لها شأن، ولها مكانة، وأهلها لهم فضل، حتى كان الإمام الشافعي يقول: ضيعوا ثلث العلم يقصد الطب، لكن ليست في المقام الذي يفضل في العلم الديني ، وكل من يرجع إلى تفاسير العلماء وكلام الأئمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يدرك هذا جليا ، فلا يحصل الخلط في هذه الأمور ، ويبالغ فيها ويخرج عن سياقها الذي وضع في الشريعة .
الأمر الثاني : لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا فالإنسان الذي إذا أراد الله أن يسعده ويوفقه في علمه رزقه علم الآخرة ، فتجده إذا سئل عن أمر من أمور الشرع أحسن الصدر فيه والورد، وبين حكم الله وشرعه ، فصار مبلغ علمه ما يرضي الله - عز وجل - وهو علم الدين والشرع، فيأخذ بحجز الناس عن نار الله، ويقيمهم على صراط الله ، ويبين لهم الحق إذا التبس، وحصل فيه الخلط والكذب والافتراء على الله يأتي ويميز دين الله، فإذا اختلطت الأهواء والآراء بين الشرع وحكم الله - عز وجل - بكل وضوح، وهذا هو في أعلى الدرجات عند الله - عز وجل -؛ لأن الله قرن العلم بالإيمان، وهذا من أعظم ما يكون في شرف العلم، فليس هناك أعظم من الإيمان بالله - عز وجل - ، فرفع الله قدر العلم والعلماء بأن قرن فضلهم بالإيمان به - سبحانه وتعالى - .(5/464)
فإذا أراد بعبده خيرا جعل علمه علما نافعا، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - من دعائه المأثور : (( وأعوذ بك من علم لا ينفع)) . فيسأل الله - عز وجل - العبد أن يكون علمه نافعا، أما علوم الدنيا، وكونها مبلغ علم الإنسان وغاية رغبته وسؤله فهو أن يشتغل بها اشتغال المفتون - والعياذ بالله - فتجده إذا جاء لأي أمر دنيوي يستطيع أن يفصل لك فيه ويذكر لك حقيقته بشكل قد تحار فيه وتتعجب كيف هذه المعلومات وكيف هذه الدقة ، وكيف هذا الكلام، وكيف هذا التوضيح، لأنه من سنن الله - عز وجل - في الإنسان أنه لا يشتغل بشيء إلا إذا أحبه، فإذا أحب الدنيا عرف قريبها وبعيدها وغاليها ورخيصها وعزيزها ونفيسها واشتغل بذلك، وإذا عرف الآخرة انصرفت همته إلى الآخرة، فتجده أعرف الناس بالله - عز وجل - وأشدهم خشية لله ، وأحسنهم وأصلحهم قولا وعملا فيما يرضي الله - عز وجل - ، فالذي صارت الدنيا أكبر همه لو جاء يشتغل بالسيارات يذهب إلى المعارض فتأتي وتسأله عن سيارة ما ، فإذا به يقول لك : هذا نوع كذا وتمشي كذا وإذا مشت كذا أصابها كذا وكذا ، وفيها الشيء الفلاني والعلاني يصف لك وصفا كاملا ، إذا جاء في الكهرباء تجده يصف لك جميع ما يجري حتى إذا أردت أن يبين لك كيف تضيء هذه الشمعة لبين ، لا حرج في الإسلام أن تكون كذلك، وشيء طيب أن المسلم إذا جاء مثلا في الهندسة يحسن الهندسة ، وإذا جاء في الطب يحسن الطب، وإذا جاء في أي صنعة تنفع المسلمين هذا شرف للمسلم أن ينفع المسلمين، ولذلك العلماء رحمهم الله جعلوا هذه الأمور التي يحتاج إليها المسلمون من فروض الكفاية ؛ لأنه إذا لم يفعلها المسلمون سيحتاجون إلى غير المسلمين لكن أين الخلل؟ الخلل أن يعظم هذا الشيء ، وأن يصبح يتفاخر بهذا الشيء ، وأن يصبح غاية رغبته وسؤله ومطمعه . فتجده إذا جلس في مجلس ، قد يجلس مع عالم كان من المفروض أن يستفيد من علمه ، وإذا به يقول تدري يا شيخ : أن النوع الفلاني(5/465)
من السيارات كذا وكذا ، أو أن النوع الفلاني من الأراضي كذا وكذا وأنك لو اشتريت من المخطط الفلاني يصير كذا وكذا وإذا به يدخل في متاهات الدنيا، فهي مبلغ علمه ، وغاية رغبته وسؤله، هذا المحذور لأنه لا يحصل الخلط ، لا يظن البعض أن الإنسان فقط يتقوقع في المساجد ونعبد ونترك ما قسم الله - عز وجل - من الرزق وأن نسعى ؛ الله قال : { فامشوا في مناكبها } ولكن لا تغلو ، ما قال أن يغلو الإنسان في هذه الدنيا ، فإذا جلس الإنسان في سوقه وفي عمله يقوم بعمله فإذا جاء في مجالس الناس أو جاء مع أهله لا يدخل سوقه وتجارته في مجالس العلماء ومجالس طلبة العلم ، ولذلك تجد الشخص شقيا على نفسه شقيا على غيره، فإذا جاء في مجلس فيه عالم فيه طالب علم يستطيع أن يستفيد من علمه ، أو فيه رجل كبير سن حتى ما نقول العالم ، في بعض الأحيان جلوسنا مع كبار السن كان ينبغي أن نستفيد من حكمتهم ومن تجاربهم وأن نعطيهم حقهم وقدرهم وهذا حقهم بدون فضل، فنعطيهم حقهم وقدرهم ، ونسألهم عن تجاربهم : في الزمان مما يفيد، عن الحكم، عن الحوادث، عن العبر، كان الناس إذا جلسوا يستفيد صغارهم من كبارهم ، وإذا بهذا يأتي ويجلس في المجلس ، فبدل أن يستفيد الناس من العالم ، وبدل أن يستفيدوا من طالب العلم ، وبدل أن يستفيدوا من الرجل المحنك الحكيم العاقل إذا به يخرجهم من مجلسهم إلى سوقه، الذي هو أكبر همه، ومبلغ علمه، ثم يا ويل أحد يتكلم في الشيء الذي هو فيه، سفهه وجهله، هذا مبلغ علمه، يعني يعتز به، فإذا جيء في الدعاء في بعض الأحيان لا يراد الشيء وإنما يراد أساسه، لأن الذي يصل إلى هذا الحد فقد بلغت الدنيا في سويداء قلبه – والعياذ بالله- فأصبحت في عقله وفكره ولسانه يعني بدل أنه شقي بهذا في هذه الدنيا يشقي غيره بها ، ولذلك تجد حتى إنه يجلس مع أهله بدل أن ينفعهم في دينهم بدل أن يوجههم بدل أن يجلس مع أولاده يقودهم إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم وآخرتهم(5/466)
إذا به يدخلهم في بيعه وشرائه ، وفتنته في الدنيا ، ومن هنا الخطأ فقط الغلو، والخطأ التباهي ، وإعطاء هذه الدنيا ما لا تستحق ، والخطأ أن يشرب بها القلب فتصبح هي في لسان الإنسان وفي فكره ووجدانه ، ومن الطرفة أن الشيخ الأمين رحمه الله برحمته الواسعة حصل عنده أيام كان الكهرباء قليلا ، فحصل عطل عنده في المروحة في البيت ، وكان في يوم صيف وجاء الوالد رحمة الله عليه يزوره . ويحكي الوالد لي ، فجاءه المهندس يجلس محل المروحة، فجالس مع الوالد مع بعض طلبة العلم في بعض المسائل ، يتذاكرون ، فإذا بهذا الكهربائي يقول : يا شيخ تعلم أن السلك الفلاني يفعل كذا وكذا ، فقال الشيخ رحمة الله عليه - وكان حكيما- قال : هذا فن ما قرأناه، وهي إشارة إلى إن هذا الشيء ما يشتغل به ، أنه ما شغلنا به أنفسنا، وأن ما اشتغلنا به من العلم في الآخرة أعظم. فالشاهد لا حرج من الدنيا لكن شريطة أن لا تشغل عن الآخرة ، وأن لا يكون الإنسان مفتونا بها نسأل الله بعزته وعظمته وجلاله وكماله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح وأن يرزقنا ما يقربنا إليه، ويوجب رضاه عنا في الدنيا والآخرة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
باب القرض وغيره
قال المصنف رحمه الله : [ باب القرض وغيره ]
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين، والصلاة الأتمان الأكملان على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد :
فيقول المصنف رحمه الله : [ باب القرض وغيره ] : القرض في لغة العرب : القطع، قرض الشيء يقرضه قَرْضاً ومنه : قرضُ الفأرِ للثوب إذا اقتطع منه جزءاً .
ويقوم القرض في اصطلاح العلماء على دفع المال للغير لينتفع به ويرد بدله .(5/467)
فقول العلماء رحمهم الله : أن القرض هو دفع المال للغير لينتفع به : خرج دفع المال للملكية، سواء كان في الأعيان كما في البيع، أو في المنافع كما في الإجارة.
وخرج بقولهم : ليرد بدله إذا دفع المال ولم يقصد له بدلا كما في الصدقة .
وأما الصدقة فإنها تخرج بقولهم ليرد بدلا. فإنه إذا دفع المال صدقة أو هبة لم يقصد البدل، إلا في هبة الثواب فإنها تعتبر من عقود المعاوضة، كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله .
والأصل في القرض دليل الكتاب والسنة وإجماع العلماء رحمهم الله .
أما الكتاب فإن الله - سبحانه وتعالى - يقول : { يا أيها الذين إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } فنصت هذه الآية الكريمة على مشروعية القرض والدين، وكذلك في قوله تعالى - سبحانه وتعالى - : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } حيث دلت هذه الآية الكريمة على إنظار المُعْسر ، والمعسر غالبا ما يكون في الديون، إنما يقع إعساره وعوزه وعجزه عن السداد للدين.
وأما بالنسبة للسنة فأحاديث صحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه اقترض ورد القَرْض صلوات الله وسلامه عليه بأحسن منه ، وذكر المصنف رحمه الله حديث أبي رافع - رضي الله عنه - في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلف بكرا فرده خيارا رباعيا .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (استسلف من رجل فرد له السلف فأوفى وأحسن القضاء بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه .
وكذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - أنه استقرض منه ورد له بأحسن وأزيد مما اقترض منه صلوات الله وسلامه عليه .
وفي قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة في الصحيح (( إن خياركم أحاسنكم قضاء)).
وكذلك قوله في حديث أبي رافع : (( فإن خير الناس أحسنهم قضاءا )).
كل هذه الأحاديث تدل على مشروعية القرض .(5/468)
وفي الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في صاعين من شعير .
فهذا كله يدل على مشروعية القرض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وأذن به ورغب فيه بالنسبة لمن يستطيع إقراض الناس فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من نفس عن مسلم كُرْبة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة )) .
وأمر بالتوسعة على المقترض إذا ضاق عليه الحال فقال : (( ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة )) فكل هذه الأحاديث تدل على مشروعية القرض والدين .
وأما الإجماع فقد أجمع العلماء –رحمهم الله- على مشروعية القرض إذا كان على السنن الشرعي ، والقرض بالنسبة لك أنت مالك المال تارة يجب عليك أن تُقْرض الناس ، وتارة يندب لك ، وتارة يحرم عليك ، وتارة يكره ، وتارة يباح ، فتعتريه الأحكام التكليفية الخمسة : يكون القرض واجبا أن تقرض الغير إذا جاءك إنسان مضطر في ضائقة شديدة وقد تؤدي إلى تلف نفس ، أو حصول ضرر بحيث يصل إلى مقام الاضطرار كما لو احتاج إلى عملية جراحية لإنقاذ نفسه من الهلاك وليس له أحد يقرضه غيرك، وكذلك عندك القدرة على أن تقرضه وبخاصة إذا غلب على ظنك أنه سيسدد وليس بمماطل فيجب عليك أن تقرضه ؛ لأنه إنقاذ لنفس وهذا واجب عليك ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وكذلك أيضا إذا حصلت الضوائق على إخوانك وبخاصة إذا عظم الحق كالقريب وذي الرحم إذا احتاج منك القرض، وفيه عوز شديد، وشدة ومؤونة، وعندك القدرة على أن تعطيه، وليس هناك ضرر عليك في الإعطاء فيجب عليك .(5/469)
ويحرم عليك أن تعطي القرض إذا علمت أن الذي يأخذ القرض سيستخدمه في الحرام ، وأن إعطاء المال له يعينه على الوصول إلى ما حرم الله وارتكاب وانتهاك حدود الله –- عز وجل -- ، كما لو علمت أنه يشرب به خمرا ، أو يشتري به خمرا أو نحو ذلك ، فالوسائل آخذة حكم مقاصدها ، فبهذا القرض يتوصل إلى ما حرم الله فحرام عليك أن تقرضه .
وكذلك أيضا يكون القرض مندوبا إليه وهذا هو الأصل في القرض أنه مما ندب إليه ، وأنه ينبغي للمسلم أن يحرص على نفع الناس بالقرض إذا وسع الله عليه في الدنيا وغلب على ظنه أن الشخص الذي يأخذ القرض لا يؤذيه بالمماطلة وإضاعة الحقوق ، ومن هنا قالوا : يكون القرض مندوبا على الأصل إذا انتفت الدوافع الموجبة للوجوب ، وانتفت الموانع الموجبة للتحريم والكراهة .
ويكره القرض إذا علمت أنه يفعل به أمرا مكروها ، فهذه الأحكام التكليفية بالنسبة للقرض ، أما الشخص نفسه فإنه يجوز له أن يقترض من الناس ولا حرج عليه، ولا بأس أن المسلم يقترض عند الحاجة، وقد فعل ذلك خير خلق الله –صلوت الله وسلامه عليه- فاستدان واقترض صلوات الله وسلامه عليه ورد بأحسن الرد وأحسن القضاء - صلى الله عليه وسلم - ، فليس هناك منقصة للإنسان أن يستدين ، ولكن يحرم عليه أن يستدين إذا كان دينه –كما ذكرنا- إن توصل به إلى حرام ، أو يكون أخذه من الشخص هذا المال سيوقعه في حرمة فيلتمس غيره ، ويكون القرض مكروها عليه إذا كانت هناك مذلة ومهانة ويمكنه أن يصبر كأن يكون عنده راتب في آخر الشهر ، أو يُرَجِّي أن تنفرج كربته ؛ فحينئذ يكره له أن يهين نفسه ، وبخاصة إذا كان الذي يقرض فيه لؤم كما قالوا في الدعاء المشهور : " ربنا لا تجعل لنا إلى لئيم حاجة" ، وقال الشاعر :
لا تَرْجُ من ليس له حياء(5/470)
فالإنسان يزري بنفسه بسؤال الناس ، وقد بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن الدنيا فتنة ، فإذا لم تكن له حاجة للقرض وحاجة ماسة ويمكنه أن يصبر فالأفضل له أن يصبر ، وأما إذا كان القرض يتوصل به إلى أمر مفضل شرعا كأن يؤدي به عبادة مندوبة بالنسبة إليه كأن يقترض لحج نافلة أو عمرة نافلة ويريد أن يصيب فضل الاعتمار كما في رمضان ، أو يريد أن يصيب فضل الأضحية كما نص طائفة من العلماء على أنه يجوز للمسلم أن يقترض ويضحي ولا بأس بذلك ولا حرج ، ولكن لا يجب عليه ذلك لكن لو أحب أن ينال هذه الفضائل وينال خير الطاعة ويعلم أنه في نهاية الشهر يسدد ؛ فحينئذ يندب له ، ويحرم على المسلم أن يأخذ أموال الناس ليضر بهم ، وبخاصة إذا أخذ القرض من دون حاجة وهو يعلم أنه لا يسدد، وقد بين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- العواقب الوخيمة لمن يفعل ذلك فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله )) وبين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- خطر الدين فقال كما في الحديث الصحيح : (( نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يقضى عنه )) فمن مات وعليه دين فإن نفسه مرهونة بهذا الدين ، واختلف العلماء قالوا : إن الأصل في الرهن هو الحبس ومنه قوله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة } أي مرهونة ومحبوسة ، وأن من مات وعليه دين يحبس عنه النعيم حتى يؤدى عنه دينه ، وفي الحديث الصحيح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنه كان إذا أتي بالرجل عليه دين امتنع من الصلاة عليه إذا لم يترك وفاءً ، وإذا ترك وفاء صلى عليه عليه الصلاة والسلام زجرا للناس ، فأتي برجل فقال : هل عليه دين –فكان يسأل في كل جنازة لعظم أمر الدين- قالوا : نعم عليه ديناران فلما أخبر أنه لا وفاء له لم يترك وفاءً قال : صلوا على صاحبكم ، فقال أبو قتادة –- رضي الله عنه -- هما علي يا رسول الله فصلى النبي –- صلى الله عليه وسلم(5/471)
-- عليه قال أبو قتادة –- رضي الله عنه -- : فلم يزل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يسألني كلما لقيني هل أديت عنه ؟ فأقول : لا بعد - كان المال عزيزا وكان أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فيهم ضيق في المال لأن الله زوى عنهم الدنيا ولم يفتنهم بها - فأدّى بعد فترة فلقيني ذات يوم فقال : هل أديت عنه ؟ قلت : نعم ، قال : الآن بردت جلدته )) وهذا فيه وعيد شديد للورثة الذين يظلمون الآباء، ويظلمون القرابة فيعطلون سداد ديونهم وقد تركوا الوفاء ، وقد يكون الميت ترك عقارا يمكن بيعه وسداد دينه ، ولكنهم لا يبيعون ولا يسددون ، بل قد يبلغ ببعضهم أن يترك من السيولة والنقد ما يمكن معه سداد الدين فيمتنع الورثة أو من يقوم على أموالهم من سداد الديون ويماطل بذلك ، ولاشك أنه آثم شرعا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( مطل الغني ظلم )) فهو ظالم، ظالم لأصحاب الحقوق ، وظالم لمورّثه ، فإن كان مورّثه أبا فقد عق أباه –والعياذ بالله- والعقوق معروفة عواقبه لا يخفى على المسلم عاقبته الوخيمة حتى قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا يدخل الجنة عاق )) فهذا من العقوق بعد الوفاء التأخر والمماطلة وعدم الحرص على سداد ديون الموتى ، وبخاصة في هذه الأزمنة التي ضعف فيها الإيمان وكثر فيها اللهث وراء الدنيا –نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا غاية رغبتنا وسؤلنا- فلا يجوز للمسلم إذا كان قادرا على السداد أن يتأخر عن السداد ، وكذلك لا يجوز له أن يستدين أموال الناس وليست عنده حاجة للدين وهو يعلم أنه لا يسدد فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال كما تقدم : (( ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله )) فهذا الذي يستدين وليست عنده حاجة للديون ويستكثر من أموال الناس يضر بالمسلمين ، فهو يضر بأصحاب الحقوق ولربما أذيته لصاحب الحق تجعل صاحب الحق لا يقرض أحدا بعده ، وحينئذ ظلم(5/472)
المحتاجين وظلم إخوانه الذين تنزل بهم الظروف وتحل بهم الأمور التي تستدعي الدين ، فلاشك أن هذا كله محرم على المسلم أن يتسبب فيه فضلا عن أن يقع فيه ، وعليه فإن القرض مشروع بالأدلة التي ذكرناها من كتاب الله وسنة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وإجماع الأمة سلفا وخلفا ، وكانت ميمونة –رضي الله عنها- أم المؤمنين كانت تستدين وتكثر من الدين فقالوا لها فقالت : لا أدع الدين منذ أن سمعت رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه )) فمن كانت نيته صالحة وهمته صادقة في سداد الدين فإن الله يعينه وييسر له، ويفتح له أبواب الفرج من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، ويرزقه من خزائنه الواسعة –- سبحانه وتعالى -- فالله لا يعجزه شيء ، لكن على المسلم أن تحسن نيته فلا يأخذ أموال الناس ليضر بهم ، وإنما يأخذها لكي يسددها ، وقد دعا النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أو أخبر على الوجهين في الحديث بأن الرحمة تصيب من يستدين ويحسن سداد الدين قال - صلى الله عليه وسلم - : (( رحم الله امرءاً سمحا إذا باع سمحا إذا اشترى سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى )) السماحة في القضاء قال العلماء أن يقول : سأسدد ذلك في أول شهر شعبان –بإذن الله- فتجده عنده فسحة فيتيسر له المال قبل شعبان فيأتي إلى صاحب الدين ويقول له : جزاك الله خيرا هذا حقك ، فصار على السماحة ، وكذلك أيضا يحل الأجل فمن السماحة في القضاء أنه لا ينتظر أن يأتيه صاحب الدين ليقرع عليه بابه ، ولا ينتظر أن صاحب الدين يقول له : أين الدين بل يأتي بنفسه ويقول له : هذا مالك جزاك الله خيرا ونحو ذلك يدعو له بالدعاء، ويثني عليه خيرا مما يعين صاحب الدين، ويشجّعه على أن يدين إخوانه الآخرين ، فهذا من السماحة أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من فعل ذلك أن الله سيرحمه أو أنه مرحوم ، فإن كان قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( رحم الله امرءا ..)) على(5/473)
ظاهره خبرا فلا إشكال أنه مرحوم ، وإن كان خبرا بمعنى الإنشاء أي اللهم ارحمه ، من كان سمحا في قضائه سمحا في اقتضائه ، والسماحة في الاقتضاء أن الشخص إذا جاء يطلب حقوقه من الناس أن يكون عنده سماحة ورفق بالمسلمين ، فإذا وسع الله على عبد في الدنيا فليعلم أول ما يعلم أن المال مال الله ، وأن الله استخلفه على هذا المال امتحانا وابتلاء واختبارا ، ولذلك في قصة الثلاثة النفر: الأعمى، والأقرع، والأبرص عبرة لكل صاحب مال حيث إن الله فرّج كرباتهم وفتح عليهم من أبواب فضله في المال فأصبحوا أصحاب الإبل والبقر والغنم ، زالت العلل، وذهبت البلايا، وعظم المال في اليد فلما جاء السائل للأول منهم قال له بنفس صفته أقرع ، فقال له : ابن سبيل منقطع فقال له : الحقوق كثيرة –نسأل الله السلامة والعافية- فكفر نعمة الله عليه ونسب الفضل إليه ، وكذلك قال الآخر حتى جاء للأعمى، جاءه في صورته أعمى كفيف البصر فقال له : ابن سبيل منقطع ، فقال الأعمى –من توفيق الله له- كنت أعمى فرد الله علي بصري ، وكنت فقيرا فأغناني الله ، والله لا أرزؤك من مالي شيئا دونك الوادي فخذ منه ما شئت ، هذا كله من فضل الله على العبد إذا كان عند العبد الشعور أن المال مال الله –- عز وجل -- فإنه لا يبخل فإن الله أخبر أن من بخل بخل على نفسه، لأنه يحرم الخير في دينه ودنياه وآخرته بالبخل ، فإذا جاء المحتاج والمنكوب والمكروب يعلم أن الله ممتحنه بهذا السائل والمحتاج ، فإذا أحّس أنه في امتحان أحسن القول والعمل حتى ينجو من نقمة الله –- عز وجل -- عليه إن كفر نعمة الله ، وحتى يفلح وينجح إذا وفق لحسن القول والعمل ، فالشاهد من هذا أن الأصل يقتضي أن المسلم يوسع على إخوانه المسلمين ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ما كان بيد الإنسان وقدرته واستطاعته فإنه يبذله، وهذا لا يكون ولن يكون إلا بتوفيق الله –- عز وجل -- ولا مهدي إلا من هداه الله . فنسأل الله أن يهدينا(5/474)
لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال .
القرض فيه فضيلة عظيمة ، ولذلك أجمع العلماء على كونه مندوبا ، وهو من مكارم الأخلاق أن الإنسان يكون سمحا لإخوانه المسلمين عند حاجتهم فيفرج كرباتهم ويقضي حوائجهم بالمعروف ، يقول رحمه الله : [ باب القرض ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام، والمسائل التي تتعلق بأحكام القرض ، وذكر المصنف هذا الباب بعد باب السَّلَم ، وكل منهما يشترك في وجود السَّلَف ، والقرض والنظرة في إعطاء المال نظرة في السَّلَم ، السَّلَم معاوضة وفي القرض للبدلية ، وكلاهما من عقود المعاوضة لأن السَّلَم معاوضة لكنّها معاوضة ببدليّة المال بالمال ، وأما في القرض فإنها معاوضة من أجل أن يرد المثل ، والعلماء –رحمهم الله- يراعون المناسبة في الأبواب ، ولذلك ذكر المصنف –رحمه الله- باب القرض ثم أتبعه بباب أحكام الدين ، ثم أتبعه بأبواب الرهن لأنها كلها تتعلق بباب القرض ، فأحكام الدين مترتبة على القرض والرهن يكون في القروض وفي المداينات ، والمناسبة في هذا واضحة ظاهرة .(5/475)
قال رحمه الله : [ عن أبي رافع -- رضي الله عنه -- أن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- استسلف من رجل بَكْرا فقدمت عليه إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره ، فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا خَيَارا رَبَاعية فقال : أعطوه فإن خير الناس أحسنهم قضاء )) ] : هذا الحديث الثابت في الصحيح فيه دلالة على مشروعية القرض ، وذكره المصنف -رحمه الله- وقد اشتمل على جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بالقرض ، ولفظه في الصحيح : (( استسلف النبي -- صلى الله عليه وسلم -- بَكْرا )) ففيه مشروعية السلف والقرض ، وفيه كذلك جواز السلف في الحيوان وقد قدمنا ذلك وهو مذهب الجمهور، والبَكْر هو الفتيّ من الإبل قالوا : كالغلام في الإنسان الفتيّ من الرجال ، ولما استسلف النبي -- صلى الله عليه وسلم -- هذا البَكْر استسلفه إلى إبل الصدقة، وهذا من النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقع في أحوال : فتارة تحضر الغزوة ، ويكون - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يغزو، فيحتاج إلى الظهر والإبل، ولا يتيسر وجودها، فيقترض على بيت مال المسلمين، وهو ولي أمر المسلمين - صلى الله عليه وسلم - فاقترض إلى إبل الصدقة، وقد جاء في حديث عبدالله بن عمرو - رضي الله عنه - وعن أبيه أنه قال : (( أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن آخذ البعير بالبعيرين ، إلى إبل الصدقة))، فكان يقترض ويستلف، صلوات الله وسلامه عليه، إلى إبل الصدقة يعني إذا جاءت الصدقة وحلت الزكاة على أصحاب الإبل أخذ منها وسدد الديون التي كانت على بيت مال المسلمين، فلما حضرت إبل الصدقة، وأراد أن يقضي الرجل، قال أبورافع : لا أجد إلا خيارا رباعيا، وهو أفضل من البَكْر، لأنه أتم ست سنوات ودخل في السابعة، وهو أغلى ثمنا وأعز عند أهله، فقال بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه : ((أعطه))، وفي لفظ : (( أده، فإن خير الناس أحسنهم قضاء )) فيه مشروعية الزيادة في قضاء الدين ، فإن(5/476)
النبي - صلى الله عليه وسلم - رد بأفضل مما أخذ. وجمهور العلماء من الأئمة الأربعة على مشروعية الرد بالزيادة بشرط أن لا يكون هناك اتفاق في بداية العقد . فإذا قال له : خذ هذه مائة ألف وردها مائة وعشرة اشترط عليه الزيادة أو رد مائة وريالا فهو الربا الذي لعن الله آخذه ومعطيه ، وهذا بإجماع العلماء إذا اشترط. أما لو أنه أعطاه بدون شرط فإنه جائز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الرجل وأدى إليه دينه بأفضل وزاد عليه الصلاة والسلام . قال جابر - رضي الله عنه - : (( اقترض مني النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضاني وزادني )). وهذا يدل على مشروعية الزيادة في الدين قلنا بشرط أن لا يكون هناك اتفاق بين صاحب الدين وبين المدين، فإذا كان هناك اتفاق على زيادة سواء كانت من نفس المال أو كانت من غيره فإنها محرّمة بإجماع العلماء حتى لو كانت منفعة فلو قال له : أقرضني مائة ألف ريال . قال : أقرضك هذه مائة ألف ريال على أن أسكن بيتك يوما واحدا فترد مائة ألف لي ويكون قد أخذ مائة ألف وسكنى البيت ولو يوما واحدا أو ساعة فهذا من الربا . وكل قرض جر منفعة فهو ربا ، إذا كان بالمشارطة ، وسواء كان من نفس المال أو من غيره .
وكذلك أيضا في حكم الشرط والاتفاق أن يجري العرف ، فإذا كان العرف في البلد أن من اقترض يرد وكان عرفا ثابتا مُلزما فالمعروف عرفا كالمشروط شرطا، وأما إذا كان عرف فضل جرى به العرف أن البعض يقضي والبعض لا يقضي وأنه قضاء من أصحاب الفضل إحياء للسنة واتباعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بأس بذلك ولا حرج، وهي أعراف المسلمين تأسيا بنبيهم صلوات الله وسلامه عليه .(5/477)
والزيادة سواء كانت في الصفة كما في حديثنا ، لأنه استلف بَكراً ورد خَيَارا رَبَاعيا أفضل منه أو كانت في العدد على مذهب الجمهور فيستلف منه مائة ويردها مائة وعشرة ومنع من ذلك بعض العلماء رحمهم الله بناء على أن الأصل المنع من الزيادة . وجاء حديث أبي رافع باستثناء العدديات في الوصف فبقي ما عداها على الأصل .
وأجاب الجمهور بعموم قوله عليه الصلاة والسلام : (( إن خير الناس أحسنهم قضاءا)) فجعل النص عاما شاملا للزيادة في العدد والزيادة في الصفة .
وهذا الحديث رد فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار الرباعي ، وعلل ذلك بقوله : (( إن خير الناس )) قال بعض العلماء : إن خير الناس أحسنهم قضاءا قالوا فيه فوائد منها:
أن من يرد الدين ويحسن في الرد فإن هذا يدل على أنه من خيار المسلمين ، ومن خيار الناس ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زكاه بذلك .
ثانيا : أن هذه الخيرية جاءت من أصل وهو أن الله - عز وجل - إذا أراد بعبده خيرا نزع الدنيا من قلبه ، وإذا أراد بعبده شرا وبلاء جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله والعياذ بالله .(5/478)
فهو يوالي فيها ويعادي فيها (( تعس عبدالدينار، تعس عبدالدرهم)) حتى تصبح والعياذ بالله مشتهاه ومبتغاه لا يحيد عنها بحال فإذا جاء عند القضاء ورد بأحسن دل على عدم تعلق قلبه بالدنيا، وأن الدنيا لا تساوي عنده شيئا في مقابل أن يكون وفيا وأن يكون بالحال الأفضل وهذا صنيع كرام النفوس ، إذا كرمت النفس وظهرت وزكت ظهر آثار تلك الطهارة الزكاة والصلاح والخير على الجوارح . فخير الناس أحسنهم قضاءا . ومفهوم ذلك أن شر الناس شرهم قضاءا إذا كان قادرا على السداد ولا يسدد، ولذلك تجد البعض حينما يأخذ أموال الناس ويعطيها في آجالها ولربما يقدم في الأجل ويأتي مبكرا قل أن تجد أحدا يفعل هذا إلا ووجدته من خيار الناس ، وإذا وجدت الرجل يأخذ أموال الناس وعنده القدرة على السداد ويأتيه صاحب الدين ويحرج أصحاب الديون حتى يقرعوا بابه ويلاحقوه في أعماله ويلاحقوه في أماكنه وإذا جاءوا إليه فإذا به يقول لهم : ليس عندي ولربما يرد لهم بشر رد ولربما والعياذ بالله يصل به من الظلم أن يقول : ليس لكم عندي شيء ، والذي تريدون فعله فافعلوه ، إن أردتم أن تشتكوا ، إن أردتم أن تفعلوا، ولكن ويل للظالم من المظلوم إذا اشتكى إلى الحي القيوم، ويل ثم ويل له حينما يصل به الأمر من اللؤم والخسة والعياذ بالله أن تحسن الناس إليه فيسيء ، وأن تكرمه الناس فيهينهم، فيعطونه ولربما بعض الناس يعطي الديون بدون حتى أوراق تثبت الدين من حسن نيته، وصفاء قلبه ، وإذا به يفاجيء بالشخص يقول له : ليس لك عندي شيء ، فإذا أردت أن تشتكي فهذه أبواب المحاكم مفتوحة، ولكنه غَفِل هذا المسكين أن أبواب السماء مفتوحة لدعوة المظلومين قبل أن تفتح أبواب الخلق، وأن نقمة الخالق أعجل والله - سبحانه وتعالى - على كل شيء قدير ، ومن العبر : أن امرأة ضعيفة ظلمها رجل قوي، وكان غنيا ثريا وكانت امرأة صالحة، متعففة، واحتاجت إلى المال ، وبقي لها حق عند هذا الرجل، فجاءته وطلبته منه(5/479)
مرارا وهو قادر على السداد وليس عندها أي سند، فكانت قد اشترت منه شيئا وبقي لها مال، ردت هذا الشيء فامتنع أن يعطيها المال، وأعطاها بعضه ثم ماطلها، وآذاها أذية شديدة في حقها، فجاءته ذات يوم في الضحى وسألته حقها فقال لها : اذهبي أو أغربي عن وجهي ، وليس لك عندي من شيء، فقالت له : اتق الله، فقال لها : أتعرّفيني بالله – والعياذ بالله- . فقالت : يا فلان ، إن لم تعطني حقي فسأشتكي إلى ربي، قال: افعلي ما شئت ، فخرجت من ساعتها – والقصة في المدينة – بنقل الثقات وكانت قريبة أعرفها فجاءت وصلت في هذا المسجد ركعتين، ولم تنته من صلاتها إلا وجاءته سكتة قلبية وهو سقط من مكانه . ولما جاء أولاده ليحملوها كان في المحل رجل ضعيف من العمال وفيه خير وقال لهم : إن أباكم قد أساء إلى فلانة ، وكانت جارة له في الحي، فاطلبوا فلانة ولم يجدوها إلى في المسجد، وأخبرت خبره فقالت : إني قلت له : اتق الله، فقال : أتعرفين بالله ؟! والعياذ بالله وهو قادر وكان عنده قدرة على السداد، فأمثال هؤلاء إذا لم ينزجروا فإن الله يزجرهم ، وإذا لم يرتدعوا بقوارع التنزيل في حقوق الناس فإن الله - عز وجل - لاشك منتقم منهم . فخير الناس أحسنهم قضاءا . ومفهوم ذلك أن من شرار الناس من يسيء في قضائه . ومن هنا قال الحكماء بل قال العلماء من قبلهم: إن الرجل لا تعرف حقيقته في صلاحه واستقامته بشيء مثل الدنيا فلا يعرف صدقه من كذبه ولا جده من لعبه إلا في المال جاء رجل يشهد عند عمر - رضي الله عنه - فقال عمر - رضي الله عنه - : لا أعرفك اذهب وأتني بمن يعرفك . يعني يزكيك . لأن الشهادة تفتقر إلى التزكية ؛ لأن الله يقول : { ممن ترضون من الشهداء } فجاءه برجلين يزكيانه ، فسأل عمر الرجل الأول : أتعرفه ؟ قال : نعم ، أعرفه بالخير والصلاح، فقال له : هل أنت جاره الذي يعرف مدخله ومخرجه؟ قال : لا. قال : هل عاملته بالدينار والدرهم ؟ اللذين يستدل بهما على صدق(5/480)
الرجل وأمانته؟ قال : لا. قال : هل سافرت معه ؟ قال : لا . قال : اذهب فإنك لا تعرف .
ولذلك لا يكفي شكل الإنسان وهيئته ومظهره دون أن يصدق ذلك إذا كان مظهره على خير واستقامة إذا لم يصدق ذلك بالأمانة وحفظ حقوق الناس .
(( إن خير الناس )) بأسلوب التوكيد ، فإذا أرادت عيناك أن ترى إنسانا خيرا فانظر إليه في أمانته ، أتي بكنوز كسرى فوضعت بين يدي عمر - رضي الله عنه - في الفتوحات فبكى - رضي الله عنه - وأرضاه واشتد بكاؤه ، فقال له بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : يا أمير المؤمنين ، أوتبكي في يوم أعز الله فيه دينه ؟! فقال - رضي الله عنه - : إن أناسا أدوا هذا لأمناء . من الذي أدّاه الصحابة؟ كان الرجل منهم يسافر من فارس إلى المدينة في الصحاري والفيافي يحمل الكنوز التي تساوري الملايين ما غش ولا خان ولا غل ولا أخذ جاء بها كاملة لأن خير الناس أحسنهم قضاء وأداء ، ولذلك ضرب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة وللبشرية جمعاء المثال الصادق للخيرية حينما تربوا على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - بما أوحى الله إليه في كتابه ، ومن سنته وشمائله بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه .(5/481)
فخيرية الإنسان في معاملته للناس ، ومن هنا بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث وزكى من كان في أدائه للناس على الحُسْن وقال : (( أحسنكم قضاءا )) وجاء في حديث أبي هريرة في الصحيح : (( أحاسنكم قضاءا)) . وأحاسن حمع أحسن وأحسن صيغة أفعل ، فهناك حسن القضاء وهناك أحسن القضاء وحسن القضاء هو الذي كما ذكرنا يرد نفس الدين في وقته دون أن يحرج صاحب الدين فهذا حسن ، والأحسن أن يرد وقت الدين أو قبل الدين مع الزيادة وحسن الوفاء وإن عجز ع الزيادة دعا لصاحبه بالخير ، ولربما نشر له الذكر الحسن فقال : جزى الله عني فلانا فعل معي وفعل معي ، فالحر من يحفظ الإحسان والجميل ولا ينساه وكرام الناس إذا أحسن إليهم فمثلهم كمثل الأرض الطيبة إذا زرعت فيها حصدت خيرا . ولذلك قالوا : لا تصنع المعروف إلى لئيم فإنك لا تجني من ورائه خيرا لأنه يظن أن له فضلا عليك حينما أحسنت إليه .
فنسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يرزقنا حسن الخلق، وأن يجعلنا من الخيار وأن يحشرنا في زمرة الأبرار ، وأن يتوفاّنا مع المصطفين الأخيار، إنه ولي ذلك وهو الواحد القهار، والله تعالى أعلم .
الأسئلة
السؤال الأول: فضيلة الشيخ : استلفت من والدتي مبلغ ثلاثة آلاف ريال على أن أعيدها إليها عندما تحتاج إليه ، هل على هذا المبلغ زكاة ، مع العلم أن المبلغ غير موجود عندي حاليا ، وإذا كان عليه زكاة ، هل أقوم بالزكاة نيابة عن والدتي؟ أسأل الله أن يحفظكم وأن ينفع بعلمكم وجزاكم الله خيرا ؟
بسم الله . والحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد :
فإذا اقترض شخص منك مالا وحل الأجل وحال الحول على هذا المال ، فإن كان الذي عليه المال غنيا قادرا على السداد وأنت تستحي من مطالبته، أو تريد ترك المال عنده، فيجب عليك أن تزكي هذا المال، لأن المال موجود، ولو طلبته في أي وقت كان في يدك فهو كالمال الذي في يدك .(5/482)
وجمهور العلماء على أن الدين إذا كان على قادر على السداد يمكن أن يسدد في أي وقت تطلبه وحل أجله وحال الحول عليه أنه يجب عليك أن تزكيه .
وأما إذا كان عليه الدين فقيرا فالمال غير موجود ولا يجب عليك أن تزكي هذا المال إلا إذا رده إليك ولو بعد عشر سنوات تزكيه لسنة واحدة .
وأما مسألة أن تزكي عن والدتك ، فيجوز لك أن تتولى زكاة مال وجب على والدتك وليس في هذه المسألة أن تتولى زكاة مال وجب على والدتك تبرعا منك أو وكالة منها، لكن بشرط في التبرع أن تعلمها وتخبرها حتى توكلك، لأنها عبادة لا تصح إلا بالنية، فإذا وجبت الزكاة على الوالدة ، أو وجب الزكاة على الزوجة وأردت أن تزكي حليها وعلى القول بوجوب الزكاة في الحلي أو كان حلي قنية فأرادت أن تزكي فإنه في هذه الحالة فأردت أن تزكي عنها يجب أن توكلك في هذه الزكاة ، فإذا دفعت الزكاة من عندك من دون توكيل فهي صدقة من الصدقات ، لأن الزكاة عبادة ما تصح إلا بالنية ، والنية راجعة إلى الأصل وهو الشخص المكلف بالزكاة ، فحينئذ يجب عليه أن يوكل حتى يصح دفع الزكاة على الوجه المعتبر . والله تعالى أعلم .
السؤال الثاني : فضيلة الشيخ : في بيع السلم هل من الأفضل أن يكتب السلم مع الشاهدين خوفا من أن يغش أحدهما الآخر وجزاكم الله خيرا؟
السنة كتابة الديون، والكتابة تفصل الحقوق، ولذلك أمر الله بها في كتابه - سبحانه وتعالى - وعلم عباده الكتابة وعلمهم ضوابط الكتابة، وكيف يوثق الكتابة ، وأقامها على إقرار الشخص على الذي عليه الحق ، ووجود الشاهدين على المكتوب، وأن تكون الكتابة بينة بالحق دون ظلم، فلا يبخس الكاتب من الحق شيئا، ولا يظلم إلى غير ذلك مما بينته آية الدين التي هي أطول آية في كتاب الله - عز وجل - . وقيل إنها من آخر ما نزل من كتاب الله - عز وجل - .(5/483)
فكتابة أي شيء مؤجل يكتب، وهذا هو السنة ، ومن فعل ذلك فإنه في هذه الحالة قد رفق بنفسه ورفق بالناس، فإن الإنسان ضعيف، قد ينسى ، وقد يخلط، وقد يكون –والعياذ بالله – ظالما ، فيجحد، أو ظالما فيدعي ماليس له ، وعليه فإنه ينبغي أن يستوثق المسلم بالكتابة . وإذا كان السلم يعني غلب على الظن الوثوق به بوجود شهود فلا يلزم أن يكتب، وأما إذا غلب على الظن ضياع الحق وافتقاره إلى كتابة فتجب الكتابة.
وجمهور العلماء على التفصيل فيها : والأصل في السلم أنه لا تجب كتابة الدين إلا عند الخوف، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استدان ولم يكتب، والحق غالب على الظن أنه محفوظ ، فإذا غلب على الظن أن الحق محفوظ كأن يكتب التاجر عنده في متجره أو أنت تكتب عندك كتابة خاصة وهو يثق بك ، ومن تعامله يثق بك ، أما الكتابة بين الطرفين موثقة فعند الخوف من ضياع الحق فإنها واجبة .
أما إذا غلب على الظن أن الحق محفوظ فإنه مندوب إليها على هذا التفصيل جرت السنة بأمره عليه - سبحانه وتعالى - بالكتابة ، وتركه عليه الصلاة والسلام للكتابة والله تعالى أعلم.
السؤال الثالث : فضيلة الشيخ : بعت سيارتي بالتقسيط ، وبعد عشرون يوما أراد المشتري أن يردها علي ويبيعها لي من جديد بأقل من سعرها بألف ريال ، هل يجوز وجزاكم الله خيرا ؟
لا ما يجوز . هذا عين الربا . إذا بعت السيارة بألف وخمسمائة بالتقسيط وعلى أنها تقسط على ثلاثة أشهر ثم قبل انتهاء السداد جاء الذي باعكها أو جئت أنت الذي بعت للمشتري فقلت أعطني السيارة بألف نقدا فهذه العينة ، التي حرم الله ورسوله ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم )) .(5/484)
وجمهور العلماء على تحريم بيع العينة ، فإذا بيعت السيارة مقسطة وقال صاحب المعرض أشتري منك نقدا أو أرسل شخصا يشتري منك نقدا بأقل فحقيقة الأمر أنه دفع لك النقد المائة ألف في مقابل المقسط مائة وعشرين والسيارة حيلة . والقاعدة أن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة فتلغى صورة العقد، ويرجع إلى حقيقة الأمر أنه أخذ المائة نقدا في مقابل المائة والخمسين إلى أجل ، هذا لا يجوز وهو محرم .
أما لو بعتها على غير الذي اشترى منه فلا بأس . كأن يكون شخص عنده ضائقة واشترى سيارة بالتقسيط بمائة ألف ثم باعها نقدا بثمانين فلا بأس ، لأن إذا باعها لشخص آخر نقدا بأقل فلا بأس ولا حرج وهذا داخل تحت الأصل العام في البيع . فإن قال قائل إنه يريد النقود . قلنا : التاجر يشتري السيارات بمليون ويبيعها بمليون وخمسمائة وليس همه إلا النقود ولا يريد نفس السيارات . فما بال هذا الغني ق ولكن بالشرط الذي ذكرناه والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع : فضيلة الشيخ : كيف نفرق بين معاملة آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين معاملة غيرهم من الناس وما هو الضابط في ذلك وجزاكم الله خيرا ؟(5/485)
هو الأصل في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكرموا ولا يهانوا ، وأن يرفعوا ولا يوضعوا، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : (( إنما فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها)) فمن ثبت نسبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت حقه أنه يُكرم ويُشرّف وإذا دخل عليك في بيتك أكرمته ، فقضيت حاجته ، ورفعت منزلته، وأحسنت إليه ، فإن هذا طاعة وقربة لله - عز وجل - ، ولا يُهَان ولا يُذَل، لأنه كريم الناس ، وإذا أتاكم كريم قوم فاكرموه ، وأمرنا - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلها، وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم قصب السبق في ذلك، فكان زيد بن ثابت - رضي الله عنه - إذا خرج من داره ورأى ابن عباس - رضي الله عنه - على الباب ، يقول : ما هذا يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والله لو بعثت إليّ لأتيتك ، فإذا كان هذا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بابن بنته ، وهو يقول في بنته : (( إنما فاطمة بضعة مني )) فمن أكرم آل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كريم ومثاب ونص العلماء والأئمة على أن آل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم منزلة ، ولهم حق فإذا دخلوا في مجامع الناس ترفع مجالسهم وإذا لقيته حييته بأحسن تحية، وأفضلها وأكرمته عن بقية الناس وميزته ورفعت قدره دون غلو، وهذا ليس من الغلو، إذا أعطيته حقه لأنه لابد وأن يشعر بأنه منتسب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا يدعوه إلى أن يحفظ هذه النسبة وأن يحافظ عليها، والناس بين إفراط وتفريط ، بين الغلو الذي يصل إلى درجة محرمة في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الجفاء ، فالبعض تأتيه وتقول له: آل النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا به يرمي بيده فيقول من مِنْ آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟! وأثبت أنه من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - بكل احتقار وبكل جفاء وجلافة وصلافة قول وصفاقة(5/486)
وجه والعياذ بالله لكن الأصل أن تكون على حذر في التعامل مع آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأن إكرامهم من إكرام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يترك هذا لأهل البدع والأهواء وأهل السنة هم أحق من أكرم آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . بَيّن شيخ الإسلام رحمه الله ( مجموع الفتاوى) أكثر من موضع أنه له حق عظيم وأن السلف رحمهم الله على إجلال آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا كان جارا لك حفظت حق جيرته أفضل ما يكون من حفظ حق الجيرة، وإذا كان جارك في العمل أكرمته وأحسنت إليه ورفعت قدره وإذا قابلك في الطريق حييت ورفعت من مكانته ، وأشعرته بهذا الفضل الذي فضله الله به من انتساب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقد قال الله - عز وجل - لنبيه : { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } فإذا كان هذا في قوم من المشركين فما بالك إذا كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . مشتقة من رسول الله نبعته طابت مغارسه والخيم والشيم
فآل النبي - صلى الله عليه وسلم - نحبهم ونعتقد محبتهم لله وفي الله ، ونجلهم فإذا كان الأنصار الذين نصروا رسول الله يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم كما في الصحيح : (( أما هؤلاء فقد أدوا ما عليهم، فمن ولي منكم من أمر أحدهم شيئا فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم)) فإذا كان هذا في الأنصار فما بالك في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - .(5/487)
وقد كما في الحديث الصحيح : (( تركت فيكم الثقلين : كتاب الله وعَتْرتي )) وآل النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم حق عظيم ، وينبغي أن يترفع المسلم من الجفاء ، وعليه أن يحفظ وإذا كان يجهل أنساب آل البيت يسأل عنها، ويتعلم هذه الأنساب، ويحفظ لهؤلاء الذين شرفهم الله وفضلهم وأكرمهم بالانتساب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يحفظ لهم حقهم دون غلو ودون مجاوزة للحدود حتى يكون له في ذلك الأجر العظيم . فهذا مذهب أهل السنة والجماعة : إكرام آل النبي - صلى الله عليه وسلم - .(5/488)
وفي الحديث الصحيح عن جابر بن عبدالله أنه لما دخل عليه علي بن الحسين زين العابدين فانتسب له بكى جابر وأدخل يده على حلمة ثدييه تحننا وتلطفا منه - رضي الله عنه - وهو جابر بن عبدالله لما كف بصره في آخر حياته . والأثر في الصحيح . فالمقصود من هذا أن هدى السلف رحمهم الله على محبة آل النبي - صلى الله عليه وسلم - وإكرامهم ثم إن هذا المنتسب لآل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه حق أن يكون المثل والقدوة في الفضل وأن يحس بخطر الانتساب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيرفع نفسه عن الأمور التي لا تليق وعليه أن يبادل هذا الإكرام بما ينبغي أن يكون عليه من الصيانة في دين الله وشرع الله لأن الله أعزه بالدين ، فيعتز بدينه، ولأن الله شرفه بالدين، فيتشرف بالدين كلا عليه حقه ، وهذا هو الذي أدركنا عليه أهل العلم أنهم يشرفون آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحبونهم ويعتقدون فضلهم ويميزونهم عن الناس في الحدود الشرعية دون غلو وكما قلنا إن أهل السنة هم أحق وأولى من أكرم آل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكل هذا راجع إلى فضل الإسلام ، فحينئذ ينبغي على آل النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقبلوا من إكرام الناس ما كان موافقا للشرع ، وأما ما كان مخالفا للشرع فينبغي أن يكونوا أرفع من ذلك ، وأبعد عن ذلك ، نسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا حبهم فيه وأن يرزقنا إكرامهم لوجهه، وأن يجعلنا على السنن الذي يرضيه والله تعالى أعلم.(5/489)
هذا طبعا يختلف باختلاف الأحوال . وأنبه على أنه في الأسئلة : ما هو الضابط في كذا ! ارفق بمن تسأله. فالبضاعة مزجاة، يعني بعض المسائل ممكن لو تجلس إلى الصباح تفصل فيها، فالأمر عظيم ، فالضوابط أمرها صعب، ولا يتقنها إلا العلماء الجهابذة المتبحرون، ولكن بعض الضوابط كما ذكرنا أن الإنسان بين الإفراط والتفريط، هناك أناس غلوا في آل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهناك أناس جفوا . فآل النبي - صلى الله عليه وسلم - والناس عندهم سواء ، بل إنه ربما يرمي بالكلمة وتقول له : هذا شريف من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - . فيقول لك : لا شرف إلا بالتقوى ، حتى تتمنى إنك ما قلت هذا شريف . نعم لا شرف إلا بالتقوى ، ولكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - والانتساب إليه شرف على رغم أنف من شاء وكره ، هذا أصل شرعي، وإلا ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما فاطمة بضعة مني يربني ما رابها ويؤذيني ما آذاها )) ، فإن أكرمته فأنت الكريم ولا يكرم كرام الناس وأهل الفضل إلا من شرف في نفسه ، فالضابط في هذا أنك تميزه عن غيره دون أن يكون في ظلم للغير، تميزه من حقك ، يعني أنا إذا جاءني شريف أحتفي به أكثر مما يأتني إنسان آخر، لأني أحس أن له حقا علي، وحينئذ أؤدي هذا الحق . كذا الضابط أن يكون المنشأ في هذا محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ، فيكون المنشأ لا رياء ولا حمية ولا عصبية ، ولكن لله وفي الله ، وأن يكون هذا وفق الحدود الشرعية التي يتميزون بها عن غيرهم ولكن لا يعطون أكثر من حقهم هذا هو الذي ينبغي على المسلم أن يعمله، فأنا إذا جاءني أحد من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - فأجلسته في تكرمة البيت ، وجاءني في مناسبة فاحتفيت به فقمت له أمام الناس وحييته . قال الناس : من هذا الذي يقوم له ؟ قيل له : هذا من آل النبي - صلى الله عليه وسلم - . عرفت الناس، وعلّمَت الناس كيف يكرمون آل النبي - صلى الله عليه وسلم - .(5/490)
أما إذا دخل آل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يدخل غيره من الناس ، ورموا في المجالس ، ومنهم كبار السن وأهل الفضل فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلهم حق ولهم فضل، ولكن وِفْق الأصول التي ذكرناها دون إفراط ودون تفريط ، والموفق من حرص على هذه الوسطية ، وأهل السنة أولى بذلك كما ذكرنا ومن هنا ينبغي علينا أن نحرص على قضاء حوائجهم وتفريج كرباتهم إذا جاءت شريفة أرملة فإني أحس أن لها علي دين ولها علي حق ، فأقضي حاجتها، وأفرج كربتها، وأسعى في مصالحها، وهكذا إذا جاء اليتيم منهم أو جاء المعوز ونحو ذلك من الأمور التي يحتاجون فيها . نسأل الله بعزته وجلاله أن يقضي حوائجهم وحوائج المسلمين إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين . والله تعالى أعلم .
السؤال الخامس : فضيلة الشيخ : هل للروضة الشريفة مزية فضل عن غيرها من الأماكن ، وهل أداء العبادة فيها أفضل من الصف الأول وجزاكم الله خيرا ؟.
الروضة هي أفضل ما في المسجد النبوي ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في الصحيح ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، وهذا يدل على أن لها مزية على بقية المسجد .
وأجمع العلماء رحمهم الله على فضلها وشرفها.
وقوله : (( روضة من رياض الجنة )) قيل إن العمل الصالح فيها ينتهي بصاحبه إلى الجنة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من عاد مريضا فهو في خرفة الجنة )) وذلك لعظم الثواب فيها والأجر.
واختلف العلماء رحمهم الله هل الأفضل أن يصلي في الروضة أو في الصف الأول ؟(5/491)
والصحيح أنها أفضل إلا في الفريضة، فالصف الأول أفضل، وهذا هو اختيار طائفة من المحققين أنه في وقت الفريضة الصف الأول أفضل أما بالنسبة للمسجد فأفضل ما في المسجد هذه الروضة فالحرص على الجلوس فيها وعلى ذكر الله - عز وجل - لاشك أنه من السنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر هذا الحديث لبيان فضلها ومن قرأ أخبار الصحابة والسلف كانوا لا يرون إلا في الروضة من حرصهم على الخير فيها ، والمنصوص عليها أنها أفضل ما في المسجد إلا في المسألة الخلافية التي ذكرناها . والله –تعالى- أعلم .
السؤال السادس :
فضيلة الشيخ : إذا اشتريت شيئا وأنا لا أدري هو مسروق أم لا ، ولو كان مسروقاً هل آثم أم لا . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
هذا فيه تفصيل : قولك إذا اشتريت شيئا لا أدري هو مسروق أو لا هذه وسوسة في بعض الأحيان أن الشخص إذا اشترى شيئا لا يدري هل الذي باعه مالك أو لا ، هذا من الوسوسة ، الأصل العمل على الظاهر أنك إذا جئت في دكان ووجدت شخصاً يعرض سلعة ، أو جاءك شخص بسيارة يقودها العمل على الظاهر أنه مالك له حتى يثبت خلاف ذلك ، فتعمل على الظاهر ، والشريعة أعملت الظواهر .(5/492)
أما مسألة أن يكون الشخص معروفا بالسرقة فحينئذ إذا ثبت أنه سارق وتعلم أنه كثير السرقة فتتقي التعامل معه ، لأنك لا تضمن أن الغالب من هذا أنه ظالم للمسلمين آكل لأموالهم بالباطل ، وأما إذا كان من عامة المسلمين فالظاهر معتبر فيه أنه باع ما يملك لا ما لا يملك ، وأما بالنسبة للشيء إذا اشتريته وتبين أنه مسروق فحينئذ المال مال صاحبه وليس بمال للسارق والعقد فاسد ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الإنسان ما لا يملك وقد قال الله تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض } وصاحب السلعة لم يرض ببيعها لك ، وحينئذ يفسد البيع ويكون وجهك على الذي باعك وصاحب السلعة يأخذ سلعته ، فأنت تذهب وتطالب من سرق ولا تطالب صاحب السلعة بل ترد السلعة لصاحبه إذا ثبت أنها مسروقة منه ، سواء كانت من العقارات كالأراضي والدور ، أو كانت من المنقولات كالسيارات والأطعمة ونحو ذلك ، فالأصل أن بيع المسروق لا يصح ، أما لو رضي صاحب المسروق وقال : أبيعه لك ورضي فحينئذ لا إشكال فالعبرة بالعقد الثاني لا بالعقد الأول لأنه باع عن رضى ، وهذا العقد صحيح ومعتبر شرعا . والله –تعالى- أعلم .
السؤال :
فضيلة الشيخ : أنا أدرس في مدرسة يوجد فيها نصارى كيف أفعل معهم ، وهل أكلمهم أو لا ، وهل يجوز رد السلام عليهم . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(5/493)
أهل الكتاب عموما من النصارى وغيرهم يتعامل معهم المسلم ويحرص في معاملته معهم على هدايتهم ، ومن الأسباب التي تعين على حسن المعاملة معهم أنك حينما تنظر أنهم ينظرون إلى الإسلام من خلالك فحينئذ تحرص على أنهم يروا منك الخير ولا يروا منك الشر ، وأن يروا منك الإحسان ولا يروا منك الإساءة تأليفا لقلوبهم ، وهذا هو هدي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- حينما كان اليهود بالمدينة ، بل وصل به الأمر كما في الحديث الصحيحين وغيرهما في قصة المرأة أنه كان إذا دعاه اليهودي إلى الطعام أجاب دعوته تأليفا لهم للإسلام ، وقصة موته بالشاة المسمومة معروفة كما في الصحيح ، وفي حديث أحمد في مسنده أن يهوديا أضاف النبي –- صلى الله عليه وسلم -- على خبز وإهالة سنخة فكان - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن يظهر الإسلام لهم بالمظهر الذي يؤثر فيهم ، تحرص على أن لا تكذب وأن لا تخلف الوعد وأن لا تتعامل بالأعمال المشينة التي تنسب للإسلام ، لأن هذا الرجل سيقول عاملت المسلمين وفيهم وفيهم ، ومن هنا البعض لا ينتبه لهذه القضية ، فمما يعينك على حسن العمل أن تكون كأحسن ما يكون المسلم مع غير المسلم ، إذا فعلت ذلك واخترت الأوقات المناسبة لتذكيره بالإسلام وهدايته فلعل الله أن يأخذ بحجزهم عن النار بسببك وهو جارك وله حق عليك ، والجار إذا كان كافرا له حق واحد وهو حق الجيرة ، فمن حقوقه عليك أن تدعوه للإسلام، وأن تحرص على هدايته ودعوته بالفعل قبل القول . أسأل الله أن ييسّر لك ذلك ولإخوانك المسلمين . والله –تعالى- أعلم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
ومن اقترض شيئا فعليه رد مثله
قال المصنف –رحمه الله- : [ ومن اقترض شيئا فعليه رد مثله ] :
الشرح :(5/494)
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فقد صدر المصنف –رحمه الله- أحكام القرض بحديث أبي رافع عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في استقراضه للبَكْر ورده للخيار الرباعي ، فبعد أن بيّن رحمه الله هدي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في اقتراضه ورده للقرض بأحسن منه شرع في بيان الأحكام والمسائل التي تتعلق بالقرض .
فالأصل أن المقترض إذا اقترض شيئا أن يرد مثل ذلك الشيء الذي اقترضه ، وذلك لأنه هو العدل الذي أمر الله به ورسوله –عليه الصلاة والسلام- أن من اقترض شيئا ردّ مثله ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا الأصل بقوله سبحانه : { فإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } فالأصل أن صاحب الدَّين إذا أخذ أكثر من دينه وهي الفائدة الربوية فقد ظلم المديون ، وكذلك إذا أخذ أقل من الدَّين فإنه في هذه الحالة يكون صاحب الدَّين مظلوما ، فلو أن شخصا أخذ من شخص ألف ريال مثلا ، ثم رد هذه الألف بسبعمائة كان ظالما لصاحب الدَّين في الثلاثمائة الباقية ، وهكذا لو أنه أخذ ألفاً فطالبه صاحب الدَّين أن يردها ألفاً ومائة فقد ظُلم بدفع المائة الزائدة على الدين ، ولهذا أمر الله –- سبحانه وتعالى -- بالقِسْط والعدل فقال : { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون } .(5/495)
وعلى هذا أجمع العلماء –رحمهم الله- على أن الأصل في الدَّين أن لا يزاد عليه، وأن لا ينقص منه ، إلا أن هدي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وسنته ثبت بمشروعية الزيادة؛ وذلك كما في حديث أبي رافع –- رضي الله عنه -- المتقدم، وهي سنة فعلية وقولية ، ثم إن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- حينما سنَّ الزيادة سنَّها بدون شرط ولا إلزام كما بيّنّاه وفصلناه في المجلس الماضي ، والنقص من الدَّين فيه إجحاف وظلم لأصحاب الحقوق ، ولذلك اُستثنيت الزيادة لأنها مقام إحسان وفضل إذا لم تكن مشارطة وإلزاما .
وأما النقص فقد أجمع العلماء –رحمهم الله- على حرمته ، وأن الشخص إذا استدان المائة فأنقص منها ولو شيئا قليلا فقد ظلم صاحب الدَّين ، إلا إذا أحلّ له أو أذن له صاحب الدَّين أَخْذ ما نقص ، ولهذا صور، منها : أن يأتي شخص إلى شخص ويقول له : أعطني ألف ريال مثلا إني بحاجة أو عندي ظروف وأريد منك ألف ريال ، فيقول له : خذ هذه ألف ريال وقد سامحتك في نصفها ورد نصفها، فحينئذ القرض متعلق بالخمسمائة المأخوذة ، وأما الخمسمائة الثانية فإنها هبة .(5/496)
والحالة الثانية : أن يسامحه عند الوفاء والسداد، مثل: أن يأتي الأجل فيقول له : أعطني الدَّين فيقول : ليس عندي ألف أو هذه سبعمائة ولا أستطيع الباقي أمهلني وأنظرني أو سامحني ، فيقول : قد سامحتك، فإذا حلّ له أو أباح له أن يأخذ ما عجز عن سداده فإنه يجوز ، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- من حديث جابر بن عبدالله -رضي الله عنهما- أنه لما استُشهد أبوه يوم أحد كان على أبيه دين لرجل يهودي ثلاثون صاعا، فجاء اليهودي إلى جابر وسأله حقه وآذاه وضيّق عليه ، وكانت لجابر يملك أبوه مزرعة فلما سأله حقه، طلب جابر من اليهودي أن يأخذ ثمرة النخل وأن يحلل أباه كما في صحيح البخاري : (( وسألته أن يحلله )) فأبى وامتنع اليهودي ، وفي بعض الروايات أن جابرا –- رضي الله عنه -- سأل النبي –- صلى الله عليه وسلم --فسأل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- اليهودي أن يأخذ غلة البستان وثمرة البستان في مقابل الدَّين وكانت أنقص من الدَّين ، في ظاهرها فأبى اليهودي إلا أن يأخذ حقه كاملا ، فما كان من النبي –- صلى الله عليه وسلم -- إلا أن قال لجابر : سآتيك غدا ، فانطلق رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- إلى مزرعة جابر ومشى فيها ثم قال له : اقضه، فجد جابر –- رضي الله عنه -- النخل، وقضى دين اليهودي وزاد أكثر من نصف الثمرة ، فجاء إلى سبعة عشر وسقا كما في رواية البخاري، فأصبحت سبعة وأربعين وسقا واليهودي له منها ثلاثون وسقا، فأعطاه دينه وزاد فوق النصف لجابر من معجزاته –عليه الصلاة والسلام- ، فانطلق جابر –- رضي الله عنه -- فرحا إلى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وأخبره فقال عليه الصلاة والسلام : أخبر بذلك ابن الخطاب والسبب في هذا أن عمر –- رضي الله عنه -- لما مشى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في المزرعة قال : ليباركَنّ فيها ، فأراد النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن يخبره جابر حتى يصدق قوله(5/497)
وقد بارك الله له في ثمرته فسدّد الدين .
فوجه الدلالة من هذا الحديث : أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- سأل صاحب الدين أن يأخذ أقل من دَينه وأن يحلّل الميت وهو والد جابر –- رضي الله عنه -- عبدالله بن حرام ، فدل على أنه يجوز للمديون ومن عليه دين أن يسدد بعض الدين وأن يعرض على صاحب الدين أن يسامحه في الباقي ، ولا بأس بذلك ولا حرج إلا إذا كان قادرا على السداد ويريد أن ينقص له من الدين وهذا من الإضرار ، فإن الإنسان إذا كان قادرا على السداد وماطل فقد ظلم ، فكيف إذا ضيّق على الناس وأجحفهم ، ومما ينبّه عليه في هذا المقام أن أصحاب الحقوق يُظلمون كثيرا ممن عليه الحق ، فتجد من عليه الحق يُدخل الشفعاء والوسطاء حتى يحرج أصحاب الديون لكي يخففوا عنهم من الدين ، والمنبغي أن تكون المسامحة بطيب نفس وبرضى الخاطر ، والإضرار بأصحاب الحقوق وإحراجهم بالشفاعات وبالوسطاء مخالف لشرع الله؛ لما فيه من الأذية والإضرار ، فإن الإنسان إذا كان له حق وسأل حقه لم يظلم مَن عليه الحق ، وعلى الذي عليه الحق أن يؤدي كما أمر الله –- عز وجل -- والذي عليه الدَّين أن يؤدي دَينه وأن يتقي الله –- عز وجل -- ، وقد بينا دعاء النبي –- صلى الله عليه وسلم -- كما في الحديث الصحيح أو خبره حينما أخبر أن الله يرحم من يحسن القضاء ، فمما انتشر خاصة في الأزمنة المتأخرة من مضايقة أصحاب الحقوق، بل وصل ببعض أصحاب الديون أنه قادر على السداد، ولكن حينما يعلم أن صاحب الدين غنيٌ أو عنده مال كثير يماطل ويتأخر ويقول : وماذا على فلان فإنه أغنى مني وعنده الملايين، فهذا ليس من حقه ، وصاحب الحق أحق بحقه سواء كان غنيا أو فقيرا ، فعليه أن يؤدي الحقوق إلى أهلها، وإلا انتقم الله منه في الدنيا أو جمع له بين نقمة الدنيا والآخرة –والعياذ بالله- ، فكونه يتأخر مع علمه بأن صاحب الدين عنده أموال كثيرة أو بعضهم يقول : آخذ الدين من فلان ، ثم أحرجه بالوسطاء(5/498)
والشفعاء وهو غني لا يحرجه ولا يضيره أن يسامحني ، كل هذا مما لا خير فيه، وعواقبه وخيمة ، وقد بينّا قول النبي –- صلى الله عليه وسلم -- : (( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله )) .
كذلك من الأخطاء الشائعة والمظالم التي يُظلم بها أصحاب الحقوق أن الرجل يأخذ الدين من الرجل الغني ثم يماطل وهو قادر على السداد ويقول : فلان أغنى مني، ثم ينتقل في المجالس، فيتكلم في صاحب الحق، ويقول : إن صاحب الحق اشتكاني، وإن صاحب الحق فعل بي وفعل بي ، فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال: (( إن لصاحب الحق مقالا )) فأعطى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أصحاب الحقوق الحق في أن يتكلموا وأن يطالبوا بحقوقهم ، فليس من العيب ولا من الغضاضة أن ينطلق الإنسان لأخذ حقه إذا عجز عن أخذه من الشخص، فيشتكيه لمن يأخذ حقه منه، فهذا ليس بعيب عليه إلا في الظروف التي يكون فيها المديون عاجزا فعلا عن السداد أو معسرا أو ضيّق الحال ، إنما نتكلم عن أولئك الذين لا يتقون الله –- عز وجل -- ويكون عندهم القدرة على السداد ، ولكنهم ينظرون إلى غنى صاحب الدين .(5/499)
كذلك أيضا من المصائب العظيمة أن البعض يتساهل في الأموال العامة خاصة إذا كانت من أموال بيت المسلمين، فيستدين من بيت مال المسلمين من بنك للدين أو للعقار ثم يقول : هذا من بيت مال المسلمين وهو قادر على السداد فيماطل ويتأخر وهو لا يعلم أنه بهذا يضيّق على إخوانه المسلمين، وأنه لا يؤذي واحدا وإنما يؤذي الأمة ، وعلى كل مسلم أن يعلم أن الله فرض على كل من عليه الحق أن يؤدي الحق ، وأن يكون منصفا للناس من نفسه ، وأن لا يؤذي أصحاب الحقوق بالتأخر والمماطلة مع القدرة على السداد ، وكذلك أيضا على صاحب الدَّين أن يتقي الله في المديون، فإن الله –- سبحانه وتعالى -- عطف القلوب على الضعفاء وعطف قلوب الرحماء على إخوانهم المسلمين؛ فقال - سبحانه وتعالى - : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } فقد يكون الشخص مديوناً وهو عاجز عن سداد الدين لفقره وضيق يده ، وقد تكون الظروف مساعدة له -بإذن الله- في وقت ثم تنكسر تجارته أو تتغير أحواله، فيضعف عن سداد الحقوق، فيؤذيه صاحب الحق، ويتخذ من كونه مطالبا له بالحق وسيلة للإضرار به، فيشهّر به في الناس، وفي المجامع، ويشتكيه مع علمه أنه ضعيف، وأنه عاجز عن السداد ، ومثل هؤلاء الأغنياء إذا اتقوا الله –- عز وجل -- في الضعفاء بارك الله لهم في أموالهم، ووسّع الله عليهم في أرزاقهم ، فالمنبغي الإحسان لمثل هؤلاء، والتوسعة عليهم؛ لأن الله –- عز وجل -- أمر بذلك ، أمر بالنظرة وهي التأخير إذا كان الذي عليه الدَّين عاجزا عن سداد الدَّين ، وينبغي للمسلم أن لا تكون الدنيا أكبر همه، ولا مبلغ علمه ولا غاية رغبته وسؤله، فيقطّع أواصر الأخوة، وبالأخص إذا كان ذا رحم أو ذا قرابة منه .
بيّن المصنف –رحمه الله- أن من أخذ قرضا رد مثله ، وهذا هو الأصل كما بيّنا بدليل الكتاب، وبفعل النبي –- صلى الله عليه وسلم - - وهديه وسنته، وإجماع المسلمين .(5/500)
وهنا مسألة وهي : لو أن صاحب الحق كان له على شخص عشرة آلاف ريال مثلا ، فقال له : هذه العشرة آلاف ريال دين إلى نهاية هذه السنة ، فأخذها المَدين ثم طرأت ظروف على صاحب الدَّين ، فجاء للمدين في منتصف العام أو قبل الأجل، وقال له : إن أعطيتني ثمانية آلاف الآن سامحتك فيما بقي ، أو إن أعطيتني نصفها الآن عفوت عما بقي ، فهل يجوز ذلك ؟ .
والجواب : نعم فإن من حق صاحب الدَّين أن يسقط الدَّين كله ، كذلك يجوز له أن يسقط بعضه ، وقد أثر عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أنه أجاز ذلك، وحكاه المصنف –رحمه الله- في كتابه المغني وغيره ، وعليه فإنه يجوز لصاحب الدَّين أن يقول للمديون : إذا دفعت نصف الدين سامحتك في الباقي ، أو إذا دفعت ثلاثة أرباع ونحو ذلك ، ولكن هذا إذا كان الإسقاط للدَّين المحض الذي لا زيادة فيه على الأجل، مثل: أن يستدين عشرة آلاف ريال فيسقط عنه بعضها ، أما إذا كان الدَّين قد زاد من أجل الأجل كأن يشتري سيارة بمائة ألف إلى نهاية السنة مقسّطة على اثني عشر شهرا ثم يقول له : إذا دفعت قبل نهاية السنة أسقطت عنك كذا، فهذا فيه شبهة الربا وهو من بيوع الذرائع الربوية ، ولا يجوز؛ لما فيه من الزيادة المركبة على الأجل ، والإسقاط لتلافي الأجل ، كما لا يجوز عكسه، وهو أن يقول له : زد في الفائدة أزدْك في الأجل ، فلا يجوز ضع وتعجل أو زد وتأجل ، وهذا مما كان يفعله أهل الجاهلية ، لكن الإسقاط إذا كان في أصل الدَّين نفسه فإنه جائز؛ وذلك لقوله -عليه الصلاة والسلام- في أموال بني النضير حينما أجلاهم عليه الصلاة والسلام قالوا : يا محمد، أموالنا عند أصحابك -يعني ديونا- فقال عليه الصلاة والسلام : (( ضعوا وتعجلوا )) وهذا يدل على جواز الإسقاط من الدين ، ومن أهل العلم من أجاز في الإسقاط بالأجل كما في صورة بيع التقسيط؛ لعموم هذا الخبر، والأول أحوط كما بيّنا .(6/1)
قال رحمه الله : [ ويجوز أن يردّ خيرا منه ] : بيّن رحمه الله أن الواجب رد مثل القرض ، والمثلية تكون بالمساواة هذا مثل هذا إذا ساواه ، في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا وفي المعدود عددا وفي الصفات ، فيرد مثله .
قال رحمه الله : [ ويجوز أن يردّ خيرا منه ] : ويجوز أن يرد في القرض خيرا منه؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فعل ذلك، وقال : (( إن خير الناس أحسنهم قضاء )) فاجتمعت السنة القولية والفعلية ، وهذا من السماحة في القضاء ؛ وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الصحيح : (( رحم الله امرءا سمحا إذا قضى سمحا إذا اقتضى )) . وبينّا كلام العلماء –رحمهم الله- والأدلة على مشروعية ذلك ، وظاهر قوله ((أحسن)) من العموم سواء كان في الأعداد أو في الصفات، وأن الحديث حكمه لا يختص بالصفة ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عمّم في القول ، فيستوي أن يزيد في العدد، مثل أن يقترض ألف ريال فيسددها له ويعطيه ألف ومائة ، وله أن يزيد في الصفة مثل ما فعل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- استسلف بَكرا فرد خيارا رباعية ، سواء كانت الزيادة التي هي هدية ومكافأة على الدَّين وشكر للمساعدة في الدَّين سواء كانت من جنس الدَّين والقرض أو كانت من غيره ، فلو أنه استدان منه نقوداً وأعطاه هدية صاعاً من تمر؛ صح ذلك وجاز؛ لعموم قوله : (( خير الناس أحسنهم قضاء )) .(6/2)
[ وأن يقترض تفاريق ويرد جملة إذا لم يكن شرط ] : وأن يقترض تفاريق ويردّ جملة ، وأيضا أن يقترض جملة ويردّ تفاريق ، الناس ينتفعون بالتفاريق إذا احتاجوا أن يشتروا ويتصرّفوا بالأموال ، ويحتاجون الجملة إذا أرادوا أن يكنزوا المال أو يحفظوه ، فالرجل الذي عنده عشرة آلاف ريال يريد أن يحفظها عنده أو في صندوقه يفضّل أن تكون العشرة جملة من فئة الخمسمئات أو من فئة المائتين لأن هذا أرفق به في الحمل، وأرفق به في المكان ، والعكس فإنه إذا أراد أن يشتري ويتصرّف بالمال ويأخذ ويعطي به؛ فإنه يحب أن يكون عنده تفاريق ، فقد يكون كما في القديم في بعض الأحيان يتعذر وجود التفاريق وبعض الأحيان يتعذّر وجود الجملة ، فإذا استدان من شخص لا يُشترط أن يكون الأمد بعيدا ، وفي بعض الأحيان يستدين منه في أول النهار ويقول : أعطيك آخر النهار ، فقال: هذه ألف ريال أعطيكها خمسمائة من فئة الخمسمائة ورقتين على أن تردّها لي من فئة المئات في آخر النهار لم يجزْ ، لأنها زيادة منفعة ، ولو كانت يسيرة ، وكان السلف –رحمهم الله- يتورّعون حتى في الشيء اليسير من المنافع ، كل هذا حذراً من الربا، وخوفاً من الوقوع فيه ، وعلى كل حال فإنه يجوز له أن يقترض تفاريق وأن يردّها جملة ، فإذا أخذ منه ألف ريال من فئة الخمسمائة، وجاء عند السداد وأعطاه ألف ريال مئات، فقال صاحب الدين : أريد أن تردّ لي خمسمائة من الورقتين لم يتعيّن عليه ذلك ولم يلزمه ، لا يلزمه أن يردّ إنما الذي يلزمه المثل، مادام أنه قد أدّاه الألف بغضّ النظر عن كونها مفرّقة أو جملة ، فالاشتراط والتعيين ليس بلازم ، إنما المراد أن يكون مِثْلا فله أن يقترض جملة وأن يردّ تفاريق ، وله إذا اقترض تفاريق أن يردّها جملة .
ثم اختلف العلماء –رحمهم الله- إذا حلّ الأجل وعندك نفس الشيء الذي استدنته، فهل يجب عليك أن تردّ عينه أو مثله ، وإذا طالب صاحب الدَّين بعين المال نفسه هل من حقّه ؟(6/3)
والصحيح أن العبرة بالمِثْل كما ذكر المصنف –رحمه الله- وأنه ملزم بردّ المثل لا بعين المال .
قال رحمه الله : [ وإن أجّله لم يتأجّل ] : وإن أجّل الدَّين لم يتأجّل ، والأصل في هذا كما ذكرنا أن الله –- عز وجل -- أمر بالوفاء بالعقود ، وإذا اتّفق معه على دين وقرض يجوز له تأجيله ، ولذلك ينتقل ما في الذّمة إلى ما في الذمة ، باستثناء النظرة .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز شرط شيء لينتفع به المقرِض ] : بعد أن بيّن رحمه الله أن الأصل أن يردّ مثل الدَّين شرع في بيان أحكام الفوائد المترتّبة على الدَّين .(6/4)
قال رحمه الله : [ ولا يجوز شرط شيء لينتفع به المقرِض إلا أن يشترط رهناً أو كفيلاً ] : [ولا يجوز]: يعني يحرم . [شرط شيء لينتفع به المقرض]: سواء اشترطه المقرض طلبا ، أو اشترطه المقترض على نفسه إغراءً للمقرض ، فيقول له : أعطني عشرة آلاف ريال قرضاً إلى نهاية السنة، وأعطيك عمارتي تسكنها شهراً ، أو أعطيك سيارتي تؤجّرها وتنتفع من غلّتها شهرا ، أي فائدة سواء كانت من الأموال العينية أو كانت من المنافع فإنها لا تجوز ، والأصل في ذلك قوله –- سبحانه وتعالى -- : { فلكم رؤوس أموالكم } فإذا اشترط فائدة ومنفعة وزيادة فقد استفضل على رأس المال الذي بيّن الله –- عز وجل -- أن صاحب الدَّين لا يملك الزيادة عليه استحقاقاً ؛ وعليه فإنه إذا اشترط عليه مالا زائدا على الدَّين أو قضاء مصلحة أو منفعة كل ذلك داخل تحت الأصل الذي أجمع عليه العلماء، وفيه حديث ضعيف، ولكن متنه صحيح، وانعقد الإجماع عليه، وهو " كل قرض جَرّ نفعا فهو ربا" ، فإذا اشترط عليه المنفعة سواء وقعت من المدين إغراء لصاحب الدين أن يديّنه أو كانت من صاحب الدَّين على المدِين فإن ذلك لا يجوز ، وبيّن الله تعالى أنه ظلم إذا اشترط ، إلا إذا اشترط ضمان دينه كأن يطلب منه رهناً أو كفيلاً غارماً فمن حقّه ، وهذا الشّرط يكون من صاحب الدَّين على المدِين ، فقال شخصٌ لآخر : عندي ظروف وأريد منك أن تقرضني مائة ألف ريال إلى نهاية العام القادم ، قال له : أعطيك مائة ألف ولكن بشرط أن تضع عندي رهناً فهذا من حقه ؛ لأن الله شرع الرهن، وسيأتي إن شاء الله بيان الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على مشروعيته ، وهذا من حقه أن يضمن حقه، ولذلك الرهن يعتبر من عقود الاستيثاق، لأن الناس يستوثقون من حقوقهم ، بحيث إذا عجز عن السداد فإن الرهن يباع ويسدد منه، ويأخذ صاحب الحقّ حقّه .(6/5)
إذاً اذا اشترط الذي عليه الدين رهنا يضمن به حقه فهذا من حقه، لم يظلم وليس فيه أي مانع شرعا، وهو يحقّق مقصود الشرع من وصول الحق إلى صاحبه ؛ لأن الرهن يتوصّل به إلى إعطاء صاحب الحق حقه ، وهذا مقصود شرعا ، كذلك لو قال له : أعطني مائة ألف عندي ظروف وأريد منك مائة ألف دَيناً قال له : أعطني رهنا سيارتك أو مزرعتك أو عمارتك ، قال : لا أستطيع أن أرهنك لا سيارتي ولا مزرعتي، ولكن أعطيك كفيلاً غارماً يكفلني ويغرم ، قال : لك ذلك، فيأتي بشخص فتُضم ذمة الكفيل للمكفول في سداد الحق ، وهذا الكفيل يُتوصّل به إلى وصول الحق للدائن فهذا لا بأس به ، فإذا اشترط رهناً أو كفيلاً غارماً فإنه في هذه الحالة يجوز له ذلك ولا بأس ولا حرج .(6/6)
قال رحمه الله : [ ولا يقبل هدية المقترِض إلا أن يكون بينهما عادةٌ بها قبل القرض ] : ولا يجوز لصاحب الدَّين أن يقبل ممن عليه الدَّين هدية سواء كانت قليلة أو كثيرة من جنس المال أو غيره ، إلا أن يكون بينهما عادة ، فلو أن شخصاً استدان من شخص مائة ألف، ثم اتفقا على أن يكون السداد بعد سنة، وأثناء السنة جاء المدِين بهدية إلى صاحب الدَّين حرُم على صاحب الدين أن يأخذها ، إلا إذا احتسبها من الدَّين، فنُظر إلى قيمتها وكم ثمنها فيحتسب من الدين ، أما أن تكون هدية فلا ولا يجوز ذلك ، وهذا قول جماهير أهل العلم –رحمهم الله- والأئمة ويُتوصّل بها إلى الربا الذي حرّم الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- ، وفيه حديث ابن ماجه وتُكلّم في إسناده وهو مما ضعُف سنده وصح متنه ، كما هو معلوم عند أهل العلم –رحمهم الله- أن الحديث يصح متنه ويضعُف سنده ، ويصح سنده ويضعُف متنه ، ويصح سندا ومتنا، وقد أشار إلى ذلك أئمة الحديث وقرّره شيخ الإسلام –رحمه الله- في المجموع، حتى ذكر أن من الأحاديث ما أغنت شهرته عن البحث في إسناده ، وكذلك ذكر هذه المسألة الإمام ابن القيم –رحمه الله- في مواضع من كتبه ، فهذا مشهور عند أهل العلم –رحمهم الله- أن الهدية في الدَّين لا تجوز ، إلا إذا كان من عادته أن يعطيه الهدية ، فلو كان صديقا مع صديقه، ومن عادته أن يعطيه هدية في شهر رمضان، أو يكون بينهما الهدية في الأعياد، فشاء الله أنه استدان منه، فجرت العادة بينهما بالهدية، وجاء وقت العادة فأرسل إليه الهدية قَبِلَها؛ لأنه لا شبهة في ذلك ، وعليه استثنى العلماء –رحمهم الله- ما كان معروفا، وقد أوصى عبدالله بن سلام –رضي الله عنه وأرضاه- صاحب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- أبا بردة بن أبي موسى الأشعري –رحمه الله- حينما قدم المدينة عليه من الكوفة كما روى البخاري في صحيحه وقال له : إنك بأرض قد فشا فيها الربا، فنهاه أن يقبل الهدية من ممن عليه(6/7)
الدين ، فإذا كان لشخص على آخر دين لم يقبل هديته، وتورع السلف –رحمهم الله- وضربوا بذلك الأمثلة، حتى كان الواحد يتورّع عن أي فائدة .
ذُكر عن الإمام أبي حنيفة النعمان –عليه من الله شآبيب الرحمات والغفران والرضوان- أنه كان له حق ودين على شخص، فجاء يطلب الدَّين من الشخص، فقرع عليه الباب، وكان معه بعض أصحابه، ووافق الوقت شدة الظهيرة، وكان على الباب مظلة، فجاء أصحابه إلى الظل، وقالوا : إلى الظل يا إمام، فامتنع رحمه الله ، فلما سألوه ؟ قال : أخشى أن تكون فائدة لي عليه ولي عليه دين ، يعني ظل الرَّوْزن الذي على الباب، وتورّع عن أن يقف تحتها، وتورّع أن يقف في ظل بيت صاحب من عليه الدَّين ورعا رحمه الله برحمته الواسعة ، فهذا هو الأصل أن المسلم يمتنع من قبول الهدية ويتورع من كل ما فيه محاباة بالزيادة على دينه ، إلا إذا كان عند السداد، أو كان قبل السداد محتسبا من الدَّين، أو جرت به العادة فهذا كله مما يستثنى .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : ما حكم إذا سلّم عليّ رجل وقلت له : وعليك السلام ولم أقل: وعليكم السلام ، لأنه رجل واحد . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(6/8)
ما ورد في السؤال فالسنة أنه إذا سلم فقال : السلام عليكم ورحمة الله أن تَرُدّ عليه : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وتزيده ، لأنها هي السنة وهي المحفوظة في حديث آدم في سلامه على الملائكة، وقد قال له الله تعالى في الحديث القدسي : (( فإنها تحيّتك وتحية ولدك من بعدك )) كما في الصحيح ، وكره العلماء قول : عليك السلام؛ لأنه تحية الموتى كما جاء في بعض الآثار ، وأياً ما كان انتزع بعض العلماء هذا الأصل من قوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } وصيغة الجمع مبنية على التكريم ، وقيل على مراعاة الملائكة؛ لأن مع الشخص ملكين ، ولذلك يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ناوياً الجمع ، وعلى كل حال إذا ثبتت السنة فالمنبغي لزومها والمحافظة عليها . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : تعارف الناس أن من تزوج أو وُلِدَ له ولد أنهم يعطونه هدية وهو يردّ لهم عند حصول الموجب الذي سبق ذكره . فهل يجوز هذا . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
لا بأس بذلك ولا حرج أن المسلم إذا جاءته مناسبة أن يعطيه أخوه المسلم هدية؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( تهادوا تحابوا )) .
وجه الدلالة من هذا الحديث : أنه عام، وخاصة في المناسبات، فإنها تزيد من الأُلفة والمحبة، ولذلك لا يمُنْع من مثل هذا سواء في الزواج أو غيره ، إلا إذا كان على سَنَن المشابهة لأهل الكتاب أو غيرهم، فحينئذ يمنع منه ، أما من حيث الأصل فإذا حصل له زواج فإن الناس تعارفوا على أن يعين بعضهم بعضا على مؤونة الزواج ، سواء كان من الأقرباء أو من الجيران أو من غيرهم .
فإذا حصل عنده مناسبة الزواج أعطاه مالا ، أو أعطاه هدية لكي يستعين بها بعد الله - عز وجل - في أعباء الزواج، وهذا من مكارم الأخلاق ، ومحاسن العادات ، ولا بأس به ولا حرج والله تعالى أعلم.(6/9)
أما الرد -رد الهدية- فهو أعطاه على أنها هدية ، والهدية تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : هبة الثواب . ( الهدية بقصد الثواب ).
القسم الثاني : الهدية المطلقة .
فالهدية بقصد الثواب أن يعطي هدية يريد أحسن منها ، وهذا يفعله الفقراء والضعفاء وأيضا الشرفاء ومن عنده عزة نفس عن سؤال الناس ، إذا أصابته ضائقة لا يستطيع أن يذهب إلى أحد ويقول له: أعطني، أو ساعدني ، فيأخذ هدية متواضعة، ويعطيه إياه؛ كتنبيه له أن يردّ له بأحسن منها ، وما زال العمل على ذلك ، وهي – هذا النوع – حرّمه الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - طالباً ولم يحرّمه عليه باذلا ، فقال تعالى : { ولا تمنن تستكثر } وهو أن يعطي الهدية يريد أفضل منها ، أو أكثر منها وهي هبة الثواب.
واختلف العلماء رحمهم الله في هبة الثواب : هل يأخذ حكم البيع أو لا يأخذه ؟ فعلى القول أنه يأخذ حكم البيع يترتّب عليه مسألة الزيادة والاستفضال ، وتترتب عليه مسألة إذا وجد عيبا فيستحق الرد.
وعلى كل حال ، من حيث الأصل هذا مشروع ، وليس بممنوع، أن يعطي الهدية وترد له في المناسبة أو ترد له في مناسبة مماثلة ، أو عند الموجب . لا بأس بذلك ولا حرج . والله تعالى أعلم .
السؤال الثالث : هل يجوز لصاحب الدين أن يسدد دينه بغير العملة التي استدان بها . وجزاكم الله خيراً ؟(6/10)
الجواب : يجوز أن يسدّد الدَّين بغير العملة التي اقترض بها على سبيل المصارفة كذهب بفضة . مثل أن يستدين بالريال ويسدّد بالدولار ، فإن رصيد الريال من الفضة ورصيد الدولار من الذهب، أو يستدين بالذهب ويسدّد بالفضة كأن يستدين بالجنيهات ويسدد بالريالات، ولكن بشرط أن يكون الاتفاق على المبادلة في العملة عند السداد لا عند القرض، أو أثناء مدة القرض، فإذا أعطاه مثلا عشرة آلاف ريال ثم حضر وقت السداد ، وقال له : ما عندي عشرة آلاف ريال عندي ما يعادلها من الدولارات ألفين وكذا من الدولار . قال : قبلت؛ جاز وصح . ويشترط في صحته أن يكون القبض قبل الافتراق ، مثال ذلك : إذا قال له : سأسدد لك ألفين وسبعمائة دولار فيجب أن يعطيه الألفين وسبعمائة دولار في المجلس، وأن لا يفارقه وقد بقي شيئٌ حتى لا يقع في ربا النسيئة .(6/11)
والدليل على ذلك كما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : كنت أبيع بالدراهم وأقتضي بالدنانير، وأبيع بالدنانير وأقتضي بالدراهم ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عليه الصلاة والسلام : (( لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء )) فأجاز الصرف ، وأجاز المبادلة ، ولكن أوجب التقابض في مجلس العقد، هذه هي الصورة الجائزة ، إذا جئت عند السداد تقول له : ما عندي ريالات أعطيك جنيهات، ما عندي جنيهات أعطيك ريالات ، ما عندي دولارات أعطيك ريالات، والعكس بشرط أن لا تفترقا وبينكما شيء؛ للحديث، لكن لو قال له : الآن أعطيك ريالات على أن تعطيني في البلاد بعملة البلاد : جنيهات، أو تعطيني بالعملة الصعبة: دولارات؛ لم يجز ؛، لأنه صرف إلى أجل، ولا يجوز الصرف إلى أجل؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - -في مسألتنا : أعطاه حكم الصرف - فقال : (( لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء)) فدل على أنها آخذ حكم الصرف ، ولذلك جماهير العلماء رحمهم الله نصوا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك اتفاقا في بداية العقد ، أما إذا كان عند العقد عند السداد وعند حلول السداد فلا بأس بالشرط الذي ذكرنا .
وقد يجوز في المآل ما لا يجوز في الابتداء والحال ، ومن أمثلتها : الزيادة في القرض حينما يكافئه، تجوز عند السداد ، ولا تجوز بالشرط . فلو قال له من بداية العقد : أقرضك وتعطيني هدية صار ربا لكنه لو جاء عند السداد وأعطاه القرض وأعطاه هدية صح وجاز، فقد يجوز في المآل - ومن أمثلته هذه المسألة- ما لا يجوز في الابتداء . والله تعالى أعلم .
السؤال الرابع : ما الحكم أن يعرض صاحب المكتب العقاري بأكثر من المبلغ الذي يريده صاحب العقار، ويتفق مع صاحب العقار أن الزيادة التي على المبلغ الذي حدده هو لصاحب المكتب ، مثال : عمارة صاحبها يريد أن يبيعها بمليون وتعرض بمليون ومائة ، فتكون المائة في حصة المكتب. وجزاكم الله خيرا ً ؟(6/12)
الجواب : هذا على صور :
إما أن يحدّد الزيادة ، فيقول له : هذه العمارة أريد فيها مليوناً ، بعْها بمليون ومائة لك مائة ولي مليون، فحينئذ يكون قد وكّله بالبيع بأجرة . والأجرة معلومة ، ولا إشكال في الجواز .
الصورة الثانية : أن تكون مبهمة ومجهولة ، فيقول له : أريد مليون في عمارتي والزائد هو سعايتك وأجرتك لم يجز ؛ لأننا لم نعلم كم ستكون الزيادة، فقد يكون صاحب المكتب يظنها مائة فتصبح دون المائة فيُغْبَن والعكس إذا كان من صاحب العقار .
أيا ما كان هذه المسألة أصلا مبنية على مسألة : هل يجوز أن تكون الأجرة جزءا من عمل العامل، فمن العلماء من ضيّق في أصل المسألة وهي المسألة المشهورة بـ( قفيز الطحان) ، و(الجلد للسلاّخ) ، كانوا في القديم يقول له : اطحنْ هذا الدقيق وخذ منه قفيزا هو أجرتك، وتارة يقول له : اذبح هذه الشاة واسلخها والجلد لك . وهذه المسألة التي معنا هي مندرجة تحت هذه المسألة -تحت أصلها العام- لكنها مستثناة ؛ لأن قفيز الطحان والجلد للسلاخ فيها أكثر من وجه لمنعها ، وذلك أن الجلد للسلاخ لا يأمن أن يقطعه فيكون ناقصا وحينئذ تشترك هذه المسألة مع مسألتنا في الأصل الذي ذكرناه أنه يرجّي مائة وتصبح أقل من المائة ، ويقول له : خذ الجلد فيرجّي أن يأخذ الجلد سليما فيخرج معيباً ويخطئ أثناء السلخ، ويظن أن الجلد ثخين ثم يتبين أنه رقيق ، وقس على هذا من الغرر.
من العلماء تارة يضيق فيه إذا كان قويا، وتارة يوسع فيه ، ففي مسألتنا الأمر أوسع؛ لأن النقد أقل غررا من أن يكون جزءاً من العمل وهو نتاج العمل وليس من نفس العمل نفسه ، وعلى كل حال هذا أصل المسألة : أن من العلماء من شدد فيها، ومنهم من وسّع ، لكن الذين وسعوا قالوا بشرط أن يحدّد فيقول له : بعها بمليون ومائة المليون لي والمائة لك هذا لابأس به ولا حرج ، أما أن يقول له : بعها بمليون والزائد لك فلا يجوز؛ لأنها إجارة بالمجهول . والله –تعالى- أعلم .(6/13)
فضيلة الشيخ : يوجد بعض المبتدئين في طلب العلم من يتسرّع ويتجرأ بالفتوى فما توجيهكم لمثل هؤلاء . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا أراد الله بالعبد خيرا في علمه وتعلمه رزقه التقوى ، والتقوى نور في القلوب، يحفظ الله به جوارح العبد ، ولاشك أن العلم ابتلاء وامتحان ، فمن أوتي العلم ورزقه الله علما نافعا وأراد الله به خيرا بهذا العلم رزقه أن لا يتكلم إلا فيما يعلم ، وأن يقول الحق ولا يكتمه ، فإذا رزق هذه النعمة فقد رزق خير العلم وبركته ، ونفعه الله به ونفع به ، وإذا كان لا يزمّ نفسه بزمام التقوى في الكلام في العلم فإنه على خطر ومهلكة ، فإن العلم سلاح ذو حدّين : إما أن يعلي، وإما أن يُردي ، وإذا أردى صاحبه خسر الدنيا والآخرة ؛ ذلك هو الخسران المبين ، وإذا رفع صاحبه؛ رفعه إلى الدرجات العلا في الجنة -جعلنا الله وإياكم ممن رفعه ونفعه وبارك له في علمه وتعلمه- .(6/14)
والمنبغي للمسلم أن يعلم أنه إذا تكلم بحلال أو حرام أو تكلم في شرع الله أنه يتكلم عن الله ، ومن تكلم عن الله فقال الحق ونطق بالصدق؛ بارك الله له ، وأسعده في الدنيا والآخرة ، ومن تكلم عن الله فكذب وفجر واعتدى حدود الله؛ أهلكه الله عاجلا وآجلا ، وخاصة في أزمنة الفتن ، وخاصة في هذه الأزمنة حينما أصبح الإنسان يتكلم ولا يجد من يحاسبه على كلامه ، ويظن أن الأمر هملٌ، وحينئذ انكشفت حقائق الكثير، وانكشف من كان زيفا في علمه ، وانكشف صدق الصادقين ونفاق المنافقين وتملّق المتملقين، وانكشف الناس على حقيقتهم وبخاصة في هذا الزمان ، وهذه نعمة من الله؛ {ليهلِك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة }، ونسأل الله أن لا يجعلنا من الهالكين ، حينما تجد من السهل أن يتكلم الإنسان في الدين، كان الناس يتربّون على الدين من نعومة أظفارهم، يعرفون حلال الله وحرامه وشرعه ونظامه ، فإذا جاء أحد يتكلم قالوا له : من أين أخذت هذا الكلام ؟ من أين جئت به ؟ حتى ولو كان من طلاب العلم سألوه : على أي أصل بنيته ؟ وعلى أي أصل خرّجته ؟ فينكشف ولا يستطيع أحد أن يتكلم في العلم إلا وقد كشف أمره صادقا كان أو كاذبا ، ولكن اليوم حينما كثر الجهل في الناس ، وسهل خداع الناس أصبح العلم بالكلمات المعسولة، وبتزيين العبارات، وبتتبع الرخص : ولابأس ، ولا حرج ، والدين يسر ، وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وذهب قول الله : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } فرتعوا -والعياذ بالله- رتع أمثال هؤلاء طلاب العلم أو متعالمين رتعوا في أحكام شرعية يتكلم الإنسان في المسألة ولا يبالي أقبل فيها أو أدبر، ووالله لو عرضت على الإمام الراسخ في العلم من أئمة السلف لجثا على ركبتيه خوفا من الله أن يتكلم فيها ، وتأتي مسائل من أعظم المسائل في الربا والشبهات في أخذ أموال الناس واستثمارها، فتجد هذا يؤصل ويقعد ويذهب يمينا وشمالا ليساير الركب ، ولكي يقال فلان(6/15)
أفتى، وفلان وهو لا يدري أنه جسر إلى نار جهنم إن لم يتق الله -- عز وجل -- ، ولا يعلم كل من يتكلم في دين الله بدون علم أنه قد غشّ أمة محمد -- صلى الله عليه وسلم -- ، وأول ما غش غش نفسه، والجاهل عدو نفسه ، على كل من يتكلم في هذا الدين أن يعلم أن هذا الدين لا يؤذن لأحد أن يتكلم فيه إلا بإذن من الله -- عز وجل -- { قل آالله أذن لكم أم على الله تفترون } هل أذن الله بهذا الذي يقوله أو شيئ من عنده .
بعض طلبة العلم -أصلحهم الله- إذا جاءت المسألة وهو لا يعرفها ولم يدرسها الأصل الإباحة، والأصل براءة الذمة، فيجوز ، ولا بأس، ولا حرج ، ومنهم من يقول لا أعلم دليلا يحرم هذا -ما شاء الله-! ، منهم من يقول لا أرى بهذا بأسا !، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، لماذا لا يقول : لم أتعلم هذه المسألة ، هذه المسألة لا علم لي بها ، ما قرأتها ، كلمة يسيرة قد يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه ، إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالا يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه .
طالب العلم عليه أن يعلم أن عليه النصيحة للدين، والنصيحة للكتاب، وللسنة سنة رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- وهو المعبر عنه لله ولكتابه ولرسوله –عليه الصلاة والسلام- ولأئمة المسلمين وعامتهم .(6/16)
ومن النصيحة لعامة المسلمين أنك إذا جهلت حكما أن ترد إلى العلماء ، بل من النصيحة أن لا تتكلم في المسائل، وهناك من هو أعلم منك ، تقول: فلان أعلم مني اذهبوا فاسألوه ، قال علي –- رضي الله عنه -- : أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين ، علي –- رضي الله عنه -- أمير المؤمني،ن ورابع الخلفاء الراشدين المهديين، الذي شهد له النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله ، ومع هذا كله في علمه وقضائه وفتواه وصلاحه وورعه لما جاءه أهل الكوفة يسألونه، ماذا قال ؟ أتسألونني وفيكم صاحب السوادين والنعلين –يعني عبدالله بن مسعود- .
انظروا كيف الفضل ما قامت هذه الأمة إلا على النصيحة ، عرّف الناس بفضل أهل الفضل ، وردهم إلى ابن مسعود مع أنه بالإجماع علم علي أوسع وأكبر من علم ابن مسعود –- رضي الله عنه -- ، ولكن هكذا قام الدين، وهكذا قام السلف الصالح بالنصيحة لهذه الأمة ، كان الرجل عنده علم ويحيل إلى غيره وهو دونه، لكي يعرف الناس فضل أهل الفضل ، فما بالك إذا كان جاهلا ويزاحم العلماء ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
على طالب العلم أن يعلم أنه إذا أراد بالقول على الله بدون علم رفعة عند الناس؛ زاده الله ضعة ، وأنه إن أراد بها عزة؛ أذله الله ، وأنه إذا أراد بها كرامة؛ أهانه الله ، وأن العزة من الله ، وأن الكرامة من الله ، وأن الرفعة من الله ، فمن رفعه الله؛ فهو المرتفع ولو وضعه الناس .(6/17)
عليك أن تتعلم لا أدري ، ومن لم يعلم لا أدري أصيبت مقاتله ، فهذا الاسترسال وبخاصة من طلبة العلم ؛ لأنهم قدوة . البعض يظن أنه إذا جلس مجلسا أو مجلسين أو حمل كتابا إلى مجلس العلم أو مجلس فيه العلم أنه أصبح مؤهلاً لأَنْ يتكلم في العلم ، العلم يحتاج إلى سنوات وأعمار تقضى لضبطه ، ثم يحتاج الإنسان إلى سنوات وأعمار يتعلم فيها الورع والخوف من الله ، ثم يحتاج ويفتقر إلى قدوة صالحة تعلمه كيف يتكلم، ومتى يتكلم، وبماذا يتكلم؟ ومتى يسكت ؟ وعن أي شيء يسكت ، علم وعمل ، أما هذا الاسترسال في الفتاوى وأدهى من ذلك وأمرّ إذا كانت هذه الفتاوى اعتراضاً على أهل العلم ، وتشكيكاً في فتاويهم ، وطعناً في علمهم وانتقاصاً لما ذكروه من الحق الذي بينوه .
إن من أهل العلم من يفتي في المسألة وبين عينيه الجنة والنار، وقد أرضى الله في فتواه ، وبيّن الدليل وقد في بعض الأحيان يفتي ولا يتيسر له أن يبيّن الدليل أو لا يتيسر له أن يوضح الدليل، فيأتي من ضاق عَطَنه وساء فهمه وسقم قلبه –والعياذ بالله- لكي يرد هذا الحق، الذي أسفرت دلائل الكتاب والسنة عليه ، أولا : ليس بأهل أن ينافس العلماء، وليس بأهل أن يجادل أهل العلم فضلا عن أن يرد قولهم الذي دلت عليه الأدلة من كتاب الله وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- .(6/18)
فالإفتاء والفتوى إذا صدرت من الأهل، وأراد وجه الله فيما يقوله ويفتي به الناس بارك الله له في قوله وبارك الله له في علمه ، وأُجِر كل من يحمل أمثال هذه الفتاوى عن أهل العلم الربانيين المؤتسين بهدي الكتاب المبين وسنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، وعظم خيرها ونفعها للأمة ، والمنبغي لطالب العلم أن يحرص على مثل هذا ؛ لأن الله يأجره بنشر العلم ، وأما إذا كانت الفتوى صادرا من غير الأهل فإن هذا مما حرّم الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- ، ولكن يشترك في هذا الإثم والتحريم عدة أناس يكون لهم دور في انتشار مثل هذا الباطل ، ومعونة أمثال هؤلاء ممن ليسوا بأهل للفتوى، فأول من يأثم هذا الجاهل ولو كان يتسمّى بالعلم إذا أفتى في شيء لا يعلمه ، فإنه إذا تكلّم في مسألة لم يحسنها، وليس عنده بيّنة ودليل عليها فقد هلك وأهلك غيره ، وحينئذ يتحمّل كل ما يترتّب على هذه الفتوى الخاطئة ، كل من تكلّم في الدين بكلام غير مبنيّ على أصل وحجة وبرهان فقال في دين الله –- عز وجل -- وأخطأ في دين الله -- عز وجل -- فإنه يتحمّل جميع ما يترتّب على خطئه ، وكل طالب علم سئل عن مسألة في العقيدة أو في الفقه والأحكام في العبادات في المعاملات وأجاب وهو لا يعلم المسألة وليس بأهل أن يفتي فيها فلو نقل عنه هذا الجواب وعمل به أحد كان عليه وزره وإثمه ، ولو تعلمها أحد كان عليه وزره وإثمه ، وهكذا ولربما بقي في إثمها إلى يوم الدين ، وهذا من تبعات : لا بأس ، ولا حرج، والجرأة على الله ورسوله -عليه الصلاة والسلام- ، هذا دين ، هذا شرع لله ، له سبيل لا يمكن أن يتغير ولا أن يتبدل ولا يمكن لأحد أن يرضي الله بغير هذا السبيل { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } من اتباع الصراط المستقيم أنه إذا سئل عن مسألة وأمامه من هو أهل للعلم فقد اتبع الصراط المستقيم ؛ لأن الله قال له : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } وإن أفتى من عنده فإنه لم يتبع(6/19)
الصراط المستقيم ، وحينئذ {ليحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون }، {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا }، ( منْ ) بمعنى ( لا ) ، أي ولا أظلم ممن افترى على الله كذبا ، ولربما تجد الشخص في طاعة الله، يصوم نهاره ، ويقوم ليله ، ويحافظ على صلواته، وبكلمة واحدة في الدين والشرع لا يجوز أو يجوز يكون من الهالكين .
فعلينا أن نزمّ أنفسنا بزمام الورع والتقوى ، يتحمل المسؤولية المتكلم ، يتحمل المسؤولية السائل ، هذا التساهل في سؤال من ليس بأهل، وهذا التساهل في فتح الباب لكي يفتي كل من هبّ ودبّ فإذا جئت إلى شخص تسأله وأنت تعلم أنه ليس بأهل للفتوى فإنك تتحمّل كل ما يترتّب على سؤالك ، البعض يجلس في مناسبة على غداء أو عشاء ويرى رجلاً يعلم أنه جاهل أو يرى شخصاً أنه طويلب علم وقد يكون من جماعته أو قرابته ويريد أن يفتخر به أمام الناس : يا شيخ ما حكم كذا وكذا ! وعلم الله من قرارة قلبه أنه لا يراه أهلًا للفتوى ، ولكنها حميّة الجاهلية لا حمية الدين ، وعندها لا يملك ذلك الرجل إلا أن يفتي وأن يتكلم بدون علم لكي يتحمّل هذا المسكين التبعات، ويتحمل الأوزار بينه وبين الله -- عز وجل -- ، كل من حضر هذا المجلس وأخذ منه أن هذا يُسأل سيتحمّل مسؤوليته ، لأنه سنّ له سنة سيئة فيتحمل إثمها .
إن الأمر عظيم، والقدوة هم طلاب العلم بعد العلماء ، على طلاب العلم أن يعلموا الناس الورع بأنفسهم حينما لا يسألون ولا ينقلون فتاوى إلا من يوثق بعلمه وفتواه .(6/20)
وكذلك أيضا كما أن الفتوى عن طالب العلم تجده يفتي في دين الله بغير علم ، كذلك أيضا تجده يجرأ بمجرد أن يُنظر إليه أنه طالب علم فيجلس في مناسبة في غداء أو عشاء أو زواج لكي يقول للناس فلان اسمعوا منه، وفلان لا تسمعوا ، وفلان ضال، وفلان مهتدٍ ، وينصّب نفسه لكي يفتح أبواب الجنة بزعمه لمن شاء ، وأبواب النار لمن شاء ، فهذا من الضالين، وهذا من الناجين ، وهذا من كذا ، وهذا من كذا ، والله يقول لنبيّه : { لست عليهم بمصيطر } { ما أنت عليهم بوكيل } فما هذا التعالي ، بل لربما يقف أمام علماء راسخين لكي يشكك في علمهم ويهينهم ويذلهم، وهذه سنة الله في أوليائه ، فإن الحق دائما ممتهن ، ولذلك أنت تقرأ في القرآن ماذا قال الكافرون ؟ { قالوا للحق لما جاءهم هذا ساحر كذاب } على رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ساحر كذاب ، وهكذا تجد مرضى القلوب وضعاف النفوس من الحسدة الذين لا يعرفون من أهل العلم والفضل شيء إلا أن ينتقصوهم ويثلبوهم ويهينوهم ويركبون المزاعم أنهم ضالون وأنهم لا يعرفون الفتوى ، فلان لا يعرف من الفتوى شيئاً ، فلان لا يعرف من العقيدة شيئاً ، وهذا المسكين لا يدري أنه ستكتب شهادتهم ويُسألون ، وليُرمَيَنّ بين يدي الله حافيا عاريا لكي يُسأل كيف قيّم الناس وكيف نصّب نفسه ، ومن الذي أعطاه الولاية لكي يجعل فلاناً من أهل الفتوى وفلان ليس من أهل الفتوى .(6/21)
على الناس وعلى طلاب العلم وعلى العلماء أولا أن يتقوا الله في أمة محمد –- صلى الله عليه وسلم -- وأن ينصحوا لها ، وأن يبينوا لها دينها وشرعها بما دل عليه دليل الكتاب والسنة ، وعلى المسلم مع هذا كله أن لا يضعف ولا يجبن ولا يتألم من نفاق المنافقين وفتن المفتونين وكثرة المرجفين وكثرة من يفتي بدون علم فإن الله -- عز وجل -- مبقٍ كلمته، ومتم نوره، كره من كره ، ورضي من رضي ، وليبقين هذا الحق ما بقي المَلَوان وتتابع الزمان، بعز عزيز، وذل ذليل { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } فلا تتألم ولا تضعف، ولا تقُل إن الدين قد ذهب؛ لأنه كلمة الله ، والله –- عز وجل -- مبقٍ كلمته ، ومتم نوره ، وليأتين يوم يذهب فيه كذب الكذابين، ونفاق المنافقين ، فإن تكلم المتكلمون وأفتى المفتون فوالله ، لا يبقى إلا ما أريد به وجه الله ، ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك –- صلى الله عليه وسلم -- وعبادك الصالحين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين ، اللهم عجل للأمة بالفرَج ، اللهم عجل للأمة بالفرَج وأعذها من فتن المفتونين ومن إرجاف المرجفين ومن ضلال المضلين برحمتك يا أرحم الراحمين ، ثبتنا على الحق حتى نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين ، اللهم ارزقنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة ، اللهم ارزقنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة.
أحينا عليها وأمتنا عليها ، واحشرنا في زمرة أهلها ، غير مبدلين ولا نادمين ولا مغيرين، برحمتك يا أرحم الراحمين .
نسألك اللهم أن ندفع عنا إرجاف المرجفين، وكذب الكذابين، وغش الغشاشين ، وأن تثبتنا على الحق يا رب العالمين ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
باب أحكام الدَّين
بسم الله الرحمن الرحيم(6/22)
قال الإمام أبو محمد ابن قدامة –رحمه الله- : [ باب أحكام الدَّين ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فيقول المصنف -رحمه الله- : [ باب أحكام الدَّين ] : تقدم في الباب السابق بيان الأحكام التي تتعلق بالقرض ، وما ورد من هدي الكتاب والسنة في أحكام الدَّين ، والباب السابق يعتبر كالأصل لهذا الباب، فإذا وقع القرض وحصل الدَّين فهناك آثار تترتب على هذا القرض والدَّين ، فقد يكون الشخص الذي أخذ الدَّين معسراً أو يطرأ عليه الإعسار، وقد يحكم بفلَسه ومن ثم يُحجَر عليه في ماله وتصرفاته فيه ، ومن هنا اعتنى المصنف –رحمه الله- بذكر هذا الباب بعد باب القَرْض ، أي أنه سيبيّن جملة من الأحكام والمسائل التي تترتب على القروض، وما يطرأ ويجدّ ، وهذا لاشك أنه يُحتاج إليه في مسائل القروض .
يقول رحمه الله : [ باب أحكام الدَّين ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بما يترتب على الدَّين .(6/23)
قال رحمه الله : [ من لزمه دَين مؤجل لم يطالب به قبل أجله ] : يقول رحمه الله : [ من لزمه دين مؤجل لم يطالب به قبل أجله ] : إذا أخذ شخص من غيره المال وكان ذلك على سبيل القرض وحدد أجلا معينا ، مثل أن يقول له : أريد منك أن تقرضني مائة ألف إلى سنة ، أو مائة ألف أدفعها لك بعد سنتين، فهذا دين مؤجّل إلى أجل مسمى ، فإذا أعطاه المائة الألف واتفق معه على أن يسددها بعد سنة فإنه لا يلزمه السداد قبل انتهاء السنة ، وخلال السنة هو حر بالتصرف في هذا المال، فإذا انتهى الأجل حلّت مطالبته ، والأصل أن المسلم يفي بالعقد ، فإذا اتفق مع شخص على سنة فإننا نقول لصاحب الدَّين لا يجوز لك أن تطالبه قبل نهاية السنة ، وليس هو بملزم شرعاً أن يسدّد قبل حلول الأجل ، هذا بالنسبة للشخص المدِيْن في حقه بالدَّين المؤجل ، فإذا حل الأجل ثبت حق الدائن وصاحب الدَّين ، فحينئذ من حقه أن يطالب وأن يأمره بالسداد ويلزمه به .
قال رحمه الله : [ من لزمه دَين مؤجّل لم يطالب به قبل أجله ] : من لزمه دَين مؤجّل لم يطالب به قبل أجله إذاً ليس من حق صاحب الدين أن يقول له ادفع الدين قبل نهاية الأجل ، ولو اشتكاه ورفعه إلى القاضي لم يستطع القاضي إلزامه بالسداد حتى يحلّ الأجل ، هذا بالنسبة للأصل ، فأما إذا كان الدَّين غير مؤجّل مثل أن يقول له : أقرضني مائة ألف إلى أن يُيسّر الله لي سدادها ، أو أعطني مائة ألف حتى يتيسّر لي مالي أو أصفّي حقوقي أو نحو ذلك ، فحينئذ ننظر إلى الصّفة فإن قال : أعطني ألف ريال متى يسّر الله لي سددتك ، فحينئذ ننتظر حتى يتيسّر أمره ، فإن تيسّر له الأمر وملك ما يمكنه أن يسدد به الألف زائداً عن حاجته وفاضلا عن مؤونته ونفقته ألزم بالسداد شرعاً ، وحلّت مطالبته والقاضي يحكم عليه بلزوم السداد .(6/24)
إذًا إما أن يحدد الأجل وإما أن لا يحدد ، فإن حدّد الأجل فلا إشكال وإن جعله معلّقا على اليسر وقال له إلى أن ييسر الله لي فننظر متى ما توفّر هذا المبلغ زائدا عن حاجته الأصلية من النفقات ونحوها فحينئذ نلزمه بالسداد ، ولو تيسّر نصفه فاضلا عن حاجته مثلا هو في الشهر يحتاج إلى ألف فوجد ألفا وخمسمائة وجب عليه أن يسدد نصف المبلغ وهو الخمسمائة ، ونقول له : لو قال له أعطني ألف ريال أسددها لك إذا يسر الله لي فمكثت الألف عنده، ثم بقي على وصف الحاجة بمعنى أن ماله على قدر حاجته أو أقل حتى تيسر في شهر من الشهور أنه ملك ألفا وخمسمائة ، النفقة التي يحتاج إليها الأساسية ألف ، والخمسمائة زائدة عن مؤونته ومؤونة من تلزمه نفقته ألزم بدفع الخمسمائة حتى يتيسر مثلها أو بعضها وقس على ذلك ، إذاً إما أن يعلق بالأجل فيُلزم بالأجل، وإما أن يعلق بالصفة فيُلزم بالسداد بالصفة ، وهكذا لو قال له : إذا صفّيت حقوقي أو لي على فلان دين متى ما قبضته أو سدد لي أسدد لك فحينئذ ننتظر حتى يسدد له فلان ، فإذا حصل التسديد أُلزم بردّ الحقوق إلى أهلها .
قال رحمه الله : [ ولم يحجر عليه من أجله ] : ولم يُحجر عليه من أجل ذلك الدين ، الحجْر في لغة العرب : المنع ، يقال : حجره إذا منعه ، ومنه قوله تعالى : { ويقولون حِجرا محجورا } .(6/25)
والحَجْر في اصطلاح العلماء سيأتي إن شاء الله تعالى أن الشريعة الإسلامية منعت بعض الناس من التصرف في ماله ، ولم تمنع الناس من التصرف في أموالهم إلا لحكمة عظيمة ودفع مفسدة أعظم من بقاء المال بأيديهم ، ومن هنا صار الحجر في الشريعة محققا للأصل الشرعي من درء المفاسد وجلب المصالح ، فهناك أناس إذا وقع المال في أيديهم أضرّوا بأنفسهم وأضرّوا بغيرهم ، ثم إن هذا السفيه الذي لا يحسن التصرف في المال لو أطلقت يده يتصرف في ماله أفسد المجتمع ، وأوجد قدوة سيئة ، وهناك له أمثال، فتنتشر مثل هذه النوعيات السيئة ، فتضر بالمصالح العامة ، ومن هنا المال في يد الإنسان متى أصلح ورشد ، فإنْ جانب الصواب وسَفَه في تصرفه فأضر بنفسه أو أضر بحقوق الآخرين منعته الشريعة من التصرف في هذا المال .
هناك نوعان من الناس الذين يُحجر عليهم ، فالحجر في الأصل هو المنع في اللغة .
وأما في الاصطلاح : فهو منع نفوذ التصرف في المال ، بمعنى أنه يمنع المحجور عليه من أن يتصرف في ماله ، فلا يبيع ولا يشتري ولا يهب ولا ينفذ تصرفه في أمواله وأملاكه ، الذي يُحجر عليه ينقسم إلى قسمين :
- إما أن تمنع الشريعة الإنسان من أن يتصرف في ماله لمصلحته هو .
- وإما أن تمنعه من التصرف في ماله لمصلحة غيره .
فالذين منعتهم الشريعة من التصرف في أموالهم لمصلحة أنفسهم هم: اليتيم والمجنون والسفيه ، فهؤلاء ثلاثة أشخاص حجرت الشريعة عليهم لا يصح بيعهم ولا شراؤهم ولا إجارتهم ولا استئجارهم ونحو ذلك من التصرفات المالية .
المجنون والصغير سواء كان يتيما أو غيره لكن يعبر باليُتم على الغالب والسفيه .
فأما المجنون فلا إشكال لأنه لا يعرف المال ولا يعرف كيف يأخذ لنفسه ويعطي لغيره .
وأما الصبي فلو وضعت الشريعة المال بيده لضيّع ماله ، بل أضر بنفسه ، ومن هنا جاءت النصوص بالحجْر على اليتامى.(6/26)
وكذلك أيضا السفيه، والسفيه هو: الذي لا يحسن الأخذ لنفسه، ولا الإعطاء لغيره ، لا يحسن الأخذ لنفسه بمعنى أنه يشتري الشيء بأكثر من قيمته، فيُضحَك عليه ، فلو اشترى سيارة قيمتها عشرة آلاف ريال ، وقال له البائع : أبيعها لك بخمسة عشر ألف ريال قال قبلت فهو لا يحسن أن يأخذ المال بسبيل الرَّشد ، وكذلك أيضا لو باع شيئا يملكه فلو جاء يبيع عمارة له يمكن أن تباع بمليونين جاءه شخص وقال : أشتريها منك بمليون ونصف باعه إياها ، فهو لا يحسن الأخذ لنفسه إذا اشترى ، ولا يحسن الإعطاء لغيره إذا باع .
وقيل: السفه أصله الخِفّة في لغة العرب ، والمراد بالسفيه الذي يسرف في المباحات ، فتجده يكثر من الأسفار المباحة للنزهة، ويسافر السفرة فيخسر فيها الأموال الكثيرة في متاع نفسه وحصول شهوته .
والسفه التبذير للأموال في لذةٍ وشهوةٍ حلال
يمكنه أن يشتري سيارة بعشرة آلاف فيشتري السيارة بخمسين ألفاً ، يبذخ ، وهكذا بالنسبة لمأكله ومشربه وملبسه ومنكحه ، قد يتزوج بمائة ألف فيتزوج بمائتي ألف فهذا سفيه ، متى ما اطلع القاضي على تصرفاته حجر عليه ومنعه ، والأصل في ذلك قوله تعالى : { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } قالوا إنها تشمل السفيه الذي لا رُشد عنده في التصرف في المال، واليتيم هو القاصر الصغير من اليتامى وغيرهم، سواء كان من الذكور أو الإناث، والمجنون ، فنهانا الله أن نعطيهم أموالهم ؛ لأنهم إذا أخذوا المال أضروا بأنفسهم فيبلغ اليتيم حين يبلغ وإذا بماله قد ضاع عليه ، ويضحك الناس عليه، ويأكلون ماله، ومن هنا حجرت الشريعة على هؤلاء .(6/27)
فأما الصغير فإنه يمنع من التصرف في ماله حتى يقارب سن البلوغ، ثم يعطى اليسير من المال للتجربة، فيعلّم كيف يبيع ويشتري، حتى إذا ثبت أنه رشيد في بيعه وشرائه يقال له مثلا : خذ هذه عشرة ريالات العشرين ريالا اشتر طعاما لك، إذا ذهب لمدرسته أو نحوها أعطاه مبلغا ثم نظر كيف يتصرف في هذا المبلغ، ونحو ذلك ، فإذا بلغ الشرط الأول: أن يبلغ ، الشرط الثاني: أن يكون في بلوغه رشيدا، فإذا بلغ رشيدا دُفع إليه ماله ، والمجنون إذا زال جنونه زال حجْره ، وهكذا بالنسبة للسفيه إذا عاد إلى رشده ، وأحسن التصرف في ماله . هذا النوع الأول ممن يحجر عليه لمصلحة نفسه .
وأما النوع الثاني: فهم الذين يُحجر عليهم لمصلحة غيرهم، ومن أمثلتهم : المديون الذي ثبت فلسه ويوصف بكونه مُفْلسا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به )) فوصفه بالفَلَس والمُفلس هو الذي أصبحت ديونه تفوق رأس ماله، فإذا كانت الديون التي عليه تبلغ المليونين ورأس المال الموجود عنده مليون ونصف وسأل أصحاب الديون حقوقهم وطلبوا من القاضي أن يحجر عليه حجر عليه ، وحينئذ لا يكون الحجر إلا إذا تحقّق هذا الشرط وجود الدين الذي يغلب على رأس المال، ويطالِب أصحاب الديون بحقوقهم .
فهنا المصنف –رحمه الله- بين أنه إذا لم يحلّ الأجل ليس من حق أصحاب الديون أن يطالب القاضي أن يحجر على هذا المفلس ، فلو أن شخصاً كانت عليه ديون عشرة ملايين، والموجود عنده من الأملاك والسيولة تسعة ملايين، وخاف أصحاب الديون، فقالوا : نريد حقوقنا ونريد من القاضي أن يحجر عليه، ولهم ديون عليه تفوق رأس ماله ليس من حقهم، إذا كانت هذه الديون التي على هذا الشخص لم يحل أجلها ، إذًا يشترط حلول الأجل ، فلو كان موعدها ذوالحجة، وسألوا أن يحجر عليه في رمضان لم يكن من حقهم ذلك ، قال : ولا يُحجر عليه .(6/28)
قال رحمه الله : [ ولم يحل بتفليسه ] : ولم يحل الحكم بتفليسه بمعنى أن القاضي لا يحكم بفلَسه إذا لم يحل الأجل لأصحاب الديون، وهذا على الأصل الذي ذكرناه أن صاحب الدين لا يستحق دينه إلا إذا حل الأجل ، وإذا حلّ الأجل ثبتت المطالبة ، وشرط الحجْر أن يطالِب أصحاب الديون ، فلما كانت مطالبتهم سابقة للأجل سقطت ، وإذا سقطت؛ سقط الشرط الذي يثبت به الحجر، وهو أن يطالب أصحاب الديون بحقوقهم .
قال رحمه الله : [ ولا بموته إذا وثّقه الورثة برهن أو كفيل ] : وكذلك لا يحل الدين بموت المدِيْن لو أن شخصاً كان عليه دَين ثم أرادوا أن يحجُروا عليه وتوفي ليس من حقهم الحجْر عليه بسبب الموت مادام أن الورثة الذين انتقل الدَّين إلى ذمتهم قد وثّقوا الدين برهن أو كفيل ، فلو كان عليه الدين مثلا مائة ألف وعندهم سيارة تساوي الدَّين فأكثر فقالوا نحن سنسدّد هذا الدين ونعطيكم رهناً هذه السيارة، فإذا حلّ الأجل سددناه ، فإذا مات قبل انتهاء الأجل لم يُحكم بحلول الدين. والوجه الثاني عند العلماء : أن من مات حلت ديونه وهو أقوى وأصح ، ومن هنا كان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يسأل عن المديون من أصحاب الجنائز ولم يسأل هل حل الأجل أو لم يحل ؟ وعليه فإن من مات حلت ديونه لعموم قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( نفس المؤمن مرهونة بدينه حتى يؤدى عنه )) فيبادر بسداد الديون عن الأموات تبرئةً لذممهم ، ولاشك أن في هذا القول إعمالاً للأصل، ورفقاً بموت المسلمين وخاصة إن النص دل على أن النفس ترهن حتى قال بعض العلماء في تفسير قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( نفس المؤمن مرهونة )) أي أنها تحبس عن النعيم حتى يُسدد الدين عنه ويقوّي هذا قوله –عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح في قصة أبي قتادة –- رضي الله عنه -- لما التزم بالدَّين فقال عليه الصلاة والسلام عن الرجل أُتي بجنازة فقال : (( هل عليه دين ؟ قالوا : نعم . قال : هل ترك وفاء ؟(6/29)
قالوا : لا . قال : صلوا على صاحبكم . وقال أبو قتادة : هما علي يا رسول الله . فصلى عليه النبي -- صلى الله عليه وسلم -- )) قال - رضي الله عنه - : (( فلم يزل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يلقاني ويقول : هل أديت عنه ؟ هل أديت عنه ؟ حتى لقيني ذات يوم فقال : هل أديت عنه ؟ قلت : نعم . قال : الآن بردت جلدته )) يقول: الآن بردت جلدته قالوا وهذا يدل على أنه يُحبس عن النعيم فلم تبرد جلدته حتى سُدّد دينه ، وهذا جاء على دون استفصال من النبي –- صلى الله عليه وسلم -- هل حلّ الأجل أو لم يحلّ ، ومن هنا قالوا في الأصل من مات حلّت ديونه ولزم سدادها ، لكن بالنسبة للحَجْر عليه إذا وثّقوا هذا الدين برهن أو كفيل وخاصة على القول الذي يقول إنه لا يحل إلا بالأجل فحينئذ ليس من حق أصحاب الدَّين إلا الانتظار؛ لأن الرهن يضمن حقهم ، وهكذا الكفيل -وسيأتي إن شاء الله أحكام الكفالة- والمراد بالكفيل هنا الكفيل الغارم الذي إذا لم يسدد غرم، فتضم ذمته إلى ذمة المديون في سداد الحق عنه ، فإذا عجز الورثة أصبح مطالَباً بالسداد ، وهذا الكفيل الغارم ، والأصل فيه قوله تعالى : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } أي كفيل غارم.(6/30)
قال رحمه الله : [ وإن أراد سفرا يحل قبل مدته ] : وإن أراد المديون الذي عليه الدَّين سفرا يحل أي الدين يحل أجله قبل رجوعه ، مثلا يريد أن يسافر لمدة شهر والدَّين يحل في منتصف الشهر القادم فحينئذ سيغرّر بأصحاب الحقوق ، فإذا كان الأمر كذلك كان من حقهم أن يمنعوه من السفر ، ومن هنا يشترط إذا كان يريد السفر أو الخروج لأنه بُعده أو سفره يحملهم مشقة العناء والبحث ويغرّر بحقهم ، هذا مبنيّ على أصل في السنة أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قدّم حق الحاضر في استحقاقه على السفر حتى في الفضائل؛ ففي الحديث الصحيح عنه –عليه الصلاة والسلام- (( أن رجلاً أتاه فقال: يا رسول الله، أتيت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد ، قال : أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد )) . فهنا للوالدين حق البر ، والرجل خرج إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسافر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكي يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتشرّف بصحبته والجهاد معه بأبي وأمي صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، ومع هذا سأله عن والديه؛ لأن الله فرض عليه بعد حقه سبحانه حق والوالديه، فقال : (( أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد )). فألزمه بالرجوع إلى والديه ، وفي الحديث الآخر جاءه رجل -وحسنه غير واحد من العلماء وهو ثابت- (( قال: يا رسول الله، أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد ، قال : أحية أمك ؟ قال : نعم ، قال : الزم رجلها فإن الجنة ثَمّ )) وهذا من باب تقديم الفرض؛ لأن بر الوالدين فرض عين على الإنسان ، وسفره للنوافل وللفضائل الفرض مقدّم عليه ، ولذلك بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي أن التقرب إلى الله يكون بالفرائض قبل النوافل (( ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )) فلما كان سفر هذا الابن سيضيّع حق الوالدين الناس ما تعرف بر الوالدين عندهم أنه فقط ما يسب(6/31)
أباه ولا يسب أمه ولا يؤذي والديه هذا ما شاء الله بار ، ما يعلم أن الوالدين أحوج ما يكونان إلى قربه منه، وإحسانه إليهم، حتى إنه لو فقد الوالد والوالدة وخاصة عند الكبر رؤية ابنه يتألّم ، وقد قص الله عن نبيه يعقوب -عليه الصلاة والسلام- ما قص كل هذا عبرة للناس ، فهنا حق للوالد، فلما كان السفر يعطّل هذا الحق ويضيّع حق الوالدين بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يجب على الولد أن يرجع إلى والديه ، وجاء في الحديث الآخر : (( وتركت أبويّ يبكيان قال: ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما، وأحسن صحبتهما ولك الجنة )) دين عظيم لا يضيع الحقوق، ليس فيه عواطف، فيه حقوق واجبة تقدم ، فهذا الذي أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل عند الفقهاء والعلماء رحمهم الله في مسألة السفر مع الحقوق، بنوا عليها السفر للجهاد والغزو في سبيل الله ، وألزموا من له والدان أن لا يخرج إلا بإذن والديه؛ لأنه فرض عيني ، والفرضية ملزمة ونصوص الكتاب والسنة فيها ما فيها أي احتمال ، بخلاف الجهاد الذي حتى فرضية عينه تكون تقديرية اجتهادية ، والفرض العيني النصي ليس كالفرض العيني الاجتهادي ، ومن هنا ألزمه النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له : أريد أن أكون معك يا رسول الله أجاهد معك ، ليس هناك جهاد على وجه الأرض أفضل من الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومع ذلك يرده يقول : أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد ، كأنه يقول له : لا جهاد لك ووالداك حيان إلا أن تبرهما لعِظَم الحق ، ففرّع العلماء على هذا مسائل كثيرة ، منها مسألة السفر للحج والعمرة طبعا الوالدان يحتاجان أو لا يحتاجان ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أحي والداك ؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينّزل منزلة العموم في المقال ، ما قال : هل عندك إخوة؟ هل أحد يقوم ببر والديك ؟ هل هناك حاجة لهما ؟ أبداً (( أحي)) ؛ لأن أشجان الوالدين لا يملك(6/32)
لا الأب ولا الأم ذلك ، فنحن نوضّح الأصل الذي بُنيت عليه مسألتنا ، فلما كان حق الوالدين فرضاً لازما ألزم به النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يستفصل ، جعل الأمر راجعاً إلى وجود الوالدين : (( أحي )) مادام أنك تريد الجنة وتريد مرضات الله وهذا فرض عيني عليك لا لبس فيه وهم أقرب الناس منك وأولاهم بك قال : (( الزم رجلها فإن الجنة ثَمّ )) لعظم حق الأم ، وقدمه على صحبته عليه الصلاة والسلام ورفقته والجهاد معه عليه الصلاة والسلام وتعلم العلم منه عليه الصلاة والسلام لكي تتعلم الأمة عظيم حق الوالدين أولا ، ثم إن المنبغي للمسلم أن يبدأ بالفرض والواجب قبل النافلة والتطوع ، وأن يحتكم إلى الدِّين والشرع لا إلى الهوى والعاطفة ، فإذا كان هناك أناس لهم حقوق هذا المال الذي سيسافر به الأولى أن يسدد به حقوق الناس ، وهذا السفر يغرّر بأصحاب الحقوق ويحمّلهم مشقة البحث عنه وتحمّل عناء وجوده ، ومن هنا قرّر العلماء رحمهم الله في كثير من المسائل الأسفار عند تعيّن الحقوق الحاضرة أنه لا يجوز لصاحب الدَّين أن يسافر إذا كان أجل الدّين يحل أثناء سفره إلا بإذن صاحب الحق، فإذا قال صاحب الدين: أذنت لك لا بأس سافر فلابأس ولا حرج ، ومنها مسألة الحج والعمرة النافلة مع وجود الحق .
قال رحمه الله : [ وإن أراد سفرا يحل قبل مدته أو الغزو تطوعا فلغريمه منعه إلا أن يوثق بذلك ] : أو الغزو تطوعا : فإن صار الجهاد فرض عين ، والجهاد يصير فرض عين في ثلاثة مواضع :(6/33)
الموضع الأول : إذا استنفر إمام المسلمين ، فأمر الناس أن يخرجوا للجهاد ؛ ومنه قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما يوم الفتح : (( لا هجرة بعد الفتح -أي من مكة إلى المدينة- ولكن جهاد ونية ، وإذا استُنْفرتم فانفروا - أي من الإمام- )) وهذا بإجماع العلماء قالوا النفير للإمام لإمام المسلمين .
والأمر الثاني : أن يتقابل الزحفان، ويلتقي الصفان، فقد تعين على من حضر ولا يجوز له أن يتولى يوم الزحف أو يولهم دبره ، ويعتبر من كبائر الذنوب ، وأجمع العلماء على أن التولي يوم الزحف إذا التقى الصفان وتقابل الزحفان فيجب عليهم أن يثبت؛ قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } ففرض الله عليه المصابرة، وتجب هذه المصابرة إذا كان الجيش ضِعْف جيش المسلمين ، وكانت في أول الأمر إلى عشرة الأضعاف يصابر الواحد العشرة، فخفف الله عن المسلمين فجعل المصابرة للاثنين فمادون ، فحينئذ يتعين عليه الجهاد ولا يجوز له ، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (( اجتنبوا السبع الموبقات ، وذكر منها : التولي يوم الزحف )) فهذه يتعين فيها الجهاد .(6/34)
والحالة الثالثة : أن ينزل العدو بأرض وهو جهاد الدفع، فيجب على أهل تلك الأرض أن يدفعوه ويتعين عليهم الجهاد ، في هذه الأحوال الثلاثة يتعيّن الجهاد ويصبح لازما لأن الحالة الثانية في حكم حالة تقابل الزحفين والتقاء الصفين ، ثم يتعين عليهم على التفصيل الذي ذكرناه بضعف العدد ، فإن زاد عددهم جاز لهم أن ينحازوا إلى أقرب فئة من المسلمين ولا يُكَلّفون فوق طاقتهم ، وهذا إن شاء الله سيأتي تفصيله في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى ، فإذا كان الجهاد نافلة ولم يكن فرض عين عليه فحينئذ شُرع لصاحب الدَّين أن يمنعه ، وهذه من موانع الجهاد إذا لم يكن فرض عين ، فيمنع لحق الوالدين، ويمنع لحق الغريم، ويمنع لحق الزوج فالزوج يمنع زوجه، هذه من المسائل التي قررها أهل العلم رحمهم الله مراعاة للأصول الشرعية .
قال رحمه الله : [ إلا أن يوثق بذلك ] : إلا أن يوثق بذلك مثل ما ذكرنا ، الاستيثاق يكون بالرهن والكفالة مما يُضمن به الحق .(6/35)
قال رحمه الله : [ وإن كان الدَّين حالا على معسر وجب إنظاره ] : وإن كان الدَّين حالا على معسر لو أن شخصا له دَين على آخر، وهذا الذي عليه الدَّين مُعسر ، الإِعْسار من العُسْر ضد اليُسْر، وعَسُر الشيء إذا صعب ، والمراد هنا عُسْر خاص ، وضبط بعض العلماء المعْسِر بأن الذي يخرج منه أكثر من الذي يدخل عليه ، فالشخص المعسِر هو الذي عليه التزامات وحقوق هي أكثر من دَخْلِه ، فإذا صارت التزاماته من نفقته في نفسه ونفقة أولاده وزوجه وبيته وأسرته ومن يعول أكثر من دَخْلِه فحينئذ الذي يخرج منه لهذه الحقوق أكثر من الذي يدخل عليه ، فراتبه مثلا ألف والحقوق التي عليه ألف ومائة فهذا معسِر ، ألف وخمسمائة مُعسِر وقس على ذلك إذا كان راتبه خمسة والذي عليه من الالتزامات سبعة معسِر ، فالإعسار أن يكون الدخْل أقل من الحقوق وما يُطلب منه ، فإذا ثبت إعساره أو حلّ عليه الدين وهو معسِر فينبغي النّظرة ؛ وذلك لقوله - سبحانه وتعالى - : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } ورغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في إنظار المعسِر والتخفيف عنه، وجاء في بعض الأحاديث عِظ!م الأجر من الله - سبحانه وتعالى - للمسلم إذا كان له حق على أخيه المسلم، وحل أجل المطالبة، فوجده عاجزا عن السداد، فأسقط عنه بعض الدين، خفف عنه، أو قال له : أنظرتك إلى سنة أخرى، وأعطاهم مدة أوسع، ووسع عليه، فإن الله - عز وجل - يعظم أجره، ويجزل مثوبته، حتى ذكر بعض العلماء أن الأجر في إنظار المعسِر قد يفضل في بعض الأحيان الصدقة ، ويكون أجرها أعظم من الصدقة في بعض الأحوال وبعض الظروف وبعض الأشخاص؛ لعظم ما في هذا الأمر من تنفيس كربة المسلم، وإزالة الضرر عنه، فكيف بمن سامح وتنازل عن الحقوق، لاشك أنه أعظم، فإذا حل الأجل على معسِر وثبت أنه معسِر فإنه يُنظر ، ينظر يؤخر ، والنظرة التأخير من الانتظار ، فيعطى مدة كافية لكي يتمكن من السداد .(6/36)
إذاً أول شيء يحل الأجل وقت المطالبة .
ثانيا : أن يحل عليه معسِرا ما يستطيع أن يسدد ، وقد يكون معسِرا عند حلول الأجل موسِرا بعده مثل أن يحل عليه الأجل في منتصف الشهر وآخر الشهر سيأتيه راتب يمكنه أن يسدّد ، أو يحل عليه الأجل في وقت وعنده حقوق على الناس في موسم ينتظر أن ينتهي الموسم حتى يسددوا لخ، فهو معسِر حالا موسر مآلا ، فيعطى النظرة حتى يتمكن من السداد .
قال رحمه الله : [ فإن ادعى الإعسار حَلَف وخُلّي سبيله ] : فإن ادعى الإعسار طيب إذن الأصل أن المعسر نعطيه مهلة؛ والدليل على ذلك قوله تعالى : { وإن كان ذو عُسرة فنظرة إلى ميسرة } إذا كان هذا الحكم هو المقرر شرعاً فقد يتلاعب الناس، وكل ما جاء شخص يريد أن يأخذ حقه من مديون يقول المديون : أنا معسِر؛ والله يقول : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } فحينئذ نقول : إن الإعسار إذا ادعاه يطالب إذا كان الأصل فيه أنه غني وعنده قدرة على السداد ، رجل عنده مال ثم حلّت عليه الديون فقال : أنا معسِر نقول: لا نقبل منك هذه الدعوى لماذا ؟ لأنها خلاف الأصل والظاهر عليك ، نحن في الأصل نعرف أنك غني قادر على السداد ، فإذاً قال [حلف وخلي سبيله] ، وهذه راجع إلى يمين التهم، والحلف يكون طبعا في سياق الدعاوى في إثبات الحقوق ، ويكون ليمين التهم منها هذه المسألة ، يحلف ويخلى سبيله .(6/37)
يثبت الإعسار إما بالبينة ، مثلا : أن يكون الشخص الذي له الدَّين يعرف هذا الشخص ، فيقال له : أنت لك على فلان دين، فجاء وقال : لي على فلان دين وأريد حقي ، فجيء بالذي عليه الدين فقيل له سدد قال: ما أستطيع ؛ لماذا ؟ قال : أنا معسر ، قلنا : ما الدليل على أنك معسر. قال : صاحب الدين يقر ويعترف أني معسر، يعلم أن عندي مشكلة صارت علي وأنه انكسرت بسبب هذه المشكلة تجارتي فأصبح ما عندي قدرة لأسدد، وليس عندي قدرة لأرد المال لأهله، وصاحب الدين يقر بذلك ، سألنا صاحب الدين : هل هو معسر؟ قال : نعم أعرف أنه معسِر ، إذن ثبت بإقرار صاحب الدين أنه معسر، حينئذ لا يُحلَّف ، إقرار صاحب الدين كافٍ ، ويقول القاضي لصاحب الدين: اتق الله في أخيك ، فإنه مادام معسرا لا يحل لك أن تضيق عليه ؛ لأن الله يقول : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } أو يشهد شاهدان كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل إذا سأل الناس أن يقوم اثنان من ذوي الحجى فيشهدان أن فلانا أصابت ماله جائحة ، اثنان يشهدان بأن هذا التاجر الذي كان عنده الذهب أو كانت عنده الفضة أو كان عنده معرض سيارات أو كذا أنه احترق ماله أو جاء السّيل فأغرقه أو حصل عليه ضرر أو كسَدَ السوق فحينئذ الشاهدان يثبتان الإعسار وقس على هذا ، إذا ثبتت البينة بشهادة الشهود فإنه يحكم بإعساره ، وإذا حَلَف خُلّي سبيله ، يعني ليس من حق القاضي أن يسجنه ، وليس من حق صاحب الدين أن يسجنه ، يطالب بسجنه ، لكن لو كان قادراً على السداد وامتنع من السداد مفهوم العبارة [لم يخلُ سبيله ]، بمعنى يحق له أن يسجنه ؛ لأنه ظالم ، فيسجن حتى يسدد حقوق الناس ، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح : (( مطل الغني ظلم، يبيح لومه ، وعرضه )) (( مطل الغني )) بمعنى الغني هو الشخص الذي يقدر على السداد، أخذ ألف ريال ، وحل الأجل، وهو قادر على سداد هذه الألف ، فقيل له : يا فلان ، سدد قال(6/38)
: ما أريد أن أسدد . قيل : يا فلان ! أعط الناس حقوقهم قال : فيما بعد أعطيهم حقوقهم ، مطل يماطل ، فإذا رُفع إلى القاضي ثبت عند القاضي أنه مماطل فإنه حينئذ لا يخلّي سبيله ، إذا ثبت عند القاضي أن عنده قدرة على السداد وأنه مماطل إما أن يطلب صاحب الدين أو القاضي . بعض العلماء يرى أنه حق ولابد من طلب صاحب الدين لكن إذا رفعه إلى القاضي بعضهم يرى أن من حق القاضي مباشرة إذا ثبت ظلمه ؛ لأن القاضي منصب لردع الظالم عن ظلمه، فلا ينتظر طلب سجنه ، ومنهم من يقول لابد أن يطالب بسجن غريم .
قال رحمه الله : [ فإن ادعى الإعسار حلف وخلي سبيله إلا أن يعرف له مال قبل ذلك فلا يقبل قوله إلا ببيّنة ] : مثل ما ذكرنا يعرف أن عنده معرض سيارات ، يعرف أنه شخص عنده عمائر، أو عنده أراضي ، أو يعرف أنه شخص عنده شركة وحاله بخير وعنده مال فجاء وقال: أنا معسر ، هذا خلاف الأصل المعروف عنه ، وحينئذ لا يقبل منه إلا ببينة مثل ما ذكرنا .
وهذا الأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام : (( فيقوم اثنان من ذوي الحجى )) هذا فيمن تحل له المسألة أنه لا تحل إلا لثلاثة نفر ، وقد تقدم معنا الحديث الصحيح عن قبيصة رضي الله عنه وأرضاه ، ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل الغني الذي تصيبه جائحة بمعنى أنه يكون في حال طيب، ثم فجأة يصيبه نكسة في ماله، فيتلف ماله أو يصيبه بلاء، فيصبح فقيرا ، فحلت له المسألة ، فإذا قام أمام الناس لكي يقول لهم: إني مسكين، وأريد أن تعطوني، أو حلت لي المسألة، فإن الناس لا يصدقونه ، ومن هنا قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فيشهد اثنان )) هذه بينة (( فيشهد اثنان من ذوي الحجى )) العقل والمعرفة بالأمور أن فلانا أصابت ماله جائحة ؛ فحينئذ يقبل قوله ، فهذا أصل أن من كان عنده مال وادّعى خلاف ما يعرف عنه من الغنى أنه لا يقبل قوله إلا ببيّنة .
الأسئلة :
السؤال الأول :(6/39)
فضيلة الشيخ : هل الاتفاق الشفهي بين الطرفين قبل الافتراق يعد عقداً بين الطرفين ولا يجوز التراجع عنه . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فالأصل في العقود الشرعية أنها قائمة على الاتفاق الشفهي ، وأما كتابة العقود وتوثيقها فهذا أمر تقتضيه المصلحة ، لكنه ليس شرطا في صحة العقد ، لو أن شخصا قال لآخر : بعتك سيارتي بعشرة آلاف ريال وأراه السيارة ، قال الآخر : قبلت ، فحرام على المشتري أن ينقض هذا العقد دون رضى الطرف الثاني، ولا يحل للطرف الثاني البائع أن ينقض هذا العقد دون رضى المشتري؛ لأن الله يقول : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } والعقود جمع عقد ، والعقد هو : الإيجاب والقبول ، فإذا قال له : زوجتك بنتي قال : قبلت ، قال له : بعتك سيارتي ، قال : قبلت ، أجرتك شقتي، عمارتي، أرضي فهذا الاتفاق بين الطرفين من العاقدين الذين توفرت فيهما الشروط المعتبرة لصحة العقد يُعتَبر ملزما في العقود اللازمة، ومن هنا لا يشترط كتابة العقد ، بعض الناس يأتي ويبيع ويشتري بكلامه، ثم يرجع عن كلامه يقول : لأننا ما كتبنا هذا الشيء ، فإذا حصل الإيجاب والقبول فهو الذي عليه المعوّل ، ومن هنا يجب العمل بهذا الاتفاق الشفهي إذا توفرت فيه الشروط المعتبرة لصحة العقد بأن صدر من الأهل وكان الذي تلفظ أهل للتصرف في المال وأهل لإبرام العقد، وكان المحل الذي ورد عليه الاتفاق قابلا وتوفرت فيه الشروط المعتبرة، وكان القابل أيضا على نفس الصفات فيه أهلية للقبول، وكان العقد ملزما، وحصل شرط الإلزام مثل التفرق عن المجلس فيما يشترط فيه التفرق كالبيع والإجارة قياسا عليها ونحو ذلك ؛ إذا حصل هذا فهذا هو الذي عليه المعوّل ، بعد هذا كتابة عقد النكاح ، كتابة عقد البيع ، كتابة عقد الإجارة هذا للاستيثاق؛ صيانة للحقوق ، لأن الإنسان ضعيف ينسى، وبعضهم(6/40)
ضعيف الإيمان يجحد، فشرع الله الكتابة لكي لا يضل الإنسان وينسى، فيضيّع حقه الذي على الناس، وحق الناس عليه أيضا، فجعل الله في ذلك رحمة للعباد بمشروعية الكتابة، ومشروعية الإشهاد على العقود؛ صيانة لحقوق الناس من العبث والضياع ، لكن ليست هذه الكتابة شرطاً في الصحة ، فالأصل والأساس صدور العقد وهو الإيجاب والقبول إذا وقع على الصفة المعتبرة شرعا في أي عقد من العقود فإنه يُحكم بالعمل به مادام قد استوفى الشروط المعتبرة شرعا لصحته . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : أنا طالب في كلية القرآن في الجامعة أقرأ على بعض المشايخ بروايات مثل حفص وورش وغيرهما فهل لي أن أتوسع في ذلك أم أتّجه إلى الفقه والتفسير أقصد هل أتوسّع فيهما أكثر مما أتوسّع في القراءات . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(6/41)
الأصل عند العلماء أن من تفرّغ لعلم تعيّن عليه أن يتقن هذا العلم ، فالذين تفرّغوا لعلم الأحكام الشرعية والفقه ومسائل الفقه فإنه يتعيّن عليهم ضبطه ، والذين انحصروا في علم القراءات ينبغي لهم ضبط القراءات وإتقانه ، والذين تفرّغوا للعلوم الأخرى كل بحسبه في الأديان والفرق والعقيدة فيضبط الأديان والفرق والعقيدة؛ لأن ثغر الإسلام مرتبط به ، وكل من تخصّص في كلية شرعية فعليه أن يستشعر المسؤولية أمام الله - عز وجل - ، وأن هذا الكرسي الذي يجلس عليه قد يكون الملايين حرموه بسببه، وأنه اختير من بين الملايين لكي ترهن رقبته ويقف بين يدي الله مسئولاً عن هذا العلم الذي يتعلمه، وبالأخص يعني إذا يُسّر له ذلك كما في الجامعة الإسلامية وهي معقل من معاقل الخير والعلم نسأل الله أن يباركها وأن يبقيها وأن ينفع بها الإسلام والمسلمين، فحينما يُستقدَم الشخص من بلاد بعيدة فيا ليته يحس أنه رسول قومه، وأنه مؤتمن أمام الله - عز وجل - ومسئول عن هذه النعمة، حينما تشبّه بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشدّ رحله إلى هذا المكان الطاهر لطلب العلم، كما وقع من الصحابة رضي الله عنهم في هجرة الوفود التي وقعت بعد الفتح ، فهجرة الوفود هاجر الصحابة هجرة الحبشة، ثم هجرة من مكة إلى المدينة، ثم هجرة الوفود بعد الفتح لتعلم العلم النافع ؛ لقوله تعالى : { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } فالذي يتغرّب عن بلده لو أحس بالمسؤولية ، وأن هذه الكلية التي يدرس فيها أنه يمكن في بعض الأحيان على مستوى العالم الإسلامي يُنتظر منه أن يخرج حاملا لعلمها مشكاة هدىً ونور وصلاح وإصلاح وفلاح وتزكية وهداية للخير ، يا ليتنا نحس بهذه المسؤولية ، والله لو استشعر طالب العلم الذي ترك أهله وماله وولده وقرابته وحبه وزوجه من أجل أن يطلب العلم لأصبح غيورا على الدقيقة فضلا عن الساعة فضلا عن اليوم أن يستنفذ في غير هذا العلم الذي تغرب من أجله ،(6/42)
فالشاهد من السؤال أنه إذا تفرّغ في تخصص شرعي معين فعليه أن يضبطه ، لأنه لو كان مثلا تخصّص في علم القراءات ثم أخذ يجمع بين علم القراءات وغيره على حساب إتقان علم القراءات سيتخرج من أجل أن يعلّم علم القراءات وسيمكّن من علم القراءات ولكنه غير متمكّن ، والسبب في ذلك أنه لم يفرّغ نفسه كما ينبغي، والفرض فيه أن يفرّغ نفسه ، علم الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية يتعلم مادام أنه مسئول عن علم القراءات والقرآن وكفى بذلك شرفاً وفضلاً أن يتعلم من الفقه ما يضبط به عبادته ومعاملته، ثم يتفرّغ لضبط هذا الشيء الفرض العيني عليه ، وقد قرّر العلماء أن فروض الكفاية تنتقل فرض عين إذا تعيّنت على الإنسان بنفسه ، ولا يستصغر الإنسان ما هو فيه، فقد يدرس طالب العلم أحكام الفقه ويتقنها، ويحصل عنده شغف بأن يتعلم التفسير وعلوم القرآن ، ولكنه يتفرّغ في علم الأحكام فيفتح الله عليه في علم الأحكام فيحصّل ما لم يحصله في غيره ، والعكس فقد يتفرّغ لعلم القراءات، فيأتي زمان ينحصر فيه علم القراءات، ويعظم نفعه أكثر مما لو تفرّغ لعلم الأحكام في العبادات والمعاملات ، إذاً عليه أن يحس بالواجب والمسؤولية عليه وأن يبتدئ بما هو آكد ، وهنا ننبه على قضايا منها حتى في غير العلوم الشرعية، قد يكون تخصصه في طب وأنا أقول هذا مما نعرفه من أصول الشريعة ، يكون تخصصه في الطب فتجده طبيبا، ولكنه أثناء دراسته للطب يصرف وقته بدل أن يتقن الطب إلى دراسة العلوم الشرعية ، وهذا لا نشك إن شاء الله في حسن نيته ، ولكن بدل أن يخرج طبيباً نابغاً في طبه متقنا للطب يخرج دون ذلك ، وقد يخرج بطريقة لا يُبلي فيها بلاء حسناً في طبه ، نقول الشريعة لها من تفرّغ لها وقد كفاك المؤونة، وأنت تعيّن عليك الطب فيجب عليك أن تتقنه ، وليس بعيب على المسلم أن يتقن علم الطب ولا علم الهندسة ، الأمة تحتاج إلى ذلك ، حتى كان الإمام الشافعي يتحرى كما روى البيهقي عنه بسند(6/43)
صحيح يقول : كان يقول ضيّعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى، يقصد علم الطب ، وقال : لا أعلم علما بعد الحلال والحرام أنبل من الطب ، فالشريعة ما تحجر على الإنسان أنه إذا جاء في كلية في أي تخصص مادام أنه يتقي الله ، ويريد أن ينفع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يخرج للأمة بما يعينها ، ويجعلها في كفاية عن غيرها ، لكن التشتت وتشرذم الفكر فيجعل فكره تارة في هذا وتارة في هذا ، (( إن المنبت لا ظهرا أبقى ولا أرضا انقطع ))، فتجده لا هو أتقن العلم الذي تفرغ فيه ولا هو أتقن العلم الذي اشتغل به خارجا عن تخصصه .(6/44)
اجلس فيما أنت فيه ، وأتقنه حتى ترضى عن نفسك فيه، ثم تحوّل إلى غيره ، وهذا هو الذي يتعيّن على الإنسان الأخذ به أنه يتقن العلوم التي نُصّب لها وتعين عليه ضبطها ، وأسأل الله - عز وجل - لك التوفيق والرشد أنت وإخوانك وجميع المسلمين ، ولاشك أنها نعمة من الله - عز وجل - أنعم الله بها عليك أن تدرس هذا العلم العظيم وهو علم القرآن ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )) فاحمد الله - عز وجل - أن شرّفك وفضّلك ، فكم من أناس شدوا الرحال لطلب الدنيا، وأنت تطلب أشرف شيء وأعظم شيء ، تطلب الذي أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } { يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } فشهد الله أن الذي أعطاك خير كثير، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح :(( من أعطي القرآن فظن غيره أعطي خيرا منه فقد ازدرى نعمة الله عليه )) فهذه نعمة عظيمة لا تستهن بما أنت فيه ، ومتع ناظريك وسمعك بسماع آيات الله، وأحب علماءك ومشائخك من الأحياء ومن الماضين من سلف الأمة، واعتقد فضلهم وحبهم، وترحم عليهم وادع لأمواتهم ، وأحسن الأدب مع أحيائهم، ترزق وتُعَن ، وييسر لك أمر الدين والدنيا والآخرة .(6/45)
فأهل القرآن شأنهم عظيم ، وبالمناسبة أوصيك أن تأخذ الحذر كل الحذر، فإن أهل القرآن لهم حرمة عظيمة ، فأنت تتعامل مع أناس رفع الله قدرهم بكتابه، وشرّفهم بكلامه - سبحانه وتعالى - ، فهذه النعمة العظيمة التي جعلها الله في صدور هؤلاء العلماء من علماء القراءات جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين وعنا خير الجزاء ، لاشك أن شرف عظيم لك أن تجلس بين أيديهم، فتعتقد حبهم، وفضلهم وتشيد بهم، وتعظم منزلتهم في الحدود الشرعية؛ لأن هذا من شعائر الله { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } وهو سلاح ذو حدين ، فهم إما نعمة، وإما نقمة ، فمن أحبهم، واعتقد فضلهم، وأحسن إليهم، وأكرمهم وأجلهم ؛ أكرمه الله في الدنيا والآخرة ، ومن أهانهم وأذلهم وانتقصهم وضيّق عليهم حتى أثناء محاضراتهم في الدروس في الكلية لو ضيّق عليهم وشوش عليهم ، لو آذاهم، لو أحرجهم؛ فإنه على خطر عظيم ، وإنْ تتبع العثرات وتكلم بالسيئات وهتك العورات فإن الله له بالرصد ، فعادة الله فيمن انتقص أهل كتابه معلومة ، ولحوم أوليائه –سبحانه- مسمومة ، فعليك أن تتقي الله - عز وجل - وأن تلتزم بالأدب ، وأن تعلم أن هؤلاء الصفوة الذين يعلمونك القرآن هم الذين حملوا هذا القرآن، وقد زكاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله )) فاعتقد فضلهم وحبهم والنصيحة لهم بنشر علمهم .
وأسأل الله بعزته وجلاله أن يعينك وأن يعين إخوانك من طلبة العلم على ذلك . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : من يتوب إلى الله من ذنب ثم يرجع إليه ثم يتوب، وهكذا ، هل يعتبر هذا العمل من النفاق أفيدونا أفادكم الله ؟
الجواب :
هذا فيه تفصيل :(6/46)
إذا كان الذي يفعل الذنب بعد فعله للذنب تحصل له توبة صادقة بمعنى أنه يندم على ما حصل منه، ويعقد العزم على أن لا يعود، ويستغفر ربه ويتوب إليه؛ فإنه لو فعل مليون مرة، فإنه تواب، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، فإذا كنت صادقا في التوبة فهذا هو المقصود .
كل من تاب بعد الذنب توبة توفّرت شرائطها فإن الله يتوب عليه ، ولو كان قد تكرر منه ذلك مرات، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في الحديث الصحيح : (( أذنب عبد ذنبا فقال: رب اغفر لي . فقال الله : علم عبدي أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، قد غفرت لعبدي ، ثم أذنب ثانية فقال: رب اغفر لي ، فقال: الله علم عبدي أن له ربّا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب قد غفرت لعبدي ، ثم أذنب ثالثة فقال: رب اغفر لي فقال الله : يا ملائكتي علم عبدي أن له ربا يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب قد غفرت لعبدي وليفعل ما شاء )) أي مادام المراد بهذا قاعدة التوبة ، المهم في الفرق بين النفاق وبين التوبة والإنابة والرجوع إلى الله أن تتحقق شروط التوبة ، فمسألة كونه تكرر منه ذلك سابقا أو لم يتكرر لا عبرة بها ، العبرة في حاله حينما تاب، هل كان صادقا في توبته ، هل فعلا كره هذا الذنب ومقته وكره الرجوع إليه، وتمنى أن يكون آخر عهده بالذنب، فقال : رب اغفر لي بعده صادقا منيبا إلى ربه؛ فإن الله وعده بالتوبة ولو كانت هذا مليون مرة ، المهم أن يتوب ، يظن البعض أن هذا إعانة على الفساد ، الجواب : لا ؛ لأنه إذا حصلت منه التوبة متحققة شروطها وتاب الله عليه؛ فإنه بعد ذلك إذا عرض عليه الذنب ثانية وانكسرت نفسه وضعفت نفسه، ثم ابتلي به فرجع تائبا، قضى على عدوه إبليس ؛ لأن إبليس لا يحنق شيء مثل أن يعود العبد إلى ربه خاصة إذا تكرر منه الذنب ، يُغَاظ عدو الله غيظا شديدا، ولذلك بمجرد أن يتكرر الذنب من العبد أكثر من مرة يأتيه ويقول له : أنت منافق ، لا ترجع ، لا تتوب ، بعض الأحيان يقول له(6/47)
إما أن تصير صالحا أو طالحا ، فإذاً اترك الخير واترك الهداية أنت لا تصلح لها ، لو تصلح لها ما وقعت في الذنب ، ثم يحطّمه { الشيطان يعدكم الفقر } يريد الفحشاء ويريد المنكر ويريد الإغراء فيها ويريد الإبعاد إبعاد العبد عن ربه، فإذا أبى هذا العبد وقال: أبدا سيغفر الله لي من واسع رحمته وفضله ولو أذنبت مليون مرة لا أقنط من رحمة الله ، ولا أيأس من روح الله، وعندها تاب توبة صادقة ونادمة ويتمنى أنه لن يعود بعدها إلى الذنب، فقد صدق مع الله في توبته ، بغض النظر عن كون ذلك مرات أو كرات أو لأول مرة ، المهم أن تتحقق التوبة بشروطها، فإذا تحققت تاب الله عليه . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : هل للاحتفال بالمولد النبوي أصل . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له دليل يدل على مشروعيته؛ ولذلك لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبوبكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم، ولم يقع في القرون المفضلة كلها ، وهذا بتحرير أهل العلم أنه لم يقع مولداً في القرون المفضلة كلها ، وأما ادعاء أن له أصلاً وأنه مشروع ، وبعضهم يقول: أن الله تعالى يقول : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون } يقول : الله أمرنا أن نفرح ، نقول بكل وضوح هذه الآية الكريمة إذا كانت تدل على المولد، فأحد أمرين : النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله وأبوبكر وعمر وعثمان والخلفاء الراشدون والأئمة المهديون كلهم قرأوا الآية ولم يروا فيها دلالةً على المولد ، فأحد أمرين :(6/48)
إما أنهم –حاشا- لا يحسنون الاستنباط من كتاب الله وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جاء من يقول بمشروعية المولد يقول إن الآية فيها دليل على مشروعية المولد ، وإما أنهم لم يروا في الآية دليلا على ما ذُكر، فيسعنا ما وسعهم ، هذا رسول الأمة - صلى الله عليه وسلم - حينما سأل عن صيام يوم الاثنين، قال : ذاك يوم ولدت فيه، وأحب أن أصومه، فشكر الله - عز وجل - على هذه النعمة، فلم يخصص يوماً لمولده ، وإنما جعلها في نفسه نعمة في كل أسبوع وهو يصوم يوم الاثنين؛ شكراً لله - عز وجل - ولم ينحصر في يوم الثاني عشر أو غيره صلوات الله وسلامه عليه ، ثم جاء من بعده أصحابه رضي الله عنهم والتزموا بهذه السنة ، هذا الذي يسعنا من شكر الله - عز وجل - على هذه النعمة المهداة والرحمة المسداة بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه ، هذا دين وهذا شرع { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } شهد الله أنه كمل لعباده الدين فإذا وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل مولداً فعلناه، ما وجدناه يخصص يوم الثاني عشر لا نخصص، ويغلو البعض حتى إنه يرى أن من لا يرى المولد ما يحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا ليس بصحيح ، هناك علماء جهابذة راسخون في العلم بينوا أن هذا بدعة وليس له دليل يدل عليه، لا يعقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين والأئمة في القرون المفضلة كلها لا يفعلونه ، ما فعل إلا بعد القرون المفضلة بأكثر من قرنين أو ثلاثة ، فهل نترك هذا كله، ونأخذ بما جد! ، ما يمكن أن الأمة ضالة طيلة هذه الفترة عن حق النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نأتي نحن نزعم أننا سنؤدي حق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمولد ، ثم من لا يفعل المولد يُنكر عليه ، ومن أنكر المولد ينكر عليه، لا ينبغي هذا ولا يجوز ، هذا دين وهذا شرع ينبغي تبصير الأمة بما شرع لها وما دلت عليه الأدلة على مشروعيته، وما(6/49)
دلت الأدلة على شرعه، وهذا كله مقرون بالنص ما هو مقرون بالمحاباة ولا بالعادات ولا بالتقاليد ولا بالأهواء ، دين تام { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم } .
إذن يسعنا ما وسع هؤلاء العلماء والأئمة ، أقول لكل من يفعل يسأل نفسه ، هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرون كلها إما أنهم علموا المولد وتركوه ، وإما أنهم جهلوه –حاشا- ، فليسأل نفسه وليجب ولا أريد أكثر من هذا ، كفى بهذا عبرة وعظة لكي يلتزم الإنسان الحق ولا مانع أن تقرأ سيرة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وأن تقرأ أخباره، وأن تعلم من هديه –عليه الصلاة والسلام- وسنته، لكن لا تخصص شيئا معينا تعتقد فيه الفضل .(6/50)
النقطة الثانية : أنه ينبغي على كل من عنده حق ويريد أن ينصح من يراه يفعل المولد أن يأخذ بالسنة في إرشاد الناس، وأن لا يبالغ في الإنكار إلى درجة يعني أذية الناس وتنفيرهم من الحق ، كما أن المولد بدعة، أذية الناس وتنفيرهم بدعة وضلال ، لأن هذا ينفّر من الحق ويصد عن سبيل الله ، والنبي –- صلى الله عليه وسلم -- في عصر الصحابة يقول : (( إن منكم منفرين )) فإقامة الدنيا وإقعادها وتضليل الناس وجعل كل من يفعل المولد على أنه في وتيرة واحدة يصنع الشركيات والبدعيات والخرافات لا ينبغي، علينا أن نتقي الله -- عز وجل -- ، وأن نميز الأمور وأن نوضحها للأمة ، لأن هذه أمانة ومسؤولية، وأن نبين الخلل، كل شيء فيه خلل نقول: هذا لا يرضي الله لا يرضي الله، إذا كان لا يرضي الله لا يرضيه ، لكن أن نخلط الأمور ببعضها ونعمم ، لأنك لو جئت لبعضهم يقول لك: المولد فيه شركيات سيأتي من يقول: عندي مولد لا شركية فيه إذاً يجوز ، إذا لا ينبغي تعميم الأحكام، وهضم الناس في حقوقهم، وإخراجهم من الدين والملة بدون بينة وبصيرة ، علينا أن نتقي الله –- عز وجل -- ، وأن نعلم أن هذا دين وشرع، كما أنه لا يجوز الحدث فيه ، علينا أن نبذل كل الأسباب لقبول الحق والسنة ، وأن نحبّب الناس إلى هذه السنة ، وأن يكون أسلوبنا أسلوبا مؤثرا ؛ استجابة لأمر الله { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا }، وأن نترفّق بأمة محمد –- صلى الله عليه وسلم -- الرفق الذي يقوم على الإنصاف، وعلى محبة الخير للناس ، هذا أمر يكثر الوقوع فيه خاصة عند المسائل الخلافية ، فعلى المسلم أن يبحث عن شيء وهو مرضاة الله ، وأن يعلم أن هذا الدين لله وأن الكلمة لله، وعلينا أن نتواصى بالحق، وبما يرضي الله –- عز وجل -- ، نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يرشدنا إلى الحق والصراط المبين ، اللهم ارزقنا التمسك بالسنة عند فساد الأمة ، اللهم ثبتنا عليها وأمتنا(6/51)
عليها ، واحشرنا في زمرة أهلها ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
فإن كان موسرا لزمه وفاؤه
قال المصنف –رحمه الله- : [ فإن كان موسرا لزمه وفاؤه ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فقد بين المصنف –رحمه الله- أن الذي عليه الدَّين إذا كان موسرا أي عنده قدرة على السداد لزمه الوفاء ، أي يجب عليه أن يوفّي لصاحب الدين حقه ، وهذا هو الأصل أن المديون إذا كان قادرا على السداد وجب عليه أن يردّ الحقوق إلى أهلها ، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( مطل الغني ظلم، يبيح لومه وعرضه )) وفي هذا الحديث دليل على مسائل :
المسألة الأولى : أن قوله : (( مطل الغني )) المراد بالغني القادر على السداد، ولو لم يكن غنيا في حقيقة أمره ، مثل أن يأخذ شخص من شخص ألف ريال دَينا وحلّ الأجل وعنده الألف ويمكنه أن يسدد فهو غني ، ولو كان في حقيقة أمره ضعيف الحال ، فمراد النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بالغني القادر على السداد .
المسألة الثانية : أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- اعتبر تأخير السداد مع القدرة عليه ظُلماً ، وهذا معنى قوله : (( مطل )) والمماطلة : التسويف والتأخير في سداد الحقوق، والوفاء بالالتزامات ، فكل من تأخّر في الوفاء بالتزام واجب عليه وهو قادر على أن يُمْضِيه فإنه يعتبر مماطلا وظالما .
المسألة الثالثة : أن وصفه بكونه ظالما يوجب الحكم بالإثم شرعاً ، فهو آثم شرعا، فكل من حلّ عليه أجل السداد وتأخر وهو قادر على أن يسدد فإنه يأثم شرعا إلا إذا أذن له صاحب الدين أو علم رضاه بالتأخير كما يحدث بين القرابة وبين الأحبة ونحو ذلك .(6/52)
أما الأصل فإنه يجب عليه أن يسدّد ، وفي هذا دليل على أن ما يفعله البعض من التساهل في الديون والتساهل في الحقوق، فتجده قادراً على السداد وقادراً على الوفاء ومع ذلك لا يبادر ، ولربما حل الأجل فينتظر الشهر، ولربما السنة والسنتين ولا يسدد ، وطيلة هذا الوقت يعتبر آثما شرعاً ، لأنه وصفه بالظلم ، وكل من تأمّل نصوص الكتاب والسنة فإنّه يجد وصف الظّلم ممقوتاً شرعا ، وأن الله حذّر من الظلم وبّين عواقبه الوخيمة وبيّن أنه لا يحب الظالمين ، فمن طلب محبة الله لم يماطل الناس في حقوقهم ، ومن طلب محبة الله وأردت أن تراه صادقا في حبّه لله وطلبه لمحبة الله له وجدته إذا حلّ عليه الأجل بادر برد الحقوق إلى أهلها ، فالوصف بكونه ظلما يدل دلالة واضحة على حرمة هذا الفعل ، وأن صاحبه يأثم شرعا .
المسألة الرابعة : أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( مطل الغني ظلم يبيح عرضه ولومه )) فلما قال : (( يبيح عرضه )) بمعنى أن صاحب الحق من حقه أن يقول: فلان ظالم، ومن حقه أن يقول : فلان مماطل، فيتكلم فيه ؛ لأنه إذا تكلم فيه بحق فإنه معذور شرعا ؛ قال تعالى : { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } فصاحب الحق مظلوم ولو كان من أغني الناس ، ولو كان غير محتاج لهذا المال ، فمادام أن الذي عليه الحق قد أخّره وهو قادر على أن يسدّده وعنده ما يعينه على الوفاء ؛ فإنه يجوز له شرعا أن يقول : فلان ظلمني ، فلان يماطل في الحقوق ، فلان آذاني ، يبيح عِرْضه ولومه ، ولو رفع إلى القاضي من تأخر في السداد مع قدرته على السداد وثبت عند القاضي أنه فعل ذلك فمن حق القاضي أن يعزره باللوم والتوبيخ ، وإن كان رأى القاضي أن يعزّره بالعقوبة عاقبه .
فالشاهد من هذا أن الحديث بيّن أنه لا يجوز التساهل في حقوق الناس ، وأن من قدر على رد الحقوق إلى أهلها وتيسّر له ذلك فتأخّر فقد ظلم الناس، وبخسهم أشياءهم .(6/53)
وبيّن المصنف –رحمه الله- ما دلت عليه هذه السنة أن من حل عليه أجل الدين وهو قادر على السداد موسر لزمه الوفاء ، لزمه أن يفي لصاحب الحق فيؤدّي إليه حقه ، ولذلك ثبت في الحديث عن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- في قصة أبي حدرد الأسلمي –- رضي الله عنه -- مع أبيّ بن كعب –- رضي الله عنه -- لما كان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- معتكفا في المسجد، وتلاحى أبّي مع أبي حدرد الأسلمي، فصار بينهما نزاع في دين ، ففصل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بينهما وبسبب هذا التلاحي وهذه الخصومة رفعت ليلة القدر ، قال بعض العلماء : في هذا دليل على بلاء الخصومة، وأنها كانت سببا في رفع ليلة القدر ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح : (( أريت ليلتكم هذه فتلاحى رجلان فرفعت وعسى أن يكون خيراً )) وثبت في حديث المطالبة أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال حينما همّ عمر بالرجل الذي يسأل دينه من رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فقال : (( ما عهدتكم بني هاشم إلا قوما مُطْلا -غضب عمر –- رضي الله عنه -- وهمّ الصحابة بالرجل فقال : أنا وهو أولى بما هو خير من هذا ، أن تأمره بحسن الطلب، وأن تأمرني بحسن الأداء –صلوات الله وسلامه عليه- )) .
فهذه حقوق ليس فيها مجاملة، وليس فيها مماطلة ، فبيّن المصنف –رحمه الله- أنه يجب على من عليه الحق أن يؤدي الحق إذا حل أجله .(6/54)
قال رحمه الله : [ فإن أبى حبس حتى يوفّيه ] : [ فإن ] أبى وهو قادر على السداد [حبس] حبسه القاضي [حتى يوفّيه] يعني يسدد ، هذا طبعا إذا اشتكى صاحب الحق ، وهذا يحتاج حتى يحكم القاضي بسجنه يحتاج أن يُثبت صاحب الدين أن المديون عنده قدرة على السداد ، فلا يسجن إلا إذا حل أجل المطالبة هذا الشرط الأول: أن يحل أجل المطالبة ، فلو رفعه إلى القاضي قبل حلول الأجل لم يسجنه القاضي ولم يعاقبه ولو كان قادرا على السداد، مثال ذلك : لو أن شخصاً استدان من آخر مائة ألف ريال إلى رمضان، فلما جاء شعبان جاء صاحب الدين وطالب المديون. قال المديون : الأجل بيني وبينك رمضان، فاشتكى إلى القاضي لم يعاقب القاضي المديون ولو كان عنده قدرة على السداد حتى يحل الأجل ، فهذا الأجل بمثابة الشرط بين الاثنين ، لأنه التزم أن يسدد له فيلزم صاحب الدَّين أن ينتظر إلى الأجل .
إذًا أولًا أن يكون قد حل أجل الدين .
والشرط الثاني : أن يكون المديون الذي عليه الدين قادرا على السداد، عنده قدرة على أن يسدد وأن يرد الحق إلى صاحبه ، فإذا كان عاجزا عن السداد لم يسجنه القاضي ، المعسِر أمر الله بإنظاره ، فإذا طلبه قال له : إن الله يأمرك أن تترفّق بأخيك وأن تنتظر حتى الميسرة ، فإذا يسّر الله عليه فاطلبه بحقّك فإن لم يوفّك ائتني أطالبه بالسداد .
سجنه : أي إذا حل الأجل وكان قادرا على السداد ورفعه إلى القاضي جاز للقاضي أن يسجنه ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( مطل الغني ظلم )) والقضاء شرع في الإسلام لأمرين عظيمين :
أولهما : ردع الظالم عن الظلم .
والثاني : رد الحق إلى المظلوم . وهذه هي مهمة القضاء .
فإذا قام القضاء على ذلك فهو القضاء ، وعليه فإنه إذا ماطل صاحب الحق ورفع إلى القاضي كان من مهمة القاضي إلزام الظالم أن يرد الحق إلى صاحبه بالسداد والوفاء .(6/55)
قال رحمه الله : [ فإن كان ماله لا يفي بدينه كله فسأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه لزمه إجابته ] : هذه مسألة الحجْر على المفلس ، والمُفلِس هو الذي استغرقت ديونه أمواله فأصبح رأس ماله لا يفي بسداد دينه ، كأن يكون رأس ماله مليون ريال والديون التي عليه تكون مليوناً ونصفاً أو أكثر من ذلك، فإذا استغرقت ديونه ماله وزادت عليه فإنه إذا طلب الغرماء وأصحاب الديون الحجْر حُجِر عليه ، والحجر على المفلس استدل له بحديث معاذ –- رضي الله عنه -- أن غرماءه اشتكوه إلى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فحجر عليه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، وهذا الحديث تُكلم في سنده، وصحح غير واحد من العلماء إرساله ، هو ضعيف السند، ولكن متنه صحيح، وأكد هذا أيضا عمل الخلفاء الراشدين كما أثر عن عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- فقد كان رجل بالمدينة إذا قدم الحُجّاج من مكة استأجر أفضل الرواحل وانتظرهم قبل المدينة بمسافة، قيل في وادي العقيق فإذا رآهم مقبلين أسرع بدابّته وبشّر الناس بقدوم الحاج ، وكان يفرح بهذا الفعل حتى ركبته الديون، وهذا نوع من السفه والخَرَق فأصبحت ديونه عليه، فرفع أمره إلى عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- فنادى عمر –- رضي الله عنه -- في الناس وقال : إن الأسيفع قد رضي من نفسه أن يقال: سَبَق الحاج، وقد ادّان معرضا، فمن كان من غرمائه فليأتني حتى أوفّيه حقه ، فباع أمواله، وسدّد ديونه ، فهذا أصل جرى عليه العمل عند العلماء ، ومما يشهد بصحة متون المرفوع والموقوف عن عمر حديث أبي هريرة -- رضي الله عنه -- في الصحيحين عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به )).
فهذا أصل في أن المفلس يُحجر عليه من جهة المعنى ، لأنه لم يجعله أسوة الغرماء ، فدل على أن أموال المفلس تكون للغرماء في سداد ديونه ، فبيّن المصنف –رحمه الله- أن هناك شروطاً للحجر بسبب الإفلاس :(6/56)
الشرط الأول : أن يثبت فلس الإنسان، ويثبت فلسه، بأن تكون ديونه أكثر من رأس ماله ، فلو كان عنده تجارات وأموال يعمل فيها، فأصبح رأس ماله الذي عنده يساوي مائة ألف والديون أكثر من ذلك ثبت فلسه ، فكل من زادت ديونه على رأس ماله فهو مفلس .
الشرط الثاني : أن يسأل غرماؤه الحجْر عليه، فيرفعونه إلى القاضي، ويقولون: فلان لنا عليه حقوق ويثبتون حقوقهم؛ إما بإقراره ، أو بالبينة ، فإذا ثبت عند القاضي حقوقهم نظر في مال الرجل فإن ثبت فلسه قضى بالحجر عليه .إذًا يشترط الفلس.(6/57)
ويشترط أن يسأل الغرماء يعني يطلب الغرماء الحجر ، وإذا حجر عليه لم يصح تصرفه في ماله ، فلو كان هناك رجل يعمل في التجارة ورأس ماله مثلا في هذه الأموال التي يملكها دون الديون التي عليه ، واشتكى أصحاب الديون وثبت عند القاضي فلسه وقضى بكونه مفلسا فإنه بعد قضاء القاضي لا يستطيع أن يبيع شيئا ولا أن يشتري شيئا ، ولا ينفذ بيعه ولا شراؤه ، فلو كانت عنده عمارة، وبعد أن قضى القاضي عليه بالفلس قال : بعتك هذه العمارة بكذا وكذا لم يصح بيعه ، ويحجر على أمواله، ثم بعد ذلك تباع في سداد ديونه ، وهذا من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض؛ لأن ترك أمثال هؤلاء يعبثون بأموال الناس يُضِرّ بالناس ويضر بالمصالح ، وإذا انتشر هؤلاء السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم ضاعت المجتمعات، ومن هنا دفعت الشريعة المفسدة العظمى بارتكاب المفسدة التي هي أدون منها ، ومن هنا قد يُحجر على الإنسان لمصلحته كما ذكرنا ، وقد يُحجر لمصلحة الغير ، والحجر لمصلحة الغير؛ إما أن يكونوا جماعة كالغرماء، وقد يكون الحجر لمصلحة الأمة كلها كما ذكر العلماء في الحجْر على المفتي الجاهل، والحجر على الطبيب الجاهل هذا لمصلحة الجماعة والعامة ، والحجْر على المريض مرضا مُعْديا كل هذه للمصالح العامة ، فالشريعة تحجر لدفع الضرر؛ سواء كان دينيا مثل الفتوى بدون علم، ودنيويا مثل الطب إذا كان من الجاهل يُمنع من مزاولة عمله ، أو مثل المفلس يمنع من مزاولة تجارته ، لأنه قد يعترض البعض ويقول: كيف تضيق الشريعة على الناس وتمنع التاجر من بيعه وشرائه في ماله ، فنقول: إن هذا المال قد أصبح مِلْكا لأصحاب الحقوق ، وهو الذي أضر بنفسه، وتبيّن من خلال فلسه حينما أصبح مديونا بدين أكبر من رأس ماله أنه لا يحسن التصرف في المال ، ومن هنا جاءت الشريعة بالحكم بفلسه والحجر عليه .(6/58)
قال رحمه الله : [ فإذا حُجر عليه لم يجز تصرفه في ماله ولم يقبل إقراره عليه ] : [ وسأل غرماؤه ] يعني أصحاب الحقوق يلاحظ أن الغرماء؛ إما أن يكونوا شخصا أو أكثر من شخص، فإذا كان شخصا واحدا وسأل فلا إشكال ، وإن كانوا أكثر من شخص إما أن يتّفقوا أو يختلفوا ، فإذا كانوا أكثر من شخص واتفقوا على طلب القاضي أن يحجر عليه حُجر عليه ، لكن السؤال : لو أن الغرماء خمسة، كل واحد مثلا له مائتا ألف على هذا المديون والدين مليون، وسأل الحجر عليه شخص واحد، والبقية لم يسألوا فهل يُحجر عليه ؟ الجواب : نعم ، فإذا سأل ولو بعض الغرماء ولا يشترط أن يكون كل الغرماء إنما هو حق ولو سأله بعضهم كفى وأجزأ في حكم القاضي بالحجر عليه .(6/59)
فإذا حجر عليه بيّن رحمه الله أنه لا يصح تصرفه في المال ، فلا ينفذ بيعه، ولا ينفذ شراؤه ، وكذلك لو وهب لو قال مثلا لشخص: وهبتك سيارتي، وهبتك مزرعتي، وهبتك فلّتي لم تنفذ هبته ، ولذلك يُحجر على جميع ما يملك، ويُحجر على تصرفه القولي بالبيع والشراء والهبة والصدقة وكل ذلك لا ينفذ ، لو أنه أقرّ فقال : فلان له عليّ مائة ألف بعد حجر القاضي عليه لم يُعتبر إقراره ، لأنه في تهمة ، الإقرار حجة شرعية ، والشريعة اعتبرت الإقرار حجة؛ لأنه ليس هناك أصدق ولا أقوى من شهادة الإنسان على نفسه ، فإذا شهد الإنسان على نفسه فقد أقرّ واعترف ، ومن هنا كان الإقرار حجة في أعظم الأشياء وهو الشهادة بوحدانية الله –- عز وجل -- ، فإذا شهد الإنسان على نفسه فإن العاقل لا يشهد على نفسه بالضرر ، وجعلت الشريعة هذا النوع من الحُجج في القضاء الإسلامي ، فلو أن شخصا كانت عليه ديون تبلغ مائتين ألف، -وهو مفلس- وجاء غرماؤه وسألوا الحجر عليه لا يملك إلا عمارة قيمتها مثلا خمسين ألفاً أو مائة ألف فسألوا الحجر عليه، فلما حُجر عليه جاء وقال : عمارتي هذه اشتراها مني فلان بأربعين ألفاً أو خمسين ألفاً، وأقرّ أن فلانا قد اشترى منه سقط إقراره لم يؤثر ، لأنه يكون متّهما في هذا الإقرار إذ بكل بساطة يمكن إذ يجوز للإنسان أن يدفع عن نفسه ضرر الحجر، فإذا حجر على عمارته ومزرعته قام وأقرّ بها لشخص آخر يتفق معه أنه إذا أخذها يأخذها صورة لا حقيقة ، وحينئذ يسلم من ضرر الحجْر ، وهذا عند العلماء قادح من قوادح الإقرار ، الإقرار حجة، وشرط كونه حجة أن يكون ممن يقبل إقراره، بأن يكون بالغا عاقلا فلا يقبل إقرار المجنون ولا السكران ، ولذلك لما أقر ماعز عند النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بالزنى قال عليه الصلاة والسلام : (( أبه جنون؟ فأُخبر أنه ليس بمجنون ، وفي صحيح مسلم : (( أشربت خمرا ؟ )) فقام رجل فاستنكهه فوجده أنه لم يشرب خمرا كل هذا لأنه تهمة في(6/60)
صحة الإقرار ، فأسقط النبي –- صلى الله عليه وسلم -- الإقرار في حال التهمة ، فإذا كانت التهمة في الإقرار لم يقبل الإقرار، ومن شروط صحة الإقرار أن يكون بالغاً عاقلًا مختاراً غير مكره، وأن يكون غير متهم في إقراره، فإذا سلم من التهمة في الإقرار اعتبر إقراره حجة ، أما إذا وجد التهمة في الإقرار لم يقبل ، فهنا إقرار المفلس بالديون عليه لأشخاص آخرين غير الذين حجر عليه من أجلهم فيه تهمة التخلص من ضرر الحجْر ، طيب لو أن شخصا استشكل وقال : افرض أنه صادق، وأقر بأمر حقيقي قلنا : حال الحكم بالحجر لا يقبل الإقرار ، وبعد أن ينتهي القاضي من تصفية الحقوق وأدائها إلى أصحابها رفع الحجْر عليه وعُمل بالإقرار ، فهو لا يقبل مؤثرا في هذا الحجْر ، وأما من حيث الأصل فإن هذا الحجْر أي شيء يؤدّي إلى إسقاطه والعبث به بطريق التلاعب ينبغي صيانة حكم القضاء بالحجر على المفلس منه.
قال رحمه الله : [ ويتولى الحاكم قضاء دينه ] : إذا حُكم بالحجر على المفلس يتولى الحاكم قضاء دينه، هذا في الحقيقة فيه اختصار ، فالأصل أنه إذا ثبت فلس الشخص ورفعه الغرماء إلى القاضي وقضى القاضي بالحجْر عليه جُمعت أمواله ، ثم هذه الأموال تكون تحت نظر القاضي، فيُنَصّب لها من أهل الخبرة من يقومون ببيعها وتصريفها في السوق بقيمة دون أن يُضَرّ بصاحب الحق ، فإذا بيعت الأموال سُددت الديون ، وطبعا لا يُباع الشيء الضروري الذي يحتاج إليه المفلس لمأكله ومشربه وملبسه وملبس أولاده هذا لا يباع ، إنما يُحجر عليه في الشيء الزائد على هذا ، باع الحاكم أمواله .(6/61)
البيع في هذه الصورة لم يكن من نفس المفلس ، فالذي يبيع ليس هو المالك ، وإنما الذي يبيع هو القاضي، وقد قدّمنا في البيع أن البيع يصح أصالة من الإنسان نفسه يبيع ما يملك وهذا هو الأصل ، ويصح ولاية مثل بيع القاضي أموال المفلس هذا مثالها ، هذا من أمثلة أن يكون البائع له ولاية مثل: الوالد يبيع مال ولده إذا كان في حجره، ماتت أمه وتركت له أموالا ، فرأى الأب من المصلحة أن يبيع لولده؛ لأنه هو وليه ، فالشاهد من هذا هذا من الولاية ، الولاية تكون عامة مثل القاضي، وتكون خاصة مثل الوالد مع ولده .
قال رحمه الله : [ ويبدأ بمن له أرش جناية من رقيقه فيدفع إلى المجنيّ عليه أقل الأمرين من أرشها أو قيمة الجاني ] : إذا كان مالكا للرقيق فتخليص الرقبة معتبر ، فإذا كانت هناك جناية للرقيق نُظر في هذه الجناية ؛ فإما أن تكون تساوي الرقبة أو دونها ، فإن كانت دون الرقبة دُفع أرشها وخُلّصت الرقبة، والعكس إذا كانت القيمة أقل من الجناية دُفعت الرقبة .
قال رحمه الله : [ ثم بمن له رهن فيدفع إليه أقل الأمرين من دينه أو ثمن رهنه ] : لأنه أسوة للغرماء فيدفع له الأقل من دينه أو ثمن الرهن ، فلو أن الرهن لم يبلغ الدين فإنه في هذه الحالة يقدم الأقل ، وهذا لأن صاحب الدَّين قد أصبح أسوة للغرماء ، ولذلك لا يعطى الأحق .(6/62)
قال رحمه الله : [ وله أسوة الغرماء في بقية دينه ] : نعم له أسوة الغرماء في بقية دينه ، لو كان مثلا أرش الجناية الذي دُفع لصاحب الجناية لو كان مثلا بقي منه مائة فإن المائة هذه يكون فيها أسوة الغرماء، بمعنى أننا لو عرضنا هذه الرقبة التي جنت وأعطيناه الأقل صار فيما بقي من دَينه مساويا للغرماء هذا مراده، وعليه يستوي أن يكون في الرقبة أو في الرهون ، فالأموال المرهونة ينظر إلى الأقل، فُيَدفع الأقل لأصحاب الحقوق في الرهن وفي الرقاب كما في الجنايات إذا كانت من الرقيق فَيُدفع لهم الأقل ، إذا دفع الأقل بقي الباقي فالباقي يكونون فيه أسوة الغرماء في ماله ، والسبب في هذا أن من تعلق حقه بالرقبة كان مقدَّما على بقية الغرماء فيها ، ومن كان استدان منه برهن خُلِّص الرهن بالأقل إذا كان خلاصه في الأقل بسداد الدَّين وإلا دُفع الرهن وبقي ما بقي من الدين تساوي فيه الغرماء ، يستثنى من هذا ما كان من الأموال قد وُجد بعينه ، وهذا الذي ثبتت به السنة في حديث أبي هريرة –- رضي الله عنه -- في الصحيحين، وسيذكره المصنف –رحمه الله- .(6/63)
قال رحمه الله : [ ثم من وجد متاعه الذي باعه بعينه لم يتلف بعضه ولم يزد زيادة متصلة ولم يأخذ من ثمنه شيئا فله أخذه لقول رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- : (( من أدرك متاعه بعينه عند إنسان قد أفلس فهو أحق به من غيره )) ] : إذا حكم القاضي ببيع مال المفلس، يُبدأ أول شيء كما ذكر المصنف بما فيه تخليص لأعيان الأموال؛ سواء في الرقبة أو في الرهن ، ثم بعد ذلك بالأموال التي بقيت كما هي فأدركها أصحابها بعينها، وهو الذي استثنته السنة : (( من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس )) هذه الثلاثة تستثنى ، وهذا أصل، وله نظائر منها : مسائل الإرث كما سيأتي في التركات بسداد الديون، وتخليص المال من التبعات التي عليه ، فالعبد والرقيق مال يملكه المفلس، فَيُخلّص ثم تباع الرقبة على التفصيل الذي ذكر ، الرهن كذلك لو أنه استدان ووضع رهنا فالرهن من مال المديون، وحينئذ ينظر إلى الأحظ، فيعطى الأقل من قيمة الرهن أو الدين ، ثم بعد ذلك المال بعينه ، لو أنك بعت لمفلس سيارة بعشرة آلاف ريال، فلما تم البيع الرجل غير مفلس وتعامل معك فبعته السيارة دينا أو بالتقسيط ، ثم حكم بفلسه، فإذا حُكم بفلسه وبقيت السيارة عنده بعينها فلك الحق أن تطالب برد السيارة بعينها ، هذا من حقك (( من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس )) فأنت عليك ضرر كبير لو مثلا هذا المفلس يطالبه رجل بخمسين ألف ريال وأنت تطالبه بقيمة السيارة عشرة آلاف ريال، فلو أنه حكم عليه بالحجر، واشتكاه صاحب الدين فهناك إحدى حالتين :
إما أن يحكم بأن سيارتك من ماله هذه حالة .
وإما أن يحكم لك بأن تخلص سيارتك هذه حالة ثانية .(6/64)
الأفضل لك أن تخلص سيارتك؛ لأنه إذا لم يحكم لك بأخذ عين متاعك، فمعناه أن هذا المفلس لو كان يملك سيارة أخرى مع سيارتك وقيمة السيارتين عشرون ألف ريال ولك عليه دين عشرة آلاف وغيره له عليه دين مثلا أربعين ألف ريال فمعنى ذلك أن السيارتين ستباع فبيعت بعشرين ألف ريال فأنت تأخذ من العشرين الألف ريال الخمس إذا كان غيرك له أربعون وأنت لك عشرة آلاف ، ولو كان غيرك له ثلثا الدين كأن يكون مجموع الديون ثلاثين ألفا والسيارتان قيمتهما عشرون ألف فأنت دينك يعادل ثلث الديون ، فإذا بيعت السيارة يكون لك ثلث قيمتها ، وهذا فيه ضرر عليك ، ومن هنا حكمت الشريعة بأن المفلس إذا بيع ماله قبل بيع المال إذا باعه شخص متاعا ووجده بعينه لم يتغير فإنه من حقه أن يطالب برد المتاع وإلغاء الصفقة ، لطف من الله وتيسير على عباده ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس )) فإذا متاعه نفس السيارة بعينها لم تتغير فلو أنها تصرف فيها فغيّرها فحينئذ ليس من حقه أن يطالب بعين السيارة ، وهكذا لو أنه باعه أرضا فبنى المفلس عليها فيلا أو زرعها فحينئذ ليس من حقك أن تكون حالها في البيع لم تتغيّر بزيادة ولا بنقصان .(6/65)
واختلف في الزيادة المتصلة وفي الشرح في الهامش خطأ في قوله : وأما المتصلة والصواب : وأما المنفصلة يعني الزيادة المنفصلة ، فبالنسبة للزيادة متصلة أو منفصلة فهي مؤثرة ، لكن اغتفرت المتصلة أكثر من المنفصلة ، فبيّن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- أن من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق به، فدل على أنه إذا لم يجده بعينه بأن وجده متغيرا فإنه لا حق له في ذلك المتاع وهو أسوة الغرماء ، وهكذا لو وجد غير متاعه وجد سيارة غير سيارته ليس من حقه ؛ لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من وجد متاعه بعينه )) وكذلك أيضا اشترط بعضهم أن لا يكون قد أعطاه بعض الثمن إذا كان قد أعطاه بعض الثمن فإنه لا يستحق الرد بمعنى أن يكون الدين تاما ، فلا يرد صاحب المتاع شيئا للمفلس أو للقاضي، فلو أنه اشترى منه سيارة بعشرة آلاف ولم يدفع له شيئا صح رجوعه ، وأما إذا دفع من العشرة الآلاف قليلا أو كثيرا لم يكن له الرجوع وهو أسوة الغرماء .(6/66)
قال رحمه الله : [ ويقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم ] : ويقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم هذه الثلاثة الأشياء التي استثناها المصنف : الرقيق في جنايته ، والأعيان المرهونة، والمتاع بعينه غيرها يباع ثم القيمة تقسم بين الغرماء على قدر حصصهم ، طبعا يُضاف إلى الثلاثة ما ذكرناه من أمواله الشخصية التي يحتاج إليها لطعامه وشرابه وملبسه وملبس من تلزمه نفقته من أولاده ، هذا ما يباع فإذا خُلّصت بهذه الصفة بقيت ثلاث سيارات أو ثلاث عمائر، تؤخذ هذه الأموال وتباع في السوق بقيمة مثلها، فإذا بيعت مثلا بثلاثمائة ألف ريال، وأصحاب الديون شخصان، الدين مثلا مليون كل واحد منهم له نصف المليون ، أخذ كل واحد مائة وخمسين ألف ريال ، يأخذ من المال الذي نتج من قيمة هذه الأعيان على قدر حصته من الدين العام الذي على المفلس ، فمن كان له ربع الدَّين أخذ ربع القيمة ، ومن كان له النصف أخذ النصف، وهكذا الثلث وقس على هذا ، أخذ كل صاحب دين على قدر حصته ، وهذا له نظائر : منها لو أن شخصا توفي وعليه ديون فرضنا مثلا أربعمائة ألف ريال وترك مائة ألف ريال سُدد لأصحاب الديون على قدر حصصهم من الدَّين ، فمن كان له نصف الدين أخذ نصف مائة ألف ، ومن كان له الربع أخذ الربع وهكذا .
قال رحمه الله : [ وينفق على المفلس وعلى من تلزمه مؤونته من ماله إلى أن يُفْرغ من القسمة ] : هذا ما ذكرناه من أن الأمور الضرورية للطعام والشراب سواء كانت من الأعيان أو كان محتاجا لنفقته في الأكل والشرب له ولمن تلزمه نفقته كزوجاته وأولاده يُصرف عليهم حتى يُفرغ من قضاء الحقوق ، هذا أصل مستثنى مع الاستثناءات التي ذكرناها .(6/67)
قال رحمه الله : [ فإن وجب له حق بشاهد فأبى أن يحلف لم يكن لغرمائه أن يَحلفوا ] : [فإن وجب له حق] هذا المفلس له على شخص حق وفرضنا له على شخص عشرة آلاف ريال وعنده شاهد واحد، قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في دعوى الأموال بالشاهد مع اليمين ، فلو كان لك على شخص مبلغ وليس عندك إلا شاهد واحد يجوز أن تقيم الشاهد ثم تحلف يمينا تكون اليمين بمثابة الشاهد الثاني فيقضى لك ، فلو أنه أقام شاهداً فقيل له : احلف اليمين قال ما أريد أن أحلف ، فقال غرماؤه لأن من مصلحتهم أن يحصل على هذا المال حتى تسدد ديونه ، فالمال سيؤول إليهم، فقال غرماؤه: نحن نحلف لم يُحلَّفوا ، واليمين متعلقة بعين صاحب الحق لا بالغرماء ، ومن هنا لا تقبل اليمين من الغرماء ولا يلزم بحلف اليمين ، وفي هذه الحالة بيّن المصنف –رحمه الله- أنه ليس من حقهم أن يحلفوا اليمين ولا تقبل منهم قضاء.
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : إن رجلا أراد أن يبيع الجهاز فقال لصاحبه : بع لي هذا الجهاز ، فقال له : حدد سعرا كي أبيعه لك ، فقال بعه بثلاثة آلاف ريال ، فقال : فإن بعت بأكثر من هذا فالزيادة لي ثم باعه بثلاثة آلاف وخمسمائة ريال، فأعطى البائع ثلاثة آلاف وأخذ الخمسمائة ريال، فهل فعله هذا صحيح، أو هو يكون من باب : (( ولا ربح ما لا يضمن )) . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(6/68)
فالمسائل والفتاوى يُرَد كل معاملة خاصة المعاملات المالية إلى أصولها ، فينظر في أصل المسألة ، فالذي وقع بين الطرفين في هذه المسألة يعتبر من عقد الإجارة ، قال له : بع هذا الجهاز أو بع هذه السيارة بخمسمائة والزائد لك ، إذا قال له : الزائد لك معناه أنه سيتوكل عنه في البيع مقابل عوض ، وإذا توكّل عنه في البيع مقابل عوض فهو بالإجماع إجارة شرعية . انطبقت عليها شروط الإجارة الشرعية ، إذا كانت إجارة شرعية يشترط لصحتها أن تكون الأجرة معلومة ، فما يقول لك : الزائد لك؛ لأنه أجرة مجهولة ، ما ندري كم هذا الزائد ، فصار من الإجارة بالمجهول ، وحينئذ يصحح هذا العقد من حيث الأصل إذا تم هذا العقد على هذا الوجه نقول : الثلاثة الآلاف والخمسمائة ملك لصاحب الجهاز ، ثم ننظر كم أجرة مثل هذا الرجل ، فإذا باع أحد مثل هذا الجهاز كم يأخذ ؟ قالوا إذا باع مثل هذا الجهاز يأخذ ثلاثمائة ريال ، فنعطي الثلاثة الآلاف والمائتين لصاحب الجهاز ، والثلاثمائة أجرة لمن قام بالبيع ، لا تصح الإجارة بالمجهول ، يعني أن يكون العمل مجهولا أو الأجرة مجهولة ، فهذا بإجماع العلماء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من استأجر أجيرا فليُعلمه أجره )) وهذا أصل عند العلماء أن المراد بإعلام الأجر أن يبيّن ويحدد له بطريقة العلم التي لا جهل فيها كم أجرته ، وتكون هذه الأجرة معلومة أيضا ، وأما إذا كانت مبهمة أو فيها غرر يأتي المسكين ويظن أنه سيبيع الجهاز بثلاثة آلاف وخمسمائة فإذا به لا يجد زبونا إلا بثلاثة آلاف وعشرين ريالا، فيأخذ العشرين ريالا فيغرر به ، ولذلك الشريعة لا تفتح باب الغرر لا على المؤجِّر ولا على المستأجر ، أراد أن يأخذ كل واحد منهما حقه ، فلا يصح هذا النوع من الوكالات في الإجارة ، فإذا وكّله بأجرة فينبغي أن يحدد هذه الأجرة، وحينئذ يحكم بالجواز . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :(6/69)
فضيلة الشيخ : إني أحبك في الله، ثم يقول: أرجوك أن ترشدني إلى ترك المعاصي ، فإنني أمضيت كثيرا من عمري في المعاصي ورفقاء السوء ، وقد كبر عمري ورقّ ظهري وأنا على ذلك ، فأسأل الله التوبة الصادقة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا الاستقامة على سبيله وصراطه ، وأن يثبت أقدامنا حتى نلقاه ، وهو راض عنا غير غضبان .
أخي في الله : احمد الله –- سبحانه وتعالى -- أن تداركك برحمته ، وأجل نعمة ينعم الله بها على عبده نعمة الدين والاستقامة ، والله أعطى الدنيا لمن أحب وكره ، ولم يعطِ الدين إلا لمن أحب ، واصطفى للدين أولياءه وأحبابه –جعلنا الله وإياكم منهم- ، فهم أهل رحمة الله ، فاحمد الله -- عز وجل -- أن الله كسر قلبك له ، ورزقك الانتباه من غفلتك، والاستيقاظ من منامك ، والاهتداء إلى صراط ربك .
احمده ليلا ونهارا وعشيا وإبكارا حتى يبارك لك في نعمتك ، قل الحمد لله الذي هدانا لهذا ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
أما الأمر الثاني : فأوصيك أن تحس بمقدار هذا اللطف وهذه الرحمة ، ومن أحس من قرارة قلبه أن الله أعطاه نعمة ليس في الوجود أعظم منها ، وأن الله رحمه رحمة ليس في الوجود أعظم من رحمة الهداية للإسلام والطاعة ، فإذا أحس بهذا الإحساس حرص على أن لا يفرّط في هذه النعمة ، واعلم أنه لو فنيت روحك وذهبت ولا تذهب هذه النعمة لكان شيئا قليلا تجاهها .
إنه الدين الذي هو سعادتك وشقاؤك ، حياتك وموتك، عزك وذلك ، مهانتك وكرامتك .(6/70)
الدين الذي به الفوز والفلاح، والربح والصلاح ، فاحمد الله –- عز وجل -- ، واستشعر أنها نعمة عظيمة ، ولذلك لما اهتدى الصحابة –رضي الله عنهم وأرضاهم- إلى صراط الله –- عز وجل -- لم يكن في أنفسهم شيء أعظم من التمسك بهذه النعمة ، والله يخاطب نبيه بهذا الأمر العظيم فيقول - سبحانه وتعالى - : { فاستمسك بالذي أوحي إليك } أن تستمسك بهذا الدين مهما رأيت من الفتن والمحَن ، ومهما رأيت من السخرية مهما رأيت من الاستهزاء، ومهما رأيت من الأمور العجيبة كيف كانت الناس بالأمس تضحك لك ، وكيف كانت الدنيا مرحا ولهوا ، فأصبحت جدا لا هزلا ، وأصبحت صدقا لا كذبا ، حينما ترى أحوال الناس تغيّرت لك، وأصبحت الأمور على مقام الجد الذي فيه التعب والنصب، واستقام قلبك على صراط الجنة المحفوفة بالمكاره، لما تتمسّك بهذا الدين وتعتصم بحبل الله المتين؛ يحبك الله ، وإذا أحبك فتح لك أبواب رحمته، ويسّر لك سبيل ولايته ، ولن تزال بخير وفي خير، وستجد جنة الدنيا قبل جنة الآخرة .
نعم استمسك بحبل الله، وليكن من شكرك لنعمة الله عليك، وجميل منته، وجليل نعمته لديك؛ أن لا تفرط بهذا الدين ولا بالقليل منه وقليله كثير .(6/71)
أما الأمر الثالث : فإنك إذا استشعرت الندم، واعتصر قلبك بالألم، وأحسست أنه قد فات من عمرك ما فات ، وأنك قد أضعت الساعات والأوقات وانكسر قلبك لفاطر الأرض والسماوات فاعلم أنك إن صدقت في هذا الندم ليعوضنّ الله خسارتك ، وليجبرنّ الله كسرك، وليعظمنّ الله أجرك ، فاستدم هذا الندم؛ لأن من تألم على ساعات الليل والنهار التي مضت، وتقرّح قلبه على الأوقات التي ذهبت في غير مرضاة الله، وأراق دمعة الندم بصدق، وانكسر قلبه لله بحق؛ فإن الله يتداركه برحمته ، ولربما بكى الرجل على سنوات من عمره مضت في لهوه ولعبه، وتمنى أن هذه السنوات قام ليلها وصام نهارها؛ كتب الله له بهذا الندم، والتمني أجر من صامها وقامها ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فهما في الأجر سواء هذا بعمله، وهذا بنيته )).
من الناس من يقف في الأربعين والخمسين وينظر إلى من شب عوده في الطاعة فيقول : ياليتني من الصغر ومنذ أن بلغت وأنا في طاعة الله ، ياليتني مثل فلان؛ فهما في الأجر سواء ، (( هذا بعمله - يقول النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وهذا بنيته ))، كريم سبحانه ؛ لأنه لا يقول هذا الكلام إلا وهو يحب الله ، ولا يقول هذا الكلام إلا وقد انكسر قلبه لمولاه ، ولا يقول هذا الكلام إلا من صدق وبرّ، وعلم علم اليقين أنه ليس هناك خسارة أعظم من أن يذهب العمر في غير طاعة الله ، ما خلق الله خلقه للعب ولا للهو .(6/72)
يقف الإنسان بعد فوات الزمان لكي يبكي بكاء الندم، معتصرا قلبه بالشجى والحزن والألم، على ساعات ليل، وساعات نهار، كم قضاها مع الأصحاب والأحباب ، فنظر إلى عمره الذي مضى، وقد شاب شعره، ورق عظمه، فلا يملك إلا أن يبكي، ياليتها مضت في طاعة الله –- عز وجل -- ، يبكي على لهو اللاهين، وعبث العابثين ويقول : ما كان ينبغي أن يكون مني كذا ، ما كان ينبغي أن أفعل كذا ، ما كان ينبغي أن أصحب فلانا ، ما كان ما كان ، فلا يزال في هذا الندم يرفع من درجة إلى درجة ، وتُمحى له الخطيئة تلو الخطيئة ، ويُعَزّ جنابه ويرفع مكانه مادام أنه تاب إلى الله ، {ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا }.(6/73)
عظم الله التوبة إليه لكنها توبة الصادقين وتوبة النادمين وتوبة المشفقين الذين صدقوا في رجوعهم إلى رب العالمين ، فنسأل الله أن يبارك لك في هذه التوبة ، وأوصيك أخي في الله أن لا يكون الماضي طريقا لليأس فيما بقي من عمرك ، فإن الشيطان يتسلّط على الإنسان ويقول له : لو كان الله يحبك -قاتل الله الشيطان ، العدو المبين- يقول له : لو كان الله يحبك ما مضى أعز عمرك في هذا الأمر المحرّم ، كان ما عشت هذه السنوات الطويلة وأنت تفعل كذا وكذا ، فقل له : اخرس عدو الله ، وابكِ بالندم حتى يقتل عدو الله من الغيظ، حينما تحس أن الله سيعوضك ، وتقول : يا رب، أسأت وأخطأت وأسرفت، ولكني أعلم أنك الغفور الرحيم ، وأعلم أنه قد انكسر من انكسر من دينه ولكن لا يجبر كسري إلا أنت، فاجبر كسري يا أرحم الراحمين ، واسأله فإنه كريم ، واطمع في رحمته فإنه حليم رحيم ، وبهذا تستطيع أن تستدرك كثيرا مما مضى ، ثم اصدق مع الله فيما بقي من عمرك ، وتمَنَّ بصدق من قلبك أن الله يفتح عليك فيما بقي من أجلك وعمرك أن تكون من الصُّلاّح ومن أهل الخير والفلاح، وأن تستقيم على طريق النجاح والفلاح ، فإذا صدقت مع الله ؛ صدق الله معك ، فكم من أقوام عاشوا بعيدين عن الله تداركهم الله برحمته في آخر أعمارهم، فصدقوا مع الله فعوّضهم الله فيما فات من آجالهم، وانقضى من أعمارهم ، ومنهم من بلغ في الخير والصلاح والبرّ شأواً عظيما، وعوّضه الله خيرا كثيرا ، فاطمع في رحمة الله ، وإياك أن يتسلط عليك الشيطان بالماضي ويقول : إن الله لا يحبك لأنه لو كان يحبك كان ما ابتلاك بهذه المعاصي ، إياك ، واعلم أن رحمة الله واسعة ، وأنها رحمة أرحم الراحمين ، وكن على هذا الحال الصادق مع الله –- عز وجل -- .(6/74)
ومن دلائل صدقك مع الله : أن تبدل سيئاتك حسنات ، واختلف العلماء في العبد إذا تاب فبدل الله سيئاته حسنات قيل: إن الله يبدل سيئاته حسنات بما ذكرنا من الندم ، أي أنه يقول: ياليتني بت تلك الليالي قائما ، فيندم ؛ لأن التوبة الصادقة فيها الندم ، وإذا استصحب فيها الندم ندم على ما مضى وعندها يبدّل الله –- عز وجل -- ما مضى من أعماره خيرا وصلاحا وبرا ، وقيل : { أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } أي أنهم إذا تابوا توبة صادقة بدّل الله أفعالهم ، فبعد أن كانت سيئة أصبحت حسنة ، فكما سهرت مع الأصحاب والأحباب في اللهو واللعب فاسهر مع أصحابٍ وأحبابٍ في الجد والطاعة والاستقامة ، وكما فنيت الأجساد في غضب رب العباد ، فافنِ جسدك وامضِ ما بقي من عمرك في طاعته ومحبته ، وكم رأينا من القصص العجيبة من التائبين الصادقين، فمنهم من ترى منه جدا واجتهادا عجيبا، والله، إن من الناس من عصى وطغى وبغى ثم تاب في آخر عمره، ثم استمسك بطاعة ربه ففتح الله عليه بطاعة من الطاعات، فأصبح في الطاعة يصنع أمورا عجيبة يعجز عنها من نشأ منذ نعومة أظفاره في الخير والبر ؛ لأن قلبه محترق من الندم والألم ، فجعل الله ابتلاء الماضي خيرا له فيما بقي من أجله ، فإذا كان الإنسان بهذه المثابة؛ فإنه على خير عظيم، وفضل من الله عظيم .(6/75)
وأوصيك ثم أوصيك بمجالس العلماء والصلحاء والأتقياء ، ولا عليك من سخرية الساخرين، فإن من حكمة الله –- عز وجل -- أنك لن تجد داعية للخير إلا جعل الله في سبيله من العوائق والمكاره كما أخبر النبي -- صلى الله عليه وسلم -- (( أن الجنة حفت بالمكاره)) ، فكل من دعا إلى الجنة فسبيله فيه المكاره ، فلربما استهزأوا بك أن تمشي مع الأخيار، ولربما طعنوا في العلماء الذين تجالسهم، والدعاة الذين تسمع لهم ، فإياك ونعيق المنافقين والمرجفين ،وهؤلاء الذين فُتنوا فصدوا عن سبيل الله، وصدوا عن مجالس الذكر ظلما وزورا ، فهؤلاء لا تشتغل بهم، واسمُ بنفسك إلى العلياء، وانظر حينما تجلس مع العلماء الذين يتكلم فيهم وهؤلاء الذين يستهزأ بهم من أهل الطاعة والخير ماذا تجد في نفسك، حينما تجد الخير وانشراح الصدر والبر ، فتجد أن التهم الملفّقة أوهام يعيش أصحابها في ضلال مبين، يصدون عن سبيل الله، ويصرفون عن صراط الله ، والموعد بين يدي الله ، {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} .
أوصيك أخي في الله بعد هذه النعمة التي أنعم الله بها عليك أن تأخذ بأسباب الثبات على الطاعة ، فأوصيك بمجالس العلماء وحلق الذكر ، ومما يثبت الله به العبد على طاعته المسارعة لأداء الفرائض والواجبات ، فإذا علمت أن الله يأمرك بحق من الحقوق؛ أسرعت لأدائه والقيام به ، فإذا حضرت الصلاة كنت من المبكّرين إليها ، فأسعد الناس في هدايته من بكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، وحرص على الصفوف الُأوَل ، فتكون من المبكّرين إلى الصلوات والجمعة والجماعات ، وتكون من السبّاقين إلى الصفوف الأُوَل، وتكون في أدائك للفرائض والواجبات أخشع الناس قلبا، وأحضرهم فؤادا، وأتقاهم لله –- عز وجل -- .(6/76)
تحرص على أن تكون في صلاتك من أخشع الناس عند سماع القرآن وأحضرهم قلبا، وكذلك أيضا تحرص على التأسي بالنبي –- صلى الله عليه وسلم -- في أداء الفرائض من : صلاتك ، وزكاتك، وحجك، وعمرتك ، فإذا أردت أن تؤدي أي طاعة سألت: كيف كان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يؤديها ؟، فتحرص على أداء الفرائض ، ثم كذلك تحرص على أن تكون عفيفا فيما بقي من عمرك وأجلك، فتبتعد عن المحرمات والمنهيات ، فإن الله أحلّ لك الحلال فلا تحرّمه ، وحرم عليك الحرام فلا تحلّه ، فعليك أن تلتزم بدينه وشرعه، فالحرام حرام ولو أحله الناس ، والحرام حرام ولو تسابقت الأهواء إلى الاستخفاف بأمره، وتسهيله للناس، عليك أن تعظم حرمات الله ، { ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه }.(6/77)
تتقي الله –- عز وجل -- حقيقة التقوى ، وتستمسك من الإسلام بعروته الوثقى ، ومما يثبت الله به قلبك على الدين أن تكون من أحرص الناس على النوافل، فتحرص على السنن الرواتب وعلى الوتر ، وتحرص على قيام الليل فإنه من أعظم الأسباب التي يثبّت الله بها قلب العبد على طاعته ، وقلّ أن تجد قوّاما في الليل إلا وجدته مسددا في قوله، مسددا في عمله { إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقومُ قيلا } وأن تحرص على أدائك لكل هذه العبادات فريضة أو نافلة على الإخلاص لوجه ربك ، فتعلم علم اليقين أنه لا ينفعك رؤية الناس ، ولا ينفعك مدح الناس إذا تكلمت؛ تتكلم لله ، إذا عملت؛ تعمل لله وتقول: كفى من النفاق ، وكفى من الكذب، وكفى من الغش ، وكفى من التزوير، أن يبحث الإنسان عن حياة نظيفة سليمة، أن يبحث عن قلب سليم لله رب العالمين –- جل جلاله -- ، أن تبحث فيما بقي من عمرك عن شيء يخلصك إذا وقفت بين يدي ربك ، ثم تحرص على البعد عن الفتن والمحن، ولا تقبل في دينك خاصة في هذا الزمان قولا إلا أن يكون عليه نور الدليل من الكتاب والسنة ، فلا تقبل أهواء المرجفين، ولا تأويلات المتكلفين، وعليك أن تبحث عن العلماء الربانيين الذين ظهرت دلائل الصدق في أقوالهم وأعمالهم، فتلتزم بأقوالهم وأعمالهم، فإن الزمان صعب، وإن لم يكن هذا زمان الصبر فأي زمان هو ، فالفتن عظمت، وكثر القول في دين الله بدون علم ، وكثرت الفتوى بدون بصيرة ، فاستمسك بدين الله ، واختر من تثق بدينه وأمانته لكي تقف بين يدي ربك، حجة لك بين يدي الله . حب العلماء وحب الصالحين وحب الأخيار ، أوصيك مما يعين على ثباتك على طاعة ربك بكثرة سماع القرآن ، وأن تختار من القُرّاء من تتأثر بقراءته، فيخشع له قلبك، وتدمع له عينك ، والفرض في المسلم أن يخشع قلبه لكل قارئ، وأن تدمع عينه عند سماع القرآن من كل من يتلوه ، فتسمو بنفسك إلى هذه الجنة جنة الدنيا قبل جنة الآخرة ، فتصلح ما ظهر من نفسك وما(6/78)
بطن .
ومما يعينك على الثبات على هذا الخير والطاعة والإصلاح فيما بقي من عمرك أن تبتعد عن مظالم المسلمين ، وأن تعلم علم اليقين أن الإسلام ليس وحده في اللحية ، ولا في تقصير الثوب، والاسترسال في سب الناس، وتبديع الناس ، وتضليل الناس ، وتكفير الناس وإخراجهم عن صراط الله ، الإسلام أول ما يبدأ بالاستسلام لله بالقلب بالتوحيد والإخلاص، ثم تصبح جميع الجوارح، كما أنك استقمت لله -- عز وجل -- في مظهرك تستقيم لله –- عز وجل -- في جميع ما يكون من قولك وعملك خاصة في حقوق إخوانك المسلمين ، فإياك أن ترى من نفسك فضلا على إخوانك ، وأن تظن أن هذه الاستقامة قد أعطتك مسوغا لتكفير الناس وتضليلهم وتبديعهم ، إذا سمعت عن عاصٍ سألت الله له الهداية، وبذلت كل الأسباب للأخذ بمجامع قلبه لطاعة الله ، وأن تكون مثل ما كان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- رحمة بالناس لا عذابا عليهم ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن منكم منفرين )) فإياك والتنفير وإياك واحتقار الناس أن تحمل بين جنبات جسدك قلبا رحيما بالمسلمين ، أن تستر عوراتهم، أن تحسن الظنون بهم ، أن لا تحسدهم، أن لا تحتقرهم لألوانهم ولا لمناصبهم ، أن تكون مسلما حقا، وأن تعلم أنك لو لبست من شعار المهتدين والملتزمين مهما لبست فليس هناك لباس أعظم من لباس التقوى { ولباس التقوى ذلك خير } ولباس التقوى أين ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( التقوى هاهنا التقوى هاهنا )) أن تكون أعف الناس في لسانك لما تذكر مسلما ، وأن تكون أعف الناس في جوارحك وأركانك (( المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه )) .
إن استطعت فيما بقي من عمرك أن لا تفرط في حسنة من حسناتك أن تذهب في غيبة أو نميمة ، وأن تذهب حسناتك في سب الناس وشتمهم ، أن تذهب حسناتك في سوء الظن بعباد الله ، أن تذهب حسناتك في احتقارهم؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )).(6/79)
كذلك أوصيك أن تعلم أنك إذا كنت مستقيما في بيتك أن تنقل هذه الاستقامة لأولادك وإخوانك، وأن ينظروا من شمائلك وآدابك أن هذا الالتزام قد غيّر، فتحبهم وترحمهم وتحسن إليهم ، وتهدي بإذن الله ضالهم ، وكم من أناس استقاموا فأخذوا بمجامع القلوب بأقوالهم وأعمالهم ،أن تدعو الناس بأخلاقك وشمائلك ، فكم من أب وأم رأت في ولدها الصلاح، كيف انقلب بارا بها محبا لها ، وبارا بأبيه محبا له فأحب الأب والأم الاستقامة ، وتمنوا أن أولادهم كلهم مستقيمون ، وأصبحوا عونا لأبنائهم وبناتهم على الخير حتى إن البيت كله يهتدي بإذن الله ثم بهذا الابن الصالح باستقامته الصادق في التزامه، كل هذا بفضل الله ثم بتطبيق الإسلام كما ينبغي .
أسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يثبتنا على الحق حتى نلقاه ، اللهم أصلح فساد قلوبنا ، اللهم أصلح فساد قلوبنا ، اللهم اهدنا فيمن هديت ، وتولنا بولايتك ، وانشر لنا من رحمتك، وتداركنا فيما بقي من أعمارنا .
اللهم ردنا إليك مردا جميلا وهب لنا من لدنك عملا صالحا برا جليلا ، وتقبل منا صالح الأقوال والأعمال، واختم لنا بخير في المآل ، وارحمنا برحمتك يوم العرض عليك يا ذا العزة والجلال .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
باب الحوالة والضمان
قال المصنف –رحمه الله- : [ باب الحوالة والضمان ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(6/80)
فيقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الحوالة والضمان ] : هذا الباب يعتبره العلماء من الأبواب المتعلقة بعقود الاستيثاق ، وعقود الاستيثاق يقصد منها توثقة الديون ، فلما كان القرض والدَّين يحتاج إلى أن يوثق في بعض الأحوال فإن العلماء –رحمهم الله- جعلوا هذه الأبواب لبيان المسائل والأحكام المتعلقة بتوثقة الدين ، يوثق الدين بالضمان وفي حال الحوالة وكذلك أيضا بالرهن ، فإن الإنسان إذا كان له على غيره دين وللغير عليه دين وأراد أن يحيل الدين الذي عليه على الشخص الذي يطالبه بالدين فإن الله –- عز وجل -- شرع له ذلك ، ومن أمثلة ذلك: أن تقترض من إنسان ألف ريال، ويكون هناك شخص لك عليه ألف ريال ، فإذا طالبك صاحب الدين وقال لك: أريد الألف التي لي عليك قمت بإحالته على الذي أنت مقرض له، وهو الشخص الثاني أو الطرف الثاني ، فهذا يسمى بالحَوَالة ، وقد بين النبي -- صلى الله عليه وسلم -- مشروعيتها ، وكان الناس في الجاهلية يتعاملون بها، وأقرها الإسلام ، ولكن اشترط لها شروطا وسيأتي بيانها - إن شاء الله- ، وهذه الشروط يقصد منها دفع الظلم والضرر ، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( من أحيل على مليء فليتبع )) وهذا الحديث أصل عند أهل العلم –رحمهم الله- في مشروعية الحوالة : أن تنقل ما في ذمتك من الدين إلى طرف آخر يقوم بالسداد عنك ، وكما دلّ النقل على مشروعية ذلك دل العقل، فهو أشبه بالوكالة ، فكما أنك توكّل الشخص وتعطيه ألف ريال وتقول له : اذهب وسدد لفلان ، كذلك أيضا تقول للشخص الذي لك عليه الألف: قد أحلت فلانا عليك حتى تسدد له ، وتقع الحوالة في صور منها حتى الحوالة على البنوك ، فإن الإنسان إذا كان له لشخص عليه دين ثم أعطى شيكا لصاحب الدين، فإن البنك مدين لصاحب الرصيد، ولذلك هو يحيل هذا الذي له الدَّين على البنك؛ لأن البنك بإجماع المعاصرين يُعتبر مدينا، حتى في القوانين(6/81)
الوضعية الوديعة المصرفية تعتبر قرضا وليست وديعة حقيقية ، وبناء على ذلك فإن من صور الحوالة المعاصرة أن يحيل على رصيده في البنك بإعطاء شيك ونحو ذلك، فإنه ينطبق عليه ما ينطبق على الحوالة من حيث الأصل .
وشرع النبي –- صلى الله عليه وسلم -- الحوالة بين ما يلزم لكي تجب هذه الحوالة ، ويُلْزم المحال بأن يتبع الشخص الذي أحيل إليه ؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من أحيل على مليء )) .
ومن هنا قرّر العلماء –رحمهم الله- أنه لا تجب الحوالة إلا إذا كانت على شخص قادر مليء بمعنى قادر على السداد، بأن لا يكون فقيرا أو عاجزا عن السداد ، وكذلك لا يكون مماطلا ، ولا مؤذيا، ولا مضرا يمنع الحق ، يغتصب حقوق الناس ، فلو أحيل شخص بدين على شخص غير مليء لم يلزمه أن يقبل الحوالة ، ولو أحيل على شخص مماطل ويجحد الناس حقوقهم ويؤذي من له الحق فإن من حقه أن يمتنع، وله الحق أن يرفض هذه الحوالة .(6/82)
يقول رحمه الله : [ باب الحوالة والضمان ] : والضمين الحميل ، والضمان يستلزم الكفالة ، بعضهم يعبر بالكفالة وبعضهم يعبر بالضمان ، وفيها تضم ذمة الكافل مع المكفول في حق من الحقوق ، والمراد بالحق الدَّين ، وقد تكون الكفالة كفالة حضور كما في القصاص والقتل والجنايات ، فيكفل حضور الجاني للقصاص ونحو ذلك، وهذا لم يعنه المصنف وإنما عنى كفالة الغرم ، وكفالة الغُرم أن يضم ذمته إلى ذمة من عليه الدين في سداد الحق والوفاء لصاحبه به ، فيقول: أنا أكفل فلاناً أن يسدد دينك في أول السنة ، أو أكفل فلاناً أن يسدد حقك في نهاية الشهر ، فهذه كفالة غرم ، وهي مشروعة، وقد قال الله –- عز وجل -- حكاية عن نبيه يوسف : { ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } قيل : الزعيم : الضمين والحميل، والذي يتكفل بالشيء ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولم يرد شرعنا بمنع من الكفالة ، فيشرع للمسلم أن يكفل أخاه المسلم ، والغالب أن أصحاب الأموال لا يقرضون إلا من يثقون أنه يسدد ، فإذا كانوا يجهلونه ولا يعرفونه طالبوه بشخص يعرفونه أو شخص يضمنه ، ويتكفّل أو يكفل عنه ، وحينئذ تكون الكفالة ، وهي من الإحسان إلى الناس، وفيها تفريج للكربة ، وفيها معونة للمسلم على قضاء حوائجه ، ومن كفل أخاه المسلم المحتاج للدين خاصة إذا كان الدين فيه تفريج كربة، فقد يكون المسلم محتاجا إلى الدَّين لعلاجه أو علاج ولده أو والديه أو قريب له، وقد يحتاج الدَّين لإصلاح أمر من أموره ، أو زواج ولده ، أو نحو ذلك من الأمور التي يحتاج إليها ، فهو مكروب، ولا يجد من يعطيه القرض إلا بكفيل، فإذا جاء الكفيل فقد نفّس كربته بإذن الله –- عز وجل -- ووسّع على أخيه المسلم ، ولذلك اعتبرها العلماء من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأمور التي يحمد أهلها ، وقد كان أهل الفضائل الذين يرجون ما عند الله –- عز وجل -- سبّاقين إلى مثل هذه الأمور ، لكن ينبغي أن تكون الكفالة في(6/83)
محلها ، وأن يكون المسلم أن لا يحمّل المسلم نفسه فوق طاقته ، فيغرّر بنفسه وبالناس ، وكذلك أيضاً لا يجوز للمسلم أن يحمّل نفسه فوق طاقته بما ينتهي به إلى المهانة والمذلة ، ولذلك في الحكمة في الدَّين قالوا هو " همّ الليل وذل النهار " ، فإذا لم تكن هناك ضرورة للكفالة أو حاجة ولم تكن الكفالة لشخص يستحق، أو كانت الكفالة تعرض الإنسان لضرر عظيم مثل أن تكون بأموال طائلة لا يستطيع سدادها، أو يخاطر بنفسه بمثل هذه الكفالة؛ فإنه حينئذ ينبغي له أن يتقي ذلك ، لأن الوسائل المفضية إلى المكروه مكروهة ، والمفضية إلى الحرام محرّمة ، ومن هنا ينبغي للمسلم أن يترفّق بنفسه ، وكذلك أيضاً إذا علم أن الذي سيكفله شخص يتلاعب بحقوق الناس أو شخص لا يبالي وليس عنده حياء ولا مروءة –نسأل الله السلامة والعافية- ، وقد يكون جريئا على الإضرار بالناس فيأتي ويحرج الناس ليكفلوه ثم يفر، ويضع من يكفله موضعاً لا يُحسد عليه ، فمثل هذا لا يُكفل ، وكفالته معونة له على الإثم والعدوان ، بل يكفل الذي عنده حاجة وضرورة ، ويكفل من يرجو في كفالته وجه الله –- عز وجل -- ، ومثل هذا لن يخذله الله –- عز وجل -- ، والناس بين إفراط وتفريط ، فقسم من الناس يتساهل في الكفالة ، فكل من جاءه كفله ، وقسم يمتنع من الكفالة نهائياً وهو قادر على تفريج كربات إخوانه المسلمين، وعنده القدرة على أن يقوم بسداد حوائجهم وسد خَلّتهم بإذن الله ، بل رأينا وسمعنا خاصة في هذه الأزمنة المتأخرة من يستهزئ بأصحاب الكفالات، ولربما شهّر بهم كما يفعله بعض الكتاب -أصلحهم الله- فإذا وقع شخص في كفالة ثم غرم شهّر به واستهزأ به، وعدّه خفيف العقل، ولاشك أن هذا المسكين اختلت عنده الموازين، ولم يفقه في شرع رب العالمين ، فما على المحسنين من سبيل مادام أن هذا الكفيل قد وضع الكفالة في محلها، واتقى الله –- عز وجل -- فيها ورجا ما عند الله فمثله يكرم ولا يهان، ويذكر بالخير لا(6/84)
يذكر بالشر ، ويرفع قدره ولا يحط ، ومازالت الناس تذكر مآثر أهل الخير، ومواقفهم الحميدة، وقد رأينا وعشنا مع أناس كانوا حماّلين لمثل هذه الأمور، سباّقين لها ، فضاقت عليهم الدنيا ولكن الله وسّع ضيقها ، واشتدت عليهم الأمور ولكن الله هوّن شدتها ، ومن كان الله معه فإن الله نعم المولى ونعم النصير .
فالقصد والعدل أن يكون هناك حاجة للكفالة ، وأن يكون الشخص الذي يُكفَل يستحق أن يكفل مثله ، وأن يتقي الإنسان ربه فلا يتحمَل فوق طاقته ، وعليه فإن الكفالة مندوب إليها شرعاً، وهي من محاسن العادات، وفيها تفريج للكربات ، فلو تصور المسلم وهو يكفل أخاه المسلم، كم فرّج عنه من كربة يداوي بها جراحه ، أو يداوي بها مريضه، أو يزوّج بها ولده ، فيستر عورة أو يسد بها خَلّة لمديون أصابته ضائقة في طعامه وشرابه لأهله وولده ، فمثل هؤلاء لن يخيبّهم الله ، وكم من أمثال هؤلاء ماتوا وما ماتت مآثرهم وارتحلوا وما ارتحلت فضائلهم ، فماتوا وهم في الناس أحياء، يُذكرون بالجميل ولا يذكرون إلا وقد خشعت القلوب من مواقفهم ومآثرهم ، فنسأل الله العظيم أن يبارك فيهم، وأن يكثّر من أمثالهم ، وأن يعينهم على ما هم فيه من قضاء حوائج المسلمين ، ونسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم من السبّاقين لما يرضيه
يقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الحوالة والضمان ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالحوالة والضمان .(6/85)
قال رحمه الله : [ ومن أحيل بدينه على من عليه مثله فرضي فقد برئ المحيل ] : ذكر العلماء -رحمهم الله- أن الحوالة لازمة بشروط ، والأصل في وضع هذه الشروط أن السنة لماّ ألزمت بالحوالة لم تلزم بها مطلقة ، ولكن ألزمت بها بقيد؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( من أحيل على مليء )) فخصّص الحوالة اللازمة، يشترط أول شيء أن يكون هناك دَيْن ، وأن يكون هذا الدَّين مستقرا في الذمة ، والحوالة تكون في الديون المستقرة ؛ لأن هناك ديون غير لازمة ولا مستقرة ، وهناك ديون لازمة مستقرة ، وهناك ديون لازمة غير مستقرة .
فأما الديون غير اللازمة وغير المستقرة فمثل ما يقع في عقد الكتابة مثلا ، فالكتابة بين السيد والعبد ، فإذا كاتب سيد عبده؛ فإن العبد يصبح مديوناً بأنجم الكتابة وأقساط الكتابة ، فلو قال: أعطيك عشرة آلاف ريال وتعتقني ، قال: رضيت وقبلت ، فكاتبه على عشرة آلاف كل شهر يدفع ألف ريال ، فهذا دَين لكنه غير مستقر لاحتمال أن يعجز عن سداد أنجم الكتابة ويعود رقيقاً ، ومن هنا هو دين غير لازم؛ لأن عقد الكتابة ليس بلازم إلا في حال ثانٍ على التفصيل الذي سنذكره ، وقد سبق لنا في كتاب البيوع بيان العقود اللازمة في أول الحال، والعقود الجائزة في أول الحال، واللازمة في ثاني الحال ، فهو دين غير لازم؛ لأن العقد مثل ما ذكرنا ليس بلازم، وأيضا غير مستقر ، لأنه يمكن أن يعجز عن أنجم الكتابة، وحينئذ يكون دينا غير مستقر وغير لازم .
ويكون الدين لازما مستقرا ، مثل: شخص جاء واقترض من آخر مائة ألف ريال، واتفق معه على أن يرد مائة ألف في شهر رمضان، فهذا دين لازم ومستقر في الذمة ، وهذا هو الذي تقع فيه الحوالة الدَّين اللازم المستقر .(6/86)
وهناك ديون في العقود اللازمة غير المستقرة، مثل: لو قال له: بعتك عمارتي بمليون . قال : قبلت ولي الخيار ثلاثة أيام ، فإن مائة ألف العقد صحيح؛ لأنه لا خيار إلا بعقد صحيح ، فعقد البيع صحيح، والبيع عقد لازم، وهو لازم لكلا الطرفين ، لكن لماّ أعطاه الخيار صار استقرار المليون مشكوكا فيه يحتمل أن يوافق على العقد فتصبح مستقرة ، ويحتمل أن يرجع عن العقد ، ويقول : لا أريد البيع، وحينئذ يكون الدَّين ساقطا وترد العمارة ولا يلزم دفع المليون ، فهذا دَين غير مستقر في عقد لازم ، ومن هنا يشترط أن يكون الدين مستقرا حتى يحيل، وتكون فيه الحوالة .
وبيّن المصنف شرط المماثلة فإذا أحاله بمائة ألف ريال على شخص ينبغي أن يكون على دَين مثله ، فإذا كان له على ذلك الشخص مائة ألف صحت الحوالة ، وقال له : يا فلان، مائة ألف ريال التي لك عليّ أحلتك على عبدالله بن فلان الذي لي عليه مائة ألف ريال، وحينئذ تصح الحوالة بمثله ، وبيّن رحمه الله أنها لازمة .
قال رحمه الله : [ ومن أحيل بدينه على من عليه مثله فرضي ] : فرضي: يعني المُحَال رضي .(6/87)
قال رحمه الله : [ فقد برئ المحيل ] : فقد برئ المحيل: إذا قال له مائة ألف التي لك عليّ أحلتك بها على عبدالله . قال: قبلت؛ فحينئذ تنتقل مائة ألف التي في ذمتي إلى ذلك الشخص ويصبح الدين قد برئت منه برضاه، وبهذا يشير المصنف إلى أن الحوالة قد أصبحت لازمة ، وهي من العقود اللازمة؛ لأنك إذا قلت إنه يلزمه برضاه فإنه حينئذ يحكم بلزوم عقد الحوالة، وتبرأ ذمة المديون المحُيل ، وأما المحال فإنه يطالب المديون الذي عليه الدين الثاني وتبرأ ذمة من أحاله؛ لقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من أحيل على مليء فليتبع )) فلما جعل المحال ملزما بأن يتبع من أحيل عليه فلا معنى لذلك إلا براءة ذمة من عليه الدين وهو المحيل، وهذا هو المستفاد من إلزام المُحال ، وإلا لأصبح الدَّين على الاثنين: الأول والثاني ، ولكن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لما ألزم بالحوالة دلت هذه السنة على أن ذمة من أحال قد برئت بالرضى ، فلو رجع لو قال له : خمسة آلاف التي لك عليّ قد أحلتك على صالح ولي عليه خمسة آلاف ريال. قال: قبلت، ثم خرج على قول بعض العلماء أن الحوالة يقع فيها خيار المجلس ، وحينئذ يقول لابد أن يفترقا ، والأصح عند طائفة من العلماء أنه لا يقع فيها خيار المجلس ، فإذا تمّت الحوالة رضي وتمت وافترقا لنقل افترقا جاء اليوم الثاني وقال: لا أريد خمسة آلاف منك، وقد رجعت عن القبول نقول لا يملك أن يفسخ ذلك إلا برضى من أحاله ، لأنها عقد لازم فلو قال: رجعت عن رضائي وأريد خمسة آلاف منك لم صح رجوعه ، إذًا إذا رضي بها لزمه ، وشرط اللزوم الرضى بالحوالة .(6/88)
قال رحمه الله: [ ومن أحيل على مليء لزمه أن يحتال لقول رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم-: (( إذا أُتْبِع أحدكم على مليء فليتبع )) ] : في العبارة الأولى ذكر المصنف –رحمه الله- المماثلة في الجنس، والنوع، والقدر ، وهذا ركّب العلماء منه مسائل المحظورة منها لو كان الدين بالذهب، وأحاله على شخص آخر له عليه فضة لم يصح ؛ لأنها تكون على وجه المصارفة ، ولا يصح في الدّين أن ينقل من عملة إلى عملة، ومن نوع إلى نوع آخر ومن صنف إلى صنف في جنس الأثمان إلا يدا بيد؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- حينما سئل في الدين فقال له ابن عمر –- رضي الله عنه -- يا رسول الله إني أبيع بالدراهم وأقتضي بالدنانير وأبيع بالدنانير وأقتضي بالدراهم ؟ قال : (( لا يحل لك أن تفارقه وبينكما شيء )) يتفرع على هذا في زماننا لو كان للشخص عشرة آلاف ريال على شخص، فأراد أن يحيله على شخص آخر له عليه دولارات تساوي عشرة آلاف لم يصح ؛ لأنه يؤدي إلى ربا النسيئة ، وعليه فإنه لابد أن يكون مثله ، وهذا معنى اشتراط المصنف –رحمه الله- المماثلة ، فلو كان الدَّين الذي يحيل به من الذهب والدّين الذي يحال عليه من الفضة لم يصح لوقوع الربا في صورة الحوالة، وما أدّى إلى باطل فهو باطل ، وما أدى إلى محرّم فهو محرّم ، فلا تصح الحوالة من هذا الوجه .(6/89)
ثم بيّن المصنف –رحمه الله- أن المحال تلزمه الحوالة، ولكن بشرط أن يكون الذي أحيل عليه مليئاً ، والمراد بكونه مليئا أي قادراً على السداد ، أي عنده قدرة على السداد ، فمادام أنه عنده القدرة على السداد فهذا هو المهم، سواء كان غنيا أو لم يكن غنيا ، فالمهم أنه إذا كان عنده قدرة على الوفاء والسداد؛ لزمه أن يقبل الحوالة ؛ لقول رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- والحديث صحيح ورواه الجماعة : (( من أحيل على مليء فليتبع )) (( فليتبع )) أمر ، والأمر للوجوب، ومذهب الحنابلة والظاهرية وطائفة من أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي –رحمة الله على الجميع- أنه إذا أحيل على مليء فالحوالة لازمة ولا خيار للمُحال ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فليتبع )) وهذا أمر ، والأمر للوجوب ، ولا صارف لهذا الأمر عن ظاهره ، وذهب الحنفية والمالكية –رحمهم الله- وأيضا الشافعية إلى القول بعدم لزوم الحوالة، وقالوا : لأن صاحب الدين ليس ملزما أن يأخذ الدين من الطرف الآخر وهذا حقه وإن شاء أن يمتنع فله ذلك .
والصحيح ما دلت عليه السنة من أنه إذا كان الذي أحيل عليه مليئاً فإنه تلزم الحوالة؛ والدليل على ذلك أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ذكر صفة مليء، فلو كان الأمر للندب والاستحباب لم تُذكر هذه الصفة ، فذكر هذه الصفة يدل على أن الأمر أمر إلزام، ولا يستقيم أن يكون الأمر أمر إلزام إلا إذا كان الشخص الذي أُحيل عليه قادرًا على السداد .(6/90)
قال رحمه الله : [ وإن ضمنه عنه ضامن لم يبرأ وصار الدَّين عليهما ] : [ وإن ضمنه ] : الضمير عائد إلى الدين [ عنه ] يعني عن المديون . ضامن صورة المسألة : محمد له على عبدالله ألف ريال . فقال صالح لمحمد : أنا أكفل عبدالله في سداد هذه الألف، فهل هذا الكفيل بدخوله بالكفالة ينقل الدين من ذمة المكفول عنه إلى ذمته هو ؟ الجواب : لا . بل يصبح الاثنان قد شغلا ذمّتيهما بالحق، فلصاحب الدَّين أن يطالب الأصيل الذي هو المكفول عنه، وله أن يطالب الكفيل ، فإذا قال لك شخص: أنا أكفل فلاناً في دينك عليه، فلك الحق إذا حل الأجل أن تطالب من كَفَل أو تطالب المكفول عنه ، وهذا أصل في الكفالة، فشرع المصنف –رحمه الله- في هذه العبارة في بيان بعض المسائل المتعلقة بالضمان والكفالة، فبيّن مشروعية الكفالة، وأن هذه الكفالة لا توجب نقل الدَّين من ذمة المكفول عنه إلى الكفيل ، بل تصبح ذمتيهما مشغولتين بالدَّين لصاحب الحق .
قال رحمه الله : [ ولصاحبه مطالبة من شاء منهما ] : [ ولصاحبه ]: يعني لصاحب الدين أن يطالب من عليه الدين في الأصل محمد، وله أن يطالب صالحا وهو الكفيل ، فمثلاً لو قال لك: أعطِ فلانا ألف ريال وأنا أكفله يسدد لك في رمضان، فجاء رمضان في أول رمضان يسددك، فجاء الأجل لم يسدد، فلك الحق أن تقول لهذا الكفيل: أعطني حقي، ولا تلتفت للمكفول ، ولك أن تأخذ المكفول، وتقول: أعطني حقي، أنت بالخيار أن تطالب من شئت منهما ، لأن ذمة هذا وهو الكافل قد أضيفت إلى ذمة المكفول، وأصبح الاثنان متحملين، لكن تطالب أي واحد منهما ، إن شئت الأصيل، وإن شئت الكفيل.(6/91)
قال رحمه الله : [ فإن استوفى من المضمون عنه أو أبرأه برئ ضامنه ] : فإن استوفى من المكفول عنه هذا الشخص الذي أخذ الدَّين حينما جاء رمضان قام وسدد، فبمجرد سداده برئت ذمة الكفيل ، وليس من حق صاحب الدَّين أن يقول: أنا ما أقبل منك أريد مثلا الكفيل يسدد لي ، نقول ليس من حقك مادام أنه قد سدّدك الأصيل فإن الكفيل قد برئت ذمته ، فبيّن أن ذمة الكفيل قد انضمت إلى ذمة المكفول، وحينئذ إذا سدّد المكفول فليس من حق صاحب الدَّين أن يطالب الكفيل بشيء .
قال رحمه الله : [ فإن استوفى من المضمون عنه أو أَبْرَأَهُ ] : أو أَبْرَأَهُ : أبرأه قال له سامحتك في ديني أسقطت عنك الدين. ( أبرأه ) فحينئذ ليس من حقه أن يطالب الكفيل؛ لأنه إذا برئت ذمة الأصيل برئت ذمة الكفيل، لا العكس ، فلو أبرأ الكفيل لم يبرأ الأصيل وهو المكفول عنه ، وبناء على ذلك فإن كفالة الكفيل أو ذمة الكفيل مضافة إلى ذمة المكفول عنه .
قال رحمه الله : [ وإن أبرأ الضامن لم يبرأ الأصيل ] : جاء الوقت وحل الأجل، واتفق على أنه يسدد له في أول رمضان، وقال: في أول رمضان أنا أكفل فلان يسدد لك ، فلما جاء أول رمضان لم يسدد، في هذه الحالة إذا لم يسدد قلنا من حقه أن يطالب الأصيل المكفول عنه، وأن يطالب الكفيل ، فإذا حضر الأجل جاء الكفيل إلى صاحب الدَّين وقال له : يا فلان، أنا أكفل فلانا، وما كنت أظن أنه سيضر بي، وما كنت أظن أنه يفعل هذا وأنا بين يديك ، قال: أنا سامحتك، أنت ككفيل قد أخرجتك من العهدة وأبرأتك ، ولكن الذي عليه الدَّين أنا أطالبه من حقه ، إذاً إذا برئت ذمة الكفيل لم تبرأ ذمة المكفول عنه الأصيل، ولكن إذا برئت ذمة الأصيل برئت ذمة الكفيل؛ لأنه تبع، ولذلك الفرع يتبع أصله، فالكفيل تابع للأصل وهو المكفول عنه، فإذا برئت ذمته برئت ذمة الكفيل، لا العكس كما ذكرنا.(6/92)
قال رحمه الله : [ وإن استوفى من الضامن رجع عليه ] : وإن استوفى من الضامن: شخص قال لشخص: أعطِ محمدا ألف ريال دَينا وأنا كفيله في رمضان يعطك هذه الألف، فجاء رمضان ولم يسدد محمد، فقام الكفيل ودفع الألف ، في هذه الحالة إذا دفع الكفيل الدَّين رجع على الأصيل، فمن حقه أن يطالب المديون أن يسدد عنه ، فكفالته للدَّين لا توجب براءة ذمة المديون ، بل على المديون والمكفول أن يسددا الحق الذي كفله به ، وقام بسداده .
قال رحمه الله : [ ومن كفل بإحضار من عليه دَين فلم يحضره لزمه ما عليه ] : ومن كفل بإحضار من عليه دين ولم يحضره لزمه ما عليه : هناك كفالة غرم، وهناك كفالة حضور ، وكفالة الحضور من أشهر وأكثر ما تقع في القصاص -كما ذكرنا- والدماء ، ولكنها قد تقع في الحقوق المالية، فيقول: أنا أكفل فلانا حضوريا، يعني أن أحضره عند الأجل عند القاضي، أو أحضره عند الحقوق حتى يسدد الذي عليه ، أو أحضره عندك يا فلان حتى تأخذ حقك منه، فتكفل بهذا ، وهذا يقع في الخصومات بعض الأحيان يكون صاحب الدَّين يريد أن يشتكي، فيأتي شخص ويتوسط صلحا، ويقول: والله، فلان غائب، ولكن إذا حضر أبشر بحقك ، قال له : من يضمن لي أن يحضر ؟ فيقول له: أنا أكفل لك أن يحضر في جمادى أو يحضر في نهاية الشهر أو يحضر عند انتهاء عمله أو مهمته، فهذه كفالة حضور ، فإذا حل الأجل ولم يحضره لزمه ما عليه وإلا ضاعت حقوق الناس ، ومن هنا يلزم بدفع ما عليه ثم يكون وجهه على مَنْ كَفَله .(6/93)
قال رحمه الله : [ فإن مات برئ كفيله ] : فإن مات الأصيل المكفول عنه برئ كفيله، لو أن شخصا كفل شخصا بألف ريال إلى بداية رمضان يسددها، فتوفي الذي عليه الدَّين في رجب أو في شعبان قبل أن يحل الأجل؛ فإنه في هذه الحالة لا يلزم الكفيل بشيء؛ لأن الكفيل يلزم بالدفع عند امتناع أو تعذّر أو عدم سداده عند الأجل ، ولم يحل الأجل، فليس هناك وجه لإلزامه ، ومن هنا تسقط الكفالة، وتلغى بالموت، ولا يلزمه شيء مادام أن الأصيل قد توفي .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : دخل شخص المسجد، وأراد أن يصلي تحية المسجد، فدخل في صلاة وانتهى إلى الركعة، وأقيمت الصلاة فهل يسلم أم يكمل صلاته . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فإذا أقيمت الصلاة فإنه لا يخلو من كان في نافلة من حالتين :(6/94)
الحالة الأولى : أن يمكنه إتمام النافلة، وإدراك الركعة، فحينئذ يتمّم نافلته، ثم يدرك الإمام خاصة إذا أمكنه أن يدرك قراءة الفاتحة، وعليه فلا يلزمه قطع الصلاة؛ وذلك لقوله –تعالى- : { ولا تبطلوا أعمالكم } وخير الأعمال الصلاة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة )) وعليه فإنه لا يقطع الصلاة إذا أمكنه أن يتمها مثل أن يكون في التشهد أو يكون في الركعة الثانية أو يمكنه أن يختصر ويتجوّز والإمام يعدّل الصفوف أو يتأخّر قليلا في دعاء الاستفتاح ونحو ذلك فقدّر على حسب خبرته أنه يمكنه أن يتمّ الركعة ويدرك الإمام ، فحينئذ يتمّ صلاته ويدرك الإمام ، وأمّا إذا كان في ابتداء الصلاة أو أنشأ الصلاة فأقيمت الصلاة مباشرة، وغلب على ظنه أنه لا يدرك الركعة، فحينئذ يقطع الصلاة؛ لأنه تعارض النفل والفرض، فيقدّم الفرض على النفل؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال يقول الله تعالى : (( ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )) فقدّم الفريضة على غيرها، ولأن الفريضة واجبة والنافلة غير واجبة ، ومن هنا يشرع له القطع، وإذا قطع الصلاة يقطعها بالتسليم؛ لأمرين:(6/95)
أولهما : عموم حديث علي في السنن وهو حديث صحيح عنه –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( تحريمها التكبير وتحليلها التسليم )) فلما قال : (( تحريمها التكبير )) دل على أن كل من كبّر تكبيرة الإحرام فقد دخل في حرمة الصلاة، ولماّ قال : (( تحليلها التسليم )) عمّم، فدل على أن هذه الحرمة لا يخرج منها إلا بتسليم، إن كانت كاملة فكاملة، وإن كانت ناقصة فناقصة ، فإذا سلم بإذن الشرع لإدراك الفريضة كُتب له أجر ما صلى، وهو اختيار بعض العلماء –رحمهم الله- ؛ لأنه عذر شرعي ، ومن ترك العبادة لعذر شرعي كتب له أجره؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن بالمدينة رجالا ... إلى أن قال : إلا كانوا معكم إلا شاركوكم الأجر. قالوا كيف وهم في المدينة ؟! قال: حبسهم العذر )) فهذا عذر شرعي؛ وعليه فإذا سلّم كُتب له أجر ما مضى، وكُتب له أجر إتمام الصلاة؛ لأن في نيته أن يقوم بالعمل وحال دون ذلك أمر شرعي وعذر شرعي .
أما الأمر الثاني: فقد جاء في رواية حديث معاذ –- رضي الله عنه -- حينما طوّل بأهل قباء ، وكان الرجل يصلي وراءه، قال: (( فانفتل وسلّم )) وهي إحدى الروايات أنه سلّم من صلاته لما قرأ واستفتح معاذ –- رضي الله عنه -- بسورة البقرة، فانفتل الرجل وسلم، ثم صلى لنفسه، فهذا أصل، وجمهور العلماء على أن من أراد قطع الصلاة أثناءها يسلم خاصة إذا وجد العذر حتى يكتب له أجر ما مضى. وأما إذا خرج منها من دون التسليم فقد أبطلها، وعليه فإنه يحرص على هذه السنة من الوجهين الذين ذكرناهما فيسلّم .
إذاً قطع الصلاة أو التسليم منها لا يكون إلا في الحالة التي يغلب على ظن المصلي أنه لا يدرك الركعة . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : إني أقوم الليل وأصلي ركعتين ركعتين، وأقرأ من قصار السور، وبعده أصلي ركعة وثلاث ركعات الوتر، فهل فِعْلي صحيح . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(6/96)
هذه هي السنة أن يصلي المصلي في قيام الليل ركعتين ركعتين، يسلم من كل اثنتين، وهذا أفضل، وله أن يصلي أربعاً ويسلم في آخرهن، ويجلس للتشهد في الأخيرة ويسلم، وله أن يصلها ببعضها ولا يجلس إلا في الوتر، كل ذلك محفوظ من سنة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- كما في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة ((كان يصلي أربعا لا تسل عن حسنهن وطولهن )) وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى وأوتر بخمس وبسبع وبتسع، وكان لا يجلس إلا في آخرهن -صلوات الله وسلامه عليه- فالأمر واسع ، وهذا يختلف بحسب اختلاف قيام الليل، ففي بعض الأحيان يقوم الإنسان والوقت متسع في الوقت متسع، فيصلي ركعتين ركعتين، فمثلا من عادته أن يقرأ بثلاثة أجزاء من القرآن، ويحتاج لهذه الثلاثة الأجزاء إلى قدر من الساعات، فلو فُرض أنه يترسّل في قراءته ويحتاج إلى ساعتين مثلا في قيامه بإتمام ركوعها وسجودها، فقام وقد بقي على الفجر ساعتان إلا ربعا أو ساعة ونصف؛ فحينئذ سيختزل التشهد الذي يكون في كل ركعتين ويقتصر، والأفضل له أن يطيل القراءة؛ لأنه إذا تعارضت إطالة القراءة وإطالة الركوع والسجود فالأفضل في قيام الليل أن يطيل القراءة؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لما سئل عن أفضل الصلاة قال : (( طول القُنوت )) وطول القنوت طول القيام ، وطول القيام أن يكثر من القراءة، ولأن الركوع ذكْره تسبيح والسجود كذلك ، ولكن القيام ذِكْره القرآن ولا شيء يعدل كتاب الله –- عز وجل -- ، ومن هنا فُضّل على سائر الذكر كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: (( إن فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه )).
فالشاهد من هذا أنه قد يحتاج إلى أن يصلي أربعا مع بعضها أو ثماني فلا بأس ولا حرج .(6/97)
أما ما ذكرته في السؤال فهو جائز ودلت عليه السنة، وإذا كان عند قصار السور فلا بأس أن تكررها إذا كنت لا تحفظ كثيرا من القرآن، وأردت أن تصيب فضيلة طول القيام تُكرر قصار السور؛ لأنه مما تيسّر من القرآن ، وقد صح عنه –عليه الصلاة والسلام- أنه قرأ بالسورة مرتين في الصلاة الواحدة كصلاة الفجر، فقرأ عليه الصلاة والسلام : { إذا زلزلت الأرض زلزالها } في الركعتين من الفجر، والأمر واسع في هذا ، فإذا كان الإنسان لا يحفظ إلا سورا قصيرة، ويريد أن يطيل القيام وينال فضل تلاوة القرآن فلا بأس أن يكرر هذه السور ، وإذا أحب أن يضيء المصباح فيقرأ من القرآن مباشرة فلا بأس ولا حرج . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : أنا إنسان أخشى على نفسي من الرياء، حيث كلما عملت عملا من الأعمال قال لي الشيطان أنت مراءٍ حيث يوسوس لي حتى في بعض الأحيان أترك كثيراً من أعمال الخير فما الحل. وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
الحل الحمد لله واضح شهدت أنه إبليس وأنه شيطان ، والله –- عز وجل -- يقول : { إن كيد الشيطان كان ضعيفا } ويقول : { لا تتبعوا خطوات الشيطان } هذا الحل أنك ما تتبع خطوات الشيطان .(6/98)
حَنِق عدو الله وهو يراك قائما بين يدي الله ، وحنق عدو الله وهو يراك مع الراكعين والساجدين والذاكرين ، وحَنِق عدو الله وامتلأ غيظا حينما يراك في طاعة رب العالمين ، وليس هناك ساعة أشد على هذا العدو الذي شهد الله –- عز وجل -- أنه عدو مبين ، ليس هناك أغيظ ولا أدحر له حينما يراك على طاعة الله –- عز وجل -- ومن هنا لا يملك إلا الوسوسة أن يقول : هذا رياء، والله لا يتقبل من المرائين ، وهذا عمل أنت تريد به السمعة، وتريد به ما عند الناس، فاحمد الله على العافية ، واترك هذه الوساوس، وقد بيّن الله لك الصراط المستقيم، ولا يهلك على الله إلا هالك ، فبمجرد أن تجد في قلبك مثل هذه الوساوس، ومثل هذه الخطرات، المؤذية المقلقة؛ فاعلم أنها من عدو الله إبليس، لأنه يريد أن يعدك الفقر ولما قال الله –- عز وجل -- : { الشيطان يعدكم الفقر } بمعنى أنك ما تعمل عمل خير إلا وأشعرك أنك فقير ليس لك بهذا العمل من شيء ، وحينئذ تسوء الظنون بالله –- عز وجل -- ، ومن ساء ظنه خاب، وكان من الخاسرين ، قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي يقول الله تعالى : (( أنا عند حسن ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيرا كان له )) فظُن بربك كل خير ، وعليه فهذا الذي تجده في نفسك من أنك إذا جلست في حِلَق الذّكْر قال لك : مراءٍ، إن كان يدعوك إلى أن تقول: أستغفر الله أعوذ بالله من الرياء ، اللهم اجعلني من المخلصين، وتسأل الله أن تكون مخلصا فالحمد لله، دعاك إلى خير، وأما أن يقول لك: اترك هذا العمل لأنك لم تخلص فيه لله ، واترك الصلاة مع الجماعة؛ لأنها رياء ، واترك حِلَق الذِّكر لأنها رياء؛ فاعلم أنه يريد أن يفقرك من رحمة الله –- عز وجل -- ، وحينئذ يجب عليك أن تقول وأن تعمل ، أما القول فالله –- عز وجل -- أمرك به بقوله : { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } فتقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، وتسأل الله أن يعيذك؛ لأنه لا ملجأ ولا منجى(6/99)
من الله إلا بالله –- سبحانه وتعالى -- ، فهو نعم المولى ونعم النصير ، فسل الله أن يحفظك من هذه الوساوس ، واستعذ بالله منه .
وأما العمل فلا تترك هذه الطاعة، بل استمر واعملها، واذكر الله –- عز وجل -- واجتهد في الإخلاص فيها، وإرادة وجه الله –- عز وجل -- ، أما تركك للأعمال وبُعدك عن الخير بناء على هذه الوساوس؛ فإنه خطأ، ولا يجوز لك أن تتبع خطوات الشيطان في ذلك ، بل عليك أن تطيع الله، وتحسن الظن في الله، فإنه نعم المولى ونعم النصير . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الرابع :
فضيلة الشيخ : أنا أصلي الفجر في إحدى المساجد، والإمام دائما يقنت في صلاة الفجر ولذلك أرفع يدي للتأمين أم لا . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
القنوت في صلاة الفجر مسألة خلافية، واختار الإمام الشافعي –رحمه الله برحمته الواسعة- ومن أئمة السلف ودواوين العلم اختار القنوت في صلاة الفجر بعد الركوع جهرا، واختار إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس –رحمه الله- القنوت في صلاة الفجر قبل الركوع سرّا ، وكلا القولين له حجته وله دليله.
واختار الحنابلة والحنفية عدم القنوت، واختار الحنابلة تخصيص القنوت في النوازل .(6/100)
هذه المسألة اختلف فيها السلف –رحمهم الله- لا يشرع الإنكار على أحد قَنَت في صلاة الفجر ، ولا يجوز تضليله ولا تبديعه مادام أنه على قول، له إمام من أئمة السلف، وله وجه من السنة من سنة النبي -- صلى الله عليه وسلم -- ، ولذلك سئل الإمام أحمد –رحمه الله- فقال له السائل : أأصلي وراء رجل يقنت في صلاة الفجر؟ قال : سبحان الله ! أوَلا أصلي وراء الشافعي ؟! يعني لو قلت لك: لا تصلي وراءه يعني لا تصلي وراء الإمام الشافعي ، الإمام الشافعي يرى هذا ، فالمشكلة أن البعض إذا ترجّح عنده قول ظن أن هذا القول هو الذي ينبغي إلزام الناس به، ومن هنا يحقّر من خالفه، ويبدّعه ويضلّله ، تعتقد أنت بدعية الشيء لا يلزم من اعتقادك أن تلزم به الغير ، وهذا أصل أجمع عليه العلماء والأئمة –رحمهم الله- لا إنكار في المختلف فيه ، ومن هنا قرّر أئمة الحنابلة أنه لو صلّى إنسان يرى رجحان قول الإمام أحمد أو يرى حتى أئمة الحنفية كما قرّره صاحب بدائع الصنائع وفتح القدير، وكذلك الإمام ابن العابدين في حاشيته، وغيرهم –رحمهم الله- وتكلّموا عليها في مسائل الإمامة والاقتداء أن الإمام إذا عمل بقول له أصل من أقوال السلف والأئمة فإنه تُشرع موافقته ، ولا يعتبر اتباعك له في القنوت موجباً لبطلان صلاتك؛ لأن له مندوحة وله وجه، ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في المجموع أن الصحابة اختلفوا، فكان يصلي بعضهم وراء بعض، ويترحّم بعضهم على بعض، ولم يكن بعضهم يبدّع بعضا كما يفعل المتأخرون ، والعجب كل العجب أن هناك من ينهى عن التعصب ثم تجده أشدّ عصبية، فتجده ينهى عن التعصب ويقول : كل يؤخذ من قوله ويرد ، كأنه يقول إلا قولي أنا ، فإذا كانت المسألة فيها ترجيح ويرى أنه قد رجح القول عنده لا يمكن أن يقبل بقول خالفه ، وإذا رأى أحدا خالف شيخه أو خالف ما رجّحه شيخه أو من يعتقد فضله فعندها تقوم قائمته ، بالملامة والتبديع والتضليل، ومنها : مسألة(6/101)
القنوت في صلاة الفجر، مسألة كانت مساجد المسلمين -رحمهم الله- ممن مضوا من العلماء ومَن بعدهم لا يعيبون على من يقنت، ولا على من صلى وراء من يقنت ولا العكس، فلو صلى الشافعي وهو يعتقد القنوت وراء من لا يقنت . ذكر الإمام النووي مسألة في المجموع وبيّنها وفصّل فيها فهذا كله مما يسع فيه الخلاف ،؛ لأنها من المسائل الفرعية التي احتملتها النصوص ، ومن رجّح قولا فليعلم أنه عبد ليس بمعصوم ، وأنه يحتمل أن يكون الصواب مع غيره، كما قال السلف: قولنا صواب يحتمل الخطأ، فكونه يبدّع الغير ويحقّر الغير، وكم سمعنا من بعض طلبة العلم، بل منهم من شوّش على الإمام أثناء قنوته، وبلغنا في بعض القصص أن بعضهم دفع الإمام وهو يصلي ويقنت، ثم كبر بالناس من جديد –نسأل الله السلامة والعافية- هذا الغلو وهذا الاحتقار لعلم السلف والأئمة واحتكار القول واختزال الأمة في قول واحد كل هذا لم يعرفه السلف –رحمهم الله- .(6/102)
كانت الأمة من المحيط إلى المحيط على اختلاف المذاهب وعلى اختلاف الأقوال وسعت قضايا الأمة مما مضى منها ومما جدّ ومما نزل، واتسع الفقه الإسلامي بهذا الخلاف وبهذه المرونة وبهذه المحبة والصفاء والمودة والعذر في الخلاف في المسائل الفرعية، وكانت الأمة كالجسد الواحد، كل ذلك حينما كان يقودها العلماء الأمناء ، وكان العالم إذا طرح المسألة في درسه لم يشعر طلابه أنه وحده الذي على حق وأن غيره على ضلال ، بل كان ينصح لعامة المسلمين، وينصح لأئمتهم، ويورث طلابه حب العلماء والأئمة، واحترام القول المخالف مادام أن صاحبه قد اجتهد وهو أهل للاجتهاد ، فمسألة القنوت في صلاة الفجر مسألة مشهورة، فإذا قنت الإمام وهو يعتقد ذلك؛ فإن صلاته صحيحة في حقه، فإذا صحت في حقه صحت في حق مَنْ وراءه ، وإذا كان المأموم يعتقد خلافه فإنه يشرع له المتابعة ولا يؤثر ذلك في صلاته بشيء ، قد ذكر المسألة الإمام الكمال ابن همام في فتح القدير، وكذلك أئمة الحنفية وأشار إليها الإمام الكاساني في البدائع من الحنفية، وكذلك المالكية تكلّم عليه الإمام الحافظ ابن عبدالبر –رحمه الله- في التمهيد في مواضع، وأشار إليها في الاستذكار، وكذلك أيضا تكلم عليها أئمة الشافعية كالإمام الماوردي في الحاوي، وأشار إليه الإمام النووي في المجموع في مواضع، كل هذا وكذلك أئمة الحنابلة، وشيخ الإسلام تكلم عليها في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، وفي المجموع في أكثر من موضع ، هذه مسألة معروفة عند أهل العلم ، وكان العلماء والأئمة على معرفة بها، ويعذرون من خالف ، ولذلك كانت الأمة على اختلاف مذاهبها تجتمع على طاعة الله –- عز وجل -- وعلى المحبة .
وأما التنفير من القول المخالف، وشحن النفوس عليه؛ فإنه خلاف هدي السلف، ومن سار على نهجهم. والله –تعالى- أعلم .(6/103)
بالنسبة للطرف الثاني في السؤال: وهو رفع اليدين في قنوت الفجر؛ فقد جاء فيه حديث أنس بن مالك –- رضي الله عنه -- وحسّن إسناده الإمام الحافظ ابن الملقن في التحفة، وهو أصل عند العلماء في مشروعية رفع اليدين في قنوت الفجر، وقنوت الوتر، سواء من الإمام أو المأموم أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- رفع يديه في قنوته ، فيُشرع رفع اليدين في قنوت الفجر وفي قنوت الوتر؛ عملاً بهذه السنة . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الخامس :
فضيلة الشيخ : أجلس في مقدمة مجلسكم هذه من بعد صلاة العصر حتى يحصل على مكان في المقدمة حتى أُذن المغرب، فذهب ليصلي في الصفوف الأولى بالمسجد، وترك أغراضه مكانه ثم بعد الصلاة يعود لمكانه، فلم يجده ووجد بعض الإخوة الذين صلوا في الصفوف الخلفية، بل ربما تعمدوا ذلك وصلوا في محل المجلس، وتركوا الصفوف الأولى، وتسببوا في ترك فجوة بين الصفوف الأولى وصفوفهم، وعندما يطالب صاحب المكان بعض الإخوة بمكانه، فيرد عليه أحدهم: أن الشيخ قال إنه يمنع الحجر في مجلسه، والسؤال: هل هذا حقا حجز أو أنه مكانه وهو أولى به ، وأيهما أحق بالمكان . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(6/104)
أما بالنسبة لترك الصفوف الأُوَل والصلاة في موضع الدرس فهذا لا يجوز ، وقد نبّهت أكثر من مرة على أنه أمر محرّم شرعا ، ترك الصفوف الأُوَل والتأخر في أواخر المسجد ولو كان مائة درس ، ولو كان من كان من أهل العلم ، لا يجوز هذا، وقد قال رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- : (( ألا تصفون كما تصفّ الملائكة عند ربها ، قالوا : يا رسول الله وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول )) . فالتأخر في الصفوف الأخيرة وقطع صفوف المسجد وبخاصة في مسجد النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فالإثم عظيم ، وقد نبّهت أكثر من مرة ، ولذلك أقول: أبرأ إلى الله ممن يترك الصفوف الأُوَل ويصلي في موضع الدرس وعنده صفوف ويترك الفراغ في مسجد النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، وأتعجب كيف يحرص هذا على علم لا يعمل به ، وكيف يقال له : إن السنة أن يقوم من مقامه وأن يتم الصفوف الأُوَل ، ومن هو الشيخ وغيره أمام قول النبي –- صلى الله عليه وسلم -- الذي يأمر بإتمام الصفوف ، هذا لا يجوز، ولا ينبغي لطالب علم أن يعوّد نفسه على أن يتمرّد على السنة وهو يطلب العلم ، فكيف يكون عند الإنسان التجرد للحق واتباع السنة وهو لا يستطيع أن يترك ما يهواه ، تصلي في الصفوف حيث أمرك الله أن تصلي، وتحرص على الصفوف الأُوَل وأنت تعلم أنك ترضي الله –- عز وجل -- ، ولو جئت في آخر الناس في حِلَق العلم، فالله يكتب لك أجر من حضر في أقرب الناس إلى المجلس ، ثم إن القرب الحمد لله تيسّر الآن بوجود الأجهزة وسماع الدرس من القاصي والداني، وهذه نعمة من الله –- عز وجل -- .
أما مسألة الحجز؛ فالأصل أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من قام من مقعده ومن مجلسه -كما في الرواية الصحيحة- لحاجته ثم عاد إليه فهو أحق به )) فللعلماء وجهان :(6/105)
منهم من قال: لحاجته أي حاجة الإنسان، وهو أن يقوم لقضاء الحاجة ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح : (( إذا قعد أحدكم لحاجته )) يعني من بول وغائط، وعليه فإذا خرج لأمر مثل هذا كأن يخرج للوضوء أو ينتقض وضوؤه فيضع في مكان سواء في الدرس أو غيره يضع كتابا أو يضع غترته أو شماغه فهو أحق بمجلسه إذا عاد إليه ، وجهاً واحدا عند العلماء –رحمهم الله- .
أما القول الثاني فهو التعميم، ويقولون: إن كل من جلس في مكان ثم قام ولو لشيء غير ضروري ثم عاد إليه وهو ينوي العودة إليه ووضع شيئا ليحجزه فهو أحق به ، وهذا فيه إشكال ، لكن الذي أراه أنه لا يحجز في المساجد إلا لأمر ضروري، وإذا لم يستوِ الناس في المساجد فلست أدري أين يستوي الناس ، وهذه بيوت الله، وهذه أماكن للعبادة، فلا يجوز قطعها عن العبادة، وحرمان الغير أن يتعبّد فيها، وأن يأتي وبخاصة في الصفوف الأول، بعضهم يأتي ويجعل سجادته ثم يذهب يتغدى ويصيب طعامه في بيته ثم يرجع يضارب الناس على سجادته، هذا لا أظن أن له حقاً ، وأي حق له ، فهو إذا خرج من المسجد هو وغيره على حد سواء ، وليس له مزيّة على أحد، ولو فتح هذا الباب ما على كل أحد إلا أن يضع ما شاء، ثم يقتتل الناس داخل المساجد ، وعليه فإن فهم السنة على هذا المعنى العام الشمولي فيه إشكال. والذي يظهر أنه يقوم لحاجة يحتاج إليها أو لأمر ضروري ونحو ذلك .(6/106)
أما مسألة أنك قمت من أجل الصفوف الأُوَل ولأجل تدرك الصفوف الأول فهذا لك فيه وجه، ولك فيه حق، وأنا أقول: لا أحد يحجز إلا إذا كان له حق، بمعنى أن البعض يأتي قبل الصلاة ويضع كرسيا ولا يجلس في مكانه ، أما إذا كان مثل الأخ جاء من بعد صلاة العصر، وجلس في المكان يذكر الله فيه، ثم تأوّل السنة بوضع شيء لأجل أن يقوم لأمر واجب عليه شرعا، فكما قام لعذره في حاجة نفسه قام للصلاة ثم عاد، فهذا أنا أتورع فيه، أن الذي كنت تكلمت عليه الشخص يأتي من بيته بمجرد أن يضع شماغه ثم ينطلق ، أما شخص جلس في مكانه، وحجز المكان، وجلس يذكر الله فيه، ثم حضرت الصلاة فتقدم لعذر شرعي عن المكان الذي هو فيه على أن يعود إليه بعد الصلاة فأرى أنه يتورّع في التعرض له، وأرى أن على طلاب العلم أن يتراحموا وأن يتآلفوا وأن يتآخوا، وأن لا يكون الشيطان سببا في قطع ما بينهم من وشيجة ، فأعظم محبة على وجه الأرض المحبة في الله ، وليس هناك شيء أعظم من المحبة في الله –- عز وجل --أن تكون في العلم؛ لأن العلم أفضل من العبادة، كما نص عليه –عليه الصلاة والسلام- في حديث تفضيل العلم على العبادة : (( وإن فضل العالم على العابد )) فإذا لم يتراحم طلاب العلم ولم يتوادوا في هذا فالأمر في هذا عظيم، وعليه فإنني أوصي الجميع بتقوى الله –- عز وجل -- ، ثم علينا أن نبحث عما يرضي الله –- عز وجل -- ، لو أنك جئت ووجدت أخاك جلس في مكانك خله يجلس في مكانك، ثم اجلس في ناصية القوم ، إن كنت تريد الأجر فأجرك على الله، فالله يعلم أنك جئت مبكراً وأجرك كامل ، لا ينقص بجلوسه، حتى ولو أنك حجزت في المسجد، وخرجت لقضاء حاجتك، ثم عدت فوجدت أحدا في الصف الأول، وأصر عنادا منه وكبرا فاتركه ، فالله لا يضيع أجرك، فأنت تعامل الكريم الذي لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وعليه فإنني أوصي الأخوة أن تتسع صدورهم، وأن لا يقع بينهم من الشحناء، أو أن يكون هذا الأمر سببا في القطيعة،(6/107)
فما خرجنا من بيوتنا نريد السيئات، وما جئنا إلى هنا إلا ونرجو رحمة الله .
نسأل الله بعزته وجلاله من قصد هذا المجلس أن يوفقه، وأن يشرح صدره، وأن يعظم أجره، وأن يجعل له حسن العاقبة، وأن يعيذنا من منكرات الأخلاق والأدواء، وأن يؤلف بين قلوبنا، إنه السميع المجيب. وأوصي الجميع بتقوى الله، وهذا ما تحصل لي في الأمر، أنه إذا قعد في مكانه وذكر الله فيه من بعد صلاة العصر كما ورد في السؤال فأرى أن يتورّع من مثل هذا وبخاصة إذا وضع ما يحجز به مكانه . والله –تعالى- أعلم .
ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته أن يرزقنا العلم النافع ، والعمل الصالح ، وأن يجعل ما تعلمناه وعلمناه خالصا لوجهه الكريم ، موجبا لرضوانه العظيم . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب الرهن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل اجتماعنا اجتماعا مرحوما ، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوما ، رب لا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيا ولا محروما .
وفي بداية هذه الدروس أوصي الجميع ونفسي بتقوى الله –- عز وجل -- التي جعلها الله العصمة والخير للعبد في دينه ودنياه وآخرته ، فمن اتقى الله وقاه ، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، وأحق من لزم التقوى من انتسب إلى العلم وأهله ، فالحق واجب مؤكد ، ولذلك شرّف الله العلماء بأنهم أهل خشيته ، فهم أصدق الناس تقوى لله –- عز وجل -- بعد الأنبياء ، لما عرفوا من نصوص الكتاب والسنة، التي دلتهم على الله –- عز وجل -- فكملت خشيتهم وعظمت في الله –- عز وجل -- محبتهم .(6/108)
ومن تقوى الله –- عز وجل -- استشعار المسؤولية عن هذا العلم بالجد والاجتهاد، والتفاني في تحصيله، والقيام بحقه وحقوقه ، وأسعد الناس في هذا العلم من رزق الله محبته محبة صادقة، فأحب العلم، وصدق في الرغبة فيه، وتفانى في جده وطلبه، يرجو بذلك رحمة الله ، ويبتغي ما عند الله؛ تأسيا بأنبياء الله –صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وتأسيا بالعلماء والأتقياء والصلحاء لعل الله أن يبلغه منازلهم في الدنيا والآخرة .
ومما ينبغي على طالب العلم أن يحرص على تهيئة الأسباب في قراءة الدروس وضبطها ، وتسجيل المسائل العلمية، وكتابتها، ومراجعتها ، واستشعار المسؤولية أمام الله –- عز وجل -- أنه ما تعلّم شيئا، فما سمع كلمة ولا جملة ولا عبارة إلا وسيُسأل بين يدي الله –- عز وجل -- عنها ، وسيتحمّل لهذه الأمة، ويتحمّل المسؤولية في تبليغ الأمة، فنسأل الله أن يعيننا وأن يعينكم على الجد والاجتهاد ، وصدق الرغبة فيما عند الله -- عز وجل -- ، والفوز بحسن العاقبة في هذا العلم في الدنيا والآخرة ؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه .
قال الإمام أبو محمد بن قدامة –رحمه الله- : [ باب الرهن ] :
يقول المصنف رحمه الله- : [ باب الرهن ] : هذا الباب ذكره المصنف –رحمه الله- بعد باب الحوالة ، وباب الحوالة ذكَره بعد باب أحكام الدَّين الذي يتفرع على باب القرض ، وقد ذكرنا أن المصنف -رحمه الله- رتّب هذه الأبواب ، فذكر السّلم، ثم القرض، ثم أحكام الدين، ثم الحوالة، ثم الرهن .(6/109)
الرهن والحوالة كل منهما يتعلق بالمعاملات التي تتعلق بالديون ، ومن هنا كان باب السلم وباب القرض متعلقا بالديون ، والرهن في الحقيقة من العقود التي يسميها العلماء بعقود الاستيثاق ، فإن الناس إذا وقعت بينهم المداينات يخشى بعضهم من عدم السداد ، خاصة أصحاب الحقوق ، وحينئذ يحتاج صاحب الحق إلى شيء يضمن به حقه ، فإذا جاء رجل إلى آخر وقال له : أريد أن تقرضني عشرة آلاف ريال ، فقد تكون عندك الرغبة أن تقرضه عشرة آلاف ريال وتفرّج كربته –بإذن الله- ، ولكن تريد شيئا تستوثق به من حقك، فتقول له : أقرضك، ولكن ماذا تجعل لي رهناً ؟ فإذا اشترطت الرهن فأنت تقصد أن تضمن حقك، وأن تستوثق بالسداد ، ومن هنا يعتبر عقد الرهن من عقود الاستيثاق ، وقد شرعه الله –- عز وجل -- لعباده لكي تحفظ حقوق أصحاب الحقوق ولا تضيع .
ومن هنا اجتمع دليل الكتاب والسنة ، وأجمع العلماء –رحمهم الله- من حيث الجملة على مشروعية الرهن وجوازه ، قال الله في كتابه : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } فنص - سبحانه وتعالى - على مشروعية الرهن .
وثبت في الحديث الصحيح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- من حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- أن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- توفي ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعا من شعير اقترضها عليه الصلاة والسلام من يهودي ، والحديث في الصحيحين ، وهذا الحديث دليل على مشروعية الرهن بالسنة ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فعل الرهن .
وكذلك أجمع العلماء –رحمهم الله- على مشروعية الرهن وجوازه من حيث الجملة .
والرهن أصله في لغة العرب: الثبوت والدوام، وقيل: إنه مأخوذ من الحبس ، فيطلق الرهن على معنى الثبوت والدوام، ومنه قول العرب :
نعمة راهنة ، ومنه قوله تعالى في الحبس أيضا : { كل نفس بما كسبت رهينة } أي مرهونة، فعيلة بمعنى مفعولة .
فالرهن يطلق على معنى الثبات والدوام ، ويطلق على معنى الحبس .(6/110)
وأما في اصطلاح العلماء –رحمهم الله- فهو: استيثاق الدين بالعين ليستوفى منه الحق عند العجز عن السداد .
قال العلماء –رحمهم الله- حقيقة الرهن عندنا معشر الفقهاء : استيثاق الدين بالعين ، أي أن صاحب الدين يستوثق لحقه بعين مرهونة .
وقولهم : بالعين يشمل المال الذي يجوز بيعه كما سيأتي إن شاء الله في بيان ما يجوز به الرهن .
استيثاق الدين بالعين : الدَّين هنا يشمل القرض ، لو جاء شخص وقال لك : أقرضني ثلاثمائة ريال ، فقلت له : أعطني رهنا ، قال : ساعتي هذه رهن ، فالساعة عين استوثق بها الدين وهو ثلاثمائة ريال ، ولا يختص الأمر بالدين بمعنى القرض بل إنه يشمل حتى ما كان في العقود ، لو أن شخصا اشترى سيارة بعشرة آلاف ريال، فقال: ليس عندي أن أدفع لك الآن ، ولكن سأدفع لك عشرة آلاف ريال بعد شهر ، فقال صاحب السيارة : أعطني رهنا على أنك تدفع لي عشرة آلاف بعد شهر ، ومن هنا يكون الرهن لإتمام صفقة البيع ، ويستوثق صاحب السيارة من حقه ، فإذا يكون في البيع ويكون في الإجارة ، لو أن شخصا استأجر عمارة فقال : أريدها للموسم وأنا أستأجرها منك بثلاثمائة ألف ريال ، قال له : طيب ادفع الآن المال ، قال : لا . ما أدفع لك إلا في نهاية الموسم ، قال : أعطني رهنا أستوثق به لحقّي ، فإذًا الرهن يكون في الديون، ويشمل ما إذا كان بسبب البيع أو بسبب الإجارة أو غيرها ، والأصل في الرهن أنه جاء في الديون لأن آية الدين في آية البقرة التي وردت فيها آية الرهن أصلها في السلم ، والسلم قائم على السلف والقرض وهو عقد من عقود البيع .(6/111)
قال رحمه الله : حقيقة الرهن عندنا استيثاق الدين بالعين ليُستوفى منها : أي من العين عند العجز عن السداد ، إذا قال لشخص لآخر : بعني أرضك بخمسمائة ألف أعطيكها بعد سنة ، قال : قبلت، ولكن أعطني رهنا ، قال : أرهن هذه المزرعة مزرعتي أرهنها لكي أسدد قيمة أرضك ، فهذه المزرعة تبقى رهنا محبوسة ، فإذا مضت السنة قلنا للذي عليه الدين المشتري : ادفع الخمسمائة ألف. قال: ما عندي أو لا أستطيع أن أدفع ، فعجز عن السداد ، تباع الأرض، ويستوي أن تكون الأرض أو يكون الرهن أغلى من الدين ، أو يكون مساويا للدين ، أو يكون أقل من الدين ، فلك الحق أن تضع رهنا يساوي الدين ، ويجوز أن يكون أكثر من الدين ، وأن يكون أقل من الدين ، فلو اشترى منه سيارة بعشرة آلاف ريال وجعل بيته رهنا ، والبيت قيمته مليون؛ صح ، والعكس لو اشترى منه البيت بمليون وجعل السيارة بعشرة آلاف رهنا من نفس القيمة؛ صح ، إذًا لا يشترط التساوي والتماثل .
ليستوفى منها : أي من أجل أن يستوفى من هذه العين ، وهذا لاشك أن فيه رحمة من الله –- عز وجل -- بعباده حتى لا يتلاعب الناس بالحقوق ، ومن هنا إذا وضع الرهن دفع ذلك المتعاقدين إلى إتمام الصفقة والوفاء بالالتزام .(6/112)
قال رحمه الله : [ وكل ما جاز بيعه جاز رهنه ] : وكل ما جاز بيعه جاز رهنه : شرع المصنف –رحمه الله- في هذه الجملة ببيان ما يجوز رهنه ، وما لا يجوز رهنه ، وهو أحد الأركان التي يقوم عليها الرهن، الشيء المرهون ، فالسؤال: ما هو الشيء الذي يجوز رهنه ؟ وما هو الشيء الذي لا يجوز رهنه ؟ فقال رحمه الله : [ كل ما جاز بيعه جاز رهنه وما لا فلا ] : أي وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه ، هذه الجملة تعتبر قاعدة عند العلماء –رحمهم الله- وهي إحدى القواعد الفقهية ، وذكرها كل من الإمام السبكي والإمام السيوطي والإمام الحصني –رحمة الله على الجميع- ، وعبروا بنفس العبارة :" كل ما جاز بيعه جاز رهنه وما لا فلا " ، ومن الأئمة من عبّر بعبارة أخرى مثل الإمام ابن نجيم -رحمه الله- الحنفي في الأشباه والنظائر حيث قال : " ما قَبِل البيع قَبِل الرهن" ، أي ما جاز أن يكون محلا في البيع للتعاقد جاز أن يكون رهنا .(6/113)
[ كل ما جاز بيعه ] : كل من صيغ العموم ، ما جاز بيعه يشمل الأموال من العقارات والمنقولات ، ومن هنا يجوز أن ترهن العقار ، فلو كانت عندك مزرعة أو كانت عندك عمارة أو كانت عندك أرض بيضاء اشتريتها في مخطط وأردت أن ترهن هذه العقارات في أي دين جاز ، لأنه يجوز بيع هذه الأراضي، فكما جاز بيعها جاز رهنها؛ لماذا ؟ لأن العبرة في الرهن والمقصود من الرهن أن يباع الشيء المرهون لسداد الحق ، فإذاً يشترط أن يكون الشيء الذي يجعل رهنا أن يكون صالحا للبيع حتى نتمكن من سداد الحقوق وردها إلى أصحابها ، ومن هنا قالوا : كل ما جاز بيعه جاز رهنه ، وعليه فإن هذا يشمل جميع أنواع المبيعات كما ذكرنا من العقارات والمنقولات سواء كانت غالية أو رخيصة ، لأنه ربما في بعض الأحيان تقول لشخص : أقرضني مائة ريال ، فيقول لك : أعطني رهنا ، فتقول له : هذا الكتاب رهن، وتعطيه الكتاب بخمسين ريال أو بمائة ريال وتقول له هذا الكتاب عندك رهن حتى أسدد لك ، فيستوي في الأموال غاليها ورخيصها .
وما لا فلا : أي وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه ، هذا يشمل المبيعات المحرّمة ، وقد تقدمت معنا في كتاب البيع ، وعليه فإنه لا يجوز أن يجعل الرهن ميتة ، ولا خنزيراً ولا خَمْراً ولا أصناما ، ففي الصحيحين من حديث جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام )) .
فالميتة فلو أنه قال له : أقرضني خمسمائة ريال ، قال : أعطني رهنا ، قال : أعطيك هذا الحيوان المحنّط ثعلب مثلا مثل ما يفعل بعضهم الآن يأخذ الثعلب ويحنّطه ، ويشتريه بخمسمائة، وهذا لا يجوز لأنه ميتة، وحينئذ لا يجوز بيعه ولا شراؤه ، فقال له : هذا الحيوان المحنط رهن ، لم يصح ، لأنه لا يجوز بيعه فلا يجوز رهنه ، كذلك لو كان خمرا أو خنزيرا أو صنما ، فإذا ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه .(6/114)
استثني من هذا الثمرة قبل بدو صلاحها ، فلو كان الشخص يريد قرضا بمائة ألف ريال وعنده مزرعة ، وهذه المزرعة فيها ثمرة لم يبدُ صلاحها مثلا عنده مائة نخلة، وفيها ثمر لم يبدُ صلاحه ، فالثمر الذي لم يبدُ صلاحه لا يجوز بيعه ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك –- رضي الله عنه -- (( أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الثمرة حتى تُزهي )) وكذلك أيضا ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- (( أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشتري )) ، وقد تقدم معنا هذا في البيع ، فلو قال له : هذه الثمرة التي لم يبدُ صلاحها أرْهنها عندك بالمال ، جاز ؛ لأن العلة التي من أجلها نهي عن البيع غير موجودة في الرهن ، ومن هنا تؤول إلى الصلاح، وليس فيه إلزام بالثمرة عند فسادها ، فجاز رهنها كما جاز بيعها بشرط القطع، وقد فصلنا في ذلك في البيع ، وعليه فيجوز رهن الثمرة قبل بدو صلاحها ، ورهن العنب قبل أن يسود ، والحبّ قبل أن يشتد ، والثمار قبل أن يبدو الصلاح فيها ، الأصل يقتضي أن الثمار قبل بدو صلاحها لا يجوز بيعها ، ولكن هنا لتخلّف العلة جاز وضعها رهنا . فقال رحمه الله : [ وكل ما يجوز بيعه يجوز رهنه وما لا فلا ] .(6/115)
قال رحمه الله : [ ولا يلزم إلا بالقبض ] : ولا يلزم الرهن إلا بالقبض ، لو أن شخصا قال لك : أعطني مائة ريال قرضا إلى نهاية الشهر ، قلت له : أعطني رهنا ، قال : ساعتي هذه رهن عندك ، قلت : قبلت، ثم قال لك : لا أريد أن أعطيك الساعة سأعطيك كتابا ، لاحظ حينما قلت: قبلت تم العقد والاتفاق على القرض وعلى الرهن ، والعقد يقوم على الإيجاب والقبول ، فلما قال لك : أقرضني . وقلت له : قبلت ، أعطني رهنا ، فأعطاك الرهن ساعته وقبلت، صار هناك قرض، وصار هناك رهن ، فالسؤال : إذا قال لك : ساعتي هذه رهن، فهل يلزمه بمجرد قبولك أن يعطيك الساعة ؟ أو أنه بالخيار حتى تقبض الساعة –أنت صاحب الدين- ؟ إذاً عندنا عقد واتفاق وعندنا قبض للرهن ، فالعقد والاتفاق على الرهن ، والقبض تسليم الرهن، فهل يشترط في لزوم الرهن أن يقبض أو لا يشترط ؟ هذه المسألة مهمة في ما لو قال له : أقرضني مليون ريال، قال : أعطني رهنا ، قال : أعطيك عمارتي ، قال: قبلت ، فتم الاتفاق على أن الرهن العمارة ، فراجع المقترض عن قوله ، أوّلاً وقبل كل شيء لتعلم أنه إذا اشترط عليه أن يعطيه العمارة فوافق ثم رجع الذي يطلب الدَّين عن إعطاء العمارة من حقك أن ترجع عن الدَّين ، هذا ما فيه إشكال ، لكن الإشكال إذا كنت تريد أن تُبقي الدين كما هو ، والإشكال في ما لو تُوفي قبل أن تستلم العمارة رهنا ، هل ورثته يلزمون بالدفع -دفع الرهن- أو لا يلزمون ؟ اختلف العلماء –رحمهم الله- في هذه المسألة على قولين مشهورين :
جمهور العلماء –رحمهم الله- على أن القرض لا يلزم إلا بالقبض ، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة –رحمة الله على الجميع- .
وذهب الإمام مالك –رحمه الله- إلى القول بأن الرهن يلزم بمجرد العقد والاتفاق ، فإذا قال : قبلت لزمه أن يدفع الرهن ، واستدل الجمهور بقوله تعالى : { فرهان مقبوضة } ووجه الدلالة أن الله نص على القبض ولا معنى لذلك إلا كونه شرطا للزومه .(6/116)
وكذلك استدلوا بالقياس فقالوا : لا يصير الرهن لازما إلا بالقبض قياسا على الهبة بجامع كون كل منهما عقد إرفاق .
توضيح ذلك : لو أن شخصا قال لآخر : وهبتك ألف ريال، ثم قال الآخر : قبلت ، فرجع الذي وهب فإنه لا يلزم الواهب بالدفع { ما على المحسنين من سبيل } ومن هنا لما حضرت الوفاة لأبي بكر -رضي الله عنه وأرضاه- قال لابنته عائشة أم المؤمنين : ((أي بنية، إني كنت قد نحلتك مائة وسق جادا من مزرعتي في الغابة ، فلو أنك احتزتيه وجددتيه لكان اليوم ملكا لك ، أما وإنك لم تفعلي ذلك فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء )) فجعل الهبة والنحلة التي نحلها لعائشة –رضي الله عنها- لا تملك إلا بالقبض، فهم يقولون : الرهن كالهبة لا يلزم إلا بالقبض ، وكل من الهبة والرهن عقد إرفاق ، واستدل الإمام مالك -رحمه الله- بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } قال : والرهن عقد من العقود فهو عام فيلزم بمجرد الصيغة ، إذا قال له : رهنتك عمارتي . قال الآخر : قبلت . يلزم بدفع العمارة رهنا ، وإذا قال : رهنتك سيارتي ، وقال الآخر : قبلت ، يلزم بدفع السيارة وقس على ذلك .
استدل المالكية أيضا بالقياس قالوا : لا يلزم القبض للزوم عقد الرهن كما لا يلزم في البيع ، وهذا حاصل دليل القول الأول والثاني أثرا ونظرا .
والذي يترجح –والعلم عند الله- هو القول بأن لزوم الرهن يفتقر إلى القرض ، وذلك لصحة دلالة النقل والعقل على ذلك .
ثانيا : أما الاستدلال بعموم قوله تعالى : { أوفوا بالعقود } فهو عام مخصص بآية البقرة .(6/117)
وأما الاستدلال بالقياس فيجاب عنه بأن عقد الرهن إلى الهبة أقرب منه إلى البيع ؛ لأن عقد الرهن والهبة يشتركان في الإرفاق ، والبيع قائم على المماكسة كما تقدم معنا تفصيله في كتاب البيع ، وبهذا لا يكون الرهن لازما إلا بالقبض ، يتفرّع على ذلك لو أن شخصاً استدان مليون ريال، ثم جاء صاحب الدين إلى المدين بعد أن قبض الدين، وقال له : أعطني رهنا ، لأنه قد يطلب الرهن قبل القرض ، وقد يطلبه أثناء القرض ، وقد يطلبه بعد القرض ، فإذا اتفقوا عليه لا إشكال ، فاتفق الطرفان على أن يدفع له العمارة رهنا ، فقبل صاحب الدين العمارة رهنا في مقابل الدين ، ثم توفي الذي عليه الدَّين ، فهل نُلزم الورثة بدفع العمارة رهنا أو لا ؟ ثمرة الخلاف على القول بأنه يشترط القبض لا يلزم مادام أنه لم يقبض العمارة، وحينئذ يكون للورثة الخيار بين أن يمتنعوا ، وبين أن يدفعوا العمارة رهنا .
والقول الثاني وهو قول الإمام مالك –رحمه الله- يلزمهم الدفع .
طبعا الجمهور ينزلون الورثة ينزلون منزلة مورثهم في الحقوق التي له ، والحقوق التي عليه ، وهذا مفرّع على القاعدة التي تقول : " البدل يأخذ حكم مبدله ويسد مسده" ، وذكر الإمام ابن رجب –رحمه الله – في القواعد الفقهية هذه المسألة مسألة الرهون مفرّعة على النوع الثاني من الحقوق التي تجب على الميت، وينزل الورثة منزلة المورث، فيعطون الخيار إن شاءوا أن يدفعوا الرهن، وإن شاءوا أن يمتنعوا ، لأن القبض لم يتم ، إذا قال المصنف –رحمه الله- : [ ولا يلزمه إلا بالقبض ] .(6/118)
قال رحمه الله : [ وهو نقله إن كان منقولا والتخلية فيما سواه ] : وهو أي القبض في الرهن نقله إن كان منقولا ، والتخلية فيما سواه تقدمت معنا مسائل القبض في البيع ، والإقباض يكون في المكيلات بكيلها ، وفي الموزونات بوزنها ، وفي المعدودات بعدّها ، وفي المذروعات بذرعها ، وفي غيرها مما لا يكال ولا يوزن بالتخلية ، وقد تكون بتسليم المفاتيح للشخص حتى يتمكّن من العين ، فإذًا لو أنه أعطاه قال له : أعطني رهنا ، قال : هذه الأرض أو مزرعتي رهن لك أو رهن عندك ، ثم أعطاه مفاتيح المزرعة فحينئذ لا إشكال أنه قد رهنها وتمّ القبض ، إذا جرى العرف في البساتين عند بيعها أن قبضها يكون بالتخلية بين الشخص المشتري وبين البائع حينئذ اعتُبرت التخلية ، إذا كانت كما يشترط بعض العلماء في الأراضين والدور أن يوقف على حدودها فخرج معه إلى المزرعة ودخل معه وتجول فيها ورأى ما فيها ، وأوقفوا على حدود المزرعة هذا قبض ، ولو كانت عمارة فأعطاه مفاتيحها ، سلم له مفاتيحها فهذا قبض إقباض ، وقس على ذلك ، على كل حال بعد أن بيّن أن القبض شرط قال حقيقته هذا إما أن يكون بنقله إن كان منقولا . إن كان منقولا مثلا مثل الأكياس تكون مثلا معروفة ثم ينقلها ، قال له: والله هذه الثلاثة الأكياس من الأرز رهن في الخمسمائة أو الألف ريال التي أخذتها منك ، فقام وأخذ الثلاثة الأكياس ونقلها إلى مستودعه صاحب الدين ، هذا النقل قبض ، فلو رجع الراهن لو رجع الراهن قال لا رجعت عن الرهن ، نقول : لزمك الرهن ، لأنك أقبضت ، فإذا بالقبض يصبح الرهن لازما ، لو قال له : أعطني مائة ريال دينا ، قال : أعطني رهنا ، قال : هذه الساعة فأخرجها من يده، وقبضها صاحب الدين لزم الرهن ، ولو قال له : هذا الكتاب رهنا فأخذه ونقله بمعنى رفعه من مكانه إلى حجره، أو رفعه من مكانه إلى جواره بنقله إن كان منقولا ، إذا ثبت القبض وحينئذ لا يصح ولا يملك الرجوع ، لا يملك الرجوع إلا بإذن(6/119)
من الطرف الآخر ، فالتعبير بكون الرهن لازماً تقدم معنا أن العقود عقود المعاملات منها ما يلزم الطرفين مثل البيع ، والإجارة والنكاح ، ومنها ما هو جائز في حق الطرفين مثل الشركات والمضاربة ونحو ذلك ، ومنها ما هو لازم في حق أحد الطرفين جائز في حق الطرف الآخر ، فأنت إذا كان الشخص طلب منك مائة ريال، وطلبت منه رهنا فأعطاك الساعة فأنت صاحب الدين، أخذت الساعة وقبضتها إذا لا يملك المديون الرجوع ، فأصبح الرهن لازما في حقه ، لكنه ليس لازما في حقك ، فلو أنك أنت قلت له : خذ ساعتك، لا أريد بيتك رهنا، ولا أريد الأرض، تنازلت عنها هذا من حقك ، إذا هو لازم في طرف، جائز في حق الطرف الآخر ، والطرف الذي يلزمه هو المديون، والجائز في حقه هو صاحب الدين .(6/120)
قال رحمه الله : [ وقبض أمين المرتهن يقوم مقام قبضه ] : وقبض أمين المرتهن يقوم مقامه ، مرتهن يقوم مقامه في بعض الأحيان كانوا في القديم يرهنون أشياء كثيرة ، ومنها الجواري ، فهناك أشياء تأمن صاحب الدين عليها ، وهناك أشياء لا تأمن صاحب الدين عليها ، والناس يختلفون في أمانتهم وخيانتهم وصلاحهم وفسقهم ، ومن هنا قد يستدين من رجل غير صالح ، أو حتى لربما يجني عليه جناية ، فلو أن شخصا جنى على رجل معروف بالخيانة والفسق والجرأة على حدود الله –والعياذ بالله- فكسر يده ، أو مثلا قطع يده فلزمته نصف دية ، فأصبح دينا عليه فقال : سأعطيه نصف دية لما قضى القاضي عليه بنصف الدية قال : سأعطيه نصف الدية لكن يمهلني ، قال : أمهله سنة لكن أريد رهنا ، فكان في القديم ربما يرهن جواريه وعبيده ، فالأشياء التي تُرهن قد يخاف الإنسان من الشخص صاحب الدين وهو المرتهَن فيقول له : نتفق على شخص الذي يسمونه العدل، فيضعون الرهن على يدي عدل ينظرون طرفا ثالثا، ويضعون الرهن عنده، كل منهم يرضاه ، هذا الطرف يختاره المرتَهن فيكون قائما مقام المرتهَن ، لأنه لما رشحه ورضي به صار بمثابة الوكيل عنه ، فنُزل منزلته ، ومن هنا لو قبض هذا العدل الرهن كان قبضه كقبض صاحب الدين ، وعليه فلو توفي الراهن وكان العدل قد قبض لزم الرهن، فلا يشترط قبض المرتهن ، فإن وكيله وأمينه ينزل منزلته ، وقد يكون صاحب الدين ما هو في المدينة ، فيقول رضيت مثلا بهذا المال، ولكني أنا ما ني في المدينة أعط الرهن فلاناً ، فإذا أعطاه إياه وأقبضه فقبض أمين المرتهن كقبض المرتَهن نفسه .
قال رحمه الله : [ والرهن أمانة عند المرتهن أو أمينه ] : [ والرهن أمانة عند المرتهن ] : الشخص الذي وضع عنده الرهن ، فإذا وضع عنده أو وضع عنده السيارة أو وضعت عنده الدابة أو وضعت عنده الأرض رهنا فإن يده يد أمانة ، هناك نوعان من اليد :
النوع الأول : يسمونه يد الأمانة .(6/121)
والنوع الثاني : يسمونه يد الضمان .
ويد الأمانة هي التي لا تضمن إلا إذا تعدت أو فرطت ، ويد الضمان ضامنة بكل حال سواء تعدت أو لم تتعد .
مثال يد الأمانة : مثل يد المرتهن من وضع عنده الرهن ، ومثل يد المودع الذي وضعت عنده الوديعة ، ومثل يد الوكيل ، فهؤلاء لو أن السيارة التي وضعت عندهم أمانة أو وديعة أو رهنا جاءتها آفة سماوية فأحرقتها كصاعقة من السماء نزلت عليها وأحرقتها ، فهذا لا دخل للشخص الذي وضعت عنده العين في هذا البلاء الذي نزل ، لم يتعدَّ ولم يفرط ، فحينئذ لا يضمن ، ولو أنه أعطي مثلا ناقة على أنها رهن، ثم ماتت الناقة ، فإننا لا نطالبه بضمانها ، ولو مرضت لا نطالبه بضمانها ، ما لم يتعدَّ أو يفرط ، ولذلك لو أنه وضع الرهن في مكان أمين، ثم جاء شخص وسرقها، مكان يحفظ فيه مثله ثم جاء شخص وسرقه لم يضمن ، لكنه لو أهمل في هذا الرهن، فوضعه في مكان معرّض فيه للسرقة فسرق يضمن ، لأنه فرط ، وهكذا لو تعدى فاستخدم الرهن بطريقة مؤذية فأفسده ، أو مثلا استخدمه وليس من حقه أن يستخدم فيما لا يحلب ولا يركب فإنه حينئذ يضمن ، إذاً يد صاحب الدين على الرهن يد أمانة لا يضمن إلا إذا تعدى أو فرط .
قال رحمه الله : [ والرهن أمانة عند المرتهن أو أمينه لا يضمنه إلا أن يتعدى ] : لا يضمنه هو ولا أمينه إلا إن تعدى ، مثال في زماننا مثلا البيوت لو أنه أعطاه عمارة رهنا ، وأعطاه المفاتيح ، سلم له المفاتيح وقال له : هذه العمارة رهن في المليون التي أخذتها منك حتى أسدد لك ، فقام وأغلق العمارة وأقفلها ، وتعاطى أسباب الحفظ لها والصيانة ، فلا إشكال ، حتى جاء الأجل سواء سدد أو لم يسدد ، لكن لو أنه فتح أبواب العمارة ، فدخل من دخل ، وسرق ما فيها فكسرت أبوابها ، أو كسرت نوافذها، وسرق ما فيها فإنه يضمن ، لأنه فرط ؛ لأن فتح باب العمارة هذا تفريط ، وحينئذ لا يضمن المرتهن إلا إذا فرط .(6/122)
قال رحمه الله : [ ولا ينتفع المرتهن بشيء منه إلا ما كان مركوبا أو محلوبا ، فللمرتهن أن يركب ويحلب بمقدار العلف ] : ولا ينتفع المرتهن بشيء من الرهن إلا ما كان محلوبا أو مركوبا ، هذه المسألة قائمة على أن الرهن يكون في الدين ، وصاحب الدين لا يجوز له أن يأخذ منفعة أو فائدة زائدة على دينه ؛ لأنه الربا الذي حرم الله ورسوله –عليه الصلاة والسلام- ، ومن هنا لو أنه أخذ الرهن فانتفع به وسُدد دينه آل الأمر إلى أنه أخذ القرض ومنفعته ، فيحرُم على صاحب الرهن أن ينتفع من الرهن ، وهكذا في القروض ، وهكذا لو أنه استدان منه مالاً فقال له : هذه العمارة رهن ، قال : قبلت ، ولكني سأؤجرها حتى تسدد دينك ، فإن الإيجار مدة الدين لو كان بثلاثمائة ألف والدين مليونا أصبح أعطاه مليونا وأخذ مليونا وثلاثمائة ألف ، وهذا عين الربا ، ومن هنا كان الإمام أحمد –رحمه الله- يقول : أكره كراء الدور لأنه الربا المحض ، أكره كراء الدور ؛ لأنه الربا المحض فكان إذا أعطاه الدار في دين له عليه ، قام الذي صاحب الدين بكراء العمارة والاستفادة من الدار مدة الرهن ، فقال الإمام أحمد -رحمه الله- أكره والإمام أحمد مشهور عنه ومقرر في مذهبه أنه من ورعه يعبر بالكراهة فيما هو حرام ، تورعا من لفظة التحريم ، بدليل قوله إنه محض الربا وهذا محض الربا لاشك أنه محرم وليس بمكروه كراهة تنزيهية ، فالأصل يقتضي أن صاحب الدين لا يستفيد من الرهن ، وجاءت السنة تستثني من هذا الأصل ، فاستثنى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- كما في الصحيحين عنه الرهن يُركب ويُحلب بقدر ما ينفق صاحب الدين على الرهن ، فلو أنه أعطاه ناقة رهنا ، ثم هذه الناقة تحتاج إلى علف، فاشترى لها علفا في اليوم بعشرة جاز له أن يركب ظهرها بقدر العشرة ، ولو كان فيها حليب يعادل العشرة فاحتلب بقدر العشرة ، كان رأسا برأس ، وهذا الذي عَنَْته السنة في المحلوب والمركوب ، فيدفع نفقة الدابة(6/123)
التي تركب ، ونفقة الدابة التي تُحلب ، ويأخذ منها منفعة الركوب ومنفعة الحليب بقدر ما أنفق عليها في طعامها ولا يزيد على ذلك ، هذا كما بينه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في قوله : (( الظهر يركب بنفقته ولبن الدَّر محلوب بنفقته وعلى الذي يركب ويحلب النفقة )) أي أنه يدفع غلة البهيمة التي يركبها ويحلبها بقدر ما أنفق عليها ، هذا مستثنى من الأصول ، وهذا من مفردات المذهب الحنبلي ، أي أنها من المسائل التي انفرد بها الحنابلة والنص دال عليها وخالفهم الجمهور .
والصحيح مذهبهم لأن السنة قوية في ذلك أن المرتهن للرهن نصا يركب وبمقدار ما ينفقه على البهيمة يحلب أيضا؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نص على ذلك .
قال رحمه الله : [ وللراهن غنمه من غلته وكسبه ونمائه ] : في مسألة أنه يركب ويحلب طبعا هذه المسألة فيها حالتان إذا قلنا بجواز أن يركب ويحلب، هل يكون من حق صاحب الدين أن ينفق على الرهن ويأخذ منه بقدر ما أنفق سواء كان المديون الذي عليه الدين الراهن قادرا على النفقة أم أنه يختص في حال عجزه ؟
ظاهر المذهب أنه مطلق؛ سواء كان قادرا، أو غير قادر ، لأن السنة أطلقت ومن هنا قالوا بإطلاق الحق له في أن يركب ويحلب بقدر ما أنفق على الدابة في طعامها .
قال رحمه الله : [ وللراهن غنمه من غلته وكسبه ونمائه ] : وللراهن غنم الرهن من غلته وكسبه ونمائه ، هذه المسألة قصد المصنف –رحمه الله- أن يبيّن أن الرهن لا يخرج عن ملكية الراهن ، وبناء على ذلك لو أعطاه رهنا لمدة سنة فإن الرهن لا تزال يد الملكية لصاحبه ، ومن هنا يوقف حتى تنتهي مدة السداد ، فإن عجز من عليه الدين عن سداد بِيْع ، وأما إذا لم يعجز فإنها تبقى اليد على ما هي عليه ، لأن الأصل " بقاء ما كان على ما كان "، الأصل أنها يد ملكية ، ولا موجب لنزع هذه الملكية إلا بحق، ولا حق هنا لنزعها ، لأن الرهن لا يستحق به صاحب الدين الملكية مباشرة .(6/124)
فبين رحمه الله أن المالك للرهن هو صاحبه ، ينبني على هذا مسألة الغُنم والغُرم ، الغُنم وهي الغنيمة والفوز بالشيء ، والغُرم الخسارة ، فكل خسارة وقعت على الرهن يتحمَّلُها المالك ، وكل ربح حصل للرهن فإنه يكون للمالك ، لأن المال ماله ، والأصل بقاء يده على ذلك المال ، فمثّل رحمه الله بالغَلَّة من النماء والكسب ، فمثال ذلك : لو أنه قال له : هذه العمارة رهن، وكانت العمارة تساوي مائة ألف ، ثم اتفقا على أنها رهن لمدة سنة ، ففي منتصف السنة أصبحت القيمة غالية فأصبحت قيمة العمارة خمسمائة ألف، فهذا النماء وهذه الزيادة هي في ملك صاحب العمارة المديون الذي عليه الدين ، وكذلك أيضا لو العكس خسرت العمارة فرخصت أسعار العقار فإنه يتحمّل الخسارة ، والأصل في ذلك حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها وأرضاها- عند أحمد في مسنده وأصحاب السنن بسند صحيح أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( الخراج بالضمان )) أي الربح لمن يضمن الخسارة ، فبيّن المصنف -رحمه الله- أن كون هذا المال رهنا لا يوجب زوال يد والملكية لصاحبه عنه .
قال رحمه الله : [ لكن يكون رهنا معه ] : لكن يكون رهنا معه : في القديم كان يرهنون العبيد والأرقاء فيتكسّب ، فهل نجعل هذا الكسب مع الرهن أو نعطيه لصاحبه ؟ كذلك أيضا بالنسبة للمزرعة يقول له : هذه المزرعة رهن ، ويخرج من المزرعة كسب في مزروعاتها وثمارها ، فبيعت هذه المزروعات فهذه الأثمان والقيمة التي بيعت بها هل نعطيها لصاحب المزرعة أو نضعها مع الرهن ؟
من العلماء -رحمهم الله- من قال : جميع ما يكون من الرهن من النماء والكَسْب تابع له متصلا كان أو منفصلا .(6/125)
ومنهم من فرّق بين المتصل والمنفصل ، والأول أقعد للدليل ، والثاني أقرب إلى النظر ، وعلى هذا فالثمرة عند من يفصل يقول : إذا كان النتاج منفصلا مثلا قال له : هذه خمسون رأساً من الغنم أضعها عندك رهنا في مائة ألف ريال ، قال : قبلت هذه الخمسين رأسا أصبحت مثلا تلد توالد منها مثلا عشرون رأساً ، فعلى القول بأن النماء المنفصل لا يتبع فإن الولد لا يتبع ، لأنه نماء منفصل ، ولا يتبع إلا النماء المتصل مثل السِّمَن وحسن الحال وغلاء السعر وارتفاع قيمة العين هذا نماء متصل ، وأما إذا كان منفصلا فإنه لا يتبع .
قال رحمه الله : [ وعليه غُرمه من مؤونته ومخزنه وكفنه إن مات ] : وعليه أي على الراهن صاحب الرهن عليه غرمه خسارته إذا قلّت قيمته ، أو حصلت عليه آفة توجب مرضه وسقمه فيداويه ويعالجه إذا كان يحتاج إلى دواء وعلاج ، وهكذا بالنسبة للسيول إذا اجتاحت المزارع وأفسدتها ، ونحو ذلك من الآفات هذه كلها يتحمّلها الراهن ، لأن المال ماله له غُنْمه ، وعليه غُرْمه ، فلو مات العبد وهو مرهون فعليه مؤونة التجهيز والتغسيل والتكفين ، أي على سيده ؛ لأنه يأخذ ربحه فتلزمه خسارته ، لأن النبي -- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( الخراج بالضمان )) .(6/126)
قال رحمه الله : [ وإن أتلفه أو أخرجه من الرهن بعتق أو استيلاد فعليه قيمته تكون رهنا مكانه ] : وإن أتلف الرهن أو أخرجه بعتق : إن أتلف الرهن قال له : ساعتي هذه رهن ، ثم كَسَر الساعة وأفسدها ، فحينئذ يلزم بقيمته قيمة الرهن تكون مكان الرهن ، وهكذا لو أنه أعتق على خلاف عند بعض العلماء في عتق كونه هذا المعتق الذي أعتقه مشاعا أو غير مشاع ، فمنهم من خص المسألة في عتق المشاع الذي يلزم ، فإذا قلنا بسريان العتق ومُضِيّه فحينئذ لم يعد هناك يد للرهن ، فأخرجه عن الرهن ، والعتق لا يمكن تداركه ، ففي هذه الحالة يلزم بقيمته توضع مكانه ، هذا العبد الذي أعتقه قيمته خمسون ألف ريال وهو عليه دين بمائة ألف ريال نقول إن الرهن قد خرج بالعتق ولا يمكن لنا إرجاع العتق ، لأنه لا يمكن تداركه ، ولا يمكن منعه ، فحينئذ يلزم بدفع القيمة إذا كان قد باعه أو كسره أو أعتقه ، فتكون مكانه توضع القيمة مكان العين المرهونة التي أتلفها وأخرجها عن الرهن .
قال رحمه الله : [ وإن أتلفه أو أخرجه من الرهن بعتق أو استيلاد ] : استيلاد كانت الأمة طبعا يضعها رهنا ثم يطأها فتحمل فتصبح أم ولد ، وحينئذ لا يجوز بيعها ، فأفسد هذا الرهن بالاستيلاد ، أي بسبب الولد الذي هو من الجارية ، وعليه فحينئذ يتحمل المسؤولية .
قال رحمه الله : [ فعليه قيمته ] : فعليه : أي على الراهن . قيمته : قيمة الرهن الذي أخرجه عن الرهن بسببه بفعله ، تكون مكانه : أي مكان الرهن نضعها مكان الرهن لضمان الحق .(6/127)
قال رحمه الله : [ وإن جنى عليه غيره فهو الخصم فيه ] : وإن جنى عليه غيره يكون مثلا عنده سيارة نمثل بزماننا فوضعها رهنا ، فجاء شخص وأتلف السيارة ، فالذي يطالب بالحق السؤال : هل هو المرتهن الشخص الذي وضع عنده الرهن أو الراهن ؟ فبيّن رحمه الله أن الذي يطالب بالحق والخصم هو الراهن، لأنه هو المالك ، وأما ملكية المرتهَن لم تثبت إلى الآن ، إلى الآن لم يثبت ملكيته ، والأصل أنه ملكية الأصل مستصحبة وهي باقية ولا شيء يحكم بزوالها ، فنقول : أنت الخصم فيه ، فحينئذ نطالب بقيمته ويطالب بأرش الجناية إذا كان رقيقا .
قال رحمه الله : [ وما قبض بسببه فهو رهن ] : ما قبض بسببه فهو رهن ، هذا فائدة ذكر هذه المسألة، فكل ما نتج عن الخصومة ادعى فأخذ مقابل هذه الجناية مالا فحينئذ يكون تبعا للرهن على الأصل الذي ذكرناه .
قال رحمه الله : [ وإن جنى الرهن فالمجني عليه أحق برقبته ] : وإن جنى الرهن فالمجني عليه أحق برقبته إذا كان الرهن رقيقا فجنى جناية فجناية الرقيق في رقبته ، وحينئذ يتحمل لو أنه أخذه يلزم ببدل عن هذا الرهن الذي أخرجته الجناية .
قال رحمه الله : [ فإن فداه فهو رهن بحاله ] : فإن قال السيد : أنا أفديه هذه الجناية كم ؟ قالوا : قيمتها خمسون ألف فدفع خمسين ألف ، فحينئذ فداه، فهل هذه الجناية تخرج الرهن عن كونه مرهونا ؟ الجواب : لا . فيبقى رهنا كما هو ، لأن العارض وهو الجناية لم يؤثر في زوال يد الرهن ، وحينئذ يبقى رهنا حتى ولو فداه ، لأنه لقائل أن يقول : إنه قبل الجناية رهن ، ولما جنى خرج عن كونه مرهونا بالاستحقاق ، لأن الخصم يستحق قيمة الجناية ، وقيمة الجناية في رقبة العبد ، فلما فداه يكون هذا كأنه إنشاء جديد للرهن . فقال المصنف –رحمه الله- بالاستدامة أنه يستدام الأصل ولا يزال رهنا ولو فداه ، فلو ادعى الراهن وقال : أنا أريد أن آخذه لأني فديته والآن ليس برهن نقول : لا ، بل هو رهن وباق كما هو .(6/128)
قال رحمه الله : [ وإذا حَلّ الدين فلم يوفه الراهن بيع وأوفي الحق من ثمنه ] : هذه ثمرة الرهن وهي خاتمة الباب : أنه إذا حل الدين ولم يسدد المديون الدَّين نبيع الرهن ونسدد ، فإن بعناه لا يخلو من ثلاثة أحوال :
الحالة الأولى : أن نبيع الرهن فيساوي الدين مثل أن يكون الدين مائة ألف وتباع العمارة بمائة ألف فرأس برأس ، وحينئذ لا إشكال نعطي المائة ألف لصاحب الدين .
ثانيا : أن يكون الدين أقل من قيمة الرهن فتكون قيمة العمارة مثلا مائة ألف ريال والدين يكون خمسين ألف ريال، فحينئذ نعطي صاحب الدين خمسين ألف ونعطي صاحب العمارة الباقي قليلا كان أو كثيرا
والحالة الثالثة : أن يكون الرهن أقل فيكون الدين مثلا خمسين ألف ريال وتكون قيمة الرهن عشرين ألف ريال ، فنعطي صاحب الدين عشرين ألف ريال ونقول : بقيت لك ثلاثون ألف تطالبه بسدادها ، فيباع الرهن ويسدد به .
قال رحمه الله : [ وباقيه للراهن ] : وباقيه للراهن على التفصيل الذي ذكرناه .(6/129)
قال رحمه الله : [ وإذا شرط الرهن أو الضمين في بيع فأبى الراهن أن يسلمه وأبى الضمين أن يضمن خُيّر البائع بين الفسخ أو إقامته بلا رهن ولا ضمين ] : هناك أمران : رهن ، وضمين ، فأما الرهن تقدم بيانه . تقول له : أنا لا أعطيك الدين حتى تعطيني رهنا ، أو أعطني رهنا حتى أعطيك الدين ، قال أعطيك رهنا سيارتي ، قلت : قبلت ، ثم رجع عن كلامه وامتنع أن يعطيك ، أنت بالخيار: إن شئت تعطيه بدون رهن ، وإن شئت امتنعت ، قال لك شخص : أعطني عشرة آلاف ريال ، قلت له : أعطني رهنا ، قال : أعطيك رهنا السيارة ، واتفقتما على ذلك ، فجئت تريد أن تعطيه العشرة آلاف ريال ، قال : ترى السيارة لا أعطيك إياها ، فحينئذ نقول : أنت بالخيار يعني صاحب الدين إن شئت تعطيه عشرة آلاف ريال، وترضى بكلامه أنه لا يعطيك الرهن ، وتبقى على ذلك كما عبر المصنف ، وإن شئت تقول : لا أعطيك؛ لأنك اشترطت وقلت : أريد رهنا ، والمسلمون على شروطهم ، وكذلك الضمين قال له : مثلا أريد أن أشتري منك هذه العمارة قال : بمليون ، قال : ما عندي الآن مليون أريدها بعد سنة أسددها ، قال : قبلت ولكن أعطني كفيلا ، أعطني ضمينا أحد يضمنك ، كفيل يكفلك ، كفالة غرم ، قال : طيب فذهب يبحث عن الكفيل فلم يجده ثم جاء وقال : ما عندي كفيل، من حقك أن ترجع ، ولو تمت الصفقة على أنه يعطيك كفيلا أو ضمينا ثم رجع عن كلامه من حقك أن تبطل الصفقة ؛ لأنها على شرط ، وهذا خيار الشرط أنه إذا لم يوفِّ لك الشرط من حقك أن تمتنع من إتمام الصفقة ، ثم أنت بالخيار إن شئت أن تتم وإن شئت أن تمتنع ، هذا الذي قصده المصنف –رحمه الله- والله –تعالى- أعلم .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : لشركة الاتصالات الهاتفية علي دين مع أني طالب علم وأؤجل السداد دائما ، لأنني أعرف أنهم لا يحتاجون إلى مالي ، مع أني سوف أسدد مستقبلا . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :(6/130)
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
ديون شركة الاتصالات تعتبر ديونا شرعية ، ولا يجوز المماطلة بها، ولا التأخر عن السداد مع القدرة على السداد، ومن هنا لا يصح قولك : إنهم لا يحتاجون للمال؛ لأنه يجب سداد الدين؛ سواء كان صاحب الدين غنيا أو فقيرا ، هذا حق من حقوقه ، لكن إذا كنت عاجزا عن السداد فالنظرة إلى الميسرة، أما أن يمتنع الإنسان ويماطل ويتأخر ويسوف فلا ، مادام عنده القدرة على السداد ، فتبرئ ذمتك، والأمر عظيم إذا كان مثل الأشياء التي تكون من بيت مال المسلمين البعض يتساهل فيها ، وهذا لا ينبغي ، لأن الدين على بيت مال المسلمين أعظم من الدين على الأفراد بخلاف البعض الذي يجعل الدين على بيت مال المسلمين كأنه نهبة يفعل به ما شاء ، فهذا أمر عظيم ينبغي لطالب العلم أن ينتبه له، الدين دين سواء كان لغني أو فقير ، ويجب سداده والوفاء وخاصة إذا كان هناك التزام بين الطرفين ، سواء كان لغني أو فقير . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : استدنت مبلغا من المال من زميلي في العمل على أني أقوم بسداده عند صرف راتبي، ومرت فترة طويلة لم أتمكن من السداد حيث لم أصرف راتبي دفعة واحدة ، وإنما على دفعات وتكفي مأكلي ومشربي وهو يعلم ذلك ، ما هو موقفي من ذلك الدين حتى ولو جاء أجلي الموت ولم أتمكن من السداد . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
نسأل الله أن يعينك على سداد دينك، ويعين جميع المسلمين على سداد ديونهم، وقضاء الحقوق التي عليهم، وأما ما سألت أخي الكريم عن كونك استدنت على الراتب ، هناك ملاحظات :(6/131)
الملاحظة الأولى : ينبغي أن لا تقول لأحد سأعطيك من راتبي وأنت تعلم أن راتبك لا يسع للسداد ، فهذا من الخيانة والغش والكذب ، فإن البعض يعلم أنه لا يسدد ، فيأتي ويموّه للناس أن عنده راتبا أو عنده وظيفة وأنه سيسدد ، والله يعلم من قرارة قلبه أنه لن يعطيه، وأنه سيعتذر بعد ذلك بعجزه ، إذا فعلت هذا من البداية تتوب إلى الله وتستغفره، وتسأل صاحب الحق أن يسامحك ؛ لأن هذا غش، وفيه ظلم، أن يأخذ الإنسان أموال الناس ويتظاهر عندهم أن عنده سدادا، ثم يتبين أنه غير قادر على السداد وهو يعلم من البداية ذلك ، فحينئذ التوبة أن يتوب إلى الله وأن يسأل صاحب الحق أن يسامحه ، وأما بالنسبة للطرف الثاني فإنه ينتظر إلى قدرتك على السداد ، وخاصة إنك عاجز عن السداد، فإنه ينتظرك إلى أن ييسر الله عليك؛ كما قال تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } والله –تعالى- أعلم.
السؤال الثاني : هل يجوز أن يذهب المحتاج إلى رجل ويستدين منه ويقول له : سوف أستدين منك مبلغا، فإن استطعت القضاء قضيتك وإلا فسامحني ، فيقبل ذلك الدائن . وجزاكم الله خيرا ؟
لا باس أن يقول له : أقرضني ألف ريال ، فإن استطعت السداد سددت لك، وإن لم أستطع سامحني، فإذا استطاع السداد لزمه أن يسدد ولا يجوز له أن يمتنع ، وإن عجز عن السداد سامحه صاحب الحق، في حقه، ولاشك أنه مأجور على ذلك من الله - عز وجل - لأنه قد خفف عن المعسر ، ووضع عنه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمين.
باب الصلح
قال المصنف –رحمه الله- : [ باب الصلح ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :(6/132)
فيقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الصلح ] : الصلح في لغة العرب تقوم مادته على معنى: رفع الخصومة، وقطع النزاع ، وهذا المعنى اللغوي هو الذي درج عليه العلماء –رحمهم الله- ومن هنا قالوا: إن الحقيقة اللغوية والاصطلاحية ليس بينهما كبير فرق .
فالصلح في اصطلاح العلماء : معاقدة لرفع الخصومة ، وهذه المعاقدة تقع بين طرفين فأكثر .
والصلح دلت الأدلة في كتاب الله وسنة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- والإجماع على مشروعيته وجوازه .
أما كتاب الله فإن الله –تبارك وتعالى- ندب عباده إلى الصلح ، وذكّرهم بأخوة الإيمان التي تقتضي إصلاح ما فسد بينهم ، كما قال تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } وقال - سبحانه وتعالى - : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } فدلت هذه الآية الكريمة على مشروعية الصلح ، وعلى أنه مندوب إليه وأنه ينبغي للمسلم أن يحرص على إصلاح ذات البين بين المسلمين .
وكذلك أخبر الله –تبارك وتعالى- عن فضله فقال سبحانه : { والصلح خير } فشهد أن الصلح خير وجاء التعبير بقوله : { خير } نكرة ، والنكرة تدل على العموم ، وهذا يدل على أن فيه الخير العظيم للناس أفرادا وجماعات .
وكما دل دليل الكتاب على مشروعية الصلح كذلك دل دليل السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، ففي الصحيح عنه –عليه الصلاة والسلام- أنه تأخر عن الصلاة ليصلح بين حيين من بني عوف ، وذلك في القصة المشهورة حينما تقدم أبوبكر –- رضي الله عنه -- ليؤمّ الناس ، فكان سبب التأخر أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- كان بقباء يصلح بين حيين من بني عوف من الأنصار –رضي الله عن الجميع- ، وندب عليه الصلاة والسلام إلى الصلح ورغب فيه صلوات الله وسلامه عليه .(6/133)
وثبت عنه –عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( الصلح جائز بين المسلمين )) وهو حديث عوف بن مالك –- رضي الله عنه -- الذي صححه غير واحد من أهل العلم –رحمة الله على الجميع- .
وكذلك دلّ دليل الإجماع على مشروعية الصلح ، فقد أجمع العلماء –رحمهم الله- على أن الصلح مستحب ومندوب إليه وإذا توقف الصلح على شخص وأمكن ذلك الشخص أن يقوم به فإنه يكون واجبا في حقه؛ لأن الله أمر بذلك فقال : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } .
والصلح عند الفقهاء والعلماء –رحمهم الله- تارة يكون بأحوال متعددة : فهناك صلح بين المسلمين والكفار اصطلح العلماء –رحمهم الله- على بيان أحكامه ومسائله في باب الهُدنة من كتاب الجهاد . وهناك الصلح بين الفئة العادلة والفئة الباغية وهو الذي أمر الله –- عز وجل -- به في آية الحجرات ، وهذا اصطلح العلماء على بيان أحكامه ومسائله في باب أحكام أهل البغي .
وهناك صلح بين الزوجين وهو الذي عناه الله –- عز وجل -- بقوله : { فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } ، وهذا الصلح اصطلح العلماء –رحمهم الله- على بيان أحكامه في باب العشرة الزوجية من كتاب النكاح .
وهناك صلح في الدماء والجنايات وفي الديات اعتنى العلماء –رحمهم الله- ببيان أحكامه في كتاب الجنايات .
وهناك الصلح وهو النوع الخامس: الصلح في الأموال والحقوق المالية وما يؤول إليها، وهو الذي سيتكلم عليه المصنف –رحمه الله- في هذا الموضع .(6/134)
يقول رحمه الله : [ باب الصلح ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام، والمسائل التي تتعلق بالصلح بين المتخاصمين ، الصلح بين المتخاصمين في باب الأموال يكون على صور : منها المشروع ومنها الممنوع ، ثم منها ما اتفق العلماء على جوازه ، ومنها ما اختلف العلماء في جوازه ، وسبب إفراده بباب مستقل أنه إذا وقعت الخصومة بين طرفين في مال معين فإنه قد يقع الصلح على سبيل الهبة والعطية ، وقد يقع الصلح على سبيل البيع ، وقد يقع على سبيل الصرف ، وحينئذ إذا وقع على صورة البيع فينبغي أن تنطبق عليه أحكام البيع ، وإذا وقع على سبيل الهبة ينبغي أن تنطبق عليه شروط الهبة ، وإذا وقع على صورة الإبراء ينبغي أن يعتبر فيه ما يعتبر في الإبراء ؛ نظراً لهذا الاختلاف العلماء –رحمهم الله- اعتنوا ببيان مسائله في هذا الموضع ، وإفراده بباب مستقل .
قال رحمه الله : [ ومن أسقط بعض دينه أو وهب غريمه بعض العين التي في يده جاز ] : الصلح ينقسم إلى قسمين :
صلح إقرار، وصلح إنكار .
وصلح الإقرار : هو أن تقع الخصومة بين طرفين، ويقر المدعَى عليه بما عليه من الحقوق ، فحينئذ يصالحه صاحب الحق بشيء ؛ إما على سبيل الإبراء وإما على سبيل الهبة ، هذا يسميه العلماء –رحمهم الله- بصلح الإقرار ، أي أن الطرفين ارتفعت الخصومة بينهما من حيث الأصل بوجود الإقرار ؛ لأن الخصومة ترتفع إذا أقر المدعَى عليه بما ادعي عليه ، وحينئذ يُلزم بأداء الحق ، فحينئذ يصالحه صاحب الحق على الصورة التي ذكرناها؛ إما إبراء وإما هبة ، سواء من نفس المال أو من مال آخر ، وهذا سنبينه إن شاء الله
هذا النوع من الصلح ليس فيه إشكال كلهم متفقون على أن الخصم إذا أقر بالدعوى، وأن صاحب المال تنازل، فأبرأه بجزء من المال، أو وهبه جزءاً من المال أن هذا جائز ولابأس به ، وأنه مثاب على ما فعل .(6/135)
النوع الثاني : أن ينكر يكون مثلا يدعي عليه مالا فينكر. يقول : ليس لك عندي مال ، تقع الخصومة بين طرفين في متر من الأرض جيران أحدهم يقول : بقي لي متر عندك ، والآخر يقول : أرضي كاملة ولم أعتدِ عليك لا بمتر ولا بغيره ، فحينئذ يختلفان في هذا المتر ، فيصطلحان . يقوم أحدهما ويعطي صاحب الدعوى مترا في موضع ثان أو يعطيه مالا نقدا وترتفع الخصومة ، لكنه في الأصل أنكر حقه ولم يعترف له به ، ومثل ما قالوا قال : أريد أن أنكفي شره مثلا فقال : خذ هذه الألف وارفع دعواك عني ودعني أستقر في أرضي أو في مكاني إلى آخره ، هذا صلح على إنكار ، الخصم ينكر فيعطي صاحب الدعوى مالا سواء من نفس الذي يختصمان فيه أو من مال آخر يصطلحان على شيء فيه ، هذا فيه خلاف ، والجمهور على جوازه أن الصلح جائز في حال الإقرار وفي حال الإنكار ، والدليل عموم الأدلة الواردة حيث لم تفرّق بين صلح على إنكار ، أو صلح على إقرار ، هذا من جهة الأثر ، من جهة النظر أننا إذا وجدنا أن الشريعة قد شرعت الصلح لدفع الضرر؛ فإنه في حال الإنكار الحاجة إليه أشد منه في حال الإقرار ، ومن هنا الحاجة إلى رفع الخصومات كما يقول بعض العلماء : الحاجة إلى رفع الخصومات في حال الإنكار أشد منها في حال الإقرار ، ومن هنا قالوا بجوازه ، لكن الذين قالوا بعدم جوازه قالوا : إن هذا يفتح باباً للظلمة ويفتح باباً لمن يأكل أموال الناس ونعينه على الدعاوى الباطلة ، وهذا ردّه العلماء الجمهور وقالوا : إن محل الجواز أن يكون الشخص الذي أنكر يعتقد أن الحق حقه لا أنه يأتي ويكذب ويدعي الدعاوى الباطلة ، فإذا كان يعتقد أن الحق حقه جاز له أن يخاصم، وحينئذ جاز أن يأخذ بدلا عن ما يعتقد أنه له ، وهو شرعا يتعبّد الله بما يعتقده ، هذا حاصل ما يقال في نوعي الصلح ، فشرع المصنف –رحمه الله- بالنوع المتفق عليه، وهو صلح الإقرار .(6/136)
قال رحمه الله : [ ومن أسقط بعض دينه ] : ومن أسقط بعض دينه : قال لي على فلان عشرة آلاف ريال ، فاستدعاه عند القاضي قال : لي على فلان عشرة آلاف ريال ، قال : نعم، له علي عشرة آلاف ريال ، قال : إذاً أبرأتك من نصفها، وادفع لي النصف الباقي ، هذا جائز ، وحينئذ لا إشكال ، يكون هذا الصلح صلح الإقرار من نفس المال الذي فيه الدعوى ، ويكون من غيره ، ويكون من النقد الذي هو الثمن ويكون من المثمَن ، ففي الثمن مثل ما ذكرنا يدعي أن له عليه عشرة آلاف ريال فيقر بها ويعترف فيقول : سامحتك في نصفها، وأعطني النصف ، يختلفان في قطعة أرض ، هم شركاء فيها فقال : نحن شركاء بالنصف قال الآخر : لا، أنت نسيت ، بل لي ثلاثة أرباع ولك الربع ، فقال : نعم تذكرت أن لك ثلاثة أرباع ولي الربع ، قال : إذا أعطيتك الربع ولك النصف ، هذا صلح من نفس المال الذي حصلت الدعوى فيه وأعطاه نصفه ، فإذا أبرأه من الدين كله أو بعضه فهذا حقه ، وإذا وهبه عينا من نفس العين المختلف فيها من جنس الحق المختلف فيه أو من غيرها جاز ذلك .
[ من غيرها ] قال له: أنت شريكي بالنصف ، قال : لا ، بل أنا شريكك بثلاثة أرباع ثم تذكر قال : نعم أنا شريكك بثلاثة أرباع فأقر ، قال: إذًا أنا أعطيك مائة متر في أرضي في جدة أو أرضي في الطائف أو أرضي في شرقي المدينة ، فأعطاه أرضا أو صالحه على مال آخر ، هذا مع الإقرار وحينئذ الذي يعني العلماء أنه إذا أبرأه من المال من حقه يبرئه عن كل المال وبعضه .(6/137)
وثانيا : إذا أبرأه عن جزء من المال المدعى الذي حصل فيه الدعوى فإنه حينئذ يكون هبة ، ويسري عليه ما يسري على أحكام الهبة ، فإذا قال له : لك النصف ومكّنه من النصف فأعطاه ما وهب فحينئذ ثبتت ملكيته ، فلو توفي قبل أن يَقبِض رجعت الهبة للورثة ، وأصبح الأمر للورثة ، تسري عليه الأحكام ، هذا الذي يعني العلماء –رحمهم الله- أنه ينتقل من باب الصلح إلى أبواب متنوعة ومتعددة بحسب ما يقع عليه الاتفاق بين الطرفين .
قال رحمه الله : [ أو وهب غريمه بعض العين التي في يده جاز ] : أو وهب غريمه بعض العين التي في يده جاز : قال مثلا على سيارة في القديم ، مثلا على ناقة على دابة ، لكن في زماننا لو أنهم اشتركا في سيارة فادعى أحدهما أنه شريك بالنصف ، وقال الآخر : بل أنت شريك بالربع ، ثم اصطلحا أن يعطيه مثلا : سدس السيارة ، هذا جائز يعني العين التي في يده مختلف فيها سواء كانت من المنقولات أو كانت من العقارات ، العقارات مثل الأراضين ، والمنقولات مثل الدواب والسيارات ، جاز؛ لأن من حقه أن يسقط كل ماله ، ومن حقه أن يسقط البعض ، وحينئذ إذا أبرأه عن الكل جاز ، وإذا أبرأه عن البعض جاز ، سواء من نفس العين المختلف فيها ، من غيرها ، وسواء كانت العين المختلف فيها من الأثمان كالنقود أو كانت من المثمونات .(6/138)
قال رحمه الله : [ ما لم يجعل وفاء الباقي شرطا في الهبة والإبراء ] : [ ما لم يجعل وفاء الباقي شرطا في الهبة والإبراء ]: أن يقول له : أعطيك هذا النصف بشرط أن تسدد لي ما بقي، أو تعجّل لي سداده، وكان مؤجلا فحينئذ لا يجوز ؛ لأنه في الأصل لو كان له عليه عشرة آلاف ريال، وأقر بها ثم أسقط قال له : أصالحك على أن تقرّ بها ، أصالحك على نصفها ، أصالحك على ثلثها ، هو المال ماله ، وإذا كان المال ماله ؛ فإنه لا يستقيم أن يجعل الوفاء بماله مقابل إعطاء جزء من ماله ، فالإنسان لا يعاوض نفسه ، فهذا لا يستقيم كعقد ، ومن هنا ألغي شرعا أن يقول له : أتنازل لك عن النصف بشرط أن تعطيني النصف ، هو واجب عليه أن يعطي، ومن هنا يلغى هذا ولا يعتد به؛ لأن الإنسان لا يعاوض مع نفسه ، وإنما يعاوض مع غيره .
قال رحمه الله : [ أو يمنعه حقه إلا بذلك ] : العكس يقول له : أنا ما أقر لك وقام عليه الدعوى أن عليه عشرة آلاف ريال ، فيقول له : أنا ما أقر لك حتى تعطيني النصف ، أنا لا أقر لك بهذا الجزء من أرضك حتى تعطيني جزءا من أرضك في المكان الفلاني ، فحينئذ اشترط المدعَى عليه الذي عليه الحق اشترط في إقراره أن يأخذ جزءا من المال ، وهذا لا يجوز .
قال رحمه الله : [ أو يضع بعض المؤجل ليعجل له الباقي ] : كما ذكرنا ؛ لأنه جعل هذا الإسقاط في مقابل التعجيل ، والتعجيل ليس له قيمة، ليس له ثمن ، ومن هنا لا تصح المعاوضة عليه ، فإنه إذا قال له: أسقط عنك النصف بشرط أن تعجّل لي النصف الباقي والنصف الباقي مؤجّل وليس بمعجل فمعنى ذلك أنه قد اشترى منه تعجيل المؤجّل بهذا النصف ، وهذا لا يصح؛ لأنه من الناحية الشرعية ما تصح المعاوضة ، لأن الشريعة ما تصحح عوضا على هذا الوجه ، أو معاوضة على هذا الوجه .(6/139)
قال رحمه الله : [ ويجوز اقتضاء الذهب عن الورق والورق عن الذهب إذا أخذها بسعر يومها وتقابضا في المجلس ] : إذا وقع الصلح بالمبادلة ، وقال له : أعطيك بدلا عن هذا الذي تدّعيه كذا وكذا أو أقرّ وتعطيني مالك الفلاني فلا يخلو من حالتين :
إما أن يكون ثمنا بثمن ، وإما أن يكون مثمَنا بمثمن ، وإما أن يكون ثمناً بمثمن ، فإذا كان ثمنا بثمن كأن يقول له مثلا : هذه الألف من الريالات أعطيك صرفها من الدولارات ، فاتفقا على أن يكون هناك بدل عن هذا المال الذي له في مقابله من نوع آخر مع اتحاد الجنس هذا ذهب وهو الدولارات رصيدها ذهب ، والريالات رصيدها فضة، فيجوز صرف الذهب بالفضة ، لكن بشرط أن يكون يدا بيد ، هذا الذي جعل العلماء يفردون باب الصلح بباب أنهم يطبقون شروط كل معاملة على الاتفاق الذي يقع بين الطرفين ، فإن كان الاتفاق الذي وقع بين الطرفين صرفا جرت عليه أحكام الصرف ، وإن كان مقايضة جرت عليه أحكام المقايضة، وإن كان هبة جرت عليه أحكام الهبة ، على التفصيل الذي ذكرناه ، فإذا قال له : أعطيك بدل هذا المبلغ الذي لك عليّ صرفه من الدولارات ، قال : قبلت . يجب أن يستلم في المجلس -مجلس الصلح- ، ولا يجوز له أن يفارقه ؛ لأنه إذا فارقه صار ربا نسيئة ، ومن هنا قامت معاقدة الصلح على الصرف ، فينبغي أن يتوفر شرط الصرف الذي أمر به النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بقوله : (( فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد )) .
قال رحمه الله : [ إذا أخذها بسعر يومها ] : نعم إذا أخذها بسعر يومها ما كان هناك مراباة .(6/140)
قال رحمه الله : [ ومن كان له دين على غيره لا يعلمه المدعَى عليه، فصالحه على شيء جاز ] : مثل ما ذكرنا قال له : لي عليك مائة ألف ريال ، قال : ليس لك عليّ مائة ألف ريال ، هذا كثيرا ما يقع بين التجار، تقع بينهم معاملات ثم ينسى أحدهم ، أو يسهو عن كتابة الدين، وفيه تعامل بين الاثنين، لا هذا يسجل ، ولا هذا يسجل ، أمن بعضهم بعضا ، فحينئذ يقول أحدهم : لي عليك مائة ألف أو لي عليك ألف ريال أو لي عليك مائة ريال ، فيقول : ليس لك علي شيء ، ثم تقع بينهم الخصومة ، فيقول: ما رأيك أصالحك عن هذا الشيء ، فيجوز إذا صالحه وهو لا يعلم ، وهذا صلح الإنكار ، هذا النوع الثاني ، وهو صلح الإنكار ، الأول صلح الإقرار ، وأما الثاني فهو صلح الإنكار ، فصالحه على غيره فقال له : أعطيك بدلا عنه إما أن يكون من نفس المال، أو صالحه على غيره من الأعيان من المثمونات؛ فحينئذ يجري عليها ما يجري على المعاوضات .(6/141)
قال رحمه الله : [ وإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه فالصلح في حقه باطل ] : وإن كان أحدهما يعلم كذب نفسه : سواء المدعِي أو المدعَى عليه ، شخص قال لفلان : لي عليك ألف ريال ، وهو يعلم أنه كاذب ، فحينئذ الذي يعلم أنه كاذب هو المدعِي ، فقال الآخر عنده ورع أو عنده خوف من الله أو لا يريد أن يدخل في ذمته شيء قال : أصالحك عن هذه الألف التي أنا لا أعرف لك عليّ ألف ، ولكن أصالحك عنها مثلا بكذا وكذا ، فأعطاه شيئاً بدلا عنها ، فحينئذ إذا قلنا بمشروعية صلح الإنكار لا نصحح مثل هذا الصلح ؛ لأنه يعلم كذب نفسه ، ولو صححناه لأعنّاه على الإثم والعدوان ، ومن هنا من قال بجواز صلح الإنكار محله أن يظن أنه صادق، والواقع أنه غير صادق ، وكثيرا ما تقع هذه الصورة فيمن يظن أنه صادق عند أهل الورع ، الإنسان يتورع وما يريد أن يحمّل مسؤولية شيء فيدّعي عليه أحد بشيء وهو ناسٍ أو لا يتذكر، ويريد أن يبرئ ذمته فيقول له : أعطيك بدل هذا الشيء الذي تدّعيه كذا وكذا ، وتجعلني في حل ، قال : قبلت . هذا لابأس به ولا حرج .
إذًا الشرط أن لا يعلم كذب نفسه ، يعني يظن أنه صادق ، أما إذا علم أنه كاذب فلا يجوز لا المدعِي ولا المدعَى عليه ، ولا يستحل المال بمثل هذا الصلح ، وقد جاءت الزيادة (( الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرّم حلالا ))، فهذا يقتضي أنه لا يحل ولا يجوز .
قال رحمه الله : [ ومن كان له حق على رجل لا يعلمان قدره فاصطلحا عليه جاز ] : لو كان الاثنان بينهما تعامل، ولكن لا يعلم كل منهما ما للآخر ، وهذا كثيرا ما يقع بين الشركاء، وأصحاب الصنعة المتحدة والأعمال المتجانسة يقع بينهم أخذ وعطاء فلا يعلم أن لفلان عنده حقاًّ ولا يعلم قدره، فاصطلحا على مال يبرئه من حقه جاز .(6/142)
أيضا من صورتها لو أن شخصا سرق أموال –نسأل الله السلامة والعافية- كان يعمل في بقالة أو كان يعمل عند تاجر ثم سرق من أمواله ، ثم ندم على ما صنع ، ثم جاء للتاجر وقال له : أريد أن تجعلني في حل ، وأنا أكلت مالك وأخذت من مالك دون علمك، وأنت ائتمنتني وأريد أن تجعلني في حل ، قال له: كم أخذت قال : والله ما أدري ، قال : طيب ما رأيك نتفق على مبلغ تعطيني إياه أجعلك في حل وتجعلني في حل ، قال : لك ذلك ، فاتفقا على ثلاثة آلاف ريال يعطيها له ويسامحه الرجل، ويكون في حل من تبعة السرقة لماله جاز ، وصح ذلك ، وهكذا بالنسبة لأصحاب الديون ما يقع بينهم خاصة في حال عدم كتابة الدين وتوثيقه .
لكن لو كان يعلم مقدار ما سرق لم يجز له ، لو كان يعلم المقدار الذي سرق هو يعلم أنه سرق مثلا عشرة آلاف ريال، فجاء لصاحب المال وقال له : أنا لا أعلم كم سرقت ، ولكن سأعطيك ألفين ترضى ، قال : أرضى أعطني ألفين وأسامحك ، فحينئذ لا يحل له ما بقي من العشرة ، إنما يحل له إذا كان لا يعلم ، والأفضل والأورع له أن يحدد غالب ظنه ، يقول له : أنا غالب ظني أن مالك فوق العشرة آلاف ريال أو أن مالك فوق الخمسة آلاف ريال أصالحك على ألفين أو كذا ، فحينئذ لابأس ويجوز له، أما إذا كان يعلم القدر فالصلح على الإنكار في حال علمه بكذب نفسه .
قال رحمه الله : [ باب الوكالة ] : الوكالة في لغة العرب: التفويض ، وكل إليه الأمر إذا فوضه إليه ، وقال بعض العلماء : إن التفويض أعم من الوكالة ، ومن هنا قال بعضهم : الوكالة أن يلي الأمر أو يجعل إليه القيام بالأمر ، الوكالة استنابة جائز التصرف لمثله للقيام مقامه فيما تدخله النيابة ، هذا النوع من العقود من أهم العقود التي يحتاج إليها الناس في معاملاتهم ، وقد جاءت النصوص في الكتاب والسنة وأجمع العلماء –رحمهم الله- على مشروعية الوكالة وجوازها من حيث الجملة .(6/143)
أما كتاب الله فإن الله –- سبحانه وتعالى -- قال في كتابه : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها } فقوله تعالى : { والعاملين عليها } توكيل؛ لأن العامل على الزكاة موكل من بيت مال المسلمين لقبض الزكاة ممن تجب عليه ، ولذلك احتج طائفة من العلماء بهذه الآية الكريمة على مشروعية الوكالة ، ومن أهل العلم من يحتج بآية الكهف وهي قوله تعالى : { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه } هذه الآية وكّل فيها أصحاب الكهف أحدهم أن يذهب إلى السوق ، وأن يأتيهم برزق بطعام ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، فمن أهل العلم من يجعل دليل الكتاب من شرع من قبلنا ، ولا يذكر آية الصدقات، والأقوى أن آية الصدقات حجة في باب الوكالة .
وأما دليل السنة فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وكّل الغير فوكل صلوات الله وسلامه عليه عروة بن أبي الجعد البارقي كما تقدم معنا في كتاب البيوع في الحديث الصحيح أنه أعطاه دينارا وقال له عليه الصلاة والسلام : (( اشتر لنا من هذا الجلب شاة فذهب واشترى بالدينار شاتين )) .
وثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه وكّل معاذا -كما في الصحيحين- أنه بعثه إلى اليمن فقال له : (( إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم إلى أن قال له : وإياك وكرائم أموالهم )) .
وقد أجمع العلماء على أن معاذا –- رضي الله عنه -- كان وكيلا للنبي –- صلى الله عليه وسلم -- في أخذ الصدقات من اليمن ، وفي أخذ أيضا أخذها من أهل الكتاب على أنها جزية في حديث : (( ائتوني بخميص أو لبيس فإنه أرفق بأصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- )) .(6/144)
كذلك أيضا جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه وكّل عَمْرًا بن أمية الضمري –- رضي الله عنه -- في قبول نكاحه من أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان –رضي الله عنها وعن أبيها- حينما كانت بالحبشة ، فوكّله النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في قبول نكاحها .
وقيل : إنه وكل النجاشي على اختلاف عند أهل السير في الروايات .
وكذلك أيضا وكّل عليه الصلاة والسلام أبا رافع في قبول نكاح ميمونة بنت الحارث الهلالية –رضي الله عن الجميع وأرضاهم- . فهذا كله يدل على مشروعية الوكالة بالسنة .
وأما بالإجماع فقد أجمع العلماء –رحمهم الله- على مشروعية الوكالة وجوازها .
وأما دليل النظر فإن الحاجة داعية إلى مشروعية الوكالة ، وتوضيح ذلك : أنه ليس كل الناس يستطيع أن يقوم بمصالحه بنفسه ، وتارة يمنعه الشغل، وتارة يمنعه أن يقوم مثله بمثل ذلك ، وحينئذ يحتاج إلى من يوكّله ، فشرعت الوكالة ؛ سدا لهذه الحاجة .
الوكالة باب من الأبواب الفقهية التي تنبني عليها الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات .
يقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الوكالة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالوكالة .
قال رحمه الله : [ وهي جائزة في كل ما تجوز النيابة فيه إذا كان الموكل والوكيل ممن يصح ذلك منه ] : [ وهي جائزة في كل ما تجوز النيابة ]: شرع المصنف –رحمه الله- في بيان أحكام الوكالة ، وابتدأ بالركن الذي يتعلق بمحل الوكالة ، هذه الوكالة لها محل ، ومحلها أن تكون في شيء تجوز فيه النيابة ، بمعنى أن الوكالة لا تصح ولا تجوز إلا إذا كانت في شيء يجوز شرعا أن ينيب غيره ويقيمه مقامه .
هذه الأشياء منها ما يتعلق بالعبادات ، ومنها ما يتعلق بالمعاملات فتنقسم إلى قسمين :
? ما كان متعلقا بالعبادات .
? وما كان متعلقا بالمعاملات.
فأما العبادات فتنقسم إلى ثلاثة أقسام :
- هناك عبادة محضة.
- عبادة بدنية محضة .
- وهناك عبادة مالية محضة .(6/145)
- وهناك عبادة جامعة بين البدن والمال .
فالعبادات إما أن تكون من العبادات البدنية المحضة ، وإما أن تكون من العبادات المالية المحضة ، وإما أن تكون من العبادات الجامعة بين المال والبدن .
فأما العبادات البدنية المحضة مثل الصلاة والصوم فهذه الأصل فيها أنها لا تدخلها النيابة البتة ، فلا يجوز أن يقيم شخصا مقامه لكي يؤدي هذه العبادات ، فالصوم والصلاة عبادتان بدنيّتان تمحضتا بالبدن لا يجوز لأحد أن يقول لغيره : وكلتك أن تصلي عني لا فريضة ولا نافلة ، ولا الصوم كذلك إلا في حال إذا توفي في الصوم ، واختلف هل هو صوم الفريضة أو صوم النذر في حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- في الصحيح : (( من مات وعليه صوم صام عنه وليه )).
أما الوكالة من الحي في الصلاة فإن الأصل يقتضي عدم جوازها ؛ لأن الشرع قصد من هذا النوع من العبادات أن يقوم به المكلف بعينه ، وحينئذ لا يصح أن يقيم غيره مقامه ، وإذا أقام غيره مقامه فحينئذ ذهب مقصود الشرع ، وعليه فإن الإجماع منعقد على أنه لا يصلي أحد عن أحد ، إلا ركعتي الطواف، فركعة الطواف إذا حجّ عن الحي العاجز عن الحج، فإنه سيطوف، ثم سيصلي ركعتي الطواف وهو وكيل عنه في الحج ، ونائب عنه ، هنا جازت الركعتان تبعا ، ويجوز في التبع ما لا يجوز في الأصل ، وهذه قاعدة " يجوز في التبع ما لا يجوز في الأصل " ، فهنا الركعتان وقعتا تبعا للأصل وهي العبادة عبادة الحج ، وأجاب بعض العلماء بأنه خاص ، ولا تعارض بين عام وخاص ، وهذا استثناء من الشرع ، أما الأصل فلا يصلي أحد عن أحد ، ولا يصوم أحد عن أحد .
يتبع ذلك بقية العبادات ، ومن هنا لا يصح أن يحلف الأيمان والشهادات ، فلو أن شخصا توجهت عليه أيمان القسامة في القتل لم يجزْ أن يوكل وكيلا لكي يحلف عنه أيمان القسامة ، بل لا تصح إلا من الشخص الذي يدّعِي الدم واللوث ، وحينئذ يحلف القسامة ويحلفها الورثة ، ولا يجوز أن ينيبوا غيرهم منابهم .(6/146)
الشهادة كذلك فإنه لا يقيم غيره مقامه إلا في صور مستثناة ، وهي الشهادة على الشهادة إذا تعذرت شهادة الأصل ، وسيأتي هذا إن شاء الله في باب القضاء .
هذا الأصل العام في العبادات أن العبادات لا تدخلها النيابة إذا كانت بدنية محضة .
وأما إذا كانت العبادة مالية فإنه يجوز أن يقيم غيره مقامه في العبادات المالية ، فيجوز أن يوكّل من يجبي الصدقات كما يفعل ولي أمر المسلمين، كما فعل النبي –- صلى الله عليه وسلم -- حيث أرسل عُمّاله والنصوص صحيحة في هذا لجبي الزكاة ، ويجوز أن يوكّل من يصرف الزكاة على الفقراء والضعفاء ، فسواء وكّل فردا أو جماعة كما يقع في الجمعيات الخيرية ونحوها ، ولكن السؤال : إذا وكّل شخصا أن يصرف الزكاة فإما أن يكون وكيلا عنه، أو وكيلا عن الفقراء، أو وكيلا عن الاثنين ، فإن كان وكيلا عنه فإنه يتحمّل المسؤولية عن هذا الشخص في أمانته وخيانته حتى يؤدي الحق كاملا للفقراء ، ومن هنا لو تأخّر هذا الشخص فلم يصرف الزكاة ، وتأخّر فيها عُذّب من أقامه كما يعذّب مؤخر الزكاة ، ومن هنا ننبه على أن الجمعية الخيرية إذا أخذت زكاة أنها وكيل ممن دفع مال الزكاة ، ولا يجوز لها حبس المال أو حتى لو أن شخصا يأخذ زكاة من الأفراد لا يجوز أن يحبس المال؛ لأنه قائم مقام الأصيل ، والأصيل لا يجوز له أن يؤخر ، بل يجب عليه صرفها مباشرة ، إلا في حالة وهي أن يقول الفقير لهذا الذي يأخذ وكيلا : خذ لي الزكاة ، أو يقول له : أنا محتاج وعندي ظروف اطلب لي الزكاة من أشخاص ، فحينئذ عنده زكاة ، فحينئذ يكون وكيلا عن الفقير، فاستلامه استلام من الفقير ، نبّهنا على هذه المسألة لأن بعض الأخيار قد يقع فيها ويوجب لنفسه الحرج وهو لا يعلم ، لا يجوز أن تُدفع الزكاة لشخص لأجل أن يصرفها إذا كان يؤخّرها أو لا يحسن صرفها أو لا يحسن إعطائها للمستحقين مباشرة ، وعلى هذا تجوز الوكالة في الزكوات ، وتجوز الوكالة في الصدقات ؛ لأن النبي –-(6/147)
صلى الله عليه وسلم -- وكّل عُمّاله في جلب الزكاة وفي إعطائها ، ولذلك أرسل عليه الصلاة والسلام إلى بني بياضة وغيرهم عُمّاله ، وكذلك أيضا من التوكيل في العبادات المالية الكفارات، فيجوز لك أن تقيم شخصا يكفّر عنك كفارة اليمين بالإطعام ، ويكفّر عنك كفارة اليمين بالكسوة ، وهذه عبادة مالية ، فيجوز أن توكّله في ذلك ، كذلك توكّله في كفّارة الظهار كفّارة الجماع في نهار رمضان إذا وجبت بإطعام ستين مسكينا ، أو وجبت بشراء رقبة فيكون وكيلا بشرائها ثم بعتقها ، هذه كلها عبادات مالية محضة .
أيضا تبع هذا ما ورد الشرع بترخيص والإذن فيه بالوكالة ، مثل: الهدي والأضاحي؛ فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أقام علي بن أبي طالب –- رضي الله عنه -- وكيلا عنه لكي يقوم على بُدُنه ، فنحر ما بقي وغبر من مائة ناقة التي أهداها عليه الصلاة والسلام للبيت ، فنحر منها ثلاثا وستين ، وترك الباقي لعلي لكي ينحره، ثم أيضا أقامه مقامه في الصدقة ، وهي مال فقال علي –- رضي الله عنه -- : (( أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بجلودها وأجلتّها وأن لا أعطي الجزار منها شيئا )) كما في الصحيحين .
وإذا كانت العبادة جامعة بين البدن والمال، مثل : الحج فتجوز فيها النيابة وتجوز فيها الوكالة ، لا يخلو الحج إما أن يكون فريضة ، أو يكون نافلة ، وإذا كان فريضة وعجز عنها جاز أن يقيم غيره مقامه؛ لثبوت السنة بذلك ، وإن كان نافلة وأراد أن يقيم غيره مقامه ؛ فذهب طائفة من العلماء إلى جواز ذلك، وأنه لابأس ولا حرج أن ينيب غيره لكي يحج عنه نافلة من ماله ، واختاره شيخ الإسلام في شرحه على العمدة .(6/148)
أما بالنسبة للمعاملات؛ فإما أن تكون متعلقة بالأموال، فالإجماع منعقد على جواز التوكيل في البيع ، وفي الشراء ، وفي السلم ، وفي الصرف ، وفي الشركة ، وفي الكفالة ، وفي الوكالة ، وفي الضمان، وكذلك أيضا في الوديعة ، في المساقاة ، في المزارعة ، وفي الهبة ، كل هذا أجمع العلماء –رحمهم الله- على جواز التوكيل فيه ، وكلها معاملات ، لك أن تقول لشخص : بع بيتي ، أو اشتر لي بيتا ، ولك أن تقول له : خذ هذه المائة واصرفها ، ولك أن توكّله أن يشتري لك مائة صاع تمرا سلَمًا ، ولك أن توكله أن يبيعها سلما ، ولك أن توكله في حوالة ، ولك أن توكله في كفالة ، ولك أن توكله في بقية المعاملات المالية التي ذكرناها . إذًا المعاملة المالية الجواز فيها لا إشكال فيه .
وأما بالنسبة للمعاملات المتعلقة بالأنكحة فإن السنة قد ثبتت طبعا المعاملات المالية مثل ما وردت الأدلة باستثناء في العبادات البدنية وردت السنة بالعبادات المالية كما في حديث عروة بن الجعد حينما وكله النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن يشتري له من الجلب شاة فدل على مشروعية التوكيل بالبيع ، والتوكيل أيضا بالشراء .
وكذلك في القرض يجوز أن توكل شخصا أن يقترض لك ، وأن يسدد عنك ؛ ففي الحديث الصحيح عنه –عليه الصلاة والسلام- أن عبدالله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنه وعن أبيه- قال : (( أمرني النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة ))، فوكّله عليه الصلاة والسلام أن يستلف وأن يقترض من الناس، وأن يسدد إذا جاءت إبل الصدقة ، هذا يدل على مشروعية الوكالة في القروض ، ولك أن توكل في سداد القرض؛ قال يا رسول الله إني لا أجد إلا خيارا رباعية ، قال (( أعطه فإن خير الناس أحسنهم قضاء )) فوكل عليه الصلاة والسلام في سداد الدين كما في حديث أبي رافع في الصحيح عنه –رضي الله عنه وأرضاه- .(6/149)
إذًا لابأس بالوكالة في القروض سواء في سدادها أو أخذها ، كذلك النكاح من المعاملات التي تتعلق بالأنكحة يجوز التوكيل في النكاح كما فعله عليه الصلاة والسلام فوكّل من يقبل النكاح ، وكما جاز التوكيل في النكاح جاز التوكيل في الطلاق ، لأنه إذا جاز التوكيل في إثبات العصمة جاز التوكيل في حلها ؛ لأن النكاح إثبات للعصمة ، والطلاق رفع للعصمة .
وكذلك يجوز أن يوكله في الخلع أن يخالع المرأة أن تخالعه ، والمرأة أن توكل شخصا أن يقيم دعوى لإخلاعها من زوجها ، هذا كله جائز ، وتدخل فيه النيابة .
أما بالنسبة للجنايات فالحدود والجنايات يجوز فيها التوكيل في إثباتها ، ويجوز التوكيل في إقامتها وتنفيذها ، وقد فعل رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- كلا الأمرين : فوكّل في الإثبات ، ووكل في التنفيذ ، كما في الصحيحين عنه –عليه الصلاة والسلام- في قصة العسيف أنه قال : (( واغدُ يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )) فاعترفت فرجمها .
وجه الدلالة في قوله : (( إن اعترفت )) هذا إقرار إثبات للحد ، أي اقبل إقرارها إذا كان مستوفيا للشروط ، (( فإن اعترفت )) هذا دليل الإثبات . (( فارجمها )) هذا تنفيذ الحد ، فوكله عليه الصلاة والسلام في إثبات الحد ، ووكله أيضا في إقامته وتنفيذه .(6/150)
وأيضا استناب عليه الصلاة والسلام غيره في التحقق من أهلية الشخص لإقامة الحد عليه كما في الصحيح من حديث بريدة بن حصيب –- رضي الله عنه -- أن ماعز بن مالك أتى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وهو في المسجد فناداه ، فقال : يا رسول الله ، إني أصبت حدا فطهّرني ، فقال : ويحك فارجع فاستغفر الله ثم تب إليه ، فرجع غير بعيد ثم قال يا رسول الله : إني أصبت حدا فطهرني ، فكرر ذلك حتى كانت الرابعة قال - صلى الله عليه وسلم - : أبك جنون ؟ فأخبر أنه ليس بمجنون ، فقال : أشربت خمرا ؟ –لكي يتأكد هل عقله معه أو لا- فقال : أبك جنون ؟ فأخبره قومه من كانوا معه من جماعته الذين يعرفونه أنه ليس بمجنون أنه عاقل فتوفرت فيه أهلية المقرّ وهو العقل ، فقال : أشربت خمرا ؟ فقام رجل فاستنكهه –أي شم رائحة فمه- فهذا توكيل أيضا ؛ لأنه استناب عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في التأكد من أهليته لثبوت الحد عليه ، هذا كله في الجنايات يجوز التوكيل في إثباتها كما ذكرنا ، وفي إقامتها .
أما بالنسبة للمحل فيجوز وتصح الوكالة إذا كان المحل قابلا للتوكيل ، وإذا سُئلت متى يكون المحل قابلا للتوكيل ؟ تقول : إذا كانت تجوز في مثله النيابة .(6/151)
هناك شيء أخرجه العلماء طبعا بلا إشكال وهو المعاصي والمحرمات فلا تدخلها الوكالة أصلا ، فلو وكّله –أعوذ بالله- بالقتل وقال له : اذهب واقتل فلانا أقمنا الحد على من قتل وباشر، والذي أمره لا يعتبر قاتلا إلا إذا أكرهه ، فإذا أكرهه وفرض عليه ذلك –سيأتي إن شاء الله في باب القصاص في مسألة القصاص من المكرِه والمكرَه- وكذلك لو قال له : اذهب وازْنِ ، أو وكلتك أن تزني –والعياذ بالله- بفلانة فذهب وزنى أقيم عليه الحد على المباشر ولا يقام على الآمر ، وهكذا بالنسبة لبقية المظالم والمحرمات ، فرّع العلماء على هذا إذا قال له : وكلتك أن تظاهر من امرأتي فإن الظهار محرّم ، ولو أقامه لكي يظاهر من امرأته لم تصح الوكالة فلو قال هذا الوكيل للمرأة أنت على موكلي كظهر أمه فإنه لا يثبت الظهار بهذا على أصح الوجهين عند أهل العلم –رحمهم الله- لأنه منكر من القول وزور وهو محرم، والحرام لا تدخل فيه النيابة .
قال رحمه الله : [ وهي جائزة في كل ما تجوز النيابة فيه إذا كان الموكل والوكيل ممن يصح ذلك منه ] : [ إذا كان الموكل والوكيل ممن يصح ذلك منه] انتقل إلى الركن الثاني وهو العاقدان للوكالة ، الموكل والوكيل ، الموكل يشترط فيه أن تتوفر فيه أهلية التصرف من البلوغ والعقل والاختيار ، فلا تصح الوكالة من صبي ولا من مجنون ولا من سكران ولا من نائم ولا من مغمى عليه ، ولا تصح الوكالة من مكره لأن الإكراه كما تقدم معنا يفسد الاختيار وحينئذ يسقط به القول ولا يعتد به فإن الله –- عز وجل -- أسقط عن المكره قوله؛ فقال تعالى : { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } فإذا أسقط قوله في أعظم الأشياء وهو الردة ، فمن باب أولى أن يسقط قوله فيما سواه ، فلا تصح الوكالة إلا إذا توفرت الأهلية في الموكل .(6/152)
بالنسبة بعض العلماء يضيف إليه أهليته للقيام بالشيء، فإذا لم يكن أهلا في الأصل للقيام بالشيء ولو كان أهلا للتصرف فإنه لا تصح منه الوكالة ، ومثلوا لذلك بالمرأة إذا وكلت من يعقد عليها ، يعني قالت لشخص : أنت وكيلي في عقد زواجي من فلان ، فإن المرأة بنفسها لا تلي عقد النكاح على أصح قولي العلماء وهم الجمهور ؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( لا نكاح إلا بولي )) وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل )) فإذا كانت هي بنفسها لا تستطيع أن تلي عقد النكاح فمن باب أولى أن لا تولّي غيرها ، ومن هنا لا يصح التوكيل إذا كان الشخص نفسه لم يعطه الشرع أهلية للقيام بالشيء ، وهذا صحيح ؛ لأن الوكيل ينزّل منزلة الأصيل ويقوم مقامه ، فإذا كان الأصيل عاجزا عن ذلك بنفسه فمن باب أولى أن يعجز عن إقامة غيره مقامه .
طبعا كل منهما لابد أن يكون جائز التصرف فيما يوكل فيه ، فإذا وكله في بيع لابد أن يكون الموكل والوكيل قد توفرت فيه شروط العاقد للبيع ، فلو تخلف فيه شرط من شروطها لم تصح ، سواء كان في الوكيل أو الموكل ، أو فيهما معا ، فإذًا لابد أن تتوفر الأهلية للقيام بالشيء الذي يريد أن يوكله للقيام به.
أما بالنسبة للوكيل فقلنا يشترط في الأصيل طبعا البلوغ والعقل والاختيار والرُّشد ، وهو أن لا يكون محجورا عليه ، إذا كانت الوكالة في الأموال ، طيب لو أن صبيا وكل هل تسقط الوكالة مطلقا ؟ استثنى العلماء مسألتين في الصبي :
المسألة الأولى : إذا وُكّل للإذن بالدخول في الدار ، فمثلا : جئت إلى شخص تزوره فجاء صبي وفتح لك الباب هذا وكيل ، الأصل يقتضي أنك ما تدخل هذا البيت ؛ لأنه يحرم عليك أن تدخل بيت غيرك إلا بإذنه ، فجاءك صبي ، الصبي هذا وكيل ، ونحن نقول : إن الصبي ليس بأهل أن يكون وكيلا ، فهل يصح الدخول وهل يجوز ؟(6/153)
الصحيح أنه يجوز إذا كان يعني مثله يفهم الخطاب ويحسن الجواب ، هذا من باب الاستحسان ، اُستثني استحسانا ، وجرى عليه العمل ، فإذا قال لك : تفضل ادخل ، أبي يقول ادخل فحينئذ يكون إذن بالدخول ، الأصل أنك ما تدخل { لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها } فلا يجوز له الدخول إلا بإذن صاحب الدار ، هذا الذي نقل الإذن غير أهل ، فحينئذ لما جرى العمل وكان فيه نوع تمييز قبل استحسانا ، لكن لو كان صبيا يعني لا يميز فجاء وقال لك: ادخل ما تدخل ، لأن بعضهم يقلد يعني إذا سمع شيئا قلده ، فرأى أخاه الأكبر يفتح الباب ويقول: تفضل ويأتي ويقول تفضل ، إنما يحصل ذلك إذا غلب على ظنك أنه مميز ، وكنا مع بعض مشايخنا –رحمة الله عليهم- ينتظر ويتورّع كثيرا ما يدخل حتى يعني يتأكد إما بسماع الصوت؛ لأن الأطفال لا يؤمنون ، المسألة الثانية : في قبول الهدية والهبة ، لو أن صبيا حمل إلى الشخص هبة أو هدية، أرسل والد الطفل مع الطفل هدية أو هبة فإنها تقبل ، وهذا كما ذكرنا استحسانا إذا جاءه بها وقال: أبي يقول لك خذ هذه ، ومثل ما ذكرنا في الصبي المميز في بيعه وشرائه ، هذا مما يستثنى في الوكالة .
أما الأصل يقتضي أن الوكيل والأصيل لابد أن تتوفر فيهما أهلية التصرف في البلوغ والعقل والاختيار والرشد .(6/154)
قال رحمه الله : [ وهي عقد جائز تبطل بموت كل واحد منهما ] : وهي عقد جائز في الطرفين ، لو وكّلك شخص بوكالة وقبلتها من حقك أن ترجع عن القبول مباشرة ، ومن حقك أن ترجع عنه بعد وقت ، ولست بملزم أن تُتم الوكالة ، فلو شئت أن تفسخها في أي وقت فلك الحق ، وأيضا صاحب الوكالة وهو الموكِّل له الحق أن يفسخ الوكالة في أي وقت وليس بملزم أن يتمها ، وحينئذ الوكالة عقد جائز ، والجواز هنا في الوكالة من العقود الجائزة وقلنا : إن العقد الجائز هو الذي يملك كل واحد من الطرفين فسخه بدون إذن الآخر ، فلو وكّل شخصاً أن يبيع ماله. فقال : قبلت ورضيت وكالتك ثم بعد يوم أو يومين فسخ الوكالة ، فغضب الموكل وقال : لماذا تفسخ الوكالة ؟ وأنكر عليه قلنا هذا عقد جائز ، ولست بملزم بإتمامه ، لك الحق أن تفسخ الوكالة .
قال رحمه الله : [ تبطل بموت كل واحد منهما ] : فإذا مات الوكيل انفسخت الوكالة ، وإذا مات الموكِّل انفسخت الوكالة ، تفسخ بموت كل واحد منهما ، الموت يفسخ الوكالة في العقود الجائزة .
قال رحمه الله : [ وفسخه لها ] : وفسخه لها يعني له الحق أن يفسخها في أي وقت .
قال : [ وجنونه ] : وجنونه زوال الأهلية ، لو أنه وكّله في بيع أرضه وعمائره ثم جُنّ فحينئذ تنفسخ الوكالة بجنونه .
قال رحمه الله : [ والحجر عليه لسفه ] : لو أنه وكله وكالة مالية ، ثم حُجر على الموكِّل لسفه فإن الوكالة تنفسخ ؛ لأنه ليس له الحق في التصرف في المال ، وحينئذ يحجر على أي تصرف قولي وفعلي له في المال .
قال رحمه الله : [ وكذلك في كل عقد جائز كالشركة ] : وكذلك الحكم في كل عقد جائز أنه ينفسخ بالموت وبالجنون وبفسخ أحد الطرفين له كالشركة ، فلو أن أحد الشريكين مات انفسخت الشركة إلا إذا رضي الورثة أن يتمّوها وأن يسيروا على ما سار عليه مورثهم .(6/155)
قال رحمه الله : [ والمساقاة والمزارعة ] : والمساقاة والمزارعة : لو أعطى شجر بستانه لشخص يسقيه ويعمل فيه ثم توفي انفسخت المساقاة ، وهكذا لو توفي العامل انفسخت المساقاة ، المقصود أن هذه العقود : الشركة ، والمساقاة ونحوها من العقود الجائزة التي سيذكرها تنفسخ بالموت وبالفسخ وبالجنون وبزوال الأهلية .
قال رحمه الله : [ والجُعالة والمسابقة ] : والجعالة لو قال : من جاء ببعيري الشارد أعطيه مائة ثم توفي وذهب شخص ووجد البعير بعد الوفاة انفسخت الجعالة بمجرد الوفاة ، وهكذا لو جُنّ أو حُجِر عليه .
قال رحمه الله : [ والمسابقة ] : وكذلك المسابقة لو أنه جعل مالا للمتسابقين وهو خارج عنهما وقال: من سبق منكما على فرسه أعطيه عشرة آلاف ريال، فقَبْل أن يسبق السابق توفي انفسخت ، وهكذا لو توفي أحد المتسابقين من باب أولى وأحرى ، وكما يحصل الفسخ بالموت يحصل الفسخ بالجنون وزوال الأهلية كما ذكرنا .(6/156)
قال رحمه الله : [ وليس للوكيل أن يفعل إلا ما تناوله الإذن لفظا أوعرفا ] : هذه صيغة الوكالة: تكون عامة ، وتكون خاصة ، وإذا كانت الوكالة عامة فينبغي أن لا تشتمل على الغرر ، واشتمالها على الغرر أن يقول له : وكلتك أن تشتري لي كل شيء ، وأن تبيع لي جميع أملاكي وكالة عامة فيما ذكر، فإذا وكله وكالة على هذا الوجه فيها تغرير ويقول له : أنت وكيلي في كل شيء ، وأنت المسؤول عن كل شيء لي ، هذا لا يصح؛ لأن هذا يغرر به وفيه مخاطرة ، لكن يحدد له ويقول له مثلا : أن تبيع وأن تشتري وأن تتولى القبض وأن تتولى كذا وكذا ، ويحدد له الأمور التي وكله فيها ، وإن كانت الوكالة عامة في جنس الشيء ، بحيث يقول له مثلا : وكلتك أن تتولى بيع أموالي بالمدينة ، فهذا عموم في الأموال الموجودة في المدينة ، وهكذا لو حدد له جنسا من التصرفات وعمّم أطلق يده فيها فإن هذا لابأس به ، لكن المهم عند العلماء أن لا تشتمل على التغرير ، فإذا تلفّظ بالوكالة يعني الموكل فحينئذ إما أن تكون عامة وإما أن تكون خاصة ، والعمل بهذا العموم ، وبهذا الخصوص ، لكننا نحتكم إلى العرف وما جرت به العادة في تقييد المطلقات ، وتخصيص العموم ، وهذا تقدم معنا غير مرة ؛ ولذلك إذا قال له : وكلتك في بيع دوابي وشرائها ، فالدابة في القديم لها معنى ، والدابة في الحديث لها معنى ، والدابة في عرف البادية لها معنى ، والدابة في عرف الحاضرة لها معنى ، وهكذا بالنسبة للأطعمة والأكسية والأغذية كل هذا يرجع فيه إلى العرف ، فيقيّد المطلق ، ويخصّص العموم على حسب ما جرى به العرف ، ومن هنا جرت القاعدة " أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا" ، فنقيد هذه الألفاظ كلها بما جرت به العرف ، لكن يجوز له أن يعمّم، ويجوز له أن يخصص ، وعليه فتكون الوكالة عامة إذا عمّمها، وخاصة إذا خصصها .(6/157)
قال رحمه الله : [ وليس له توكيل غيره ] : فلما استند إلى العرف أرجع العلماء هذا إلى القاعدة المشهورة وهي إحدى القواعد الشرعية الخمس التي انبنى عليها أكثر مسائل الفقه الإسلامي وهي " العادة محكمة" ، فإذا أعطاه وكالة بلفظ رجعنا في معنى هذا اللفظ إلى ما جرى به العرف استنادا إلى الأصل المقرر بهذا القاعدة أن " العادة محكّمة" ، أي يحتكم إليها .
قال رحمه الله : [ وليس له توكيل غيره ] : وليس له توكيل غيره إلا إذا أذن له بالتوكيل، أو جرى العرف أنه يوكّل ، أو كان مثله لا يتعاطى مثل هذه الأشياء ، فمثلا يقول له : وكلتك أن تبيع عمارتي في المدينة ، العمارة الفلانية بمبلغ كذا وكذا ، هذه وكالة خاصة ، وأذنت لك أن توكل الغير فيما ذكر، فحينئذ نقول : ينبغي لي الوكيل أن يتقيد بخصوص الوكالة ، فلا يجوز له أن يبيع بأقل من هذا المبلغ ، ولا يجوز له أن يبيع في غير هذا المكان الذي خصّصه ، ولما أعطاه الإذن أن يوكل غيره نجيز له أن يوكل الغير ، فإما أن يعطيه توكيل الغير بنظره ، وإما أن يعطيه توكيل الغير محددةاً ، مثل قوله : أذنت لك أن توكل من له خبرة ، فلا يجوز له أن يوكل من لا خبرة عنده ، وإذا قال له : أذنت لك أن توكل من قرابتي ، لا يجوز أن يوكل من غير قرابته ، إذاً إذا أذن له بالتوكيل جاز له أن يوكل ، وإذا لم يأذن له فإنه لا يوكل .(6/158)
ثانيا : أن يجري العرف بالتوكيل في مثل هذا وفي مثله وفي حكمه أن يكون مثله لا يتعاطى مثل هذه الأشياء ، فمثلا العرف جارٍ على أن العمائر تنظف وتهيأ فلو قال له : أنت وكيلي على عمائري في المدينة تؤجّرها للحجاج ، هذه العمائر تحتاج إلى إصلاح ، تحتاج إلى ترميم ، تحتاج إلى تنظيف ، فحينئذ يحتاج أن يوكل أشخاصا ليرمّموها وينظفوها ويقوموا على إصلاحها ، العرف بلا إشكال جار بهذا أنه إذا وكله فنفهم أن الإذن بالشيء إذن بلازمه ، ومن لازم هذه الوكالة أن يقيم غيره لإصلاحها والقيام عليها ، فنقول له أن يوكل ، أو يكون مثله لا يتعاطى مثل هذه الأشياء، فيوكله بأمر ويكون مثله لا يقوم بهذا الأمر نعلم أنه يقول له وكلتك ولك أن توكل من يقوم بما لا يقوم به مثلك ، فحينئذ في هذه الأحوال يجوز للوكيل أن يوكّل فيما وكل فيه .
إذا أذن الموكّل للوكيل أن يوكل ؛ إما أن تكون الوكالة عامة ، فيأذن له بالعموم ، وإما أن تكون الوكالة خاصة ، فيأذن له بالخصوص ، الوكالة العامة تكون عامة في المكان ، وعامة في الأشخاص، وعامة في الأزمنة والأمكنة ، والظروف والأحوال ، فمثلا في بعض الأحيان يقول له : وكلتك ببيع أموالي من العقارات كلها ، هذا طبعا عموم من وجه وخصوص من وجه ، عموم في العقارات ، وخصوص في المال ؛ لأن العقارات نوع من المال ، وحينئذ إذا قال له أعطاه وكالة عامة وقال له : وأذنت لك أن توكل ؛ فإما أن يقول له أن توكل وكالة عامة ، فيجوز له أن يقيم غيره مقامه على العموم ، وإذا قال له : أذنت لك أن توكل وكالة خاصة لا يجوز أن يوكّل إلا على الوجه الذي قيّده وهو الخصوص .(6/159)
إذًا الخلاصة أن الوكيل لا يوكل فيما وكل فيه هذا الأصل إلا إذا جرى العرف وعلمنا أن مثله يوكل في أمر ما أسنده إليه الموكّل فله أن يوكل فيما وكل فيه، وإذا وكل أو أذن له أن يوكل غيره؛ فإما أن يأذن له بالعموم ، وإما أن يأذن له بالخصوص، فإن أذن له بالخصوص وجب عليه أن يتقيد بما أذن له به.
قال رحمه الله : [ ولا الشراء من نفسه ] : ولا يجوز له الشراء من نفسه ، يشتري لنفسه من أموال من وكله ؛ لأنه متهم .
قال رحمه الله : [ ولا البيع لها إلا بإذن موكله ] : ولا البيع لها : مثلا قال له : اشترِ لي سيارة وهو عنده سيارة فأراد أن يبيع سيارته على من وكله لا يجوز هذا ، لا يجوز له أن يبيع ولا يجوز له أن يشتري إلا إذا أذن له ، فإذا أذن له بذلك صح ؛ لأنه متهم ، وحينئذ إذا حصل الإذن جاز له أن يشتري، وجاز له أن يبيع . مثال الشراء قال له : أنت وكيلي في شراء السيارات الصالحة للبيع ، فأراد أن يبيع سيارته ، فقال بدل أن أبيعها للغريب أبيعها إلى من وكّلني حتى ينتفع فاشتراها من نفسه ، هذا مثال الشراء ، ومثال البيع العكس أن تكون عند الموكل أموالٌ ويريد أن يبيعها، والوكيل يرى مالا يحبه مزرعة من المزارع أراد أن يبيعها فقال له قال لوكيله : بعها فقام الوكيل وأعجبته المزرعة فأراد أن يشتريها لنفسه جاز له أن يشتري لنفسه إن كان قد أذن له بالبيع والشراء لنفسه .(6/160)
قال رحمه الله : [ وإن اشترى لإنسان ما لم يأذن له فيه ؛ فأجازه جاز ] : وإن اشترى لإنسان ما لم يأذن له فيه فأجازه جاز : تقدمت معنا هذه المسألة في بيع الفضولي وشرائه ، وبينا أن السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- دلت على صحة بيع الفضولي وشرائه إذا أجازه المالك ؛ وذلك في حديث عروة البارقي –- رضي الله عنه -- وهو حديث صحيح ، حيث أقر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عروة حينما قال له : (( اشتر لنا من هذا الجلب شاة )) فاشترى بالدينار شاتين ثم باع إحدى الشاتين بدينار وأتى إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فقال : هذه شاتكم وهذا ديناركم ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( بارك الله لك في صفقة يمينك)) ، وجه الدلالة أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أقره وأجاز بيعه، والدليل على إجازة البيع والإقرار قوله : ((اللهم بارك له في صفقة يمينك)) ولم ينكر عليه فدل على مشروعية بيع الفضولي وشرائه ، وأن الغير إذا اشترى للغير أو باع وأقر الغير شراءه وبيعه جاز .
ذكر المصنف –رحمه الله- هذه المسألة بعد مسألة الوكيل فيما إذا تعدّى الوكيل وتصرف من عنده تصرفا مخالفا للوكالة ، وأقره صاحب الوكالة نفذ التصرف ، فلو قال له : بع عمارتي في المدينة إلى محمد بمليون ، فباعها إلى زيد بمليون ونصف أو بمليون ومائة أو بمليون ، وأخبر الموكل فرضي جاز وصح ، هذا مراد المصنف من إيراد المسألة في هذا الموضع .
قال رحمه الله : [ وإلا لزم من اشتراه ] : وإلا لزم من اشتراه يعني أن الوكيل يلزم بإتمام الصفقة ؛ لأنه إيجاب وقبول ، وحينئذ يكون كمن اشترى لنفسه وباع .(6/161)
قال رحمه الله : [ والوكيل أمين لا ضمان عليه فيما يُتلِف إذا لم يتعد ] : والوكيل أمين لا ضمان عليه: هذا أصل عند العلماء –رحمهم الله- أن يد الوكيل يد أمانة ، وقلنا : يد الأمانة لا تضمن إلا إذا تعدت أو فرطت ، وعلى هذا فإذا وكّل شخص شخصا فإن هذا الوكيل أمين ، جميع الأموال التي تكون تحت يده لا تخوّنه فيها ولا نتهمه إلا إذا خرج عن الأصل بأن يتعدى أو يفرط ، فإذا حفظ الأموال فجاء سارق وسرقها لم يضمن ، وتكون مسروقة على صاحبها الأصلي ، ولو أخذ المال ووضعه في مكان فجاءت آفة سماوية واجتاحت المال وأتلفته لا يضمن، ويكون اجتياحها وخسارتها على المالك الأصلي ؛ لماذا ؟ لأنه حينما أقام الوكيل مقامه فمعنى ذلك أنه نزّله منزلة نفسه ، وإذا نزله منزلة نفسه فإنه معنى ذلك أنه قد رضي أمانته وعدالته ، وحينئذ لا نتهمه إلا إذا جاء دليل ظاهر على التهمة بخروجه عن الأصل ، مثلا لو وكله أن يجلب له تجارة من الشام وهذه التجارة في العادة تأتي عن طريق البر وأنه آمن، فجاء في زمان هيجان البحر كما مثلوا في القديم وطلب البضاعة عن طريق البحر فغرقت البضاعة هذا يضمن ؛ لماذا ؟ لأنه فرّط وغرر بالمال ، إذاً لا يضمن إلا إذا تعدى وفرط وأساء في حفظ المال فحينئذ يكون ضامنا ، أما إذا جرى أمره على السَّنن فلا ضمان عليه ، جعله وكيلا على مركز تجاري ثم احترق هذا المركز بدون تفريط بدون تساهل منه فإنه لا يضمن ويكون هلاكه على صاحب المال الحقيقي ، لكنه لو تساهل في هذا المحل التجاري أو المخزن قال له : وكلتك على مخزني الفلاني فتساهل فجاء مثلا ووضع الكهرباء في مكان يحصل منه ضرر ونُصح ثم انفجر المحل يضمن؛ لأن هذا إهمال ويتحمل المسؤولية ، وكم من حقوق ضاعت بسبب إهمال المهملين، والأصل عند العلماء –رحمهم الله- أن المهمل يتحمل مسؤوليته ، فإذا أهمل أو قصر في حفظ المال فإنه يكون عليه الضمان .(6/162)
قال رحمه الله : [ والقول قوله في الرد والتلف ونفي التعدي ] : والقول قوله في الرد : قال : رددت لك المال قال : لا ما رددته ، القول قوله ؛ لأنه أمين ، والتلف قال : أين بضاعتي الفلانية قال تلفت بآفة سماوية فلا ضمان عليه ، قال: لا ما تلفت ؛ فالقول قوله ، وهذا كله مبني على أن يده يد أمانة وليست بيد ضمان . فالقول قوله .
قال رحمه الله : [ والقول قوله في الرد والتلف ونفي التعدي ] : ونفي التعدي : لو قال له صاحب المال : هذا المخزن الذي أقمتك على حفظه واحترق أنت تعديت وبسببك حصل الحريق فأنت ملزم قال: لا ما تعديت الأصل أنه لم يتعد حتى يثبت صاحب المال أنه تعدى ؛ لأنه لو فُتح هذا الباب لتضرر الوكلاء وأوذوا ، فعندنا شهادة ظاهرة وهي أن صاحب المال لما أقامه معناه أنه قد رضي أمانته وأنه أمين وأنه صادق ؛ لأن العقلاء لا يقيمون لا أحد عاقل يقيم مقامه من هو كذاب أو غشاش أو خائن ، لأن الإنسان لا يرضى بجلب الضرر على نفسه ، ومن هنا كان متحملا المسؤولية عنه والقول قوله حتى يثبت خلاف ذلك .
قال رحمه الله : [ وإذا قضى الدين بغير بينة ضمن إلا أن يقضيه بحضرة الموكل ] : وإذا قضى الدين بغير بينة : قال له : اذهب إلى فلان وأعطه هذه عشرة آلاف التي له علي ، فذهب إلى صاحب الدين وأعطاه عشرة آلاف ولم يأخذ منه مستندا على أنه استلم ، ولم يشهد على استلامه ، هذا إيش يعتبر؟ ، يعتبر إهمالا ، وقلنا إذا أهمل أو تعدى أو فرط فإنه يتحمل مسؤولية الإهمال والتفريط ، فحينئذ لا يُقبل منه أنه سدّد له لو أنكر صاحب الدين وقال: ما جاءتني عشرة آلاف وطالب الأصيل ( الموكل) فإننا نلزم الوكيل بالدفع حتى يقيم الدليل والبينة على أنه دفع ، إلا في حالة واحدة بحضور من وكله ؛ لأنه إذا قضاه عشرة آلاف بحضور موكله ولم يأخذ منه بينة ولم يقم بينة على هذا الدفع ورأى الموكل ذلك وسكت فمعنى ذلك أنه راض به .(6/163)
وثانيا: أنه إذا حضر الموكل دَفْع موكله جاز له أن يحلف اليمين على أنه قد رد له ماله ، وحينئذ يكون لا يفتقر إلا إلى شاهد واحد على إثبات حقه .
فالشاهد من هذا أن الأصل أن الوكيل إذا دفع بحضرة من وكله وسكت من وكله دل ذلك على إقراره وأنه لا عتبى عليه .
قال رحمه الله : [ ويجوز التوكيل بِجُعل وبغيره ] : ويجوز التوكيل بجُعل الحقيقة التوكيل بإجارة، وهذا هو الأصل أن يقول له : بع هذه العمارة ولك كذا أو افعل كذا ولك كذا ، ولكن غلّبوا الجُعل على الإجارة بأن الجعل غالبا يقع في الشيء الذي يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع ، ومن هنا عبروا بالجعل؛ لأنه أقرب منه للإجارة ، والإجارة غالبا تكون في الأعمال المحددة المعلومة ، والجُعل لا يحدد فيه العمل ، ومن هنا كان إلى الجعل أقرب منه إلى الإجارة ، فعبر رحمه الله بالجعل من هذا الوجه .
قال رحمه الله : [ فلو قال : بع هذا بعشرة فما زاد فلك؛ صح ] : تقدم معنا هذه المسألة إذا كانت على الجعل صححها بعض العلماء ، الأصل الذي ذكره وحُكي عن ابن عباس ، ولكني لم أعرفه مسندا لم أطلع على إسناده صحيحا عن ابن عباس –رضي الله عنهما- .
وأما بالنسبة للوكالة إجارة لو قال له : وكلتك أن تبيع هذه السيارة فيعطيه ماله وتعبه بالعرف ، وإذا قال له ما زاد فهو لك فقد أعطاه مالا مجهولا ، ولذلك مذهب الجمهور تحريم هذه الصورة أن يقول له: بع فما زاد فهو لك ، لأنه مجهول ولا يدرى كم الزائد .
قال رحمه الله : [ باب الشركة ] : يقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الشركة ] : الشركة في اللغة الخلطة .
وأما في الاصطلاح فهي : الإجتماع في استحقاق أو تصرف ، أن يجتمع اثنان فأكثر في استحقاق أو تصرف .(6/164)
والاجتماع في الاستحقاق ؛ إما أن يكون اضطراريا ، وإما أن يكون اختياريا ، وهي شركة الأملاك ، الاجتماع في الاستحقاق هو شركة الأملاك ، وأما الاجتماع في التصرف فهي شركة العقود ، النوع الأول وهي الاجتماع في الاستحقاق يكون اختياريا كشخصين يشتريان مع بعضهما أرضا أو سيارة ويتفقان على أنها مناصفة بينهما ، فهذا اختياري اشتراك اختياري ، وكذلك أيضا في المنافع كأن يستأجرا عمارة لتأجيرها في الموسم ونحو ذلك فيدفع كل منهما نصف الأجرة ، هذا اشتراك في المنفعة اختيارا ، وقد يقع الاشتراك في شركة العقد ، وهذا يأتي على صور ، منها :شركة العنان ، وشركة المفاوضة ، وشركة الوجوه ، وشركة الأبدان ، وشركة المضاربة ، على أن عقد المضاربة نوع من أنواع الشركات ، وإن كان الصحيح أنه ليس بشركة كما سنبينه إن شاء الله .
فهذا النوع وهو شركة العنان والمفاوضة والوجوه والأبدان هذا اصطلح العلماء على وصفه بشركة العقود ، والشركة تجمع النوعين ، لكن كلام العلماء –رحمهم الله- مرادهم النوع الثاني وهو شركة العقود ، أما شركة الاستحقاق فقلنا : اختيارا واضطرارا ؛ أما بالاشتراك اضطرارا وقسرا فمثل اشتراك الورثة ، فإذا توفي رجل وترك ثلاثة أبناء ذكور فقط ولم يترك غيرهم من الورثة فالمال بينهم أثلاثاً ، فلو ترك عمارة يكون لكل واحد منهم الثلث هم شركاء وهذه الشركة جاءتهم قسرا ولم تأت اختيارا منهم، ومن هنا مثّل العلماء بالشركة شركة الأملاك التي هي شركة الاستحقاق القسرية باشتراك الورثة في المال، وهكذا لو وصى الشخصين فأكثر بمال يشتركان فيه هذه شركة ليست في اختيار الإنسان ، أما الشركة الاختيارية أن يجتمع اثنان فأكثر في شراء أرض أو شراء منفعة فهذا اشتراك في التصرف ، وأما شركة العقود وهي المقصودة بهذا الباب ؛ فقد دل عليها دليل الكتاب والسنة والإجماع من حيث الجملة.(6/165)
أما كتاب الله فإن الله تعالى يقول : { وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } هذه الآية أصل في مشروعية الشركة ، لأنها كانت موجودة وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، فإن داود –عليه السلام- لم ينكر على الخصمين كونهما اشتركا ، ولكن أنكر كون أحدهما يبغي على الآخر ، ومن هنا لم ينكر الشركة التي هي أساس الاجتماع بينهما، فدل على مشروعية عقد الشركة ، وداود ممن أمر بالاهتداء بهديه ، فلما كان هذا مشروعا في زمانه وحكاه الله –- عز وجل -- وأنه أقرّه فهو شرع لنا ، لأن الله يقول : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } فهو شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولم يرد في شرعنا ما يحرّم الشركة ، بل ورد ما يدل على جوازها ، فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- شارك في الجاهلية كما في حديث السائب بن أبي السائب حينما امتدح شركته، وكذلك حينما وقعت الشركة بين الصحابة –رضوان الله عليهم- كما وقع بين سعد وعمار وعبدالله بن مسعود –رضي الله عن الجميع- في شركتهم يوم بدر .
والإجماع من حيث الجملة على مشروعية الشركات، لكن الخلاف في بعض الأنواع؛ أما كون الشركة كعقد فهي جائزة ومشروعة عند الجميع على خلاف في بعض الأنواع هل هي جائزة أو لا ؟ كشركة الوجوه ، وشركة الأبدان ، وشركة المفاوضة .
يقول رحمه الله : [ باب الشركة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالشركة .
قال رحمه الله : [ وهي على أربعة أضرب ] : إجمالٌ قبل البيان والتفصيل .(6/166)
قال رحمه الله : [ شركة العنان : وهي أن يشتركا بماليهما وبدنيهما ] : شركة العنان : قيل مأخوذة من قولهم : عَنَّ الشيء إذا ظهر وبدا للإنسان ، تقول : عنّ لي أن أترك الموضوع ، أي ظهر لي وتبين ، وقيل: إنها مأخوذة من عِنان الفرس؛ لأن كل واحد من الشريكين يطلق للآخر يده أن يتصرّف بدلا عنه، فكل منهما أطلق العِنان للآخر ، قيل شركة عَنان من هذا الوجه ، إلى غير ذلك مما ذكروه ، لكن مثل ما ذكر المصنف –رحمه الله- هذه الشركة شبه متفقين عليها كلهم ما في خلاف بين العلماء –رحمهم الله- في مشروعية شركة العنان من حيث الجملة ، وإن كان الخلاف في تفاصيلها وبعض الشروط فيها، أن يشتركا في ماليهما وبدنيهما فيتفقان على رأس المال أن يكون مائة ألف ريال كل واحد منهما يدفع خمسين ألفا أو أربعة أشخاص، كل شخص منهم يدفع خمسة وعشرين ألفا ويشتركان يقوم كل واحد بالعمل لتنمية هذا المال والوصول إلى الربح ، وهذا جائز ومشروع .
قال رحمه الله : [ شركة العنان : وهي أن يشتركا بماليهما وبدنيهما ] : معنى ذلك أنه لابد من وجود المال ، بخلاف شركة الوجوه ليس فيها رأس مال يشتركان في مال ، وبدنيهما بالعمل بخلاف المضاربة ، فالمضاربة المال من أحدهما ، والعمل من الآخر ، فشركة العنان يشتركان ، ولذلك لما تحققت فيها شروط الشراكة الحقيقية أجازها الجميع لم يقع الخلاف فيها ، فكل منهم يدفع برأس المال على اختلاف في النسبة وكل منهما يقوم بالعمل .(6/167)
قال رحمه الله : [ وشركة الوجوه : وهي أن يشتركا في ما يشتريان بجاهيهما ] : وشركة الوجوه يقولون أنها شركة المفاليس ، مفلسون ما عندهم شيء ، لكنهم يطلبون المال بالجاه ، رأس مال ما يوجد يفتح الله ، لكن يقول له مثلا : أنت تعرف التجار خذ لنا بضاعة من فلان أو فلان ، وأنت تعرف الزبائن فأنا أحضر البضاعة وأنت تصرف في السوق أو العكس أو يشتركان الاثنان في جلب المال والاثنان في تصريفه في السوق ، فهي ليس فيها يعني ليس لأحدهما مال، وهذا النوع من الشركة مبني على الجاه ؛ لأن التجار يثقون فالشخص يأخذ هذا المال بجاهه بوجهه ، وقد ذهب الحنفية والحنابلة إلى جواز هذا النوع من الشركات الذي هو شركة الوجوه ، وأجازوه والنظر الصحيح يقتضي الجواز أولا عموم الأدلة في الشركة كما في قوله عليه الصلاة والسلام : يقول الله تعالى : (( أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما )) الأدلة في عمومها على مشروعية الشركة يقتضي جواز الشركة .
وثانيا من جهة النظر الصحيح فإنه إذا جازت شركة العنان وهي لتنمية المال فلأن تجوز شركة الوجوه بإيجاد رأس المال من باب أولى وأحرى ، وتوضيح ذلك أنها في شركة العنان أباح الله لأن الشركة لكي ننمي المال ونكثره ، فلأن يكون مباحا لنا أن نجد المال نفسه ويكون الرفق أعظم أولى وأحرى ، لأن الرفق به والفائدة أعظم ، وقد جاءت الشريعة لتحقيق المصالح ، فلاشك أن مصلحة العباد وانتفاعهم بذلك أكبر وأعظم ، فشركة الوجوه جائزة في أصح الوجهين عند العلماء –رحمهم الله- يشتركان بجاهيهما ، يطلبان الأعمال ، ويقومان بها معا، وفي شركة الوجوه صور عديدة وبعضها فيها غرر ، ولكن الجواز من حيث الجملة ، ومن أدق وأحسن يعني ما تقع به شركة الوجوه أن يكون الجاه منهما، والعمل منهما .(6/168)
أما إذا كان الجاه من أحدهما والعمل من الآخر فهذا فيه إشكال ، وتتفرع عليه بعض المسائل المعاصرة ، منها في مسألة الكفيل مع عامله في بعض المسائل حيث يقوم الكفيل بوجهه ، ويحضر بعض الأعمال ، ويقوم العامل بالقيام بالعمل ، هذه مسائل كلها في فروعها تحتاج إلى نظر في تخريجها على ما ذكره أهل العلم ، لكن المعروف عند العلماء التضييق في هذا النوع ، وتجوز الشركة في الوجوه إذا كان الجاه منهما ، والعمل منهما ، هذا أبعد عن الغرر، وأقرب إلى القول بالحل والجواز .
قال رحمه الله : [ والمضاربة : وهي أن يدفع أحدهما إلى الآخر مالا يتجر فيه ويشتركان في ربحه ]: المضاربة وتسمى بالقراض ، سميت مضاربة وهي مفاعلة من الضرب ، والمراد بالضرب : الضرب في الأرض ، والعرب يسمون المسافر ويصفونه بكونه مضاربا في الأرض إذا كان في تجارة أو نحو ذلك ، ولما كانت التجارة الغالب فيها السفر حتى يجلب الأرزاق وصفت بذلك ، شركة المضاربة أن يعطي رب المال للعامل المال على أن يتجر به والربح بينهما على ما شرطا ، هذا النوع الحقيقة اختلف فيه العلماء على وجهين :
الوجه الأول : يقول هو شركة .
والوجه الثاني : يقول هو إجارة . وهذا هو أقوى وأصح أنه إلى الإجارة بالمجهول أقرب منه إلى الشركة، وذلك أن رب المال استأجر العامل بجزء من الربح ليقوم بتنمية ماله ، وهذا أقرب إلى الشركة، لكن الحنابلة –رحمهم الله- جعلوا القراض أقرب إلى الشركة لوجود شركة الأبدان والوجوه، وقولهم بجوازها ، ومن هنا صار كأنّ دفْع المال من رب المال والعمل من العامل يقتضي النظر إلى وجود الشراكة في الربح ، بغض النظر عن كون المال محضا من رب المال والعمل محضا من العامل .(6/169)
وفائدة الخلاف أن الحنفية والمالكية –رحمهم الله- لما قالوا أن المضاربة إجارة بالمجهول استثنيت من الأصول لم يجز قياس غيرها عليها ، فلا نصحح قياس غيرها عليها ، وإذا قلنا إنها شركة يعني عقد برأسه جاز قياس غيرها عليها . والأول أقوى وأصح .
المضاربة اختلف العلماء –رحمهم الله- في مشروعيتها على وجهين :
منهم من قال: إنها مشروعة بالإجماع ، والسنة الراشدة عن عمر –- رضي الله عنه -- ، وأفتى بها عثمان وعلي وطائفة منهم حكيم بن حزام من أصحاب النبي –- صلى الله عليه وسلم -- رضي الله عن الجميع .
ومن أهل العلم من قال : إن المضاربة مشروعة بالسنة قبل الإجماع ، فالذين يقولون إنها مشروعة بالسنة قبل الإجماع يقولون إن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ضارب بمال خديجة –رضي الله عنها وأرضاها- في سفره بتجارتها إلى الشام ، فقد كانت مضاربة ، ثم جاء الإسلام ولم يحرم هذا النوع فصار إقرارا من السنة ، ومن الشرع ، فصار دليلها من أصل الشرع لا من الإجماع ولو أن الإجماع من أصل الشرع ، لكنهم يقول إنها تعتبر في السنة التقريرية .(6/170)
أما الوجه الثاني - هذا الوجه الأول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وانتصر له في المجموع وغيره - الوجه الثاني للجمهور : أن المضاربة ثبتت بالإجماع وحاصله قصة عمر –- رضي الله عنه -- المشهورة ، خرج عبدالله وعبيدالله ابنا عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- إلى الكوفة ، وخرجا للجهاد ، ثم مرا بالكوفة على أبي موسى الأشعري –- رضي الله عنه -- وهو عامل عمر على الكوفة ، فسلما عليه ، وأراد أن يرجعا إلى المدينة ، فقال أبو موسى –- رضي الله عنه -- يريد أن يكرمهما بمنزلتهما ومكانتهما ليس من عنده من شيء يعني أقدمه لكما ، ثم قال : بلى ، هاهنا مال من بيت مال المسلمين ، تأخذانه إلى أمير المؤمنين بالمدينة، وتتاجران به في الطريق ، فما ربحتما فهو لكما وأديا رأس المال إلى عمر ، فأخذ المال الإبل وتاجرا في الطريق فكسبا ، ثم لما قدما إلى المدينة جاءا إلى عمر –رضي الله عنه وأرضاه- الذي أتعب مَن بعده ومن وراءه فقال - رضي الله عنه - ما هذا أديا المال وربحه ؟ أما عبدالله –- رضي الله عنه -- فسكت - والقصة رواها مالك في موطئه وهي قصة مشهورة- فعبدالله تأدب مع أبيه وسكت ، وأما عبيدالله فقال: ليس لك ذلك يقول لأبيه أليس هذا المال لو خسر تحملنا الخسارة وكنت تلزمنا بدفعه ؟قال : بلى فقال: أديا المال إلى بيت المال ، أكلّ من كان في الجيش أعطاه مثلما أعطاكما ، قالا : لا . قال : ألأنكما ابنا أمير المؤمنين أديا المال إلى بيت المال، فلما حصل الأخذ والعطاء بين عمر وابنه عبيدالله –- رضي الله عنه -- ثلاث مرات وهو يطالبه وعبيدالله يقول : لو تلف المال لكنا نتحمله ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يقول :(( الخراج بالضمان )) فقال بعض الصحابة : اجعله يا أمير المؤمنين قراضا ، وهذا يدل على أن القراض كان موجودا ومعروفا ، فجعله قراضا ، فقسم الربح بينهما وبين بيت مال المسلمين ، فالشاهد من هذا أن الصحابة –رضوان الله(6/171)
عليهم- لما قضى عمر بهذا القضاء لم ينكره أحد، ومن هنا قالوا إن إجماع الصحابة على مشروعية القراض ، وأفتى به عثمان –- رضي الله عنه -- وعلي –- رضي الله عنه -- وكلها سنن راشدة والخلفاء الراشدون مأمور باتباع سنتهم فدل على مشروعية القراض وجوازه ، هذان مسلكان في مشروعية القراض ، القراض إذا قلنا إنه مشروع ينبغي أن يتقيد بالصورة الموجودة ، ولذلك مسلك شيخ الإسلام أدق وأقوى ، ويقفل الاستغلال لهذا النوع من المعاملات .
ومسلك الحنفية والمالكية في كونها إجارة بالمجهول أدق وهو يقفل المسلك الموجود في عصرنا الحاضر باستغلال هذا النوع من المعاملات للقول بحل الفوائد الربوية في شهادات الاستثمار متدنية الفائدة ، تخريجا على القراض ، وسنذكر هذا إن شاء الله في شبهات المسائل المعاصرة التي سنفردها بدورة بعد انتهاء الكتاب .
إذا قلنا إنها مشروعة بالسنة فنقول تتقيد بالوارد ، وإذا قلنا إنها مستثناة من الأصل والحقيقة كل من يتأمل صورة القراض. صورة القراض يكون عندك مال وأنت لا تستطيع أن تنزل إلى السوق لا تحسن التجارة أو تحسن التجارة ولكن ما عندك وقت وهناك شخص عنده قدرة وعنده معرفة وعنده خبرة ، ويستطيع أن ينمي لك هذا المال ، فانظر إلى رحمة الله بعباده ، وكيف الشريعة أيضا تحرك المجتمع فلا تجعل فيه عاطلا حتى بعقودها وتشريعها للعقود ، فإذا برأس المال بدل أن يبقى جامدا يعطى لمن عنده خبرة فيحرك المال ، فيستفيد المجتمع من تحريك هذا المال ، وأيضا تستفيد التجارة ، ويستفيد العامل ثم جاءت بالعدل والقسط ، فجعلت صاحب المال متحملا للخسارة وجعلت العامل متحملا للعمل ، فإذا عمل العامل دون أن يفرّط ودون أن يغرّر بالمال لم يتحمل شيئا من الخسارة ، وتكون الخسارة على رب المال ، فرفقت برب المال حيث نُمّي ماله ورفقت بالعامل حيث أوجدت له عملا ، وأيضا أعطته مجالا أن ينّمي خبرته التجارية ، وأن ينّمي خبرته في الكسب والرزق .(6/172)
المضاربة مشروعة وعقد القراض باتفاق العلماء –رحمهم الله- على أنه من العقود المشروعة ، هذا النوع الثاني من الشركات .
والصحيح كما ذكرنا أنه إجارة بالمجهول مستثناة من الأصول كالمزارعة والمساقاة ، وعليه فلا يقاس غيره عليه ، وينسد الباب الذي يقول بعض المعاصرين : القراض ليس فيه نص، فهو اجتهادي، وإذا كان اجتهاديا يجوز تغييره بتغير الزمان والمكان؛ لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان ، فقه ما شاء الله ! { وزين لهم الشيطان أعمالهم } حتى أحلوا فوائد الربا ، وقال بعضهم باللفظ الصريح إنها مثل المضاربة تحل كما تحل أرباح المضاربة . وسنبين هذا .
والصحيح أن هذا مستثنى من الأصل ، وإذا كان مستثنى من الأصل فما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس ، ووجه خروجه عن الأصل أن الأصل يقتضي في الشركات أن الربح والخسارة على الطرفين ، وهنا الخسارة على رب المال وحده ، وهذا خارج عن الأصل .
ثانيا أن رب المال إذا استأجر العامل ليضرب ويقوم بالعمل والتجارة في المال ينبغي أن يحدد له العمل وأن يحدد له الأجرة ، وهنا لا العمل محدد ولا الأجرة .
ثالثا : أنه إذا استخدمه ضمن له ماله وهنا لا يضمن له ماله ، فكان إلى الإجارة بالمجهول منه أقرب إلى كونه أصلا برأسه يقاس عليه ويُنَظّر فيه .
هذا الذي يعني يستقر من كلام العلماء وأصح الوجهين أنه خارج عن الأًصول، " وما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس" .(6/173)
قال رحمه الله : [ وشركة الأبدان وهي أن يشتركا فيما يكسبان بأبدانهما من المباح إما بصناعة أو احتشاش أو اصطياد ونحوه ] : هذه الشركة تقع في أصحاب الصناعات ، وأصحاب المهن ، وتنقسم إلى قسمين : تارة تكون مع اتحاد المهنة ، وتارة تكون مع اختلاف المهنة ، فقد يشترك اثنان من الحدادين أو النجارين في صنعة الحدادة والنجارة على أن يتقبلا أن يعملا ببدنيهما فيما يأتيهما من الصناعة ، وقد يقع بين الخياطين فهذا مع اتحاد الصنعة ، فيتفق خياط مع خياط على أن جميع ما يرد من مطالب الزبائن يكون بينهم ، هذا يخيط ، وهذا يخيط ، وأن ما كسبه هذا يكون مقسوما بينهما كما أن الذي يكسبه الآخر يكون منقسما بينهما ، هذه الشركة بالأبدان ، هذا في حال اتحاد الصنعة، اختلاف الصَّنعة مثل أن يتفق حداد ونجار ، فيقول : ما كسبنا بيننا ، وحينئذ يعمل هذا ببدنه ، ويعمل هذا ببدنه ، فما كسب يأتيه في آخر اليوم ويقتسمانه ، أو آخر الشهر ويقتسمانه ، هذا بالبدن، وتنقسم طبعا من حيث الأصل تنقسم بنوعية الصنعة وجنس الصنعة إلى :
ما اتحد نوعه ، واختلف .
فالعلماء الذين قالوا بها وقد اختلف في جوازها الحنفية والحنابلة والمالكية على الجواز .
والشافعية على التحريم .
فالجمهور على جوازه ، لكن الجمهور الذين أجازوا اختلفوا على مذهبين :
منهم من يقول بجوازها سواء اتحدت الصنعة أو اختلفت كالحنابلة والحنفية .
ومنهم من يقول بجوازها إذا اتحدت الصنعة كما هو في مذهب مالك –رحمة الله على الجميع- ، شركة الأبدان مثل ما ذكر المصنف –رحمه الله- لكنها في الشيء الذي يُعمل فيه تنقسم إلى قسمين :
- إما أن تكون في المباحات من الاحتطاب والصيد والسقيا ونحو ذلك.
- وإما أن تكون في غيره .(6/174)
فإذا كانت في غير المباحات فلا إشكال ، إنما الإشكال في المباح وهو الصيد حيث شدد فيها الشافعية؛ لأن الصيد لا يملك بالعقد ، وإنما يملك بالحيازة ، لأن المسلمين شركاء في الماء والكلأ والنار كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - : (( المسلمون شركاء في ثلاثة )) فهذا يقتضي أنه بمجرد أن يأخذ الشيء يملكه ، وملكيته بالحيازة ، استشكل الشافعية فيه الشراكة ، ومن هنا شددوا في المباحات ، وهذا هو الذي جعل المصنف –رحمه الله- ينصّ على الاحتطاب والصيد على أنه يرى جواز ذلك وإباحته ، هذا النوع من الشركة من الأدلة على جوازها : قصة سعد –- رضي الله عنه -- مع عمّار وعبدالله بن مسعود التي سيذكرها المصنف –رحمه الله- .
قال رحمه الله : [ لما روي عن عبدالله بن مسعود –- رضي الله عنه -- قال : اشتركت أنا وسعد وعمار –رضي الله عنهم- يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين ولم آتِ أنا وعمار بشيء ] : هذا أصل في جواز شركة الأبدان؛ لأنها تقوم على العمل ، لأنهم اشتركوا في الغزوة أن ما كان من السلب والنفل وأنه يكون بينهم ، سواء أخذ قليلا أو كثيرا ، هذه من شركة الأبدان ، فهذا يدل على جواز شركة الأبدان وإباحتها .(6/175)
قال رحمه الله : [ والربح في جميع ذلك على ما شرطا ] : والربح في جميع ذلك على ما شرطاه في شركة العِنَان وشركة الأَبْدان وشركة الوجوه وشركة المضاربة ، فإذا اتفقا على أن الربح بينهما مناصفة كان مناصفة ، على ما شرطاه ، وهذا ينبني عليه أنه لا يتقيد الربح برأس المال ، قد اختلف العلماء في هذه المسألة : فمنهم من يقول لابد وأن يكون الربح تبعا لرأس المال ، فلا يتفاضل وهذا هو أدق المذاهب وأحوطها وأسلمها ، إلا أن الذين قالوا بجواز اختلاف الربح عن رأس المال قالوا لاختلاف الشركاء في العمل والخبرة والتعب ، وهذا قد يقع في بعض الأحوال ، وإذا كان يقع في بعض الأحوال فمن الصعوبة بمكان أن نعمّم حكمه على جميع الأحوال ، هذا الذي جعلنا نقول إنه رجوعا إلى رأس المال أقوى وأولى .
قال رحمه الله : [ والوضيعة على قدر المال ] : والوضيعة : يعني الخسارة، الوضيعة على رأس المال مثلا لو أن رأس المال مائة ألف أرباعا كل شريك دفع ربعها خمسة وعشرين ألفاً ، ثم حصلت خسارة، وأصبحت مائة ألف خمسين ألفاً ، تقسّط الخسارة وتقسّم على حسب رأس المال ، فكل واحد من هؤلاء الأربع يتحمّل الربع اثنى عشر ونصفاً يتحمّلها ، هذا بالنسبة للخسارة ، تكون الوضيعة على قدر رأس المال ، وهذا يؤيد ما ذكرناه أن الربح ينبغي أن يكون تبعا لرأس المال كما أن الخسارة تبعا لرأس المال؛ إعمالا للأصل لقوله عليه الصلاة والسلام : (( الخراج بالضمان )) فمن يضمن الخسارة ينبغي أن يأخذ من الربح كما أنه ضمن الخسارة هذا هو الذي يقوّي الوجه الذي ذكرناه .(6/176)
قال رحمه الله : [ ولا يجوز أن يُجعل لأحدهما دراهم معينة ولا ربح بشيء معين ] : لا يجوز أن يُجعل لأحدهما دراهم مثلا لو قال له : أنا شريكك واشتركا في شركة عنان ، وقال ولكني آخذ في كل شهر ألف ريال ، أو آخذ في كل سنة عشرين ألف ريال لم يجزْ ، يدخل معه في الشراكة دون أن يكون له نصيب معين من أجرة من دراهم أو غيرها ، سواء كانت من الأثمان أو المثمونات .
قال رحمه الله : [ ولا ربح بشيء معين ] : ولا يجوز أن يجعل له ربح بشيء معين يقول له مثلا فإذا أنا شريكك في هذا المال ، ونضرب به في المدينة وجدة ، أقتسم معك أرباح المدينة وأرباح جدة لي أنا خاصة لم يجز ، أو يقول له : أشترك معك في القماش والسيارات وكذا وكذا فأنا شريكك في الربح والخسارة في جميعها إلا في القماش ؛ لأني آخذ ربح القماش لم يجز ، يخصص له شيئا من الربح يتحمّلان الخسارة معا والربح معا .
قال رحمه الله : [ والحكم في المساقاة والمزارعة كذلك ] : والحكم في المساقاة والمزارعة كذلك؛ أنه يتحمل الخسارة والربح طبعا من حيث الخسارة العامل سيتحمّلها ورب المال سيتحملها ؛ لأنهما اشتركا في الربح وهي الثمرة في النماء وهي الثمرة ، فإذا فسدت الثمرة كان نصيبه على قدر من الخسارة على قدر نصيبه من رأس المال ، فلو أن شخصا اتفق عنده بستان اتفق مع عامل على أن يسقيه وله نصف الثمرة ، ثم ذهبت الثمرة فمعنى ذلك أن العامل قد خسر نصف المال الذي سيكون له أجرة على عمله ، كما أنه في الشركة قد خسر نصيبه من رأس المال .
كذلك أيضا لو أنه في المساقاة قال له : اسق لي بستاني قال له على أن لك نصف الثمرة قال قبلت بشرط أن تعطيني كل شهر مع نصف الثمرة خمسمائة ريال أجرة لم يجز دراهم معينة، لم يجز له أن يشترط دراهم معينة ، إنما تكون المساقاة على السنن الذي فعله رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- مع أهل خيبر .(6/177)
قال رحمه الله : [ وتُجبر الوضيعة من الربح ] : وتجبر الوضيعة من الربح يعني إذا كان هناك خسارة في المال في الشركات تجبر هذه الخسارة من الربح لا من رأس المال ، مثال ذلك : لو أنهم اشتركوا في مائة ألف وهذه المائة ألف اشتروا بها عقارات ومنقولات ، ثم هذه العقارات أصبحت تساوي مائة وخمسين ، إلا أنه حصل التلف في بعضها بقدر عشرة آلاف ريال ، فهل العشرة آلاف ريال ندخلها على الخمسين الربح أو ندخلها على المائة التي هي رأس المال ، ندخلها على الخمسين على الربح ، لأنه لا ربح إلا بعد تصفية الوضيعة ، لا ربح إلا بعد تصفية الوضيعة بمعنى أن جميع الخسائر تصفّى من الربح ثم بعد ذلك يُنظر فيما بقي فيعطى رأس المال كما هو ثم تُصفّى الأرباح . طبعا إذا حصل الاستواء في الربح ورأس المال ما هي مشكلة ؛ سواء من الخمسين أو المائة ما هي مشكلة ، لكن طبعا يكون هذا عند اختلاف الربح عن رأس المال ، وحينئذ يَرِد ؛ لأن المصنف ذكر هذا على الأصل الذي بينه من جواز الاختلاف بينهما .
قال رحمه الله : [ وليس لأحدهما البيع بنسيئة ولا أخذ شيء من الربح إلا بإذن الآخر ] : ولا يجوز لأحدهما أن يتصرف تصرفاً يضر بالشركة إلا بإذن الآخر ، من ذلك : البيع نسيئة يعني بالتأخير هذا يضر بالشركة ، فإذا أذن شريكه جاز .
إذًا إذا كان هناك ضرر في الشركة في التعامل لا يجوز إلا إذا رضي به الطرف الآخر ، لأنه لا يجوز له أن يتصرف من قبل نفسه .
قال رحمه الله : [ باب المساقاة والمزارعة ] :
المساقاة : مأخوذة من السقي، والمراد بها أن يدفع رب النخل والأرض للعامل الأرض على أن يسقيها بجزء من الثمرة ، مثال ذلك : أن يكون عند شخص بستان فيه مائة نخلة، ويقول له : اسق هذا النخل، وإذا خرجت منه الثمرة فلك ربعها أو لك ثلثها أو لك نصفها على حسب ما يتفقان .(6/178)
وأما المزارعة فهي أن يدفع له الأرض لكي يزرعها بالحب ونحوه ، فالمساقاة تكون في النخل والأعناب، وأما المزارعة فإنها تكون في الحبوب ونحو ذلك من الزرع .
يقول رحمه الله : [ باب المساقاة والمزارعة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقد المساقاة وعقد المزارعة .
قال رحمه الله : [ تجوز المساقاة في كل شجر له ثمر بجزء من ثمره مشاع معلوم ] : تجوز المساقاة : هذا الجواز الأصل فيه دليل السنة في حديث عبدالله بن عمر –رضي الله عنهما- في الصحيحين ((أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- عامل أهل خيبر بشطر مما يخرج منها ))، فلما فتح النبي –- صلى الله عليه وسلم -- خيبر وأراد أن يرجع إلى المدينة قالت له يهود : يا محمد، هذا النخل لو تركته فسد ، فلو أن قمنا عليه ، وكان لك من ثمره، فاستحسن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ذلك، وتعاقد معهم، وقال : (( نقرّكم ما شاء الله ))، فجعلهم في نخل خيبر يقومون عليه ، ويسقونه ، وما خرج من الثمر مناصفة بينهم وبين النبي –- صلى الله عليه وسلم -- هذا هو الأصل في مشروعية المساقاة ، وعمل بها السلف الصالح رحمهم الله- ، فهي مشروعة وجائزة ، وهي من العقود التي في الأصل تكون من الإجارة بالمجهول ، ولكنها أجازتها الشريعة ؛ لوجود الحاجة .
إذا دفع إليه هذه الأرض يقول له : لك جزء الثمرة ، كيف الأصل عدم جوازها ؟ لأننا لا نعلم مقدار المدة التي سيجلسها العامل يسقي الثمر والنخل ، نعم نعلم أن الموسم يأخذ أربعة أشهر، خمسة أشهر ، بعض الأحيان يأخذ ثمانية أشهر على حسب كونه بعد طلوع الثمرة، بعد تأبير الثمرة قبل ذلك ، فلا نعلم مقدار المدة .(6/179)
ثانيا : لا نعلم مقدار هذا الثمر ، ولا نعلم ما الذي يبقى منه ؟ والذي يصلح والذي يفسد ؟ ومن هنا صارت إجارة بالمجهول ، العمل مجهول والأجرة مجهولة ، فأصبحت بجوازها خارجة عن الأصل المستثناة من الأصل ، وعليه فإن المساقاة في الأصل إجارة بالمجهول ، ولكنها أجازتها الشريعة ؛ رفقاً بالناس .
قال رحمه الله : [ والمزارعة في الأرض بجزء من زرعها ] : والمزارعة : يقول له مثلا عندك أرض وأنت مشغول، وهناك رجل عنده خبرة في الزراعة ، فقال لك : سأزرعها حبا أو خضارا. فقلت له: هذا البذر خذه وازرعه في الأرض ، فإن أخرجت الأرض زرعها فهذا الزرع في نتاجه بيني وبينك، فقام وزرعها ، فما أنتجت الأرض يكون مناصفة بين العامل ورب الأرض ، هذه المزارعة .(6/180)
المزارعة طبعا جائزة وعلى هذا الوجه على هذا السنن أن يدفع إليه دون أن يحدد له مكانا معينا من الأرض ويغرّر به ؛ ولذلك جاء في الصحيح من حديث أبي رافع –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لما كان الصحابة يحددون جزءاً حرّم عليهم ذلك وحُمل عليهم نهي عن المخابرة أن يحدد مكانا من المزرعة مثل أن يقول له : ازرع لي هذه الأرض، فما كان جهة الماء فهو لي ، وما كان بعيدا عن الماء يكون أجرة لك ، قال أبو رافع –- رضي الله عنه -- (( إنما كانوا يؤاجرون على الماذيانات وأقبال الجداول ، فيسلم هذا ويهلك هذا ، فنهاهم النبي –- صلى الله عليه وسلم -- )) . فكان الرجل صاحب الأرض طبعا الماذيانات وأقبال الجداول القناطر التي يجري فيها الماء الزرع إذا كان قريبا منها يكون أجود الزرع وأفضل ، وما كان بعيدا عن القنطرة وعن الماء يكون رديئا وأقل جودة من القريب من الماء ، فكان يغرّر صاحب الأرض يقول: أنا آخذ القريب من الماء وأنت تأخذ البعيد من الماء ، وهكذا لو حدّد له جزءا من الأرض فقال: هذا النصف لي، وهذا النصف لك، أو هذا الربع لك وهذا الثلاثة أرباع لي؛ لأنه احتمال أن يسلم هذا ويهلك هذا ، إنما تكون على الشيوع فيقول له : لي ربع الذي تخرجه الأرض أو لي نصفها جيدا كان أو رديئا .
قال رحمه الله : [ سواء كان البذر منهما أو من أحدهما ] : كان منهما : هذا يشتري نصف البذر وهذا يشتري نصف البذر ، وهذا يشتري ثلث البذر، وهذا يشتري ثلثي البذر ، أو من أحدهما وهو رب الأرض، فيقول : أنا أشتري لك البذر وأنت تزرع على حسب ما يتفقان ، وهذا سيؤثر في مقدار الخارج ؛ لأنه إذا تحمّل البذر سيكون له حظ أكثر من الثمرة .
قال رحمه الله : [ لقول ابن عمر –رضي الله عنهما- عامل رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع وثمر ] : في هذا الحديث دليل على عدة مسائل :(6/181)
المسألة الأولى : مشروعية المساقاة ، ومشروعية المزارعة ، في قوله : من زرع على هذه الرواية التي اختارها المصنف –رحمه الله- .
ثانياً : فيه دليل على أن ولي أمر المسلمين يقوم مقامهم وكالة في إجراء العقود ، حيث أبرم هذا العقد لمصلحة بيت مال المسلمين -صلوات الله وسلامه عليه -.
وثالثاً : فيه دليل على جواز المساقاة بالنصف؛ سواء كان على جواز المساقاة بالجزء والنصف أصلا وغيره تبعا ، فيجوز أن يقول لي: الثلثان ولك الثلث على حسب ما يتفقان عليه؛ لأن مبنى العقد على الرضى .
وفيه دليل على مشروعية التعامل مع أهل الكتاب والمتاجرة معهم إن أُمِن منهم الضرر والأذية للمسلمين .
وهذا يدل على مشروعية ما ذكره المصنف وساقه من أجله وهو عقد المساقاة والمزارعة .
قال رحمه الله : [ وفي لفظ على أن يعمروها من أموالهم ] : وفي لفظ على أن يعمروها من أموالهم: العمارة غير السقي ، السقي طبعا يتولى في المساقاة يحتاج النخل إلى إجراء الماء إليه ، وتنظيف مجاري الماء، وإصلاح الآبار لكي يخرج منها الماء .
وكذلك أيضا إصلاح النخل نفسه وتهيئته لخروج الثمرة منه ، وإصلاحه بعد خروج القيام على الثمرة بتأبيرها ، ونحو ذلك مما تحتاج إليه من مؤونة وعمل ، كل هذه مندرجة تحت عقد المساقاة .(6/182)
وعمارة الأرض الزراعية تكون بالمحافظة على ما يحفظ الثمرة ، ويسهل خروجها على أفضل وأكمل ما يكون عليه الخروج ، فإذا كانت العناية والعمارة كاملة أثّر هذا في الثمرة كانت يعني أفضل ، والعكس بالعكس تكون العمارة على العامل ، لكن هناك أشياء يلزم بها رب المال مثلا البئر حينما يكون البئر عليه مكينة إخراج الماء هذا على رب المال وليس على العامل ، فلو عطَلت المكينة كما في زماننا يصلحها رب البستان صاحب البستان ، وعلى العامل السقي ؛ لأن العامل عليه العمل ، ثم اختلف العلماء في بناء السُّور وحفظها من السراق هل يكون على العامل أو على رب المال ، والصحيح أنه على رب المال في إحاطة الأرض وصيانتها ، وظاهر قوله : على أن يعمروها المراد به العمارة التي بها السقي .
قال رحمه الله : [ وعلى العامل ما جرت العادة بعمله ] : وعلى العامل ما جرت العادة بعمله : كما ذكرنا ، فيقوم بإجراء الماء ، وتصليح القناطر التي يجري فيها الماء ، وهذا بتنقيتها من العشب الذي يعيق جريان الماء ، ويؤثّر في سقي النخل ، وكذلك يقوم بتنظيف النخل ، وبَرْشِه ، وتعديل الأقنية وتغبيره من الآفات إذا حصلت ونحو ذلك ، عليه أن يقوم بما جرت العادة والعرف به بالنسبة للعامل ، وهذا يحتكم فيه للقاعدة : " العادة محكمة " ، فنلزم العامل بما يقوم به مثله من الأعمال ، ويجب عليه أن يراعي ذلك وأن يؤديه على الوجه المعتبر .(6/183)
قال رحمه الله : [ ولو دفع إلى رجل دابة يعمل عليها وما حصل بينهما جاز على قياس ذلك ] : على قياس ذلك : إن قلنا إن المساقاة شركة ، وعقد برأسه يقاس عليه غيره ، وإن قلنا : إنه إجارة بمجهول ، وأذنت الشريعة به والأصل عدم جواز الإجارة بالمجهولات لم يصح هذا ، وهذا هو أقوى ، ولذلك الأقيسة هذه تخل بكثير من الأصول ، يعني إذا قلنا بهذا نقول للعامل : خذ السيارة ، واعمل بها ، وما يخرج منها بيني وبينك، مثل ما يقع الآن في سيارات الأجرة يقول له : اذهب واعمل بها والنتاج في آخر اليوم مناصفة ، إذا قال له : خذ السيارة واعمل بها بالأجرة وادفع مائة وعشرين ريالا كل يوم وعليك البنزين هذا ما فيه إشكال جائز ؛ لماذا ؟ لأنه أجّره السيارة بمائة وعشرين ريالا يوميا، هذا ما فيه غبار ، لا لبس فيه ولا غبار عليه ، لكن إذا قال له : اذهب بالسيارة واعمل بها وما نتج منها بيني وبينك على أن السيارة من رب المال وعلى أن هذا منه العمل قياسا على المضاربة على أن رب المال دفع المال وهنا يدفع له المال وهو السيارة ، والعامل قام بالعمل قلنا الأقيسة في هذا ضيقة؛ ولذلك لما تأتي تصحّح هذا النوع من المعاملات سيأتيك إجارات مجهولة، يقول لك : ما الذي جعلك تقول الإجارة محرمة ؛ لأن العمل مجهول ، وهنا يأخذ السيارة ويعمل بها يوما كاملا وتكون أجرته ربحاً مجهولاً ، فالشاهد من هذا الانضباط بالأصل ، فأنت إذا قلت الأصل عندي عدم جواز الإجارات بالمجهولات ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( من استأجر أجيرا فليعلمه أجره )) ونهى عن الغرر، والإجارة نوع من البيوع التي لا غرر فيها، فلو قال لك: إيش الغرر؟ قال : الغرر ربما يجلس اليوم كله يلف ولا يجد شيئا ، ومن هنا يغرّر رب المال بالعامل ، ولربما يتعب اليوم كله ويجد عشرين ريالا لكي يقاسمه رب المال وهو ما عنده شيء ، ومن هنا نقول: الإجارة الأصل فيها أن تكون بالمعلوم لا بالمجهول ، أنا ألتزم(6/184)
هذا الأصل ، لأن الأدلة دالة عليها ، وأصول باب الإجارة تمشي عليها ، فما جاء من المساقاة وما جاء من المضاربة أستثنيه كما ورد في الشرع ، وأبقى على هذا الاستثناء ، كان ذلك أقيس وأقعد وأقرب إلى النصوص ، ومن هنا قلّ أن تجد من ينضبط بهذه الضوابط أن تشكل عليه مسألة ؛ لأنك إذا أجزت صورة من هذه الصور سيأتيك بصور أخرى مثلا يقول لك : أنا أعمل في صيدلية ، وقال لي صاحب الصيدلية : بع ، وما بعته بيني وبينك مناصفة يجوز أو لا يجوز ؟ تقول له : لا يجوز يقول لك طيب لماذا صاحب الأجرة يجيزون له أن يذهب بالسيارة ويعمل بها ويأخذ نصف وأنا أعمل وآخذ نصف عملي ما الفرق ؟ إيش الفرق بينهم ؟ ولذلك فقها تمشي على أصل واحد ، وتستثني ما ورد الشرع باستثنائه لا يحصل عندك أي إشكال ، وعليه فإننا نقول: الأصل يقتضي أن الإجارة لا تكون إلا بشيء معلوم .
طبعا اعتذر العلماء والأئمة –رحمهم الله- الذين قالوا بجواز هذا بأعذار ولهم وجه في هذا ، لكن من حيث الأصل أننا نبقى على أن الإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة .
قال رحمه الله : [ باب إحياء الموات ] :
يقول المصنف –رحمه الله- : [ باب إحياء الموات ] : الموات : الأرض الغير عامرة التي لا مالك لها ، وهي الأرض البور ، بعد أن بيّن أحكام المساقاة شرع في بيان إحياء الأرض، والمناسبة واضحة؛ لأن إحياء الأرض غالبا ما يكون بالزراعة ، فكان هناك تناسب بين البابين ، وإن اختلفا في حقيقة العقدين.
إحياء الموات المقصود به : أن يقوم المسلم بإحياء أرض ميتة ؛ لكي تكون ملكا له ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( من أحيى أرضا ميتة فهي له )).
وقد أجمع العلماء –رحمهم الله- على أن من أحيى الأرض البور والموات أنه يملك هذه الأرض على تفصيل عندهم رحمهم الله .(6/185)
يقول رحمه الله : [ باب إحياء الموات ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بإحياء الموات ، ببيان ما يجوز إحياؤه، وما لا يجوز إحياؤه ، وما يتحقق به الإحياء .
قال رحمه الله : [ وهي الأرض الداثرة التي لا يعرف لها مالك ] : وهي الأرض الداثرة بخلاف العامرة ، والداثرة هي البُور ، والتي ليس فيها معلم حياة من بناء أو زرع أو غير ذلك .
فإذا جاء شخص إلى أرض في برية داثرة وليس فيها مَعْلم حياة فحرثها وزرعها فقد أحياها بالزرع ، وإن وضع فيها نخلاً وشيّد فيها بناءً فقد أصبحت أرضا حيّة ومزرعة قائمة ، وإن بنى فيها سكنا أو أحاطها بسور أو وضع فيها متاعه أو وضع فيها دوابه أو وضع فيها أغراضه أو جعلها مخزنا لمصالحه فقد أحياها بالعمارة ، فالأصل أن الأرض التي تُحيى أن تكون غير مملوكة هذا الشرط الأول ليس لها مالك ، وثانيا : أن تكون ميتة فالإحياء يكون للأرض الميتة التي لا مالك لها .
قال رحمه الله : [ فمن أحياها ملكها لقول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- : (( من أحيى أرضا ميتة فهي له )) ] : من أحيى أرضا ميتة فهي له نص في مشروعية إحياء الأراضي ، وفيه دليل على حرص الشريعة الإسلامية على عمارة الأراضين ، وانتفاع أراضي المسلمين بالإحياء بدل أن تكون ميتة لا تُقضى بها مصالح .
وهذا الإحياء له ضوابطه ، والإحياء يكون بما ذكرنا من معالم الإحياء؛ سواء بالزرع، أو بالعمارة ، لكن شريطة أن لا يكون على وجه الأذية والإضرار والتضييق على المسلمين ، فالبعض يأتي ويسوّر الأراضي دون أن يعمرها بزرع ، ودون أن يعمرها ببناء ، ويضيّق على الغير ممن يريد فعلا زراعتها وبناءها ، هذا ليس من الإحياء في شيء ، إنما الإحياء الذي يكون على السَّنن أنه يسوّر الأرض ويعمرها ، وهذا هو مقصود الشرع من الإحياء .(6/186)
وقوله : (( فهي له )) اللام للملكية أي ملكٌ له ؛ وعليه فإن من أحيى الأرض بأي وجه من أوجه الإحياء المعتبرة شرعا ؛ فإنه يحكم بملكيته لها .
يختلف الإحياء باختلاف الأعراف ، وهذا يقتضي تأثير الزمان ، والمكان ، ففي بعض الأمكنة يكون تسوير الأرض بالحجر دون وجود الطين، كأن يضع حجارة بعضها فوق بعض ، كما يقع في الرياض التي تُسقى بالمطر ، وبعض الأحيان يكون إحياؤها بوضع الطين بين الحجر، وبعض الأحيان يكون إحياؤها بتسويرها دون وضع الأبواب ، وبعض الأحيان يكون بوضع الأبواب وعمارتها عمارة يصدق أنها إحياء في العرف، إذًا هذا يختلف بحسبه باختلاف الأعراف والأمكنة .
قال رحمه الله : [ وإحياؤها عمارتها بما تتهيأ به لما يراد منها كالتحويط عليها ] : عمارتها بما تتهيأ به: وعمارة الأرض كما ذكرنا طبعا عمارة الأرض داخل المدن ليست كعمارتها خارج المدن ، يكون عمارتها داخل العمران ليست كعمارتها خارج العمران ، ومن حيث الأصل الشرعي أنه إذا ابتدأ بالإحياء ، فبدأ بحفر البئر لأجل مثلا عمارتها بالزراعة بحفر البئر، أو عمارتها بالزراعة بإجراء القناطر بالماء مثل ما يقع في بعض البلدان والأماكن التي تكثر فيها السيول والأنهار ، فهؤلاء غالبا لا يحفرون وإنما يجرون الماء من الأَنْهُر والسيول، فيكون إحياؤها أن يهيئ هذه القناطر لجري الماء وجلبه إلى الأرض،.
أما إذا كان في أماكن قحط ولا يوجد فيها السيول ويحتاج أن يضعها مزرعة ، ويحتاج أن يحفر بئرا فحينئذ يكون إحياؤها بحفر البئر ، فإذاً هذا يختلف من مكان إلى مكان ، ومن بيئة لبيئة ، وكما ذكرنا أن العلماء ذكروا أن إحياءها في العمار ليس كإحيائها في غيره .
قال : [ كالتحويط عليها وسَوْق الماء إليها إن أرادها للزرع ] : كالتحويط عليها : أما إذا أراد أن يبنيها مسكنا أو مخزنا أو نحو ذلك ، وحفر البئر إذا أراد أن يزرعها .(6/187)
قال رحمه الله : [ وقلع أشجارها وأحجارها المانعة من غرسها وزرعها ] : تصليح الأرض فمثلا الأرض إذا أرادها للزراعة هي قلع الأحجار الموجودة فيها ، حتى يمكن للزرع أن تجري عروقه ، ويمكن أن يقوم ؛ لأن الحجر يمنعه من ذلك ، فقام ونظف الأرض من الحجارة .
وكذلك أيضا إذا قام بحرث الأرض ، فجاء بحرّاثة أو كان في بيئة مثلا حرثها بنفسه أو استأجر عمالا ليحرثوها ، كل هذا يعتبر من الإحياء ، وهذا هو بداية العمارة ، ليس هو كل العمارة ، لكن هذا حق له ، لو جاء وابتدأ يعمل هذا العمل ليس من حق أحد أن يمنعه من ذلك؛ لأن الأرض لله ، وأرض الله –- عز وجل -- كل من أراد أن يحييها فهي له ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- نصّ على ذلك ، فإذا ابتدأ إحياؤها للزراعة اعتبر ما يحصل به إحياء الزرع كما ذكرنا من: قلع الأشجار القديمة، ومثل قلع العشب القديم حتى يجري الماء ، ومثل إجراء القناطر، ومثل حرث الأرض ، ونحو ذلك ، وإذا أرادها للبناء فحفر لأساس البناء وهيّأها لتشييد جدرانها فقد ابتدأ عمارتها فهو أحق .
قال رحمه الله : [ وإن حفر فيها بئرا فوصل إلى الماء ملك حريمه ، وهو خمسون ذراعا من كل جانب إن كانت عاديّة ] : هذا يسمى حريم البئر العاديّة ، خمسون ذراعاً من كل وجه ، فقُطر البئر يحتسب به من كل جهة خمسون ذراعا هذه مِلْك لمن حفر بئرا عاديّة ، وفي زماننا يكون الحفر بالآلات التي تعرف الموجودة في زماننا ، وهذه تأخذ حكم الإحياء ، لكن مسألة حريم هي البئر التي لها جمّة وهو البئر الواسعة التي تستجم ، والفرق بينهما أن البئر العاديّة بقاء الماء فيها أكثر من البئر غير العاديّة ، ولذلك البئر العاديّة إذا حفرت جرى العمل عند السلف –رحمهم الله- على أن حريمها خمسون ذراعا من كل جهة ، هذه يملكها ملك له بحفر وإحياء الأرض على هذا الوجه .(6/188)
قال رحمه الله : [ وحريم البئر البديئة خمسة وعشرون ذراعا ] : وحريم البئر البديئة القديمة خمسة وعشرون ذراعا وخمسة وعشرون ذراعاً يعتبر فيها جميع الجهات ، يعني قُطر البئر كله ، وهذا خاص بالمزارع ، والسبب في ذلك أن كلفة حفر البئر ومؤونته أشق وأعظم من البناء ، ولذلك أعطي ذلك ؛ لأن خروج الماء يحتاج على الأقل إلى هذا القدر لإحيائه ، فإذا حفر هذا القدر كان مالكا لخمسة وعشرين بالبدء وخمسين ذراعا بالعاديّة .
العاديّة نسبة إلى عاد وهي القديمة ، والبدء هي الجديدة الحديثة .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : من مات وزوجته حامل ثم ولدت بعد وفاته بساعات فهل يجوز لها أن تغسّل زوجها ، وما حكم الشرع في هذا . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
أما بالنسبة لما ورد في السؤال فأصح القولين عند العلماء –رحمهم الله- أن المرأة لا ينفسخ نكاحها بالموت ، وأنه إذا مات عنها زوجها فإنه يجوز لها أن تغسله وأن تكفنه ، وذلك لحديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- عند ابن ماجه وغيره : (( أرأيت لو أنك مت لغسلتك، وكفنتك، وصليت عليك، ولو أني مت لغسلتيني، ثم كفنتيني وصليت علي )) .
وكذلك أيضا لأن عليا –- رضي الله عنه -- غسّل فاطمة –رضي الله عنها- ولم ينكر أحد من الصحابة عليه ذلك، ولأن أسماء بنت عميس –رضي الله عنها وأرضاها- غسّلت أبا بكر الصديق ولم ينكر عليها ذلك، فدل على أن النكاح لا ينفسخ بالموت ، وهو مذهب الجمهور؛ خلافا للحنفية –رحمهم الله- والحِدَاد إنما هو لحق الميت وليس له علاقة بالعقد ، فسواء خرجت من حدادها أو مازالت في الحداد الحكم سواء . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :(6/189)
فضيلة الشيخ : نشهد أن الله أننا نحبك في الله ويقول في سؤاله أنا شاب قد دفع لي أحد الأخوة تذكرة عمرة حتى أقوم بالعمرة لأبيه الذي توفي ، فهل أقوم بأداء العمرة لنفسي أولاً ، أم أقوم بأداء العمرة له أولا . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
إذا كنت لم تعتمر فحينئذ تبدأ بالعمرة لنفسك ثم تعتمر عن أبيه ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال كما في حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- في الرجل لما سمعه يطوف ويقول : (( لبيك عن شبرمة ، قال : ومن شبرمة ؟ قال : أخي أو ابن عم لي مات ولم يحج قال : حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )) فتبدأ أولا بنفسك ثم تعتمر للغير ، وإذا رجعت اعتذرت لصاحب العمرة بأنك استفدت من سفرك بالعمرة لنفسك حتى يسامحك فيما له من حق من قدومك .
وأما بالنسبة للحالة الثانية وهي أن تكون قد اعتمرت، فحينئذ تبدأ بالعمرة عمن وُكّلت للعمرة عنه، وتبرئ ذمتك أول شيء من الحق الواجب عليك ، ثم بعد ذلك تعتمر إذا شئت عن نفسك أو عمن تحب، هذا هو الأصل؛ لأنك أخذت المال من أجل أن تعتمر عنه ، فإذا كنت قد اعتمرت عن نفسك فإن هذا السفر تمحّض في أجرته للبلاغ لكي تصل إلى البيت وتؤدي العمرة بناء على الاتفاق بينك وبين صاحب المال . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثالث :
فضيلة الشيخ : كثيرا ما نقع في النظر الحرام لضعف شهوتنا عندنا فهل من نصيحة من فضيلتكم . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
الله المستعان ! من شغل نفسه بالحرام ؛ شغله ، ومن شغل نفسه بالحلال ؛ شغله الله عن الحرام ، ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يشغلنا بطاعته عن معصيته ، وبمحبته ومرضاته عما يسخطه ، وأن يكفينا بحلاله عن حرامه ، ويغنينا بفضله عمن سواه .
أخي في الله ! إن الفتن من رتع فيها ؛ نال بلاءها ، وأصيب بدائها .(6/190)
الفتن إذا انشغل عنها الإنسان بذكر الله ووطّن نفسه وقلبه وقالبه بمرضاة الله؛ ثبته الله على طاعته ، ومحبته ومرضاته ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أُشربها نكت في قلبه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصبح على قلبين : على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض ، وعلى أسود مربادًّا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشرب من هواه )) .
هذا الحديث الذي قاله من لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه تجده أمام عينيك ، من التفت إلى الفتن وخرج خاوي القلب من ذكر الله ، وخاوي القالب من طاعة الله ، وأخذ يتلفّت يمينا وشمالا، جاء باكيا ، خرج مفتونا ، ورجع مفتونا ، ولربما دخل إلى مسجده فلم يعرف كيف يصلي -والعياذ بالله -.
(( على أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه )) : فهو إذا مرّ خارجا من بيته وخارجا من سوقه إلى مسجده وإلى عبادته وإلى أشرف شيء من طاعة الله –- عز وجل -- لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، فتجده يلتفت يمينا ويلتفت شمالا ، وينظر إلى هذه وتلك ، ثم يصيح ويقول: إن الفتن أمرضتني ، وإني لا أستطيع أن أصلي في الحرم ؛ لأن الفتن مليئة عند الحرم ، وإنني وإنني ... ولكن إذا رزقه الله –- عز وجل -- استقامة القلب ؛ استقام قلبه واستقامت جوارحه ، من امتلأ قلبه بالخوف من الله –- عز وجل -- ، ولسانه بذكر الله ؛ فأصبح ذكّارا شكّارا أواها مخبتا منيبا تجده يخرج من بيته إلى المسجد ما بين التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وقراءة القرآن وعمارة الوقت بشيء يرضي الله يحس أن هذه الدقائق هي رأس ماله من هذه الدنيا ، وأن هذه الدقيقة إذا ذهبت فلن تعود إليه أبداً ، ويحس أنه إذا ذكر الله أن الله يذكره ، وأنه إذا ذكر الله أن الله يثبّته ويحبّه ويعينه ويسدده .(6/191)
يا هذا ! لم خرجت من بيتك خاوي القلب من ذكر الله .
يا هذا ! إن الشيطان لن يستطيع أن يطرق قلب عبد يقول : لا إله إلا الله .
يا هذا ! انظر إلى حالك حينما أرسلت النظر ، ومتعت نفسك يمينا وشمالا ، ثم تصيح وتقول : الفتن! وطّن نفسك بطاعة الله .
البعض تجده يقول : لا أستطيع أن أحبس نفسي عن الغيبة ، ولا أستطيع أن أحبس نفسي عن النميمة، لا أستطيع أن أحبس نفسي عن السب والشتم ؛ لأنه عوّد لسانه ، فلما جاءته الفتنة في غيبة الناس ، وسبهم ، وشتمهم ، واتباع عوراتهم ، وكشف سوءاتهم ، والجرح ، واللمز حتى للأخيار والصالحين يأتي يوم من الأيام لا يستطيع أن يكفّ لسانه عن سب المسلمين، فتصبح أسود مربادًّا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أُشرب من هواه .(6/192)
طالب العلم الإنسان الصالح الذي يحس أن هذه الحياة هي رأس ماله من هذه الدنيا ، وأنه كم من طريح على الفراش وهو سقيم مريض الله يمتّعه بالصحة والعافية ، وأن الله أعطاني نعمة البصر التي لو أطفئ نورها ما استطاع أطباء الدنيا أن يرجعوه إليه طرفة عين ولا أقل من ذلك ، لما يخرج من بيته وهو ذاكر لله بقلبه أنه في نعم الله لما يخرج من بيته لكي يصلي الصلاة ، فيتذكر أن وهو رب أسرة وقائم على أسرته فيتذكّر رب الأسرة الذي هو طريح الفراش، ويتذكّر رب الأسرة الذي شغله أبناؤه وبناته وأمواله عن أن يخرج إلى بيت الله ، إذا خرج بهذا القلب الذي هو معمور بنعمة الله –- عز وجل -- وبتوحيد الله وبذكر الله –- عز وجل -- هل يجد فراغاً لكي يلتفت إلى فتنة ، أو يلتفت إلى محنة ، كلا والله، ((على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض)) ، تريد العافية في بصرك كُف بصرك، والغريبة جرب هذا الأمر تمر يوما من الأيام خارجا من بيتك فتراقب بصرك فتشتغل بقراءة القرآن بذكر الله –- عز وجل -- لا ترسل بصرك في حرمة ، فإذا وجدت الحرمة مباشرة تغض وتكره وتتألم وتقول: يا رب ، اغفر لي ذنبا بليت به بالنظر إلى هذه الحرمة ، فإذا مرت المرة الأولى ثم المرة الثانية ثم المرة الثالثة لن تأتي المرة الرابعة تمر عليك امرأة فتضرك بإذن الله –- عز وجل -- ؛ لأن هذا الباب أقُفلت عليك فتنته حتى تصبح على قلبين : على أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض ، ما وجد الشيطان طريقا إلى مثل هذا ، الذي يخرج من بيته وهو يحس أن هذه الساعات والدقائق ينبغي أن تُعمر بذكر الله –- عز وجل -- وينشغل بذكر الله والتسبيح والتحميد والتكبير لن يجد فتنة تصرفه عن طاعة الله إن صدق مع الله ، وعليك أخي في الله أن تعيد النظر في أخلاقك وفي تصرفاتك ، هذه الفتن مرتع وخيم لمن تساهل فيها يجلس الرجل على القنوات -والعياذ بالله- ويقلب نظره في المحرمات ، يجلس(6/193)
يستمع الملهيات والمغريات ثم يصيح ويقول ما أستطيع .
يأتي طالب علم ويقول : والله أريد أن أغض بصري عن الحرام وما أستطيع ، إذا أردت أن تعرف مكانك في هذه الفتنة فانظر كيف تدعو من يسمون بغير الملتزمين ، إذا جئت إلى شخص عاصٍ وقلت له : يا أخي ، جرب الالتزام والطاعة والاستقامة ترى فيها خيراً كثيراً ، قال لك: والله ما أستطيع ، تقول له : كيف ما تستطيع ، ونقول لك : يا هذا كيف ما تستطيع أنت أن تغض بصرك ، وكيف أنت ما تستطيع نفس الجواب ؛ السبب أنها أماني من الشيطان ، ثم هناك شعور في النفس يشعر الإنسان أنه إذا وقع في الفتنة مرة خلاص ما يمكن أن يتركها ، كذب وفجر إبليس ولُقم الحجر ، بل تقول : لي رب الذي خلق لي هذا البصر قادر أن يصرفه عن حرمات الله –- عز وجل -- ، وإذا استدمت ذكره وشكره وحرّمت هذا البصر عن محارم الله ليبوأنّك الله في الدنيا مبوّأ صدق ، وإذا بكت العين من خشية الله ، واستدامت النظر في كتاب الله وكتب العلم ، ودائما الإنسان ينظر إلى الفتنة متى إذا الفتنة شيء كبير فيا لله العجب من عبد يرتع في ذكر الله في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة ثم يصرف بصره عن طاعة الله إلى محارم الله ! هل نقص عليك شيء وأنت في طاعة الله ؟! هل تحس أن هذا النظر للحرام وأنت خارج إلى مسجدك أو إلى أي طاعة من طاعة الله –- عز وجل -- بل حتى لو خرجت إلى السوق هل هذا النظر يكمل فيك ناقصا ؟! ويصلح فيك فسادا ويرفع منك ضعة ؟!، لا والله ، على العكس تماما ، الشعور بالنقص البعض إذا التزم بالخير يحس أن أهل الشهوات أنهم فوق ، والله لو علم أن أهل الشهوات يبكون بكاء الليل والنهار مهما تمتعوا فإن متعهم عذاب ، ومهما وجدوا من الملهيات والشهوات فإنها جحيم لا يطاق ، وإن الذي أنت فيه من نضارة وجهك ونور الإيمان في وجهك وفي قلبك يتمنّونه صباحاً ومساءاً فاحمد نعمة الله عليك ، ولا تزدري ما أعطاك الله تحس أن هؤلاء أن الله فضّلك عليهم تفضيلا(6/194)
عظيما ولا تشعر بالنقص .
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يصرف عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن .
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك ، اللهم اغننا بفضلك عمن سواك، اللهم اجعل ما وهبت لنا من الأعمار ومن الليل والنهار في محبتك ومرضاتك وذكرك وشكرك والإنابة إليك، يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ، يا مصرف القلوب صرّف قلوبنا في محبتك ، اللهم اجعلنا ممن اصطفيتهم واجتبيتهم وهديتهم إلى صراط مستقيم ، اللهم اجعلنا ممن استغنى بك فأغنيته ، واستكفى بك فكفيته ، واستعاذ بك فأعذته ، اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اصرف أبصارنا ، وجوارحنا ، وظواهرنا وبواطننا عن الفتن ، وعن كل شيء لا يرضيك عنا ولا تتوفانا إلا وأنت عنا راض يا رب العالمين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد على آله وصحبه أجمعين.
باب الجُعالة
قال الإمام أبو محمد بن قدامة –رحمه الله- : [ باب الجُعالة ] :
الشرح :
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين وخير خلق الله أجمعين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، ومن سار على سبيله ونهجه ، واستن بسنته إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فيقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الجعالة ] : هذا الباب يتعلق بنوع من أنواع الإجارات التي رخص الشرع فيها ، وراعى فيها حاجة الناس ، وغالبا ما يقع هذا العقد بين أصحاب الأملاك وبين العُمّال في طلب الضائعات ، فغالبا ما يقع في وجدان الأشياء المفقودة ، والأشياء الضائعة وهو من العقود التي وسّع الله فيها على عباده ؛ لأن الإنسان إذا ضاع حقه قد لا يستطيع بنفسه أن يقوم بالبحث عنه .(6/195)
ومن هنا شرعت الجُعالة لأن الإجارة لا يمكن أن يستأجر الإنسان من يبحث عن الشيء المفقود في كل حال ، فالإجارة قد تكلّفك شيئا كثيرا ، ولا تخرج بنتيجة ، ولكن هذا النوع من العقود تتفق فيه مع العامل لكي تحصّل ما ضاع وفُقد منك، وحينئذ هو أخف وأرفق من الإجارة بكثير .
ومن هنا شرع الله –- عز وجل -- هذا النوع بما ثبت في سنة النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، وذلك في قصة الصحابة مع أبي سعيد الخدري –- رضي الله عنه -- حينما رقوْا سيد الحي فشُفي فجعلوا له جُعلا على أنه إذا شفي أخذوا ذلك الجعل، فأخذوا الجعل بعد ما شفي سيد القوم، ثم أتوا رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فأقرهم على ذلك ، فكان هذا الحديث الصحيح أصلا في مشروعية الجعالة .
والعلماء –رحمهم الله- يعتنون ببيان بعض المسائل والأحكام المتعلقة بهذا العقد غالبا بعد أبواب الإجارة ، ومن هنا المناسبة بين باب المساقاة والمزارعة وباب الجُعل ظاهرة من هذا الوجه .
يقول رحمه الله : [ باب الجُعالة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام التي تتعلق بالجعالة ، وجعل الشيء وضعه هذا في اللغة .
وأما بالنسبة للاصطلاح فعرفها المصنف في قوله –رحمه الله-:(6/196)
قال رحمه الله : [ وهي: أن يقول من رد لقطتي أو ضالتي أو بنى لي هذا الحائط فله كذا ] : من رد لقطتي أو ضالتي : قد يفقد الإنسان شيئا فيسقط من جيبه أو يسقط من دابته وهو اللقطة ، فحينئذ إذا سقط منك الشيء على الأرض فهو لقطة ويأخذ حكم اللقطة ، فمن وجده طبق عليه أحكام اللقطة ، فقال: من وجد لقطتي أو ضالتي كانوا في القديم ولازال إلى عصرنا الحاضر يكون عنده الناقة والبعير أو البقرة أو الشاة ثم بعد ذلك تضلّ ويفقدها ، وقد يكون القطيع من البقر يفقد منه الرأس والرأسين وقال: من ردّ ضالتي وفي هذه الأحوال كلها هناك جُعل وهو قوله : أعطيه كذا ، وهناك سبب لهذا الجعل، وهو أن يجد الضالّة أو يجد اللّقطة ، فبيّن رحمه الله أن الجعالة تقوم على بحث الإنسان عن شيء مفقود، ويستحق هذا الجُعل إذا تمكن من الوصول إليه وأحضره .(6/197)
قال رحمه الله : [ أو بنى لي هذا الحائط فله كذا ] : أو بنى لي هذا الحائط وهذا على التداخل بين عقد الإجارة والجعالة، وله صور منها هذه الصور عند بعض العلماء –رحمهم الله- ويجعلونه في خياطة الثياب وبناء الأبنية ، فيجعلونه على إنهاء العمل ، ومن هنا اختلف العلماء –رحمهم الله- في حفر البئر هل هو إجارة أو جعالة ؟ لو كان عند الإنسان بستان وأراد أن يحفر لكي يصل إلى الماء ويسقي الزرع، فإذا جاء بحفّار يحفر وقال له : أعطيك على كل متر مائة ريال أو خمسمائة ريال فلا إشكال أنها إجارة ، إنما لو قال له : احفر لي بئرا فإن وجدت الماء أعطيتك مائة ألف ، أو احفر لي البئر فإن وجدت الماء أعطيتك عشرين ألفا حينئذ يكون من باب الجُعل ، ومن هنا يقع التوافق بين الجعالة والإجارة ، والإجارة تخالف الجعالة في أشياء حتى إنه إذا نُظِر إلى الجُعالة وجد أنه لا يستحق العامل شيئا إلا إذا أتم المقصود ، ولكن الإجارة لو عمل بعض العمل وحصل ما يوجب الفسخ استحق بقدر ما عمل ، ومن هنا نجد أن الجُعالة لابد فيها من حصول المقصود ، وحينئذ يرد الإشكال على الجعل على الرقية ؛ لأنه إذا كان المقصود من الجُعل هو حصول المقصود كما ثبتت به السنة من شفاء المريض فليس من حق الراقي أن يطالب بمال إلا بعد حصول الشفاء ، وهذا أمر يخلط فيه الكثير حتى إن بعض القراء في الرقية أصبح يفعل كفعل الإجارة ، فيجعل له مكتبا للكشف، وسعرا معينا للفحص، وسعرا للعلاج والواقع أن هذا لا يجري على سنن الجُعل المعروف ؛ لأن الصحابة –رضي الله عنهم- أخذوا الجُعل بعد ما تم الشفاء ، والإفاقة الوقتية كل الأطباء يعرفون أنها ليست علاجا ، وقد يقرأ عليه ، ثم يخفّ عنه المس أو يضعف إذا كان ممسوسا ، ولكن لا يحصل به الشفاء الكامل ، فتجد الشخص من شدة فرحه ووليّ المريض من شدة فرحه قد يعطي ما لا يعطى في مثل هذا ، ومن هنا ينبغي أن يتورّع من يتولىّ الرقية وأن يكون متحفظا وأن يجري(6/198)
أمره على السنن الشرعي ، الرقية قلنا إنها تكون بالانتهاء بالشفاء ، وأما الإجارة فإنها مراحل ، مثلا طبيب يقوم بالفحص على المريض بآلات معيّنة وبطرق متبعة عند أهل الخبرة والمعرفة ، فهي منفعة معلومة ، ولها ضوابطها ، ولها أصولها المتبعة عند أهل الخبرة ، فإذا أمضى كل مهمة معروفة أجرتها بالعرف أو باتفاق بين الطرفين كأن يصورّه أشعة أو يجري له تحليلا مخبريا ونحو ذلك ، لكن الأمراض الروحية والأشياء الخفية من المس والعين ونحو ذلك نؤمن بوجود المس، ولكن ضابط ذلك ووضع علامات صحيحة متفق عليها أو شبه متفق عليها أو جارية على السنن يمكن من خلالها أن يكون التشخيص صحيحا هذا أمر يختلف بحسب اختلاف الأحوال ، وشهد بعض أهل الخبرة على أن هناك تداخلاً بين الأمراض النفسية والأمراض العضوية ، ومن هنا لا ينبغي فتح الباب بهذه الطريقة ، حتى لا يصير وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل.(6/199)
فالرقية التي ثبتت بها السنة بعد حصول الشفاء التام ، أما جَعْل أماكن الرقية مثل المستشفيات ، ويكون هذا الشيء الخفي الذي قال الله –تعالى- عنه : { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } فهذه الأشياء التي تعرض في النفس أشياء روحية، وضبطها عسير وصعب من الصعوبة بمكان ، وهناك تداخل بين الأمراض العضوية والأمراض الروحية ، ومن هنا ينبغي إعادة النظر في مثل هذه الأمور لمن أراد أن يتقي الله –- عز وجل -- وأن لا يدخل في ذمته مالا بدون وجه شرعي ، لو أنه اتفق على أن المريض إذا شفي أخذ مالا فهذا جعل ولا إشكال فيه ، وأما إذا كان على الإجارة وأراد أن يجري الإجارة فالإجارة تجري في الأعمال المحددة المعروفة ، وعليه فإنه ينبغي ضبط الجعل في الرقية بالضوابط الشرعية التي وردت به السنة ، وعدم التوسع في ذلك ، حتى لا يفضي إلى أكل المال بالباطل ، ومرت علينا حوادث منها من كان مريضا مرضا عضويا ، وجلس يتعالج بالرقية أكثر من سنة ، وهو يدفع من ماله ، ويؤخذ منه ماله ، ثم تبين أنه مرض عضوي سرعان ما عولج منه وشُفي تماما ، فهذه أشياء ينبغي أن يتوصل فيها إلى ضوابط صحيحة بين الأطباء والقُرّاء حتى يمكن بعد ذلك معرفة الحق للقارئ في رقيته ويجريها على السنة الواردة عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- .
قال رحمه الله : [ فمن فعل ذلك استحق الجعل ] : فمن فعل ذلك : فوجد الضالة ووجد البعير الشارد والعبد الآبق ووجد الشيء الضائع استحق الجعل ، لو أن شخصا سقطت منه محفظته فقال : من وجد لي محفظتي أعطيته مائة ، فجاء شخص وقال : هذه محفظتك سمعه فذهب يبحث عنها فوجدها فجاءه وقال له : هذه محفظتك فإنه حينئذ يستحق المائة ، وهكذا لو قال : من وجد سيارتي الضائعة أو وجد ابني المفقود فإني أعطيه خمسة آلاف، فذهب شخص وبحث حتى وجد الشيء المفقود ثم جاء به استحق الجعل .(6/200)
قال رحمه الله : [ لما روى أبو سعيد الخدري –- رضي الله عنه -- أن قوما لُدغ رجل منهم فأتوا أصحاب رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- فقالوا : هل فيكم من راقٍ فقالوا : لا ، حتى تجعلوا لنا شيئا فجعلوا لهم قطيعا من الغنم ، فجعل رجل منهم يقرأ بفاتحة الكتاب ويَرْقَي ويتفل حتى برأ فأخذوا الغنم وسألوا عن ذلك النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- فقال : (( وما يدريكم أنها رقية ؟ خذوا واضربوا لي معكم بسهم)) ] : هذا الحديث فيه دليل على مسائل :
أولها : مشروعية الجعل ، وذلك في قولهم : (( اجعلوا لنا جعلا ))، فدل على مشروعية الجعل .
وثانيا : أن الجعل جعل على الشيء الذي يمكن أن يحصل ويمكن أن لا يحصل ، وهو المجهول العاقبة المتردد بين الوقوع وعدمه كما في البعير الشارد والعبد الآبق واللقطة .
وثالثا : أنه يصح بالمشارطة ؛ لأن الصحابة –رضوان الله عليهم- امتنعوا وقالوا حتى تجعلوا لنا جعلا .
والمسألة الرابعة : جواز رقية الكافر ؛ لأنهم رقوا سيد القوم وكان كافرا ، دل على جواز ذلك ، وتفرّع عليه جواز معالجة المسلم للكافر إذا كانت له حرمة .
والمسألة الخامسة : في أخذهم للجُعل بالمعلوم حينما قالوا : قطيعا من الغنم أن الجعل يكون بالشيء المعين المحدد .
والمسألة السادسة : في قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( خذوا واضربوا لي معكم بسهم )) فيه دليل على حل أكل مال الجعل، وحل أكل المال من الرقية الشرعية ، إذا نفعت بإذن الله –- عز وجل -- ، وأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لم يستنكف من ذلك ، ولم يمتنع بل قال : اضربوا لي معكم بسهم ، تأكيدا للإباحة والحل.(6/201)
وتفرّع على هذا المسألة السابعة : وهي مشروعية أخذ الأجرة على الطب وعمل الطب ؛ لأن كلا من الرقية والطب يشترك في معالجة الأجساد والأرواح ، والإنسان في الطب يعالج جسده وروحه من جهة الأمراض النفسية لا من جهة الأمراض الشرعية الدينية ، فطب الأرواح في الأصل هو الوحي ، ولكن قصدنا الأمراض النفسية التي يمكن علاجها بما جعل الله –- عز وجل -- من الخصائص في مخلوقاته من النباتات ونحوها من الأدوية في علاج مثل هذه الأمراض ، فدل هذا الحديث على هذه المسائل الشرعية وهو حديث عظيم وأصل من الأصول المتعلقة بأبواب الطب والأدوية .
قال رحمه الله : [ ولو التقط اللقطة قبل أن يبلغه الجعل لم يستحقه ] : ولو التقط اللقطة قبل أن يبلغه الجعل يعني أنه لم يحصل اتفاق وعقد بين الملتقط وصاحب الجعل، وهذا إشارة إلى أنه لابد من الاتفاق في الاستحقاق ، يعني حينما ذهب يبحث كان عنده علمه لوضع هذا الجعل لمن وجده .
قال رحمه الله : [ باب اللقطة ] : اللقطة هي الشيء الملتقط ، وهذا الباب قريب من باب الجعل؛ لأنه سبب من أسباب الجعل ، ولذلك ناسب أن يذكره المصنف –رحمه الله- عقب باب الجعل .
واللقطة جاءت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ببيان أحكامها ومسائلها ، ومن أشهر ما ورد في ذلك حديث زيد بن خالد الجهني –- رضي الله عنه -- في الصحيح ، واعتنى الأئمة والعلماء من المحدثين والفقهاء ببيان أحكام اللقطة ومسائلها ، وما ورد من هدي رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- وسنته فيها .
يقول المصنف –رحمه الله- : [ باب اللقطة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحكم الشيء الذي يلتقط ، وماذا يجب على من التقطه ووجده من العناية بحق أخيه المسلم ؟ وماذا يكون له من استحقاق أخذ اللقطة ؟ ومتى يجوز له الانتفاع بها ومتى لا يجوز؟ إلى غير ذلك من المسائل والأحكام المتعلقة باللقطة .(6/202)
وهذا الباب تعم به البلوى ؛ ولذلك كثير من الناس من يفقد أمواله وكثير من الناس من يفقد أشياء تضيع منه ، ومن هنا يرد السؤال عن حكمها الشرعي .
كما أن كثيرا من الناس يجدون أموالا لا يعرفون أصحابها، وقد يمشي في طريقه فيجد الشيء الساقط واللقطة الضائعة، وقد يجلس في مجالس في مجامع الناس أو يركب الوسائل التي يختلط فيها الناس وحينئذ يجد الشيء المفقود كما في زماننا من المحافظ محافظ النقود وغيرها من وسائل الإثبات فيرد السؤال عن حكم هذه الأشياء سواء كانت من الأموال أو غيرها ، وقد يكون الشيء الملتقط من الإنسان من الإنس مثل اللقيط، وهو الذي وجد ولم يعرف له أب ولا أم ولا يُعرف والده ، ويرد السؤال عن حكم هذا اللقيط ، وماذا يجب على من وجده ؟ وماذا يترتب على القيام به ورعايته إلى غير ذلك من المسائل والأحكام التي يذكرها العلماء في هذا الموضع .
قال رحمه الله : [ وهي على ثلاثة أضرب: ] : إجمال قبل التفصيل والبيان .(6/203)
قال رحمه الله : [ أحدها : ما تقل قيمته فيجوز أخذه ، والانتفاع به من غير تعريف ] : ما تقل قيمته ، ويُعبر بعض العلماء هو الذي لا تتبعه همة صاحبه ، الشيء الذي لا تتبعه همة صاحبه ، وقد يكون قيمة قليلة في زمان ، لكنها في بيئة لها شأن ، ومن هنا يعبر العلماء بقولهم وهو أدق : هو الذي لا تتبعه همة صاحبه ، بحيث إذا سقط منه لا يبحث عنه ولا يسأل عنه غالبا ، وهذا ما يعبر عنه بعض العلماء بالشيء المستحقر عادة ، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ففي بعض الأزمنة يكون الشيء القليل فيها كثيرا في غيرها من الزمان ، فالريال في يومنا وزماننا قد لا يساوي شيئا ، بل حتى ربما الخمسة والعشرة ، وقد كانت قبل الثلاثين والأربعين سنة له شأن ويشتري به الإنسان ما لا يشتريه بالمائة والمائتين ، ومن هنا ضبطه العلماء بالعرف ، فيرجع في كل عرف فيختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة أيضا ، قد يكون في بيئة وبلد في نعمة وخير فيكون اليسير عندهم كثيرا في بيئة أخرى أقل شأنا ، ومن هنا تضبط بالعرف ، فالضابط هو الذي لا تتبعه همة صاحبه
قال رحمه الله : [ فيجوز أخذه والانتفاع به من غير تعريف ] : فإذا وجد هذا الشيء الذي لا قيمة له فالحكم أنه يجوز لمن وجده أن يأخذه وينتفع به من غير تعريف ، مثال ذلك : لو أن شخصا رأى قلما رخيصا بريال فوجده في الطريق جاز له أن يأخذه دون أن يسأل عن صاحبه من غير تعريف ، لا يلزمه التعريف، وينتفع به ويملكه بالأخذ مباشرة ، لكن لو جاء صاحبه لاشك أنه يُرَدّ له ، لكن الكلام على الغالب في مثل هذا ، فحينئذ يملكه بمجرد أخذه ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- رخص في السوط والعصا وشبهه ، مثل المسواك ، الأشياء اليسيرة التي لا تتبعها همة صاحبه .(6/204)
قال رحمه الله : [ لقول جابر –- رضي الله عنه -- رخص لنا رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- في العصا والسّوْط وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به ] : [ رخّص] الرخصة طبعا تكون خارجة عن الأصل ، ومن هنا فالأصل أنه لا يجوز له أخذ مال أخيه المسلم إلا بحق ، ومال المسلم حرمته كحرمة دمه ، لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال في الحديث الصحيح : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام )) فجعل المال مع الدم والعرض ، وهذا يدل على أنه لا يجوز الاعتداء على مال المسلم ، فإذا وجد شيئا مفقودا فهذا مال مسلم ، والأصل يقتضي أنه يوصله لصاحبه، أو يتعاطى الأسباب لكي يصل صاحبه إليه ، لكن الشريعة وسّعت ، وهذا معنى قول جابر : رخّص رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ورخص بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه برخصة الله –- عز وجل -- ؛ وعليه فإذا وجد شيئا لا تتبعه همة صاحبه ، فذكر جابر –- رضي الله عنه -- السوط والعصا ، وهذا كان في زمان النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لا تتبعه همة صاحبه ، ولكن لو كان سوطا له قيمة وعصا غالية مثل العصا التي يتوكأ عليها ولها قيمة ويتبعها همة صاحبه، ويمكن تعريفها والوصول إلى صاحبها فالأمر يختلف .
فإذًا المراد من هذا ما ذكرناه أنه لا تتبعه همة صاحبه ، ولا يتشوّف لوجوده فالغالب أنه إذا سقط هذا الشيء من الإنسان أن لا يبحث عنه .(6/205)
قال رحمه الله : [ الثاني الحيوان الذي يمتنع بنفسه من صغار السباع كالإبل والخيل ونحوها ] : يمتنع بنفسه من صغار السباع ؛ لأن كبير السبع ما تستطيع الإبل أن تمتنع منها ، تمتنع من صغار السباع كالإبل فإنه له حكمه ، كما ثبتت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- حينما سئل عن ضالة الإبل فحرم أخذها ، وقال : (( مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها)) وقال - صلى الله عليه وسلم - (( لا يؤوي الضالة إلا ضال)) فهذا تحريم لأخذ هذا النوع وهو الذي يمتنع بنفسه ، وهو ما يمتنع من صغار السباع .(6/206)
قال رحمه الله : [ فلا يجوز أخذها ؛ لأن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- سُئل عن ضالة الإبل فقال : (( مالك ولها دعها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها )) ] : قوله رحمه الله : [ لا يجوز ] هذه العبارة لا يجوز نص في التحريم نفي الجواز ونفي الإباحة عن الشيء يقتضي التحريم ، لما قال : لا يجوز أخذها المعنى أنه لا يجوز التقاط هذا النوع مما يمتنع من صغار السباع ؛ وقد بيّنه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- مثل ما ذكره المصنف كالإبل . (( معها حذاؤها وسقاؤها )) فهي مكفية تأكل الشجر ترد الماء وتأكل الشجر ، فهي ليست بحاجة لأحد يأخذها لكي يقوم على طعامها وعلفها ، بخلاف غيرها كصغار الإبل ومثل الغنم ، فهذا له حكم آخر ، ومن هنا منع النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وحرّم التقاط الإبل ؛ وذلك لأنها تمتنع بنفسها ، والأصل أنه لا يجوز أخذ مال المسلم إلا بإذنه ، فنحن نترك هذا المال حتى يأتيه صاحبه ، وأهل البادية يعرفون المسالك، ويعرفون الطرق، وإذا ضاعت لهم أموالهم يعرفون كيف يجدونها بإذن الله –- عز وجل -- ؛ لأن لهم خبرة ولهم معرفة بذلك ، فإذا كان المال الذي فقده الغالب أن الإبل تُفقد في البراري وتفقد في الصحاري ، فمن المعروف أن الإبل تحن إلى مراعيها ، ولو أنها حتى أنها في بعض الأحيان يشتريها الرجل فيأخذها من مائتي كيلو فترجع إلى مراحها ، وهذا من أغرب ما يكون ، حتى في القصة المشهورة في قضية جرهم ، لما أجلتهم خزاعة عن البيت وقع ذلك ، فإن سيدهم كان إبله بمكة ، وكانت مرابعها بمكة ، ثم لما أجلتهم خزاعة نزحت أكثر من مائة كيلو من جنوب البيت ، فقال ومازال يتبعها يتتبعها ويقتفي أثرها مع القافة حتى وجدها دخلت إلى حدود الحرم ، ووجدهم عرفوها بالوسم فنحروها بالأبطح ، فقال قصيدته المشهورة :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
ولم يتربّع واسطا فجنوبه
... أنيس ولم يسمر بمكة سامر(6/207)
إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر
الأبيات المشهورة سببها أن الإبل نزحت إلى مكانها ، فمثل هذا النوع من الضالة يرجع إلى مكانه ولا يُخشى عليه ، وهو يدفع عن نفسه ويعرف كيف يجد طعامه .
إذًا ما شرع لحاجة يبطل بزوالها ، فالحاجة هي حفظ مال المسلم ، وهو الشيء الملتقط ، وهذا الحفظ ليس محتاجا إليه مع إبل تستطيع أن تدفع عن نفسها بإذن الله –- عز وجل -- من صغار السباع وتستطيع أن تجد كفايتها ترد الماء وتأكل الشجر فحرّم رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- التعرض لها ، فهذا هو وجهه .(6/208)
قال رحمه الله : [ ومن أخذ هذا لم يملكه ] : ومن أخذ هذا لم يملكه : إذا حكم الشرع بجواز أخذك للقطة ، وقمت بالحقوق الواجبة عليك كملتقط للقطة وقمت بها كاملة فإنها تكون من حقك ، وتملكها شرعا ، ومن هنا التقاط اللقطة أمر مهم جدا ، وإذا أبيح للشخص أن يلتقط فهذا تترتّب عليه مسائل ، حتى إن الفقهاء –رحمهم الله- اختلفوا في الكافر إذا دخل بلاد المسلمين أو كان ذمياً فوجد لقطة في بلاد المسلمين ، هل يجوز له الأخذ ؟ وهل يملك ؟ وهي المسألة المشهورة وفيها الوجهان المشهوران للعلماء –رحمهم الله- المبنية أن اللقطة لها أحكامها في الأخذ ، فإذا شرع الأخذ انبنى عليه ما بعده إذا قام بالتعريف ، وأتم ذلك على وجهه ، فإنه يملكها بعد أداء الواجب عليه في التعريف بها ، وهذا يدل على أن الحكم بالالتقاط مهم جدا ، فلما كان هذا النوع لا يحتاج إلى رعاية حُكم بعدم جواز الالتقاط ، فإذا التقط وآوى هذه الإبل وأخذها معه ؛ فإنه لا يملكها ، بحيث لو أخذها وعرّفها وبحث عن أصحابها ولم يجدهم فإننا لا نقول بأنه يجوز له الانتفاع بها ؛ لأن الأخذ محظور عليه شرعا ، وما بُني على باطل فهو باطل ، فالملك يفتقر إلى أخذ صحيح معتبر شرعا ، ومن هنا قالوا إذا لم نصحح التقاط الكافر للقطة لم تَصِحّ ملكيته ، لا إن عرّفها وبذل ما يجب عليه من تعريفها ، وهذا يصححه غير واحد من العلماء –رحمهم الله- .
قال رحمه الله : [ ولزمه ضمانه ] : ولزمه ضمانه : ضمان الشيء الملتقط ، هذه المسألة مفرّعة على ما تقدمت الإشارة إليه في أكثر من موضع يد الأمانة ويد الضمان ، فإذا أخذ البعير وقلنا لا يجوز له أخذه فخالف الشرع ، وأخذ فيده يد جناية ، وحينئذ لو أن هذا البعير أصابه ضرر فإنه يتحمّل المسؤولية ويضمن ، فتكون يده يد ضمان، وليست بيد أمانة ، بخلاف ما إذا كان ملتقطا على الوجه الشرعي؛ فإن يده يد أمانة لا تضمن إذا لم يفرّط ولم يتعدَّ .(6/209)
قال رحمه الله : [ ولم يبرأ إلا بدفعه إلى نائب الإمام ] : ولم يبرأ إذا أخذ هذا الشيء كالإبل لم يبرأ إلا بدفعه إلى نائب الإمام طبعا هذا إذا تعذر وجود صاحبه ، أما إذا كان صاحبه أمكنه أن يتعرف عليه فإنه إذا دفعه إليه انتهى الإشكال ، إنما الإشكال إذا أخذ الإبل فقد عصى وخالف ، لكن لو قال: أنا لا أعلم بالحكم وأخذها نقول ادفعها إلى نائب الإمام ، وهذا موجود كان موجودا ولازال إلى زماننا ، في الأصل أن الضائعات لها في بيت مال المسلمين، فإذا وجدها الإنسان على الوجه الذي ذكر منها هذه المسألة، وكان أخذه لها على غير الوجه المعتبر يسلمها إلى نائب الإمام حتى يبرأ ولا يتحمّل مسؤوليتها ، لأنه يرد السؤال : إذا أخذ الناقة فإن أخذه محظور شرعا ، وحينئذ تصبح يده يد ضمان ، فإن قلنا له : اذهب وردها للمكان الذي وجدتها فيه ، فحينئذ هذه يد الضمان تحمّله المسؤولية فلو ذهب إلى ذلك المكان وحصل الضرر على البعير؛ لأنه لا يبرأ بها إلا بالتسليم في يد الضمان ، وحينئذ وجب صرفها إلى نائب الإمام من هذا الوجه .(6/210)
قال رحمه الله : [ الثالث : ما تكثر قيمته من الأثمان والمتاع والحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع ] : ما تكثر قيمته : وهذا هو النوع الثالث بالقسم العقلية ، فإذا كانت له قيمة ويطلبه صاحبه فإنه في هذه الحالة بيّنت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- أحكاماً ينبغي للمسلم أن يلتزمها ، يجب عليه أن يعرف صفات الشيء الذي التقطه ، وأن يعرّف بها في مجامع الناس حولًا كاملاً ، ثم بعد ذلك إذا لم يجد صاحبها فإنه يملكها ، فإن جاء ربها يوماً من الأيام ووصفها بالصفة التي سجلها وكتبها واحتفظ بها تأسيا بالسنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- في قوله : (( اعرف وكاءها وعفاصها فإن جاءك صاحبها يطلبها يوما من الأيام دفعتها إليه )) فيعرف هذه الصفات ويسجلها ويكتبها فإن جاءه صاحبها يوما من الأيام وذكر له صفات هذه اللقطة ضمن له ماله ورده له وإلا حلت له بحكم اللقطة إذا قام بتعريفها على الوجه المعتبر شرعا .
قال رحمه الله : [ الثالث : ما تكثر قيمته ] : ما تكثر قيمته : يعني له قيمة ، بحيث إن صاحبه يتبعه أي تتبعه همة صاحبه ، وهذا على عكس الأول، وأدخل الوسيط الذي هو الإبل لخصوص السنة له بالحكم، وإلا القسمة العقلية ما تقل قيمته وما تكثر قيمته ، وقوله : ما تكثر قيمته هذا يختلف بحسب اختلاف الأعراف والأمكنة كما ذكرنا فيما تقل قيمته .(6/211)
قال رحمه الله : [ الثالث : ما تكثر قيمته من الأثمان والمتاع والحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع ] : من الأثمان والحيوان يعني من الأثمان والمثمونات والعبرة بكونه مالاً ، مادام أنه مال من الأموال أن يكون من الأثمان مثل المبالغ النقدية كأن يجد مثلا ألف ريال أو يجد مثلا مائة جنيه ذهب هذه تتبعها همة صاحبه ، وهو مال من النقد من الأثمان ، وقد يكون من المثمونات ضائعا من المنقولات ، فيشمل هذا الأكسية ، ويشمل ذلك المتاع ، فإذا وجد هذا وله قيمة بحيث إن همة صاحبه تتبعه وتبحث عنه .
قال رحمه الله : [ من الأثمان والمتاع والحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع ] : والحيوان الذي لا يمتنع من صغار السباع هذا طبعا عكس الذي قبله الذي يمتنع من صغار السباع .
قال رحمه الله : [ فيجوز أخذه ] : فيجوز أخذه : أحللنا له الأخذ ، وإذا أبحنا له الأخذ، فالأخذ على نوعين : هناك نوع يؤخذ بإذن الشرع ويملكه مباشرة مثل ما ورد عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في الشاة إذا وجدها مفقودة في البر ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إنما هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب )) فأحل - صلى الله عليه وسلم - أخذها لواجدها ، وإما أن يكون مالاً له قيمة والموضع الذي هو فيه فيها أماكن هي مجامع للناس يمكن تعريف المال فيها والسؤال عن صاحبه .
قال رحمه الله : [ فيجوز أخذه ] : فيجوز أخذه : إذًا إذا أجزنا الأخذ تصحح الملكية بعد ذلك ، جواز الأخذ كما ذكرنا مهم للحكم بالملكية إذا قام بواجبه ، فيجوز أخذه .
اختلف العلماء : هل كل يأخذه وهل أخذ مثلا غير مكلف مثلا الصبي لو أخذه الصبي وهو غير مكلف هل أخذه صحيح أو أن العبرة بوليه ؟
في المسألة تفصيل عند العلماء –رحمهم الله- لكن من حيث الأصل أنه يجوز له الأخذ .(6/212)
قال رحمه الله : [ ويجب تعريفه ] : ويجب تعريفه والتعريف يكون في مجامع الناس ونص العلماء –رحمهم الله- على مجامع الناس مثل المساجد والأسواق والأحياء المعيّنة التي يجتمعون فيها ، ومجالسهم العامة فيقول : من فقد شيئا ليأتني ، أو من ضاع له مال فليأتني ، أو من ضاعت له نقود فليأتني ، ولكن لا يذكر صفات المال ، ولا يحدّد نوعه حتى لا يتوصّل أهل الشر والفسقة والكذّابون إلى أخذ أموال المسلمين بدون حق ، بل إنه يبهم ؛ لأنه يستطيع أن يعرف صاحب المال عن طريق ذكره لصفات المال الملتقَط ، فيعرّفه في مجامع الناس .
قال رحمه الله : [ ويجب تعريفه حولا في مجامع الناس كالأسواق ] : يجب تعريفه : إذا حكم التعريف وهو الحكم الثاني حكمه الوجوب ، وفي قوله : يجوز أخذه خلاف بين العلماء –رحمهم الله- هل اللقطة يجب عليك أخذها أو يجوز ؟
ذهب الجمهور إلى الجواز .
وذهب بعض العلماء كالشافعية ومنصوص عليه في مذهب الشافعية إلى أنه يجب الأخذ .
ومنهم من فصّل بين الأزمنة التي يكثر فيها الفسق والاعتداء على أموال الناس ، والأزمنة التي لا يكثر فيها ذلك .
ومنهم من فصّل في الشخص نفسه الملتقط بين أن يكون يأمن نفسه أو لا يأمن .
والحاصل أنه إذا خاف أن يكون غير أمين لا يلتقط ، وهكذا إذا كان غلب على ظنه أن المال سيأتي من يسرقه ومن يأخذه ولا يعرفه فإنه يأخذه ؛ فإنه يجب عليه أخذه إذا غلب على ظنه أنه سيقوم بالتعريف على الوجه المعتبر ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهو بأخذه على هذا الوجه يمنع أخاه المسلم إذا كان فيه فسق وخيانة من الوقوع في الفسق والخيانة ؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( انصر أخاك ظالما أو مظلوما قال يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال : تحجزه أو تمنعه عن الظلم فذلك نصر له )) فلما كان حجز هؤلاء عن هذا المال متوقفا على أن يأخذ المال وجب عليه أخذه من هذا الوجه .(6/213)
قال رحمه الله : [ ويجب تعريفه حولا في مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد ] : يجب تعريفه حولا في مجامع الناس :
أولا : الحكم في التعريف الوجوب .
وثانيا : أن مكان هذا التعريف مجامع الناس كالأسواق وأبواب المساجد من خارجها لا من داخلها؛ لأن داخل المساجد لا يجوز فيه نشد الضالة ، ولا أيضا الدلالة عليها ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال في الحديث الصحيح : (( من وجدتموه ينشد ضالته في المسجد فقولوا لا ردها الله عليك؛ فإن المساجد لم تبَن لهذا )) فتعرف على أبواب المساجد كأن يقف على باب المسجد ويقول : من ضاع له كذا فليأتني من خارج ، من ضاع له شيء فليأتني ، أو من فقد مالا فليأتني هذه أبواب المساجد ، وهكذا في الأسواق يعرّفها .
أولا : يجب عليه التعريف فإذا لم يعرف يأثم شرعا .
وثانيا : أن هذا التعريف في مجامع الناس .
والحكم الثالث : أن هذا التعريف يستمر سنة كاملا ؛ لأمر النبي –- صلى الله عليه وسلم -- به حولا .(6/214)
قال رحمه الله : [ فمتى جاء طالبه فوصفه دفعه إليه بغير بينة ] : فمتى جاء طالبه قال : أنا أنا يطلب المال ، أو قال: أنا ضاع لي شيء ، قيل له : اذهب إلى فلان فإنا سمعناه يقول : من ضاع له مال، فجاء طالبه طالب هذه اللقطة فلما جاء سأله عن صفات الشيء الضائع فوصفه وصفا صحيحا سليما، فإذا وصفه وصفا صحيحا سليماً ؛ دفع إليه ماله من غير بيّنة ، ما يقول له : ائتني بشهود يشهدون أن هذا الشيء لك بل يجب عليه أن يدفعه إليه؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أمر بدفع المال إليهم من دون بيّنة ، وحينئذا إذا وصفه فذكر مثلا عدد النقود قال هي خمسمائة ريال ونوعيّتها مئات مفرّقة وقال: محفظة فيها خمسمائة ريال في جيب ، والجيب الثاني فيه مائة ريال ، قال: محفظة لونها أحمر وفيها أوراق إثبات في الجيب الأول. أما الجيب الثاني فيه خمسمائة أو مثلا خمسمائة ريال من المئات المهم أنه وصف وصفا صحيحا ؛ فحينئذ تُدفع إليه من غير بينة .
قال رحمه الله : [ وإن لم يعرّف فهو كسائر ماله ] : وإن لم يعرّفها فإنها كسائر ماله فحينئذ بمعنى أنه لم يأت أحد يعرّفها تعريفها صحيحا ولم يجد صاحبها سنة كاملة قال - صلى الله عليه وسلم - : (( فشأنك بها )) يعني بعد الحول ، لكن يكتب صفات هذا الشيء الضائع لخوف أن يأتيه صاحبها في يوم من الأيام فيعطيه حقه ، أما من حيث الأصل ؛ فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بيّن أنه إذا أتم الحول شأنه باللقطة ويملكها .
قال رحمه الله : [ ولا يتصرّف فيه حتى يعرف وعاءه ووكاءه وصفته ] : كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( اعرف وكاءها وعفاصها ووعاءها ، فإن جاءك صاحبها يطلبها يوما من الدهر دفعتها إليه )) .(6/215)
قال رحمه الله : [ فمتى جاء طالبه فوصفه دفع إليه أو مثله إن كان قد هلك ] : دفع إليه المال عينه؛ لأن يده يد أمانة ، وإذا تصرّف في المال وأكله فإنه يدفع إليه المثل ؛ لأنه إذا فات العين دفع ضمن له مثله ، فإذا كانت ألف ريال ضمن له مثل الألف .
قال رحمه الله : [ وإن كان حيوانا يحتاج إلى مؤونة أو شيئا يخشى تلفه فله أكله قبل التعريف ] : وإن كان حيوانا يخشى تلفه أو طعاما يخشى فساده : بالنسبة للحيوان الذي يخشى تلفه طبعا التلف قبل نهاية مدة التعريف ، فإذا كان تلف قبل نهاية مدة التعريف فيما إذا كان مما يعرف فلا إشكال أنه مخيّر بين تلف الحيوان وبين أكله ، فحينئذ الأفضل والأولى أنه يأكله، وشأنه به ، وهكذا إذا كان طعاما ، الطعام ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ما يمكن تصبيره وتجفيفه . وذهب بعض العلماء في أحد الوجهين إلى أنه يجفّفه ويصبره، وقالوا إن مؤونة التجفيف والتصبير تكون على المالك إن جاء أخذها منه ؛ لأنها لمصلحة المال.
أما إذا كان لا يمكن تجفيفه وتصبيره فكما ذكر المصنف –رحمه الله- .
قال رحمه الله : [ فله أكله قبل التعريف أو بيعه ثم يعرفه ] : أو بيعه ثم يعرفه بمعنى أنه يستفيد من هذا المال في أحد الوجهين :
إما أن يأكله ثم يعرّفه فإن جاء صاحبه ضمن له المثل ، وإن شاء باعه وأخذ ثمنه عنده أو انتفع بثمنه فإن جاء صاحبه دفع له الثمن .(6/216)
قال رحمه الله : [ لما روى زيد بن خالد –- رضي الله عنه -- قال سُئل رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- عن لقطة الذهب والورِق فقال : (( اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرّفها سنة فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه )) ] : هذا الحديث أصل في الأحكام الذي سبق بيانها ، وهي تشرح معنى هذا الحديث ، بيّن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فيه مشروعية أخذ اللقطة على هذا الوجه من هذه الأنواع ، وأنها تُعرّف وأنه يعرف عفاصها ووكاءها ؛ حفظاً لحق صاحبها ، فإن جاء يوما من الدهر ووصفها بالصفة المعتبرة استحق عين المال إن كان عينه موجودا ، أو استحق بدله ومثله .
قال رحمه الله : [ وسُئل عن الشاة فقال : خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب ] : أجاز النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لقطة الغنم ، فلما سئل عن الشاة حينما تكون ضائعة قال عليه الصلاة والسلام : (( إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب )) وظاهر قوله : (( أو للذئب )) يدل على أنها في غير العمران ، ومن هنا تكون لقطة على هذا الوجه في غير العمران ، أما في العمران فيمكن الوصول إلى صاحبها غالبا ، وهكذا إذا كان في البر ووجد شاة منقطعة لكن حولها أناس، فالغالب أنها تكون لهم، وليس كل من وجد شاة : بسم الله ! قال : (( إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)) نقول : لا . السنة ما جاءت الأصل ما جاءت في هذه الرخص إلا على صفات معتبرة ؛ لأن عندنا أصلاً شرعياً : (( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه )) فأموال الناس لها حرمة ، فإذا جاء في برية ووجد شاة وحولها أناس من العرب ، أو حولها فريق من الخيام أو نحو ذلك ؛ فإنه لا يتعرض لها ، لأن الغالب أنها ملك لهم ، وأنهم يتصرفون بها ، لكن إذا كانت مثلا في مفازة أو مقطعة أو في برية فعلا يوجد فيها الذئب والغالب أنها تكون على هذا الوصف الذي ذكره رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- : (( إنما هي لك أو لأخيك أو للذئب )) فلابأس أن يأخذها .(6/217)
قال رحمه الله : [ وإن هلكت اللقطة في حول التعريف من غير تعد فلا ضمان فيها ] : هذا راجع إلى مسألة يد الملتقِط ، فيد الملتقِط يد أمانة وليست بيد ضمان ، إلا إذا تعدّى أو فرّط ، وقد شرحنا يد الضمان ويد الأمانة أكثر من مرة ، ويد الأمانة بمعنى أنه أمين ، وهذا بحكم الشرع أن الشرع هو الذي أمره أن يأخذ اللقطة وأن يؤويها ، وأن يقوم عليها بالتعريف على الوجه الذي بيّنته السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، وحينئذ لا نقول بضمانه إلا إذا فرّط .
من فوائد هذه المسألة أنه لو أخذ شيئا يريد أن يعرّفه ، مثلا وجد محفظة ثم جلس يعرّفها أثناء السنة فجاء سارق -والعياذ بالله- وكسر القفل وأخذ المحفظة من درجه وهرب في هذه الحالة لا يضمن مادام أنه قد حفظها في مكان أمين ولم يتساهل ، لكنه لو أخذ هذا المال الملتقط وجاء ووضعه على مكتبه، ثم فجأة اختفى المال هذا إهمال يضمن ، ولو أنه وضعها في بيته وترك باب البيت مفتوحاً فجاء سارق وأخذها يضمن ، لا يضمن إلا إذا تعدّى أو أهمل وفرّط ، فيده يد أمانة .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : نريد من سماحتكم التوجه للنصيحة إلى بعض الذين ابتلوا بإفشاء أسرار الدين الذين طلبوا منهم الدَّين إن لم ينالوا منهم . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله . الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
نريد من سماحتكم ومن العلامة فلان –اتقوا الله يا إخوان- والإنسان يشفق على أخيه ، وهذه الكلمة أنا أحبذ أن تكون للعلماء الكبار ممن لهم قدم راسخة في العلم ، فيخص بها العلماء الأجلاء أفضل ، وهذه والله أقولها من قلبي، لا يضرك الناس إن رفع الله قدرك ، ولن يرفعك الناس إن وضع الله قدرك.
ما الجاه إلا الجاه عند الله الجاه عند الله خير جاه(6/218)
نسأل الله أن يعظم جاهنا وجاهكم ، وأن يجعل ما وهبنا من ذلك عونا على طاعته ومحبته ومرضاته ، هذا حق للعلماء الكبار ، يخصون بالعبارات التي فيها التمييز بغيرهم ، عموما هذا سواء معي أو مع غيري ، لا أحب أن الإنسان يغلو في شيخه أو غيره إلا أن يكون العبارات تُعرف أن العبارات التي تليق بالكبار تترك لهم ، وجزاك الله خيرا على حسن الظن
ما أنت أول سار غرّه قمر لا أول راء غرّه خضرة الدمن
فاختر لنفسك غيري إنني رجل لك المعيدي اسمع بي ولا ترني
نسأل الله أن يجبر كسرنا وكسركم .
، هذا السؤال حاصله أن الأخ يشتكي من إفشاء أسرار الناس في الديون ، وبالمناسبة في هذا الزمان من أعظم الأشياء التي جرّت على الناس البلاء أفرادا وجماعات خيانة الأمانة ، وثبت في الحديث عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أن الأمانة -والعياذ بالله- تُنزع وتُرفع حتى لربما تجد الحي والقبيلة بكاملها قد لا تجد فيها إلا رجلا واحدا أمينا .
هذه الأمانة التي منذ أن يفتح الإنسان عينه من فراشه لكي يستصبح في يومه وهي بين عينيه تقوده إما إلى جنة أو إلى نار .(6/219)
هذه الأمانة التي رفع الله بها درجات وابتلى بها الخائنين ، فأنزلهم إلى الجحيم والدركات ، يؤتى بالخائن يوم القيامة، وتحمّل أمانات الناس على ظهره ، ثم يكبكب في نار جهنم ، وتُرمى الأمانة في النار ويقال له : أد أمانتك كما في الصحيح عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، فينزل إلى النار، ويحمل على ظهره أمانات الناس، يحمل على ظهره الكلمات التي ائتمن عليها ، يحمل على ظهره عيوب الناس، يحمل على ظهره أسرار إخوانه وأخواته وأبيه وأمه وجماعته وعشيرته ، يحمل على ظهره أسرار مكتبه، حينما يجلس وتأتيه عورات المسلمين بين يديه قاضيا أو معلما أو شيخا أو مفتيا كل هذا يحمله ، وانظر إلى ذلك الحِمْل ، حتى إذا بلغ طرف النار كُبكب فيها ثانية ، فيرجع ويطلبها مرة ثانية من الجحيم والنار ؛ كما في الصحيح عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، فمن شاء أن يستكثر ومن شاء أن يقل ، ولعِظَم الأمر ذكر الله –- عز وجل -- صفات الوارثين الذي يرثون الفردوس هم فيها خالدون ، فذكر أنهم لأماناتهم وعهدهم راعون ، أولئك الذين لا يمكن أن يخون الواحد منهم، أو ينسى عهدا ، والعهد قد يكون بجلسة واحدة ، يجلسها مع الشخص يشرب معه فنجانا من قهوة أو شاهي يعده شيئا من العهد لا يخون له أمانة ولا ينكث له عهدا ، هذا كله مما يطالب به المسلم ، ليس الإسلام بالتسمي، ولا بالتحلي، ولا بالتشهي، ولا بالتمني، ولا بطول اللحى وقصر الثياب، الإسلام مع أنه باللحية والثوب بالعمل والتطبيق، حينما يحوي قلبا يخاف الله ، حينما يغيّب أسرار المسلمين في قلبه فتغيب معه في لحده وقبره ، لا يخون ولا يمكن حتى أن يبيح السر بالتلميح ، ولحتى أن يتحدث كأنه شخص غائب " قلوب الأحرار قبور الأسرار" ، يأتي الشخص إلى الشخص يقول له : والله ، عندي كربة ، فيجده يحقق معه فيقول له : ما هي كربتك ؟ قال : والله ، زوجتي مريضة . قال له : طيب لماذا والدك لا يعطيك ؟ قال: والله ، ظروف(6/220)
أبي كذا وكذا ، قال له : طيب لماذا أخوك لا يعطيك ؟ قال له : والله، ظروفه كذا وكذا ، قال له : طيب لماذا لا تصرف من راتبك ؟ قال له : والله ظروفي كذا وكذا ، فأباح له سر أبيه وأمه وإخوته وأخوانه المسكين يظن أنه سيعطيه وإذا بالنهاية يقول له : لا أستطيع ، ثم بعد ذلك يجر ذيله إلى نار جهنم ، ويمشي إليها بقدميه ، لكي يحدث أن فلانا أبوه لا يعطيه وأمه تفعل به وزوجته فيها كذا وكذا ، ويمسي ويصبح الرجل وإذا بسِرّه قد فشا بين الناس ، من المسؤول أمام الله ؟! إنها الألسن الخائنة والقلوب التي لا تعظم الحرمة .
إن من الناس من غيب في قلبه الأسرار وعاهد الله لو ضربت رقبته ما أفشى منها سرا .
وإن من الناس من إذا ائتمنته على السر كان كسرّه ، وإذا أطلعته على العيب كان كعيبه ، وإذا أخبرته بالعورة كانت كعورته ، أولئك الأمناء الشرفاء الرفعاء ، أولئك الذين يخافون الله ويرجون لقاءه –- سبحانه وتعالى -- .
فعلى المسلم أن يحذر من عيوب المسلمين ، أنت في وظيفتك لما تجلس على مكتبك ، وتأتيك أسرار المسلمين ، قد يكون الشخص رجل هيئة ، قد يكون في قضاء ، قد يكون في فتوى ، وأذكر يوما من الأيام أن الوالد –رحمه الله- استوقفه رجل بعد أن خرج من المسجد في مسألة ، وحصل بينهم شجار وأخذ وعطاء ، حتى علت أصواتهم فجئت مع الوالد أكثر من مرة أحاول معه ، وكنت أريد أن أتعلم وقلت له : يا أبتي ماذا حصل ؟ فيضغط على يدي ، وعمري تسع سنوات وأنا معه ، يقول : يا بني، أسرار المسلمين لا تكشف ولا تبحث عنها .
أسرار المسلمين الإنسان إذا استفتي تكون إمام مسجد وعندك عورات المسلمين يأتيك من يستفتيك ويسألك لو تضرب رقبتك لا تفشي سرا منها .(6/221)
اتق الله –- عز وجل -- تكون قاضيا والناس يختصمون إليك، فتُذكر العورات والسوءات والله اليوم جاني فلان وفعل وقال ، ويل لمن أفشى أسرار المسلمين ولم يتق الله في عوراتهم ، على هؤلاء أن يتقوا الله -- عز وجل -- والأمر أعظم مما يتصوره الإنسان ، لو أنه جلس مع أخيه فالتفت فعندها كانت الأمانة ، فنسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يعيننا على أداء الأمانة ، وأن يعيذنا من الخيانة ، فإنها بئست البطانة . والله –تعالى- أعلم .
السؤال الثاني :
فضيلة الشيخ : نسمع دائما أن لحوم العلماء مسمومة فهل هذا حديث ، أو أنه مجرد مقولة . وجزاكم الله خيرا ؟
الجواب :
بسم الله الحمد لله ، الصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :(6/222)
فهذا ليس بحديث ، وإنما هي مقولة لبعض العلماء قال : إن لحوم العلماء مسمومة ، وعادة الله في منتقصيهم معلومة ، وهذا فيه تعظيم لحرمات الله وشعائر الله ، وأهل العلم قاموا على أعظم شيء وسدوا ثغرا به يكون الدِّين من تعليم الناس وإرشادهم ودلالتهم على الخير ، فأمْرُهم عظيم وشأنهم عظيم ، فمن أحبهم في الله ووالاهم في الله ونصرهم وأعانهم على طاعة الله كان بخير المنازل عند الله؛ لأن ورثة الأنبياء هم العلماء ، ومن أعانهم على أداء رسالتهم وناصرهم في تبليغ علومهم ونشرها بين الناس وحملهم على المحامل الحسنة ، واعتقد حبهم وفضلهم على المسلمين ، ودعا لهم بخير وأشفق عليهم فيما هم فيه من الأمانة ، وتبليغ رسالة الله –- عز وجل -- ، والدلالة على صراطه ، فهذا من أسعد الناس ، ولذلك قلّ أن تجد عالما قام بالكتاب والسنة ، ودل الناس على الشريعة والملة ، ونصح لله ورسوله ، وظهرت دلائل الصدق في قوله وعمله ، قلّ أن تجده يناصر من أحد إلا وجدت فتح الله عليه ، ومعونة الله له ، وذكر العلماء –رحمهم الله- أن الله –- عز وجل -- أكرم هذا الدين بالعلماء بعد الأنبياء ، وهذه من نعم الله على أمة محمد –- صلى الله عليه وسلم -- ، ثم اختار للعلماء طلاب علم أمناء صادقين ، صدقوا مع الله في إصلاح سرائرهم ، بحسن الاعتقاد في أهل العلم ، وعدم الإساءة إليهم ، ومعونتهم على تبليغ رسالة الله ، ونصحوا للعلماء في حفظ العلم الذي يسمعونه منهم ، وضبطه وإتقانه وسؤالهم عما أشكل، حتى نالوا بذلك أفضل ما يناله طالب علم في طلبه ، ثم نصحوا لأهل العلم بعد ذلك بنشر هذا العلم ، فهؤلاء لاشك أنهم الأمل بعد الله –- سبحانه وتعالى -- في حفظ هذا الدِّين .(6/223)
والعكس بالعكس فلحوم العلماء مسمومة يسم بها أصحاب القلوب السقيمة ، والأفهام العقيمة ، الذين لا يتقون الله في أنفسهم ، ولا يتقون الله في أهل العلم ، فتجدهم ليس لهم إلا انتقاص أهل العلم، وتتبع عثراتهم وزلاتهم ونشر هذه الفضائح بين الناس -والعياذ بالله- ، فهذا ليس من شأن أهل العلم ، ذكر الإمام ابن القيم –رحمه الله- في جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام - صلى الله عليه وسلم - أنه ليس من عادة أهل العلم جمع العيوب والمثالب وتتبّعها ، لا يعرف هذا لأهل العلم ، وليس من شأنهم؛ لأنه شغلتهم عيوبهم عن عيوب الناس ، ولا يعني هذا السكوت عن الخطأ ، ولكن المراد أن التصدي لكشف السوءات والعيوب ليس هناك من أحد إلا وعنده خطأ وعيب ، وإنما يرجى الإنسان بالغالب، فإذا نُظر إلى أئمة الإسلام ودواوين العلم كم عندهم من مسائل شاذة ومسائل انفردوا بها ولكن لا يلتفت إليها في جنب وغمار تلك الحسنات العظيمة ، وتلك الحسنات الجليلة ، التي قدموها للأمة. فالتقصد لتتبع العثرات والزلات فهذا يدل على سقم القلب ومرضه -نسأل الله السلامة والعافية - قد يلتزم الإنسان بالشرع وفيه بقايا جاهلية ، فتجده نسأل الله السلامة والعافية أَلِفَ ذم الناس واحتقارهم أو تكون فيه عنصرية أو فيه تحيز -والعياذ بالله- ورُبّي على ذلك ، فيأتي في التزامه لكي يسوّق بضاعته تحت ستار الشرع ، والله لا يصلح عمل المفسدين ، لأن الله تعالى يقول : { وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد } فالعبد الذي يشتغل بعيوبه ويسعى في كماله موفق، وذكر الله من خصال أهل الجنة أنهم هدوا إلى الطيب من القول ، فإذا وجدت الرجل لا يهدى إلى الطيب من القول مع عامة المسلمين يسقط من عيون الناس ، فما بالك إذا تقصد أهل العلم –والعياذ بالله- .(6/224)
وليعلم كل أحد أن أهل العلم وضعهم الله في مرتبة لو أطبق أهل الدنيا كلهم وهم راضون عنهم أن يرفعوهم عليها شعرة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا .
ولو أن أهل الأرض بل أهل السماوات والأرض أرادوا أن ينزلوهم عن درجة رفعهم الله بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا . رفعت الأقلام ، وجَفّت الصحف .
وليعلم كل أحد أن أهل العلم ليسوا بحاجة لأحد أن ينصرهم ، وليسوا بحاجة لأحد أن يمدحهم ، إذا امتلأت قلوبهم بالله ، وأحسنوا الظن بالله ، وتوكلوا على الله ، وصدقوا مع الله ، { وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي } وأحق من كان على ذلك هم أهل العلم .(6/225)
فأهل العلم الصادقون لا يلتفتون إلى من مدحهم فضلا عن من انتقصهم ، فهذه حقيقة ينبغي أن يدركها الإنسان ، وأن يعلم أن أهل العلم أغنى ما يكونون بالله –- جل جلاله -- ، وأنهم إذا رفعوا دين الله وشرع الله –- عز وجل -- فإن الله كريم حميد مجيد لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ولو ذم أهل الأرض من مدحه الله لم يضره ذمهم شيئا ، بل جعل الله ذمهم رفعة له في الدنيا والآخرة { لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها } . فهذه حقائق ينبغي أن تعلم ، لكن خسارة على الإنسان ، وضياع وهلاك ودمار إذا جاء يوم القيامة وخصومه أهل العلم ، وبلاء عليه إذا تتلمذ في العلم وهو لا يعرف إلا فلان فعل الله به وفعل ، وفلان فيه وفلان يخطئه، وبخاصة في هذا الزمان حينما أصبح الأمر من أسهل ما يكون ،لم تنكشف حقائق الناس مثل الزمان اليوم ، حينما أصبح الانترنت وغيره انكشف كل إنسان على حقيقته ، وأصبح كل إناء بالذي فيه ينضح ، وانظر إلى العواقب فإن وجدت الأمناء الشرفاء الذين يخافون الله وجدت عواقبهم في الأمة محمودة ، ووجدت كلماتهم ودعواتهم ودعوتهم وخطبهم وصلواتهم وإمامتهم بالناس وتوجيههم للناس له الأثر الحميد فإنك عاقل تميّز بين الغث والسمين ، والله لا يمكن أن يلبس على عباده ، فإن القبول بيد الله –- جل جلاله -- وعلى كل إنسان أن لا يخدع نفسه ، وأن لا يلتفت إلى مثل هذه الأمور ، وأن يصون دينه وإن استطعت من اليوم أن لا تلقى الله بذنب لمسلم فضلا عن عالم فافعل .
قال الإمام البخاري –رحمه الله- : (( ما اغتبت مسلما منذ أن سمعت الله ينهى عن الغيبة )).
وإن استطعت أن تبقى فيما بقي من عمرك عفيف اللسان فافعل ، فإن الله لا يحاسبك على سب الناس وشتمهم إذا لم تسبهم ولم تشتمهم ، ولكن إذا سببتهم وشتمتهم فإنهم خصومك بين يدي الله وبخاصة إذا كان ذلك ظلما وتعديا .(6/226)
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يهدي ضال المسلمين ، وأن يربط على قلوبنا في الثبات على الدين ، وأن يعيذنا من فتن المفتونين ، وإرجاف المرجفين ؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه وهو حسبنا رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
شريط 72 مفقود
كتاب الإجارة
قال رحمه الله : [ كتاب الإجارة ] :
يقول المصنف –رحمه الله- : [ كتاب الإجارة ] : الإجارة مأخوذة من الأجر وهو العِوَض .
وفي اصطلاح العلماء الإجارة : هي بيع المنافع ، وهذا النوع من العقود ثبت الدليل في الكتاب والسنة والإجماع بمشروعيته .
أما الكتاب فقوله –تعالى- حكاية عن شعيب حينما خاطب موسى – عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- : { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } فهذا أصل في مشروعية الإجارة، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه .
وقال الله –- عز وجل -- في كتابه : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وقال سبحانه : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } .
وثبتت السنة عن رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- بمشروعية الإجارة ، حتى قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: (( إن نبي الله موسى آجر نفسه على عفة فرجه وطعمة بطنه )) دل على مشروعية الإجارة وجوازها .(6/227)
وكذلك أيضا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح يقول الله تعالى : (( ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خَصَمْتُه : رجل أعطى بي ثم غدر )) فتجده يقول له : فلان ما تخونني ؟ يقول له : والله ما أخونك. يقول : الله بيني وبينك ما تخونني ؟ يقول : الله بيني وبينك ما أخونك ، فأعطى بالله أنه لا يخون ، فإذا خان كان الله خصمه يوم القيامة ، ولذلك تجد العامل يقول لصاحب العمل : نتفق على كذا وكذا ، فيتفقان فيقول له : الله وكيل ، ويقول الله وكيل ، ثم لا يبالي بالمال ولا يبالي بالشروط ولا يبالي ويظن أن الله وكيل تنطلي وتمشي ، وهو لا يعلم أن هذه الكلمة يتقحّم بها نار الله على بصيرة .
(( ثلاثة أنا خصمهم )) تولى الله –- عز وجل -- فيهم الخصومة .
وفي الحديث الصحيح أن رجلا لما وكّل الله –- عز وجل -- في حق أخيه ولم يجد مركبا لكي يسافر في البحر فيؤدي له حقه وعجز عن ذلك ، اخترط من النخل ، ثم وضع المال في الخشبة ثم قال : (( إني قد عاقدت فلانا وأنت وكيلي في حقه وإني قد بعثت حقه إليه فاحتمل البحر ذلك المال حتى وجده صاحبه )) من يوكله الله فأمره عظيم ، ولذلك يقول - صلى الله عليه وسلم - : (( ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خصمته رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه ورجل استأجر أجيرا فلم يوفه أجره ))
يقول له : اذهب اشتكِ ، تريد أن تشتكي اشتك ، ولو اشتكى إلى جبار السماوات والأرض لقصم ظهره وساء حاله ، وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ، فهؤلاء الضعفاء تولى الله أمرهم .(6/228)
((ثلاثة )) خصهم الله –- عز وجل -- . (( أنا خصمهم ومن كنت خصمه فقد خصمته )) موضع الشاهد في قوله : (( من استأجر أجيرا فلم يوفه )) ثم انتبه لقوله : (( يوفه )) الوفاء في الأجر أن يعطيه ما اتفق عليه كاملا، وأن يوفيه الأجر في الوقت المحدد ، ولذلك قد يقول له مثلا : أنا أعطيك مثلا عشرة آلاف ريال إذا فعلت لي هذا الفعل مثلا في نهاية فعلك وعند انتهاء عملك أعطيك مالك مباشرة ، فإذا به يقوم بالعمل كاملا ويماطله ويؤخّره فيدخل في قوله : فلم يوفه أجره الوفاء في القدر والوفاء في الزمان فيراعي الزمان الذي اتفق على إعطاء المال فيه ، فلا يتأخر عنه ولا يماطل فيه ، وأيضا يراعي القدر فلا ينقصه حقه ولا ينقصه أجره . ففي هذا الحديث دليل على مشروعية الإجارة .
وأجمع العلماء –رحمهم الله- على مشروعية الإجارة وأنها من العقود الجائزة أن يستأجره ؛ سواء استأجره للعمل ، أو استأجر منه ما يملكه مثل البيت للسكنى أو السيارة للركوب ، ونحو ذلك كل هذا داخل في الإجارة ، وهو مشروع من حيث الأصل .
يقول رحمه الله : [ كتاب الإجارة ]
أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالإجارة .
الإجارة تنصب على المنافع ، والفرق بينها وبين البيع أن البيع ينصب على الذات مع المنفعة ، وتوضيح ذلك بالمثال : مثلا لو نظرنا إلى البيت ، السكن منفعته ، وكيان البيت هذه ذات البيت ، فإذا جئت تشتري وتعقد عقد البيع ، فأنت تملك الرقبة ، وتملك المنفعة فمن حقك أن تهدم البيت ، ومن حقك أن تجدد وتغير فيه ، هذا ملكك ؛ لأنك ملكت العين ومنافعها ، ولكن الإجارة تختص بالمنفعة ، فتختص بالسكنى ، فتستأجر البيت ، تستأجر الشقة لا تملك إلا أن تسكن فتنتفع لا تملك الرقبة ، وكذلك أيضا مثلا في الفندق تأتي وتأخذ غرفة تملك أن تجلس فيها فتنام ، وتأكل فيها وتشرب ، وترتفق فيها ، لكن ما تملك عين الغرفة ولا ذاتها .(6/229)
فإذاً عقد الإجارة ينصب على المنافع وقد تكون المنافع لذوات الأعيان في البيت كالسكن في البيت ، وقد تكون في المركوب مثل السيارة والطائرة والقطار والسفن هذه كلها إجارات ، فأنت حينما تقول له : أريد منك أن توصلني إلى مكة لا تملك السيارة التي توصل بها وإنما تملك أن تركب فيها منفعة الركوب ، فينصب عقد الإجارة على المنافع .
قال رحمه الله : [ وهي عقد على المنافع ] : وهي : أي الإجارة . عقد : أي إيجاب وقبول ، وأصل العقد التوثيق والإبرام ، فإذا وقع إيجاب وقبول على شيء فهو عقده ، إن كان الإيجاب والقبول على النكاح قال له : زوجتك أنكحتك بنتي فهذا عقد ، قال الآخر: قبلت هذا عقد نكاح ، إذا قال له: بعتك سيارتي بعشرة آلاف. قال الآخر : قبلت هذا عقد بيع ، فإذا قال له : أجرتك عمارتي في المدينة في المكان الفلاني بعشرة آلاف ريال في الشهر قال : قبلت هذا عقد إجارة ، فهي أي الإجارة عقد على المنافع ، والمنافع جمع منفعة ، فتشمل الركوب مثل ما ذكرنا: في السيارات والقاطرات ونحوها ، وتشمل السكنى بالارتفاق مثل : الفنادق والاستراحات ونحوها ، وغير ذلك من المنافع ، مثل: الخياطة والحدادة والنجارة من الأعمال والحرف كلها منافع تقضى بها المصالح.
قال منافع جمع منفعة والمنفعة ضد المضرة ، وهذه المنفعة تكون من الشخص أو تكون من آلته تكون من الشخص مثل أن يبني لي أو يصلّح مثل السباكة مثل النجارة فهذه كلها منافع إذا انصب عليها العقد فهي إجارة .
عقد على المنافع : فخرج بقوله عقد على المنافع العقد على الذوات .(6/230)
قال رحمه الله : [ لازم من الطرفين ] : لازم يعني لا يملك أحد الطرفين فسخه إلا برضى الآخر إذا تم العقد قال له : أجّرتك عمارتي بمليون لسنة كاملة . قال : قبلت ؛ فحينئذ إذا قال قبلت وافترقا عن المجلس على القول بأن خيار المجلس يقع في الإجارة ليس من حق صاحب العمارة أن يرجع إلا برضى المستأجر ، وليس من حق المستأجر أن يرجع إلا برضى صاحب العمارة ، فلو قال له : اتفقنا على إجارة عمارة أو دار واتفقا على ذلك وتم العقد لا يملك أحدهما فسخه إلا برضى الطرف الآخر، قال له : أريد منك أن توصلني إلى مكة قال بثلاثمائة ريال وأوصلك بسيارتي هذه مثلا على عين معينة فاتفقا على ذلك، ثم أعطاه الثلاثمائة ريال على أن يخرج به بعد ساعة وافترقا ثم جاء وقال : ما أريد فحينئذ نقول أنت ملزم والعقد لازم ، أو قال صاحب السيارة : ما أذهب بك، نقول لا خيار لك إلا إذا رضي الطرف الثاني أن يقيلك ، فحينئذ له ذلك ، لا يملك أحد الطرفين فسخه إلا برضى الطرف الآخر ، هذا معنى قوله : عقد لازم .
قال رحمه الله : [ لازم من الطرفين لا يملك أحدهما فسخها ] : لازم من الطرفين المؤجر والمستأجر ، حتى مثلا لو اتفق معه على عملية جراحية كالطبيب أو المستشفى على أن يجري له فحوصات واتفق معه على أن يقوم بهذه الفحوصات بمائة ريال مثل تصوير الأشعة ثم جاء وقال : لا . ما أريد نقول العقد لازم وليس من حقك فسخ هذا العقد إلا برضى الطرف الآخر ، وعليه فلا يملك أحدهما الفسخ إلا برضى الطرف الآخر ، الأصل في اللزوم ؛ والدليل على كونه لازما عموم قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } هذا أمر وهو عام ، فقال : { أوفوا بالعقود } والإجارة عقد من العقود .(6/231)
قال رحمه الله : [ ولا تنفسخ بموته ولا جنونه ] : ولا تنفسخ الإجارة بموت الأجير ولا موت المستأجر : لو جاء وقال له : أجرني عمارتك أريدها للموسم بمليون ، فاتفقا على إجارتها ثلاثة أشهر بمليون فتوفي المؤجر صاحب العمارة أو توفي المستأجر بقيت الإجارة كما هي ، ونقيم الورثة مقام مورثهم ؛ لأن البدل يأخذ حكم مبدله ويسد مسده ، وهذه قاعدة " أن البدل يأخذ حكم مبدله ويسد مسده "، ومن أمثلة هذه القاعدة وفروعها : الورثة نقيمهم مقام مورثهم فيما له من الحقوق وما عليه ، وحينئذ ينزل الوارث منزلة مورثه في الاستحقاق الذي يكون لمورثه فنقول له : أنت تقوم مقام مورثك في هذه العمارة تأخذها المدة المتفق عليها ، ويبقى العقد لازما .
قال رحمه الله : [ ولا جنونه ] : ولا جنونه لو أنه جن أحد الطرفين مثلا لو اتفق مع شخص مثل المثال السابق على إجارة عمارته أو إجارة سيارته ثم جُن صاحب السيارة والعمارة فإن الجنون لا يفسخ العقد ، وحينئذ يبقى العقد كما هو ويقوم ولي المجنون بعد أن يُحجر عليه مقام موليه .
قال رحمه الله : [ وتنفسخ بتلف العين المعقود عليها ] : لأنه عندنا نص؛ قوله –تعالى- : { أوفوا بالعقود } فهذا أصل أن العقود اللازمة لا تنفسخ بموت ولا بجنون كما ذكرنا أن العقود الجائزة تنفسخ بالموت والجنون كما ذكرناه في الوكالة .(6/232)
قال رحمه الله : [ وتنفسخ بتلف العين المعقود عليها أو انقطاع نفعها ] : وتنفسخ الإجارة بتلف العين المعقود عليها : لو اتفقا على أن يستأجر منه عمارة، ثم سقطت العمارة وانهدمت ، فحينئذ يتعذر إتمام العقد، ولا يمكن حسا أن يتم العقد؛ لأن العمارة أصبحت غير موجودة فينفسخ عقد الإجارة بانهدام الدار في أصح قولي العلماء –رحمهم الله- ، وإذا خشي الانهدام وظهرت دلائله كان له المطالبة بالفسخ ؛ لأنه عيب مؤثر ، -قال له : إن في السقف صوتاً قال : وما عليك أنه يسبّح لله!. قال: أخشى أن تدركه رقة فيسجد- ، فالدار إذا خشي سقوط السقف أو مثلا غرق السفينة السيارة كذلك أيضا كل هذه توجب الخيار إذا حصل عيب العيب المؤثر ، وأما إذا حصل الضرر بتلف العين فحينئذ يحكم بالفساد ، ومن هنا يفرّق بين الإجارة بالعين مثل أن يخصص سيارة فيقول له بسيارتي هذه أو بسيارتك هذه ، فإنها إذا تلفت يفوت العقد بفواتها .
قال رحمه الله : [ أو انقطاع نفعها ] : أو انقطاع نفعها : لو كان عنده مثلا مزرعة وأراد أن يستأجرها من أجل أن يجلس في ظلها ويستظل بأشجارها ، فاتفق معه على أن يستأجرها منه شهرا أو شهرين على أن يجلس فيها، وهذه المزرعة فيها ظلال صالحة للجلوس ، فانقطع الماء وفسد الزرع ولم تعد صالحة للجلوس ، انقطع النفع فهذا مثل انهدام الدار ، وعليه فإنه تنفسخ الإجارة ، ومنه مسألة إجارة الأرض للزراعة إذا غار الماء من البئر وذهب وجفّ الماء من البئر يفسخ العقد .
قال رحمه الله : [ وللمستأجر فسخها بالعيب قديما كان أو حادثا ] : انقطاع النفع أيضا من أمثلته مثلا : لو أنه استأجر عاملا ليعمل وعنده خبرة في العمل ثم أصابه مرض في عينه ، أو تلفت يده شُلت ولا يستطيع أن يقوم بالعمل ؛ فحينئذ ينفسخ عقد الإجارة على تفصيل في مسألة إجارة الأعيان والمنافع والبعض يوجب البدل .(6/233)
قال رحمه الله : [ وللمستأجر فسخها بالعيب قديما كان أو حادثا ] : وللمستأجر أي من حقه أن يفسخ الإجارة بالعيب : العيب هو نقصان المالية ، وقد تقدم معنا ضبطه في باب البيوع .
[ قديما أو حادثا ] فإذا كان العيب موجودا في الدار وهو عيب مؤثر جاز له الفسخ ، وذكر العلماء سواء كان محسوساً أو غير محسوس ، والعيب الحسي يكون بتعطيل المنافع والتضرر فيها ، يجوز له أن يفسخ ، قال له : (إن هذه العمارة فيها ماء ، وتبين أنه ما فيها ماء هذا عيب ، كان اشترط عليه أن يكون فيها ماء وتبين أنه ما فيها ماء ، وكل شرط يشترطه المستأجر ولا يجده ؛ فإنه يوجب له الخيار . وإذا وجد العيب قديما كان أو حادثا يعني طرأ وجدّ فإذا طرأ وجدّ أوجب الخيار ، مثلا لو أنه استأجر دارا ووجد في الدار عيباً يمنع الانتفاع من السكنى بها أو يحصل به ضرر على المستأجر جاز له مثلا لو –أكرمكم الله- طفحت مياه الصرف فيها ، فأصبحت الرائحة نتنة، ولا يمكن له أن يجلس فيها فهذا عيب ، ومن حقه أن يفسخ به الإجارة .
وهكذا لو خرجت المياه من الصنابير فأفسدت سقف الغرفة والدار ونحو ذلك ، هذه كلها عيوب مؤثرة وتوجب الفسخ مادام أنها تمنع المنفعة أو تعطّلها كلية أو تضيق على المستأجر في حصولها.
أما العيب المعنوي فذكر العلماء والأئمة منهم الإمام ابن قدامة –رحمه الله- سكنى الدار أن تكون مسكونة بالجن وهذا أمر ثابت ، فإذا ظهرت الدلائل على ذلك ؛ فإنه يوجب فسخ عقد الإجارة ، لأنه لا يمكنه أن ينتفع ، ويحصل عليه الضرر في هذا .(6/234)
قال رحمه الله : [ ولا تصح إلا على نفع معلوم ] : ولا تصح الإجارة إلا على نفع معلوم : هذا من شروط صحتها أن يكون النفع معلوما لا مجهولا ، فإذا استأجره على منفعة تكون المنفعة معلومة لا مجهولة ، والسبب في ذلك : أن الجهالة توجب الفساد في عقد البيع والإجارة ، فإذا كان استأجره لبناء يكون البناء معلوما قدره وحدّه ويضبطه على وجه معتبر ، وإذا استأجره لحدادة حدد له المطلوب وعيّن له المنفعة التي يريدها منه في حدادته ، ولو استأجره لنجارة كذلك أيضا يحدّدها ويحدد ماذا يريد، ولو استأجره لقطع أشياء حدد عددها وأطوالها وطريقة القطع بما يحصل به التميز، فترتفع به الخصومة ، ويزول به الغرر، لابد من كون المنفعة معلومة ، فإن كانت المنفعة مجهولة لم يصح ، ولم تجز الإجارة كأن يقول له : أعمل عندك في البناء ولا يحدد ماذا يبني ، أو يقول له : أنا نجار وسأعمل عندك في نجارة البيت ولا يحدد عمله ، فهذا عمل مجهول ، قد تظن أنه يؤدي عملا كثيرا ويتبين أنه قليل ، وقد يؤدّي كثيرا فيما لا تحب وأنت تظن أنه سيفعل ما تحب .
إذاً المجهول يفضي إلى النزاع ويفضي إلى الغرر بضياع حقك ، لأنك أنت دفعت المال وتريد مصلحة، فقد يفعل مصلحة غير المصلحة التي تريد ، وقد يفعل مصلحة أقل مما تريد ، ومن هنا شُرع التحديد فإذا استأجره لبناء جدار حدد طوله وعرضه وطريقة بنائه ، ولو استأجره للقيام على دار أو مزرعة حدّد عمله الذي يقوم به ، وحدّد المهام التي تُطلب من الأجير على وجه تزول به الجهالة ويذهب به الغرر ولا يحصل به الغرر .(6/235)
قال رحمه الله : [ إما بالعرف كسكنى دار ] : وتتحدّد هذه المنافع بالعرف كسكنى الدار مثل سكنى الفنادق ، فلها عرف في سكناه وحدده مثلا يقال : إن الساعة الثانية ظهرا مغادرة فنعلم أن بدايتها من الساعة الثانية ظهرا إلى الساعة الثانية ظهرا من اليوم الثاني يعني أربع وعشرين ساعة ، وجرى العرف أنه لو جاء في اليوم كاملا أو جاء في اليوم ناقصا أنه يدفع الأجرة كاملة ، نحتكم إلى هذا العرف ، لأن أعراف المسلمين محتكم إليها ، والقاعدة " أن العادة محكمة " ، فإذا حدد العرف هذه الأشياء رجع إليها .(6/236)
قال رحمه الله : [ أو بالوصف كخياطة ثوب معين] : مثلا قد يكون العرف من الأعراف العامة في الأسواق فيتحدد بها كما في الحِرَف وأصحاب الحرف إذا طلبوا لأعمال ومهام لها ضوابط ولها حدود عند أهل الخبرة يلزمون بهذه الحدود والضوابط ، فلا نطالبهم بأكثر منها فنظلمهم ، ولا يجوز لهم أن يؤدوا أقل منها فيظلم صاحب العمل ، وبناء على ذلك فإنها تتحدد بالعرف ويحتكم بكونه قام بالمطلوب أو عدمه إلى أهل الخبرة ، وأهل الخبرة يستندون إلى غالب ما يجري في السوق ، وقول العلماء إلى العرف يعني في السوق ، ما جرى عليه العرف بين أهل الإجارة في السوق ، فإن كانت حدادة رجعنا إلى أهل العلم لصنعة الحدادة إذا كانت نجارة فكذلك ، فمثلا لو أنه استأجره من أجل سباكة في عمارته ، هذه السباكة إذا كانت العمارة جديدة لها ضوابط ولها طرق ولها أمور يعرفها المختصون ، فجاء وقام بهذا العمل على الطريقة المعتبرة وقام بعمله كما ينبغي أن يقوم به الأجير يستحق أجره كاملا ؛ لماذا ؟ لأن العرف حدد عمله ولما سئل أهل الخبرة قال قام بعمله كما ينبغي ، يستحق ، كذلك أيضا لو كان في نجارة فجاء ينجر الخشب لعمارة أو ينجر مثلا في صنع المفصلات في الأخشاب كالأبواب والشبابيك ونحوها ففعل فعله كما هو معروف عند أهل الخبرة بالعرف نفسه عند النجارين فحينئذ يستحق ، فقد لا تستطيع أنت أن تحدد له كل شيء ، ما تستطيع أن تجلس معه وتقول بطول كذا وعرض كذا ، إذا يرجع إلى العرف فلا يجوز أن يبخسك حقك ، فيفعل لك فعلا دون ما هو متعارف عليه بين الناس ولا يجوز لك أن تطالبه بهواك وما تشتهي فوق ما تعارف عليه ، فإن كانت هناك صفة كمال بمعنى مثلا جرى العرف أنه يرفع هذا الجدار إلى مترين وأردت أنت أن يزيد على هذا المترين شبرا ، ليس من حقك إلا بحقه ، إلا في حالة واحدة وهي أن تشترط عليه أن يفعل المترين ويزيد عليه شبرا ، أما العرف فإنه يدل على أنه حقه يكون كاملا حينما يكون بهذا القدر(6/237)
المتعارف عليه بين الناس ، وقس على هذا مثلا حينما يستأجر شخصا يوصله إلى مكة جرى العرف أنه إذا كان محرما بالعمرة أنه ينزله عند الحرم ، فجاء ووضعه على حدود مكة على طرف مكة عند التنعيم قال له : أنا اتفقت معك إلى مكة ، مكة معناه أن توصلك عند طرف حدود مكة ، هذا الاتفاق بيننا نقول : لا ما يصح لأنه جرى العرف أنه يذهب به إلى المسجد أو يذهب به إلى موقف السيارات ، فإذا جاء ينزله دون ذلك كان فيه ظلما كان في ذلك ظلم للمستأجر ، العكس لو أن العرف جرى أن يوصله إلى موقف السيارات فقال له : بل توصلني إلى بيتي ، وبيته أبعد من موقف السيارات إما أن يشترط عليه من الابتداء أو يدفع له الأجرة ، إذًا الأعراف مؤثرة ، فإذا قال له : توصلني إلى مكان وجرى العرف أن طرف المكان هو حد الوصول اعتبر الطرف ، وإن كان العرف جرى بأنه يوصله إلى داخل المكان لزمه أن يدخل به إلى داخل المكان ، هذا العرف ، فإذا اتفقا على تحديد أقل من العرف أو أكثر من العرف على حسب كان على حسب اتفاقهما ، فلو قال له : سيارتي الأصل أنني أوصلك إلى الحرم ، ولكني لا أستطيع لأن هناك زحاما فسأوصلك إلى طرف مكة، قال : قبلت كان هذا الشرط من حق السائق وحينئذ لا يلزم بالعرف ، يلزم بالاتفاق ، والعكس في الكمال إذا اشترط أمرا زائدا عن العرف وهذا غالبا ما يكون من المستأجر ، وقس على هذا بقية الأمور .(6/238)
قال رحمه الله : [ أو بالوصف كخياطة ثوب معين أو بناء حائط أو حمل شيء إلى موضع معين ] : أو بالوصف كخياطة ثوب معين إذا كان العرف فيه أشياء متعددة فيجب أن يحدد ولا يطلق ، فإذا قال له : فصل لي ثوبا ، والثوب تارة يكون على تفصيل يعني هناك أنواع معددة من التفصيل ينبغي أن يحدد هذا التفصيل ، إلا إذا جرى العرف بتفصيل معين هو الغالب على الناس، ويصبح هو الأساس فإذا قال له : فصل لي ثوبا وسكت انصرف إلى هذه الصفات المعروفة ، فإن خرج عنها حينئذ يؤثر في العقد، ويكون الخيار للمستأجر ، إذاً يتقيد بالعرف ، فإن وجد في العرف أكثر من شيء يجب أن يعين ويحدد ؛ لأنه لا يكون فيه إبهام ، فإذا تردّد بين أكثر من شيء وهي مختلفة في صفاتها فإن هذا يؤدي إلى النزاع ، وحينئذ يحدد ، مثلا لو أنه استأجر سباكا على أن يصلح شيئا ، وكان هذا الشيء يقع على صفات ، والعرف فيه أكثر من صفة، وكلها أجرتها واحدة ؛ فحينئذ يحدد أي الصفات يريد، وليس له أن يتركه ، ثم يأتي ويطالبه بالأكمل ؛ لأن الأكمل لا يكون إلا مستحقا بالشرط .
قال رحمه الله : [ أو بناء حائط ] : أو بناء حائط : يحدد له الحائط مكانه ، والقدر بطوله ، وصفة البناء .
قال رحمه الله : [ أو حمل شيء إلى موضع معين ] : أو حمل شيء إلى موضع معين : استأجره ليحمل متاعه إلى مكان يحدد هذا المكان ، ويقول كما ذكرنا إذا كان إلى مدينة يحددها ، وهكذا إذا كان داخل المدينة نفسها يحدد ؛ لأن العلم مطلوب بالمهمة المتفق عليها في الإجارة ، ولا يجوز أن يستأجره على شيء مجهول .(6/239)
قال رحمه الله : [ وضبط ذلك بصفاته ] : وضبط ذلك بصفاته : التي تزول بها الجهالة من الطول والعرض والارتفاع ونوعية العمل ، كل هذا مطلوب ، في بعض الأحيان هناك عدة مواصفات قد تكون هذه المواصفات على ثلاثة أنواع : نوع أفضل، ونوع رديء، ونوع وسط بين الأفضل والرديء ، فهذه الثلاث إذا كان لها في أي شيء موجودة في شيء فإنه ينبغي أن يحدد ماذا يريد منها، وإذا جرى العرف أن العامل يقوم بالوسط فإنه لا يطالبه بالأفضل إلا بالشرط كما ذكرنا ، ولا يجوز للعامل أن ينزل للأردأ إلا إذا اشترط ، فإذا لا يَظْلم ولا يُظْلم ، لا يَظْلم بأن يؤدي الأردأ فهذا غش وعدم نصيحة ، ولا يُظْلم بأن يطالب بالأفضل إلا إذا اشترط .
قال رحمه الله : [ أو معرفة أجرته ] : ومعرفة أجرته ينبغي أن يحدد الأجرة فلا تصح الإجارة بالمجهول ، فإذا جاء مثلا يستأجر أجيرا للعمل فينبغي أن يحدد له العمل ، يلاحظ فيما تقدم أن التحديد يكون بالزمان في بعض الإجارات ، مثلا : لو استأجر عاملا في العمل قبل أن ندخل في الأجرة حتى يتضح الأمر أكثر إذا استأجر عاملا للعمل فتارة يكون التحديد بالزمان ، والعمل غير محدد يعني لا يطالب فيه بشيء معين ، وهي الإجارة باليومية ، وهي المياومة والمسانهة والمشاهرة ، فإجارة اليومية مثل الإجارة في السوق، والإجارة بالشهر مثل الإجارة على الزرع يكون عاملا في المزرعة يعطيه أجرته شهريا ، والأجرة بالسنة مثل إجارة الدور والعقارات ، فتتحدد الإجارة بالزمان ، وتتحدد بالعمل ، وفي العمل تتحدد بالصفة التي ذكرناها أنه لابد من وجود صفات تزول بها الجهالة ولا يكون فيها غرر .(6/240)
وهنا شرع في الركن الثاني وهو الأجرة ، الأجرة ينبغي أن تكون معلومة ، لقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من استأجر أجيرا فليعلمه أجره )) ولأن الإجارة عقد معاوضة كالبيع فلم يصح بالمجهول ، بمعنى أن يجري القياس ، فنقول : لا تصح الإجارة بالأجرة المجهولة كما لا يصح البيع بالثمن المجهول ، بجامع كون كل منهما عقد معاوضة ، فلماّ حَرّم النبي –- صلى الله عليه وسلم -- البيع بالمجهول ونهى عن الغرر؛ فإننا نمنع الإجارة كما منعنا البيع بجامع كون كل منهما عقد معاوضة ، والمفاسد التي من أجلها حرم البيع بالمجهول موجودة في إجارة المجهول ، فحرُم هذا كما حرُم هذا ، فلابد وأن تكون الأجرة معلومة ، معلومة النوع والقدر ، فلو قال له : أريدك أن توصلني إلى الجامعة بكم ؟ قال: يا أخي ما نختلف تفضل السيارة سيارتك هذا ما يجوز ؛ إلا إذا كان غلب على ظنه أن الرجل أمين ، ويثق به هذا أمر آخر ، لكن من حيث الأصل الإجارة بالمجهول ما نختلف إن شاء الله الذي تجيء به خير وبركة ، فإذا جاء يعطيه الشيء الذي يريد أن يجيء به خير وبركة لا يرضى به ، وقد يكون فعلا أجرة مثله ، لكن يقول أنا حقي أكثر والغريب أن بعضهم يحسن التعامل مع الناس فإذا رآه ديِّنا قال إما أن تعطيني كذا أو أدعو عليك ، وهو يعلم أنه سيخاف الله –- عز وجل -- وكما هو معلوم أن الإنسان يخاف من الدعاء عليه ، يقول : ريال أو ريالان لا بأس ، ولا يدعو علينا ، فالمشكلة أن هذا سببه مخالفة السنة ، المفروض أن يحدد الأجرة ، وأن يحدد المال الذي له ، فإذا جاء يركب ما يقول: بكم ؟ يقول له بخمسة ريالات بعشرة ريالات ، فإن قال له ركب معه وسكتا وأوصله إلى المكان لم يجب عليه إلا أجرة المثل المتعارف عليها ، فإذا سكت صاحب السيارة وسكت الراكب استحق أجرة المثل، من عادة الناس أن يركبوا مثلا من الجامعة إلى الحرم مثلا بخمسة ريالات ، ففي هذه الحالة لا يستحق إلا الخمسة ، فلو قال : أريد عشرة(6/241)
أريد سبعة لم يجب عليه إعطاؤه ؛ لأنه إذا جرى العرف بمال في مثل هذه السيارة ومثل هذه المنفعة لم يجز أو لم يُلْزم بأكثر منها إلا إذا جرى بالشرط ، فكان المفروض على صاحب السيارة أن يقول : أوصلك بسبعة ومن حقك إذا كنت صاحب سيارة أو صاحب دار أن تطلب أكثر من الأجرة الموجودة في العرف من حقك هذا مالك ، لكن ينبغي أن تعلمه قبل أن يركب ، وتعلمه قبل أن يأخذ العين المؤجرة أو المنفعة .
قال رحمه الله : [ وإن وقعت على عين فلابد من معرفتها ] : وإن وقعت على عين فلابد من معرفة العين ، على عين مثلا قال أؤجرك عمارة لابد أن يبين أين هذه العمارة ، وقال : أؤجرك عمارة يقول من طابقين في كل طابق شقة شقتان ، وكل شقة فيها أربع غرف ، هذه العمارة في وسط المدينة ، خارج المدينة ، على شارع كذا لابد أن يعرف على عين ليستأجرها ، أو أرض يريد أن يزرعها يقول مثلا خارج المدينة أو فيها بئر ، وهذه البئر مثلا فيها ماء لثلاث ساعات فيها ماء لأربع وعشرين ساعة، فيها ماء ثلاث بوصات ؛ لأن هذا يؤثر في الانتفاع من العين ، وحينئذ يصدق الإنسان الرغبة في العين، ويرى أنها تناسب ، ويمكنه أن يتحصل على المنفعة التي يريدها أو يمتنع ، فإذا لابد من وصف العين المؤجرة بحيث لا يكون هناك غرر .
قال رحمه الله : [ ومن استأجر شيئا فله أن يقيم مقامه من يستوفيه ] : ومن استأجر شيئا فله أن يقيم مقامه من يستوفي ذلك الشيء ، لو استأجرت شقة وعدلت عن سكناها استأجرتها سنة باثني عشر ألفا ، وعدلت عن سكناها ، وأعطيتها لابن عمك أو ابنك أو قريبك تقيم غيرك مقامه ؛ لأنك ملكت المنفعة ، وحينئذ من حقك أن تأخذها أو تقيم غيرك مقامك ، بشرط أن يكون هذا الغير مثلك أو دونك وأن لا يكون فيه ضرر أكبر ، وحينئذ إذا تحقق هذا الشرط جاز أن تقيمه مقامك .(6/242)
قال رحمه الله : [ فله أن يقيم مقامه من يستوفيه بإجارته أو غيرها ] : بإجارة أو غيرها ، من حقك أن تقيم الغير مقامك بنقود مثل أن يستأجر العمارة لنفسه بمليون مدة الموسم ، ثم يؤجرها على الحجاج والزائرين، فأقام الحجاج والزائرين مقام سكنى نفسه ، فهذه إقامة الغير مقامه لكن بأجرة ، وقد يقيم غيره مقامه بدون أجرة كما ذكرنا في القريب كابنه وابن عمه فوهب له ذلك بدون مقابل .
قال رحمه الله : [ إذا كان مثله أو دونه ] : هذا شرط إذا كان مثله أو دونه ، هو يريد أن يسكن وهذا يريد أن يسكن ، وأما إذا كان أكثر ضررا منه مثل استأجر دكانا وقال لصاحب العمارة أو صاحب الدكان أنا أريد هذا الدكان بقالة، واتفقا على ذلك فأجّره إياه على أنه بقالة ، ثم عدل عن وضع البقالة في الدكان ، وأجره على غيره ، فأراد الغير أن يفتحه محلا للسمكر وإصلاح السيارات . أولا إزعاج وثانيا فيه ضرر على من يسكن في العمارة ، فإذا فيه ضرر وفي بعض الأحيان قد يؤجره على مثلا أصحاب الحرف والأعمال التي عندهم مكائن ، فتتضرر العمارة ويتضرر أساسها، والأجرة مع الضرر ليست كالأجرة بدون ضرر ، فحينئذ ليس من حقه ذلك ، لأن ضرره ومفسدته أعظم ، ويقاس على هذا بقية المسائل ، مثلا في بعض الأحيان إذا أقامه على أساس يستوفي منفعة دونه وتكون هذه المنفعة فيها مثلا رفقاً للمستأجر .(6/243)
قال رحمه الله : [ وإن استأجر أرضا لزرع فله زرع ما هو أقل منه ضررا ] : وإن استأجر أرضا لزرع المزروعات تختلف ، بعض المزروعات أعظم ضررا من بعضها ، يعني مثلا بعض المزروعات إذا زرعت وبذرت وخرجت يكون حصادها على وجه الأرض دون حفر ودون قلع من الأرض ، فهذا لا يكلف صاحب الأرض مؤونة بعد انتهاء المستأجر ، لكن هناك مزروعات إذا زرعت وأراد أن يأخذها قلب الأرض وعزقها وأخرج منها ما فيها ؛ فحينئذ إذا انتهى من الإجارة يتضرر صاحب الأرض بإعادة الأرض إلى ما كانت عليه ، فإذا استأجر الأرض للزراعة وكان الذي اتفقا عليه على أنه يزرعها للحب أو مثلا للكُراث أو للبرسيم ثم أراد أن يزرع فيها المغيب في الأرض مما يحتاج إلى قلع وحفر وهذا يضر بالأرض ، فإنه ليس من حقه ذلك ، إلا إذا رضي صاحب الأرض أو اتفقا على الإجارة بحقها ، الشاهد في هذا أنه لا يقيم غيره مقامه إلا إذا كان مثله أو دونه في الضرر .
قال رحمه الله : [ فإن زرع ما هو أكثر منه ضررا أو يخالف ضرره ضرره فعليه أجرة المثل ] : أو يخالف ضرره ضرره : يعني مثلا إذا كان الشيء فيه ضرر مماثل لضرر الإجارة ، ولكنه يخالف ليس هو نفس الضرر ؛ فإنه حينئذ له أجرة المثل من حقه أن يقول : أنا اتفقت معك على شيء وأنت غيرت الشيء إلى شيء فيه ضرر أعظم فأنا أريد أجرة المثل ، مثلا لو أخذ منه الدكان من العمارة لكي يكون بقالة كما ذكرنا ثم أراد أن يفتحه للسمكرة أو يفتحه مثلا لتصليح السيارات أو نحو ذلك فهذه ضررها أعظم على الدكان وعلى صاحب العمارة فقال: إن العرف جرى أن هذا الدكان إذا أجر لهذه الحرف والأعمال تكون الأجرة بعشرين ألفاً ، وأنت قد أعطيتني خمسة عشر ألف ، فإذا إما أن تعطيني عشرين ألفاً فتزيدني خمسة آلاف ريال ، وإلا فسخت العقد يطالب بأجرة المثل من حقه .(6/244)
قال رحمه الله : [ وإن اكترى إلى موضع فجاوزه أو لحمل شيء فزاد عليه فعليه أجرة المثل ] : نفس الحكم يكون هذا في إجارة الأماكن والأعيان وإجارة الدواب ، فإذا استأجره لحمل متاع قال له: أريد منك أن تحمل متاع -أثاث بيت- وتوصله إلى جدة فاتفقا بثلاثمائة ريال ، ثم عدل عن ذلك وجاءه بأمر أعظم من المتاع وأثقل من المتاع ويؤثر على السيارة وعلى الدابة ، وهذا الشيء مثلا قطع غيار وقال له : أريد منك أن تحملها وهي ثقيلة ، فهذه القطع التي يريد منه أن يوصلها قيمتها بإجارة مثلها بخمسمائة ريال واتفق معه بثلاثمائة ريال على النوع الأول الأخف ضرراً فنقول له : أنت بالخيار إما فسخت أو أخذت أجرة المثل ، وهكذا لو قال له : أريد منك أن تحمل ثلاجات إلى جدة ثم عدل عن حمل الثلاجات إلى حمل ما هو أثقل منها وأكثر ضررا فالحكم أن ننظر في هذا الشيء الذي عدل إليه وهو أكثر ضررا فننظر إلى قيمته ونخيره بين أن يفسخ العقد أو يأخذ أجرة المثل إذا لم يرض.َ
قال رحمه الله : [ فعليه أجرة المثل للزائد وضمان العين إن تلفت ] : وضمان العين إن تلفت ضمان العين إذا جاوز محل الإجارة ، مثلا في زماننا قال له : أستأجر منك هذه السيارة قال له : بمائة ريال في اليوم ، ولكن داخل المدينة فأخذها وقلنا : إن يده يد أمانة ما لم يتعدَّ أو يفرط ، فخرج عن المدينة وحصل ضرر بالسيارة يضمن ، وهكذا لو قال له : أريد هذه السيارة لأذهب بها إلى مائة كيلو من المدينة ، فقال له : ادفع مائة ريال ، ريال عن كل كيلو ، فاتفق على أنها مائة كيلو من المدينة ، فجاوز إلى مائتين أو إلى مائة وخمسين وجبت أجرة المثل في الزائد ، وإن حصل ضرر على السيارة في الزائد وجب ضمانه ؛ لأن هذه حقوق على حسب الاتفاق ، فما زاد فبحسابه .(6/245)
قال رحمه الله : [ وإن تلفت من غير تعدٍّ فلا ضمان عليه ] : وإن تلفت من غير تعد فلا ضمان عليه بالنسبة للأجير أن يده يد أمانة ، فإن تعدى مثلا حمّل السيارة ما لا تتحمل فحصل ضرر بالسيارة بهذا الحمل الزائد وقال أهل الخبرة : إن سبب التلف هو الحمل الزائد ضمن ووجب عليه إصلاح ما فسد ، وهكذا لو أنه استأجر عمارة ، وهذه العمارة في الدور استأجر منها دورا كاملا كالدور الأول أو الثاني أو الثالث ، ووضع في هذا الدور الثاني أو الثالث كتبا ثقيلة أو أشياء ثقيلة فأثرت في السقف حتى تهدّم أو حصل منه ضرر ، ولم يخبره بذلك فإنه يضمن ؛ لأن هذا فيه تعدٍ ، وقس على هذا من المسائل ، إذاً هو يده يد أمانة فيما ائتمن عليه إلا إذا تعدى .
قال رحمه الله : [ ولا ضمان على الأجير الذي يؤجّر نفسه مدة بعينها فيما يتلف في يده من غير تفريط ] : إذا استأجره مثلا باليومية في المزرعة ، وجعله عاملا في المزرعة ، فقام هذا العامل بسقي الماء ، وإدارة المكينة ، ومتابعة المزرعة ، فلما جاء الصباح يدير المكينة أدارها فلما اشتغلت حصل ضرر وتلفت المكينة دون تعدٍّ ودون تفريط لا يضمن ، ولو أنه قال له : خذ هذه السيارة واعمل بها سيارة أجرة وأعطيك كل يوم مائة ريال ، أو أعطيك في الشهر ألفين ريال ، فاتفقا على أنه يقوم بتشغيل السيارة وتأجيرها أو الباص أو نحو ذلك فقام بسياقته بالطريقة المعروفة عند أهل الخبرة وحصل للسيارة ضرر فإنه لا يضمن ، هذا الأجير الخاص ، وهكذا لو جعله يرعى الغنم ، فقام على رعاية الغنم أو حفظ شيء كأن يقوم على حراسة المكان ولم يفرّط ولم يهمل ؛ فإنه لا يضمن ما حصل من غير تفريط ولا إهمال ولا تعدٍّ .
قال رحمه الله : [ ولا على حجّام ] : ولا ضمان على حجام .(6/246)
قال رحمه الله : [ ولا على حجام أو ختان أو طبيب إذا عرف منه حذق في الصنعة ولم تجنِ أيديهم ] : الحجامة نوع من أنواع الطب ، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن يكن الشفاء ففي ثلاثة وذكر منها شرطة من محجم أو آية من كتاب أو كية من نار ولا أحب أن أكتوي )).
فالحجامة نوع من الطب ، فإذا حجم الحجام يشترط فيه :
أولا : أن يكون عنده علم بالصنعة .
وثانيا : أن لا يتجاوز حدود الصنعة .
فإذا جاء يحجم تكون حجامته بالطريقة المتبعة عند أهل الخبرة ، فلو أنه حجم وهو جاهل ضمن ، ولو أنه حجم فخالف أصول الصنعة ضمن ، إذاً قد يكون جاهلا فيضمن ؛ لقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن )) وهو حديث صحيح ، فيضمن ، لو مات المريض لزمته الدية ، فإن قصد قتله كان قتل عمد ، ويلزمه القصاص ، لكن إذا كان جاهلا فإنه يضمن جميع ما ينشأ عن طبه من الضرر ، حتى ولو أدى إلى النفس فسرى الجرح ومات تلزمه الدية ، الحجام فإذا كان المريض يشتكي رأسه وجرت العادة أن يُحجم في موضع معين من الرأس وهناك موضع آخر فيه الخطورة فحجمه في الموضع الخطير ضمن ، وإذا كان في الحجامة أن يشرط ثلاث شرطات ، فجاوز إلى أربع تعب مريض وحصل له ضرر من هذا النزف ضمن ، إذاً أن يكون عنده علم ، وأن يطبق هذا العلم ، وهو ما يقولون أن لا يتجاوز حدود الصنعة .
وكذلك الخاتن ففي الختان إذا كان عنده علم، وشهد له يكون العلم معروفا بشهادة أهل الخبرة فيجرب ويعرف هل عنده معرفة أو لا .
وثانيا : أن يكون عمله في الختان موافقا للمتبع ، فإذا جاوز في قطع الحد المعتبر ضمن ، فجاوز بقطعه إلى الحشفة ضمن .(6/247)
ومن هنا نص العلماء على أنه لا يضمن إذا كان عالما بالختان ، ولم يجاوز الحد المعتبر ، فإذا حصل ضرر فهذا قضاء وقدر ، إذا طبق أصول المهنة وحصل ضرر ؛ فإنه لا يضمن ، وهكذا الطبيب فالأطباء ومساعد الأطباء كالممرّضين وكل من يقوم بمهمة تعين الطبيب على طبه مطالب بأمرين :
أولا : أو يكون عنده علم ومعرفة ، فيتحمل المسؤولية إذا كان جاهلا .
وثانيا : أن يؤدي مهمته وفق الأصول المتبعة عند أهل الخبرة .
فإذا أخل بأحد هذين الشرطين فإنه يضمن ، وهكذا إذا أخل بهما .(6/248)
والأصل في ذلك قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من تطبّب ولم يعرف منه طب فهو ضامن )) وبيّن العلماء وذكر الإمام ابن القيم –رحمه الله- في الهدي أن قوله عليه الصلاة والسلام- : (( من تطبب )) عام وليس بخاص ، فيشمل جميع أنواع الطب ، وكانوا عندهم من يطبّب بالمحاجم وهو الحجام ، ومن يطبّب بمشرطه وهو الجرائحي إلى غير ذلك ، من يطبّب بمبضعه وهو الخاتن ونحو ذلك كل هؤلاء يضمنون ، ومن أمثلتها الصيدلي مثلا حتى ولو كان يصرف الدواء ، فالذي يصرف الدواء إذا كان جاهلا وليس عنده علم ومعرفة فأخطأ وصرف دواء غير الدواء المعتبر وحصل ضرر وتساهل في المتبع عند أهل الخبرة لأن المتبع عند أهل الخبرة أنه إذا شك في حرف من هذه الورقة التي تصله من الطبيب أنه لا يصرف ، وأنه ينبغي عليه أن يراجع الطبيب، وأن يسأل الطبيب هل يقصد كذا أو كذا فلم يسأله فحينئذ خرج وأهمل وقصّر ، فلو أن هذا الدواء حصل من ورائه ضرر ثم جاء واحتج بأن الحرف غير واضح نقول : أنت خرجت عن الأصول المتّبعة ؛ لأنك أقسمت على أنك تتبع أصول المهنة، وأنك ترفق بمريضك ، وأنك لا تتسبب في ضرره وهذا كله خلاف ما فعلت ، كان المنبغي أن تتصل بالطبيب وأن تسأله فيضمن ، وهكذا بالنسبة للتصوير بالأشعة ، فلو زاد الجرعة خرج عن الأصول المعتبر ، أو قام بالتصوير بالأشعة وهو جاهل، وحصل ضرر من تصويره فإنه يضمن ، وهكذا بالنسبة لأوضاع التصوير، حتى ولو أن الطبيب طلب منه أن يصوّر بالأشعة وليس هناك حاجة ، ومثل الذي يشتكي منه المريض لا يصور بالأشعة فأدخل وصور الأشعة وحصل ضرر من تصويره فإنه يضمن ، ولو كانت امرأة حاملا ، ثم أدخلها لكي تصور بالأشعة فإن المعروف والمتبع عند أهل الخبرة أنها لا تعرض للأشعة ، فهذا إهمال فحينئذ يتحمّل ، كل هذا ضبطه العلماء –رحمهم الله- بهاتين الكلمتين :
أولا : أن يكون عنده علم بالمهمة التي يقوم بها .(6/249)
وثانيا: أن يقع عمله موافقا للأصول المتبعة عند أهل الخبرة .
وهذان الشرطان يحفظهما طالب العلم فأكثر المهن وأكثر الحرف يكون الضمان فيها من أحد هذين الوجهين أو منهما معا ؛ إما أن يكون الإنسان جاهلا ، أو يكون متجاوزا للحدود المعتبرة أو مقصر في تعاطي الأسباب ، فكل هذا يوجب الضمان .
قال رحمه الله : [ ولا على الراعي إذا لم يتعدَّ ] : ولا على الراعي إذا لم يتعدَّ ، فالذي يقوم برعاية الغنم ينبغي عليه أن يبذل الأسباب في حفظها ، فلو عرف أن هذا الوادي فيه ذئاب فتعدّى الموضع الآمن إلى الموضع الخطير، فتلف شيء من الغنم والقطيع فإنه يضمن لأنه تعدى ، أو قال له صاحب الغنم: لا تجاوز هذا الشعيب أو لا تجاوز هذا الجبل أو لا تذهب إلى هذا الموضع فذهب فإنه يضمن ، أو قال له : لا ترعَ في داخل الوادي فإني لا آمن السيل، فنزل ورعى فجاء السيل واحتمل الغنم فيجب عليه ضمانها كاملة ، إذاً هؤلاء أهل الصنعة إذا تعدّوا فإنهم يتحملون مسؤولية تعديهم .
قال رحمه الله : [ ويضمن القصّار والخيّاط ونحوهما ممن يتقبل العمل ما تلف بعمله ] : ويضمن القصّار والخياط ونحوهما ما تلف بعمله هذا الأجير المشترك فيما يغاب عليه لو أنك مثلا طلبت من خياط أن يخيط لك ثوبا وأعطيته القماش ثم أثناء الخياطة تلف الثوب فإنه يضمن ، وهكذا بالنسبة للحداد والنجار ونحوهم وهو الأجير المشترك.
قال رحمه الله : [ دون ما تلف من حرزه ] : دون ما تلف من حرزه : كأن يسرق منه ويؤخذ دون أن يكون هناك إهمال في الحرز ، فالأول الراعي للغنم ونحوه كالخاتن والحجام هذا يسمى بالأجير الخاص ، والثاني الأجير المشترك يعطى هذا لكي يعمل به في دكانه أو بيته .
باب الغصب
قال رحمه الله : [ باب الغصب ] :
الغصب في لغة العرب : القهر ، وعرفه المصنف في الاصطلاح بالتعريف الذي سيذكره رحمه الله برحمته الواسعة .
الغصب من الاعتداءات وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع .(6/250)
أما كتاب الله فإن الله –تعالى- حرم أكل مال المسلم بدون طيبة نفس منه فقال سبحانه : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } فحرم على المسلم أن يأكل مال أخيه بالباطل ، أي بدون وجه حق، والغصب أكل للمال بدون وجه حق .
وكذلك أيضا دلت السنة في الحديث الصحيح عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنه قال : (( من ظلم قِيد شبر من الأرض طُوّقه يوم القيامة من سبع أراضين )) فهذا الحديث الصحيح يدل على تحريم الغصب ، واختلف العلماء في قوله : (( طوقه يوم القيامة من سبع أراضين )) :
فقال بعض العلماء : إن الله يمد عنقه حتى يسع سبع أراضين ، والله على كل شيء قدير ، فلا يعجزه - سبحانه وتعالى - شيء ، والكافر ضرسه وهو يعذب في نار جهنم قدر جبل أحد -قرابة أكثر من خمس كيلو- ، فالله لا يعجزه شيء ، فقالوا : إن الله يمدّ عنقه –نسأل الله السلامة والعافية- إلى هذا القدر .
وقيل غير ذلك وعلى كل حال الحديث دال على تحريم الغصب ، ودلت عليه المنهيات الواردة عن رسول الله في الاعتداء على أموال المسلمين ، ومنها أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في خطبة حجة الوداع قال : (( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت قالوا نعم قال اللهم فاشهد )).
فهذا يدل على تحريم الاعتداء على أموال المسلمين ، والغصب فيه اعتداء .
وكذلك أيضا أجمع العلماء –رحمهم الله- على تحريم الغصب وأخذ أموال الناس بالقهر ، وأنه من كبائر الذنوب ؛ لأن الكبيرة هي التي ورد عليها الوعيد، وهي التي سمى الله ورسوله كبيرة أو ورد عليها الوعيد بحدٍّ أو عقوبة في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معا ، أو وعيد بنفي إيمان ونحو ذلك ، فضابط الكبيرة ينطبق على الغصب ؛ لأنه قال : (( من ظلم قِيْد شبر من الأرض طوّقه يوم القيامة من سبع أراضين )) فهذا يدل على أنه كبيرة من كبائر الذنوب ، حتى ولو كان شيئا يسيرا ، فالغصب من المحرمات .(6/251)
يقول رحمه الله : [ باب الغصب ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالغصب .
قال رحمه الله : [ وهو استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق ] : وهو أي الغصب استيلاء الإنسان على مال غيره بغير حق ، هذا الاستيلاء إن كان خفية ودون علم صاحبه وكان المال في حرزه بشرطه فهو سرقة ، وإن كان عيانا وأمام الناس فهو غصب ، فيؤخذ المال بالقهر والقوة وهو يعلم من أخذ ، والسرقة عكسه أنها تكون خفية ، بل لا يعلم من الذي سرق غالبا .
وقوله استيلاء على أموال الناس : يشمل الأثمان ، والمثمونات ، فلو أخذ منه مالا من جيبه قهرا قليلا كان أو كثيرا فهذا غصب ، ولو أنه أخذ مثمونا مثل متاعه قليلا كان أو كثيرا بدون حق فهو غصب، فلو أراد أن ينام فمنعه من فراشه ، أو كان في برد فأخذ غطاءه ولحافه ومنعه منه فهو غصب ، فقد غصبه وحرمه ، يكون الغصب بأخذ المال ويكون الغصب بتعطيل المنافع حتى لا ينتفع بها ، لكن المراد هنا أخذ المال .
قال أخذ المال بدون حق : أي ليس له وجه حق ، فخرج الذي يكون فيه أخذ المال بوجه حق يعني بالوجه المعتبر شرعا .
قال رحمه الله : [ من غصب شيئا فعليه رده ] : من غصب شيئا : نكرة تفيد العموم قليلا كان أو كثيرا ، فعليه أي يجب ويلزمه رده هذا الحكم المنبني على الغصب :
أولا : أنه آثم شرعا ، وهذا بإجماع العلماء وحينئذ يجب عليه أن يستغفر وأن يتحلّل صاحب الحق؛ لقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( من كانت له مظلمة عند أخيه فليتحلل منها )) .
وثانيا : أنه يحقق هذه التوبة برد المال إلى صاحبه ، فيرد المال المغصوب إلى من غصبه ، والرد يكون بعين المال مادام موجودا ، فعليه رد المال .(6/252)
قال رحمه الله : [ فعليه رده وأجرة مثله إن كان له أجرة مدة مقامه في يده ] : وقوله قال - صلى الله عليه وسلم - : (( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )) فبيّن أنه يجب رد الحقوق إلى أصحابها ، وعليه الأجرة لو أنه عطّل هذا الشيء مدة فرضنا مثلا أنه في كل يوم له أجرة بمائة وعطله خمسة أيام فيجب عليه أمران: ضمان العين بردها ، وضمان قيمة المنفعة -منفعة العين- وهي الخمسمائة ريال أجرة هذه الأيام التي احتبسها ومنع صاحبه من الانتفاع به ؛ سواء كانت من الإنسان أو الحيوان من العقار أو غيره العقار، أو المنقول كل هذا يجب ضمانه بالرد ورد أجرته إن كانت له أجرة .(6/253)
قال رحمه الله : [ وإن نقص فعليه أرش نقصه ] : وإن نقص المغصوب فعليه أرش النقص ، اليد يد الضمان يجب فيها ضمان النقص وضمان الزيادة ، فهو يرد المغصوب ؛ سواء كان زائدا بزيادته ((وليس لعرق ظالم حق)) ، ويرد المغصوب ناقصا ويضمن النقص ، فيقدر تقدر العين كاملة كم قيمتها وتقدر ناقصة كم قيمتها ، فينظر ما بين القيمتين ، ووجدنا أنه الربع ، فننظر إلى قيمة العين في السوق ، ونلزمه بدفع ربع القيمة في السوق ، فلو أنه اغتصب عينا ، وكانت هذه العين لو بيعت قبل الغصب على حالها حين غصبها تباع بمائة ، وبعد أن حصل فيها الضرر تباع بخمس وسبعين ، فمعنى ذلك أن الضرر أنقصها الربع ، فنسأل كم قيمة العين الآن ؟ قالوا : إن قيمتها مائتان ، فحينئذ يجب عليه أن يدفع خمسين ريالا وهي الربع ، الأرش أن نقدّره سالما ، ونقدره معيبا ، ثم ينظر الفضل بين القيمتين النسبة أن يقدر الشيء كاملا وهو كامل بدون عيب كم قيمته ؟ ويقدر بالعيب كم قيمته ؟ ثم ينظر كم النقص ،؟ فإذا عُرف النقص بحسابه نُظِر نسبة هذا النقص إلى قيمة العين ، هذه النسبة تعتبر في قيمة العين في وقتها يجب عليه ضمان تلك النسبة منها ، هذا الذي يسمى بالأرش عليه ضمان الأرش ، إذاً إذا غصب شيئا ؛ إما أن يزيد ، وإما أن ينقص ، والزيادة تكون بحسن الحال كالسِّمَن مثلا لو اغتصب منه دابة وهي هزيلة فأطعمها وعلّفها فأصبحت سمينة ؛ فإنه حينئذ صارت فيها زيادة وهذه الزيادة متصلة ، أو اغتصب منه العين مثل الغنم والقطيع من الغنم أو البقر فأضربها الفحول حتى ولدت فهذه زيادة منفصلة ، فالزيادة المتصلة والمنفصلة تابعة للمال المغصوب فيجب عليه رد الزيادة ، المتصلة والمنفصلة في أصح قولي العلماء –رحمهم الله- ؛ لأن الفرع تابع لأصله ، والقاعدة أن " الفرع تابع لأصله" والسؤال كيف تركب هذا ؟ تركب من اليد فيد هذا الغاصب يد ضمان ويد الضمان يجب عليها أن تؤدي ، وهذه العين قد حصل لها زيادة فهي في(6/254)
ملكية المغصوب منه ، (( وليس لعرق ظالم حق)) .
قال رحمه الله : [ وإن جنى المغصوب فأرش جنايته عليه ] : وإن جنى المغصوب : أخذ عبدا فجنى هذا العبد جناية ، فالجناية في هذه الحالة تكون على الغاصب يتحملها ، لأن يده يد ضمان وليست بالعين المغصوبة ، لأن هذا الضرر داخل على السيد ، والسيد لا ذنب له ، واليد التي تضمن العبد انتقلت إلى الغاصب لا إلى المغصوب منه ، فيجب عليه ضمان هذه الجناية .
قال رحمه الله : [ سواء جنى على سيده أو أجنبي ] : سواء جنى على سيده أو جنى على أجنبي : فإن هذه الجناية مضمونة فلو سلطه على السيد فآذاه فإنه يضمن فآذاه بأذية إلى أن تسبب في قطع يده أو حصول ضرر في جسده فاستحق دية في طرف أو نحو ذلك فإن هذه الجناية يجب دفعها على الغاصب ، لأن يده يد ضمان ، وهذا الرقيق يتحمّل مسؤوليته في جنايته ، هذا معنى كون المغصوب يكون يد غاصبه يد ضمان ، فلو جنى جناية تحمّلها الغاصب .
قال رحمه الله : [ وإن جنى عليه أجنبي فلسيده تضمين من شاء منهما ] : وإن جنى عليه أجنبي فإن شاء ألزم الغاصب وإن شاء ألزم الجاني هو مخيّر ، إن شاء ألزم الغاصب والغاصب يكون وجهه على الجاني ، وإن شاء ألزم الجاني والجاني يكون وجهه على الغاصب على القول بتعدّي اليد .
قال رحمه الله : [ وإن زاد المغصوب رده بزيادته ] : وإن زاد المغصوب رده بزيادته كما ذكرنا ؛ لأن يده يد ضمان ، وهذه الزيادة يستحقها المغصوب منه ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- يقول : (( ليس لعرق ظالم حق )) وهذه الزيادة ناتجة من العين فتتبعها ، بخلاف ما إذا هو أحدث أشياء في المغصوب وزادها ويمكن أخذ هذه الأشياء هذا فيه تفصيل ، فالزيادة إذا كانت تابعة للأصل فهي فرع عنه ، وحينئذ تكون تبعا للمغصوب ، وليست للمغصوب منه ، وهي حق للمغصوب منه وليس للغاصب ، قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس لعرق ظالم حق )) .(6/255)
قال رحمه الله : [ سواء كانت متصلة أو منفصلة ] : سواء كانت الزيادة متصلة مثل ما ذكرنا اغتصب دابة وكانت هزيلة فقام عليها فأطعمها وأحسن سقيها والعناية بها أو كانت الدابة مريضة فعالجها وقام عليها حتى أصبحت صحيحة هذه زيادة متصلة لا يمكن فصلها عن العين المغصوبة ، هذا معنى قول العلماء أنها زيادة متصلة لا يمكن فصلها عن العين المغصوبة ، وأما إذا كانت منفصلة مثل الغنم وقطيع الإبل وقطيع البقر مثلا فلو أنه اغتصب منه إبلا ثم هذه الإبل ضربها الفحل أو جاء بفحول تضربها فأنجبت وتكاثرت فهذه زيادة منفصلة ، لأن الولد منفصل عن أمه ، وحينئذ هذه الزيادة المنفصلة تتبع الأصل؛ لأنها ناشئة منه ، والفرع تابع لأصله ، ويد هذا الغاصب يد ضمان ، وحينئذ ليس له حق في أخذ هذه الزيادة ولو تسبب في وجودها ، وهذا معنى قوله : (( ليس لعرق ظالم حق )) فيده ليس فيها إذن شرعي ، وليس فيها ولاية ولا مِلْك بأصل وحينئذ يبقى المال لصاحبه وما نتج عن هذا المال ، ولو كان هو السبب في ضرب الفحول للإناث، وحصول الزيادة المنفصلة .
قال رحمه الله : [ وإن زاد أو نقص رده بزيادته وضمن نقصه ] : إن كانت زيادة رده بزيادة وإن كان نقصا فإنه يضمن النقص على التفصيل الذي ذكرناه أن أرش النقص يقدر ثم يلزم بدفعه فيجب عليه رد العين المغصوبة وأرش النقص .
قال رحمه الله : [ سواء زاد بفعله أو بغير فعله ] : سواء زاد بفعله مثل ما ذكرنا جاء بالفحول وأضربها فحصلت الزيادة بالفعل ، أو يكون مثلا قام على المال وأحسنه حتى أصبح مثل ما ذكرنا في إطعام الهزيل أو مداواة المريض فهذا بفعله .
قال رحمه الله : [ أو بغير فعله ] : أو بغير فعله مثل أن تكون نفس الإبل فيها فحل وركبها وضرب الفحل فأنتجت وهذا بغير فعله ؛ لأن المال فيه ما يوجب التكاثر بإذن الله فحصل طبيعة ، فهذا النتاج يعتبر تابعا لأصله وهو ما نتج منه ، سواء كان متسببا بالإتيان بالفحل أو كان غير متسبب .(6/256)
قال رحمه الله : [ فلو نجر الخشبة بابا أو عمل الحديد إبراً ردّهما بزيادتهما ] : فلو نجر الخشب بابا لو نجر الخشب بابتً هو اغتصب ألواحاً من الخشب أو اغتصب قدداً من الخشب ثم أخذ هذه الألواح وفصلها فأخرجها بالصنعة عن كونها خاما إلى كونها مصنوعة ، فحينئذ تكون قيمتها أفضل وأغلى وحالها أحسن وأكمل ، ففي هذه الحالة ترد بالزيادة ، ما يقول : والله أريد أن أردها كما كانت ألواحاً ، بل ترد بحالها الحسنة إلى المغصوب منه ، (( وليس لعرق ظالم حق)) ولو كان هو الذي نجر أو صنع الحديد إبرا أو نوافذ أو شبابيك ففصله فأخرج هذا الخام من الحديد أخرجه بالصنعة إلى حال أحسن وأفضل منه أو استأجر من يقوم به فكل ذلك زيادة إذا رضيها ربها أخذها .
قال رحمه الله : [ ردهما بزيادتهما وضمن نقصهما إن نقصا ] : ردهما بزيادته في الخشب والحديد ونحوه في القماش وسيذكر المصنف –رحمه الله- ، والنقص أيضا يضمنه ، فلو كان إخراج هذه الأشياء من كونها غير مصنعة إلى كونها مصنعة ينقص قيمتها مثلا الخام لو أنك نظرت إلى الخشب الذي لم يصنع وهو القدد والألواح يمكنك أن تصرفه إلى النوافذ ويمكنك أن تصرفه إلى الشبابيك ، ويمكنك أن تصرفه إلى الطاولات ويمكن أن تصرفه إلى مصالح عديدة ، فهو بحاله خشبا قد يكون في بعض الأحيان أغلى وأنفس عند صاحبه من حاله مصنعا ، فلو كانت في السوق قيمة هذه الأشياء غير المصنعة أغلى من قيمتها مصنعة أو كانت قيمتها في بعض الصناعات أقل من قيمتها وهي خام ضمن النقص ، مثال ذلك : هذا اللوح لو أنه باق كما هو يباع بخمسمائة ريال ، لكنه لو صُنّع نوافذ يباع بثلاثمائة ريال ، يباع بمائتين وخمسين ، فإذا في هذه الحال حينما صنّعه نوافذ أخرجه بالصنعة إلى الأقل، فيضمن الأرش الذي أنقصه وهو نصف القيمة ، وقس على هذا ، فقد يكون إخراجه إلى صنعة أفضل ، وقد يكون دون ذلك .(6/257)
قال رحمه الله : [ ولو غصب قطنا فغزله ] : هذه كلها أمثلة والعبرة بالأصل إذا غصب قطنا فغزله أو الغزل نسجه كل هذا يضمن فيه النقص ويرد مع الزيادة على التفصيل الذي ذكرناه .
قال رحمه الله : [ ولو غصب قطنا فغزله أو غزلا فنسجه أو ثوبا فقصره أو فصله وخاطه أو حبا فصار زرعا أو نوى فصار شجرا أو بيضا فصار فراخا فكذلك ] : المراد فقط أن تحفظ الأصل أن يد الغاصب إذا تعدت فأنقصت ضمنت ، وإذا حصلت الزيادة الناتجة من المال بفعله أو بدون فعله فإنه يرده بالزيادة ؛ لأنه ليس لعرق ظالم حق .
قال رحمه الله : [ وإن غصب عبدا فزاد في بدنه أو بتعليمه ثم ذهبت الزيادة رده وقيمة الزيادة ]: إذا أثبت أن الزيادة يستحقها المغصوب منه ، فهل شرط الاستحقاق يتوقف على القبض أو فقط بمجرد كونه مغصوبا ؟ هذا سؤال . إن قلت بمجرد كونه مغصوبا يصبح بمجرد أن يزيد كأنه غصب زائدا وهذا صحيح ، لأنه في كل دقيقة أو ثانية مطالب بردّ المغصوب ، وعليه فإذا كمل حال المغصوب أصبح بعد كماله مطالبا بعد الكمال بالرد ، فإذا امتنع من الرد فحصل النقص في غصبه، فيتحمل مسؤولية النقص مع أن الزيادة جاءت بفعله ، وحينئذ لا يختلف الحكم بين كون النقص طارئا بعد الزيادة، وكون النقص موجودا بالفعل ، فعلى كل حال يجب عليه ضمان نقص الكمال سواء كان هذا الكمال في العين في أصلها أو طرأ والمغصوب عنده فإنه يجب عليه ضمانه .(6/258)
قال رحمه الله : [ وإن تلف المغصوب أو تعذر رده فعليه مثله ] : وإن تلف المغصوب شرع : في خاتمة المسائل فيما يترتب على الغصب في المسائل الطارئة ، عرفنا أنه يردّ المغصوب ويرده بالزيادة والنقص على التفصيل الذي ذكرناه ، طيب لو تلف المغصوب الحكم أنه يجب عليه ردّ مثله ، وهذا ما يسمى بالضمان ، ضمان المغصوبات يبتدأ بضمان المثل إذا كان له مثل ، وإذا لم يكن له مثلي فإنه يضمن بالقيمة ، والمثلي يكون في المكيلات والموزونات إذا كان له مثلي في المكيلات والموزونات وإلا نظر إلى قيمته ولزمه دفع القيمة ، الأصل أنه يردّ عينه ، فإن تعذر رد العين بتلفه لزمه أن يرد المثل ، وإن تعذر المثل لزمه أن يردّ قيمته .
قال : [ فعليه مثله إن كان مكيلا أو موزونا ] : إذًا المثلي هو المكيل والموزون ، لأنه ينضبط بالكيل والوزن ، مثلاً غصب تنكة من الزيت نلزمه بمثلها من النوع الذي غصبه ، إذا بنفس القدر ونفس النوع هذه المثلية تتحقق بالقدر والجنس والنوع ، لو غصب مائة صاع من الحب نلزمه بمائة صاع من الحب من الأرز من الأرز غصب مائة صاع من تمر البرني نقول له يجب عليك أن ترد مائة صاع من تمر البرني ، هذا مثلي ، غصب مائة صاع من السكري نقول له يجب عليك أن ترد مائة صاع ؛ لأنه مثلي ومقدر بالكيل ، أو الوزن غصب مثلا ألف كيلو – وهي طن- من الحديد يجب عليه أن يردّ ألف طن من الحديد ، إن كان من الزهر وهو أردأ أنواع الحديد فمن الزهر ، وإن كان من الصلب وجب عليه من الصلب وقس على هذا .
قال رحمه الله : [ وقيمته إن لم يكن كذلك ] : وقيمته إن لم يكن كذلك إن لم يكن مثليا من المكيلات أو الموزونات ويتعذر ضبطه ووجود مثليه فإنه يعدل إلى القيمة إذا تعذر المثل يتعذر بأحد أمرين : إما أن يكون من غير المكيلات والموزونات ، أو يتعذر وجود مثله من نوعه ، يكون البلد ما هو موجود فيها هذا المثلي أو لا يمكنه أن يشتري له مثليا ؛ فحينئذ يعدل إلى القيمة .(6/259)
قال رحمه الله : [ ثم إن قدر على رده رده ويأخذ القيمة ] : بقي السؤال لو أنه تعذر عليه المثلي فأعطى قيمته فنظرنا إلى القيمة أن قيمة المغصوب عشرة آلاف ريال فدفع عشرة آلاف ريال ، الشيء المغصوب سيارة وليس لها مثلي ، ثم أُخذت هذه السيارة وسرقت منه وجاء يريد الرد فالعين عين المغصوب ما هي موجودة قلنا له لا مثلي لها ؛ لأنها من جنس المعدودات ، فحينئذ يعدل إلى القيمة قدرت السيارة بعشرة آلاف ؛ دفع عشرة آلاف ، ثم بعد شهرين وجدنا عين السيارة هل نقول العبرة بالابتداء وحينئذ العبرة بحاله وحين دفع المال تمت المعاوضة وانتهى كل شيء ، أو نقول إن القيمة بدل عن شيء ، وهي ليست بأصل وإنما هي قائمة مقام شيء آخر للحاجة وهي عدم وجود هذا الشيء ، فإذا أمكن رد عين الشيء سقط هذا البدل ، وهذا هو الذي اختاره المصنف –رحمه الله- وطائفة من أهل العلم وهو الصحيح : أنه إذا وجد عين المغصوب رده ، وإذا رده رد له الثمن الذي دفعه فيرد له عشرة آلاف التي دفعها ؛ لأن الأصل أنه يرد عين المغصوب .
قال رحمه الله : [ وإن خلط المغصوب بما لا يتميز به من جنسه فعليه مثله منه ] : إذا خلط المغصوب بغيره وهي خاتمة المسائل في المغصوب ؛ إما أن يخلطه بما يتميز، وإما أن يخلطه بما لا يتميز ، أن يخلطه بما يتميز فالأمر فيه واضح مثلا لو أنه غصب تمر السكري وخلط التمر بالزبيب أو خلط تمر السكري من جنسه بما يتميز معه فخلطه بالبرني تمر السكري يمكن تمييزه عن تمر البرني وعن تمر البرحي، فحينئذ إذا خلطه بما يمكن تمييزه عنه الحكم :(6/260)
أولا : أننا نلزمه بالتمييز ونقول له تجلس وتميز هذا من هذا ، أو نستأجر من يقوم بالتمييز ويدفع هو أجرة تمييزه ؛ لأن الخلط كان بسببه وبفعله ، فيلزم بتمييزه ، ويجب عليه دفع أجرة ذلك التمييز ، هذا إذا خلطه بما يتميز والحكم واضح ، لأنه يمكننا أن نأخذ عين المغصوب ، فلا يجوز لنا أن ننتقل إلى بدله ، وأما إذا خلطه بما لا يتميز فإن كان خلطه بما لا يتميز؛ إما أن يكون أردأ، أو أجود، أو مساوياً.
بما لا يتميز مثلا عنده زيت اغتصب زيت زيتون ثم خلطه بزيت زيتون فهذا خلط له من جنسه بما لا يمكن تمييزه معه ، اغتصب سمنا فخلطه بسمن من نوعه ، فإن كان بما لا يمكن تمييزه فعلى صورتين : إما أن يكون مثله في الجودة والرداءة ؛ وحينئذ ما ذكر المصنف وسنبيّن حكمه .
وإما أن يكون أردأ منه أو أفضل منه فإذا خلط بأردأ منه أو أفضل منه ففيه ظلم ، وحينئذ يعدل إلى المثلي إذا كان خلطه بأردأ أو أجود ، أما إذا خلطه بالمساوي فهو الذي عناه المصنف –رحمه الله- بقوله : قال رحمه الله : [ وإن خلطه بغير جنسه فعليه مثله من حيث شاء ] : من حيث شاء قلنا له إن شئت تأخذ هذا الذي هو الخلط يعني مثلا عنده ثلاثة لترات عشرين لتراً، تنكة وخلط تنكتين ببعضها فنقول له تأخذ قدر ما لك من المخلوط الموجود أو تطالب بالمثلي أنت بما شئت .
قال رحمه الله : [ وإن غصب أرضا فغرسها أُخذ بقلع غرسه ] : وإن غصب أرضا فغرسها : انظر هناك الزيادة ناتجة من نفس العين المغصوب ، هنا الزيادة قد جاءت خارجة عن العين المغصوبة ، ينتبه لهذا ، وهذه فائدة الكتب الفقهية أنها تعطي التصوير على أحوال عديدة ؛ لأن فتاوى الناس وقضاياهم التي تأتي للقاضي هي على هذا المنوال ، يستطيع بعد ذلك أن يعرف القضية : هل هي في زيادة ناتجة من العين بفعله أو بدون فعله ، أو ناتجة من خارج العين بفعل الغاصب ؟(6/261)
إذا كانت ناتجة من خارج العين بفعل الغاصب حينئذ نقول له : خذ هذا الذي وضعته إلا في بعض الصور التي يكون فيه الأخذ ضرر بالأرض أو بالعين المغصوبة فنخيّر المالك بين إعطائه حقه فيما وضع وبين أن يمكنه من قلع ماله وأخذ ما أحدثه ، هذه الإحداثات إذا أحدث في العين المغصوبة فغرس .
قال رحمه الله : [ أُخِذَ بقلع غرسه ] : أخذ يعني طلب منه ، وقيل له : اقلع غرسك النخل الذي غرسته والزرع الذي غرسته ، لأن عليه أن يؤدي الأرض ويؤديها كما هي ، فإذا قلع الغرس فإن الأرض ستتضرر بالحُفَر ، فيجب عليه ردم الحفر وإعادة الأرض إلى ما كانت عليه ، حتى إن من بعض القضايا لبعض أهل العلم –رحمهم الله- أنه لما طالب غاصبا أن يقلع شجره كان يأمره أن يغسل جذور النخل؛ لأن النخل يقلع ومعه تراب ، فأمره أن يغسل جذور النخل في الأرض المغصوبة حتى لا يخرج من الأرض المغصوبة بشيء منها ، من دقته أنه لا يأخذ إلا ما أحدثه دون أن يأخذ أي شيء من الأرض ، وأن تعاد الأرض كما كانت .
قال رحمه الله : [ أخذ بقلع غرسه وردها وأرش نقصها ] : وردها كما كانت ، وأرش نقصها لو تعيبت وحصل فيها ضرر مثلا لو أنه بنى عليها إحداثات في البناء ثم هدم هذه الإحداثات يشوه الأرض ويؤذيها، وينقص من قيمتها أخذ بالنقص بحسابه مثل ما ذكرنا في الأرش في الجنايات تقدر الأرض سليمة من الإحداثات، وتقدر بعد إزالة الإحداثات، وينظر النقص ثم يطالب بضمانه .
قال رحمه الله : [ وأجرتها ] : أجرة هذه الأرض طيلة مدة الغصب ، لو اغتصبها عشر سنوات وهذه الأرض كل سنة تؤجر بمائة ألف فعليه أن يدفع مليون ريال ضماناً لأجرة المغصوب طيلة مدة الغصب؛ لأنه اغتصب الأرض واغتصب منافعها ، فيجب عليه أن يضمن الأرض بردّها وأن يضمن منافع الأرض طيلة مدة الغصب .(6/262)
قال رحمه الله : [ وإن زرعها وأخذ الغاصب الزرع ردها وأجرتها ] : نعم إذا غصبها وأخذ الغاصب الزرع ردّها أي الأرض وأجرة الأرض طيلة مدة الزراعة ، فلو أنه اغتصبها كما ذكرنا عشر سنوات كل سنة بمائة ألف لزمه دفع المليون ورد الأرض .
قال رحمه الله : [ وإن أدرك مالكه الزرع قبل حصاده خُيّر بين ذلك وبين أخذ الزرع بقيمته ] : الزرع طبعا يختلف عن النخل والأصول ، والزرع مثل أن يضع فيها حبا -يزرعها بالحبوب-، فإذا زرعها بالحبوب وجاء مالك الأرض نقول له : أنت بالخيار بين أن تأخذ أرضك بدون زرع ، أو تعوّضه عن زرعه وتأخذ الأرض بزرعها ؛ لأن الزرع هذا ملك للغاصب .
قال رحمه الله : [ وإن غصب جارية فوطئها وأولدها لزمه الحد ] : نعم ؛ لأن هذا الوطء ليس بنكاح ولا شبهة ، وضابط الزنا –والعياذ بالله- : أن يقع الوطء في غير نكاح ولا شبهة نكاح .
الزنا: الوطء في الفرج بالصورة المعتبرة بإيلاج الحشفة أو قدرها من مقطوعه في غير نكاح ولا شبهة نكاح ، فهذا ليس بناكح وليس عنده شبهة النكاح ، حتى لو ادعى - هذا عبث- ؛ لأن الغاصب ليس له حق وهو يعلم هذا أنه ظالم وأن المال مال الغير ، وأنه كأنه يطأ ملك غيره ، فهذا لا يعذر فيه فلزمه الحد ، إن كان محصنا جلد ورجم على الخلاف في الجلد والرجم ، وظاهر حديث عبادة الجلد والرجم في قوله عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم : (( الثيب بالثيب جلد مائة ورجم )) وإن كان بكرا جلد مائة وغرّب وأقيم عليه الحد حد الزنا .
قال رحمه الله : [ لزمه الحد وردها ] : ورد الجارية : هذا الأمر الثاني ، أولا يلزمه الحد ورد الجارية.(6/263)
قال رحمه الله : [ ورد ولدها ] : ورد الولد ؛ لأن الولد للفراش ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - : (( الولد للفراش وللعاهر الحجر )) وإذا استكرهت الأمة على الزنا فحملت من هذا الوطء فإنه ملك للسيد ، لأن هذا الولد ولد على فراشه ، ولذلك لما اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في الوليدة في بين يدي النبي –- صلى الله عليه وسلم --قال سعد : يا رسول الله ، هو ابن أخي عهد إليّ به قبل موته ، وقال عبد بن زمعة : إنها وليدة أبي وولدت في فراشه ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( هو لك يا عبد بن زمعة وللعاهر الحجر ، الولد للفراش وللعاهر الحجر ))، فقضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بهذا القضاء وحينئذ يحكم بأن هذا الولد يكون ملكا للسيد .
قال رحمه الله : [ ومهر مثلها ] : ومهر مثلها : بالجناية لأنها تستحق هذا .
قال رحمه الله : [ وأرش نقصها ] : وأرش نقصها يعني إذا كانت بكرا لها قيمة ، وإذا كانت ثيبا بالوطء بالزنا لها قيمة ، فيضمن الأرش بين القيمتين بالتفصيل الذي ذكرناه في أرش الجنايات نقدرها بكرا كم قيمتها ، ونقدرها ثيبا كم قيمتها ، ثم ننظر ما بين القيمتين ثم نقدرها في السوق كم قيمتها ويجب عليه دفع الفرق بين القيمتين بالنسبة للقيمة .
قال رحمه الله : [ وأجرة مثلها ] : وأجرة مثلها إذا احتبسها عنده مدة فإنه يجب ضمان أجرة مثلها ، لو أنها جلست عنده مغصوبة شهرا هذه الأمة لو جلست شهرا تعمل كم أجرة مثلها ؟ ألف ريال يجب عليه دفعه ، لا تضيع الحقوق .
قال رحمه الله : [ وإن باعها فوطئها المشتري وهو لا يعلم فعليه مهرها ] : وإن باعها فوطئها المشتري دون أن يعلم فهو وطء شبهة فعليه مهرها أي على الغاصب مهر هذه ؛ لأنه يطالب بضمانه للواطئ ، لأن هذا تغرير ، لأن هذا الذي وطئها غرّر به .(6/264)
قال رحمه الله : [ فعليه مهرها وقيمة ولدها ] : وقيمة الولد يضمنها للسيد ؛ لأن الولد حر وليس بولد زنا ، الولد يعتبر حرا ، يعتبر تابعا منسوبا إلى أبيه ؛ لأنه وطء شبهة ، الفرق بين الوطئين أن الوطء في الصورة الأولى إذا وطء الغاصب يعلم وهو وطء زنا ، وأما في الصورة الثانية فهذا رجل غُرّر به وظن أنها حلال وهذه يسمونه شبهة الملك ، وشبهة الملك يظن أنه فعلا مالك لها وتبين أنه ليس بمالك، فهذا يدرأ به الحد ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ادرؤوا الحدود بالشبهات )) فتدرأ الحدود بالشبهات ، ومنها : شبهة الملك أن يظن أنه يملكها .
قال رحمه الله : [ وقيمة ولدها إن أولدها وأجرة مثلها ] : كذلك قيمة الولد إن أولدها ؛ لأنه فوت هذا الولد على السيد الذي هو المغصوب منه ، فيقدر هذا الولد بالمثل إن أولدها ،؛ لأنه فوت عليه كان المفروض أن الولد يكون ملكا للسيد المغصوب منه ؛ فحينئذ يبقى الولد حرا على الأصل ولا يسترق ، ثم نقول له : اضمن قيمته لأن المحل وهو المرأة حملت هذا الولد ، وحملت في ملكية المغصوب منه ، فتكون زيادة فوتها بالغصب ، وتغرير على المشتري فحينئذ يضمنها .
قال رحمه الله : [ وأجرة مثلها ] : وأجرة مثلها في مثل ما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ ويرجع بذلك كله على الغاصب ] : ويرجع بذلك كله على الغاصب : يعني أن هذا الذي وطئ بشبهة الملك يجب عليه دفع المهر، ويجب عليه أجرة المثل في جلوسها عنده هذا الوقت ثم يرجع بذلك كله فيما ضمنه من أجرة المثل والنقص والولد وضمان قيمة الولد على الغاصب؛ لأنه هو السبب في التغرير به .(6/265)
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته ، وكماله أن يبارك لنا ولكم في هذا العلم ، وأن يجعله علما نافعا وعملا صالحا ، وأن يجعله حجة لنا لا علينا ، ونسأل الله بعزته وجلاله أن يجزيكم كل خير على الصبر، وعلى التحمل، وعلى الحضور . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
باب الشفعة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام أبو محمد بن قدامة -رحمه الله- : [ باب الشفعة ] :
الشرح :
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فيقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الشفعة ] : الشفعة في اللغة : ضم الشيء إلى الشيء .
وأما في الاصطلاح: فهي استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن أخذها منه بالثمن نفسه .
وهذا النوع من العقود ثبتت به السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ، ولذلك جرى به العمل عند السلف والخلف –رحمهم الله- وله أحكام خاصة ، ومن هنا أفرده العلماء –رحمهم الله- من المحدثين والفقهاء بباب يبيّن هدي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وسنته في أحكام الشفعة .
يقول رحمه الله : [ باب الشفعة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بضم الشريك لحصة شريكه بالثمن الذي أخذها الغير به .
قال رحمه الله : [ وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصّة شريكه من يد مشتريها ] : استحقاق إنسان وهو الشريك فيما لم يقْسم –كما سيأتي إن شاء الله- من العقارات دون المنقولات ،.
لمّا قال استحقاق فالملك هنا قهري بمعنى يستوي أن يكون الذي اشترى هذا النصيب راضيا أو غير راضٍ .(6/266)
صورة الشفعة : أن يكون هناك شخصان فأكثر اشتركا في عقار كالأراضين من المزارع ونحوها ، ثم باع أحد الشركاء أو أحد الشريكين نصيبه، فلو فرضنا أن هناك شريكين لكل واحد منهما نصف الأرض، اشتريا الأرض مناصفة، فباع أحد الشريكين حصته بنصف مليون على أجنبي ، فمن حق الشريك الثاني أن يأخذ هذا النصف الذي باعه شريكه من هذا الأجنبي بنفس المبلغ الذي اشترى به سواء رضي الأجنبي أو لم يرضَ .
استحقاق الشريك فهو حق له ، ومن هنا هذا النوع من الانتزاع يكون قهريا ، يعني سواء رضي الأجنبي أو لم يرضَ ، باختياره أو بدون اختياره ؛ لأن هذا الحق أثبته الشرع للشريك ؛ والسبب في هذا عظم الضرر، فإنك قد ترضى بشريك ولا ترضى بآخر ، ثم إن هذا الأجنبي الذي لم تعرفه ولربما يكون شخصا لا تعرفه يؤذيك في شراكته ، فشرع الله –- عز وجل -- بهدي النبي –- صلى الله عليه وسلم -- وسنته لك أنت أن تنتزع هذه الحصة ، وحينئذ لم يظلم الأجنبي ؛ لأنه أخذ المال الذي دفعه ، ودفع الضرر عن الشريك؛ لأن دخول الأجنبي قد يتسبب له في مشاكل، فصارت من العقود التي فيها رفق وأيضا فيها دفع ضرر عن الشركاء .
وقد قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بهذا الحكم كما في الصحيح من حديث جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- قال : (( قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالشفعة )) فهي من أقضية النبي –- صلى الله عليه وسلم -- .
استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه : قلنا هذا الاستحقاق يكون قهريا بالنسبة للأجنبي، ولكنه اختياري بالنسبة للشريك ، لو دخل عليك أجنبي في شراكة، فرضيته فمن حقك فلا يلزمك أن تشفع ولا يلزمك أن تشتري نصيبه ، لكن إذا أردت أن تشتري النصيب يلزمه أن يخلي بينك وبين النصيب ، فهو استحقاق لك -حق لك- إن شئت أخذته وإن شئت لم تأخذه ، وبالنسبة للأجنبي فإنه يكون انتزاع الحصة منه قهريا .(6/267)
استحقاق الشريك أو الشركاء جنس الشريك فقول العلماء –رحمهم الله- استحقاق الشريك هنا قال إنسان ، وبعض العلماء استحقاق الشريك وهو أدق ، فلما قال استحقاق الشريك يستوي أن يكون فردا أو أكثر ، فلو أن أربعة اشتركوا في أرض لكل واحد منهم ربعها ، فباع أحد هؤلاء الأربعة نصيبه كان للثلاثة الباقين أن يشفعوا ، وإذا شفعوا أخذوا الربع ، وقسمت قيمة الربع بينهم أثلاثا ، فكل يشفع بمقدار الثلث ، ولو كانوا ثلاثة وباع أحدهم فحينئذ للاثنين الباقيين حق الشفعة لكل واحد منهما أن يشفع بنفس النصيب -نصف الثلث وهو السدس- ، الذي باعه بحيث يصير لأحدهم النصف ويكون للآخر نصف الباقي .
هذا في قولهم استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن أخذها منه : يعني ممن اشتراها بالثمن نفسه ، الشفعة تشفع بنفس الثمن وليس من حقه أن يزيد على هذا الثمن ، فلو أنه اشترى من شريكك بمائة ألف وقال: أنا اشتريت هذا النصف بمائة ألف ولا أبيعه لك إلا بمائة وخمسين لم يكن من حقه ذلك، فليس من حقه أن يزيد ولا ريالا واحدا بل بنفس الثمن الذي دفعه ، وهذا الذي جعل الشفعة مستثناة من الأصول ، لأن الأصول تقتضي أن البائع وصاحب الشِّقْص والنصيب الذي أخذه وهو الأجنبي من حقه أن يبيع بالقليل والكثير ، ومن هنا يفهم معنى قول العلماء إن الشفعة خارجة عن الأصول فليس المراد الخروج عن الأصول الشذوذ إنما هو استثناء الشرع لها من الأصول ، فالأصل يقتضي أن من اشترى شيئا وتوفرت فيه شروط صحة الشراء فإنه حينئذ من حقه أن يبيع بأغلى أو بأقل أو بمثل ، فكونه يلزم أن يبيع للشركاء ولبقية الشركاء بنفس الثمن هذا خاص بالشفعة ، ومن هنا استثنيت من الأصول .(6/268)
ففي هذه الشفعة ينتزع حصة شريكه ممن اشتراها منه بالثمن نفسه كما ذكرنا ، والعكس لو أراد الشركاء أن يبخسوا الأجنبي حقه ، وهو اشترى بمائة ألف فقالوا لا نصيب صاحبنا حاباك فيه فنحن نشتري منك بالقيمة الأساسية وهي ثمانون نقول: تدفعون له ما دفع -وهي المائة- كاملا ، وليس من حقهم أن ينقصوا ، ولو اشترى هذا الأجنبي نصيب شريكهم نقدا لم يكن من حقهم أن يقولوا نعطيك المائة ألف مؤجلا ، ولم يكن من حقهم أن يقولوا نعطيكها مقسطة إلا إذا رضي ، إذا رضي فحينئذ لا إشكال ، المهم أن الشفعة استثنيت من الأصول بقضاء النبي –- صلى الله عليه وسلم -- فيها ولذلك لابد من توفر شروط خاصة للحكم بصحتها واعتبارها .
قال رحمه الله : [ ولا تجب إلا بشروط سبعة ] : ولا تجب يعني تثبت، فالوجوب يطلق بمعنى اللزوم ويطلق بمعنى الثبوت والاستقرار ، قال تعالى : { فإذا وجبت جنوبها } أي ثبتت واستقرت على الأرض.
ويطلق الوجوب بمعنى اللزوم كما في قوله :
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم عن السلم حتى كان أول واجب
أي أول لازم عليهم أن يفعلوه .
فهنا المراد الوجوب بمعنى الثبوت ، ليس معنى أنها واجبة بمعنى أنه يجب عليك أن تأخذ حصة شريكك أو يجب على الشركاء ، هذا ليس مراده رحمه الله وإنما المراد أنها تثبت ، يعني يكون من حق الشريك أو الشركاء أن يأخذوا بالشفعة إذا توفرت هذه الشروط : قوله : [ سبعة ] إجمال قبل البيان والتفصيل .
قال رحمه الله : [ أحدها : البيع ] : أحدها البيع بمعنى أن ينتقل نصيب الشريك إلى الأجنبي عن طريق البيع ، ومن هنا ينتزع حصة شريكه بالمعاوضة ، فأما إذا كان هذا الأجنبي قد دخل عليهم بهبة أو دخل عليهم بإرث أي بغير البيع فإنه لا يثبت لهم حق الشفعة ، وهذا هو قضاء النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أنه قضى بها في البيع .(6/269)
قال رحمه الله : [ فلا تجب في موهوب ولا موقوف ] : فلا تجب في موهوب: فلو أن الشريك وهب هذا النصيب إلى قريب من أقربائه أو إلى أجنبي فإنه لا تثبت الشفعة لبقية الشركاء ، وكذلك لو أوقفه فإنه حينئذ لا يمكن نقل الوقف فيبقى وقفا ساريا ويُعمل به ولا يحق للشركاء أن يشفعوا .
قال رحمه الله : [ ولا عوض خلع ولا صداق ] : ولا تثبت في عوض خلع لو أن امرأة قالت لزوجها خالعني فخالعها فأدت إليه المهر، وكانت شريكة لإخوانها في عقار لها منه الثلث والثلثان للأخوين، فحينئذ دفعت هذا الثلث في عوض خلع ، قالوا إنه لا يثبت فيه ؛ لأنه ورد على صورة مخصوصة في السنة ، فيختص بما ورد ، هذا معنى قولنا أنه خارج عن الأصول فيتقيد بالوارد .
قال رحمه الله [ ولا طلاق ] لو أنها قالت له : طلقني فالطلاق إما أن يكون بعوض أو يكون بدون عوض ، والفرق بينهما أن الأول يكون طلاقا بائنا إذا كان بعوض ، والثاني يكون طلاقا رجعيا إن ملك فيه الرجعة إذا كان بدون عوض ، فلو اتفقت معه على أن يطلقها فقال : لا أطلقك حتى تدفعي لي عشرين ألف ريال ، فقالت : أدفع لك عشرين ألف ريال لكن هل تقبل بنصيبي من المزرعة الفلانية ، أو بنصيبي في الأرض الفلانية مع إخواني قال : قبلت ، فهذا النصيب الذي لها والشقص الذي لها فإنه انتقل بالمعاوضة عن الطلاق وحينئذ لا تثبت به الشفعة .
قال رحمه الله : [ ولا صداق ] : ولا صداق وهذا مبني على أيضا عندهم تعليلات أخرى في مسألة الطلاق في العوض والخلع والصداق أنه إذا رضي بهذا النصيب بنى عليه طلاقه ، وإذا رضي بهذا النصيب بنى عليه خلعه ، وحينئذ لو نزع منه هذا النصيب لا يمكننا تدارك الطلاق والخلع ، فالصورة هنا جامعة بين الأصلين : أولا أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أثبتها على طريق المعاوضة والأصل أنها في البيع .(6/270)
وثانيا : أن هذا الأجنبي دخل على هذا النصيب في مقابل استحقاق آخر ، وإذا كان هذا النصيب قد رضي به عوضا عن الطلاق فقد لا يرضى بالنقود ، ولا يرضى بعوض النصيب وقيمته ، ولذلك رضي به شقصا ونصيبا في هذا العقار فهو يحب المزرعة أو يريد هذه الأرض فرضي بالطلاق مقابل أن يكون شريكا فيها ، فحينئذ لا يمكننا أن نتدارك ذلك ، ولا يمكننا أن نفسخ الطلاق ونرده ، فهو مما لا يمكن تداركه ، فأصبح الحق له ثابتاً وتعذّرت الشفعة ، لماذا تعذرت الشفعة ؟ هذا عند العلماء في الازدحام إما أن تلغي بحيث لو قال : أنا لا أريد مالا ، ومادام أنهم سيشفعون فإذا لا أطلقك رجعت عن طلاقي أو رجعت عن خلعي ، فإما أن نهدم الطلاق والخلع ، وهذا الشريعة قد أثبتت أنه مبني على الخطر يعني الطلاق لا يمكن رده والخلع لا يمكن رده ، لأن الخلع بمعنى الطلاق ؛ والدليل على ذلك أن الشرع جعل جِدّ الطلاق جداً وهزله جداً ، فإذا كان الأمر كذلك وهو أن الطلاق مبني على الخَطَر ولا يمكن تداركه نظرنا في الطرف الثاني وهو الشفعة ، فوجدنا أن الشفعة عند العلماء فيها أصل أنها من أضعف الحقوق ، وأنها تسقط بالأشياء الخفيفة ، ومن هنا قالوا سقطت بأخف الأشياء حتى لو أنه لو لم يبادر بالشفعة لسقطت ، فدل على ضعف عقدها ، وهذا ما يسمى بالموازنة عند الازدحام ما الذي يقدم ؟ فقدّمنا الطلاق لأنه مبني على الخطر وقدمنا الخلع لأنه في حكم الطلاق ؛ لأن مقصود الشرع تعظيم هذا اللفظ وإمضاؤه لا إلغاؤه ، وأما بالنسبة للنكاح حينما يكون مهرا فالنكاح مبني على الصداق ، وحينئذ النكاح أيضا لا يمكن تداركه بدليل أن الشرع جعل جد النكاح جداً وهزله جداًّ كالطلاق ، فأصبح مبنيا على الخطر فصار من المناسب ذكر المصنف لهذه الأعيان : النكاح والطلاق والخلع .(6/271)
قال رحمه الله : [ الثاني أن يكون عقارا ] : أما بالهبة فلا إشكال؛ لأن الهبة من حيث الأصل ما تستطيع أن تجعل عوضا عن الهبة ، إذا انتقل بالهبة ليس عند الشركاء شيئا يعاوضون به عن الهبة مثليا للهبة ، وحينئذ تعذر أن يقال أنهم ينتزعون حتى يردوا لصاحب الحق حقه ، وكونهم يعاوضون بالمال في قيمة المثل متعذر ، وحينئذ استقر الملك وثبت ، لأن الشريعة أسقطت الرجوع في الهبة وعظّمت هذا الأمر فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيأه )) فحينئذ لا نستطيع أن نلغي الهبة ؛ لأن مقصود الشرع بقاءها ولا نستطيع أن نعاوض عن الهبة بمثلها ، بمعنى ليس عندنا شيء مثل الهبة كالنقد في مقابل الذي دفعه في حال البيع ، فتعذر في الهبة وتعذر في الطلاق عوض الطلاق والخلع والنكاح والصداق .
قال رحمه الله : [ الثاني : أن يكون عقارا ] : الثاني أن يكون المشفوع فيه عقارا –المحل- أن يكون عقارا إذا كانت الشِّرْكة في مال إما أن يكون عقارا أو يكون منقولا ، فإذا اشترك الشركاء إما أن يكونوا شركاء في العقارات ، أو يكونوا شركاء في المنقولات .(6/272)
والشركة في العقار إما أن تكون فيه الشيوع الذي لم يقسم ، وإما أن تكون في المقسوم ، واشترط المصنف –رحمه الله- أن تكون الشفعة في عقار؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ثبتت عنه السنة بذلك كما في الصحيح من حديث جابر أنه قضى بالشفعة في كل أرض ورَبْع ونحو ذلك، أي من العقارات ، فدل على أنها خاصة بالعقارات دون المنقولات ، فلو اشترك اثنان في منقول -المنقول مثل السيارة- اشتركا في سيارة قيمة السيارة ثلاثون ألفا دفع أحدهم خمسة عشر ألفاً والثاني خمسة عشر ألفاً وأصبحت مناصفة بينهم، كل شخص يركبها يوم أو أعطوها شخصا يعمل بها وأخذوا أجرتها مناصفة بينهم ، هذه شركة في السيارة ، فلما اشتركوا في السيارة باع أحد الشريكين السيارة فقال الشريك : أريد الشفعة نقول لا شفعة في منقول ، وذلك لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- خصها بالعقارات دون المنقولات ، وثبتت عنه السنة قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالشفعة فيما لا يقسم -كما في حديث جابر في صحيح مسلم الذي ذكرناه- في اختصاصها بالعقار دون غيره .
قال رحمه الله : [ أو ما يتصل به من البناء والغراس ] : أي أن يكون تبعا له ، مثل البناء والغراس ، فإذا كانت الأرض والعقار بني عليها فالبناء تابع للعقار ، وأيضا لو كان فيها غرس فالغرس منقول لو جاء وغرس فيها نخلا فإن النخل المنقول، فإذا اشترك اثنان في أرض وقاما بزراعتها ولكل واحد منهما نصف الأرض، وهذه الأرض زرعت نخلا، فباع أحد الشريكين نصيبه بمائة ألف على أجنبي نقول: تثبت الشفعة للشريك الآخر في النصف الذي باعه ؛ سواء كانت الأرض أو ما يتبعها من الغراس والزرع ؛ لأنها تابعة للعقار ، وحينئذ تكون المعاوضة عليهما ، ولا نقول إنه ننظر إلى الأرض ونقول له احمل الزرع واخرج ، لا بل تقع الشفعة في قيمة الأرض والغرس والبناء الذي عليها تبع .(6/273)
قال رحمه الله : [ الثالث : أن يكون شقصاً مشاعا ] : الثالث أن يكون النصيب شقصا مشاعا أي بين الطرفين كالثلث والربع والنصف ، فيشترك الشركاء أو الشريكان مناصفة ، أو يشتركا أثلاثاً لأحدهما الثلثان والثاني له الثلث ، أو أرباعا يكون لأحدهم ثلاثة أرباع والآخر الربع ، أو يكونوا ثلاثة لكل واحد منهما الثلث سواء كانوا الشيوع بالتساوي كالنصف لكل واحد من الاثنين والثلث للثلاثة أو يكون متفاوتا ، فيكون هناك شيوع في عقار ، فإذا كان الأمر كذلك ثبتت الشفعة ، والدليل على ذلك قول جابر –- رضي الله عنه -- : (( قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالشفعة فيما لم يقسم ))، وهذا يقتضي وجود الشركة على سبيل الشيوع ويكون هذا بالنصيب يحدد بالنصيب كالثلث والربع ونحو ذلك .
قال رحمه الله : [ فأما المقسوم المحدود فلا شفعة فيه ] : فأما المقسوم هذا مفرع على الذي قبله ، بمعنى أن يكون العقار الذي لم يقسم والنصيب فيه على الشيوع النصف والربع فلم يقسم بينهما .(6/274)
هناك صورتان في العقار إذا كان فيه شركة: إما أن يقسم العقار ويحدد لكل شريك ماله من النصيب فحينئذ هو عقار مقسوم ، مثلا لو أنه كان في المزرعة بينهما ، فقسم المزرعة مناصفة فأحدهما أخذ النصف الشرقي ، والآخر أخذ النصف الغربي وحددت الحدود وفصلت بينهما ، أوفصل بينهما بطريق أو فصل بينهم بجدار أو فصل بينهم بمعالم تميز نصيب أحدهما عن الآخر وانفصلا ، فهذا مقسوم. والنوع الثاني: أن يكون العقار كالعقار الواحد كما هو للشخص الواحد ، ولكنهم يقسمون المنافع فينتفع كل منهما بمثل ما ينتفع به الآخر مناصفة ، السنة في العقار غير المقسوم أنه تثبت فيه الشفعة ، والإجماع منعقد على أن العقار إذا كان غير مقسوم أن الشفعة ثابتة فيه، فكل مال من العقارات اشترك فيه اثنان فأكثر ولم يقسموا ولم يميزوا أنصباءهم فإنه إذا باع أحدهم استحق البقية أن يشفعوا ، هذا بالنسبة للذي لم يقسم ، والأصل في هذا الإجماع حديث جابر –- رضي الله عنه -- في الصحيح (( أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قضى بالشفعة فيما لم يقسم )) .
أما إذا قسم العقار ومُيّز نصيب كل واحد من الشركاء، واختص كل منهم بنصيبه، أو صُرّفت الطرق بينهما، فأصبح لكل واحد منهم نصيب مستقل معين لا يدخل فيه شريكه عليه فحينئذ اختلف العلماء –رحمهم الله- ، وهكذا لو كان جارا مجاورا لجاره ، فعنده عمارة بجوار عمارة جاره فباع الجار هل تثبت الشفعة في العقار الذي قسم ؟ وهل تثبت الشفعة للجار ؟
اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين :(6/275)
القول الأول : لا تثبت الشفعة في العقار الذي قسم ، وهذا هو قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ، وكذلك قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار من فقهاء المدينة السبعة ، وقول أبي الزناد ، وكذلك هو قول الأوزاعي والثوري ، وهو مذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث ، وهو قول إسحاق بن راهويه –رحمة الله على الجميع- يقولون : إذا قسمت العقارات وميز النصيب وصرفت الطرق فلا شفعة ، وحينئذ الأجنبي يملك النصيب ، وليس من حق الجار أن يشفع ، أو ينتزع النصيب منه ، وهكذا بالنسبة لبقية الشركاء ، فلا شفعة في جار ولا في شريك قد قاسم .
القول الثاني : تثبت الشفعة للجار وتثبت للشريك الذي قاسم ، وهذا القول قال به الإمام أبو حنيفة النعمان –عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان والغفران وعلى جميع أئمة المسلمين- يقول رحمه الله: إذا صرفت الطرق أو لم تصرّف فالشفعة ثابتة ، ويقول رحمه الله الجار له حق أن يشفع في دار جاره إذا باعها فهذا من حقه .
استدل الجمهور بحديث جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- في الصحيح قال : (( قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالشفعة فيما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة )) .
هذا الحديث وجه الدلالة فيه من مواضع :
الموضع الأول: في قوله : (( قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالشفعة فيما لم يقسم )) ، وجاء اللفظ الآخر وهو صحيح مرفوعا إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- : (( إنما الشفعة فيما لم يقسم )) .
فهذا اللفظ : إنما الشفعة فيما لم يقسم قال بعض علماء الأصول: إنّ إنما تفيد الحصر والقصر بإثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه .(6/276)
واختلف علماء الأصول في نفيها للحكم عما عدا هل هو بالمفهوم أو هو بدلالة الوضع ، واختار بعض علماء الأصول أنها بدلالة الوضع ، فإذا جاء الأسلوب بقوله : (( إنما الشفعة فيما لم يقسم )) دل على إثباتها فيما لم يقسم ، ونفيها عما لم يقسم بنفس اللفظ لا بمفهوم اللفظ ؛ لأن من أنواع المفاهيم مفهوم الحصر ، فإذا قلنا إنها بدلالة المفهوم كانت أضعف من دلالة المنطوق ، هذا الوجه الأول.
والوجه الثاني : في قوله : (( فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة )) وهذا صريح في إسقاط الشفعة إذا قسمت العقارات وميز نصيب كل واحد ، ولذلك قالوا : إن الشريك إذا ميز نصيبه لم يجز له أن يطالب بالشفعة ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- خصها بحال عدم المقاسمة على ظاهر هذا اللفظ : (( فإذا وقعت الحدود وصُرّفت الطرق فلا شفعة ))، فبين عليه الصلاة والسلام أنه في حال قسم العين أو العقار أنه لا حق للشريك .
واستدل الإمام أبو حنيفة –رحمه الله برحمته الواسعة- بحديث رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- : (( الجار أحق بشفعته ينتظر فيها إن كان غائبا )) . وفي بعض الألفاظ : (( جار الدار أحق بالدار ينتظر بها إذا كان غائبا )) .
وهذا الحديث فيه ضعف في إسناده وقد رواه الإمام الترمذي –رحمه الله- في سننه وكذلك النسائي وابن ماجه وضعفه غير واحد حتى قال الإمام أحمد : هذا حديث منكر .
ووجه الدلالة واضح من الحديث : أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أثبت لجار الدار حق الشفعة ، ومن هنا يقولون إنه إذا صرفت الطرق أو لم تصرف فالجار له الحق بدار جاره .
كذلك أيضا استدلوا بحديث أبي رافع عند البخاري في صحيحه عنه –- رضي الله عنه -- أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( الجار أحق بصقبه )) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح : أن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بين أن الجار أحق بصقب جاره أي بالشفعة في دار جاره هكذا فسروه .(6/277)
والذي يترجح في نظري –والعلم عند الله- هو القول بعدم ثبوت الشفعة فيما قسم ، وأن الشفعة خاصة بما لم يقسم هو الذي تطمئن إليه النفس أخيرا :
أولا : لصحة دلالة السنة على ذلك .
ثانيا : أن الحديث الذي استدل به أولا في إثبات الشفعة لجار الدار فيه الضعف الذي ذكرناه فلا يقوى على معارضة ما هو أصح.
وثالثا : أن حديث : (( الجار أحق بصقبه )) يجاب عنه بأنه اختلف في قوله : بصقبه ، فقيل: الجار أحق بصقبه على وجهين للجواب عن هذا المتن :
الوجه الأول : أن قوله : (( الجار )) الشريك لأن العرب تتجوّز وتتوسع في إطلاق الجيرة حتى إنها لتطلقها على الزوجة مع زوجها ، كما هو مشهور في لسان العرب :
أيا جارتنا بيني فإنك طالقهْ كذاك أمور الناس غادٍ وطارقهْ
هذا بيت الأعشى المشهور، وقالوا إن هذا شاهد على إطلاق الجار بالتوسع ، فوصف الزوجة : أيا جارتنا بيني فإنك طالقة .
فقوله : أيا جارتنا خاطب بذلك زوجته ، والواقع أن الزوجة ليست بجارة ، وإنما تجوز في إطلاق الجارة على الزوجة ، فقالوا إن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قصد من قوله : (( الجار أحق بصقبه )) أي الشريك الذي لم يقاسم مع شريكه ، فيكون هذا الحديث المحتمل ، فسره حديث جابر –- رضي الله عنه -- وحينئذ يحمل على الجار الذي لم يقاسم .
ثانيا : أن قوله : (( أحق بصقبه )) الصقب حمل على البر والإحسان ، فيكون قوله –عليه الصلاة والسلام- : (( الجار أحق بصقبه )) محمولا على أن الجار أولى من تحسن إليه وأولى من تكرمه ؛ إعمالا للأصل الذي قرره دليل الكتاب من إحسان الجار إلى جاره .
وبهذا يترجح مذهب من قال ، وقد استدلوا بحديث الحسن عن سمرة أيضا في إثبات شفعة الجار وفيه ما فيه من عدم سماع الحسن من سمرة وهو لا يقوى على معارضة ما ذكرناه من الحديث الصحيح الذي بين فيه النبي –- صلى الله عليه وسلم -- اختصاص الشفعة بما لم يقسم .(6/278)
قال رحمه الله : [ لقول جابر –- رضي الله عنه -- : (( قضى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- بالشفعة في كل ما لم يقسم )) ] : لقول جابر –- رضي الله عنه -- : قول جابر–- رضي الله عنه -- (( قضى رسول الله -- صلى الله عليه وسلم -- النبي-- صلى الله عليه وسلم -- )) هذا دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - له شخصيات ، فتارة يبلغ الرسالة وهي شخصية الرسالة ، وتارة يصدر حكمه بالقضاء فهو قاضي، وتارة بالإفتاء فهو مفتٍ ، وتارة منه –عليه الصلاة والسلام- مشورة ورأي ، ويكون حينئذ غير ملزم برأيه ومشورته ، هذا يسميه العلماء شخصيات الرسول –- صلى الله عليه وسلم -- ، وقد تكلم عليها العلماء –رحمهم الله- ، ومن أنفس من تكلم عليه الإمام القرافي –رحمه الله- في كتابه النفيس الإحكام في تمييز الفتاوى من الأحكام، وبيان تصرفات القاضي والإمام ، فهذا بيّن فيه شخصيات النبي –- صلى الله عليه وسلم -- التي يكون منها الحكم ، فتارة يكون قاضيا منها هذه المسألة (( قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالشفعة )) وجمع بعض العلماء أقضية النبي –- صلى الله عليه وسلم -- كما فعل الإمام القرطبي –رحمه الله- في كتابه : أقضية النبي –- صلى الله عليه وسلم -- منها هذا الحديث أنه قضى بالشفعة .
قال رضي الله عنه : (( فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة )) ] : فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة : وهذا نص على أن الشريك إذا قاسم أنه لا يثبت له الحق بعد القسمة .
قال المصنف –رحمه الله- : [ الرابع : أن يكون مما ينقسم ] : الرابع أن يكون العقار قابلاً للقسمة .(6/279)
قال رحمه الله : [ فأما ما لا ينقسم فلا شفعة فيه ] : أما ما لا ينقسم فلا شفعة فيه كالحمام ونحوه؛ لأنه لا يمكن قسمه إلا بتعطيل منافعه وهذا ظاهر ؛ أما الدليل على اشتراط كونه قابلا للقسمة فهو قوله –- رضي الله عنه -- : (( قضى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بالشفعة فيما لم يقسم )) فنبه على أنه متعلق بما يقبل القسمة في أصله ، أما الذي لا يقبل القسمة في أصله فليس داخلاً فيما خصته السنة بالشفعة .
قال رحمه الله : [ الخامس : أن يأخذ الشقص كله ] : الخامس أن يأخذ الشريك شقص شريكه كله ، فلو اشترى الأجنبي نصف الأرض ليس من حق بقية الشركاء أن يقولوا نحن نشتري منك الربع ، أو نشتري منك ثلث ما اشتريت ، إما أن يأخذ الكل أو يترك الكل ، وليس من حق الشريك أن يقول: أنا آخذ الربع الذي يليني ، أو سدس الأرض الذي يليني ، والباقي أريد هذا السدس وأترك لك غيره ، فهذا كله أريد سدس الأرض أو أريد ربعها فهذا ليس من حقه إما أن يأخذ الكل أو يدع الكل .
قال رحمه الله : [ فإن طلب بعضه سقطت شفعته ] : فإن طلب بعضه سقطت شفعته : لأن الشفعة كما قالوا إنها من العقود الضعيفة التي تسقط بأقل وارد موجب للسقوط ، فالأصل أنها تتقيّد بما ثبتت به السنة إما أن يأخذ الكل أو يدع الكل ، وقد قضى بها رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- على هذا الوجه ، فتختص بما ورد عن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ، فليس من حقه أن يطالب ببعض النصيب دون بعضه كما ذكرنا ، ولأن هذا فيه ضرر على الأجنبي .
قال رحمه الله : [ ولو كان له شفيعان فالشفعة بينهما على قدر سهامهما ] : ولو كان له شريكان يشفعان : لو كان في العقار ثلاثة فباع أحدهم وبقيت الشفعة للاثنين ، أراد المصنف بهذه العبارة أن يبين أن الشفعة تتعدد بتعدد الشركاء ، وأنها لا تختص بالشريك وحده ، لقوله : استحقاق الشريك كما ذكرنا في التعريف جنس الشريك ؛ سواء كان فردا أو أكثر من شخص .(6/280)
قال رحمه الله : [ فالشفعة بينهما على قدر سهامهما ] : فالشفعة بينهما على قدر سهامهما : لو كان هذا العقار بين أربعة أشخاص لكل واحد منهم الربع فباع أحدهم نصيبه قلنا يستحق الثلاثة الباقون انتزاع هذا النصيب الذي باعه شريكهم، ويدفع كل واحد منهم ثلث القيمة ، أي يستحق ثلث نصيب صاحبه ؛ لأنه وجب له بالشركة ، فينظر إلى قدر حصته من الشراكة ، وعليه فإنه إذا كان قدر حصته النصف وللبقية الاثنان كل واحد لكل واحد منهم مثلا الربع؛ فحينئذ يكون لمن له النصف الثلثان ولمن له الربع الثلث، وإذا كان البقية اثنين قسم أثلاثا إذا كانوا أربعة وباع أحدهم وبقي ثلاثة قسم الباقي أثلاثا على الصورة التي ذكرناها .
المقصود من هذا حتى لا يشوش على طالب العلم العلماء لما يضربون بهذه الأمثلة يريدون أن يبينوا أن هذا الانتزاع سببه الشركة ، وإذا كان بسبب الشركة فلكل واحد أن ينتزع بقدر هذه الشركة ، فمن كان له النصيب الأكثر أخذ بالأكثر ، ومن كان له النصيب الأقل أخذ بقدر حصته ، فإن كانوا متساوين قسم النصيب الذي بيع على قدر رؤوسهم هذا هو : إما أن تكون أنصبتهم متساوية فحينئذ يقسم نصيب الذي باع على قدر رؤوس الباقين إذا كانوا متساوين ، وإما أن يتفاوتوا فحينئذ يكون لكل منهم قدره على حسب كبر نصيبه وصغره .(6/281)
قال رحمه الله : [ فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر إلا أخذ الكل أو الترك ] : إذا ترك أحد هؤلاء الشركاء أن يشفع فنقول للآخر : إما أن تأخذ الكل أو تدع الكل ، فلا تتقسط الشفعة ، وهذا كله لدفع الضرر عن الأجنبي والاختصاص بالوارد ، لأنها شيء جاء على خلاف الأصول ، فإذا كان الأجنبي قد اشترى ثلث المزرعة وبقي الثلثان بين اثنين، فإذا شفع الاثنان كل واحد منهم يشفع بقدر السدس حتى يصبح المال مناصفة بينهم ، فامتنع أحد الشريكين وقال: أنا ما أريد أن أشفع كان من حق الآخر أن يشفع ولكن نقول له: تأخذ الثلث كاملا ، وحينئذ يكون له ثلثا المزرعة ويكون للآخر الباقي الذي امتنع الثلث ، وليس من حقه أن يقول : أنا أشفع بقدر السدس ، إنما يكون له ذلك إذا شفع صاحبه ، وأما إذا لم يشفع ؛ فإما أن يشفع بالكل ، أو يترك الكل .
قال رحمه الله : [ السادس: إمكان أداء الثمن ، فإن عجز عنه أو عن بعضه سقطت شفعته ] : إمكان أداء الثمن فإن عجز عن الثمن كله أو عن بعضه سقطت الشفعة ، قال: أنا شافع ثم لم يعطِ ثمن الشقص ألغينا شفعته ورد النصيب للأجنبي ، وهذا كما ذكرنا لضعف الشفعة ، وكذلك خروجها عن الأصول ، وهكذا لو عجز عن بعض الثمن فأعطى نصف القيمة من قيمة النصيب وأخر النصف الباقي ثم عجز عنه فإنه تسقط شفعته ويبقى النصيب ملكا للأجنبي .
قال رحمه الله : [ وإذا كان الثمن مثليا فعليه مثله ] : إذا كان الثمن مثليا عليه مثله : مثلا اشترى بمائة ألف ريال نقول : ادفع له مائة ألف ريال ، اشترى بخمسين نقول: ادفع بخمسين ، هذا إذا كان مثليا من الأثمان ، اشترى بألف جنيه نقول : عليك ألف جنيه بالمثلي .(6/282)
قال رحمه الله : [ وإن لم يكن مثليا فعليه قيمته ] : ولو أنه اشترى مثلا بطعام ليس بمثلي أو اشترى بغير المكيل والموزون فنقول : نقدر هذا الشيء ، وننظر إلى قيمته ثم يلزم بدفع القيمة ، وهذا على الأصل الذي ذكرناه ومر معنا في الضمان وفي الغصوب أنه إذا تعذر المثلي صير إلى القيمة ، وهي عوض عن المثلي ، ولذلك لا يصار إلى القيمة مع إمكان المثلي ؛ لأنه الأصل .
قال رحمه الله : [ وإن اختلفا في قدره ولا بينة لهما فالقول قول المشتري مع يمينه ] : وإن اختلفا في قدر القيمة ولا بينة تحدد هذه القيمة فالقول قول المشتري ؛ لأنه مدعىً عليه فالقول قوله مع اليمين وحينئذ يثبت له حقه .
قال رحمه الله : [ السابع : المطالبة بها على الفور ساعة يعلم ] : السابعة المطالبة بالشفعة على الفور أي لا يتأخر . ساعة علمه فلا يتوانى وهذا فيه حديث ضعيف ، ولكن العمل عليه عند جماهير القائلين بالشفعة ، وهو حديث (( الشفعة كحلّ العقال ))، فلا يتأخر فيها ، فإن تأخر فإنها تسقط ، مثال ذلك: علم أن شريكه باع نصيبه فسكت ولم يتكلم ، فإذا سكت مع إمكان المطالبة بالشفعة ومضى وقت يمكنه أن يطالب ولم يطالب ، وقامت البينة على أنهم أخبروه وهو ساكت ولم ينكر ولم يطالب ؛ سقط حقه من الشفعة لضعف الشفعة ، وحينئذ يبقى النصيب ملكا للأجنبي ولا شفعة ، إذًا لابد أن يطالب بها وعلى الفور ، وهذا كما ذكرنا الأصول تشهد به ، ولو فتح هذا الباب أن الشفعة ليست على الفور فمعنى ذلك أنه يترك الأجنبي إلى أن ينتفع بالنصيب ولو مضت حتى سنوات وأشهر ثم يقول أريد أن أشفع الآن ، فهذا لا إشكال أنه متعذر شرعا ، فلابد من المطالبة بها على الفور حتى يثبت حقه .
قال رحمه الله : [ فإن أخّرها بطلت شفعته إلا أن يكون عاجزا عنها ] : فإذا أخّرها يعني أخر المطالبة بطلت شفعته كما ذكرنا . [ إلا ] استثناء أن يكون معذورا عنده عذر في هذا التأخير .(6/283)
قال رحمه الله : [ إلا أن يكون عاجزا عنها لغَيْبة أو حَبْس ] : إلا أن يكون عاجزا عنها عن الشفعة لغيبة : باع صاحبه وشريكه نصيبه والشريك مسافر غائب ما هو موجود ، ولم يعلم ببيعه ، ولما قدم من السفر بعد شهر بعد شهرين بعد ثلاثة قيل له : إن شريكك قد باع فقال: أنا شافع ، فحينئذ ما بين عقد البيع وإتمام الصفقة وما بين شفعته زمان ، تأخر فيه عن المطالبة لعذر وهو الغيبة ، فمادام أنه لم يعلم كان غائبا ؛ فإنه لا يسقط حقه لوجود العذر .
قال رحمه الله : [ أو حَبْس ] : أو حبس : كان محبوسا لا يستطيع أن يخرج ويطالب ولا يمكنه أن يوكل أو لم يعلم كان محبوسا ولم يبلغه أحد ببيع صاحبه وشريكه لنصيبه .
قال رحمه الله : [ أو مرض أو صغر ] : أو مرض : كان مريضا ولم يعلم أو كان مريضا وعجز أن يأتي إلى القاضي ويطالب بالشفعة ، أو يكلم الشريك ويطالب بشفعته .(6/284)
قال رحمه الله : [ أو صغر ] : أو صغر : كان صغيرا فإذا طالب بالشفعة فالصغير كما بينا في مسألة صحة التصرف في البيع أن من شرط صحة البيع أن تكون عنده أهلية التصرف ، فهو إذا كان صغيرا ما يستطيع أن يقول : أنا شافع ، لأنه إذا شفع لابد أن يشتري ، والصغير ما يستطيع أن يشتري؛ لأنه محجور عليه ، فحينئذ عنده عذر فتأخر حتى بلغ ، ولما بلغ طالب ، وهذا يعني عذر شرعي ، ولذلك من العلماء من منع حتى الولي أن يشفع ، وجعل الأمر حقاًّ للصبي ، وإذا احتاج إلى نظر الصبي لنفسه فله الاختيار أن يشفع أو عدمه ، فلو انتظر إلى بلوغه بعد خمس سنوات حينئذ يدفع نفس القيمة التي اشترى بها المشتري ، لأن هذا أصلا ما في ضرر؛ لأن الأجنبي يعلم أن هذا المال مشترك وأن فيه شفعة ، فإذا ينتظر إلى بلوغه فإذا طلب بحقه فحقه له ؛ لأن الأصل أن هذا حق شرعي أعطاه الشرع ، فيستوي أن يطالب به مباشرة أو متأخرا مادام أن الشرع قد أذن له بالتأخر ؛ لأنه منعه أن يطالب في صغره للحجر فلما زال العذر طالب بحقه فبقي على الأصل الشرعي .
قال رحمه الله : [ فيكون على شفعته متى قدر عليها ] : فيكون الشريك على شفعته متى قدر عليها ، وهكذا بالنسبة لبقية الشركاء .
قال رحمه الله : [ إلا أنه إن أمكنه الإشهاد على الطلب بها فلم يشهد بطلت شفعته ] : إذا كان غائبا وبلغه أن صاحبه أو شريكه باع وهو في مجلس عنده شهود يمكن أن يشهدهم فسكت ولم يشهد قصر وحينئذ يسقط حقه كما لو إذا بلغه في الحضر، فإذا كان عنده شهود يقول اسمعوا واشهدوا أني شافع فلان أبلغني أن شريكي باع فأشهدكم أني شافع ، فيشهد البينة إذا أمكنه ذلك ، وأما إذا لم يمكنه فإنه باق على عذره .(6/285)
قال رحمه الله : [ فإن لم يعلم حتى تبايع ثلاثة فأكثر فله مطالبة من شاء منهم ] : هذا أراد المصنف به أن يبين أن الشفعة لا تسقط ولو تعدد البيع ، فلو باع لأجنبي ، ثم الأجنبي باع إلى آخر دون علم الشريك ، ثم الآخر باع إلى آخر وتسلسلوا ولو إلى عشرة ، وكله قد توفر فيه الشرط من عدم علم الشريك، فما علم إلا بعد ثلاثة أو أربعة أو خمسة فإننا نقول للشريك : أنت بالخيار إن شئت اطّردت الأصل، وأخذتها بأصل الثمن من الأول أو أخذتها من الأخير ورجع كل واحد منهم على صاحبه بحقه، مثال ذلك : اشترى الأول بخمسمائة ألف ريال، ثم باع على الثاني بمليون ، ثم باع الثالث بمليونين، نقول : ينتزعها بنصف مليون ثم يرجع الثالث على الثاني بمليونين ويأخذها منه ثم يرجع الثاني على الأول ويأخذ منه مليون والنصف فالحكم أنه يستحق بالبيع الأول لا بالبيع الأخير . يستحق الانتزاع بالبيع الأول بالقيمة بالبيع الأول، ثم هذا الانتزاع ينتزع به بالقيمة الأصلية وهي خمسمائة ونصف مليون فلو مهما بلغت بالزيادة مهما بلغت زيادتها فإنه يستحق بالأصل ولا تثبت الزيادة ، لأن البيع الثاني وقع في مال مستحق -ينتبه لهذا- كبيع المال المغصوب مال مستحق للغير ، والبيع الثالث وقع أيضا في مال مستحق ، فهذا لا يثبت به اليد ، ولذلك من عوارض البيع ومما يؤثر في اعتباره ثبوت الاستحقاق، ومن مسائله : ثبوت الشفعة ، فإذا قالوا في مؤثرات وطوارئ البيع الاستحقاق من أمثلته الشفعة ، أو إرث لشخص ونحو ذلك .
قال رحمه الله : [ فإن أخذ من الأول رجع عليه الثاني بما أخذ منه ] : وهكذا مثل ما ذكرنا .(6/286)
قال رحمه الله : [ والثالث على الثاني . ومتى أخذه وفيه غرس أو بناء للمشتري أعطاه الشفيع قيمته ] : ومتى أخذه وفيه غرس أو بناء للمشتري أعطاه الشافع قيمته الشريك قيمته إذا تصرف المشتري الأجنبي في النصيب فإنه في هذه الحالة يعطيه قيمة البناء والغرس ؛ وهذا لأنه تصرف في مال البيع فيه صحيح من حيث الأصل ، ولذلك يستحق أن يرد له نفس القيمة قيمة ما باع ، واليد فيها شبهة والمال ماله يعني البناء بناؤه والغرس غرسه ، فله أن يشتريه منه بقيمته .
قال رحمه الله : [ إلا أن يختار المشتري قلعه من غير ضرر فيه ] : فإذا قال الأجنبي: لا أريد أن أبيع وأريد أن أنقل النخل الذي زرعته في الأرض أريد أن أنقله إلى أرضي فهذا حقه ؛ لأن الغرس غرسه ، مثال ذلك: لو كان هناك شريكان، وبينهما أرض ، وباع أحدهما نصيبه وهو النصف ، فأخذه أجنبي ثم كان الآخر غائبا ومسافرا، فقام لأنه من المعلوم أنه لو كان شريكين فأحدهم سيوكل الآخر في حال غيبته ، فذهب وسافر ووكل هذا في حال غيبته يقوم على الأرض ، فلما انفرد بالمال قام وباع نصيبه وقال الآخر: اعلم أن شريكك فلاناً سيحضر بعد سنة أو سنتين حضر بعد سنة أو سنتين فوجد الأرض مغروسة من الذي غرسها ؟ الأجنبي فنقول لهذا : ما رأيك قال أنا شافع أريد الأرض قيل له هذه الأرض إذا أردتها فإنها مغروسة قال أعطيه قيمة الغرس إن رضي صاحب الغرس فلا إشكال وهو الأجنبي تقدر ويعطيه أو يتفقان على القيمة التي يتفقان عليها ، قال صاحب الغرس: لا . أريد أن أنقل غرسي ولا أريد أن أبيعه ، هذه المائة نخلة أريد أن أنقلها ، نقول لك ذلك لأنه ماله ، فإذا اختار قلعها ونقلها نقلها إلا فيما فيه ضرر على الأرض هذا يستثنى .(6/287)
قال رحمه الله : [ وإن كان فيه زرع أو ثمر باد فهو للمشتري يبقى إلى الحصاد أو الجذاذ ] : وإن كان فيه زرع بادٍ أو جزة ظاهرة فإنه للمشتري إلى الحصاد مثلا لو أنه زرعها حبا يترك حتى ينتهي منه ويحصده ويرد الأرض كما كانت ، لأن هذا يمكن فيه إبقاء المال وإبقاء اليد على ما هي عليه ، وقد تقدم معنا غير مرة الله –- عز وجل -- أثنى في الفقه على إبقاء الأصل كما في قوله –تعالى- : { ففهمناها سليمان } فامتدح الله حكم سليمان ؛ لأنه أبقى اليد ، فحينئذ هذا الحب الذي زرع نبقي يد من زرعه عليه ونقول له : انتظر حتى تحصده ثم ترجع الأرض لصاحبها كما رد سليمان لصاحب الزرع زرعه ولصاحب الماشية ماشيته ، هذا إذا أمكن .
قال رحمه الله : [ وإن اشترى شِقْصا وسيفا في عقد واحد فللشفيع أخذ الشقص بحصته ] : لو أنه اشترى هذا النصيب مشتركا بشيء آخر يشاركه شيء آخر مثل أن يشتري نصف الأرض وسيارة فاشترى نصف الأرض بنصف مليون والسيارة بخمسين ألفاً فأعطاه خمسمائة وخمسين في هذه الحالة نقول: إن الشفعة تثبت فيما نص عليه الشرع ، وهي الأرض التي لم تقسم ، وأما الطرف الثاني من البيع فإنها لا علاقة لنا به، فينظر إلى قيمة الشقص من البيعة وهو تفريق الصفقة تفرّق الصفقة إذا وقعت مجتمعة ونقول: كم نصيب الشِّقْص من الصفقة هذا الذي يُرد للأجنبي ويستحق به الشفعة .
كتاب الوقف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رحمه الله : [ كتاب الوقف ] :
يقول المصنف –رحمه الله- : [ كتاب الوقف ] : الوقف: السكون وقف الشيء إذا سكن عن الحركة ومنه قولهم : وقفت الريح .
وأما في الاصطلاح فسيذكر المصنف –رحمه الله- تعريفه ، وهذا الوقف من العقود الشرعية بين العبد وبين ربه في تحبيس ماله .(6/288)
ثبتت السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- بمشروعيته نصا كما في الصحيحين من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- أنه جاء إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- (( فقال : يا رسول الله ، إني أصبت بخيبر مالا وهو أنفس ما أملكه فما تأمرني فيه ؟ قال : إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها على أن لا يباع ولا يوهب ))، ففعل عمر –- رضي الله عنه -- ذلك.
ووجه الدلالة في قوله : (( إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها )) فهذا يدل على مشروعية الوقف ، لأن الوقف فيه تحبيس للأصل وتسبيل للثمرة .
وأجمع العلماء –رحمهم الله- على مشروعية الوقف ، وبالوقف تتحصل المصالح ، ويتحصل الإنسان على الأجر العظيم ؛ خاصة إذا كان الوقف مشتملا على البر والإحسان والخير ، وكم من أجور وحسنات أبقاها الله للأموات بعد موتهم وخروجهم من الدنيا بما قدموا من صالح العمل بأوقافهم، وحصل منها الخير الكثير والنفع العميم، فجعلها الله –- عز وجل -- حسنات باقية لهم ، وهو من أحب الأعمال وأفضلها إلى ذي العزة والجلال ، خاصة إذا كان فيه تفريج للكربات ، وإزالة لهموم المهمومين، مثل: تسبيل البيوت من الأربطة على الفقراء والضعفاء والأرامل واليتامى ونحو ذلك مما فيه مرضاة الله –- عز وجل --.
يقول المصنف –رحمه الله- : [ كتاب الوقف ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالوقف .(6/289)
قال رحمه الله : [ وهو : تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ] : وهو : أي الوقف تحبيس الأصل وهو العين وتسبيل الثمرة : وهي المنافع ، فكل شيء من الأموال له منفعة ، وهذه هي صورة الوقف أنه تحبيس للأصل كالدار يحبّس أصلها ويسبل منفعتها المنفعة هي السكنى في الدار، والدابة يحبس عينها ويسبل منفعتها ، والكتاب يحبس أصله ويسبل منفعة القراءة فيه ، والبئر يحبس أصلها ويسبّل الماء الذي فيها ، والمزرعة يحبس أصلها ويسبل الثمرة التي تكون من زرعها ، وهكذا بالنسبة لبقية الأوقاف ، هذه هي حقيقة الوقف : تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة .
قال رحمه الله : [ ويجوز في كل عين يجوز بيعها ] : ويجوز الوقف في كل عين : هذا محل الوقف ، في كل عين يجوز بيعها : فيشمل هذا العقارات والمنقولات شريطة بقاء النفع ، وعليه فإنه يحبّس الدور ويحبّس الأرضين ؛ سواء حبسها على سبيل القربة على الضعفاء والمساكين ، أو جعلها صلة رحم كأن يجعلها لقرابته من بني عمه وعصبته ونحوهم من ذوي الأرحام إذا لم يوجد العصبة ، أو جعلها في مصالح المسلمين العامة : كبناء المساجد، وشق الطرقات، وحفر الآبار، فهذه الأموال كلها التي ينتفع بها الناس هي محل للوقف .
قال رحمه الله : [ وينتفع بها دائما مع بقاء عينها ] : وينتفع بها دائما مع بقاء عينها : أما إذا كان الانتفاع بها يوجب زوال العين كما في المشموم كالرياحين ونحوه فإنه لا يكون محلا للوقف .
ينتفع بها دائما : حينما يبني بيتا أو عمارة ويوقفه ويجعله سبيلا للأيتام والأرامل فإن العين وهي البيت ينتفع به دائما بالسكنى فيها ، ولو حفر بئرا فكذلك ينتفع به دائما بالشرب من مائه ، ولو حبّس مزرعة ينتفع بها دائما بالنتاج الذي يكون منها بغرسها وتسبيل ثمرتها .
قال رحمه الله : [ ولا يصح في غير ذلك ] : ولا يصح في غير ذلك مما تذهب منفعته باستهلاكه كما ذكروا لها أمثلة كالرياحين ونحوها من المشمومات .(6/290)
قال رحمه الله : [ مثل: الأثمان والمطعومات والرياحين ] : الأثمان لا ينتفع بها إلا بذهاب عينها فليست محلا للوقف ، مثلا لو قال : هذه العشرة ريال وقف فالعشرة ستصرف ما نستطيع أن ننتفع بها إلا إذا أذهبنا عينها ، فحينئذ ليست محلا للوقف ، فالأثمان ليست محلا للوقف ، لكن لو أنها كانت حُليا فإنها محل للوقف ؛ لأن الحلي ينتفع به .
قال رحمه الله : [ ولا يصح إلا على بر أو معروف ] : ولا يصح الوقف إلا إذا كان على بر أو معروف وهذا هو الذي أشار به النبي –- صلى الله عليه وسلم -- على عمر حينما سأله عمر واستشاره فدله على ذلك لما فيه من عظيم الأجر والمثوبة .
ولاشك أن الأوقاف هي خير معين بعد الله –- عز وجل -- للإنسان بعد وفاته في بقاء الأجر له ؛ لأنه لا تباع ولا يتصرف فيها ، ويكون الأمر فيها أضيق متى ضبط بالضوابط الشرعية .(6/291)
وكم من حسنات وخيرات بقيت بين المسلمين ، ومن قرأ التاريخ وجد عجبا عجابا من صلاح أمور كثير من المسلمين وضعفائهم بفضل الله ثم بفضل الأوقاف ، وليس هناك عاقل ينظر في الأوقاف وآثارها الحميدة إلا وهو يعلم علم اليقين أنها نعمة عظيمة على أمة محمد –- صلى الله عليه وسلم -- ، فكم شيد بها من المدارس التي علمت الجاهلين ، وأيقظت الغافلين وأرشدت الحائرين ، وكم أوقف من مكتبات كانت فيها الكتب النافعة، وكانت فيها العلوم وكانت الأمة الإسلامية في أوج عظمتها ، حينما كانت من المحيط إلى المحيط زاخرة بأوقاف المسلمين ، عامرة بهذه المعاملة التي أبقت قوة الدين، ونفعت الضعفاء، فتوصلوا إلى أشياء لم يكونوا يمكنهم التوصل إليها لولا فضل الله ثم الوقف ، ولذلك يسّر الله بأوقاف الأثرياء والأغنياء وصالح المسلمين في الأزمنة الغابرة أموراً كثيرة ، وكل من كتب حتى من أعداء الإسلام عن المسلمين في الفترة الزاهرة فإنه يضع قلمه على ذلك المعلم ، وعلى ذلك المشهد الرائع الجميل الذي واسى فيه أغنياء المسلمين فقراءهم ، والذي كان فيه التكافل، وكان فيه التراحم والتواصل بين هذه الأمة من عليتها وضعفائها مما أوجب حب بعضهم لبعض ، وترحم بعضهم على بعض ، وصلة بعضهم لبعض ، وبقاء الذكر الجميل للذين أحسنوا وأفضلوا ، فكم من أموات ماتوا من قرون وعرفوا بما خلفوا للأمة ماتوا فما ماتت مآثرهم ولا ماتت فضائلهم ، وكم تجد من أخبار عظيمة حصل فيها الخير الكثير بسبب هذه الأوقاف ، فأوقف المسلمون كتبهم النافعة ، وأوقف المسلمون علومهم النافعة ، وأوقف المسلمون بيوتهم ودورهم، وفتحوها للضعفاء ولطلبة العلم، ولكل من يرغب في الخير ، فأوقفوا مساجدهم وخرجوا من هذه الدنيا لله وفي الله وابتغاء رحمة الله ، وفازوا بالأجر العظيم ، وكم من عبد صالح خرج من ماله الذي هو أحب ما يكون إليه لله ؛ ولذلك عمر بن الخطاب –- رضي الله عنه -- قال لرسول الله –- صلى الله عليه(6/292)
وسلم -- : (( إني أصبت بخيبر مالاً هو أنفس مالي ))، -أنفس مالي أنفس شيء أعز شيء أملكه- فما تأمرني فيه ؟ )) فما كان من رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- إلا أن أرشده إلى الوقف.
وكل من قرأ عن تاريخ الأمة الإسلامية يستطيع أن يربط بين مآثر الوقف وبين اختيار النبي –- صلى الله عليه وسلم -- لعمر الوقف .
الأوقاف حسنات عظيمة، وأياد بيضاء ، عاشت الأمة الإسلامية دهرا طويلا بفضل الله ثم بثمراتها اليانعة وخيراتها الباقية ، وكم دمعت الأعين ، وتقرحت القلوب ، حينما تَسلّط على هذه الأوقاف الظلمة ، فحرموا الضعفاء حقوقهم حرموا البائسين حقوقهم ، وعطلوها عن منافعها ، وحصل من ذلك البلاء على الأمة جماعات وأفرادا ، فكانت الأمة بخير عظيم ، وكل من قرأ رحلة من الرحلات التي دونها العلماء ؛ خاصة رحلة الحج أو غيرها وجد أوقاف المسلمين حتى في طريق الحاج في حجه ، ووجد أوقاف المسلمين في طريق المسافر في سفره ، ووجد أوقاف المسلمين للمرضى، ووجد أوقاف المسلمين للأصحاء، ووجد أوقاف المسلمين للجهال ، ووجد أوقاف المسلمين للعلماء ووجد أوقاف المسلمين للصغار، وأوقاف المسلمين للكبار ، وأوقافهم للمرضى وأوقافهم للأصحاء ، فنسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يعظم أجورهم، وأن يجزل مثوبتهم .
فالوقف فيه خير عظيم وباب رحمة على هذه الأمة ، ولذلك قل أن تقرأ عن تاريخ الأمة المجيد ، وكيف كان أعداء الإسلام تصيبهم الدهشة والحيرة مما يرون من تلك الأوقاف المشيّدة ، كان المسلم إذا ملك المال لم يفكر إلا في الطريق الذي يرضي بها الله –- سبحانه وتعالى -- ، ولا يفكر في جماله ولا يفكر في غناه ولا يفكر في حسن حاله ، لا يفكر إلا في الطريق الذي يرضي بها ربه .(6/293)
وحدثني الوالد –رحمه الله- عن رجل من خيار الناس في المدينة أنه كان غنيا فبنى بيتا من أعز ماله وأحسن بناءه ، فبناه بالحجر المنحوت وتعب في بنائه ، وجلس فترة طويلة من الزمان، ثم شاء الله –- عز وجل -- أن انتهى بناء البيت فأخرج أولاده وأهله وخدمه وحشمه إلى البيت فنزلوا فيه أول النهار فلما استقروا في البيت، جلس يسألهم : كيف البيت ؟ فجلس كل يثني عن جمال البيت في بنائه وفي روعته وفي كبره وفي فسحته وما فيه ، وإذا به مطرق متأمل حتى إذا قضوا قال : يا أبنائي، ويا زوجاتي، إني فكرت في هذا البيت فوجدت أنه أعز ما أملك وأنه من أفضل ما يكون أن أقدمه لآخرتي ، وهذا بعد أن رأوه وأحبوه وطمعوا فيه يقول الوالد -رحمه الله-: والله ما رد عليه أحد منهم بـ (لا) ، وهكذا ذرية بعضها من بعض وأقسم الوالد عن رجل ثقة قال: إنهم خرجوا من البيت في عِزّ الظهيرة ثم لم تغب شمس ذلك اليوم إلا وهو مليء بالضعفاء والفقراء والأرامل وهذا لاشك أنه من نعم الله على العبد ، العبد الذي يعرف ربه ، ويعرف المعاملة مع الله ، ويعرف المتاجرة مع الله الرابحة ، ويعلم أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ، ويعلم حرارة الضعفاء والفقراء والبؤساء ، ويعلم أن نصرته بالإحسان إلى الضعيف، وإكرام المحتاج من المسلمين، لا يمكن أبدا أن تكون الدنيا أكبر همه، أو مبلغ علمه، أو غاية رغبته .(6/294)
والوقف إذا كان بالصدقات وبالحسنات لاشك أنه ينفع الأمة جماعة وأفرادا ، ولذلك كانت الأمة بخير عظيم حينما حفظت هذه الأوقاف، وحصل البلاء العظيم بضياع هذه الأوقاف، وتسلط الظلمة الذين لا يخافون الله ولا يتقونه ، بل لربما حتى من أقرباء الميت الذي أوقف ، ولربما تسلط عليها الجهال قد يكون بعضهم عن جهل فيعطل مصالح الوقف ويتلاعب بها ويتأخر فيها، فالله أعلم كم من ميت أراد الإحسان فقطع عنه إحسانه بظلم الظالمين وعدوان المعتدين ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ، ولما تقرأ بعض الصكوك القديمة في الأوقاف لا تملك أن يخشع قلبك وأن تبكي عينك ، فإن بعض الأوقاف التي كتبت ونقلت في التاريخ والرحلات بعض صيغتها نفسها موعظة ، هذا ما أوقفه العبد الفاني من ماله يرجو به ربه الذي لا يفنى ، هذا ما قدمه العبد الضعيف من مال الله الذي أغناه ، هذا ما فعله كذا وكذا ، وإذا بهم يشترون رحمة الله –- عز وجل -- ، ثم انظر كيف بقيت بركة هذه الأوقاف ، وكيف انتفع بها الناس ، وكيف حصل منها من الخير العظيم ، بل كان بعضهم في أَوْج الغنى يتسلط على ضعفة المسلمين في حاجة، يسخّر لها ماله حتى يصبح فقيرا ، وهذا معروف في بعض الحوادث أن بعض الأغنياء أراد أن يجري بعض المياه من أماكن للحجاج في طريق الحج ، ومنهم من أراد أن يجريها في المناسك والمشاعر، فما زال ينفق حتى أصبح فقيرا معدما من حرصه على الخير ، ولكن فقير من الدنيا غني بالله –- جل جلاله -- ، ولاشك أنه ربح الخير الكثير .
فالأوقاف فيها خير كثير على الأمة وهي من العقود المشروعة إذا توفرت فيها الشروط ، والتي دلت عليها الأدلة الشرعية .
قال رحمه الله : [ مثل ما روي عن عمر –- رضي الله عنه -- أنه قال : يا رسول الله إني أصبت مالا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني فيه ] : إني أصبت مالا لم أصب مالا قط أنفس منه : هذا اللفظ يدل على أمور ، منها :(6/295)
أولا : أدب الصحابة مع النبي –- صلى الله عليه وسلم -- كان الصحابة –رضي الله عنهم- يرجعون إلى النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في الصغير والكبير والجليل والحقير ، فلا يقدمون على قوله بأبي وأمي –صلوات الله وسلامه عليه- .
ثانيا : أن هذا المال هو أنفس المال ، وعادة أن أهل الدنيا ومن يحبون الدنيا إذا جاءهم أنفس المال اشتغلوا به في الدنيا ، وتجد من تعلّق قلبه بالدنيا إذا جاءه أنفس المال يتمنى أن أحدا لا يعلم أن عنده أنفس المال ؛ لأنه يريده لنفسه ، ويخبّيه لمتعته وشهوته ، ولكن الصحابة على خلاف ذلك ، أول ما فكّر أن يبحث عن شيء يرضي الله –- عز وجل -- ، فلما كانت الهمة متعلقة بالآخرة انطلق إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- يسأله ماذا يفعل لكي يرضي الله –- جل جلاله -- ، نعم ، يفعل ذلك حينما يعلم أن المال مال الله ، وأن الذي أعطاه هو الله ، وأنه لا حول له ولا قوة إلا بالله ، فقال هذا المال أنفس مالي فما تأمرني به ؟ بين يديك إن أردته صدقة فهو صدقة ، وإن أردته هبة في طاعة الله فهو هبة في طاعة الله ، ماذا تأمرني فيه ، وهذا يدل على فضل عمر –رضي الله عنه وأرضاه- ولذلك حينما تتأمل حديث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ )) تعلم أن أبابكر وعمر وعثمان وعلياًّ –رضي الله عنهم- وغيرهم من أصحاب رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- ما تبوأوا هذه المنزلة إلا بفضل الله ثم بالثمن الذي قدموه من صدق العبودية لله –- عز وجل -- ، وإيثار مرضاة الله على مرضاة النفس ، وجعل هواهم تبعا لطاعة الله –- عز وجل -- ومرضاته .(6/296)
ما تأمرني به : من اليوم الذي إذا أخذ راتبه أو جاءته الدنيا فكّر في نصوص الكتاب والسنة ما الذي تأمره به ، من الذي إذا جاءته الدنيا كأنفس ما تكون في عينه وأجمل ما تكون في عينه يفكر ما الذي يأمره به الله ورسوله –- صلى الله عليه وسلم -- ؟! ويؤكد هذا أيضا قضية أبي الدحداح –- رضي الله عنه -- فإنه لما نزل قوله –تعالى-: { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } جاء إلى رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- فيقول : أيستقرضنا الله وهو غني عنا ؟! ما كانوا غافلين عن هذه النصوص ، كانت النصوص في حياتهم، وكان الكتاب والسنة تطبيقا وعملا وليس باللسان والدعوى ، كان الثمن عزيزا وكان الصدق في العبودية حينما ترى الإنسان لما يكون ملتزماً بالكتاب والسنة ، ملتزماً في أقواله وأعماله وتظهر دلائل الكتاب والسنة فيه ، وليس كحالنا اليوم –إلا من رحم الله- فتجده يزكي نفسه ربما وهو من أجهل الناس بالكتاب والسنة ، وهكذا هلك الخلف ونجى السلف نجوا بالعمل والصدق مع الله –- عز وجل -- .
(( ماذا تأمرني به ؟ )) رجوع إلى أمر الشرع فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها )) إن شئت دل على أنها مشورة على الخيار ، لم يلزمه بها إن شئت ، حبست أصلها وسبلت ثمرتها : وهذا من باب الرأي والمشورة ، أي أني أشير عليك أن تفعل بها أفضل شيء ؛ لأن المستشار مؤتمن ، وهذا جعل بعض العلماء يقول : إن الوقف من أفضل الصدقات ، وذلك لبقاء خيره ، فلو تعارض عنده صدقة تنقطع وتذهب بالمال وأن يحفر بئرا يبقى للمسلمين وضعفتهم قُدّم الذي يبقى ؛ لأنه مستديم وأجره أكثر، هذا وجه عند بعض العلماء ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- اختاره لعمر –رضي الله عنه وأرضاه- .
(( إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها )): في الوقف ثلاثة ألفاظ صريحة : أوقفت ، حبست ، سبلت؛ لأنها وردت في السنة .(6/297)
أوقفت : وهذا من الصريح ، أوقفت داري أوقفت أرضي أوقفت عمارتي . سبلت عمارتي ، حبست عمارتي هذه كلها صريحة .
حبّست أصلها الذي هو أصل الأرض فلا تباع ولا توهب كما جاء تفسير هذا في التحبيس فتخرج إذا أوقف الإنسان المال خرج عن ملكيته لله –- عز وجل -- ، وهذا يقتضي أن الوقف لا يباع إلا بإذن من القاضي، يحتاج إلى إذن من القاضي فينظر القاضي المصلحة في بيعه فيأذن ببيعه .
حبست الأصل فهو محبس الأصل لا يمكن بيعه ولا هبته ،.
وسبّلت ثمرتها : أي منفعتها وبذلك عرف العلماء الوقف -كما عرفه المصنف- : تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وهو مستنبط من النص .(6/298)
قال رحمه الله : [ غير أنها لا يباع أصلها ولا يوهب ] : غير أنها لا يباع أصلها: الأرض لا تباع ولا توهب : وهذا حكم شرعي مجمع عليه بين العلماء أن الوقف لا يباع ولا يوهب ، لا يباع الوقف إلا إذا قضى فيه القاضي في أحوال مستثناة ، مثل أن تتعطل منافعه ، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه ، ولا يوهب : ومن هنا بعض كتب الوقف تطبع لطلبة العلم، فتفاجأ بشخص يقول عندي كتاب أريد أن أهديه لك ما هو هذا الكتاب ، كتاب صحيح البخاري ، ونعمت الهدية ، فتأتي تفتش فتجد وقفا لله على طلبة العلم ، يظن أنه إذا أعطاك أنه هدية ليس محلا للهدية وهذه من الأخطاء التي يقع فيها بعض المنتسبين للعلم أنه لا يجوز بيع الوقف ولا هبته ، ومن هنا الكتب التي تستلمها وقفا ينبغي أن تفرزها عن مكتبتك، وإذا جئت تبيع المكتبة أو تهبها فهذه الأوقاف تخرجها ولا تعطي الوقف إلا لمستحقه ، هذا أمر يعني يخطئ فيه الكثير إلا من رحم الله بسبب الجهل أو عدم التقيد بالضوابط الشرعية ، الوقف لا يباع ولا يوهب ، ومن هنا من الخطأ أن البعض يأتي ويبيع مكتبته كلها ، المفروض أن يفرز ما استلمه وقفا لأنه ليس محلاً للمعاوضة ، ويخرج من المكتبة ثم بعد ذلك ينظر في الكتب ، ولذلك تجد البعض لما يشتري بعض المكتبات تجد فيها كثيراً من الكتب مكتوباً عليها وقف لله تعالى أو من الكتب التي وزّعت ، فهذه لا تباع ولا توهب ، وليس له يد عليها بالملكية للرقبة .
كذلك أيضا تجد البعض تكون كتب وقف وتوزع على طلبة العلم فتجده يحبسها وهو لا يقرأ فيها ولا ينتفع بها ، وهذا تعطيل للوقف ، كتاب تعلم أنك لا تقرأه وهو وقف لله على طلبة العلم تخرجه لمن هو أولى منك وأحق بهذا الوقف ؛ لأنها ثمرة مسبّلة ، فلا تحبس أجرها عن مستحقها ، وإلا أثم الإنسان فهذا أمر ينبغي التنبه له ، إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها ، غير أنه لا يباع ولا يوهب .(6/299)
قال رحمه الله : [ ولا يورث ] : لا يورث الوقف ولذلك العين والرقبة لا تنتقل ملكيتها لأنها أصلاً ليست محلتً للمناقلة إلا بالاستحقاق في الثمرة بحيث يقول لأولادي ثم أولاد أولادي ينزل كل بطن في الاستحقاق في الثمرة ، وأما الرقبة نفسها فلا يملكونها ، ولا يرثونها ، لو أن شخصا قال: أوقفت داري هذه على أولادي ثم أولاد أولادي إلى أن ينقطع النسل فإنه حينئذ إذا توفي البطن الأول من أولاده ثم فإذا قال أولادي ثم أولاد أولادي ينتقل البطن الثاني بعد انقراض البطن الأول، ولكن العين نفسها لا ننتقل لا تورث ، إنما الذي يورث استحقاق المنفعة فلهم حق في المنفعة .
قال رحمه الله : [ فتصدق بها عمر في الفقراء ] : فتصدق بها عمر؛ امتثالا لأمر رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- له بالوقف تصدق بها وقفا . في الفقراء يعني على أن تكون للفقراء ، وهذا فيه دليل على مشروعية الوقف على الفقراء .
[ وفي القربى ] : وفي القربى ومن أفضل ما يكون الوقف أن يبدأ بذي القربى؛ لما فيه من صلة الرحم ، فيقول هذا وقف لكل مطلقة لا تملك بيتا من قرابتي ، فهذا لذي القربى أو يقول : هذه المزرعة حبّستها وأوقفتها على قرابتي أو بني عمي أو بني فلان من قبيلتي أو على قبيلتي للضعفاء والفقراء فيسبل المنفعة .
[ وفي الرقاب ] : وفي الرقاب: في فك الرقاب ، فإذا كانت الثمرة مثل ما كان لعمر –- رضي الله عنه --، يباع جزء من الثمرة ويشترى به الرقيق ويفك رقبته ؛ لأن الإسلام رغَّب في العتق ، ووعد على ذلك عظيم الأجر حتى إنه لو أعتق مملوكا عتق بكل عضو منه ما يماثله من المعتق ، وهذا فيه فضل عظيم ، فإن الله يعتقه من النار ، كما فك الرقبة { فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة } فهذا من أحب الأعمال إلى الله –- سبحانه وتعالى -- لأنه يخرجه من ذلّ الرق ، ويخرجه من تعب الرق في الخدمة والامتهان، وهذا أجره عظيم عند الله –- سبحانه وتعالى -- .(6/300)
[ وفي سبيل الله ] : ولذلك جعل في فكّ الرقاب سهماً في الزكاة . وفي سبيل الله إذا أطلق سبيل الله المراد به الجهاد في سبيل الله –- عز وجل -- ، وهذا هو المعروف في الكتاب والسنة وربما يأتي بالمعنى العام وهو طاعته ، فالسبيل هو الطريق فيما يحبه الله ويرضاه .
[ وابن السبيل ] : وابن السبيل : وهو المسافر المنقطع ، وفيه وجهان : أن يكون فقيرا لا يجد مالا في مكان انقطاعه وفي بلده إذا رجع ، وهذا لا إشكال بالإجماع على أنه ابن السبيل ، وإما أن يكون ابن السبيل منقطعاً في حال السفر غير منقطع في حال الحضر، بحيث لو رجع إلى بلده أو رجع إلى أهله عنده مال ، وهذا مختلف فيه وتقدم معنا في الزكاة .
[ والضيف ] : والضيف : كذلك إقراء الضيف؛ لأن إقراء الضيف من أحب الأعمال إلى الله –- عز وجل -- وهي من خصال الإيمان ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ))
مثلا يقول لهم : أوقفت هذا الثلث من مالي على أن تطعموا به الضيوف، أو تجعلوا مثلا يجعل مثل ما يقع في بعض الأعراف تكون هناك أماكن خاصة لاستقبال الضيوف وإكرامهم بالطعام وهذه من مكارم الأخلاق ومن محاسنها التي ذهبت وذهب أهلها إلا من شاء الله .
مات قومي وانقضوا ومضوا وماتت تلك الكرامات
وخلفوني في قوم ذوي بخُل لو يبصروا طيف ضيف في الكرا ماتوا(6/301)
[ ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ] : ولا جناح أي لا حرج هذه الصيغة لا جناح لا حرج نفي الحرج والجناح من صيغ الإباحة ، أي فيباح على من وليها هذا شرط عمر في الوقف ، هذه الصيغة كلها (( ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف)) هذه صيغة عمر في الوقف ، فلما أوقف هذه الأرض جعل لمن يليها وهو الناظر على الوقف، فهناك ناظر للوقف يشرع أن يجعل أحدا له نظارة الوقف، فجعل له أن يأكل بالمعروف يأكل بالمعروف، والأكل بالمعروف أن يأكل على قدر حاجته دون إسراف ولا تقتير على نفسه .
[ ويطعم صديقا ] : ويطعم صديقه .
[ غير متمول فيه ] : يعني مثلا لو كانت مزرعة وكان هو ناظر الوقف فجاءه صديقه يزوره أو أرسل إلى صديقه قدراً يسيراً يعني من باب المحبة والمودة لابأس .
قال المصنف –رحمه الله- : [ ويصح الوقف بالقول ] : ويصح الوقف بالقول وهو الأصل أن يقول: أوقفت ، قلنا هناك عبارات هي صريحة وهي ثلاث : العبارة الأولى: أوقفت ، والثانية: سبلت ، والثالثة: حبّست ، وإذا قلنا إنها صريحة فمعناها أنه إذا تكلم بها لزمه الوقف .
وأما بالنسبة لغير الصريح فمنه قوله : تصدقت ، وتصدقت تحتمل أن يقصد صدقة الوقف، وأن يقصد الصدقة العامة ، ولذلك لا تعتبر صريحة وهي من ألفاظ الكناية ، وهكذا لو قال: أبقيت وأدمت ونحو ذلك ، فهذه يرجع فيها إلى نيته فقوله: تصدقت ، كناية والكناية لابد من وجود دليل يدل على أنه قصد بها الوقف ، فتارة يكون بنيته فحينئذ يكون وقفا بينه وبين الله ، فإذا سأل وقال : أنا قلت: تصدقت هل يلزمني الوقف؟ نقول : ما نيتك ؟ قال : نويت أنها وقف . نقول : هذا وقف ، قال: ما نويت الوقف. نقول: ليس بوقف ؛ لأنه لفظ كناية ، ولفظ الكناية لابد فيه من وجود النية .(6/302)
ثانيا : هذا بالنسبة للكناية متى نلزمه بها ديانة بينه وبين الله إذا نوى ، ونلزمه بها قضاءً إذا قال : تصدقت كناية وقرن باللفظ ما يدل على الوقف. فقال : تصدقت بها وقفا ، تصدقت بها موقوفة ، حينئذ نقول هذا وقف ويلزم به .
قال رحمه الله : [ والفعل الدال عليه ] : وهناك دلالة لفظ قول ودلالة فعل ، دلالة قول كما ذكرنا صريحة وكناية ، ودلالة الفعل تنزل منزلة القول ولشيخ الإسلام رحمه الله مبحث نفيس في كتابه القواعد النورانية تكلم فيه على أنه جرى العمل حتى كان كالإجماع على أن الأفعال تنزل منزلة الأقوال في هذا ، وأن السلف كان الرجل منهم يبني المسجد ولا يصيح في الناس هذا وقف ، بل يفتح أبواب المسجد فيعلم الناس أنه قد أوقف ، وكان يعد المكان لدفن الموتى، فيسور المكان أو يهيأ لدفن الموتى، ثم يفتح أبوابه فيعلم أنه وقف ، وكان يخرج الماء من بيته، ثم يخرج كيزان الماء الأكواب فيمر المار ويعلم أنها سبيل، ولكن ليس هناك لفظ من صاحب الماء ولا لفظ من صاحب الأرض، وهذا كله دال على أن الأفعال تنزل منزلة الأقوال إذا دلت ، فلك الحق أن تنتفع بهذا الماء إذا وجدت دلالة فعلية ولو لم تجد دلالة قولية هذا محل الشاهد ، فأنت إذا مررت على سبيل، ووجدت هذا السبيل قد أخرجت منه الكيزان في طريق سفرك، أو وجدت مثلا الأزيار مهيأة في الطريق ومفتوحة أبوابها وقد أشرعها للناس علمت أن هذا سبيل ، وهكذا إذا وجدت دورات المياه إذا مررت بها وقد فتحت أبوابها ما تحتاج أن تستأذن ، فدلالة الفعل تنزل منزلة القول .(6/303)
قال رحمه الله : [ مثل أن يبني مسجدا ، ويأذن في الصلاة فيه ] : ويأذن يفتح الباب لا يشترط أن يقول: أيها الناس قد أوقفت هذا عليكم فصلوا فيه ، لا يشترط هذا بل إن دلالة الفعل ظاهرة ، وهكذا لو أنه أمسك الكتب الموقوفة أو الرسائل المفيدة التي فيها نصائح فأخذ يوزعها ما يحتاج أن يقول هذا وقف هذا سبيل ما يحتاج دلالة الفعل نفسه تدل على أنه أوقفها وحبّسها .
قال رحمه الله : [ أو سقاية ويُشَرّعها للناس ] : أو سقاية يشرعها للناس مثل ما ذكرنا يخرج الكيزان الأكواب من أجل أن يغرفوا ، وهكذا في دورات المياه –أكرمكم الله- يبني أماكن لقضاء الحاجة ويجعل أبوابها مفتوحة ، ونعلم أنه قد أذن بالانتفاع بالوقف، وأنه أوقفها وأنه أذن بالانتفاع بها .(6/304)
قال رحمه الله : [ ولا يجوز بيعه إلا أن تتعطّل منافعه بالكلية ] : ولا يجوز بيع الوقف إلا أن تتعطل منافعه بالكلية : وهذا بإجماع العلماء –رحمهم الله- على أنه لا يجوز بيع الأوقاف ، ولا يجوز هدمها ولا أخذها إلا استثناء في المصالح العامة إذا لزمت وأمر ولي الأمر بأخذها مبني على أثر عمر –- رضي الله عنه -- في دار العباس –- رضي الله عنه -- في توسعة المطاف بمكة ، وأما إذا لم تكن هناك مصلحة عامة لازمة فليس من حق أحد كائنا من كان أن ينتزع وقفا فيبيعه ، لا يجوز أبدا لأن الوقف لا يباع ولا يوهب؛ لنص حديث رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- لا لتجميل مكان ولا لتزيينه ولا لشيء من الكماليات ، بل لا يكون بيعه إلا في شيء ضروري لازم ، وهذه أمانة ومسؤولية ، ويتحمل المسؤولية فيها القضاة ؛ لأنهم مسؤولون أمام الله –- عز وجل -- عن هذه الأوقاف إذا نيطت بهم ، ويلزمون النظار بهذا بعدم بيع الأوقاف، وعدم أيضا تساهل القاضي في بيعها إلا إذا تعطلت مصلحة الوقف ، وينصح للوقف، فإذا قال الناظر إنه تعطلت منافعه يخرج أهل الخبرة ، وينظر إلى قول أهل الخبرة وشهادة أهل الخبرة شريطة أن يكونوا أمناء يرضاهم حجة له بينه وبين الله –- عز وجل -- وإلا تحمل المسؤولية أمام الله –- عز وجل -- في هذا كله .(6/305)
قال رحمه الله : [ فيباع ويشترى به ما يقوم مقامه ] : فإذا تعطلت منافع الوقف يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه ، يشترى بثمنه: مثلا مسجد تعطلت منافعه كان هناك أناس يسكنون في موضع من الصحراء بُني لهم مسجد ثم ارتحلوا عن هذا الموضع وأصبح ما فيه أحد في هذه الحالة نريد أن ننقل المسجد إلى مكان آخر نبيع أرض هذا المسجد ثم نأخذ الثمن ونشتري به مثل هذا المسجد لكي ينتفع به كمنفعته ، هذه يجوز فيها البيع ، إذا تعطلت منافعه مزرعة سبّلها على الفقراء والضعفاء أو على ورثته بشرطه ثم هذه المزرعة غار ماؤها وأصبح الزرع ميتاً لا توجد هناك ثمرة ولا منفعة نبيع الأرض ثم نشتري أرضا زراعية أخرى فيها ماء وينتفع بها ، وقس على هذا من المسائل .(6/306)
قال رحمه الله : [ والفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو بيع واشتري به ما يصلح للجهاد ] : والفرس الحبيس إذا أصبح لا يصلح للغزو حبيس يعني مسبل وموقوف أي أنه يوقف الفرس للجهاد عليه في سبيل الله –- عز وجل -- فإذا أصبح ضعيفا أو مرض وعجز عن استعماله في الجهاد في سبيل الله بيع ثم اشتري بثمنه ما يقوم مقامه ، نبيع فرساً ونشتري فرسا ما نصرفه إلى شيء آخر في الجهاد في سبيل الله ، لأنه أوقفه من أجل الركوب فلابد من أن يكون شيئا يقوم مقامه ، فما يصرف مثلا في السلاح ولا في العتاد ، وإنما يصرف في الفرس ويشترى به الفرس ، ولا يشترى به غيره مما يكون بدله يقوم مقامه ؛ لماذا؟ لأنه إذا تعطلت منافعه بيع من أجل أن نجد غيره مما هو أصلح ويقوم مقامه ويتحقق به مقصود الواقف ، ويقاس على هذا فإذاً لو كان هناك أرض موقوفة وجاء شخص وقال : هذه الأرض نريد أن تبيعها لنا ، فإنه لا يبيع ولا يجوز له أن يبيعها، مادام أن مصالح الوقف ماضية ، ولو كانت عمارة رباط ينتفع به الضعفاء والفقراء فجيء وقيل نريد أن يبنى بشكل جميل فنريد أن نهدمه أو تبيعه لنا وتذهب في مكان آخر تبني ، ما يصح هذا البيع ولا يصح هذا الهدم ، ومن فعله فقد ظلم ، ولا يصح إلا إذا تعطلت مصالح الوقف فحينئذ ينظر القاضي ويثبت عنده بقول أهل الخبرة أنه لا يمكن تجديد هذه المصالح ، فلو أن هذه البئر في المزرعة غار ماؤها ولكن يمكن حفر بئر ثانية وينتفع بها وتحفر بئر في المزرعة ولا تباع ، ولو كانت العمارة تعطلت منافعها في شيء فقال أهل الخبرة يمكن استصلاحها بالوجه الفلاني وتبقى وقفاً تبقى ، ولا تعطل ولا تباع ، ولا تنقل إلى مكان آخر ، فهذا أمر يكاد يكون بالإجماع بين أهل العلم وكلام العلماء في المذاهب على اختلافها في هذا معروف ومشهور .
قال رحمه الله : [ والمسجد إذا لم ينتفع به في مكانه بيع ونقل إلى مكان ينتفع به ] : كما ذكرنا .(6/307)
قال رحمه الله : [ ويرجع في الوقف ومصرفه وشروطه وترتيبه وإدخال من شاء بصفة وإخراجه بها وكذلك الناظر فيه والنفقة عليه إلى شرط الواقف ] : ويرجع في الوقف ومصرفه : لا نحكم بكونه وقفا إلا إذا كان المالك صرّح بكونه وقفا ، فلا نثبته إلا إذا ثبت بالصيغة المعتبرة على التفصيل الذي ذكرناه ، إذا لا نستطيع أن نحكم بأن أموال الناس موقوفة إلا إذا وجد من أوقفها .
ثانيا : نصرف هذا الوقف إذا أردنا أن نصرفه على أحد ينبغي أن نرجع إلى قول صاحب الوقف ومالك الوقف الذي أوقف ماذا قال ؟ إن قال : وقفي هذا على أولادي ؛ حكمنا بكونه لأولاده ، وإن قال لذي القربى ؛ حكمنا بكونه لذي القربى ، وإن قال للضعفاء للفقراء ؛ فهو للفقراء ، وإن قال للعلماء ؛ فهو للعلماء ، وإن قال لطلبة العلم ؛ فهو لطلبة العلم ، أين يصرف الوقف؟يرجع إلى ما قاله صاحب الوقف الموقِف ، إذاً تحديد مصرف الوقف ، ثم نسبة الصرف لو قال نصفه للمساكين ونصفه لابن السبيل فالنصف للمساكين والنصف لابن السبيل .
مصرفه سواء كل الصرف وطريقة الصرف وقدر الصرف كل هذا المعوّل فيه على قول الواقف .
قال رحمه الله : [ وشروطه ] : وشروطه قال : بشرط أن يكون من أولادي ، أو وقف لطلبة العلم من ذريتي ، فإذاً اشترط أن يكون من ذريته ، وأن يكون طلاب علم وأن يكون من ذريته .
قال شرط وقف لطلبة العلم في المدينة فإذا اشترط أن يكون طلاب علم وأن يكونوا في المدينة ، وإذا قال للحُجاج فهو للحُجاج ، وإن قال للمعتمرين فهو للمعتمرين ، وإن قال للمطلقات فهو للمطلقات ، وإن قال للأيتام ؛ فهو للأيتام .
اشترط أن يكون من يستحق الوقف فيه صفة ، فنتقيد بهذه الصفة لابد من وجوده .(6/308)
قال رحمه الله : [ وترتيبه ] : وترتيبه : فقال لأولادي ، ثم أولاد أولادي ، فإذا لا يستحق أولاد أولاده الأحفاد إلا بعد انقراض أولاده ، فإذا بقي من أولاده ولد واحد كان له جميع الوقف حتى يتوفى ، فإذا توفي انتقل إلى البطن الذي يليه ، لأنه قال ثم لأولاد أولادي ، وإذا قال أولادي وأولاد أولادي فمذهب بعض العلماء –رحمهم الله- وقول عند بعض السلف أنه يشرك بين البطن الثاني مع البطن الأول .
والترتيب بين الجهة الواحدة والجهات المتعددة والصفة الواحدة والصفات المتعددة، فتارة يقول هذا وقف لطلاب العلم في المدينة ، فإذا انقرضوا لا قدر الله قال إذا انقرضوا ولم يوجدوا ثم للضعفاء والمساكين ، فإنه ينتقل بعد ذلك إلى الضعفاء والمساكين ، فلا نحكم للضعفاء والمساكين باستحقاق إلا إذا تعذر وجود طلبة العلم ، وقس على هذا أنه يرتّب في الاستحقاق ، وهذا الترتيب معتبر مادام أنه قد نص عليه واشترطه .
قال رحمه الله : [ وإدخال من شاء بصفة وإخراجه بها ] : وإدخال من شاء بصفة كما ذكرنا فقال المطلقات فحينئذ غير المطلقة لا تدخل ، وهكذا لو قال أيتاما فغير اليتامى لا يدخلون ، وقس على هذا(6/309)
قال رحمه الله : [ وكذلك الناظر فيه ] : وكذلك الناظر فيه : لو قال يلي نظارة هذا الوقف -اشترط أن تكون نظارة الوقف- لي في حياتي ثم من بعد موتي للأرشد فالأرشد من أولادي ، فإذا قال في حياتي لي فإنه يكون تكون نظارة الوقف له مدة حياته ، فإذا توفي انتقلت النظارة لأولاده ، واستوى الذكر والأنثى ؛ لأن الولد يشمل الذكر والأنثى ، ويجوز للمرأة أن تلي نظارة الوقف ، ولذلك عمر –- رضي الله عنه -- تولت بنته أم المؤمنين حفصة –رضي الله عنها- وقفه الذي أوقفه الذي تقدم معنا في الحديث ، فالشاهد من هذا أن العبرة بقول صاحب الوقف في الترتيب وصفات الأشخاص الذين يعتبرهم في الاستحقاق في الوقف ، سواء الناظر أو غيره ، فالناظر بعض الأحيان يقول: أشترط أن يكون من أولادي ، وبعض الأحيان يقول أن يكون الناظر من غير ولدي ما يريد أولاده يلي النظارة خوف الفتنة ، أو خوف مثلا أن يتحمل المسؤولية ، أو خوف أن تحصل بينهم شحناء ، فأخرجها عن قرابته وقال : ويلي نظارة وقفي أحد أهل العلم بصفة كذا وكذا ، فنرجع إلى من تتوفر فيه هذه الصفة فيتولى النظارة .
قال رحمه الله : [ والنفقة عليه ] : والنفقة عليه : فيقول الناظر : وللناظر من هذا الوقف الربع أو للناظر من هذا الوقف العشر ، فحينئذ تكون نفقته الربع أو العشر على حسب ما حدد صاحب الوقف .
قال رحمه الله : [ إلى شرط الواقف ] : إلى شرط الواقف يعني إلى ما اشترطه الواقف .(6/310)
قال رحمه الله : [ فلو وقف على ولد فلان ثم على المساكين كان الذكر والأنثى بالسوية ] : إذا قال : على ولدي أو على ولد فلان فإنه يستوي في الولد الذكر والأنثى ، لأن هذا أصل ؛ ولذلك سوى الله –- عز وجل -- في أولاد الأم بين الذكر والأنثى ، لكن إذا كان يريد السنة واتباع الشرع في العدل فإنه يعطي الذكر ضعف ما يعطي الأنثى ، لأنها هي قسمة الله –- عز وجل -- ونص العلماء والأئمة على أنه الأفضل ، لكن إذا نص على أنه لولده هكذا ، لكن إذا نص على صيغة الإرث الوارثين فحينئذ يعطى الذكر ضعف ما تعطاه الأنثى ، أما إذا أطلق فقال لولدي فإنه يستوي ذكورهم وإناثهم ويكون نصيب الذكر مثل نصيب الأنثى ؛ لأنه سوى وشرك بينهم ، فإذا كان أراد أن يفضل بينهم يقول بصيغة الإرث الموجبة للتفضيل أو يطلب ذلك ويقول : للذكر مثل حظ الأنثيين .
قال رحمه الله : [ إلا أن يفضّل بعضهم ] : مثل ما ذكرنا .
قال رحمه الله : [ فإذا لم يبقَ منهم أحد رجع إلى المساكين ] : فقال إذا لم يبقَ من ولدي أحد رجع إلى المساكين بعضهم يقول إذا انقرض نسلي فإنه للمساكين أو لليتامى أو للفقراء أو لابن السبيل فحينئذ ينتقل إلى المساكين واليتامى، ولا يجوز الانتقال إلى المساكين واليتامى وأبناء السبيل إلا بعد انقراض نسله؛ لأنه اشترط ذلك .(6/311)
قال رحمه الله : [ وإن كان الوقف على من يمكن حصرهم لزم استيعابهم به ] : فلو قال على الفقراء في المدينة ، والفقراء في المدينة يبلغون مثلا خمسين شخصا ، والنصيب الذي لهم من الوقف يصل إلى خمسين ألفاً أعطينا كل واحد منهم ألفا يمكن استيعابهم ، فيجب استيعابهم ، ولو قال لأولاده وكان أولاده مثلا عشرة ، ويمكن استيعابهم استوعبناهم فهم يمكن استبعابهم فنستوعبهم ، ولكن إذا كان يتعذر استيعابه فقال على مساكين مكة أو على مساكين المدينة ولا يمكن استيعابهم ولا يمكن حصرهم والمبلغ نفسه لو جئنا نريد أن نعطي كل المساكين فإنه يصل لكل واحد منهم يمكن الهللة من قلة ما يصل ليس بشيء ذي بال ، حينئذ يكون الحكم مختلفا ، إذا هناك حالتان :
الحالة الأولى: أن يمكن حصرهم وأن يكون شيئا ذا بال عند القسمة ، فحينئذ يحصرون ويعطون حقهم ، سواء كان في قرابته أو غير القرابة على صفة كالفقراء والضعفاء ونحوهم .
والحالة الثانية : أن لا يمكن حصرهم وحصرهم مسؤولية الناظر ، وهنا ننبه على أن الناظر ما أعطي شيئا من النظارة على نظارته إلا لكي يقوم بواجبه، وهو البحث والسؤال والتحري ، وللأسف كم رأينا وسمعنا من حوادث مؤلمة حينما تجد الناظر لا يبالي ولا يسأل ولم يأتِ بعضهم يستفتي تتعجب من كون مثل هذا ناظرا ، حيث لا يفهم ولا يفقه وتفوته أشياء وهي من أبسط الأشياء ، وإلى الله المشتكى .
المقصود من هذا أن الناظر عليه مسؤولية أن يبحث ويتحرى وأن يسأل ، فإذا عجز حينئذ يستعين بمن عنده خبرة ومعرفة حتى يبرئ ذمته أمام الله –- عز وجل -- .(6/312)
قال رحمه الله : [ والتسوية بينهم إلا أن يفضل بعضهم ] : والتسوية بين المستحقين فقال على طلبة العلم فما يفضل بعضهم على بعض ، لو كان هذا الدخل الذي جعله الواقف وقفا يساوي مائة ألف ريال وهو على طلبة العلم وعنده مائة طالب فحينئذ يعطي لكل طالب مائة فلو أعطى بعض الطلاب خمسمائة وأعطى بعضهم مائة فقد ظلم؛ لأن هذا التفضيل ليس له دليل ولا له موجب ، بل عليه أن يتقيّد بشرط الواقع ، وهذا الزائد فلو كان لكل واحد منهم أعطاه مائة وأعطى بعضهم ثلاثمائة فالمائتان في ماله لو اكتشف وعُرِف أمره يلزم بدفع المائتين من ماله ، لأن الشرع لا يخول له هذا الإعطاء ، والوقف والواقف لم يأمره بذلك فصار من ماله فلا يصح هذا البدل من مال الوقف .
قال رحمه الله : [ إلا أن يفضل بعضهم ] : إلا أن يفضل بعضهم يعني الواقف فضل بعضهم على بعض حينئذ يكون التفضيل بشرط .
قال رحمه الله : [ وإن لم يمكن حصرهم جاز تفضيل بعضهم على بعض وتخصيص واحد منهم به ]: تفضيل بعضهم على بعض على صورتين :
الصورة الأولى: أن يفضل في القدر .
والصورة الثانية : أن يفضل في الإعطاء والمنع .
فالتفضيل في القدر ليس له ذلك إلا إذا نص عليه الواقف بأن يعطي بعضهم مثلا أربعمائة وبعضهم يعطي مائة مادام أن الواقف قد سوى بينهم يسوي بينهم ، لكن التفضيل بإعطاء البعض وحرمان البعض هذا لا يجوز إلا في حالة واحدة وهي أن يتعذر الاستيعاب وألحق بها.(6/313)
بعض العلماء وجعلها في حكمها أن يكون عند الاستيعاب لا يصل شيء ذو بال لكل واحد منهم فأما في الصورة الأولى وهي أن يكون عددهم يتعذر استيعابه فإنه ينظر إلى ما يحصل به الكفاية فيختار بعضهم لذلك ، ويعطي كل واحد منهم حقه ، مثال ذلك : إذا قال على طلبة العلم ، وكان طلبة العلم عددهم هائلا في الحرمين مثلا وصعب عليه أن يعطي كل طلبة العلم في الحرمين والمبلغ مثلا خمسمائة ريال فكيف يريد أن يوزع خمسمائة ريال على خمسمائة ألف طالب ما يمكن فحينئذ نقول له أنه يتعذر أولا يتعذر عليه حصرهم فلا إشكال ويتعذر أيضا إعطاؤهم؛ لأنه ليس بذي بال ، ويتخلف مقصود الواقف من حصول النفع في العطية ، فحينئذ نقول له : انظر إلى أمثلهم إلى صفات معينة توجب التفضيل، فيختار هذه المجموعة ويعطيها ، فمثلا قال هؤلاء طلبة العلم فيهم الغني وفيهم الفقير، أنا سأختار الفقراء فوجد أن ثلاثة أرباع طلبة العلم أغنياء ووجد أن الربع فقيرا فاختار هذا الفقير ، هذا فضّل بعضهم على بعض ، وأمكن حصر هذا الفقير ويحصل له ذو بال فحينئذ التفضيل له معنى ، وتارة يقول أنا : أفضّل حفظة كتاب الله هو أوقف على أهل القرآن ، فأقدم من حفظ القرآن كاملا على من لم يحفظ ، فسأل عن الذين حفظوا القرآن فوجد أن عددهم لا ينحصر ، والذين يحفظون عددهم ينحصر، فجعل هذا المبلغ للذين يحفظون ، وقس على هذا .
قال رحمه الله : [ وتخصيص واحد منهم به ] : وتخصيص واحد منهم به يعني بالوقف .
قال رحمه الله : [ باب الهبة ] : يقول المصنف –رحمه الله- : [ باب الهبة ] : الهبة والعطية من عقود الرفق ، والعلاقة بين الهبة والوقف واضحة ، لأن الواقف يعطي الشيء بدون مقابل ؛ طلبا لمرضاة الله –- عز وجل -- كما تقدم معنا في الوقف ، والهبة تكون بدون مقابل، فصار هناك تقارب بين البابين فناسب أن يذكر أحكام الهبة بعد أحكام الوقف .(6/314)
يقول رحمه الله : [ باب الهبة ] : أي في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بالهبة .
قال رحمه الله : [ وهي تمليك المال في الحياة بغير عوض ] : وهي أي: الهبة . تمليك المال في الحياة بغير عوض الهبة مشروعة بدليل الكتاب لأنها داخلة تحت عموم الأدلة التي دلت على الترغيب في الإحسان إلى الناس والصدقة .
وكذلك ثبتت بها السنة عن رسول الله –- صلى الله عليه وسلم -- حينما ندب إلى الهدية ، وأن يهب المسلم لأخيه ما يكون سببا في حصول المحبة والإلفة وقوة الوشيجة في ذلك ، فهي من العقود المندوب إليها شرعا .
وقوله هي : أي الهبة : تمليك المال : يشمل الأثمان والمثمونات ، فقد تهب الأثمان مثل أن يأخذ مائة ريال ويعطيها لشخص ويقول له : هذه هبة مني لك ، أو يقول هذه مائة ألف وهبتها لك ، هذه هبة ثمن ، وقد تكون الهبة في المثمونات المثمن مثل أن يهبه عقارا كأن يهبه بيته أو مزرعته أو أرضه في المخطط الفلاني مثلا هذه هبة عقار ، قد تكون الهبة منقولة مثل أن يهبه ساعة أو ثوبا أو قلما أو كتابا. فقال: تمليك المال فشمل كل شيء يصح بيعه من الأموال من الأثمان والمثمونات .
في حال الحياة : خرج تمليكها بعد الحياة ، مثل أن يوصي في الوصية، فأراد إخراجها بهذا القيد ، وخرج بقوله : تمليك المال : هبة المنافع ، مثل العارية؛ لأنها ليست تمليكا للعين وإنما هي تمليك للمنفعة ، وهنا قال : تمليك المال ، فأخرج العارية ، فالعارية أنت تعطي السيارة ولا تقصد أن يملك عينها ورقبتها وإنما ينتفع بالركوب والارتفاق بها .
قال رحمه الله : [ وهي تمليك المال في الحياة بغير عوض ] : بغير عوض : الهبة تنقسم إلى قسمين :
هبة عامة، وهبة خاصة .
فالأصل في الهبة أنها بدون عوض ، فمن أعطى ووهب لا يرجو بدلا عنها عن ما وهب .(6/315)
أما النوع الثاني فهي هبة الثواب وهي الهبة الخاصة أن يهب شيئا حتى يرد له ما يقابله أو يماثله، وهذا يقع في المناسبات ، ويقع بين الفقراء والأغنياء ، فإذا كان الزواج جاءك بهدية ووهبك وهذه الهدية والهبة يقصد بها أن ترد له مثلها أو أحسن منها إذا حصل عنده زواج ، فهذا من الهبة بقصد المكافأة والرد ، يسمونها هبة الثواب ، هذا النوع محرم من النبي –- صلى الله عليه وسلم -- بذلا لا مكافأة ، وهو الذي عناها الله –- عز وجل -- بقوله : { ولا تمنن تستكثر } فحرم الله على نبيه –عليه الصلاة والسلام- أن يهب من أجل أن ترد له الهبة بأفضل ، وقال : { ولا تمنن تستكثر } فمحرم عليه هبة الثواب ، وهذا من الأحكام الخاصة به عليه الصلاة والسلام في المعاملات المالية ، وأما بالنسبة لعموم الأمة فيجوز أن يهب للثواب مثل أن يأتي الفقير إلى رجل غني ، وبدل أن يقول له : إني محتاج وضعيف يأخذ مثلا شيئا طيبا ويعطيه إياه هدية فيعلم الغني أو يعلم الكبير أنه يريد مكافأة عليه أو أن ظروفه صعبة ، فيكافئه على هديته بما يساعده ويعينه ، وهذا يفعل بين أمراء العشائر والقبائل وشيوخ القبائل والكرماء والناس الفضلاء الذين يقصدون بعد الله –- عز وجل -- في تفريج الكربات ، فإنهم إذا أعطاهم الضعيف فهموا وفطنوا ؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يسأل، وعنده أن يموت ولا أن يريق ماء وجهه في السؤال ، فيحتاط إذا ضاقت به الظروف، ولذلك قالوا (( لا ترجو من ليس له حياء ))، فيطلب أهل الحياء وأهل الكرم والفضل ، فيقصدون بعد الله –- عز وجل -- في تفريج الكربة بهذه الطريقة ، يسمونها هبة الثواب.
والهبة عموما كما ذكرنا مشروعة وأما في الكتاب فعموم الآيات التي دلت على الإحسان وعلى بذل المسلم لما يزيد من محبته لإخوانه وصلته بهم .
وأما السنة فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- ندب الأمة إلى الهدية فقال : (( تهادوا تحابوا )).(6/316)
وأهدى عليه الصلاة والسلام وأُهدي إليه وقبل الهدية وفي صفته في الكتب السماوية أنه يقبل الهدية ويرد الصدقة كما صح في حديث عبدالله بن سلام وقصة إسلام سلمان الفارسي –رضي الله عن الجميع- .
فهذا يدل على مشروعية الهبة وجوازها ، وأنكر على النعمان بن بشير –- رضي الله عنه -- تخصيصه لبعض الورثة ولم ينكر عليه أصل الهبة ، ولذلك قال : (( أَكُلّ ولدك نحلته مثل هذا ؟))، فهذا يدل على أن الهبة في أصلها مشروعة .
قال رحمه الله : [ وتصح بالإيجاب والقبول ] : وتصح الهبة بالإيجاب والقبول وهبتك سيارتي قال: قبلت تصح بالإيجاب والقبول ، ولكن لا تلزم إلا بالقبض ، تصح بالإيجاب والقبول أي أن عقدها يتم إذا حصل إيجاب وقبول ، قال : وهبتك ساعتي ، وهبتك قلمي ، وهبتك سيارتي ، وهبتك أرضي قال: قبلت . إذا قال : وهبت وقال الآخر : قبلت تم العقد ، فيبقى العقد جائزا وله حق الرجوع إذا وهب وللآخر حق الرجوع إذا قبل حتى يقبض ، وإذا قبض صارت لازمة لأحد الطرفين دون الآخر ، وهذه مثل الرهن من العقود اللازمة في حق أحد الطرفين دون الآخر ، ويكون لزومها بالقبض مثل الرهن ، فالرهن قلنا إنه يلزم بالقبض، كذلك الهبة تلزم بالقبض والأصل في ذلك قصة أبي بكر –- رضي الله عنه --مع أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- حينما وهبها من حائطه بالغابة أوسقاً وتأخّرت عائشة –رضي الله عنها- في قبض الهبة فلما حضرته الوفاة قال رضي الله عنه وأرضاه : أي بنية إني كنت قد نحلتك جادة عشرين وسقا فلو أنك قبضتيه واحتزتيه لكان اليوم ملكا لك ، أما وإنك لم تفعلي ذلك فأنت اليوم وإخوتك فيه سواء ، فدل على أن الهبة لا تلزم إلا بالقبض .(6/317)
قال رحمه الله : [ والعطية المقترنة بما يدل عليها ] : والعطية المقترنة بما يدل عليها يعني كما أنها تصح بالإيجاب والقبول كذلك أيضا تصح بالعطية المقترنة بما يدل عليها يعني بالفعل المقترن بدلالة على الهبة والعطية ، فتجد بعضهم يرمي بالشيء للآخر ويجري العرف أنه إذا رمى له أنه قد وهبه ، وإذا أعطاه بالفعل فدل ما صاحبه على أنه قاصد للهبة كان عطية وهبة .
قال رحمه الله : [ وتلزم بالقبض ] : وتلزم بالقبض أي أن الهبة تلزم بالقبض كما ذكرنا في قصة أبي بكر –- رضي الله عنه -- وهي سنة راشدة ، ولم ينكر أحد من الصحابة –رضي الله عنهم- وأسقط حق أم المؤمنين عائشة في المال لعدم وجود القبض ، فدل على أن القبض شرط في لزومه فلا تلزم الهبة إلا بالقبض .
قال رحمه الله : [ ولا يجوز الرجوع فيها ] : ولا يجوز الرجوع فيها ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( ليس لنا مثلُ السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيأه )) ولذلك أجمع العلماء على تحريم ذلك من حيث الأصل ، وقال بعض العلماء إنه يعتبر من الكبائر ، لأنه شبّهه بهذه الصفة المستبشعة ، وهذا يدل على أنه ليس في مقام الصغائر .
ومن أهل العلم من قال إنه صغيرة من الصغائر .
وقالوا إنه مذموم شرعا لأنه يخالف صنيع أهل الفضل ، ولأن فيه أذية للمسلم؛ لأنه يفرحه ثم يحزنه ، وفيه امتهان له ، فإنه إذا قبض الهدية بعد أن يعطيها أحس الذي أهدي إليه أن هناك أمرا أفسد قلب أخيه عليه ، فهذا يضر أكثر مما ينفع ، ومن هنا شددت الشريعة بالرجوع في الهبة والهدية .(6/318)
قال رحمه الله : [ إلا الأب ] : إلا الأب ؛ لأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- جعل مال الابن مع أبيه كالشيء الواحد، ولأن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- أمر النعمان أن يرجع في عطيته لعدم وجود العدل ، والأصل في كون الابن مع أبيه والولد مع والده ووالدته على القول بأن الأم تقاس على الأب الأصل في ذلك السنة ؛ فإن النبي –- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إنما فاطمة بضعة مني )) فلما قال : (( إنما فاطمة بضعة مني )) جعل الولد جزءاً من والده ، وإذا كان جزءا منه فإذا أعطاه وأخذ كان كالشيء الواحد ، ويؤكد هذا قوله –عليه الصلاة والسلام- في حديث أم المؤمنين عائشة في السنن : (( إن أطيب ما أكلتم من كسبكم ، وإن أولادكم من كسبكم )) فجعله تبعا لأصله ، ومن هنا خُفف في هبة الوالد لولده .
قال رحمه الله : [ لقول رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- : (( لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها إلا الوالدَ فيما يعطي ولده )) ] : لا يحل من صيغ التحريم نفي الحل ونفي الجواز عن الشيء يقتضي تحريمه ، { لا يحل لك النساء من بعد } هذا يقتضي التحريم ، الأصل أن نفي الجواز ونفي الحل من صيغ التحريم ويعتبرونها من صيغ التحريم القوية . (( لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها )) هذا يقتضي تحريم الرجوع في الهبة والعطية كما ذكرنا ، ويؤكده قوله –عليه الصلاة والسلام- أيضا في الحديث الصحيح : (( ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يأكل قيأه )) .
قال رحمه الله : [ والمشروع في عطية الأولاد أن يسوّي بينهم على قدر ميراثهم ] : والمشروع في عطية الأولاد أن يسوي بينهم على قدر إرثهم: هذا فيه مسألتان :
المسألة الأولى : أن يعدل بين الأولاد فيعطيهم جميعا أو يمنعهم جميعا .(6/319)
والمسألة الثانية : أن يعطي بعطية الله –- عز وجل -- ، وبقسمة الله في كتابه وسنة رسوله –- صلى الله عليه وسلم -- ، مثل أن يجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، ومؤونة الذكر أكثر من مؤونة الأنثى ، والتزاماته أكثر من التزامات الأنثى ، والله فضّل الذكر على الأنثى ، والنصوص في الكتاب والسنة واضحة في هذا : أن الذكر أفضل من الأنثى ؛ ولذلك قال تعالى : { وليس الذكر كالأنثى } ، وخلق الله آدم ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، ثم خلق حواء منه فهي تبع له ، ومن هنا قال : { وخلق منها زوجها ليسكن إليها } ففضل الله الذكور على الإناث ، رضي من يرضى ، وكره من كره ، فمن رضي له الرضى ، ومن سَخِط فعليه السُّخْط ، فهذا حكم الله من فوق سبع سماوات ، الذي يقص الحق وهو خير الفاصلين ، ولا أحكم من الله ولا أعدل من الله –- سبحانه وتعالى -- ، والله لا يظلم الناس شيئا ، وما ربك بظلام للعبيد ، فالحكم الشرعي أن الذكر له ضعف ما للأنثى ، وهذا من تأمل الشريعة ووجد التزامات الذكر التي حملها الله للذكور يجد أنهم أحق بهذا التفضيل ، حتى إنه لو درس الفقه كاملا لوجد أن الذكر يتحمل أشياء لا تتحملها الأنثى ، وحكم الشرع بلزومها في حقه ، ومن أمثلة ذلك: العاقلة ، فإنه إذا قتل القاتل خطأً ووجبت الدية طالبنا الذكور ولم نطالب الإناث ، فلا عقل على المرأة وغير ذلك من الالتزامات المشهورة المعروفة .(6/320)
فالشاهد من هذا أن الشريعة بنت أحكامها على العدل ، ففضلت الذكر على الأنثى ، فإذا أعطى ينبغي أن يسوي بين أولاده ، فيعطيهم جميعا أو يمنعهم جميعا ؛ والدليل على وجوب التسوية قوله عليه الصلاة والسلام : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) ، وإنكاره على النعمان بن بشير –رضي الله عنهما- حينما قال له : (( أَكُل ولدك نحلته مثل هذا ؟ قال :لا . قال : اذهب فأشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جَوْر )) فجاء بالإثبات والتحريم - نفي الجواز- فبيّن أن العدل واجب بقوله : (( اعدلوا )) وأنه لا يجوز التفضيل بقوله : (( إني لا أشهد على جور )) فدل على أنه لا يجوز منع البعض من العطية وإعطاء البعض ، ثم إذا أعطى عدل بينهم بتفضيل الذكر على الأنثى على الأصل الذي ذكرناه .
قال رحمه الله : [ لقول رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) ] : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم : اتقوا الله هذا أمر بلزوم تقوى الله –- عز وجل -- فدل على أن من عدل بين أولاده اتقى الله والله يحب المتقين ، ومن اتقى الله جعل له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ويسر له أمره ، وجعل له من أمره يسرا ، ولذلك تجد الذي يتقي الله ويعدل بين أولاده أمره إلى خير .(6/321)
وكان السلف الصالح –رحمهم الله- يعدلون بين الأولاد حتى في القبلة ، فإذا قبل ولدا قبل أخاه ولا يقبل أحدهم ويترك الآخر، حتى لا يوغر صدور بعضهم على بعض حتى يكون مُقْسطا عادلا ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الحديث الصحيح : (( إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء الذين يعدلون في أولادهم وما ولّوا )) وفي بعض الرواية : (( الذين يقسطون في أولادهم وما ولوا )) فهذا يدل على أنه ينبغي العدل والتسوية وعدم تفضيل بعض الأبناء على بعض ، ثم التفضيل محرم؛ لما فيه من المفاسد العظيمة ؛ فإنه يوغر صدور بعض الأبناء على بعض ، وقص الله على عباده قصة يوسف مع إخوته مع أن نبي الله يعقوب -عليه السلام- كان على عدل ومع هذا قالوا : { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } فقالوا أحب فكانت المحبة متعلقة بالقلب الذي لا يملكه العبد ، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : (( هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك )) فقالوا :{ أحب إلى أبينا منا } فنظروا إلى محبة أبيهم ليوسف أكثر منهم ، وهذا شيء لا يملكه يعقوب –عليه السلام- ومع ذلك ما استطاعوا أن يتحملوا وهم الأسباط ، فهذا يدل دلالة واضحة على عظم الأمر، فكيف إذا تعدى الأب هذا الأمر إلى أن يظلم بأمر واضح بيّن فيعطي أحدهم ويمنع الآخرين ، ومن ذلك يشمل العدل في العطية ، ويشمل العدل في المدح والمحبة ، والسؤال عن الحال، وأيضا إذا تعب بعضهم ومرض حرص على أن يعطيه حقه كما يعطي أخاه ويسأل عنه ، ويشفق عليه ، ويقوم بعلاجه ، ويشعر الجميع أنهم في عينه سواء ، ويفضّل من فضله الشرع في الحدود التي أذن بها الشرع ، فإذا فعل ذلك فقد اتقى ، هذا معنى قوله : (( اتقوا الله واعدلوا )) فليست التقوى فقط في العطية وعطية المال قد تكون أهون بكثير من أمور أخرى ، فالبعض تجده إذا جاءه ابنا من أبنائه عبس في وجهه ، وإن جاءه في حاجة لم يقض له حاجة ، وإن جاءه(6/322)
شفيعا لم يشفعه ، وإن جاءه مشتكيا لم يتألم لشكواه ، وإن حصل به ضرر لم يتألم ، ثم الآخر إن سأل أعطاه ، وإن شفع شفعه ، وإن طلب حاجة قضى له حاجته ، وإن دخل عليه تبسم في وجهه هذا كله من الظلم والجور ، بل عليه أن يتقي الله –- عز وجل -- وهذا يحدث قطيعة الأرحام وكراهية الأخوة بعضهم لبعض ، فالبعض يفعل هذا عن قصد ، وبعضهم يفعله بدون قصد ، وعليه فإن من دخل بيته فوطئت قدماه البيت عليه أن يجعل الجنة والنار بين عينيه ، وأن يعلم أن ابنه الذي يقف أمامه يبادله المحبة والمشاعر الطيبة أن عليه أن يعطيه من المحبة والمشاعر الطيبة مثل ما يعطي إخوانه ، وعليه أن يتحسس بقية الإخوة، ومن أشد ما يكون الأذى والضرر إذا كان للضعيف منهم ، مثل الأنثى ، فتجد البعض يفضل الذكور على الإناث، ويُقْبِل على الذكر أكثر مما يُقْبِل على الأنثى ، وحينئذ ينكسر خواطرهن ، ولربما علم أولاده ذلك ، وسيبوء بإثمه وإثم أولاده { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم }، فمن ربى هذه التربية السيئة وظلم وجار ولم يتق الله في فلذات كبده ولم يخف الله –- عز وجل -- ولم يشكر نعمة الله عليه بالولد فإنه سيحاسبه الله حسابا عسيرا إلا أن يتداركه برحمته ، فالأولاد فيهم الرقة ، ومن أعظم ما يكون أن يعيش الإنسان يتيما وأبوه حي ، ومن أعظم ما يكون أن يعيش فاقدا لأبيه وهو موجود ، ومن أعظم ما يكون ألما وحزنا على الولد أن يتمنى زوال رؤية أبيه من كثرة ما آلمه وجرحه وفطر قلبه ، وأعظم حزنه من الأذية والإضرار ، وتفضيل أبنائه عليه ، فهذا كله ينبغي للآباء أن يتقوا الله –- عز وجل -- فيه ، وأن يذكر الآباء بعضهم بعضا بذلك ، وأن يتناصحوا ، وأن يحرصوا كل الحرص على إقامة العدل التي قامت عليه السماوات والأرض ، فلابد من التسوية بين الأولاد .(6/323)
ومن هنا إذا وجد الموجب للتفضيل فضّل مثل أن يكون أحدهم مريضا ، ويكون صغيرا ، أو يكون مسافرا ؛ قيل لبعض العرب : من أحب أولادك إليك ؟ قال: ثلاثة : المريض حتى يشفى، والمسافر حتى يعود، والصغير حتى يكبر ، في موجب بأن يعيش معه أحزانه ، ثم إذا أعطاه هذا الحق وابتلي به أخوه فعل مع أخيه مثل ما فعل معه هذا كله من العدل ، وهو الذي يوجب نجاة الإنسان من المسؤولية أمام الله –- عز وجل -- . لابد من العدل بين الأولاد ؛ فقال - صلى الله عليه وسلم - : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) اعدلوا التسوية هذا عدل وهذا إذا كان مثله ويقوم مقامه ويساويه .
واعدلوا بين أولادكم أي ساووا والمساواة تكون بالظاهر في الحقوق ، وأما بالنسبة للباطن فهذا لا يملكه الإنسان أن يحب بعض أبنائه أكثر من بعض هذا شيء قد لا يملكه ، لأن القلب لا يستطيع الإنسان أن يملك المحبة الموجودة فيه ، ولكن لا يظهر التفضيل في الظاهر ، وهذا أصل دلت عليه النصوص .
قال رحمه الله : [ وإذا قال لرجل : أعمرتك داري أو هي لك عمري فهي له ولورثته من بعده ] : دلت السنة على مشروعية العمري ، وأن يهبه الدار له ولولده من بعده إذا قال : أعمرتكها كانت له ولذريته من بعده ؛ لقوله –عليه الصلاة والسلام- : (( لا تفسدوا أموالكم عليكم فمن أعمر عمري فهي للذي أعمرها ولعقبه من بعده )) فنص على أن العمري تكون لمن أعمرها ولذريته من بعده بخلاف ما إذا وهبه المنفعة ، فهناك فرق بين الرقبة وبين المنفعة ، فإذا وهبه المنفعة أن يسكنها مدة حياته رجعت إلى مالكها بعد وفاته ، وهذا الذي جعل المصنف يفرق بين الصورتين .
فقال رحمه الله : [ وإن قال : سكناها لك عمرك ، فله أخذها متى شاء ] : نعم كما ذكرنا .
الأسئلة :
السؤال الأول :
فضيلة الشيخ : ما هي أفضل الطرق لهجر المعاصي والإقبال بالطاعات في نظركم يا شيخ . وأثابكم الله ؟
الجواب :(6/324)
بسم الله . الحمد لله ، والصلاة والسلام على خير خلق الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :
فهذا سؤال عظيم ، من وفقه الله –- عز وجل -- لأفضل الطرق في هجر معصية الله ، وأفضل الطرق لبلوغ مرضاة الله –- عز وجل -- ؛ فقد أنجح وأفلح ، وفاز فوزا عظيما ، ونسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعل لنا ذلك بمنه وكرمه .
أولا : وقبل كل شيء الدعاء أن يدعو العبد ربه أن يصرف قلبه في طاعته ، وأن يصرفه إلى محبته ومرضاته ، وقد دلت السنة على ذلك كما قال - صلى الله عليه وسلم - : (( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )) فكان في أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وفي جوف الليل في قيام الليل وفي صلاته بالليل؛ كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة (( أنها افتقدت النبي –- صلى الله عليه وسلم -- في الليل فجالت يدها فوقعت على قدمه ساجدا يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) ، أن تسأل الله الذي لا يسأل غيره ، وأن تدعو الله –- عز وجل -- الذي لا يدعى سواه ، وأن ترجو الله –- سبحانه وتعالى -- الذي لا يرجى أحد عداه ، أن يثبت قلبك على طاعته ، وأن يجعل هذا القلب في محبته ومرضاته ، وأن يصرف عنك الخواطر الردية ، والوساوس المردية، وأن يجعلك من عباده الصالحين ، فإن دعوت الله بصدق ؛ فإن الله –- عز وجل -- هو وحده الذي يوفّق لأفضل الطاعات ، وهو وحده الذي يصرف القلوب عن المعاصي والمنكرات ، فأكثر من دعاء الله ، فإن الله يجيب دعوة الداعي إذا دعاه .
أما الأمر الثاني : فمن أصدق ما رأيت من توفيق الله للعبد أن يوفق لطاعته ، وأن يعصم ويحفظ من معصيته إذا رزق قلبا متوجها لله –- جل جلاله -- . قلبك حتى يصبح أكبر همك وغاية رغبتك وسؤلك أن تكون في طاعة الله ، وأن تصرف عن معصية الله ، فمن كان عنده في قلبه هذا الشعور؛ فبإذن الله سيوفقه الله توفيقا عظيما .(6/325)
هناك أمران : الأمر الأول يوفق لطاعته، ماذا يجعل في قلبه ؟ إذا جعلت في قلبك وفي نفسك وفي فؤادك أن يصلحك الله ، وطمعت من الله –- عز وجل -- أن تكون في خير المراتب عند الله في طاعته ومحبته ، وصدقت مع الله في قلبك ؛ صدق الله معك ، كما قال تعالى : { إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا } .
كثير من الأخيار بلغهم الله الخير الكثير والنفع العظيم حينما توجهت قلوبهم إلى الله بصدق الرغبة في طاعته ، ما يستطيع أن يطيع الله –- عز وجل -- مصروف القلب عن الطاعة ، ولا يستطيع أن يبلغ أعالي المراتب والرتب في طاعة الله إلا من توجه قلبه بكليته إلى الله أن يجعله من أولئك السعداء الأتقياء الأخيار الصلحاء ، فإذا كان قلبك متوهجا مشتاقا محبا لأن يكون في أفضل المراتب فإن هذا يؤثر في جوارحك ، فأنت مثلا بمجرد أن تفتح عينيك وتصبح في يومك حملت هم كيف تكون أسعد العباد في ذلك اليوم ، وإذا جلست في بيتك وأهلك وولدك حملتهم كيف تكون أفضل ما يكون الوالد مع ولده ، وإذا خرجت من بيتك تريد أي مسجد أو بيت من بيوت الله حملت الهم أن تكون أسعد الناس في ذلك الممشى، إن ذهبت إلى صلاة الظهر ودخلت المسجد تمنيت من الله أن تكون أسعد من في المسجد، وأن تخرج من ذلك المسجد بأفضل ما خرج به من خرج في ذلك اليوم وتلك الساعة ، يكون عندك قلب صادق ولذلك انظر إلى كثير من الأخيار والصالحين حينما كان عندهم شعور أنهم يعاملون الله وأنهم يريدون أن يكونوا في أفضل المراتب وجدت النفوس مستجيبة ووجدت الهمم عالية وهي تتجه إلى ربها إلى محبته وإلى مرضاته –- سبحانه وتعالى -- .(6/326)
والعكس فالغفلة عن إحياء القلوب بهذا الشعور هو الذي ضر كثيرا من الأخيار فضلا عن غيرهم ، إياك أن يزول عن قلبك ولو طرفة عين الشعور بطمعك في رحمة الله –- عز وجل -- ، دائما تحمل همّ كيف تكون عند الله بأفضل المنازل ، { وعجلت إليك ربي لترضى } أن تعجل إلى الله ، والعجلة السرعة وأن تبادر وتسير حثيثًا إلى ملك الملوك وجبار السماوات والأرض إلى من يرحمك ولا يعذبك إلى من يحسن إليك ويكرمك ويرفعك ويفتح لك من أبواب رحمته ما لم يخطر لك على بال ، إلى هذا الرب الحليم الرحيم الكريم، الذي علمك ما لم تكن تعلم وكان ولم يزل فضله عليك عظيما ، إلى هذا الرب الذي هداك من الضلالة، وأنقذك من الغواية وأرشدك إلى سبيل الحق والهداية، إلى هذا الرب الذي أحسن وأفضل { الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين } من يفعل هذا غير الله –- جل جلاله -- تبارك رب العالمين ، تحس بقرارة قلبك أنك تعجل إلى الله ، أنك تريد أن تكون عند الله بخير المنازل ، ولذلك ما إن تطأ قدمه المسجد إلا أحب أن يكون في الصفوف الأول ، وما إن يخرج إلى فريضة إلى طاعة إلا وجدته معلقا يكون أخشع الناس في صلاته ، وأخشعهم في ركوعه وفي سجوده ، فإذا كان عنده هذا الشعور سأل عن الأعمال التي تقرب إلى الله –- عز وجل -- وبحث عنها وتشوق وأصبح يبحث عن تجارة مع الله رابحة لا يرضى بالقليل، أبدا بل يسمو إلى الكثير ، إن علم أن التسبيح فيه حسنات، وأن لا إله إلا الله أفضل ما ذكر به الله؛ اختار لا إله إلا الله ، فنطق بها لسانه ، واعتقد بها جنانه ، ولهج بها في ليله ونهاره وصبحه ومسائه ، فإذا علم أن قراءة القرآن أفضل من ذكر باللسان ؛ قدم قراءة القرآن ، فتجده يطمع من مغفرة إلى مغفرة ، ومن رحمة إلى رحمة ، ومن خير إلى خير ومن بر إلى بر ، فينصرف قلبه بالكلية إلى الله –- جل جلاله -- ، ويشتغل بطاعته عن معصيته ، وبمحبته عما يغضبه .(6/327)
هذا القلب الصالح التقي النفي الصافي الذي أخلص لله –- عز وجل -- صدقا وحقا لاشك أنه بخير المنازل عند الله .
أول ما تبدأ بقلب يبحث عن محبة الله ومرضاته ، ولذلك تجد هذا العبد الصالح يشتري مرضاة الله بكلمة ترضي الله –- جل جلاله -- ، فتجده في كل موقف إذا جاء يتكلم بلسانه أحس أنه نعمة من الله –- عز وجل -- فبحث عن أفضل ما يتكلم به لكي يرضي ربه ، فتجده أعف ما يكون عن الحرام ، وأكثر ما يكون ذكرا لله –- جل جلاله -- ، ولا يمكن أن يغفل مع الغافلين ، لأن القلب مادام فيه التلهف وفيه التشوق لرحمة الله لا يمكن أن يغفل ، وهذا من ذكر الله { فاذكروني أذكركم } فمن كان قلبه معمورا بالله جميع هذه الساعات واللحظات من عمرك ؛ إما أن تضيع عليك، وإما أن تربحها ، جميع هذه الثواني والدقائق أنت أحوج ما تكون ، وأفقر ما تكون إلى أن تقدمها بينك وبين الله –- جل جلاله -- ، وتتذكر حينما تتذكر من حُرم هذا الخير الذي أنت فيه ، فيتجه قلبك بالكلية إلى الله –- سبحانه وتعالى -- في طاعته ومحبته ومرضاته؛ لأنك تعلم أنه إن ذهبت عنك هذه الساعة فلن تعود إليك أبدا ، وأنك إذا دخلت هذا المسجد لذكر الله ؛ فإن هذه السويعات والدقائق محسوبة ، تتمنى أن لا تغبن فيها ، ولذلك تكره أن تصرف هذه الدقائق والساعات وأنت صامت لا تتكلم ، فضلا عن أن تلقيها في الحرام أو غيبة أو نميمة ، ولذلك تجد الإنسان يخرج من بيته لأي أمر يريده من مصالحه ولو كان في أمر دنيوي فإذا أصبح قلبه مع الله –- عز وجل -- تجده وهو راكب في سيارته يقرأ القرآن ويتلو القرآن ، ثم إذا نزل تلا القرآن لأنه خاف أن تضيع هذه الدقائق يخاف أن تضيع هذه الثواني فإذا كان عندك هذا القلب الحي وزالت عنك الغفلة، وأذهب الله عنك الران؛ فإنك تسير إلى الله حثيثا ، وعندها تطلب ربا نعم ما يطلب منه من الرحمة والعفو والمغفرة –- جل جلاله -- ، وتطلب المطلب الذي يفوز طالبه ، وتسير في الطريق الذي لا(6/328)
يخيب سائره ، عندها تحس أنك من الرابحين لا من الخاسرين ، وأنك من المفلحين والناجحين؛ كل ذلك بفضل الله ثم بهذا التوجه إلى الله.
يا هذا ! إن الدنيا فانية وليس لك من عمرك إلا ما كان من مرضاتك لربك ، فابحث عن قلب يقربك إلى الله وعن قلب يحب الله –- عز وجل -- ويتجه إلى الله بالكلية ، ولذلك تجد بعض الأخيار يجلس ساعات طويلة وهو ساكت وكان بالإمكان أن يعمر هذه الساعات بقراءة القرآن، فينال مئات الألوف من الحسنات ، تجده يحفظ الجزء والجزءين بل هناك من يحفظ القرآن كاملا ، ويمر عليه اليوم وما ختم منه جزءاً واحدا ، غبن والله، ثم نريد أن نكون من الأخيار، ثم نكون من الصلحاء ، اقرأ في سير العلماء ، واقرأ في سير الصلحاء لتعرف أين منزلتك ، واقرأ في أخبار الأولين والماضين الذين أمضوا أيامهم وأعمارهم وساعات العمر في مرضاة الله –- جل جلاله -- ، اقرأ عن قوم كانوا يخافون عن ذهاب الدقيقة فضلا عن الساعة ، كانوا يخافون عن الغفلة في الساعة فضلا عن الساعات ، كانت أعمارهم في ذكر الله ومحبته ومرضاته ، حتى تعرف أين مكانك ، نعم تسعى إلى أفضل الطاعات، وأفضل المرضاة إذا حرصت على هذا الحرص أن تكون مع الله بقلب صادق يطلبك ويحبك ، ومن طلب الله؛ وجده ، من طلب الله ؛ وجده ، فإن الله –- سبحانه وتعالى -- يقول : { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } فليس هناك أيسر من سبيل الله ، ولا أسهل من طريق يقودك إلى الله ، ولا أكثر من أنس تجده حينما تأنس بالله –- جل جلاله -- ؛ ولذلك تجد العبد الصالح الذي لا يفرط في أوقات عمره إلا وقد تمضي عليه أوقات عمر وقد أفناه في محبة الله لا يعرف الوحشة ، نعم عرف الليل في ظلماته فتجده قائما بين يدي الله يتلو كتاب الله لم يشكُ وحشة يوما من الأيام ، وتجده في صباحه في النهار بين الناس ما بين ذكر وشكر لم يقسُ قلبه فيما بينه وبين الله وعندها تهدى إلى أفضل الطاعات.(6/329)
إذا صلح قلبك بهذا التوجه إلى الله (( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله )) ملك الجوارح الذي يقودها إلى الله –- جل جلاله -- ، فإياك أن تكون من الغافلين ، إذا كنت تريد أفضل الطاعات فابدأ بقلبك ، يصلح الله جوارحك ، وإذا أصلح الله جوارحك هداك إلى أفضل الطاعات وأحبها إليه من : ذكره ، وشكره ، والإنابة إليه .
كذلك أيضا اعلم أن الكتاب والسنة دلا على أحب الأعمال وأزكاها عند ذي العزة والجلال ، والنصوص في هذا واضحة ، فتتعلم ما هي أحب الأعمال إلى الله ، فتحرص على تطبيقه ، ثم إياك وهذا التخاذل وهذا الضعف ، والله ما أقدر ، تعلم عن قيام الليل وفضله تقول : والله ، ما أقدر أقوم الليل والله أنام والله ما أستطيع ، هذا شأن المحرومين ، هذا شأن الغافلين ، هذا شأن الناقصين ، أما أصحاب الهمم العالية والنفوس الزاكية لا يعرفون التقاعس ، ولا يعرفون التواني ، وإنما يجدون ويجتهدون ، والله ، ما أقدر والله ظروف يا سبحان الله ! عليك أن تجتهد مع الله –- عز وجل -- في طاعته فإذا تعبت اليوم واليومين وفقك الله –- عز وجل -- حتى تتلذذ بالطاعات عمرا طويلا ، فكم من أقوام تعبوا في قيام الليل أياما ، ومنهم من تعب فيها أسابيع ، ومنهم من تعب فيها شهور ومنهم من تعب فيها سنوات ، ولكن بقت لذتها حتى توفاهم الله –- جل جلاله -- راضيا عنهم مرضيا لهم .
جعلنا الله وإياكم منهم ، تجد وتجتهد . وأسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يجعلنا من عباده المفلحين وأن يعصمنا بعصمة الهدى والدين إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتاب النكاح والحقوق المرتبطة بة
بسم الله الرحمن الرحيم ?
…الشروط في عقد النكاح(6/330)
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فإن الله-تعالى- فرض على المسلم القيام بالحقوق والواجبات والوفاء بالعهود قال-- سبحانه وتعالى --: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وكل ما بين المسلم والمسلم من عهد وعقد وشرط فإنه يجب الوفاء به إذا التزم به الطرفان أو التزم به أحدهما ولذلك عظم الله ورسوله-- صلى الله عليه وسلم -- أمور الشروط حتى ثبت عن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- الأمر بالوفاء بها والقيام بحقوقها خاصة إذا كانت هذه الشروط في عقد النكاح والزواج فإذا وقع الزواج والنكاح وكانت هناك شروط بين الزوجين فإن الله-- عز وجل -- حمّل كل واحدٍ منهما الوفاء بما عليه من شرط ولا يجوز للمسلم أن ينكث العهد ويخلف الوعد ولا يفي بشرط إلا إذا كان مضطراً وأذن له الطرف الثاني - كما سيأتي إن شاء الله تفصيله - ، فالأصل أنه ليس من شيمة المسلم أن يضيع الشروط التي التزم بها ولذلك قال عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه - وأرضاه- : " مقاطع الحقوق عند الشروط ". مقاطع الحقوق أي أن الله -- سبحانه وتعالى -- جعل على كل إنسان التزم بالشرط جعل عليه حقاً أن يوفي بذلك الشرط فإذا وفى بالشرط فقد أدى الحق كاملاً إلى أهله .
ومن عادة الناس في عقود الزواج والأنكحة أنه تقع بينهم شروط فيشترط ولي المرأة على الزوج شروطاً ويشترط الزوج على زوجته شروطاً وحينئذ يرد السؤال عن موقف الشرع من هذه الشروط ، ما الذي أذن الله به فيفعل ويلزم الوفاء به وما الذي نهي الله عنه فلا يجوز اشتراطه ولا يجوز الالتزام به .(6/331)
ومن هنا كان من الأهمية بمكان أن يعتنى عند بيان حقوق الزواج ببيان الشروط لأن الشرط نوع من الحق فإذا كانت الحقوق يلزم الوفاء بها كذلك الشروط يلزم الوفاء بها ، ومن هنا قال العلماء : إن الحقوق في الزواج منها ما هو شرعي جعله الله-- عز وجل -- في أصل العقد ومن لوازم العقد ومقتضياته ، ومنها ما هو جعلي بمعنى أنه جعله الزوجان أو واحد منهما فهذا الذي جعل من الطرفين أو من أحدهما هو محل حديثنا اليوم وهو الذي سنبين موقف الشرع منه .
فالشروط في النكاح تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : شروط شرعية ينبغي الوفاء بها ويلزم الطرفان أن يقوما بحقوقها .
القسم الثاني : شروط غير شرعية وهي الشروط المحرمة .
أما الشروط الشرعية فهي تنقسم إلى أقسام فمنها ما هو من لوازم عقد النكاح والمراد بهذا النوع من الشروط أن يشترط ولي المرأة أو تشترط المرأة أو يشترط الزوج أمراً هو من لوازم عقد النكاح ومن أشهر هذه الشروط أن يشترط ولي المرأة على الزوج أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان وهذا هو الذي يسميه العلماء الميثاق الغليظ . قال الحسن البصري ، وطاووس بن كيسان ، وقتادة ، والضحاك-رحمة الله على الجميع- في تفسير قوله-تعالى- : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً }. قالوا الغليظ إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، أخذ الله الميثاق على الزوج أن يمسك بمعروف أو يسرح بإحسان فتلك هي العصمة التي أمر الله-- عز وجل -- أن يقوم النكاح بها فهذا الشرط لو اشترطه ولي الزوجة أو اشترطته الزوجة على زوجها شرط شرعي هو من مقتضيات عقد النكاح .(6/332)
قال بعض العلماء : كان السلف إذا زوجوا أو أنكحوا الغير اشترطوا عليه وقالوا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وفي حكم هذا الشرط أو مثله ما يقوله العامة اليوم يقول ولي المرأة زوجتك على كتاب الله وسنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- ، أي زوجتك بنتي وأختي على أن تلتزم بكتاب الله وسنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في عشرتها والقيام بحقوقها ورعايتها ، قال العلماء : إذا اشترط هذا الشرط وجب الوفاء به ولزم الزوج أن يقوم بتحقيقه وأدائه على وجهه فإذا أضر بالمرأة ناله الإثم-والعياذ بالله- من وجهين : فلو أنه عاشر المرأة ولم يشترط وليها عليه الإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان أثم من وجه واحد وهو تضييع حق الله مع ما للمرأة من المظلمة لكن إذا أخذ عليه هذا العهد في عقد النكاح أثم من وجهين-والعياذ بالله- :
أولاً : تضييع حق الله الذي ذكرناه .
وثانياً : أن عليه عهداً لم يوف به ونقض العهود من شيمة أهل النفاق ومن صنيع أهل النار-والعياذ بالله- كما ذكر الله أوصافهم في كتابه ، ولذلك قال العلماء : إن هذا الشرط وإن اعتاده الناس وألفوه لكنه عظيم ، ولذلك وصفه الله بكونه ميثاقاً غليظاً .
فإذاً اشترط ولي المرأة أو اشترطت المرأة الإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان فهو شرط شرعي ومن مقتضيات عقد النكاح .
كذلك أيضاً من الشروط المشروعة التي يلزم الوفاء بها أن يتضمن الشرط جلب مصلحة أو درء مفسدة لا يعارض كل منهما شرع الله فتشترط المرأة أو يشترط الزوج مصلحة دينية أو دنيوية ويشترط ولي المرأة مصلحة دينية أو دنيوية وهذه المصلحة التي يشترطها كل منهما لا تتعارض مع الشرع بل قد تتفق معه أما إذا اشترطا أو واحد منهما مصلحة فالمصلحة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : أما أن يشترط مصلحة دينية .
القسم الثاني : وإما إن يشترط مصلحة دنيوية .(6/333)
يشترط ولي المرأة مصلحة دينية كأن تقول موليته له أشترط أن يكون زوجي ديناً أو عالماً أو طالب علم أو حافظاً لكتاب الله أو خطيباً أو إماماً أو نحو ذلك من الأوصاف التي هي كمال في الدين وكمال في الطاعة والالتزام ، فهذا شرط ديني والرجل أيضاً يشترطه على المرأة فيقول لوليها اشترط أن تكون حافظة لكتاب الله أو تكون طالبة علم أو نحو ذلك مما هو من كمالات الدين ، كذلك - أيضاً - تكون لمصلحة دنيوية وهذا طبعاً هذا الشرط أفضل شرط ، وأحب شرط إلى الله-- عز وجل -- ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( فاظفر بذات الدين تربت يداك )) . فخاطب الزوج أن يبحث عن الدين وخاطب أولياء المرأة فقال : (( إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه )) . فهذا الشرط وهو اشتراط المصلحة الدينية الكاملة هو أفضل الشروط وأحبها إلى الله-- عز وجل -- .
الشرط الدنيوي المحض (المصلحة الدنيوية المحضة) أن يشترط الرجل أو تشترط المرأة مالاً أو مصلحة مالية كأن يشترط ولي المرأة أن يكون الزوج تاجراً أو موظفاً أو له مهنة معينة فهذه مصالح دنيوية فإذا اشترط الزوجان أو اشترط أحدهما مثل هذه الشروط التي لا تخالف شرع الله في جلب المصالح فإنه يجب الوفاء بها ، وحينئذ يلزم ولي المرأة ما التزمه من الشرط في العقد وعلى هذا فلو دخل على المرأة فلم يجدها حافظة لكتاب الله كان له الخيار (أي أن له خيار الفسخ) وذلك لأن المسلمين على شروطهم كما قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( المسلمون على شروطهم )) .(6/334)
وفائدة الاشتراط ثبوت الخيار ، كذلك أيضاً يشترط درء المفسدة عن نفسه فيشترط ألا تكون فيها مفسدة دينية كأن لا تكون فاسقة ، أو تشترط المرأة على وليها أن يشترط على الزوج أن لا يكون فاسقاً ، وقد تشترط درء مفسدة دنيوية كأن لا يكون عصبياً أو مريضاً في نفسه أو مريضاً في بدنه أو نحو ذلك من العاهات التي تشترط عدم وجودها في الزوج أو يشترطها الزوج أن لا توجد في المرأة .
مثل هذه الشروط التي تجلب بها المصالح وتدرء بها المفاسد وتكون موافقة للشرع يلزم الوفاء بها وعلى ولي المرأة أن يوفي بها للزوج وعلى الزوج أن يوفي بها لولي المرأة .
لكن اختلف العلماء في شروط فيها جلب مصالح أو درء مفاسد يشترطها أحد المتعاقدين على الآخر هل هي من النوع الأول أو من النوع الثاني ومن أشهر ما اختلفوا فيه أن تشترط المرأة على زوجها أن لا يخرجها عن والديها أن لا يخرجها من مدينتها أو أن لا يسافر بها أو تشترط عليه أن لا يتزوج عليها أو أن لا تكون عنده زوجه فمثل هذه الشروط اختلف العلماء-رحمهم الله- فيها هل هي مشروعة أو ليست بمشروعة وسيأتي الكلام عليها في القسم الثالث من الشروط .
أما بالنسبة للقسم الثاني من الشروط وهي الشروط المحرمة: فهذه الشروط المحرمة منها ما يفسد عقد النكاح ومن أمثلته أن يشترط الزوج تأقيت عقد النكاح فيقول أتزوجها شهراً أو أتزوجها سنة أو أتزوجها نصف عام فهذا نكاح متعة ويوجب فساد العقد من أصله .
النوع الثاني أيضاً مما يوجب فساد العقد ويخالف الشرع أن يشترط البدل فيقول زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك أو زوجتك أختي على أن تنكحني بنتك أو أختك فهذا نكاح البدل والشغار وهو نكاح فاسد فهذان النوعان عارضا الشرع ، أما الأول فنكاح متعة وفي الصحيح عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- أنه نهى عن نكاح المتعة ونكاح المتعة هو النكاح المؤقت بزمان معين كأن يجعله إلى سنة أو إلى شهر أو إلى شهور يحدد أمدها .(6/335)
واختلف العلماء لو أنه تزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها أو جاء إلى بلد ينوي الإقامة مدة وأراد أن يتزوج ثم يسافر وهذا كما يسميه العلماء بـ ( زواج الركاض ) والركاض هو الرجل الذي لا يستقر في أرض كأصحاب التجارات ينزلون في الأمصار يطلبون ارزاقاً يتأقت جلوسهم فيها بحسب تلك الأرزاق فيطول مقامهم ويقصر على حسب مصالحهم فهم غير مستقرين فهذا النوع من النكاح وهو أن يتزوج المرأة وفي نيته أن يطلقها لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يخبر المرأة بنيته أو يخبر ولي المرأة بالنية ويتفقان على ذلك فهذا نكاح متعة وحكمه حكم ما تقدم وبالإجماع أنه محرم ، إذا أخبر ولي الزوجة أنه يريدها لسنة أو يريدها مدة دراسته أو مدة إقامته في المدينة ثم بعد ذلك يطلق فهذا نكاح متعة وهو محرم .
الحالة الثانية : إذا لم يخبره وتزوج المرأة وفي نيته أنه إذا انقضت مصلحته خرج من المدينة وأنه يطلق .(6/336)
فللعلماء فيه وجهان أصحهما أن النكاح صحيح وأنه لا حرج عليه في ذلك لعموم الأدلة ولأن النهي عن التأقيت الظاهر وأما الباطن فلم يرد فيه نهي يدل على تحريمه ؛ ولأن فعل السلف وما كانوا عليه مشهور فيهم أنهم كانوا يرتحلون لطلب العلم وللتجارة وكان الرجل ينزل في المصر والقرية مدة تجارته فيتزوج بها ثم يترك أهله ويسافر إلى بلد آخر فقالوا أنه لا حرج عليه في ذلك وأختار هذا القول جمع من المحققين وأفتى به شيخ الإسلام-رحمة الله عليه- وهو الصحيح كما ذكرنا ولما فيه من درء كثير من المفاسد فإن الرجل تكون عنده المرأة ضعيفة لا تطيق السفر وقد لا ترضى بالخروج معه ويسافر إلى بلاد عديدة يتعرض فيها إلى فتنة وقد يسافر إلى بلد يلزمعليه المكوث بذلك البلد والجلوس فيه ، فإذا قلنا له لا تتزوج بهذه النية وأنت عندك نية الطلاق فإنه لا يأمن الوقوع في الحرام ومصلحته تلزمه بالبقاء في هذا البلد ، ولذلك كان من شرع الله التيسير على مثل هذا خاصة إذا عمت به البلوى كما هو الحال في زماننا ؛ ولكن مع هذا قال العلماء : إنما أجزنا نكاح مثل هذا لأنه ربما غير نيته وصلحت له المرأة فأخذها معه وهذا لاشك أنه قول وجيه وأن عموم الأدلة الدالة على جواز النكاح تقتضي صحته ولأن الحكم في الشرع على الظاهر وهذا لم يظهر للمرأة ولا للولي ما يريده .(6/337)
أما بالنسبة للنوع الثاني من الشروط التي توجب فساد العقد ، فقال العلماء : أن يكون هناك شرط يخالف شرع الله-- عز وجل -- من كل وجه ، أولاً : ذكرنا أنه يؤقت بالمدة أو يكون نكاح البدل وهو نكاح الشغار ، نكاح الشغار إذا اشترط وقال أزوجك بنتي على أن تزوجني بنتك ، فهذا لا يجوز سواء وجد مهر أو لم يوجد مهر فبعض العلماء يقول إذا وجد مهر جاز النكاح وهذا مروي عن نافع وهو من قول نافع الراوي للحديث عن ابن عمر أنه إذا كان بينهما مهر فلا بأس والصحيح أن نكاح الشغار يحرم مطلقاً والعلة في ذلك أنه إذا تزوج المرأة في مقابل المرأة بمجرد أن يسمع أن المرأة الثانية ظلمت فيظلم التي تحته فإذا ضر هذا بامرأته ضر هذا بامرأته وإذا آذى هذا الأخت أذى هذا أخته ، فأصبح نكاحاً مفضياً إلى الظلم ، ولذلك قال العلماء : أنه تدخله المحابه حتى لربما زوج الشيخ الكبير البنت الصغيرة لشيخ كبير أو لمن لا صلاح في دينه ولا استقامته له فيحابيه في زلت لمصلحة نفسه ، ولذلك قالوا لا يجوز هذا النوع من النكاح لما ثبت في الصحيحين عن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- أنه نهى عن نكاح الشغار .
هناك نوع ثاني من الشروط محرم ولكنه لا يوجب فساد النكاح وإنما يلغى الشرط ويصحح العقد ومن أمثلة ذلك إذا تزوج المرأة واشترط الزوج أو اشترطت المرأة أن يكون المهر بشيء محرم شرعاً كأن يكون المهر خمراً أو لحم خنزير أو نحو ذلك من المحرمات فإنه يصحح بمهر المثل فينظر إلى مثل مهر المرأة ويصحح العقد به لأن الأصل صحة العقد وبقاؤه ومتى ما كان ممكناً أن نصحح العقد فإننا نصححه لأن القاعدة : " أن الإعمال أولى من الإهمال " .
عرفنا أن هناك من الشروط المحرمة منها ما يوجب فساد عقد النكاح كالمتعة والشغار ومنها ما يوجب فساد المسمى وهو المهر ويصحح بمهر المثل .
هناك نوع ثالث من الشروط يسقط ويبطل ، وبعض العلماء يقول : يبطل ويبطل العقد معه وبعضهم يقول يبطل ويبقى العقد صحيحاً .(6/338)
ومن أمثلة ذلك أن يتزوج المرأة ويشترط أن لا نفقة لها وأن لا يسكنها فإن النفقة حق من مقتضيات عقد النكاح فإذا قال أتزوجك بشرط أن لا أنفق عليك فإنه ليس من حقه ذلك ، وقد عارض شرع الله-- عز وجل -- فيفسد هذا الشرط في قول طائفة من العلماء ويصحح العقد . قال بعض العلماء يفسد العقد والصحيح أنه يفسد الشرط دون العقد فيبقى العقد صحيحاً ، قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) ، وهذا يدل على أنه شرط باطل والنكاح بأصله صحيح .
وهنا مسألة وهي أنه يتزوج المرأة ويشترط أن يكون له جزء من راتبها أو يكون له مسماً من الراتب ، فهذا النوع من الشروط فيه نظر والأصل يقتضي عدم جوازه وذلك لما يأتي :
أولاً : أنه يخالف مقتضى الفطرة ، أن الرجل ينفق على المرأة فإذا بالمرأة هي التي تنفق عليه والله-تعالى- يقول : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } ، ولذلك قال العلماء : إن الأصل أن ينفق الرجل على المرأة فإذا اشترط عليها أنها تنفق عليه فإن هذا شرط فاسد وليس له حق في هذا الشرط .
أما الدليل الثاني على فساد مثل هذا أنه يعتبر من الظلم وأكل المال بالباطل والله -تعالى- يقول : { وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } . فإن المال إذا دفع لا يستحق إلى في مقابل وكونه زوجاً للمرأة لا يقتضي معاوضة بالمال وكونه يقول هي تعمل وهي موظفة وتضر بمصالحي نقول أنت بالخيار بين أمرين :
الأمر الأول : إما أن ترضى بالإضرار بمصالحك التي في بيتك وتسمح لها بالعمل .(6/339)
الأمر الثاني : وإما أن تبقيها في البيت وتترك العمل ، أما أن تأخذ من مالها بدون حق وبدون وجه حق فليس هناك ما يبرر هذا ولو قيل أن المرأة تحتاج إلى رعاية أولادها وأطفالها نقول : من حقك أن تمنعها من العمل وأن تبقى لرعاية أولادها ونص العلماء على أن من حق الزوج أن يلزم زوجته البقاء في البيت ؛ لأنه هو الأصل وأنه إذا سمح لها بعملها فلا إشكال فإذا لم تطب نفسه وألزمها أن تبقى فمن حقه ذلك ، لكن لو كان عنده أطفال وكانت تعمل وأرادت العمل فقال لها إتي بمن يقوم على الأطفال من خادمة أو نحوها وتكون نفقة الخادمة عليك فلا بأس ، قالوا لأنها في الأصل مطالبة بخدمة أولادها . فإذا كانت تريد أن توجد من يقوم مقامها في خدمة الولد وهي الخادمة مع أمن الفتنة والمحافظة عن ما يجب المحافظة عليه فإنه حينئذ لا بأس وليس الزوج آخذاً لهذا القدر من الراتب بدون حق إنما أخذه من جهة كونها مطالبة برعاية الأولاد فإذا كان عملها يحول بينهما وبين الرعاية وجاءت بمن يحفظ أولادها أو يحفظ البيت من كنس وتنظيف وطبخ في حال غيابها وحاجة زوجها فحينئذ لا إشكال ؛ لأن المعاوضة قائمة ولا يعتبر من أكل المال بالباطل ، أما أن يقول لها هكذا لي نصف راتبك أو لي ربع راتبك أو نحو ذلك فليس هناك وجه للمعاوضة وهو داخل في أكل المال بالباطل ، يقول العلماء : أكل المال بالباطل ، أن يأخذ المال وليس في مقابله ما يوجب الأخذ فكونه زوجاً ليس مما يوجب أخذ المال ولو قلنا من حقه أن يأخذ من راتبها بحكم الزوجية لكان من حقه أن يأخذ من إرثها وما تأخذه من والدها وما يكون لها من الهبات لأن هذا كله خارج من أصل واحد وهو مقام الزوجية ولكن إذا اعتذر بضياع حقوقه أو ضياع حاجته في داخل بيته من رعاية لأولاده أو رعاية لطعامه وشرابه فنقول تقم المرأة من يخدم ويقوم بتلك الرعاية ويكون ذلك على الوجه المعروف ولا يأخذ من الراتب أصلاً .(6/340)
هذا بالنسبة لمسألة اشتراط النفقة والمقصود أنه لا يجوز أن يشترط الرجل على المرأة أن تنفق عليه وإذا حصل هذا الشرط فإنه باطل ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( كل شرط ليس بكتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط )) .
أما النوع الثالث أو القسم الثالث : فهي الشروط التي اختلف العلماء هل هي مشروعة أو ليست بمشروعة ، قالوا من أمثلتها أن تشترط المرأة أن لا تخرج من بيتها أو أن لا تخرج من عند أهلها أو أن لا يسافر بها ، أن لا تخرج من بيتها ، امرأة تريد أن تبقى عند أهلها وفي بيت أبيها فيتزوج وتكون في داخل البيت أو تشترط عليه أن لا يبعدها عن والديها كأن تشترط الحي أن تسكن في الحي الذي فيها والداه أو أن لا يخرجها من مدينتها كأن يكون من مدينة أخرى وتخشى أن يسافر بها إلى مدينته فقال : اشترط أن تبقى بنتي ولا تسافر أو تشترط أن لا تسافر معه ، كأن يكون رجل صاحب تجارة وتخاف من السفر معه فقالت اشترط أن لا أخرج معك في سفر ، فمثل هذا الشروط اختلف العلماء فيها وهي تنقسم في الأصل إلى قسمين :
القسم الأول : أن يكون هناك مبرر للشرط بأن توجد حاجة ضرورية أو حاجة ملحة لولي المرأة أو للمرأة لكي تشترط هذا الشرط ومن أمثلة ذلك : أن يكون للمرأة والدان وهذان الوالدان ضعيفان أو أحدهما مريض ويحتاجان إلى رعاية و يحتاجان إلى عناية البنت وهي تريد أن تكون بجوار أبيها وأمها من أجل البر وحفظ حقيهما خاصة إذا لم يوجد أحد فهي مضطرة ومحتاجة لمثل هذا الشرط فحينئذ مثل هذا الشرط ينبغي للزوج أن يعينها عليه وهو مأجور والله يبارك للزوج في زوجته إذا أعانها على طاعة الله وبالأخص بر الوالدين فحينئذ يحاول أن يعينها على هذا الشرط وهو شرط له وجهه ، لكن إذا اشترط ولي المرأة أن لا تخرج من بيته وأن لا تسافر عنه أيضاً له حالتان :(6/341)
الحالة الأولى : أما أن يشترط بسبب كأن يرى البنت صغيرة في السن أو طائشة ويريدها أن تكون قريبة منه ويخشى إن سافر بها الزوج أن الزوج متساهل وقد تقع بنته في فتنة أو حرام أو يخشى أن يسافر بها الزوج إلى أهله وبينه وبين أهله عداوة أو يخشى أن يسافر بها الزوج وهي صغيرة طائشة قد تقع في المحظور والحرام ؛ لأن البيئة التي فيها الزوج فيها تساهل أو نحو ذلك فإن وجد ما يبرر ذلك من ولي المرأة كان شرطاً شرعياً ، ومن حقه أن يشترط التأقيت فيشترط إلى سن معين وإلى حد معين فيقول أشترط أن لا تخرج بنتي من المدينة إلى أن تبلغ خمسة عشرة سنة أو عشرين سنة خوفاً من الضرر عليها ، هذا شرط يقصد به دفع الضرر.
قال بعض العلماء : من حق الولي أن يشترط ذلك ؛ لأنه شرط في مصلحة الزوج والزوجة وفيه إقامة لطاعة الله-- عز وجل -- وحفظ لها عن الحرام .
لكن إذا كان هذا الشرط فيه شيء من الفضول كأن تشترط أن لا تخرج من بيت أبيها أو لا تخرج من جوار والديها وليست هناك حاجة من الوالدين أو تشترط أن لا تخرج من مدينتها وليس هناك ما يبرر هذا الشرط أو تشترط أن لا يتزوج عليها أو أن لا تكون عنده زوجه فهذا النوع من الشروط للعلماء فيه قولان :(6/342)
القول الأول : يقول إنه شرط لازم وصحيح ويجب على الزوج أن يفي به وأنها إذا قالت له اشترط أن لا تتزوج علي مثلاً وأراد أن يتزوج عليها في أي يوم بعد عقد النكاح فإن من حقها أن تطالب بشرطها وحينئذ يكون الفسخ أي ينفسخ النكاح ، يكون لها الخيار وينفسخ النكاح ، هذا بناء على أنه شرط بينه وبينها وبهذا القول قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه - وأرضاه- ، وسعد بن أبي وقاص ، وقال به معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص-رضي الله عن الجميع- أربعة من أصحاب النبي-- صلى الله عليه وسلم -- كانوا يرون شرعية مثل هذا الشرط ، وكان بعض التابعين يفتي به وهو قول شريح القاضي المشهور ، وكذلك قال به عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ، وهو مذهب الحنابلة أنها إذا اشترطت هذا الشرط أن لا تخرج من مدينتها أو أن لا يسافر بها أو أن لا يتزوج عليها أو أن لا تكون عنده زوجه من قبل أن هذا الشرط صحيح .
القول الثاني : وخالف هؤلاء جمهور العلماء سلفاً وخلفاً فقالوا ليس من حقها هذا الشرط وإذا وقع هذا الشرط فإنه شرط باطل وممن قال بهذا القول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب-- رضي الله عنه -- ، وهو رواية ثانية عن عمر بن الخطاب ، كانوا يقولون إذا اشترطت فإن هذا الشرط لاغٍ رفع إلى عمر بن الخطاب-- رضي الله عنه -- امرأة اشترطت على بعلها واشترط أهلها أن لا تخرج معه فلما اشترطت هذا الشرط قال عمر-- رضي الله عنه -- : المرأة مع زوجها أي يخرج بها إلى حيث شاء .
وأثر عن علي-- رضي الله عنه - وأرضاه- أنه رفعة إليه قضية في اشتراط امرأة لمثل هذا الشرط فقال-- رضي الله عنه -- سبق شرط الله شرطها ، أي أن الله-- عز وجل -- جعل الرجل قائماً على المرأة وهذا الشرط جاء تبع فلا تأثير له لأن الأصل أن تكون تبعاً لبعلها وزوجها .
وهكذا بالنسبة إذا اشترطت أن لا يتزوج عليها فإن الله فصل هذا الأمر وأحله وأباحه.(6/343)
والذين قالوا أنه يجب الوفاء بهذا الشرط وهم أصحاب القول الأول احتجوا بأدلة :
أولها : قوله-- صلى الله عليه وسلم -- : (( إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج )). قالوا : إن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- جعل الشرط في عقد النكاح أحق ما يفي به المسلم فقال : (( إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج )) وهذا قد استحل فرج امرأته بشرط وهو أن لا يسافر بها واستحله بشرط أن لا يتزوج عليها واستحله بشرط أن لا تكون عنده امرأة ، فإذا حصل أو كان الأمر على خلاف ذلك كان من حق المرأة أن تطالب بفسخ النكاح وتمتنع .
وقالوا : أيضاً إن المرأة قد تشترط هذه الشروط كأن تكون شديدة الغيرة فتخشى أن تضيع حق بعلها فمن حقها أن تشترط هذا ويجب على الزوج أن يفي.
والذين قالوا إن هذا الشرط باطل يحتجوا بما ثبت في الصحيح عنه-عليه الصلاة والسلام- أنه قال : (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) . قالوا إن قوله : (( كل شرط ليس في كتاب الله )) يوجب علينا في الشروط أن نعرضها على شرع الله فما كان منها يحرم الحلال أو يحل الحرام فإننا نرده ولا عبرة به وهو باطل .(6/344)
فنظرنا فيها وهي تقول لا تتزوج علي وأشترط أن لا تكون عندك زوجة سابقة فإذا بها تحرم عليه ما أحل الله ووجدناه خلاف شرع الله-- عز وجل -- وخلاف دين الله فانطبق عليه قول رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- : (( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل )) ، كذلك أيضاً وجدناها إذا قالت له أن لا تكون عندك زوجه فإن الأصل أن الرجل له أن يتزوج قبل هذه المرأة وله أن يتزوج بعدها وله أن يجمع بين أكثر من واحدة ما دام في الحد الذي حده الشرع فإذا جاءت تقول له بشرط أن لا تكون عندك زوجة فقد منعته من زوجته الأولى ، ولذلك قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفيء ما في إنائها )) قالوا : هذا عام ، فإذا قلنا بجواز الشرط فكأنه حينئذ سيقدم على تطليق الأولى وإدخال الثانية وهذا هو الذي حرمه الله ورسوله .(6/345)
فنحن إذا جئنا ننظر في الشروط ينبغي أن نتقيد فيها بما ورد في الشرع فليس في شرع الله تحريم الزوجة الثانية وليس في شرع الله-- عز وجل -- أن يبقى الرجل منحصراً مع زوجته في مكان معين ، بل إن الذي في شرع الله كل ذلك كله وإباحته ، وبناءاً عليه قالوا إن هذا الشرط باطل ونبقى على عموم قول كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، ثم قالوا أنتم تستدلون بقوله إن أحق ما وفيتم به من الشروط إن أحق قوله أحق يدل على أن الشرط في ذاته حق وليس بباطل فإذا كان الشرط في ذاته باطل فليس بحق ولا بأحق وحينئذ يكون قوله-عليه الصلاة والسلام- : (( إن أحق ما وفيتم به من الشروط )) ، أي الذي وافق شرع الله واتفق مع هدي الإسلام في الزواج فإذا جاءت المرأة تشترط شيئاً خلاف ذلك فإنه يلغى شرطها ولا يعتد به وهذا القول هو أولى القولين للصواب أنه لا عبرة بمثل هذا الشرط ؛ لأن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( قضاء الله أحق وشرط الله أوثق )) ، وعليه فإنه نرى أن عموم قوله : (( كل شرط ليس في كتاب الله )) شاملاً لهذه المسألة التي معنا ، وليس من حق المرأة أن تشترط أن لا تكون هناك سابقة ولا لاحقه ، بل إن أصحاب القول الأول يوافقون أصحاب القول الثاني ويقولون لو أراد أن يكتب العقد أو يعقد على امرأة فقال ولي المرأة اشترط وأهل الزوجة يعلمون أن عنده زوجه سابقة فقالوا له نشترط عليك أن تطلق الأولى بالإجماع أنه حرام ، وأنه لا يجوز وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد في مسنده-رحمه الله- أن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- نهى أن ينكح الرجل بطلاق الأخرى ، أي أن ينكح على المرأة على أن يطلق التي قبلها ، وعلى هذا فإننا نرى أن الشرع من حيث هو لا يقر مثل هذا ولا يجيزه .(6/346)
ثم انظر-رحمك الله- إذا قلنا أن من حق المرأة أن تشترط أن لا تكون هناك سابقة وأن لا تكون هناك لاحقة فدخل الرجل عليها ورضي بهذا الشرط فإذا بالمرأة تغير جمالها أو ذهب ما يعينه على العفة منها إذا به يبقى وهو يخشى على نفسه الفتنة فتنجب له الأطفال فيبقى حائراً إن جاء يتزوج الثانية فإن الأولى ستبين منه وإن جاء يبقى معها لا يأمن الوقوع في الحرام ، ولذلك هذا الشرط آثاره والنتائج التي تترتب عليه فيها أضرار عظيمة .
الرجل إذا لزمه هذا الشرط معنى ذلك أن المرأة يكون لها الخيار وحينئذ إذا أراد أن يتزوج عليها الثانية يكون من حقها أن تفسخ النكاح وتقول : أطالب بحقي فتنفنسخ بطلقة لا رجعة له عليها وحينئذٍ إذا كان الأمر كذلك سيتشتت أطفاله وقد لا يرضى بشتات أطفاله لأن الله-- عز وجل -- علق القلوب وجبل النفوس على حب الولد ، الولد مجبنه مبخله ، كان الصحابي إذا أراد الهجرة يريد أن يهاجر من مكة إلى المدينة تعلق به ولده امتنع من الهجرة من فتنة الولد ، فهذا الرجل إذا تزوج ولزمه هذا الشرط وقلنا يلزمه وهو يعلم أنه ستتطلق منه امرأته وأولاده سيضيعون كيف سيقدم على الثانية فيبقى بين نارين وبين أمرين أحلاهما مر فإما أن يبقى مع المرأة ويقع في الحرام وإما أن يبين ما بينه وبينها فيتشتت أطفاله ويكون في ذلك من المفاسد ما الله به عليم .
وعلى هذا فإن أصح القولين قول الجمهور أن هذا الشرط لا يعتد به ولا يلزم الوفاء به ؛ لأنه شرط يعارض شرع الله .(6/347)
وهذه الشروط التي ذكرناها ، الشروط المشروعة والممنوعة أولاً ينبغي للمسلم أن يلتزم بما أمر الله به وأن لا يشترط إلا ما فيه صلاح دينه ودنياه وآخرته ، وعلى ولي المرأة أيضاً أن يشترط ما فيه صلاح امرأته في الدين والدنيا والآخرة لأن الولي إنما نصب من أجل النظر في المصلحة ولا ينبغي على ولي المرأة ولا على الزوج أن يتخذا من الشروط وسيلة للإضرار ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( لا ضرر ولا ضرار )) . فلا ينبغي أن يتخذ كل منهما الشروط وسيلة للإضرار بالآخر بل ينبغي أن تكون الشروط معينة على طاعة الله ومعينة على الوصول إلى ما يرجى من النكاح على الوجه الذي أذن الله به ، والله تعالى أعلم .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
حق الزوج
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :(6/348)
فإن الله فرض الفرائض والواجبات وبين الحقوق والأمانات وكلف بها المؤمنين والمؤمنات وجعلها شريعة لعبادة أجمعين وهذه الفرائض والواجبات لا سعادة للمؤمن إلا بالقيام بها وأدائها على وجهها حتى يكون ذلك أدعى لرضوان الله عنه قال-- عز وجل - - في كتابه المبين : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً @ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً } حمل المؤمن الأمانة على ظهره والله سائله أسئلة عنها يوم القيامة بين يديه ومن هذه الحقوق والواجبات التي فرض الله على المؤمنين والمؤمنات حقوق الأزواج والزوجات جعلها الله أمانة في عنق كلٍ من الزوج والزوجة وحملهم المسؤولية هذه لحقوق أمر الله بها في كتابه المبين ، وعلى لسان رسوله المصطفى الأمين-- صلى الله عليه وسلم - - أمر الله بها من فوق سبع سموات وأمر بها رسوله-- صلى الله عليه وسلم - - وأمر بها العلماء والصلحاء والأتقياء في كل زمان ومكان أمروا بها لعلمهم أن سعادة البيوت الزوجية موقوفةً على أداء هذه الحقوق ورعاية هذه الواجبات وأنك إذا رأيت ذلك البيت المسلم الذي يحفظ فيه الزوج حق زوجته وتحفظ فيه الزوجة حق زوجها ويتقي الله كلٌ منهما في الآخر إذا نظرت عيناك إلى ذلك البيت المسلم الذي يقوم على أداء الأمانات والواجبات ورعاية الحقوق والأمانات رأيت السعادة في ذلك البيت المسلم ورأيت الطمأنينة ورأيت المودة والرحمة التي أخبر الله عنها في كتابه المبين .(6/349)
كتب الله السعادة لبيوت قامت على رعاية الحقوق وأداء الأمانة كتب الله السعادة لكل زوج وزوجة يتقي الله-- عز وجل - - ويراقب الله فيما أوجب عليه وليس ذلك بغريب ؛ لأن طاعة الله-- عز وجل - - مظنة كل خير وبركة وسبيل لكل رحمة ونعمة ، ولذلك وعد الله كل مؤمن ومؤمنة قام بحقه وعده بالسعادة والحياة الطبية كما قال-- سبحانه وتعالى - - : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } فأخبر الله-- سبحانه وتعالى - - أنه يكتب الحياة الطيبة لمن قام بحقوق الإيمان ومن ذلك أداء الأمانات والمسؤوليات وإذا ضيع الزوجان أو ضيع واحد منهما حقوق الزوجية وكان في جهل أو تجاهل لهذه الحقوق تنكد العيش وتنغصت الحياة وأصبحت جحيماً لا يطاق يدخل الرجل إلى بيت الزوجية بقلب منكسر وفؤاد مجروح لا يسمع ما يرضيه ولا يرى ما تقربه عينه ، وهكذا المرأة تعيس قد ضاعت حقوقها وضيع مالها عند ذلك تكون الحياة الضنكة والعيشة المليئة بالشقاء التي وعد الله بها من تنكب عن سبيله وخرج عن هدي كتابه أن أداء حقوق الزوجين أمانه عظيمة ومسؤولية كبيرة كانت الأمة الإسلامية ترعى هذه الأمانات حينما كان الأباء والأمهات يقمن بالواجب تجاه الأبناء والبنات فلا يدخل الابن إلى بيت الزوجية إلا وقد عرف ماله وما عليه ولا تدخل البنت بيت إلى الزوجية إلا وقد عرفت ما لها وما عليها وقد رغب كلٌ منهما في القيام بما عليه وأدائه على وجه ورهب من تضيع ذلك لما حفظ الأزواج والزوجات وحفظ الأباء والأمهات مهمة التوجيه والعمل استقرت بيوت المسلمين ولما صارت العصور المتأخرة وصار الجهل متفشياً بين كثير من المسلمين إلا من رحم الله تجاهل الناس حقوق الزوجية وأصبحت الحياة الزوجية تسير بالأهواء وتسير كيفما يرد كلٌ من الزوجين عندها كثرت المشكلات وتبدد شمل الأزواج والزوجات وعظمة المصائب والخلافات وجنى ما كان من وراءها من شر(6/350)
وبلاء الأبناء والبنات لذلك كان من الأهمية بمكان أن يعتني ببيان حقوق الزوجين وما ينبغي على كل منهما أن يرعاه تجاه الآخر وهناك أمران مهمان هما من أعظم الأسباب التي تعين على أداء الحقوق الزوجية ورعايتها والقيام بها على وجهها .
أما الأمر الأول : فتقوى من الله-- عز وجل - - غيبتها قلوب الأزواج والزوجات فالتقي والتقية كلٌ منهما حر أن يقوم بالحقوق على أتم وجوهها وأكملها ، ولذلك قال رجل للحسن البصري : - يا إمام - عندي بنت لمن أزوجها ؟ قال : زوجها التقي فإنه إذا أمسكها برها وإذا طلقها لم يظلمها فإذا كان كلٌ من الزوجين في قلبه تقوى من الله-- عز وجل - - وخشية ومراقبة لله-- سبحانه وتعالى - - كان ذلك أدعى للقيام بالحقوق على وجهها وهذا ما يسمى بـ ( الوازع الديني ) فإن الله-- سبحانه وتعالى - - قذف نور التقوى في القلوب وأصلح به ما يكون من الجوارح قال-- صلى الله عليه وسلم - - : (( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) .
أما الأمر الثاني : فهو البيئة والقرناء فإن للبيئة أثراً كبيراً في الدعوة للقيام بالحقوق وانظر إلى كل زوج نشأ في بيئة صالحة تربي فيها على الكتاب والسنة واهتدى فيها بهدي السلف الصالح للأمه تجده حافظاً لحقوق زوجة قائم بما أوجب الله عليه في بيته وكذلك المرأة الصالحة إذا رزقت بالبيئة الصالحة كان ذلك خير معين لها للقيام بحقوق بعلها وهذان الأمران مهمان جداً لصلاح البيوت ولاصلاحها والقيام بحقوق الزوجين .
وسيكون حديثنا - إن شاء الله - في هذا المجلس المبارك عن حق الزوج على زوجته .
وهذا الحق ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : حق معنوي .
القسم الثاني : حق مادي .(6/351)
فأما الحق المعنوي فإن الله-- عز وجل - - جعل للأزواج حق القوامة على الزوجات ولا يمكن لبيوت الزوجية أن تستقر وأن تقوم على الوجه المطلوب إلا إذا كان هذا الحق محفوظاً من المرأة لزوجها جعل الله في الرجل خصائص ليست في المرأة جعل فيه القوة والصبر والتحمل فهو أقدر على القيادة وعلى تحمل المسؤولية والإطلاع بالمهمات ، ولذلك فضل الله الرجال على النساء وكان من دلائل تفضيله أن جعل النبوة في الرجال وهي افضل ما يهب الله-- عز وجل - - ويعطي ، ولذلك قال العلماء : إن الله فضل الرجال من هذا الوجه لما جبلهم عليه وفطرهم عليه من القوة في الخلقة وهذا يقتضي من المرأة أن تكون تحت الرجل ولا يقتضي أن يكون الرجل تحت المرأة أو تحاول المرأة أن تكون مساوية للرجل ومنافسة له حق القوامة يقوم على أمرين مهمين :
أحدهما : تدبير الأمور والشؤون عن طريق الاجتهاد والنظر فالرجل هو الأحق بالنظر في الأصح والأقوم لبيته وأهله وولده .(6/352)
وأما الأمر الثاني : فهو تطبيق ما رأي صلاحه وأداه إليه اجتهاده فهو أحق بهذين الأمرين وقد جعل الله-- عز وجل - - في الرجال من الخصائص في النظر والمعرفة ما ليس في النساء ؛ لأن الرجل يخالط أكثر من المرأة ولو خالطت المرأة الرجال فإن مخالطتها قاصرة مهما فعلت ومهما كانت ؛ لأن الفطرة لا تتبدل ولا تتغير يقول العلماء : حق القوامة حق توجيه وإرشاد وتعليم وليس بحق استبداد واستبعاد وقصر وقهر وأذية وإضرار وهذا الحق أشار الله إليه بقوله : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فإذا كانت المرأة تعترف للرجل بهذا الحق وشؤون البيت تخضع فيها المرأة لرأي الرجل واجتهاده وتدبر من الرجل ولا يمنع أن يكون هناك حظ لمشاركة المرأة بالرأي استقامت الأمور ؛ لكن أن تحاول المرأة أن تتدخل في الصغير والكبير والجليل والحقير وأن يكون رأيها هو الذي يعمل به وهو الذي يفرض حتى إنها ربما تحاول أغراء زوجها بقبول رأيها فإن امتنع آذته ونكدت عليه ونغصت حياته وربما دفعت أولاده وأبنائه وبناته من أجل أن يعدل الرجل عن رأيه ويصبح رأيها هو الماضي هذا الحق حق القوامة إذا فسدته المرأة بهذه التصرفات تنكد العيش وكان أول من يجنى سوء العاقبة هو المرأة ، ولذلك أفساد المرأة لأبنائه وبناتها وأفسادها على زوجها وتركها لهذا الحق وعدم قيامها به على وجه من أعظم المصائب إذ يترتب على ذلك شعور الرجل بالنقص وشعوره بأنه ظلم وأنه قد أخذ حقه خاصة إذا أفسد عليه أولاده وأصبح لا يستطيع أن يبت في قضية ولا يبت في مسألة إلا وقد تدخلت المرأة وأضرت وأفسدت حتى ربما كره النظر في أموره ، وفي بعض الأحيان خاصةً عند كبر الرجل قد ييئس الرجل ويترك زمام الأمور بسبب أذية المرأة وأفسادها عليه هذا الحق بقاءه والقيام به صلاح للبيوت ذهابه وفساده دمار وشقاء ، ولذلك إذا عود تعودة المرأة على التدخل في شؤون الرجل استرجلت(6/353)
وبين النبي-- صلى الله عليه وسلم - - عاقبة هذا الضباع لهذا الحق بقوله : (( لعن الله المسترجلات من النساء )) فالمرأة التي تتدخل في شؤون الزوج وتتقتححم في أوامره واجتهاداته ونظرة فيه شي من الاسترجال لا ترضى أن تكون تحت الرجل وتريد أن تكون إما مساوية له ، أو تظهر أنها أعلم وأحكم وأكثر دراية وخبرة تفرع عن هذا الحق وهو حق القوامة تفرع عليه لزوم الطاعة ، ولذلك يعتبره العلماء الحق الثاني فالمرأة مأمورة بأن تطيع الرجل وأن تكون تحته وهذا هو الأصل لأن الله-- عز وجل - - فضل الرجل عليها ؛ ولكن بشرط أن يكون أمره ونهيه موافق لشرع الله-- عز وجل - - تفرع حق الطاعة فتطيع المرأة بعلها وتلتزم بما يأمر بها وينهاها عنه وهذا هو الحق الثاني من حقوق الرجل على امرأته وأمر الرجل لامرأته تطيعه فيه إن كان واجباً في واجب وفرض صار فرضاً آكد كأن يأمرها بشيء من فرائض الله وقد أشار الله إلى ذلك بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } فجعل الأمر للرجل وجعل له حق التوجيه لأمرته وأثنى على نبي من أنبيائه فقال : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا @ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } فلابد للزوجة من أن تطيع زوجها .(6/354)
ومن الأمور المهمة في الطاعة أن تطيعه في حق نفسه خاصة إذا دعاها لاعفاف نفسه عن الحرام وقد أشار النبي-- صلى الله عليه وسلم - - إلى أن تقصير المرأة في طاعة الرجل إذا دعاها لاعفاف نفسه أنه يوجب لعنة الله لها قال-- صلى الله عليه وسلم - - : (( أيما امرأة دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضباناً عليها باتت الملائكة تلعنها حتى تصبح )) متفق عليه فدل هذا على أنه لا يجوز للمرأة أن تعصى زوجها في أوامره وبالأخص إذا كانت في طاعة الله كالأمر بفرائض الله وفي خاصة نفسه كحقه في اعفاف نفسه عن الحرام .
ويستثنى من ذلك كما ذكر الفقهاء : أن يكون بالمرأة عذر يمنع أو لا تستطيع معه أن تقوم بحقه إذا دعاها إليه فإذا كانت مريضة ولا تستطيع ومرضها يضر بها كان من حقها أن تعتذر ومع ذلك يقول العلماء : ينبغي أن تتلطف وأن يكون اعتذارها بطريقة تشعره أنه أمر ليس بيدها .
كذلك أيضاً من حقه في الطاعة أن لا تخرج من البيت إلا بإذنه ، وقد أشار النبي-- صلى الله عليه وسلم - - إلى هذا في قوله : (( إذا استأذنت أحدكم امرأته المسجد فليأذن لها )) قال العلماء : إذا كانت المرأة تريد الخروج للصلاة التي هي أعظم شعائر الإسلام بعد الشهادتين ولا تستطيع أن تخرج لهذه الفريضة إلا بإذن زوجها وسؤاله ذلك فمن باب أولى أن يكون لخروجها لأمور الدنيا ، وقد نص العلماء على أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا أن يأذن لها زوجها وأنها إذا خرجت بدون إذن الزوج أو اعتادت الخروج من دون إذن الزوج أن ذلك يعتبر من النشوز ومن العصيان والتمرد خاصةً إذا واجهت الرجل بأنها حره في نفسها وأنها تفعل ما تشاء كأنها بذلك تعرض عن أمر الله بطاعتها لبعلها وتعرض عن شرع الله بالتزامها للقرار في بيتها فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها .(6/355)
تفرع على ذلك المسألة الفقهية إن خرجت المرأة من بيت زوجها وبقيت في بيت أهلها بدون إذن الزوج سقط حقها في النفقة وقد أجمع العلماء-رحمهم الله- على أنها إذا امتنعت وبقيت في بيت أهلها وخرجت من بيت زوجها من دون إذنه وأصرت على البقاء بعيد عن بيتها ولم تعود أنه لا حق لها في النفقة .
كذلك أيضاً من حقه عليها أن تكون أمينة حافظة لحقوق بعلها والأمانة صفة من أجل صفات المؤمنين وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي-- صلى الله عليه وسلم - - أنه إذا كان يوم القيامة وضرب الصراط على متن جهنم أوتي بالأمانة والرحم فقامتا على جنبتي الصراط قال بعض العلماء : لا يسلم من الصراط خائن أمانة أو قاطع رحم فأمانة المرأة تستلزم منها أمور :
الأول : ألا تأذن لأحد أن يدخل بيت زوجها إلاَّ إذا كان الزوج قد أذن لها بدخول ذلك الداخل والمستأذن وقد أشار النبي-- صلى الله عليه وسلم - - بقوله في خطبة حجه الوداع : (( ولا يطأن فرشكم إلا من ترضون أي لا يأذن بدخول أحد إلى بيوتكم إلا من ترضون دخوله )) فدل هذا على أنه لا يجوز للمرأة أن تأذن لأحد بالدخول إلى بيت زوجها وبعلها إلا أن يأذن لها الزوج بذلك ، ولذلك قال العلماء : إذا ضيعت المرأة هذا الحق لا تأمن سوء العاقبة لأنها إذا أذنت لرجل لم يأذن الرجل ( الزوج ) بدخوله فإنه لا تأمن أن يسيء ظنه بها وحينئذ يكون من المشاكل مشكلات ما لا يخفى يكون من المشكلات والعواقب والوخيمة ما لا يخفى .(6/356)
كذلك أيضاً من حقه عليها قياماً لهذه الأمانة ورعاية لها أن تحفظ مال الرجل فلا تضيع المال ولا تسرف في الأنفاق فإذا أعطاها المال أو ائتمنها على أمواله ينبغي أن تكون الحكيمة الرشيدة التي تضع الأمور في نصابها ولا تضيع مال بعلها بأهوائها وشهواتها كذلك يتفرع عليه أن تحفظ حق الزوج في فراشه فلا تخونه والخائن فيه نوع من الغدر لأن الزوج إذا أمن زوجته فقد وكل الله-- جل جلاله - - رقيباً عليها ووكل الله حسيباً ومطلع على خافتتها فإن غدرت به وخانته فقد نكثت عهد الله الذي بينها وبينه مع ما فيه من عصيانها لله-- عز وجل - - فينبغي للمرأة أن تحفظ فرجها ؛ لأن الله استرعاها أمينة على ماء الرجل وعلى عرض الرجل وعلى ذرية الرجل ، ولذلك إذا تساهلت واسترسلت أو فتحت على نفسها باب الفتنة ووقعت في الحرام أفسدت على الرجل ذريته وأدخلت عليه ما ليس من ولده يأكل من طعامه ويشرب من شرابه وينظر إلى عرضه ويرثه وكل ذلك بالباطل وبدون حق ولقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي-- صلى الله عليه وسلم - - أنه لما رأى الرجل يريد أن يطئ المسبية في سبي أو طاس وهي حامل فقال-- صلى الله عليه وسلم - - : (( أيريد أن يغذوه في سمعه وبصره ؟ )) يعني هل يريد أن يطئ هذه الأمة المسبيه وهي حامل من غيره فيغتذي جنينها في بماءه في سمعه وبصره أيغذوه في سمعه وبصره لقد هممت أن العنه لعنة تدخل معه في قبره .(6/357)
قال العلماء : إذا كان هذا بعد التخلق واكتمال الجنين أو يكاد أن يكتمل لأنها قد حملت وليس الأمر فقط إلا باغتذاءه بالسمع والبصر فكيف بامرأة أخلت غريباً كلاً على رجل بكليته على رجل فهو أمر عظيم ، ولذلك أثنى الله من فوق سبع سموات على المؤمنات الحافظات القانتات فقال-- سبحانه وتعالى - - : { فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } فالمرأة إذا غاب عنها زوجها تحفظ عرضه وإذا استأذنت أن تخرج لمان تكون صادقة أمينة تراقب الله-- عز وجل - - وتحفظ عرض الرجل لأنها ضعيفة ولا تأمن أن تقع في الحرام بإغراء أو بفتنة خاصة إذا فسد الزمان ولا تأمن على نفسها فمن حق البعل على زوجته أن تحفظ له عرضه وأن تصونه من هذا الحرام .(6/358)
وكذلك أيضاً من الأمانة أن تحفظ أسرار الزوج وأموره الخاصة ومن أسراره التي تكون بينه وبينها فإذا تحدثت بخاصة ما يكون بينها وبين بعلها فإن الله يمقتها ومما يوجب المقت أن يتحدث الرجل بما يكون بينه وبين المرأة وتتحدث المرأة بما يكون بينها وبين بعلها ولو أخذ ذلك على سبيل المزح ولو أخذ ذلك على سبيل اللعب واللهو { تَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ، فالمرأة تحفظ هذه الأسرار وتجعل نصب عينيها الجنة والنار في جميع ما يكون من الأمور الخاصة بالزوج ثم تحفظ جميع ما تعرفه عن الزوج في أعماله وفي أقواله وأخلاقه وتصرفاته خاصة إذا ائتمنها على الأسرار لا يجوز أن تفشى سره والله حسيبها والرقيب المطلع عليها فيما تقول وما تخبر ومن الأخطاء التي يضيع بها بعض النساء حق الأزواج ويخن فيها الأمانة ويضيعن فيها هذا الحق أن المرأة إذا وقع بينها وبين زوجها أقل خصام أو شجار وذهبت إلى أهلها شاكية أفشت جميع ما تعرفه من الأسرار وتحدثت بعيوب زوجها وذكرت ما يكون من خاصة أمره وهذا لاشك أنه يعتبر من الآثام وعده بعض العلماء من كبائر الذنوب ؛ لأن خيانة الأمانة والتحدث بالأسرار لا يجوز إلا عند الضرورة فهذا من الحق الذي فرض الله على المرأة أن تحفظه وألا تفشيه وتبديه إلا بإذن صاحبه أو وجد أمر شرعي يبيح أن تتحدث أو تخبر به .
ومن حقوق الزوجة على زوجها وهي الحقوق المادية الخدمة ، والمراد بذلك خدمة المرأة لزوجها فإن الله-- عز وجل - - فطر المرأة وخلقها وجعل فهيا خصائص صالحة للقيام بشؤون البيت وتدبيره ورعاية أموره فإذا قامت المرأة بخدمة بيت الزوجية كما ينبغي قرت عين الزوج ورضي زوجها وأحس أن بيته قد حفظ حقه ورعيت مصالحه فيرتاح وترتاح نفسه ، وقد أشار الله-- عز وجل - - إلى هذا من مجمل قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي على النساء حقوق كما أن على الرجال حقوق .(6/359)
وللنساء حقوق كما أن للرجال عليهن حقوق بالمعروف، والمعروف إما أن يكون العرف كما يقول جماهير العلماء فيرجع إليه ويحتكم إليه فعرف الصالحين وعرف المسلمين في كل زمان ومكان أن المرأة تخدم بيت زوجها فانظر إلى أمهات المؤمنين كن يقمن على خدمة بيت رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها- قالت : كن نعد لرسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - سواكه وطهوره فيبعثه الله من الليل ما يشاء ، وفي الحديث الصحيح عن أم ميمونة-رضي الله عها- قالت : وضعت لرسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - غسل فاتغتسل من الجنابة ، ولذلك أجمع العلماء على مشروعية خدمة المرأة لزوجها جماهير أهل العلم إلى من شذ وهو قول ضعيف على أن المرأة تخدم زوجها وتقوم على رعايته ؛ لأنه لا أفضل من أمهات المؤمنين وهذه بنت رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - الكريمة بنت الكريم-صلوات الله وسلامه عليه-رضي الله عنها- فاطمة تخدم زوجها حتى أن يدها تقرحت بسبب طحنها للنوى-رضي الله عنها وأرضاها- .(6/360)
قال بعض العلماء : إنها قد جلت يدها من كثر الطحن للنوى ، والنوى يكون علفاً للدواب فكيف بالقيام على حق الزوج حتى ذكر بعض العلماء أنها تقوم حتى بما يحتاج إليه من مركبة إذا جرى العرف بذلك ، كذلك أيضاً ثبت في الحديث الصحيح عن أسماء-رضي الله عنها- أنها كانت تخدم الزبير وكانت تخرج إلى مزرعته وتمشي أكثر من ثلثي الفرسخ وهي تحمل على ظهرها وهذا هو الذي عرف عن نساء المؤمنين وعرف في أزمنة المسلمين أن النساء يقمن بخدمة البيوت ورعايتها وأن هذه الخدمة لا تغض من مكانه المرأة ولا تنقص من قدرها ولكنها فطره الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، هذا الأمر الذي هو خدمة البيت قد يراه البعض شيئاً يسيراً أو شيئاً صغيراً ؛ لكن عواقبه الحميده على نفسية الزوج حينما يخرج وهو يشعر أن بيته قد قامت برعايته والعناية به زوجه فيدخل وقد هيأت له أمورة وارتحات نفسه واطمأن قلبه وكان أبعد ما يكون عن ما يشوش عليه أو ينغص عليه ويوجب وقوع المشكلات بينه وبين أهله فلما تنكب النساء عن هذه الفطرة السوية أصبحت بيوت المسلمين كأنها مهملة والرجل يدخل إلى بيته فيرى أموراً لا يسر بها الناظر ولربما أن الرجل بنفسه يقوم بكناسة بيته وغسل ثيابه وطهي طعامه حتى قال الإمام ابن القيم-رحمه الله- : فإن ترفهت المرأة وقام الرجل بكنس بيته وطهي طعامه والعجن والخبز فذلك هو المنكر أي ذلك هو المنكر الذي لم يأذن الله به ، فالمرأة تقوم بما فطرها الله عليه والرجل يقوم بما فطره الله عليه وليس من الفطرة أن الرجل هو الذي يخدم نفسه وهو الذي يقوم برعاية بيته . فإن قالت المرأة أخدم نفسك أو افعل ما تشاء فقد كبرت كلمة تخرج من فمها حينما تخرج عن فطرتها وتباً لها من امرأة تسيء إلى بعلها وتنتزع الرضا منه الذي يكون سببا في دخول جنة الله-- عز وجل - - قال-- صلى الله عليه وسلم - - : (( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة )) .(6/361)
فإذا أصبحت تحمله أن يقوم بأعباء بيته وتكون مترفة في البيت منعمة أو تطلب منه أن يأتي بمن يخدمه ويقوم عليه ولربما على وجه يوجب الفتنة له فذلك كله خلاف الفطرة ؛ لكن إن وجدت الأمور التي تضطر المرأة إلى أن تطلب من يخدمها فحينئذٍ لا حرج ، ولذلك جاءت فاطمة-رضي الله عنها- تسأل رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - أن يعطيها خادم فقال-- صلى الله عليه وسلم - - : (( أولا أدلكما على خير لكم من خادم .. الحديث )) فهذا يدل على أنه لا حرج أن تسأل لكن إذا وجدت الضرورة ووجدت الحاجة ، أما أن تسأل ذلك ترفها واستكباراً أو ظناً منها أنها ما خلقت لهذا أو أن هذا ليس من شأنها فهو خلاف فطره الله وخلاف العشرة بالمعروف التي ينبغي على كل مؤمنة أن تحفظها لبعلها هذه الأمور كلها أمور مهمة ينبغي على المرأة أن تحفظها لبعلها وعلى المرأة الصالحة أن تعلم أنه لا أكمل من شرع الله ، ولا أكمل من دين الله وأن من رضي بشرع الله-- رضي الله عنه - وأرضاه- وأنه فمنا سمعت من الدعوات أو رأت من العادات من التقاليد والعادات مما يخالف شرع الله أو يتنكب عن فطره الله فإنه لا تأمن معه سوء العاقبة فمهما كان شيء طيباً في ظاهره لكن عواقبه وخيمة وما عليها لا أن تلتزم بهذه الأمور التي عرفتها في فطرتها وعرفتها في هدي الصالحات من سلف هذه الأمة التي كن يقمن على رعاية العشير وأداء حقه على الوجه الذي يرضى الله-جل وعلا- .
هذه الحقوق لا تستطيع المرأة أن تقوم بها على وجهها إلا إذا هيئت من نفسها أموراً تتلخص فيما يلي :
أولها : أن تسأل الله-- عز وجل - - أن يعينها على الوفاء بحق بعلها وأن يعيذها من التقصير والإخلال بحقه ؛ لأن الله -- سبحانه وتعالى - - رضي لها أن توفى لبعلها وكره لها أن تضيع حقه وتسأل الله وتكثر من الدعاء أن يعينها الله على حقوق بعلها .(6/362)
ثانياً: أن تهيئ المرأة من نفسها العوامل النفسية للاستجابة لأوامر الله فتعلم أنها مأمورة وأنه مادام شرع الله يأمرها بطاعة الزوج وإعطاءه حق القوامة وأنها مطالبة بعشرته بالمعروف ومن المعروف خدمته واستئذانه عند الخروج وحفظ حقوقه وأماناته وأسراره إذا علمت ذلك واطمأنت بذلك فإنها ستستجيب بمقدار ما يكون فيها من الإيمان والظن بالمؤمنة أنها تستجيب لأمر الله ، ولذلك قال العلماء : إن الله صدر آيات الحقوق بقوله : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } لأنه لا يستجيب لأمر الله على الكمال وأتم الوجه مثل المؤمن .(6/363)
الأمر الثالث : على المرأة أن تعلم علم اليقين أنها إذا قامت بهذه الحقوق لا تنتظر مكافأة من الرجل ولا تنتظر جزاءً من الرجل ؛ ولكن ينبغي عليها أن تجعل نصب عينيها وأكبر همها وأعظم ما تطلبه رضوان الله-- عز وجل - - عليها فما من مؤمنة تشعر أنها تطلب رضوان الله إلا وجدتها أخضع ما تكون لزوجها وقائمة بحقه على أتم الوجوه حتى حدث بعض الصالحين أنه رزق بامرأة لا تهنأ ولا تقر إلا بالقيام بحقه يقول حتى ربما أخطأت عليها فتغير قلبي وأنا المخطئ فلا تبيت إلا وهي باكية تسألني أن أسمح عنها وهذا من قوة الإيمان النفس المؤمنة إذا زكت وسمت واستجابت لله طامت وأصبحت تحرص في جميع التصرفات وإلا حاسيس والمشاعر والكلمات كيف تلتمس مرضاة زوجها ليس هناك من غضاضة أن تخضعي للزوج وليس بنقص وليس بذله ولا بمهانة ؛ ولكنه والله كمال ورفعه وحسن توفيق من الله-- عز وجل - - ليس ينقص والله كمال للمرأة لأنها فطره الله التي فطر الله الناس عليها وجبلهم على هذا فإذا كانت المرأة تشعر من نفسها أن هذا ليس بنقص ؛ وإنما هو كمال استجابت وارتاحت واطمأنت بل وبادرت وكانت قوية النفس للاستجابة لأمر الله-- عز وجل - - في القيام بهذه الحقوق كذلك على المرأة أن تهئ الأسباب التي تعينها للاستجابة ومن أعظمها قراءة سيره الصحابيات ونساء السلف الصالح لهذه الأمة وما كن عليه من حسن تبعل للأزواج والنظر فيما ورد في النصوص عن النبي-- صلى الله عليه وسلم - - من تحبيب المرأة للقيام بحق الزوج وترغيبها في ذلك .(6/364)
كذلك أيضاً مما يعين المرأة على القيام بهذه الحقوق وأدائها على وجهها المطلوب حسن النظر في العواقب الحميدة في الدين والدنيا وكيف أن بيتها يستقر وأنها ترتاح وتطمئن ويرتاح زوجها ويطمئن بالقيام بهذه الحقوق ، والعكس بالعكس تنظر أيضاً إلى العواقب الوخيمة للعكس أنها إذا ضيعت حق القوامة فإنه سرعان ما يشعر الزوج أنه ناقص وإذا شعر بالنقص أخذ يكسر حده المرأة والمرأة تستعلي والرجل يصر حتى لربما كسرها فطلقها-والعياذ بالله- أو لربما أقدم على ضربها حتى يشعرها أنه أقدر منها على القيام بهذه الحقوق ويقول بعض العلماء : قل أن تجد مشكلة ضرب فيها رجل لامرأته إلا وجدت المرأة فيها نوع ن الاسترجال ، ولذلك ينبغي للمرأة أن تعلم أن تضييع الحقوق دائماً يأتي بأسوأ العواقب وأن الشر لا يطفأ بالشر والسيئة لا تدفع بالسيئة ؛ وإنما تدفع بالحسنة فالتفكير في مثل هذه الأمور يعين المرأة على إصلاح نفسها وإصلاح حالها مع بعلها .
ومن الأمور وهو آخر ما توصى به المرأة المسلمة عدم السماح للغير بالتدخل في شؤونها مع بعلها فإن بعض النساء يحرضن البعض بالتمرد على الزوج والعصيان له وعدم القيام بحقوقه فقرين السوء عواقبه وخيمة فتتقى المرأة التحدث مع النساء في أمور بيتها وخصائص ما يكون من حالها مع زوجها فذلك أدعى لسلامتها وحسن العاقبة لها .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
حق الزوجة
الشرح :
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين صلى الله عليه وعلى آله ومن سار على نهجه ومنواله إلى يوم الدين أما بعد :(6/365)
فلا زال حديثنا موصولاً عن الحقوق الزوجية ، وقد تقدم في المجلس الماضي بيان ما فرض الله على الزوجة تجاه زوجها وفي هذا المجلس سيكون حديثنا إن شاء الله عن ما أوجب الله-- عز وجل -- على الزوج تجاه زوجته وهذا من عدل الله-تبارك وتعالى- فإن الله-سبحانه- عدل بين الزوجين فأمر الأزواج وأمر الزوجات ولم يخص واحداً منهما بالأمر ليكون ظلماً للآخر : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ، فرض الله على الأزواج حقوقاً تجاه زوجاتهم هذه الحقوق من حفظها وحافظ عليها وأداها على وجهها فقد حفظ وصية النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في أهله .
قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( استوصوا بالنساء خيراً )) فمن حفظ هذه الحقوق وحافظ عليها فإنه من خيار عباد الله المؤمنين ، قال -- صلى الله عليه وسلم -- : (( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي )) .
فهي الحقوق العظيمة التي فرض الله على زوج يخافه ويتقيه ويعلم علم اليقين أنه محاسبه ومجازيه .
هذه الحقوق إذا قام الأزواج بها على وجهها كانت السعادة وكانت الطمأنينة وشعرت المرأة بفضل الزوج وأنه مؤمن قائم لله-- عز وجل -- بحقه وحقوق عباده ، وإذا رأت المرأة من زوجها الاستهتار والاستخفاف بحقوقها تنكد عيشها وتنغصت حياتها حتى ربما أنها لا تستطيع أن تقوم بعبادتها على وجهها بما ينتابها من الوساوس والخطرات وبما تحسه من الذل والاضطهاد والأذية .
ولذلك قال العلماء : إن إضاعة حقوق الزوجات أعظم من إضاعة حقوق الأزواج ، لأن الزوجة إذا ضاع حقها لاتدري ماذا تفعل ولا أين تذهب وهي تحت ذلك الزوج الذي يمسكها للإضرار والتضييق عليها .(6/366)
وأما الرجل فإنه إذا ظلمته المرأة وضيعت حقه استطاع أن يطلق وقد يكون بقوته وما أعطاه الله من الخلقة وفطره عليها أن يصبر ويتحمل ؛ ولكن المرأة لا تستطيع ذلك . ولهذا قال العلماء : ظلم النساء في حقوقهن عظيم والمرأة إذا ظُلمت ضاقت عليها الأرض بما رحبت فتحس أنها قد فشلت في حياتها وأنها لا مفر لها من هذا البلاء وليست كالزوج الذي يطلق وينفك من بلائه ، ولهذا يكون مفرها إلى الله وشكواها إلى الله وتبث حزنها إلى الله وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيراً .
ولذلك أنزل الله في كتابه آية المجادِلة وأخبر أنه سمع شكوى المرأة من فوق سبع سماوات ، قالت أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها وأرضاها- : إني لمن وراء الستر يخفى علي بعض كلامها وهي تقول إلى الله أشكو ثعلبة إلى الله أشكو ثعلبة ، قالت فسمعها الله من فوق سبع سماوات فسبحان من وسع سمعه الأصوات .
فالمرأة إذا ظلمت وضيق عليها واضطهدت لا تستطيع الشكوى إلا إلى الله بل يبلغ ببعض النساء أنه يضيع حقها وتضطهد في بيتها وتظلم من زوجها ولا تستطيع الشكوى لا لأبيها ولا لأخيها ولا لقرابتها وفاءاً لبعلها وزوجها ، وقد لاتستطيع الدعاء عليه ولا شكوى أمره إلى الله لأنها تحبه ولا تريد السوء له وهذا يقع في المرأة الحرة الأبية ، ولذلك تقع بين نارين لا تستطيع الصبر عليهما إلا بالله-- عز وجل -- . هذه الحقوق التي فرض الله على الأزواج تنزلت من أجلها الآيات ، ووقف النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في حجة الوداع أمام أصحابه في آخر موقف وعظ به أكثر أصحابه في حجة الوداع فكان مما قال : (( اتقوا الله في النساء )) .(6/367)
حق الأمر بطاعة الله : هذه الحقوق أعظمها وأجلها حق الأمر بطاعة الله-- عز وجل -- . فأول ما ذكر العلماء من حقوق الزوجة على زوجها أن يأمرها بطاعة الله-تبارك وتعالى- هذا الحق الذي من أجله قام بيت الزوجية فإن الله شرع الزواج وأباح النكاح لكي يكون عوناً على طاعته ويكون سبيلاً إلى رحمته ، فالواجب على الزوج أن يأمر زوجته بما أمر الله وأن ينهاها عما حرم الله ، وأن يأخذ بحجزها عن عقوبة الله ونار الله .
أشار الله-تعالى- إلى هذا الحق العظيم بقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } .(6/368)
قال بعض العلماء : أمر الله نبيه-- صلى الله عليه وسلم -- والأمر للأمة وللرجال من الأمة أن يأمروا أهليهم بما أمر الله وذلك بدعوتهم لفعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله-- عز وجل -- فيكون الزوج في البيت آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر إذا رأى خيراً ثبت قلب المرأة عليه وإذا رأى حراماً صرفها عنه وحذرها ووعظها وذكرها وإلا أخذها بالقوة وأطرها على الحق أطراً وقسرها عليه قسراً حتى يقوم حق الله في بيته قال بعض العلماء : كان بعض أهل العلم يعجب من هذه الآية الكريمة : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } كان بعض العلماء يتعجب من هذه الآية لأن الله قال فيها : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } ثم قال بعد ذلك بعد أن أمره بالصبر وبالاصطبار عليها : { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ } ، قال : إنه ما من زوج يقوم بحق الله وما فرض الله عليه في أهله وزوجه ويَعِظُها ويُذكِّرها حتى يقوم البيت على طاعة الله ومرضاة الله إلا كفاه الله أمر الدنيا فالله-- عز وجل -- يقول : { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } . كأن اقامته لأمر الله طريق للبركة في الرزق وطريق للخير والنعمة على هذا البيت المسلم القائم على طاعة الله ومحبة الله-- عز وجل -- .
للمرأة على بعلها حق الأمر بطاعة الله ، ولذلك كان من وصية الله لعباده المؤمنين إذا أرادوا الزواج أن يختاروا المرأة الدينة المؤمنة الصالحة لأنها هي التي تقيم بيتها على أمر الله-- عز وجل -- وما فرض الله .(6/369)
قال-- صلى الله عليه وسلم -- تنكح المرأة لأربع : (( لمالها ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك )). قال العلماء : إنما قال فاظفر بذات الدين لأنها غنيمة وأي غنيمة إن أمرها بطاعة الله أئتمرت وإن نهاها عن حدود الله ومحارمه انكفت وانزجرت. هذا الحق وهو حق الأمر بطاعة الله إذا ضيعه الزوج خذله الله في بيته وخذله الله مع أهله وزوجه وأولاده فلم تر عينك رجلاً لا يأمر بما أمر الله في بيته ولا يتمعر وجهه عند انتهاك حدود الله مع أهله وولده إلا سلبه الله الكرامة وجعله في مذلة ومهانة وجاء اليوم الذي يرى فيه سوء عاقبة التفريط في حق الله الذي أوجب الله عليه في أهله وولده .
أمرنا-جل وعلا- أن نقي أنفسنا وأهلينا ناراً وقودها الناس والحجارة فمن ضيع هذا الحق سلب الله المهابة من وجهه وسلب الله المهابة من قلب أهله وولده ، وأما إذا رأت عيناك زوجاً آخذاً بحجز زوجته عن نار الله يقيمها على طاعة الله ومرضاة الله وجدت المحبة والمودة والهيبة والإجلال ، ومن وفى لله وفى الله له ، ولذلك قال الله -تعالى- : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدّاً } . فالذي يأمر زوجته بما أمر الله ويقيمها على طاعة الله ومرضاة الله يضع الله له القبول والمحبة والهيبة والكرامة ، ولذلك ينبغي على الزوج أن يضع نصب عينيه أول ما يضع أن يقيم بيت الزوجية على طاعة الله وتقواه ، ولا يستطيع أن يقوم بهذا الحق على أتم الوجوه وأكملها إلا بأمور مهمة نبه العلماء أو بعض أهل العلم على بعضها :(6/370)
أولها : وأعظمها أنه إذا أراد نصيحة زوجته بأمرٍ بما أمر الله أو نهي عما حرم الله فينبغي أن يكون السبب الباعث له هو مرضاة الله بمعنى أنه إذا وعظ زوجته فأراد أن يأمرها بطاعة الله أو ينهاها عن معصية الله لا ينطلق من جهة السمعة أو من جهة العاطفة ، ولذلك تجد الرجل يقول لامرأته ( فضحتيني ) ، أو ماذا يقول الناس عني أو نحو ذلك من محبة السمعة أو العواطف التي لا ينبغي أن تكون هي أساس دعوته ومحور وعظه ونصحه .
قال بعض العلماء : لا يبارك الله لكثير من الأزواج في وعظهم لزوجاتهم لأنهم يعظون خوفاً على أنفسهم وخوفاً على السمعة لكن إذا وعظ الرجل ووعظ الزوج وهو يخاف الله على زوجته ويخشى أن يصيبها عذاب الله بارك الله له في كلماته وبارك الله له في موعظته وبلغت الموعظة مبلغها وكان لها أثرها ، ولذلك أول ما يوصى به من يأمر أهله ويعظهم ويريد أن يحثهم على طاعة الله أن يخلص لله في دعوته .
أما الأمر الثاني : القدوة فإن الزوجة لاتطيع زوجها ولا تمتثل أمره ولا تعينه على أداء هذا الحق في امتثال ما يقول إلا إذا كان قدوة لها ، ولذلك الواجب على الزوج أن يهيء من نفسه القدوة لزوجته كيف تطيع الزوجة زوجها إذا أمرها بواجب وحثها على أدائه وهي تراه يضيع حقوق الله وواجباته ، كيف تطيع الزوجة رجلاً يقول لها اتقي الله وتراه ينام عن الصلوات ويضيع الفرائض والواجبات وتراه لايبالي بحقوق الناس ، فلذلك إذا وجدت القدوة تأثرت الزوجة وأحست أن هذا الكلام الذي يخرج من الزوج يخرج بإيمان وقناعة وأنه ينبغي أن تمتثله وأن تسير على نهجه لأنها ترى الكلام مطابقاً للفعل فتتأثر بذلك وسرعان ما تمتثل .(6/371)
أما الأمر الثالث : تخير الكلمات الطيبة التي تلامس شغاف القلوب وتؤثر في المرأة فتستجيب لداعي الله بامتثال أمره وترك نهيه وهذا هو الذي أوصى الله به كل من يعظ فقال-سبحانه- : { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} . فالذي يريد أن يقيم زوجته على طاعة الله يتخير أفضل الألفاظ وأحسنها والتي تؤثر في نفسية الزوجة ترغيباً أو ترهيباً فإن كانت الزوجة تستجيب بالترغيب حثها بالترغيب وإن كانت تستجيب بالترهيب حثها بالترهيب وخوفها ويكون ذلك بقدر مع اشفاق وخوف من الله-- عز وجل -- .
هذه الأمور إذا تهيأت ينبغي أن يَسْلَمِ الزوج من ضدها مما ينفر من قبول دعوته كالكلمات الجارحة والعبارات القاسية " أنت لاتفهمين ، أنت عاصية أنت كذا " ، فهذا لا ينبغي بل ينبغي على الزوج إذا وعظ زوجته خاصة عند الخصومة أو عند الخطأ والزلل أن لا يَفْجُرَ في قوله قال العلماء الفجور في القول أن يبالغ في وصفها فيصفها بأشنع الأوصاف وهي لا تستحق ذلك الوصف وهذا هو من شأن النفاق فإن المنافق إذا خاصم فجر فبعض الأزواج إذا رأى أقل تقصير من زوجته حمَّل ذلك التقصير ما لم يحتمل من الوصف وقرع زوجته بأشنع العبارات وأقساها وأقذعها فإذا كانت المرأة صالحة أحست بالنقص وتأثرت فإن القلوب تتأثر بالكلمات الجارحة ولو كان الرجل مستقيماً وعلى طاعة الله فإنه يتأثر ، ولذلك ينبغي على الزوج أن يتحفظ وأن يتوقى في الألفاظ وهذا أصل في الدعوة إلى الله-- عز وجل -- : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } . فالموعظة الحسنة هي الموعظة المشتملة على الكلمات الطيبة والنصائح القيمة الهادفة التي تنصب على الأمر الذي يراد فعله والنهي عن الأمر الذي لا يراد فعله .(6/372)
حق النفقة : أما الحق الثاني الذي أوجب الله للزوجات على أزواجهن فهو حق النفقة وهذا الحق دل عليه دليل الكتاب والسنة والإجماع قال الله في كتابه : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } .
ينفق إذا كان غنياً مما آتاه الله على قدر غناه وإذا كان فقيراً مما آتاه الله على قدر فقره هذه الآية الكريمة يقول العلماء فيها أمران :
الأمر الأول : وجوب النفقة في قوله : { لِيُنفِقْ } فالنفقة واجبه .
والأمر الثاني : أنها تتقيد بحال الرجل إن كان غنياً فينفق نفقة الغنى فذو سعة من سعته أي ذو الغنى من غناه وذو الفقر من فقره في قوله-تعالى- : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } .
فهذه ثلاثة أمور النفقة واجبة وعلى الغني على قدر غناه وعلى الفقير على قدر ما آتاه الله .
وكذلك أوجب الله النفقة في قوله-سبحانه- : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } .
فأخبر-- سبحانه وتعالى -- أن الرجل له فضل على المرأة بالقيام بنفقتها وثبتت في السنة الصحيحة عن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بالأمر بالنفقة والحث عليها ووصية الأزواج بالقيام بها على وجهها حتى أباح للمرأة أن تأخذ من مال الزوج إذا امتنع من الانفاق عليها قال-- صلى الله عليه وسلم -- حينما اشتكت إليه هند-رضي الله عنها- فقالت : - يا رسول الله - إن أبا سفيان رجل شحيح مِسِّيك أفآخذ من ماله ؟ فقال-عليه الصلاة والسلام- : (( خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف )).(6/373)
قالت : - يا رسول الله - إن أبا سفيان رجل شحيح مسيك أي رجل شحيح ويمسك المال فإذا أنفق لاينفق نفقة تكفيني وكذلك أيضاً مسيك أي يخاف على ماله .
يقول بعض العلماء : لعل هنداً تجاوزت في الوصف وذلك أن هنداً كانت من الأثرياء ومن بيت غنى ، ولذلك قالت رجل شحيح مِسَّيك فبالغت في الوصف وقال بعض العلماء : لم تبالغ .
الذين قالوا إنها بالغت في الوصف قالوا إن جواب النبي-- صلى الله عليه وسلم -- لها قال : (( خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف )) ولذلك قالوا : لم يعط لها الأمر بدون تقييد .
والذين قالوا إنها قد اشتكت من ضيق يد أبي سفيان قالوا إن هذا يؤكد أنها ظلمت لقوله : (( خذي )) - وهذا هو الصحيح أعني الوجه الثاني .
وعلى هذا لما قال لها خذي من ماله دل على أن المرأة لها في مال الرجل حق من أجل النفقة .
وأما الدليل الثاني من السنة فإن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- قال : (( إن لنسائكم عليكم حقاً ولكم على نسائكم حقاً فأما حقكم على نسائكم إن لايطئن فرشكم من تكرهون وألا يَأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون ، وأما حقهم عليكم أن تحسنوا إليهن في طعامهن وكسوتهن )) فأما حقهن عليكم قالوا قولة حق يدل على أنه واجب ولازم على الزوج فدل هذا الحديث على أن النفقة من الزوج على زوجته أنها واجبة ولازمة .
وفي حديث معاوية-- رضي الله عنه - وأرضاه- : أن رجلاً سأل النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ما حق امرأتي علي ؟ قال : (( تطعمها مما تطعم وتكسوها مما تكتس )) . فدل على أن من حق المرأة على زوجها أن يطعمها ويكسوها .(6/374)
وأجمع العلماء-رحمة الله عليهم- على أن الزوج يجب عليه أن ينفق على زوجته بالمعروف ، قال بعض أهل العلم : إنما وجبت النفقة على الرجال ؛ لأن المرأة محبوسة في البيت عاطلة عن العمل والأصل في المرأة أن تقوم على بيتها وأن ترعى بيتها . وقد أشار النبي-- صلى الله عليه وسلم -- إلى ذلك بقوله في خطبته كما في الصحيح في حجة الوداع : (( استوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عندكم عوان )) . عوان أي أسيرات قالوا ولذلك أُمِرَ الرجل أن يقوم بالانفاق على المرأة من أجل هذا .
أما الأمر الثاني الذي جعل النفقة على الرجل للمرأة فالحقوق المتبادلة والمنافع التي يبادل كل منهما الآخر ، فالمرأة يستمتع بها الرجل ، قال-تعالى- : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فاستحقت أن تأخذ أجرها على ما يكون منها من القيام بحق بعلها في فراشه ، ولذلك قالوا إذا نشزت وامتنعت من الفراش كان من حقه أن يمتنع من الإنفاق عليها ونص بعض العلماء على أن من أسباب النفقة كونها فراشاً للرجل فلهذا كله أوجب الله على الرجال الإنفاق على النساء والقيام بحقوقهن وهذه النفقة فيها مسائل :
المسألة الأولى : ما هي أنواع النفقة التي ينبغي على الزوج أن يقوم بها تجاه زوجته ؟
المسألة الثانية : ما هي ضوابط النفقة التي ينبغي أن يتقيد بها الرجل بمعنى أن يؤديها على سبيل اللزوم وإذا أداها برئت ذمته؟
أما بالنسبة لأنواع النفقة فإنها تنحصر في الإطعام والكسوة والسكن فهذه ثلاثة أمور ينبغي للزوج أن يرعاها في إنفاقه على زوجته وأهله وولده .(6/375)
أما الإطعام فإن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- نبه عليه في حديث عمرو بن الأحوص-- رضي الله عنه - وأرضاه- في خطبته في حجة الوداع فقال : (( أما حقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في طعامهن وكسوتهن )) قال العلماء : إن عموم الأدلة التي دلت على النفقة يدخل فيها الطعام ؛ لأن الله-- عز وجل -- قيد ذلك بالمعروف وقيده النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بالمعروف والمعروف في أعراف المسلمين أن الزوج يطعم زوجته ويقوم على طعامها على الوجه الذي لا إضرار فيه . والطعام يستلزم أن يقوم الزوج بتهيئة ما تحتاجه المرأة وكذلك ولده بالتبع من جهة الأكل .
قال العلماء : يلزمه أمران : الطعام وما يحُتاج إليه لاستصلاح الطعام . فيطعمها فيكون الطعام كحب ونحو ذلك وما يؤتدم به الطعام فهذا كله لازم على الزوج ويكون مقيداً بالعرف فإذا كان غنياً فإنه يكون طعامه مرتبطاً بطعام الأغنياء مثله فلا يُطعم الغني طعام الفقير ولا يُطعم الفقير طعام الغني بمعنى لايلزمه ذلك ، ولا تطالبه المرأة بمثل ذلك .(6/376)
قال العلماء : الطعام ينقسم في الأعراف إلى ثلاثة أقسام (الأفضل والجيد والرديء والوسط بينهما ) فإن كان مال الرجل ودخله وما هو فيه من الحال هو حال أهل الغنى وجب عليه أن يطعم زوجته بالطعام الجيد الذي يطعمه مثله من ذوي اليسار ، وإذا عدل عن الطعام الجيد إلى اردائه فإنه يكون ظالماً وكان من حق الوالي والقاضي أن يلزمه بأجود الطعام وأحسنه كذلك أيضاً العكس فإنه إذا كان فقيراً وسألته المرأة أو وليها أن يطعمها طعاماً أفضل من طعام مثله وألحت عليه في ذلك لم يجب عليه أن يلبي لها ذلك ؛ لأن الله-- عز وجل -- أمر الإنسان أن ينفق على قدر ما أعطاه قال : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } وقوله : { وَمَنْ قُدِرَ } يعني من ضيق كما قال -تعالى- : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } . أي يوسع ويضيق فقوله : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } يعني ضُيِّق عليه .
وهنا مسألة : وهي أن الزوج ربما يكون ماله ودخله طيباً ولكن تنتابه ظروف لا يستطيع معها أن ينفق نفقة مثله وهذه الظروف تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : إما أن تكون ظروفاً قسرية تجبره على أن يقصر في النفقة وينزل عن نفقة مثله فهذا اغتفره العلماء كما لو طرأت عليه خسارة أو طرأت عليه مصيبة في ماله فاحتاج أن يدفع فأخذ يقسط من شهره حتى ضيق على أهله في طعامهم فهذا لا إثم عليه .(6/377)
القسم الثاني : أن تكون ظروفاً كمالية كأن يريد أن يشتري شيئاً صالحاً وهذا الشيء من باب الكمال كسيارة أو نحو ذلك كما ذكر بعض العلماء من دابة أو مركوب أو نحو ذلك يريد أن يشتري أفضل مركوب وهذا الأفضل مركوب سيكون على حساب زوجه وأولاده فيضيق عليهم في النفقة قالوا إنه يكون ظالماً في هذه الحالة وأنه لا يجوز له في هذه الحالة أن يطلب الكمال على وجه يضيع فيه الحق الواجب بل عليه أن يبقى على النفقة ويلزم شرعاً في الإفتاء والقضاء أن يبقى على نفقة مثله ولو اعتذر بهذا الكمال فإنه لا عذر له فيه ويحكم بإثمه إذا ضيق على أهله وولده .
الأمر الثاني مما يحتاج إليه في الإطعام يلزم الزوج بكل ما يُهيء به الطعام عرفاً فيشتري للمرأة الآلات والوسائل التي يمكن معها إصلاح الطعام ويعتبر شرعاً ملزماً به فإن امتنع أجبر قضاءاً ومن الأخطاء أن بعض الأزواج يمتنع من شراء بعض الآلات ويلزم الزوجة بشرائها وقد يلزم أولياءها بشرائها وهذا يعتبر من الظلم كما ذكر بعض أهل العلم-رحمة الله عليهم- بل ينبغي على الزوج أن يشتري آلة الطهي وإعداد الطعام ومواعينه ونحو ذلك وهو ملزم بها شرعاً ؛ ولكن قد تطالب المرأة بما هو أفضل فتطالب بشراء ما هو أغلى وأجود فمن حق الزوج أن يردها إلى الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط خاصة إذا كان من غير ذوي اليسار.
كذلك أيضاً ينبغي على الزوج وهو الحق الثاني في الإطعام إذا قلنا إنه ينبغي عليه أن ينفق عليها في طعامها .
فالسؤال هل يجب عليه أن يعطيها نفقة الطعام بيدها أم أنه يشتري الطعام لها ؟
إذا كان الزوج يريد إعطاء المرأة المال بيدها فلا بأس ؛ لكن إذا كانت المرأة سفيهة في التصرف ولا تحسن القيام والنظر لنفسها وولدها فإن من حقه أن يلي شراء ذلك .
قال العلماء : إنه إذا كانت المرأة لا تحسن الأخذ لنفسها والإعطاء لغيرها كان من حقه أن يأخذ النفقة لكن الأصل انه يعطيها النفقة بيدها .(6/378)
وقال العلماء : يختلف ذلك باختلاف الناس فإن كان من الفقراء والضعفاء لزمه أن يعطي النفقة كل يوم بيوم وإن كان من أواسط الناس وأمكنه أن يعطي كل أسبوعٍ أو شهر فعل ذلك وإن كان من ذوي الغنى واليسار فأعطاها على الحول كان له ذلك .
أما بالنسبة لنفقة اليوم فقال بعض العلماء : يلزمه أن يعطيها النفقة لما تستقبله من يومها فيعطي النفقة لليل لما يستقبل من صباحه إذا كان ضعيفاً أو عاملاً أو نحو ذلك يأخذ نفقته باليوم ولا يلزم شرعاً باعطاء زوجته نفقة الشهر ، ومن هنا من الخطأ ما يفعله بعض أولياء النساء من جبر الزوج مع ضيق حاله إذا كان ضيق الحال أو فقيراً أن ينفق على المرأة بالشهر أو بالأسبوع وهذا كما ذكر العلماء لا يلزمه شرعاً ؛ وإنما الواجب عليه أن يعطيها نفقة كل يوم بيومه هذا بالنسبة إذا كان ضعيفاً أو ضيق الحال .
ويقول العلماء : في الأمر سعة إذا كان الزوج قد اصطلح مع زوجته ورضي الزوج مع زوجته فلا حرج عليه في ذلك أن يعطيها على الوجه الذي تقوم فيه بحقوقها .(6/379)
أما الحق الثاني فكسوة المرأة وهذه الكسوة دل عليها دليل العموم وقال النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في الحديث الصحيح : (( أن تحسنوا إليهم في طعامهن وكسوتهن )) . قال العلماء : على الزوج كسوتان كسوة في الصيف وكسوة في الشتاء هذا في الأصل ؛ ولكن إذا وُجد في العرف ما يوجب تكرار الكسوة ويكون على وجه لايضيق فيه على الرجل فيتحمل مالا يتحمله فإنه يعطي لها ذلك بالمعروف ؛ لأن الشرع قيد ذلك بالعرف وقال-تعالى- : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . قالوا : فمن العشرة بالمعروف أنه إذا احتاجت إلى كسوة داخل بيتها وكسوة لخروجها لمناسبة أو نحو ذلك كساها كسوة واحدة في صيفها وشتائها لخروجها ، لكن استغلال المرأة لحقها في الكسوة وتحميلها لزوجها ما لا يتحمله يعتبر من الظلم ، ولذلك قال العلماء : لا يلزمه أن يكرر الكسوة لها في كل عام ؛ وإنما هو من باب الفضل لا من باب الفرض خاصة ما أصبح يفعله بعض النساء في العصور المتأخرة من تكرار اللبس للمناسبات على وجه لا يُشك أنه عين الإسراف الذي حرمه الله وعين البذخ الذي لم يأذن به الله فهذا لا يجب على الزوج أن يؤتيه لزوجته ولا يجب على الزوج إن يتحمله لزوجته بل عليه أن ينفق عليها بالعرف في حدود حاجتها وما زاد على ذلك يقول العلماء : إنه يكون مرده إلى المرأة فالمرأة هي التي تشتري لنفسها ما فضل على ذلك وزاد .
الحق الثالث في الإنفاق على الزوجة السكن : فيجب على الزوج أن يسكن زوجته ويكون السكن بالمعروف فإن كان غنياً أسكنها سكن ذوي الغني وان كان فقيراً أسكنها على قدر حاله من الفقر ولا حرج أن يسكنها في سكن يملكه أو يستأجره أو يسكنها في رباط أو نحو ذلك إن كان ضيق الحال كما ذكر العلماء-رحمهم الله- .(6/380)
لكن إذا كان السكن في رباط أو موضع يأخذه بدون مقابل أو يستأجره بثمن زهيد وفي هذا الموضع ضرر على الزوجة وأذية على الزوجة فإنه يطالب شرعاً بالنقلة منه ويتعين عليه أن يسكنها فيما يليق به وبها .
واختلف العلماء ، قال بعض العلماء : إنه يسكن على قدر حاله من الغنى والفقر .
وقال بعضهم : بل يسكنها على قدر حالها هي فإن تزوج امرأة لها مكانه ولها منزلة لا يسكنها في سكن الفقراء والضعفاء ، لما في ذلك من الأذية والاضرار والتضييق عليها ، والعكس بالعكس .
والذي يظهر والعلم عند الله أن الأمر يتقيد بالزوج لأن الله-تعالى- قيد النفقة بالزوج والذين قالوا إنه يسكنها على قدر حالها استدلوا بقوله-عليه الصلاة والسلام- : (( خذي من ماله ما يكفيك وولدك بالمعروف )) ، فجعل الكفاية لها والأمر راجعاً إليها ؛ ولكن الصحيح هو المذهب الأول .
وأن قوله : (( خذي ما يكفيك )) وولدك رجع إلى التقصير وليس كالأصل العام المضطرد في النفقات ، وعلى هذا فإن الزوج يسكنها فيما يليق به على حسب ماله فلا يجُحف بها ولا يُضر بها في ضيق المسكن ولا يجُحف بها ولا يضر بها في بعد المسكن ولا يجحف بها ولا يضر بها في منافع المسكن .
بل قال العلماء : يلزمه أن يسكنها في المسكن الذي ترتفق به ويكون على حسب حاله كما ذكرنا من الغنى والفقر ، وعلى هذا فلو أسكنها في مسكن ضييق وحال مثله السعة يجبره القاضي ويُلزم في الفتوى ويكون ذلك ظلماً ويحكم عليه بأنه ينتقل إلى سكن مثله .(6/381)
لكن هنا مسألة وهي مسألة السكن بجوار الأهل أو البعد عن الأهل فبعض من النساء قد يطلبن السكن بجوار أهلهن بعيداً عن أهل الزوج وقد يطالب الزوج بسكن المرأة بجوار أهله وهذا أمر في الحقيقة يحتاج إلى نظر فإن المرأة والرجل إذا اعترض الواحد منهما على السكن بجوار أهل الزوج أو الزوجة نُظِرَ وعُدِلَ في الفصل بينهما فإن كان البعد عن أهل الزوجة لمقصد شرعي وهو خوفه على زوجته الفتنة أو خوفه على زوجته أن تفسد بالقرب من أهلها أو كان الموضع القريب من أهل زوجته فيه جار سوء أو نحو ذلك كان من حق الزوج أن يصرفها إلى أي سكن يرى أنه أصلح وأفضل لها وليس من حق الزوج أن يلزم الزوجة بالسكن بجوار أهله مادام أن أهله لا يحفظون حقوق الله في بيته فيتدخلون في شئون زوجته وشئون أولاده فإذا وقع هذا كان من حق الزوجة أن تطالبه بالانتقال من هذا السكن إلى سكن أبعد ومن حقها أن تطالب بذلك لأن بقائها في هذا الموضع فيه ضرر .
أما لو كان الزوج يريدها أن تسكن بجوار والديه لبره لوالديه ووجود حاجة من الوالد والوالدة لقرب الزوج فإنه حينئذ يلزم الزوجة أن تستجيب وأن تبقى بجوار أهله وجوار والديه إذا كان الوالدان لا يضران بالزوجة .
فإذاً عندنا حالات :
الحالة الأولى : أن يلزمها الزوج بالسكن بجوار أهله فتلتزم بذلك خاصة إذا كان والداه بحاجة إليه فإنه يلزمها شرعاً إلا إذا كان الوالدان يتدخلان في شئون الزوج ويضران بها ويؤذيانها فمن حقها ألا تستجيب وتطالبه بأن يبعدها عن والديه حسما لمادة الفتنة وأسبابها .(6/382)
الحالة الثانية : إذا كانت الزوجة تطلب أن تكون بجوار أهلها وكان الزوج لا مشقة عليه ولا ضرر من جهة والديها فالأفضل والأكمل أن يستجيب لها في ذلك لأنه يقوم بحق أهله وَرَحِمِه فإن أهل الزوجة لهم حق على الزوج والله وصى من فوق سبع سموات بالأرحام خيراً فقربه من أهل زوجته من صلة الرحم ومن الإحسان إلى الرحم ومن تقوى الله في الرحم فحينئذ يستجيب لها ، هذا بالنسبة لقضية القرب والبعد في المسكن .
لكن هنا قضية وهي مسألة الجمع بين الزوجات في السكن الواحد قال العلماء في نوعية السكن الواجب : أنه ينبغي للزوج أن يكون سكن المرأة كاملاً بمنافعه ، فإذا أراد أن يجمع أكثر من زوجة في سكن واحد نُظِر فإن كان لكل واحدة منهن سكنها منفصلاً في مكان راحتها ومنافع سكنها عن الثانية كان من حقه ذلك ولا حرج عليه في ذلك ، لكن إذا شَرَّكَ بينهم في الشقة الواحدة المجتمعة المنافع لم يكن من حقه ذلك لأن الغيرة توجب الإضرار بالزوجة ، إذا كان عند الأخرى خاصة إذا اشتركن في السكن ، ولذلك نبه العلماء على أنه في حالة التعدد لا يكون السكن مشترك المنافع بين الزوجات لأنه يوجب ايقاع الفتنة بين الزوجات وقد يفسد على الزوج الحياة الزوجية ، ولذلك قالوا يطالب بفصلهما عن بعضهما .
فإذا كانا مثلاً في شقة واحدة فصل بينهما وجعل لكل شقة منافعها المستقلة بها فحق له حينئذ أن يسكنهن على هذا الوجه ، أما إذا كانت المنافع مشتركة ومختلطة فحينئذ ليس من حقه ذلك ، إلا إذا رضي الزوجات وتراضين على ذلك واستقمن في عشرتهن فهذا شيء يستثنى .(6/383)
أما من جهة الحق الواجب فمن حق كل واحدة أن تطالب بالانفصال عن الأخرى وأن يكون لها انفصال في سكنها ومنافع ذلك السكن وليس من حق الزوج أن يلزمها بأن تكون مع ضرتها سواء كانت واحدة أو كانت أكثر من واحدة فإن اشتركن في السكن الواحد وكانت المنافع لكل واحدة منافع سكنها نظر فان كان قرب الزوجة من الزوجة فيه ضرر عليها كأن تكون الزوجة الثانية مؤذية للزوجة الأولى والقرب يوجب الأذية ويوجب الإضرار كان من حق الزوجة أن تطالب زوجها بأحد أمرين :
الأمر الأول : إما أن يكف الأذية عنها .
الأمر الثاني : وإما أن يتحول إلى سكن تكون فيه مستقلة بعيدة عن أذية الأخرى لها.
بقيت مسائل في النفقة أولها متى تجب النفقة ، ومتى تقسط ؟ متى تجب النفقة أي متى تستحق المرأة أن تطالب زوجها بالنفقة ومتى يحكم القاضي بوجوب النفقة على الزوج لزوجته .
الشرط الأول : ينبغي أن يكون العقد صحيحاً فلا تجب النفقة في عقد فاسد فإذا كان عقد النكاح فاسداً فإنه لا يطالب الزوج بالنفقة ؛ لأن النفقة أثر مبني على العقد الصحيح فإذا كان العقد فاسداً لم يؤمر بالنفقة كنكاح الشغار ونكاح المتعة ونحو ذلك فهذا لا تجب فيه النفقة .
الشرط الثاني : أن تكون الزوجة مدخولاً بها فإذا عقد الرجل على الزوجة ولم يدخل بها لا يطالب بالنفقة عليها إلا في حالة واحدة وهي أن يمكنه أهل الزوجة من الدخول بها فيتأخر ، فإذا قال له أهل الزوجة أدخل بها وها هي زوجتك أدخل بها فامتنع من الدخول بها حينئذ كأنها زوجته وكأنها في عصمته والحبس منه لا منها .
ولذلك قالوا : إذا استأجرت عاملاً للعمل فمكنك من نفسه يستحق الأجره ولو لم يعمل فلو جئت به ووضعته في بيته ، أو قال لك سأتيك يوماً وجاءك ولم يشتغل ذلك اليوم وكان عدم عمله منك أنت لزمتك نفقته ، ولذلك قالوا : هذا مستحق للحبس ، فلما حبسها في عصمته ومُكِّنَ من الدخول بها ولم يدخل كان من حقها أن تطالبه بالنفقة .(6/384)
الشرط الثالث : إن تمكنه من الاستمتاع فإذا كانت ناشزه ممتنعه عن زوجها أن يطأها سقط حقها في النفقة ، وليس لها حق أن تطالبه بالنفقة قال-تعالى- : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ }.
ومن هنا قال العلماء : إذا خرجت من بيتها إلى بيت أهلها بدون إذنه ولم تأت إلى زوجها وامتنعت حبسها أهلها شهراً أو شهرين أو ثلاثة فهذه المدة كلها لا تستحق فيها الزوجة النفقة ، ومن هنا تسقط نفقة المريضة فلو احتبست لمرض فإنه تسقط نفقتها ولكن من باب الإحسان يعطيها ويحسن إليها .
الشرط الرابع : أن لا تكون ناشزاً فالمرأة إذا نشزت على زوجها وأصبحت تمتنع من فعل أمره وتخالفه ولا تستجيب لما يأمرها به وتؤذيه وتضاره ولا تعاشره بالمعروف كان من حقه أن يقطع النفقة عنها ، ولذلك قال العلماء : المرأة الناشز لا تستحق النفقة إذا كان نشوزها كاملاً ويدخل في ذلك امتناعها من الفراش كما قدمنا .
بقيت مسألة ثانيه : متى تستحق النفقة وهل إذا مرضت المرأة هل يجب على الزوج أن ينفق عليها في علاجها ودوائها ؟
جماهير أهل العلم وحكى بعض العلماء الإجماع على أن الزوج لا يجب عليه أن يعالج زوجته وأنها إذا مرضت فعلاجها عليها وليس عليه أن ينفق عليها لدواءٍ وعلاج لكن قالوا إذا جرى العرف بالمداواة والمعالجة وجرى ذلك بين الناس فإنه يستحسن له أن يفعل بها ذلك وأجره عند الله كبير لأن أفضل من تحسن إليه هو أقرب الناس منك وأفضل من توده وتكرمه هو اقرب الناس منك ، وأقرب الناس إلى الإنسان أهله فلذلك ينفق عليها ؛ ولكن إذا كان دوائها وعلاجها أو كان فقيراً أو كان ذلك يضر به وامتنع وقال لا يجب علي وامتنع كان من حقه عليه ذلك ولا يلزم به شرعاً .(6/385)
تستثنى من ذلك حالة وهي حالة الحمل فإذا كانت المرأة في حال حملها تحتاج إلى علاج وإلى دواء من أجل جنينها ومن أجل ولدها فإنه يجب عليه أن ينفق لاتصال الحق به من جهة ولده ، ولذلك يقوم على علاجها ويقوم أيضاً على حق الولادة وما يتبع ذلك من الأمور المستحقة لتعلق نفقة الجنين به .
هذه النفقات يجب على الزوج أن يقوم بها بالمعروف وإذا قصر الزوج حكم بإثمه قال العلماء : إذا امتنع من الإنفاق على الزوجة ترتب أمران :
الأمر الأول : الحكم بإثمه .
الأمر الثاني : أنه يعزره القاضي .
فإذا امتنع وأضر بالمرأة وحصل بسبب امتناعه إضرار ورفعت أمرها إلى القاضي فإنه يستحق التعزيز لمكان الأذية والإضرار ، وعلى القاضي أن يلزمه بقضاء ما مضى من النفقات فلو مضت مدة والزوج ممتنع من الإنفاق قدر القاضي نفقة الزوجة فيها وأمر الزوج بقضاء ذلك كله .
وقال بعض العلماء : تسقط النفقة بمضي المدة إذا سكتت المرأة وهذا قول مرجوح .
والصحيح مذهب الجمهور أنها حق في الذمة والمرأة تطالب به زوجها ؛ لأن الله-- عز وجل -- فرض عليه ذلك الحق فإذا قصر فيه ألزم بضمانه على الوجه المعروف .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الأبناء
بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فسيكون حديثنا اليوم عن حقوق الأولاد هذه النعمة العظيمة التي أمتن الله بها على عباده وهي نعمة الولد ؛ إنما تكون نعمة حقيقية إذا قام الوالدان بحقها وحقوقها وأحسنا في رعايتها ، وقد جاءت نصوص كتاب الله وسنة النبي-- صلى الله عليه وسلم -- تبين المنهج الأكمل والطريق الأمثل في تربية الأولاد .(6/386)
الأولاد ... نعمة من نعم الله-- عز وجل -- ، هذه النعمة رفعت الأكف إلى الله بالضراعة أن يكرم أصحابها بها، فقال الله عن نبي من أنبيائه : { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } .
وقال الله عن عباده الأخيار : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } .
الأولاد والذرية تقر بهم العيون وتبتهج بهم النفوس وتطمئن إليهم القلوب إذا طابوا وقام الوالدان على رعاية الأولاد والعناية بهم وأداء حقوقهم كاملة على الوجه الذي يرضي الله-- عز وجل -- .
وحقوق الأولاد قسمها العلماء إلى قسمين :
القسم الأول : ما يسبق وجود الولد .
والقسم الثاني : ما يكون بعد وجوده . فالله حمل الوالدين المسئولية عن الولد قبل وجود الولد وحملهما المسئولية عن تربيته ورعايته والقيام بحقوقه بعد وجوده .
فأما مسئولية الوالدين عن الولد قبل وجوده فإنه يجب على الوالد ويجب على الوالدة أن يحسنا الإختيار ، فيختار الأب لأولاده أما صالحة ترعى حقوقهم وتقوم على شئونهم ، أماً أمينة تحفظ ولا تضيع وعلى الأم أيضاً أن تختار زوجاً صالحاً يحفظ أولادها ويقوم على ذريتها فاختيار الزوج والزوجة حق من حقوق الولد ، ولذلك قال-- صلى الله عليه وسلم --: (( تنكح المرأة لأربع ، لدينها وجمالها ومالها وحسبها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك )) .
اظفر بذات الدين حتى ترعى الذرية وتقوم على إصلاحها وتربيتا على نهج ربها ، اظفر غنيمة وفوز .(6/387)
وكذلك المرأة تختار الزوج الصالح الذي ترضى دينه وأمانته وخلقه وإذا أساء الرجل في اختيار زوجته ونظر إلى حظه العاجل من جمال ومال ونسي حقوق أولاده فإن الله يحاسبه حتى ذكر بعض العلماء : أن الزوج لو أختار الزوجة وعلم أنها لا تحسن إلى ذريته من بعده فإن الله يحمله الإثم والوزر لما يكون منها من إساءة إلى ولده ، وكذلك المرأة إذا لم تحسن الاختيار لزوجها وعلمت أنه زوج يضيع حقوق أولاده وفرطت وتساهلت وضيعت فإن الله يحاسبها عما يكون من إثم ذلك الزوج وأذيته لأولادها ، حق على الوالدين أن يحسنا الإختيار وأن يكونا المنبت الطيب هو الذي يبعث عنه الإنسان ، فالناس معادن كما أخبر سيد البشر-- صلى الله عليه وسلم -- فيهم المعدن الكريم الذي طابت أصوله وإذا طابت الأصول طابت الفروع .
إن الأصول الطيبات لها فروع زاكيه ، والله-- سبحانه وتعالى -- يقول : { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ } فإذا كان معدن المرأة كريماً من بيت علم أو دين أو عرف بالصلاح والإستقامه فإنه نعم المعدن ونعم الأمينة التي ستحفظ الأولاد والذرية في الغالب ، وكذلك الرجل إذا كان معدنه طيباً فإنه سيكون حافظاً لأولاده ، ولا يعني هذا أن المرأة إذا ابتليت بزوج مقصر أنها تيأس بل ينبغي عليها أن تحاول وأن تستعين بالله في إصلاح ذريتها وأولادها فإن الله-- عز وجل -- يقول : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ } فربما يكون الزوج غير صالح ؛ ولكن الله يخرج منه ذرية صالحة وقد يكون الزوج صالحاً ويخرج الله منه ذرية غير صالحة .
أخرج الله من أبي جهل عكرمة وهو من خيار أصحاب النبي-- صلى الله عليه وسلم -- وقائد من قواد المسلمين وعظم بلاؤه في الدين وقد يخرج الميت من الحي كما في ولد نوح-- عليه السلام -- .(6/388)
فالمقصود أن الأصل والغالب أنه إذا طاب معدن المرأة أن يطيب ما يكون منها من ذرية هذا هو الحق الأول ، وإذا أختار الإنسان الزوجة فمن حقوق ولده أن يسمي عند إصابة أهله ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم -- ذكر التسمية عند الجماع أنها حرز وحفظ من الله للولد من الشيطان الرجيم قال العلماء : وهذا حق من حقوق الولد على والده إذا أراد أن يصيب الأهل .
وإذا كتب الله بخروج الذرية فليكن أول ما يكون من الزوج والزوجة شكر الله-- عز وجل -- من أراد أن يبارك الله له في نعمة من نعمه فليشكر الله حق شكره ؛ لأن النعم لا يتأذن بالمزيد فيها والبركة إلا إذا شكرت ، وإذا نظر الله إلى عبده شاكراً لنعمه بارك له فيما وهب وأحسن له العاقبة فيما أسدى إليه من الخير .
فأول ما ينبغي على الوالد والوالده إذا رأيا الولد أن يحمدا الله على هذه النعمة وأن يتذكرا العقيم الذي لا ذريه له وأن يسأل الله خير هذا الولد وخير ما فيه فكم من ولد أشقى والديه وكم من ولد أسعد والديه فيسأل الله خيره وخير ما فيه ويستعيذ به من شره ويعوذ بالله من ذرية السوء .(6/389)
ثم إذا كتب الله ولادة الولد فهناك حقوق أجملها العلماء منها حق التسمية أن يختار له أفضل الأسماء وأكرمها لأن الأسماء تشحذ الهمم على التأسي بالقدوة ، ولذلك قال بعض العلماء : خير ما يختار الأسماء الصالحة وأسماء الأنبياء والعلماء والفضلاء لأنها تشحذ همة المسمى إلى أن يقتدي وأن يأتسي قال-- صلى الله عليه وسلم -- كما في صحيح البخاري : (( ولد لي الليلة ابن سميته على اسم أبي إبراهيم )) فسمي إبراهيم على اسم أبيه ، ولذلك قالوا : أنه يراعى في الاسم أن يكون اسماً صالحاً ولا يجوز للوالدين أن يختارا الاسم المحرم وهو الاسم الذي يكون بالعبودية لغير الله كعبد العزى ونحو ذلك من الأسماء كعبد النبي وعبد الحسين ونحو ذلك من الأسماء التي يعبد فيها البشر للبشر ؛ وإنما ينبغي أن يعبد العباد لله جلا جلاله وهي الأسماء المحرمة .
كذلك ينبغي أن يجنب الولد الأسماء القبيحة والأسماء المذمومة والممقوتة والمستوحش منها حتى لا يكون في ذلك اساءة من الوالدين للولد .
قالوا : من حقه أن يختار له أفضل الأسماء وأحب الأسماء إلى الله ما كان للعبودية لله كعبدالله ، وعبدالرحمن ونحو ذلك من الأسماء التي تكون مصدرة بالعبودية لله-- عز وجل -- .(6/390)
وينبغي أن يجنبه كذلك ما ذكره العلماء من الأسماء المكروهة التي فيها شيء من الدلال والميوعة التي لا تتناسب مع خشونة الرجل ، والعكس أيضاً فإن البنت يختار لها الإسم الذي يتناسب معها دون أن يكون فيه تشبه بالرجال وقد جاء عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أنه سمى بنته عاصية كما ذكر الإمام الحافظ أبو داود وغيره النبي-- صلى الله عليه وسلم -- اسمها إلى جميلة فقد جاء عنه-عليه الصلاة والسلام- في أكثر من حديث أنه غير الأسماء القبيحة فمن حق الولد على والديه إحسان الاسم ، والأسماء تكون للوالد ولا حرج أن تختار الأم لابنها وابنتها لا حرج في ذلك ولا باس إذا اصطلحا بالمعروف ومن حقوق الولد ان تكون التسمية في أول يوم من ولادته أو ثاني يوم أو ثالث يوم أو سابع يوم لا حرج والأمر في ذلك واسع ، وقد جاء عنه-عليه الصلاة والسلام- في حديث الحسن عن سمرة أنه ذكر العقيقة فقال : (( كل غلام مرهون بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى )) فقال بعض العلماء : تستحب التسمية في السابع ولكن الجواز يجوز في أول يوم لحديث البخاري : (( ولد لي الليلة ابن سميته على اسم أبي إبراهيم )) . فهذا يدل على مشروعية التسمية في أول يوم ولاحرج في ذلك والأمر واسع .(6/391)
كذلك من حقه أن يختن الولد سواء كان ذكراً أو أنثي فالختان مشروع للذكور ومشروع للإناث وهذه المسألة ليست محل نقاش حتى يسأل فيها غير العلماء أو يرجع فيها إلى آراء الناس وأهوائهم ؛ وإنما ينظر فيها إلى الشرع يقول-- صلى الله عليه وسلم -- : (( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل )) فالذي يقول ليس في الشريعة دليل يدل علي مشروعية ختان الإناث جاهل لا يعرف ما ورد في نصوص السنه عن رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- فإنه قال : (( إذا التقى الختانان )) فبين-صلوات الله وسلامه عليه- أن المرأة تختن كما يختن الرجل ، قال العلماء : إن هذا يخفف من حدة الشهوة من المرأة وهذا من حقها أن تختن ويراعى ختانها ، وكذلك الذكر يختن هذا إذا كان في صغره .
كذلك أيضاً من أعظم الحقوق وأجلها حسن التربية والرعاية للابن والبنت ، ولقد رغب رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- في هذا العمل الصالح حتى ثبت في الحديث الصحيح عنه أنه قال : (( من أبتلى بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن وأدبهن فأحسن تأديبهن إلا كن له ستراً أو حجاباً من النار )) . فهذا يدل على فضيلة تربية الابن وتربية البنت على الخصوص على طاعة الله ، قال العلماء : إنما ذكر البنت لأنها هي المربية غداً لأبنائها وبناتها والقائمة على حقوق بعلها وبيت زوجها فلذلك ذكر رعاية البنات وإلا فالفضيلة موجودة .(6/392)
أيضاً لمن رعى الأبناء وقام عليهم وأدبهم فأحسن تأديبهم ، ومن هنا قال-عليه الصلاة والسلام- يبين حسن العاقبة لمن أنعم الله عليه بهذه النعمة وهي تربية الولد تربية صالحة ذكر حسن العاقبة فقال : (( إذا مات ابن آدم أنقطع عمله إلا من ثلاث ، صدقه جاريه وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له )) . قال العلماء : إن الله-- عز وجل -- يحسن المكافأة لعبده على ما كان منه من رعايته لولده فكما أحسن إلى ولده في الصغر يجعل الله له إحسانه نعمة عليه حتى بعد موته ، بل إن الذي يربى في الصغر ويحسن تربيه أولاده يرى بأم عينيه قبل أن يموت حسن العاقبة في ولده ، ولهذا تجد من ربى ابنه على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وعلى ما يرضي الله-- عز وجل -- ، إذا كبر فرق عظمه ووهن وأصابه المشيب والكبر وجد أبنه بجواره يساعده ويقوم على شأنه ويحفظ أمواله أميناً راعياً حافظاً على أتم الوجوه وأحسنها . وهذه هي ثمرة العمل الصالح وثمرة من ربى وتعب على تربية أبنائه ، والعكس فمن ضيع ابناءه فإن الله يريه في الحياة قبل الموت شؤم ما كان منه من التقصير فيصيبه الكبر فيهن عظمه ويرقد ويجد من تعب الحياة وشظفها فيأتي ابناءه ليكيدوا له ويؤذوه ويذلوه ويروه سوط العذاب في الدنيا قبل الآخرة وهذه كله من عواقب سوء التربية-نسأل الله السلامة والعافية- ، فلذلك رغب النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في هذا العمل الصالح وهو تربيه الأبناء ، رغب فيه لعلمه بحب الله لهذا العمل وحبه-سبحانه- لمن قام به على أتم الوجوه وأكملها وخير ما يربى علية الأبناء وأكد وأوجب ما يرعى من تربية الأبناء التربية الايمانية .(6/393)
فأول ما يغرس الوالدان في قلب الولد الإيمان بالله-- عز وجل -- الذي من أجله خلق الله خلقه وأوجدهم . { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } فأول ما يعتني به غرس الإيمان وغرس العقيدة لا إله إلا الله تغرس في قلب الصبي فيعتقدها جنانه ويقر بها وينطق بها وينطق بها لسانه وتعمل بها وبلوازمها جوارحه وأركانه قال الله-تعالى- : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } فأول ما ابتدأ به وأول ما قام ودله عليه في وعظه ونصحه وتوجيهه أن ذكره بحق الله-- جل جلاله -- وبين له أن ضياع هذا الحق هو الظلم العظيم ؛ لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وليس هناك أعظم من أن يصرف حق الله-جل وعلا- في عبادته لغيره كائن من كان ذلك الغير ، ولهذا وعظ لقمان وابتدأ موعظته بهذا الأصل العظيم .(6/394)
فأول ما ينبغي على الوالدين أن يغرسا في قلب الصبي الإيمان بالله-- عز وجل -- هو أطيب وأكمل وأعظم ما يكون من الأجر أن يغرس الأب وتغرس الأم في قلب الولد الأيمان بالله-- عز وجل -- وهو فاتحة الخير واساس كل طاعة وبر لا ينظر الله إلى عمل العامل أو قوله حتى يحقق هذا الأصل ويرعاه على أتم الوجوه وأكملها ، ولذلك لما ركب عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما- مع رسول الأمه-- صلى الله عليه وسلم -- وهو صغير السن ركب وراء رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- أختار-عليه الصلاة والسلام- أن يأخذ بمجامع قلبه وهو في صغره إلى توحيد الله-- جل جلاله -- : (( - يا غلام - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن )) وأنظر إلى الأسلوب : (( - يا غلام - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ينفعك الله بها نفع الدين والدنيا والآخرة احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فسأل الله ، وإذا استعنت فأستعن بالله وأعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف )) . ملأ قلبه بالله ملأ قلبه بالأيمان والعبودية والتوحيد وإخلاص التوجه لله -- سبحانه وتعالى -- . احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك فأخذ بكليته إلى الله واجعل الله نصب عينيك كأنه يقول اجعل الله نصب عينيك ، إذا سألت فكنت في فاقه وضيق وشده فسأل الله وإذا استعنت وألمت بك الأمور ونزلت بك الخطوب والشدائد فأستعن بالله ، ثم بعد ذلك ينفض يديه من الخلق وأعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، ولذلك ينبغي أن يحرص الوالدان على غرس الإيمان بالله .(6/395)
يقول بعض أهل العلم-رحمة الله عليهم- إن الوالد مع ولده يستطيع في كل لحظه أن يغرس الإيمان فالمواقف التي تمر مع الوالد مع ولده ويكون الولد بجواره يذكره فيها بالله ويذكره فيها بوحدانية الله وأن الله قائم على كل نفس بما كسبت وأنه وحده بديع السموات والأرض خالق الكون ومدبر الوجود لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه-سبحانه- ، فإذا نشأ هذا القلب على الفطرة ونشأ هذا القلب على التوحيد نشأ على الأصل العظيم الذي فيه سعادته وصلاح دينه ودنياه وآخرته فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله فتأتي هذه الكلمات النيرات والمواعظ المباركة إلى قلب ذلك الصبي وهو على الفطرة وهو على الإيمان لا تشوبه شائبة كما قال-عليه الصلاة والسلام- : (( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه )) فيغرس هذا الايمان علي تلك الفطرة فتكون نوراً على نور يهدي الله لنوره من يشاء وعلى هذا ينبغي أن يحرص الوالدان على غرس الإيمان بالله-- عز وجل -- ، من التربية الايمانية الأمر بالصلاة قال-تعالى- : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } وقال-عليه الصلاة والسلام- : (( مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع )) فمن حق الولد على والديه الأمر بالصلاة أن يأمراه بالصلاة في مواقيتها ، قال العلماء : يجب على الوالد وعلى الوالدة أن يعلما الولد كيفية الوضوء وكيفية الطهارة ، واستقبال القبلة ، وصفة الصلاة ، والهدي الذي ينبغي أن تؤدي به هذه العبادة .(6/396)
والله ما علمت ابنك الوضوء فصب الماء على جسده إلا كان لك مثل أجره ولا حفظته الفاتحة أو شيء من كتاب الله فلفظ لسانه بحرف مما علمته إلا كنت شريكا له في الأجر حتى يتوفاه الله-- عز وجل -- ولو علم ذريته فأنت شريك له في الأجر فمن دعا إلى الهدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيئاً ، وما علمته الصلاة فقام في ظلمة ليل أو ضياء نهار بين يدي الله إلا أجرت على قيامه وكان لك مثل أجره وثوابه ، فخير كثير وفضل عظيم يتاجر فيه الوالد مع الله-- عز وجل -- وما قيمة الأولاد إذا لم يقاموا على طاعة الله-- عز وجل -- ويقاموا على منهج الله وتنشأ تلك النفوس على محبة الله ومرضاة الله والقيام بحقوق الله فلا خير في الولد إذا تنكر لحق الله وإذا ضيع الولد حق الله فسيضيع حقوق من سواه ممن باب أولى وأحرى ، فينشأه على اقامة الصلاة ويعوده إنه إذا أذن المؤذن ينطلق إلى بيت الله-- عز وجل -- عامره بذكره ، ولذلك أمر النبي-- صلى الله عليه وسلم -- للصلاة لسبع عند نعومة الصبي وصغر سنه حتى إذا كبر ألف ذلك الشيء واعتاده ، كذلك - أيضاً - هذه التربية الايمانية تستلزم التربية على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وما يكون من الإنسان في معاملته مع الناس : { يَابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ @ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ @ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } .(6/397)
يقول بعض العلماء : هذه الآيات وصايا لقمان منهج في التربية على أكمل شيء ، فهو يجمع بين حق الله وحق عباده ، بل حتى حظ النفس فقد أمره بما فيه قوام النفس واستقامتها حتى في أخلاقها مع الناس ، ولذلك لا تصعر خدك للناس كبرياء وخيلاء ولا تمشي في الأرض مرحاً فالانسان إذا أراد أن يربى ولده يربيه على مكارم الأخلاق فكمال العبد في كمال خلقه كما قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً )) يعوده الصدق في الحديث وينهاه عن الكذب يعوده حفظ اللسان وينهاه عن أن يرتع لسانه بأعراض المسلمين بالغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن ، ولذلك نهى النبي-- صلى الله عليه وسلم -- المؤمن أن يعد فلوه صغيره ثم لا يفي له ، نهاه لأن الابن إذا رأى من والديه التقصير بالكذب في الوعد نشأ كاذباً-والعياذ بالله- فالولد يتأثر بوالديه فإن رأي منهما خيراً سار على ذلك الخير وأحبه وإن رأى منها الشر سار على ذلك الشر وأحبه والتزمه حتى يصعب أن ينفك عنه عند الكبر-نسأل الله السلامة والعافية- فلذلك ينبغي أن يعود على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كما ذكر العلماء في قوله وعمله وقلبه يقولون في قلبه يغرس الوالد في قلب الابن حب المسلمين فلا يغرس في قلبه الحقد عليهم ولا يغرس في قلبه الحسد ولا يغرس في قلبه البغضاء وإنما يغرس في قلبه حب المؤمنين صغاراً وكباراً ، حب المسلمين خاصة صالحيهم وعلمائهم ودعاتهم ينشئه على حبهم ولو أخذه معه إلى مجالس الذكر حتى ينشأ على حب العلماء والاتصال بهم والارتياح لهم كل ذلك من الأمور المطلوبه من الوالد حتى يقيم قلب الصبي على طاعة الله .
كذلك ينشأه في لسانه على ما ذكرناه في صدق القول وحفظه عن أعراض المسلمين فإذا جاء يتكلم الابن يعرف أين يضع لسانه وإذا جاء يتحدث يعرف ما الذي يقول وما الذي يتكلم به وهذا يستلزم جانبين ذكرهما العلماء :(6/398)
الجانب الأول : الأدب الإسلامي ، مِن توقي المحرمات في الألسن وتعويده على أصلح ما يكون في طاعة الله من ذكر الله-- عز وجل -- كالتسبيح والاستغفار ونحو ذلك من الأذكار ويحبب إلى قلبه تلاوة القرآن هذا بالنسبة للجانب الديني .
الجانب الثاني : الجانب الدنيوي يعوده على الحياء والخجل فلا يكون صفيق الوجه سليط اللسان ويقولون جريء والدك على الكلام هذا لا ينبغي إنما ينبغي أن يعود الحياء أولاً ثم إذا كان جريئاً يكون جرئته منضبطه بالحياء كان-- صلى الله عليه وسلم -- أشد الناس حياء من العذراء في خدرها ويقولون الولد ما يصبح رجل إلا إذا كان جريئاً فتجده يترك الولد يتكلم أمام من هو أكبر منه سناً وتجد الولد يتكلم حتى بقبائح الأمور فيتبسم الوالد ويقول هكذا الابن وإلا فلا ، لا والله لا ينشأ الابن على السوء فيكون كاملاً مهما كان ولو كانت الناس تظن أن هذا كمال فإنه نقص ، ولذلك لما جاء حويصه يتكلم قال له النبي-- صلى الله عليه وسلم -- : (( كبر كبر )) فعلمه الأدب وهو كبير فقال له كبر كبر فإذا جلس بين الكبار لا يتكلم ؛ وإنما يكف لسانه ويجلس حيياً مستحياً بالحياء الذي يتجمل به أمام عباد الله-- عز وجل -- أما أن يعود الجرأة على الكلام والجرأة على الحديث فهذا مما لا تحمد عقباه ، فإذا تعود الجرأة من صغره ألفها في كبره ؛ لكن يعود الحياء يعود السكوت والإنصات لكبار السن ولا يتكلم بحضرتهم إلا بقدر فإذا كبر وعقل الأمور تكلم عند موجب الكلام وصدر عن انضباط وحفظ لسانه ؛ لأنه أعتاد ذلك وألفه وربى عليه . هذه بالنسبة للأمور الدنيوية أنه يعود على أجمل ما يكون عليه من الكلام الطيب والعبارات الطيبه ، فإذا خاطب من هو أكبر منه أمر بأن يخاطبه بالإجلال والإكبار والتقدير فلا يرضى الوالد لولده أن يخاطب كبير السن أمامه باسمه ؛ وإنما يقول له خاطبه بياعم أو نحو ذلك من الكلمات التي فيها إجلال وتوقير حتى ينشأ الصغير علي توقير الكبير(6/399)
وتلك سنة الإسلام قال-- صلى الله عليه وسلم -- : (( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ولا يرحم صغيرنا )) فلابد من تعويد الابن على توقير الكبير واحترامه وتقديره وإجلاله .
وإذا وفق الله-- عز وجل -- الوالدين لحب التربية تربية الولد التربية الصالحة فليعلما أن ذلك لا يكون إلا بأمور مهمة إذا أراد الوالد والوالدة أن يقوما على تربية الولد فهناك أسباب تعين على التربية الصالحة :
أولهما وأعظمها وأجلها : الدعاء فيكثر الوالدين من الدعاء للولد يسأل الله-- عز وجل -- أن يكون الولد صالحاً كما قال الله-تعالى- : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ } تكثر من الدعاء لولدك فلعلك أن توافق باباً في السماء مفتوحاً فيستجاب لك ، الله أعلم كم من أم وكم من أب دعا لولده دعوة اسعدته في الدنيا والآخرة ، أم سليم-رضي الله تعالى عنها- جاءت بأنس إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- وقالت : - يا رسول الله - خويدمك أنس أدعو الله له فدعا له النبي-- صلى الله عليه وسلم -- بخير الدنيا والآخرة فتسببت له في ذلك الخير-رضي الله عنها وأرضاها- .
فيحرص الوالد على كثرة الدعاء أن الله يصلح ذريته والله-تعالى- يقول : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ولا يسأم ولا يمل ولا ييأس من رحمة الله ولا يقنط من روح الله وإنما عليه أن يحسن الظن بالله-- عز وجل -- .(6/400)
كذلك أيضاً الأمر الثاني : وهو من الأهمية بمكان مما يعين على التربية الصالحة القدوة الحسنة الأولاد الأبناء البنات لا ينتظرون الكلام بمثل العمل والتطبيق فإذا نشأ الابن وهو يرى أباه على أكمل ما يكون عليه الأب ويرى أمه على أكمل ما تكون عليه الأم تأثر وأصبح متصلاً بهذه الأخلاق الحميدة والآداب الكريمة حتى تصبح سجية له وفطرة لا يتكلفها ولا يستطيع أن يتركها ، كذلك البنت إذا نشأت وقد رأت من أبيها الصلاح والاستقامة على الخير ورأت من أمها الصلاح والاستقامة على الخير أحبت الخير وألفته كيف يكون الابن صادقاً وهو ينشأ في بيت يسمع فيه أباه-والعياذ بالله- يكذب فلربما طرق عليه الضيف فيقول : أذهب وقل له ليس بموجود ، كيف ينشأ الابن صادقاً في قوله إذا كان والده يعلمه من خلال سلوكه وتصرفاته سيء العادات-والعياذ بالله- وكيف تكون البنت على صلاح واستقامة وهي ترى من أمها التقصير في الصلوات والطاعات نائمة عن فرض الله-- عز وجل -- أو مضيعة لحق الله في قولها وفعلها فأهم ما ينبغي قي التربية الصالحة القدوة وإذا كان الإنسان قدوة للغير تأثر الغير بكلامه وجعل الله لمواعظه وكلماته وتوجيهاته أثراً في النفوس وانتفع الناس وأنتفع أولاده بما يقول - نسأل العظيم أن يرزقنا القول والعمل - .(6/401)
كذلك أيضاً من الأمور المهمة : وهي من حقوق الأولاد التي ينبغي رعايتها ونختم بها هذا المجلس حق العدل بين الأولاد ، وهذا الحق أشار إليه النبي-- صلى الله عليه وسلم -- في الحديث الصحيح : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) فلا يجوز تفضيل الإناث على الذكور كما لا يجوز تفضيل الذكور على الإناث كان أهل الجاهلية يفضلون الذكر على الأنثى وكانوا يقتلون الأنثىكما أخبر الله-- عز وجل -- في كتابه وقال : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } . فإذا بشر بالإناث تمعر وجهه وتغير وكأنه يبشر بسوء-نسأل الله السلامه والعافية- فلذلك أدب الله-- عز وجل -- المسلمين على الرضا بقسمة الله-- عز وجل -- ، يرضى الإنسان بالولد ذكراً كان أو أنثى ولا يفضل الإناث عن الذكور ولا الذكور على الإناث ؛ وإنما يعدل بين الجميع ، كان السلف-رحمهم الله- يعدلون بين الأولاد حتى في القبلة فلو قبل هذا رجع وقبل هذا حتى لا ينشأ الأولاد وبينهم الحقد ، ولذلك قالوا إن التفضيل يتسبب في مفاسد أولها يكون ضرره على الوالد نفسه فإنه ينشأ الأولاد على حقده وكراهيته وقد أشار النبي-- صلى الله عليه وسلم -- إلى هذا المعنى بقوله في الحديث الصحيح للنعمان : (( أتحب أن يكونوا لك في البر سواء ؟ )) قال : نعم . أي إذا كنت تريدهم في البر سواء فأعدل بينهم وكن منصفاً فيما تسدي اليهم .(6/402)
كذلك أيضاً من المفاسد التي تترتب على عدم العدل أنها توغر صدور بعضهم على بعض ، ولذلك حصل ما حصل بين يوسف وإخوته لأنهم : { قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } ، لذلك لا ينبغي أن يكون الوالد أو الوالدة فى التصرفات والأعمال على تفضيل ولد على ولد وإنما يكون كل منهم على تقوى الله-- عز وجل -- فيحسنوا إلى الجميع سواء كان ذلك التفضيل من الجانب المعنوى أو الجانب الحسي المادي ، فإذا أعطى الإبن شيئاً يعطي الأنثى كذلك .
واختلف العلماء في كيفية العدل بين الذكر والأنثى ولهم قولان مشهوران :
القول الأول : قال بعض العلماء : المال الذي يعطيه للذكر يعطي مثله قدراً للأنثى سواء بسواء فإن أعطى هذا ديناراً يعطي هذه ديناراً .
القول الثاني : وقال جمع العلماء : إن العدل بين الأولاد أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثثيين وهذا هو الصحيح ؛ لأنه قسمة الله-- عز وجل -- من فوق سبع سموات وقال-تعالى- : { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى } فإن الولد تنتابه من المصارف ويحتك بالناس وتكون مصارفه أكثر من الأنثى ، ولذلك قالوا : يجعل للذكر مثل حظ الإنثيين وهذا هو مذهب طائفة من أهل العلم وهو الصحيح ؛ لأنه قسمة الله-- عز وجل -- ولا أعدل من الله بين خلقه ، الله-- عز وجل -- عدل بين عباده ففضل الذكر على الأنثى من هذا الوجه وليس في ذلك غضاضه على الأنثى ولا منقصه .(6/403)
كذلك أيضاً قد تكون هناك موجبات خاصه أستثناها بعض العلماء من العدل فقالوا : إذا كان أحد الأولاد يتعلم أو يقوم على أمر من الأمور المختصه به يختاجها لصلاح دينه أو دنياه فلا بأس أن يخص بالعطيه إذا كان عنده عمل ومحتاج اليه قالوا ؛ لأنه من العدل أنه لما تفرغ للعلم أن يعان علىتعلمه ، ولذلك يعطى حقه لما تفرغ لهذا العلم الذي فيه نفعه ونفع العباد ، وهكذا إذا تفرغ لكي يتعلم حداده أو صناعة أو نحو ذلك فإن والده إذا أراد أن يعطيه من أجل هذا التعلم ينفق عليه على قدر حاجته ولا يلزم بإعطاء الأنثى مثل ما يعطيه أو نصف ما يعطيه ؛ لأن الأنثى لا تعمل كعمله فلو أعطى الأنثى مثل ما يعطيه فإنه في هذه الحاله قد ظلم الذكر ؛ لأن الأنثى أخذت من دون وجه ومن دون أستحقاق ، وعلى هذا فإن من حق الأولاد على الوالدين العدل سواء كان ذلك في الجانب المعنوي أو الجانب المادي وكان بعض العلماء يقول : ينبغي على الوالد أن يرى أحاسيسه ومشاعره ، وكذلك على الوالده يرعى كل منهما الأحاسيس والمشاعر خاصة بحضور الأولاد فلا يحاول الوالد أن يميل إلى ولدٍ أكثر من الآخر أثناء الحديث أو يمازحه أو يباسطه أكثر من الأخر ؛ وإنما يراعي العدل في جميع ما يكون منه من التصرفات لمكان الغيرة .
- ونسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يعصمنا من الزلل ، وأن يوفقنا في القول والعمل ، أنه المرجو والأمل - ، والله - تعالى - أعلم .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الأرحام
بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :(6/404)
فسيكون حديثنا اليوم عن أمر عظيم وحق جليل كريم ، عن حق من الحقوق التي فرضها الله على الأزواج والزوجات ، لا يمكن أن تستقيم بيوت المسلمين وأن تتم الإلفة والمحبة والمودة إلا بالقيام بهذا الحق وأدائه على الوجه الذي يرضى الله-- عز وجل - - هذا الحق وصى الله-- عز وجل - - عبادة من فوق سبع سموات أن يتقوه وأن يتقوا الأرحام فقال-- سبحانه وتعالى - - : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .
إنها الرحم خلقها الرحمن واشتق لها اسماً من اسمه فهو الرحمن وهي الرحم من وصلها وصله الله ومن قطعها قطعة الله ، ومن قطعه الله فلا تسأل عن حاله في ضيعة وخسار ووبال-والعياذ بالله- ، هذا الحق هو حق الأرحام والدا الزوج ووالدا الزوجة وآل كل وقرابة كل .
فرض الله-- عز وجل - - على المؤمن أن يتقيه-- سبحانه وتعالى - - في الرحم وواجب على كل زوج إذا أراد أن يوفقه الله في زواجه وأن يسعده في أهله ونكاحه أن يحفظ حق قرابة زوجته وواجب على كل زوجه تؤمن بالله واليوم الآخر أن تتقى الله في والدي زوجها وفي قرابته ، قال-- صلى الله عليه وسلم - - : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه )) فجعل الله-- عز وجل - - صلة الرحم من الإيمان به لأنه لا يحفظ زوج حق رحمه ولا تحفظ زوجة حق رحمها إلا بباعث من الإيمان بالله-- عز وجل - - هذا الحق وهو حق الأرحام قام به النبي-- صلى الله عليه وسلم - - على أتم الوجوه وأكملها وأفضلها وأحسنها فكان يصل قرابة زوجه ، وفي السير أنه كان جالساً مع أم المؤمنين عائشة-رض الله عنها وأرضاها- فسمع صوت امرأة تستأذن فقام-- صلى الله عليه وسلم - - كالفزع فإذا بها امرأة كبيرة وإذا به يقول إنها هالة إنها هالة أخت خديجة ، ذكرته-عليه الصلاة والسلام-بحبه وزوجه وذكرته بما بينه وبين أهله .(6/405)
هذا الحق فرضه الله على الزوج لكي يكون كريماً مع أهل زوجته ولن يستطيع الزوج أن يحفظ حق أهل زوجة إلا إذا كان في نفسه من صفاء القلب وحفظ العهد ورعاية الحق ما يعينه على ذلك .
أول ما ينبغي على الزوج أن يتذكر حق والد الزوجة عليه ، حقه يوم اختاره من بين الناس زوجاً لابنته يوم أختاره من بين الناس كفؤاً كريماً يستر عورته ، يسترها ولا يفضحها ويكرم بنته ولا يهينها ولذلك أشبه الناس بالأب بناته كما ذكروا حتى قيل إن البنت الكبرى تشابه أباها . ذكرت عائشة-رضي الله عنها- كما في الصحيح مثالاً على ذلك فقالت-رضي الله عنها- : جاءت فاطمة إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - والله ما تخالف مشيتها مشية رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - ، فالذي يختار الزوج ويرضى به زوجاً لبنته فإن هذا يدل عن حسن النية وعن حسن الظن الأمر الذي يوجب على الزوج أن يحفظ هذا الحق وأن يعتبره دينا عليه ، ولذلك كان بعض الفضلاء يؤذي من زوجته وتضره وما وقف يوماً من الأيام على أبيها يشتكي فلما عظمت أذيتها واشتدت بليتها قيل له هلا اشتكيتها إلى أبيها ، قال زوجني وأكرمني فاستحي أن اقف على بابه شاكياً .
فإذا كان الإنسان حراً كريماً أعظم الإحسان وأجله ورده بمثله وأفضل منه وتلك سنة الأخيار ، وإذا تذكر الإنسان اختيار أهل زوجه له قابل ذلك بحسن المكافأة ورد الجميل وذلك من الإيمان كما قال-عليه الصلاة والسلام- : (( حفظ العهد من الإيمان )) .(6/406)
كذلك أيضاً عليه أن يتق الله في حقوق والدي الزوجة من الصلة والبر فصلة أهل الزوجة واجبة على الزوج كما هي واجبة على بنتهم وهي زوجته فلا يقطعهم من زيارة وإذا زارهم زارهم كريماً محباً مشتاقاً يظهر المحبة والمودة ويجعل من هذه الزيارة تأكيداً لما بينه وبين هذه الرحم من صلة ، فإذا نظر الله إلى ذلك رضي على صاحبه وجعل له الخير في حياته فنعمت عين الزوجة وهي ترى أهلها في كرامةٍ من بعلها الأمر الذي ينعكس بالآثار الحميدة في معاملتها لأهله ، وإذا زار رحمه فإن عليه أن يتوخى آداب الزيارة في مواقيتها .
وكذلك في الدخول والاستئذان وفي الجلوس فيراعي الحرمات ولا يبالغ في الدخول إلى البيت والجلوس إلى ساعات طويلة والدخول في عورات البيت إلى غير ذلك مما لا يليق بالكريم ولا ينبغي للمؤمن بل عليه أن يزور زيارة يحفظ بها ماء وجهه ويكون متسربلاً بسر بال التقوى الذي يحبه الله ويرضى ، وإذا جلس مع رحمه أجله وأكرمه فإذا لقيه تبسم في وجهه حافظاً لعهده وكأنه ينظر إليه كوالده ، فالغالب أن والد الزوجة ينزل منزلة الوالد إما لكبر سن أو لعظم حق وهو جد أبنائه وجد لبناته فله حرمة عند الإنسان فيجله ويكرمه ويقدره وينزله منزلته ، فإذا ما أجتمع معه في مجلس فمن حقه عليه أن يحفظ العورة وأن يتق الله-- عز وجل - - فيما بينه وبين هذا الرجل ، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن علي-- رضي الله عنه - وأرضاه- أنه قال : كنت رجلا مذاءً أي كثير المذي فكنت أغتسل حتى تشقق ظهري فاستجييت أن أسأل رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - : لمكان بنته مني استحييت أن آتي إلى رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - وأن أواجهه وأقول أني مصاب بكذا وكذا مع أنه مضطر ومع أنه في دين وعبادة ولكن الكريم كريم في أدبه ووده وحفظه لماء وجهه .(6/407)
فينبغي على الزوج أن يحفظ حق رحمه ولقد ضيع بعض الناس في هذا الزمان الحياء فأصبح المجلس يجمعه بوالد زوجته فلا يستحيى ولا ينكف عن ذكر أمور يخجل من ذكرها أمامه ، وهذا لاشك أنه إساءة يقول بعض العلماء : أجمع العقلاء على أن هذا من بالغ الإساءة والإهانة لوالد الزوجة أن يذكر الزوج عنده ما يستحياً من ذكره فهذه آداب ومكارم أخلاق ينبغي حفظها والعناية بها ، ومن حقه أن يتفقد حاله وأن ينظر إلى حاله إن كان محتاجاً إلى معونة و مساعدة .
يقول العلماء : صلة الرحم لم تأتي من فراغ أي أن الإنسان حينما أمر بصلة رحمه وبرهم وزيارتهم ليست خالية من معنى ومقصد وهو أن يتفقد حالهم فإن كانوا محتاجين ويستطيع المساعدة بذل ، ولو بالقليل الذي يستطيعه وإن كانوا مفتقرين إلى معونة معنوية كأن يدعوهم في أمر إلى الثبات على مصيبة أو بليه ثبتهم ، ومن ذلك إذا كان مريضاً عاده وإذا كان في نكبه ثبته على الصبر واحتساب الأجر ونحو ذلك مما يحتاج إليه عند الشدائد والملمات .(6/408)
ومن أكمل ما يكون من الزوج أنه إذا نزلت بأهل زوجه بليه أو مصيبة وجدوه أول رجل يطرق بابهم ، ومن أكمل ما يكون من الزوج أنه إذا أصيب والد زوجته بحاجة وفاقة كان أسبق الناس بالوقوف معه ومعونته ومساعدته لعلمه أن الله يرضى عنه ولعلمه أنه إذا وصله وصلة الله وأنه إذا أعطى اخلف الله عليه في دينه ودنياه وآخرته فحري بالزوج أن يسمو إلى الكمالات وأن يبذل من خيار ما يكون من التضحيات والمواقف الطيبة التي تنبئ عن طيب معدنه وزكاة نفسه وحبه للخير وما يريده لأهل زوجه وعليه إذا قام بهذه الحقوق ووجد من أهل زوجته ما ينتظر من تقيدر معروفه وتقدير سعيه أن يحمد الله-- عز وجل -- وأن يشكره وإذا وجد منهم نكران الجميل وكفران النعمة ونسيان الفضل فليعلم علم اليقين أن الله-تعالى- يقول في كتابه : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } فاكمل ما يكون الأجر إذا بلي الزوج برحم يصلهم فيقطعوه ويعطيهم فيحرموه ويرفعهم فيضعوه فإن كان كذلك فكأنما يسفهم المل .
فمن أفضل ما تكون الصدقة أي الإحسان والبر للقريب الكاشح وهو القريب الذي يكاشحك العداوة وتجد منه السوء والضر وأنت تبذل له الخير والنفع ولا شك أن ذلك أعظم ما يكون أجراً وأثقل ما يكون عند الله-- عز وجل - - صلة وبراً ؛ لأن الذي يصل مثل في هذه المواقف ويبذل لمثل هذا النوع إنما يريد وجه الله ولا يريد شيئاً سواه ، وأعلم أنك تعامل الله وأن هذا واجب عليك دعاك إليه الله-- جل جلاله -- فإن قصروا في حقك فلا تقصر في حقهم .(6/409)
قال-- صلى الله عليه وسلم - - : (( أدي الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك )) ذكر بعض العلماء أنه كان يرى بعض طلابه يأتيه والد زوجته فيسب طالبه ويؤذيه ويذكر عند الشيخ أموراً عجيبة مكذوبة ملفقة على هذا الطالب والطالب لا يعلم أن والد زوجته يأتي إلى هذا الشيخ فكان هذا الرجل الظالم الذي هو والد زوجته يقول الزور والكذب ويتهم الزوج بما ليس فيه من أجل أن يقول له أنصحه وذكر وهذا لا خير فيه وهذا كذا وكذا حتى جاء الطالب فإذا جاء الطالب سأله الشيخ كيف حاله مع رحمه فقال نعم الرحم ونعم الناس وهو من بالغ ما يكون في الإحسان إليهم ومن بالغ ما يكون في التودد والملاطفة لهم ، فاستحلفه بالله يوماً من الأيام ، فقال له والله ما غششت ولا كذبت عليك وليس بيني وبينهم إلا الود والمحبة وإني قائم بكذا وكذا وذكر ما يكون من بره وإحسانه ، قال فتأثر الشيخ أثراً كبيراً مما كان من حال والد الزوج ، فقال له أي بين إن والد الزوج يقول كذا وكذا فاتق الله-- عز وجل - - في والد الزوج إن كنت كاذباً وإن كنت صادقاً فاصبر على ما يكون منه فبكى ذلك الطالب وحلف بالله العظيم أنه صادق فيما يقول ، فلما حلف بالله العظيم انتظر الشيخ مجيء والد زوجته فقال له إنك زعمت كذا وزعمت كذا ، فقال له أي والله أنه كان كذا وكذا ، قال وتحلف بالله قال نعم أحلف بالله ، فدعا عليه الشيخ فقال له أسأل الله العظيم أن لا تمسي سالماً يومك هذا إن كنت كاذباً ، يقال : ما غابت الشمس إلا وهو مشلول-والعياذ بالله- ، فالظلم ظلمات وإذا كنت ترى من والد الزوج الإهانة والأذلال فاعلم أنك تعامل الله وأنك تتقي الله في رحم وصى عليها الله من فوق سبع سموات ، وعلى الزوج وعلى الزوجة أيضاً كما أن على الزوج أن يحفظ حق والد الزوجة .(6/410)
كذلك على الزوجة أن تحفظ حق والدي الزوج ، ولذلك ينبغي على المرأة الصالحة أن تعي وتدرك أن حنان الوالدين وأن ما في قلبي الوالدين من الرحمة والصلة بالولد فوق الخيال وفوق التصور ، فينبغي أن تقدر هذه العاطفة وأن تقدر هذه الرحمة التي قذفها الله في قلب الوالد والوالدة ولا يكون هناك ما يبعث على الغيرة أو يبعث على قطع الوالد عن والديه ولتكن على علم أنها إذا أرادت أن يبارك الله لها في زوجها وأن يقر عينها في بعلها فلتعنه على بر والديه ، على الزوجة إذا كان والدي الزوج بحاجة إلى قرب الولد أن تكون قريبة من والدي الزوج وأن تقابل والدي الزوج بالمحبة والإجلال والوفاء .
ولقد أباح الله وجعل والد الزوج محرماً للحليلة أبنه حتى يحصل التواد والتراحم والتواصل وتنظر المرأة لوالد زوجها وكأنه والد لها وتنظر إلى والد بعلها وكأنه والد لها فتشفق عليه وترعى أموره وتحسن إليه وكذلك لوالدته .
وأكثر ما تقع المشاكل بين الزوجات والأمهات ؛ والسبب في ذلك واضح ، أن أبلغ الحنان وأكمل ما تكون الرحمة من أمةٍ لعبد أو من عبد لعبد أو من أمة لأمه ، إنما هو حنان الأم لولدها ولا تلام في ذلك قال-- صلى الله عليه وسلم - - لما دمعت عيناه على ابنه إبراهيم ، قيل ما هذا يا رسول الله ، قال : (( رحمة أسكنها الله في قلوب عباده )) فالله أسكن في قلب الأم رحمة تحن بها إلى ولدها وتصبح فراغة الهم إلا من ولدها ، فما على الزوجة إلا أن تقدر ذل ، فإذا انطلقت من منطلق الغيرة أو وسوس الشيطان لها بالوساوس والخطرات قطعت الوالدة عن ولدها وقطعت الزوج عن أمه وأبيه وعندها تتأذن لسخط الله-والعياذ بالله- وغضبه .(6/411)
الله أعلم كم من قلب أم تقرح بسبب أذية الزوجة وأضرارها ، الله أعلم كم من عين بكت ودمعت بسبب ظلم الزوجة وأذيتها لوالدي الزوج ، الله الله على المرأة المؤمنة أن تخاف الله وتتقيه وإذا كانت تعين بعلها على الظلم وعلى القطيعة فلتعلم أنه سيأتي يوم يؤذنها الله هي وبعلها بالعقوبة ، فالعقوق لا خير فيه فإنه من الذنوب التي يعجل الله بها العقوبة ، يقول بعض العلماء : إذا كانت المرأة تعين زوجها على عقوق الولدين تجمع بين ذنبين وبين إساءتين :
الذنب الأول : أنها شريكة له في عقوق الوالدين-والعياذ بالله- .
والذنب الثاني : أنها قاطعة للرحم . وجاء في الخبر أنه ما من ذنب أحرى أن تعجل عقوبته في الدنيا مع ما أدخر الله لصاحبه من عقوبة الآخرة من قطعية الرحم ، فقطيعة الرحم عذابها عاجل ، ولذلك قال الله في كتابه : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ @ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } .(6/412)
يقول بعض العلماء : من قطع رحمه ختم الله على قلبه فمهما مرت عليه المواعظ ومرت عليه الآيات لا يتعظ-نسأل الله السلامة والعافية- ، ولو اتعظ يتعظ إلى حين ، ولذلك كان بعض العلماء : إذا اشتكى أحد من قسوة القلب سأله وقال له كيف أنت والرحم فالمرأة التي تعين بعلها على عقوق الوالدين قاطعة لرحمها لا تخاف الله-- عز وجل - - في زوجها ولا تخاف الله في رحمها وما عليها إلا أن تبذل كل ما تستطيع للصبر واحتساب الأجر وإذا كانت المرأة ترى من والدي الزوج أمورا توجب لها أن تضر بوالدي الزوج فعليها أن تسأل العلماء وأن ترجع لأهل العلم حتى تعلم ما الذي يجب عليها . ففي بعض الأحيان يتدخل والد الزوج ووالدة الزوجة أن يتدخل والد الزوجة ووالدة الزوجة في شؤون البيت الأمر الذي يحدث النفرة من الزوج أو يحدث النفرة عند الزوجة والواجب في مثل هذه المواقف أن ينظر الزوج والزوجة إلى المفاسد فإن وجد مفسدة تدخل والدي الزوجة أعظم من مفسدة إبعادها فحينئذ يبعدها عن والديها ، ويأذن لها بالزيارة في حدودٍ ضيقة حتى تصل وتقوم بحق البر مع الأمن من الأذية والإفساد والإضرار .(6/413)
وكذلك أيضاً إذا كان والداً الزوج يتدخلان في شؤون الزوجة وفي شؤون البيت بالإفساد والإضرار والأذية فالمرأة مخيرة بين أمرين ، إما أن تصبر وتحتسب الأجر فهذا أحسن وأفضل وأكمل ، وإما أن تنظر إلى المفاسد فإن غلبة مفسدة التدخل سألت زوجها أن يبعدها عن والديه ، وعلى الأزواج أن يتقوا الله في زوجاتهم فإذا نظروا أن تدخل الوالدين في شؤون البيت وأمور البيت أنه يحدث للمرأة أذية وإضراراً لا يسعها الصبر عليهما على الزوج أن يتقي الله في زوجته وأن ينصفها من أهله ووالديه ، وإذا قام بإبعاد زوجته عن والديه فلا يعد عاقاً لوالديه ولو سكن بعيداً عن والديه في هذه الحالة المشتملة على الإضرار والأذية مع تفقد الوالدين فإنه لا يعتبر عاقاً لوالديه ؛ لأن الله-- عز وجل - - لا يأمر بالظلم ولا يرضى بالظلم ، فلا يأمر الله-- عز وجل - - بالظلم فيقال للرجل أبقى هاهنا إرضاء لوالديك والولدان سوطا عذاب على المرأة في أذية وإضرار وظلم وإجحاف ، والعكس كذلك ، وعلى الزوج وعلى الزوجة أن يتقي الله كل منهما في الآخر وأن ينظر للأمور بمنظارها الشرعي من حيث ترتب المفاسد ووجود المصالح ، وإذا كانت المرأة ترى المفاسد عظيمة واختارت الصبر فهذا أفضل وأعظم أجراً ؛ لأن الله-تعالى- يقول : { فَبَشِّرْ عِبَادِي @ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } . قالوا : أحسنه يعنى أحسن القرآن لأن القرآن فيه حسن وفيه أحسن فحسن القرآن أن ترد المرأة الإساءة بالإساءة والرجل يرد الإساءة بالإساءة ؛ ولكن الأحسن أن يرد الإساءة بالإحسان وذلك لمن قال الله عنه : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } هذا من جهة والدي الزوجة ووالدا الزوج ، أما بالنسبة لبقية القرابة كالإخوان والأخوات ونحو ذلك فعلى كلا الزوجين أن يتقوا الله في القرابة .(6/414)
والأخ قد ينزل منزلة الوالد ، يقول بعض العلماء : وهو مذهب الحنفية وطائفة من أهل العلم : إن الأخ الكبير إذا مات الأب ينزل منزلة الأب في حفظ وده ورعايته وإكرامه وبره إن الأخ الكبير إذا مات الأب يكون له من الحق في البر والصلة كمنزلة الأب هذا يختاره جمع من العلماء ، و قال بعض العلماء : إن الأعمام ينزلون منزلة الآباء ، وكذلك أيضاً الأخوال ينزلون منزلة الأمهات ولذلك قال رسول الله-- صلى الله عليه وسلم - - : (( الخالة بمنزلة الأم )) .
فإذا كان للزوجة أخ كبير أو هو الذي قام بتزويجها ورعايتها يكون له من حفظ الحق والود والإكرام والإجلال مثل الذي ذكرنا ، وليس الأمر بمختص بوالد الزوجة ولكنه يشمل كذلك الإخوان والقرابات ولو كان عمها ؛ لأن النبي-- صلى الله عليه وسلم - - يقول : (( إن عم الرجل صنو أبيه )) . فنزل العم منزلة الأب ونزلت الخالة منزلة الأم فقال : (( الخالة بمنزلة الأم )) ، لما اختصم في بنت حمزة-- رضي الله عنه - - فأمر بحضانتها للخالة وقضى بذلك وقال : (( الخالة بمنزل الأم )) كما ثبت في الصحيح . فهذا كله يدل على أن القرابة لها حق وأن الأمر لا يختص بالوالد والوالدة وإذا رأى الزوج حنان الزوجة لأخيها الأكبر وإكرامها فليعذرها في ذلك خاصة إذا تربت يتيمة في حجره وهو الذي قام عليها فعليه أن يكرم ذلك منه وعليه أن يقوم بإكرام أخيها والقيام بحقه كما ذكرنا في حقوق الوالدين . نسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل وأن يوفقنا في القول والعمل .(6/415)
وهذه الحقوق أعني حقوق الأرحام أكثر ما يحتاج إليها في التطبيق والذي دعانا أن نفردها في هذا المجلس شدة الحاجة ، ولذلك كان الناس يحفظون حقوق قرابات الزوج والزوجة لأن الفطر لم تتلوث بالدخن وكان الناس يربون أبناءهم وبناتهم على حفظ حقوق الأرحام ، ولكن لما ساءت التربية في هذه الأزمنة المتأخرة وأصبحت هذه الحقوق ضائعة احتجنا للتنبيهه عليها وتحتاج إلى التنبيه عليها أكثر والدعوة إلى التزامها والقيام بها أكثر حتى على الخطباء وطلاب العلم عليهم أن يعتنوا بذلك ، فقد بلغ ببعضهم أن يجلس والد زوجته وهو حطمه في آخر عمره لكي يقاضيه ، يقول بعض القضاة من أصعب ما أراه من القضايا ومن أصعب ما يؤلمني ويزعجني في الفصل بين الناس أن أرى شيخاً كبيراً في آخر عمره له مكانته وجلالته يجلس معه حدث السن السفيه الجاهل لكي يسب بنته في وجهه ويكشف عورته ويهينه ويذله لا يرعى فيه إلاً ولا ذمة . قال : هذا هو الذي قرح قلبي حيث أني أتشوش في بعض الأحيان ولا أستطيع أن أفصل مما أرى ومما أسمع فأين الذي وصى الله به وأين الذي يفعله الناس تراه في آخر عمره وتجد الزوج يصب عليه البلايا وكل يوم وهو واقف على بابه يشتكي من بنته ويذكر عوراتها وسوءاتها وزلاتها وخطيئاتها وقد يكون رجلاً مريضاً لا يرحمه في مرضه ولا يرعى كبر سنه فهذه الأمور تتقرح لها القلوب ويحزن لها كل مؤمن فالواجب أن يعتنى بمثل هذا ولا يمكن لنا أن نتلافى مثل هذه السلبيات إلى بأمرين مهمين :
الأمر الأول : التربية الصالحة أبناءنا وبناتنا إذا زج بهم إلى الزواج يعلمون يوجهون يربون على الأخلاق الحميدة على الآداب الكريمة على حفظ الحقوق على رعاية الذمة فيصبح الإبن بمجرد أن يزوج كأنه مدين بالفضل ويصبح يرعى حق والد زوجته وقرابتها ، والمرأة كذلك البنت تعلمها أمها وترعاها وتجلس معها توجهها التوجيه الكامل الفاضل الذي يبعثها على مكارم الأخلاق وعلى محاسن العادات .(6/416)
وأما الأمر الثاني : فالتواصي بالحق ، كثرت هذه المشكلات والمشاكل الزوجية بين الناس فقل أن تجد من ينصح وقل أن تجد من يعظ وقل أن تجد من يذكر بل تجد الصاحب يجلس مع صاحبه والصديق مع صديقه والقريب مع قريبه يسمع بملء أذنه الزوج يسب آل زوجته ولا يقول له اتق الله ولا يقول له أذكر المعروف ولا يقول له ما قال الله : { وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } .
فيا أيها الأحبة في الله واجب أن نتناصح واجب أن نحي ما أمر الله باحيائه من تقوى الله في الرحم ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } .
كانت العرب في جاهليتها الجهلاء وضلالتها العمياء إذا اشتد الأمر بين الرجل والرجل فأراد أن يعظه ويذكره ويخوفه حتى يعود إليه قال له سنشدتك الله والرحم فينكسر الرجل ويمتنع إن كان يريد منه ألا يفعل شيء تركه وإن كان يريد منه أن يفعل شيء فتلكأ عنه قال له سنشدك الله والرحم فعله ، وأنه يحس أن هذه الرحم شيء كبير ، ومن هنا قال-- صلى الله عليه وسلم - - كما في الصحيح : (( إنكم ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط ، فاستوصوا بأهلنا خيراً ، فإن لهم رحماً )) وهي مصر يقول إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط فاستوصوا بأهلها خيراً فإنه لهم رحماً .(6/417)
أم إسماعيل هاجر وهي من مصر وكذلك أيضاً أم إبراهيم مارية وهي من مصر ، فقال-عليه الصلاة السلام- استوصوا بأهلها خيراً مع أنها رحم للنبي-- صلى الله عليه وسلم - - وجعله رحماً للأمة ، (( استوصوا بها خيراً )) فإنه لهم رحماً هذا كله في الرحم مع بعدها فيكف إذا قربت الرحم ، فلذلك ينبغي التواصي بمثل هذه الحقوق وإحياؤها في النفوس وإذا جلسنا في المجالس ورأينا من يذم أهل زوجه ذكرناه بالله وخوفناه بالله وإذا سمعنا بمشكلة بين قرابة منابين أرحام وصلت إلى قطعية الرحم تدخل العقلاء والحكماء فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينهم وذلك هو الذي يرضى الله وهو الذي وصى الله به من فوق سبع سموات .
نسأل الله العظيم ، رب العرش الكريم ، أن يحسن الأحوال ، وأن يحسن لنا لكم حسن الخاتمة المآل ، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمَْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَميْنَ وصلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارك على عبده ونبيّه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .(6/418)